الكتاب: دروس للشيخ سعود الشريم المؤلف: سعود بن إبراهيم بن محمد آل شريم مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 57 درسا] ---------- دروس للشيخ سعود الشريم سعود الشريم الكتاب: دروس للشيخ سعود الشريم المؤلف: سعود بن إبراهيم بن محمد آل شريم مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 57 درسا] الصبر على المصائب بين الله سبحانه وتعالى في كتابه أنه لم يخلق الحياة والموت في هذا الكون إلا ليبتلي خلقه ليعلم الصابر من القانط والراضي من الساخط، وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه، والله عز وجل إذا أحب عبداً ابتلاه لأنه يعجل له عقابه في الدنيا وعذاب الدنيا يزول ولا يدوم بخلاف عذاب الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 الدنيا دار ابتلاء الحمد لله مزيل الهم، وكاشف الغم، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، فهو مولي النعم وصارف النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، ذو الشرف الأسمى والخلق الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وبارك وسلم. أما بعد: أيها المسلمون: شر ما منيت به النفوس يأس يميت القلوب، وقنوط تظلم به الدنيا، وتتحطم معه الآمال، إن في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحناً وبلايا. آلام تضيق بها النفوس، ومزعجات تورث الخوف والجزع، كم ترى من شاكٍ، وكم تسمع من لوام، يشكو غلاً وسقماً أو حاجة وفقراً، متبرم من زوجه وولده، لوام لأهله وعشيرته، ترى من كسدت تجارته، وبارت صناعته، وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه. إن من العجائب -أيها المؤمنون- أن ترى أشباه رجال قد أتخمت بطونهم شبعاً ورياً، وترى أولي عزم ينامون على الطوى. إن فيها من يتعاظم ويتعالى حتى يتطاول على مقام الربوبية والألوهية، وفيها من يستشهد دونه، وفيها من يستشهد دفاعاً عن الحق وأهل الحق، تلك هي الدنيا تضحك وتبكي، وتجمع وتشتت، شدة ورخاء، وسراء وضراء، دار غرور لمن اغتر بها، وهي عبرة لمن اعتبر بها، إنها دار صدق لمن صدقها، وميدان عمل لمن عمل فيها: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23] . تتنوع فيها الابتلاءات وألوان الفتن، يبتلى أهلها بالمتضادات والمتباينات: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] ولكن إذا استحكمت الأزمات وترادفت الطوائف؛ فلا مخرج إلا بالإيمان بالله والتوكل عليه وحسن الصبر، ذلك هو النور العاصم من التخبط، وهو الدرع الواقي من اليأس والقنوط. إن من آمن بالله، وعرف حقيقة دنياه؛ وطن نفسه على احتمال المكاره، وواجه الأعباء مهما ثقلت، وحسن ظنه بربه، وأمل فيه جميل العواقب، وكريم العوائد، كل ذلك بقلب لا تشوبه ريبة، ونفس لا تزعزعها كربة، مستيقناً أن بوادر الصفو لا بد آتية: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] . إن أثقال الحياة وشواغلها لا يطيق حملها الضعاف المهازيل، ولا يذهب بأعبائها إلا العمالقة الصبارون أولو العزم من الناس، أصحاب الهمم العالية: {أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه} حديث أخرجه الترمذي وغيره، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرج أحمد وأبو يعلى في مسنديهما، والطبراني في الكبير والأوسط من معاجمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده ثم صبر على ذلك حتى يبلغ المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل} . أيها المؤمنون: كم من محنة في طيها منح ورحمات، هاهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام يضرب المثل في الرضا عن مولاه، والصبر على ما يلقاه صبراً جميلاً بعده صبر أجمل مع الأخذ بالأسباب والقوة بالأمل، يقول لأبنائه في حاله الأول: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ثم يقول في الحال الثاني، وهو أعظم أملاً، وبربه أكثر تعلقاً: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:83] . كل ذلك من هذا الشيخ الكبير صاحب القلب الوديع، ثم يقول: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] يقين أرسى من الجبال، وعلم بالله لا يرقى إليه شك، وإن من علمه ويقينه وقوة رجائه أن أمر أبناءه: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 الفرق بين الصابر والجازع إن المؤمن الواثق لا يفقد صفاء العقيدة ونور الإيمان إن هو فقد من صافيات الدنيا ما فقد، أما الإنسان الجزوع فإن له من سوء الطبع ما ينفره من الصبر، ويضيق عليه مسالك الفرج إذا نزلت به نازلة، أو حلت به كارثة أو ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وتعجل في الخروج متعلقاً بما لا يضره ولا ينفعه. إن ضعف اليقين عند هؤلاء وأمثالهم يصدهم عن الحق، ويضلهم عن الجادة؛ فيخضعون ويذلون لغير رب الأرباب ومسبب الأسباب، يتملقون العبيد، ويتقلبون في أنواع هذه الملذات، ويكيلون من المديح والثناء ما يعلمون من أنفسهم أنهم فيه كذبةً أفاكون، بل قد يرقى بهم تملقهم المقيت أن يطعنوا في الآخرين، ويقعوا في الأبرياء من المسلمين. إن أي مخلوق مهما بلغ من عز أو منزلة فلن يستطيع قطع رزق، أو رد مقدور، أو انتقاصاً من أجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم:40] . في حديث عن أبي سعيد مرفوعاً: {إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله} . إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا ترده كراهية كاره، وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط، إن من فقد الثقة بربه اضطربت نفسه، وساء ظنه، وكثرة همومه، وضاقت عليه المسالك، وعجز عن تحمل الشدائد، فلا ينظر إلا إلى مستقبل أسود، ولا يترقب إلا الأمل المظلم. أيها الإخوة في الله: هذه هي حال الدنيا، وذلك هو مسلك الفريقين فعلامَ الطمع والهلع؟ ولماذا الضجر والجزع؟ أيها المسلم: لا تتعلق فيما لا يمكن الوصول إليه، ولا تحتقر من أظهر الله فضلك عليه، واستيقن أن الله هو العالم بشئون خلقه، يعز من يشاء ويذل من يشاء، يخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، هو أغنى وأقنى، وهو أضحك وأبكى، وهو أمات وأحيا. إن المؤمن لا تبطره نعمة، ولا تفزعه شدة. إن أمر المؤمن كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن. في هذا صح الخبر عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فاتقوا الله يرحمكم الله، واصبروا واثبتوا وأملوا، واكلفوا من العمل ما تطيقون، ولا تطغينكم الصحة والثراء، والعز والرخاء، ولا تضعفنكم الأحداث والشدائد، ففرج الله آت ورحمة الله قريب من المحسنين. اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، ونسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأحسن اللهم عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر:2-3] . نفعني الله بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 الحكمة من الابتلاءات الحمد لله جعل لكل شيء قدراً، وأحاط بكل شيء خبراً، أحمده سبحانه وأشكره، فنعمه علينا تترى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله خص بالمعجزات الكبرى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون- واعلموا أن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط، وإذا أراد الله بعبده خيراً عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة، لهذا جاء في الأخبار عن المصطفى المختار صلى الله وسلم عليه وعلى آله. الابتلاءات في هذه الدنيا مكفرات للذنوب، حاطة للخطايا، تقتضي معرفتها الإنابة إلى الله، والإعراض عن خلقه، وهي هدىً ورحمة وصلوات من المولى الكريم: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] . فاتقوا الله ربكم، وأحسنوا الظن به، وأملوا فيما عنده، واعملوا صالحاً. ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير نبيكم محمد بن عبد الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، ودمر اليهود ومن شايعهم وسائر الكفرة والملحدين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك يا رب العالمين. اللهم أيد بالحق إمام المسلمين، وارزقه البطانة الصالحة، ووفقه لما تحب وترضى، واجمع به كلمة المسلمين. اللهم انصر إخواننا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم أيدهم بتأييدك وانصرهم بنصرك، اللهم سدد سهامهم وآراءهم وأنزل عليهم النصر، وثبت أقدامهم، اللهم اجعل الدائرة على أعدائهم، واجعل تدبير الأعداء في تدميرهم يا قوي يا عزيز. اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك على كل شيء قدير. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون؛ فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروا نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذكر حياة القلب، وسبيل لانشراح الصدر، بل به تجلى الكروب، وتزول الهموم، وتطرد الشياطين، ولكن لا ينبغي الذكر باللسان مع غفلة القلب، وهذه الخطبة تبين منزلة الذكر من العبادات وفائدته للذاكرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 أهمية الذكر الحمد لله ذاكر من ذكره، يتولى الصالحين، ويثيب الذاكرين، ويزيد من شكره، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، فما خاب من ذكره، وما انقطع من شكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ سيد الذاكرين، وقدوة الشاكرين، صلى الله عليه وسلم وبارك على آله وصحبه الأتقياء البررة، أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوه في السر والعلن، اتقوه واعبدوه، واسجدوا له وافعلوا الخير لعلكم تفلحون. أيها الناس: إن قلوب البشر طراً كغيرها من الكائنات الحية، التي لا غنى لها عن أي مادة من المواد التي بها قوام الحياة والنماء، ويتفق العقلاء جميعاً أن القلوب قد تصدأ كما يصدأ الحديد، وأنها تظمأ كما يظمأ الزرع، وتجف كما يجف الضرع، ولذا فهي تحتاج إلى تذليل وري، يزيلان عنها الأصداء والظمأ، والمرء في هذه الحياة محاط بالأعداء من كل جانب، نفسه الأمارة بالسوء تورده موارد الهلكة، وكذا هواه وشيطانه، فهو بحاجة ماسة إلى ما يحرزه ويؤمنه، ويسكن مخاوفه، ويطمئن قلبه، وإن من أكثر ما يزيل تلك الأدواء، ويحرز من الأعداء ذكر الله والإكثار منه لخالقها ومعبودها، فهو جلاء القلوب وصقالها، ودواءها إذا غشيها اعتلالها، قال ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟! عباد الله! العلاقة بين العبد وبين ربه، ليست محصورة في ساعة مناجاته في الصباح أو في المساء فحسب، ثم ينطلق المرء بعدها في أرجاء الدنيا غافلاً لاهياً، يفعل ما يريد دون قائد ولا محكم، كلا فهذا تدين مغشوش، العلاقة الحقة أن يذكر المرء ربه حيثما كان، وأن يكون هذا الذكر مقيداً مسالكه بالأوامر والنواهي، ومشعراً الإنسان بضعفه البشري، ومعيناً له على اللجوء إلى خالقه في كل ما يعتريه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 فضل الذكر من القرآن والآثار لقد حث الدين الحنيف على أن يتصل الإنسان بربه، ليحيي ضميره وتزكو نفسه ويتطهر قلبه، ويستمد منه العون والتوفيق، ولأجل هذا جاء في محكم التنزيل، والسنة النبوية المطهرة ما يدعو إلى الإكثار من ذ كر الله عز وجل على كل حال، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذ ِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41-42] وقال سبحانه: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] وقال جل شأنه: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] وقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] . وقال سبحانه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] وقال صلوات الله وسلامه عليه: {كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم} متفق عليه. وقال صلوات الله وسلامه عليه: {ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيراً لكم من إعطاء الذهب والورق، وخيراً لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عز وجل} رواه أحمد. وقال صلوات الله وسلامه عليه: {من قال سبحان الله وبحمده، غرست له نخلة في الجنة} رواه الحاكم وحسنه الترمذي وصححه. عباد الله: ذكر الله تعالى منزلة من منازل هذه الدار يتزود منها الأتقياء، ويتجرون فيها، وإليها دائماً يترددون، الذكر قوت القلوب، الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً، وعمارة الديار التي إذا تعطلت عنه صارت دوراً بوراً، وهو السلاح الذي يقاتل به قطاع الطريق، والماء الذي يقطع به لهب الحريق. بالذكر -أيها المسلمون- تستدفع الآفات، وتستكشف الكربات، وتهون به المصائب والملمات، زين الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين، فاللسان الغافل كالعين العمياء، والأذن الصماء، واليد الشلاء، والذاكر الله لا تدنيه مشاعر الرغبة والرهبة من غير الله، ولا تقلقه أعداد القلة والكثرة، وتستوي عنده الخلوة والجلوة، ولا تستخفه مآرب الحياة ودروبها، ذكر الله عز وجل باب مفتوح بين العبد وبين ربه، ما لم يغلقه العبد بغفلته. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: [[تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وفي قراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق]] . إن الذنوب كبائرها وصغائرها لا يمكن أن يرتكبها بنو آدم إلا في حال الغفلة والنسيان لذكر الله عز وجل؛ لأن ذكر الله تعالى سبب للحياة الكاملة التي يتعذر معها أن يرمي صاحبها بنفسه في أتون الجحيم، أو غضب وسخط الرب العظيم، وعلى الضد من ذلك التارك للذكر، الناسي له؛ فهو ميت لا يبالي الشيطان أن يلقيه في أي مزبلة شاء، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] وقال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس] وكان رجل رديف النبي صلى الله عليه وسلم على دابة، فعثرت الدابة بهما فقال الرجل: تعس الشيطان! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تقل تعس الشيطان؛ فإنه عند ذلك يتعاظم حتى يكون مثل البيت، ولكن قل: باسم الله؛ فإنه يصغر عند ذلك حتى يكون مثل الذباب} رواه أحمد وأبو داود وهو صحيح. وحكى ابن القيم رحمه الله عن بعض السلف أنهم قالوا: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان صرعه الإنسي كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين فيقولون: ما لهذا؟ فيقال: قد مسه الإنسي. الإكثار من ذكر الله براءة من النفاق، وفكاك من أسر الهوى، وجسر يصل به العبد إلى مرضاة ربه وما أعده الله له من النعيم المقيم، بل هو سلاح مقدم على أسلحة الحروب الحسية التي لا تكلم؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فتح القسطنطينية: {فإذا جاءوها، نزلوا فلم يقاتلوا بالسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر فيسقط أحد جانبيها، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله والله اكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلونها فيغنمون} الحديث رواه مسلم في صحيحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 دور الذكر في شفاء الأسقام وكشف الكروب أيها الناس: ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال، وأطهر ما يمر بالفم وتنطق به الشفتان، وأسمى ما يتعلق به العقل المسلم الواعي، والناس بعامة قد يقلقون في حياتهم أو يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم من كل جانب، وهم أضعف من أن يرفعوها إذا نزلت، أو يدفعوها إذا أوشكت، ومع ذلك فإن ذكر الله عز وجل يحيى في نفوسهم استشعار عظمة الله وأنه على كل شيء قدير، وأن شيئاً لن يفلت من قهره وقوته، وأنه يكشف ما بالمُعنَّى إذا ألم به العناء، حينها يشعر الذاكر بالسعادة وبالطمأنينة يعمران قلبه وجوارحه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] . أيها المسلم الكريم: لا تخش غماً، ولا تشك هماً، ولا يصبك قلق مادام قرينك هو ذكر الله، يقول جل وعلا في الحديث القدسي: {أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم} رواه البخاري ومسلم. واشتكى عليّ وفاطمة رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تواجهه من الطحن والعمل المجهد، فسألته خادما، فقال صلى الله عليه وسلم: {ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم، إذا أويتما إلى فراشكما، فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمداه ثلاثاً وثلاثين، وكبراه أربعاً وثلاثين، فتلك مائة على اللسان وألف في الميزان فقال علي رضي الله عنه: ما تركتها بعدما سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين} . وليلة صفين ليلة حرب ضروس، دارت بينه وبين خصومه، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. عباد الله! لو كلف كل واحد منا نفسه أن يحرك جفنيه؛ ليرى يمنة ويسرة مشاهد متكررة من صرعى الغفلة وقلة الذكر، أفلا ينظر إلى ظلمة البيوتات الخاوية من ذكر الله تعالى، أولا ينظر إلى المرضى والمنكسرين أوكلهم الله إلى أنفسهم لما نسوه، فلم يجبروا عظماً كسره الله، وازدادوا مرضاً إلى مرضهم، أولا ينظرون إلى المسحورين والمسحورات وقد تسللت إليهم أيدي السحرة والمشعوذين، والدجاجلة الأفاكين، فانتشلوا منهم الهناء والصفاء، واقتلعوا أطناب الحياة الهادئة، فخر عليهم سقف السعادة من فوقهم. أولا يتفكر الواحد منكم في أولئك المبتلين بمس الجان ومردة الشياطين، يتوجعون ويتقلبون تقلب الأسير على الرمضاء، تتخبطهم الشياطين من المس فلا يقر لهم قرار، ولا يهدأ لهم بال؟ أرأيتم عباد الله! لو كلف كل واحد منكم نفسه بهذا، أفلا يسائل نفسه: أين هؤلاء البؤساء، من ذكر الله عز وجل؟ أين هم جميعاً من تلك الحصون المكينة، والحروز الأمينة التي تعتقهم من عبودية الغفلة، والأمراض الفتاكة؟ أما علم هؤلاء جميعاً، أن لدخول المنزل ذكراً وللخروج منه، أما علموا أن للنوم ذكراً وللاستيقاظ منه؟ أو ما علموا أن لصباح كل يوم ذكراً وللمساء؟ بل حتى في مواقعة الزوج أهله، بل وفي دخول الخلاء، -أعزكم الله- والخروج منه، بل وفي كل شيء، ذكر لنا منه الرسول صلى الله عليه وسلم أمراً، علمه من علمه وجهله من جهله. والواقع -أيها الناس- أنه إنما خذل من خذل من أمثال هؤلاء الغافلين، لأنهم على عجزهم وضعفهم ظنوا أنفسهم شيئاً مستقلاً، لا سباق لهم في ميدان ذكر الله، بينما نجد آخرين عمالقة في قوتهم، وهم مع ذلك يرون أنفسهم صفراً من دون ذكر الله تعالى، فكانت النتيجة أن طرح الله البركة واليُمن على من ذكروه؛ فنجوا وأفلحوا، ورفع رضوانه وتأييده عمن اعتز بنفسه؛ فتركه مكشوف السوءة، عريان العورة. وفي حضارتنا المعاصرة كثر المثقفون، وشاعت المعارف الفكرية، ومع ذلك كله فإن اضطراب الأعصاب وانتشار الكآبة داء عام، فما الأمر وما السبب في ذلك؟ إنه خواء القلوب من ذكر الله، إنها لا تذكر الله كي تتعلق به وتركن إليه، بل كيف تذكر من تتجاهله، إن الحضارة الحديثة والحياة المادية الجافة؛ مقطوعة الصلة عن الله، إلا من رحم الله، والإنسان مهما قوي فهو ضعيف، ومهما علم فعلمه قاصر، وحاجته إلى ربه أشد من حاجته إلى الماء والهواء، وذكر الله في النوازل عزاء للمسلم ورجاء: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] . ولو تنبه المسلمون لهذا، والتزموا الأوراد والأذكار لما تجرأ بعد ذلك ساحر، ولا احتار مسحور، ولا قلت بركة، ولا تكدر صفو، ولا تنغص هناء. عباد الله! هناك من الناس من يذكرون الله ولكنهم لا يفقهون الذكر، فتصبح بعيدة عن استشعار جلال الله وقدره حق قدره، وذكر الله عز وجل كلام: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] غير أن الناس ما ألفوا منه جهلوا معناه، لا يرددونه إلا كما يرددون كلاماً تقليدياً، وإلا فهل فكر أحد في كلمة: الله أكبر التي هي رأس التكبير وعماده، وهي أول ما كلف به المصطفى صلى الله عليه وسلم، حين أمر بالإنذار: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:1-3] إنها كلمة عظيمة، تحيي موات الأرض الهامدة، فصوتها هدير كهدير البحر المتلاطم، أو هي أشد وقعاً، إنها كلمة ينبغي أن تدوي في أذن كل سارق وناهب لترتجف يده، ويهتز كيانه، وكذا تدوي في أذن كل من يهم بإثم أو معصية، ليقشعر ويرتدع، وينبغي أن تدوي في أذن كل ظالم معتدٍ متكبر، ليتذكر إن كان من أهل الذكرى أن هناك إلهاً أقوى منه، وأكبر من حيلته واستخفافه ومكره، أخذه أقوى من أخذ البشر ومكرهم وخديعتهم الله أكبر، الله أكبر كبيراً، فاتقوا الله أيها المسلمون! واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون، واتق الله أيها المسلم الغافل! فإن كنت بعد هذا قد أحسست أنك ممن فقد قلبه بسبب غفلته، فلا تيئس بوجوده بذكر الله. فقد يجمع الله الشتيتين من بعد ما يظنان كل الظن ألا تلاقيا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9] . بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 سر الذكر في دفع الضر الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه. أما بعد: فاتقوا الله معشر المسلمين، واعلموا -وفقكم الله- أن لسائل أن يسأل: ما بال ذكر الله سبحانه مع خفته على اللسان، وقلة التعب فيه، صار أنفع وأفضل من جملة من العبادات مع المشقات المتكررة فيها؟ ف الجواب هو أن الله سبحانه جعل لسائر العبادات مقداراً، وجعل لها أوقاتاً محدودة، ولم يجعل لذكر الله مقداراً ولا وقتاً، وأمر بالإكثار منه بغير مقدار، ولأن رءوس الذكر هي الباقيات الصالحات، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {خذوا جُنتكم، قلنا يا رسول الله! من عدو قد حضر؟ قال: لا، جُنتَّكم من النار قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ فإنهن يأتين يوم القيامة منجيات ومقدمات وهن الباقيات الصالحات} رواه الحاكم وصححه. ثم ليعلم كل مسلم صادق أن المؤثر النافع، هو الذكر باللسان على الدوام مع حضور القلب، لأن اللسان ترجمان القلب؛ والقلب حافظة مستحفظة للخواطر والأسرار، ومن شأن الصدر أن ينشرح بما فيه من ذكر، ويلذ على اللسان، ولا يكتفي بمخاطبة نفسه به في خلواته حتى يفضي به بلسانه، متأولاً قول الله عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205] فأما الذكر باللسان والقلب لاهٍ فهو قليل الجدوى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اعلموا أن الله لا يقبل الدعاء من قلب لاه} رواه الحاكم والترمذي وحسنه. وكذا حضور القلب في لحظة بالذكر، والذهول عنه لحظات كثيرة، هو كذلك قليل الجدوى، لأن القلب لا يخلو من الالتفات إلى شهوات الدنيا، ومن المعلوم بداهة أن المتلبس لا يصل سريعاً. ولذا فإن حضور القلب على الدوام أو في أكثر الأوقات هو المقدم على غيره من العبادات، بل به تشرف سائر العبادات، وهو غاية ثمرات العبادات العملية، ولذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من أن تنفض المجالس دون أن يذكر الله عز وجل فيها، بقوله: {ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة} رواه أبو داود والحاكم. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمقت مجالس الغافلين، وينهى عن كل تجمع خلا من ذكر الله، وأن المجالس التي ينسى فيها ذكر الله وتنفض عن لغط طويل حول مطالب العيش وشهوات الخلق؛ في تهويش وتشويش وهمز ولمز، هي مجالس نتنة، لا شيء فيها يستحق الخلود، إنما الذي يخلد ما اتصل بالله سبحانه وتعالى. ولذا فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: {من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك، إلا كفر الله له ما كان في مجلسه ذلك} رواه الترمذي وابن حبان. هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأفضل البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله في كتابه، فقال عز وجل من قائل عليم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت؛ أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة فيها لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها ويسرتها برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. عباد الله: اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها لقد جاءت الشريعة الإسلامية لجلب المصالح ودرء المفاسد، وأعظم المصالح حفظ الضرورات، وإن من الإخلال بذلك التلبس بأي أمر يؤدي إلى الإخلال بواحدة من الضرورات، وعلى المسلم أن يتجنب ذلك، وأن يحذر من الانصياع وراء مغريات الغرب وحضارة الفساد والانهيار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 خطر الإفساد في الأرض الحمد لله سبحانه، وضع الخير فيما أحل وأباح، وجعل السوء فيما حرم ومنع: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] له دعوة الحق، وشرعة الصدق: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يضاعف الحسنات، ويمحق السيئات: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، إمام الأنبياء، وسيد الحنفاء، وقائد الغر المحجلين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين آمنوا {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24] . أما بعد: فيا أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله حصن عزيز تمنع أهلها، وتحرِّز من لجأ إليها، وبها تُقْطَع حُمَةُ الخطايا، فهي النجاة غداً، والمنجاة أبداً: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] . عباد الله: الشريعة الإسلامية شريعةٌ غراء سِمَتُها الجُلَّى أن يُعبد الله وحده في الأرض انطلاقاً من قواعد قررها الشارع الحكيم؛ متمثلة في جلب المصالح ودرء المفاسد وحينما يظهر التعارض بين مفسدة ومصلحة فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وذلك كله يدور محوره حول ضروراتٍ خمس أجمعت الأنبياء والرسل قاطبة على حفظها ورعايتها وهي: - الدين. - والنفس. - والمال. - والعرض. - والعقل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 جزاء المفسدين قال النبي صلى الله عليه وسلم: {مَن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمِل بها بعده كُتِب عليه مثل وزر مَن عَمِل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء} رواه مسلم. وفي لفظ لـ مسلم أيضاً: {مَن دعا إلى ضلالة} الحديث. فهذان اللفظان -عباد الله- صريحان كل الصراحة في تحريم سن الأمور السيئة وإشاعتها بين الناس، سواء كان ذلك تعليمَ علمٍ أو أدبٍ أو عبادةً أو غيرَ ذلك، وسواء كان العمل بها في حياته أو بعد مماته: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25] {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13] . ولقد جاء في السنة النبوية ما يدل على نسبة الأحداث إلى محدثها، وأنه يتحمل إثمه إلى يوم القيامة جراء ما أوقع فيه غيره من إخلال بنهج الله وشرعته، فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم كِفل منها؛ لأنه أول من سن القتل} رواه البخاري ومسلم. ويقول صلوات الله وسلامه عليه كما في الصحيحين في قصة صلاة الكسوف: {رأيت عمرو بن لُحَي يجر قُصْبَه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب، وغيَّر دين إبراهيم} . وقد ذكر أهل العلم رءوساً كثيرة كانت سبباً في الإحداث بين المسلمين وإضعاف دينهم، بما جلبوه في أوساطهم مما يفرق ولا يجمع، ويضر ولا ينفع: - كـ ابن سبأ: الذي قتل الخليفة عثمان رضي الله عنه. - وعبد الرحمن بن ملجم: قاتل علي رضي الله عنه. - والجعد بن درهم، والجهم بن صفوان: اللذَين أدخلا الضلال إلى بلاد المسلمين في أصلٍ عظيم من الدين وهو الاعتقاد. - وكـ المأمون: الذي أنشأ دار الحكمة، والتي ترجم من خلالها كتب فلاسفة اليونان، وناضل عن القول بخلق القرآن، وامتحن الناس في أرواحهم وعقائدهم، حتى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الله لا يغفل عمل المأمون حينما أدخل علم الكلام، ونصر القول بخلق القرآن، وامتحن الناس فيه. - ومِن بعدِهم كثير وكثير ممن أحدثوا في الدين محدثات سارت بها الركبان وكان لها في الإفساد في الدين في سائر جوانبه كما فعل بولس بدين النصرانية، وفي بعض المُثُل كفاية وغُنْيَة لمن هم في الفَهم فُحُل. عباد الله: إننا حينما نذكر مثل ذلك لنؤكد بقوة وعزم أن الله سبحانه يداول الأيام بين الناس، وأن الفساد والإفساد ماضٍ إلى يوم القيامة، مما يستدعي التحذير والتقريع من أن يقع مسلم ما في عداد المفسدين في الأرض الذين يبغونها عوجاً، من حيث يشعر أو لا يشعر، وأياً كان هذا المسلم صغيراً أو كبيراً، وضيعاً أو غِطْرِيفاً، فالجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات. وإنَّ فتح مسلمٍ ما باب الإفساد أو تخليه عن الإصلاح لما أفسد، لَيُؤكد التبعية عليه، وأن الدين قد يؤتى من قبله فيحمل وزره ووزر من تبعه إلى يوم القيامة، ولقد تمثل ذلك جلياً في دعوات النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وكان التأكيد أقوى في مخاطبته لزعماء القبائل وملوك الناس؛ لأن مَن كان ذا مسئولية ورعاية عظيمَين كانت التبعية له أو عليه أعظم، ومن هذا المنطلق كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً قال فيه: {بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلامٌ على مَن اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تَسْلَم يؤتِك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين} رواه البخاري. والمعنى عباد الله: أن عليه إثم الضعفاء والأتباع في مملكته إذا لم يُسلموا تقليداً له؛ لأن الأصاغر أتباع الأكابر. فكل مفسدة يُخشى أن تؤتى من قِبَل ضرورة من هذه الضرورات؛ فإنه يجب درؤها، ودفعُها أولى من رفعِها، وكان على المتسبب فيها سواء كان هو المنشئ الأول أو كان محيياً لها بعد إماتة؛ كان عليه من الإثم والوزر الذي يتجدد عليه بانتشارها، ويتوالى تراكمُه في صحيفة أعماله إبَّان حياته وبعد وفاته إلى أن يَبْعثَ الله مَن في القبور؛ ما لو علمه كثير من المحرضين إلى الشر والمغذِّين للانحراف، لآثروا الموت في مهدهم على أن يقعوا في هُوَّة الذنوب والتبعات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 ذم دعوى تحديث الدين واتباع الكافرين بل لقد تعدى الأمر إلى أبعد من ذلك حتى إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وأهل العلم والذكر، الذين أمروا باستكمال مادة الاجتهاد الموصلة إلى تقرير المسائل تقريراً شرعياً يوافق الكتاب والسنة؛ مع الحذر الواعي من أن يكونوا ممن افتتن بالحضارات العالمية، وراجت عندهم شبهة تحديث الإسلام ومسايرة الركب التي بها يكون العالِم غير مأمون العواقب فيتحول من حيث يدري أو لا يدري إلى تسويغ ما لا يُستساغ شرعاً مما هو معجب به أو معجب به غيره، فيُفتي حين يُستَفتى وعينه على مَن يُفتيهم يريد أن يرضيهم وأن يظفر بتقدير وتقريظ من الإفرنج وأذنابهم، فيجور على الحق إرضاءً للخلق، ويَظْهَر عمَّا عند الله تعجلاً لِمَا عند الناس، ويغيب عن وعيه حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {مَن أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه} رواه أبو داود. ولقد صدق الله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:181] . ولا غرو -عباد الله- فالعالِم إنما هو موقِّع عن الله حكمه ولأجل ذا سمى ابن القيم رحمه الله أحد كتبه: أعلام الموقعين عن رب العالمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 بيان تأثر بعض المسلمين بفتنة التغريب عباد الله: إن كثيراً من المسلمين يدورون فيما يعملون حول أنفسهم؛ فيما يحقق مصالحهم ومنافعهم الخاصة دون اكتراث بما يرضي الله وما يسخطه، وإن المعاصي المنبثقة من الشهوة على قبحها وسوء مغبَّتها إلا أنها أدنى خطورة وعقوبة من معصية الشبهة التي تقود إلى التغيير في الدين أو التشكيك فيه، أو السعي الدءوب في بث ما من شأنه إفساد المسلمين، أو بذر الفرقة بينهم، أو التطلع إلى إرساء قواعد التراجع عن الدين والتي يسعى إليها غَمالِيجُ إِمَّعُون من مرضى القلوب المقلدة، لا يُعرف لهم قدم ثابتة مستقرة ينصرون بها الدين ويدفعون بها ما خالفه، سيرة بعضهم في العمل تابعة لتربيتهم في محاضن الكفر وكنف الإلحاد، أو في بيوتهم وحال عشرائهم من لُداتهم ورفاقهم وجيرانهم، ممن غسلت أدمغتهم في دهاليز الكفر، ممن عناهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {تجدون الناس معادن؛ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهة، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه} رواه الشيخان. فترونهم -عباد الله- يجمعون بين الضلال والإسلام، بين حب ما عليه الغرب الكافر وبين الانتساب إلى الإسلام، بل ومنهم مَن يصلي ويصوم؛ لأنه تربى على ذلك؛ ولكن دفعه إليه كونه منهوم المال أو مفتون الجاه أو رائماً شهوات مشبوهة مُدْغِمٌ بعضها في بعض مغلوب في لزوم انتمائه للدين لكنه إذا تجرع عذابه لم يكد يسيغها إلا متهوعاً. ولا جرم -عباد الله- فالمرء مع من يخالل ويعاشر! والشيء من معدنه لا يُستَغرَب: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} [الأعراف:58] . وتلك العصا مِن تلكمُ العُصَيَّة ولا تلد الحية إلا حية فمن هؤلاء وأمثالهم ينبغي الحذر والتوقي، وألا نغتر بكونهم من بني جلدة المسلمين ويتكلمون بلغتهم، فلقد جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: {كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم. دعاة على أبواب جهنم، مَن أجابهم قذفوه فيها، فقلت: يا رسول الله! صِفْهم لنا، قال: قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا} الحديث، وفي لفظ لـ مسلم أيضاً: {وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس} ولقد صدق الله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص:41-42] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 دعاة على أبواب جهنم من بني جلدتنا ولِمُسْتَفْهِمٍ أن يقول: كيف يكون بعض المسلمين دعاة على أبواب جهنم؟! فالجواب هو: أنهم كذلك ببثهم الفساد والانحراف، وإشاعة الفاحشة وما يثير الغرائز الكامنة في مثل صور فاتنة، أو مقالات تخدش الحياء وتبرز القَحَة من خلال الصحافة مثلاً، أو في مجال التعليم بزرع المبادئ الهدامة بين الطلاب من خلال كوادر غير أمينة، أو من خلال منظري التطوير العلمي في سائر البقاع فيما يقدمونه من الحد والتقليص لما يقوي صبغة الله في نفوس الطلاب: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138] أو التقليل من شأن العلوم الدينية في مقابل الحرص الدءوب على تكثيف ما عداها من علوم مادية أو رياضية لا يحتاج إلى معظمها الذكي ولا يستفيد منها البليد، أو في مجال أجهزة الرأي المنتشرة مُقَمَّرةً كانت أو مُشَفَّرة؛ من التفنن في نشر الانحراف ما بين حب وهوى وفنون ومجون، أو هدم لأساسات شرعية قررها الإسلام، كمحاربة تعدد الزوجات وتشويه صورته، أو التحضيض على أن يلاقي الخطيب مخطوبته في خلوة محرمة، أو التعويد على إلفة الاختلاط بين الجنسين، ومن ثم هذا سارقٌ يعلمون الناس كيف يتخلص من عقوبة السرقة، وهذه زوجة خائنة يصورون فكاكها من غيرة زوجها بالتضليل عليه، وتلك زانية تشجع على الزنا بإشاعة طرق الإجهاض. كل هذه الصور -عباد الله- إنما هي مشاهد متكررة تُبَث على مدار اليوم والليلة ولا يخلو منها قطر أو لا يكاد. فكم من مشهد يبث على الملايين من المسلمين في كافة الأقطار، يشاهدونه بمرة واحدة؛ فإذا استقر في وعيهم وطافت به الخواطر والأفكار سلبهم القرار والوقار، فمثلوه ملايين المرات بملايين الطرق في ملايين الحوادث. فلا تعجبوا حينئذٍ عباد الله إذا لم تجدوا: إلا واضعاً كفَّ حائرٍ على ذقنٍِ أو قارعاً سنَّ نادمِ ومن ثم تستمرئها النفوس الضعيفة رويداً رويداً إلى أن تلغ من حَمَئِها وهي لا تشعر، فإذا ألفتها النفس لم تكد تتحول عنها إلا في صعوبة بالغة بعد لُؤىً وشدائد؛ ولكنها في الوقت نفسه تفقد خصائصها التي تميزها، ثم تموع وتذوبُ وبعد ذلك: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام * * * وإذا لم يغبِّر حائطٌ في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبارُ حتى تقع في أتون الفتن، فتحترق بلا لهب. والأمة المسلمة يجب أن تكون متبوعة لا تابعة، وقائدة لا منقادة، فالترك للتبعية هو النجاة منها، ومستقبل المسلمين يجب أن يُصْنَع في بلادهم وعلى أرضهم وداخل سياج الدين والشريعة، وعليهم جميعاً أن يكفوا عن أخلاق التسول بكل صنوفه؛ سياسة أو اقتصاداً أو أخلاقاً ومقدرات، ويجب ألا نغتر بما نراه من زخرف الحياة الدنيا وزينتها في أمة قد تقطعت روابطها وانفصمت عراها: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان. وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 دعوة الأمة إلى التمسك بالدين لأجل النجاة الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء البررة، وعلى من تَبِع طريقهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- ثم اعلموا أنه من المتحتم علينا أن يشار إلى نوع القضية التي يراد علاجها وهي: أن المسلمين بجميع قواهم؛ دينيةً كانت أو اجتماعيةً أو ما شاكلها في مأزق حرج، وهناك قوى آخذة بدفعه من على جرف هار إلى الهوة السحيقة، وهناك قوى أصيلة أولية آخذة بتمكينه في الأرض من جهة، وبِرَدِّ العادية عنه من جهة أخرى، وهذه العادية كان يُنْظَر إليها من قبل أزمان قريبة أنها آتية من أجنبي عن المسلمين ولكن الذي ظهر أنها نشأت في بيوتات المسلمين وعقر دارهم. والحكمة -عباد الله- ضالة المؤمن، وهي تحتم علينا جميعاً أن نزداد عبرة وتبصرة بالحال، فكما أن المريض الذي يتثاقل عن الأخذ بأسباب علاجه يسبب لدائه تمكيناً؛ فكذلك السكوت والصمت والتهاون من قبل من له حق التبيين والتوضيح من ولاة أمر وعلماء ودعاة، بل إن سكوت من له حق وحراك من لا حق له، بل إن التحمس للباطل والتراخي في الحق لهو مُوْجِبٌ لاستشراء الداء، وسيحل بكثير من الأقوام الندم ولات ساعة مندم. ثم ليعلم الضعفاء والمغفلون من أمتنا؛ الذين يحاولون في تبعيتهم وإعجابهم بما عند الأجنبي أن يؤلفوا الأمة على خلق جديد ينتزعونه ممن أعجبوا بحضارتهم، ألا فليعلموا أن الخلق الطارئ لا يرسخ بمقدار ما يفسد من الأخلاق الراسخة، وإذا كان البعض يشعر في قرارة نفسه أنه لابد للأمة في نهضتها من أن تتغير؛ فإن رجوعنا إلى كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم أعظم ما يصلح لنا من التغير وما نصلح به منه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11] . وإذا تقاصر المرء عن إبانة الحق فلا أقل من الاجتناب لكلمة الباطل، كما أن المرء المسلم إذا لم يستطع أن يكون مصلحاً فلا أقل من أن يصون نفسه عن أن يكون معول هدم، أو إذن دهليز لكل لاقط. فليتق المرء ربه، ولينظر قبل الإحداث؛ في أي مزلة يضع قدمه وهو لا يدري ما الذي يوضع له في ميزان حسناته؛ مما ليس في حسابه ولا شعر أنه عمله، فنقول له ولأمثاله: رويدكم مهلاً وعلى رسلكم، إنها الهاوية، وما أدراكم ما هيه! {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:11] {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] . هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدَّين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم ما سألناك من خير فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا من الخيرات فبلغنا. اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفِهم شرارهم. اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم. اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. عباد الله: اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 إذا غاب الإحسان أكد الشيخ حفظه الله في هذه المادة على أهمية تحقيق الإحسان ومراقبة الله الذي لا تخفى عليه خافية والمطلع على ما في الضمائر، وأن هذه المراقبة إذا تحققت في حياة المسلم أثمرت له في الآخرة النظر إلى مولاه، وفي الدنيا صلاح القضاء، وصيانة الحياة الزوجية، والخشية لرب البرية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 أهمية مراقبة الله الحمد لله فاطر السماوات والأرض، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين -الجن والإنس- بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، أقام الله به الحجة، وأوضح به الطريق، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وخلفائه الأربعة، أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر أصحابه الأخيار، النجباء الأطهار. أما بعد: فيا أيها الناس: إن الوقوف الدقيق عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبعث من مشكاة النبوة لَيَحمل النفس المؤمنة على أن تعرف أسراره، وتستضيء بأنواره، فلا ينفك يشرح للنفس ويهديها بهديه، فتؤمن بالنبي المصطفى والرسول المجتبى صلوات الله وسلامه عليه، وتتبع النور الذي أنزل معه. وكلما ذُكر كلام المصطفى صلوات الله وسلامه عليه فكأنما قيل من فمه للتو، كلام صريح، لا فلسفة فيه، يجعل ما بين المرء وصِنْوه من النية كما بين الإنسان وربه من الخوف والمراقبة. كلامٌ يقرر أن حقيقة المسلم العالية لن تكون فيما ينال من لذته، ولا فيما ينجح من أغراضه، ولا فيما يقنعه من منطقه، ولا فيما يلوح من خياله، بل هو السمو الروحي الذي يغلب على الأَثَرَة؛ فيسميه الناس براً، والرحمة التي تغلب على الشهوة؛ فيسميها الناس عفة، والقناعة التي تغلب على الطمع؛ فيسميها الناس أمانة. عباد الله: إن تنشئة النفس المؤمنة على البر والتقوى، والعفة والأمانة، والخوف والمراقبة، هي وحدها الطريقة العملية الممكنة لحل معضلة الشر والانحراف لدى المجتمع المسلم. أرأيتم الطفل كيف يشب على الخلق الكريم والنهج القويم لو تعهَّده القَيِّم بالتوجيه والتقويم، وعلى العكس من ذلك؛ لو أهمل أمره، وتركه في مهب الريح، إنه ينشأ شريراً خطراً على نفسه ومجتمعه؟ ذلكم -يا عباد الله- أبرز مثل للنفس حين ينشأ الفرد على مراقبة الله والخوف منه. عباد الله! لقد ثبت في صحيح مسلم {أن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك} الله أكبر! إنه لتعبير عجيب، تعبير يحمل في اختصاره حقيقة هائلة وخلة مذهلة، إنها كلمات تحمل في طياتها قاعدة كبرى يقيم عليها الإسلام بناءه، هي: {أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك} قاعدة يقيم عليها نظمه كلها وتشريعاته وتوجيهاته طُرَّاً، نظام القضاء، نظام الاقتصاد، نظام السياسة، نظام الأسرة، موقف الفرد من المجتمع، وموقف المجتمع من الفرد، نظام المجتمع بأسره، بل نظام الحياة كلها، {تعبد الله كأنك تراه} . فالمرء المسلم في مواجهة خالقه ومولاه المستعلي على جميع المخلوقات، في مواجهة مولاه بنفسه وبكل جوارحه وكل خلجاته بظاهرها وباطنها، بأسرارها وما هو أخفى من الأسرار: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] سبحان الله! حتى خائنة الأعين، الخائنة التي يظن الإنسان أنه وحده الذي يحسها ويعرفها، دون أن يراها أحد من الناس أو يفهمها، وحتى السر بل وما هو أخفى من السر، الخطرات التائهة في مثالب النفس لا تصل إلا ظاهر الفكر ولا يتحرك بها اللسان للتعبير، إنه لا ستر إذاً ولا استخفاء {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] وكل هذه مكشوفة لله. {فإن لم تكن تراه فإنه يراك} وإنه لخير لك -أيها المسلم- أن تعبد الله كأنك تراه، خير لك أن تتوجه إلى حيث يرقُبُك، إلى حيث يرقبك خالقك، فتأمن المفاجأة، إنها الرهبة في الحالَين، رهبة مصحوبة بالأمل، حال كونك متوجهاً إلى الله، مخلصاً له قلبك، عاملاً على رضاه، ورهبة مصحوبة بالذعر، حال كونك متوجهاً بعيداً عنه، وهو من ورائك محيط، فخير لك إذن أن تعبد الله كأنك تراه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 من راقب الله في الدنيا جوزي بالحسنى في الآخرة أيها المسلمون: قول النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان يشير إلى أن العبد يعبد الله على هذه الصفة، وهي استحضار قربه وأنه بين يديه كأنه يراه؛ لأنه يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم وذلك أفضل الإيمان كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت} رواه الطبراني، وبه تفوز بوعد الله {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله عز وجل في الجنة، وهذا مناسب لجعله جزاءًَ لأهل الإحسان؛ لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة كأنه يراه بقلبه وينظر إليه في حال عبادته فكان جزاء ذلك النظرَ إلى الله عياناً في الآخرة، وعكس هذا ما أخبر به تعالى عن جزاء الكفار في الآخرة {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] وجعل ذلك جزاءً لحالهم في الدنيا وهو تراكم الران على قلوبهم حتى حُجبت عن معرفته ومراقبته في الدنيا؛ فكان جزاؤهم على ذلك أن حجبوا عن رؤيته في الآخرة. إن الإحسان على ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يتجلى في الأمة بعامة، وفي كل شأن من شئونها، فالقاضي المسلم لا يُظن في الظلم والجور حين يرقب الله كأنه يراه، ولا يجوز له أن يضع نزواته وهواه في مكان العدل الذي يطلبه منه رقيبه ومولاه، بل كيف تتجه نفسه إلى البطش والغمط ومن يرقبه يقول له: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] ويقول له: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] ؟! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 أثر مراقبة الله في حياة القاضي إن القاضي المسلم إذا لم يعبد الله كأنه يراه فهو للدنيا أحب وللزلل أقرب، ولربما اقتطع أموال اليتامى والأرامل وأموال الوقف والفقراء والمساكين فأكل الحرام وأطعم الحرام وكثُر الداعي عليه، فالويل ثم الويل لمن أورثه قضاؤه هذه الأخلاق. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: {فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة} رواه البخاري. وكان يزيد بن عبد الله من قضاة العدل والصلاح، وكان يقول: [[من أحب المال والشرف وخاف الدوائر لم يعدل فيها]] . إذاً خير لك -أيها القاضي المسلم- أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 أثر مراقبة الله في الحياة الزوجية أيها الناس: إن الإحسان بهذا المفهوم يمكِّن للزوج وزوجته أن يتعاشرا بالمعروف، وأن يصون كل واحد منهما عرضه في غيبة الآخر، ومطارق الخوف من الله ومراقبته تذكرهم بقوله تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] لقد اجتمع ليوسف عليه السلام من الدواعي لإتيان الفاحشة الشيء الكثير، فلقد كان شاباً وفي الشباب ما فيه، وقد غلَّقت الأبواب وهي ربة الدار وتعلم بوقت الإمكان وعدم الإمكان فكان ماذا؟ {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] استعاذةٌ وتنزُّهٌ واستقباحٌ لماذا؟ وما هو السبب؟ لأنه يعبد الله كأنه يراه. وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: وذكر منهم: ورجل دَعَتْه امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله} . وإذا خلوتَ بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني إي وربي! إن الذي خلق الظلام يراني. الإحسان أمر جليل ذو مسلك طويل يُظْهِر صِدْقَه الموقف، والفرج يصدِّق ذلك أو يكذِّبه، يغيب الزوج عن زوجته اليوم واليومين والشهر والشهرين فيحمل الإحسان المرأة على صيانة عرض زوجها في غيبته بعد أن فارقها مطمئناً إلى عرضه وبيته وماله. خرج الفاروق رضي الله عنه من الليل فسمع امرأة تقول -وقد غاب عنها زوجها للجهاد في سبيل الله-: لقد طال هذا الليل واسودَّ جانبُهْ وأرَّقني ألاَ خليلٌ ألاعبُهْ فوالله لولا الله لا شيء غيرُه لَحُرِّك من هذا السرير جوانبُهْ مخافة ربي والحياءُ يصدني وإكرامُ بَعلي أن تُنال مراكبُهْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 أثر مراقبة الله في حياة العالم عباد الله: أما العالم فيا لعِظَم العلم وعلو منزلة العالِم! ولكن يا لفظاعة الكبوة وعِظَم الزلة في عيون الناس! إن أشرف ما تنافس فيه المتنافسون وأفضل ما بذلت فيه الجهود: طلب العلم النافع، فهو الروح يمد الجسد بالحيوية، وهو النور الوضاء يبدد ظلمات الجهل ويهدي إلى السبيل {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] . فالعلماء هم أولى الناس بالإحسان، وأقرب الناس إلى الإحسان، وأكثر الناس دعوة إلى الإحسان، والعالِم الرباني هو من تحقق فيه ذلك وجمَّل علمَه بالعمل به كما تتجمل المرأة بالحلة الحسناء للدنيا؛ لأن العلم والعمل إنما يُطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم والقرب منه والزلفى لديه. قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: إنما فضِّل العلم؛ لأنه يُتَّقَى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء. فمن طلب بالعلم والعمل سيادة على الخلق وتعاظماً عليهم وإظهاراً لزيادة علمه ليعلو به على غيره فهو متوعَّد بالنار كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: {من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء أو يصرف وجوه الناس إليه أدخله الله النار} رواه الإمام أحمد والترمذي. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[يا حملة العلم! اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم فوافق عمله علمه، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيَهم، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه إذا جلس إلى غيره]] . والعالم المسلم إذا عبد الله كأنه يراه كرهت نفسُه الفُتيا، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها، قال الإمام أحمد رحمه الله: مَن عَرَض نفسَه للفُتيا فقد عَرَّضها لأمر عظيم، قيل له: فأيما أفضل: الكلام أم السكوت؟ قال: الإمساك أحب إلي، ثم قال: وليعلم المفتي أنه يوقِّع عن الله أمره ونهيه وأنه موقوف ومسئول عن ذلك. وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: ما فُتِيْتَ عن المسألة والفُتيا فاغتنم ذلك ولا تنافس، وإياك أن تكون ممن يحب أن يُعمَل بقوله أو يُنْشَر قولُه أو يُسْمَع قولُه، وإياك وحب الشهرة فإن الرجل يكون حب الشهرة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة. وكان أحد السلف يعجبه ما يراه من علم أحد الناس وحسن خطابه وسرعة جوابه، فقال له يوماً، وقد سأله عن مسألة فأجاب: [[أخشى أن يكون حظك من الدنيا لسانك]] فكان ذلك الرجل لا يزال يبكي من هذه الكلمة. إذاً خير لك يا صاحب العلم أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:55-56] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 جميع العلوم ترجع إلى الإحسان الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على رسوله الذي أصطفى وعلى آله وصحبه ومن بهديه اقتفى. ثم أما بعد: فيا عباد الله: إن مَن تأمل كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، علم أن جميع العلوم والمعارف ترجع إلى هذا الحديث وتدخل تحته، وينتج عن هذا الإحسانِ الإحسانُ في العمل بأن يؤدي الإنسان واجبه على أكمل وجه، بل الإحسان على كل شيء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، ولْيَحُدَّ أحدكم شفرته ولْيُرِح ذبيحته} رواه مسلم. الله أكبر! إنه يأمر بالإحسان حتى في ذَبح الذبيحة؛ {ولْيُرِح ذبيحته} إنه الحرص على إراحة الذبيحة وهي تساق إلى الموت إلى العدم إلى حيث لا تشعر، وهنا تتجلى رحمة المسلم للحيوانات العجماوات التي سخرها الله له وجعلها في خدمته ومصلحته. فالإسلام دين الرحمة، ودين الرأفة، ودين الرفق بالحيوان والإنسان. ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بينما رجل يمشي في الطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً، فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب فشكر اللهُ له فغفر له، قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر} . وفي مقابل جزاء مَن رحم الحيوان نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر عقاب من آذى حيواناً وقسا عليه بقوله: {عُذِّبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً فدخلت فيها النار} . فإذا كان هذا جزاء من يعذب الحيوان الأعجم، فكيف تكون حال مَن يُسيء معاملة والديه، أو يؤذي إخوانه، أو يصب شديد غضبه وعظيم شره على قرابته وجيرانه وبني ملته ومجتمعه. فاتقوا الله أيها المسلمون! اتقوا الله أيها المسلمون! وراقبوا ربكم وتخلقوا بالإحسان تفلحوا وتفوزوا بوعد الله لكم إنه لا يخلف الميعاد. هذا وصلوا رحمكم الله على النبي المصطفى والرسول المجتبى محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر. وارضَ اللهم عن الأئمة الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنا معهم بمنك وكرمك. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 فقه الأماني إن لكل إنسان أشياء يتمنى أن تحصل له، فمنهم من يتمنى خيالاً، ومنهم من يتمنى أشياء قد تحصل له، ومنهم من يئس من هذه الحياة فلا يتمنى أي شيء في هذه الدنيا إلا الموت، وإذا أردت أن تعرف أي إنسان فاسأله ماذا يتمنى، وإن من الخطر أن تجر الأمة المسلمة بالأماني إلى التنكر للدين وطلب الفسوق، وفي هذه المادة تجد بغيتك في التحذير من ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 ما جبل عليه الإنسان من التمني الحمد لله على تقديره، وحسن ما صرَّف من أموره، نحمده سبحانه على حسن صنعه، ونشكره على إعطائه ومنعه، يسخر للعبد وإن لم يشكُره، ويستُر الجهل على من يظهره، خوَّف من يجهل من عقابه، وأطمع العامل في ثوابه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، ما ترك خيراً إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شراً إلا حذَّرها منه، حتى تركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والذين ساروا على طريقه وسلكوا نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فعلى المسلمين -جميعاً- أن يتَّقوا الله سبحانه، ويعبدوه -جل شأنه- كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، ومن جعل بينه وبين عذاب الله وقاية فقد اتقاه: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] . أيها الناس! للمرء مع نفسه في هذه الحياة أسرار وأطوار، وهو -ولا شك- منذ أن يبدأ مرحلة التمييز المبكر يبدأ تفاعلُه مع الحياة ومناحيها في أولى مراحلها، لا يثنيه عن ذلك براءة الطفولة، ولا غيب المستقبل، ولا صِفر السجل من ماضٍ مجرب، كل ذلك لا يثنيه ألبتة عن أن يستعجل المستقبل، ويملأ فراغه المبكر مشرئباً بكمٍ هائلٍ من الأماني والآمال، تلكم الأماني التي لا تخضع للهرم أو الشيب، كعجلة دائرة، لا يحول دونها إلا الموت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر} رواه مسلم. إن من أعجب ما في المرء! حرصه على كشف ما مُنِع منه، وتوقه الجارف إلى ما لم ينل، والكثرة الكاثرة منا مبتلاة بتضخم الأماني واستسمانها، ولربما لم يسعف الزمان على تحقيقها، أو قد تضعُف الآلة فيبقى المتمني في عذاب، وقد قيل: "لو أُمِرَ الناس بالجوع لصبروا، ولو نُهوا عن تفتيت البعر -أجلَّكم الله- لرغبوا فيه، وقالوا: ما نُهينا عنه إلا لشيء"، والمقولة المشهورة: "أحب شيء إلى الناس ما منع عنهم". ولهذا لو قََعَد الإنسان في بيته شهراً برمته لم يصعب عليه، ولو قيل له: لا تخرج من بيتك يوماً لطال عليه ذلك اليوم. وإن تعجبوا -عباد الله- فعجبٌ حرصُ المرء على التمني، والإلحاح على ربه على تحقيقه، بل كلما زاد تعويقه ازداد إلحاحه على ربه، ثم ينسى المرء أن ربه منعه ذلك، إما لمصلحة فرُبَّ مُعَجَّلٍ هو أذى، وإما لذنوبه فإن صاحب الذنب بعيدٌ من الإجابة. وفي الجملة: فتدبير الحق سبحانه للمرء خيرٌ من تدبير المرء لنفسه، وقد يمنعه ما يتمنى ابتلاءًَ ليبلو صبره، فالله الله في الصبر الجميل، يرى صاحبُه عن قربٍ ما يسُر، ويعلم أن كل ما يجري أصلح له عطاءً كان أو منعاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 الممدوح من التمني والمذموم التمني -أيها المسلمون- مأخوذٌ من الأمنية، وجمعها أماني، وهو أعم من الترجي؛ لأن الترجي مخصوصٌ بالممكنات، والتمني أعم من ذلك، وقد عرَّفه أهلُه على أنه إرادة تتعلق بالمستقبل، فإن كانت في خيرٍ من غير أن تتعلق بحسدٍ فهي مطلوبة وإلا فهي مذمومة. والناظر في واقع المسلمين اليوم في شبابهم وشيوخهم من جهة الأمنيات والتطلعات المطروحة، لن يجد كثيراً يسرُّه، إذ يرى نفسه بين خليطٍ ممتزجٍ امتزاج المعبوب المقسور من التناقضات والمتعارضات، مما يجعله لا يبعد النجعة إذا أوقع حدسه في تصنيف عقول كثيرٍ منهم، وقد قيل: لتعرف حجم عقل المرء سَلْه عن أمنيته، وأحسن هؤلاء مَن قَصَر أمنيتَه على أمورٍ جبلية، كبنتٍ عضَلَها أبوها ظلماً فتتمنى الزواج، أو ربِّ أسرة مُناه أن يرى ما يسره ممن يعول، أو كزارعٍ يكدح، وتاجرٍ يسافر، ومريضٍ يتداوى بالعلقم، فالأول لحصاده، والثاني لربحه، والثالث لشفائه وهلمَّ جرَّاً. ولو لم يكن من التمني عندهم إلا دفع النشاط، وتخفيف الويلات لكفى، وكأنهم يُروُون بها على ظمأ، فإن تحققت فهي أحسن المنى، وإلا فهم يعيشون بها زمناً رغداً، وما كل ما يتمنى المرء يدركه! والعيب هنا -أيها المسلمون- ليس في مبدأ التمني وطلبته فحسب! كلا. فالتمني جِبِلَّة جبل الله الخلق عليها؛ ولكن العيب هنا -كل العيب- في فوضى الأمنيات، والانحطاط الثقافي والمعرفي والروحي من نفوس الكثيرين، حتى إن أحدهم لََيَصل إلى درجة الأماني الدنيئة التي لا يقرها شرعٌ ولا عقل، وإنما طالتها لوثة الترويج الإعلامي المغلوط، وأمصال العولمة المعرفية، دونما سياجٍ للحشمة والعفاف، وما يحسن وما يقبح. نَعَم! التمني مصدره ومحله القلب، وما يطلقه من طموحاتٍ ورغبات، وهذا لا يعفي المرء من تقييد همه، وأن محبة الإثم إثمٌ وإن لم يقع، وفي مثل هؤلاء يقول ابن الجوزي رحمه الله: نعوذ بالله من سِيَر هؤلاء الذين نعاشرهم، لا ترى منهم ذا همة عالية فيقتدي بها المقتدي، ولا صاحب ورعٍ فيستفيد منه الزاهد. وعليكم بملاحظة سِيَر السلف وقد جاء عند الطبراني مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله يُحب معالي الأمور ويكره سفسافها} . ومع ذلك -أيها المسلمون- فمن الناس جُحَّادٌ بالله الخالق، يعيشون بأنفسهم فحسب! تجدونهم أيأس الناس وأكفرهم و {لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] نظروا إلى الدنيا وإلى الناس وإلى حكمة الله بمنظارٍ أسود قاتمٍ، يرون الأرض غابة، والناس وحوشاً، والعيش عبئاً لا يُطاق، ليس للأماني الصادقة محلٌ في أفئدتهم حتى ولا جنة الخلد، فهم لا يبكون مَيْتاً، ولا يفرحون بمولود، ويرون أن الميت للدود والمولود لدود، وحاصلهم أن لا أمنية لديهم في أن يكون لهم أمنية، فعبروا عن قنوطهم وكفرهم بالله بما يبثونه من اللغط والخلط من خلال محادثاتٍ ومقالاتٍ في الصحافة تارة، ومن خلال روائياتٍ تاراتٍ وتارات، يُعدِمون بها انتماءهم للدين بالعدامة، ثم يشمِّتون أرواحهم لتفوح جيفهم فتخطفهم الطير أو تهوي بهم الريح إلى سراديب في شرق الوادي السحيق. والله المستعان! ولا غَرْوَ -أيها المسلمون- في انتشار الأماني الكاذبة، والطموحات الساذجة، والتطلعات الدنيئة في هذه العصور المتأخرة التي ضعف فيها الوازع الديني الزاجر، ولله كم من أمنياتٍ كانت وستكون مولِّدة لأمنيةٍ أخرى هي على الضد من ذلك عند اختلال الموازين، يقف لها شَعر المرء المسلم! روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: {لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه، ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء} ، يقول ابن عبد البر: "سيكون هذا لشدة تنزل بالناس من فساد الحال في الدين، أو ضعفه، أو خوف ذهابه". وقد أخرج الحاكم عن أبي سلمة قال: [[عدتُ أبا هريرة فقلت: اللهم اشفِ أبا هريرة فقال: اللهم لا ترجعها، إن استطعت يا أبا سلمة فمُتْ، والذي نفسي بيده ليأتين على العلماء زمانٌ الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر، وليأتين أحدهم قبر أخيه، فيقول: ليتني مكانه]] وهذا -أيها المسلمون- لا يُعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب} رواه البخاري وغيره؛ لأن هذا محمولٌ على زمانٍ لم تعم فيه الفتن والبلايا التي يكون الموت فيها أسلم من الحياة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 بعض الأماني الحسنة عباد الله: للمقولة المشهورة دورٌ في تمييز الخبيث من الطيب، والزَّين من الشين، وبالضد تتميز الأشياء، وهذه ملامح موجزة سريعة عن بعض أماني السلف الحسان: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لو كان عندي أحد ذهباً لأحببت ألا يأتي عليَّ ثلاثٌ وعندي منه دينارٌ إلا شيء أرصده في دينٍ عليَّ أجد من يقبله} رواه البخاري. وذكر ابن قتيبة وابن عبد البر وابن خلكان أنه اجتمع عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب: [[تمنوا، فقالوا: ابدأ أنت؟ فقال: ولاية العراق وتزوُّج سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله؛ فنال ذلك، وتمنى عروة بن الزبير الفقه، وأن يُحْمَل عنه الحديث؛ فنال ذلك، وتمنى عبد الملك بن مروان الخلافة؛ فنالها، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة]] . وذكر الطبراني والبيهقي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: [[إن فيَّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله فلَوَدِدْتُ أن جميع الناس يعلمون ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حُكَّام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح ولعلِّي لا أقاضي إليه أبداً، وإني لأسمع الغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح وما لي به سائمة]] . يقول ابن الجوزي -رحمه الله- مُحدِّثاً عن نفسه: "لقد بلغتُ السن وما بلغت ما تمنيت -وكان رحمه الله قد تمنى كثرة العلوم والمعارف- فأخذتُ أسأل الله تطويل العمر، وتقوية البدن، وبلوغ الآمال، وكان هذا السؤال في ربيع الآخر من سنة (75هـ) ، فإن مُدَّ لي أجل وبلغت ما أمَّلته، فسأُخبر ببلوغ آمالي، وإن لم يتفق فربي أعلم بالمصالح، فإنه لا يَمنع بخلاً، ولا حول ولا قوة إلا به". وكان عمره -رحمه الله- آنذاك خمسة وستين عاماً، ثم مُدَّ في عمره اثنين وعشرين سنة أُخرى فكانت الوفاة سنة (97هـ) للهجرة حصل له من البركة في العلم والعمل الشيء الكثير. ولا جرم -عباد الله- فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا تمنى أحدكم فليستكثر، فإنما يسأل ربه} رواه عبد بن حميد، وهو على شرط البخاري ومسلم. هذه لمحاتٌ موجزة من تمني المعالي مع صدق وجد؛ لأن الحرمان بالكسل موكل، ومن ينصَب يصِب عن قريب غاية ما يتمنى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز} رواه مسلم. وقد جاء في الصحيح من حديث ربيعة بن كعب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الجنة؟ فقال له: أعني على نفسك بكثرة السجود} رواه مسلم. فالذي ينبغي لمتمني الخير ألَّا يقصر في شوطه، فإنْ سبق وحصل المقصود فهذا هو المراد، وإن كبا جواده مع اجتهاده لَمْ يُلَمْ. سمع الفاروق -رضي الله تعالى عنه- قوماً من أهل اليمن يتمنون المال وهم قاعدون بالمسجد، فعلاهم بدرته، وقال: [[لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني! وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وإن الله يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10]] ] . ويا لَلَّه كم من متمنٍ بصدقٍ وجد نال ما تمنى بإذن الله، فإن لم ينله كله نال بعضه! ولقد أحسن من قال: لأستسهلن الصعب أو أُدركَ المنى فما انقادت الآمال إلا لصابر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 الإكثار من التمني والآمال الكاذبة عباد الله: ثَمَّ أمرٌ مهمٌ ليس يخفى مما يتعلق بموضوعنا هذا وهو العب من التمني والآمال الكاذبة التي هي أقرب ما تكون إلى أحلام اليقظة وأطياف الخيال -لا سيما القاصرة منها- والتي لا ينتفع بها غادٍ ولا رائح وإنما هي أماني ملء البطون، وإشباع الفروج، وما أشبه ذلك مما يجلب عليه الشيطان بخيله ورجله ويعدهم به ويمنيهم {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [النساء:120] ومن كان مرعى همومه وعزمه في مثل هذا روض الأماني لم يزل مهزولاً ثملاً. وقد قال ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين في مثل هذا: إن التمني من مفسدات القلب، وهو بحرٌ لا ساحل له، وهو الذي يركبه مفاليس العالم، كما قيل: إن المنى رأس أموال المفاليس، وبضاعة ركابه مواعيد الشيطان، وكلٌ بحسب حاله من متمنٍ للقدرة والسلطان، وللضرب في الأرض والتطواف في البلدان، أو للأموال والأثمان، أو للنسوان والمُردان، فيمثِّل المتمني صورة مطلوبه في نفسه وقد فاز بوصولها، والتَذَّ بالظفر بها، فبينا هو على هذه الحال إذ استيقظ فإذا يده والحصير، بخلاف أماني المؤمن الصادق فهي نورٌ وحكمة، وأمانيُ أولئك خداعٌ وغرور. وذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار رحمه الله: "أن ناسكاً كان له عسلٌ وسمنٌ في جرة، ففكر يوماً فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري خمس أعنز فأولدهن في كل سنة مرتين إلى أن قال: فأتخذ المساكين والعبيد والإماء والأهل، ويولد لي ابنٌ فأسميه كذا، وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربتُ بعصاي رأسه -وكانت في يده عصاً- فرفعها حاكياً للضرب، فأصابت الجرة فانكسرت وانصب السمن والعسل". وكان أبو مسلم الخرساني في حال شبيبته لا يكاد ينام، فقيل له في ذلك، فقال: ذهنٌ صافٍ، وهمٌ بعيد، ونفسٌ تَتُوقُ إلى معالي الأمور، مع عيشٍ كعيش الهمج والرعاع، قيل: فما الذي يبرد غليلك؟ قال: الظفر بالملك، فحصل له شيءٌ من مراده، وانتصب في طلب الولايات، فكم قتل وفتك حتى نال بعضها، فلم تزد على ثمان سنين، ثم اغتيل: {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} [النجم:24-25] أي: ليس كل من قد تمنى خيراً حصل له. والمهم أن يتفطن المرء إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما يُكتب من أُمنيته} رواه أحمد {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] . فالدين -عباد الله- ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، وليس كل من تمنى شيئاً حصل له، ولا كل من قال إنه على الحق وتمناه سُمِع قولُه بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} [الحديد:14] . يقول الحسن البصري رحمه الله: "المنافق يقول: سواد الناس كثير وسيغفر الله لي، ولا بأس علي بسيء العمل، ويتمنى على الله"، وفي الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره: {الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتَمنَّى على الله الأماني} . بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم من الآيات والذكر والحكمة. أقول ما سمعتم، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 تحذير المسلمين من تمني الفجور والتنكر للدين الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فاتقوا الله -معاشر المسلمين- واعلموا أن من محاسن الدين الإسلامي أنه لم يَدَع لنا شيئاً إلا وبيَّن لنا فيه بياناً، حتى الخلاء وما يتعلق به؛ ولذا فإنَّ التمني من جملة ذلك، فقد يكون في الخير لعموم المسلمين كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في الخصال الثلاث، وكمدح النبي صلى الله عليه وسلم لمتمني الخير، وربما جعل أجره في بعض الأشياء كأجر فاعله، كالقائل: لو أن لي مالاً لعملتُ بعمل فلان الذي يتقي ربه في ماله، ويصل فيه رحمه، ويخرج منه حقه، فقال صلى الله عليه وسلم: {هم في الأجر سواء} وأمثال هؤلاء أصحابُ قلوبٍ طاهرة برَّة، وأنفسٍ زكية حرَّة، تحب للناس ما تحب لأنفسها، وثَمَّ أنفسٌ أخرى على النقيض من ذلك! لا تتمنى الخير لأحد؛ كأنْ ليس في الدنيا إلا هي فحسب، للحسد في قلوبها جمرة تتقي كالأبتون، تود وتتمنى زوال نعمة الأخ المسلم وأن تراه محروماً مفلساً، وتقع فيما حذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إياكم والحسد! فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب} رواه أبو داود. ومثل هذا -عباد الله- من التمني المحرم الذي يأثم به صاحبه ويوقعه في المهالك، وهو الذي عناه الإمام الشافعي رحمه الله بقوله: "لولا أنَّا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون كذا وكذا". ولأجل ذا -عباد الله- فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في ذلك أشد الحذر، وجعل ما يتمناه القلب بقلبه من الإثم من جنس زنا القلب وفحشه، فقد جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزِنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} -وعند أحمد في مسنده - {وزنا القلب التمني} . ألا وإنَّ مما يحرم تمنيه والتطلع إليه ما يقع من بعض ضعاف النفوس من ذوي العقول المريضة، والأفكار الدخيلة، والذين يُريدون أن يؤلبوا الأمة على التنكر لأحكام الشريعة، والخروج عن إطارها، والقدح في عدالتها، وذلك من خلال إبداء التمنيات رجالاً ونساءً عن قضايا المرأة، والزج بها خارج سياج الشرع، ومحبة شيوع تحللها، وعَدِّ المرأة مهضومة الحق، مسروقة الكمال، فلهؤلاء يقول الباري جل شأنه: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32] ، قالت أم سلمة: {يا رسول الله! تغدو الرجال ولا تغدو النساء، ولنا نصف الميراث؟} فأنزل الله هذه الآية. رواه الترمذي وأحمد. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مُطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدمٍ ولا بلاءٍ ولا غرق، اللهم لتُسقي به العباد، وتُحيي به البلاد، ولتجعله بلاغاً للحاضر والباد. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 ولا تهنوا ولا تستكينوا لقد أصيب أبناء الأمة الإسلامية بالوهن، واستكان الكثير منهم لعدوه الذي أثر في عقله وثقافته، والذي هزمه في نفسه، وصور له أن دينه إرهاب، فأصبح يحارب دينه بنفسه، وهذه الحالة لها أسباب أدت إليها، ومنها عواصم للنجاة منها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 الوهن عند المسلمين وأسبابه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فيا أيها الناس: لقد ظل العالم الإسلامي بأسره مئات الأعوام وهو متجانس متماسك يشد بعضه أزر بعض، ويأرز إلى عقيدته الجامعة كلما هدد كيانه خطر أو ادلهم خطبٌ، بل لقد بلغت ولاية الإسلام على هذه البسيطة ما بين نقطة المغرب الأقصى إلى حدود الصين، كلها أقطار متصلة وديار متجاورة يترحل فيها المسلم حيث شاء، ليس له أرض يسميها بلاده، وإنما بلده هنا أو قل هنالك، حيث يبعثها المنادي الله أكبر، يفضل القفر والشظف على لزوب أرض يصدأ القلب في رباها أقطار إسلامية أخذ بصولجان الملك منهم ملوك عظام وخلفاء أجلاء، فأداروا بشوكتهم الإسلامية وجه الأرض إلا قليلاً، لا يهزم لهم جيش إلا لماماً، ولا يرد قول على قائلهم، ولا تدخل عليهم داخلة من نفس ضعيفة متهالكة، قلاعهم وصياصيهم متلاقية، حضارتهم ومغارسهم في سهوبهم وأخيافهم. بيد أن الفساد بقضه وقضيضه لمَّا دب في نفوس كثير من المسلمين بمرور الزمن، وتمكن من طباعهم حرصٌ وطمع هما باطلان قطعاً، ثم فانقلبوا بعد ذلك مع الهوى، وقنعوا بألقاب ومسميات هي أشبه بالسنور يحكي انتفاخاً صولة الأسد، وما يتبع ذلك من مظاهر الفخفخة وأطوار وأطوار النفخة ونعومة العيش، واختاروا موالاة الأجنبي عنهم المخالف لهم في الدين والعقيدة، ولجئوا للاستنصار به، وطلب العون منه، واستجدائه بالمدمع لا بالمدفع، استبقاءً لأشباح مآرب بالية ونعوم زائلة. ومنذ فقدان الأندلس وقع تغير رهيب في حياة المسلمين، وأخذت أرضهم تنقص من أطرافها {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] ففقدت أقطار وأمم، وغدت سهولهم بلا قع، وأوديتهم أباطح، حتى صاروا أثراً بعد عين، وخبراً بعد ذات، كما انتهكت محارم ومقدسات، ودارت رحى الحرب عليهم، حتى تداعت عليهم أمم الكفر وشعوبه، ودب فيهم قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت} رواه أحمد وأبو داود. فانظروا -عباد الله- إلى الوهن الذي هو سر الضعف الأصيل، حيث يعيش الناس عبيداً لدنياهم، عشاقاً لأوضاعهم الرتيبة، تحركهم شهواتهم وشبهاتهم، وتموج بهم كالخاتم في الإصبع، وتسيرهم الرغائب المادية كما يسير الثور في الساقية؛ يتحرك في مدار محدود فاقد الهدف معصوب العينين، وهذا هو الوهن -عباد الله- حينما يكره المسلمون الموت، ويترقبونه كامناً في كل أفق، فيفزعون من الهمس، ويألمون من اللمس، يؤثرون حياة يموتون فيها كل يوم موتات على موت يحيون بعده حياة سرمدية. وإن تعجبوا -أيها المسلمون- فعجب مواقف كثير من المسلمين اليوم وقد أحاطت بهم الغواسق من كل جانب، فخبطوا خبط عشواء، أفلست النظم، وتحطمت كثيرٌ من المجتمعات، وتدهورت القوميات والعولمة، وانثنت الحريات اللادينية المزعومة، فالعجب كل العجب أن يكون النور بين أيديهم، والرائد نصب أعينهم؛ ثم هم يلحقون منهومين بركب الأمم الكافرة في نهجهم وسلوكهم، ويستسمنون ذا ورم فلا يستطيعون رشاداً، ولا يهتدون سبيلاً!! حال هؤلاء: كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهرها محمول والواقع العلقم أيها المسلمون: هو أن أهل الكفر والإلحاد أشغلوا المسلمين عن نورهم، وأبعدوهم عن مصدر العزة، وأغروهم بأطياف وموضات زعموها في السياسية تارة، وفي الإعلام أخرى، وفي الإعلام والقهر والجبروت ثالثة، ورابعة في مكافآت الصمت وغض الطرف إلا من رحم الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 العلاج من هذا الوهن أيها المسلمون: سؤال يفرض نفسه بقوة على واقع المسلمين اليوم وهو: لماذا ولأي شيء وما هو السبب حين لا نبحث عن أسباب هزائمنا وخسائرنا الفادحة في المال والأهلين والسلوك وصدق الانتماء؟ هل أبكاها عوج خلقي، أو خلل سياسي واقتصادي، أو غش ثقافي، أو انحراف عقائدي، أو إلى مزيج متفاوت النسب من هذه العلل جميعاً؟ ما هي المعاصي الخلقية والسياسية والثقافية التي ارتكبها أهل الإسلام فأصابهم بسببها ما أصابهم؟ إنه لحتم على كل عاقل منصف أن يبين ويوضح، كما أن على أصحاب الألسن وحملة الأقلام ألا يقترفوا خيانات قاتلة في حق دينهم وأمتهم بتجاهل تلك القضايا، بلهى الخوض فيها على غير مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ألا فليعملوا أنهم بتجاهلهم لها، يؤخرون يوم النصر ولا يقدمونه، وأن اللجة التي تحمل بعض أولئك على ذاك التجاهل تقودهم ومجتمعهم إلى الغرق، ولا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، ولا يرحم إلا المخلصين الصادقين المفلحين: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59] . فهل بعد ذلك يرتفع شعار الإسلام، وترفرف رايته في تحليل القضايا الإسلامية، أم تبقى تحت الرايات العمية، والنهوج اللقيطة لنبلغ بها القاع والعياذ بالله؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 استشعار آلام المسلمين أيها المسلمون: المؤمن الصادق، والغر الغيور لا يمل كثرة الحديث عن مآسي المسلمين، وانتهاك حقوقهم وسلب أراضيهم؛ لأن الكأس تفيض عند امتلائها، ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو على أقل تقدير يتوجع لك؛ لأن مآسي المسلمين اليوم أصبحت نقطة ارتكاز في ميدان الجهاد الإسلامي، وساحتها محطة امتحان وكشف لقوة المسلمين وغيرتهم على دينهم وأوطانهم وحرماتهم. ونحن من هذا الحديث لسنا ننقب عن نائحة مستأجرة تسمعنا نحيبها، ولا عن ضئر عارية مؤداة نودع قضايانا ترائبها؛ لأن البكاء لا يحيي الميت، والأسف لا يرد الفائت، والحزن لا يدفع المصيبة، ولكن العمل مفتاح النجاح، والصدق والإخلاص مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم طريق الفلاح ودرجاته: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] . وعلو المسلمين وهبوطهم إنما هو في الحقيقة بمقدار قربهم من ربهم وإحيائهم لشعيرة الجهاد في سبيل الله التي هي ذروة سنام الإسلام، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {من لم يغزُ ولم يجهز غازيا، أو لم يَخلُف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة} ، رواه أبو داود وابن ماجة. والقارعة والداهية: إنه إذا ما رام المسلمون وحدة وإخاء؛ فعليهم أن يودعوا في ضآضئهم حب الأخوة الإسلامية والولاء والبراء عليها، والتناصح والتناصر من أجلها، إن هم فعلوا ذلك؛ وإلا فلا بد يوماً أن يكظموا ويهضموا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً} ، رواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه. إن قضايا المسلمين الدامية يختلط فيها الشجو بالتعزية، والرضا بالتهنئة، رضاً وتهنئة حينما يستحضر المسلم مرأى أولئك الأبطال الأشاوس الذين يقفون في وجوه الغازين الحاقدين ليسترجعوا سلبهم وأرضهم أمام موحشات مدهشات، مصاولة المخاطر أدناها والموت أعلاها، وشجو وتعزية حينما يقع ما يقع على مرأى من المسلمين ومسمع، فلا يحيرون جواباً، ولا يحيون ألباباً إلا من رحم الله. والمشاهد من أمثال هؤلاء أنهم قساة القلوب، غلاظ الأكباد، وكأنما قدت قلوبهم من حجر، حكموا على أنفسهم بالذلة، وعلى مجتمعاتهم بالحطة حتى لم يطلبوا رفعة، أو قنطوا فلم يكن لهم أمل، بل اغتالتهم غائلة الاستكانة فوطنوا أنفسهم على أن يشقوا ليسعد غيرهم، فلا يهتمون إلا بحاجة مأكلهم ومشربهم، وكأنهم النمال الحمالة لا تستفيد مما تحمل شيئاً، والمثقفون من أمثال هؤلاء يندبون ويلطمون ويتلقون المواساة والعزاء فحسب، والعدو الكاسر الحاقد يخفض جناح الذل من رحمته وعدله المزعومين، على دعم وتحصين منظمة عالمية لمحبي الكلاب وأصدقاء الحيوانات الأليفة زعموا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 تحقيق روح الأخوة الإسلامية ألا إن من دعائم الإسلام الراسخة تحقيق روح الإخاء والتضامن الإسلامي بين المسلمين بعامة، فيأخذ القوي بيد الضعيف، ويشد المقتدر من أزر العاجز، كما أن من الواجب عليهم أن يبحثوا في كل مظِنة ضعف عن سبب قوة، ولو أخلص المسلمون في طِلاب ذلك لاستحصلوه، ولصار الضعف قوة؛ لأن الضعف قد ينطوي على قوة مستورة، يؤيدها الله بحفظه ورعايته، فإذا بقوى الضعف تهد الجبال وتحير الألباب: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح:7] . سمع معاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن رجلاً من أعدائه شرب عسلاً فيه سم فمات، فقال رضي الله عنه: [[إن لله جنوداً منها العسل]] إن الحديث عن القوة النابعة من الضعف ليست دعوة إلى الرضا بالضعف أو السكوت عليه، بل هو دعوة إلى استشعار القوة حتى في حالة الضعف، وما أدراكم ربما صحت الأجسام بالعلل! فينتزع المسلمون من هذا الضعف قوة تحيل قوة عدوهم ضعفاً، وينصرهم الله نصراً مبيناً، قال تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الأنفال:44] . فاتقوا الله معاشر المسلمين، وكونوا جميعاً على خندق واحد مع إخوانكم المسلمين في كل مكان، أقيموا العزم في وجه التهاون، والشدة في وجه التراخي، والقدرة في وجه العجز، وأما أهل الكفر والإلحاد فقد كفاناهم الله بقوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196-197] . بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا إن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 الإرهاب مصطلح يرمى به المتدينون ويحارب به الدين الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ورضي عنهم أجمعين. أما بعد: فلعل المسلمين في هذا الزمن هم أكثر الناس آلاماً، ولعل أرضهم وديارهم وأموالهم هي التي يستنسر فيها البغاة، وتستنوق الجمال، وتستنمر الثعالب، فهو عصرٌ لم تسلم فيه براجمهم من الأوخاز، فنهشتهم شعوب الكفر وطحنهم تنازع البقاء، والمحافل الدولية الكافرة ماذا عساها أن تفعل إذا كانت على غير الإسلام، وإن زعموا العدل فيها؟ فمنطق الحال أن العدل عند بعضهم لا يوجد إلا حيث يوجد الجور، ولا يوجد السلم إلا حيث توجد الحرب، إنها في الحقيقة تصف المالك الطريد إرهابياً لا حق له، وتجعل اللص الغالب على المقدسات رب بيت محترماً، يملك الأرض لا بالإحياء الشرعي، ولكن بالإماتة الجماعية والقهر النفسي، بل لربما راق لبعض المسلمين أن يلعقوا جراحهم ويبتسموا للناهب، وأن يعتبروا حقهم باطلاً، وباطل غيرهم حقاً. بل إن لسان حالهم يقول لهم: حقنا عليكم أن تقولوا: إذا مرضنا أتيناكم نعودكم وتخطئون فنأتيكم ونعتذر كمثل الحسك المثلث كله شوك حيثما قلبته، ثم يسدلون عليهم بعد ذلك أستار الغمط وبطر الحق، ومن ثَمَّ تخلق آثار عبرية على أشلاء معالم عربية مسلمة، ويجعل الحاضر الكاذب امتداداً لهيكل ماض مختلق، إنما هو إعصار من الوهم، وتيارٌ من هواجس الخيال، يحملقون بسببه إلى مواقع رغبتهم الخربة، سائرين لا يطرف لهم طرف، ولا يغمض لهم جفن، حتى يعلنوا السيادة، وتنقسم علائق الآمال لدى المشرئبين لعود حقوقهم السليبة، بعد أن مسهم الضر من إفراط ذي المطامع، حتى ردوهم عن بلوغ الأرب، وهموا بما لم ينالوا، ثم وقرت أسماعهم عن حيس همسات الغيلة. ألا إن من اللافت الملاحظ أن هناك خليطاً ممتزجا من الساسة والمتفيهقين وسماسرة الاستعمار الثقافي؛ هم في الحقيقة جهلة خراطون، يهرفون بما لا يعرفون: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق:23] تسربلوا بسرابيل الإفرنج، هم من أحرص الناس على التشدق بهذا البدع الجديد، الذي يعلنون من خلاله الحرب على الدين الإسلامي نفسه تحت شعار محاربة الإرهاب، تلكم الكلمة التي شغلت مناطق اللهازم، فلاكتها الألسن، ورمت بها الأفواه في المحافل والمجامع كل مرمى، حتى صارت تكئة للمتكلمين، يلجأ إليها العيي في تهتهته، والمتربص في زغزغته، ممن يتلونون كالحرباء، ويتشكلون كالأغوال، ممن لم يكمن رضاهم بالإسلام، وإن كانوا لم يقنعوا بالكفر، حتى عدوها عنواناً على النقص، فإذا ما رأوا ملتزماً بالدين عبسوا في وجهه وبسروا. والحق المقرر -عباد الله- الذي لا ينكره إلا غر مكابر، أن تحجب المرأة المسلمة ليس إرهاباً، وليس التحاء الرجل إرهاباً، وليس اعتبار العربية هي اللغة الأولى للأمة إرهاباً، وليس رفض تحكيم غير شرع الله إرهاباً، إنه هذا كله دين والتشبث به فريضة، والدفاع عنه لون من ألوان الحقوق لكل مسلم، ومن ثَمَّ فإن عقلاء المسلمين يأبون مسالك الرويبضة الذين يتصايحون ضد هذا الاتجاه. ثم هم يرون أن عمل هؤلاء نوع من الفراغ الديني، وهو أخطر وأهوى، والفراغ الديني الذي هو انسلاخ من شعائر الإسلام كفر بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفارغين من الإيمان بالله ورسوله تربوا على موائد الاستعمار ورضعوا من ثديه، فهم يرتقبون أي تصرف غير موجه الوجه الشرعي حسب الاجتهاد ليجتاحوا حقيقة الإسلام كلها. والمسلمون بعامة عليهم ألا يكترثوا بأمر ليس له من دين الله سناد، وليس من الحق في ورد ولا صدر، ولا هو من بابته، وأنهم سيلاقون في جرأتهم على الانتساب إلى الدين عنتاً وشدة، فلا ينبغي أن يعنيهم قسوة النقد ولا جراحة الألسن، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:41-42] . إن هذا البلاء ليس بدعة في العصر الحديث الذي بلغ الغاية في تشويه الحقائق، بل إن منطق الحاقدين واحدٌ، وإن تطاولت القرون وامتدت سحائبها، فلقد قال الله جل وعلا: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] ، ولكن صدق الله حيث قال: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، وفك أسر المأسورين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء؛ أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم لتحيي به البلاد وتسقي به العباد، ولتجعله بلاغاً للحاضر والباد، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 إقامة العدل إن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأمة أمة عدل، وإن الدين الإسلامي بني على العدل والإنصاف بل إن الإنسان مطالب بالعدل في كل شيء حتى في القسمة بين أبنائه وأهله، بل العدل مطلوب حتى مع أعداء الإسلام، حال الحرب، وحال السلم والمصالحة، والاستئمان وغير ذلك، وبالمقابل شعوب العالم الملحدة والكافرة التي تدعي وترفع شعار العدل والمساواة والإنصاف لم تحقق شيئاً من ذلك سواء مع شعوبها أو مع شعوب العالم الإسلامي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 العدل وأهميته في الإسلام الحمد لله الكبير المتعال، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله سبحانه، ومحاسبة أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فاليوم عملٌ يتلوه موتٌ ليس بعده عمل: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] . أيها الناس! في عام الفتح سنة ثمان من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، تعلوه السكينة، عزيز منتصراً، وهو يردد قول الباري جل شأنه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] دخل صلوات الله وسلامه عليه المسجد الحرام، ثم أخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة، ثم جلس في المسجد، فقام إليه ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومفتاح الكعبة في يده فقال: {يا رسول الله! اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال له صلى الله عليه وسلم: هاك مفتاحك يا عثمان! فإن اليوم يوم وفاء النذر} فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو قول الباري جل شأنه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] } . لا إله إلا الله والله أكبر، انتصار ورفعة واقتدار على كفرٍ وبغي ومعاندين، كل ذلك لم يكن ليجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينسى أنه إنما بعث بالعدل والقسط، حتى في حال المكر والغلبة، إنه العدل الذي ميز الله به أهل الإسلام، حيث جعلهم عدولاً خياراً بين سائر الأمم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] أي: عدولاً خياراً. ولقد أمر الله بالعدل ومدح أهله، ونهى عن الظلم وذم أهله ومواقعيه، فيما يزيد على ثلاث مائة وخمسين آية من كتاب الله. العدل أيها المسلمون هو ميزان الأرض، والظلم والجور ليس لهما إلا معول هدمٍ وخرابٍ لكل دابة تدب عليها، وأعلم المظاهر العملية للظلم هي العدوان والقهر، وأشنع الصور العدوانية أغلبها ما كان فيه سفك الدماء، والإفساد في الأرض، والعلو فيها، وجعل أهلها شيعاً؛ ضعيفهم نهباً لقويهم على صورة صراع أهل الغاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 حقيقة العدل في الحضارة المعاصرة والعدل في الحضارة المعاصرة ذات البريق اللامع كغيره من القيم الأخلاقية تحدده النسبية مع القابلية لأن يوزن بمزانين أو يكال بمكيالين، عند من لم يؤمنوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، أما في الإسلام فالعدل قيمة مطلقة لا مجال للنسبية فيها، له ميزان واحد يعد هو الأدنى في معاملة المسلم مع غيره، حبيباً كان أو بغيضاً، صديقاً أو عدواً، مسالماً أو محارباً، كل ذلك إعمالاً لقوله سبحانه: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] وإعمالاً لقوله جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135] فلا معيار إذاً إلا للعدل، فهو كما يقول ابن كثير رحمه الله: العدل مطلوبٌ من كل أحد لكل أحد في كل حال، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2] فنهى الله المسلمين أن يعاملوا حتى قتل هؤلاء بغير العدل، ومن هنا بدا ظاهراً جلياً أثر هذه التربية الإسلامية على علوم الأمة المسلمة عبر التاريخ في سلمهم وحربهم، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: المؤمن إن قدر عدل وأحسن، وإن ظلم وقهر وغلب صبر واحتسب. كما قال كعب بن زهير أمام النبي صلى الله عليه وسلم منشداً: ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا وسئل بعض العرب عن شيء من خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رأيته يغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر، وما سمي من سمي من كفار قريش بالطلقاء إلا حينما قال لهم في أوج غلبته، وذكريات طردهم له، وإيذائهم لعفته، تجول في خاطره ومع ذلك لم يتفوه إلا قائلاً: {اذهبوا فأنتم الطلقاء} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 القضية الفلسطينية والعدل أيها المسلمون! إنه من أجل إيضاح قضية العدل، وتجلية الممارسة الحقيقية لها في هذا الزمن، فلا بد أن نورد مقارنة بين سلوكين هما محط حديث الساعة، إنها المقارنة بين السلوك الحربي لجيوش المسلمين وغزاتهم، وبين سلوك جيوش غير المسلمين، ومنهم بعض جيوش الحضارة المعاصرة، وذلك من خلال منطقة واحدة، تعرضت في خلال ألفي سنة تقريباً لمرات ست من الغزو الخارجي، تلكم المنطقة هي أرض مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها فلسطين وبيت المقدس، فلقد تعرضت لهجوم الفرس الذين أثمروا إحراق المدينة، ونهبها، وقتل السلطان فيها، وإهانة المقدسات، وبعد أقل من عشر سنين، هاجم البيزنطيون هذه المنطقة، وانتصروا على الفرس المحتلين، فانتقموا منهم ومن اليهود الذين كانوا ساعدهم الأيمن شر انتقام، ولم يكن سلوك البيزنطيين آنذاك أقلَّ وحشية من سابقيهم. ثم بعد ما يقارب العشر سنين انتصر المسلمون ودخلوا المدينة فاتحين، فلم يسفكوا فيها دماً، ولم ينهبوا مالاً، ولم يقتلوا شيخاً ولا طفلاً ولا امرأة، ثم صدرت إبان ذلك الوثيقة العمرية المشهورة في زمن الفاروق رضي الله عنه، بحيث إن من يقرأها ويرى ما فيها من الإنصاف والعدل والسماحة فقد لا يظن أنها بين جيش منتصر وآخر مهزوم شر هزيمة. وبعد عدة قرون من الزمن، اجتاحت حملة صليبية أرض المقدس، فانتصرت على أهلها، وكان معظم أهلها من المسلمين، ولكن ماذا كان السلوك الحربي لأولئك الغزاة؟ إنها كلمات قالها قائد تلك الحملة الصليبية، واصفاً بأن خيولهم كانت تخوض في دماء المسلمين، ويصفها مؤرخٌ أوربي آخر بقوله: لقد انحدرت جموع الصليبين في طرقات بيت المقدس تحصد الأرواح حصداً رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، حتى بلغوا عشرة آلاف قتيل. وبعد أقل من قرنٍ من الزمن ينتصر جيش صلاح الدين على الصليبيين في موقعة حطين الحاسمة، وتفتح أمامه أبواب بيت المقدس ويدخلها المسلمون منتصرين غانمين، يظهرون من دروب السماحة والعدل والرحمة في حال الحرب ما أجبر مؤرخي الغرب على الاعتراف بذلك والإشادة به. ثم تأتي الطامة الأخرى والوحشية العمياء، في العقد الثاني من القرن الماضي، ليدخل جيش الانتداب الأوروبي أرض فلسطين مع الغزاة اليهود، فيصنع فيها مجازر وحشية وألوان عدوانٍ، كان من أبشعها جرماً وأعظمها فتكاً مذبحة دير ياسين المشهورة، والتي وصفها أحد جزاريها القادة بقوله: كان لهذه العملية نتائج كبيرة، فقد أصيب الفلسطينيون بعد انتشار أخبار دير ياسين بالهلع، فأخذوا يفرون مذعورين، فلم يبق على أرض فلسطين إلا ما يقارب مائة وستين ألفاً، بعد أن كانوا يزيدون عن ثمانمائة ألف، ثم يقول هذا الجزار: لولا مذبحة دير ياسين ما كان يمكن لإسرائيل أن تظهر إلى الوجود. ولم يكن هذا السلوك عباد الله منافياً لتصور الحضارة المعاصرة للعدل، ولأجل هذا منحته جائزة نوبل للسلام. إذاً: هذه المقارنة عباد الله بين سلوك الجيوش المسلمة والجيوش الكافرة تدل على ما شهد به أحد كبار مؤرخي الحضارة المعاصرة: بأن التاريخ لم يشهد فاتحاً أرحم من المسلمين، ألا إن المسلمين دائماً هم الضحية ضد أي عدوانٍ غاشم، ولم يعرف يوماً ما أنهم كانوا هم المعتدون على أحد، بل حتى في هذا القرن المعاصر فهذه هي فلسطين والجزائر وليبيا وتونس ومصر والسودان وغيرها لم يكن أهلها قط هم المعتدين، بل كان المستعمر من أرباب الحضارة المعاصرة هو الغازي المعتدي. ومن باب الأسف الشديد أن يصبح أرباب الحضارة المعاصرة في اعتماد إعلانهم على غفلة المجتمعات المسلمة وضعف ذاكرتها في استيعاب الأحداث الماضية، والسجلات المشينة، في النظرة الواقعية لمفهوم العدل عند الحضارة المعاصرة، ومن خلال سلسلة من الغزو والاعتداءات والبطش، ولو كانت أحداثاً لم تجف دماؤها بعد، وإلا فلماذا توصف المقاومات المسلحة في بعض الدول الإسلامية بادي الرأي من قبل رواد الحضارة المعاصرة على أنها حركات مقاومة ضد المعتدي، أو جيوبٌ انفصالية في وجه الظالم. ثم بين غمضة عينٍ وانتباهتها تنقلب نظرة الحضارة المعاصرة، فتسميها هي الإرهابية المبرِّزَة، يجب أن تستأصل شأفتها وتوأد في مجدها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 موقف الحضارة المعاصرة تجاه الشعوب المسلمة الحضارة المعاصرة عباد الله! رسمت لنفسها صورة صناعية تقنية، فاقدة للتقوى، أو لمفهوم التراحم والعدل الإنساني على أقل تقديرهم، فتحولت إلى حضارة استكبارية بطشية، تركت الجدال بالحكمة، وجادلت الناس على متن المقاتلات ورءوس المدرعات، حتى جعلوا من ذواتهم أشباحاً مرهوبة، وجعلوا حقوق من سواهم من الناس ندامات ممضوغة يلفظونها بعد العلك بل لمخالب القوى الباطشة، وهي لا تريد من هذه المستعمرات الشافعة إلا أن تجعلها حقول استغلال، ومن ثم اتخاذ أهلها خدماً يعملون ويكدحون ليشقوا هم ويسعد الغازي المعتدي. ولأجل هذا نجحت ثورة البركان العسكري في الحضارة المعاصرة في أن تجعل معظم العالم الإسلامي اليوم يألف ألواناً من الاعتداءات السياسية والاقتصادية، حتى لقد أصبح الأمان لديهم شبه سرابٍ بقيعة لا يبلغه أحد، ومما لا شك فيه أنه كلما قلت صحوة المسلمين كلما ازداد الوله إلى هذا السراب، والتشبث به، ولقد صدق الله: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20] . ولأجل هذا احمرت جوانب تاريخ هذه الحضارة بدماء الضحايا المسفوكة، فقاتلت الشعوب المتطلعة إلى حريتها وحرمتها من أسباب العلم والقوة والنهوض، ولا يغرنكم عباد الله ما تبثه الحضارة المعاصرة بين الحين والآخر من شعارات الإخاء، والعدل، والحرية في التدين، نعم لقد فصلوا هذا الشعار للعالم إلا للمسلمين، وإن كان ولا بد فلا أكثر من أن يكون مقطوع الصلة بكرامة الإنسان التي أرادها الله له من خلافة الأرض وعبادة الله فيها، وإقامة العدل بين أرجائها، وزيادة على ذلك، فعلى الإسلام أن يكون محايداً بإزائهم مسايساً لهم. أما أن يؤيد الدين حقوق الإنسان، ويأمروا الناس أن يدخلوا في السلم كافة فلا؛ لأن الإسلام عندهم هو وحده الذي يجب إبعاده عن الحياة العامة، أما ما عداه من الديانات والنحل فليكن بصرها دولٌ، ولترسم على خطاها سياسات. ولأجل هذا لاطفوا عبدة الأوثان بروح أطيب ونفسٍ أهدأ، فأي حضارة هذه بربكم؟! وبهذه الصورة لم يبعدوا النزعة أولئك المتخصصون في العلاقات الدولية حينما قالوا: إن مثل هذه التصرفات يؤسس على مبدأ النصيحة الوطنية والقوة، فهو كمبدأ العلاقة مع الآخر لدى قطاع الطريق أو لدى أي تجمع مفترسٍ في الغابة، وما الضمانات التي تمثلها مواثيق العدل العالمية المزعومة للمحافظة على أمن الشعوب إلا فيما لم يكن للمسلمين أو العرب فيه طرفاً في صراعٍ ما، أما إذا كان الحيف واقعاً على شعبٍ مسلم، أو قطرٍ عربي فقد أصبغوا للقضية لوناً آخر، فهل يفزع بالمنكوب حينئذٍ إذا أساء بالحضارة ظنه؟! إن مثل هذه الممارسات، هي التي جعلت عدداً ليس بالقليل من عقلاء الحضارة المعاصرة لا يزالون يطلقون صيحات النذارة لأقوامهم، ويحذرونهم سوء المصير، فهل يعي المسلمون ذلك؟! ألا إن من سنن الله تعالى، أن وضع هذه الحضارة تحصد ما تزرع، وتعرف طعم الجذاذ عند الحصاد. فما طار طيرٌ وارتفع إلا كما طار وقع {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد:31] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 أسباب انحراف الحضارة المعاصرة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فإن المشاهد لواقع الحضارة المعاصرة اليوم، ليرى أن لانحرافها في تصورها للعدل نتيجة بديهية لا مناص منها، ألا وهي تشبع روحها بالأنانية والعدوانية وإرادة العلو في الأرض، وإهلاك الحرث والنسل {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ولا أدل على هذه النزعة الشاذة مما يعد ثمرة هذا الواقع، وذلك من خلال إنتاج هذه الحضارة من أسلحة الدمار الشامل، ما بلغ كمية وكيفية مبلغاً يجاوز سلع الاحتياجات البشرية للطعام والشراب بأضعاف مضاعفة، ولقد عُلِمَ أن دولة من دول هذه الحضارة قد بلغ إنتاجها من أسلحة الدمار الشامل ما يكفي لإفناء العالم ثلاثة وثلاثين مرة، وقبل عقودٍ من الزمن شيعت دولة كبرى موكباً من التوابيت الخرسانية لتلقى في قاع المحيط، حيث تضم وسطها شحناتٍ مروعةً من الغازات السامة بعد أن رأت هذه الدولة أن لديها فائضاً من هذا السلاح يكفي لإفناء العالم ست مرات. وإن تعجبوا عباد الله! فعجبٌ تلك النزعة الشريرة في هذه الحضارة، إذ كان يكفيها شراً أن تنتج ما هو كفيلٌ بإفناء العالم مرة واحدة، وهنا مكمن الجبروت والعدوانية في الحضارة المعاصرة، فما ذنب العالم إذاً أن يدمر أكثر من ثلاثين مرة، ألا يكفي للحربين العالميتين مثالاً لهذا التصور المنحرف خلال ربع قرن أثمرتا من خلاله ما يعد بالملايين من القتلى. عباد الله! إن كلامنا هنا ليس المقصود به الهجاء والتشفي في كشف عورة الحضارة المعاصرة، إذ الأمر أبعد من ذلك وأهم، وهو أن صيحات تعالت، ورجع صدىً يسمع في الأقطار الإسلامية أثمر التأثر بهذه الحضارة المعاصرة وزخرفها، فرأينا وسمعنا من بين ظهرانينا تبرير الظلم والعدوان من قبل تلكم الحضارة، وكذا تبرير ازدواجية معايير العدل عندها، في حين أنه كان المرجو في مقابل ذلك أن ينكشف للمسلمين هذا الزيف في تقييم العدل، وأن تتضح لديهم المعاني الرئيسة لمفهوم العدل عند تلك الحضارة، وأنه ليس هو العدل الذي بمعنى الإنصاف، ولكنه العدل الذي هو الميل والانحراف. وهذا ما يضع على كل عاتق نصيبها من المسئولية أمام الله، من شعوبٍ وحكومات، وذلك بتدارك الأمر من خلال الرجوع إلى الله، ثم بالطرح الإسلامي الصحيح للتربية الواعية عبر المجالات التربوية، ومناهج التعليم، وتوعية الأجيال بحسنات الإعلان لا بسيئاته، ليقف المسلمون موقف العاقل أمام طوفان الحضارة المعاصرة الجارف، وأن يعلموا أن الحق لا يزري به أن تمر عليه سنين عجاف، ولا يضيع جوهره؛ لأنها عجاف، ولا يضيع جوهرة؛ لأن عللاً عارضة اجتاحت أهله، وليعلموا أن الباطل لا يسمى حقاً؛ لأن دورةً من أدوار الزمن منحتهم قوة، وأقامت له دولة في الأرض، إذ لم تتحول جرائم فرعون إلى فضائل؛ لأنه ملك سلطة الأمر والنهي، واستطاع قتل الأبناء واستحيا النساء، فلا ميزان للجميع إلا بمدى قربهم من الله أو بعدهم عنه. كما يجب علينا جميعاً أن نتجرع الواقع المرير ولو لم نستسغه حتى نواجه الغارة الشعواء، ونستبين أغراضها الكامنة، في جعلنا قصة تروى، وخبر كان، قبل أن يجتمع علينا السالوك الخامس؛ وهو الهدم الروحي، والهدم التاريخي، والهدم العسكري، والذي غايته أن يتلاقى على أنقاضنا، فيا ترى هل يضيع الحق في حومة هذه الدائرة العمياء؟! كلا. فلقد مر آباؤنا الأولين بمثل هذه المحن، ثم خرجوا منها موفورين، بعد أن أصلحوا أنفسهم وأصلحوا ما بينهم وبين الله بالنصح الجاد، والتصحيح الواعي: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] {وليأتين زمن تملأ فيه الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً} وذلك بلسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196-197] . اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الرحمين! اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الرحمين! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح بطانته يا ذا الجلال والإكرام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 أنصفوا المرأة إن الله سبحانه وتعالى أنزل في المرأة آيات عظام في كتابه الكريم، فشرفها بعد أن كانت ذليلة، وأعزها بعد أن كانت مهانة، وأعطاها إرثها وحقها بعد أن كانت محرومة ومهدورة، لكن في عصرنا الحاضر أبى كثير من المنافقين إلا أن يتألى على الله ويقترح لها حقوقاً غير ما شرع الله سبحانه، ويرى أن كل ما ذكر في الشرع جور وظلم، وأن العدل هو الزبالة الموهومة في أذهان وعقول البشر المنافقين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 1 قضية المرأة بين الهدم وإعادة البناء الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أشكر الله جل وعلا على أن هيأ هذا اللقاء الطيب، وأن جمعنا بأحبة لنا في الدين في بيت من بيوت الله، نتدارس كتاب الله، ونسأل الباري جل وعلا أن يحف هذا المجلس بالسكينة، وأن يغشاه بالرحمة، وأن ينزل عليه ملائكته، وأن يذكرنا في من عنده. ثم أشكر لأخي فضيلة الشيخ الدكتور سعد علي ما ذكر؛ ولكن أقول: سامحه الله جل وعلا، وإن كان إحسان الظن بالمسلم أمر طيب، ومأمور به كل مسلم تجاه أخيه؛ ولكن أن يكون أمامه فإنه يعين بذلك الشيطان عليه، ويقطع عنقه، ونحن -ولله الحمد- أحوج ما نكون إلى ما في القلوب أكثر مما في الألسن؛ ولا شك أن اللسان دليل على القلب، إلا أن حضور المقصود قد يقطع هذا الأمر؛ ولكن أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني خيراً مما تظنون, وأن يغفر لي ما لا تعلمون، ولسان حالي وحال كل مسلم يقول: إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعفُ عني ثم قبل البدء بالمحاضرة تعلمون من خلال ما سبق في محاضرة أبها أنني ممن فوجئ بهاتين المحاضرتين، وأما هذه المحاضرة فما علمتُ بها إلا قبل الجمعة بنصف ساعة، وأُقحِمتُ فيها إقحاماً، ومثل هذا الأمر يجعل الإعداد لمثل هذه المحاضرة ضيقاً، وربما فيه من القصور ما فيه، وما أقول إلا أن لسان حالي معكم كنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يتلقى الركبان، أو أن يتلقى الجلب، فقدمت هنا طالباً فإذا بي مطلوباً، وقدمتُ معتزلاً فإذا بي وسط الناس؛ ولكن منكم العذر، فإن أصبتُ فمن الله، وإن أخطأتُ فمن نفسي ومن مكتب الدعوة والشيطان، ولا بأس في ذلك - وإن كانت ليست هناك مقارنة- لأنه واردٌ: من نفسي والشيطان؛ فلو أدخلنا مكتب الدعوة فلا بأس؛ لأنه هو السبب في مثل هذه العُجالة. أولاً: أما عنوان المحاضرة -أيها الإخوة- فهو من العناوين الحَمَّالة الأوجه، أو هو كالوعاء يفسره كل صاحب هوىً على ما يريد، والحقيقة أن العنوان يقال: فيه وجهان، وكل وجه له قائلوه، مع اختلاف المراد من كل معنى. فأما ما نريده نحن من هذا العنوان، فهو بهذا التفصيل: (أنصفوا المرأة) من باب قولنا من الرباعي: أنْصَفَ يُنْصِفُ إِنْصافاًَ، والمعنى، أي: عدل في الغير، وصدق في إعطائه حقه. وأما على ما يُشاهَد من أطروحات مهلهلة، وشعارات متهاوية، وإن كان ظاهرها برَّاقاً، فإن من خلال ذلك يُراد النيل من واقع المرأة ونهش حريتها التي أراد الله جل وعلا أن تكون عليها. فعنوان المحاضرة على منهجهم يكون: (أُنصفوا المرأة) أي: من باب نَصَفَ يَنْصُفُ نَصْفاً من الثلاثية، أي: اقطعوا المرأة نصفين، وإذا قطعَ الشيء نصفين قيل له: نَصَفَ. والحقيقة أن هذا واقع كثير من كتابات العلمانيين، ومدعي تحرير المرأة، إذ لا يُعرف -أيها الإخوة- من أطروحاتهم إلا مثل هذا المعنى، عافانا الله وإياكم من ذلك. ثانياً: في هذه الفترة وفترة مضت عشنا لحظات عصيبة جداً كل مسلم غيور يضع فيها يده على صدره، وكأنه يقول: حصن المرأة المسلمة هاهو يتهدم أمام ناظِريه. وما ذاك إلا لكثرة ما يُرى من الطرح المشئوم، والإلحاد السافر، والعناد الأرعن من خلال قنوات متعددة تحمل من خلال أنامل كُتَّاب أغراض، ومعاول هدم لهذا الحصن الحصين، ولعل كثرتها وتوالي طرحها هو السبب الرئيس لإصابة بعض الغيورين لما يُسمى باليأس، أو ما يُسمى بهوس الهزيمة. ولكن الذي ينبغي أن يعلمه المؤمن والمؤمنة: أن الله جل وعلا غالب على أمره، وأنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو أن تزني أمته، وأن انتشار مثل هذه المعاول الهدامة ليست في حقيقتها إلا سبب من الله وحكمة في أن يستيقظ أهل الإيمان من سباتهم، ويتفقدوا الخلل في سلوكهم، ويستكشفوا طرق المقاومة لمثل هذه الأفكار الهدامة، ومن ثَمَّ نسيان هذه المصائب جملة وتفصيلاً، واستئناف حياة أخرى يغلب عليها الفأل والرجاء، وهي أحفل بالعمل والإقدام، وفي ضوء ذلك ندرك قول القائل: فإن تكن الأيام فينا تبدلتْ ببؤسى ونُعمى والحوادث تفعلُ فما ليَّنت منا قناة صليبة ولا ذللتنا إلا للتي ليست تجمُلُ ولكن رحلناها نفوساً كريمة تحمَّل ما لا يُستطاع فتحملُ وقَينا بحسن الصبر منا نفوسَنا صحَّت لنا الأعراضُ والناس بدل إن تهيب المرء المسلم بأن يقع في ضلالٍ ما يُبعده ذلك التهيب عن بعض المواقف، وينجيه من غوائله؛ بيد أن المرء الذي يخشى على حياته أن يتناول جرعة كبيرة من السم لوضوح خطرها، فإنه بذلك يستهين بتناول أجزاء دقيقة منها تكون مطوية في أطعمة مكشوفة، أو أطباق قذرة، أو أيدي ملوثة، أو ما شابه ذلك، ومن ثم يصيب بدنه من العلل ما قد يودي به، مثلما تودي به رصاصة قاتلة أو طعنة غادرة. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الخبر بقوله: {إن الشيطان قد أيس أن يُعبد في جزيرة العرب؛ ولكن بالتحريش بينهم} وحري بنا ونحن نتكلم عن بعض آراء ذوي الأهواء أن ننبه إلى الملابسات التي تجعل كثيراً منهم يوافق -مثلاً- أو يرفض، بل يؤمن ويكفر متى ما يرى الهيعة قد سارت في الاتجاه الغالب، والعامة من هؤلاء -وللأسف الشديد- مع صاحب الدنيا إذا غلب ولو كان ذميماً، وأما الذين يعتنقون الحق المجرد ولو أثخنته الهزائم، ويغالون بنفاسته ولو مُرِّغ في التراب، فهؤلاء هم غرباء العالم. والناس مَن يلق خيراً قائلون له ما يشتهي ولأم المخطئ الهبلُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 معنى الإنصاف وسبب الحديث عنه لماذا عنوان هذه المحاضرة: (أنصفوا المرأة) ؟! وهل المرأة مغبونة حتى تُنصف؟! فأقول: أولاً: إن الإنصاف في الحقيقة هو إعطاء كل ذي حق حقه، بصرف النظر عن ماهية المنصف أو المنصف له. ولا يُفهم منه ألبتة أن الإنصاف يكون بمعنى: المقاسمة هنا! أي: أن نقسم الشيء نصفين، كلا، هذا ليس إنصافاً، وإنما يُقال: صُلح قرر فيه الطرفان أن يتنازل كل واحد منهما عن النصف الآخر، والإنصاف في الطرح خلاف ذلك، بل هو بعبارة أخرى ما يسمى: بالعدل؛ بكل ما يحمل منها من معانٍ، حتى في حال العداوة, أو في حال القربى، كما قال الباري جل وعلا: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] . أو كما قال جل وعلا في حق القربى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135] . ثانياً: ينبغي علينا جميعاً أن نعي واقع الحديث عن المرأة، وأنها صارت محلاً لعبث العابثين، ودعاوى المدعين. وأمر المرأة بعيد كل البُعد عن حقيقة كل زاعم منهم. وكل يدَّعي وصلاًَ لليلى وليلى لا تُقر لهم بِذاكا مع أن معظم الطرح لقضية المرأة إنما هو في الحقيقة على طرفي ضد، إبَّان غيبة من علماء المسلمين وفقهائهم ودُعاتهم وأصحاب الرأي منهم، الذي يحمل مصداقية في طياته. فمن هنا كان الطرح غير منصف، بل أبلغ ما يُقال فيه: سارت مُشَرِّقَةً وسرتُ مُغَرِّبا شتان بين مُشَرِّقٍ ومُغَرِّبِ فالجل منهم تهيجهم بتلك الأطروحات بواعث مكشوفة، ويطلبون به غايات شتى، وإن شئتم فاسمعوا قول الشاعر: لما رأيت نساءنا يفحصن بالمعزاء شدا وبدت لميس كأنها بدر السماء إذا تبدا وبدت محاسنها التي تخفي وكان الأمر جِداً نازلت كبشهم ولم أرَ من نزال الكبش بُدا لمن هذا الإقدام؟ إنه لوجه لميس الحسناء. فمن هنا -أيها الإخوة والأخوات- كانت الدعوة إلى الإنفاق في فترة الغياب الفكري المسلم الصحيح الذي ينتشل قضية المرأة من الظلم والجور، حتى من أهلها ومن بني جلدتها والذين يتكلمون بلغتها. وكان مالك بن أنس رحمه الله يشكو في زمانه قلة الإنصاف، ولم تزل قلة الإنصاف قائمة بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم. وما هذا التغيب الكامل عبر وسائل متعددة للطرح الإسلامي الفريد نحو قضية المرأة إلا سبب للغفلة أو التغافل أو التجاهل بعبارة أصح عن تلك الصيحات الصادقة، التي كان يطلقها علماء الإسلام ودعاتُهم في التحذير من أن تكون قضية المرأة عِلْكاً ملتصقاً في أحذية أهل الفساد والإفساد من غربيين حاقدين أو مستغربين. وتلك الصيحات التي ظهر للأمة صدق منطقها في هذا الوقت، ووقع ما كان يُسمع من تحذير حول أقنعة التغرير وقُفَّازاته على حد قول القائل: بذلتُ لهم نُصحي بمنعرج اللوا فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ وإن هذه الظروف العصيبة التي يشهدها العالم الإسلامي بأسره، من انفتاح فكري وثقافي مركباً تركيباً مزجياً لا بد من مواجهتها في أسرع وقت ممكن قبل فوات الأوان؛ وإلا فأنىَّ للناس إذا فاتهم ذلك ذكراها؟! وحينئذٍ يصدق علينا قول القائل: ذب الحمار بأم عمروٍ فلا رجَعَتْ ولا رجع الحمارُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 سبب الحديث عن المرأة قد يتساءل البعض: لماذا الحديث عن المرأة؟ أيوجد ثَمَّ مشكلة تستدعي الحديث عن مخلوق ليس جديداً على البشر؟! أم أن الحديث عنها يُحدث نوع تسلية وإماتة للوقت بالتفكه بذاتها؟! أم أن الأمر ليس هذا ولا ذاك؟! ف الجواب هو أن الأمر ليس هذا ولا ذاك، بل إن الأمر أبعدُ من هذا وأجل، إننا حينما نتحدث عن المرأة فإننا نتحدث عنها على أنها شقيقة الرجل ولها شأن في المجتمع، حيث إنها نصف البشرية، ثم هي تلج النصف الآخر، فكأنها بذلك كالأمة الكاملة. يضاف إلى ذلك أننا في المجتمع الحديث نجد أن الحديث عن المرأة صحافةً وإعلاماً، بل وعلى مستوى المنتديات والجمعيات الظاهر منها والباطن، نجد أن الحديث عنها يحتمل حيزاًَ كبيراً من تفكير الباحثين، فكان لزاماً على كل داعية أو موجه أو عالم قبل ذلك أن يكون مشغولاً بمثل هذه القضية الكبرى، يفرح لاستقامتها، ويأسى لعوجها وعدم استقرارها، ويتفرس أيضاً -وهذا أمر واجب- في الأطروحات المتعلقة بها؛ ليميز بذلك الخبيث من الطيب. فلا هو يسمع للمتشائمين، ولا يشافع المتهورين، بل يكون وقافاً عند تعاليم الدين الحنيف، كما يُعرف من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا كما يصوره أطروحات النساء الحمقاوات، أو أهواء الرجال المسعورين. كما أن من الأسباب في هذا الطرح، بل إنه السبب الأهم: ألا وهو ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه قال: {ما تركتُ بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء} ، وفي رواية عند مسلم: {فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء} . إضافة إلى ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قبل وفاته بثلاثة أشهر -فيما رواه البيهقي وغيره- من الوصية بالنساء خيراً وأنهن عَوان عند الرجال، أي: أسيرات. أضيفوا إلى ذلك -أيها الإخوة والأخوات- أن الحديث عن المرأة هو محاولة لإيقاظ ذوي الغَرَر، من أجل أن ينتبهوا للمؤامرة ضد المرأة، وأنها في الحقيقة جُزء من مشروع استعماري خطير كبير شامل، وما هذا المشروع إلا ليغير وجه الحياة، ويقتلع المجتمع الإسلامي من جذوره، ناهيكم عن غفلة المرأة المسلمة، ووَسْنَتِها الملغومة، والتي غيَّبَتْها عن أن تعي واقعها المرير، والذي يصوره أحد الكتاب فيقول: يُحكى أن رجلاً وقف على طرف غصن من شجرة، يقطعه من ناحية الجذع، دون أن يتنبه إلى حتمية السقوط الذي سيصير إليه إذا انقطع الجذع، فإذا مر من ينبهه إلى هذا المصير الذي انتهى إليه فيما بعد، نهض يعدو خلفه ليقول له: لقد عرفت أمر سقوطي قبل حصوله، فلن أدعك حتى تنبئني بنهايتي متى تحين. أيها الإخوة: إن هذه الصورة الغريبة من هذا الرجل الساذج وهو يقف على غصن الشجرة، لَيُمَثِّل في الحقيقة واقع المرأة المسلمة اليوم في اندفاعها المحموم وراء المجهول، وهذا المجهول لم تجرب يوماً ما أن تسأل نفسها عن غايته ومحتواه، وهذا المجهول هو الذي أضاع شخصيتها وصرفها عن حقيقته، وجعلها كالكرة تتخبطها مضارب اللاعبين، فتتهادى في كل اتجاه ومكان، وهذا المجهول لا يُتاح التخلص من ضغطه وقهره إلا للمرأة التي تستطيع أن تعزل نفسها ضمن حصانة من الشرع الحكيم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 المرأة في الجاهلية الحديثة لقد وصلت المرأة المسلمة إلى مطلع هذا العصر مصونة الفطرة من الانحلال والانحراف، على الرغم من كل ظروفها السيئة، ولكنها ما إن طلت على مفاسد الغرب حتى اجتالتها شياطينه، فإذا هي تتخبط في مستنقعه، وتقع في حمئه المشين، لا تريد بذلك مستقراً، ولا تهتدي طريقاً للوصول إلى الرفعة والعزة. لقد راع المرأة من الغرب فريقه الطامي وظرافة منتجاته، فرضيت بالسير وراء الهابطات من نسائه، تتبع آثارهن في كل زيٍ ومسلك، حتى أصبحت لا ترضى عن ثوبها إلا بمقدار انطباقه على نماذجهن الواردة في أزياء الهابطات من نساء هوليود وأشباههن. حتى إنك -أيها المرء المسلم- إذا ما رأيت ثوبها طويلاً أو ثوب بعضهن يستر بعض العورة، فاعلم أنه صورة من ذلك النموذج الجديد -إلا من رحم الله- ولقد صدق من قال: على وجه مَيٍّ مسحة من ملاحة وتحت الثياب الخزي لو كان باديا أم ترَ أن الماء يخثر طعمُه وإن كان لون الماء أبيض صافيا؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح يقول: {أيقظوا صويحبات الحجر، فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة} . أيها الإخوة: لقد بات أمر المرأة في مهب الأعاصير، فليس من الحكمة أن يُترك زمامه للدعوات الساقطة، يقذف به حيث يشاء أولو الأهواء. أيها الأحبة: إن الحديث عن المرأة بوجه عام قد يفرض على المتحدث في هذا الإطار أن لا يصرف النظر عن وضع المرأة في القديم؛ ليتاح له الإلمام الواجب بمنزلتها لدى الأمم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 المرأة في الجاهلية القديمة لا جرم -أيها الإخوة- فإن الناظر في واقع المرأة قبل الإسلام لن يجد ما يسره، إذ يرى نفسه أمام تخبط عالمي هنا وهناك تجاه المرأة وقضيتها، ويعجب كل العجب من اختلاف الفئات والقبائل في نظرتها للمرأة، حيث تترواح شهوداً فتتولى المرأة زمام الملك، كـ الزباء وبلقيس التي قال الله عنها على لسان هدهد سليمان: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] . بل ولربما ادعت المرأة النبوة، كـ سجاح رضي الله عنها قبل الإسلام، فيضحك عليها بعض قومها، ثم يهجوها فيقول: أضحت نبيتنا أنثى نلاعبها وأضحى أنبياء الناس ذكرانا وقد مارست المرأة الفرعونية قبل الإسلام الحكم والكهنوت، ومن أشهر من عُرِفَت في ذلك: كارت، وكيلوا باترا، ونفرتيتي. هذا إذا كان وضع المرأة في الصعود، أو أن تتراوح هبوطاً فيكون الوأد مصيرها خشية الفاقة والعار، وإن سلمت من ذلك فإنها ستعيش زرية مهانة في الأسرة والمجتمع، طفلة وشابة يستعبدها الرجال في ذلة وامتهان، إن سئلت فلا تُجاب، وإن احتيج إليها فإنما هو للسقي والاحتطاب ولقط النوى، وإن تسامت المرأة في الجاهلية شيئاً ما فإنما هو لإبراز غلة الشهوة في ازدراء ونظرات شذرى. ويوم خروج هذه المرأة إلى الدنيا يومٌ تسود فيه وجوه الجاهلية، وبُشرى البشير بها سخطٌ وإغضابٌ، وأن بشراها هي أن تدفن حية في التراب: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58-59] . {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8-9] . أيها الإخوة والأخوات: تلك عقول فارقها في الحقيقة رشدها؛ لطول عهدها بنور السماء، وهدي الأنبياء، وهؤلاء رجال صنعتهم الوثنية، وربتهم الكهانة، فأصبحت فصاحة ألسنتهم وكرم أيديهم ومنطقهم في الشعر الذي صُوِّر إلى أن قيل: ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم ِ وصارت شجاعة أبدانهم كل ذلك أصح بروقاً تومض ولا تضيء، وترعد فلا تمطر. ولعل الطابع البارز في حكم العالم القديم على المرأة هو أنها موضع اللذة فحسب، لا وزن لها إلا بمقدار ما تطلبه نزوة الرجل ورغبتُه، وليست معركة ذي قار عن التاريخ ببعيد، وهي من أضخم المعارك في الجاهلية، وأكثرها بلاءً، وإنما نشبت بسبب امرأة جميلة أرادها كسرى، وأباها النعمان بن المنذر عليه، ولقد صدق من قال: سقراط أعطى الكأس وهي منية شفتي محب يشتهي التقبيلا الجاهلية في الحقيقة نالت من المرأة أقصى منال فحرمتها حق الحياة، حتى بيعت وسبيت ووئدت. كانت المرأة في ظل أكيد سلعة كانت في أسواق العبيد وأدوها كبلوها بحديد كانت الدنيا ظلاماً مطبقاً وثياب الظلم لفحاً محرقاً فأتى الهادي عليهم مشفقاً يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه: [[إذا سرك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ قول الله جل وعلا: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} [الأنعام:140]] ] إذاً: من خلال هذه الملامح -أيها الإخوة والأخوات- ندرك جميعاً ولا ريب كيف جمحت الجاهلية بالمجتمع العربي، فشذَّ عن سواء السبيل، وانطلق يخبط في مهامه الحياة ودروبها خبط العُشَراء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 المرأة في الإسلام في طوايا هذا الظلام وإبَّانه ينبعث فجر الإسلام، فتسمع في الدنيا لأول مرة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ، ويُسمع قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] ويُسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا إن كل شيء من أمور الجاهلية تحت قدمي موضوع} ويُسمع قوله صلى الله عليه وسلم: {استوصوا بالنساء خيراً} ويُسمع قوله صلوات الله وسلامه عليه: {لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم هو يضاجعها} . وبذلك -أيها الإخوة- يضع الإسلام الأسس الكبرى لكيان المرأة الجديد، الذي ما لبث أن آتى ثماره في ظل المدرسة النبوية، وهي مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا المرأة إمام يُستفتى بأعظم المسائل، كـ عائشة رضي الله عنها. أو فقيهة كـ أم الدرداء رضي الله تعالى عنها، حيث تقول: [[لقد طلبت العبادة في كل شيء، فما أحببت لنفسي شيئاً أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم]] . أو أن تكون عالمة، كابنة سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى لما أن دخل بها زوجها وكان من تلاميذ سعيد، فلما أن أصبح أخذ رداءه يريد أن يخرج، فقالت له زوجتُه: "إلى أين؟ فقال: إلى مجلس سعيد أتعلم العلم، فقالت له: اجلس أعلمك علم سعيد ". أو كابنة الإمام مالك رحمه الله تعالى إمام دار الهجرة، حيث كانوا يقرءون عليه في الموطأ، فإن لَحَن القارئ في حرف أو زاد أو نقص تدق ابنته الباب، فيقول أبوها للقارئ: ارجع، فالغلط معك، فيرجع فيجد الغلط معه. أو مثل كريمة بنت محمد بن حاتم المروزي كانت من راويات صحيح البخاري المعتبرة عند المحدثين. بل -أيها الإخوة والأخوات- لقد أحسن الإسلام في المرأة بنتاً بعد أن كانت تسبى وتوأد، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه: {إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعاً وهات، ووأد البنات} . وقد قال واثلة بن الأسقع: [[إن من يُمن المرأة تبشيرها بالأنثى قبل الذكر؛ وذلك أن الله قال: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49]] ] . بل قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: {من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو -وضم أصابعه- معاً} ، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه. قالوا له: ماذا رزقتا فأصاخ ثُمَّةَ قال: بنتا وأجل من ولد النساء أبو البنات فلم جزعتا نالوا بفضل البنت ما كبتوا به الأعداء كبتا وكما أحسن الإسلام إلى المرأة بنتاً، فقد أحسن إليها كذلك زوجة، وجعل الزواج لبني البشر نسباً وصهراً وسكناً ومودة ورحمة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] . وقد قال عنها صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك} . خير ما يتخذ الإنسان من دنياه كيما يستقيم دينه قلب شكور ولسان ذاكر وزوجة صالحة تعينه وختاماً: في هذه العُجالة: فإن الإسلام قد كرم المرأة المسلمة، أماً وقد كرمها بعد شبابها وزواجها وتعلمها، وقرن طاعتها بالأمر بعبادته سبحانه وتعالى والنهي عن الشرك به: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] . وخص الأم ببعض هذه الوصايا بالتذكير بزيادة حقها على حق الأب {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 الاختلاط وصوره المحرمة وبعدُ أيها الأحبة: فقد وضع الإسلام للمرأة سياجاً قوياً مانعاً من الضياع، إذا هي أخذت به نجت، وإن هي أضاعته ضلت وهلكت، وذلك -أيها الإخوة- هو سياج الحشمة والعفاف، الذي يكون من مقتضاه: الحجاب الشرعي، والقرار في البيوت، والبُعد عن مزاحمة الرجال، فتصبح المرأة بذلك كجوهرة في صدفة لا يعرفها إلا الخواص من الناس، والإسلام جرى في الاختلاط بين الرجل والمرأة خطراً محققاً، فهو يباعد بينهما إلا في الزواج بقول الباري جل وعلا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] . ولقوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] فقد روى البخاري رحمه الله تعالى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم -أي: من صلاته- مكث قليلاً، قال ابن شهاب رحمه الله تعالى فتُرى -والله أعلم- لكي ينفذ من ينصرف من النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم، أي: الرجال. ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت والطواعين المتصلة. انتهى كلامه رحمه الله. أضيفوا إلى ذلك -أيها الإخوة والأخوات- شيوع الطلاق، والعنوس، بسبب فُشُو التبرج والزينة والاختلاط؛ لأن المرء العاقل المسلم إنما يبحث عن المرأة العفيفة المحتشمة، فإذا ما اضمحل الحياء، وانتزع من صدور النساء، وانعدمت الغيرة لدى الرجال؛ فسدت الأخلاق، وتعثر بذلك غض البصر، ووقع المرء في شرك بلاء العشق والمحنة به والذي يتلف الدنيا والدين. إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل الكلاب تطوف باللحمانِ إن لم تصن تلك اللحومَ أسودُها أُكلت بلا عوض ولا أثمانِ {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] . إن من آثار الاختلاط بين الجنسين، وإطلاق البصر هنا وهناك، والذي يودي بدوره إلى هذا الشر العظيم، وإلى كل بلية ومعصية، فالبصر إذاً هو الشرارة الأولى، وهو كذلك سهم مسموم إلى فؤاد كل ناظر. كل الحوادث مبدأها من النظرِ ومعظم النار من مستصغر الشررِ كم نظرة فتكت بقلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وترِ وللاختلاط -أيها الإخوة- صور متنوعة، تتراوح هذه الصور لكل مجتمع بحسب ما فيه من الشر والتقصير، فمن ذلك -على سبيل المثال-: الاختلاط بين الجنسين، ولو كانوا إخوة بعد التمييز، كأن يجتمعوا في المضاجع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيما رواه أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع} . وهنا نكتة لطيفة: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اختلاط الأخ مع الأخت في المضجع، مع أن المحرم قد لا يفكر في جوانب الشهوة بمحارمه، كما يكون التفكير مع الأجنبية عنه، وهذا أمر مُشاهد معلوم، ومع ذلك جاء النهي عنه صلى الله عليه وسلم ليُستدل به على ما هو أعظم من ذلك، وهو الاختلاط بالأجنبية عنه. ومن صور الاختلاط أيضاً: اتخاذ الخدم الرجال، واختلاطهم بالنساء، وحصول الخلوة بهن، وكذا اتخاذ الخادمات بدون محرم، وهذا بلية عظمى، وشرارة كبرى دخلت بلاد المسلمين، فانتشر أُوارُها، نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية. ومن ذلك أيضاً: السماح للخطيبين بالمصاحبة والمخالطة التي تجر بذاتها إلى الخلوة قبل العقد الشرعي، والذي يجر بلا شك إلى ما لا تُحمد عقباه حينئذٍ. ومن ذلك أيضاً: ما يجري في عادات بعض الناس وبُعدهم عن الله جل وعلا من خلال استقبال المرء أقارب زوجها الأجانب عنها، أو أصدقائهم ومجالستهم، سواء كان ذلك في حضرتهم، أو في حال غيبتهم. وكذا أيضاً: الاختلاط في دور التعليم، كالمدارس، والجامعات، والمعاهد، والدروس الخصوصية، وهي أشد أنواع الاختلاط خطراً لعدة أسباب منها: أولاً: طول الوقت الذي يلتقي فيه الجنسان، بحيث يمتد إلى أكثر من خمس ساعات في اليوم. ثانياً: البُعد عن الرقيب الفعلي من الأسرة، كأحد الأبوين، أو المحارم، أو نحو ذلك. ثالثاً: وجود العلل الداعية إلى أضرار الاختلاط، وذلك من خلال إقامة الحُجج لطلب الدروس والواجبات من زميل الدراسة -مثلاًَ- أو الاستفسار عن مقررات المنهج ونحو ذلك. وقولوا مثل ذلك في اختلاط الوظائف، والمنتديات والجمعيات ونحوها مهما اختلفت مشاربها ومآربها. وما أحسن ما أجاب به أحمد وفيق باشا حينما سأله أحد الغربيين قائلاً: لماذا تبقى النساء في الشرق محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن، من غير أن يخالطن الرجال. فأجابه على عجالة لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن. إن أعداء الإسلام -أيها الإخوة- يدركون قيمة الحجاب، وأثر قرار المرأة في بيتها في حماية المرأة المسلمة، وصيانة عفتها وطهارتها؛ لذلك نراهم يشنون على حجاب المرأة حرباً شعواء لا هوادة فيها، فيصفونه بالظلم تارة، وبالجور تارة، وبالتخلف أخرى، وتارة هو دخيل على حياة المسلمين، ولأنه أيضاً يحول دون تقدم المجتمع، وهم بذلك يبينون للمرأة المسلمة الخروج من بيتها بسبب وبدون سبب، وفي الحقيقة: ما بأعداء الإسلام رحمة للمرأة المسلمة، ولا عطف عليها، وما بهم غيرة على الإسلام، ولا حب للمسلمين، إنما هو لا غير الحقد الدفين، والكيد المضمر، والكراهية المدفونة في نفوسهم {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران:119] . لقد ترقت المفاهيم السياسية والبيئية والاجتماعية في هذا العالم الفسيح، حتى أصبح كل ذي لب وبصيرة يملك بقوة الفطنة والحد ما يكشف له اليد الصهيونية، والحقد الدفين على الأمم والشعوب بتدميرها عقدياً واجتماعياً وأخلاقياً، تساوقاً مع مقررات حكماء بني صهيون خذلهم الله. إن اليهود قد شنوا الحرب على حجاب المرأة المسلمة منذ القديم، منذ أن تآمروا على نزع حجاب امرأة كانت في سوق بني قينقاع وهي جالسة، فجاء رجل يهودي وربط طرف ثوبها من أسفله إلى أعلاه، وهي لا تشعر، فلما قامت واقفة انكشفت سوأتها، وبدت عورتها، فضحك اليهود، واستنفرت المرأة من حولها، وقامت بسبب ذلك صراعات لا يزيدها الزمن إلا اشتعالاً واضطراماًَ؛ لأن اليهود يدركون جيداً أن إفساد المرأة إفساد للمجتمع المسلم. ولكن من المؤسف -أيها الإخوة وال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 شاهد على حال المرأة في الغرب وإليكم -أيها الإخوة- عبارات قشيبة نلقي من خلالها الضوء على نسائنا، ونساء الغرب الحاقد، فأقول: إن الذين حدثونا من إخواننا المسلمين الذين عايشوا أهل الغرب سنين عديدة، يقولون: لقد اختبرت المرأة هناك وذُلَّت، حتى بذلت ما نراه نحن أعز شيء عليها وهو العرض في سبيل ما نراه أهون شيء علينا وهو الخبز. بدلَّت بالجمة رأساً أزعراً وبالثنايا الواضحات الدردرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا ولقد كتب الخبيث الراحل توفيق الحكيم كلاماً عن الفتاة التي فرضت نفسها عليه، وساكنته الدار، وعاشرته معاشرة الأهل، لا تريد من ذلك إلا أن تجد سقفاً يُسكنها، ومائدة تشبعها. ثم ذكر عن نفسه أنه كيف ملها، ثم طردها بعد ذلك. لقد استترت المرأة المسلمة، فعزت بذلك، وتمنعت فطُلبت، وعرضت المرأة الغربية نفسها فهانت؛ لأن كل معروض مهان. كان الشاعر العربي الأول يقول إذا بدى له من المرأة كف أو معصم دار رأسُه وثارت نفسه، وانطلق بالشعر لسانُه، كما قال أحدهم: بدا لي منها معصم حين شمرت وكف خضيب زُينت ببنانِ فوالله لا أذكر وإن كنتُ ذاكراً بسبع رميتُ جمراً أم بثمانِ أو كما قال الآخر: قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلتِِ بناسك متعبدِ قد كان شمر للصلاة إزاره حتى وقفتِ له بباب مسجدِ ردي عليه صلاته وزكاته لا تفتنيه برب دين محمدِ والآخر يقول: لها بشر مثل الحرير ومنطقٌ رخيم الحواشي لا هراءٌ ولا نثْرُ وعينان قال الله كونا فكانتا فعولان بالألباب كما تفعل الخمْرُ وليس بغائب عن جلنا أن أغزل بيت قالته العرب، هو قول جرير: إن العيون التي في طرفها حَوَر قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حَراك له وهن أضعف خلق الله إنسانا أو قول الرصافي: عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري إذاً: كل هذه المشاعر إنما تفيض حينما تكشف المرأة عن محاسنها، وهي المعروفة بالحجاب. وأما المرأة الغربية فإن الرجل يراها على الساحل، ويرى منها أعلاها وأدناها، فينظر إلى ساقها فإذا هو ورجل الكرسي على حد سواء. ومن هنا كسد عندهم حب الزواج؛ لأنه رباط دائم، يرتبط الرجل مختاراً؛ ليصل إلى إرواء غريزته بما أباح الله جل وعلا. هذا هو الدافع الأول للزواج، فلماذا يربط الغربي نفسه به إذا كان يستطيع أن يرويها وهو طليق حر، ومن أمثلة الغرب في ذلك: إذا استطعت شراء اللبن فلم تشترِِ البقرة كلها؟ وقيل: إن نساء الغرب أسعد عيشاً أو أعز وأكرم من نسائنا كلا. ليس في الدنيا أعز ولا أكرم من نساء المسلمين ورجال المسلمين، وإن الغرب أبعد الناس عن الغيرة، فهل يتمالك مسلم نفسه أن يكون في حفلة ما، فيأتي إليه رجل فيقول له: من فضلك! هل تسمح لي؟ فما هو ظنكم؟! يسمح له بماذا؟! إنه يريد أن يقول له: من فضلك! هل تسمح لي أن أرافق زوجتك؟ أو أن أرافق أختك؟ أو أن أرافق بنتك؟ ليضم صدرها إلى صدره، ويدها إلى يده، ووجهها إلى وجهه، وساقها إلى ساقه. ليس في الدنيا مسلم ولا مسلمة يرضى بهذا. هذه هي حال نساء الغرب، ومن سار في ركابهن. فهل نساء الغرب اليوم في خير مما يدعونا إلى أن نسير في ركبابهن، وأن ندور وراءهن كما يدور الحمار على رحاه؟ كلا. وقد صدق من قال: لقد ركع القوم لجيفة يبين لذي اللب إنتانُها أيها الإخوة والأخوات! هذا شيء من حال الغرب بعد تجربة مديدة في المناداة بتحرير المرأة وخروجها من بيتها، وهاهم الآن بعقلائهم ومفكريهم يعانون من هذه الظاهرة، والتي وصلت إلى ما وصلت إليه بعد مراحل ما يُسمى: المرأة والعمل السياسي ، والذي أوجزه لكم على عُجالة؛ لأن الوقت قد ضاق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 المرأة والعمل السياسي أقول: بداية هذه الأمور إنما كانت فيما يتعلق بالمرأة والعمل السياسي، وبدأت الدعوات نحو مشاركة المرأة في العمل السياسي ابتداء من عصر النهضة والتمدن في القرن السابع عشر، وفي عصر اليقظة في القرن الثامن عشر، وكذلك في القرن التاسع عشر جاء منشطاً للحركة النسائية عملياً وعلمياً، حتى لقب بعصر المرأة، وقسموا حقوق المرأة إلى أقسام: تشريعية، واقتصادية، وسياسية. وقد امتدت هذه الجذور حتى إلى المرأة الشرقية، وقد حصل الجميع على مبتغاهم، حتى أصبح للمرأة حق سياسي في الانتخاب الذي هو التصويت، فأول ما بدأ ذلك بعد منتصف القرن التاسع عشر في أمريكا، وبالتحديد في بعض ولاياتها، مثل: كلورادوا، وواشنطن، وكاليفورنيا، وألاسكا، وأريزونا. وفي عام:1920م أقر الاتحاد الأميركي حق الانتخاب للمرأة في كل الولايات المتحدة، ثم تبع أمريكا في ذلك: النرويج، والدنمارك، وهولندا، وبريطانيا، والنمسا، والسويد، وبلجيكا، حتى عام: 1921م. وبعد ذلك، بعض الدول الاشتراكية مثل: تشيكوسلوفاكيا، وبولونيا، وألمانيا الديمقراطية، وفنلندا، والمجر، وبولندا، ورومانيا، ويوغسلافيا. وبعد هذه الأمور بدأ دور المرأة ظاهراً في المجال السياسي، فبدأت بعد ذلك في الوزارة، ثم سلك القضاء في أمريكا، ثم بلغن عددهن في الكونجرس الأمريكي سنة: 1926م مائة وثمانية امرأة، ثم بدأت سفيرة بعد ذلك. ثم في الهند عينت شقيقة البان بنت نهرو سفيرة في الولايات المتحدة، وفي الثمانيات عُينت -أيضاً- أنديرا غاندي رئيسة للوزاء في الهند، ومثلها في الباكستان:، ومثلها -أيضاً- ما تُسمى غولد مائير في إسرائيل، وفي تركيا تانسو تشيلر، وفي بريطانيا أيضاً مارغريت تاتشر، وفي غيرها، والآن في أندونيسيا الأمر على قدم وساق لنصب امرأة. وفي بعض البلاد العربية: سلكت المرأة من خلال نصوص دساتيرها مناصب شتى في الوزارة، ومجالس النواب، والسفارات، ما عدا الرئاسة. وفي عام: 1973م صدر قرار رقم (عشرة لثلاثة آلاف) عن الهيئة العامة للأمم المتحدة، نص على أن عام: 1975م عامٌ دولي للمرأة، وفيه دعوة صريحة للمساواة بين الرجل والمرأة والمشاركة الأعمق في الإنتاج، وفي التعاون من أجل السلام. وكان المؤتمر قد عُقد في برلين عاصمة ألمانيا الديمقراطية، وكان أهم ما فيه: أن الاعتراف بمساواة المرأة في الدساتير والقوانين، ووضعها موضع التنفيذ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 شبهة حق المرأة في العمل وعندنا سؤال هنا: حق المرأة في العمل؟! وهي شبهةٌ يدعو إليها مدعو تحرير المرأة. فأقول: العمل المنوط بالمرأة قبل الزواج إنما يتقرر بالحاجة المبيحة لها في العمل من خلال الضوابط الشرعية من ثلاث نواحي أساسية: الأولى: حاجتها الاقتصادية إلى المال؛ لتعيل نفسها عند فقد المعين من أب أو زوج أو نحوهما. الثانية: إذا كانت حاجة المجتمع إليها ملحة، ولم تكن هي بحاجة إلى المال. الثالثة: أن تكون بعد الزواج، فإنه يترتب على المرأة بعد الزواج التزامات زوجية وأسرية، فإن استطاعت أن تفي بهذه الالتزامات الشرعية، كحقوق الزوج والأولاد والحضانة والتدبير وكذلك الرعاية، بحيث توفق بينها، فلا مانع إذا أذن الزوج بذلك، وعند التعارض، فإن حق الأسرة مقدم على حقها الخاص. يقول البغوي رحمه الله في كتابه شرح السنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: {كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته} ، قال: ورعاية المرأة في بيت زوجها بحسن التدبير في أمر بيته، والتعهد بخدمته، وأضيافه. انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 تولي المرأة للإمامة العظمى حكم تولي المرأة للإمامة العُظمى؟ في الحقيقة: لم يختلف الفقهاء لا في القديم ولا في الحديث بمنع ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {ما أفلح قومٌ ولوا عليهم امرأة} ، وخالف في ذلك فرقة من الخوارج يقال لها: الشبيبية نسبة إلى شبيب بن يزيد الشيباني، وزعموا أن غزالة زوجة شبيب كانت إمامة بعد قتله، وقد خرجت سنة: 76هـ أيام ولاية الحجاج على العراق، خرجت على عبد الملك بن مروان، وقد فر منها أيضاً الحجاج في إحدى الوقائع حينما أرادت دخول الكوفة، وفيه قال عمران بن حطان: أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافرِ هلا برزت إلى غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناحي طائرِ وقل مثل ذلك فيما يسمى وزارة التفويض وبقية الوزارات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 تعليق على خطاب ولي العهد يبقى معنا ما يتعلق في أطروحات أخرى جد خطيرة، من ذلك: ما أُشيع في صحف شتى عما يُسمى التعليق على خطاب ولي العهد وفقه الله. ونحن نعلم جميعاً أن حكام هذه البلاد من بداية التأسيس في خطاباتهم وأمورهم لم نجد يوماً ما أنهم دعوا إلى خروج المرأة من بيتها، ونزع جلبابها وحيائها، ولا إلى فجورها وتحريرها، وخطاب ولي العهد كان واضحاً، ليس وليد اليوم، فقد سبقه بذلك أبوه رحمه الله، فهو ممن تبع أباه بعد ذلك، فهي خطابات تتوالى، ولكن لعل هناك سراً في أولئك المغرضين، ولماذا حصل مثل هذا الخطاب؟ فأقول: ولي العهد كان له جولات كثيرة ألقى فيها خطابات متعددة، فأين هؤلاء الكتاب عن الثناء على تلك الخطابات؟ لماذا الثناء على جملة قصيرة من خطاب واحد وهو خطاب واحد يقوله الجميع، ونقوله كما قال، وقد قاله قبله كثير، أنه لا يصح لأحد أن يهون من شأن المرأة، أو أن ينتقص مكانتها، وهذا أمر كلنا جميعاً نتفق عليه، فلماذا أولئك يحولون هذه الخطاب ويحرفونه على ما يشتهون ويُهَوِّشون به ليصطادوا في الماء العكر؟ فأين الثناء على الخطابات السالفة؟ بل أين الثناء على جملة هذا الخطاب الذي من محتواه هذه الكلمة اليسيرة؟ فلماذا اختيار هذه الكلمة؟ جاءت خطابات ولي العهد وغيره عن إقامة الشرع، وتثبيت حدود الله، والتواصي والتآخي ونحو ذلك، فلم نرَ منهم ثناءً ولا مدحاً، لماذا على هذه النقطة؟ هذا أمر مما يثير الاستفهام، ويؤكد لنا أن جملة من أولئك إنما قصدهم أن يوقعوا فيما لا تحمد عقباه، وعلى حد قول القائل: أصُمُّ عن الأمر الذي لا أريده وأسمع خلق الله حين أشاءُ أو على قول القائل: إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً عني وما سمعوا من صالح دفنوا جهلاً علينا وجبناً من عدوهم لبئست الخلتان الجهل والجبن والحقيقة أيها الإخوة: أن العداوة بين الأمجاد والأوغاد ليست وليدة الحاضر. كما أن التعليق على الخطاب من قبل أهل الأهواء ليس حباً في مَن ألقى الخطاب، ولنستدل على مثل ذلك: أين أولئك الذين علقوا على خطابه بما لا يريد؟ أين هم بعد أن جاء المصدر الرسمي الآخر وبيَّن أن ذلك ليس مقصوداً؟ فهل تراجع أحدٌ منهم في اليوم التالي، وأثنى على هذا المصدر الرسمي كم أثنى على الخطاب الأول؟ لا نرى منهم أحداً رجع، لماذا؟ لو كان حباً في من ألقى الخطاب، ومصدر الخطاب، لعدت إلى رشدك، وقلتَ: صدق، وأنا آسف على خطئي. هذه أيضاً مما يؤاخذ على من ساروا خلف ذلك الخطاب، بل لا نخطئ لو قلنا: إن هذا خروج بالكلمة على ولي الأمر، فولي الأمر لم يدعُ المرأة إلى خروجها من بيتها، وحتى أضرب لكم مثالاً واحداً أنا رأيته بعيني: جاء إلى جارتنا هناك خطاب دعوة إلى حضور احتفال تحضره حرم خادم الحرمين حفظه الله, وكان من جملة الخطاب تحت رعياتها على أن لا يكون من ضمن الحضور من يريد تصويراً أو يكون متبرجاً، أو يأتي بما لا يرضاه الشرع، فإذا كان هذا حرم قيادة البلاد، فكيف يأتي من هو دون ليبين أن المرأة ينبغي أن تخرج سافرة. فإذاً: مثل هذه الخطوط ينبغي أن نتنبه إليها، وأن نعيه وأن نعلم أن من بيننا ومن يلفظ بألسنتنا، ويتكلم بلغتنا من لا يريد لنا الصلاح ولا الإصلاح، لا لنا ولا لقادتنا حفظهم الله ووفقهم للإسلام والمسلمين. وقولوا مثل ذلك في قيادة المرأة المسلمة للسيارة، وهذا أمر أفتى فيه العلماء، ويُعرف فيه نظر قادة هذا البلاد، وليس تصريح سمو وزير الداخلية -جزاه الله خيراً- عنا ببعيد بأن الأمر ليس ولن يكون ذلك؛ لأن لكل مجتمع ما يدعو إليه دينهم، وهذا أمر فصل في هذه القضية، ونُشر في الصحف في لقائه بإخوته في جامعة أم القرى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 قصيدة تحذير المرأة من أعدائها ولعل بهذه المناسبة في إبَّان المعمعة والحديث عما ألقى حول خطاب سمو ولي العهد في تلك الآونة. قلت ما تجيش به قريحة الشعر في تلك اللحظة من معانٍ، لعل أن يجد أحدنا فيها ما يعينه على فهم ذلك: قيل في الإعلام قولٌ عن ولي العهد فينا فانبرى الأقزام تواً في ركاب الله فينا من مداد الحب يُذكى ذكرهم حيناً فحينا ثم قالوها بقول يكشف الرأي الدفينا كم خطابات تولت لم نر منهم طنينا ذاك ذئب بات يعوي يبتغي عجلاً سمينا زيفوا الأقلام يهذي كي يضل المهتدينا ظن أن البنت صيد يدخل الجوف اللعينا أنشَدُوها يا فتاةً في عداد الدارسينا كيف يجديك احتشامٌ يكشف الوجه الحسينا كيف يؤذيكِ اختلاط في صفوف المعجبينا أنت عند القوم كأسٌ أو خمور الأندرينا مزقي الجلباب قسراً واقتداراً تصحبينا كيف تؤوين انتقاصاً؟ كيف باصاً تركبينا؟ إيه! قومي في إباءٍ اعلني قَفْل المشينا واركبي التيار نثراً رغم أنف المانعينا صرح المسئول يوماً لن تراعوا لن نلينا نحن للإسلام حصن في وجوه المغرضينا أسهم العلمان ترمى دون أرض المسلمينا منجنيق القوم عارٍ والحصى أضحى طحينا ما على قومٍ بُغاة أن طغوا مستنفرينا سوف يلقاهم عقابٌ من إله العالمينا شرعة الرحمن حق لا ادعاءاتُ المِئِيْنا ليس هم القوم بنتاً في صلاح أو بنينا همهم كشف الخبايا من جمال تُرزقينا أو ولوغ في إناءٍ يجعل الألبان طينا يا لَأُختي ليس يجديـ ـهم عفاف المؤمنينا ثَمَّ أمر ليس يخفى من نوايا العابثينا أن تكون المرأة الغَرْ رَا إمام المسلمينا أو رئيس مجالس الوز راء يا للغافلينا! أو ولي العهد إن كنا لدون الراغبينا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 ما يراد بالمرأة يا أيها الأخت المسلمة! يا فتاة الإسلام! إن باب الإصلاح أمامك أنت أيتها المرأة، ومفتاحه بيدك، فإذا آمنت بوجوده وعملت على دخوله، صلحت الحال. صحيحٌ أن الرجل هو الذي يخطو الخطوة الأولى أحياناً في طريق الإثم وقد لا تخطوها المرأة من قبل؛ ولكن لولا رضاك أنت ما أقدم، ولولا لينك لما اشتد عليك، أنت فتحت له الباب، وهو الذي دخل، ولو علمت أن ذلك الرجل وذلك الفرد الحاقد ذئب وأنت النعجة لفررت منه فرار النعجة من الذئب، وإذا كان الذئب لا يريد من النعجة إلا لحمها، فإن الذي يريده منك الغرب والرجل المستغرب هو أعز شيء عليك من اللحم على النعجة، يريد عفافك الذي به تشرفين، وبه تعيشين، يريد أن يوقعك في لذة ساعة، تظلين بعدها أبداً تتجرعين غصصها، ثم ينبو لطيفاً يفتش عن مغفلة أخرى يسرق منها عرضها. إن الفتاة المسلمة مهما بلغت من المنزلة والغنى والشهرة فإنها لا تجد أملها بعد الله إلا في الزواج، فالزواج أهم أماني المرأة في الدنيا، والفاسقة المستهترة لا يتزوجها أحد، حتى الذي أغواها وأراق عفتها وكرامتها بين قدميه. فتنبهي يا فتاة الإسلام! ولا تسمعي كلام أولئك الذين يزينون لك حياة الاختلاط باسم الحرية والمدنية والتقدمية، فإن عدداً من هؤلاء لا يهمهم منك إلا اللذة العارضة والشهوة المسعورة، هذا هو الحق فلا تسمعي غيره، فإذا شئت أصلحت نفسك وأصلحت بصلاحك الأمة كلها. وأخيراً: أيها الإخوة! فإن الحديث عن المرأة لا ينتهي، والذي يهمنا أن نؤكده هنا: هو أن كل ما نقول من حق المرأة إنما هو من باب غيرتنا عليها كمسلمين، وحرصنا على صيانتها وحمايتها، ولا شك أن الواجب يضع على كل عاشق نصيبه من المسئولية، كل حسب موقعه ومكانته، فالحاكم راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والعالم راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والأب راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والأم راعية وهي مسئولة عن رعيتها، بل وكلكم راعٍِ وكلكم مسئول عن رعيته. إلا أن الملاحَظ -أيها الإخوة والأخوات- أن الخطر قد بان من الخطورة بحيث لا يصلح لدرئه إلا الكبار من الناس، من آباء ومسئولين، وكما قيل: رب حكمة من مسئول تكون كالسد المنيع في طريق السيول. وإن واجب الأمانة، ثم مصلحة الأمة الإسلامية يهيبان بكل مسئول من أب أو غيره أن يضغطوا -كما قيل- على كابح القاطرة قبل أن تسير بهم إلى الهاوية، ولا يكون هذا الكابح إلا في التشريع الإسلامي، الذي يفرض على المرأة الاحتشام، وأن تحتجب، وأن تكف عن السباق المحموم الذي تمارسه هي في حلبة التقليد الأعمى. وعلينا جميعاً أن نعلم أن الستر والصيانة هما أعظم عون على العفاف والحصانة، وإن احترام القيود التي شرعها الله في علاقة الجنسين هو صمام الأمن من الفتنة والعار والفضيحة والخزي والدمار والشنار. كما أن علينا أن نعلم جيداً أن ما يُثار من زوبعات حول المرأة، وأنها بوضعها الآني التي تعيش عليه إنما تعد متخلفة، وأن الحضارة مرتهنة بتحرير المرأة وخروجها من بيتها، كل ذلك من باب الغشش، وذر الرماد على العيون؛ لأننا نعلم جيداً أن أوائلنا كانوا سادة العالم عسكرياً واقتصادياً بل وثقافياً، فأين بدأت حضارة الطب أو الرياضيات أو العسكرية إلا من المسلمين، وإننا إن لم نتنبه لخطورة هذه الهوة فإننا لن نتداركها فيما بعد إلا بصعوبة بالغة تعجز عنه الشدائد، وكما قيل: إذا لم يُغَبِّر حائط عند وقوعه فليس له بعد الوقوع غبارُ ومن ثم علينا جميعاً من واجب المسئولية ما يؤهلنا إلى أن نحمي مجتمعاتنا وبناتنا من وسائل الهدم، سواءً كانت سمعية أو بصرية، مما يُنشر الاسم من خلالها، وإن بناتنا من أفضل ثمارنا، وخير زروعنا، إنهن الرياحين الناضرة في حياتنا، إنهن فلذات أكبادنا، وإن هذه الزروع توشك أن تموت، وأن يحرم منها كثير من المسلمين إلا من رحم الله، ويُخشى أن تعصف بها الريح بعد أن طابت ورجونا خيرها وبرها، وما أحسن ما قال ابن الرومي في ذلك: وأولادنا مثل الجوارح أيها فقدناه كان الفاجع البيِّن الفخذِ هل السمع بعد العين يغني مكانها أو العين بعد السمع تهذي كما يهذي وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 الأسئلة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 حكم الترضي على سجاح السؤال لماذا قلت عندما ذكرت سجاح: رضي الله عنها؟ الجواب إن لم تخني الذاكرة، فإنها أسلمت بعد ذلك، وإن كان ربما قيل في إسلامها خلاف، أو نحو من ذلك؛ لكن أنا قلت بناءً على ما في الذهن أنها أسلمت بعد هذه القضية، والقول مرتبط بالصواب، فمن تبين له خلاف ما ذكرتُ فليبين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 حكم كشف المرأة وجهها السؤال الحملة المسعورة مركزة على أن تكشف المرأة وجهها، آمل التنبيه على ذلك. الجواب أنت ربما لم تقرأ ولم تعرف مآرب هؤلاء، ليت الأمر ينتهي إلى إخراج الوجه، فإنهم يريدوا أن تقتل المرأة نفسها، وليست القضية قضية إخراج الوجه، مع أننا نقول: إن اتفاق جميع الأئمة الأربعة على أن المرأة لا تخرج وجهها على الصحيح من أقوالهم، ولم يخالف في ذلك إلا جملة من المتأخرين، إما عن جهل من بعضهم أو لغفلة ونوايا لا نعلمها؛ ولكن الله جل وعلا يعلمها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 حكم إبداء القدمين للمرأة السؤال ما رأيكم في لباس بعض بنات المدارس عندما رفعت الثوب والعباءة عن الكعب؟ الجواب رفع العباءة أو نحو ذلك عن الكعب بالنسبة للنساء لا يجوز، بل لا بد أن يرخين ذلك، وأقل ما يكون شبراً، وأن لا تخرج القدمان من خلال تلك الثياب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 ما الذي نحتاجه قبل الدعاء؟ السؤال هذا يطلب الدعاء أن يغيثنا الله سبحانه وتعالى بالأمطار. الجواب لا شك أن الدعاء مطلوب؛ ولكن قبل الدعاء يحتاج إلى أن يصحح العلاقة بينه وبين ربه، فالدعاء يرفع بين الحين والآخر، ولكن يحتاج إلى التصحيح؛ لأجل أن يكون الدعاء صحيحاً، فالله جل وعلا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وغيره: {إن الله لا يقبل الدعاء من قلب غافل لاهٍ} . فكثير منا يخرجون إلى الاستسقاء؛ لكن هل يستشعر لماذا مُنع القطر؟ وما السبب في منعه؟ ولماذا خرج؟ ألأجل الاستسقاء؟! فلو استحضرنا مثل هذه الأمور وصححنا أوضاعنا فأبشروا بالغيث للقلوب وللبلاد. فنسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يغيث بلادنا بالأمطار، وأن يغيث قلوبنا بالإيمان، وأن يسقينا غيثاً مغيثاً هنيئاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار، إنه سميع مجيب، وأن يحيي بها البلاد، ويسقي بها العباد، ويجعله بلاغاً للحاضر والبادِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 خطر انتشار الدش السؤال انتشر في منازل الناس واستراحاتهم ما يُسمى بالدش أو بالقنوات الفضائية والتي عرفنا عنها أنها تنقل الصور الخليعة والنساء العاريات وما شابه ذلك، نرجو تحذير الناس من هذا الداء الذي انتشر انتشار النار في الهشيم. الجواب لا شك أن هذا أمر جد خطير، وداء انتشر بين المسلمين، هو في الحقيقة أشد من الأدواء التي تسمى الفسيولوجية، وأشد من داء السرطان، والإيدز، هذا أمر يقضي على الدين، ويقضى على حياة المسلمين. وهو كغيره يحتج فيه البعض أنه يوجد فيه الخبيث والطيب، فنقول: نعم. فيه خبث وفيه طيب، لكن الله جل وعلا أيضاً ذكر عن الخمر أن فيه منافع للناس، وإثم كبير؛ لكن الإثم أكبر من النفع، فكثير من الناس يحتج بإدخال هذا الجهاز على أنه يسمع فيه الأخبار، فأقول: أولاًَ: إن في الأخبار المسموعة في الإذاعات ما يغني عن الأخبار المرئية. ثانياً: هل من معرفتك للأخبار مصلحة تحيا بها لله جل وعلا، وتموت عليها، وتقابل بها ربك في مقابل المضرة التي يسمع فيها أبناؤك وبناتك من الفُحش والتفحش وما حرم الله؟ ماذا تقول لربك جل وعلا؟ هل سيسألك الله: هل علمت بما حصل في البوسنة والهرسك؟ لم تؤمر بذلك شرعاً؛ لكن معرفتك بأحوال المسلمين أمر مطلوب؛ لكنه لا يأمرك بذلك، ونحن عشنا في بيوتنا بلا شيء من ذلك، ومع ذلك نعرف أخبار العالم وأحوال الناس، فهذه من الشبه التي يلقيها ضعاف المسلمين. وفي الحقيقة -أيها الإخوة- أن من أدخل مثل هذا، لا سيما في بعض القنوات التي تبث الجسم عارياً تماماً بحيث يكون الرجل مع المرأة كما يكون الرجل مع زوجته، إلا من رحم، فهذا من أدخله في بيته، فهو على خطر عظيم، وكأنه جاء برجل من الخارج وبامرأة وأدخلهما في البيت، ليمارسان هذه الممارسة أمام أبنائه، ولو قلتَ له ائت بالخادمة وبسائق جارك ليفعلان ما يُفعل في الدُّش في بيتك، لاستغرب منك. ففي الحقيقة بعض الناس يغفل عن ذلك، فينبغي التنبه إليه -أيها الإخوة- وليس ذلك منعاً -والله- دون أن يترقى الإنسان وأن يفهم، نحن نقبل الفهم الذي هو الفهم الصحيح، أما أن يقبل المرء الفساد لدينه ونفسه فلا، الرجل يرى من المرأة معصماً أو عينين فيفتتن، فكيف إذا رآها متجردة، أو رأى ما يدعو إلى الفحش والتفحش، وما يثير مكامن الشهوة التي تمتد كاللهيب إلى جارحة الرجل، والتي يترجمها عن زناً أو نحو ذلك مما حرم الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 لبس الملابس فوق الكعب أو تحته للرجل أو المرأة السؤال يرى كثيرٌ من الناس أن النساء يجعلن إزارهن فوق الكعب، فهل هذا جائز؟ وهل هناك فرق بين لباسها هذا اللباس بين النساء وبين الرجال؟ أفيدونا في ذلك، وهل إسبال الرجال جائز بحجة أنه لم يلبسه من أجل الخيلاء؟ الجواب لا يجوز إسبال الرجل ثوبه دون الكعبين، وهذا محرم، والحديث جاء تارة مطلقاً: {ما أسفل من الكعبين ففي النار} ، وجاء في حديث آخر في قصة أبي بكر المشهور: {من جر ثوبه خيلاء ففي النار} . وأهل العلم اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: هذا مقيد بهذا؛ ولكن الصواب ما ذكره الحافظ ابن حجر وغيره من المحققين: أن من جر ثوبه دون الكعبين فهو في النار، ومن جر ثوبه خيلاء فإن العقوبة تضاعف له، فيكون الخيلاء هنا أشد، أي: سوء على سوء، وليس المراد أن الخيلاء هو المحرم، وما دون الخيلاء ليس كذلك، ناهيكم عما يتبع ذلك من أضرار وأوساخ أو نحو ذلك، والرجل ليس في إخراج قدميه فتنة كما يكون في المرأة، فالصواب أنه لا يجوز سواء كان بخيلاء أم بغير خيلاء. وأما بالنسبة لإزار المرأة فهذا ذكرناه. وأما بالنسبة للباسها بين النساء فمعروف أن عورة المرأة بين النساء، كعورة الرجل بين الرجال، على قول جمهور أهل العلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 حكم التمثيل للمرأة السؤال هناك بعض العلماء قد أفتى بجواز تمثيل المرأة، ويزعم في ذلك أنها لا بد أن تشارك الرجل في هذا المجال، فما الرد على هذا العالم الذي عمل الكثير من المسلمين بهذه الفتوى جزاكم الله خيراً؟ الجواب الحقيقة: ليست القضية قضية تمثيل، القضية: هل يجوز للمرأة أن تكشف وجهها للرجل أم لا؟ فإذا قلنا: نعم. انتقلتُ إلى مرحلة أخرى. ونحن نعرف ونعلم أن القول الصحيح أن المرأة لا يجوز أن تكشف عن وجهها، فكيف إذا مثلت مع الرجل، ثم تكون أيضاً هي في التمثيل أمام مجموعة رجال وهي امرأة، وفي ذلك ما فيه من الفتن، فالنقاش ليس في التثميل، النقاش لماذا تكشف وجهها؟ وهل يمكن أن تمثل امرأة بدون كشف؟ لا يمكن، فالأمر يحتاج إلى نقاش من أصله، والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 أمّ الخبائث إن الله سبحانه وتعالى قد ميز الإنسان عن سائر المخلوقات بالعقل، فبه يميز بين الخير والشر وبين الحسن والقبيح، وإن من المخالفة للفطرة إزالة العقل بالمسكرات والمخدرات، التي هي أم الخبائث ، وهي عادة جاهلية قبيحة جاء الإسلام بتحريمها، وهي عادة تخدم أعداء الإسلام عن هذا تكلم الشيخ، ثم تكلم عن أضرار المسكرات والمخدرات، وفي الأخير ذكر عقوبات شارب الخمر في الدنيا والآخرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1 أهمية العقل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، اتقوا ربكم وراقبوه في السر والعلن، فبتقوى الله عز وجل تصلح الأمور وتتلاشى الشرور، ويصلح للناس أمر الدنيا والآخرة. عباد الله: لقد كرم الله عز وجل بني الإنسان على كثير من مخلوقاته، فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] . كرم الله عز وجل بني آدم بخلال كثيرة امتاز بها عن غيره من المخلوقات، من جماد وحيوان ونبات وجان، كرمه بالعقل، وزينه بالفهم، ووجهه بالتدبر والتفكر، فكان العقل من أكبر نعم الله على الإنسان به يميز بين الخير والشر، والضار والنافع به يسعد في حياته، وبه يدبر أموره وشئونه، وبه يتمتع ويهنأ به تترقى الأمم وتتقدم الحياة، وينتظم المجتمع الإنساني العام، وبالعقل يكون منطق التكليف. العقل جوهرة ثمينة، يحوطها العقلاء بالرعاية والحماية؛ اعترافاً بفضلها وخوفاً من ضياعها وفقدانها بالعقل يشرف العقلاء فيستعلمون عقولهم فيما خلقت له، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة:118] وكما قال الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100] وكما قال عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه:54] وكما قال سبحانه: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:5] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 2 أثر المسكرات وخطرها على العقل وإذا ما فقد الإنسان عقله لم يفرَّق بينه وبين سائر الحيوانات العجماوات، بل لربما فاقه الحيوان الأعجم بعلة الاندفاع، ومن فقد عقله لا نفع فيه ولا ينتفع به، بل هو عالة على أهله ومجتمعه. هذا العقل الثمين الذي هو مناط التكليف يوجد في بني الإسلام من لا يعتني بأمره، ولا يحيطه بسياج الحفظ والحماية، بل هناك من يضعه تحت قدميه ويتبع شهوته، وتعمى بصيرته، كل هذا يبدو ظاهراً جلياً في مثل كأسة خمر، أو جرعة مخدر، أو استنشاق مسكر، وشرب مفتِّر، تفقد الإنسان عقله، فينسلخ من عالم الإنسانية، ويتقمص شخصية الإجرام والفتك والفاحشة، فتشل الحياة ويهدم صرح الأمة، وينسى السكران ربه ويظلم نفسه، ويهيم على وجهه ويقتل إرادته، ويمزق حياءه أيتم أطفاله، وأرمل زوجته، وأزرى بأهله لما فقد عقله، فعربد ولهاً، وسكر ولغاً. وبذلك كله يطرح ضرورة من الضروريات الخمس التي أجمعت الشرائع السماوية على وجوب حفظها ألا وهي ضرورة العقل إنها واجبة الحفظ والرعاية؛ لأن في حفظها قوام مصلحة البشرية، ففاقد العقل بالسكر يسيء إلى نفسه ومجتمعه، ويوقع مجتمعه وبني ملته في وهدة الذل والدمار، فيخل بالأمن ويروع المجتمع، ويعيد أساطير الثمالى الأولين، ومجالس الشراب عند العرب الجاهليين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 السكر في الجاهلية عباد الله: فقدان العقل بالسكر عادة قبيحة، كانت تلازم أهل الجاهلية عند معاقرتهم الخمرة، يقضون الليالي الساهرة مع الأصحاب والخلان على احتسائها، وهم مع ذلك يعدونها وسيلة من وسائل الفخر والكرم، لقد أغرم الجاهليون بالخمرة حاضرة وبادية، وافتخر الشعراء بمعاقرتها وبذل المال في احتسائها، أقبل الجاهليون على الخمرة من أجل قتل الفراغ ونسيان الفقر، فأكثر شعراؤهم القول في الخمر على حين فترة من الرسل، فصُدرت الخمرة في مطلع معلقة هي من أشهر معلقات العرب السبع، والتي قيل: إنها علقت على أستار الكعبة، أنشد فيها عمرو بن كلثوم: ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا تناول العرب والشعراء تلك المعلقة، وكأنها قرآن يتلى، فأخذت بمجامع الناس وأيام العرب، حتى قال قائلهم: ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم إذاً: كانت الخمرة في الجاهلية من دواعي فخر العربي وكرمه، وكان تقديمهما للضيوف وجمع الفتيان لشربها مفخرة أي مفخرة، ثم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم معلناًَ لأمته قوله صلوات الله وسلامه عليه: {ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 مخالفة السكر للفطرة أيها الناس! إن أمةً لا تحافظ على عقول بنيها لهي أمة ضائعة، ماذا فعل السكر بأهل الجاهلية؟ هل أعاد لهم مجداً تليداً أو وطناً سليباً؟ هل أخرجوا الناس من ظلمات الجهل والتيه إلى نور الهدى والاستقامة؟ أيفلح قوم استفحل السكر والخمر في ديارهم جهاراً نهاراً؟ لا وكلا وألف لا. ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء أنه قال: {وأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر، فقيل لي: خذ أيهما شئت. فأخذت اللبن فشربت، فقيل لي: هديت الفطرة -أو أصبت الفطرة- أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك} وفي بعض روايات ابن جرير رحمه الله، أن جبريل عليه السلام قال: {أما إنها ستحرم على أمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا القليل} الله أكبر! إن قول جبريل عليه السلام يؤكد أن الأمة المسلمة الحقه لا يمكن أن تتبع شارب خمر حتى ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاشاه عن ذلك بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه. إذاً لا يجتمع في الأمة لبن وخمر، بمعنى: أنه لا تجتمع فطرة وخمر، بل إما فطرة صالحة بلا خمر، وإما خمر وتيه بلا فطرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن} رواه البخاري ومسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 تحريم الإسلام الخمر عباد الله! إن الخمور التي كانت من مفاخر الجاهلية ومن تقاليدهم المألوفة جاء الإسلام بإلغائها، وخلص الجماعة المسلمة من رواسب الخمرة، بعد أن رسخ دعائم التوحيد والعقيدة في نفوسهم، وأخرجهم من عبادة العباد، وعبادة الشهوة والجسد إلى عبادة الله وحده، وأخرج كثيراً من الصحابة رضي الله عنهم من منادمة الخمر فصقلهم الإسلام صقلاً، هجروا بسببه كل عادة تغضب الله ورسوله. فهاهو حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه يقول عن الخمر في الجاهلية: ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً ما ينهنها اللقاء فلما خالط الإسلام قلبه، صار شعره أشد على نحور المشركين من وقع النبل، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا أبو محجن الثقفي رضي الله عنه، الذي اشتهر بالخمرة في جاهليته، وهو الذي ينسب إليه قوله: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها فلما تمكن حب الله ورسوله من قلبه، أبلى بلاء حسناً في القادسية، وقال له سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لا حبستك في الخمر بعدها أبداً. فقال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها بعد اليوم أبداً. فنعم الإسلام هادياً ومؤدباً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 استغلال أعداء الإسلام لسلاح الإدمان أيها الناس: إن رذيلة المخدرات والمسكرات آفة خبيثة، لم تفشُ في عصر من العصور كما فشت في عصرنا الحاضر، ولم تصب المجتمعات بحمى السكر التي شنها أعداء الإسلام على بلاد المسلمين بهدف تخديرهم وإهدار طاقاتهم وشل جهودهم وتغييب عقولهم علناً كما أصيبت في هذا العصر. لقد قام أعداء الإسلام بزج كميات رهيبة من جميع أصناف المخدرات إلى بلاد المسلمين حسداً من عند أنفسهم، يريدون للأمة المسلمة أن تتورط بهذه السموم، فلا تخرج منها إلا بعد لأواءٍ وشدائد وتعب مضنٍ وتوبة صادقة. وقد وقع جمع من الناس في براثنها، ورضعوا من أثداء المخدرات والمسكرات، فنقضوا بناء المجتمعات ونثروا أعضاءها، وبددوها شذر مذر نفخت روح الحضارة العصرية في بعضهم نفخة كاذبة، وخيلت إليهم أنهم خلق وجيل مغاير لما مر من الأجيال في التاريخ كله، زعم المتفننون منهم أنهم خلق لا تنطبق عليم سنة ولا يخضعون لسابقة، رأوا أنهم في عصر الذرة وعصر المعلومات، فقالوا للناس أجمع: أما علمتم أن الدنيا دخان وكأس، وسكر وغانية. أمة الإسلام: كم من الآلاف في أمتنا يعكفون على المسكرات والمخدرات، يهلكون أنفسهم عن طريق هذه الكيوف السامة القتالة، فأخذوا يزهقون أرواحهم، ويحفرون قبورهم، حتى صاروا أشباحاً بلا أرواح، وأجساماً بلا عقول. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 أضرار المخدرات والمسكرات أيها المسلمون: إن للمسكرات والمخدرات مضاراً كثيرة، أثبتها الطب العصري، وأكدتها تجارب المجتمعات، وذكروا فيها أكثر من مائة وعشرين مضرة دينية ودنيوية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن الحشيشة حرام يحد متناولها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث ودياثه وغير ذلك من الفساد، وإنها تصد عن ذكر الله" انتهى كلامه رحمه الله. ومن أعظم مضار المسكرات والمخدرات: أنها تفسد العقل والمزاج، وما قيمة المرء إذا فسد عقله ومزاجه؟! يتعاطى المسكرات والمخدرات، فيرتكب من الآثام والخطايا ما تضج منه الأرجاء، وما يندم عليه حين يصحو، ولات ساعة مندم! ولقد روى القرطبي رحمه الله في تفسيره: أن أحد السكارى جعل يبول ويأخذ بوله بيديه ويغسل به وجهه وهو يقول: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. قال الضحاك بن مزاحم -رحمه الله-لرجل: ما تصنع بالخمر؟ قال: يهضم طعامي، قال: أما إنه يهضم من دينك وعقلك أكثر. وقال الحسن البصري رحمه الله: لو كان العقل يشترى لتغالى الناس في ثمنه، فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده. أيها الناس: في بلاد المسلمين كثرت حوادث المخدرات من مروجين ومدمنين، وكثرت الجرائم بتعاطيها، وأصبحت مكافحة المخدرات قضية تشغل الحكومات المختلفة، وكل هذا يتم في غياب وازع الإيمان والدين والتقوى، فاتقوا الله أيها المسلمون، واتقوا المسكرات والمخدرات، واتقوا الخمر فإنها أم الخبائث. أخرج النسائي وابن حبان في صحيحه أن عثمان رضي الله عنه قام خطيباً فقال: [[أيها الناس: اتقوا الخمر فإنها أم الخبائث، وأن رجلاً ممن كان قبلكم من العباد كان يختلف إلى المسجد فلقيته امرأة سوء، فأمرت جاريتها فأدخلته المنزل، فأغلقت الباب وعندها باطية من خمر، وعندها صبي، فقالت له: لا تفارقني حتى تشرب كأساً من هذا الخمر أو تواقعني أو تقتل الصبي وإلا صحت -أي: صرخت وقلت: دخل علي في بيتي، فمن ذا الذي يصدقك؟ فضعف الرجل عند ذلك وقال: أما الفاحشة فلا آتيها، وأما النفس فلا أقتلها، فشرب كأس الخمر. فقال: زيديني فزادته، فو الله ما برح حتى واقع المرأة وقتل الصبي]] . قال عثمان رضي الله عنه: [[فاجتنبوها فإنها أم الخبائث، وإنه والله لا يجتمع الإيمان والخمر في قلب رجل إلا يوشك أحدهما أن يذهب بالآخر]] قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90-91] . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 عقوبات شارب الخمر الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن الإسلام تدرج في الخمر حتى ختمها الله بالتحريم، ثم قال عز وجل: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90] فقال الصحابة رضوان الله عليهم: انتهيا انتهينا. ويشمل تحريم الخمر جميع أنواع المسكرات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: {كل مسكر خمر وكل مسكر حرام} رواه مسلم. وشارب الخمر مستحق للعقوبة الدنيوية, وهي أن يجلد ثمانين جلدة، ويحد شاربها وإن لم يسكر، سواءً أشرب الكثير أم القليل بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم، وإذا تكرر من الشارب الشرب وهو يعاقب ولا يرتدع، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يقتل في الرابعة عند الحاجة إليه إذا لم ينته الناس بدون القتل. وهذا عين الفقه؛ لأن الصائل على الأموال إذا لم يندفع إلا بالقتل قتل، فما بالكم بالصائل على أخلاق المجتمع وصلاحه وفلاحه. وشارب الخمر فاسق، لا يسلم عليه، ولا يعاد إذا مرض، ولا تجاب دعوته، قال البخاري رحمه الله تعالى في الأدب المفرد: باب لا يسلَّم على شارب الخمر وساق إسناده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: [[لا تسلموا على شراب الخمر]] . وقال أيضاً رضي الله تعالى عنه: [[لا تعودوا شراب الخمر إذا مرضوا]] . وأما العقوبة الأخروية فقد روى أبو داود وابن ماجة والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، ومبتاعها، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليها} وقال صلى الله عليه وسلم: {من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة} رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: {مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن} رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: {كل مسكر حرام، إن على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال! قالوا: يا رسول الله! وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار} رواه مسلم. فاتقوا الله أيها المسلمون، وصلوا على نبي الرحمة والهدى، فقد أمركم الله في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين من المسلمين يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 اللباس والستر اللباس له فوائد عظيمة، فبه تستر العورات، وبه يكبح جماح الشهرة، وبه تستر المرأة أنوثتها، وتحفظ كيانها. واليهود أعداء الله هم أول من دعوا إلى العري والتفسخ، وهم أصحاب دور الأزياء اليوم في العالم. وهناك أنواع من الألبسة قد حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: لباس الخيلاء والشهرة لباس التشبه لباس لا يستر عورة بل يجسدها ويدعو إلى الفتنة إلخ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 1 وقفة مع الألبسة وفوائدها الحمد لله الواصل الحمد بالنعم، والنعم بالشكر، نحمده على آلائه، كما نحمده على بلائه، ونستعينه على نفوسنا البُطاء عمَّا أمِرت به، السِّراع إلى ما نهيت عنه، ونستغفره مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه، علمٌ غير قاصر، وكتابٌ غير مغادر، خلق الإنسان وبصَّره بما في الحياة من خير أو شر: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق كل شيء فقدَّره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها دار حصن عزيز، تمنع أهلها، وتحرز من لجأ إليها، وبها تُقطع حُمَة الخطايا، فهي النجاة غداً، والمنجاة أبداً بفضل الله. أيها الناس! إن البشر بعامة محكومون بحدودٍ وأعلام، يتقاسمها في الأساس فطرة الله التي فطر الناس عليها، وشريعة من الأمر أُمِر الناس باتباعها على هدىً وبصيرة، وهم إبَّان ذلك قد يضعفُون أمام تلك الحدود والمعالم إلى درجة الخُذلان المنبثق من التهاون واللامبالاة، أو قد يشتدون مع منافع زهرة الحياة الدنيا إلى حد الطغيان: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] والمؤمن الكيِّس مطلوب منه التماسك والرباطة على حالَيه كلتَيهما، إذ أن ترامي الغرائز يمنة ويسرة يتقاذفها ريح الهوى في كل اتجاه، دون أن تخضع مذعنة لحدود الفطرة والشرع، هي لا بد منتهية بأصحابها إلى بلاءٍ عريض، فإن الباري -جلَّ وعلا- لم يخلق الغرائز لبني آدم لتكون محلاً للسطو أو الختل أو التلفظ بأعراض الآخرِين، ولا خلقها ليتعبد بعضَ الناس بقتلها والعبث بها دونما سياج وحماية يحكمان محالَّها. المرء الإنسي في هذه الحياة تتبدى له عورتان اثنتان، يتجاذب الاهتمام بسترهما والحرص على مواراتهما: {فِطْرتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] والتي يتم تنشيطها والإحسان بتمامها نداءات حية من شريعتنا الغراء. ومن هذا المنطلق حرص الإنسان السوي على أن يواري عورتَيه وسَوءتَيه أشد المواراة، عورته الجسدية وعورته النفسية أو المعنوية. وأصل البشرية أبَوان كريمان، ابتدأ الامتحان بالعورات بهما، وأين هذا الامتحان؟ إنه في جنة الخلد: {وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] ، {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءاتِهِمَا} [الأعراف:20] . لقد حرص الشيطان على أن يقضي ابتداءً على عنق الزجاجة ومكمن الحياء، وهو الستر: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه:121] يخصفان عليهما خجلاً من تعريهما، إذ لا يتعرى ويتكشف إلا من فقد فطرته! ويا لله لقد نسي آدمُ فنسِيَت ذريتُه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 2 فوائد اللباس والستر أيها المسلمون! إن الستر فطرة تجعل المجبول عليها لا يأذن للعوادي أن تكشفه كائنة ما كانت، ولو اضطر يوماً ما على أن يُبدي سوأته الجسديةِ لِضُرٍ أَلَمَّ به، فسيكون ذلك على استحياءٍ وخجلٍ شديدَين أمام طبيبٍ أو نحوه، الضرورة كامنة وراء استسلامه بذلك، وقولوا مثل ذلك في العورة القلبية وما يكون من أحوال مشينة تصدر من نفس المرء ويخشى أن يطلع عليها غيره، على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم: {والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس} . وجماع الأمر في العورَتين -عباد الله- هو قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:26] . لقد امتن الله -جلَّ وعلا- على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش الذي يوارون به سوءاتهم. فباللباس تستر العورات عن أعين بني آدم. باللباس يُكْبَحُ جماح الشهوة الطاغي، ويُكَفْكَفُ اللحظ ومُماداة البصر عن أن ينطلق إلى ما لا يُرضي الله. باللباس -أيها الناس- تستر المرأة أنوثتها، وتحفظ كيانها عن أن تكون عِلْكَاً ملتصقاًَ بأحذية لصوص المرأة وأيدي العابثين، حتى تصبح جوهرة في صدفة لا ينظر إليها إلا الخواص وهم الأزواج. باللباس والستر يقدم المرء رِجْلاً أو يؤخرها إذا ما امتدت نفسه إلى خِطبة امرأة بحلال. باللباس -أيها المسلمون- يُعرف الذكور والإناث عن مدى احتشامهم واستقامتهم وحبهم للستر مظهراً ومخبراً، وبه تُعرف الأسر المصونة من غيرها. باللباس والستر قد يُحمى ركنٌ أساس مما أجمع عليه الأنبياء والرسل قاطبة، وهو حماية العرض والنسب من مواهبها. ثم إنه بالريش والرياش يتجمل الإنسان ظاهراً، إذ لباسه من الضروريات الجسدية، والريش والرياش من التحسينيات والزيادات التي يتمتع بها المرء وفق ما شرعه الله له دونما إسراف على حد قوله صلى الله عليه وسلم: {كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مَخِيْلَةٍِ ولا سَرَفٍ، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده} رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجة. وذكر البخاري -رحمه الله- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [[كلْ ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سَرَفٌ ومَخِيْلَةٌ]] . ولا غروَ -أيها المسلمون- في مقابل نعمة اللباس والامتنان بها أن يشرع الحمد مِن قِبَل المرء على ما يكسو به معيبه، ويواري به سوأته، فلقد صح عند أحمد وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكسوة: {الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي} . والأمر -عباد الله- ليس حكراً على ستر العورة الحسية الجسدية فحسب، بل إنَّ لباس التقوى وستر التقوى خير ما يتجمل به المرء؛ إذ ما عسى ستر البدن أن ينفع إذا كان القلب عارياً؟! {استقيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: الله أكبر! كم فُتح من الخزائن اليوم؟! أيقظوا صُوَيْحِبات الحُجَر، فرُبَّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة} رواه البخاري. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 العري والتفسخ مخالف للفطر السليمة أيها المسلمون! الفِطَر السليمة والأنفس السوية تجفل بطبعها من ظهور السوأتين، وتحرص أشد الحرص على مواراتهما، والذين يحاولون في تبعيتهم النكوص عن هذه الحقيقة على علم أو جهل بما يطلقون من دعوات هنا وهناك عبر ألسنتهم وأقلامهم ومقدراتهم لتأصيل هذه المعرَّة، هم الذين يريدون سلب خصائص فطرة الإنسان، وهم الذين ينفِّذون بالحرف الواحد المآرب الصهيونية الرهيبة عبر مقرراتهم المرقومة؛ لإشاعة الانحلال بين بني الإسلام. وإن تعجبوا -عباد الله- فعجبٌ أن اليهود هم أول من شنَّ الحرب على نزع الستر وإظهار السوأة منذ أن تآمر رجلان منهم في سوق بني قينقاع على نزع حجاب امرأة وكشف سوأتها، حينما كانت جالسة في السوق، فربطوا خمارها بطرف ثوبها، فلما قامت واقفة بدت سوأتها للناس، فاستغاثت بمن حولها، ثم توالت بعد ذلك أحداث شبيهة كما ذكر ابن الأثير في كامله عن شابين من قريش رأوا امرأة جميلة من بني عامر في سوق عكاظ، وسألوها أن تسفر عن وجهها فأبت، فامتهنها أحدُهم، فاستغاثت بقومها حتى كان ذلك سبباً في اليوم الثاني من أيام حروب الفجار المشهورة. العري -أيها المسلمون- سِمة حيوانية بهيمية، ولا يميل إليه إلا من هو أدنى من الإنسان، ومتى رؤي العُري والتعرِّي جمالاً وذوقاً وتقدماً ومسايرةً لركب الغافلين فقولوا على الفطرة: السلام، ولتبدأ الآذان صاغية في سماع ما يُبكي ويُحزن من مآسي الفتن، والتنويع في الانسلاخ، والتجرد عن قيم الإسلام، ناهيكم عن سوء العواقب الموخزة، وحينئذٍ واقعون ولا محالة فيما حذرنا منه الباري بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءاتِهِمَا} [الأعراف:27] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 اتباع شباب الإسلام لكن ناعق عباد الله! إنَّ لنا في كل يوم أجناساً من الذكور والإناث تنمو غضة رقيقة، لا يتعهدها أحدٌ بسقي ولا رعاية، حتى تصيبها الجائحة فتجف وتذبل، كما أن عواقب التغريب والاستسلاخ والاستنساخ وأرزائها تحطم أعراقاً متينة من الستر والحشمة طالما أظلت وسقت حتى اجتُثت، فلا بواكي لها. وفي الوقت نفسه! تزهر أفئدة من بني الجنسَين، ثم تُؤتي أُكُلها ثمراً ناضجاً حلواً، فلا يُوجد في بعض الجمهور مستبشراً بها، غير سالم من وكزات دعاوى التخلف، ومعرَّة ما يُسمى: مشي الرجوع على حد زعمهم! لقد صعدت أجيال تنكَّرت لماضيها وأعراقها التي أصلتها وحكَمَتها شريعة الإسلام. أقحم أناس أنفسهم في الميدان، وجعلوا التحسين والتقبيح خاضعاً لممارسات الحضارة الغربية وطيشها، تبدل الوزَّان وبقي الميزان مختلاً وقطبه مائلاًَ، وصناجه ضائعة، حتى إن أحدنا ليجد بين الأم وبنتها، أو بين الأب وابنه في صورة اللباس وما يُشاكله من البَون الشاسع ما يُعادل قرناً كاملاً من الزمان. ألا ما أكثر الأحياء فينا وهم قتلى؟! ذكور وإناث يلبسون لباساً لم يُفصَّل لهم، ولم يُقَس عليهم، وإنما خِيْطَ لغيرهم، فأخذوه بلا إصلاح، ومشوا به فرحين كما يمشي الطفل بحُلة أبيه، يتعثر بها، فيسقط سقطات يكون بها محلاً للضحك والتندُّر. إن الخلل الذي تعيشه جملة من الشعوب الإسلامية في قضية اللباس والستر، إنما كان منشأه من ممارسات خاطئة في كيفية التعامل مع الحضارة المدنية في كافة شئونها الحياتية، وفي المفاهيم المغلوطة لمعاني التقدم الحية، مما علق مواهبهم وقدراتهم عن تسخيرها باقتدار، حتى التحقوا بالركب المتقدم عن طريق التشبه به، والاقتباس منه، وعذرهم في ذلك أنهم يريدون النهوض بأنفسهم وأمتهم من وهدة النمو إلى مصافي الأمم المتحضرة، ولم يعد للشرع ولا للفطرة في بعض الأفئدة إلا النسبة الأساس. وإذا رأيت ثوب المفتون بهم يستر بعض العورة فاعلم أنه صورة لما عندهم من الأنموذج الجديد. إن الإصابة بحمى اللباس ليست على درجة واحدة بين المسلمين، إذ منهم من شمل السفور والحسور والتشبه، نساءه ورجاله، أو الكثرة منهم، ومنهم من ظهر فيهم واستعلن، وإن لم يعم ويشمل، ومنهم من بدأ يقرع أبوابهم ويضع إحدى قدميه، إن لم تكن وُضِعَتا كلتاهما. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 الموضة وخطرها على الأمة حدثوا -أيها المسلمون- ولا حرج! عن انهماك (المجوع) بما يسمى على لغة العصر: الموضة؛ حيث يتلاعب مصممو اللباس بنفسيات الجنسَين في جذب أنظارهم تجاه كل لباس مستحدَث، مهما كان انسلاخه من معاني الرجولة، أو سمات الأنوثة العفيفة المصونة، استنزاف للأموال، واستخفاف بالرعاع، ونشر للفاحشة كيفما نشر، بعرض المفاتن، وسبل الإغراء، حتى أصبحت الموضة متِكْأةً للإثراء ووأد العفاف لدى كثير من الشعوب. والزمن كفيل في أن يثير جمهور اللاهثين في قبول الإحداث المتجدد المتراوح بين انتشار ما يُلبس دون الركبة أو فوقها، أو ما يُفتح من الجانبَين ليبدو ما يتمنى المرء المسلم معه الموت ولا أن يرى يوماً ما شيئاً من ذلك في محارمه أو أقاربه، ولا أن يكون ضحية لمشاهدة ما يستفز العيون من محاجرها، مشرئبة لتتقد كوامن الشهوة كالنار المتأججة في الصدر، والتي يُتَرْجم عوارها عبر جوارح المغفلين. إنه التفنن في إذابة الأعراف وإغراء الشعوب بما يُبعدهم عن ربهم وخالقهم، التفنن في تعويد المرأة على أن تبدو سافرة، وعلى أن تقنع نفسها بأن حياتها ومستقبلها مُرتهن بما تبديه من إغراء، وتفنن في عرض التقاسيم البدنية عبر مدارك الأزياء المتجددة، التي ربما كان المشي بها أصعب من مشي على حبل مما بها من ضيق، أو كمشي المجندل بالحديد، ولن تستطيع صعود درجة إلا بكشف ساقيها، والمتحجبة منهن ربما تفننت في تقشيب الحجاب وإحالته إلى وضع أشد فتنة من ثوبها وصورة وجهها، ولطالما فتنت بعض العباءات السود ألبابَ الرجال؛ فكم من عباءة هي في الحقيقة أشد ما تكون إلى عباءة أخرى تسترها؟! وأما الشباب فحدثوا ولا حرج عن تململهم بلباسهم الرجولي، وغدَوا في إشفاق مشين بلباس أهل الفن والمجون، حتى لقد أصبح المرء الغيور يرى من أحوالهم ما يحترق به بصره مرة تلو الأخرى أهكذا زي شباب المسلمين؟! إن أحدنا ليضع كفه على ذقنه ويقرع سنه حيرةً، يُسائل نفسه: لِمَ، ومم، ولأي شيء يستنكف الناس لنداءات الفطرة، وحدود شرعة الله ومنهاجه؟! إن مردَّ ذلك كله إلى إفساد البنت والشاب؛ إذ معظم ممتهني دور التصاميم والأزياء هم من اليهود في عواصم الغرب، فهم بيوت الألبسة ومصمموها، وهم أساتذة التجميل ودكاكينه. بل لَمْ يكتفِ أولئك بعقلاء الجنسَين حتى امتدت مآربهم إلى مَن هُم قبل سن التكليف من صبيان وبنات، فأُشربوا من خلال ملابس الأطفال المنتشرة في المعمورة، والتي لا تمت للحشمة بصِلَة، أشكال وألوان من الضيق تارة، ومن العاري أخرى، ومن القصير الفاضح كرَّات وتارات! هي ملأى بالصور أو بالعبارات الرقيعة، قد لا يفهم جُلَّ اللابسين المراد منها، ولا تسألوا بعد ذلك عن حال الطفل أو الطفلة بعد الكبر، إنَّ كُلّاً منهما لَمْ يُعَوَّد يوماً ما على الستر الشرعي. إن الأب والأم إن كُتِبَ لهما الوعي والحرص بعد ذلك على سترهما سيجدان المرارة والعي في الإقناع به، وللأبوَين نقول: اليدان أوكتا والفم نفخ! وعند سؤال المكابرين منهم يقولون: ماذا نفعل؟! هكذا يلبس الناس، وهكذا يريد الناس، ولَعَمْرُ الله -أيها المسلمون- كم يجلس الغيور الصادق يبحث جاهداً لأطفاله، متسوقاً في كل مجمع، يعز عليه أن يجد المكسي من الثياب، ويعيه طِلابه، فالله المستعان! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 أسباب بيان موضوع اللباس للناس إن هذه المفاهيم والأخطار المدلهمة ينبغي ألا يُفهم إنكار المصلحين لها على أنهم يريدون بها التحجيم أو الإبقاء على القديم من كل وجه؛ بحيث يظن البعض أن المراد هو الإلزام بكل ما كانت تلبسه أمهاتنا ومَن وَلَدْنَهُم، أو آباؤنا ومَن وَلَدُوهم، كلا. إن الشرع لم يلزم بذلك، وإنما منع من كشف العورات، ومن لبس ما يخدش الحياء أو يبرز المفاتن، وترك لنا في الجملة اختيار الزي الذي يلائمنا ويسترنا مهما تجددت صورتُه؛ ولكن علينا ألا نرى الستر عيباً والعفاف عاراً، وحسبنا تذكيراً برءوس غيرنا، ونظراً بعيون عدونا المترمدة. وقد سأل رجل ابن عمر: [[ماذا ألبس من الثياب؟ فقال: ما لا يزدريك فيه السفهاء، ولا يعيبك به الحكماء]] . ثم اعلموا -أيها المسلمون- أننا لو جمعنا ألف شاب، وأجلبنا لهم عشرات الوعاظ ليلقنوهم الصيانة عاماً كاملاً، ثم يُجلب لهم كاسية عارية تترامى مفاتنها في كل اتجاه لَهَدَمَت في ثوانٍ معدودة ما بناه أولئك في عام. فاتقوا الله معاشر المسلمين! والحذار الحذار من الوقوع في فتنة اللباس، والخروج به عن مقصوده ومبتغاه، ولا يغوينكم الشيطان بزخرف من القول والعمل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:32] . بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، أقول ما سمعتم، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان؛ وأستغفر الله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 أسباب تحريم بعض الألبسة الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه. أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- واعلموا أن للباس والزينة شأناً عظيماً في ملة الإسلام، وما جاء في ذلك من الكتاب والسنة ليحل محلاً كبيراً في الأسفار والتصاميم، فقد عقد أهل العلم في كتبهم أبواباً وفصولاً مستقلة تخص اللباس وحده، ومن خلال الاستقراء والتتبع وُجد أن الأسباب الداعية إلى تحريم بعض الألبسة لا تخرج عن واحد مما سيأتي: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 الألبسة الداعية إلى الفتنة فمن ذلك: التحريم بسبب ما يُفضي إليه من فتنة: كظهور عورة المرأة، أو تجسيد جسمها وتقسيمه، أو إخراج العينين، أو الوجه، أو الكفين أو نحو ذلك مما هي مأمورة بستره، عملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59] ، قال ابن كثير رحمه الله: "الجلباب هو: الرداء فوق الخمار". وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [[أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن حاجة أن يغطين وجوههن فوق رءوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة]] . وبهذا يُعلم -أيها المسلمون- أن ما تقوم به جملة من النساء اليوم من تغطية الوجه مع إخراج العينين وما جاورهما من الحواجب وطرف الأنف وشيء من الخدين أن هذا كله خطأ واضح، ومسلك مشين. فيا لَلَّه ماذا أبقت المرأة من جمالها حينئذٍ؟! إنها بمثل هذا ربما سترت القبيح، وأبرزت الحسن، والشارع الحكيم أذن لها بإبراز إحدى العينين لترى بها الطريق، لا أن يراها أهل الطريق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 ألبسة الشهرة والخيلاء وسبب آخر من أسباب التحريم، وهو: ما يكون لأجل الشهرة والتباهي والخيلاء: لقوله صلى الله عليه وسلم: {من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة} رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. وكذا إسبال الثياب وجرها أسفل الكعبين سواءً أكان ذلك خيلاءً أو لم يكن، ولا ينبغي أن يُفَرَّق بين من يُسبل لأجل الخيلاء ومن يسبل بلا خيلاء، والجواب الصحيح في ذلك: هو أن ما أسفل الكعبين إذا لم يكن خيلاء فهو في النار، وأما إذا كان خيلاء فإن العذاب يكون أشد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: {من جرَّ ثوبه خيلاءًَ لم ينظر الله إليه يوم القيامة} رواه الشيخان، وفي رواية: {ما أسفل الكعبين ففي النار} هذا في حق الرجل، وأما في حق المرأة فإنها تسبل ثوبها حتى يغطي قدميها؛ لأن القدمين عورة بالنسبة لها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 ألبسة فيها تشبه بالفجار والكفار وسبب ثالث من أسباب التحريم، وهو: التشبه: كتشبه النساء بالرجال، والرجال بالنساء في اللباس، أو التشبه بالأعاجم وأهل الكفر في زيهم، يقول عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: {رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين مُعطَّرين، فقال: إن هذه ثياب الكفار، فلا تلبسها} رواه مسلم. وفي الصحيحين: أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب لوُلاته: [[وإياكم والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير]] . ومما قاله الفقهاء: يحرم من اللباس ما خالف زي العرب، وأشبه زي الأعاجم وعاداتهم. وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مبيناً لهذه القاعدة العظيمة فيقول: إن المشاركة في الهدي الظاهر تُوْلِف تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهَين، يقود إلى موافقة في الأخلاق والأعمال، فلابس ثياب أهل العلم -مثلاً- يجد في نفسه نوع انضمامٍ إليهم وهكذا بالنسبة لثياب الجند المقاتلة، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى ألا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط. وقولوا مثل ذلك -عباد الله- في مشابهة الفسقة من مغنين وفنانين من أهل الكفر وغيرهم ممن ليسو على طريق الحق. فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن الواجب والمسئولية على كل عاتقٍ نصيبه منها، من ولاة وعلماء ودعاة وأولياء أمور الأسر، كما أن على التجار مسئولية عُظمى تجاه ذلك؛ إذ عليهم أن يوجدوا البديل المباح، وأن يكفوا عن بيع ما يخدش الحياء، أو يكشف العورات، وليحذروا مغبة فعلهم، وليعلموا أن عليهم إثم ما يبيعونه، وإثم من يلبسه إلى قيام الساعة، من غير أن ينقص من أوزار من يلبسه شيء، وليحذروا الوقوع عن أن يكونوا بفعلهم هذا ممن يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأنهم مسئولون عن أموالهم من أين اكتسبوها وفيمَ أنفقوها؟ اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم، ولا بلاء، ولا غرق. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 القلق أسبابه وعلاجه القلق مرض عضال، وداء أصاب الشيوخ والشباب والأطفال، أسبابه كثيرة، وعلاجه سهل يسير على من يسره الله عليه، فأسبابه تكمن في البعد عن الله والتعلق بغيره وغير ذلك مما هو راجع إليه، وأما علاجه، فالتعلق بالله واللجوء إليه ودوام ذكره جل وعلا، والحفاظ على الصلوات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 1 مقدمة عن القلق وخطره الحمد لله ولي الصالحين، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، خلق فسوى، وقدَّر فهدى، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله وخيرته من خلقه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فعليه من الله أزكى صلاة وأتم تسليم، وعلى آله وأصحابه ومن سار على ملته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فبادئ ذي بدء أوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه في السر والعلن، والمنشط والمكره، فما خاب من اتقاه، ولا أفلح من قلاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29] . أيها الناس! البال الرخي، والنفس الرضية، والصدر المنشرح، مطالب جليلة تصبوا إليها أفئدة بني آدم، وتروم نوالها كل نفسٍ لم تكتنفها دواعي الخذلان، أو مكابرة العاجز وبطر المستنكف، والمرء في هذه الحياة ما دام ذا روحٍ يقلبها فهو يعيش على أمرٍ قد قدر، وحينما يشب عن الطوق بعد نضارة الصبا ينهج في البحث عن الهنا لحياته نهجاً مستتباً، يرج نفسه رجاً شديداً، يظن أنه بين الرياحين السرمدية، يتهادى في دروبها كيف ما يحلو له، لا يذعره شيء حتى يبلغ نهايته المكتوبة، دون أن يُفكِّر هُنيهة أنَّ من عاش لم يخل من المصيبة، وقلَّما ينفك عن عجيبة، فيشاء الله غير ما يشاء هو، ويقدر غير ما قدر هو، وتخيب ظنون المرء في جُلِّ ما كان يؤمل، وتنقلب آحادها رأساً على عقب، متخطفاً عن السير إما في أوائله أو أواسطه، بله بلوغ نهايته المشرئب إليها، ثم يكون ما يكون، ولقد صدق من قال: ما عند يومي ثقة لي بغدِ لا بد من دار خلود الأبدِ صح عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً} لقد صدق رسول الله -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، نعم! لقد صدق، فأين هم الذواقون لطعم الإيمان؟ وأين في الذواقين من يظهر أثر الذوق لهذا الطعم في نفسه وروحه وسلوكه بل وحياته كلها؟ ألا وإن حملة الأدوية التي ينفعون بها ولا ينتفعون منها كثرة كاثرة على هذه البسيطة، وهم: كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول {ورب مبلغٍ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 2 علاقة القلق بضعف الإيمان والحق -عباد الله- أن الإيمان والسعادة لا يضيرهما شيءٌ البتة إذا كان بعض حملتها ومنسوبيها أول الناس خروجاً عليها، ونأياً عنها، وإلا فأين الذين لم يعد منهم في حياته فاقد السعادة، ملتاثاً بلوعة القلق والاكتئاب، أين صاحب المنصب والشرف، الذي لم يعد قلقاً في أوج تكأته وسلطانه، يتوجس فقده كل لحظة عُرياً من خلاله عن معاني الإحساس بطعمه، أو استتمام رائحته المركبة؟! وأين الأبوان اللذان لم يعد أحدهما يخشى على أولاده القوارع بالمدلهمات في كسوة هذا، وإعفاف تلك، وتوظيف هذه، وتزويج ذاك؟ بل أين وأين وأين؟ إنه عصرٌ موحشٌ على كثرة مؤنسيه، مقلقٌ على كثرة مهرجيه ومروجيه. إنه مليء بكل مسببات القلق لفاقدي الهدف، ومعصوبي البصائر، الذين يتخبطون كالعشراء، وجل من لم يصب بمثل هذا السيل الطام فلا أقل من أن يناله رشاشه المتناثر هنا أو هناك. بالطبع -أيها المسلم- أنا وأنت، وهو وهي، وغيرنا جميعاً، نحن أعضاء في هذا المجتمع الفسيح، كل فردٍ منا عرضة للقلق أو الغضب، مثلما هو عرضة للسعادة أو الهناء، الكل يريد السعادة، ولكن لا أحد يريد أن يرى نفسه قلقاً أو كئيبا، وإن كان ثَمَّ وقوعٌ في حمأة القلق لفردٍ ما، فقد لا يُحسن التصرف أمام هذه البلية العظمى؛ إما عن جهل منه بطرق الخلاص والنجاة من هذا المأزق الحرج، وإما عن سلوك طُرقٍ وهمية مصحوبةٍ بغفلة، ووثبة يحسنان له القبيح، فيظن جاهلاً أنه مكمن الدواء، وكان كالمتسعسل إذا ثمل، وإما أن يكون المتصرف مع هذا الداء يعلم خطورته وسحق هوته، ولكنه يصر على البقاء فيه، أو يتعمد بتقطيع ألمه بكيوفات مهدئة أياً كانت ذوائبها مما لا يقرها الشارع الحكيم، ويا لله! ويا لله! إذا كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ أيها المسلمون! إنَّ من الإنصاف التام ألا يهون من شأن هذه القضية، وألا نجعل الإحساس بالقلق جهلاً منا أو مكابرة حكراً على ذوي الضعف وملتحفي المسغبة والإملاق، ولا غرو فيما أقول عباد الله، فكم رأينا كبراء قلقين، وأغنياء مضطربين؟! إذ من الناس من يقلق من فراغ بطنه إبَّان إملاقه، والبعض الآخر ربما قلق بسبب التخمة التي تحويها بطنه إبَّان إغداقه، ألا وإن قلقاً ما في نفس فقير مدقع ليس بأقل في الخطورة من قلقٍ ما في نفسٍ ثري طائش. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 أضرار القلق على المجتمع المسلم وأقول مثل ذلك في الصبي والشيخ والشاب، والذكر والأنثى، والصحيح والسقيم قلقٌ في المال، وفزعٌ من المستقبل المجهول، وشعورٌ بالوهن عن حمل المتاعب، وميل الإنسان إلى التوجس حتى من أبعد الأمور احتمالاً، والتي سببت من خلاله الحضارة المادية الحديثة سوء الظن بالله، وزعزعة الثقة به وبحكمته وعدله إلا من رحم الله، مما هو في الحقيقة سرٌ ولا شك، في قيام الكهانة والدجل، والوقوف على أعتاب العرَّافين والمشعوذين بحثاً عن حلٍّ لمشكلاتٍ استيئسوا هم من حلها، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولسان حالهم يقول: وداوني بالتي كانت هي الداء. وهو كذلك! سر لقيام ما يُسمَّى شركات التأمين، وتغلغل فروعها، واستثمان ورمها في أرجاء الدنيا العامة، وكأنهم موكلون في حماية الناس من قدر الله جلَّ وعلا، فاستحوذت تلك الشركات على قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، مستغلة بذلك خشية الخوافين على أعمارهم حيناً، وعلى أموالهم وممتلكاتهم حيناً آخر، والذي يُساورهم القلق من أجلها، والمستنكر هنا -عباد الله- استباحة التأمين لدى الجماهير من الناس على كافة أصقاعهم، في حين أن جمهور أهل العلم على تحريمها والمنع منها، لأدلةٍ ومسوغاتٍ ليس هذا محل بسطها. ناهيكم -أيها المسلمون- عن الشين والعيب في المتاجرة بالذعر الناشئ عن خور اليقين، والفرث الذي استحوذ على ضعاف النفوس، عندما يدفعهم الشك وقلة الإيمان بقضاء الله وقدره إلى ارتقاب الموت أو الخسار كامناً لهم في كل أفق، فتفزعهم الهمسة، وتؤلمهم اللمسة، ولا يعرف السم إلا من كابده، وما راءٍ للسم كمن شرب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 الأطفال أكثر الفئات قلقا ً أيها المسلمون! لقد أكدَّت الدراسات الميدانية الحديثة على مستوى العلوم التطبيقية والطب النفسي، أن القلق والاكتئاب ينتشران بصورة فعالة بين الأطفال، لا سيما في دول الغرب أو دولٍ تسير في ركابه، وذلك على حدٍ سواء بين أطفال الفقراء وأطفال الأغنياء، بنسبة مفزعة تصل إلى ربع المائة، وأن أولئك المصابين لديهم الاستعداد المبكر لتعاطي المخدرات والكحول أكثر بمرات من غيرهم، كما أكدت الدراسات على أن مراهقي الإناث أكثر إصابة بالقلق من مراهقي الذكور، وأكدت بعض جولات الاستطلاع أن الخوف من الفشل والتسريح والبطالة من أهم أسباب القلق الذي يُسيطر على العاملين بصورة عامة، ويظهر أثر ذلك على صورة اضطراب في الدورة الدموية، وضعف المقدرة على التركيز، وخفقان القلب، وقرحة المعدة، وأرقٍ واكتئابٍ دائمين. ولقد أكَّد خبراء متخصصون في مثل هذه الدراسات، أنهم استطلعوا ما يقارب المائتين من رجال الأعمال، أعمارهم متجانسة، فاتضح أن أكثر من ثلثهم يُعانون واحداً من ثلاثة أمراض كلها ناشئة عن القلق، وهي: اضطراب القلب، وقرحة المعدة، وضغط الدم. وقد قالوا عن هذا القلق: إنه شعورٌ عاطفي، يعتري الإنسان، يمنعه من التمتع بحالة الاستقرار النفسي والبدني، بحيث يفقد أمرين عظيمين من أمور الاستقرار، وهما: الصبر، والسكينة، ويسميه بعض علماء القلوب اكتئاباً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 أسباب القلق عباد الله! للقلق المتفتق بين ظهرانينا أسباب كثيرة يطول حصرها، والناس فيها بين مقل ومكثر، ولكن حاصلها وجماعها لا يخرج في الغالب عما سنطرحه في هذه العجالة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 البعد عن الله فأولها بل وحمأة النكد، ونواة القلق: ألا وهو البعد عن الله جلَّ وعلا، بحيث يقصر المرء في طاعة ربه سبحانه، إذ قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وخمول الذكر، والوحشة بين العبد وربه، ومنع إجابة الدعاء، ومحق البركة في الرزق والعمر، وقسوة القلب؛ تتولد هذه كلها من معصية الله، ومن البعد عن طاعته وذكره، فإن تولَّى الله العبد، ويسَّر له سُبل الطاعة والهداية، انقهرت عنه هذه كلها، وإن تخلَّى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة والعياذ بالله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من تعلَّق شيئاً أوكل إليه} رواه أحمد والترمذي. يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] . ويقول سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125] . وقال سبحانه عن الجن: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} [الجن:13] . ويقول: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [الجن:17] أي: مشقة لا راحة معها. يقول أحد السلف: "مساكين أهل الدنيا! خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، فسُئِلَ عن ذلك؟ فقال: معرفة الله ومحبته، والشوق إلى لقائه وعبادته". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 التصور المقلوب للمال وسببٌ آخر من أسباب القلق يكمن في تصورٍ مقلوب للمال وحقيقته. إذ فَهِمَ منه أقوامٌ أنه مصدر السعادة وزوال القلق، فحدثوا ولا حرج عن هيام البعض به من أثرياء مترفين أضعفوا به خلقهم ودينهم: {التجار فجار، إلا من بر وصدق} هكذا صح الخبر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فاستخفَّ بعضهم بقواعد الإيمان، فأكل بماله كما تأكل الأنعام، وشرب كما تشرب الهيم، معاملاتهم وتجاراتهم وعلائقهم بالناس إنما تقوم على أصولٍ من المعدة لا من الخلق، وعلى استشمام رائحة الاقتيات لا رائحة الإيمان وحسن السجايا، عارية نفوسهم من صفاء الروح والتراحم بين بني البشر، فكأنهم يشترون القلق بم الهم ، ويبيعون الطمأنينة كما يُباع الحقير في أسواق النخاسين، وما علموا أن السعادة الحقة ليست في جمع المال فحسب، إذ كم من غني وجد، لكنه ما وجد إلا عكس ما كان قد وجد، ولعمر الله! إن التقي هو السعيد. ويزداد الأمر إسعاداً حينما يكون المال بيد العبد المسلم على نحو ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {نعم المال الصالح للرجل الصالح} أين هذا مما يتردد كرَّات ومرات عبر الصحافة وأشباهها عن دراسات تُؤكد أن من الحقائق المسلمة أنه عندما تهبط قيمة الأسهم فيما يُسمى "البورصة" ترتفع نسبة السكر بين المضاربين؟ فأي علاجٍ -إذاً- أنجى من قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن هذا المال خضر حلوٌ، من أخذه بسخاوة نفسٍ بُورِك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفسٍ لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع} رواه أبو داود. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 الهم وسببٌ ثالث من أسباب القلق يقال له: الهم. نعم عباد الله الهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني: الحزن، والشدة، والإذابة، الهم الذي يُحطِّم العمالقة، ويذبل الوجوه الطافحة بالحياة النظرة، الهم الذي يخترم الجسيم نحافة، ويشيب ناصية الصبي ويهرم. إن سوء الإحسان في مواجهة الفتن والبلايا والرزايا، بحيث يتغلب الضجر على الصبر، ويفقد العقل توازنه واعتداله، لهو منبت الهم ونقعه، وإن الكثيرين في الواقع يتبرمون بالزوابع التي تحيط بهم، مع أن المتاعب والآلام تربة خصبة تنبت على جوانبها بذور الرجولة، وما تفتقت مواهب العظماء إلا وسط ركامٍ من المشقات والجهود المضنية، ولم يكتفوا بإصرارٍ مؤقت يخدع المرء به نفسه، فيقول: أنا راضٍ، ونفسه طافحةً بالضيق والتقزز، فينشأ له من طبعه الجزوع ما يبغض إليه الصبر، ويجعله في حلقه مُرَّ المذاق، فيتنجنج ويضيق، ويحاول جاهداً أن يخرج من حالته على نكظ. إذ أن عُشَّاق الصخب، ومدمني الشكوى، هم أفشل الناس في إشراب حياتهم معنى الطمأنينة، حيث يطوفون حولها معولين منتحين، ولم يدعوا ألسنتهم وقلوبهم تلعق ما في واقعهم المر من غضاضة. اشتكى عروة بن الزبير الآكلة في رجله فقطعوها من ركبته وهو صامتٌ لم يئن، وفي ليلته تلك سقط ولدٌ له من سطحٍ فمات، فقال عروة: [[اللهم لك الحمد كانوا سبعة من الولد فأخذت واحداً وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت ثلاثة، فإن كنت أخذت فلقد أعطيت، ولئن كنت قد ابتليت لقد عافيت]] . لو رجع المرء لنفسه قليلاً لاتهم مشاعره الثائرة حيال ما ينزل به، فمن يدري رُبَّ ضارة نافعة، أو ربما صحت الأجسام بالعلل، أو لرب محنةٍ في طيها منحة، وكم بسمة كانت وليدة غصة، وكل إنسانٍ يصيبه من الكروب ما يهون معه ما سلف من الخطوب، وكم من زمنٍ بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه، ولم يبكِ الباكون في مفقودٍ مثل محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومن ذكر مُصيبة لا يسلو بها فليذكر مصاب الأمة بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، فما فقد الماضون مثل محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولا مثله حتى القيامة يفقد: وهل عدلت يوماً رزية هالكٍ رزية يومٍ مات فيها محمد ألا إن مكاره الدنيا ضربان: ضربٌ فيه حيلة؛ فالاضطراب داؤه، وضربٌ لا حيلة فيه فالاصطبار شفاؤه، والحكمة البليغة تقول: الحيلة فيما لا حيلة فيه الصبر. وعواقب الأمور تتشابه في الغيوب، فرب محبوبٍ في مكروه، ومكروه في محبوب، وكم مغبوطٍ بنعمة هي داؤه، ومرحومٍ من داءٍ فيه شفاؤه، ورب خيرٍ من شر، ونفعٍ من ضر: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] . مرَّ إبراهيم بن أدهم على رجلٍ قلقٍ مهموم، فقال له: إني سائلك عن ثلاثة فأجبني، قال: أيجري في هذا الكون شيءٌ لا يُريده الله؟ أو ينقص من رزقك شيءٌ قدره الله؟ أو ينقص من أجلك لحظة كتبها الله؟ فقال الرجل: لا. قال إبراهيم: فعلام القلق والهم إذاً؟! الهم -أيها المسلمون- جندٌ من جنود الله، يُسلطه على من يشاء من عباده بعدله وحكمته سبحانه: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4] . سُئِلَ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[من أشد جند الله؟ قال علي: الجبال، والجبال يقطعها الحديد فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد فالنار أقوى، والماء يُطفئ النار فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب فالسحاب أقوى، والإنسان يتكفأ الريح بيده وثوبه فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان فالنوم أقوى، والهم يغلب النوم فأقوى جند الله هو الهم يُسلطه على من يشاء من عباده]] . دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يومٍ فإذا هو برجلٍ من الأنصار يُقال له أبو أمامة، فقال: {مالي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني، وديونٌ يا رسول الله! قال: أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همَّك وقضى عنك دينك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي، وقضى عني ديني} رواه أبو داود في سننه. بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول ما سمعتم، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 علاج القلق الحمد لله وحده كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد البشر، والشافع المشفع في المحشر، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء الغرر. أما بعد: فما أكثر العواطف التي تهب علينا، وتملأ آفاقنا بالغيوم المرعدة! وكم يواجه المرء منا بما يُكدِّره ويُنغِّص عليه ما يشتهي، بحلول القلق والاضطراب النفسي في شخصه، حتى تجتمع عليه السباع الأربعة التي تهد البدن وتوهنه، وهي: الهم والحزن والأرق والسهر، وقد صح الخبر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم: {ما من داءٍ إلا وله شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله} بيد أن الكثيرين ممن يُعالجون القلق هم في الحقيقة مظهرون للعلل النفسية، والجُلَّ منهم نجحوا في الهدم ولم ينجحوا في البناء، وقطعوا الطريق على أُناسٍ باحثين عن الشفاء ففشلوا في إرشاد نفسٍ قلقة، وللطب النفسي العري عن شريعة الله الحظ الأوفر في إعماق هذه الهوة، حيث لجأ جمهورٌ منهم في علاج القلق إلى ما يسمى: بالمعازف والموسيقى، والتي نقل إجماع أهل العلم على تحريمها، أو بما يسمى التنويم المغناطيسي؛ والذي يفتح مجالاً واسعاً لممتهنيه في أن يقلبوا الحقائق، أو يمتطوا من خلاله أهواءهم في تنفيذ مآرب بدنية، حتى امتدت إلى ما يسمى بالروحية الحديثة لمجالس تحرير الأرواح؛ وهي ضربٌ من الكهانة والشعوذة، والقلب على الرعاع، وفي كلتا الحالين هم يشرحون الصدور بتغييب الوعي، فكأنما يلهث المرء وراء سرابٍ بقيعة كلما ازداد منه قرباً ازداد السراب منه بُعداً وتخييلاً. حرصوا على تطبيب الزكام، والنتيجة الحاصلة استفحال الجذام، وإذا كان الأمر كذلك ففي ما شرعه الله من الأدوية وفيما أباحه منها غنية تامة في علاج الأدواء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 القرآن الكريم والأدوية الناجعة كثيرة جداً، من أشهرها: القرآن الكريم -كلام الله جلَّ وعلا- فيه شفاء للناس من أمراض القلوب والأبدان. وقد دلت النصوص الشرعية على تخصيص بعض الآيات للرقية الشرعية، كسورة الفاتحة والإخلاص والمعوذتين، ولو رقى المرء نفسه بآياتٍ غيرها من القرآن فلا بأس. ولقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إذا اشتدت عليه الأمور قرأ الآيات التي فيها ذكر السكينة، يقول ابن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام: سمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تأججت العقول عن حملها من محاربة أرواح شيطانية، ظهرت إذ ذاك في حال ضعف القوة، قال: فلما اشتد عليَّ الأمر -والقول لـ شيخ الإسلام - قلت لأقاربي ومن حولي: اقرءوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال وجلست وما بي قلبه. قال ابن القيم رحمه الله: وأنا جربت أيضاً قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه، فرأيت لها تأثيراً عظيماً في سكونه وطمأنينته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 11 الذكر والصلاة ومن الأدوية الناجعة لداء القلق عباد الله: الذكر والصلاة. ذكر الله على كل حال، تحصل به الطمأنينة ويزول القلق: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] . يقول ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون السمك إذا فارق الماء؟! فيا لله أيها المسلمون! أي وصية أعظم وأجدى في مثل هذه الحال من وصية الله لعبده وخليله صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر:97] {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:98-99] ؟! ولأجل ذا صح عنه صلى الله عليه وسلم: {أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة} رواه أحمد وأبو داود، وقال كما عند النسائي وأحمد: {وجُعِلت قرة عيني في الصلاة} . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همٍ فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب} رواه أبو داود والنسائي. يقول الحسن البصري رحمه الله: [[تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وفي قراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مُغلق]] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم فرج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الرحمين. اللهم ما سألناك من خيرٍ فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا من الخيرات فبلغنا. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 12 الحزن والاكتئاب الداء والدواء الحزن والاكتئاب ظاهرة عمت وطمت في العالم أجمع، والعلامات التي تظهر على المصاب بالحزن والاكتئاب هي اختفاء البشاشة والابتسامة من على وجهه، والإصابة بالأرق وقلة النوم، وعدم الانشراح، وانفعالات إلخ. وأسباب هذا المرض كثيرة أهمها: البعد عن الله جل وعلا، وأسباب ستجدها في هذه المادة مع العلاج الناجع الذي أخذ من دين الإسلام. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1 وقفات مع ظاهرة الحزن والاكتئاب الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، الذي أخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، سبحانه هو أمات وأحيا، وأضحك وأبكى، أنزل علينا الكتاب والفرقان، ليهلك من هلك عن بينه، ويحيا من حيَّ عن بينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى الله على بصيرة هو ومن اتبعه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على طريقهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإن فيها العز بعد الذل، والأمن بعد الخوف، والنجاة يوم الورود: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71-72] . عباد الله: إن من يتحسس واقع الناس بعامة، وواقع المسلمين على وجه الخصوص، في زمن كثرت فيه المعارف وقل فيه العارف، زمن بلغت آليته أوج تقدمها، ونالت الحاضرة المادية فيه شأواً بالغاً، زمن هو غاية في السرعة المهولة، سرعة اقتصادية، وأخرى طبية، وثالثة عسكرية ومعرفية. إن من يتحسس هذا الواقع على وجه الإنصاف والوضوح، فسيمثل أمامه أن هذه المسارعة بقضها وقضيضها، لم تكن كفيلة بإيجاد الإنسان الواعي المدرك لحقيقة وجوده على هذه البسيطة. نعم عباد الله هذه هي الحقيقة مهما امتدت حبال هذا التقدم العصري، وإلا فمن يخبرنا عن سر انتشار الجهل وتضلعه في عصر تقدم المعلومات؟ وما هو سر شيوع الفقر والمسكنة في عصر الكنوز والغنى؟ وما سر سيطرة البطالة في عصر الإنتاج والصناعة؟ وقولوا مثل ذلك متسائلين: ما هو سر وصف بعض الباحثين في الشئون الاجتماعية على المستوى العالمي هذا العصر بعصر الحزن والاكتئاب، بعد أن أطلق على فترة قريبة منه سابقة عصر القلق؟ إننا في الحقيقة لسنا بحاجة إلى مزيد أدلة تؤكد ما يكابده هذا العصر من تغلغل هذه الظاهرة واستشرائها. الحزن والاكتئاب -عباد الله- هما آفة العصر المدمرة، وهما أوسع الآفات النفسية انتشاراً في العالم، وأكثرها لدى الناس شكاية إلا ما شاء الله، وهي لا تزال في ازدياد ملحوظ كلما ازدادت الإصابة بها، ثم إن المترقب لآخر الإحصائيات الصحية العالمية، ليجد أن ما يقارب (10%) من سكان العالم يعانون من آفة الحزن والاكتئاب بما في ذلكم بلاد المسلمين، وهذا يعني بداهة: وجود مئات الملايين من البشر في معاناة مع هذا الواقع المرير، وقد أسفرت هذه الإحصاءات أيضاً عن أن الأجيال التي ولدت في هذه العقود الأخيرة يبدأ عندها هذا الحزن والاكتئاب في سن أصغر وبمعدلات أكبر، نظراً للعوامل الاجتماعية التي تخللت تلك الجسوم بسبب تهلهلها، وضياع الأثر البيئي الناضج فيها، كما وجد أن هذا الداء ينتشر بشكل عام بين الإناث أكثر من انتشاره بين الذكور، بنسبة تصل إلى الضعف تقريباً وذلك بسبب فقدان الوظيفة الحقيقية للمرأة، وتحميلها ما لا تطيقه، من الأعباء الحياتية، والتي أودت بها إلى ترك بيتها، والزج بطفلها بين أحضان الخادمات، وعقول المربيات الأجنبيات، بل لقد بلغت حالات الانتحار بسبب الحزن والاكتئاب الشديد ما يزيد على ثمانمائة ألف شخص في العالم كل عام، ناهيكم عن كون (80%) من المصابين به، لا يذهبون إلى الأطباء ولا يكشفون عن حقيقة حالهم، وهنا مكمن العجب. إن هذه الظاهرة -عباد الله- ليست وليدة هذا العصر، ولا هي من الأدواء التي لا يعرف لها ما يقاومها، أو يزيل عمق وجدها في المجتمعات، كلا. بل هي ظاهرة مرهونة بمدى انغماس الكثرة الكاثرة في متاع الحياة الدنيا، وسيطرة النظرة المادية الصرفة، ثم إن تفاوت المجتمعات في درجات هذه الظاهرة، ليكمن في مدى إيمانها بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم والآخر، والقدر خيره وشره، ثم في استقامة السلوك الاجتماعي، بأمنه وإعلامه وتعليمه، واستقرار العدل والمساواة والمحبة، والبعد عن الأثرة، وحب الذات، وهلم جرا. لقد سيطرت هذه الظاهرة، سيطرة مزدوجة على اهتمامات وأبحاث الكاتبين عنها، من بحاثة شرعيين، وأطباء نفسيين، وآخرين من صحفيين نقلة، ولربما تناولتها الأقلام باللت والعجن بين الحين والآخر، غير أن هذه المطارحات على تنوعها واختلاف منطلقاتها، لم توفق في أن تجتمع تحت مظلة واحدة، تجمع في علاج هذه الظاهرة، بين الأصالة والمعاصرة، بين الطب الشرعي الروحاني وبين الطب النفسي الإكلينيكي الموثق، والذي يقوم عليه متخصصون من ذوي الأمانة والغيرة، ممن يخضعون دراساتهم في الطب النفسي للشريعة الغراء بعيداً عن النظريات المادية البحتة المتجردة عن معاني الروح والسمو. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 2 معنى الحزن والاكتئاب عباد الله: الحزن في لغة العرب: هو الاغتمام، يقولون: حزن الرجل إذا اغتم واشتد همه، وهذا الحزن، يعد أحد صور العاطفة، والمشاعر الإنسانية الفطرية التي تسيطر على الإنسان، فإذا ما اشتدت عليه اشتداداً تتغير به نفسه وتنكسر، فإنه حينئذٍ يسمى اكتئاباً، وهو أيضاً إحساس عاطفي، يعد قمة الحزن وغايته، حيث يجعل الفرد نهباً لشعوره الداخلي، الذي يورث الفشل وخيبة الأمل، واختفاء الهشاشة والبشاشة، والحبور والانشراح، مع انفعالات مزدوجة بالآهات والزفرات، حتى تعزف النفس بسبب ذلك عن بذل أي نشاط حيوي، بل ولربما عزفت عن الحياة بالكلية، ليكون الانتحار هو الحل الوحيد للمصاب بهذه الأزمة -والعياذ بالله- في حين أنه لو سلم من قتل نفسه، والقضاء عليها، فلا أقل من أن تصيبه، لوثة بعض الأمراض المصاحبة لها، كأمثال القرحة، وألم المفاصل، والأرق والصداع وغير ذلك، وقد قال ابن القيم رحمه الله: أربعة تهدم البدن: الهم، والحزن، والجوع، والسهر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 العلاج الروحي للحزن والاكتئاب إن أهمية التطبب النفسي من خلال عرض الفرص العلاجية عبر جوانب إيمانية من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لعلة الحزن والاكتئاب؛ لتكمن في كونها البديل الأفضل والأكمل والأسلم لمئات من أنواع الأدوية والعقاقير المهدئة والكيوفات المؤقتة، التي قد يتعود عليها الجسم، فتتحول مرضاً أفتك من الحزن والاكتئاب ذاته. ثم إن العلاج الشرعي الروحاني على وجه العموم قد يفوق العلاج السريري لهذه الظاهرة الفتاكة بمرات كثيرة. وإذا كان هناك برامج في الطب النفسي تشير أن في السباحة المائية، ومزاولة الأعمال المنزلية بصفة متكررة، علاج لهذه الأزمة، فإننا معاشر المسلمين، لا يمكن أن نتصور كون الفرد سابحاً عاملاً في منزله ليلاً ونهاراً، ولكن يمكن لنا أن نتصور هذا الفرد، متعبداً مسبحاً مستغفراً، ليله ونهاره، قيامه وقعوده، وعلى جنبه، ولا جرم، فقد وصف الله أولي الألباب بقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] ومن هنا يأتي تفاضل الأدوية الشرعية الروحانية على المادية السريرية، رغم أهميتها، وعدم إغفال دورها الفعال في بعض الأحاين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 أسباب الحزن والاكتئاب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 العقاقير الطبية وبعد يا رعاكم الله! فلسائل أن يسأل ويقول: قد عرفنا صورة هذه الأزمة، ولكن ما أسبابها الظاهرة؟ وما علاجها المرجو؟ فنقول: إن هناك مسببات طبية بحتة، لا يمكن تجاهلها إزاء المصابين بالحزن والاكتئاب، ومن أشهر هذه الأسباب: كثرة تعاطي الأدوية والعقاقير التي تؤدي بدورها إلى تغيرات كيميائية في الدماغ، الناتج عنها الإصابة بالاكتئاب نفسه، ومن ذلك أيضاً: تعاطي المخدرات والمسكرات، المؤدية إلى الإدمان المروع، والإحساس بأن الحياة لا شيء بدون معاقرتها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 البعد عن الله ومن ذلك العوامل الوراثية، وبعض الأمراض العضوية، ولكن الذي يعنينا هنا من على هذا المنبر، هي تلكم الأسباب التي تناولتها الشريعة الغراء، من خلال ذمها، والتحذير منها في غير ما آية أو حديث لكافة شئون الدين والدنيا، فقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أن خواء القلب من ذكر الله ويبس اللسان منه؛ أمارة من آمارات الضيق والنكد والحزن وكسف البال، فقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] . وقد جاء في السنة، ما يدل على أن مواقعة المعاصي والاستهانة بها سبب رئيس من أسباب حلول هذا البلاء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها من العمل؛ ابتلاه الله عزَّ وجلَّ بالحزن ليكفرها عنه} رواه أحمد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 خواء الأفئدة من الإيمان بالله ومن أسباب ذلك أيضاً: قلق كثير من الناس، وخواء أفئدتهم من الإيمان بالله، وبقضائه وقدره، وفزعهم من المستقبل المجهول، والشعور بالوهن عن حمل المصائب وتحمل المشاق، فتجدون أمثال هؤلاء قوماً يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولَّوا إليه وهم يجمحون. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 الشيطان يسبب الاكتئاب والحزن ومن أسباب ذلك عباد الله: إجلاب الشيطان بخيله ورجله على ابن آدم، فيوسوس إليه ويخنس، ويقذف في قلبه الحزن والكآبة، من خلال تشويشه بكم هائل من الأحلام والرؤى الشيطانية في المنام، حتى تصبح في حياة الفرد هاجساً مقلقاً عند كل غمضة عين، ولذلك يصاب المكتئب بالأرق المزمن وقلة النوم، وقد صح عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر نوعاً من الرؤى وأنها تكون تحزيناً من الشيطان يحزن بها ابن آدم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 الديون وسبب آخر من أسباب هذه الأزمة يبرز من خلال كثرة الديون، والحمالات المالية، مع العجز والكسل عن إيفائها، أو الجبن والبخل الذي يصيب المرء حينما يبتلى بالفرق السعري، ومما يدل على أن هذا الأمر يعد أساساً في حدوث مثل هذه الظاهرة، ما رواه أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم: {دخل المسجد ذات يوم، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة فقال: يا أبا أمامة! مالي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله! قال: أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته، أذهب الله همك وقضى عنك دينك، قال: بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي، وقضى عني ديني} . هذه بعض الأسباب لا كلها، وقد رأينا صلتها الوثيقة بما جاء التحذير عنه في ملتنا السمحة، ومنهاجنا الأغر، في حين أن جماع هذه الأسباب: هو البعد عن هداية الله، والاستقامة على طريقه، والتعلق بالأسباب الدنيوية، بعيداً عن مسببها سبحانه، ومن تعلق شيئاً فقد وكل إليه، ومن وكل إلى غير الله فقد وكل إلى ضيعة وخراب: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125] . قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 علاج الحزن والاكتئاب الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فيا أيها الناس: من باب أن نوجد شيئاً من التكامل، ولو كان مقتضباً حول الحديث عن ظاهرة الحزن والاكتئاب، فإنه من اللازم لنا أن نشير بلمحة سريعة إلى أنجع الأدوية الشرعية الروحانية، والتي لها أثر فعال من خلال نصوص الشارع والواقع المجرب، حتى من أخصائي الطب النفسي أنفسهم، ناهيكم عما بسطه أطباء القلوب وصيارفته، من علماء إسلاميين، هم قطب الرحى، والقدح المعلى في هذا المضمار. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 العمل بأوامر الله فأول هذه الأدوية مكانة: هو قيام الأمة في مجموعها بما فرض الله عليها؛ من الجهاد في سبيل الله والدعوة إليه، والحذر من متاع الدنيا وزينتها، فبمثل ذلك يكون الانشراح والطمأنينة، ويزول الضيق والضنك، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم ذلاً فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم} رواه أحمد. وأخرج الطبراني مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {عليكم بالجهاد فإنه باب من أبواب الجنة، يدفع الله به عن النفوس الهم والغم} ، ولقد صدق الله إذ يقول: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 12 الرضا بالقضاء والقدر ودواء آخر للحزن والاكتئاب عباد الله: يكمن في الموقف الصحيح مع القضاء والقدر، وبلوغ منزلة إيمان العبد؛ بأن {ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه} وأن الأمور بيد الله مقاديرها، فليس يأتيه منهيها ولا يقصر عنه مأمورها، وأن الأرزاق مقسومة والآجال محتومة، وأن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فالمرء يتوكل على ربه دون توتر ولا ريبة ولا قلق، فمثل هذا يستقبل الدنيا بشجاعة ويقين، ولسان حاله يقول، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر ومن الأدوية عباد الله: تحقيق الرضا عن الله سبحانه، إذ هو المحك أمام العبد، فمن قلّ رضاه عن الله صار مرتعاً للأوهام والأحزان والأدواء، وقد سئل الحسن البصري رحمه الله: من أين أوتي هذا الخَلْق؟ فقال: من قلة الرضا عن الله. ونقل أبو حاتم البستي عن بعض السلف قوله: لا أعلم درجة أشرف ولا أرفع من الرضا، وهو رأس المحبة، ولذلك دعا به زكريا لولده فقال: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم:6] . والرضا عن الله لا يكون إلا باستحضار العبد لحكمة الله في الأقدار، وأنه لا يعطي ولا يمنع إلا لحكمة بالغة، مما يهون على المرء ما يلاقيه من المصائب والأقدار المؤلمة، بل حتى في حال الفرح كما قال سليمان عليه السلام: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] ، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم حين وفاة ابنه إبراهيم: {تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، ولولا أنه وعد صادق وموعود جامع وأن الآخر منا يتبع الأول، لوجدنا عليك يا إبراهيم وجداً، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون} رواه البيهقي وابن ماجة، وأصله في الصحيحين، فهو صلى الله عليه وسلم يعني بذلك: لولا أنه يعلم حكمة الله في قبضه إليه، لحزن عليه حزناً شديداً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 13 الإكثار من ذكر الله والصلاة ومن الأدوية أيضاً: كثرة التسبيح، والسجود، والعبادة، عملاً بقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:97-99] . وقد {كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة} وكان يقول صلوات الله وسلامه عليه: {من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب} . ومن الأدوية كذلك: ما يسمى بالتلبينة؛ وهي طعام يصنع من حساء من دقيق أو نخالة، ويجعل فيه عسل أو لبن، أو كلاهما، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن التلبينة تجم فؤاد المريض، وتذهب ببعض الحزن} وقوله صلى الله عليه وسلم: {تجم فؤاد المريض} أي: تريحه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 14 الدعاء ثم نختم -أيها المسلمون هذه الأدوية- بوصية النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أحمد في مسنده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما قال عبد قط إذا أصابه هم وحزن: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله عز وجل همه، وأبدله مكان حزنه فرحاً، قالوا: يا رسول الله! ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات، قال: أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن} . فهذه بعض الأدوية الناجعة، وهي شذرات وقطرات، مفادها: تشخيص هذه الظاهرة والتفكير بها، فالجزء دليل على الكل، ولا حول ولا قوة لنا إلا بالله. اللهم صلَّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره يا سميع الدعاء. اللهم وآت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن الهم والحزن، ومن غلبة الدين وقهر الرجال. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 15 من أسباب التخلف الأمة اليوم مصابة بالتخلف، بل بجميع أنواع التخلف سواءً كان تخلفاً عقلياً، أو تخلفاً اجتماعياً، أو تخلفاً صناعياً، أو تخلفاً عسكرياً، والسبب في ذلك يرجع إلى أمور كثيرة منها: ترك دين الله جانباً، ومنها: الاغترار بما عليه الغرب من حضارة مادية ونسيان ما هم عليهم من فساد أخلاقي وعقدي. ومنها: تضييع وتمييع عقيدة الولاء والبراء. والله جل وعلا لا يغير نعمة أنعمها على عبد إلا إذا تغير هذا العبد بكفر أو عصيان، وبالمقابل إذا أصيب المجتمع بعقوبات فلا يزيلها إلا بتوبة وعودة إليه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 1 التخلف وأسبابه الحمد لله معز من أطاعه، ومذل من عصاه، أكرم من شاء بامتثال أوامره والبعد عما عنه نهى، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له العزة والكبرياء، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صفوة العالم طرى، وسيد الأنام برى، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه الكرام البررة. أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أيها الناس! المجتمع المسلم المتميز هو ذلكم المجتمع الذي تتحقق له ضروراته وحاجياته وتحسيناته تحت ظل الشريعة الغراء التي لا تنغصها أزمة، ولا يعكرها ضيق، ذلكم المجتمع الذي يجد حرمته مصونةً مكرمة، لا تهدر تحت ناب سبعٍ عادٍ، ولا تستباح بمخالب باغٍ متوحش، أو سطوة معتدٍ صائل، هكذا يعيش المجتمع المسلم إذا كان في صورته المثلى واستقراره المعهود، غير أنه عند أدنى اختلال لما مضى، وإحلال الضد محله، من الاستخفاء وراء أسوارٍ من الصلف والغطرسة، والمقت لوحي الله وحملته، وجعل سبيل الله موحشةً لطول ما ترادف على سالكيها من أدواء وأعباء، لهو الباب الحقيقي للمثول أمام حاضرٍ كريه، ومستقبلٍ مغلق، وحينئذٍ تزل القدم بعد ثبوتها، ويسبق الخصم إلى إذلالها وكبح حريتها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 2 الاهتمام بالجسد على حساب الروح إن الشعور العام بين الناس ليحكي بأن العالم اليوم قد قطع مراحل شاسعة في طريق التقدم الحضاري والصعود المادي، فسارعت همم الناس تترى كالبارع الذكي، والنشط المتوقد في اللهف وراء التقدم الصناعي والحضاري ونحوهما، ولكن هذا كله كان على حساب إيجاد المرء الصالح التقي والبار الوفي، فتقدمت الصناعة وتخلفت الروح، استطالت المادة واستكان الالتزام بالدين، حتى نشأ من هذا الضمور في الوعي تفاوت مقلق كان سبباً ولا شك في اختلال سير القافلة المسلمة واعتلالها، واتزانها وإبصارها الواعي بما تقبل عليه وما تحجم عنه، ثم تجتال القنوط آمال لفيفٍ من العلماء والمفكرين بعد أن اعتلى جوارهم من القحط الروحي الذي يسود أرجاء المسلمين بصورة لافتة. إن التدين الحقيقي هو الإيمان بالله، والشعور بخلافته في الأرض قلباً وقالباً، والتطلع إلى السيادة الشرعية التي اقتضتها هذه الخلافة، بيد أن ذلك لا يتم إلا بتطويع كل ما جعله الله وسيلة مشروعة؛ لتحقيق هذا المفهوم وسط دنيا ينبغي أن يحكمها المجتمع المؤمن باسم الله وعلى بركة الله وفضله، من خلال الحكم بما أنزل الله شريعة ومنهاجاً، وإحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتذليل السبل في الدعوة إلى الله جلَّ وعلا، والجهاد في سبيله وابتغاء مرضاته، وبمثل هذا يُقضى على الجفوة بين مفهومي الحضارة والإسلام، ويرأب الصدع، وتُسد الثلمة، لتصل سفينة المجتمع المسلم الماخرة إلى شاطئ العز والتمكين، كما أنه يجب أن يكون واضحاً جلياً تقرير أن الفضائل والعبادات التي شرعها الله لنا لا تعوق ازدهار الحياة وتقدمها المادي وسط المجتمعات المسلمة؛ لأن الإنسان عقل وقلب، ومن يظن أن صحوة القلب لا تتم إلا مع خمول الفكر وتهميش الدنيا من كل جوانبها، فهو مخطئ خطأً فاحشاً، كما أن من يظن بأن سيادة العقل وبلوغ الأرب في التقدم المادي لا يتم إلا بتحنيط الإيمان بالله، وفصله عن واقع الحياة، لهو مخطئ أيضاً خطيئة كبيرة. ولذا فإن زكاة الروح قد تتم بدون دمار الجسد، وضمان الآخرة والتشمير لها قد يتم بدون ضياع الدنيا وخسرانها، ولقد صدق الله حين قال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 تنحية شرع الله عن الواقع أيها المسلمون! إنه لا يشك عاقل البتة في أن تخلف المسلمين اليوم عن الإمساك بزمام الأمور في الأرض، كما كان أسلافهم، وفي الاتصاف بالتبعية والاستفزاء مع ما يُصاحب ذلك من قلقٍ متنامٍ، وتوجس مكابد، وشعورٍ بأنهم وسط عنق زجاجة يصعدون فيها ولا يلوون على شيء؛ أن ذلك كله بسبب بعدهم عن دينهم، وتنحيتهم لشرع الله عن الواقع، وخفر العهود والمواثيق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض المهاجرين محذراً: {وما خفر قومٌ العهد إلا سلط عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم يعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم} رواه البيهقي وابن ماجة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 4 أسباب انسياق الأمة خلف القعدة العاجزين ثم اعملوا يا رعاكم الله! أن ثمة سببين اثنين ينخران في جسد الأمة بنهمٍ لتلحق بركاب القعدة العاجزين: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 اللهث وراء التيارات الغربية السبب الأول: هو اللهث وراء التيارات الغربية القائمة على فلسفة التفوق المادي، والفكر التحرري، الذي لاقى رجع الصدى وسط الغوغاء من أبناء الأمة المسلمة، مترفهم ومثقفهم، بل وحتى من كان على فراش الإملاق منهم، إلى أن صاروا أذناً وعيناً، ولساناً وقلماً، لنهجهم وفكرهم، سياسة وحضارةً، وثقافةً وإعلاماً، فأصلحوا بإفساد، وداووا بالطاعون، وتقدموا بالتأخر، فهضمت حقوق المسلمين، واغتيلت مروآتهم، بتقليدٍ أعمى، ولهثٍ بليد، فتحقق فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن} رواه البخاري ومسلم. وأي تبعية أقبح من أن تشبه بدخول جحر الضب المظلم مع ما فيه من ضيقٍ وقوارس، إلا وأن ذلك دليل على التبعية مع عصب العينين على وجه الانتحار غيلة: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة:69] يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم]] ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتاً وهدياً، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟]] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 تضييع عقيدة الولاء والبراء السبب الثاني: هو ذلكم الجاثوم الكابت الذي يعمل على تذويب الهوية الإسلامية للأمة المسلمة وتميزها، المتمثل في الاستعزاز بالإسلام، وبما فرضه الله عليها من الولاء والبراء، والحب في الله والبغض فيه، وجعل المسلمين -بعامة- خاضعين لمصالح مشتركة أياً كان نوعها، حتى ولو كانت خارج الإطار المشروع، ما دامت تصب في مصالح دولية وقوالب مادية للأفراد والجماعات، فيجرها هذا الجاثوم طوعاً أو كرهاً إلى فلكها عبر بنودٍ يصعب التراجع عنها أو الإخلال بها، بناءً على ما تقتضيه مصلحة الفرد أو المجتمع من أعباء الحياة التي يُصبحون من خلالها في غير غنىً عن الغرب ومادته، وفلسفته وسيادته. وفي كلا السببين عباد الله! تتضاءل إن لم تتلاش صلة المسلم بربه ودينه، وينحصر الأفراد والجماعات داخل بوتقةٍ من ضيق الأفق، فلا يرون فيها إلا مصالحهم الخاصة، ويندفع جهدهم كله وراء المنفعة العادلة بغض النظر عما يحكم ذلك من حلالٍ أو حرام، والله جل وعلا يقول: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] . ولقد {بايع جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله تعالى عنه- النبي صلى الله عليه وسلم على أن ينصح لكل مسلم، ويبرأ من الكافر} رواه أحمد. ومن هذا المفهوم -عباد الله- يوقن كل منصفٍ أن أهل الكفر والإلحاد لم ينتصروا بقواهم الخاصة قدر ما انتصروا بفراغ قلوب المسلمين من خلال شهواتهم اليقظة، وإخلادهم إلى الأرض، واتباع الهوى، والسعار إلى الملذات والرغبات، وافتقار صفوفهم إلى ما يجمعها ولا يفرقها، وإلى ما تعتز به من الدين لا ما تستحيي منه أو تخجل بسببه: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:13-14] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 نداء لتغيير حالنا المزري الحمد لله ولي الصالحين، ذي الأسماء الحسنى والصفات العلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان. أما بعد: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 سنة الله في التغيير أيها الناس: إن في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يكشف أسباب الانكسار، ويبرز دواعي الانشطار الذي يصيب المسلمين -بعامة- بين الحين والآخر، ومثل هذا لا يُعد بدعاً في أمم الإسلام دون غيرها من الأمم، فقد بين الله في محكم التنزيل ما يدل على سنته في الناكصين والظلمة والمتسللين عن دينهم لواذاً في كل زمانٍ ومكان: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:5-53] ، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] ومع هذا كله فإن الباري -جلَّ شأنه- بَرٌّ بعباده، رحيم بهم، يمن عليهم بفضله ورحمته، ويصبغ عليهم ستره ونعمته، ويصبحهم ويمسيهم بالتوفيق والبركة، في الحلم والرفق، غير أن كثيراً من المجتمعات قد تحسن الأخذ ولا تحسن الشكر، تمرح بالنعم ولا تقدر الله حق قدره، ومثل هذا الاستغفال حين يبلغ مداه إضافة إلى الإصرار عليه، والإحساس بإمكانية الاستقلال دون تصحيحٍ أو محاسبة نفسٍ، فحينئدٍ تدق قوارع الغضب أبواب الأمم، فتظلم الوجوه بهزائم الدنيا، وتجرع الخوف فيها قبل حساب الآخرة ونكالها، والله جلَّ وعلا لا يبدل أمن الأمم قلقاً، ولا رخاءها شدةً، ولا صحتها سقماً، ولا عزها ذلاً، من باب الظلم لهم، أو التشفي بهم، كلا. فإن الله واحدٌ لا يتغير، ولكن الناس هم الذين يتغيرون، كما أن الله عادلٌ لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 كيف يأتي التغيير إن رياح التغيير -عباد الله- لا تهب عليلةً دون كدرٍ أو قتر، كما أنها لا يُمكن أن تهب إلا من داخل صف المسلمين أنفسهم، ومستقبل المسلمين لا يمكن أن يصنعه من لا يخاف الله ولا يُؤمن بشرعته، بل لا بد أن يصنعه المسلمون أنفسهم، انطلاقاً من شرعتهم الغراء، وخارجاً عن إطار القوميات والإقليميات والعصبيات الجاهلية، وإن المسلمين متى ما أروا الله من أنفسهم صدقاً في التصحيح، وعلم الله فيهم خيراً في حسن المقصد، وصدق اللجوء إليه، مهما كان الواقع الأليم الذي يعيشونه ويعانون فيه الأّمرين، فإن ذلك ليس بمانعهم أن يقلب كربهم فرجاً، وترحهم فرحاً، يقول الله -جلَّ وعلا- عن أسرى بدر من المشركين: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال:70] . فالعودة إلى الله سببٌ في الفلاح وسر في النجاح، غير أن العودة لا يمكن أن تكون بمجرد شقشقة لسانٍ، أو حركة ببنان، أو بوعودٍ كاذبة في التصحيح والاستقامة فور انكشاف الكربة وانقشاع الغياية، كلا. فتلك وعودٌ كاذبة لو انطلت على بعض البشر فإنها لا تخفى على رب البشر، ولذلك أعقب الله حديثه عن الأسرى بقوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:71] . فالحاصل -عباد الله- أن استقامة المجتمع وفلاحه ونجاحه في سياسته العامة، وبلوغه المكانة العالية، إنما تجيء من الحرص على التكامل، وتهذيب النفوس من الوحشة والنفرة بعد تحقيق الصلة بالله، ولدى المسلمين في مجتمعهم الحاضر كنوزٌ مشحونةٌ بمثل هذه المعاني الغضة تسع أهل الأرض جميعاً لو قُسِّمت بينهم، ولكنهم عن ذلك ذاهلون، وفي نيل الغاية الأسمى مُفرطون: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل:91-93] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم انصر إخواننا المجاهدين الذين يُجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وآتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اجعل ما أنزلته سقيا رحمة لا سقيا هدمٍ ولا بلاءٍ ولا غرق ولا استدراج يا ذا الجلال والإكرام، اللهم لتحيي به البلاد، وتسقي به العباد، ولتجعله بلاغاً للحاضر والباد. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 10 كيف تلهو؟! الفراغ نعمة مغبون فيها كثير من الناس، وقد جاءت الحضارة الجديدة والعولمة الحرة لتزيد هذا الفراغ اتساعاً، وقد جاء الإسلام فوضع أسساً وضوابط يتعامل فيها المسلم مع الفراغ مع الاهتمام بجانب الترفيه والترويح عن النفس. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1 الفراغ مشكلة الحضارة الجديدة والعولمة الحرة الحمد لله المتوحد بالجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً، المتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً، المتعالي بعظمته ومجده الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ عنهم فمات فميتته جاهلية. أيها المسلمون: إن حياة الناس بعامة مليئة بالشواغل والصوارف المتضخمة، والتي تفتقر من حيث الممارسات المتنوعة إلى شيء من الفرز والترتيب لقائمة الأولويات، مع عدم إغفال النظر حول تقديم ما هو أنفع على ما هو نافع فحسب، ثم إن الضغوط النفسية والاجتماعية الكبيرة الناتجة عن هذا التضخم ربما ولدت شيئاً من النهم واللهث غير المعتاد تجاه البحث عما يبرد غلة هذه الرواسب المتراكمة ويطفئ أوارها. إن الحضارة العالمية اليوم قد عنيت بإشعال السلاح، ورفع الصناعة، وعولمة بقاع الأرض، تلكم الحضارة التي حوَّلت الإنسان إلى شبه آلة تعمل معظم النهار -إن هي عملت- ليكون ساهراً أو سادراً أو خامداً ليله، هذه هي الثمرة الحاصلة ليس إلا. إن تلكم الحضارة برمتها لم تكن كفيلة في إيجاد الإنسان العاقل الإنسان المدرك الإنسان الموقن بقيمة وجوده في هذه الحياة وحكمة خلق الله له، بل إنما فيها من آليات متطورة وتقنيات، كان سبباً بصورة ما في إيجاد شيءٍ من الفراغ في الحياة العامة، مما ولد المناداة في عالم الغرب بما يُسمى علم اجتماع الفراغ، وإن لم يكن هذا الفراغ فراغ وقت على أقل تقدير فهو فراغ نفسٍ، وفراغ قلبٍ، وفراغ روح، وأهدافٍ جادةٍ، ومقاصد خالية من الشوائب. {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] ، {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:1-4] . إن الحضارة العالمية حينما تُوفِّر للإنسان -بالتقدم العلمي والجهد الصناعي قوة الإنسان ونشاطه- مزيداً من الوقت، ثم يكون في نفسه وقلبه وروحه ذلك الفراغ، فهنا تحدث المشكلة، ويكمن الداء، الذي يجعل أوقات الفراغ في المجتمعات تعيش اتساعاً خطيراً، حتى صارت عبأً ثقيلاً على حركتها وأمنها الفكري والذاتي، ومنفذاً لإهدار كثيرٍ من المجهودات والطاقات المثمرة. إن غياب الضبط والتحليل والترشيد للظاهرة الحضارية الجديدة المنشأة -أوقات الفراغ- ليمثلُ دليلاً بارزاً على وجود شرخٍ في المشروع الحضاري والعولمة الحرة، غير بعيدٍ أن تؤتى الأمة المسلمة من قبله، وإن عدم وعينا التام بخطورة هذا المسلك تجاه أوقات الفراغ، وعدم وعينا التام بالمادة المناسبة لشغل تلك الأوقات في استغلال العمليات التنموية والفكرية، والاقتصادية البناءة، لجدير بأن يقلب صورته إلى معول هدمٍ يُضاف إلى غيره من المعاول -من حيث نشعر أو لا نشعر- التي ما فتئ الأجنبي عنها يبثها ليل نهار؛ لنسخ حضارة المسلمين على كافة الأصعدة بلا استثناء، كيف لا! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ} رواه البخاري. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 2 الإسلام دين صالح للواقع والحياة إن الإسلام دين صالح للواقع والحياة، يُعامل الناس على أنهم بشر لهم أشواقهم القلبية وحضوضهم النفسية، فهو لم يفترض فيهم أن يكون كل كلامهم ذكراً، وكل شرودهم فكراً، وكل تأملاتهم عبرة، وكل فراغهم عبادة! كلا. ليس الأمر كذلك، وإنما وسع الإسلام التعامل مع كل ما تتطلبه الفطرة البشرية السليمة من فرح وترح، وضحك وبكاء، ولهو ومرح، في حدود ما شرعه الله، محكوماً بآداب الإسلام وحدوده. عباد الله: إن قضية إشغال الفراغ باللهو واللعب والفرح، لهي قضية لها صبغة واقعية على مضمار الحياة اليومية، لا يمكن تجاهلها لدى كثيرٍ من المجتمعات، بل قد يشتد الأمر ويزداد عند وجود موجبات الفراغ كالعطل ونحوها، حتى أصبحت عند البعض منهم مصنفة ضمن البرامج المنظمة في الحياة اليومية العامة، وهي غالباً ما تكون غوغائية تلقائية ارتجالية، ينقصها الهدف السليم ولا تحكمها ضوابط زمانية ولا مكانية فضلاً عن الضوابط الشرعية، وما يحسن من اللهو وما يقبح. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 3 مفهوم الترويح والترفيه في الإسلام عباد الله: الترويح والترفيه هو إدخال السرور على النفس، والتنفيس عنها، وتجديد نشاطها، وزمها عن السآمة والملل، وواقع النبي صلى الله عليه وسلم إبَّان حياته يُؤكد أحقية هذا الجانب في حياة الإنسان، يقول سماك بن حرب: قلت لـ جابر بن سمرة: {أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. كان طويل الصمت، وكان أصحابه يتناشدون الشعر عنده، ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية، ويضحكون، فيبتسم معهم إذا ضحكوا} رواه مسلم. وأخرج البخاري في الأدب المفرد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: [[لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين، ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أُريد أحدهم على شيءٍ من دينه دارت حماليق عينيه]] . وذكر ابن عبد البر رحمه الله عن أبي الدرداء أنه قال: [[إني لأستجم نفسي بالشيء من اللهو غير المحرم فيكون أقوى لها على الحق]] . وذكر ابن أبي نجيح عن أبيه قال: [[قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني ليعجبني أن يكون الرجل في أهله مثل الصبي، فإذا بُغي منه حاجة وُجِدَ رجلاً]] ، وذكر ابن عبد البر عن علي رضي الله عنه أنه قال: [[أجموا هذه القلوب والتمسوا لها طرائف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان]] . يقول ابن الجوزي: "ولقد رأيت الإنسان قد حمل من التكاليف أموراً صعبة، ومن أثقل ما حمل: مداراة نفسه، وتكليفها الصبر عما تحب وعلى ما تكره، فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس". وبمثل هذا تحدث أبو الوفاء ابن عقيل فقال: "العاقل إذا خلا بزوجاته وإمائه لاعب ومازح وهازل، يعطي للزوجة والنفس حقهما، وإن خلا بأطفاله خرج في صورة طفل، وهجر الجد في بعض الوقت". هذه بعض الشذرات حول مفهوم اللهو والتسلية والترويح، يُؤكد من خِلاله أن الإسلام قد عني بهذا الجانب حق العناية؛ غير أننا نود أن نبين هنا وجه الهوة السحيقة بين مفهوم الإسلام للترويح والتسلية، وبين اللهو والمرح في عصرنا الحاضر، والذي هو بطبيعته يحتاج إلى دراسات موسعة تقتنص الهدف للوصول إلى طريقة مُثلى للإفادة منها في الإطار المشروع، فينبغي دراسة الأنشطة الترويحية الإيجابية منها والسلبية، والربط بينها وبين الخلفية الشرعية والاجتماعية للطبقة الممارسة لهذا النشاط، ومدى الإفادة من الترويح، والإبداع في الوصول إلى ما يُقرِّب المصالح ولا يُبعدها، وما يُرضي الله ولا يُسخطه، وتحليل الفعل وردود الفعل بين مُعطيات المتطلبات الشرعية والاجتماعية، وبين متطلبات الرغبات الشخصية المشوهة، وأثر تلك المشاركات في إلكاء الطاقات والكفاءات الإنتاجية العائدة للأسر والمجتمعات بالنفع في الدارين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 4 ولكن ساعة وساعة إن علينا جميعاً كمسلمين أن نشد عزائمنا؛ لصيانتها ما أمكن من أي ضياعٍ في مرحٍ أو لهوٍ غير سليم، أو مما إثمه أكبر من نفعه، فلا ينبغي للمسلمين أن يُطلقوا لأنفسهم العنان في الترويح، بحيث يزاحموا آفاق العمل الجاد، واليقظة المستهدفة، ولا أن يشغل عن الواجبات، أو تضييع الفرائض والحقوق بسبب الانغماس فيه، إذ ليس استباحة الترويح مضيعة للجد وما هو إلا ضربٌ من ضروب العون وشحذ الهمة على تحمل أعباء الحق، والصبر على تكاليفه، والإحساس بأن ما للجد أولى بالتقديم مما للهو والترويح، وبهذا يُفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ حنظلة بن أبي عامر -رضي الله عنه- وقد شكا إليه تخلل بعض أوقاته بشيءٍ من الملاطفة للصبيان والنساء، فقال له صلى الله عليه وسلم: {ولكنْ ساعةً وساعة} أمَّا أن يُصبح الترويح للنفس طابع الحياة في الغدو والآصال، والخلوة والجلوة، وهماً أساسياً من هموم المجتمعات في الحياة، فهو خروج به عن مقصده وطبيعته، واتجاه بالحياة إلى العبث والضياع، والإنسان الجاد عليه أن يجعل من اللهو والترويح له ولمن يعوله وقتاً ما، ويجعل للعمل والجد أوقاتاً لا العكس، لاسيما ونحن نعيش في عصرٍ استهوت معظم النفوس فيه كل جديد وطريف، حتى صارت أكثر انجذاباً إلى احتضان واعتناق ما هو وافد عليها في ميدان اللهو والمرح. ولا غرو في ذلك عباد الله! فإن الاسترخاء الفكري وهشاشة الضابط القيمي لدى البعض منا هما أنسب الأوقات لنفاد الطرائف والبدائع إلى النفوس، وهنا تكمل الخطورة ويستفحل الداء. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 5 أخطار اللهو المنفتح على الأمة الإسلامية إن اللهو المنفتح والذي لا يُضبط بالقيود الواعية؛ إنه ولا شك يتهدد الأصالة الإسلامية لتُصبح سبهللاً بين خطرين، أحدهما: خطر في المفاهيم؛ إن كان هناك شيءٌ من بعض المسابقات تدعى ثقافية تقوم في الغالب على جمعٍ للتضاد الفكري، أو تنمية الصراع الثقافي، أو تصديع الثوابت المعلوماتية لدى المسلمين، بقطع النظر عن التفسير المادي للتاريخ والحياة، أو على أقل تقدير: الإكثار من طرح ما علمه لا يحتاج إليه الذكي، ولا يستفيد منه البليد. والخطر الثاني عباد الله: تلك التي تُعدّ وسائل للترويح والتسلية عبر القنوات المرئية التي تنتج مفاهيم مضللة عبر طرق جذابة في الثقافات والشهوات لاسترقاء الفكر؛ من خلال فنون أو أساطير أو عروض لما يفتن، أو للسحر والشعوذة وما شاكلها، ونتاج الخطرين ولا شك تمزقٌ خطير متمثل في سوء عشرة زوجية، أو تباين أفراد أسرة إسلامية، ناهيكم عن القتل والخطف، والانتحار والتآمر، والمخدرات والمسكرات، وهلمَّ جرَّاً. وما حال من يقع في هذا الترويح إلا كقول من يقول: "وداوني بالتي كانت هي الداء! " أو كما يتداوى شارب الخمر بالخمر، فلرب لهوٍ لمرةٍ واحدة يقضي على برجٍ مشيدٍ من العلم والتعليم للنفس. ويالله كم من لذة ساعة واحدة أورثت حزناً طويلاً: {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:95-96] . أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 6 ضرورة ضبط الترويح بالضوابط الشرعية الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله واعلموا أن شريعة الإسلام شريعةٌ غراء، جاءت بالتكامل والتوازن والتوسط، ففي حين أن فيها إعطاء النفس حقها من الترويح والتسلية؛ فإن فيها كذلك ما يدل على أن منه النافع ومنه دون ذلك، فقد صح عند النسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل لهوٍ باطل غير تأديب الرجل فرسه، وملاعبته لأهله، ورميه لسهمه} قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: "والباطل من الأعمال هنا ما ليس فيه منفعة ولم يكن محرماً، فهذا يُرخص فيه للنفوس التي لا تصبر على ما ينفع، وهذا الحق في القدر الذي يحتاج إليه في الأوقات التي تقتضي ذلك؛ كالأعياد، والأعراس، وقدوم الغائب ونحو ذلك". ويقول ابن العربي -رحمه الله- عن هذا الحديث: "ليس مراده بقوله باطل أي أنه حرام، وإنما يريد به أنه عارٍ من الثواب، وأنه للدنيا محض لا تعلق له بالآخرة والمباح منه باقي". عباد الله: هذا في اللهو المباح وأما اللهو المحرم، أو اللهو المباح الذي قد يفضي إلى محرم، فاستمعوا -يا رعاكم الله- إلى كلام البخاري رحمه الله في صحيحه حيث يقول: (باب: كل لهوٍ باطلٌ إذا أشغله عن طاعة الله) يعلق الحافظ ابن حجر على هذا فيقول: "أي: كمن التهى بشيء من الأشياء مطلقاً، سواءً كان مأذوناً في فعله أو منهياً عنه؛ كمن اشتغل بصلاة نافلة، أو بتلاوة، أو بذكر، أو تفكر في معاني القرآن مثلاً، حتى خرج وقت الصلاة المفروضة عمداً، فإنه يدخل تحت هذا الضابط، وإذا كان هذا في الأشياء المرغب فيها المطلوب فعلها فكيف حال ما دونها". فالحاصل -أيها المسلمون- أن الترويح والفرح ينبغي أن يخضع للضوابط الشرعية، وألا يبغي بعضها على حدود الله، والله يقول: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] ألا وإن من أراد أن يفرح ويلهو فليكن فرح الأقوياء الأتقياء، وهو في نفس الوقت لا يزيغ ولا يبغي بل يتقي الأهازيج والضجيج التي تقلق الذاكر، وتكسر قلب الشاكر. ولله ما أحسن كلام أبي حامد الغزالي الذي يصف فيه الباغين في اللغو العابثين فيه الوالهين به، دون رصدٍ للحق أو رعاية للحدود، فقال في إحيائه عن مرحهم: "إنه من مشوشات القلب إلا في حق، أقوياء فقد استخفوا عقولهم وأديانهم من حيث لم يكن قصدهم إلا الرياء والسمعة وانتشار الصيت، فلم يكن لهم قصد نافع، ولا تأديب نافذ؛ فلبسوا المرقعات، واتخذوا المتنزهات؛ فيظنون بأنفسهم خيراً، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ويعتقدون أن كل سوداء تمرة، فما أغزر حماقة من لا يميز بين الشحم والورم، فإن الله تعالى يُبغض الشباب الفارغ، ولم يحملهم على ذلك إلا الشباب والفراغ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] . اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 7 ربما تصح الأجسام بالعلل تحدث الشيخ عن الشريعة الإسلامية وأهميتها، كما أن التمسك بها والدعوة إليها هما أمان هذه الأمة من الفتن والزوابع. وقد حذر الشيخ من الفتن بذكر أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذلك، كما ذكر العواصم من الفتن. ونبه إلى أن الشدائد قد تكون وسيلة للتمكين، فربما صحت الأجسام بالعلل. ثم حذر من الانخراط في سوء الظن، والفحش في القول والفعل، وحذر من الغلظة في القول أيضاً. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1 عموم الدين الإسلامي للناس كافة الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: أيها الناس: إن شريعةٌ الإسلام شريعةٌ غراء، سمتها الجليلة أن يُعبدَ الله وحده في الأرض ولا يُشرك به، متبعة بقواعد فَرَضَها رب البرية، هي خيرٌ كلها، ونورٌ كلها، وسلامٌ كلها، وفرحٌ كلها {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:19] ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] . عباد الله: إن الدين الإسلامي هو شريعة الله العادلة على العالم أجمع، وما إرسال الله لخاتم رسله صلى الله عليه وسلم للناس كافة بشيراً ونذيراً إلا من أجل أن يدخل الناس في دين الله وصبغته {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:13] . إن الدين الإسلامي هو شريعةٌ مبناها على الاتباع لا الابتداع، وعلى الاقتداء والتأسي لا على النكوص والتنسي، ودين المرء لم يكن ديناً حقاً إلا إذا كان الخضوع فيه للحق سبحانه دون سواه. وإن خير هدي ينتهجه الناهجون هو هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وهيهات أن يأتي الناس في أعقاب الزمن بأهدى منهما حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ، {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49] . عباد الله: إنه في أعقاب الزمن ووسط عصور الانتقال، تتعدد مسالك الحياة، وتتزاحم تداعياتها هبوطاً وصعوداً بمدى قرب الناس من دينهم أو بعدهم عنه، ومكان رسالة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بين ذلك كله أنها دعوة كمال وعدل، فكلما تردد الإنسان عبر هذه العصور التي تُسمى عصور الانفتاح بين طريقين اثنين، أو حارت نفسه في اختيار أحد مسلكين، فإن السنة تدعوه -لا شك- إلى خيرهما، وإذا تردد العقل في خضم هذه النوازل المدلهمة بين الحق والباطل، والزين والشين، دعته السنة إلى الحق والزين؛ لأن الحق أبلج والباطل لجلج. وبهذا يُعلم أن دعوة السنة وَسَطَ هذه الزوابع؛ إنما تكون لأصعب الطريقين، وأشق الأمرين بالنسبة لأهواء البشر المحاطة بعالمٍ أصبح عبر وسائله المختلفة كالكتلة الواحدة، ولا غرو في ذلك؛ فإن النار حُفَّت بالشهوات، والجنة حُفَّت بالمكاره، ويبدو ذلك بوضوح في أن الانحدار مع الهوى سهل يسير، ولكن الصعود إلى العلو من الصعوبة والمشقة بمكان. ألا ترون -حماكم الله- أن الماء ينزل وحده حتى يستقر في عمق الوادي، ولكنه لا يصعد إلى العلو إلا بالجهد والمضخات. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 2 تمسك الأمة بدينها هو سر أمنها واستقرارها إيها المسلمون: إن البعد عن زمن النبوة مظنة -ولا شك- في البعد عن تعاليمها وآدابها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم} ، ويقول أيضاً: {إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً} ، ويقول أيضاً: {لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم} . لأجل هذا -عباد الله- فإن الثوابت الشرعية؛ من توحيد الله، والإيمان به، والدعوة إليه، والحب والبغض فيه، قد يغيب أكثرها أو بعضها مع مرور الزمن، وغلبة الأهواء، وشيوع الهزل، حتى إنها لتحتاج إلى من يرد لها الحياة بعد ما اعتراها ما اعتراها من ذبول. إذاً: لدينا كتاب الله لا تخلق جلدته ولا تفنى فروته، ولدينا نور نبوة ملهم السيرة، نقي السنن، وإذا كان الأمر كذلك فكيف تعمى النفس المؤمنة مع هذا الإشعاع؟ بل كيف يستوحش المرء في هذا العالم الموار، ومصدر الأمن والطمأنينة فوق ظهره محمول، شريطة ألا يغفل عن قوله سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] . إنه رغم الدمار البالغ الذي تُصاب به المجتمعات حيناً بعد حين، والوكزات التي تتلقاها أمة الإسلام فجأة، ثم هي تُصرع أمامها إثر تقويض الرابطة الإسلامية الجامعة الحقة، وعلى الرغم من المكانة الملحوظة التي وفرها الإٍسلام للمجتمعات الإسلامية بأسرها من خلال تعاليمه المحكمة، وثوابته التي لا تتغير -بل يخضع لها كل عصر وليست تخضع هي لكل عصر- إنه رغم ذلك كله إلا أن ثمة خللاً ما، يؤكد أن تلك المجتمعات أحوج ما تكون إلى أن تلتمس لطف الله وعفوه، وترتقب رحمته وإحسانه، وتلزم اللجوء إليه والعياذ به، عاملة بما دعاها به المصطفى صلى الله عليه وسلم: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] . فلا إله إلا الله! {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83] . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 3 الحث على الدعوة إلى دين الله إنه ينبغي علينا -معاشر المسلمين- أن ندعو إلى دين الله -جلَّ وعلا- الذي هو مصدر عزتنا، وسر قوتنا؛ من خلال التحدث عنه على حقيقته وصورته التي ارتضاها الله جل شأنه، دون استحياء ولا تخوف ولا استجداء، متبعين ذلك على أنه دين العبودية لله وحده في كل شيء، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم. وحذارِ حذارِ من أن يخطئ أحد حال التحدث عنه فيعدل عن الوجه الصحيح! ثم إن الدعوة إلى الإسلام برمتها أشبه ما تكون بالقضية العادلة؛ غير أنها -وللأسف الشديد- قد تقع بين أيدي المحامين عنها، فيفشلون في عرض حقيقة الدفاع، وإيضاح البينات، وما ذلك إلا من خلال التنازل عن ثوابتها وأسسها؛ بحثاً لعرض، أو خوفاً من عرض. ولا غرو في ذلك -عباد الله- فلربما نسمع كثيراً من المتحدثين عن الإسلام يحامون عنه، ويود المرء منا لو أنهم سكتوا فلم ينبسوا بحرف واحد. إن أمثال هؤلاء -ولا ريب- لم يفهموا الإسلام بكماله كما تنزَّل من عند الله، والنزر اليسير ممن يتحدث عنه، ويدَّعي فهمه قد لا يحسنون الإبانة عنه، من خلال الخلط والمزج بينما يصح وما لا يصح، ومن هنا يعظم الخطر؛ لأننا في أزمنة خدَّاعة تحتاج إلى المهرة من ذوي الأفهام عبر عصور يتزن فيها القبيح من المبادئ، فتعرض نفسها على الناس في تزاويق خادعة، كما تتوارى الشمطاء وراء حجب من الأصباغ والحلي. إن الإسلام في حدِّ ذاته كالدواء، لا يحتمل أن يجتهد فيه كل محتس له، كما أن الدواء لا يكون دواءً لأن مادته تحوي أسباب الشفاء فحسب، كلا! بل لا بد من تناوله بطريقته التي يُشير بها الطبيب على الوجه الذي وضع له الدواء، ومن تكلف طريقةً من عنده لم يقل بها الطبيب فلا يأمن أحدٌ حينئذٍ إذا استفحل الداء ولات ساعة استشفاء! وهيهات هيهات أن تصلح المجتمعات وقد وهت فيها حبال مقومة الشريعة الحقة، وأسس الحياة المحكومة بصبغة الله وشرعته، دون اكتراث بما يُرضي الله وما يسخطه، فكيف إذا كانت الحال في التشكيك في تلك المقومات، أو السعي الدءوب في إماتتها، أو بث ما من شأنه اتهام المسلمين أو بذل الفرقة بينهم، أو التطلع إلى إرساء قواعد التراجع عن الدين أو -على أقل تقدير- إشعار الغير بأن من يتجرع الإسلام بآدابه وكماله فإنه لا يكاد يصيغها إلا معتوهاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 4 التحذير من الفتن والانجرار خلفها أيها المسلمون! إن من خصائص رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم: أنه ما من خيرٍ إلا ودل الأمة عليه، وما من شر إلا وحذر الأمة منه، وقد كان مما حذَّر الأمة منه: الفتن التي تكون في آخر الزمن وتكاثرها، والغواسق التي تحيط بالأمة من كل جانب، فتموج بهم كموج البحر حتى أنها لتدع الحليم حيراناً، بل ولربما تستمرئها النفوس الضعيفة، وتستشرف لها رويداً رويداً إلى أن تلغ في حمأتها وهي لا تشعر، فإذا ألفتها لم تكد تتحول عنها إلا في صعوبة بالغة بعد أن تفقد خصائصها، ومِنْ ثمَّ تميع وتذوب، ثم: ما لجرحٍ بميت إيلام وإذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار حتى تقع النفس في أتون الفتن؛ فتحترق بلا لهب، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من استشرف لها تستشرفه الحديث} . يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله ما معناه: "قوله: من استشرف لها، -أي: تطلع لها؛ بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يُعرض عنها". وفي الصحيحين أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج. قالوا: يا رسول الله! وما الهرج؟ قال: القتل، القتل} . عباد الله: إننا في زمن تداعت فيه الفتن كداهية دهياء؛ فقلَّت فيه الأمانة، ونُزِعت فيه الخشية من الله، وتنافس الناس فيه على الدنيا وحضوض النفس، وكّثُرَ فيه القتل وبلغ أوج صوره على اختلاف تنوعه، حتى لربما لا يدري القاتل فيم قَتَلَ، ولا المقتول فيم قتل، كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه. ولكن لمستفهم أن يقول: ما النجاة في خضم هذه الأحداث؟ وما موقف المؤمن من متغيرات زمانه وفجاءة النقمة فيه؟ والجواب على هذا بين بحمد لله، فإن لكل داءٍ دواءً، علمه من علمه وجهله من جهله. والدواء في مثل هذا كثير التنوع. فمن ذلك: أولاً: حمد الله على العافية، مما ابتلى به كثيراً من الناس من الفتن والرزايا، والحروب المدمرة، ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة والإيمان بأن ما يريده الله كائنٌ لا محالة، وأن ما أصاب الناس لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41] . جاء عند مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مبِينٍ} [لأنعام:59] } . فلا إله إلا الله ما أوسع علم الله! انظروا إلى الأحداث والمستجدات -عباد الله- كيف تحل بنا فجأة على حين غرة، دون أن تقع في ظن أحدنا، أو يدور بخلده أن أحداثاً ما ستكون يوماً ما، مما يُؤكد الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واللجوء إليه وخشيته وحده بالتوبة والإنابة، وكثرة الدعاء، والاستغفار، والصدقة، وبذل الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فلا ملجأ من الله إلا إليه، ألا إن من خاف البشر فرَّ منهم، غير أن من خاف الله فإنه لا يفر إلا إليه، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يرد القدر إلا الدعاء} . ألا وإنما يحدث في هذه الأزمنة من كوارث تحل بنا بغتة ليُذكرنا باليوم الذي تقوم فيه الساعة والناس في غفلةٍ مُعرضون، مع ما يتقدمها من أماراتٍ وأشراط تدل عليها، فقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي منه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها} كل ذلك -يا عباد الله- دليل على فجأة النقمة، وأن نفساً لا تدري ماذا تكسب غداً، ولا تدري بأي أرض تموت. ثم اعلموا -رحمكم الله- أنه ينبغي للمرء المسلم في خضم الأحداث الرهيبة، والمتغيرات المتنوعة، ألا يُصاب بشيء من الاستغسال مع مشاعر القنوط واليأس، وألا يحبس أنفاسه مع الجانب الذي قد يكلح في وجهه على حين غفلة من جوانب الخير الأخرى في حياته، دون التفاتٍ إلى المشوشات من حوله، والتخوفات التي ليس لها ضرير. فليس بلازم عقلاً أن تكون تلك المخاوف صادقة كلها، فلربما كانت كاذبة؛ إذ قد تصح الأجسام بالعلل، وقد يكون مع المحنة منحة، ومع الكرب فرج، وإن مع العسر يسرى ولن يغلب عسرٌ يُسرين، وإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 5 آداب الإسلام في الفتن الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: فيا أيها الناس! إن مما لا شك فيه أن كثرة الفتن تزلزل كيان الناس، وأن فتيل الحروب إذا اشتعل عَسُرَ انطفاؤه، وأن التهويش والتشويش والقيل والقال والظن لمما يزيد الأمر سوءاً وتعقيداً، والنار اشتعالاً واضطراماً، ولا جرم! فإن النار قد تذكى بالعيدان، كما أن في مبدأ الحرب كلام اللسان. ولقد كان السلف الصالح أحرص الناس على اتقاء الفتن، والنأي بأنفسهم عن أن يقعوا في شراكها، بل يستعيذون بالله منها، وكلما لاحت لهم في الأفق فتنة تمثلوا بما رواه البخاري في صحيحه عن خلف بن حوشب: أن السلف كانوا يقولون عند الفتن: الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ولَّت عجوزاً غير ذات حليل شمطاء يكره لونها وتغيرت مكروهة للشم والتقبيل ثم اعلموا -أيها المسلمون- أن من أدب الإسلام في الفتن: كف اللسان وحبسه، وعدم الزج به فيما لا يعني، وزمه عن الفحش والتفحش أو الوقوع في الظن، فإن إطلاق اللسان وسيلان الأقلام خائضة في المدلهمات، ولاجة في المشتبهات والقضايا المزعجات، دون زمام ولا خطام؛ لمن شأنه أن يضعف إيمان المرء المسلم، ويوقعه مواقع الزلل، غير آبه بوصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ عقبة بن عامر حينما سأله: {ما النجاة؟ قال: املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك} رواه الترمذي. إن اللهث وراء كل حدث وخبر باللسان تارة، وبالأقلام أضعافها، في البيت والسوق، وفي المجالس والمنتديات، وعبر شبكات تقنية يكثر فيها اللغط دون تروٍ أو توثق أو محصلة من العلم والفهم؛ لمما يُقلل العافية والسلامة من الخطأ، فضلاً عن أن يُقدِّم حلاً عاجلاً سوى الخلط والجهل والتضليل، ولله در أبي حاتم البستي حين قال: "إن العافية عشرة أجزاء: تسعة منها في السكوت؛ لأن من الناس من لا يكرم إلا للسانه، ولا يهان إلا به، فالواجب على العاقل ألا يكون ممن يهان به". ثم اعلموا -عباد الله- أن الحوارات الشفهية، والمطارحات الورقية لا ينبغي أن تكون لكل راكب، ولا علكاً يلوكه الكل، وأمور الناس بعامة لا ينبغي أن يتصدى لها أي أحد كيفما اتفق، دون تميز بين الغث والسمين، وبينما يعقل وما لا يعقل، وإنه لمن المستكره أن يكون مقدار لسان الإنسان أو قلمه فاضلاً على مقدار علمه ومقدار علمه فاضلاً على مقدار عقله، فلقد روى البخاري في صحيحه عن علي رضي الله عنه أنه قال: [[حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!]] . فمن هرف بما لا يعرف فهو ممن قال الله فيهم: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] قال قتادة رحمه الله: [[هم أهل الغلظة والظنون]] وروى الإمام أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن أمام الدجال سنون خداعات، يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكذوب، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة} . فعلى حملة الأقلام وذوي اللسان أن يتقوا الله سبحانه، وألا يستخفوا بأحد، وألا يبغوا على أحد من المسلمين، يقول ابن عبد البر رحمه الله: "أحق الناس بالإجلال ثلاثة: العلماء، والإخوان، والسلطان، فمن استخف بالعلماء أفسد دينه، ومن استخف بالإخوان أفسد مروءته، ومن استخف بالسلطان أفسد دنياه، والعاقل لا يستخف بأحد". ومما يزيد الأمر تأكيداً وتوثيقاً -عباد الله- حينما يكون الخوض فيما قال الله أو قال رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس لذلك إلا العلماء والأتقياء الأنقياء، فهم ورثة الأنبياء ومصابيح الدجى. فحذارِ حذارِ لمن تجاوز طريقهم أن يقع في قول النبي صلى الله عليه وسلم: {من أُفتي له بغير علم كان إثمه على من أفتاه} رواه أبو داود. وقد قال عبد الله بن وهب: [[قال لي مالك بن أنس: يا عبد الله! لا تحملن الناس على ظهرك، وما كنت لاعباً به من شيء فلا تلعبن بدينك]] . وقال: سفيان الثوري رحمه الله: [[ما كفيت عن المسألة والفتيا فاغتنم ذلك]] . فلا تنافس، وإياك أن تكون ممن يحب أن يعمل بقوله، أو ينشر قوله، أو يسمع قوله، وإياك وحب الشهرة، فإن الرجل يكون حب الشهرة أحب إليه من الذهب والفضة، وهو باب غامض لا يبصره إلا العلماء الجهابذة: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 6 ثبات وسط الزوابع العالم الإسلامي في عصرنا الحاضر يمر بقلاقل وزوابع لا يعلمها إلا الله من شدتها وكثرتها، فجرح في فلسطين وجرح في أفغانستان، وجرح في الشيشان، إلى غير ذلك من محاربة الطغاة للدعاة في البلاد الإسلامية باعتقالهم، وتشويههم بالدعايات الزائفة، إلى غير ذلك من الزوابع والفتن. والله عز وجل حثنا على الثبات أمام هذه الزوابع ورسم لنا الطريق الصحيح للثبات، فمن ثبت فله سلف في ثباته، ومن غيرته صروف الحياة وزلت قدمه فإنما هو مفرط ضائع، ناقض بعد غزل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1 الإسلام شريعة حرة الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، له مقاليد السموات والأرض، سبحانه كل يوم هو في شأن، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد آدم أجمع، وخير من صلى وركع، وأبلغ من دعا إلى الله فأسمع، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء البررة، ورضي عنهم وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: - فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله سبحانه، والتوكل عليه، والاستغاثة به، والاعتماد عليه، والتذلل بين يديه، فبذلك تكون الرفعة، وتحصل المنَّة، وتنال الدرجة، وتكون العاقبة المحمودة في الأولى والأخرى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] . أيها الناس: إن المترقب في مجموع العالم اليوم بقضه وقضيضه، والذي يلقي بثاقب نظره صوب الفلك الماخرة وسط زوابع يموج بعضها في بعض، ونوازل تتلاطم كموج من فوقه موج من فوقه سحاب، ليوقن من خلال سبره للأحداث العامة والمدلهمات المتكاثرة، على كافة مناحي الحياة بلا استثناء، نعم. إنه ليوقن أن الذين يفهمون أن مبدأً ما من المبادئ، أو حركة ما من الحركات، أو دعوة ما من الدعوات المنبثقة هنا وهناك يمكن أن تكبح جماح المظالم، بشتى صورها مهما زوقت وزيف للناس مفادها، أو أن تسد ثلمة المجتمعات الشارخة، دون أن يكون ذلك كله من خلال الإسلام، وروحه وشريعته، ومن يفهم خلاف ذلك فهو شاذٌ برمته، إما أنه مريض خراص، أو عرق دخيل دساس، لا يعول على مثله ولا يوثق به. إن الإسلام في صميمه شريعة حرة، قد حررت العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ودلت على أن العزة مرهونة بها، والهوان والدون نتيجة للنائي عنها، يبدأ ذلك جلياً من ضمير الفرد، وينتهي في محيط ضمير المجتمعات بأسرها. ومهما يكن الأمر فإن الإسلام لا يمكن أن يعمر قلباً بحلاوته، ثم هو يدعه مستسلماً خاضعاً لسلطانٍ في الأرض غير سلطان واحد قهار: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] ، وتلك لعمر ربي هي صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة. إننا -أيها المسلمون- إذا ما رأينا المظالم تقع على الأرض حثيثة، وإذا ما سمعنا المنكوبين وذوي الديار المغتصبة والأراضي المتخطفة يئنون ويصرخون ويهرعون ويتوجعون حتى تلامس صيحاتهم أسماع أمة الإسلام، غير أنها لم تلامس أسماع نخوة أمة حاضرة، تهب لرفع ما نزل، ودفع ما قد يقع، فلنا حينئذٍ أن تساورنا الشكوك جميعاً تجاه خلل ما، هو السر الكامن في وجود هذا الوهن العظيم وسكون من له حق وحراك من لا حق له، والذي من خلاله فُتَّ عضد الأمة، ونُكثت جراحها، وجعلها شذر مذر، ولا جرم أن من استطب لواقعه فلن يعدم معرفة الداء ومحله. أيها المسلمون: النسيم قد لا يهب عليلاً داخل المجتمعات المسلمة على الدوام، فقد يتعكر الجو، وقد تثور الزوابع، وتضطرم فوهات البراكين، كما أن ارتقاب الراحة الكاملة إنما هو نوع وهم وطيف وتخييل، ومن العقل والحكمة توطين النفس على مواجهة بعض المضايقات على الإسلام والمسلمين والاستعداد لحلها، والوقوف بحزم أمامها، وترك إضاعة الأوقات في التعليق المرير عليها والذي قد يفقأ العين ولا يقتل صيداً، ثم إن الفتن التي تعترض أمة الإسلام حيناً بعد آخر إنما هي في حقيقتها تمحيص وابتلاء: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال:37] . وقد شرع الله لنا أن نقابل ابتلاءه بالسراء بقوله عن سليمان: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] وكذلك أن يكون موقفنا في الضراء مغايراً لما ذكره الله على وجه الذم بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] وقوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] . إن غير المسلمين لن يرضوا عن أمة الإسلام إلا بعد أن تترك ديناها وتبتعد عن شريعتها، أو لا أقل من أن تتراجع أو أن تقدم تنازلات، فلا تبقي من الإسلام إلا اسمه، وهذا أمر ينبغي ألا يختلف فيه اثنان وألا يجادل فيه متفيهقان. جاء عند أحمد وابن أبي شيبة من حديث جابر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه فغضب وقال: {لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني} . ومن هذا المنطلق -عباد الله- فإن المساومة على الانتماء للدين صورة ومعنى، أو المساومة على الثوابت التي لا تقبل الخلاف والجدل والتي يخضع لها كل زمن وليست تخضع هي لكل زمن: إن المساومة على مثل هذا لهو خيانة عظمى وجنون لا عقل معه، وإغماء لا إفاقة فيه، إذ شرف المرء وشرف المجتمع إنما هو في الانتساب إلى الإسلام والعمل به، والدعوة إليه، والثبات عليه حتى الممات. إن من غيرته صروف الحياة، أو هزت كيانه خطوب وتداعيات، ورغبة أو رهبة، ثم زلت قدمه عن دينه بعد ثبوتها، فإنما هو مفرط ضائع، ناقض بعد غزل، وحالٌّ بعد عقد حتى يصبح فريسة الحور بعد الكور، والذل بعد العز: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:25-28] . فمن هنا -عباد الله- جاءت شريعة الإسلام بالتحضيض على الثبات على الدين، والعضِّ عليه بالنواجذ حتى الممات: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] . وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قوله: { الجزء: 16 ¦ الصفحة: 2 زوابع الزنادقة فالعجب كل العجب عباد الله! ممن يعلم خطورة الركون إلى غير الإسلام، أو ميل القلب أو العاطفة تجاه من هم على غير ملة الإسلام مهما كانت الظروف التي تحيط بالواقع، ودوافع الرغبة أو الرهبة الداعية إلى مثل هذا، فإن هذا وإن كان لا يعد مسوغاً للميل إليهم والخنوع لهم وتحبير الأقلام والأفهام لهم أو الانسياق خلف مطامعهم وتطلعاتهم، أو الاستجابة لدعواتهم المتكررة في لمز دين الإسلام وهمزه، أو التنازل عن بعض ثوابته وعماده، أو التشكيك المزوق في مناهج التعليم الشرعية، وثمار الصحوة المأتية، فإن الانسياق مع مثل هذا جرم فاضح، وإحسان الحديث عنه زور وبهتان، وما محبو مثل هذا في عالمنا الإسلامي إلا كأنوف أزكمها غبار الافتتان فاستوت عندها الروائح، أو كجسوم تندت ولم ينزع مبلولها، فما هي إلا الحمى ما منها بُدّ. وإن تعجبوا عباد الله! فعجبٌ تلك الأفهام التي تحمل اسم الإسلام وما يخطه بنانها، وتلوكه ألسنتها، غريب كل الغرابة عنه، يدفعهم إلى مثل هذا كونهم منهومي المال، مفتوني الجاه، أو رائمين شهوات مشبوهة، قد ركبت تركيباً مزجياً يمنعهم من الصرف والعدل، وإن أحسن الظن بهؤلاء: فهم من صرعى الأفئدة المقلدة الذين لا يفرقون بين الثوابت والمتغيرات، أو ممن يضيفون الأسباب إلى غير مسبباتها، ويستسمنون كل ذي ورم، ثم هم يغفلون عن حقيقة هذا وذاك، فلو سرق إنسان في المسجد؛ لعلت صيحاتهم تدعو إلى هدم المساجد أو إغلاقها؛ لئلا تتكرر السرقة زعموا. ولو أن امرأة محجبة غشت وخدعت لتنادوا إلى نزع الحجاب وبيان خطره، وأنه مظنة الغش والخداع، فلا هم في الحقيقة قطعوا يد السارق، ولا عزروا تلك التي غشت وخدعت، وإنما دعوا لهدم المسجد ونزع الحجاب، وهذا هو سر العجب! وهو ما يثير الدهشة حينما نرى مثل هذا الفكر المقلوب الذي لا صحيح فيه إلا أنه غير صحيح، وأحسن ما فيه أنه غير حسن. قدم أبو سفيان -رضي الله تعالى عنه- المدينة قبل أن يسلم، فدخل على ابنته أم حبيبه زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: [[يا بنية! ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبتِ به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس]] . هكذا فعلت أم المؤمنين رضي الله عنها في أبيها بكلمة حق خرقت بها مثلاً عربياً مشهوراً: كل فتاة بأبيها معجبة وما فعلها هذا إلا لأن الإيمان لم يخامر قلب أبيها، وكلمة التوحيد لم ينطق بها لسانه، ولم يكن لنسب الأبوة حق عندها في أن يلامس ولو مجرد الفراش. ألا إن رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم كفراشه، فمن أجلس عليه من ليس منه أو طواه حياء أو استجداء فما رعى حق الله ولا حق نبيه صلى الله عليه وسلم ولا حق دينه وأمته؛ ولأجل هذا فمن البديهي قطعاً أنه لا يمكن أن نتصور نضجاً إنسانياً مع انقطاع الصلة بالله، وإضمار الكراهية لشريعته. وما يشاع بين الفينة والأخرى من أن ثَمة أفكاراً ومستجدات تضع إمكانية مقاطعة المرء المسلم لدينه، أو مجاملته بكلمات باهتة، أو مجرد التمسك بخيط واحد من حبله المتين، ثم هو يختط لنفسه طريقاً لا يعرف من خلاله المسجد، ولا يقيم وزناً لحدود الله، لهو فكر خطر الملمس يثير تسائلات واسعة النطاق من قبل الباحثين عن الحق. هل قضية الإيمان بالله من السهولة بمكان بحيث يستوي فيها النفي والإثبات، والأخذ والترك، والشرك والتوحيد؟ هل هذه القضية من خفة الوزن بمكان بحيث لا يفرق فيها بين الثابت والمتغير، وبين العدل والجور، وبين الصدق والريبة؟ إننا لو سمعنا برجل ما يقول: إن الأرض مربعة، أو يزعم أن مياه البحار والمحيطات غاية في العذوبة، فإننا -ولا شك- نزري بعقله ونرميه بالجنون والسفه، فإذا كان الخطأ في فهم بعض الحقائق الدنيوية له هذا الوزن في الإنكار، فكيف بالخطأ الجسيم في الحقائق العلوية المتصلة بمن استوى على العرش ويعلم السر وأخفى؟! {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] . فيا ليت شعري أين ذوو الأقلام النيرة، والأفهام السوية، يدلون الناس على ما يحفظ لهم دينهم، ويحصن كيانهم، ويزرع الثقة في مبادئ شريعتهم، ومناهج تعليمهم، ويحذرونهم من شرور المبغضين، وحسد الحاسدين، ويقيمون لهم ميزان العدل في القول والعمل، فيرجعون عقلاء مميزين، يعرفون ما يأخذون وما يذرون. فبلاد الإسلام مستهدفة، وثوابت الشريعة الغراء تواجه تضليلاً وتشكيكاً من خارجها وداخلها، بل وممن على أرضها، ويتكلمون بلغتها، وبلاد الحرمين الشريفين -مهبط الوحي، ومعقل الإسلام المعاصر- لم تسلم براجمها من هذه الأوخاز، حتى طالتها الاتهامات والهجمات، غير أنها بحمد الله لن تكون علكاً ملتصقاً يلوكه كل مشكك في دينها وثوابتها وصحوتها ومناهجها الشرعية، وصحوتها من شباب وكهول، إن ما نَهلوه تربية إسلامية غير معوجة، وأفكارهم واطروحاتهم مبنية على ركائز العقيدة الصحيحة والولاء لله والبراء فيه، وهم في ذلك ثمرة علمائها، وشعب حكامها، ولن يكون أهلها -بإذن الله- أبواقاً ينفخ من خلالها المغرضون، ومطايا يمتطيها الحاقدون، ضد هذه البلاد، ومناهجها الشرعية، وعقيدتها الراسخة، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] . بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون واستغفروا الله إنه كان غفاراً. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 3 نقاط على طريق الثبات الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فيا أيها الناس: إن لكل نظام من النظم على أرض الواقع فلسفته وفكره، وحله وعقده، وله حلوله الخاصة التي يواجه بها مشكلاته بقطع النظر عن صحتها من سقمها، أو زينها من شينها، بيد أنه ليس من المنطق ولا من المعقول -فضلاً عن أنه ليس من الإنصاف جدلاً- أن تقحم الشريعة الغراء، متهمة في مشكلات وتبعات لم تنشأها أمة الإسلام، وليست من بابتها، وإنما فجرتها نظم وممارسات أجنبية عن أمة الإسلام، ثم تريد هي من أمة الإسلام أن تفكر بعقلها، لا بالعقل الإسلامي، وأن تحس بقلبها لا بالقلب الإسلامي. ولكي نعمق الولاء للإسلام والبراء فيه، ونردم الوهدة التي تفصل الكثيرين عن ماضيهم ومجدهم الزاهر، والوقوف أمام كل نابتة تنبت في هذا الطريق الخضم المائج، ولئلا تقدم الأمة تنازلات فكرية أو عقيدية أو تعليمية غير مبررة ولا مفهومة، بل هي من نسج الحاقد، واضحة النشوز في مسار الصحوة الفكري، ورفض التبعية والتغريب، لأجل أن ندرك ذلك كله فلا بد لنا أن نضع الحقائق التالية نصب أعيننا: أولها: أن عقيدتنا أساسها التوحيد لله، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، وهيهات هيهات أن يكون أي تجسيد عقدي سوى ذلك أرجح منه وأولى بالقبول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ * وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:71-72] . وثانيها: أنه لا يمكن إدراك تضامن إسلامي ناجح بين أفراد ومجتمعات بعضها يبغض بعضاً، أو ينفر من بعض، أو يكره الإسلام، أو يرفض بعض تعاليمه في ساحات كثيرة أو قليلة. وثالثها: أنه ينبغي لأي وحدة منشودة أو تمازج مقترح في المصالح الشرعية أو في درء المفاسد أن يتفق في الوسيلة أو في الغاية وفق الحق والشريعة، وإن أي وحدة صف أو أي هدف منشود فإنه يعتبر وهماً مع هذا الخروج على المقررات الإسلامية والثوابت الشرعية. ورابعها: أن التراجع والتخاذل بين المسلمين إنما يجيء بالدرجة الأولى من داخل النفس قبل أن يجيء من ضغوط من سواهم، ولسنا أول أمة ابتليت وفرض الله عليها أن تثبت على دينها وتكافح لأجل أن تحيا عزيزة شماء. وخامسها: أن تكون ثقافتنا المذاعة والمنشورة قائمة على التقريب بيننا لا على المباعدة، وعلى الرتق لا الفتق، وعلى الاعتزاز لا الابتزاز، وعلى دعم القيم الدينية ورد الشبهات التي تثار حول أمة الإسلام ومناهجها، وعلى أن تكون دعوتها لإحياء وحدة المسلمين في أن تميت صيحات الجاهلية، وأن تبرز العنوان الإسلامي وحده أساساً للنهضة البناءة والفكر السوي: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] . {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} [القلم:35-38] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم! اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام! اللهم إذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين ياذا الجلال والإكرام. اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا بلاء ولا غرق يا ذا الجلال والإكرام! اللهم لتحيي به البلاد، وتسقي به العباد، ولتجعله بلاغاً للحاضر والباد، برحمتك يا أرحم الراحمين! ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 4 أَوَّه على التفريط! إن الإنسان المسلم بين الحين والآخر يصاب بالتفريط في الأعمال الصالحة، لأنه غير مدرك لفضلها ونفعها في الدنيا والآخرة، فيا ترى ما هي أسباب هذا التفريط؟ وهناك أيضاً بعض الأعمال الصالحة التي يفرط فيها المفرطون، فأين المسابقين إلى الخيرات؟ وليحذر الكسل فإنه شرداء. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 1 التفريط وخطره الحمد لله فاطر السموات والأرض غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين -الجن والإنس- بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، أقام الله به الحجة، وأوضح به الطريق، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وخلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وعلى سائر أصحابه الأخيار النجباء الأطهار. أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه، والاعتصام به في السراء والضراء، وألا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون، واعلموا أن ما بكم من نعمة فمن الله، أفغير الله تتقون؟! عباد الله: في دنيا الناس أمثلة وضروب، ومحادثات لاقت رجع الصدى بين الحين والآخر في غير ما مجلس، يتحدث من خلالها المتحدثون، عما يُشاهدونه مرات وكرات؛ من تفويت للحظوظ، وتفريطٍ في المصالح الظاهرة، لا سيما تلك المصالح التي تكون في معايش الناس، وهي لا تساوي إلا ثمناً بخساً زهيدا، يتحصل من خلاله على مردود ليس بالقليل، من الحظ الوافر والرزق الواسع. ألا وإن من المقرر شرعاً وعرفاً بين الناس، أن من ظهر له ربحاً ما في مرابحةٍ لا يحتاج بأن يعتاظ عنها إلا شيئاً يسيراً، ثم هو يُفرِّط في تحصيلها؛ فإنه قلَّ أن يسلم ولا شك من بروز من يصفه بالسفه والحمق، ولربما تعدَّى الأمر إلى دعوى أن مثله أهلٌ لأن يُحجر عليه؛ بسبب تفويته مصلحةً محققة بأقل كُلفة دون مسوغٍ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 2 التفريط في الأعمال الصالحة والأمر الذي نُريد أن نتحدث عنه هنا باختصار في هذه العُجالة شبيه بما ذكرناه آنفاً، غير أن ما يُعنينا هنا هو أمر أخروي لا دنيوي، وراجح لا مرجوح، بل هو خيرٌ من كنوز كسرى وقيصر، وخيرٌ من مال قارون وخيرات سبأ، بل إنه من الحسنات اللآتي يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين. ذلكم -يا عباد الله- هو ما يعرف باسم التفريط في الأعمال الصالحة، وأخص بالحديث منها فضائل الأعمال. أيها الناس: إننا حينما نتحدث عن فضائل الأعمال وفقهها، فسيأخذ الحديث بألبابنا، ولربما طال بنا المقام، والقلوب مشرئبة إلى سماعها بتمامها، بيد أن الذي نود تسليط الحديث عليه هو ذلكم الشعور السلبي، والإحساس شبه المغيب حقيقة، عن استحضار الصور الحقيقية لفضائل الأعمال، لا سيما تلك الأعمال التي تستجلب الحسنات الكثيرة في مقابل العمل الصغير، والتي قد يفعلها جمهور من الناس، غير أنه يقل من يستشعر أبعادها، أو يدرك حقيقة أجرها، بغض النظر عن كون بعضهم يُؤديها على شبه صورة اعتيادية، فضلاً عمن نأى بنفسه عنها بالكلية، مع أنه لو علم ما فيها من الأجر والمثوبة لحكم على نفسه بالسفه والحطة: كيف يضيعها لتغدو عنه سبهللاً؟ ولا جرم يا عباد الله! فعُمر الإنسان مهما طال فهو إلى القصر أقرب، ولو استحضرنا قليلاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك} رواه الترمذي وغيره لو استحضرنا هذا الحديث، وقمنا بقسمة عُمْرَ من بلغ الستين، وجعلنا له من يومه ما يُقارب سبع ساعاتٍ يأخذها في النوم، فإن ثلث الستين سنة سيكون نوماً قطعاً، وإنما يُعادل سنتين تقريباً سيكون لتناول الطعام لو قلنا بالوجبات الثلاث، وما يقارب الخمسة عشرة سنة يكون سن طفولة وصبوة دون التكليف، وحينئذٍ لا يبقى له حقيقة من الستين إلا ما يقارب ثلاثاً وعشرين سنة، كل ذلك يؤكد للمرء أنه أحوج ما يكون إلى كل مبادرة للعمل الصالح. أيها المسلمون: إن في ضرب المثل غنية وكفاية لمن هو في الفهم والإدراك فحل، فإليكم أمثلة متنوعة، نستطيع من خلال ذكرها أن ندرك -جميعاً- مدى الهوة السحيقة والبون الشاسع بيننا وبين البدار إلى الأعمال الصالحة: جاء عند مسلم في صحيحه: {أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يُصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تبع جنازةً فله قيراط، قال ابن عمر رضي الله عنهما: لقد فرطنا في قراريط كثيرة} . ألا فانظروا -يا رعاكم الله- إلى ندم ابن عمر رضي الله عنهما، وكيف أسف على تضييعه لهذه القراريط، ولا غرو -أيها المسلمون- في ذلك، فإن القيراط الواحد كـ جبل أحد. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر} . وعند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: {أيعجز أحدكم أن يكسب كل يومٍ ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، ويحط عنه ألف خطيئة} . وعند أحمد وأصحاب السنن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له نخلة في الجنة} . فانظروا -يا رعاكم الله- إلى هذه الحسنات الهائلة، وإلى ما يُقابلها من العمل اليسير، حسنات يعب منها الإنسان عباً، لا غلاء ولا كلفة، غير توفيق الله لمن بادر، ألا فليت شعري أترون نخيل الجنة كنخيل الدنيا؟! لله بكم يُشترى أطايب النخيل في دنيانا! ألا فالله أكبر ولا إله إلا الله نخلة في الجنة ثمنها سبحان الله وبحمده، أوَّه! تالله لقد فرطنا في نخيل كثيرةٍ، فالله المستعان! الجزء: 17 ¦ الصفحة: 3 حسن الخلق والتفريط فيه عباد الله: هذا في الذكر، فما تقولون فيمن حسن خلقه فكف أذاه، وخفض جناح رحمته، وزم نفسه عن سفساف الأمور لينال معاليها فرحم وصدق، وبرَّ وأوفى، وهش في وجه أخيه وبش إن ظُلم صبر، وإن أخطأ اعتذر، لا يستنفره الغضب، ولا يستثيره الحمق فيه وفي أمثاله يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلقٍ حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء} رواه الترمذي. وعند أبي داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم} . فيالله العجب! إذا كان هذا هو أجر الخلق فعلام النزق من أقوام؟ وما سر ضيق العطن لدى آخرين؟ ولِمَ الحسد والغرور وبطر الحق وغمط الناس {ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة} . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 4 فضل الصوم وحال المفرطين فيه عباد الله: لقد جاء في أجور صيام النوافل وفضلها ما يعلم المقصر من خلاله أنه كان خلف تفريط صار به من القعدة المفرطين، ولو رمق المفرط بمقلتيه إلى نصوص السنة النبوية في فضل صيام النوافل لعلم سر التحريض والتحضيض في تحصيلها، وإدراك ما أمكن من الفرص التي يتأكد استغلالها. فقد جاء في الحديث الصحيح: {من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر} أي: كصيام سنة كاملة بعدد أيامها. وفي الحديث الصحيح الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام ثلاثة أيام من كل شهر وهي أيام البيض: {إنها كصيام الدهر} أي: كصيام سنة كاملة. فلو نظرنا -عباد الله- إلى محصلة مجموع الصيامين في السنة لوجدناهما يبلغان، اثنين وأربعين يوماً، فتكون النتيجة أن من صامها كاملةً كان كمن صام سبع مائة وعشرين يوماً فيما سواها، أي: أكثر من سبعة عشر ضعفاً، فلا إله إلا الله والله أكبر، كم نحن مفرطون! عباد الله! ما مضى ذكره إنما هو جزء من كل، ونقطة من محيط، والفرص الثمينة ما لفواتها من عوض، وإن انتهازها لدليل على قوة الإرادة النابعة عن عزم اليقين، فمن علم خيراً فليبادر هواه لئلا يغلبه، فلعله يظفر بما مضي الوقت فيه هو الغنم، وعلى الضد يكون الغرم. ألا وإن من فرح بالبطالة جبن عن العمل، ومهما علم الإنسان من الأجور والفضائل وكانت رغباته صالحة، فإنه لن يستفيد إلا إذا انتهز كل فرصة سانحةٍ له. ثم إن الأعمال الصالحة بعامة لا تأخذ من الناس وقتاً طويلاً، ما لم يشرع الناس لأنفسهم ما لم يأذن به الله، فيشقوا على أنفسهم ويرهقوها عسراً. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 5 المسابقة إلى الخيرات اعلم -أيها المسلم- أنك في ميدان سباقٍ، والأقوات تنتهك، وإياك إياك! والخلود إلى الكسل، فما فات ما فات إلا بالكسل، وما نال من نال إلا بالجد والعزم، وثمرة الأمرين أنَّ تعبَ المحصل للفضائل راحته في المعنى، وراحة المقصر في طلبها تعبٌ وشين إن كان ثم فهم لديك، يا رعاك الله! والدنيا كلها إنما تُراد لتُعبر لا لتُعمر، وما يناله أهل النقص بسبب فضولها والانشغال بها عما هو خير منها؛ فإنه يُؤذي قلوب معاشريها حتى تنحط، ومن ثَمَّ يأسف أمثال هؤلاء على فقد ما وجوده أصلح لهم، في حين إن تأسفهم ربما يكون شبه عقوبة عاجلة على تفريطهم. يقول ابن الجوزي -رحمه الله- متحدثاً عن زمنه: "لقد اشتد الغلاء بـ بغداد، فكان كلما جاء الشعير زاد السعر، وتدافع الناس على اشتراء الطعام، فاغتبط من يستعد كل سنة بزرع ما يقوته، وفرح من بادر في أول الناس إلى اشتراء الطعام قبل أن يُضاعف ثمنه، وأخرج الفقراء ما في بيوتهم فرموه في سوق الهوان، وبان ذل نفوسٍ كانت عزيزةً، فقلت: يا نفس! خذي من هذه الحال بشارة، ليغبطن من له عمل صالح وقت الحاجة إليه، وليفرحن من له جواب عند إقبال المسألة". أ. هـ وروى الإمام مالك في الموطأ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في بعض دعائه: {واقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط} ، والله تعالى يقول: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 6 أسباب التفريط في الأعمال الصالحة الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد البشر، والشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: ثم اعملوا أن للتفريط في الأعمال الصالحة أسباباً كثيرة يطول حصرها، غير أن من أهمها ما يلي: الغفلة عن مدى حاجة المرء المسلم إلى تحصيل مثل هذه الأجور المضاعفة والتي قد يسد بها نقصاً كبيراً من الخلل الوارد على الفرائض، ناهيكم عن التزود في الطاعة، والله -جل وعلا- يقول: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] . ومن الأسباب: ضعف التصور الصحيح، أو تلاشيه وبعده عن حقيقة أجور بعض الأعمال المضاعفة. فإن الاستمساك بالشيء والعض عليه بالنواجذ، إنما هو فرع عن تطوره وإدراكه، يقول ابن الجوزي رحمه الله: "من لمح فجر الأجر هان عليه ظلام التكليف". ومن الأسباب كذلك: توهم البعض من الناس أنهم بلغوا درجةً عُليا من كمال زائفٍ في الجوانب الإيمانية، مما شكَّل حاجزاً منيعاً في الحيلولة دون اغتنام الفرص وزيادة نسبة الإيمان لدى الواحد منهم. ومنها: يا رعاكم الله! العجز والكسل اللذان تعوَّذ منهما النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان العاجز معذوراً في بعض الأحايين لعدم قدرته، فإن الكسول الذي يتثاقل ويتراخى مع القدرة قد لا يُعذر {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46] . وآخر الأسباب: كثرة الاشتغال بالمباحات والإفراط فيها، حتى ينغمس فيها المرء فيثقل، ويركن إليها فيبرد. ولذلك كان نهج السلف واضحاً في الإقلال من المباحات الملهية، والتي يأنس لها القلب فتقعده عن قربة مستحبةٍ، أو فرصة سانحة، ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله: "إني لأدع ما لا بأس فيه خشية الوقوع في ما فيه بأس". الجزء: 17 ¦ الصفحة: 7 تضاعف السيئات عباد الله: وهناك أمر ينبغي أن يوضح ويجلى، وهو أن هناك سيئاتٍ تتضاعف وتتكاثر حتى تثقل سجل العبد وميزانه، وهي فيما يظهر له أنها من السيئات اليسيرة التي لا يتصور العبد أنها من الخطورة بمكان، فقد يفوه بكلمة لو مُزِجت بماء البحر لمزجته، أو لا يلقي لها بالاً، فتهوي به في النار سبعين خريفاً، أو يكون سبباً في إحياء سيئة أو سنها بين الناس، فيتبعها غيره فيضل، فيعود إليه وزرها ووزر من عمل بها بعده {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25] ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تُقتل نفسٌ ظلماً، إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها؛ لأنه أول من سن القتل} رواه البخاري ومسلم. فحذارِ حذارِ -أيها المسلم- من أن تُوقع نفسك في مغبة هذا الشرك الموحش، أو أن يكون لك من السوء ما لا يقتصر أثره عليك أنت وحدك، بل يتعداك إلى آحاد المسلمين، ولقد أحسن الإمام الشاطبي حين قال: "طوبى لمن مات وماتت معه ذنوبه، والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه مائة سنة، ومائتي سنة، يعذَّب بها في قبرهُ ويُسأل عنها إلى انقراضها". اللهم إنا نعوذ بك من الإثم، وما حاك في الصدور، أو أن نجر به على مسلم أو مسلمة إنك سميع عليم. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 8 الزاد بعد شهر العبادات أصبح الكثير من الناس لا يعرفون الله إلا في رمضان، فتجدهم مصلين، قارئين لكتاب الله، محافظين على الصفوف الأولى وعلى الصدقات، والنوافل والطاعات، فما أن ينتهي رمضان إلا وانقطعت تلك الأعمال كلها، كأنها أوراق خريف أتت عليها الرياح فتطايرت وتساقطت، ومن كان هذا حاله فهو ولاشك على خطر عظيم فلينتبه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 1 التحذير من ترك الطاعة بعد رمضان الحمد لله الحي القيوم، الدائم الذي لا يزول، هو الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والباطن فليس دونه شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، يُقلِّب الليل والنهار عبرة لأولي الأبصار، ويداول الأيام بين الناس {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140] ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من خاف ربه، وصلى فرضه، وصام شهره، وحجَّ بيته، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على طريقهم واتبع هداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، وراقبوه في السر والعلن، واعبدوه كأنكم ترونه، فإن لم تكونوا ترونه فإنه يراكم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:217-220] . عباد الله: إن في كَرِّ الأيام والليالي لعبرة، والأيام تمر مَرَّ السحاب، عشيةٌ تمضي، وتأتي بكرةٌ، وحسابٌ يأتي على مثقال الذرة، والناس برمتهم منذ خُلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو في السعير، ألا وإن سرعة حركة الليل والنهار لتؤكد تقارب الزمان الذي هو من أشراط الساعة كما صح بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه. وهذا كله -عباد الله- يُعدَّ فرصة عظمى لإيقاظ ذوي الفطن وأصحاب الحجى؛ لفعل الخير، والتوبة النصوح، وإسداء المعروف، وترك ما يشين: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] . لقد ظل المسلمون -جميعاً- شهراً كاملاً ينالون من نفحات ربهم، ويرون الله من أنفسهم، متقلبين في ذلك بين دُعاءٍ وصلاة وذكر وصدقة وتلاوة للقرآن؛ ولكن سرعان ما انقضت الأيام، وتلاشت الذكريات، وكأنها أوراق خريف عصفت بها الريح على أمرٍ قد قُدِر، أو بلابل روح قد هدأ تغريدها، وإلى الله المصير. أيها المسلمون: إنَّ من يُقارن أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان ليأخذ العَجَب مِن لُبِّه كلَّ مأخذ، حينما يرى مظاهر الكسل والفتور، والتراجع عن الطاعة في صورة واضحة للعيان، وكأن لسان حاله يحكي: أن العبادة والتوبة وسائر الطاعات لا تكون إلا في رمضان، وما علموا أن الله -سبحانه- هو رب الشهور كلها، وما شهر رمضان بالنسبة لغيره من الشهور إلا محط تزوُّد وترويض على الطاعة، والمصابرة عليها، إلى حين بلوغ رمضان الآخر؛ ولا غرو في ذلك عباد الله، فالله -جلَّ وعلا- أتبع فرض الصيام على عباده بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 2 عقوبة ترك الطاعة وفعل المعصية ومن هنا -عباد الله- كان لزاماً علينا أن ننظر إلى حقائق العبادات وآثارها، لا إلى صورها ورسومها؛ إذْ كم مِن مُجهِدٍ نفسَه كان حظه من صيامه الجوع والعطش، وكم من مواصل للعبادة فيه فكان حظه من ذلك التعب والسهر، وآكَد ما يدل على ذلك حينما يسائل الناس أنفسهم: كم مرة قرءوا القرآن في رمضان؟! وكم سمعوا فيه من حِكَم ومواعظ وعبر؟! ألم يسمعوا كيف فعل ربهم بعادٍ؟!: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:7-8] ألم يقرءوا صيحة عادٍ؟! وصاعقة ثمود؟! وخسف قوم لوط؟! ألم يقرءوا الحاقة، والزلزلة، والقارعة، وإذا الشمس كورت؟! فسبحان الله! ما هذا الران الذي على القلوب؟! {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] أفَقُدَّت قلوبُنا بعد ذلك من حجر؟! أم خلقت من صخر صلب؟! ألا فليت شعري! أين القلب الذي يخشع؟! والعين التي تدمع؟! فلِلَّه كم صار بعضها للغفلة مرتعاً! وللأُنس والقُربة خراباً بلقعاً! وحينئذٍ لا الشاب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الكبير فينا يلتحق بالصفوة، بل قد فرطنا في كتاب ربنا بالخلوة والجلوة، وصار بيننا وبين الصفاء أبعد ما بين الصفا والمروة، فلا حول ولا قوة إلا بالله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد:24-25] . ألا فاعلموا يا رعاكم الله! أن من قارب الفتور والكسل بعُد عنه النصب والاجتهاد، ومن ادعى الترويح والتسلية وُكِل إلى نفسه، ومن وُكِل إلى نفسه فقد وُكِل إلى ضيعة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 3 الاغترار بفعل الطاعات في رمضان فإياك إياك -أيها المسلم- أن تغتر بعزمك على ترك الهوى في رمضان بمقاربة الفتنة بعده، فإن الهوى مكايد، وكم من صنديد شجاع في غبار الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف النظر إليه، واذكروا رحمكم الله حمزة مع وحشي رضي الله عنهما. إن من وقع في التقصير بعد التمام، أو تمكَّن من الذنوب بعد الإقلاع عنها لَهُوَ أبعد ما يكون عن الفوز بالطاعة، ولو غش نفسه بعبادات موسمية ذات خداج، إلا أنها لا تبرح مكانها، بل لربما وجد معها خفي العقوبة الرئيس، وهو سلب لذة المناجاة، وحلاوة التعبد؛ إلا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات مِنْ عُبَّاد رب الشهور كلها، بواطنهم كظواهرهم، شَوَّالهم كرمضانهم، الناس في غفلاتهم وهم في قطع فلاتهم، وحينئذٍ: أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا ولأجل هذا لم يكن العجب في أن يَغْلِب الطبع، وإنما العجب في أن يُغْلَب الطبع، وأمثال هؤلاء هم ولا شك ممن يسيرون على هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في المداومة على الطاعة. نعم. لرمضان ميزة وخصوصية بالعبادة ليست في غيره من الشهور، بيد أنه ليس هو محل الطاعة فحسب، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم جواداً في كل حياته غير أن جوده يزداد إذا حلَّ رمضان، ناهيكم عن أن الرجوع والنكوص عن العمل الصالح هو مما استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما صح عنه: {وأعوذ بك من الحور بعد الكور} والله جلَّ وعلا يقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل:92] ويؤكد ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم في دعائه المشهور: {واجعل الحياة زيادة لي في كل خير} إذ لم يُقْصِر الخير على شهر رمضان فحسب، بل إن هذا كله إنما هو استجابة لأمر ربه -جل وعلا- بقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فلا منتهى للعبادة والتقرب إلى الله إلا بالموت. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 4 أحب الأعمال إن مما لا شك فيه أن هناك ضعفاً في البشر لا يملكون أن يتخلصوا منه، وليس مطلوباً منهم أن يتجاوزوا حدود بشريتهم، غير أن المطلوب أن يستمسكوا بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله في كل حين، وتجعل من التدين في جميع جوانب الحياة عندهم -ثقافة وأسرة وإعلاماً- من الثوابت التي لا تتغير، ولا تُخدع بها النفس في موسم ما دون غيره، كما أنها تمنعهم في الوقت نفسه -بإذن الله- من التساقط والتهالك، وتحرسهم من الفترة بعد الشِّرّة مهما قلَّت، ما دامت هي على الدوام، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يا أيها الناس! خذوا من الأعمال ما تُطيقون، فإن الله لا يملَّ حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قلَّ} رواه البخاري ومسلم. لأجل هذا -أيها المسلمون- فإن هناك عبادات هي من الثوابت التي لا تتغير بعد رمضان، كالصلاة، والزكاة، والصدقة، وكذا الدعاء لنفسك ولمن أوصاك به ولإخوانك في الملة والدين من المعوِزين والمستضعفين والمجاهدين، ناهيكم عن ثابت التوبة المطلوبة في كل حين وآن، والتي أمرنا الله بها في قوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] وكان يتأولها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة} . إذا عرفت -أيها المرء- هذه الأمور كلها، فما عليك إلا أن تلزم، ولقد أحسن من انتهى إلى ما سمع أو علم، ولقد ذقتَ طعم العبادة في رمضان ولذة القرب من الله، فلا تُعكِّرنَّ هذا الصفو بالكدر، والهناء بالشقاء، والقرب بالبعد. إن البقاء على الطاعة في كل حين، أو التهاون عنها كرات ومرات ليعودان بالمرء -بإذن الله- إلى القلب، وهو أكثر الجوارح تقلباً في الأحوال، حتى قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: {إنما سُمِّي القلبُ مِن تقلُّبه، إنما مَثَل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً على بطن} رواه أحمد، ولأجل هذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: {يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك} رواه الإ مام أحمد. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 5 وقفة مع العيد وآدابه وبعدُ يا رعاكم الله! فإن من حق نفسك عليك -أيها المرء- أن تفرح بعيدها، فالله -جلَّ وعلا- جعل الفرح والرَّوح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في السخط والشك، وساخط العيش -عباد الله- هو في الحقيقة كثير الطيش، وكأن الدنيا في عينه سَمُّ الخياط، حتى يكون حرضاً أو يكون من الهالكين. والعيد -عباد الله- مسرح للاستئناس البريء البعيد عن الصخب والعطب، بيتاً ومجتمعاً وإعلاماً، ومتى تجاوز الناس حدود الله في أعيادهم، من لَهْو محرم، وإيذاء للآخرين بالضجيج والأهازيج، فما قَدَروا الله حق قدره، وما شكروه على آلائه، ولقد رأى علي -رضي الله تعالى عنه- قوماً يعبثون في يوم عيدٍ بما لا يرضي الله، فقال: [[إن كان هؤلاء تُقُبِّل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كانوا لم يُتَقَبَّل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين]] ، ورحم الله ابن القيم حين قال عن الفرح: إن الله -عزَّ وجلَّ- سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها، ومن هو عارف بقدرها، وإن وقعت في الطريق بِيَدِ مَن ليس عارفاً بها فرُبَّ حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، {ومَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراًَ} [الجمعة:5] . فعلى المسلم إذاً ألَّا يكون مفراحاً إلى درجة الإسراف؛ لأن الله لا يُحب الفرحين من أمثال هؤلاء، إذ بمثل هذا الفرح يتولد الأَشَر والبَطَر، ويدل لذلك قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] ففد قال بعض المفسرين: "إن الشيطان الوسواس ينفث في قلب ابن آدم عند الحزن والفرح، فإذا ذكر الله خَنَسَ". ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، والله الله في الانضباط حال الفرح والسرور والابتهاج، فالمؤمن الصادق لا يفرح إلا فرح الأقوياء الأتقياء، وهو في الوقت نفسه لا يبغي ولا يزيغ ولا ينحرف عن الصواب، ولا يفعل فعل أصحاب النار الذين قال الله فيهم: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:75] . وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[كل يوم لا يعصي العبد فيه ربه فهو عيد]] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 6 صيام الست من شوال والأيام البيض الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- واعلموا أن الشارع الحكيم قد سن لكم صيام الست من شوال، وجعل ذلك من متابعة الإحسان بالإحسان، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر كله} رواه مسلم. ووجه كون صيام الست بعد رمضان كصيام الدهر؛ هو أن الله -جلَّ وعلا- جعل الحسنة بعشر أمثالها، كما في قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] فصيام رمضان يُعدُّ مضاعفاً بعشرة شهور، وصيام الست بستين يوماً، فيتحصل من ذلكم أجر صيام سنة كاملة. والأفضل في صيام هذه الست أن تكون على الفور بعد يوم العيد، وأن تكون متتالية، ومن فرَّق بينها فلا بأس، ومن أخرها إلى وسط الشهر أو آخره فلا بأس، وهي ليست واجبة ولا صحة لما يظنه بعض العوام منْ أنَّ مَنْ صامها سَنَة وجبت عليه في السني الأخرى، بل هي سُنَّة مَن فعلها أثيب عليها، ومَن تركها فلا شيء عليه، ومن كان مواظباً عليها في كل عام ثم مرض أو سافر في عام آخر، فإنها تُكتب له وإن لم يصمها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {إذا مرض الإنسان أو سافر كتِِب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً} . كما أنه لا يجوز تقديم صيام الست على أيام القضاء من رمضان؛ لأن من شروط حصول أجر الست من شوال أن يكون المرء قد صام رمضان بأكمله، ولذلك يكون المرء كأنما صام عاماً بأكمله. ثم إن من أراد الزيادة ومضاعفة الأجر، فليحافظ على صيام أيام البيض من كل شهر، وهي: يوم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر، فلقد صح في السنن: {أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل صيامها كصيام الدهر} أي: كسنة كاملة، والسنة فيها اثنان وأربعون يوماً من الأيام البيض فقط، ويُضاف إليها ستة وثلاثون يوماً لرمضان وست من شوال، فيكون صيام ثمانية وسبعين يوماً في السنة يعدل صيام سنتين كاملتين، أي: أكثر من سبعمائة يوم، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في سبيلك في كل مكان يا ذا الجلال والإكرام. اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم لا تمنع عنا خير ما عندك بشر ما عندنا. اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنعنا بذنوبنا فضلك يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 7 وقفات مع الرؤى يعتبر موضوع الرؤى والأحلام من أهم المواضيع التي تشغل الكثير من الناس في عصرنا الحاضر، حتى انصرف إليها فئام من الناس هنا وهناك، وبنوا كثيراً من تصرفاتهم عليها. وهناك آداباً كثيرة متعلقة بها آداب تتعلق بالرائي، وآداب تتعلق بالمعبر، يجب الوقوف عليها والأخذ بها مع العلم أن الرؤيا لا تثبت بها الأحكام الشرعية، فهي محكومة بالشرع لا حاكمة. وهناك أمر يجب التنبيه إلى مخاطره ومزالقه وهو ما انتشر هذه الأيام من التعبير عبر الشاشات والقنوات. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 1 اختصاص الله بعلم الغيب الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من ركع لله وسجد، وأفضل من دعا إلى طريق الحق والرشد، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى من سار على طريقهم واتبع هداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن هذه الدنيا دار ممرً وأن الآخرة هي دار القرار، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7-8] . أيها الناس: إنَّ لبني آدم ولعاً بالغاً وشغفاً ثائراً فيما يتعلق بالأمور الغيبية، الماضي منها واللاحق، وإنكار هذه الظاهرة ضربٌ من ضروب تجاهل الواقع والنأي عنه، غير أن تراوح هذه الظاهرة صعوداً وهبوطاً يعد مرهوناً بمدى قرب الناس من مشكاة النبوة والشرعة الحقة التي أحكمت هذا الباب، وأخبر الله من خلالها بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26-27] . ولا غرو حينئذ إذا وجدنا هذه العصور المتأخرة مظنةً للخلط واللغط بالحديث عن الغيبيات، وتوقان النفوس الضعيفة إلى مكاشفتها، ما بين مؤمن بالخرافة، وراضٍ بالكهانة، وآخرين سادرين بالسجع والتخمين، يقذفون بالغيب في كل حين، مع أن آيات الله تتلى عليهم بكرةً وعشياً، وفيها قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] وتُقرأ عليهم سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفيها قوله: {خمسٌ لا يعلمهن إلا الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} رواه الترمذي. إذاً لا مجال للحديث عن المغيبات إلا من خلال ما ذكره لنا ربنا جل وعلا، أو ما أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك فما هو إلا مجرد تكهناتٍ إن لم تكن محور أساطيرٍ وأوهام، وخليط كلامٍ يقذف به مسترقو السمع من الجن. والإسلام في حقيقته دين يزيل الخرافة من الفكر، والرذيلة من القلب، والشرود من المسيرة، فالإيمان بالغيب ليس إيماناً بالأوهام ولا هو إيذاناً لأنواع الفوضى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 2 حقيقة الرؤى ثم إن الناجين من هذه الظاهرة قد لا يسلمون من تطلعٍ آخر يحملهم عليه الشغف وروم معرفة الحال اللاحقة، والتي يظنون أن لها ارتباطاً وثيقاً باستقرار مستقبلهم من عدمه؛ فاشرأبت نفوسهم إلى الوقوف على ذلك في مناماتهم من خلال ما يعتريهم من رؤى وأحلام، ولذا فإن أحدنا قد يلاقي أخاً له أو صديقاً فيراه عبوساً متجهماً، أو فرحاً؛ مسروراً فيزول عنه العجب حينما يعلم أن سبب هذا الفرح أو الحزن رؤياً مؤنسة، أو أخرى مقلقة. وهذا الأمر -عباد الله- ليس قاصراً على أفراد الناس وعامتهم فحسب، بل يشركهم فيه العظماء والكبراء، فكم أقضت الرؤيا عظيماً من مضجعه، وكم بشرت الرؤيا أفراداً بمستقبلهم، وكم شغلت شعباً كبيراً برٌمَّته، وما رؤيا يوسف عليه السلام بغائبة عنا، ولا رؤيا ملك مصر بخافية علينا، فقد اجتمع فيها تبشيرٌ وتحذيرٌ في آن واحد، إذ بشارتها هي في السعة عليهم في الرزق سبع سنين، ونذارتها هي في الجدب والقحط سبعاً مثلها. عباد الله: إن الرؤى لها أهميتها الكبرى في واقع الناس قبل الإسلام وبعد الإسلام، لكنها من خلال نظرات المتعلمين المثقفين قد تتفاوت تفاوتاً كبيراً باختلاف المرجعية من قِبَل كل طائفة، فقد أنكرها الفلاسفة ونسبوا جميع الرؤى إلى الأخلاط التي في الجسد، فرأوا أنها هي التي تُحدِث انعكاساً مباشراً على نفس الرائي بقدر هيجان الأخلاط التي في جسده، ولبعض علماء النفس موقفٌ سلبيٌ تجاه هذه الرؤى -أيضاً- قاربوا فيه قول الفلاسفة، فجعلوها خليطاً من الأمزجة والرواسب التي تكمن في ذاكرة الإنسان فيهيجها المنام، حتى قصروا أمرها في قالب مادي بيولوجي صرف كما زعموا. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 3 الرؤيا من المبشرات وأما شريعة الإسلام فإن علماءها وأئمتها قد ساروا على منهاج النبوة، ووقفوا من الرؤى بما نص عليه الكتاب والسنة، فذهبوا إلى أن الرؤيا المنامية الصالحة الصادقة إنما هي حق من عند الله، فمنها المبشرة ومنها المنذرة، لما روى مالك في الموطأ وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ذهبت النبوة وبقيت المبشرات قيل: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرى له} وأصل هذا الحديث في البخاري. والتبشير هنا يحتمل التبشير بالخير والتبشير بالشر، كما قال الله تعالى عن الكفار: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق:24] . وهذه الرؤيا -عباد الله- هي التي قال عنها الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه: {إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً، ورؤيا المؤمن جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} رواه البخاري ومسلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 4 الهدي النبوي في التعامل مع الرؤى عباد الله! لقد تكالبت همم كثيرٍ من الناس في هذا العصر بسبب الخواء الروحي الذي يتبعه الجزع والفرق ونأي النفس عن تعلقها بالله، وإيمانها بقضائه وقدره، وبما كان ويكون، وأن شيئاً لن يحدث إلا بأمر الله ومشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، حتى لقد تعلقت نفوسهم بالرؤى والمنامات تعلقاً خالفوا فيه من تقدمهم في الزمن الأول من السلف الصالح، ثم توسعوا فيها وفي الحديث عنها والاعتماد عليها؛ إلى أن أصبحت شغلهم الشاغل عبر المجالس والمنتديات والمجامع بل والقنوات الفضائية إلى أن طغت على الفتاوى الشرعية، فأصبح السؤال عن الرؤى أكثر بأضعافٍ من السؤال في أمور الدين، وما يجب على العبد وما لا يجب كل ذلك إبَّان غفلة وسِنة عما ينبغي أن يقفه المؤمن تجاه هذه الرؤى. وإن هناك هدياً نبوياً للتعامل معها، ينبغي ألا يتجاوزه المرء فيطغى، ولا يتجاهله فيعيا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء، فأغنانا في الحديث عنها عن إتعاب النفس في التعلق بها والسعي الدءوب في معرفة تأويلها، بَلْه التعلق بها والاعتماد عليها، وما تهافُتُ الناس بالسؤال عنها بهذه الصورة المفْرِطة إلا لونٌ من ألوان الخروج عن الإطار المرسوم، والتوازن المتكامل، فتجد أحدنا يرى الرؤيا أياً كانت، فتضطرب لها حواسه، وترتعد منها فرائصه، وتحبس أنفاسه، فلا يطفئ ذلك إلا البحث بنهمٍ عن معبر لها ليعبرها حتى يظهر له أشرٌ هي أم خير، ولو وقف كل واحدٍ منا عند الهدي النبوي مع الرؤى، لما رأينا مثل هذه الجلبة ولا مثل هذا التعلق الشاغل الذي استثمرته بعض المجامع والمنتديات، فضلاً عن الفضائيات التي جعلته وسيلة جلبٍ واستقطابٍ لمشاهديها من خلال هذا الطُعم المهوع. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 5 آداب التعامل مع الرؤى ولأجل أن نقف جميعاً على صورة مثلى للتعامل مع الرؤى المتكاثرة؛ فلنستمع إلى جملة من الآداب المرعية تجاه هذه الظاهرة الناخرة في المجتمع. فقد روى مسلم في صحيحه أن أبا سلمة قال: {كنت أرى الرؤيا فتمرضني، حتى لقيت أبا قتادة فذكرت ذلك له، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلماً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثاً وليتعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره} وفي رواية عند مسلم قال أبو سلمة: {إن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من جبلٍ، فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث فما أباليها} . ومن هنا -يا عباد الله- فما كل ما يراه النائم يعد من الرؤى التي لها معنىً تفسر به؛ إذ إن ما يراه النائم في منامه يتنوع إلى ثلاثة أنواع لا رابع لها، كما عند ابن ماجة من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} . يقول البغوي رحمه الله: في هذا الحديث بيان أنه ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحاً ويجوز تعبيره، إنما الصحيح منها ما كان من الله عز وجل، وما سوى ذلك أضغاث أحلامٍ لا تأويل لها. ومثال هذه الأضغاث ما رواه مسلم في صحيحه: {أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! رأيت في المنام كأن رأسي ضرب فتدحرج فاشتددت على أثره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: لا تحدث الناس بتلاعب الشيطان بك في منامك} . وأما موقف المرء من هذا النوع من الرؤى -وهو الغالب على حال الكثيرين- فإنه قد جاء في السنة آدابٌ خاصة به في أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما وهي: التعوذ بالله من شر هذه الرؤيا ومن شر الشيطان، وأن يتفل الرائي حين يَهبُّ من نومه ثلاثاً عن يساره، وألا يذكرها لأحدٍ أصلاً، وأن يصلي ما كتب له، وأن يتحول من جنبه الذي كان عليه، وزاد بعض أهل العلم قراءة آية الكرسي؛ لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من قرأها لا يقربه شيطان} وهذا النوع من الرؤى إنما هو من الشيطان. يقول النووي رحمه الله: وينبغي أن يجمع الرائي بين هذه الآداب كلها ويعمل بجميع ما تضمنته الروايات، فإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله، كما صرحت بذلك الأحاديث. وأما النوع الثاني من الرؤى فهو: ما يحدث به المرء نفسه في يقظته؛ كمن يكون مشغولاً بسفرٍ أو تجارةٍ أو نحو ذلك، فينام فيرى في منامه ما كان يفكر فيه في يقظته، وهذا من أضغاث الأحلام التي لا تعبير لها. فلا يبقى إلا النوع الثالث، وهو: الرؤيا الصادقة الصالحة التي تكون من الله، وهي التي تكون بشارةً أو نذارةً، وقد تكون واضحة ظاهرة لا تحتاج إلى تأويلٍ، كما رأى إبراهيم عليه السلام أنه يذبح ابنه في المنام. وقد تكون خافيةً برموزٍ تحتاج فيها إلى عابرٍ يعبرها، كرؤيا صاحبي السجن مع يوسف عليه السلام، وهذا النوع هو الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقَصَّ إلا على عالمٍ أو ناصح، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: {لا تقص الرؤيا إلا على عالمٍ أو ناصح} رواه الترمذي. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 6 الرؤى لا تثبت شيئاً من الأحكام الشرعية وما عدا ذلك من الرؤى التي تتعلق بإثبات شيءٍ من أحكام الشريعة في حلالٍ أو حرام، أو فعل عبادة أو تحديد ليلة القدر مثلاً، وهي التي أريها النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنسيها، أو تلك الرؤى التي ينبني عليها آثار متعدية تتعلق بحقوق الناس وحرماتهم وإساءة الظنون بهم من خلال بعض الرؤى مثلاً، أو الحكم على عدالتهم ونواياهم من خلالها؛ فإن ذلك كله من أضغاث الأحلام، ومن الظنون التي لا يجوز الاعتماد عليها في قول جمهور أهل العلم، كـ الشاطبي والنووي وابن تيمية وابن القيم وابن حجر وغيرهم. وقد ذكر الشاطبي -رحمه الله- في كتابه الاعتصام: أن الخليفة المهدي أراد قتل شريك بن عبد الله القاضي، فقال له شريك: ولِمَ ذلك يا أمير المؤمنين ودمي حرامٌ عليك؟ قال: لأني رأيت في المنام كأني مقبلٌ عليك أكلمك وأنت تكلمني من قفاك، فأرسلت إلى المعبر فسألته عنها فقال: هذا رجلٌ يطأ بساطك وهو يسير خلافك. فقال شريك: يا أمير المؤمنين! إن رؤياك ليست رؤيا يوسف بن يعقوب، وإن دماء المسلمين لا تسفك بالأحلام. فنكس المهدي رأسه، وأشار إليه بيده أن اخرج فانصرف. وقد ذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق: أن بعضهم رأى في المنام الشافعي رحمه الله فقال له: كذب عليَّ يونس بن الأعلى في حديثٍ ما هذا من حديثي ولا تحدثت به فقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- معلقاً على هذا الكلام: يونس بن الأعلى من الثقات لا يطعن فيه بمجرد منامٍ. وقد نقل الذهبي -رحمه الله- عن المروزي قال: أدخلتُ إبراهيم الحصري على أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وكان رجلاً صالحاً فقال: إن أمي رأت لك مناماً هو كذا وكذا وذكرت الجنة، فقال: يا أخي! إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا وخرج إلى سفك الدماء، وقال: الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره. ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين واستغفروا ربكم إنه كان غفاراً. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 7 عظم مسئولية المعبرين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فيا أيها الناس! إن من باب الإنصاف والمصارحة والنصح ألاّّ نلقي باللائمة كلها في موضوع الرؤى والإفراط فيها على آحاد الناس فحسب، بل لا بد من تأدية الأمر إلى العابرين أنفسهم الذين يعبرون الرؤى، إذ عليهم مسئولية عظمى تجاه الرائين، فلا بد للعابر أن يكون عالماً بهذا العلم العظيم، وأن يدرك المصالح والمفاسد في هذا الميدان، وألاَّ ينصب نفسه للفُتيا في الرؤى ويتطلع إليها، لاسيما عبر الشاشات وفي المجامع الكبيرة، فإن تعبير الرؤى قرين الفُتيا، وقد قال الله حاكياً عن الملك: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43] . يقول ابن القيم رحمه الله: المفتي، والمعبر، والطبيب يطلعون من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيرهم، فعليهم استعمال الستر فيما لا يحسن إظهاره، ثم إن على العابرين ألا يتسارعوا في التعبير، وألا يجزموا بما يعبرون، وأن يعلموا خطورة هذا الجانب، وما يوصله إليه من الافتتان والإعجاب بالنفس، وتعظيم شأنه فوق شأن المفتين وأهل العلم. وقد نقل ابن عبد البر عن الإمام مالك أنه سئل: أيعبر الرؤى كل أحد؟ فقال مالك: أبالنبوة يلعب؟! وقد نقل ابن عبد البر أيضاً عن هشام بن حسان أنه قال: كان ابن سيرين يسأل عن مائة رؤيا فلا يجيب فيها بشيء، إلا أنه يقول: اتق الله وأحسن في اليقظة فإنه لا يضرك ما رأيت في النوم. وكان يجيب في خلال ذلك ويقول: إنما أجيب بالظن، والظن يخطئ ويصيب. فإذا كان هذا هو قول إمام المعبِّرين في زمانه وما بعده من الأزمان؛ فما الظن بمن جاء بعده، إننا لنسمع بالمعبر يسأل عن ألف رؤيا لا تسمع مرة يقول: لا أدري، أو يقول: هذه أضغاث أحلام، أو يقول: هذه حديث نفسٍ، إلا من رحم ربك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 8 مخاطر التعبير من خلال القنوات الفضائية كما أن على العابرين أن يدركوا خطورة تعبير الرؤى من خلال الشاشات التي يراها الملايين من الناس، وكذا المجامع الممتلئة بالحشود، وذلك للأمور التالية: أولها: أنَّ الانفتاح المطلق في التعبير نوع فتنة من أجل حديثه في أمور الغيب؛ لاسيما أن أحداً لا يستطيع أن يجزم بصحة ما يقول العابر من عدمه، إلا من رأى ذلك في واقعه، وهذا شبه متعسرٍ عبر الشاشات. ثانيها: تعذر معرفة حال الرائي عبر الشاشات والمجامع من حيث الاستقامة من عدمها، وهذا له صلةٌ وثيقةٌ بتعبير الرؤيا، فقد سأل ابن سيرين رجلان كلٌ منهما رأى أنه يؤذن، فعبرها للصالح منهما بالحج لقوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] وعبرها للآخر بأنه يسرق، لقوله تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] . والشاطبي رحمه الله يقول في مثل هذه الحالة: فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها، وتترك غير الصالحة. ثالثها: عدم إدراك عقول الناس لطريقة بعض العابرين للرؤيا، لاسيما عبر الشاشات والمجامع؛ بحيث يكون تعبيرهم بصورة تجعل المستمع الجاهل لأول وهلة يقول: هذا تكهن أو تخمين أو عرافة، ونحن قد أمرنا بمخاطبة الناس على قدر عقولهم، فقد أخرج البخاري في صحيحه قول علي رضي الله عنه: [[حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟]] وعند مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [[ما أنت محدثٌ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة]] . رابعها: أن درء المفاسد مقدمٌ على جلب المصالح فالمفسدة من خلال التعبير عبر الشاشات أشد من مصلحته لأمور لا تخفى على متتبعها؛ لاسيما أنها في أمور غيبية وأنها كالفتوى، والسلف الصالح كانوا يتدافعون الفتوى ما استطاعوا، ناهيكم عن بعض الفساد المتحقق من خلال ما يشاهد ويسمع من تعبير رؤياً لفتاةٍ -مثلاً- بأنها ستفشل في نكاحها، أو لامرأة تعبر لها بأن زوجها تزوج عليها سراً بامرأة أخرى، فما ظنكم بحال الأولى والأخرى، فهذه تترقب الفشل في كل حين مع ضيق نفسها وانشغال بالها، وتلك باهتزاز كيانها والشك في زوجها المرة تلو الأخرى، ناهيكم عمَّن يرين مثل هذه الرؤى، فيكتفين بما سمعنه من تعبيرٍ لغيرهن، فيقفن عليه دون الرجوع إلى عابرٍ عالم اكتفاءً بما سمعنه أو شاهدنه، فتكون الطامة حينئذٍ، وقولوا مثل ذلك فيما يراه الرجال والشباب. وأما ما يحتج به بعض الناس من أن مسلماً روى في صحيحه: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يسأل أصحابه بعد الفجر فيقول: من رأى منكم رؤيا؟} فالجواب عن هذا من وجوه: الوجه الأول: أن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعبيره حق لا يشوبه شائبة. الوجه الثاني: أن تعبيره كان في مسجدٍ يحضره عددٌ ليس كالأعداد التي تعد بالملايين حينما تشاهد التعبير عبر الشاشات، وما ظنكم بحضورٍ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة العقلاء الفضلاء، مقارنة بحضورٍ عند غيره صلى الله عليه وسلم، فأين الثرى من الثريا؟ الوجه الثالث: أنه لم يثبت عن أحدٍ من الصحابة -كالخلفاء الأربعة ولا من بعدهم من التابعين- أنه كان يفعل في المسجد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، لاسيما أبو بكر رضي الله عنه وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عارفٌ بتعبير الرؤى، وهو معدودٌ من المعبرين عند كثيرٍ من أهل العلم. ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، وراقبوه في السر والعلن، والقصد القصد تفلحوا. هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم انصر إخواننا المستضعفين في سبيلك في كل مكان يا رب العالمين، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 9 من تواضع لله رفعه التواضع خلق يفتقده الناس اليوم، فتجد اليوم المتكبر بماله، والمتكبر بجاهه، والمتكبر بسلطانه وحشمه، وما علموا بأنه لن يدخل الجنة من في قلبه ذرة من كبر. التواضع وبيان أهميته وصفات لفاقد التواضع وصور من تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة كل ذلك موجود في هذا الدرس بشيء من التفصيل، مع بيان أقسام التواضع. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 1 نظرة خاطئة للإنسان عند الغرب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فيا أيها الناس: في خضم هذه العصور المتأخرة برزت وبصورة جلية آلياتٌ مستجدة، وإحداثياتٌ خدمت معظم بقاع الأرض في تغطية حاجياتها وتحسينياتها حتى أصبحت طوفاناً مادياً جارفا، منحدراً من فوهة بركان فجرته الحضارة المادية الجافة، والتي اجتالت على حسابها كثير من المعايير الفاضلة، كما أن حمأة التنافس على اكتساب مستجدات هذه الحياة لا ينبغي أن تكون حاجزاً مانعاً عن بقاء المبادئ الإسلامية الشريفة والتي رعاها الإسلام حق رعايتها، بل وطالب بها ودعا إليها في كل حين وآن، مهما اتسع الناس في ماديتهم أو ضاقوا. ما أشد مضض ما تعانيه الأمة المسلمة اليوم، إن كثيراً من موروثاتها الروحية ليذهب فرطاً، وإن الغفلة قد بلغت من الناس مبلغ من يظن أنه مسرمد في هذه الحياة، وكأن رحى الأيام لن تدور عليه يوماً ما، مما أبرز الصدر الوحر واللسان المذق، والذي على إثره تندرس جملة من معاني الأخلاق الشريفة كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما زهدٌ ولا رحمةٌ ولا صلةٌ ولا تواضع ولا لين، بل لقد أصبحت مفاهيم بعض السذج من الناس تجاه التعامل مع الآخرين ومعاشرتهم: إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، وإن لم تجهل يجهل عليك، وإن لم تتغدَّ بزيد تعشى بك. ثم زعموا أن الفلسفة الأخلاقية العظمى عندهم هي في انطلاق النظرة للآخرين من زاوية: كم تملك وما مركزك، ويرون أن في ذلك غنية وضماناً للسلام والرخاء، وعوضاً عن التربية والتهذيب الروحي، وأن ما عداها فهي سجايا وخصال أكلت عليها السنون وشربت، هكذا يزعم جفاة الأخلاق الحميدة الذين أثَّرت فيهم المعاني النفسية التي تعلو بعرضٍ من الدنيا وتهبط بعرض، وأن أي خلل في الحياة الاعتيادية فإن المال يرممها، والحسب والجاه يرأب الصدع فيها، هكذا زعموا! أما إنه لو أدرك المسلم أن أول حق عليه للمسلمين: هو أن يحمل في نفسه معنى الناس لا معنى ذاته، لعلم أن من فاق الناس بنفسه الكبيرة دون تميز كانت عظمته حقيقة في أن يفوق نفسه الكبيرة متخطياً ما فيها من طمعٍ وجشع وكبرياء، وبمثل هذا يصبح الناس أحراراً متى حكمتهم معاني الدعة والتواضع والتوادِّ والتعاطف تحت ظل الإسلام الوارف. وأما المركز والمال والجاه فإنما هي عوارض سرعان ما تزول بعدما كانت رسماً ظاهراً لا يمس بواطن القلوب، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] . كتب وهب بن منبه إلى مكحول: أما بعد: فإنك قد أصبت بظاهرك عند الناس شرفاً ومنزلة، فاطلب بباطن عملك عند الله منزلة وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تنازع الأخرى. بمثل هذا كله يتصل ما بين العظيم والسوقة، وما بين الغني والفقير اتصال التواضع في كل شيء، بعيداً عن معاني الدينار والدرهم وحِماهما، حتى يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 2 أهمية التواضع في حياة المسلمين أيها المسلمون: التواضع بين المسلمين خصلة مرجوة، هي أسٌ في خلق المجتمعات، ومقبض رحى حسن الاتصال بينهم، لها مواد من الحكمة، وأضداد من خلافها، بتمامها وصفائها يميز الله الخبيث من الطيب، والأبيض من الأسود المرباد المجخي كما الكوز. إنه لا بد أن يكون للتواضع بين ظهرانينا محلٌ طريٌ لين، لم تستحكمه الشهوات ولا المصانعات، محلٌ يهش أمامه ويبش، محلٌ يوحي إلى المجتمع أنهم ليسوا غرباء ولو تفرقت نواحيهم، وإلا كان تواضعاً مفقوداً في تيه العقل المادي الذي اكتسى فاقده ثياب كبرٍ مدمرة لا يهش له الناظر بل تغض منه العيون وتنبو عنه الأفئدة الحية، وينفض الناس من حوله، وحينئذ يكشف مضمار المجتمع عن الستار المسدل في صراع الأخلاق المحموم بين طغيان الأنفة وطغيان الإعواز إلى التواضع. إنه لا ينبغي لأحدٍ من المسلمين أن يمتنع عن التواضع أو يجبن عن تحقيقه إذ به تكتسب السلامة، وتورث الألفة، ويرفع الحقد، ويشعر الجميع بحقوقهم تجاه غيرهم والعكس بالعكس، ألا فإن تواضع الشريف إنما هو زيادة في شرفه، كما أن تكبر الوضيع إنما هو زيادة في ضعته، كالعائل المستكبر الذي لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب اليم. فيا سبحان الله! كيف لا يتواضع من خلق من نطفة مذرة، وآخره يعود جيفة قذرة، وهو بينهما يحمل العذرة أجلكم الله؟! إنه لو لم يكن في التواضع خصلة تحمد إلا أن المرء كلما كثر تواضعه كلما ازداد بذلك رفعة لكان الواجب على كل واحدٍ منا ألا يتزيا بغيره، ولا جرم -عباد الله- فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من امرئ إلا وفي رأسه حكمة -يعني: كاللجام- والحكمة بيد ملك إن تواضع قيل للملك: ارفع الحكمة، وإن أراد أن يرفع قيل للملك: ضع الحكمة} رواه الطبراني والبزار بسندٍ حسن. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 3 صفات فاقد التواضع عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله} . فاقد التواضع إنما هو امرء استعبده الكبر الغائل، والعجب الغالب، فهو عنيد صلد، به يخبو قبسه ويكبو فرسه، فاقد التواضع، عقله مفقود؛ لأنه بعجبه وأنفته يرفع الخسيس ويخفض النفيس، كالبحر الخضم تسهل فيه الجواهر والدر، ويطفو فوقه الخشاش والحشاش، أو هو كالميزان يرفع إلى الكفة ما يميل إلى الخفة. فاقد التواضع عديم الإحساس، بعيد المشاعر، شقي لا يتعظ بغيره، غير مستحضرٍ أن موطأه قد وطئته قبله آلاف الأقدام وأن من بعده في الانتظار، ألا وإنه ما رؤي أحدٌ ترك التواضع وترفع على من هو دونه إلا ابتلاه الله بالذلة لمن فوقه، ومن استطال على الإخوان فلا يثقن منهم بالصفاء، ومن تكبر فلم يتواضع فقد رمى بثقله في ثلاث خصالٍ مذمومة: أولها: أنه لا يتكبر على أحدٍ حتى يعجب بنفسه، ويرى لها الفضل على غيرها. وثانيها: ازدراؤه بالناس من حوله؛ لأن من لم يستحقر الناس لم يتكبر عليهم، وكفى بالمستحقر لمن أكرمه الله بالإيمان طغياناً، وأنى للمستكبر أن يستعبد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! وثالثها: منازعة الله جل وعلا في صفاته؛ إذ الكبرياء والعظمة له وحده، يقول سبحانه في الحديث القدسي: {الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحداً منهما عذبته} رواه مسلم. ألا فليت شعري ما الذي يحمل الكثيرين على أن يركنوا إلى العجب والأنفة وينأوا بأنفسهم عن التواضع وخفض الجناح، أفيكون السبب في ذلك فطرة يفطر عليها المتكبر فيدعي جبليتها وصعوبة الخلاص منها؟ كلا والله. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد} رواه مسلم. أم أن ذلك نقيصة يجدها المرء في نفسه ثلمة يسد ثلمتها بعجبٍ وفخرٍ يحتال بهما على نفسه؟ ربما يكون مثل هذا، ولكن لمن جهل حقيقة الشرف والرفعة وأنها في التواضع لا في الفرار منه بحجة سد النقيصة أو قضاء الوطر. يقول الصديق رضي الله عنه: [[وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع]] . ثم ألم يكن الأمر لا هذا ولا ذاك، فما الذي يحمل المرء على ذلك؟ هل هو الحسد والتشفي وحب الذات؟ أم هو سورة كسورة الخمرة تأخذ شاربها كلما أخذ حتى ينتشي، فإذا انتشى عاود حتى يصير مدمناً فيستوي عنده حال الخمار والإفاقة، وأين كان ذلك فإن النأي عن التواضع سمة مرذولة، وخصلة مستهجنة، ووسم تعلق به نار الحدادين؛ لأن عين المعجب بنفسه تنظر من زاوية داكنة، فهي تعمى عن الفضائل حتى يكون أسرع ما يتسرب الإيمان من امرئ هذه حاله كما يتسرب السائل من الإناء المثلوم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 4 صور من تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ويالله العجب! كيف لا ينظر أمثال هؤلاء إلى سير الأسلاف من قبلهم، وعلى رأسهم إمامنا وقدوتنا سيد ولد آدم، ذو النسب الرفيع، والجاه الوسيع، فهاهو قد نام على الحصير وابتسم في وجه من أوجعه، ووقف إلى جانب امرأة في الطريق تشكو إليه، وشرب مع أصحابه في إناء احد، وكان آخرهم شرباً، كما أكل مع أهل الصفة، ثم دخل مكة في الفتح متواضعاً، ومشى في الأسواق والناس من حوله يأكل مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه. وهذا خليفته الصديق رضي الله عنه كان يحلب لأهل الحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا، فسمعها فقال: [[بلى لأحلبنها لكم وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه]] . ثم سل الفاروق وما أدراك ما الفاروق! خطب بعد خلافته فقال: [[اعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم البعض، وإنني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف]] . فلا إله إلا الله! أحقيقة ما نسمع أم هو نسجٌ من الخيال!؟ أهو فتون يتردد أم هي حقيقة اكتنفتها قلوب من يعرفون ما الدنيا وما الله؟! عند الترمذي والحاكم أن جبير بن مطعم قال: [[تكونون في التيه وقد ركبت الحمار، ولبست الشملة، وقد حلبت الشاة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من فعل هذا فليس فيه من الكبر شيء} ]] . ألا فليتنبه لذلك المغرورون المعجبون بأنفسهم وجاههم في حين إنهم بادو الكبرياء، كالحو الوجوه، ومن هذه حاله فلا يغتر بكونه يملك ألفاً فإن عليه من الحقوق والتبعات ما قد يزيد على الألفين. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 5 حقيقة الجمال ألا وإن حسن الصورة وجمال المظهر لا يقدم في ذلك ولا يؤخر، فإن جمال الوجه في قبح نفسٍ كقنديلٍ على قبر مجوسي. وهل ينفع الفتيان حسن وجوههم إذا كانت الأخلاق غير حسان ومن قايس بين الجمال والفعال تبين له أن الملاحة بالقباحة لا تفي بالمقصود، فلله ماذا يعني لباس المظهر إذا كان المخبر عارياً باديةً للناس سوءته! قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] إن من سُرَّ بأنفته فليعلم أن الجمل أشد كبراً منه، بل وأشد منه ذلكم الطاووس الذي يمشي مشي المرح المختال، يتصفح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله وأصابيغ وشاحه، فأي فخرٍ وأي سرور فيما تكون فيه صورة البهائم متقدمة عليه، والعاقل إذا رأى من هو أكبر منه سناً تواضع له وقال: سبقني إلى الإسلام، وإذا رأى من هو أصغر منه تواضع له وقال: سبقته بالذنوب، وإذا رأى من هو مثله عده أخاً قريباً فلا يحقرن أحداً من المسلمين، فكم من عودٍ منبوذ ربما انتفع به فحك الرجل به أذنه. قال ابن عيينة رحمه الله: [[لو قيل أخرجوا خيار هذه القرية لأخرجوا من لا نعرف]] . يقول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] ، {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 6 التواضع المحمود والتواضع المذموم الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه. أما بعد: فيا أيها الناس: لا زلنا نؤكد بأن التواضع شأنه عظيم، وأمره جسيم، قد تكلم فيه أهل العلم والحكمة، وأجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم مبينين ماله وما عليه بالأدلة الشرعية، فجعلوا منه التواضع المحمود والتواضع المذموم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 7 صور التواضع المحمود من التواضع المحمود: أن يترك المرء التطاول على عباد الله، والترفع عليهم، والإزراء بهم حتى مع وقوع الخطأ عليه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً} رواه مسلم. ومن ذلك أيضاً: التواضع للدين والاستسلام لشرع الله بحيث لا يعارضه المرء بمعقولٍ ولا رأيٍ ولا هوى، ولا يتهم للدين دليلاً صحيحاً، وأن ينقاد لما جاء به خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، وأن يعبد الله وفق ما أمر به، وألا يكون الباعث على ذلك داعي العادة، وألا ترى لنفسك على الله حقاً لأجل عملٍ عملته، وإنما تعلم أنك ترجو رحمته وتخشى عذابه، وأنك لن تدخل الجنة بعملك وإنما برحمته لك. كما أن من التواضع المحمود أيضاً: أن تترك الشهوات المباحة، والملذات الكمالية احتساباً لله وتواضعاً بعد التمكن منها والاقتدار عليها دون أن توصف ببخل أو طمعٍ أو شح، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه؛ دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها} رواه أحمد والترمذي. ومما يزيد الأمر وضوحاً: أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن المتواضع حقيقة هو المقتدر على الشيء لا العاجز عن تحصيله، فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا عائشة! لو شئت لسارت معي جبال الذهب، جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة -أي موضع شد الإزار- فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئت نبياً عبداً وإن شئت نبياً ملكاً، فنظرت إلى جبريل عليه السلام فأشار إلي أن ضع نفسك، فقلت: نبياً عبداً} رواه أبو يعلى والطبراني بسندٍ حسن. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 8 صور التواضع المذموم أما التواضع المذموم -يا رعاكم الله- فهو التواضع أمام نصرة دين الله سبحانه، والذي يسبب التخاذل وهجر النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخنوع أمام الباطل، والبعد عن نصرة الظالم والمظلوم، حتى يكون من هذه حاله كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً. كما أن من التواضع المذموم: تواضع المرء لصاحب الدنيا والجاه والنسب رغبة في شيء مما عنده، حتى يصبح عالة أمام المغريات فيفتن بها. وحاصل الأمر: أن التواضع من أعظم ما يتخلق به المرء، فهو جامع الأخلاق وأسها، بل ما من خلقٍ في الإسلام إلا وللتواضع منه نصيب، فبه يزول الكبر، وينشرح الصدر، ويعم الإيثار، وتزول القسوة والأنانية والتشفي وحب الذات، وهلم جراً. اللهم إنا نعوذ بك من الغل والحسد، ونعوذ بك أن نجر بهما على مسلم سوءاً يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد مطمئناً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم! اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدمٍ ولا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا غرق، اللهم لتحيي به البلاد وتسقي به العباد، ولتجعله بلاغاً للحاضر والباد. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 9 مخاصمة السنة السنة النبوية هي وحي من الله جل وعلا لا تنفصل عن القرآن الكريم. وقد وجد في عصرنا هذا من يطعن في السنة ويحاربها، تارة بالتشكيك بصحة الأحاديث الصحيحة، وتارة بتسهيل عملية انتقاد النصوص، دون جعل ذلك كبيرة يعاقب عليها الفرد. والسنة النبوية تحارب لأسباب كثيرة منها: حب الشهرة والرياسة تحت راية: خالف تعرف، والإعجاب بالغرب، وعرض النصوص على العقل الذي لا يرتقي إلى إدراك الأحكام من وراء نصوص الشريعة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 1 خطورة الطعن في السنة النبوية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فيا أيها الناس: نور النبوة وإشعاعها، والهداية المتحققة -بإذن الله- في الاقتباس من ذلك النور، مرهون بمدى قرب المسلمين من هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم والبعد عما يخالفه، وكلما ازداد المسلمون تمسكاً برسالته صلى الله عليه وسلم، ازداد هذا النور واتسع، وعمَّ ضياؤه المدر والوبر. وعلى العكس من ذلك: كلما ابتعدوا عنه، أو زهدوا فيه، أو اقتبسوا نوراً من غيره، ضاق ما اتسع، وأظلم ما هو منير لهم، وهذه سنة الله في المتخاذلين: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] . إن المترقب لأحوال كثير من المسلمين في جملة من الأقطار قد يرى ما يؤسفه، ولربما صدق حدسه، وظهر أثر ترقبه ونتيجة سبره واستقرائه، على أن جهوداً غير قليلة تتسلل لواذاً، وتبذل على تخوف مشوب بمكر على الإخلال بواقع المسلمين، حتى يرضى المسلمون ولو ببعض الإسلام الذي تلقوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وعرفوه من كتاب ربهم سبحانه. نعم. قد تبذل مثل هذه الجهود لتهميش الإسلام من قبل أعدائه ممن هو أجنبي عنه، أو ممن يتكلم بلغته، وهم مع ما يبذلونه من جهود في هذا الإطار، لم يهدأ لهم بال، أو يقر لهم قرار، حتى يروا في واقعنا إسلاماً منقوص الحقيقة والأطراف، إسلاماً منقوض العرى والوشائج، ينكر عليه المنكرون ويزمجرون: كيف يتدخل في شئون التشريع كافة دون استثناء، أو يبت في قضايا المجتمع أو يقتلع من السلوك العام ما يخدش قيمه ويمس مثله الرفيعة؟! إنهم لا يريدون أن يبقى من الإسلام إلا اسمه، أو على أقل تقدير الإبقاء بضرورات لا تلبث أن تزول، ليصدق فيها ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم منوهاً إلى آخر الزمان بقوله: {يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا زكاة} . إن الجهود الغامضة لا تزال تبذل في غير ما سبيل، لتحصل أجيال مهيأة لقبول مثل هذه الصورة المشوهة للإسلام، حتى ترتضي ما قام في أوساط البسطاء السذج من أهله: من الجرأة على تحليل الحرام، أو تحريم الحلال، أو قطع ما أمر الله به أن يوصل، والوصول إلى واقع يدفع فيه معظم الأمور الثوابت بعيدة من هداية الله، فيألف البعض التفلت من المُسَلَّمَات، كتحقيق توحيد الله جلَّ شأنه، وكالربا، وذرائع الزنا، مع مصادمة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ودعوات متهافتة لاقت رجع الصدى يمنة ويسرة، داعية إلى تحرير الناس من أواصر قيود الشريعة زعموا! ولعل من أشهر من صب عليه التغريب دون هداوة أو تريث سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي هي أس من أساسات هذا الدين، والتي حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في مغبة ما ذكر في قوله: {إن مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان، فالنجاة النجاة! فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا -أي: ساروا ليلاً- وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم، فأصبحوا على مكانتهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واستباحهم، فذلك مثلي ومثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق} رواه البخاري. إن ما خشي منه النبي صلى الله عليه وسلم بدأت تظهر ملامحه على فترة من أهل العلم، وإبان طفرة طاغية من الظواهر المعلوماتية والثقافات العولمية، والتي تصب في قالب واحد؛ هو جعل العالم كله كالكتلة الواحدة دون تميز، مما سبب الهجوم الكاسح والحرب التي لا هوادة فيها تجاه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، مع قلة في الإنصاف وبعد عن الطرح الصحيح الموافق للشرع الصحيح والعقل الصريح. وأمثال الخائضين في مثل هذا مهما قصروا هجومهم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، فإنهم لو تم لهم ما يريدون لأضاعوا القرآن والسنة على حد سواء، حيث أن خدش السنة ذريعة لخدش القرآن، ومن ثم القضاء على الدين بالمرة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 2 وسائل الطعن في السنة ولأجل أن نقترب من فهم هذه القضية، فلا أقل من تصويب الطرح بوضوح على بعض الوسائل التي سار عليها أصحاب الغارة على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد التأكيد الجازم على تعددها عندهم واختلاف محاورها باختلاف البيئات قوة وضعفاً. فكان من أشهر وسائل الطعن في السنة أمران: الجزء: 21 ¦ الصفحة: 3 التشكيك في صحة جملة من الأحاديث النبوية الأمر الأول: التشكيك في صحة جملة من الأحاديث النبوية، لا سيما تلك التي يبني عليها المسلمون مرتكزاتهم الدينية، وثوابتهم الشرعية، فيصفونها بعدم الثبوت تارةً، أو أنها مكذوبة تارةً أخرى، أو يشككون في ثقة رواتها وحسن مقاصدهم، مع أن للأحاديث جهابذة وصيارفة على مدى التاريخ، يبينون صحيحها من سقيمها. يقول أبو القاسم الأصبهاني رحمه الله: ولئن دخل في غمار الرواة من وسم بالغلط في الأحاديث؛ فلا يروج ذلك على جهابذة أصحاب الحديث ورتوة العلماء -أي: رؤسائهم- حتى أنهم عدوا أغاليط من غلط في الأسانيد والمتون، بل تراهم يعدون على كل رجل منهم في: كم حديث غلط، وفي كم حرف حرّف، وماذا صحف انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 4 الجرأة على نقد نصوص السنة النبوية الأمر الثاني: فهو الترويض والتنشئة على استسهال نقد نصوص السنة دون مسوغات شرعية، والجرأة على مواجهتها بأنها تخالف العقول مما سبب قلة الاكتراث بها وذوبان هيبتها في نفوس المشاهدين لذلك أو المستمعين له على وجه التلقي والقابلية، حتى يكون أسهل شيء لدى البعض أن ينتقد حديثاً صحيحاً: إما بتكذيبه، أو بدعوى مخالفته للعقل؛ فيتلاعب جمهور الدهماء بذلك، وينتهكون حرمة النص النبوي، ويسيئون الظن به. ولقد أحسن ابن القيم رحمه الله في وصف أمثال هؤلاء بقوله: ومن ذلك تلاعبهم بالنصوص، وانتهاك حرماتها، فلو رأيناهم وهم يلوكونها بأفواههم، وقد خلت بها المثُلات، وتلاعبت بها أمواج التأويلات، وتقاذفت بها رياح الآراء، واحتوشتها رماح الأهواء، ونادى عليها أهل التأويل في سوق من يزيد، فبذل كل واحد في ثمنها من التأويلات ما يريد إلى أن يقول رحمه الله: فلا إله إلا الله والله أكبر! كم هدمت بهذه المعاول معاقل الإيمان! وثلمت بها حصون حقائق السنة والقرآن! وكم أطلقت في نصوص الوحي لسان كل جاهل أخرص ومنافق أرعن! الجزء: 21 ¦ الصفحة: 5 الرد على المشككين في سنة النبي صلى الله عليه وسلم عباد الله: إن المشككين في سنة النبي صلى الله عليه وسلم والمحاربين لها، لو قاموا في حربهم على أسس علمية لوجب ألا يدرس التاريخ في بلد ما، إذ لأي شيء يقبل التاريخ على أنه علم مسلَّم به، وتهتم كل أمة به، ثم هي لا تقبل جملة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن طرق الإثبات في التاريخ أقل شأناً من طرق الإثبات في الحديث النبوي، ثم لماذا تدرس سير العظماء ومواقفهم، وتعرض للتأسي والإعجاب، ويحرم من ذلك الحق رسل الله، لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم من خلال سنته؟! إننا حينما نتطرق لمثل هذا عباد الله، فإنما نقوله لأجل أن نبين أنَّ للسنة رجالها الخبراء بها، وهم أئمة الدين من العلماء والفقهاء، النجوم الثواقب، ورواسي الأرض وأوتادها: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:83] . إنَّ ترك الرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر -وهم العلماء- سبيل من سبل اتباع الشيطان، فحري إذاً ألا يقبل في هذا الميدان ما يرسله المتهورون من أحكام طائشة، تجعل التطويح بالسنة النبوية أمراً جائزاً، أو تجعل تكذيب حديث النبي صلى الله عليه وسلم والتلاعب به هوىً مطاعاً وكلأً مباحاً. وما سبب قولنا هذا -عباد الله- إلا ما نراه في هذه الأزمنة، من ذهاب أهل العلم الذين تنقص الأرض بموتهم، مع فشو القلم، وكثرة الكذب، والقول على الله بلا علم، ونطق الرويبضة؛ وهو الرجل التافه الحقير الذي يتكلم في أمور العامة، وهو من العلم خواء وفؤاده هواء، حتى كثر المتعالمون، وصار الحديث في أحكام الدين مطلق العنان لدى البعض دون زمام ولا خطام، فخاض البعض في السنة وخاصموا، ولتوا وعجنوا، من خلال محادثات شفهية أو مطارحات صحفية، أو عبر كتب النشر المقروءة والقنوات المرئية، فبدءوا يتحدثون عن مسلمات في الدين، وثوابت لا تتغير، فشككوا في الربا، وهمشوا الولاء والبراء، فأعموه من حيث أرادوا تكحيله. وتحدثوا عن المرأة وميراثها ونقصانها عن الرجل، وتحدثوا عن حجابها، وعزلتها عن الرجال، وقرارها في البيوت، فكان الذي طرح ليس من السنة في ورد ولا صدر، وما ذاك إلا لغياب مفهوم خطورة الفتوى، وتدخل الغير في غير فنه، وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب. فالواجب: جعل تقرير الشريعة في العلاقات الفردية والدولية، وشئون الأسرة، وتداول المال العام والخاص، وأساليب الحكم والتحاكم وغير ذلك من شئون أهل الذكر، أما العمال والفلاحون والصحفيون والمتفيهقون فما لهم ولهذه الشئون؟! ألا إن قلة البضاعة من العلم محنة، فإذا انضم إليها حب التطاول على النصوص وتلمس المتشابه، زادت المصيبة، وتفاقم الداء؛ فلا يزال الورم في نفوخ، فلا غرو إذاً ألا يصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا، وألا يثني الأصاغر عن مراد إذا جلس أكابرهم في الزوايا. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 6 أسباب محاربة السنة النبوية عباد الله: لمستفهم أن يسأل فيقول: قد علمنا خطورة الناعقين في وجه السنة النبوية، وما يدفع ذلك من سوء المغبة وهوة الحال، ولكن لماذا يفعل هؤلاء هذه الأفاعيل؟ وما هي الأسباب الداعية إلى ذلك؟ الجواب أن نقول: يصعب بداهة سرد أسباب ذلك في هذه العجالة، على أننا نؤكد أن من أهمها: الجهل بالعلم الشرعي، والخوض في غير التخصص، غير أن من الأسباب ما يلي: الجزء: 21 ¦ الصفحة: 7 الهوى وحب الرياسة والشهرة السبب الأول: الهوى، وحب الرياسة والشهرة. من باب ما يقال: خالف تذكر، وأصحاب الهوى كثر، فلو خلي لهم السبيل لأفسدوا في الأرض: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50] والهوى قَتَّالٌ عبادَ الله، ولربما صار لصاحبه أتباع ينعقون له ويهرفون بما لا يعرفون، وقد أشار ابن قتيبة رحمه الله إلى مثل هذا بقوله: والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضاً، ولو ظهر لهم من يدعي النبوة مع معرفتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، أو من يدعي الربوبية، لوجدوا على ذلك أتباعاً وأشياعاً. وإشارة إلى حب هؤلاء للشهرة والرئاسة، يقول ابن قتيبة أيضاً: ولكن يمنع من الحق طلب الرياسة، وحب الأتباع، واعتقاد الإخوان بالمقالات. وذكر ابن القيم رحمه الله عن يحيى بن أكثم أنه قال: قال هارون الرشيد: ما أنبل المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين، قال: فتعرف أجّل مني؟ قلت: لا. قال: لكن أعرفه، رجل في حلقة يقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: يا أمير المؤمنين! أهذا خير منك، وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين؟ قال: نعم. ويلك، هذا خير مني؛ لأن اسمه مقترن باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت أبداً، ونحن نموت ونفنى، والعلماء باقون الدهر. وذكر ابن القيم أيضاً عن ابن العميد الوزير المشهور قوله: فوددت في مكاني أن الوزارة والرياسة ليتها لم تكن لي، وكنت الطبراني وفرحت مثل الفرح الذي فرح به الطبراني لأجل الحديث. إذاً عباد الله: هذه هي الشهرة الشريفة، وإنما تكون في الأخذ بالنصوص لا في تركها، وفي تحكيمها لا في مخاصمتها. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 8 احتجاج المخاصمين بمعارضة السنة للقرآن السبب الثاني: أن بعض المخاصمين في السنة يحتجون بأنها قد تعارض القرآن. وفي ذلك يقول أبو القاسم الأصبهاني رحمه الله: وقول من قال: تعرض السنة على القرآن، فإن وافقت ظاهره، وإلا استعملنا ظاهر القرآن وتركنا الحديث، فهذا جهل؛ لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله تقام مقام البيان عن الله عزَّ وجلَّّ، ليس هناك شيء من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف كتاب الله؛ لأن الله عزَّ وجلَّ أعلم خلقه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط المستقيم فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] . صح عند أحمد وأبي داود والحاكم من حديث عبد الله بن أبي رافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا أعرفن ما بلغ أحدكم عني حديث من حديثي قد أمرت فيه أو نهيت، وهو متكئ على أريكته، فيقول: لا حاجة لي به، هذا القرآن ما وجدنا فيه اتبعناه وما لم نجد فيه لم نتبعه} . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مشيراً إلى هذه المسألة: [[سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله]] . اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعل الحق مشتبهاً علينا فنضل يا أرحم الراحمين، ونستغفرك اللهم إنك كنت غفاراً. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 9 الإعجاب بالغرب وحضارتهم الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه. أما بعد: فإن ثالث الأسباب -عباد الله- في مخاصمة السنة: يكمن في ميل بعض المخاصمين إلى أهل الغرب والإعجاب بهم، والحرص على مسايرة ركبهم رغبة في اللحاق بهم، ونزع معرة التخلف التي وسموا بها -على حد زعمهم- من خلال التقيد الكامل بما دلت عليه النصوص الشرعية، مما لا يمكن بسبب العمل بها أن يلتقي هؤلاء وأولئك، مما سبب تلك المواقف الصارخة، والتي ولدتها بعد ذلك العداوة للنصوص، فنظروا بعين عداوة، ولو أنها عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا، وهذا الميل الجارف لأهل الغرب، ولد لدى من يحبهم شيئاً من المحاكاة في الطبع والمنهج. وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أصل مثل هذه المسألة فقال: إن الله تعالى جبل بني آدم -بل سائر المخلوقات- على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يئول الأمر إلى ألا يميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط. ثم يستطرد رحمه الله مؤكداً على ما تزعمه في هذا الإطار فيقول: وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام. ولله در الحافظ ابن حجر، فقد أحسن حيث قال: وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرهاً، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأنَّ من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 10 تعظيم العقل وإكباره ونختم برابع الأسباب عباد الله: وهو تعظيم العقل وإكباره حتى يكون هو الحكم على نصوص السنة لا العكس، وهذه لوثة نعوذ بالله من تبعات قسماتها، كفانا الله شر غوائلها، وفي مثل هؤلاء يقول الفاروق رضي الله عنه: [[إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم فلم يعوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا]] . يقول ابن تيمية رحمه الله: والداعون إلى تمجيد العقل إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنم سموه عقلاً، وما كان العقل وحده كافياً في الهداية والإرشاد، وإلا لما أرسل الله الرسل. ويقول القرطبي رحمه الله: إن الله سبحانه وتعالى لم يبن أمور الدين على عقول العباد ولم يعدهم وعداً على ما تحتمله عقولهم ويدركونها بأفهامهم، بل وعد وعداً بمشيئته وإرادته، وأمر ونهى بحكمته، ولو كان ما لا تدركه العقول مردوداً لكان أكثر الشرائع مستحيلاً على عقول العباد. وقد روى أبو داود وغيره، أن علياً رضي الله عنه قال: [[لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه]] . إذاً: العقل وحده غير كافٍ في معرفة الحق والنور، بل لا بد من إخضاع العقل للشرع على وجه التسليم به، والإيمان بمراده، كما قال تعالى: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران:7] . يقول ابن القيم رحمه الله: إن عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق، فلو وزن عقله بعقولهم لرجح بها كلها. وقد أخبر سبحانه أنه صلى الله عليه وسلم قبل الوحي لم يكن يدري الإيمان كما لم يكن يدري الكتاب، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبرهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم. اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. اللهم من مات من علمائنا فاغفر له وارحمه، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله أجمعين، ومن كان منهم حياً، فوفقه وسدده لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم لتسقيَ به العباد، وتحييَ به البلاد، ولتجعلَه بلاغاً للحاضر والباد. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 11 التوبة إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، وجعلهم يذنبون، ولو لم يذنبوا لذهب بهم وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم، فيا أيها المذنب! ويا أيها العاصي! إن رحمة الله قريب من المحسنين، فأحسن في عملك، وتب إلى الله عز وجل ولا تقنط من رحمة الله سبحانه. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 1 ختام رمضان وحال الناس فيه الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا إلى عباده بطوله، مانح كل غنيمة وفضل، وكاشف كل عظيمة وضيق، نحمده على سوابغ نعمه وواسع كرمه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أولاًَ وآخراً، وظاهراً وباطناً، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى الثقلين الإنس والجن بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه وتعالى، فما أنتم في هذه الدنيا إلا غرض تنتظرون فيه المنايا، مع كل جرعة شرق، وفي كل أكلة غصص لا تنالون منها نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يحيا لكم أثر إلا مات لكم أثر، ولا يتجدد لكم جديد إلا بعد أن يبلى لكم جديد، وقد مضت أصولٌ نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله! أيها الناس: إن شهركم هذا قد بدا إدباره، وآذن بوداع، وإن ما بقي منه فسيمر مثل طرفة عين أو كلمح بصر أو هو أقرب، وهو عند ذوي العقول: كفيء الظل، بينا تراه سابغاً حتى قَلَص، وزائداًَ حتى نَقَص، ولا جرم -عباد الله- فإن الشيء يُتَرَقب زواله إذا قيل تَمَّ قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] . ألا فإن ما بقي من الشهر اليوم هو المضمار، وغداً السباق، والسَّبَقَة الجنة والهرب من النار، أفلا تائبٌ من خطيئته قبل ختام شهره؟! ألا عاملٌ لنفسه قبل يوم بؤسه؟! ألا إنكم في أيام أمل من ورائه أجل. فيا ويح طالب الجنة إذا نام! ويا بؤس الهارب من النار إذا غفا ثم هو لا يتخوف قارعة حتى تحل به! ومن هذه حاله فليس هو من عُمَّار الشهر في مراحٍ ولا مغدى. عباد الله: إن في هذا الشهر أناساً أشغلوا أنفسهم عن ذكر الله وطاعته، حتى قَصَروا غاية بِرِّهم به في جعله موسماً حولياً للموائد الزاخرة، وفرصة سانحة لِلَّهو والسمر الممتدَّين إلى بزوغ النهار، فصبحهم مثل ليلهم، وأجواؤهم سود، وأجفانهم جمر يومض، جعلوا من هذا الشهر محلاً للألغاز الرتيبة والدعايات المضللة، أو المواعيد المضروبة، لارتقاب ما يستجد من أفلام هابطة، وروائيات مشبوهة، ترمي بشرر كالقصر؛ لإحراق ما بقي من أصل حشمة وعفاف، أو تديُّن يستحق التشجيع والإذكاء؛ وبذلك تخسر الأمة في كل لحظة مواطناً صالحاًَ يضل ضلالة، يغش بها ويخدع، ويسرق ويحتال، تمتعاً بهذا الترف المرئي والداء المستشري، ولسان حال هؤلاء يقول: صفِّدت شياطين رمضان إلا شياطينهم، حتى صاروا بذلك يطلبون ولا يُعطون، ويستحون ولا يصبرون، ويحسنون الجمع في حين أنهم لا يعرفون القسمة، إلى أن تحطمت فيهم روح المغالبة والمقاومة، فلا عجب حينئذٍ إذا لم يجد هؤلاء بهذا الشهر المبارك ما يجده المؤمنون الصادقون. وفي المقابل -عباد الله- فإن لهذا الشهر أناساً غضَّ أبصارَهم ذكرُ المرجع، وأراقَ دموعَهم خوفُ المحشر، فهم بين شريد هارب من الكسل والخذلان، وخائف مقهور، وداعٍ مخلص، وثكلان مُوْجَع. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 2 البدار بالتوبة قبل الفوات ألا فاتقوا الله أيها الصائمون القائمون! وتنفسوا قبل ضيق الخناق، وانقادوا قبل عنف السياق، فـ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] وإلا فما يصنع بالدنيا مَن خُلق للآخرة؟! وما يصنع بالمال مَن عمَّا قليل سيُسْلَبُه وتبقى عليه تَبِعاتُه وحسابُه؟! فالله الله وأنتم سالمون في الصحة قبل السقم، وفي الفسحة قبل الضيق، ويا لَفوز مَن سعوا في فكاك رقابهم من قبل أن تغلق عليهم رهائنها! ألا إن لله عتقاء من النار في هذا الشهر المبارك، وأما هذه الدنيا فهي غرارة ضرارة، حائلة زائلة، لا تعدو أن تكون بزخرفها كما قال الله تعالى: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45] . إنه ما بين أحدنا وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به, وإن غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة لجديرة بقصر المدة مهما طالت، وإن غائباًَ يحدوه الجديدان -الليل والنهار- لَحَرِيٌّ بسرعة الأوبة. فرحم الله امرأً قدم توبته وغالب شهوته، فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكل به، يزين له المعصية والتفريط ليركبهما، ويمنيه التوبة ليسوفها {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [النساء:120] . الجزء: 22 ¦ الصفحة: 3 لا مفر من الموت فعلى المرء التوبة فالبِدار البِدار قبل مفاجئة الأجل! فلو أن أحداً يجد إلى البقاء نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء دون أن يُقضى عليه بالموت لكان ذلك لسليمان بن داوُد عليه السلام، الذي سخر الله له مُلك الجن والإنس و {الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [ص:36-38] هذا مع نبوته وعظيم زلفته، غير أنه لما استوفى طُعمته واستكمل مدته؛ رماه قوس الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديار منه خالية، وورثها قوم آخرون. وإن لكم في القرون السالفة لعبرة، وإلا فأين العمالقةُ وأبناءُ العمالقة؟! وأين الفراعنةُ وأبناءُ الفراعنة؟! أين أصحابُ مدائن الرجز؟! وأين عادٌ وثمود، وإرم ذاتُ العماد الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ؟! فيا مؤخراً توبته بمطل التسويف؛ لأي يوم أجَّلتَ توبتك وأخَّرتَ أوبتك؟! لقد كنتَ تقول: إذا صمتُ تبتُ، وإذا دخل رمضان أنبتُ، فهذه أيام رمضان عناقيد تناقصت، لقد كنت في كل يوم تضع قاعدة الإنابة لنفسك، ولكن على شفا جرف هار. ويحك أيها المقصر! فلا تقنع في توبتك إلا بمكابدة حزن يعقوب عن البَين، أو بعَبرة داوُد ومناجاة يونس لربه في ظلمات ثلاث: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] أو بصبر يوسف عن الهوى، فإن لم تطق ذلك فبذل إخوته يوم أن قالوا: {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97] . الجزء: 22 ¦ الصفحة: 4 توبة الأنبياء والصالحين أيها المذنب المقصر: لا تخجل من التوبة، ولا تستحِ من الإنابة؛ فلقد فعلها قبلك آدم وحواء حين قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] . وفعلها قبلك إبراهيم حين قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] . وفعلها موسى حين قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:16] . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن أيوب نبي الله لبث في بلائه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلَين من إخوته كانا من أخص إخوانه كانا يغدُوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم -والله- لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحدٌ من العالمين، قال له صاحبُه: وما ذاك؟! قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقول؟! غير أن الله يعلم أني كنت أَمرُّ على الرجلَين يتنازعان فيذكران الله؛ فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يُذكر اللهُ إلا في حق. قال: وكان يخرج إلى حاجته, فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، فأوحى الله إلى أيوب في مكانه: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42] فاستبطأته فبلغته، فأقبل عليها حتى قد أذهب الله ما به من البلاء، فهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى؟! فوالله ما رأيت أحداً كان أشبه به منك إذ كان صحيحاً! قال: فإني أنا هو. وكان له أنْدَران: أنَدَر القمح وأنْدَر الشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الوَرِق حتى فاض} رواه ابن حبان والحاكم، وصححه الذهبي. فلا إله إلا الله! من يمنع المذنب من التوبة؟! ولا إله إلا الله! {مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] . يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [[دعا الله إلى مغفرته مَن زعم أن عزيراً ابن الله، ومَن زعم أن الله فقير، ومَن زعم أن يد الله مغلولة، ومَن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول لهؤلاء جميعاً: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]] ] . ألا فإن التوبة للمرء كالماء للسمك، فما ظنكم بالسمك إذا فارق الماء. {جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني قد زنيت فطهرني، فردها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله! لِمَ تردُّني؟! لعلك تريد أن تردَّني كما رددتَ ماعزاً! فوالله إني لحُبلى. قال: أمَا فاذهبي حتى تلدي. فلما وَلَدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: ها قد ولَدْتُه. قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه. فلما فطَمَته أتته بالصبي في يده كسرة خبز حرصاً منها على التوبة وإقامة الحد فقالت: يا رسول الله! ها قد فطمتُه، وقد أكل الطعام. فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أَمَر بها، فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها فتنضَّخ الدم على وجه خالد فسبَّها، فسمع نبي الله سَبَّه إياها فقال: مهلاً يا خالد! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مُكْس لَغُفِر له} وصاحب المكس هو الذي يأخذ الضريبة من الناس. رواه مسلم، وفي رواية: {لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجَدَتْ شيئاً أفضل من أن جادت بنفسها لله عزَّ وجلَّ؟!} . إن صاحب الذنب مهما غفل عن التوبة أو تناءى عنه الوصول إليها، فسيظل أسير النفس، قلقاً لا قرار له، متلفتاً لا يصل إلى مبتغاه ما لم يُفتح له باب التوبة ليطهر نفسه من كلكلها، ويخفف من أحمالها. إلهنا! يا من يرى مدَّ البعوض جناحَها في ظلمة الليل البهيم الأليلِ ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النُّحَّلِ امنن عليَّ بتوبة تمحو بها ما كان مني في الزمان الأولِ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه كان غفاراً. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 5 التوبة سبب للنجاة من النار الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه. أما بعد: فيا أيها الناس: في يوم من الأيام {صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم درجات المنبر، فلما رقى عتبة الأولى قال: آمين، ثم رقى عتبة الثانية وقال: آمين، ثم رقى عتبة الثالثة وقال: آمين، ثم قال: أتاني جبريل، فقال: يا محمد! مَن أدركَه رمضان فلم يُغفر له؛ فأبعدَه الله، قل: آمين فقلت: آمين} الحديث، رواه ابن حبان وغيره. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فلقد خِسر وفرَّط ورغم أنفه مَن ضيَّع فرصة رمضان ونكص على عقبَيه. ألا أين أنتم أيها التائبون؟! عقلكم يحثكم على التوبة وهواكم يمنعكم، والحرب بينهما سِجال، فلو جهزتم جيش عزم لفر العدو منكم تنوُون قيام الليل فتتكاسلون، وتسمعون القرآن فلا تبكون، بل أنتم سامدون، ثم تقولون: ما السبب؟! {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] . ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين! وتوبوا إلى ربكم توبة نصوحاًَ، توبوا إلى الله أفراداً وجماعات، فما توبة الأمة بأدنى شأناً من توبة الأفراد، إذ يقول الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] . ألا ترون -يا رعاكم الله- ما قاله الباري جل شأنه في كتابه: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] . فيا أيها المسلمون: ما هي إلا التوبة والاستغفار، وإلا فالمصير النار والخسار، وما لهذا الجلد الرقيق صبر عليها! فارحموا أنفسكم؛ فقد جربتموها في مصائب الدنيا، أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه، والرمضاء تحرقه؟! فكيف إذا كان بين طابقين من نار! ضجيع حجر، وقرين شيطان، في نار يحطِم بعضُها بعضاً، لا تسمع فيها إلا تغيظاً وزفيراً، كلما نضجت فيها الجلود بدلها الله جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:15-18] . يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عزَّ وجلَّ: {يا بن آدم! إنك ما دعوتَني ورجَوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي يا بن آدم! لو بلَغَتْ ذنوبُك عنان السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك ولا أبالي يا بن آدم! لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} رواه الترمذي في جامعه. {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:55-56] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم انصر إخواننا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان يا حي يا قيوم، اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم سقيا رحمة، لا سقيا هدم، ولا بلاء، ولا غرق. اللهم لتحيي بها البلاد، وتسقي بها العباد، ولتجعلها بلاغاً للحاضر والبادِ. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 6 الباقيات الصالحات الشريعة الإسلامية الغراء جاءت كاملة، وسهلة يسيرة؛ والدليل على ذلك أن هناك عبادات لا تحتاج إلى كثير جهد ولا كثير تعب، فمن هذه العبادات ذكر الله جل وعلا؛ ففضل ذكر الله عظيم وله من الأجر الكبير ما لا يعلمه إلا الله. والباقيات الصالحات هن بعض الأذكار التي يذكر بها الله جل وعلا، وهن غراس الجنة، وهن الكلمات الخفيفات على اللسان الثقيلات في الميزان. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 1 أهمية الذكر الحمد لله على تقديره، وحُسن ما صرف من أموره، نحمده سبحانه على حسن خلقه وتصويره، وعلى إعطائه ومنعه، يخير للعبد وإن لم يشكره، ويستر الجهل على من يظهره، خوف من يجهل من عقابه، وأطمع العامل في ثوابه جلَّ شانه، لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، بعثه الله رحمة للعالمين، ومِنّة للإنس والجن، بَراً حريصاً بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، عليه من الله أزكى صلاة وأتم تسليم، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:- فيا أيها الناس: إنه لا أحوج للمرء المسلم ولا أبلغ في أن يذكر به ويوصى من تقوى الله سبحانه، فإنها الزمام، وبها القوام، فتمسكوا -رحمكم الله- بوثائقها، واعتصموا بحقائقها؛ تئول بكم إلى أكنان الدعة وأوطان السعة، ومنازل العز والرفعة، في يوم تشخص فيه الأبصار، وينفخ فيه الصور فتدك الشم الشوامخ والصم الرواسخ، فيصير صلدها سراباً رقرقاً، ومقرها قاعاً صفصفاً، وإلا فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، يوم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً. عباد الله: أمر مقرر معلوم، لا إخاله خافياً على كل من يحمل مع روحه عقلاً صحيحاً وعلماً صريحاً، وهو أن لكل بداية نهاية، وأن البزوغ يعقبه الأفول، وآحاد العبادات من فرائض وسنن لها أوقات تحد للبداية والنهاية، بل إن طاقات البشر البدنية والنفسية -بلا استثناء- قد تقوى حيناً من الدهر، فتقوى بقوتها العبادة، كما أنها قد تضعف أحياناً، فتضعف بضعها العبادة ما خلا أمراً واحداً لا تعيق عنه العوائق، يستوي فيه الشرخ والشيخ، والصحيح والسقيم، والقادر والعاجز، والقائم والقاعد، بل والمستلقي على ظهره، لا يحتاج إلى استنهاض قوىً، ولا استجماع نشاط، أتدرون ما ذاك عباد الله؟ إنه ذكر الله تعالى، ذكر الله الذي لا يستساغ عذر منقطع عنه، كيف لا وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبث به؟ قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} رواه الترمذي وابن ماجة. ذكر الله -أيها المسلمون- أمر الله جل وعلا به الحجاج بعد انقضاء نسكهم، بل وأمرهم أن يلهجوا به مع الإكثار منه فقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة:200] ، وهذه الآية عباد الله! لا تفيد بمنطوقها ولا بمفهومها، أن يذكر المسلمون آباءهم مع الله، كلا. ولكنها تحمل طابع التوجيه إلى الواجب واللازم: وهو استبدال ذكر الله بذكر الآباء، بل إنها تؤكد على المسلمين أن يكونوا أشد ذكراً لله، ولا غرو في ذلك إذ المؤمنون هم أشد حباً لله، وذكر الله تعالى هو الذي يرفع العبد حقاً وليس هو التفاخر بالآباء، وما سوى ذلك من حطام الدنيا الفانية، وإن في الأمر بالذكر عند انقضاء النسك معنىً جلياً، وهو أن سائر العبادات تنقضي ويفرغ منها، وذكر الله باق لا ينقضي ولا يفرغ منه، فالمؤمن الصادق يعيش على ذكر الله، ويموت عليه، وعليه يبعث، فما طابت الدنيا إلا بذكره جلَّ وعلا. يقول ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟! الجزء: 23 ¦ الصفحة: 2 وقفات مع الباقيات الصالحات أيها المسلمون: يقول البارئ جل شأنه: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46] ، ويقول: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً} [مريم:76] . هاتان الآيتان قال عنهما جمهور من المفسرين: إن الباقيات الصالحات هن الكلمات المأثور فضلها، وهن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. روى الحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خذوا جُنتكم، قلنا: يا رسول الله! من عدو قد حضر؟ قال: لا. جُنتكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة منجيات ومقدمات وهن الباقيات الصالحات} ، ومعنى كونها باقيات صالحات أي: أنها من حرث الآخرة، وأن ثوابها باق لها. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 3 الباقيات الصالحات غرس الجنة إننا -أيها المسلمون- لفي حاجة داعية إلى تحصيل الباقيات الصالحات، إن في المسلمين من الضعف والخواء، والضيق والوحشة، وكثرة الهذيان واشتغال اللسان بما لا طائل من ورائه، ما يحتاجون معه إلى استشعار الباقيات الصالحات، ألا إن أحدنا ليمدن عينه إلى زهرة الحياة الدنيا، بل إن أحدنا ليرى فيه من الحرص على مسكنه، وعلى ما يزينه به من غراس جميل، وخضرة خلابة، هي من سعادة الناظر في الحياة الدنيا، ما يؤكد عليه أن يفقه الباقيات الصالحات. تمعن أيها المرء! بكم تشتري الفسائل أو أطايب الشجر، وكم يستهويك غرسه أو جنيه، لله كم تزاود أو تماكس في بيعه وشرائه، ألا تشرئب إلى من يدلك على ما هو خير من ذلك كله، بل وأرخص منه، بل ولربما عدَّك العقلاء من الناس مفرطاً مفلساً إن لم تتعجل بشرائه أو غراسه؛ لأن الوقت محدود، والفرصة سانحة، والعذر ليس ذا بال. إن شئت -أيها المرء- فاسمع الآتي: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أغرس غراساً فقال: يا أبا هريرة! ما الذي تغرس؟ قلت: غراساً لي، قال: ألا أدلك على غراس خير لك من هذا؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة} رواه ابن ماجة. وروى مسلم والترمذي وغيرهما {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد اقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، -أي: مستوية- وأن غراسها، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر} . الجزء: 23 ¦ الصفحة: 4 فوائد الباقيات الصالحات قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وابن ماجة: {لأنْ أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ أحب إلي مما طلعت عليه الشمس} . وفي رواية: {أربع أفضل الكلام لا يضرك بأيهن بدأت، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر} . تلكم -أيها المسلمون- فضائل هذه الكلمات في الجملة، ناهيكم عن كون الإكثار منها سبباً في غفران الذنوب، ومحو الخطايا، وما أحوجنا إلى مثل ذلك. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عليك بسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يحططن الخطايا، كما تحط الشجرة ورقها} رواه ابن ماجة. أضيف إلى ذلك أيها المسلمون: أن ذكرها قد يكون سبباً في إجابة الدعاء، أو قبول الصلاة، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {من تعارَّ من الليل -أي: استيقظ- فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على لك شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم دعا استجيب له، فإن قام فتوضأ، ثم صلى قبلت صلاته} رواه البخاري وغيره. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 5 معنى الباقيات الصالحات أيها المسلمون! تلكم الكلمات الأربع على قلة عددها ويسر أدائها، إلا أنها كلمات عظيمة المعنى، واسعة الأثر، قد يوجد في الناس من يرددها، وربما يكثر منها، ولكنه في منأىً عن فقه معناها، أو استخلاص لوازمها حتى يصبح القلب بسبب ذلك بعيداً عن استشعار جلال الله وعظمته، وقدره حق قدره، ولا جرم فإن ذكر الله عز وجل كلام تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، بيد أن الناس مما ألفوا منه، وما جهلوا من معناه لا يرددونه، إلا كما يرددون كلاماً تقليدياً، لا يعدو كونه تمتمات، يلوك بها المرء لسانه، قد طغت على معالمه بسبب الألفة والاعتياد المتجرد عن الامتثال لله سبحانه؛ ولذا فإن من المناسب جداً أن نشير على عجالة واقتضاب شديدين إلى معاني تلك الكلمات الأربع: الجزء: 23 ¦ الصفحة: 6 معنى سبحان الله فأولهن (سبحان الله) : والتي معناها: التنزيه والإعلاء والتقديس للباري جل وعلا بكل ما لا يليق بقدره، فيسبح الله عن كل شرك، أو عبودية لغيره، ويسبح الله عن أن يوصف بغير ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال. وتسبيح الله -أيها المسلمون- ليس مقتصراً على جانب التنزيه فحسب، وإنما هو مرتبط كذلك ارتباطاً وثيقاً بجانب الخشية من الله، كأن المرء يراه، وإنه إن لم يكن يراه فإن ربه يراه، فلا ينبغي أن يصدر من العبد ما لا يرضى به ربه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وأن المرء المسلم إذا نأى بنفسه عن أن يقع في زلة أو هفوة، بسبب تسبيحه لله، فهو ممن أدى حق الخشية والتنزيه والإعلاء. ألا تسمعون قول البارئ جلَّ وعلا يصف أحاديث الإفك المفترى، على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] . إن المرء المسلم ليربأ بنفسه عن أن يكون مقوالاً مهذاراً لكل ما يرد إليه لا تحكمه أناة، ولا يردعه خشية، ولا يكفكفه عقل، ويكفيه كذباً أن يحدث بكل ما سمع، وإن الذين يرمون الأبرياء بما ليس فيهم تحقيقاً لشهوات دنيئة ومآرب غير نقية، ما قدروا الله حق قدره، وما نزهوه وسبحوه كما يليق بجلاله. وقولوا مثل ذلك -عباد الله- في الظن بالله جلَّ وعلا، إذ على المرء أن يعلم علم اليقين، أن الله خلق كل شيء، فقدره تقديراً، وأن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، وشقية أو سعيدة، وألا يبالي المرء أعطاه الناس أو منعوه، فإنما هم رسل الله في الرزق، يعطون من قدر الله أن يعطوه، ويمنعون من قدر الله أن يمنعوه، وما على المرء المسلم إلا أن يتوكل على الله كما تتوكل الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً، فتوكل على الحي الذي لا يموت، وسبح بحمده. وليس بخافٍ عليكم -أيها المسلمون- ما حكاه الله عن أصحاب الجنة في سورة نون {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم:23-29] . الجزء: 23 ¦ الصفحة: 7 معنى الحمد لله الكلمة الثانية -رحمكم الله- هي كلمة الحمد، (الحمد لله) إنها كلمة لها شعبتان من المعاني: شعبة تتصل بتمجيد الله وكشف الران والجهل الذي يغشى القلوب، فلا تعرف حق الله من المدح والثناء، والحمد في هذه الشعبة، يذكر في السراء والضراء، فالله جل شأنه يحمد في البلاء كما يحمد على النعماء، ويدل على ذلك أن الله جلَّ شأنه إذا أودع أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، تأتي عبارة الحمد من الملائكة على هذا القضاء بين فريق الجنة وفريق السعير، قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75] . يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد} رواه أحمد والترمذي. وأما شعبة الحمد الثانية: فهي معنى (الشكر) في مقابل السراء والنعم التي تنهمر على العباد صباح مساء دون أن تحصى أو تعد، بيد أن كثيراً من الناس يعمهم قوله سبحانه: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] . يقول النبي صلى الله عليه وسلم منبهاً إلى نعمة الشكر المنسية وفضلها المجحود فيما رواه أبو داود وابن حبان: {من قال حين يُصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر ذلك اليوم} . اللهم اجعلنا شاكرين لنعمك مثنين بها عليك، قابليها وأتمها علينا ياذا الجلال والإكرام، بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 8 معنى لا إله إلا الله الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والشكر له على كرمه ومنته وتتابع الهبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، شهادتين نلقى الله بهما عند الممات وجمع الرفات، وأصلي وأسلم على أشرف خلقه وآله وصحبه. أما بعد: فثالث الكلمات الأربع -عباد الله- هي كلمة التوحيد والإخلاص: {لا إله إلا الله} ، والتي هي باب الإسلام، ومدخله مع ضميمتها الأخرى، وهي: (محمد رسول الله) إذ لا يتم إيمان عبدٍ إلا بتحقيق كلمة التوحيد، بمعنى: أن تجمع نفياً وإثباتاً، نفياً لكل ما يعبد من دون الله، وإثباتاً لعبادة الله وحده، ومعنى الكلمة: أنه لا معبود بحق إلا الله. إذ أن ما سواه من معبودات أو متبوعات، لا تستحق العبادة، بل هي كما قال الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] ، وفي صحيح مسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم دمه وماله وحسابه على الله عزَّ وجلَّ} فالتوحيد والشرك نقيضان لا يجتمعان في قلب امرئ مسلم ألبتة، ومن أشرك بالله شيئاً فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار. غير أنه قد يقول قائل: أين نحن من عبادة الأصنام والأوثان، لا نعلم أحداً يعبد حجراً أو يصلي إلى صنم؟ ف الجواب إن من ظن أن الشرك بالله لا يكون إلا بذلك، فقد أخطأ الطريق، لأن الله يقول: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] . والإيمان بالله والكفر بالطاغوت هو معنى لا إله إلا الله، والطاغوت قال عنه ابن القيم رحمه الله: إنه ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم، من يتحاكمون إليه من دون الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما ليس طاعة لله ورسوله، ومن هنا أزال النبي صلى الله عليه وسلم الإشكال، الوارد على عدي بن حاتم رضي الله عنه عند قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] . قال عدي: {يا رسول الله! لسنا نعبدهم، قال: أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم} رواه الترمذي والبيهقي. وحاصل فضل هذه الكلمة -عباد الله- قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والنسائي: {أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: لا إله إلا الله} . الجزء: 23 ¦ الصفحة: 9 معنى الله أكبر أما رابع الكلمات -يا رعاكم الله- فهي كلمة التكبير (الله أكبر) التي هي رأس التكبير وعماده، وهي أول ما كلف به الرسول صلى الله عليه وسلم حين أمر بالإنذار فقال الله له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:1-3] إنها كلمة عظيمة، تحيي موات الأرض الهامدة، لصوتها هدير كهدير البحر المتلاطم أو هي أشد وقعاً، ولا غرو -أيها المسلمون- فإن شئتم فاسمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم عن فتح القسطنطينية في آخر الزمان، يقول صلى الله عليه وسلم: {فإذا جاءوها، نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر فيسقط أحد جانبيها، ثم يقول الثانية، لا إله إلا الله، والله أكبر فيسقط جانبها الآخر ثم يقول الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر، فيفرج لهم فيدخلوها فيغنموا} الحديث رواه مسلم. فيا لله! ما أعظم هذه الكلمة وما أبلغها! إنها كلمة ينبغي أن تدوي في سمع كل فاسق مفسد، ليرتجف فؤاده، ويهتز كيانه، وينبغي أن تدوي في سمع كل من يهم بمعصية أو إثم ليقشعر ويرتدع، وينبغي أن تدوي في سمع كل ظالم معتد متكبر ليتذكر إن كان من أهل الذكرى أن هناك إلهاً أقوى منه، وأكبر من حيلته ومكره واستخفافه، فالله أكبر، الله أكبر كبيراً. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك ومنك يا أكرم الأكرمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وسلِّم الحجاج والمسافرين والمعتمرين في برك وبحرك وجوك يا رب العالمين. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته ياذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 10 خطبة وصلاة الاستسقاء إن الذنوب والخطايا هي السبب في عدم نزول الأمطار، وهي السبب في كل شر وبلاء، لذلك لابد من الإقلاع عنها حتى يرحمنا الله وينزل علينا الغيث، ولابد كذلك من توبة نصوح إلى الله تعالى كي يرحمنا ولا يؤاخذنا بما فعلنا. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 1 التقوى جماع كل خير الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، وسبباً للمزيد من فضله، ودليلاً على آلائه وعظمته، أمره قضاء وحكمة، ورضاه أمان ورحمة، يقضي بعلمه، ويعفو بحلمه، نحمدك اللهم على ما تأخذ وتعطي، وعلى ما تعافي وتبتلي، الحمد لك يا رب! إذ لم تجعلنا ميتين ولا سقماء، ولا مضروبين على عروقنا بسوء، ولا مقطوعاً دابرنا، ولا مرتدين عن ديننا، ولا منكرين لربنا، ولا مستوحشين من إيماننا، ولا معذبين بعذاب الأمم من قبلنا، أصبحنا عبيداً مملوكين لك، لك الحجة علينا، ولا حجة لنا عليك، لا نقدر أن نأخذ إلا ما أعطيتنا، ولا أن نتقي إلا ما وقيتنا، نحمدك اللهم على آلائك، كما نحمدك على بلائك، شرنا إليك صاعد، وخيرك إلينا نازل، نستعين بك اللهم على هذه النفوس في البطاء عما أمرت به، والسراع إلى ما نهيت عنه، ونستغفرك اللهم مما أحاط به علمك، وأحصيته في كتابك، علمٌ غير قاصر، وكتابٌ غير مغادر. وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، شهادتين تصعدان القول وترفعان العمل، لا يخف ميزان توضعان فيه، ولا يرجح ميزان ترفعان عنه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الأتقياء البررة، وعلى من سار على طريقهم واقتفى أثرهم إلى يوم المعاد. نستغفر الله نستغفر الله نستغفر الله نستغفر الله اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، وأمددنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات واجعل لنا أنهاراً. أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، التي هي الزاد وبها المعاد، زاد مبلغ، ومعاد منجح، دعا إليها أسمع داع، ووعاها أفقه واع، فأسمع داعيها وفاز واعيها. عباد الله: إن تقوى الله سبحانه حمت أولياء الله عن محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته استقربوا الأجل فبادروا العمل، وكذبوا الأمل ولاحظوا الأجل، ثم إن الدنيا دار فناء وعناء، وإن ملك الموت لموتر قوسه، لا تخطئ سهامه، ولا تنسى جراحه، فبادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل، فإنه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق، فإن الرجاء مع الجائي واليأس مع الماضي. وإن من العناء -يا عباد الله- أن يجمع المرء ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكن، ثم يخرج إلى الله لا مالاً حمل، ولا بناءً نقل، فسبحان الله! ما أغر قصور الدنيا، وأظمأ ريها، وأضحى فيئها! فلا جاءٍ يرد، ولا ماض يرتد. أيها الناس: إنه ليس شيء بشر من الشر إلا عقابه، وليس شيء بخير من الخير إلا ثوابه، واعلموا -يا رعاكم الله- أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا، فكم من منقوص رابح؟ وكم من مزيد خاسر؟ ألا وإن الذي أُمرتم به أوسع من الذي نُهيتم عنه، وما أحل لكم أكثر مما حُرِّم عليكم، فذروا ما قلّ لما كثر، وما ضاق لما اتسع. نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 2 الثقة بالله تفرج الكرب أيها الناس: إن خير ما ألقي في الضمائر يقينٌ بالله يرسخ في القلوب كالرواسي، وإيمان صادق بكفاية الله لعباده، يدفعهم إلى تقديم مرضاة ربهم على رضاء خلقه وعلى عبيده وعلى النقيض من ذلك! فئام من الناس ضَعُف فيهم اليقين بالله، فأرضوا الناس بسخط الله، وجاملوهم في معاصي الله، وتعلقوا بهم واشتغلوا عن ربهم رغبة منهم في نوال حطام الدنيا، أو خوفاً من سطوة ساط أو بغي باغ، فالحذر الحذر من مثل صنيع هؤلاء. يقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: [[إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه، فيلقى الرجل وله إليه حاجة، فيقول له: أنت كيت وكيت، يثني عليه لعله أن يقضي من حاجته شيئاً، فيسخط الله عليه، فيرجع وما معه من دينه شيء]] ، ويقول حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه: {بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نسأل الناس شيئاً} رواه مسلم، حتى أن الرجل من الصحابة ليسقط سوطه من على راحلته فينزل فيأخذه لا يسأل أحداً أن يناوله إياه. عباد الله! في أعقاب الزمن تتنكس الفطر، وتدرس معالم الشريعة كما يدرس وشي الثوب إلا ما شاء الله، وإنه ما من زمان يأتي إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، وإنكم ستعرفون من الناس وتنكرون حتى يأتي على الناس زمن ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، حتى أصبح الكتاب والسنة في الناس وليس فيهم، ومعهم وليس معهم، فاجتمع أقوام على الفرقة وافترقوا عن الجماعة، كأنهم أئمة كتاب وليس الكتاب إمامهم. ألا فاعلموا -عباد الله- أن من استنصح الله وفق، ومن اتخذ قوله دليلاً هدي للتي هي أقوم، وإنه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعاظم، فإن رفعة الذين يعلمون عظمته أن يتواضعوا له، وسلامة الذين يعلمون قدرته أن يستسلموا له، فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الأجرب، والبريء من ذي السقم، فالتمسوا الرشد -رعاكم الله- من عند أهله، فإنهم عيش العلم وموت الجهل، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق وصامت ناطق {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] . نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 3 قل هو من عند أنفسكم أيها المسلمون! إن الله سبحانه يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات؛ ليتوب تائب، ويقلع مقلع، ويتذكر متذكر، ويزدجر مزدجر، وقد جعل الله سبحانه الاستغفار سبباً لدرور الرزق ورحمة الخلق، فقال سبحانه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] . قرأها الفاروق رضي الله عنه من على المنبر وهو يستسقي ثم قال: [[لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر]] فما لبعض الناس لا يرجون لله وقاراً، وقد خلقهم أطواراً. فرحم الله امرأً استقبل توبته، واستقال خطيئته، وبادر منيته روى البيهقي وابن ماجة من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: {كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل علينا بوجهه، وقال: يا معشر المهاجرين! خمس خصال أعوذ بالله أن تُدركوهن، ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما بأيدهم، وما لم يعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم} . يقول أبو هريرة رضي الله عنه: [[إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم]] ، وقال مجاهد رحمه الله: [[إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة، وأمسك المطر، تقول: هذا لشؤم معصية ابن آدم]] . ألا فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن الأرض التي تحملكم، والسماء التي تُظلكم مطيعة لربكم فلا تمسكان بخلاً عليكم، ولا رجاء ما عندكم، ولا تجودان توجعاً لكم، ولا زلفى لديكم، ولكن أمرتا بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود الله مصالحكم فقامتا: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] . يقول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: [[إنه ليس من عبدٍ إلا له مصلى في الأرض، ومصعد عمله من السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض، ولا عمل يصعد في السماء، ثم قرأ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:2]] ] . نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، وأمددنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات واجعل لنا أنهاراً. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 4 تضرع ودعاء اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا خرجنا إليك من تحت البيوت والدور، وبعد انقطاع البهائم وجدب المراعي، راغبين في رحمتك، وراجين فضل نعمتك، اللهم قد انصاحت جبالنا، واغبرت أرضنا، اللهم فارحم أنين الآنَّة، وحنين الحانَّة، اللهم اسقنا غيثك ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين اللهم إنا خرجنا إليك حين اعتركت على إخواننا مواقع القطر، وأغلبتهم مخايل الجوع، فكنت رجاء المبتئس والمجير للملتمس، اللهم انشر علينا وعليهم رحمتك من السحاب، سحاً وابلاً، غدقاً مغيثاً، هنيئاً مريئاً مجللاً، نافعاً غير ضار اللهم لتحيي به البلاد، وتسقي به العباد، وتحيي به ما قد مات، وترد به ما قد فات، وتأنس به الضعيف من عبادك، وتحيي به الميت من بلادك اللهم سقيا هنيئة! تروى بها القيعان، وتسيل البطان، وتستورق الأشجار، وترخص الأسعار. اللهم إنا نسألك ألا تردنا خائبين، ولا تقلبنا واجمين، فإنك تنزل الغيث من بعد ما قنطوا وتنشر رحمتك وأنت الولي الحميد. عباد الله: اعلموا أنه يُسن في مثل هذا الموطن أن تقلبوا أرديتكم، اقتداءً بفعل نبيكم صلى الله عليه وسلم، فقد حول إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو ثم حول رداءه تفاؤلاً بتحويل الحال عما هي عليه من الشدة إلى الرخاء ونزول الغيث وادعوا ربكم وأنتم موقنون بالإجابة. وصلوا وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين. نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، وأمددنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات واجعل لنا أنهاراً. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 5 وحدة الأمة إن الناظر في حال الأمة المحمدية المعاصر ليجد أشياء وعجائب يندى لها الجبين، من ذلة بعد عزة، وبدعة بعد سنة، وتخاذل بعد نصرة، وتشرذم وتفرق بعد وحدة وجماعة؛ وما ذلك إلا بسبب تركهم كتاب الله وراءهم ظهرياً، وتخليهم عن آداب وتعاليم الإسلام، واقتدائهم بالغرب وتعاليمهم وأخلاقهم، والرضا بذلك الدون والهوان والذلة والصغار ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 1 الدنيا وتأثيرها في المجتمع إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] . أما بعد: فيا أيها الناس: في دنيانا المحيطة بنا أمثلة وضروب تتلون وتتجدد، ثم إن بعضها يتبع بعضاً على وجه المطالبة الحثيثة بحيث إن النفوس المؤمنة تستمرئها بسبب تتابعها رويداً رويداً حتى تألفها فلا تكاد تتحول عنها، وهذه الأمور -عباد الله- إنما هي نماذج لأحزان وأشجان وقروحٍ تمس بلاد الإسلام حسية ومعنوية، مما يجعلها سبباً لكثير من الناس في أن يسعوا جاهدين على إزالة همومهم وغمومهم بشيء من الكيوف الموقوتة، والسراب الخادع، من كل ما هو من زخرف الدنيا وزينتها، والذي يجب على المسلمين جملة ألا يغتروا بما يرونه من زخرف الحياة الدنيا وزينتها في أمة تقطعت روابطها وانفصمت عراها قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] . من أجل الدنيا وزينتها يغش التجار ويطففون، ومن أجل الدنيا يتجبر الرفعاء ويستكبرون، ومن أجل الدنيا وزخرفها يروج الصحفي بقلمه الكذب والزور، ويخفي الحقائق وهي أوضح من فلق الصبح، ومن أجل الدنيا يصبح المرء مسلماً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا مقيت. كل الناس على هذه البسيطة يغدو فبائع نفسه فمعتقها، أو نفسه فموبقها، من مترفٍ مبطون يأكل ولا يشبع، داؤه العضال هو: أن تذكره بذوي المسغبة أو المسكنة أو المصاب الجلل من بني ملته، ومن قارونيٍ يجمع ويجمع ثم يأخذ ويمنع، ومصابه الجلل في أن تحثه على الإنفاق في سبيل الله جهاداً ودعوة وصدقة، ومن شباب وفتياتٍ دعوا إلى الفضيلة فأبوا، ونودوا إلى صيانة النفس فتمردوا، وألقوا ثيابهم لكل قادمٍ ناهب، وكشفوا أوعيتهم لكل سبع والغ. والحق -عباد الله- أن هذا الانطلاق المحموم في مهام الحياة ودروبها أفراداً ومجتمعاتٍ دون اكتراثٍ بما كان ويكون، أو الاكتفاء بنظرة خاطفة لبعض الأعمال البارزة أو الأعراض المخوفة؛ الحق أن ذلك نذير شؤم والعياذ بالله، وقد عده الله سبحانه سمة من سمات المنافقين الذين لا كياسة لديهم ولا يقين لهم قال تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126] . أيها المسلمون: في الليلة الظلماء يفتقد البدر، وفي لهيب الشمس وسموم الحر يستطلب الظل وتستجلب النفحات، وما أروع العدل حين يطغى الجور، والإنصاف حين يعلو الغمط، والوقوف مع النفس في مكاشفة ومصارحة في عصرٍ غلبت عليه المجاملات والرتابة، والفرقة والوحشة والتنافر بين النفوس شذر مذر. ومن هنا يأتي الحديث ضرورياً عن الوحدة والاجتماع والتآلف والتآخي والتناصر والتكاتف في عصرٍ كثرت فيه الموجعات وقلت فيه الرادعات ولا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 2 أهمية وحدة الأمة وأسس روابطها أيها المسلمون! لطالما تحدث المتحدثون، وهتف الهاتفون من أمة الإسلام بأنه يجب أن تكون هناك وحدة قوية راسخة الأسس شامخة المعالم تطال أمة الإسلام طراً، حتى تكون بعد ذلك صخراً صلباً تتحطم أمامه أمواج الضعف وتتخاذل، وهذه الدعوة في حقيقتها ليست مستحيلة ولا ضرباً من التخييل أو نزوة من أحلام اليقظة، كلا. عباد الله! فلو كان الأمر كذلك لما حض الباري جل شأنه عباده المؤمنين على أن يكونوا إخوة في الله، متناصرين متعاونين، تجمعهم كلمة واحدة ورابطة واحدة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ولما حرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يتلاحم المسلمون ويكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، غير أن السؤال الذي قد يشغل بال الكثيرين هو كيف نبني هذه الوحدة؟ وعلى أي أساس يجب أن تنهض ليشتد عودها ويستقيم ظلها، أتقام هذه الوحدة على أساس من اللغة؟ لا؛ فاللغة وحدها غير كافية إذ قد يكتنفها مسلمٌ وكافر، فضلاً عن أنه لم يكن اللسان يوماً ما هو سبيل الاتحاد والوحدة، فكم هم الذين يتكلمون بلغتنا ومن بني جلدتنا وهم في الحقيقة شياطين في جثمان أنس، كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عند مسلم في صحيحه. أفتقام إذاً هذه الوحدة على أساس من الجنس؟ كلا؛ فالجنس وحده ليس معياراً يعتمد عليه أو يجعل تكئة للإتلاف العميق، فالإسلام لا يقيم للجنس في تقديره وزناً، فالناس كلهم لآدم وآدم من تراب، وإن كان لهم من أصلهم نسبٌ يفاخرون به فإنه لا يعدو كونه الطين والماء: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] . إذاً على ماذا تقام هذه الوحدة وبأي شيء تكمل؟ إنها لا تقوم حقيقة إلا على أساس يجمع الأرواح قبل أن يجمع الأشباح، ويقنع العقول إثر سيطرته على القلوب، ويؤلف بين الرغبات والأهواء كما يؤلف بين النبات والماء، هذا الأساس بكله هو عقيدة الإيمان المستقرة في الخواطر والصدور، وملة الإسلام التي تظل أبناءها جميعاً ليتفيئوا ظلالها بلواء العلي الغفار: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138] . إنه يجب علينا جميعاً أن نؤمن بأن الدعوة للوحدة ليست عصبية أو جنسية أو إقليمية أو تأليباً على الشر أو اعتزاماً للبطش والعدوان، بل هي الوحدة المؤمنة العادلة التي يلزمها أن تقوم للناس بالحق والقسط، والدين الإسلامي هو أقوى وترٍ حساسٍ في نفوس المؤمنين على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وتباين أقطارهم وبلدانهم، ولن تجتمع كلمتهم يوماً ما دون أن تؤسلم قضاياهم وتحدد معاييرها من خلال الإطار الإسلامي الخالد والإسلام بحقيقته ليس إلا. والإسلام في حقيقة أمره إنما انطلق في وحدته من خلال توحيد الخالق سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:2] ووحدة الرسول صلى الله عليه وسلم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] ووحدة الدين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] ووحدة الكتاب: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] ووحدة القبلة: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] ووحدة الأمة: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52] هذه هي معايير الوحدة الحقة، وأي وحدة سواها فهي كالظئر المستأجرة أو النائحة المزورة. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 3 مكملات الوحدة وحقيقتها عباد الله: إن من مكملات الوحدة وتداعياتها نصرة الأخ المسلم وخوض ميدان دعمه حال اشتباكه مع قوى الباطل في معركة موصولة الكر والفر، ولا يحصل مثل ذلك إلا بترويض النفس على شيء من المجاهدة والمثابرة، وحمل هم الإسلام لنضمن شيئاً من الكفاية ونتقي الفضول، ولنكون أعون شيءٍ على رفع مستوى الثغور والجبهات لأمة الإسلام، وتوفير العزة إرضاءً لله سبحانه، فإنه ولا شك لا يتفق طمعٌ في الدنيا وانتصار للمثل العليا، كما أنهما لا ينسجمان ألبتة: حرص على إعلاء كلمة الله، وحرص على تكثير المغانم والعب منها، مع استرضاء الخلائق واستفزازهم بالخور والجبن. وهنا التفاتة سريعة إلى دنيا الناس في مجملها تجاه النصرة والخذلان والرفعة والدون، فإنها يمكن أن تصور لنا الناس كحال رجلين اثنين، إما رجلٌ له مالٌ وبنون طال أجله وأدبر شبابه، وكان واجباً عليه أن يتهيأ للآخرة بزادٍ حسن، ومثله لو قتل في سبيل الله، فإنه لم يترك وراءه شيءٌ يخاف عليه الضيعة لا الزوجة العجوز ولا الأولاد الكبار، ومع هذا فهو أشبه ما يكون بشيطانٍ أخرس أو ناطقٍ يفرق من كلمة حق، ويوجل من موقف شرف، ويتشبث بأذيال الحياة طلباً للمزيد بنهمٍ وسعار. وفي المقابل: مثل شباب لهم آمال وتعتريهم صبواتٌ أيما صبوات، ولهم أحمال وعليهم أعباء، ومثلهم لو توثقت علائقهم بالدنيا أو قهرتهم الصبوة بكلكلها لما كان في سيرتهم كبير عجبٍ، ومع هذا كله يذهلون عن الدنيا المقبلة، ويتركون ذرية ضعافاً خافوا عليهم، ويقبلون على نصرة دين الله بنبلٍ وجلال، هذان مثلان مضروبان يمكن تنزيلهما في واقع الناس على كافة المحاور شعوباً وحكوماتٍ وأفراداً كلاً بحسبه. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 4 مظاهر عزة الإسلام في فلسطين ومن باب أن الشيء بالشيء يذكر، فإن المؤمن الصادق لا يمل كثرة الحديث عن ثالث المسجدين وعن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فلسطين الأبية؛ لأنها اليوم تعد نقطة الارتكاز في ميدان القضية الإسلامية والجهاد الإسلامي. وقضيتها حديث القضايا الإسلامية، وساحتها محطة انتحارٍ وكشفٍ لقوة المسلمين وغيرتهم على دينهم وأوطانهم وحرماتهم، فهي أرض المسلمين، ولا تصلح إلا للمسلمين، أرض أظهرت صور رجالها البواسل حينما أخرجت العالم من مكتبه، والعامل من معمله، واستنجدت المرأة في بيتها، والطفل في مدرسته، أمسوا على وهج النار، وأصبحوا على دخان البارود إنهم يدافعون عن دينهم وكرامتهم، إنهم يسوقون في وجوه الغاصبين شباباً أنضر من الزهر، وأبهى من الوضاءة، وأثبت من الجبل، وأمضى من العاصفة، إنهم يكافحون بشيوخٍ لهم حماسة الشباب، وشبابٍ لهم همة الشيوخ، ونساء لهم قوة الرجال، وصغار لهم عزائم الكبار، ولأن هلك منهم فوجٌ ليأتون بأفواج، ولأن صبر مغتصبهم يوماً ما ليرمونه بأيام. إن من يستشعر مثل هذا ليس له منطلق إلا الإسلام، فإنه سيوقن ولا ريب أن المسلمين أصحاب دين لا يموت ولا ينبغي له أن يموت مهما هبت الأعاصير وادلهمت الخطوب، وهو باقٍ خالد إلى قيام الساعة وعندما يشرئب أعداؤه أن تشيع جنازته، فإنهم سيصعقون ببزوغ شمسه من جديد. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 5 علاقة القوة بانتصار الإسلام كما أنه ينبغي علينا جميعاً أن ندرك جيداً بأن انتصار المسلمين وانكسارهم لا يرجع إلى قوة أعدائهم أو ضعفهم، وإنما الانتصار والانكسار في الحقيقة يعودان إلى الأمة الإسلامية نفسها، فإذا وحدت كلمتها ومن قبل ذلك وحدت ربها ولزمت أمره وأقامت حقه، فإنها منصورة لا محالة: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] . والقلة والكثرة ليست هي المعيار الحقيقي؛ فقد انتصر المسلمون في بدر وهم قلة أذلة قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123] ثم هزموا في حنين وهم كثرة كاثرة: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] . والمسلمون -عباد الله- إنما ينتصرون إذا أحسنوا علاقتهم بالله وعزموا على نصرة دين الله، فإن من لا يعرف إلا الله لن يغلبه من لا يعرف الله، ومن لا يعرف إلا الحق لن يغلبه من لا يعرف إلا الباطل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت إن صواباً فمن الله وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 6 ضرورة الارتباط بالله سبحانه الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه المتقين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الناس! إن العجب كل العجب أن تثقل النفس المؤمنة حتى لا تطلب رفعةً، أو تقنط حتى لا يكون لها أملٌُ، أما لو أيقن المسلمون أن لهذا الكون مدبراً عظيم القدرة، وأنه القاهر فوق عباده، تخضع كل قوةٍ لعظمته، وتدين كل سطوة لجبروته، وأن هذا القادر العظيم بيده مقاليد كل شيء يصرف عباده كيف يشاء لما أمكن مع ذلك أن يتحكم فيهم اليأس، أو تغتال آمالهم غائلة القنوط، فما على المسلمين إلا أن يتحقق بينهم روح الإخاء والتضامن في الدين، فيأخذ القوي بيد الضعيف، ويشد المقتدر من أجل العاجز، وترفع راية التوحيد المحضة، ويطرح التفاهم بإخلاص في الأمور مع الاعتماد على الله واللجوء إليه، مع بذل الأسباب المادية ومحض النصح للقيادة ابتغاء وجه الله، فدين الله وشرعه وإن ضعف فيه شخص المتقين المجاهدين فهو باقٍ خالد، وضعت فيه صفات المتقين، وخطط المجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. كما أن الواجب على المسلمين عامة أن يبحثوا في كل مظنة ضعف عن سبب قوةٍ، ولو أخلصوا في تلمس ذلك وطلبه لانقلب الضعف إلى قوة؛ لأن الضعف قد ينطوي على قوةٍِ مستورة يؤيدها الله بعنايته ورعايته، فإذا هي تهد الجبال وتحير الألباب: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح:7] . سمع معاوية رضي الله عنه أن رجلاً من خصمائه شرب عسلاً فيه سمٌ فمات فقال رضي الله عنه: إن لله جنوداً منها العسل. كما أنه ينبغي علينا جميعاً أن نعترف بأخطائنا في الواقع والتي يتكاثر عدها ويستحيل حصرها والتي تخل بنظام السببية في النصر والتمكين، وأن يكون هذا الطرح بصورة صريحة في واقعنا عبر كافة الوسائل المتاحة دون اقتراف خياناتٍ قاتلة من ذوي الأقلام المؤثرة والألسن المستميلة، في حق دينهم وأمتهم بتجاهل تلك القضايا المهمة، والتي بتجاهلها وغض الطرف عنها يؤخر يوم النصر ولا يقدم، فتقود إلى الغرق في بحر لجي من الخداع والتضليل، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم. فهل يرتفع شعار الإسلام وترفرف رايته في تحليل القضايا الإسلامية؛ أم تبقى تحت الرايات العلمانية لنبلغ بها القاع والعياذ بالله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40-41] . هذا وصلوا -رحمكم الله- على من أمركم الله بالصلاة عليه فقد قال عز من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أجمعين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر إخواننا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم سدد آراءهم وثبت أقدامهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم طهر بيتك المقدس من هؤلاء الأرجاس، اللهم خالف بين كلمتهم واجعلهم غنيمة للإسلام والمسلمين يا ذا الجلال والإكرام! اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم! اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام! ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم ما سألناك من خير فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا وما قصرت عنه آمالنا وأعمالنا من الخيرات فبلغنا. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 7 قل هو من عند أنفسكم تحدث الشيخ حفظه الله عن الخلل الذي أصاب المسلمين، والنكايات المتلاحقة التي لحقت بهم، وأوضح أن سبب ذلك يرجع بشكل رئيس إلى السبب النفسي (من عند أنفسكم) وأن الله تعالى لم يكن ليهلكنا ونحن مصلحون، وسرد عدة مفاهيم تعتبر غاية في الأهمية فيما يعانيه المسلمون اليوم على مختلف الأصعدة، ثم بين خطر المعصية وأنها سبب من أعظم أسباب الهزيمة. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 1 أحوال المسلمين الحمد لله القوي المتين، الملك الحق المبين، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ما اتخذ صاحبة ولا ولداً، ليس له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه، أتى بالمحجة وأقام الحجة، وأشهد أمته على نفسه عام الحجة، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على طريقهم واقتفى. أما بعد:- فإن النصيحة المبذولة لي ولكم -عباد الله- هي تقوى الخالق جل شأنه، فهي عدة الصابرين، وذخيرة المجاهدين، وسلوان المصابين، ما خاب من اكتسى بها، ولا ندم من اكتنفها، بها النجاة في الأولى، والفوز في الأخرى، لا يسألكم الله رزقاً هو يرزقكم والعاقبة للتقوى. أيها الناس: لعل المسلمين في ثنايا هذه العصور المتأخرة هم أكثر الناس آلاماً، وأوسعهم جراحاً، ولعل أرضهم وديارهم وأموالهم هي التي يستنسر بها البغاة، وتستأسد الحمر، والمسلمون مع ذلك يتجرعون هذه الجراحات في صياصيهم وهم لا يكادون يسيغونها. ويحملون معها أثقالاً إلى أثقالهم. إنهم يدعون إلى الاستكانة والاستجداء دعاءً، وتتقاذفهم مضارب الغالبين إلى أن يعترفوا بأن حقهم باطل، وباطل غيرهم حق يزج بهم في كل مضيق من أجل أن يقلبوا الحقائق، ويتقبلوا أضدادها على مضض حتى ينطق لسانهم بالرسم المغلوط، والفهم المقلوب، فتكون عبارتهم لعدوهم بلسان حالهم. إذا مرضنا أتيناكم نعودكم وتخطئون فنأتيكم ونعتذر الجزء: 26 ¦ الصفحة: 2 أسباب الهزيمة أيها المسلمون: إن المتأمل في هزائم المسلمين المتلاحقة، وضعفهم الحثيث، واستكانتهم المستحوذة عليهم أمام أعدائهم؛ يجد أنها لم تكن بدعاً من الأمر، ولا هي نتائج بلا مقدمات، ولم تكن قط قد قفزت هكذا طفرة دونما سبب، وإنما هي ثمرة خلل وفتوق في ميدان الأمة الإسلامية، وتقصير ملحوظ تجاه خالقها ورسولها صلى الله عليه وسلم ودينها، وهذه الثغرات والفتوق هي التي أذكاها أعداء الإسلام بما يبثونه عبر سنين عديدة من المكر والخديعة، واللت والعجن منذ زمن على الإسلام والمسلمين. وبسبب نقمتها هذه اختبأت وراء صور الاستعمار المتنوعة، تناولت من خلاله ما تشاء من الأساليب، فإذا احتاج الأمر إلى المكر لانت، وإذا احتاج الأمر إلى القسوة بطشت، وهي في لينها تبثُّ السمَّ في العسل، وفي شدتها تحترف الهمجية والجبروت، وهي في كلتا الحالتين لا تنام عن غايتها أبداً، ولو نامت بإحدى مقلتيها فإنها بالأخرى يقضانة ساهرة وهذا سر أسفنا المتصاعد يا عباد الله. أيها المسلمون: إن الكثيرين منا ليتساءلون إثر كل بلية تحل بدار الإسلام ما السبب؟ وكيف؟ ولم؟ ومم؟ وعم؟ كل صور الاستفهام تتناثر صيحاتها في مسامعنا حيناً بعد آخر. ولكن هل نجعل هذا التساؤل جديداً على أسماعنا؟ أم أن في أفئدتنا وما أعطانا الله من صلة بكتابه العزيز، ما يذكر بسؤال مماثل للرعيل الأول في أزمة هي من أشد الأزمات التي حلت بهم، ألا وهي هزيمتهم في معركة أحد، يندبون حالهم، ومن ثم يتساءلون فيقول الله عنهم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165] فيجيبهم الله بخمس كلمات لم ينسب ولا في كلمة واحدة سبب الهزيمة إلى جيش ولا إلى عدة، ولا إلى تحرف في قتال، وإنما قال لهم بصريح العبارة: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] . يقول الله لهم ذلك؛ ليبين لهم ولمن بعدهم بوضوح أن خواتيم الصراعات والمدافعات بين الأمم على كافة الأصعدة لا يمكن أن تقع خبط عشواء، وإنما هي وفق مقدمات أثمرت النتيجة بعد استكمال أسبابها: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] . الجزء: 26 ¦ الصفحة: 3 الحكمة من الهزيمة تقع الهزائم ليستيقظ الناس، وتتوالى الضربات لتحل المحاسبة محل النفس، ويتضح مثل هذا بما أتبع الله الآية بقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} [آل عمران:166-167] . لقد كتب الله سبحانه على نفسه النصر لرسله وأوليائه، فقال سبحانه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] . ولكن الله سبحانه علق هذا النصر بتحقيق الإيمان في القلوب واستيفاء مقتضاياته في كل مناحي الحياة، وهذه هي سنة الله في النصر، وسنة الله لا تحابي أحداً، وحين تقصر الأمة وتفرط فعليها أن تقبل النتيجة المرة؛ لأنها مع كونها مسلمة إلا أن ذلك لا يقتضي خرق السنن وإبطال النواميس. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 4 إلقاء اللائمة على الغير أيها المسلمون: إن على رأس الضعف الأصيل البعد عن تشخيص الأحداث بصورتها الحقيقية، مع الاكتفاء بمجرد التلاوم، وإلقاء التبعة على الغير، فعامة الناس يلقون باللائمة على العلماء والمصلحين والمثقفين، وهؤلاء بدورهم يلقون باللائمة على الساسة والقادة الآخرين، وما القادة، والساسة، والعلماء، والمصلحون، والعامة إلا جزء من كل، ولا استقلال في اللوم لصنف دون آخر، وإلا كان جرماً واستكباراً وخروجاً عن الواقعية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {كلكم راع، وكل راع مسئول عن رعيته} . ثم إن المنصف الحذق يلمح من خلال هذا التلاوم المشترك أنه ليس في الحقيقة أحد ملوم، إذ كل يلقيه على الآخر؛ فيلزم من ذلك الدور، وهو ممنوع عند جميع العقلاء. ورحم الله مالك بن دينار حينما وعظ أصحابه موعظة وجلوا منها، وارتفع بكاؤهم، وبينما هم كذلك إذ فقد مصحفه الذي بين يديه، فالتفت إليهم وقال: ويحكم تبكون جميعاً فمن الذي سرق المصحف إذاً؟! الجزء: 26 ¦ الصفحة: 5 مفاهيم لتشخيص الداء واستجلاب الدواء عباد الله: لأجل أن نصل إلى حال راقية من المكاشفة والوضوح في الطرح، ولأجل أن نحسن تشخيص الداء، لنستجلب الدواء؛ فإن ثمة مفاهيم ينبغي ألا تغيب عن أذهاننا طرفة عين، حتى نصل إلى المقصود، ويتَّحد الهدف. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 6 الناس إن لم يجمعهم الحق شعبهم الباطل فمن هذه المفاهيم: أن الناس إن لم يجمعهم الحق شعبهم الباطل، وإذا لم توحدهم عبادة الرحمان، فرقتهم غواية الشيطان، وإذا لم يستهوهم نعيم الآخرة اجتالهم متاع الدنيا، فتخاصموا عليها، ولو غلغلنا النظر في كثير من الابتسامات لرأينا حب الدنيا والأثرة العمياء تكمن وراء هذه الحزازات، وهذا هو سر الوهن العظيم الذي سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {وليقذفن الله في قلوبكم الوهن قيل: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت} . ويظهر هذا الأمر جلياً في سبب من أسباب هزيمة المسلمين في أحد حيث يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] . يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[والله ما علمت أن معنا في أحد من كان يريد الدنيا إلا لما نزلت هذه الآية]] ولأجل هذا -يا عباد الله- كانت هذه الهزيمة، حينما لم يستجب أقوام منهم لوصية الله تبارك وتعالى في أول عظة للمسلمين، بعدما انتصروا في معركة بدر، بأن يوحدوا صفوفهم، ويلموا شملهم، حيث قال سبحانه: بسم الله الرحمن الرحيم: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1] . أنزل الله عليهم هذه الآية ليقطع على النفس مطامع الدنيا، وغلبة حب الغنيمة على حب نصر دين الله ورفعته. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 7 منطق الأعداء واحد ومن المفاهيم التي يجب أن تعرف: هو أن منطق الأعداء الحاقدين واحد، وهو برمته ليس جديداً على الساحة العامة، كما أن قلب الحقائق وتشويه صورة المسلمين ليست هي بدعة العصر الحديث، فمنطق المجرمين واحد، ولو تطاولت القرون، وإن شئتم -يا رعاكم الله- فاسمعوا قول فرعون عن موسى عليه السلام: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] . هذا هو منطق فرعون الأول، يُظهر غيرته على دين الناس وأمنهم، فهو يخاف عليهم من إفساد موسى في الأرض، فيقرر أن موسى يرهب أهل الأرض جميعاً فهو لا يستحق البقاء هذا هو منطق فرعون الأمس، وهاهو التاريخ يعيد نفسه، وما أشبه الليلة بالبارحة! فهل يتعظ المسلمون ويقولون من بعد ذلك: {أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] . إن استجابة النفس للدعاوى الأفاكة، والاستسلام لشيوعها، والتي تصل بسبب قوة طرحها والتأثير الإعلامي لها إلى درجة الرضا بها، والقبول لها، ومن ثم يتحول الافتراء إلى حقيقة مسلَّمة، وواقع لا مماراة فيه، ولنضرب مثالاً على هذا فنقول: نحن نعلم أن حقوق المسلمين ودماءهم في أقطار كثيرة تهدر وترخص، حتى لو داهمهم مغتصب، والتوت عليهم يد معتد، فأبدوا مقاومة واهنة أمام المغير عليهم، ودفعوا براحاتهم أفتك أنواع السلاح، وارتفعت صيحات وشنشنات أخزمية تقول: المسلمون معتدون، المسلمون إرهابيون، ومن ثم يكون هذا، تبريراً للدبابات والمجنزرات أن تصب جام غضبها على أمة لا تملك إلا الحجارة. ويبدو أن مثل هذا الإفك لا ينقطع أبداً، وأن الإصرار بأن المسلمين إرهابيون أكذوبة كبرى، فهي كما يقول علماء النفس: نوع من الإسقاط الذي يدفع المرء إلى اتهام غيره بما في نفسه هو من شر. وقديماً قيل: كل إناء بما فيه ينضح. ومع ذلك كله تصاب أمة الإسلام بصدمة عنيفة من قبل آراء عالمية تصف المالك الطريد إرهابياً لا حق له، وتجعل اللص الغالب ربَّ بيت محترماً، ثم بعد ذلك يقول المسلمون: {أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] . الجزء: 26 ¦ الصفحة: 8 الحذر من المنافقين المفهوم الثالث: يتجلى في الحذر من المغرضين ومن بني جلدة المسلمين، والذين يعرفون في لحن القول والله يعلم إسرارهم، هم سر في ضعف المسلمين، وثغرةٌ صارخةٌ في صفوفهم، يعدُّ أمثالهم في دول كبرى طابوراً خامساً حسب قواميسهم، فهم يتقونهم في مجتمعاتهم وبكل ما يملكون من سبل، وإن معرفة مثل هؤلاء والوقاية منهم سبب رئيس في تحصيل القوة والبعد عن الهزيمة، وعلينا أن نعلم جميعاً أن الله سبحانه وتعالى فعل ما فعل بالمسلمين في أحد لحكم ظاهرة، منها: قوله جل وعلا: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران:167] . الجزء: 26 ¦ الصفحة: 9 إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ومفهومٌ رابع عظيم: وهو أن تغير هذا الواقع المرير إلى واقع رفيع مرهون ولا شك بتغير واقع الناس أنفسهم، وهذا يعني -بداهة- أنه متى دب الضعف، وتأخر النصر؛ فإن هناك أسباباً تؤخره بلا ريب، ورأس هذه الأسباب: هو أن الباحثين عن نصر الله وتغير حالهم لم يغيروا ما بأنفسهم، ولذلك كان الغنم بالغنم، والغرم بالغرم، والله جل شأنه يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم الجزء: 26 ¦ الصفحة: 10 المعصية وأثرها في الهزيمة الحمد لله الكبير المتعال، له الحمد على كل حال، وله الشكر بالغدو والآصال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شديد المحال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المفضال، صاحب النوال، وسديد المقال، صلى الله عليه وعلى آله وأصاحبه وإخوانه والآل. أما بعد:- فاتقوا الله أيها المسلمون! واعلموا أن ثمة مفهوماً مهماً ينبغي ألا يغفل عنه، لأنه لبٌّ في الموضوع، وعمود ارتكاز في التصحيح، ألا وهو المعصية وما لها من أثر وشؤم وموقع عظيم في تحديد معايير النصر والهزيمة. وإن من يلقي النظر على غزوة أحد، وإلى السبب الرئيسي للهزيمة؛ يجد أنه يكمن في المعصية، والتي تلقى المسلمون بسببها لطمة موجعة أفقدتهم من رجالهم سبعين بطلاً، على رأسهم سيد الشهداء حمزة رضي الله تعالى عنه فردتهم الهزيمة إلى المدينة، وهم يعانون الأمرّين من جرائها وشماتة كفار قريش. وإن تعجبوا يا عباد الله! فعجب أمر هذه المعصية في أحد! إنها لم تكن في فشو زناً بينهم، ولا في احتساء خمرة مسكرة، ولم تكن في إقصاء شريعة وتحكيم قوانين خارجة عنها، ولا في فساد امرأة أو انحراف شباب، بل إنهم خرجوا إلى أحد ومعهم إيمانهم بالله، وحبهم لرسوله صلى الله عليه وسلم، ودفاعهم عن الحق، وطلبهم رفعة الدين ونصرته. وكل ذلك في الواقع يرشحهم بأقوى أنواع الترشيح في أن ينتصروا ولا يهزموا، ولكن يبلو الله المؤمنين في أحد فينزل الرماة عن الجبل، لا لقصد عصيان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لما رأوه من الانتصار للمسلمين، فخاف بعضهم فوات حظه من الغنائم، ثم كانت الكارثة هزيمة موجعة فاجعة مهولة، وأثابهم الله غماً بغم، وكسرت رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم، وشج رأسه، وقتل سبعون شهيداً. فالله أكبر ما أعظم أثر المعصية على واقع المسلمين! حتى في أحلك الظروف. تلك هي معصيتهم فما هي معاصينا إذاً؟ إنه لسؤال صعب والجواب عليه أشد من لعق الصبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم} رواه أحمد وغيره. إن شؤم المعصية يعم مهما قل حجمه، أو ضعف الاكتراث به، إنه يمحق البركة، ويفسد العمل، ولو كان جهاداً في سبيل الله. دخلت العالية امرأة أبي إسحاق السبيعي على عائشة رضي الله عنها، ودخلت معها أم ولد زيد بن أرقم، فقالت: [[يا أم المؤمنين! إني بعت غلاماً من زيد بثمانمائة درهم نسيئة، وإني ابتعته منه بستمائة نقداً فقالت لها عائشة رضي الله تعالى عنها: بئس ما اشتريت، وبئس ما شريت، إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل، إلا أن يتوب]] رواه الدارقطني بسند جيد. فرحماك يا رب رحماك! ولا حول ولا قوة لنا إلا بك! هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال عز من قائل عليماً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم انصر إخواننا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان. اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم اجعل شأنهم في سفال، وأمرهم في وبال، واجعلهم غنيمة للإسلام والمسلمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 11 مفاهيم رمضانية في شهر الحكم الربانية، والتجليات الروحانية، يجدر بالمؤمن الحق أن يستغل أوقاته، فإن هذا الشهر فرصة سانحة للاستثمار، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النيران. وإذا كان هذا الشهر الكريم مرتبطاً ببطولات وأمجاد تعلقت في ذاكرة الأجيال؛ فعلى أبناء هذه الأمة ألا يكتفوا بالتذكر والتمني، بل يبذلوا الأسباب والأثمان، فإن سلعة الله غالية. وقد تضمنت هذه الخطبة بالإضافة إلى ذلك تحذيرات من اللهو وتضييع الأوقات في هذا الشهر الكريم سواءً بمشاهدة البرامج المرئية، أو الجلوس في الطرقات، أو الانشغال بالأطعمة والأشربة. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 1 العبادة في رمضان الحمد لله المبدئ المعيد، الفعَّال لما يريد، خلق الخلق بعلمه، وقدَّر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، لا يستأخرون عنها ساعة ولا يستقدمون، قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] علم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون: {كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] ومشيئته تنفُذ لا مشيئة العباد، إلا ما شاء لهم، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن: {عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] فله الحمد كله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود:123] وبيده الخير كله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير من صلى وقام، وحج وصام، ونصح لله، وجاهد فيه حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، أولي العفاف والنُّهى، وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد: فيا أيها الناس: لا وصية مبذولة، ولا تذكير مقروء، يقرب إلى الله من تقواه سبحانه، فاتقوه وراقبوه على كل حال، واعبدوه كأنكم ترونه، فإن لم تكونوا ترونه فإنه يراكم: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] . أيها المسلمون: في شهر رمضان المبارك تتجلى أسرار خوالد، وتترادف حلقات حِكَم بواهِر، يَتَضَوَّأ بعضُها على بعض، بحيث لا يُمَل كثرةُ الحديث عنها، فلا تخْلَق جِدَّتُه، ولا يَبْلى ترجيعُه، ولا تُسْأَمُ سيرتُه، بل قد يحلو إذا أُعيد وتكرر، كما يحلو مذاق الشهد عند تكريره. ولأجل ذا -عباد الله- ما برحت النفوس المسلمة تشرئب لمثل هذه الإطلالة السنوية والتي تعم المدر والوبر ما عم الأجدَّان: الليل والنهار. فلا غروَ إذاً عباد الله، حين نسلط الضوء ولو قليلاًَ على ما نصحح به بعض مفاهيمنا أو رتابتنا مع شهر رمضان، وما نحيي به ما تراكم عليه غبار النسيان في النفوس، حين يتخذ كثير من الناس في هذا الشهر صورة تقليدية تحكمها حركة العادة، لا حركة العبادة. ففي هذا الشهر المبارك -عباد الله- تُشَدُّ النفوسُ إلى الدين والتديُّن، يذكرهم هذا الشهر بحق الله تعالى عليهم، تُشَمُّ رائحة التديُّن في أكثر من مجلس يُجلس فيه، يُحَث بإقبال الناس على العبادة والعمل الصالح، حتى إنهم يرفعون بذلك درجة الاستعداد لتغيير ما في النفوس، حتى يغير الله ما بهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] . يشعر الكثيرون في هذا الشهر المبارك بضرورة هذا الدين لهم، كضرورة الماء والهواء، ثم إن كل أمة تهمل أمر دينها، وتعطل كلمة الله في مجتمعها، فإنما تهمل أعظم طاقاتها، وتعطل أسباب فلاحها في الدنيا والآخرة. وكل أمة يُفْقَد التدين في مجتمعها، فلا جرم أن أمورها تضطرب، ويموج بعضُها في بعض، فيقلب الله عزها ذلاً، وأمنها خوفاً، وإحكامها فوضى. في شهر رمضان المبارك ترتفع معايير القوة لدى المرء المسلم؛ بحيث يصعب اهتزازه، إذا هو أحسن الإعداد فيه، وأدرك سراً عظيماً من أسرار هذا الشهر، قد تمثل في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا دخل شهر رمضان فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النيران، وصُفِّدت الشياطين} رواه البخاري ومسلم. يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: لأن في الصوم تضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب. فالخشية إذاً كل الخشية -عباد الله- على أنفسٍ مسلمة لم تجعل للشيطان حساباً في واقعها، وباتت غير آبهة بمكره وألاعيبه، هو وجندُه من الجن والإنس: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] . الجزء: 27 ¦ الصفحة: 2 الشلل الأخلاقي إنه مما لا شك فيه أن النفوس المسلمة قد تكون معترفة بقابليتها لألاعيب الشيطان ومكره؛ لكونها غير معصومة؛ إلا أن بعض هذه النفوس قد اعتقد أهلها أنهم محميون ضد آثاره وإفساده، بعد أن كوَّنوا حولهم هالة زائفة من الاطمئنان لأحوالهم وأوضاعهم الرتيبة، مع الاكتفاء بظواهر طفيفة من الإسلام، حتى أمسوا وكأن ما يحملونه هو الإسلام فحسب، مما يحرمهم ولا شك من إصلاح أخطائهم من جهة، ومن الاستفادة من الصواب الذي يأتي به الخير من جهة أخرى. ألا إن هذا هو الشلل الأخلاقي بقضه وقضيضه، وهو الارتضاع من ثدي الهوى بعد الفطام، مع أن الرضاع إنما هو للطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، والذين يتضورون على مرارة الفطام. فلا جرم عباد الله! إذ الهوى مكايد، وكم من صنديد في غبار الحق اغتيل! كيف لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم} ؟! رواه البخاري ومسلم. إن الشعور الدائم بالتقصير هو الشعور الإيجابي المثمر الذي يدفع للعمل الآني واليومي، كما أن الشعور بالكمال العقيم شعور عاطفي، لن ينفي عن كل مسلم مسئوليته أمام الله عن أي سوء في حاله أو سلوكه أو حياته، دينياً كان أو دنيوياً: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه} [النساء:123] . الجزء: 27 ¦ الصفحة: 3 بطولات رمضان وأمجاده أيها المسلمون: كثيرون هم الذين يتحدثون من على منابر متنوعة عن شهر رمضان، وأنه شهر البطولات والأمجاد، وهذا أمر لا مراء فيه ولا جدال، غير أن الذي يجب تأكيده والثبات عليه هو أن البطولات والأمجاد لا تنال بمجرد التمني والتخييل؛ في حين أن القلب غافل لاهٍ. ألا إن للبطولات والأمجاد ثمناً يندر تحصيله والوقوف عليه؛ لأن سلعة الله غالية، وسلعة الله هي الجنة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} [التوبة:111] . إن هذه السلعة -عباد الله- هي الرابط الأساس بين المؤمنين وبين نصر الله لهم، وإنهم كلما كانوا إلى تحصيل هذه السلعة أقرب، كان النصر إليهم أقرب، والعكس بالعكس، ولا أدَلَّ على ذلك من قوله تعالى عن غزوة أحد حين ذاق فيها المسلمون أول هزيمة لهم إبَّان أوج كيانهم: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] . إن أثر المعصية وشؤمها على المجتمعات المسلمة أنها لفي أمر مريج؛ من كثرة المواقعين لها، والعابِّين من قيعانها كَمَا الهيم. إلا أن للنصر شروطاً، منها: جز المعاصي، والنأي بالنفس عن أن تواقعها أو تتراءى لها؛ ولا أدل على أثرها في الخذلان والهزيمة أمام العدو من قول ابن مسعود رضي الله عنه فيما رواه أحمد في مسنده عن هزيمة أحد: [[فلو حلفتُ يومئذٍ رجوتُ أن أبَر أنه ليس منا أحد يريد الدنيا حتى أنزل الله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152]] ] . الجزء: 27 ¦ الصفحة: 4 الطريق إلى النصر إن طريق المسلمين إلى النصر هو في سلوك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما أحيا ليله في بدر، وهو قائم يصلي، ويلظ بالحي القيوم؛ ليتأكد من خلال هذا عِظَم شأن الصلاة واللجوء إلى الله في كشف الملمات ورفع النوازل، فقد جاء في السنن: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة} . إن شعوباً لا تخاف إلا الله لن يغلبها من لا يخاف الله، وإن من لا يعرف إلا الحق لن يغلبه من لا يعرف إلا الباطل، فجند الله هم الغالبون بالسيف والسنان، كما أنهم هم الغالبون بالحجة واللسان؛ غير أن الأمر قد بات من الخطورة بحيث يوجِِب البحث عن الأسباب المفضية إلى ضعف المسلمين وإلى تكاثر خسائرهم الفادحة، ثم لننظر إلى مصدرها. هل هو خلل ثقافي، أو عوج خُلُقي، أو تضارب سياسي واجتماعي، وما الذي أفقد الأمة كيانها، وجعلها تتلقى الضربات تلو الضربات، ثم هي تُصْرَع أمامها. عباد الله: في شهر رمضان المبارك يلوح عبر الأجواء المطمئنة خلق الرحمة والتراحم بين المسلمين الذي هو مفتاح القبول لدى القلوب، والذي يضع الحياة الهانئة محل الجاهلية الجهلاء والأثرة العمياء، فيرهُف الطبع، وتَجِمُ فيه النفس؛ إذ هذا هو الدواء إذا استشرى الداء، وهو النصرة حين تُخْذَل القوة. إنه لو أدرك المرء المسلم أن أول حق للمسلمين عليه أن يحمل في نفسه معنى الناس، لا معنى نفسه، لَعَلِم أن مَن فاق الناس بنفسه الكبيرة دون تميز، كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة، بهذا الأثر الطيب يحس المرء بقيمة المال، لما يحققه من مصالح، ويضمنه من منافع. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 5 الضوابط المالية في الكسب والإنفاق إن الأمة المسلمة يوم يكون مالها أداة ترف ومصدر استعلاء وطغيان، ويوم يكون الأغنياء وذوو اليسار أحلاس شح وبخل، فالويل والخسران لأمة أورثها مالهُا هذه الحال. الجمع بين الصيام والصدقة موجب من موجبات الجنة؛ حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة غرفاً يُرى ظهورُها من بطونها، وبطونُها من ظهورها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن طيَّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى والناس نيام} رواه أحمد والترمذي. إن من القسوة -عباد الله- أن يمنع الواجد المعونة، وأن يتقلب في رغد من العيش وسعة من الرزق، ومن أتت عليهم صروف الحياة في شدة من الضيق وألم من الإعسار، ومن هذه حاله فلا جرم أنه قاسي القلب خالٍ من الشفقة، وكأنما قُدَّ قلبُه من صخر صلب، فهو بعيد من رحمة الله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] . إن المال غادٍ ورائح، ومقبل ومدبر، وما هو إلا وسيلة للإنفاق والبذل، وبلوغ الأَرَب الأخروي، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى} رواه البخاري ومسلم. فرحم الله عبداً كسب فتطهر، واقتصد فاعتدل، ورُزِق فأنفق، وذكر ربه، ولم ينس نصيبه من الدنيا، فنعم المال الصالح للرجل الصالح، ويا خيبة من طغى عليه ماله، وأضاع دينه وكرامته، فضل وطغى أن رآه استغنى!! وكان من الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] . إن الواجب على الأمة المسلمة ألا تعظم الدينار والدرهم لئلا تستعبدها المعاني المنحرفة في النظرة للمال والحياة، فيكنز الغني مالاً، ويكنز ذو المسغبة عداوة؛ وليعلم الجميع أن العزة في الإسلام بإنفاق المال لا بإمساكه، وفي بذل الحياة لا في الحرص عليها، وفي اعتبار الغني ما يعمل بماله، لا ما يجمع منه؛ وبهذا كله غلب أهل الإسلام الأمم، لأنهم قبل ذلك غلبوا النفوس والشهوات. ألا إن النعم لا تدوم، وإن مع اليوم غداً، وإن بعد الحياة موتاً، وإن بعد الموت لحساباً: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9] . أقول ما تسمعون. وأستغفر الله. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 6 خطر الإعلام في هذا الشهر الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، أحمده حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يُحمد. وأصلي وأسلم على أفضل المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان فصام وصلى وتعبَّد. أما بعد: فيا أيها الناس: حسن العبادة ووفرة الطمأنينة الناتجة عن الذكر والتذكير والمدارسة في هذا الشهر المبارك تبدو واضحة جلية في استشعار عظمة هذا الشهر والإحساس بحرمته وهيبته، والبُعد عن المنغصات والملهيات التي تفسد على المرء دينه، أو تشوش عليه عبادته، أو تخلق له جواً من المتضادات اللامسئولة، فكما أن للشهر مرغبات وحوافز، فإن هناك مزعجات ومنغصات، ينبغي أن يزِمَّ المسلمون نفوسهم عنها. فمن ذلكم -عباد الله- ما يُشاهَد من حركة نشطة واستنفار مثير للدهشة في برامج مرئية عبر أقمار متنوعة، تفتقد إلى الهدف المنشود من خلاف عرض ما يخدش الحياء أو ينشر الإثم، مما يحلق الدين قبل حلق العفاف والحياء، فيبرز الطرب والسهر الذي يتناوش الرشيد والسفيه والقويم والفاسق. وكأن معدِّي تلك المشاهد قد رأوا الأمة في حالة من المحاصرة عن الترويح بحلول هذا الشهر المبارك، أو أنهم على شفا جرف هلكة، لا يتم الإيناس فيها والتعويض عن الصوم والإمساك فيها عما يغضب الله إلا بمثل ذلك، فلا غرو أنه بذلك يختل برنا برمضان، ثم إن الأمة بذلك تخسر في كل لحظة مواطناً صالحاً، يضل بسبب مشهد يغش به ويخدع، ويسرق ويغتال ويتعلم مما يرى كيف يتخلص من عقوبة السرقة، أو بفتاة فاتنة يصورون فكاكها من غيرة وليها بالتضليل عليه، أو بالتعويل على إلفة الاختلاط بين الجنسين، وليس بمثل هذا يترفه الناس، ولا يتعلم الناس، ولا يصلح الناس؛ إذ كيف يستقيم الظل حينئذٍ والعود أعوج؟! الجزء: 27 ¦ الصفحة: 7 خطر الاختلاط ومنغص آخر من المنغصات في هذا الشهر المبارك يتمثل في وضع الشباب والفتيات حينما يشغلون أوقاتهم فيما يذهب سبهللاً؛ بحيث لا يغوي الشباب إلا الطرق والممرات، فيزعجون ويوقظون ويلحظون ويضايقون، حتى تبدو الممرات والطرق، وكأنها لهم مأدبات إبليسية بتلقي القبيح من القول، والسيئ من الفعل. وأما الفتاة المسلمة فبإضاعة وقتها في التفنن بأنواع الطعام والشراب إن هي أحسنت، أو أن تكون خرَّاجة ولاَّجة جرياً بين الأسواق، أو أماكن العبادة، دون تقيد بآداب الشرع أو إعطاء الطريق حقه بالحشمة والستر والبُعد عن أن تَفتن أو تُفتن، فتحمل بذلك الوزر من حيث أرادت الأجر، وليس ذلك بمُعْفٍ للوالدَين عن المسئولية، فالكل راعٍ، والكل مسئول عن رعيته، و {كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول} . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم. اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 8 ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الجهود التي قام بها أهل الكفر والشرك لم تذهب أدراج الرياح، فنحن نرى بين الفينة والأخرى نفوساً ضعيفة، وأقلاماً مريضة، ترعرعت في كنف الكفر، فأخذت تبث دعايات مضللة، كالحرية والإخاء، والعدل والمساواة، مفادها هدم أصل من الإسلام ألا وهو ركن الولاء والبراء، فيجب علينا أن نعود إلى ديننا، ونلتفت إلى واقعنا؛ لنعلم زيف هذه الدعايات. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 1 أحوال الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله، شرع الجهاد لحماية حوزة الإسلام، وجعله رفعة للمسلمين، هو للإسلام ذروة سنامه، أحمده سبحانه جعل النصر لحزبه، فأعظم بتأييد الملك العلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله سيد الأنام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام، وعلى من تبعهم وسار على نهجهم ما ظهرت النجوم وتوالت الأيام وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون: واعلموا أن أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يدٌ الله مع الجماعة، ومن شذ عنهم شذ في النار. أيها الناس: قبل نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم بعشرات السنين، كان الناس في هذه البسيطة على فترة من الرسل، منقطعين عن المدد الروحي من السماء الذي كانت تعاني فيه الأرض وأهلها على اجتياز ظلمات المادة، وفسق المادة، وجفاف المادة، تخبط الناس في مهام الحياة ودروبها خبط عشواء في ظلمات ثلاث: ظلمة العقائد، وظلمة القوانين البشرية، وظلمة الأنفس. ظلمة عقائدٍ لا يجد فيها الحاذق بصيص نورٍ يهتدي به إلى هداية، أو يخلص به من ضلالة، واستبد الأحبار والرهبان بقلوب الناس وعواطفهم. وظلمة قوانين لا يجد فيها العاقل ما يعين على عدالة، أو ما يخرج من مظلمة، فاستعبد العظماء أموال الناس وظهورهم: فالظلم عندهم كما قيل: والظلم من شيم النفوس وإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم وظلمة أنفس لا يجد فيها المتأمل مكاناً لرحله، أو نوراً يضيء ظلمةً، إلا من رحم الله. فما زالت الإنسانية تتخبط في هذه الظلمات الثلاث، وتنحدر إلى هاوية سحيقة، حتى تنصبت عن أمم كان من قسوتها وفظاعتها أن تقتل بنيها شر قتله؛ مخافة أن يشاركوهم في مأكلهم أو ملبسهم، قال ابن عباس رضي الله عنه: [[إذا سرك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ قول الله عز وجل: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:140]] ] . وكان من عقلها ودينها أن تصنع معبودها بأيديها، ومن مجدها الذي تتغنى به الحذق في انتزاع الأرواح، والمهارة في إيتام الأطفال، وإرمال النساء، وإثكال الأمهات والآباء، حتى لقد صدق قول الله فيهم: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] . الجزء: 28 ¦ الصفحة: 2 أحوال الناس بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا التخبط المقيت، بعث الله الرسول الأمي: {نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15-16] فانبهر الناس ودهشوا لهذا النور الوهاج، وتكاتف هذا النور واتسع نطاقه في الأرض؛ فهزمت أمامه كل من الظلمات الثلاث: ظلمة القوانين، وظلمة العقائد، وظلمة الأنفس، ولم تستطع ظلمةٌ من هذه الظلم الثلاث أن تساقطه أو تواقصه، حتى صار لهذا الدين أنصار وقادة يحملونه في إحدى اليدين، وفي الأخرى يحملون الحديد ذا البأس الشديد، يذودون عنه الإيذاء والاعتداء، ويخلّون له الطريق إلى القلوب والعقول. فما أجمل الحق يعرضه القوي في لين! وما أجمل القوة تنصر الحق في شجاعة! حمل هذا الدين رجالٌ وقادة، علمهم نبيهم صلى الله عليه وسلم ألا يخاف العبد إلا ربه، وألا يذل إلا لمن ذل له كل شيءٍ وخلق كل شيء، ومن بيده أسباب الخوف وأسباب الأمن، وحده قال الله: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] وعلمهم نبيهم ألا يتأخر عن الموت إلا من طلب الحياة وأحبها، فإن من رغب في الموت ذلت له ناصية الحياة، ومن رغب في الحياة ذلت ناصيته للموت، قال أبو بكر رضي الله عنه: [[احرص على الموت؛ توهب لك الحياة]] . كانوا يقدمون على الموت إقدام من ليس حياته ملكاً له، فأخذوا بنواصي الأكاسرة، وهامات القياصرة، وذروا التراب على جباه الطغاة الذين طالما جرعوا الإنسان الذل والهوان، وأذاقوه غصص الخسف والاستفزاز. عباد الله: قال الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] المدافعة بين الإسلام والكفر ضرورية لحياة الشعوب وبقائها، وكل شعبٍ فقد هذا الدواء على مر التاريخ؛ فقد الحياة ولا محالة؛ فأكلته شعوب الكفر، وطحنه تنازع البقاء، وذهب أقساماً بين أشتات المطامع والأهواء. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 3 هزائم المسلمين في الحاضر ليست بدعاً في تاريخهم الطويل أيها الأحبة في الله: يخطئ كثيراً من يظن أن هزائم المسلمين في عصرهم الحاضر كانت بدعاً في تاريخهم الطويل، كلا. فالأمر ليس كذلك، بل إن أمر المسلمين قد يعلو تارة، ويهبط أخرى، بمقدار قربهم من ربهم وإحيائهم لسنة الجهاد في سبيل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من لم يغز أو يجهز غازياًَ أو يخلف غازياً في أهله بخير؛ أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة} والقارعة: هي الداهية. لذا فقد هبط أمر المسلمين في قرون النضج، حتى اغتصب الحجر الأسود، فما عاد إلى موضعه إلا بعد سنين عدة مؤن، ولكن هذا التاريخ الذي هبط سرعان ما علا وارتفع، وهكذا أصبح تاريخ المسلمين يتأرجح بين مد وجزر في صورةٍ حقيقة لا ينكرها إلا مكابر. أيها المسلمون: إن الناظر في واقع العالم اليوم، إن كان ذا لبٍ وبصيرةٍ، فإنه لن يتمالك من قوة الفهم إلا أن يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه اليوم بالأمس، فهاهو التاريخ يعيد نفسه، تتغير مراكز القوى، وتنقلب معايير النفوذ والاتساع؛ حتى أصبحت متمركزةً في معسكرات الكفر، بحيث لا يفسر إلا بالقوة التي كان يمارسها الجاهليون ضد الإسلام، وإن كان دور أهل الكفر الذين سيطروا على المسلمين في قرونٍ مضت لا يتجاوز سيوفاً ضربوا بها هام المسلمين ففلقوها، واحتزوا الرقاب فقطعوها، وضربوا منهم كل بنان، حتى يقول الكافر للمسلم: قف مكانك حتى آتي بسيفي لأقتلك، فيقف المسكين مكانه لا يحرك ساكناً حتى يأتي ذلك الرجل فيقتله. إن كان ذلك هو أسلوب أهل الكفر في ذلك الحين، فإن أسلوبهم في هذا العصر ينطلق من محاور متعددة؛ أورثت لدى المسلمين جبناً وخوراً، فلا حول ولا قوة إلا بالله! وانطلقوا يغزونهم في عدة ميادين تمثلت في إنشاء التخلف العلمي، والتخلف الاقتصادي والصحي، والتحدي الثقافي في مجال الدراسات الإسلامية، والدراسات التاريخية والأدبية واللغوية، والتحديات الاجتماعية، والإعلامية، وإثارة الحروب الأهلية، والنعرات الطائفية، إنها حربٌ شعواء لا هوادة فيها! إن أهل الكفر هم أبعد الناس عن العدالة، وأنأى الناس عن الرحمة وإن زعموا العدل في محاكمهم الدولية، أو مجالسهم ومقرراتهم الدستورية، لقد صار غبياً عندهم من يحاول أن ينال حقه باسم العدالة أو الرحمة الدولية، أو باسم القوانين الخاصة أو القوانين العامة، أو باسم المدنية والإنسانية، وصار المهزول حقاً هو ذلك الضعيف المهزول الجاثي على ركبتيه المهزولتين، أمام تلك القوى الكافرة الظالمة يستجديها حقه ويسألها إنصافه، ويطلب إليها بمجمعه لا بمدفعه أن يمسح الدم عن أظفاره الدامية، ويطهر دمه من لحوم الضعفاء الأبرياء، ويناديه باسم المدنية، وباسم الحقوق الإنسانية، وصار لا يوجد العدل إلا حيث يوجد الجور، ولا يوجد السلم إلا حيث توجد الحرب، وصارت القوى الكافرة الظالمة لا تذكر العدالة، ولا الحقوق الإنسانية إلا إذا تحدثوا إلى الأقوياء الباطشين أمثالهم، أما الضعيف العاجز عن المدافعة فماله عندهم إلا التنديد زعموا ومعناه: إفساد الأخلاق والأذواق والعقائد، والاستعمار ومعناه: الجوع والجهل، والتطبيع وسائر ما للبأس والشقاء من مظاهر ومعانٍ. كل ذلك -أيها المسلمون- مصداق لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: أومن قلةٍ نحن يا رسول الله؟! قال: لا. بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل} هجمت عليهم الدنيا فتنافسوها؛ فقلبت موازين الحياة عندهم ونسوا قول الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] ونسوا قول الله عز وجل: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175] ونسوا قول الله عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] ونسوا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم} انقلبت موازين الحياة عندهم؛ فأخرجت سنة المدافعة، وظنوا أن الشجاع المقاتل يقتل دون الجبان المسالم، المقر للخصم في دينه وملته وأرضه، حسبوا أن الجبناء أطول آجالاً من الشجعان فقالوا: يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول ولأجل هذا تجد كل من يحرصون على الحياة يهرعون إلى السلم والمسالمة، والحقيقة الواضحة في هذا العصر -أيها المسلمون- على العكس من ذلك، فإنه لا يقتل غالباً إلا الجبان، ولا يقع في الحرب إلا الهارب إلى السلم، ولا ينال الشر إلا أهل الدعة واللين والخوف. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 4 أهمية عقيدة الولاء والبراء عباد الله: إن الإرهاصات المتتابعة التي أداها أهل الكفر والشرك لم تذهب أدراج الرياح، وإن تلك الجهود التي قاموا بها من اقتلاع لقوة الإسلام من جذورها لم تذهب سدىً، فنحن نرى بين الحينة والأخرى نفوساً ضعيفةً، وأقلاماً مريضةً ترعرعت في كنف الكفر، فأخذت تبث دعايات مضللة، مفادها هدم ركنٍ ركين وأصلٍ أصيل من أصول الإسلام ألا وهو ركن الولاء والبراء؛ الولاء للمؤمنين، والبراء من الكافرين، الولاء والبراء الذي هو من لوازم كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ذلك اللازم المؤكد في قول الله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28] وفي مثل قوله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] ، وفي مثل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم لـ جرير بن عبد الله البجلي لما بايعه على الإسلام قال له: {أن تنصح لكل مسلم وتبرأ من الكافر} رواه أحمد بسند حسن. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 5 صفة الكفر بالطاغوت أيها المسلمون: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] قال العالم المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: فأما صفة الكفر بالطاغوت أن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم. وذكر رحمه الله من نواقض الإسلام: من لم يكفر المشركين أو يشك في كفرهم أو يصحح مذهبهم؛ كفر. وقال رحمه الله: ومظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والذي نفس محمدٍ بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلا كان من أصحاب النار} رواه مسلم. هذا الركن الركين والحصن الحصين، مالت نفوسٌ ضعيفة اجتالتها الشياطين عن فطرة التوحيد، مالت بهم إلى نبذهم لواقع حياتهم، فيما يسمونه بالعالمية أو زمالة الأديان، أو التطبيع بين الكفر والإسلام، ومعنى تلك المسميات كلها: هو توسيع دائرة الولاء بحيث يدخل فيها كل الأقوام والأديان والأوطان، حتى يصبح المسلم لا يشعر بالفارق بينه وبين غيره من الكفار في بقاع الأرض، وقد يطبع على هذا المبدأ الباطل، شعارات براقةٌ خادعة، كالحرية والإخاء، والعدل والمساواة، وبذلك تطمس عقيدة الولاء والبراء، وذروة سنام الإسلام وهو الجهاد في سبيل الله، وقد ذم الله هذا الصنيع وحذر منه بقوله: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} [الأعراف:86] . فاتقوا الله -أيها المسلمون- وعودوا إلى دينكم عوداً حميداً، اتقوا الله والتفتوا إلى واقعكم، انظروا إلى دماء الأبرياء من بني ملتكم تصرخ ولا مغيث! إن ضعف المسلمين واستكانتهم؛ جعلت من دم المسلم عملة رائدة في سوقٍ سوداء، لا تخضع لنظام، ولا يحميها قرار. أيها المسلمون: استمعوا إلى نصح ربكم في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:118-120] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 6 حقيقة المعركة بين الإسلام والكفر الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله واعلموا أن معركة الإسلام مع الكفر ليست وليدة اليوم، وإنما هي فصول يقصها القرآن وترويها السنة في أجواء مختلفة، ولن يخلو زمان أو مكان من تلك المعركة الضارية، غير أن النور الذي حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيء للدنيا لن ينطفئ أبداً، بل هو باقٍ خالص في أيدي المسلمين، يحملونه إلى البشرية ليضيء الدنيا مرةً أخرى بأمر من الله، ويوحد الكلمة ويجمع الشتات، وإن للمسلمين في وعد ربهم ما يشد عزائمهم للثبات على دينهم قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] قال ابن جرير رحمه الله: أي: ليعلي الإسلام على الملل كلها، ولو كره المشركون بالله ظهوره عليها. وقال ابن كثير رحمه الله: أي: ليظهره على سائر الأديان كما ثبت في صحيح مسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها} . إن شعوباً لا تعرف إلا الله لن يغلبها من لا يعرف الله، وإن من لا يعرف إلا الحق لن يغلبه من لا يعرف إلا الباطل، فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان؛ غير أن الأمر قد بات من الخطورة بحيث يوجب البحث عن الأسباب المفضية إلى ضعف المسلمين وخسائرهم الفادحة وإلى مصدرها، هل هو غش ثقافي؟ أو عوجٌ خلقي؟ أو خلل سياسي أو اجتماعي؟ وما الذي أفقد الأمة كيانها ثم جعلها تتلقى الضربات وتصرع أمامها؟ فاتقوا الله أيها المسلمون! وانظروا إلى نصوص الشرع برضاً وطواعية، تصحوا بين الاستسلام لله ولشرعه، وليعلم الذين يخالفون شرع الله بواقع حياتهم، أو يخرجون جانباً من جوانب الإسلام في سياسةٍ أو حكم أو اقتصاد أو ما شابه ذلك؛ ليعلموا أن ركب الإسلام سائرٌ بإذن الله والرسول صلى الله عليه وسلم قال: {وأن الله سيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولن يدع الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر} . فالأولى بالمقصرين من أهل الإسلام، والمعادين له من أهل الكفر والشرك، أن يستسلموا لشرع الله بعودة صادقة إلى الله وإخلاء الطريق للشعوب المسلمة لتسعد بشرع الله: ليت الذي لم يقم بالحق مقتنعاً يخلي الطريق ولا يؤذي من اقتنعا هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأفضل البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صحاب الحوض والشفاعة، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وراض اللهم عن الأئمة الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضا ولنا فيها صلاح، إلا أعنتنا على قضائها ويسرتها برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدمٍ ولا بلاءٍ ولا غرق، اللهم لتسقي به العباد، وتحيي به البلاد وتجعله بلاغاً للحاضر والباد. اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى. اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. عباد الله: اذكروا الله العظيم؛ يذكركم، واشكروه على نعمه؛ يزدكم، ولذكر الله أكبر؛ والله يعلم ما تصنعون. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 7 أمن المرء في سربه توفر الأمن والقوت والعافية، معايير ثلاثة لتوفر الحياة الهانئة والاستقرار المعيشي المطلوب. وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم توفر هذه المعايير الثلاثة بحيازة الدنيا بحذافيرها. ما هي ضوابط هذه الثلاثة؟ وما مدى توافرها في حياة الناس اليوم؟ إجابات هذه الأسئلة وغيرها نجدها في ثنايا هذه المادة. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 1 أسباب الحياة الهانئة الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا له عبد، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير من صلى لله وتعبد، وقام وتهجد، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، ومن لله تعبد. أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها دليل الحيران، وري الظمآن، وأنيس الولهان، بها يسمو المرء ويرتفع، وتصقل النفس وتنتفع، هي الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال. أيها الناس: إن إعطاء المرء المسلم نفسه، شيئاً من فرص المناصحة، وأوقات المراجعة وسط دواوين السنة المطهرة، ومن ثم حمل نفسه على أن يقف وقوفاً دقيقاً عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبعث من مشكاة النبوة ليعرف أسراره، ويستضيء بأنواره، حتى تنشرح النفس وتصفو، فتؤمن بالنبي المصطفى والرسول المجتبى صلوات الله وسلامه عليه، وتتبع النور الذي أنزل معه، إنه ولا شك سيقرأ أو يسمع كلاماً صريحاً، لا فلسفة فيه ولا تعقيد، كلاماً يقرر أن حقيقة الإنسان المسلم ومكانته العالية وحياته المستقرة الخالصة من المكدرات المزمنة، والشوائب العالقة، لن تكون فيما ينال من لذة عارضة، أو صبوة سانحة، أو انفلاتٍ من مسلماتٍ يظنها الأغرار نوعاً من القيود والتحجير، كلا. فالأمر ليس كذلك يا عباد الله! بل إن المطلع على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لن يجد إلا ما يسره، ويرسم له طريق الحياة المختصر، الذي يسرع بوصوله إلى الغاية العظمى ورؤية الرب تبارك وتعالى. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من أصبح آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها} رواه الترمذي وابن ماجة والبخاري في الأدب المفرد. لله أكبر! إنها كلمات يسيرات، لكنها حوت معنى الحياة الحقة والاستقرار الدائم، بل إنها كلماتٌ ترسم للمرء صورة الحياة بقضها وقضيضها، وحلوها ومرها، وسهلها وصعبها، على أنها لا تتجاوز هذه المعايير الثلاثة، والتي لا يمكن لأي كائنٍ بشريٍ عاقل أن يتصور الحياة الدنيوية الهانئة بدون توافرها، وهي: أمن المرء في سربه -أي: في بيته ومجتمعه- ومعافاته في بدنه، وتوفر قوت يومه. إنها عبارات سهلة على كل لسان، غير أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم لها بكونها تعادل حيازة الدنيا بحذافيرها، يجعل كل واحدٍ منا يتأمل، ويدقق النظر في أبعاد هذه المعاني وتنزيلها على واقع حياتنا جميعاً، ومدى تأثيرها فينا وجوداً وعدماً، إيجاباً وسلباً. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 2 الأمن وضرورة الحفاظ عليه أمن المرء في سربه -عباد الله- مطلب الفرد والمجتمعات على حدٍ سواء، وهو الهدف المرتقب لكل المجتمعات بلا استثناء على اختلاف مشاربها، ثم إن إقرار الحياة الآمنة هو ديدن كافة المنابر، للصلة الوثيقة بينه وبين إمكانية استقرار المجتمعات، وإلا فما قيمة لقمةٍ يأكلها المرء وهو خائف، أو شربة يشربها الظمآن وهو متوجس قلق، أو نعسة نومٍ يتخللها يقظات وسنان هلع، أو علمٍ وتعليمٍ وسط أجواء محفوفةٍ بالمخاطر. إن كل مجتمعٍ يفقد الجانب الأمني في ثناياه، إنما هو في الحقيقة، فاقد لمعنى الحياة لا محالة، حتى يكون تكأة لنهب الناهبين وتفريط المقصرين، فيذهب أقساماً بين أشتات المطامع والأهواء. ومن أجل الأمن -عباد الله- جاءت الشريعة الغراء بالعقوبات الصارمة، والحدود الرادعة، تجاه كل مخلٍ بالأمن كائناً من كان، بل وقطعت أبواب التهاون في تطبيقها، أياً كان هذا التهاون؛ سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها، أو في الاستحياء من الوقوع في وصمة نقد المجتمعات التي تدعي الحضارة، ومعرة وصفهم للغير بالتخلف، وحين يدب في الأمة داء التسلل الأمني، فإن المتسببين في ذلك يهيلون التراب على تراث المسلمين، ويقطعون شرايين الحياة الآمنة عن الأجيال الحاضرة والآمال المرتقبة. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 3 شمول معنى الأمن يجب علينا ألا نقصر جانب المفهوم الأمني على الفرد وحده، ولا على معنىً واحد من معانيه فحسب؛ كأن يقصر على ناحية حماية المجتمع من الجرائم لا غير، أو أن يقصر مفهوم حمايته على جناب الشرط والدوريات الأمنية دون سواها، بل إن شمولية مفهوم الأمن تنطلق بادي الرأي في عقيدة المجتمع وارتباطه الوثيق بربه، والبعد عن الشرك وشغله، والذي هو الظلم بعينه كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] ناهيكم عن المجالات الأمنية المتكاثرة في المجتمعات؛ كالأمن الغذائي، والأمن الصحي الوقائي، والأمن الاقتصادي، والأمن الفكري، والأمن الإعلامي، والأمن الأدبي، فعلى الأمة برمتها ألا تقع في مزالق الانحدار والتغريب تجاه أي معنىً من المعاني الأمنية الآنفة، وألا تقترف خياناتٍ أمنيةً في أي لونٍ من ألوانه، فالأمن على مثل هذا لا يقل أهمية عن أمن الأرواح والأموال، فكما أن للبيوت لصوصاً ومختلسين وللأموال كذلك فإن للعقول لصوصاً ومختلسين وللأفئدة لصوصاً ومختلسين، بل إن لصوص العقول والقلوب أشد خطراً وأدهى وأمر. إن إصباح المرء المسلم آمناً في سربه، لهو من أوائل بشائر يومه وغده، وما صحة البدن وقوت اليوم إلا مرحلة تالية لأمنه في نفسه ومجتمعه، إذ كيف يصح بدنٌ خائف؟ وكيف يكتسب من لا يأمن على نفسه وبيته؟ الجزء: 29 ¦ الصفحة: 4 انتهاك الأمن في أرض الإسراء ولأجل هذا -عباد الله- كان لزاماً علينا أن نقدر حقيقة الأمن، وأن نستحضرها نصب أعيننا بين الحين والآخر، حتى لا نكون مع كثرة الإمساس لها فاقدي الإحساس بها، ولا سيما حينما نشخص بأبصارنا يمنةً ويسرة لنرى بعض الأقطار الملتهبة بالصراع والتي يطحن بعضها بعضاً من داخلها، أو بما هو أدهى وأمر من خلال سطوة البغاة عليها، واجتياح العدوان المسلح استباحة لأرضها، وقطعاً لحرماتها. ألا من مشاطرٍ لنا أحزان ما يجري في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وثالث المسجدين، يصاب المسلمون فيه بالذعر عند كل زفرة نفسٍ من أنفاسهم، يستيقظون عند كل رمية برصاص، أو حركة مجنزراتٍ ظالمة، إنهم يرجون الأمن والأمان، يناشدون العدالة والإنصاف، ينادون المتخصصين -فيما زعموه- مكافحة الإرهاب، لقد ناشدوا وناشدوا وناشدوا، حتى لربما انطلقت صيحات الغير تصفهم بالغباء حينما يناشدون بمدمعهم لا بمدفعهم، أو يطالبون بالعدل من حيث لا يوجد إلا الجور، أو بالسلم من حيث لا توجد إلا الحرب، أين المتحدثون عن الإرهاب، وخطورة الإرهاب، واجتثاث الإرهاب؟! أين المتعاطفون مع الأبرياء؟! أين ما يسمى بالحقوق الإنسانية؟! أين وأين وأين!! ألا يكون قتل المسلمين إرهاباً؟! ألا يكون ترويعهم إرهاباً؟! ألا يكون اجتياح أرضهم إرهاباً؟! ألا ليت شعري من يدري لعل دلالة اللفظ في حق ثالث المسجدين لا تسمى عند البعض إلا ترحاباً! وأما فيما عداها فإنها لا تسمى عندهم إلا إرهاباً! {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119] ، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت} رواه الإمام أحمد وأبو داود. ألا إن الله غالب على أمره -عباد الله- ولكن أكثر الناس لا يعلمون: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران:196-198] . الجزء: 29 ¦ الصفحة: 5 نعمة الصحة وأهميتها أيها المسلمون: لقد أتبع النبي صلى الله عليه وسلم أمن المرء في سربه بكونه معافىً في جسده، وجعل المعافاة في الجسد ثلث حيازة الدنيا بحذافيرها، وهذا أمر واضح جلي؛ لأن الصحة تاج فوق رءوس الأصحاء لا يراه ويحس به إلا المرضى من الناس. والصحة والعافية -عباد الله- محل لأن يغبن فيها المرء على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم: {نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة، والفراغ} رواه البخاري وغيره، فالسلامة لا يعدلها شيء، والصحة التامة والسلامة من العلل والأسقام في البدن ظاهراً وباطناً لهو من مكامل الحياة الهانئة المستقرة، إذ فيها عونٌ على الطاعة، والقيام بالتكاليف الشرعية على أحسن وجه كان، ناهيكم عن أثر الصحة والبسطة في الجسم في نواحي الحياة المختلفة: {والمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير} والبسطة في العلم والجسم مما تنال به معالي الأمور، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] وقال سبحانه عن موسى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] . الجزء: 29 ¦ الصفحة: 6 حِكَم الأمراض وفوائدها والأمراض والأسقام -عباد الله- أدواءٌ منتشرة انتشار النار في يابس الحطب، ومن هنا تكون الغبطة للأصحاء، غير أن هذه الأسقام وإن كانت ذات مرارةٍ وثقل واشتداد وعرق إلا أن الله جل شأنه جعل لها حكماً وفوائد كثيرة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها. ولقد حدث ابن القيم عن نفسه: أنه أحصى ما للأمراض من فوائد وحكم فزادت على مائة فائدة، وقد قال رجلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا مالنا بها؟ قال: كفارات، قال أبي بن كعب: وإن قلت؟ قال: وإن شوكةً فما فوقها} رواه أحمد، وعند البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مسلمٍ يصيبه أذىً من مرضٍ فما سواه، إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها} . غير أنه لا يظن مما سبق -عباد الله- أن المرض مطلبٌ منشود، أو بلاءٌ يتطلع إليه العبد المسلم، كلا. بل هو محنةٌ يكون الصبر مطلباً عند وقوعها، والمرء المؤمن لا يتمنى البلاء، إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {سلوا الله العفو والعافية، فإن أحداً لم يعط بعد اليقين خيراً من العافية} رواه النسائي وابن ماجة، وقال مطرف رحمه الله: [[لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر]] . وعلى كلا الأمرين -عباد الله- فإن الصحة بلا إيمان هواء بلا ماء، والمرض بلا صبر ورضا بلاءٌ يتلوه بلاء، وجماع الأمرين دينٌ وإيمان بالله، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[إنكم ترون الكافر من أصح الناس جسماً وأمرضهم قلباً، وتلقون المؤمن من أصح الناس قلباً وأمرضهم جسماً، وايم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان]] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] . بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 7 قوت اليوم: الوسطية بين الغنى والفقر الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الناس: المال في الإسلام وسيلة لا غاية, وطلبه من طريق حله وطيبه أمرٌ مشروع لكل مكتسب، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: {من أصبح آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه} أراد بقوت اليوم الحال الوسط بين ضدين، إما حال الأثرياء المترفين الذين ضعف عند بعضهم الخلق والدين، وإما حال المفلسين القعدة الذين استمرءوا الكسل والبطالة والتشرد. إن الذين يكسلون ولا يربحون، ثم يتسولون أو يحتالون، باسم التكسب أو العيش، ليسوا على سواء الطريق، والذين يحبون المال حباً جماً حتى يعميهم عن دينهم وأخلاقهم وخلواتهم القلبية وجلواتهم الروحية ليسوا على سواء الطريق أيضاً، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم. فعن الأول يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {تعوذوا بالله من الفقر والقلة والذلة} ويقول: {اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر} رواهما الإمام أحمد. وعن الآخر يقول الله تبارك وتعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] . وخير الأمور -عباد الله- هو الوسط؛ فإن الفقر كاد أن يكون كفراً، بل هو مظنة الاتكال على الغير، وربط الأمور مع الناس بما يملكون من مال لا ما يملكون من خلق، فتختل عند الفقير المعايير، كما أن الغنى مظنة الطغيان، والوقوع في طرق الكسب المحرمة بحثاً عن المال بنهم، أو هو مظنة الفرار من الحقوق كالصدقة والزكاة وأوجه البر، ولهذا فإن من ملك قوت يومه فإنه يكون في منأىً عن بطر الغنى وهوان الفقر، فيكون كافاً عافاً، ومن هنا جاءت حيازة الدنيا، فالفقر دون برمته، والغنى يحمد في الخير ويذم في الشر: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] وصدق رسول الله صلى الله عليه سلم إذ يقول: {نعم المال الصالح للرجل الصالح} رواه أحمد. نقول مثل هذا -عباد الله- لأجل أن نذكر كل ذي نعمةٍ بنعمته، ولنعلم جميعاً أن هناك من المسلمين: عن اليمين وعن الشمال غزين، من يصبح لا يدري ما مصير أمنه، ولا قوت يومه، ولا معافاة بدنه، يعيشون أجواءً مقلقة، وحياةً متقلبة، ما عند يوم أحدهم ثقةٌ له بغده، شيوخٌ ونساء وأطفال بُرآء ما جنوا ذنباً، أطهار ما كسبت أيديهم إثماً، سقوفهم واكفة، وجدرانهم نازة، وجبالهم تسيل حمماً وشظاياً، حتى غدت أوديتهم بمآسيهم أباطح، فلم تعد الدور دوراً ولا المنازل منازلاً: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] . هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك فقال في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم طهر بيتك المقدس من هؤلاء الأرجاس، اللهم خالف بين كلمتهم، ومزق شملهم، اللهم اجعلهم غنيمة للإسلام والمسلمين، يا ذا الجلال والإكرام، بقوتك يا قوي يا عزيز. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 8 خطبة عيد الأضحى المبارك إن مما امتن الله به على عباده المؤمنين، أن جعل لهم مواسم وفرصاً يتسابقون فيها إلى الله بالطاعات والعبادات، وقد تكلم الشيخ حفظه الله عن منة عظيمة من الله وهي: عيد الأضحى المبارك، ثم تكلم عن مسائل متفرقة كالاهتمام بالإسلام وبحكم الله، واهتمام الإسلام بشئون المرأة وحقوقها، وذم التشبه بالكفار، مبيناً ضرورة إقامة التوحيد وترك البدع والضلالات والمحدثات. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 1 فرضية حج بيت الله الحمد لله الذي لا يطلب منحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون. أحمده سبحانه، استتماماً لنعمته، واستسلاماً لعزته، واستعصاماً من معصيته. وأستعينه فاقة إلى كفايته، إنه لا يضل من هداه، ولا يعز من عاداه، ولا يفتقر من كفاه، له الحمد فرض علينا حج بيته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام، يردونه رجالاً وركباناً كل عام، ويألهون إليه ولوه الحمام، جعله سبحانه علامةً لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته، فاختار من خلقه سماعاً أجابوا إليه دعوته، وصدقوا كلمته، ووقفوا موقف أنبيائه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عند موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالى للإسلام علماً، وللقاصدين حرماً، فرض حجه، وأوجب حقه، وكتب علينا وفادته. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نتمسك بها أبداً ما أبقانا، وندخرها لأهاويل ما يلقانا، فإنها عزيمة الإيمان وفاتحة الإحسان، ومرضاة الرحمن، ومدحرة الشيطان. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع، والأمر الصادع؛ إزاحة للشبهات، واحتجاجاً بالبينات، وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمثلات، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! الله أكبر! الله أكبر ولله الحمد! الله أكبر كبيراً! والحمد لله كثيراً. الله أكبر عدد ما ذكره الحاجون وبكوا! والله أكبر عدد ما طافوا بالبيت الحرام وسعوا! الله أكبر عدد ما زهرت النجوم، وتلاحمت الغيوم! الله أكبر عدد ما أمطرت السماء، وعدد ما غسق واقب أو لاح ضياء! الله أكبر عدد خلقه، وزنة عرشه، ومداد كلماته! الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً. أما بعد:- فيا أيها المسلمون: ويا حجاج بيت الله الحرام! أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه، فاتقوه في المنشط والمكره، والغضب والرضا، والخلوة والجلوة، واعلموا أنه قد اجتمع لكم في هذا اليوم عيدان، عيد الأضحى، وهو يوم الحج الأكبر، وعيد الأسبوع وهو يوم الجمعة، فأكثروا من الشكر لله جل وعلا، وبادروا بالأعمال قبل انقطاعها واعلموا أن الله غفور رحيم. أيها المسلمون! إن الناس ما زالوا منذ أذن فيهم إبراهيم عليه السلام بالحج يفدون إلى بيت الله الحرام، في كل عام من أصقاع الأرض كلها، وأرجاء المعمورة جميعها، مختلفة ألوانهم، متمايزة ألسنتهم، متباينة بلدانهم، يفدون إليه وأفئدتهم ترف إلى رؤية البيت العتيق، والطواف به، ويستوي في ذلك الغني والفقير، والقادر والمعدم، كلهم يتقاطرون إليه، تلبية لدعوة الله، التي أَذَّن بها إبراهيم عليه السلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] . إن الحجاج إذ يستبدلون بزيهم الوطني، زي الحج الموحد، ويصبحون جميعاً بمظهر واحد، لا يتميز شرّقيهم عن غرّبيهم، ولا عربيّهم عن أعجميّهم، كلهم لبسوا لباساً واحداً وتوجهوا إلى رب واحد، بدعاء واحد، وتلبية واحدة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. تراهم يلبون وقد نسوا كل الهتافات الوطنية، وخلفوا وراءهم كل الشعارات القومية، ونكسوا كل الرايات العصبية والعرقية، ورفعوا راية واحدة هي راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله، يطوفون حول بيت واحد، ويؤدون نسكاً واحداً. الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! الله أكبر! الله أكبر! ولله الحمد! إن الله عز وجل يوم شرع الحج للناس أراد بما أراد من الحكم أن يكونوا أمة واحدة، متعاونة متناصرة، متآلفة متكاتفة، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. إن الحج سلامٌ حقيقي برمته، سلام غير مزيف، يدخل فيه المسلم مدة هذا النسك فيتعلم من خلاله احترام حق الحياة لكل مسلم حي، مهما كانت درجة حياته، فلا يتعدي على أحد، ولا يظلم أحداً، ولا يبغي على أحد. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 2 الإسلام دين السلام إن كل عاقل ومنصف يشهد بالله: أن السلام الحقيقي والتعاون القلبي والروحي، والتعاون على البر والتقوى، لا ظل له في الواقع إلا بالإسلام ومن خلال الإسلام وتاريخ الإسلام، وأما غير المسلمين من شتى الأمم ومختلف الديانات فإن أقوالهم معسولة وأفعالهم مسمومة فيما يدعون إليه، إذ جعلوا مفهوم حقوق الإنسان عندهم مبنياً على فتح باب الحريات على مصراعيه، حسب ما يقتضيه المفهوم العلماني عندهم، والذي يرقب شرعة الله وصبغته، بل يتم به تدمير الأخلاق، وإشاعة فوضى الغرائز، ثم هم يزعمون أنها برمتها تعني مبادئ الحضارة والتقدم والرقي، ومن خالفها وكابر فيها رموه بأنه مخالف لحقوق الإنسان، وهي ليست من الحقوق في ورد ولا صَدَر، ولا هي من بابته، بل إن حلوها مرٌ، وسهلها صعب، ودماثتها ذميمة، ويا لله! لقد صدقوا ظنهم، فاتبعوهم أغرار ولهازم، من مفكرين وكتاب، بالعلوم السياسية والاقتصادية والقانونية وعلم الاجتماع، وجملة هؤلاء هم في الحقيقة أشياع لدعوات الغرب ولدات. يتسللون لواذاً عن أصول دينهم، فيشوشون بالتشريع ويهوشون في الحدود، وليس غريباً أن تتبدى خطوط مثل هذه القضية عبر هذه الفتن المتلاطمة، ولا يظن بالطبع أن ما بقي من ألوانها ورسومها بمعجزنا أن نتخيله، فمواقعوها هم صنف من الناس، يتمددون بالحرية، وينكمشون بالإسلام، وكفاكم من شر سماعه، وتلكم ثمالة نعيذكم بالله من غوائلها. لقد طب أصحاب تلك الدعوات زكاماً، فما أحدثوا في الحقيقة إلا جذاماً، وحللوا بزعمهم الهموع غداً وبالذي وضعوه زادت العقد، فكم يقتل من المسلمين، وكم تنزع من حريات، وكم يعتدى على حقوق في حين أن دعاة حقوق الإنسان يخفضون جناح الذل من رحمتهم وعدلهم المزعوم على دعم وتحصيل منظمات عالمية لمحبي الكلاب، وأصدقاء الحيوانات الأليفة، فتفتح الصوالين للكلاب، ليقوم أخصائيون بقص شعرها وتزينها وتعطيرها، وبالمقابل -عباد الله- تفتتح الصوالين الدموية التي يقص من خلالها شعور البشر المسلمين، ويحلقون أديانهم ويغتصبون أرضهم وأموالهم. فليت مخبراً يخبرنا أتكون الكلاب المكلبة أهم وأعظم من قطر إسلامي بأسره، تعدو عليه حثالة لئيمة من ذئاب البشر وعبدة الطاغوت، فيقتلون الشيوخ والأطفال، ويرملون النساء في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي غيره من أراضي المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟ إنهم بذلك هم قتلة الإنسان، وهم حماة حقوق الإنسان المجرم. الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! الله أكبر! الله أكبر ولله الحمد! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر كبيراً! الجزء: 30 ¦ الصفحة: 3 شمولية الإسلام أيها المسلمون: يا حجاج بيت الله الحرام! ما أحوج البشرية في هذا العصر وهي تكتوي بلهيب الصراعات الدموية والنزاعات الوحشية، ما أحوجها وهي تلتفت إلى بيت الله الحرام، إلى أن تخلِّص نفوس أبنائها من الأنانية والبغضاء، والكراهية والشحناء، وترتقي إلى أفق الإسلام السامي، فتتعلم الحياة بسلام ووئام، كما أراد الله لعباده المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:208-209] . إنه بهذا الصفة، وتلك الجموع، يقرر الإسلام: أنه ليست هناك دواع محفولة تحمل الناس على أن يعيشوا متناكرين، بل إن الدواعي القائمة على الطريق الحق تمهد للمسلمين مجتمعاً متكافلاً، تسوده المحبة، ويمتد به الأمان، على ظهر الأرض كلها، والله عز وجل رد أنساب الناس وأجناسهم إلى أمرين اثنين، ليجعل من هذه الرحب ملتقى تتشابك عنده الصِلات، وتستوثق العُرى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] . إنه التعارف لا التنافر، والتعاون لا التخاذل، فالأرض أرض الله، والكل عباد الله، وليس هناك إلا ميزان واحد، تتحدد به القيم، ويعرف به فضل الناس، ألا وهو التقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ألا أن الكريم حقاً هو الكريم عند الله، وهو يزنكم عن علم وخبرة: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34] . الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! الله أكبر! الله أكبر! ولله الحمد! الجزء: 30 ¦ الصفحة: 4 بيت الله يجدد معالم التوحيد حجاج بيت الله الحرام! إن بيت الله العتيق ما برح يطاول الزمان، وهو شامخ البنيان، في منعة من الله وأمان، بناه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، إعلاناً بالتوحيد الخالص، إذ بناؤه مرهون بتوحيد الله، حيث قال جل وعلا: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26] . فمن أجل التوحيد بني بيت الله، لئلا يعبد إلا هو وحده، فقد حطم المصطفى صلى الله عليه وسلم الأصنام من حول الكعبة -وعلى رأسها أعلاها وأعظمها هبل- وهو يردد: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] . لقد تمثل التوحيد في الحج من خلال التلبية، وفي قراءة سورتي الكافرون وقل هو الله أحد في ركعتي الطواف، وتمثل في خير الدعاء وهو دعاء يوم عرفة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) . إذاً: فالتوحيد -عباد الله- هو لباب الرسالة السماوية كلها، وهو عمود الإسلام وشعاره الذي لا ينفك عنه، وهو الحقيقة التي ينبغي أن نغار عليها ونصونها من كل شائبة، فالتوحيد وسيلة كل نجاح وشفيع كل فلاح، يصير الحقير شريفاً، والوضيع مطريفاً، يطول القصير ويقدم الأخير، ويعلي النازل، ويشهر الخامل، وما شيد ملك إلا على دعائمه، ولا زال ملك إلا على قواصمه، ما عزت دولة إلا بانتشاره، ولا زالت وذلت إلا باندثاره، ألا وإن معظم الشرور والنكبات التي أصابت أمة الإسلام وأشد البلايا التي حلت بها إنما كانت بسبب ضعف التوحيد في النفوس، وما تسلط من تسلط من الأعداء، وتعجرف من تعجرف، وغار من غار على حياض المسلمين، واستأصل شأفتهم إلا بسبب ضعف التوحيد، وما تأريخ التتار عن المسلمين بغائب، حيث بلغ الضعف في نفوس كثير من المسلمين آنذاك مبلغاً عظيماً؛ بسبب ضعف التوحيد، حتى ذكر بعض المؤرخين: أن جموعاً من المسلمين، أبان الهجوم التتري لبلاد الإسلام كانوا يرددون: يا خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر عوذوا بقبر أبي عمر ينجيكم من الضرر كبرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام:17] . لقد ابتلي كثير من الناس بالجهل بالتوحيد، حتى لم يعرفوا حق الله وحق العبد، ومزجوا بعض ما لله فجعلوه للعبد، حتى انحاز بعضهم إلى أصحاب القبور، وتضرعوا أمام أعتابها، وتمسحوا بها، واستغاثوا بأهلها بالشدائد والكروب، بل لقد كثر مروجوها والداعون إليها من قبوريين ومخرفين، والذين يخترعون حكايات سمجة عن القبور وأصحابها وكرامات مختلقة لا تمس إلى الصحة بنصيب. بل قد طاف بعضهم بالقبور كما يطاف بالكعبة المعظمة، وأوقفوا الأموال الطائلة على تلك الأضرحة، حتى إنه لتجتمع في خزائن بعض المقبورين أموال يصعب حصرها، فيا لله! كيف أن أحياءهم لا يكرمون بدرهم واحد، وبألف ألف قد يكرم أمواتهم!! لقد قصر أناس مع التوحيد، فتقاذفتهم الأهواء، واستحوذت عليهم الفتن والأدواء، فمن مفتون بالتمائم والحروز يعلقها عليه وعلى عياله؛ بدعوى أنها تدفع الشر، وتذهب بالعين، وتجلب الخير، والله تعالى يقول: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17] . لقد قصر جمع من المسلمين مع التوحيد، فافتتنوا بالمشعوذين، والدجاجلة الأفاكين، من سحرة وعرافين ونحوهم، والذين يأكلون أموال الناس بالباطل، بدعوى أنهم يكاشفونهم بأمور الغيب، فيما يسمى مجالس تحضير الأرواح، أو قراءة الكف والفنجان، ليكاشفوا الناس -على حد زعمهم- عما سيحدث في العالم خلال يوم جديد، أو أسبوع سيطل، أو شهر أوشك حلوله، أو عام مرتقب: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] . ناهيكم -عباد الله- عن اللت والعجن عبر الصحف والمجلات ونحوها، فيما يسمى قراءة الأبراج ومستقبلها، والذي يروج من خلاله بأنه يا لسعادة كاملة لأصحاب برج الجدي، ويا لغنى أصحاب برج العقرب، وأما أصحاب برج الجوزاء فيا لتعاسة الحظ وخيبة الأمل (زعموا) إلى غير ذلك من سيل الأوهام الجارف، والخزعبلات المقيتة التي لا حد لها: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الطور:38] . الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! والله أكبر! الله أكبر! ولله الحمد! بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله إنه كان غفاراً. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 5 الاحتكام إلى شرع الله الحمد لله ولي الصالحين، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- واجعلوا من عيدكم هذا صفحة جديدة بيضاء، يصحح من خلالها الواقع المرير، ويكشف الزيغ عن كثير من الشعارات، والنداءات التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، وأن يكون الحكم لله في أرضه، وأن تكون الهيمنة في جميع شئون الحياة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] . عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: {مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محموم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فقلنا: إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلناه التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأمر به فرجم، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] الحديث} رواه مسلم. فأي حكم -عباد الله- أهدى من حكم الله، وأي شريعة أصلح من شريعة الإسلام: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل:9] . الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! الله أكبر! الله أكبر ولله الحمد! أمة الإسلام: حجاج بيت الله الحرام! إن أردتم السعادة والفلاح فأصلحوا نفوسكم من داخلها، ونقوا وسائل المجتمعات من شوائبها، لا سيما الإعلام، لأنه سلاح ذو حدين، فالله الله أن يُرى فيه ما يحلق الدين، أو ما يضلل الناس، أو يكون سبباً في البعد عن الحقائق، مع نشر الكذب والدجل، والتضليل على الشعوب والمجتمعات، فإن مما لا شك فيه، أن الإعلام قوام المجتمعات، وإذا أردت أن تحكم على مجتمع ما صعوداً أو هبوطاً فانظر إلى إعلامه. فحذار -أمة الإسلام- من الإخلال بضوابطه والخروج عن مقصده من حيث النفع والتربية، والنشأة السوية، وخدمة المجتمعات فيما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، وفق شريعة الله الخالدة، فاتقوا الله أيها الإعلاميون، واعلموا أنكم مسئولون تجاه الأمن الفكري سلباً وإيجاباً. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 6 اهتمام الإسلام بالمرأة كما أنه ينبغي علينا جميعاً أن نصحح أوضاعنا تجاه المرأة المسلمة، وأن نتفطن للأيادي العابثة، والقفازات الزائفة، والتي تتربص بها ليل نهار لتخرجها من نطاقها المرسوم لها حتى تكون فريسة لذوي الشهوات المسعورة، والمطامع المشبوهة، وللذين كرهوا ما نزل الله. ولنحرص جميعاً على تبيين اهتمام الإسلام بالمرأة، وأنها لها شأن في المجتمع، بل هي نصف المجتمع، وأن الإسلام رعا حقها بنتاً، ورتب الأجر الجزيل على من عال جاريتين، ورعا حقها زوجة، فجعل لها من الحق مثلما للرجل وللرجل عليها درجة، ولم يجعل عقد الزوجية عقد استرقاق للمرأة ولا عقد إهانة واتفاق، إنما هو عقد إكرام واتصال بالحلال. كما أحسن الإسلام في الوقت نفسه إلى المرأة أماً فقدم حقها على حق الأب، ثلاث مرات في البر، بل أكد النبي صلى الله عليه وسلم حق المرأة المسلمة في حجة الوداع بقوله: {فاتقوا الله بالنساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف} الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! الله أكبر! الله أكبر ولله الحمد! حجاج بيت الله الحرام! يا من أديتم مناسككم ووقفتم بـ عرفات، وانحدر بكم الشوق إلى المزدلفة، فسكبتم عند المشعر الحرام العبرات، هنيئاً لمن رزقوا الوقوف بـ عرفة، وجأروا إلى الله بقلوب محترقة، ودموع مستبقة، فلله كم من خائف أزعجه الخوف من الله وأقلقه، ومحب ألهمه الشوق وأحرقه، وراج أحسن الظن بوعد الله فصدقه، اطلع عليهم أرحم الرحماء، وباهى بجمعهم أهل السماء. فهل رأيتم -عباد الله- قط شبه عراة، أحسن من المحرمين، هل شاهدتم ماء صافية أصفى من دموع المتأسفين، هل ارتفعت أكف وانبسطت أيدي فضاهت أكف الراغبين. هل لصقت بالأرض جباه أفضل من جباه المصلين، فيا لها من غنيمة باردة، ويا له من فوز خاب مضيعوه. حجاج بيت الله الحرام! أخلوا لله حجكم، واتبعوا سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم تفحلوا، واشكروا الله شكراً كثيراً على أن هيأ لكم سبل الراحة، وأداء الحج في يسر وسهولة، مع أمن مبذول، وتنظيم مشكور، ومعنيين بالدعوة والتوجيه، سخرهم الله في بلاد الحرمين، خدمة لحجاج بيته، فالحرمان الشريفان أهل لأن يخدما، وبلاد الحرمين الشريفين حرسها الله أهل لأن تكون خادمة للحرمين، فشكر الله الجهود، وبارك بالخطا، وتقبل من الحجاج حجهم إنه هو السميع العليم. الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! الله أكبر! الله أكبر ولله الحمد! الجزء: 30 ¦ الصفحة: 7 سنية الأضحية وشروطها عباد الله: إن يومكم هذا هو يوم الحج الأكبر وهو عيد الأضحى والنحر، وإن من أعظم ما يؤدى في هذا اليوم، هو بقية مناسك الحج، إضافة إلى الأضحية الشرعية، التي ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وإن للمضحي في كل شعرة حسنة، وبكل صوفة حسنة، وهي سنة أبينا إبراهيم المؤكدة، ويكره تركها لمن قدر عليها، كما أن ذبحها أفضل من التصدق بثمنها، وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة. ثم اعلموا أن للأضحية شروطاً ثلاثة: الشرط الأول: أن تبلغ السن المعتبرة شرعاً وهو خمس سنين للإبل وسنتان في البقر، وسنة كاملة في المعز، وستة أشهر في الضأن. والشرط الثاني: أن تكون سالمةً من العيوب، التي نهى عنها الشارع، وهي أربعة عيوب، العرجاء التي لا تعانق الصحيحة في الممشى، والمريضة البين مرضها، والعوراء البين عورها، والعجفاء: وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، وكلما كانت أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل. والشرط الثالث: أن تقع الأضحية في الوقت المحدد، وهو الفراغ من صلاة العيد، وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد، فصارت الأيام أربعة. ومن كان منكم يحسن الذبح فليذبحها بنفسه، ومن لا يحسنه فليوكل غيره ممن يحسنه، وليرفق الجميع بالبهيمة، وليرح أحدكم ذبيحته، وليحد شفرته، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، حتى في ذبح البهيمة، ثم ليسمي أحدكم عند ذبحها، ويقول: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم هذه عن فلان أو فلانة، ويسمي صاحبها. ثم أعلموا -أيها المسلمون- أن الله سبحانه وتعالى قد جمع لكم في هذا اليوم عيدين اثنين، وقد ثبت عند أبي داود وابن ماجة وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون} . وقد قال محققون من أهل العلم: إن من شهد العيد، سقطت عنه الجمعة، لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها، ومن لم يشهد العيد. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 8 النهي عن التشبه بالكفار ثم اعلموا -يا رعاكم الله- أن الله سبحانه لم يشرع لأمة الإسلام في السنة إلا عيدين اثنين، هما: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وبهذا يعلم أن ما يفعله البعض، من التقليد الأعمى لأهل الغرب من خلال التشبه بأعيادهم ومناسباتهم وإقامتها في بلاد المسلمين، كالذي يسمى عيد الحب، أو عيد الأم، أو ما شابه ذلك، فإن هذا من الأعياد المحدثة التي لم يأذن بها الشارع الحكيم بل حرمها من وجوه متعددة، في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ورأس أسباب التحريم: هو أنه من الإحداث في الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} ناهيكم عن كونه تشبهاً بالمشركين، وقد جاء النهي عن التشبه بهم، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من تشبه بقوم فهو منهم} . إضافة إلى كونها تسلب استقلالية المسلمين وعزتهم وتمسكهم بدينهم على وجه المسارقة والتدرج، وأمة الإسلام يجب أن تكون متبوعة لا تابعة، وقائدة لا مقادة، ورضي الله عن ابن مسعود حيث يقول: [[أنتم أشبه الأمم ببني اسرائيل سمة وهدياً، تتبعون عملهم، حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أما لا]] {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:34-37] . الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! الله أكبر! الله أكبر ولله الحمد! هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية، وأفضل البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقد أمركم الله بذلك فقال في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وسلم الحجاج والمسافرين والمعتمرين، في برك وبحرك وجوك من المسلمين يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم! اللهم أصلح له بطانته ياذا الجلال والإكرام! اللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مربحاً ومغنماً، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقاً وسلماً. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! الله أكبر! الله أكبر ولله الحمد! الله أكبر! الله أكبر كبيراً! الجزء: 30 ¦ الصفحة: 9 نعمة العقل ميز الله الإنسان عن سائر الأحياء بنعمة العقل؛ لكي يستوعب الدين، ويتمكن من أداء رسالته في هذه الحياة، بعد أن يتعرف على الغاية من خلقه. وعلى هذا فإن المنكر الواضح أن يستخدم هذا العقل في معارضة الدين والشرع. وقد تجرأ بعض أبناء الإسلام على معارضة النقل، وتقديم العقل عليه، وهذا أمرٌ قد أنكره السلف بل وتنكره الشريعة عموماً. وفي هذه المادة بيان لبطلان هذه النزعة المنحرفة، وبيان لطوائف المخالفين للوحي. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 1 مكانة العقل وأهميته للإنسان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الناس! جميلٌ جداً أن يتحدث المرء المسلم بنعم الله عليه، وبآلائه التي أسبغها على عباده ظاهرة وباطنة، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] . ومما لا شك فيه أن نعم الله علينا تترى، بل كل النعم هي منه وحده لا يشركه معه غيره: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] . عباد الله: قد لا تختلف أفهامنا جميعاً على أن من أعظم النعم التي أكرمنا الله بها نعمة العقل؛ العقل الذي وهبنا الله إياه لنمتاز به عن الحيوان الأعجم والصخر الصلب، فبالعقل يشرف الإنسان، وبالعقل يكلف المرء، وبه يعرف خالقه جل شأنه، ذلكم العقل الذي يميز به بين الخير والشر والهدى والضلالة، إذا استعمله الإنسان كان سبباً في سلوك طريق الهدى، والبعد عن موارد الردى، العقل الذي يعد من أكبر الطاقات البشرية طرى، إنه لنعمة عظمى وسمة جلى امتن الله بها علينا: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23] إنه لا يعلم قدر العقل إلا من وهبه، وإلا كان هو والعير في الفلاة سواء. ومن تأمل حكمة الله جل وعلا في أن يكون الطفل الوليد بلا عقل اكتسابي لأدرك أثر هذه النعمة عليه، حينما يوهب شيئاً بعدما منع منه، ليكون الإحساس به أشد وقعاً، وأجدى نفعاً: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] . يقول ابن القيم رحمه الله: لو ولدت أيها الإنسان عاقلاً كحالك في كبرك لتنغصت عليك حياتك أعظم تنغيص؛ لأنك ترى نفسك محمولاً رضيعاً، عاجزاً مسجوناً في المهد، أو كنت ممن ابتلي بفقد والديه، فكنت كالواله الحيران، ولكنها محض الحكمة والرحمة بك والتدبير. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 2 حفظ الضرورات الخمس ثم اعلموا أيها الناس! أن العقل إما أن يكون غريزياً، وإما أن يكون اكتسابياً، فالأول: كعقل الطفل الذي سبق ذكره، والثاني: ما يكتسبه الصبي على مرور الأيام إلى أن يبلغ أربعين سنة، ثم بعد ذلك يأخذ في النقصان إلى أن يخرف، بخلاف العلم فإنه يكون كل يومٍ في زيادة، ومنتهى تعلم العلم هو منتهى العمر، وهذا يدل على أن العقل أضعف من العلم، فلأجل ذا يا عباد الله، أجمعت الرسل قاطبة على حفظ الضرورات الخمس، والتي هي: الدين، والعقل، والعرض، والمال، والنفس. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 3 رعاية الإسلام للعقل فالعقل إذاً ضرورة كبرى من هذه الضرورات، مرهونة بإيجاد ومنع؛ فالإيجاد إنما يكون من خلال استعماله في طاعة الله سبحانه، واعتقاد دين الإسلام به، والمنع إنما يكون من خلال سرد كل ذريعة مفضية إلى إفساد هذا العقل، أو تعطيله عن الاتصال بنور الهداية، فلأجل ذا حرم كل ما من شأنه أن يكون سبباً في زواله، كشرب المسكرات والمخدرات ونحوها، بل لقد جعل الشارع الحكيم الدية كاملةً في زوال العقل بسبب الاعتداء عليه، ولو لم يكن من ذلك إلا كون العقل شرطاً في معرفة العلوم، وفي الأعمال وصلاحها، وبه يكمل دين الإنسان لكفى، غير أنه لا يستقل بذلك وحده، إذ هو غريزة في النفس وقوة فيها كقوة البصر إيجاباً وسلباً، وما ذاك إلا بقدر اقتباسه من نور الإيمان، بيد أنه إذا انفرد عن النور أو أبعد عنه بالكلية كانت أقواله وأفعاله أموراً حيوانية كما قال ذلك شيخ الإسلام رحمه الله. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 4 العقل الموفق والعقل المخذول ثم إن العقل البشري الذي يستطيع أن يؤدي وظيفته على أكمل وجه، هو ذلكم العقل الذي تجرد عن الهوى، وخلص من رقة التقليد الأعمى، فلم يتأثر بالآراء والأفكار المنحرفة، التي تدفعه للوقوع في الضيق والضلال، كما أنه لم يعطل قواه باتباع أعمى فينجر به إلى انحراف ذريعٍ وزيغٍ مردٍ، هذا هو العقل الذي يمكن أن يحمل رسالة الإسلام حملاً صحيحاً، وأما الذين كبلوا عقولهم وعطلوها عن موارد النهل الصافي فهم الذين قال الله عنهم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22-23] ، ولأجل ذلك كان جواب أمثال هؤلاء يوم القيامة: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10-11] . وجماع ما مضى ذكره عباد الله هو ما ذكره أبو القاسم الأصفهاني رحمه الله بقوله: العقل نوعان: عقلٌ أُعين بالتوفيق، وعقلٌ كيد بالخذلان. فالذي أعين بالتوفيق يدعو صاحبه إلى موافقة الأمر المفترض بالطاعة، والإنقياد لحكمه والتسليم به، والعقل الذي كيد يطلب بتعمقه الوصول إلى علم ما استأثر الله بعلمه، وحجب أسرار الخلق عن فهمه حكمةً منه بالغة. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 5 العقلانية الحديثة عقبة في طريق الإسلام عباد الله! إنما قلنا ما قلناه في هذه العجالة كمدخلٍ وتوطئةٍ نشير بهما إلى أن جملة من عقول هذه الأجيال المتأخرة ليخشى عليها من تسلل ظلمات بعضها فوق بعض، أو أن تدب إلى عقولهم شبهات ومكابرات، لا يجد الوالغ في حمأتها بصيص نورٍ يهتدي به إلى سواء الصراط، أو يخلص به من ضلالة، أو ينجو به من غواية، وذلك من خلال حلول شيء من الازدواجية الممقوتة غير يسير، عبر وسائل التلقي المختلفة، والتي يتعارك فيها الحق والباطل، والصحيح والضعيف، والعقل والشرع، والزين والشين، يبرز الحق فيها مرة والباطل مرات، جندت لمثله أقلام بعض الورقيين من ممتهني الصحافة أو الكتابة، عبر الوسائل المقروءة أو المسموعة أو المرئية، وهي خير شاهدٍ على هذا، حيث لم تسخر جملة منها للذب عن الإسلام شريعة وروحاً واعتقاداً، بل حبرت بعض الأقلام لتقرير نزعة جديدة يخلع من خلالها الجلباب الساتر لكاتبها عن إبراز هذا المقصد، فراحوا يخوضون فيما يسمى تمجيد العقل وإكباره، وجعله حكماً قهرياً على عدد ليس بالقليل من النصوص الشرعية الإسلامية. فعرضوا الحاكمية في الشريعة على العقل، وعرضوا الحدود والجنايات على العقل، وعرضوا الولاء والبراء في الإسلام على العقل، وعرضوا بعض المسلمات في قضايا المرأة المسلمة وشئونها على العقل، حتى صار ذلك لوثة نعوذ بالله من تبعات قسماتها، وشمالةً نعوذ بالله من غوائلها، بل هي معرة برمتها، لاتتها أفواه المعارضين بعقلانيتهم، حتى لفظتها أسماع أهل الشريعة، ومثل هذا عباد الله ليس ببعيد على من أطلق العنان لعقله يصول به ويجول في شرع الله بلا خطام ولا زمام. ولا غرو في ذلك، فقد قال ابن القيم رحمه الله: وكل من له مسكت من عقلٍ يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتاب الله ووحيه الذي هدي به رسله، والمعارضة بينه وبين كلام غيره، فأي فسادٍ أعظم من فساد هذا العقل. فيا للعجب! أيها الناس! كيف يكون الحق قريباً وليس إليه وصول، وكيف يكون أمثال هؤلاء: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول وإذا كان يسعى إلى الماء من يغص بلقمةٍ واحدة فإلى أي شيء سيسعى من يغص بالماء ذاته، إن سنن الله جل وعلا وشريعته لا تخاصم، ولا ينبغي لها أن تتبع بالعقل، ولو فعل الناس ذلك لم يمض يوم واحد إلا انتقلوا من دينٍ إلى دين، ولعمر الله إن بعض السنن لتأتي أحياناً على خلاف الرأي ومجانبته خلافاً بعيداً فما يجد المسلمون بداً من اتباعها والانقياد لها، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: [[لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهر خفه]] . الجزء: 31 ¦ الصفحة: 6 إنكار السلف للعقلانية التي تخالف النقل وقد قال بعض السلف كـ أبي الزناد وغيره: وما برح من أدركنا من أهل الفضل والفقه من خيار أولية الناس، يعيبون أهل الجدل والتنقيب، ويعيبون الأخذ بالعقل أشد العيب، وينهون عن لقائهم ومجالستهم، ويخبرون أنهم أهل ضلال وتحريف. حتى قال الأصفهاني رحمه الله: إذا رأيت الرجل إذا قيل له: لمَ لا تكتب الحديث؟ يقول: العقل أولى، فاعلم أنه صاحب بدعة. بل لقد ذهب الشافعي رحمه الله إلى أبعد من هذا حيث جعل ترك السنة، والاعتراض عليها، وعدم الأخذ بها، نوع جنونٍ أو هو جنون وإن لم يكن حسياً، فقد قال رحمه الله: متى عرفت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم آخذ به، فأنا أشهدكم أن عقلي قد ذهب. ومن هنا وصف ابن تيمية رحمه الله العقل بالصنم، إذا غلا فيه المرء وطغى، فقال رحمه الله: والداعون إلى تمجيد العقل، إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنمٍ سموه عقلاً، وما كان العقل وحده كافياً في الهداية والإرشاد، وإلا لما أرسل الله الرسل. ولله ما أجمل كلاماً لـ ابن القيم رحمه الله يشفي العليل، ويروي الغليل في تقرير هذه المسألة! فيقول: كيف ينقدح في ذهن المؤمن أن في نصوص الوحي المنزلة من عند الله عز وجل ما يخالف العقول السليمة؟! بل كيف ينفك العقل الصريح عن ملازمة النص الصحيح؟! بل هما أخوان لا يفترقان، وصل الله بينهما في كتابه، وإذا تعارض النقل وهذه العقول أخذنا بالنقل الصحيح ورمينا بهذه العقول تحت الأقدام، وحطت حيث حطها الله وأصحابها، فكيف يظن أن شريعة الله الكاملة ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها، أو إلى قياسٍ، أو معقولٍ خارجٍ عنها، ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعد محمد صلى الله عليه وسلم. وحاصل الأمر عباد الله! أن العقل في هذه العصور المتأخرة قد كبا كبوة خطيرة، وأقحم في أمور ينبغي أن يكون العقل فيها تابعاً لا متبوعاً، والسلف الصالح رحمهم الله قد استعملوا الأقيسة والدلائل العقلية، ولم ينكروها بالإطلاق، وإنما أنكروا ما كان منها فاسداً مما يخالف الشرع، ويعلم فساده، مما يتذرع به من يبطل بعض النصوص الشرعية، أو يحرفها بحجة أنها تخالف القواطع العقلية، وهي في الحقيقة خيالات وأوهامٌ وشهوات، لا يميز فيها بين الشخص والصورة، ولا بين الطيف والحقيقة، حتى ركبت بهم متن عمياء، وخبطت بهم خبط عشواء. ثم نقول لأمثال هؤلاء: إن أردتم إقحام العقول في فرز الشريعة فعقل من مِن البشر نحكم؟ أهو عقل زيد، أم عقل عمرو؟ أعقل رجلٍ، أم عقل امرأة؟ أعقل متزن، أم عقل صاحب هوى؟ الجزء: 31 ¦ الصفحة: 7 اختلاف العقول يوجب تقديم الشرع ألا إن دلائل العقل قلما تتفق، بل عقل كل واحدٍ يري صاحبه غير ما يري الآخر، وهذا بينٌ والحمد لله، وقديماً قيل: لو سكت الذي لا يعلم لما كان هناك خلاف، ومن لم ير الهلال فعليه أن يسلم لأناسٍ رأوه بأبصارهم، كيف يحتج العقل على خالقٍ من بعض مخلوقاته هذا العقل؟! وأما ما يسطره بعض الكتبة، وما يدندنون حوله، من ذكر أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وردت في تعظيم العقل وإكباره، فإنه خلاف الحق، فقد قال ابن القيم رحمه الله: أحاديث العقل كلها كذب. ونقل عن بعض السلف قوله: لا يصح في العقل حديث. فصار فعل أمثال هؤلاء فيما يطرحونه من تحكيم العقل والاستقلال به من القيود كما يقول ابن تيمية رحمه الله: هو أخبث من لحم خنزيرٍ في صينية من ذهب. فالواجب على كل مسلم -عباد الله- أن يتقي ربه جل وعلا، وأن يعلم أن شريعة الله ليست عرضة للعقول لتخاصم بها، فقد حد الله للعقول حدوداً لا ينبغي تجاوزها ولا الافتيات على الله بها، والله يقول: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140] ويقول: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138] وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8] قال بعض أهل العلم: وهذا دليلٌ ظاهر في أن الذي نراه معارضاً للوحي ويقدم العقل عليه، ليس من الذين أوتوا العلم في شيء، كيف لا والله سبحانه وتعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، فانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً إنك أنت العليم الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله بريئان منه، وأستغفر الله إنه كان غفاراً. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 8 طوائف المخالفين للشريعة الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واقدروا الله حق قدره، وإياكم ومحدثات الأمور، والمخاصمة لنصوص الشارع بعقولكم وآرائكم، ولا تجعلوا شيئاً من ذلك مقدماً عليها فما وافق العقول قبلتموه، وما لا فلا؛ لأن هذه بلية عظمى، وهوة كبرى، اتسع نطاقها في بقاع شتى من ديار الإسلام، وأصحابها يصفون أنفسهم بالعقلنة، أو الاستنارة، أو التحرر. ثم لتعلموا أيها المسلمون! أن الذين يخالفون بعض النصوص بسبب أن عقولهم لا تحتملها أو لا تقتنع بها، أو بأي حجة، رجحوا فيها كفة العقل على كفة الشرع، فإنهم لا يخرجون عن خمس طوائف كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله: فالطائفة الأولى: عارضت الوحي بالعقل وقدمت عليه العقل، فقالوا لأصحاب الوحي: لنا العقل ولكم النقل. والطائفة الثانية: عارضته بآرائهم وقياساتهم، فقالوا لأهل الحديث: لكم الحديث ولنا الرأي والقياس. والطائفة الثالثة: عارضته بأذواقهم وحقائقهم، وقالوا: لكم الشريعة ولنا الذوق والحقيقة. والطائفة الرابعة: عارضت الوحي بسياساتهم وتدبيرهم، فقالوا: أنتم أصحاب الشريعة ونحن أصحاب السياسة. والطائفة الخامسة: عارضته بالتأويل الفاسد، وادعوا أنهم يفهمون أكثر مما يفهمه أهل الحديث والفقه. ثم إنه إذا رد على كلٍ من هؤلاء باطله، رجع إلى طاغوته وقال: في العقل ما لا يقتضيه النقل، وقال الآخر: في الرأي والقياس ما لا يجيزه الحديث، وقال الثالث: في الذوق والحقيقة ما لا تسوغه الشريعة، وقال الآخر: في السياسة ما تمنع منه الشريعة. وهكذا دواليك حتى لا يبقى من الشريعة إلا اسمها، فباطل هؤلاء كلهم لا ضابط له، بخلاف الوحي فإنه أمرٌ مضبوط مطابقٌ لما عليه الأمر في نفسه، تلقاه الصادق المصدوق من لدن حكيمٍ عليم. وقد قال ابن تيمية رحمه الله: ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع البتة، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول بل بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته، ويدل لذلك عباد الله، أن الله تعالى ذم المنافقين الذين كانوا يرجعون في نفاقهم إلى عقولهم فقال سبحانه وتعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75] أي من بعد ما قالوا: وقفنا على كلام الله تعالى بعقولنا وهم يعلمون بطلان ما أدركوه بعقولهم، ويؤكد هذا الأمر أن الله تعالى قال عن جهابذة كفار قريش وصناديدهم: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} [الطور:32] أي عقولهم، فدل على أن العقل لا يهدي إلى الدين استقلالاً. فالله الله! أمة الإسلام في دينكم، وحذار حذار! أن يؤتى هذا الدين من قبل تسليط الأفهام والعقول القاصرة عليه! وليكن موقفنا من شريعة ربنا كلها سواء أدركنا ذلك بعقولنا أو لم ندرك أن نقول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:7-8] . اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم! اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام! رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 9 لا أمن إلا في الإيمان!! تحدث الشيخ حفظه الله عن النظرية الأمنية عند المسلمين، فبرهنها بإثبات معادلة أن لا أمن إلا بالإيمان. وبين أن الكلام عن الحياة الآمنة إنما هو ديدن كافة المنابر. ثم انتقل للحديث عن الانحلال الأمني ومبددي الأمن في المجتمعات، مبيناً أن من مقاصد الشريعة استتباب الأمن في المجتمعات، ثم وضح شمول النظرية الأمنية على نطاق واسع، وواجبات هذه النظرية لتستوي على سوقها، وأنواع الأمن المتفرعة منها، وعن دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نشر بنود هذه النظرية. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 1 الأمن ثمرة الإيمان الحمد لله، الحمد لله الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، ويحيط علماً بما يظهره العبد وما يضمر، الكريم المتعال، الذي يقبل التوبة عن عباده، فيمحو الزلل ويغفر، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين الأنس والجن بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: الجزء: 32 ¦ الصفحة: 2 التقوى أمان الخائفين فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه وتعالى؛ فإنها الأمن عند الخوف، والنجاة عند الهلاك، بها يشرف المرء وينبل، وبالنأي عنها يذل العبد ويسهل، وهي وصية الله للأولين والآخرين: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100] . أيها الناس: في ظل الأمن والأمان تحلو العبادة، ويصير النوم سباتاً، والطعام هنيئاً، والشراب مريئاً. الأمن والأمان هما عماد كل جهد تنموي، وهدف مرتقب لكل المجتمعات على اختلاف مشاربها؛ بل هو مطلب الشعوب كافة بلا استثناء، ويشتد الأمر خاصة في المجتمعات المسلمة، التي إذا آمنت أمنت، وإذا أمنت نمت، فانبثق عنها أمن وإيمان ونماء، إذ لا أمن بلا إيمان، ولا نماء بلا ضمانات واقعية ضد ما يُعكِّر الصفو في أجواء الحياة اليومية. إطراء الحياة الآمنة، هو ديدن كافة المنابر، لما للأمن من وقع في حس الناس، من حيث تعلقه بحرصهم على أنفسهم، فضلاً عن كونه هبة الله لعباده، ونعمةً يُغبط عليها كل من وهِبها، ولا غرو في ذلك! فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها} . الجزء: 32 ¦ الصفحة: 3 الانحلال الأمني وآثاره بضعف الأمن وانحلاله تظهر آثار خبث الشيطان وألاعيبه هو وجنده من الجن والإنس، وإقعادهم بكل صراط يوعد بالأغرار من البشر، ويستخفهم فيطيعونه، فيبين حذقه وإغواءه، محققاً توعده بقوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16-17] . إن المزايدة على الأمن والأمان في مجتمعات المسلمين عامة، لهو مدعاةً للسخرية والفوضى، المفرزين للممارسات الشاذة، والإخلال المرفوض بداهة، والمهدد لسفينة الأمان الماخرة، كلُّ ذلك غير مستساغ شرعاً ولا عقلاً، ولا قبول له تحت أي مبرر كان، بل كل مزايدة في اختلال الأمن والأمان إنما هو من نسيج الأعداء المتربصين بنا، وإن استعملوا في نفاذ اختلاله اللهازم من أبناء أمتنا وأغرارهم، من أجل سلب أمن الأمة المسلمة ومقدراتها بكل ما تعنيه الكلمة. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 4 زعزعة الأمن وخطرها إن المرء المسلم في فسحةٍ من دينه، عن أن يَزُجَّ بنفسه في مهاوي الرذيلة، ومحال الريب. إن مزعزع الأمن ومخلخله إنما هو بادي الرأي يزعزع أمن نفسه ووالديه وبقية أسرته قبل أن يُزعزع أمن غيره من الناس، كل هذا يبدو واضحاً جلياً في مثل كأس خمر، أو قتل نفس، أو جرعة مخدر، أو هتك عرض، أو إحلال فساد بين الخلق، بمثل ذلك ينسلخ مواقع هذه الأمور عن إنسانيته وإسلاميته، ويتقمص شخصية الإجرام، والفتك، والفاحشة، والإضلال بالمسلمين؛ فيشل الحياة، ويهدم صرح الأمة، ويوقع مجتمعه وبني ملته في وهدة الذل والدمار، فيخل بالأمن، ويروِّع المجتمع، ويُبدِّد أمنهم شذر مذر. إنه متى امتد شذوذ المرء ليشمل الآخرين، ويمس من أهله ومجتمعه؛ فإنه -لا محالة- يعرض نفسه لحتفه، بالغاً ما بلغ من العنفوان والشجاعة، وإلا فلو فكر مزعزع الأمن ملياً في مصير والده ووالدته، حينما تأخذهما الحسرات كل مأخذ، وهما اللذان ربَّياه صغيراً، يتساءلان في دهشة وذهول: أمِنَ المعقول أن يكون من ولدناه تحت ناظرنا معول هدم لأمن المجتمع وصرحه؟! أما يفكر مزعزع الأمن في زوجه وأولاده الذين يُخشى عليهم الضياع من بعده، والأسى من فقده؟! ألا يشعر بأن زوجه أرملة ولو كان حياً؟! أوما يشعر بأن أولاده أيتام ولو كان له عرق ينبض؟! {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9] . ألا يُفكِّر مُزعزع الأمن كيف يحل عليه الضعف محل القوة، والهم من نفسه محل الفرح، والكدر مكان الصفاء؟! حيث لم يعد يؤنسه جليس، ولا يريحه حديث، فهو قلق متوجس، كثير الإلتفات، فكيف يصل إلى منشوده ومبتغاه بعد أن يسأم الحياة بفعله الشاذ؟! والذي سيجعله قابعاً في غياهب السجون بسبب جرمه، فضلاً عما يُخالج أنفاسه وأحاسيسه؛ من ارتقاب عقوبة كامنة عند كل طرقة باب، لا سيما إن كان في هذه العقوبة حتفه، وتغييبه من هذه الحياة. ولا غرو في ذلك! فإن في قتل مجرم واحد حياة هنيئة لأمة بأكملها: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179] وقديماً قيل: القتل أنفى للقتل. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 5 دور العقوبات في استتباب الأمن أيها المسلمون: من أجل استتباب الأمن في المجتمعات، جاءت الشريعة الغراء بالعقوبات الصارمة، وحفظت للأمة في قضاياها ما يتعلق بالحق العام والحق الخاص، بل إن من المُسَلَّم في الشريعة قطع أبواب التهاون في تطبيقها أياً كان هذا التهاون؛ سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها، أو في الاستحياء من الوقوع في وصمة نقد المجتمعات المتحضرة. فحفظاً للأمن والأمان غضب النبي صلى الله عليه وسلم على من شَفِعَ في حدِّ من حدود الله بعدما ما بلغ السلطان، وأكَّد على ذلك بقوله: {وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها} وما ذاك -أيها الناس- إلا من باب سد الذريعة المُفضية إلى التهاون بالحدود والتعزيرات، أو التقليل من شأنها. وإنه حين يدب في الأمة داء التسلل الأمني، فإن أفرادها بذلك يهيلون التراب على تراث المسلمين، ويقطعون شرايين الحياة عن الأجيال الحاضرة والآمال المرتقبة، وهم يخدمون بمثل هذا -عن وعي أو عن غباء- الغارة الاستعمارية على ديار المسلمين، من خلال أعمال، تزيد السقم علة، والطين بلة، فيُطاح بالمسلمين، وتوصد أبوابهم أمام الحياة الهانئة الآمنة. ومثل هذا ظاهر جلي في طرح الدعوات الصارخة لما يُسمى بمبادئ حقوق الإنسان، والتي تجعل من فتح الحريات وعتق الرغبات رفضاً باتاً للفطر السليمة، وسبباً مباشراً تدمر به الأخلاق المستقيمة، ومن ثمَّ يزعمون أن من خالف ذلك فهو ضد الإنسان والإنسانية، وضد الحقوق الشخصية، والرغبات الفردية، وهي في الحقيقة ليست من الإنسانية في شيء، ولا هي من بابتها، فلا تمت لها بخيط رقيق، ولا حبل متين، بل إنما يُنمَّق حول ذلك ويزوق مر العاقبة وإن حلا ظاهره، وصعب المرتقى، وإن سهل ترويجه، ودميم الطرح مهما بدت فينا دماثته. لقد سفَّهت دعوات حقوق الإنسان أحكام الشريعة؛ فوصفت إقامة الحدود بالسفه والحطة والغلظة، دعا أهلها إلى حفظ حقوق الإنسان فقتلوه من حيث أرادوا حفظ حقه، وأخرجوه من القيود الشرعية حرصاً عليه، فإذا بهم في نهاية المطاف يدركون أنهم إنما كانوا يُنادون بحفظ حقوق الإنسان المجرم، فإلى الله المشتكى. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 6 حقيقة الأمن وصورته أيها المسلمون: القاعدة المقررة تقول: "إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، ولأجل أن نعرف حقيقة الأمن وصورته فلا بد أن تكون هذه المعرفة متصفة بالشمولية، وألا تكون ضيقة العطن، مستهجنة الطرح، من خلال قصر بعض الأفهام على حقيقة الأمن من ناحية حماية المجتمع من الجرائم فحسب، وأن يقصر مفهوم حمايته على جناب الشُّرط والدوريات الأمنية في المجتمعات بعامة، كلا! فالحديث عن الأمن ليس مقصوراً على هذا التصور البسيط، إذ الحقيقة أشد من ذلك، والخطب أعظم، بل إن المواطن نفسه -رجلاً كان أو امرأة- ينبغي أن يكون رجل أمن؛ ورجل الأمن ما هو إلا مواطن صرف، فإذا استحضرنا هذا التصور بما فيه الكفاية وجب علينا بعد ذلك أن نعلم شمولية مفهوم الأمن، وأنه ينطلق بادئ الأمر في عقيدة المجتمع وارتباطه الوثيق بربه، والبعد عن كل ما من شأنه أن يوقع أفراده في الخوف بدل الأمن، والزعزعة بدل الاستقرار. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 7 الواجبات الأمنية فأول الواجبات الأمنية: البعد عن الشرك بالله؛ في ربوبيته، أو ألوهيته، أو حكمه، أو الكفر بدينه، أو تنحية شرعة عن واقع الحياة، أو مزاحمة شرع غير شرعة معه، بالغة ما بلغت المبررات المغلوطة: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] . إن الأمن بهذه الصورة هو المطلب الأول، وهو الذي تتحقق به الصلة بالله جلَّ وعلا، والتي بسببها يعم الأمن أرجاء المجتمعات، ويتحقق وعد الله لها بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور:55] فكان الجواب التالي لذلك: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] . والشرك -هنا- غير مقصور على مجرد عبادة الأصنام كما يتصوره البعض، فيخرجون معنى هذه الآية عن صور شتَّى في هذه الأزمنة، فكلمة (شيئاً) نكرة في سياق النهي؛ فتعم جميع صور الشرك مهما قلت، ألا تسمعون قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله: أن الفتنة هنا هي الشرك. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 8 واجبنا تجاه الأمن ثم إن مما ينبغي علينا تجاه مفهوم الأمن ألا نُنحيه عن مراكز القوى في مجتمعاتنا، أو نتجاهل أثر هذه المراكز في تحقيق معنى الأمن بصورته الأساس، فهناك ما يُسمى بالأمن الغذائي، وما يُسمى بالأمن الصحي الوقائي، وهناك ما يتعلق بالضوابط الأمنية في مجالات التكافل الاجتماعي، وتهيئة فرص العمل والإنتاج، والقضاء على البطالة المثمرة للخلل والفوضى، إضافة إلى النواحي الأمنية المنبثقة من دراسة الظواهر الأسرية، وما يعتريها من ثقوب واهتزاز في بنيتها التحتية؛ لأن الأمن بين الجنسين -وبالأخص بين الزوجين- هو سبب ولا شك من أسباب أمن العشيرة، وأمن العشيرة أمن للأمة المؤلفة من العشائر المؤلفة من الأزواج، فهذا الأمر المترابط هو الذي يتكون منه مزاج الأمة الأمنية. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 9 الأمن الفكري وأهميته كما يجب علينا ألا نغفل عما لا يقل أهمية عما مضى، بل إنه في هذه العصور يُعدَّ هاجساً أمنياً لكل مجتمع، ألا وهو: الأمن الفكري الأمن الفكري الذي يحمي عقول المجتمعات ويحفظها من الوقوع في الفوضى، وللعق من الشهوات بنهم، أو الولوغ في أُتون الانسلاخ الأخلاقي الممزق للحياء الفطري والشرعي. الأمن الفكري -يا عباد الله- ينبغي أن يُتوَّج بحفظ عنصرين عظيمين، ألا وهما: عنصر الفكر التعليمي، وعنصر الأمن الإعلامي، إذ يجب على الأمة -من خلال هذين العنصرين- ألا تقع في مزالق الانحدار والتغريب والتي هي بدورها تطمس هوية المسلم، وتفقده توازنه الأمني، والاعتزاز بتمسكه بدينه، إذ إن الأمن على العقول لا يقل أهمية عن أمن الأرواح والأموال، فكما أن للبيوت لصوصاً ومختلسين، وللأموال كذلك، فإن للعقول لصوصاً ومختلسين، بل إن لصوص العقول أشد خطراً وأنكى جرحاً من سائر اللصوص، فحماية التعليم بين المسلمين من أن يتسلل لواذاً عن هويته، وحماية التعليم في إيجاد الآلية الفعالة في توفير سُبل العلم النافع الداعي إلى العمل الصالح، والبعد عن التبعية المقيتة، أو التقليل من شأن العلوم النافعة، والتي لها مساس أساسي في حياة الأمم من الحيثية الشرعية الدينية التي يعرف بها المرء ربه، وواجبه المفروض عليه، أو التهوين من شأن علوم الدين، أو استثقالها على النفوس؛ لما من شأن ذلك كله أن تضعف المجتمعات بسببه، أو تندرس معالم الأمن الفكري فيه، إذ بان عصر التحكم المعرفي، والاتصالات العلمية والثقافية التي غلبت على أدوار الأسر والبيئات التي تنشد الصلاح العام. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 10 الفكر الإعلامي ودوره في استقرار الأمن أما الفكر الإعلامي -عباد الله- فهو مقبض رحى المجتمعات المعاصرة، وأقنومها الأساس، به يُبصَّر الناس وبه يغرَّبون، به تخدم قضايا المسلمين وتنصر، وبه تطمس حقائقها وتهدر. بالفكر الإعلامي تعرف المجتمعات الجادة من المجتمعات المستهترة المجتمعات المثلى من المجتعات الناكبة، فما يكون في الفكر الإعلامي من اعتدال وكمال يكون كمالاً في بيئته الأمن الإعلامي واعتدالها، وقرة عين لمجموع الأمة بأكملها، وما يطرأ عليه من فساد واعتلال فإنه يكون مرضاً للأمة يُوردها موارد الهلكة والتيه. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 11 شمولية النظرة الأمنية وحاصل الأمر -يا عباد الله- أنه ينبغي علينا جميعاً أن ننظر إلى الحقيقة الأمنية من أوسع أبوابها، وأقرب الطرق الموصلة إليها، بل لا نبعد النجعة إن قلنا: ينبغي على المسلمين -جميعاً- ألا يغفلوا جانب أسلمة الجانب الفكري، فالإسلام هو دين السلام: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] . ولله ما أعظم قول النبي صلى الله عليه وسلم لعظيم الروم: {أدعوك بداعية الإسلام: أسلم تسلم، أسلم تسلم} . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، فإن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 12 الوسائل الموصلة إلى الراحة الأمنية الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يُحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون! ثم اعلموا أن من أهم الوسائل الموصلة إلى الراحة الأمنية من كافة جوانبها دون كلفة أو تجنيد وإعداد، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لله ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإن ذلك عماد الدين، الذي فُضِّلت به أمة الإسلام على سائر الأمم، والذي يُسدُّ من خلاله خوخات كثيرة من مداخل الشر على العباد. بالنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتكاتف الجهود، ويلم الشعث، ويرأب الصدع، وتتقى أسباب الهلاك، وتدفع البلايا عن البشر، وبفقد ذلك أو تزعزعه من نفوس الناس -يعني: بداية حلول الفوضى وانتشار اللامبالاة المولدة للأمن العكسي، وهو الأمن من مكر الله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] . وبالأمر والنهي يصلح المجتمع، ويقوم الفرض الكفائي الذي يسقط التبعة والإثم عن بقية المجتمع، وإلا تحقق فينا قول الباري جلَّ شأنه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] . ولم يقل: وأهلها صالحون، فإن مجرد الصلاح ليس كفيلاً في النجاة من العقوبة الإلهية الرادعة، إن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بين المسلمين، إنما هم -في الحقيقة- يقومون بمهام الرسل في أقوامهم وذويهم، فبقدر الاستجابة لنصحهم تكون الحجة والنجاة، والعكس بالعكس: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59] . وإن انعدام النصح بين المسلمين سمة من سمات اليهود، ومعرة من معراتهم الخالدة، فقد كانت مواقفهم في الصيد يوم السبت عن طريق الحيلة مشهورة، حتى أعلن الفسقة منهم بصيده، فنهضت فرقة منهم ونهت عن ذلك وجاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة أخرى لم تعص ولم تنه، بل قالوا للناهين: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} [الأعراف:16] فلمّا لم يستجب العاصون أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنص الله على نجاة الناهين بقوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:16] وسكت عن الساكتين. روى ابن جرير بسنده عن عكرمة، قال: [[دخلت على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمصحف في حجره وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا بن عباس! جعلني الله فداك؟ فقال: هؤلاء الورقات، وإذا هو في سورة الأعراف، فقال: ويلك! تعرف القرية التي كانت حاضرة البحر، فقلت: تلك (أيلة) ، فقال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم، نرى فلا ننكر، فقلت: أما تسمع الله يقول: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} [الأعراف:16] فسري عنه، وكساني حلة]] . إذاً: ينبغي لأفراد الناس عموماً وأهل العلم بخاصة أن يقوموا بواجب النصح لمجتمعاتهم وأسرهم ومنتدياتهم على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، حكمة وموعظة حسنة، ومجادلة بالتي هي أحسن: [[وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن]] . ثم إنه لا يمنع من التمادي في الوعظ والنصح والإصرار عليه عدم قبول الحق منه؛ لأنه فرض فرضه الله علينا جميعاً قُبِلَ أو لم يُقْبَل، فإنَّ هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله، وبه تكون المعذرة إلى الله، ويكون الخروج من التبعية وسوء المغبة، والله الهادي إلى سواء السبيل. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمَّر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مُطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرَّج هم المهمومين من المسلمين، ونفَّس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم! اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام! ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 13 شهر الطمأنينة ومحاسبة النفس إن الله سبحانه وتعالى جعل فرصاً في أوقات لعباده المؤمنين، يتسابقون فيها إلى الخيرات، ويكثرون من العبادات، ويجأرون إلى الله بالذكر والتضرع والدعوات، ومن هذه الفرص الثمينة، والمواسم القيمة شهر رمضان المبارك، شهر القرآن والخير والبركة والصدقة والدعاء. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 1 أهمية العبادة في شهر رمضان الحمد لله الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو بكل شيء عليم، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، أفضل من صلى وصام، وخير من حج لله وقام، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه، إذ بها تشرف النفس، ويثقل الميزان، ويعلو القدر، ويعظم الجاه، ويحصل القرب من الباري جل شأنه، فما خاب من اكتنفها، ولا أفلح من جفاها، ولا جرم عباد الله، فإن العاقبة للتقوى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100] . أيها الناس: إن المتطلع في واقع كثيرٍ من الناس، وسط أجواء المتغيرات المتكاثرات، والركام الهائل من المصائب والبلايا، والنوازل والرزايا، ليلحظ بوضوح أن كثيراً من النفوس المسلمة تواقة إلى تحصيل ما يثبت قلوبها، وإلى النهل مما تطفئ به ظمأها، وتسقي به زرعها، وتجلو به صدأها، فهي أحوج ما تكون إلى احتضان ضيفٍ كريم يحمل في جنباته مادة النماء، فهي مشرئبة لحلوله، يقطعها التلهف إلى أن تطرح همومها وكدها وكدحها عند أول عتبة من أعتابه، بعد أن أنهكت قواها حلقات أحداثٍ مترادفة بعضها يموج في بعض، حتى غلت مراجلها، واشتد لهب أتونها، فما برحت تأكل الأخضر واليابس، تفجع القلوب، وتعكر الصفو، وتصطفق وسط زوابعها العقول والأفهام، فلأجل هذا كله كان الناس بعامة أحوج ما يكونون إلى حلول شهر الصيام والقيام، شهر الراحة النفسية، والسعود الروحي، شهر الركوع والسجود، شهر ضياء المساجد، شهر الذكر والمحامد، شهر الطمأنينة ومحاسبة النفس، وإيقاظ الضمير، والتخلص من النزعات الذاتية والملذات الآنية، في شهوات البطون والفروج، والعقول والأفئدة، والتي شرع الصيام؛ لأجل تضييق مجاريها في النفوس، وكونه فرصة كل تائب، وعبرة كل آيب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] . الجزء: 33 ¦ الصفحة: 2 رمضان شهر القرآن أيها المسلمون! شهر رمضان المبارك هو شهر القرآن؛ القرآن الذي لا تنطفئ مصابيحه، والسراج الذي لا يخبو توقده، والمنهاج الذي لا يضل ناهجه، والعز الذي لا يهزم أنصاره. القرآن -عباد الله- هو بمثابة الروح للجسد، والنور للهداية، فمن لم يقرأ القرآن ولم يعمل به فما هو بحي، وإن تكلم، أو عمل، أو غدا أو راح، بل هو ميت الأحياء، ومن لم يعمل به ضل وما اهتدى، وإن طار في السماء، أو غاص في الماء: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] ، إن الإنسان بلا قرآن كالحياة بلا ماءٍ ولا هواء، بل إن الإفلاس متحققٌ في حسه ونفسه؛ ذلك أن القرآن هو الدواء والشفاء: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44] . إن مما لاشك فيه -أيها المسلمون- أن صلة الكثيرين بكتاب ربهم يكتنفها شيءٌ من الهجران والعقوق، سواء في تلاوته، أو في العمل به، بل قد لا نبعد النجعة لو قلنا: إن علل الأمم السابقة قد تسللت إلى أمة الإسلام لواذاً وهي لا تشعر، ألا تقرءون يا رعاكم الله! قول الباري جل وعلا: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] ، يقول المفسرون: أي لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة وترتيلاً، بحيث لا يجاوز حناجرهم وتراقيهم، كل ذلك بسبب الغياب القلبي، والعجز الروحي عن تدبر القرآن، بل إن البعض على قلوب أقفالها، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، أفلا يتدبرون القرآن إذاً؟ إن من أسباب عدم التدبر: هو البعد عن اكتشاف سنن الله في الأنفس والآفاق، وحسن تسخيرها، والتحرر غير المبعض، من تقديس الأفهام المغلوطة، والتأويلات المآربية المخلوطة، والتي انحدرت إلى كثيرٍ من أوساط الناس عبر لوثات علل وأفهام، يغذيها شعورٌ طاغٍ من حب الدنيا وكراهية الموت، وما عند الله خير وأبقى للذين هم لربهم يرهبون. روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن زياد بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه قال: {ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال: وذلك عند ذهاب العلم، قلنا يا رسول الله: كيف يذهب العلم، ونحن قرأنا القرآن، ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم؟ فقال: ثكلتك أمك يـ ابن لبيد! إن كنت لأراك من أفقه الرجال في المدينة، أوليس اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء؟} . إن المرء المسلم لتأخذ الدهشة بلبه كل مأخذ، حين يرى مواقف الكثير من المسلمين مع كتاب ربهم، وقد أحاط بهم الظلام، وادلهمت عليهم الخطوب من كل حدبٍ وصوب، ثم هم يتخبطون خبط عشواء، أفلست النظم، وتدهورت القوميات، وهشت العولميات، فيالله العجب! كيف يكون النور بين أيدينا ثم نحن نلحق بركاب الأمم من غيرنا؟! تتهاوى بنا الريح في كل اتجاه لا نلوي على شيء، لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وستين عاماً، ولقد كنا نسمع كثيراً أن كبر السن وصروف الحياة المتقلبة قد تشيب منها مفارق الإنسان، فما ظنكم بمن تمر به هذه كلها واحدة تلو الأخرى، ثم هو ينسب المشيب الذي فيه إلى آياتٍ من كتاب الله كان يرددها، ومعانٍ يتأولها ويتدبرها، روى الترمذي والحاكم: أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! ما شيبك؟ قال: شيبتني هود، والواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت} . إن رمضان بهذه الإطلالة المباركة ليعد فرصة كبرى، ومنحة عظمى للمرء المسلم، في أن يطهر نفسه بالنهار لكي يعدها لتلقي هدايات القرآن في قيام الليل قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] وناشئة الليل: هي ساعاته وأوقاته، فهي أجمع على التلاوة من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس، ولغط الأصوات، فكأن الصيام في النهار تخلية، والقيام بالقرآن في الليل تحلية. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 3 القيام والدعاء في رمضان عباد الله! شهر رمضان المبارك شهر رحب، وميدان فسيح، يوطد المرء نفسه من خلاله على أن يحيي ليله، وعلى ألا يلجأ في حوائجه إلا إلى قاضيها سبحانه، إذ لا ملجأ من الله إلا إليه، وهو يقضي ولا يقضى عليه، فثلث الليل الآخر هو وقت التنزل الإلهي على ما يليق بجلاله وعظمته إلى سماء الدنيا إذ يقول: {هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟} ترى هل فكر كل واحدٍ منا في استثمار هذا الوقت العظيم الذي هو من آكد مظان إجابة الدعاء؟! ترى ما هي أحوال الناس مع ثلث الليل الآخر؟! بل كم من شاكٍ لنفسه قد غاب عنه هذا الوقت المبارك؟! كم من مكروبٍ غلبته عينه عن حاجته ومقتضاه؟! كم من مكلوم لم يفقه دواءه وسر شفائه؟! كم وكم وكم؟ ألا إن كثيراً من النفوس في سباتٍ عميق، إنها لا تكسل في أن تجوب الأرض شمالها وجنوبها، وشرقها وغربها، باحثة عن ملجأ للشكوى، أو فرصة سانحة لعرض الهموم والغموم على من تقصده من بني البشر، غافلةً غير آبهةٍ عن الاتجاه إلى كاشف الغم، وفارج الهم، ومنفس الكرب قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:88] ، {أَمَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] ، {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:13-14] . روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام يوم القيامة ويفتح لها أبواب السماء ويقول: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين} . غير أن ثمة أمراً مهماً عباد الله، وهو أن كثيراً ممن يرفعون أكف الضراعة بالدعاء إلى الباري جل شأنه، قد يستبطئون الإجابة، ولربما أصابهم شيءٌ من اليأس والقنوط قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] ، بيد أن هناك خللاً، ما هو السر الكامل في منع إجابة الدعاء: كأن يكون المرء ممن يستعجلون الدعاء ويتحسسون الإجابة على تململٍ ومضض. وهذا مانع أساس من الإجابة لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {إن الله يستجيب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت ربي فلم يستجب لي} رواه البخاري ومسلم. ولربما لم يستجب الدعاء لما فيه من الإثم، أو قطيعة للرحم، أو أن يكون الدعاء المنبثق من شفاه الداعين غير مقترنٍ بالقلب اقتران الماء والهواء للروح؛ لأن اللسان ترجمان القلب وبريده، والقلب خزانة مستحفظة الخواطر والأسرار ومسارب النفس الكامنة، فالدعاء باللسان والقلب غافلٌ لاهٍ إنما هو قليل الجدوى أو عديمها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله لا يقبل الدعاء من قلبٍ لاه} رواه الحاكم والترمذي وحسنه، فالقلب إذاً لا يخلو من الالتفات إلى شهوات الدنيا الصارفة، ومن المعلوم بداهة أن المتلفت لا يصل سريعاً. فالله الله! أيها المسلمون في الدعاء! فهو العبادة ومخها، وهو السهام النافذة لذوي العجز وقلة الحيلة، ولا يحقرن أحدكم الحوائج مهما قلت أو كثرت فإن الله أكثر، وقد قال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] . وبعد يا رعاكم الله! نقول لذوي المصائب والفاقات، والهموم والمقلقات، خذوا هذا المثل عبرة وسلواناً، يتجلى من خلالهما أثر الدعاء في حياة المرء، وأنه لا غنى له عنه ما دام فيه عرق ينبض، إذ هو الدواء إذا استفحل الداء، وهو البرد إذا اشتد الحر. دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يومٍ فإذا هو برجلٍ من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: {يا أبا أمامة! مالي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: همومٌ لزمتني وديون يا رسول الله! قال: أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك، وقضى عنك دينك؟ قال: بلى. يا رسول الله! قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبت الدين وقهر الرجال، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله همي، وقضى عني ديني} رواه أبو داود. وعند أحمد والترمذي أن علياً رضي الله عنه جاءه مكاتبٌ يشكو إليه ديناً عليه فقال علي رضي الله عنه: {ألا أعلمك كلماتٍ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثل جبلٍ ديناً أداه الله عنك، قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك} قال الترمذي: حديث حسن. فاللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن، ونعوذ بك من العجز والكسل، ونعوذ بك من الجبن والبخل، ونعوذ بك اللهم من غلبت الدين وقهر الرجال. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 4 الصدقة في رمضان الحمد لله ولي الصالحين: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3] ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فلقد أضلكم -أيها المسلمون- شهر كريم يحمل في طياته تهيئة النفس على تحمل الجوع والعطش، ترى الطعام بين ناظريك تشتهيه نفسك وتصل إليه يدك، ولكنك لا تستطيع أن تأكله، ويشعل الظمأ جوفك والماء من حولك، فلا تقدر على أن تنهل منه، ويأخذ النعاس بلبك، ويداعب النوم جفنيك، ويأتي رمضان ليوقظك لصلاتك وسحورك، إنها ولا شك حلقات الصبر والمصابرة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: {الصوم نصف الصبر} رواه الترمذي. عباد الله: شهر رمضان شهر الجود والإنفاق، شهر النفوس السخية والأكف الندية، شهر يسعد فيه المنكوبون ويرتاح فيه المتعبون، فليكن للمسلم فيه السهم الراجح، والقدح المعلى، فلا يترددن في كفكفت دموع المعوزين واليتامى والأرامل من أهل بلده ومجتمعه، ولا يشحنَّ عن سد مسغبتهم وتجفيف فاقتهم، وحذاري من الشح والبخل فإنهما معرة مكشوفة السوءة! لا تخفى على الناس فتوقها، ناهيكم عن كون النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ ربه منهما، بل إن الجود والكرم كانا لزيما رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته، في حين أنه يتضاعف في رمضان حتى يكون كالريح المرسلة، وفي الصحيحين: {أنه صلى الله عليه وسلم ما سئل شيئاً فقال: لا} . إضافة إلا أن نتاج هذا التحميض غير قاصرٍ على سعادة ذوي المسكنة وحدهم، بل يرتد أمانة حتى إلى الباذلين أنفسهم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، من ثدييهما إلى تراقيهما؛ فأما المنفق فلا ينفق إلا صبغت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها ولا تتسع} رواه البخاري ومسلم، والمعنى هنا ظاهر عباد الله! فإن الجواد السخي إذا هم بالصدقة، انشرح لها صدره، وطابت بها نفسه، وتاقت إلى المثوبة فتوسعت في الإنفاق، ولا يضيره الحديد، بل هو يتسع معه حيثما اتسع، ولا غرو في ذلك فإن الجواهر ولو كانت تحت التراب فهي جواهر، والأسد في قفص الحديد أسد ولا شك، بيد أن البخيل إذا حدث نفسه بالصدقة شحت نفسه، وضاق صدره، وانقبضت يداه، وأحس كأنما يعطي من عمره وفؤاده، حتى يعيش في نطاقٍ ضيق، لا يرى فيه إلا نفسه، غير مكترثٍ بالمساكين {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} [المعارج:37] ، مثل هذا ولا شك قد وضع الأسر والأغلال في يده، وجعلها مغلولة إلى عنقه قال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً} [الإسراء:100] ، ولكن ليس شيءٌ أشد على الشيطان وأبطل لكيده وأدحر لوسواسه من الصدقة الطيبة قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] . اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا ذا الجلال والإكرام! اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدمٍ ولا بلاء ولا غرق، اللهم لتحيي به البلاد، ولتسقي به العباد، ولتجعله بلاغاً للحاضر والباد. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ؛ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 5 العزوبة والعنوسة إن دين الإسلام دين يشمل جميع جوانب الحياة، ويناسب كل زمان ومكان، وهو دين يسعى إلى أن يجعل العباد سعداء في الدنيا والآخرة، فهو يعالج مشاكل الناس، ومن هذه المشاكل مشكلة العزوبة والعنوسة التي انتشرت في كل البلدان بسبب غلاء المهور، وقلة الدين مما أدى إلى تغيب العفاف وانتشار أسباب الفساد وغيرها من المظاهر. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 1 الإسلام منهج حياة الحمد لله الذي لا إله إلا هو، المتوحد بالجلال لكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً، المتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً، المتعالي بعظمته ومجده، الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، سبحانه لا يحاط بشيء من علمه إلا بما شاء: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] لا تواري منه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء الطيبين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. أما بعد: فإن الوصية المبذولة لي ولكم -عباد الله- هي تقوى الله سبحانه في سركم وعلنكم، في الغيب والشهادة، في الغضب وفي الرضا: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] الذين تدفعهم تقواهم إلى تقديم مرضاة ربهم على رضاء خلقه وعبيده: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] . أيها الناس: لقد أشرق الإسلام بتعاليمه وآدابه السمحة؛ فأقر كل شيء وجد في الأخلاق الأصيلة، وغسلها مما علق بها إبان قرون من الأوضار الدخيلة والعلوق المرذل، لقد بعث الباري جل وعلا مصطفاه وخليله صلوات الله وسلامه عليه؛ لحفظ مصالح الخلق ومقاصدهم، وسد كل ذريعة تخدش دينهم أو تهز كيانهم، ولأجل هذا الأس شرع الله الجهاد لحفظ الدين، والقصاص لحفظ النفس، وحد المسكر لحفظ العقل، وحد الزنا لحفظ العرض، وحد السرقة لحفظ المال، وعقد الزوجية لحفظ النسب. إن الله سبحانه خلق الناس طراً من أبوين اثنين؛ ليجعل من هذه الرحم ملتقى تتشابك عنده صلات بني آدم وتستوثق عراهم: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل:72] لقد فطر الله الناس على حب غريزتين كل منهما مكملة للأخرى، أولاهما: غريزة لبقاء ذاته، وأخراهما: غريزة لبقاء نوعه. فبالأولى يسوقه لذع الجوع وفورة العقل إلى تحصيل الطعام والشراب، دفعاً بالري والشبع لما قد يكون قشة قصمه. وبالثانية: تسوقه نار الشهوة المتأججة إلى تحصين فرجه ليحفظ بالحلال نسله وعرضه، وكما يأكل المرء باسم الله كذلك يباشر زوجه باسم الله، وبانضمام النية الصالحة إلى هذه الأعمال المعتادة وهي شهوات فإنها تكون عبادات متقبلة. إن الإنسان الذكر نصف الوحدة، ما يبلغ يوماً تمامه إلا إذا انضم إليه نصف آخر، يلقى به ربه على أحسن حال من الطهر والعفاف، وفي كثرة نسله من هذا الصنف الآخر مصلحة خاصة وعامة، يساعدان على تكثير سواد الأمة واتساع بيضتها، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة} رواه أبو داود والنسائي وفي المثل المضروب: إنما العزة للكاثر. ولا تزال هذه حقيقة قائمة لم يطرأ عليها ما ينقضها. أيها المسلمون: صح عند البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها حديث مفاده أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: نحو هو نكاح الناس الشرعي، ونحو يسمى نكاح الاستبضاع: وهو أن يرسل الرجل امرأته إلى من يطأها؛ لأجل أن يؤثر ذلك في نجابة الولد، والنحو الثالث: أن يجتمع الرهط على امرأة واحدة كل منهم يطأها فإذا حملت جمعتهم ونسبت الولد لمن تشاء منهم فلا يستطيع أن يمتنع، والنحو الرابع: نكاح البغايا اللاتي ينصبن الرايات على أبوابهن فإذا حملت ووضعت دعوا لها القافة وهم الذين يشبهون الناس ثم يلحقون الولد بالذي يرونه فلا يستطيع أن يمتنع. فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 2 مشكلة الزواج إن في البلاد المسلمة اليوم مشكلات عويصة، من أعظمها وأعمقها أثراً في حياة الأمة المسلمة؛ مشكلة الزواج، والتي تتلخص في كلمات: هي أن في المسلمين آلافاً مؤلفة من البنات في سن الزواج لا يجدن الخاطب، وألوفاً أخرى مشاكلةً من الشباب لا يجدون البنات، أو لا يريدون الزواج، أو يصعب عليهم تحصيلهن على وجه السهولة واليسر. وهذه المشكلة الظاهرة إن لم يتنبه إليها عقلاء المسلمين ممثلين في القيادات والعلماء، والدعاة والتربويون، وأصحاب الكلمة السيالة والمسموعة، ويتفتحوا لها طرق العلاج بالحلال، وهي ميسورة لراغب، والعقاقير دانية لمن أراد قطفها، لا ينقصها إلا يد تمتد إليها فتأخذها لتجرعها المريض، ولكن أين تلك اليد؟! غير أني ما قصدت اليد العضباء أو الشلاء، وحينها لن يجد الشباب والشابات للوصول إلى حاجاتهم الغريزية إلا سلوك الطرق الملتوية في نحو ما ذكرت عائشة رضي الله عنها أو يزيد؛ لأن الفساد الخلقي سبب في قلة الزواج، وقلة الزواج شوكة من طلع الفساد الخلقي. إن الوقفة من ضرار الشهوة مع حياة العزوبة للرجل والعنوسة للمرأة مشكلة جد خطيرة، فهي إذا استفحلت نغصت العيش، ولم ينفع معها ملك ولا مال، وبدت سنونها كالعلقم يتجرع العازب مرها ويقاسي ضرها، ومن طلب إشباع غريزته من طرق غير ما أباح الله كان كمن يطلب وسط القبر من العظام والرميم الغادة الحسناء، أو بعبارة أخرى خضراء الدمن، وقد يكون مثل هذا التفكير في الطلب شبه واقع مشاهد في دنيا الناس، لأن المضطر إلى الرحل لن يدع ركوب الأسنة، ولكن الذي لا ينبغي أن يكون واقعاً مشاهداً أن يحس الفتى والفتاة بهذا كله، ثم يضطرهما واقع المجتمع بأسلوبه على مختلف المحاور إلى البقاء على العزوبة والصرف عن الزواج، والولوغ في حمأة الشهوة واسترقاق الجسد، من حيث يشعر المجتمع أو لا يشعر، ولن يخرج المجتمع بأي وجه كان عن مغبة ما قيل: إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم وهذه هي المشكلة وهي مكمن الداء. ولربما كانت بعض المجتمعات تقول للشاب والشابة من خلال ممارساتها الطليقة بلسان مقالها تارة وبلسان حالها تارات أخرى: اختر إحدى ثلاث -كلها شر- ولكن إياك إياك أن تفكر في رابعها الذي هو وحده الخير ألا هو الزواج، وهذه الثلاث يرعاكم الله: الأولى: إما أن ينطوي الشاب والشابة على نفسيهما، وعلى أوهام الشهوة والتفكير فيها وتغذيتها بما يرى من حبائل الشيطان حين يترك الحبل على الغارب، متمثلة له في غير ما سبيل، فيراها في السوق تارة على لسان حال امرأة متبرجة قد كشفت عن وجهها أو عينيها فأبرزت الحسن وسترت القبيح، وبثت مفاتنها لينزلق بها كل متلفت يترقب، فلا يلبث أن ينفجر من شرارة تخرج من عين امرأة تنسف به عقله ودينه. أو في الأقطار الساحلية تارة أخرى على لسان حال أجساد عارية قد بدت سوءتها وكأن البيوت قد عريت عن مياه تغسل بها الأجساد. أو في المكتبات ودور النشر الثقافي إذ زعموا على لسان جرائد مصورة ودوريات رمزاً للقحاة، أسلم ما فيها أنها غير سليمة. أو في المدرسة والأزقة على لسان أصحابه الفساق المستهترين الذين أضحوا فريسة لكل لاق، وكذا لسان المدرسين والمعلمين الذين سلبت من نفوسهم أمانة الكلمة وحمل التربية والإرشاد، وألسنة الحال كثيرة كثيرة لا تعد، حتى تؤدي بهم الحال إلى الانهيار بالخلق والدين، ولسان حالهم يقول: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء الثانية: وإما أن يلجأ الفتى والفتاة إلى طرق سرية خفية؛ لإبراز قلة الشهوة وملأ الأرجاء بمثيراتها مما يستفزها لو هدأت، ويجوعها لو شبعت، والتي حرمها جمهور أهل العلم عملاً بقوله جل وعلا: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:31] . الثالثة: وإما الاغتراف من حمأة اللذة المحرمة بلا مكيال، والولوغ في مستنقعها وسلوك سبل الضلال؛ لتبذل فيها الصحة والشباب في لذة عارضة ومتعة عابرة، ثم هو لا يرتوي بل كلما واصل واحدة زاده الوصال نهماً، كشارب الماء المالح لا يزداد شرباً إلا ازداد عطشاً، وقديماً قيل في مثل هذا: وداوني بالتي كانت هي الداء. بمثل هذا وأمثاله -أيها المسلمون- ينهار بناء الأخلاق، ويبور سوق الزواج، وينقطع نسل الأمة في هذا المنعطف الخطير، حتى يكون الرجل الواحد قيماً على أربعين امرأة. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 3 أسباب مشكلة الزواج لقد توصل جملة من الباحثين في مشاكل الزواج إلى أسباب كثيرة هي في الحقيقة سد منيع في طريق من يريدون الزواج، وهم وإن اختلفوا في عد تلك الأسباب ما بين مقل منها ومكثر؛ إلا إن أهمها لا يخرج عن أسباب ثلاثة: الجزء: 34 ¦ الصفحة: 4 المغالاة في المهور السبب الأول: تلكم العادات الشنيعة التي تخرب بيوتات البنات والخطاب، وليس فيها نفع لأحد ألبتة، وإنما هو التفاخر والتكاثر وفيضان كئوس ممتلئة في التبذير والترف، أو في الطمع والجشع، حينما لا يزوج الولي موليته إلا بيعاً من خلال عرضها بالمال الوافر، أو بإكراهها على الزواج من غير الكفء إذا كان مليئاً يفري المال فرياً؛ مما يسبب تراجع بعض الفتيات والإحساس بالغمط وبطر الحق من قبل الآباء الجشعين؛ فتكثر العنوسة وبالتالي تصبح الفتاة عرضة للفتن ما ظهر منها وما بطن، فيقعون فيما حذر الله منه بقوله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:33] . جاء في الصحيح أن جارية قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا له كارهة. فقال لها: إن شئت أمضيت أمر أبيك وإن شئت فسختيه. فقالت: أمضي أمر أبي ولكن فعلت ذلك ليعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء} تعني: ليس لهم إكراه بناتهم بالتزويج ممن يكرهن. إنه عندما يصل المجتمع المسلم إلى درجة الرشد السوي فإنه لا يستطيع أن ينظر بعين الرضا إلى ممارسات في التنافس غير البريء في غلاء المهور وعش الآفات، ومن أبا إلا ركوب رأسه فلا جرم أن الله ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {إني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على كم تزوجتها؟ قال: على أربع أواق -أي: مائة وستين درهماً- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على أربع أواق؟! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك الحديث} رواه مسلم في صحيحه. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 5 قلة الدين وانتشار الفساد بين الشباب وسبب ثان من أسباب تلك الظاهرة: يتمثل في قلة الدين، وتغيب العفاف، وانتشار أسباب الفساد بين أروقة الشباب والشابات، من خلال التوسع في الأقمار المرئية المشينة والتي تبث كل قبيح من القول أو رديء من الفعل، ولا يعدم مروجوها من أن يجدوا رجع صداها في المريدين والمريدات والمراهقين والمراهقات غير مصدقين ما يرونه من فوضى وإباحية، لا سيما وقد اعتادوا في بلادهم جو المحاصرة وقطع الشهوات إلى حد ما، فيرون من خلالها إقرار الاختلاط بين الجنسين، والرضا بالخدين والخدينة، وبث المشاهد الدالة على كيفية فساد الخائنة من زوجها بالتضليل عليه، أو بإشاعة طرق الإجهاض والتخلص من السيوبة؛ حتى تكشف سوءة من سوءات الفكر، وعورة من عورات الضمائر الكامنة، يحرص العقلاء من بني آدم عادة على سترها كما يسترون عورات البدن. ثم لا تسألوا بعد ذلك عن قيام النفوس الضعيفة في المشاهدين والمشاهدات بالدعوة إلى الإفساد، وفصل النفوس عن القيم والأخلاق بزعم الحرية التي تهدف إلى إعلاء الشهوة، وعبادة الجسد، وفتح الطريق للمرء؛ ليكشف عن كل نزواته وأهوائه، وليكون تحرره كاملاً عن كل ما يتصل بالمبادئ والمثل والقيم التي قررها الإسلام؛ ليعيش الفتيان والفتيات خصوصاً على أعراض الناس يسترقون النظرة، ويستلذون اللحظة، ويستمرئون التسول الغريزي والسطو المقنن على الأخلاق والدين: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9] . بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول ما سمعتم، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، واستغفروا الله إنه كان غفاراً. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 6 الأفكار الخاطئة عن الزواج الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه. أما بعد: اتقوا الله معاشر المسلمين! ثم اعلموا أن ثمة سبب ثالث من أسباب تلك الظاهرة. السبب الثالث: وهو ما يردده بعض أرباب الأفكار اللقيطة، من الذين يبثون سمومهم عبر زوايا متعددة، يقررون من خلالها أن التبكير في الزواج عمل غير صالح، وضرب من ضروب التغرير بالمراهقين، وأنه لا ينبغي أن يغامر شاب ما بعملية الزواج قبل التزود الكافي من التجارب، وفي ذلك يقول قائلهم: لا قبل لي بهذا المعنى الذي يسمونه الزواج، فما هو إلا بيت ثقله على شيئين: على الأرض وعلى نفسي، وأطفال يلزمونني عمل الأيدي الكثيرة من حيث لا أملك إلا يدين اثنتين، وأتحمل منهم رهقاً شديداً، ومن ثم سيصبحون عالة على المجتمع، ومن ذا الذي تعرض عليه الحياة سلامها وأشواقها في مثل رسالة غرام ثم يدع ذلك كله ويتزوجها. فكأنه بذلك يسألها غضبها وخصامها في نحو قضية من قضايا المحاكم، كل ورقة فيها تلد ورقة. ولا غرو -أيها المسلمون- أن يكون لهذا الصدى آذان صاغية من فتيات وفتيان، يكونون من خلالها قناعات واهية كبيت العنكبوت أو هي أوهى، حتى يقف بهم الأمر إلى أن يكون الواحد منهم خواراً جباناً لا يستطيع أن يحمل أثقالاً مع أثقاله، ويستوطن العجز والخمول؛ فلا يكون إلا قاعد الهمة رخو العزيمة، وكل شاب أو شابة يردد مثل هذه الترهات فهو حادثة ترتدف الحوادث وتستلزمها، ولا يأتي السوء إلا بمثله أو بأسوأ منه، فيشهد العزاب والعوانس على نفوسهم أنهم مبلوون بالعافية، مستعبدون بالحرية، مجانين بالعقل المزعوم، مغلوبون بالقوة، أشقياء بسعادتهم الموهومة، وما علم هؤلاء وأمثالهم أنه بالنكاح يلتئم الشمل، ويلم الشعث، وتسكن النفس، وتتم به نعمة الله على الولود ويحصل الولد، ومن رغب عن النكاح من دون ما سبب فقد ترهب، وعنده ينقطع نسل من بني آدم، يقول الله جل وعلا: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] . قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: [[أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح؛ ينجز لكم ما وعدكم به من الغنى]] . اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم لتحيي به البلاد وتسقي به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 7 الرحمة والتراحم بين المسلمين انعدام الرحمة نتيجة طبيعية للابتعاد عن الله، وكذلك كان أهل الجاهلية، حتى أرسل الله رسوله، ذا الخلق العظيم؛ فكانت حياته تحفر في ذاكرة التاريخ أروع الدروس في الأخلاق، وكان نصيب خلق الرحمة من ذلك عظيماً. فكان رحمة للصغير والضعيف والأرملة واليتيم، بل رحمة للحيوان فيا للروعة!! وكذلك كان الأنبياء، ومن اقتفى أثرهم من السلف الصالح. والله المستعان. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 1 انعدام الرحمة عند أهل الجاهلية الحمد لله الذي أعلى كرامة بني الإنسان، وجعلهم خلفاءه في الأرض، كتب على نفسه الرحمة، وأزال عن الناس بدينه الغمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أبدع الكون بقدرته، وملك الخلق بربوبيته، خلت الطرق كلها إلا طريقه، وفسدت المشارب طراً إلا رحيقه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، نشر الرحمة والتراحم بين الناس، فما أمر حتى أقنع، وما بنى حتى جمع، فكان سيد الرحماء وإمام الحكماء، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله الأخيار البررة وصحابته والتابعين لهم بإحسان. أما بعد: الجزء: 35 ¦ الصفحة: 2 الأخلاق معيار لبقاء الأمم وزوالها فيا عباد الله! قرة عين المؤمن وطمأنينة قلبه تبدو واضحة جلية في تقواه لربه، فإن تقوى الله عز وجل هي أساس كل صلاح، وسلوان كل كفاح: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] . أيها المسلمون! الأخلاق المثلى عماد الأمم وقوام الشعوب، والأمم باقية ما بقيت أخلاقها، هذه حقيقة مسلمة لا ينازع فيها إلا مريضٌ لم ينقه، أو مغرضٌ لا يفقه، كما أن من المسلم أيضاً أن تدهور الأخلاق ناجمٌ عن نقص الوازع الديني في النفوس، الوازع الديني الزاجر والمنجي، الوازع الديني الذي يمتلك عنان النفس ويسيطر عليها فيكبح جماحها، ويهتن دمعها، ويغسلها بالنقاخ الذي يبرد الفؤاد. وإن من أعظم الأخلاق المندوبة والسجايا المطلوبة، خلق الرحمة والتراحم بين المسلمين، ولا غرو؛ إذ هو مفتاح القبول لدى القلوب، ولا جرم أن فقدان الرحمة بين الناس فقدان للحياة الهانئة، وإحلالٌ للجاهلية الجهلاء، والأثرة العمياء. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 3 قصة الأخدود مثال لأهل القلوب القاسية لقد نالت الجاهلية من الرحمة أقسى منال، حتى كأنما وأدتها في مهدها، ولقد كشف الله في كتابه عن فئام من الناس والأمم ممن فقدوا الرحمة، وكأنما قدت قلوبهم من صخرٍ صلب، تمثلت هذه الغلظة والقسوة في أصحاب الأخدود الذين أضرموا النيران، وخدوا الأخاديد في أفواه السكك، وجنبات الطريق، وكان ذلك حينما آمن الناس بما جاء به الغلام المؤمن، فكان من لم يرجع عن دينه يقحم في النار، فتنهش جسده نهشاً حتى لا يرى إلا فحمة أو رماداً: {ولقد جاءت امرأة ومعها صبيٌ لها، فتقاعست أن تقع في النار، فقال لها الغلام: يا أماه! اصبري، فإنك على الحق} رواه مسلم في صحيحه. {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:4-8] . الجزء: 35 ¦ الصفحة: 4 فرعون مثال آخر لمن فقد الرحمة لقد كشف الله في كتابه عمن فقد الرحمة وانقض عليها؛ فلم يرع حق أمٍ ولا رضيع، ولم يدع صغيراً ولا كبيراً في عافية: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4] {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:11-14] . قال أبو رافع: أوتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحىً عظيمة حتى ماتت: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8] {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} [القصص:41] لقد كشف الله في كتابه العزيز عن ممارساتٍ شاذة ممن فقدوا الرحمة أو أماتوها، وعن مكائد خبيثة، تقود يهود بني إسرائيل الذين هم أكثر البشر قسوة وفظاعة، وقلوبهم كالحجارة الصماء؛ بل هي أشد قسوةٌ منها قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] فكشف الله خبثهم، وبين أنهم قتلةٌ مردة، من قديم الزمان فقال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72] وبما فعله يهود يحكم الله عليهم باللعنة والحرمان من الرحمة: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} [المائدة:13] . الجزء: 35 ¦ الصفحة: 5 صور من رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم عباد الله: إن الله جل وعلا حينما بعث رسله؛ جعل تمكين الأخلاق الفاضلة في النفوس أصلاً من أصول رسالاتهم وأساساً من أسس دعواتهم، وخاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه هو من قال فيه ربه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقال فيه أيضاً: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وقال فيه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وقال صلوات الله وسلامه عليه: {إنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق} . الجزء: 35 ¦ الصفحة: 6 حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الرحمة لقد تجلت رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم في جوانب كثيرة من حياته؛ حتى لقد أصبحت سمة بارزة لا يحول دونها ريبة أو قتر في كل شأن من شئونه، فهو عطوف رحيم، أرسله إلى البشرية رحمان رحيم، وأشرب لحمه وبل عروقه إملاج حليمة السعدية له، فكان له من اسمها الحلم والسعادة، أخرج مسلم في صحيحه: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول الله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36] وتلا قول عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أمتي أمتي! وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره صلى الله عليه وسلم بما قال، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك} الله أكبر! ما أعظم المصطفى صلى الله عليه وسلم! وما أرحمه بأمته! بأبي هو وأمي! لقد تجلت رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم بأمته؛ حتى بلغت تعليم الجاهل، وتوجيه الغافل، ومناغاة العيال والصبيان: {أقسمت بنت من بناته صلى الله عليه وسلم ليأتينها لأجل ابن لها قبض، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تتقعقع، ففاضت عيناه، قال سعد: يا رسول الله! ما هذا؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء} رواه البخاري. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 7 رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالناس أجمعين إن رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم لم تقف عند هذا الحد فحسب، بل لقد حوت رحمته طبقات المجتمع كلها، أرامل وأيتاماً، نساءً ومساكين، صغاراً وكباراً، ولم يقتصر ذلك على فعله، بل عداه بقوله: {الراحمون يرحمهم الرحمن؛ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء} رواه أبو داود والترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: {من لا يرحم الناس لا يرحمه الله} رواه مسلم، وقال في التحذير من الإشقاق على الناس ونزع الرحمة عنهم والتنغيص عليهم: {اللهم من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر المسلمين شيئاًً، فرفق بهم، فارفق به} رواه مسلم. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 8 رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان لقد تجلت رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخلق؛ فتعدت نطاق البشرية إلى نطاق الحيوانات العجماوات: {فلقد دخل صلى الله عليه وسلم حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن الجمل وذرفت عيناه، فأتاه صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكن، فقال: من رب هذا الجمل؟ فجاءه فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله! فقال له: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟! فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتؤذيه} رواه أبو داود. فيا لله العجب! حتى البهائم ألهمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة، وأنه نبي المرحمة، فأين أنتم -عباد الله- من قصة هذا الرجل؟! أين أنتم من إيذاء تلك البهائم؟! ناهيك عن إيذاء البشر، والإستخفاف بهم، أين أنت يا راعي الغنم؟! أين أنت يا سائق الإبل؟! أين أنت يا راعي الأسرة؟! أين أنت يا راعي المدرسة، وأنت يا راعي الوظيفة؟! اتقوا الله جميعاً في من استرعاكم. ولئن كان المصطفى صلى الله عليه وسلم قد مات، فلا تصل البهيمة بالشكوى إليه أو البشر بطلب النصرة منه؛ فإن ربه حي لا يموت، يراكم ويسمعكم؛ ولكن يؤخركم إلى أجل لا ريب فيه: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] . أيها المسلمون: بتجلي خلق الرحمة في ذات المصطفى صلى الله عليه وسلم عالج محو الجاهلية، وقطع ظلامها بأنوار الرحمة والعطف، فكفكف من نزوات الجاهلية وقسوة قلوبها، وأقام أركان المجتمع على دعائم الرحمة والشفقة وحسن التخلق، وذلك من محاسن الشريعة، وإن كمال العلم في الرحمة، ولين الكلام مفتاح القلوب، يستطيع المسلم من خلاله أن يعالج أمراض النفوس، وهو مطمئن القلب رخي البال، وإلا انفض الناس من حوله، فعاشوا جهالاً، وماتوا جهالاً، وذلك هو الشقاء وهو سببه وعلته. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 9 حال الأخلاق بين السلف والخلف عباد الله: في طوايا الظلام تدرس الأخلاق كما يدرس وجه الثوب، بل هما ما كان في الصالحين المخلصين، لقد طغى طوفان المادة الجافة، فأغرق جسوم الرحمة إلا من ملص منها، ولقد بدت نواعي الحياة عند البعض: إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، وإن لم تجهل يُجهل عليك، وإن لم تتغد بزيد تعشى بك، بل لقد صور العالم لدى البعض أنه دنياً فسيحة، يحدها من الشرق الرغيف، ومن الغرب الدينار، ومن الشمال الجاه، ومن الجنوب الشيطان. لقد رجعت بعض النفوس منداة الجسم بعرق القسوة والغلظة، وإذا تندت الجسوم وجب نزع المبلول، وإلا فهي العلة ناقلة النفوس، ما أشده مضضاً ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم! إن أمرها ليذهب فرطاً، وإن الغفلة قد بلغت من الناس مبلغ من يظن أنه حي في الحياة؛ فلا تجد إلا قلباً أيراً، وصدراً وحراً، ولسانا ولقاً ينصنص؛ إلا من عصم ربي، وقليل ماهم! الجزء: 35 ¦ الصفحة: 10 مقارنات بين السلف والخلف لقد مضى عهد السلف الصالح، فسخفت الحياة من بعدهم، وصاروا ككتب قد انطوت على حقائقها، وختمت كما وضعت، لا يستطيع أحد أن يخرج للناس من حقيقتهم نصف حقيقة، ولا شبه حقيقة، ولا تزويراً على حقيقة، إنما هي لا غير، الحقائق كلها قد اكتنفوها، ولقد أثبتوا بتجلي الرحمة في قلوبهم؛ بأنه ليس في نفوسهم وطباعهم إلا الإخلاص وإن كان حرماناً، وإلا المروءة وإن كانت مشقة، وإلا محبة الصادقين وإن كانت ألماً، وإلا الجد وإن كان عناءً، وإلا القناعة وإن كانت فقراً. إن من النجاة: الفكر في البلاء والتفكر في الأمور، وإذا نبهت العزيمة تغلغل أثرها في البدن كله؛ فيكون علاجاً يحدث به النشاط، ويرهف منه الطبع، وتلجم عليه النفس، وإن هذا لهو الدواء إذا استشرى الداء، وهو النصر حين تخذل القوة. إن النفس ينبغي أن ترغب بعد كل كمال فيما هو أكمل منه، وبعد الحسن فيما هو الأحسن، وأن تستحث من كل هجعة راحة بفجر نصر جديد، ولو أدرك المسلم أن أول حق للمسلمين عليه أن يحمل في نفسه معنى الناس لا معنى نفسه؛ لعلم أن من فاق الناس بنفسه الكبيرة دون تميز كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة، إن الناس أحرار متى حكمتهم معاني الرحمة والشفقة والتواد والتعاطف تحت ظل الإسلام الوارف، قال صلوات الله وسلامه عليه: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} رواه مسلم. وبذلك كله يتصل ما بين العظيم والسوقة، وما بين الغني والفقير اتصال الرحمة في كل شيء، أما ربط الرحمة والتراحم بالدينار والدرهم في مقابل استبعاد كل تلك المعاني الحيوية التي ينبغي أن تسود المجتمع، فهو المائج في الحياة بعضها ببعض، وهو الذي يقلب الموازين، ويجعل الصحيح والفاسد في ملك الإنسان لا في عمله، وتكون المنفعة الذاتية هي الآمر الناهي، فيرى كل إنسان كأنما ديناره ودرهمه أكبر قيمة من دينار الآخر ودرهمه، فإذا أعطى نقص فغش، وإذا استقصى زاد فسرق، ويتعامل الناس في التعاطف والتراحم على أساس من المعدة لا من الروح. وتكون يقظة التاجر في غفلة الشاري، فإذا عظمت الأمة الدينار والدرهم؛ فإنما تمزمز النفاق والطمع والقسوة، وإنما هيبة الإسلام في الرحمة في النفس لا بالمال، وفي بذل الحياة لا في المعك فيها، وفي أخلاق الروح لا في أخلاق اليد، وفي وضع حدود الفضائل بين الناس لا في وضع حدود الدراهم، وفي جعل أول الثروة الرحمة والشفقة لا الذهب والفضة، هذا هو الإسلام الذي غلب الأمم؛ لأنه قبل ذلك غلب المطيطاء والقسوة والجزع. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 11 أبو بكر وعمر وخلق الرحمة والسلف الصالح خير من ترجم معاني الرحمة إبان عيشهم، فهاهو الصديق أبو الصديقة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] الذي جبل نفسه على الرحمة والتراحم منذ نعومة أظفاره، وما سمي العتيق إلا لكثرة ما يعتق من العبيد رحمة بهم وإنقاذاً لهم من سطوة غلاظ الأكباد وشرار الخلق. كان رضي الله عنه يتعهد امرأة عمياء في المدينة يقضي لها حاجاتها سراً إبان خلافته للمسلمين، كما أنه كان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا، فسمعها فقال: [[بلى لأحلبنها لكم، وإني أرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه]] ، ولقد تجلت الرحمة في أعلى صورها في الخليفة الفاروق رضي الله عنه الذي بلغ من القسوة والغلظة في جاهليته أعظمها، فلما ذاق طعم الإيمان انقلبت نفسه ظهراً على عقب، وكأنه لم يكن قط قاسي النفس غليظ القلب، فلما ولي الخلافة خطب الناس قائلاً لهم: [[اعلموا أن تلك الشدة قد أُضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد؛ فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يعتدي عليه حتى أضع خده وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف]] فرحم الله عمر الفاروق ورضي عنه وعن الصحابة أجمعين. فاتقوا الله -معاشر المسلمين- واعموا أن المرء المسلم مطالب بالرحمة والتراحم بما استطاع من تحلم وتصبر، وعليه أن يترفق أولاً في أهله، وثانياً في رعيته وجيرانه ومواطنيه وموظفيه، فلا يكون عوناً لزوجته على النشوز، ولا لأبنائه على العقوق، ولا لجيرانه على الإساءة، ولا لرعيته على التمرد، ولا للناس كافة على هجره ومباغضته، واعملوا بمثل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط} رواه أبو داود، وحذار من الوقوع فيما حذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا} رواه أبو داود. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 12 صيام يوم عاشوراء وتأصيلاً لقواعدٍ عظيمة من قواعد الإسلام، وهي مخالفة اليهود والنصارى والمشركين، وقطعاً لمادة التشبه بهم من كل طريق عزم المصطفى صلى الله عليه وسلم في آخر عمره على ألا يصومه مفرداً مخالفةً لأهل الكتاب، فقال: {فإذا كان العام المقبل إن شاء الله؛ صمنا اليوم التاسع؛ فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم} رواه مسلم. فيستحب لكم -أيها المسلمون- صيام هذا اليوم، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكل خير في اتباع ماجاء به، وكل شر في ابتداع ما جاء به. هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقال صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الصحيح: {من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً} . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الرحمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأفعال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ما سألناك من الخير فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا من الخيرات فبلغنا. عباد الله! اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 13 الحلم والغضب إن الله سبحانه وتعالى وصف نبيه صلى الله عليه وسلم بأعلى وصف، ألا وهو الخلق الحسن وكتمان الغيظ، وعدم الفظاظة والقساوة، لأن هذه كلها أوصاف للحليم الذي يصلح أن يكون داعية في المجتمع الإسلامي، والذي من صفاته الغضب لا يصلح أن يكون قدوة أو داعية إلى خلق ودين. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 1 حلم النبي صلى الله عليه وسلم وظلم أعدائه له الحمد لله الحليم العظيم، رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، البر الرحيم، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله رحمةً للعالمين، ومنِّة للإنس والجن، براً حريصاً بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار. أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوه واعبدوه، وراقبوه في خلواتكم وجلواتكم {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] . أيها الناس! ما عُرِفَ على هذه البسيطة -ولن يعرف- مظلوم من البشر تواطأ الناس على ظلمه، وما فتئوا يصفونه بأحدِّ ما وضعوا من ألفاظ مسفهة، في أعقاب نبوات أعقب الشيطان ثمارها، على بقاءٍ في لبه، ونور في دعوته، وصدق في حديثه، وثقة في أمانته مثل رسول الله -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، فلقد نال الشتائم والسباب من كافة طبقات المجتمع، فقد هجاه شعراء، وسَخِرَ منه سادة، وآذاه عتارسة، ونال منه سحرة. ولقد شاء الله -سبحانه- أن يأتي اليوم الموعود الذي يفتح الله فيه على نبيه صلى الله عليه وسلم بـ مكة، حتى إذا ما دخل بالبيت وطاف جلس بالمسجد، والناس من حوله، والعيون شاخصة إليه، والقوم مشرئبون إلى معرفة صنيعه بأعدائه شبابهم وشيوخهم، فقال كلمته المشهورة: {يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم! اذهبوا فأنتم الطلقاء} فيسلم حينها العظماء ويتوبون، كأمثال: هند بنت عتبة، وعكرمة بن أبي جهل، ويئوب الشعراء، ويعتذرون إليه؛ كـ ابن الزبعري وكعب بن زهير، فلا ينال الجميع منه إلا العفو والتغاضي. الله أكبر! ما أجمل العفو عند المقدرة! والله أكبر! ما أجمل السعة عند الضيق والعزة عند الذلة! ومن أحق بذلك إن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق الله إذ يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] . أيها المسلمون! بهذا الموقف وبغيره من المواقف العظيمة عالج رسول الله صلى الله عليه وسلم محو الجاهلية، وقطع ظلامها، بأنواع المعرفة والإرشاد، ومنع الفساد فيها بحلمه وعفوه {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] . لقد كفكف الرسول صلى الله عليه وسلم من نزوات الجاهلية، وأقام أركان المجتمع على الفضل وحسن التخلق، ونبذ الجهل والغضب، وكثير من النصائح التي أسداها للناس كافة كانت تتجه إلى هذا الهدف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر} رواه البخاري ومسلم. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 2 تعريف الحلم ومكانة صاحبه الحلم -أيها المسلمون-: اسم يقع على إلزام النفس من الخروج عند الورود عليها ضد ما تحب إلى ما نُهي عنه، وهو في موطن الغضب سيادة على النفس، وضبط لها، وكبح لجماحها، كما أنه لباس العلم، فمن فقده فقد تعرَّى وبدت للناس سوءته، وهل يجيء الباطل بخير؟ ألا إن الغضب قرين الشر، وإن الحلم راحة القلوب وسعادة الجماعات. إن التفاوت بين الناس بعيد الشقة مع أنهم من أبوين اثنين، فإن اختلافهم في أوضاعهم وخلالهم مثار امتحان بالغ الجدوى، ولذا قال جلَّ شأنه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20] ففي الناس الحليم الأريب المتأني، الذي إذا استنفرته الشدائد أبقى على وقعها الأليم، محتفظاً برجاحة فكره؛ وسجاحة خلقه، فلا يحمى من قليل يسمعه فيوقعه في كثيرٍ يكرهه، ولا يفضح نفسه ليشفي غيضه، فإن جهل عليه لم ينفعه إلا حلمه، ويا للعظمة والعلو! إن فعل كفعل قيس بن عاصم! وقد أتوه برجل قد قتل ابنه، فجاءوا به مكتوفاً، فقال: زعرتم أخي أطلقوه، واحملوا إلى أم ولدي ديته فإنها ليست من قومنا. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 3 الغضب وآثاره على الأسر والمجتمعات وإن في الناس الطائش الأهوج، كما أن فيهم الغر المأفون الذي تسخفه التوافه فيستحمق على عجل، ويكون لسانه وفعله قبل قلبه وعقله، فلا يلزم نفسه ولا يتريث، بل يهذي بكلامه ويوكس ويشطف في أفعال يحتاج بعدها إلى اعتذار، وتلفيق، فيقع فيما نهى عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {ولا تتكلم بكلام تعتذر منه غداً} رواه أحمد وابن ماجة. إذ لا ينفعه الاعتذار حينئذٍ؛ لأنه إذا استثير ورأى لهب الغيظ برطم، وأفسد الأمور في غيبة وعيه، وغلبة عاطفته، فلم يدع لإصلاحها مكاناً، فإن نصح أهماك هوجاً، وإن ذكر أصماك غيظاً، وهذه هي علة الحمق الكامنة، ولقد رأينا الغضب يشتط بأصحابه إلى حد الجنون، عندما تقتحم عليهم نفوسهم، ويرون أنهم حقروا تحقيراً لا يعالجه إلا سفك الدم، ولو كان المسلم يعيش من وراء أسوار عالية من فضائل أَتراهُ يُحس بوخز الألم على هذا النوح الشديد؟! لا. وكلا! بل إن الإهانات تسقط على قاذفها قبل أن تصل إلى مرماها البعيد، ولا غرو! إذ لا تعود الجمرة إلا على موقدها الأول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {المستبان ما قالا، فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم} رواه مسلم. فلا ينبغي للمؤمن الكبير أن يضيق بهرف قطعان متناثرة، بل إن المصلح العظيم يفيض من أناته على ذوي النزق حتى يلجئهم إلى الخير إلجاء، فيطلق ألسنتهم تلهج بالثناء والذكر الحسن. إن من الناس من لا يسكت على الغضب، فهو شخص غضوب في ثورة دائمة، وتغيِّض يطبع على وجهه العبوس، إذا مسه أحدٌ بأذى ارتعش كالمحموم، وأنشأ يُرغي ويزبد ويلعن ويطعن، وكثيراً ما يذهب به غضبه مذاهب حمقى، فقد يسب الباب إذا استعصى عليه فتحه، وقد يلعن دابة جمحت به، أو يعري امرأته ويكسر ضلعها ويضيع أمرها، فيفرق شمله في نقصان ملح أو يبوسة خبز، ثم يطلقها عدد نجوم السماء وكان يكفيه من ذلك عطارد!! فيتهارشان تهارش الكلبين، ويتناقران تناقر الديكين، فلا يفترقان إلا عند الخدش والعقر والهجر، فيجني كل منهما على نفسه بالحرمان والعقوبة، والنتيجة الحاصلة هي يُتم الأولاد إبان حياة الأبوين. والإسلام بريء كل البراءة من هذه الخلال الكدرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، والفاحش، ولا البذيء} رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. ثم لا تسألوا بعد ذلك -أيها المسلمون- عن ندم الزوجين -ولات ساعة مندم- فيختلقون المعاذير، ويراجعون القضاة والمفتين، كل ذلك لمحو غلطة ارتكبها الغاضب دون تفكير أو روية، أو تدرج في التأديب، مما تسبب في هدم لبنة كان بإمكانه معالجتها لو ملك عقله، وأشهر حلمه، وكفَّ غضبه، وما ذنب الولد إذا خرج من بيته هلعاً مكفهراً وجهه، ضائقاً صدره، ينطلق يمنة ويسرة، يبحث عن سبب يُزيل به همه ويجلو غمه، ولربما استبشر به وبأمثاله وحوش الظلام، وذئاب المجتمع، فيسير وراء تخبطهم ويضيع بضياعهم عن طريق الكيوف القتَّالة من المسكرات والمخدرات. كلُّ ذلك نتيجة غضبة من أبيه أو أمه أعقبها سبٌ وشتم ولطم، وربما طرد ولعن، فيتبدد بذلك شمل الأسرة، وتقوض المجتمعات، فيكسب في كل يوم عدو، ويفقد صديق، ويُهدم بيت، فلا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 4 أنواع الحلم الجزء: 36 ¦ الصفحة: 5 الحلم المذموم عباد الله! اعلموا أن الحليم إما أن يكون عاجزاً جباناً ليس له شيء ولا عليه شيء، فهذا إن لم يغنم فإنه لا يأثم، وإن ادعى الحلم مع عدم الاقتدار على إنفاذ العقوبة فهذه حجة لا يلجأ إليها إلا اللئام من بني البشر، وإما أن يكون مُخادعاً مكَّاراً، ظاهره سمت المؤمنين، وباطنه حقد المجرمين، يتحلَّم ظاهراً ويعفو علناً، ولكنَّه يغضب باطناً وينتقم مسرفاً، فهذا حقود لدود ينقلب على المجتمع من سوء صنيعه سوساً كطبع السوس، لا يقع على شيء إلا نخره أو عابه، أو دوداً كطبع الدود لا يقع في شيء إلا أفسده وكدَّره. ومثل هذا لا يلبث أن يفضحه الله على رءوس الخلائق. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 6 الحلم المحمود وإما أن يكون حليماً مفطوراً على الخير مجبولاً عليه، وهذا كـ أشج عبد القيس، الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة، فقال: أشيء تخلقت به أم جُبلت عليه يا رسول الله؟ فقال: لا، بل جُبلت عليه، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خصلتين يحبهما الله ورسوله} رواه مسلم وغيره. وإما أن يكون ثائر النفس، أزعجه من ظلمه، فيصبر محتسباً ويصفح قادراً، ويأمره إيمانه بالعرف والعفو عن الجاهلين، وهذا هو المُثاب في الدنيا والآخرة، والمشكور عند الله ومن ثمَّ عند خلقه، وهو الموصوف بالشدة والقوة، كما في قول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: {ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} . رواه البخاري ومسلم. وهو المقصود -أيضاً- في قول النبي صلى الله عليه وسلم: {من كتم غيظاً وهو قادرٌ على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يُخيرِّه من الحور العين يزوجه منها ما شاء} رواه أحمد. أعاذنا الله وإياكم من الغضب ومن سوءه وآثاره، ورزقنا الحلم والتحلَّم إنه سميع قريب {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133-134] . بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 7 مراتب الغضب الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه. أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون! واعلموا أنه يجب علينا أن نعمل بتعاليم ديننا الحنيف، وأن نأخذ بإرشادات نبينا صلى الله عليه وسلم، كما يجب علينا أن نقصر أنفسنا عن الغضب، ولا نتسرع فيما يعود علينا بالحسرة والندامة -ولات ساعة مندم- والمرء المسلم مطالبٌ بكتمان غيظه، وإطفاء غضبه بما استطاع من تحلم وتصبر، واستعاذة بالله من النفس والهوى والشيطان. واسمعوا -رعاكم الله- وصية من وصايا المصطفى صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فيما رواه البخاري في صحيحه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {أوصني! قال: لا تغضب، فردد مراراً! قال: لا تغضب} والمراد من الحديث هو: ألاَّ يعمل المرء بمقتضى الغضب إذا حصل له، بل يُجاهد نفسه على ترك تنفيذه؛ فإن الغضب إذا ملك ابن آدم كان هو الآمر الناهي له، ولهذا المعنى قال الله عز وجل: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} [الأعراف:154] فإذا ما جاهد المرء نفسه اندفع عنه شر الغضب، وذهب عنه عاجلاً فكأنه حينئذ لم يغضب، وإلى مثل هذا وقعت الإشارة في القرآن بقول الله عز وجل {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37] ، وقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] ويختلف الغضب في دنيا الناس إذ يتراوح صعوداً وهبوطاً باختلاف الأحوال والظروف، ولكنه من خلال الإطار الشرعي العام لا يخرج عن ثلاث مراتب: الجزء: 36 ¦ الصفحة: 8 مرتبة الاعتدال المرتبة الأولى: مرتبة الاعتدال؛ بأن يغضب ليدافع عن نفسه وعن دينه أو عرضه أو ماله، ولولا ذلك لفسدت الأرض بانتشار الفوضى وتقويض نظام المجتمع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قُتل دون نفسه فهو شهيد} رواه أحمد وابن حبان. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 9 مرتبة التفريط والنقص المرتبة الثانية: أن ينحطَّ الغضب عن الاعتدال بأن يضعف في الإنسان أو يفقد بالكلية، وهذه الحال مذمومة شرعاً، لا سيما إذا تعلقت بحرمات الله وشعائره، قالت عائشة رضي الله عنها: [[ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده، ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يُجاهد في سبيل الله، وما نيل منه قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى]] رواه مسلم. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 10 مرتبة الإفراط والغلو والمرتبة الثالثة: أن يطغى الغضب على العقل والدين، ولربما جرَّ صاحبه إلى ارتكاب جرائم كبيرة، وموبقات كثيرة، ولا يمكن التخلص من هذه العقبة إلا بفعل ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إذا غضب أحدكم فليسكت} رواه أحمد. واستب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فاحمرَّ وجه إحداهما غضباً، فقال صلوات الله وسلامه عليه: {إني لأعلم لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه ما يجد} رواه البخاري ومسلم. هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقال صلوات الله وسلامه عليه: {من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم! اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ما سألناك من خير فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا من الخيرات فبلغنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. عباد الله! اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 11 إقامة التوحيد ما جاء الإسلام إلا بهدم الوثنية، وقطع دابر الشرك والجاهلية، فدعا إلى توحيد الله جل وعلا توحيد ألوهية وربوبية وأسماء وصفات، وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بذلك الأمر خير قيام. والبعض اليوم يظن أنه في عصر العلم والتكنولوجيا لا يمكن أن تعبد الأصنام والأوثان، وهذا مخالف للواقع، حيث إن في بلاد الإسلام من يعبد الحجر، ومن يعبد القبور وأصحابها. فلا بد أن نقتفي أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في إقامة التوحيد ومحاربة الشرك، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 1 حال الأصنام في الجاهلية والإسلام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: الجزء: 37 ¦ الصفحة: 2 عمرو بن لحي وعبادة الأصنام يا أيها الناس! منذ غابر الأزمان، وقبل نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كان الناس على هذه البسيطة في جاهلية جهلاء، إبان فترة من الرسل قد انقطع الناس فيها عن المدد الروحي والنور الإلهي، فلأجل ذلك اعترتهم ظلمات العقائد والقوانين والأنفس؛ ظلماتٌ لا يجد فيها الحاذق بصيص نورٍ يهتدي به إلى هداية، أو يخلص به من ضلالة وينجو من غواية، بل هي ظلماتٌ بعضها فوق بعض، ظلماتٌ أودت بذويها إلى أن يتخبطوا في مهام الحياة ودروبها خبط العشراء، ظلماتٌ جعلت من عقول مشتمليها ودينهم أن يصنعوا معبوداتهم بأيديهم، فنحتوا ما يعبدون والله خلقهم وما يعملون، حتى عموا وصموا وضلوا وغووا، ثم انحط غيهم فعبدوا الأشجار والأحجار والستائر المنصوبة والتماثيل التي كانوا لها عاكفين. لقد أغراهم بذلك غيبة إنسانيتهم، وإفلاس عقولهم بعد طيشها، حتى انتحرت فطرتهم وبقوا هواءً في جثمان إنس، يقول حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما متحدثاً عن هذه الحقبة من الزمن: [[صارت الأوثان التي في قوم نوحٍ في العرب بعد، أما ودّ فكانت لكلَّبٍ بـ دومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيفٍ بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لـ همدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجالٍ صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت]] رواه البخاري. عباد الله: لقد كانت العرب قبل هذا الأمر على ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، فما فتئ الزمان يدور حتى قل العلم وهلك العلماء، لتحل الأصنام بين العرب من جديد، وتتبدل ملة إبراهيم عليه السلام وتتنسخ، وقد كان الذي تولى كبر هذه الشقوة والمعرة أبو خزاعة عمرو بن لحي، فهو الذي سيب السوائب، وعبّد الأصنام: {وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف يجر أمعاءه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب، وبدل دين إبراهيم عليه السلام} رواه مسلم في صحيحه، يقول ابن كثير رحمه الله: كان عمرو بن لحي أول من غير دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها. أيها المسلمون: إنما خلق الله الثقلين الجن والإنس ليعبد وحده في الأرض، وأرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بالشريعة الغراء محاطة بقواعد قررها الشارع الحكيم متمثلةً في ضرورات خمس، أجمعت الأنبياء والرسل قاطبةً على حفظها ورعايتها، وهي: الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل، فكل مفسدةٍ يخشى أن تؤتى من قبل ضرورة من هذه الضرورات فإنه يجب درؤها، ودفعها أولى من رفعها، وكان على المتسبب فيها من الإثم والوزر الذي يتجدد عليه انتشارها، ويتوالى تراكمه في صحيفة أعماله إبان حياته وبعد مماته، كمثل ما علا عمرو بن لحي حينما أدخل الأصنام وبدل دين إبراهيم، وعلى رأس هذه الضرورات الخمس ضرورة الدين والعقيدة وتوحيد الله. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 3 قضاء الإسلام على عبادة الأوثان لقد أضاء النبي صلى الله عليه وسلم الطريق وأوضح السبيل، وطهر الله به جزيرة العرب من رجس الوثنية، وهيمنة الأصنام والتماثيل، وكان كبير هذه الأصنام هبل وهو بأعلى مكة وحوله ثلاثمائة وستون صنماً كلها من الحجارة، فطعن فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة حين دخوله الكعبة يوم الفتح وهو يردد قول الله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] . يقول القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: فيها دليل على كسر نصب المشركين، وجميع الأوثان إذا غلب عليها. يقول ابن المنذر رحمه الله: وفي معنى الأصنام الصور المتخذة من الدر والخشب وشبهها. عباد الله: لقد حطم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصنام حول الكعبة وبعض الصحابة كان يردد: يا عزى! كفرانك لا غفرانك إني رأيت الله قد أهانك ويبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه إلى الأصنام التي كانت حول مكة، ونادى مناديه بـ مكة قائلاً: [[من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره]] فيبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى ليهدمها فهدمها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {هل رأيت شيئاً؟ قال: لا. قال: فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها، فرجع خالد وهو متغيظ فجرد سيفه، فخرجت إليه امرأة عجوز عريانة سوداء، ناشرة الرأس، فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها باثنتين، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: نعم تلك العزى وقد أيست أن تعبد في بلادكم أبداً} رواه النسائي. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى سواع وهو صنم لهذيل فاعترضه السادن فقال: لا تستطيع أن تقتله، فإنك ستمنع منه، فدنا منه رضي الله عنه فكسره فأسلم السادن بعد ذلك. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيد بن زيد إلى مناةٍ فهدمها، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم المسير إلى الطائف بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين ليهدمه فهدمه، وجعل يحشي النار في وجهه ويحرقه ويقول: يا ذا الكفين! لست من عبادكا ميلادنا أقدم من ميلادكا إني حششت النار في فؤادكا ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب إلى الفلس؛ وهو صنم لطيء، فهدمه هو ومن معه. وكما بعث جرير بن عبد الله البجلي في سرية لكسر صنم ذي الخلصة بـ اليمن. بهذا كله -عباد الله- يجدد رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة أبيه إبراهيم وإخوانه الأنبياء، فلقد قال إبراهيم سائلاً ربه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] وقال لقومه: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57] . ويجدد النبي صلى الله عليه وسلم فعل موسى مع السامري حين قال له: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} [طه:97] . أيها المسلمون: لقد كانت مواقف النبي صلى الله عليه وسلم من الأصنام والتماثيل بارزةً للعيان قولاً وفعلاً، بل إنه لم يقتصر كسره للأصنام على ما عبد من دون الله، أو على ما عظم كتعظيم الله فحسب، بل تعداه إلى التماثيل التي تتخذ في البيوت ونحوها، على هيئة الاقتناء والزينة ولو لم تعبد، فقد جاء عند أبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه على باب البيت تماثيل -الحديث وفيه:- أن جبريل أمره برءوس التماثيل أن تقطع فتصير كهيئة الشجر} . ومعلوم -عباد الله- أنه لا يقول عاقل ألبتة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اتخذ هذا التمثال للعبادة أو للتعظيم، وإنما كان لمجرد الاقتناء، كيف لا، وقد سأله الجزء: 37 ¦ الصفحة: 4 الصحابة وحمايتهم لجناب التوحيد عباد الله: بمثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل الأنبياء من قبله سار الصحابة الكرام وأئمة الدين. روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي رضي الله عنه: {ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً ألا سويته} والمقرر عند أهل العلم أن كلمة تمثال هنا نكرة في سياق النهي، فتعم كل تمثالٍ أيّن كان نوعه؛ سواء كان للعبادة أو لمجرد الاقتناء والزينة. وذكر ابن إسحاق في مغازيه عن أبي العالية قال: [[لما فتحنا تستر وجدنا في بيت الهرمزان سريراً عليه رجلٌ ميت عند رأسه مصحفٌ له، فأخذناه فحملناه إلى عمر رضي الله عنه إلى أن قال: فماذا صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقةً، فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه، فقال رجل: وما يرجون منه؟ قال: كان يقال: إن السماء إذا حبست عنهم برزوا سريره فيمطرون]] يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً على هذه القصة: ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم من تعمية قبره لئلا يفتتن به، ولم يبرزوه للدعاء عنده، أو التبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف. وقد ذكر الحافظ ابن حجر: أن ابن سعد روى بسندٍ صحيح: [[أن عمر رضي الله عنه بلغه أن قوماً يأتون شجرة بيعة الرضوان فيصلون عندها، فتوعدهم ثم أمر بقطعها فقطعت]] . هكذا كانت مواقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حماية جناب التوحيد، وسد الذرائع المفضية إلى الشرك بالله؛ لأن البدع إذا حدثت، وصارت صارفةً عن مقتضى القرآن والسنة، ولفقت لها شبه، وركب لها كلامٌ مؤلف، صارت تلك البدع في حكم الواقع من المسلمات التي لا يمكن درؤها إلا بعد نأي وشدائد، ويدل بذلك ما نقله الحافظ ابن حجر عن الفاكهي وغيره عن عبيد الله قال: أول ما حدثت الأصنام على عهد نوح، وكانت الأبناء تبر الآباء، فمات رجلٌ منهم فجزع ولده عليه، فجعل لا يصبر عنه، فاتخذ مثالاً على صورته، فكلما اشتاق له نظر إليه، ثم مات ففعل به كما فعل، ثم تتابعوا على ذلك، فمات الآباء فقال الأبناء: ما اتخذ هذه آبائنا إلا أنها كانت آلهتهم فعبدوها. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 5 عبادة الأوثان في عصرنا حاصلة وبعد -أيها المسلمون- فلقائل أن يقول مستفهماً: هل يعقل في أزمنة الحضارة المادية، والثقافات العولمية، ودائرة الأقلام السيالة، أن تتسرب لوثة عبادة الأصنام وتعظيمها إلى مجتمعاتها المعاصرة؟! ف الجواب نعم. ولا عجب من ذلك إذا تنسخ العلم، وضعف الدين في النفوس، ولا أدل على ذلك من وجود معبوداتٍ في هذا العصر منها ما هو على هيئة نصب، ومنها ما هو على هيئة حيوانٍ أعجم، وليس ذلك بخافٍ على كل ذي لبٍ ونظر، ثم إن الجاهليين الأولين كانت لهم عقول مثل عقولنا، وأجسادٌ كأجسادنا، ولهم لسانٌ فصيحٌ وسياداتٌ بين العرب، وجميعهم يقرون أن الخالق والرازق والمدبر هو الله وحده، ومع ذلك عبدوا الأصنام وعظموها، وإلا لما دعا إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام، ولتأكيد هذا القول -عباد الله- فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد خاف من دبيب هذه اللوثة على أمته، بل لقد بين أن هذه اللوثة ستطيح ببعض الناس في آخر الزمان، فقد روى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقوم الساعة حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان} . وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوسٍ على ذي الخلصة} وذو الخلصة؛ صنم معروف كسره جرير بن عبد الله البجلي لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فدل على أن الأمر سيعود لمثل ما كان. إذاً: هي الأيام يداولها الله بين الناس، فَمِنْ موحدٍ فيها ومِنْ مشرك، ومِنْ خائفٍ من مكر الله فيها ومِنْ آمن: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] وإلا فما سِّر تحذير النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أسس دولة التوحيد، ومحا الشرك في عصره، حيث يقول وهو يعالج سكرات الموت في مرضه الذي لم يقم منه: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} ثم خشي من تسلل هذا الداء بعد وفاته فقال: {اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد} رواه مالك. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم أن إبراهيم التيمي قال في قوله تعالى عن إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] قال: [[ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم عليه السلام]] . فلا يأمن الوقوع في لوثة الأصنام والتماثيل إلا من هو جاهلٌ بها وبما يُخلِّص منها من العلم بالله وبما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم من التوحيد الخالص والنهي عن الشرك به. يقول ابن القيم رحمه الله عن دور الشيطان في هذا الميدان: وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور بالبناء والعكوف عليها، ثم ينقلهم منه إلى دعائهم وعبادتهم، واتخاذهم أوثاناً تعلق عليهم القناديل والستور، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، فيغضب المشركون، وتشمئز قلوبهم كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] وسرى ذلك في نفوس كثيرٍ من الجهال والطغام، وكثيرٍ ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم. ثم لتعلموا -عباد الله- أن الصنم قد يطلق على الوثن كما قرر ذلك بعض أهل العلم، والوثن: هو كل ما عبد من دون الله على أي وجه كان، وقد نهى الله عن ذلك بقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] . وقد قصرت مفاهيم بعض الناس معنى عبادة غير الله على مجرد عبادة الحجر أو الصنم؛ وهذا من فرط جهلهم بحقيقة هذه المسألة، إذ ليس بلازمٍ أن يكون الشرك بالله محصوراً عند الصنم والركوع والسجود له، بل لقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفهم القاصر، وذلك: حينما سمع عدي بن حاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ قول الله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] قال عدي: {إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم} رواه أحمد والترمذي وحسنه. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونعوذ بك اللهم أن نشرك بك شيئاً ونحن نعلم، ونستغفرك مما لا نعلم إنك كنت غفاراً. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 6 درء المفاسد مقدم على جلب المصالح الحمد لله حمد من يشكر النعمة ويخشى النقمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، معلمنا الكتاب والحكمة، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء البررة. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن لله الدين الخالص، وأن على كل مسلمٍ ومسلمة تطهير النفوس من الدواخل والشواغل الصارفة عن أن يعبد الله وحده في الأرض، كما أن علينا جميعاً الامتثال لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتقديمهما على أنفسنا أو الوالدين والأقربين، وليحرص الناس جميعاً على تطهير مجتمعاتهم من رجس الأصنام والتماثيل قدر الطاقة -لاسيما مما يتكاثر انتشاره في البيوت من باب الزينة والاقتناء- لأن الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه تمثالٌ أو صورة، وقد كان الفاروق رضي الله عنه إذا دعي إلى وليمة سأل الداعي إن كان في بيته شيءٌ من التماثيل أو الصور، فإن قال: لا. أجاب دعوته. ألا فإن درء المفاسد وسد الذرائع المفضية إلى الشرع لأمر جلل ينبغي ألا يغفل عنه المسلمون بعامة، فما قطع عمر لشجرة الرضوان إلا من هذا الباب، ثم إن اتخاذ التماثيل والأصنام أو تعظيمها، وتعظيم الأضرحة لهو أمرٌ حادثٌ في الإسلام، وإحداثه لم يكن متصلاً بأهل العلم والتقوى، وإنما هو من إدخالات ذوي الأهواء والجهالات، وذوي السلطة والغلبة، إذ في القرآن الكريم إشارة إلى مثل هذا بقول الله تعالى عن أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21] لقد استفحل هذا الأمر في هذه العصور المتأخرة حتى وقع بعضهم في شرك الربوبية والألوهية، فاعتقدوا في بعض أهل القبور، وصوروا لهم الأصنام والتماثيل، وزعموا أنهم يعلمون الغيب، ويجيبون من توجه إليهم، وأن منهم من له القدرة على تفريج الكربات، وقضاء الحاجات، حتى صارت كالأنصاب التي يتخذها مشركو العرب، فأقسموا بها واستشفعوا واستنصروا ولاذوا، بل سيبوا لها السوائب، وساقوا إليها القرابين، بل ولربما جعلوها نصباً تذكارية لعظيمٍ، وجعلوا لها من الحرمة والعظمة وعقوبة الاعتداء عليه ما لا يجعل لمن اعتدى على دين الله، أو سب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقد تحدث ابن القيم رحمه الله معلقاً على غزوة النبي صلى الله عليه وسلم للطائف، وهدمه صنم اللات فقال: وفي ذلك من الفوائد: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، وكذا حكم الأضرحة والقبور التي اتخذت أوثاناً تعبد من دون الله، وكثيرٌ منها بمنزلة اللات والعزى ومنات، أو أعظم شركاً عندها وبها، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس؛ لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعةً والبدعة سنةً، واشتدت غربة الإسلام، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، واحرصوا على إقامة توحيد الله في الأرض تفلحوا، ويتحقق لكم النصر والتمكين، وتجعل لكم العاقبة في الأولى والآخرة. ألا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا؛ اللهم لتحيي به البلاد، وتسقي به العباد، ولتجعله بلاغاً للحاضر والباد. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 7 هل حاسبت نفسك إن الواجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه حساب الشريك لشريكه، وأن يحاسب نفسه حساباً دقيقاً قبل أن توزن الأعمال، فإننا قادمون على مواقف عظيمة، في يوم عصيب لا يخفى هوله ومواقفه العظيمة التي لا يتحملها الإنسان. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 1 آثار الذنوب والمعاصي على الأمم والشعوب الحمد لله الواصل الحمدَ بالنعم، والنعم بالشكر، نحمده على آلائه كما نحمده على بلائه، ونستعينه على نفوسنا البطاء عما أمر به، السراع إلى ما نهي عنه، ونستغفره مما أحاط به علمه، وأحصاه كتابه، علمٌ غير قاصر، وكتابٌ غير مغادر، خلق الإنسان وبصره بما في الحياة من خير وشر: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق كل شيءٍ فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله دار حسنٍ عزيز، تمنع أهلها، وتحرز من لجأ إليها، وبها تقطع حمة الخطايا، فهي النجاة غداً والمنجاة أبداً. أيها الناس: إن للأمم مع نفوسها غفوة تعقبها غفوات، وللأفراد المنفردين كما للأمم والشعوب سواءً بسواء، وإذا كانت غفوة الفرد تعد بالساعات فإن غفوة الأمم تعد بالسنين، لأن السنة في حياة الأمة تقوم مقام اليوم أو بعضه في حياة فردٍ من الأفراد، وحينما تتعرض الأمم لنكبات تزلزلها وتبلبلها؛ يكون من المتحتم على أفرادها ومجتمعاتها أن يعودوا إلى أنفسهم؛ ليتبينوا مواقع أقدامهم ويبصروا مواقع خطواتهم، لأنهم يصبحون حينئذٍ في أشد الحاجة إلى عملية تشييد أو بناءٍ جديد، حتى تعود نفوسهم لبناتٍ صالحة لإقامة صرح الأمة المشيد، ولذلك يقول الحق جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] ويقول جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105] ويقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: {عليك بنفسك} . عباد الله: إن الفساد في الدنيا، إنما يكون ظاهراً جلياً، حينما لا يتوقع المجتمع حساباً من ربٍ قاهر، أو من ولي حاكم، أو من مجتمعٍ محكوم، أو من نفسٍ لوامة، وحينما لا يتوقع أفراد المجتمع حساباً على تصرفاتهم؛ فإنهم ينطلقون في حركاتهم كما يحبون، ويموجون كما يشتهون، وكما تهوى أنفسهم، فيقبلون على الحياة ودروبها بلا زمامٍ ولا خِطام، فيتشبهون بأهل النار من حيث يشعرون أو لا يشعرون: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً} [النبأ:27-28] فهؤلاء لم يكونوا مؤمنين بالمحاسِب ولا موقنين بالمحاسَب. لو أن الأمم والمجتمعات يخبطون في الدنيا خبط عشواء، ويتصرفون على ما يحلو لهم، دون معقبٍ أو حسيب؛ لجاز على تفريطٍ وحمق أن يبعثروا حياتهم كما يبعثر السفيه ماله، فكيف ولله الحفظة يدونون مثقال الذرة: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] . والذي ينبغي على الناس بعامة أن يكونوا على وعيٍ وبصيرة بمقدار ما يفعلون من خطأ وصواب، والحق أن هذا الانقلاب في مهام الحياة أفراداً وجماعات دون اكتراث بما كان وما يكون، أو الاطلاع بنظرة خاطفة إلى بعض الأعمال البارزة أو الأعراض المخوفة، الحق أن ذلك نذير شؤم والعياذ بالله! وقد عده الله في كتابه الكريم من الأوصاف التي يعرف بها المنافقون، الذين لا كياسة لديهم ولا يقين لهم: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126] . الجزء: 38 ¦ الصفحة: 2 أهمية مجاهدة النفس ومحاسبتها إن العقول السوية والفطر السليمة لن تخرج عن إطارها إذا اعتبرت النفس الصالحة هي البرنامج الوحيد لكل إصلاح، وأن ترويضها للإستقامة وتذليلها للطاعة هو الضمان الحي لكل حضارة ورفعة، وإن النفس إذا اختلت وزلت صارت الفوضى في أحكم النظم والبلبلة في كنف الهدوء، واستطاعت النفاذ من ذلك إلى أغراضها الدنيئة، ومطامعها المريبة، والنفس الكريمة ترقع الفتوق في الأحوال المختلفة، ويشرق نبلها من داخلها، فتحسن التصرف والمسير وسط الأنواء والأعاصير. إن القاضي المسلم النزيه يكمل بعدله وتقواه نقص المتداعيين الغششة، والقاضي الجائر يستطيع الميل بالنفوس المستقيمة ولي أعناقها؛ لتحقيق رغباته وإشباع شهواته، وقائد القاضيين كليهما هي النفس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] . أيها الناس: إن أعجب الأشياء مجاهدة النفس ومحاسبتها، لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة، وقدرة رهيبة، فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب؛ فأوقعتهم فيما كرهوا، وإن آخرين بالغوا في خلافها حتى ظلموها ومنعوها حقها، وأثر لومهم لها في تصرفاتهم وتعبداتهم، ومن الناس من أفرد نفسه في خلوة وعزلة أثمرت الوحشة بين الناس وآلت إلى ترك فرائض، أو فضلٍ من عيادة مريض أو بر والد. وإنما الحازم المحكم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأصول، فالمحقق المنصف هو من يعطيها حقها ويستوفي منها ما عليها، وإن في الحركة بركة، ومحاسبة النفس حياة، والغفوة عنها لونٌ من ألوان القتل صبراً. عباد الله: لقد قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] . إن العبد المسلم لن يبلغ درجة التقوى حتى يحاسب نفسه على ما قدمت يداه، وعلى ما يعقب عليه العزم في شئونه في جميع الأمور، فينيب إلى الله مما اجترح من السيئات، ملتمساً عفو الله ورضاه طامعاً في واسع رحمته وعظيم فضله. ومحاسبة النفس المؤمنة سمة للمؤمن الصالح، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. والذنوب واردة على كل مسلم، ولكن لا بد لها من توبة، ولا توبة من دون محاسبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون} رواه الترمذي. يتوب العبد بعد أن يحاسب نفسه، ويحاسب نفسه؛ لينجو من حساب الآخرة، فإن الشهود كثير، ولا يملك العبد في الاحتيال من فتيلٍ ولا نقير ولا قطمير: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت:21] . {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] قال الصحابة رضي الله عنهم: {يا رسول الله! وما أخبارها؟ قال: أن تشهد على كل عبدٍ أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا} رواه أحمد وغيره. فنظّر الله الخليفة الراشد ورضي عنه، ذا الكلمة الراشدة الراسمة طريق النجاح: [[حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]] ] إن ارتفاع النفس ونضوجها لا يتكون فجأة ولا يولد قوياً ناضجاً دونما سبب، بل يتكون على مكث وينضج على مراحل، وإن ترويض النفس على الكمال والخير وفطامها عن الضلال والشر يحتاج إلى طول رقابة، وكثرة حساب، وإن عمارة دارٍ جديدة على أنقاض دارٍ خربة لا يتم طفرة بارتجال واستعجال؛ فكيف ببناء النفس وإنشائها المنشأ السوي، وإذا كانت النفس الرديئة دائمة الإلحاح على صاحبها، تحاول العود بسلوكه بين الحين والحين، فلن يكفكف شرها أجل مؤقت، وإنما تحتاج إلى عاملٍ لا يقل قوة عنها، يعيد التوازن على عجلٍ إذا اختل، ألا وهو عامل المحاسبة. إنه لا أشد حمقاً ولا أغرق غفلة ممن يعلم أنه يُحصى عليه مثاقيل الذر، وسيواجه بما عمله من خيرٍ أو شر، ويضل في سباته العميق لاهياً، غير مستعتب لنفسه ولا محاسب لها، يمسي على تقصير، ويصبح على تقصير، سوء يتلوه سوء، كذبٌ وزور، غيبة ونميمة، حسدٌ وتشفي، دجلٌ وفجور، فجورٌ في السلوك، وفجورٌ في التطاول بالسوء على من سوى نفسه وأهله. قال أحد السلف: من حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه وحسن منقلبه ومآله، ومن لم يحاسب نفسه دامت خسارته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته. أيها المسلم -يا رعاك الله- إن قهرتك النفس بغلبتها فَسُل عليها سوط العزيمة، فإنها إن عرفت جدك، استأسرت لك، الدنيا والشيطان خارجان عنك، والنفس عدوٌ مباطنٌ لك، ومن أدب الجهاد: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} [التوبة:123] إن مالت بك الشهوات فألجمها بلجام التقوى، فإن رفعت نفسها بعين العجب؛ فذكرها خساسة أصلها، فإنك والله ما لم تجد مرارة الدواء في حلقك لم تقدر على ذرة من العافية في بدنك. النفس مثل كلب السوق متى شبع نام، وإن جاع بصبص إليك بذنبه، والمعلوم المشاهد أنه متى قوي عزم مجاهدة النفس لانت له بلا حرب، ولما قويت مجاهدة النبي صلى الله عليه وسلم تعدت إلى كل من تعدى، فأسلم قرينه صلوات الله وسلامه عليه، والفاروق رضي الله عنه يشيد به المصطفى صلى الله عليه وسلم: {إيه يا بن الخطاب! إيه يا بن الخطاب! والله ما رآك الشيطان في فج إلا سلك فجاً غير فجك} . فيا أيها المسلم: بدّل اهتمامك لك باهتمامك بك، واسرق منك لك فالعمر قليل، تظلَّم إلى ربك منك، واستنصر خالقك عليك، يأمرك بالجد وأنت على الضد أبداً تفر إلى الزحف! وما ارتقيت درجة مجاهدة النفس ومحاسبتها، أتروم حينها الحصاد وأنت لم تبذر بعد؟! فإن النفس لن تُرْضَى إذا لم تُرَضْ، لأنها سبعٌ عقور، وإنما يراد الصيد لا العضوض: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] . إن النفس إذا كانت تهوى وتشتهي، والمرء ينهاها ويزجرها؛ كان نهيه إياها عبادةً لله تعالى يثاب عليها، قال صلى الله عليه وسلم: {المجاهد من جاهد نفسه} والمرء أحوج إلى جهاد نفسه أحوج منه إلى جهاد الكفار، فإن هذا فرض كفاية وجهاد النفس فرض عين، ومن جاهد النفس لا يكون محموداً فيه إلا إذا غلب، بخلاف جهاد الكفار فإنه كما قال تعالى: {وَ الجزء: 38 ¦ الصفحة: 3 أنواع النفوس الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد:- فاتقوا الله -أيها المسلمون- واعلموا أن النفوس ثلاث: نفسٌ أمارة بالسوء، ونفسٌ لوامة، ونفسٌ مطمئنة، ولا شك أن شر هذه النفوس هي الأمارة بالسوء، الداعية إلى الضلال، المحرضة صاحبها على الانحراف والاعتساف، والإنسان الغافل الضال حينما تدركه نفسه رحمة خالقه؛ ينازع نفسه بعد طول شقاء، ويقاومها لينقلها من منبت السوء إلى منبت الخير، ويوقظ فيها صوت الضمير، فإذا هي النفس اللوامة تتفكر وتتدبر وتعتبر فتنزجر، ثم تبلغ القمة والعلو فإذا هي نفسٌ مطمئنة، لا تزلزلها الأهوال ولا الشدائد الثقال، فليت كل واحدٍ منّا يسائل ذاته: أين نفسي بين تلك النفوس الثلاث؟! وفي أي طريقٍ تسير؟ أفي المقدم أم في المؤخر؟ أفي العلو أم في السفل؟! هل سألت نفسك أيها المرء فحاسبتها قبل أن تحاسب؟! هل تفكرت فيها، تفكر محقق؟! هل نظرت إلى خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً؟ ولو كشف للناس بعضها لاستحييت من قبحها وشناعتها، أفٍ ثم أفٍ لنفسٍ مريضة، إن نوظرت شمخت، وإن نوصحت تعجرفت، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم، وسقطت عليها سقوط الغراب على الجيف. أين أنت أيها المسلم! من ذلك المثل الرائد، الذي ضربه لمحاسبة النفس أبو الدرداء رضي الله عنه، حيث جلس يبكي وقد رأى دولة القياصرة تهوي على أقدام المسلمين، وأجاب من قال له: يا أبا الدرداء! تبكي في يومٍ أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! فقال له أبو الدرداء: ويحك يا هذا ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى. وقد حُمل ابن سيرين رحمه الله تعالى ديناً فُسئل فقال: إني لأعرف الذنب الذي حُمل به علي الدين، قيل له: ما هو؟ قال: قلت لرجلٍ منذ أربعين سنة يا مفلس. الله أكبر! أيها المسلمون! قلت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون، وكثرت ذنوبنا فليس ندري من أين نؤتى، اللهم اعصمنا من شر الفتن، اللهم اعصمنا من شر الفتن، وعافنا من جميع البلايا والمحن، وأصلح منّا ما ظهر وما بطن، ونق قلوبنا من الغل والحقد والحسد، ولا تجعل علينا تبعة لأحدٍ من خلقك يا أرحم الراحمين! هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية، وأزكى البرية جميعاً محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة. اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ضالاً عن الإسلام إلا هديته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها ويسرتها برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم! اللهم أصلح له بطانته، يا ذا الجلال والإكرام! اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك يا سميع الدعاء. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. عباد الله: اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 4 مفهوم السياحة ومخاطرها [1] يختلف مفهوم السياحة الشائع عن معناها الحقيقي في اللغة والقرآن والسنة وكلام السلف. وهذه المادة توضح ذلك الاختلاف، مع تسليط الأضواء على أضرار السياحة بمعناها المتداول، مع بيان لحقيقة بعض إيجابيات السياحة التي يعتقدها بعض أربابها. وكذلك بيان لسلبيات السياحة التي يدركها العقل والطبع السليم. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 1 مفهوم السياحة وظاهرة قلب الحقائق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على طريقه واتبعوا نهجه وهُداه، وعلى من تبعهم وحذا حذوهم ما تعاقب الجديدان الليل والنهار. أما بعد: أيها الناس: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] الزموا حدود الله، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه. وحذارِ حذارِ!! من التفلت والحياد عن سبيله، كما تَتَفَلَّت الإبل في عُقُلِها؛ فإنه ما من زمان يأتي إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، وإنكم ستعرفون من الناس وتنكرون حتى يأتي على الناس زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله. ألا فمن استنصح الله وُفِّق، ومن اتخذ شِرْعته نهجاً هُدي للتي هي أقوم {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100] . عباد الله: تكلَّم أهل الأصول وعلم البيان عن الكلام وماهيته، وأن من أقسامه ما يُسمى: الحقيقة، وأن الكلام الحقيقي قد يكون لغوياً، أو شرعياً، أو عُرفياً، كما هو في مظانه من مؤلفاتهم. والذي يُفيدنا منه في هذا المقام هو أن الأصل في الألفاظ: حملُها على الحقيقة بواحدٍ من أقسامها الثلاثة الآنفة. وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن طُغيان الجانب المادي واللهث وراء المحسوسات المشغلة عن الدين والتدين، وسلوك النهج القويم، والدخول في دائرة الأخلاق التي تشمل الجميع، كان سبباً -ولا شك- في قلب الحقائق، وجعل الشين زيناً، والمر حلواً، ومثول صور شتى من اللامبالاة بقيم الألفاظ ودلالات الكلام وثمراته، كما جاء في بعض الأحاديث من تسمية الأشياء بغير اسمها، كما تسمى الخمرة عند أقوام: بالمشروبات الروحية، والمخدرات: كُيُوفات حيوية وما أشبه ذلك. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 2 انتشار المنكرات غير أن مما يُروعنا -عباد الله- خلائق مقبوحة انتشرت بين كثير من المجتمعات المسلمة، في كافة الأقطار دون مبالاة، أو بعبارة أخرى على إغماض متعمَّد أو شبه متعمَّد، من ذوي المسئوليات العامة من كافة الناس المكلفين، واستمرت موافقة الناس لها، حتى حوَّلها الإلْف والمحاكاة إلى جُزءٍ لا يتجزأ من الحياة العامة والتحسينات اللامحدودة. ومن هنا رأينا الاستهانة بالكلمة وحقيقتها التي وُضعت لها، ورأينا قلة الاكتراث بالأمانات والمسئوليات الثقيلة، ورأينا القدرة على التكيف في قلب الحقائق إذا حلَّ الهوى قلباً خالياً فتمكن منه. ومن ثَمَّ جُعل الجهلُ علماً وريادةً وتطوراً، والعلم جهلاًَ، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وهكذا دواليك. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 3 مفهوم السياحة المنتشر بين الناس إن محور حديثنا -أيها الناس- ونقطة الاتساق فيما سنطرحه هو ما يُسمى في الكلام: السياحة! نعم، السياحة، وما تصرَّف منها لفظاً ومعنى. تلكم الكلمة -عباد الله- تكاد تتواطأ أفهام الأغرار من الناس على أنها عبارة دالة بذاتها على معانٍ، منها: 1- الترويح عن النفس. 2- أو الاصطياف. 3- أو الخروج عن القيود الشرعية أو العُرفية. 4- أو الارتقاء، والتمدن، واتساع الأفق الثقافي. 5- أو العولمة الحرة. وأيَّاً كان هذا المعنى أو ذاك، فإنه لن يخرجنا هذا كله عن القول بصدق: إن هذه المعاني والمفاهيم للسياحة كلها مغلوطة، وليست من السياحة في وِرْد ولا قََدَر، ولا هي من بابه. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 4 السياحة الممدوحة في القرآن والسنة وكلام السلف ولأجل أن نُؤكد على ما نقول بالدليل القاطع، فإن هناك نصوصاً من كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأقوال السلف الصالح، كلها تدل على مفهومٍ للسياحة مغايِرٍ لما تعارف عليه جمهرة الناس. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 5 السياحة بمعنى الصيام المفهوم الأول: الصيام:- يقول الله جل وعلا: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112] قال ابن مسعود، وابن عباس، وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم، وغيرهم: [[إن السائحين هم: الصائمون]] . ومثل ذلك: قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم:5] . وقد قالت عائشة رضي الله عنها: [[سياحة هذه الأمة: الصيام]] . الجزء: 39 ¦ الصفحة: 6 السياحة بمعنى طلب العلم المفهوم الثاني: طلب العلم:- قال بعض أهل العلم كـ زيد بن أسلم، وابنه: [[السائحون: هم الذين يُسافرون لطلب الحديث والعلم]] . ولذلك قال بعض السلف: مَن لم يكن رُحْلَة، لن يكون رُحَلَة. أي: من لم يرحل في طلب العلم للبحث عن الشيوخ، والسياحة في الأخذ عنهم، فيبعُد تأهُّلُه لِيُرْحَل إليه. وأقول أيها المسلمون: إن هذا القول كان أيام الخلافة الإسلامية، وكون البلدان كالرقعة الواحدة، والله المستعان. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 7 السياحة بمعنى السير للمطلوب الشرعي وثم إطلاقٌ آخر لمعنى السياحة، وهو السير للمطلوب الشرعي والبحث عنه، عبادةً لله، وقُربى لديه، كالحج، وزيارة المساجد الثلاثة، أو الغزو في سبيل الله، أو نحو ذلك، فقد ثبت عند الترمذي في (جامعه) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من غزوة، أو حج أو اعتمر كان مما يقول في دعائه: {آيبون، تائبون، عابون، سائحون، لربنا حامدون} الحديث. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 8 السياحة بمعنى عبادة الله في أرضه وإطلاق آخر للسياحة بمعنى عبادة الله في أرضه للمضطهدين في دينهم، والمشردين عن أوطانهم، كما ثبت في (صحيح البخاري) من قصة هجرة أبي بكر رضي الله عنه إلى الحبشة، حيث لقيه ابن الدغنة فقال: [[أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن (أسيح) في الأرض، وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: إن مثلك لا يَخْرُج، ولا يُخْرَج]] الحديث. ومن هذا المنطلق دوِّنت المقولة المشهورة عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إبَّان اضطهاده وامتحانه: ما يفعل أعدائي بي؟! إنَّ سجني خلوة، وقتلي شهادة، وتشريدي سياحة. ولا يُعقل -أيها المسلمون- أن يسيح العالِم المجاهد المتقي لأجل أن يلهو أو يعبث. ما مضى ذكره -أيها الإخوة- إنما هي معانٍ ممدوحة من معاني السياحة، والذهاب على وجه الأرض في أصل الكلمة وحقيقتها. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 9 السياحة المذمومة الممقوتة وفي المقابل: نجد سياحة مذمومة ممقوتة، نهى الشارع الحكيم عنها، وأبدل الأمة خيراً منها، تلكم -عباد الله- هي: السياحة في الأرض على وجه العزلة والانطواء والبُعد عن الناس وعن مخالطتِهم والصبر على أذاهم؛ لأجل التعبد وحده. فقد ثبت عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً قال: {يا رسول الله! ائذن لي في السياحة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله} رواه: أبو داود في (سننه) ، وصدَّره بقوله: "باب النهي عن السياحة". قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] يقول رضي الله عنه: [[هذا عن ملوكٍ بعد عيسى بن مريم، بدَّلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون، يقرءون التوراة إلى أن قال رضي الله عنه: فقال أناس منهم: نتعبد كما يتعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان، وهم على شركهم، فلمَّا بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبقَ منهم إلا قليلٌ، انحط رجلٌ من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وصاحب دَيْر من دَيْره، فآمنوا به، وصدقوه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28]] ] رواه: النسائي. يقول ابن كثير رحمه الله: وليس المراد من السياحة، ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض، والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع، إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين، كما ثبت عند البخاري من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يُوشك أن يكون خير مال الرجل غنمٌ يتبع بها شعث الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن} . فـ (لا إله إلا الله) كم فيما مضى ذكره من عبر! و (لا إله إلا الله) كم يكفينا ذلك في تذكير أرباب السياحة العابثة! ألا سبحان الله! سياحةٌ لأجل العزلة والتعبُّد منهيٌّ عنها، أفتكون سياحة اللهو والتخمة أحل وأنقى؟! {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ} [الأنبياء:87] ولا نقول إلا ما يرضيك عنا. تلك -عباد الله- بعض المعالم والشذرات حول مفهوم السياحة، الأصل والأساس والذي كاد يُعدم معناه، أو ينمحي، حيث أبدله الناس بهذا المفهوم العاري، والذي سنسلط عليه بعض الضوء والمصارحة؛ ففي النصح بركة، والحر تكفيه من ذلك الإشارة. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 10 بعض المآخذ على أهل السياحة إن الترويح عن النفس بما أباح الله لها هو مسرح للإستئناس البريء الخالي من الصخب والنَّغَب، على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ حنظلة بن عامر رضي الله عنه: {ولكن ساعة وساعة} لا كما يقول أرباب التحرر: (ساعات لك، وساعة لربك) ، أو (استعن بالهزل على الجد، والباطل على الحق) ، أو (دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر) كلا! فالبيت والمجتمع والإعلام كلهم خاضعون لحدود الله، ومتى تجوَّزوا تلك الحدود؛ فما قدروا الله حق قدره، وما شكروه على آلائه. إن المرء الجاد الخائف من ربه وولي نعمته ليس لديه متسع من الوقت أو الجهد ليُنفقه فيما يعود عليه بالوبال. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 11 الإسراف في الترويح على النفس والبدن لقد حرص كثير من الناس على تضخيم الترويح على النفس والبدن، حتى ظنوا بسبب ذلك أنهم مفتونون في بيوتهم وبلدانهم، استصغروا ما كانوا يُكْبِرون من قبل، واستنزروا ما كانوا يستكثرون، أقفرت منازلهم من الأُنس، وألِفوا السياحة على مفهومهم الخاطئ، والجلوس في المنتديات حال الاغتراب، حتى أصبح المرء منهم في داره حاضراً كالغائب، مقيماً كالنازح، يعلم من حال البعيد عنه ما لا يعلم من حال القريب منه، قبل الإجازات يعقدون الجلسات غير المباركة عن معاقد عزمهم في شد الرحال، إلى مجاري الأنهار، وشواطئ البحار، في بلاد الكفار، أو بلاد تشبهها، يفرون من الحر اللافح إلى البرد القارس، وما علموا أن الكل من فيح جهنم ونَفَسِها، الذي جعله الله لها في الشتاء والصيف. رحلات عابثة تفتقر إلى الهدف المحمود، والنفع المنشود، أدنى سوءها: الإسراف والتبذير، ناهيكم عما يُشاهَد هنالك من محرمات ومخازي لا يُدرى كيف يُبيح المرء لنفسه أن يراها؟! وماذا سيجيب الله عن قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] . الجزء: 39 ¦ الصفحة: 12 قتل الأوقات عند السائحين الجُلُّ من السياح نهارهم في دندنة، وليلهم جَهْوَرِي، ألذَّ ما عند بعضهم سَمَر العُشَّاق، أو شغل المشغولين بالفراغ، عبادتهم نِدْر، وغوايتهم غَمْر، يأكلون الأرطال، ويشربون الأسطال، ويسهرون الليل وإن طال، حتى يصير الصبح ليلاً والليل صبحاً، فيختل الناموس الذي خلق الليل والنهار من أجله، فلا يُرخي الليل سدوله إلا وقد سحب اللهو ذيوله، وتمشت البلادة في عظام المرء، حتى تترقَّى إلى هامه، وتَسلب العقل، فيُخلع ثوب الوقار، ويُلاطف بعبث مشين، في سَفْسَف أو باطل من الأمر، ومن ثَمَّ تُعد تلك السجايا من السياحة الجاذبة. وكم يُقال حينها: هل من ساهر في مثل هذا من نُجْب؟! أو هم ليله من صبح؟ هيهات ثم هيهات!! فتلك ليالٍ قُصَّ أجنحتها، وضَلَّ أصحابها، وكيف يُرجى تقطيع ليالٍ وافية الذوائب، ممتدة الأطناب بين المشارق والمغارب! و {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} [يونس:67] . ولا بِدْعَ حينئذٍ إذا عُكِسَت آمال هؤلاء وخابت أعمالهم، فلم يرجعوا من سياحتهم إلا بنفاذ المال في الدنيا، وسوء المغبة في الأخرى. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 13 إيجابيات السياحة وسلبياتها أيها المسلمون: نحتاج حقيقةً إلى مصارحةٍ مع أنفسنا، وإلى استحضار عقولٍ وقلوب ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. إننا لنُسائل روَّاد السياحة بأوضح صور الصراحة فنقول لهم: أفيدونا -يا هداكم الله- ما هي إيجابيات السياحة؟ وما هي سلبياتها؟ و الجواب إن ظننا فيهم أن يقولوا: إيجابياتها تكمن في: الأول: التعرف على البلدان. الثاني: معرفة حضارات الأقوام. الثالث: مشاهدة المناظر الخلابة، والآثار العامرة. الرابع: -يُقال على استحياء-: قتل الأوقات ومجاراة الناس. وأما السلبيات: فسيجيب عنها غيورون عقلاء على أنها لا حصر لها، غير أن من أبرزها: الأول: السفر إلى بلاد الكفر، والذي نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الإقامة بها. الثاني: السفر بلا محرم عند البعض. الثالث: مثله: التساهل في الحجاب بالنقص منه، أو نزعه بالكلية. الرابع: رؤية المنكرات؛ كالعُري، والاختلاط بين الجنسين، ورؤية الكفر بالله ورسوله، وانتهاك محارم الله. الخامس: قولوا مثل ذلك في الإسراف والتبذير. السادس: ناهيكم عن البُعد عن جَوِّ الإيمان، وطاعة الله، فلا أذانٌ يُسمع، ولا قرآن يُتلى، ولا ذكرٌ لله إلا ما شاء الله، ومن دعته محبته لله إلى أن يُؤدي فريضة الله فعلى استحياء أو تخوُّف، أو في أماكن صخب يتعذر معها معرفة القبلة، أو وقت الصلاة، أو أن يفقه مما أدَّى شيئاً. السابع: أما ندرة الطعام الحلال فحدِّثوا عن ذلك ولا حرج. الثامن: إضافة إلى خطورة ما ذُكر على الأطفال والشباب والفتيات، وما يَعلق في أذهانهم من حب اللهو، والإحساس بأن ما عند أولئك خير مما عندنا، وأننا نعيش في أجواء الكبت والمحاصرة، وقيد الحُرية. وأمثال ذلك أضعافٌ مضاعفة؛ بَيْدَ أن الحاصل في الأمر هو أن الإثم في السياحة المزعومة أكبر من النفع، والسلب أضعاف الإيجاب، ولو نظرنا إلى الخمرة، والتي يُجْمِع المسلمون طُراً على تحريمها، يقول عنها -جلَّ شأنه-: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] . الجزء: 39 ¦ الصفحة: 14 نصائح عامة في السياحة وإذا كُنَّا قد ذكرنا -آنفاً- أن السياحة على وجه العُزلة للتعبُّد منهيٌّ عنها، فكيف بالسياحة على وجه اللهو واللعب؟! ألا إن النهي أشد، والمغبة أسوأ، ولو لم يكن في ذلك إلا أن المرء يذهب بنفسه وذويه إلى بلاد السوء، وأرض المعاصي والكفر بالله، فلا يُدرى أيُختم له في بلد الإسلام أم في بلد الكفر؟! أفي جَو الطاعة والإيمان أم في جَو المعصية وأماكن اللهو والعبث؟! والأعمال بالخواتيم. ألا تسمعون -يا رعاكم الله- إلى ما أخرجه الشيخان في (صحيحيهما) : {عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأكمل المائة بالراهب، حتى أتى عالماً فقال له العالِم: ومن يحول بينك وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أُناساً يعبُدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق، أتاه الموت، فاختمصت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فجعلوا ملَكاً حَكَماً، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر، فجُعل من أهلها} . فيا لَلَّه أين أنتم يا عشاق السياحة؟! لقد كان مصير هذا التائب الخائف الوجل متعلقاً بمدى قُربه من أي القريتين، ألا ما أصعب الجواب وما أسحق الهوة! الجزء: 39 ¦ الصفحة: 15 بعض تناقض السياح المتدينين وبعد: فثم سؤال آخر يطرح نفسه؛ ليبين من خلاله وجه التناقض بين مآرب السُّيَّاح وأرباب السياحة، وبين ما ألِفَه بعضهم من جَو الحفاظ والتدين. وصورة السؤال هي: يا أيها السائح! هل أنت ممن سيقرأ دعاء السفر، إذا أردت السياحة في بلاد اللهو؟ فإن كان باحثاً عن الحق فسيقول: وهل يغفل المرء المسلم دعاء السفر؟! قلنا له: فماذا تقول في دعائك؟ فسيجيبنا: أقول الدعاء المشهور: {اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى} . فنقول له: حسبك قف! لقد قلت: البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، فأين محل البر والتقوى والعمل المُرضي في سفرك؟! أيكون مشاهدة المنكر براً أو تقوى؟! أيكون الجلوس أمام ما يُغضب الله براً أو تقوى؟! إن ذلك كله مما لا يُرضي الله، وأنت تسأله من العمل ما يرضي. ألا تدري ما هو البر؟ إن أجْمَعَ ما نُصَوِّره هو قوله جلَّ وعلا: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] . ألا تدري ما التقوى؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] . ألا تدري ما العمل الذي يُرضي الله؟ {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] . ألا فاتقوا الله -معاشر المسلمين- وليس عيباً أن يقع امرؤٌ في خطأ، وإنما العيب كل العيب أن يتمادى فيه ويكابر. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والثبات على دينك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم. اللهم ارزقنا من السعادة والطمأنينة والرضا بالمقسوم ما يُغنينا عما عند غيرنا. اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك. بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله، إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 16 الوقت بين الاستغلال والضياع الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: الجزء: 39 ¦ الصفحة: 17 مقترحات للاستفادة من الوقت فيا أيها الناس: إن ما مضى ذكره حول السياحة بين المفهوم الصحيح والمفهوم الخاطئ، وما أشرنا إليه من جهة التحريم والنهي، فإن المنع قد يُرفع عند الضرورة الملجئة، وللضرورة أحوالُها. بَيْدَ أن هناك أمراً يجدر الاهتمام به، وهو أن هذا المنع لا يدل من قريب ولا من بعيد على ألا يكون للمسلمين ما يُسمى على لغة الكثيرين: التنسيق السياحي، أو بعبارة أخرى أصح: فُرص استغلال الأوقات؛ لأجل أن يستغنوا عن السفر إلى بلاد الكفار، أو ما يشابهها، وفي الوقت نفسه لا يُفهم من هذه الدعوة أن يكون الحل في استجلاب ما عند غيرنا إلى أرضنا، فتكون الثمرة هي فحسب استبدال المواقع، فيكون حشفاً وسوء كيلة بل ينبغي أن يكون الأمر أعظم وأجلَّ. إنه مبني على كوننا مسلمين، نعمل ونسعى ونرتقي من خلال ما شرعه الله لنا، فإنشاء الدورات الصيفية، والجمعيات الخيرية، من تحفيظ للقرآن، أو تنشيط ثقافي نافع، أو نحو ذلك مما يُستغل به أوقات الجمهور، وإن لزم الأمر سيُقتصر حينئذ على المباح، إذ ما بعد المباح إلا ما حرَّم الله {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] مع الحذر الحذر!! أن تُقلب المفاهيم، وأن تكون فُرص التنشيط السياحي مثالاً للهو والعبث، والضج والضجيج، والعزف والطرب، وبذل الوقت والمال فيما حرَّم الله ورسوله، فكم من مظاهر عريضة مفتعَلة لها ضجيج وطنين، يَتْبَع الأسماع والأبصار، تمتد ألوانها إلى أوقات متأخرة ليلاً؟ ولسان الحال يقول: يا ليل هل لك من صباح؟ أم هل لصبحك من براح؟ ضل الصباح طريقه والليل ضل عن الصباح ثم ينجلي أمرها، فإذا هي هشيم تذروه الرياح، وإذا كنا نرى السفر إلى بلاد الكفار داءً يجب علاجه؛ فإن الله جلَّ وعلا لم يجعل شفاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما حرَّم عليها، وإنَّ استئناس كثير من الغافلين بما حرَّم الله لا يعني البتة التطلُّع إلى تنفيذ رغباتهم، والقاعدة الشرعية المقررة من خلال حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى الناس عنه} . الجزء: 39 ¦ الصفحة: 18 إضاعة الوقت في الغناء والملاهي ألا وإن بذل الأوقات في الغناء واللهو لمن ما حرَّم الله ورسوله، وكلما كانت المجاهرة به أظهر كان الخطر أشد، والخطب أدهى وأمر، وكلُّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم معافى إلا المجاهرين. عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ، قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف والقَيْنات} رواه: ابن ماجة والطبراني والقَيْنات: هم المغنون والمغنيات. بل إن الأمر سيذهب إلى أبعد من هذا، إلى أن يأتي أقوام فيستحلون المعازف والأغاني على شدة ما ألِفوها واستمرءوها، وقل النفير لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} ذكره البخاري في (صحيحه) . وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن الغناء؟ فقال: ينبت النفاق في القلب. وقد قال الفضيل بن عياض رحمه الله: [[الغناء رُقْيَة الزنا]] . وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع قال: سألتُ مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: [[إنما يفعله عندنا الفساق]] . وقد حكى أبو بكر الآجري وغيره: الإجماع على تحريمه. ألا فاتقوا الله -أيها المسلمون- وأقلعوا عن معاصي الله في أرض الله، فإن الأجل يحل بغتة، وكتاب الله لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين, واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم! اللهم أصلح له بطانته، يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم سُقيا رحمة لا سقيا هدم، ولا بلاء، ولا عذاب، ولا غرق، ولا استدراج، يا ذا الجلال والإكرام. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 19 العين حق الحسد والتحاسد مجمع الآفات ، ومستنقع الشرور والرذائل، وإن من سهام الناس القاتلة التي تمرق من رمية الحسد الإصابة بالعين. وقد دل الكتاب والسنة على أن العين حق، وقد ضل في ذلك أقوام، وجهل آخرون في دمغهم لها بمخالفات شرعية. ومن أعظم ما يزيل العين والسحر -بإذن الله- الرقية الشرعية من الكتاب والسنة. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 1 الحسد والتحاسد مجمع الآفات إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس: اتقوا ربكم وراقبوه في السر والعلن، فبتقوى الله عز وجل تصلح الأمور، وتتلاشى الشرور، ويصلح للناس أمر الدنيا والآخرة. أيها الناس! الحسد والتحاسد مجمع الآفات، ومستنقع الشرور والرذائل، إذ ما دخل الحسد في شيء إلا شانه، ولا نزع من شيء إلا زانه، وإن انتشار مثل هذه اللوثة المذمومة في أوساط الناس لأمرٌ مؤذن بعواقب وخيمة، وأضرار جسيمة، ولو لم يكن من ذلك إلا التباغض والتدابر والتشاحن والتناحر، بلها الغيبة والنميمة، والأشر والبطر. وإن من سهام الناس القاتلة التي تمرق من رمية الحسد هي: الإصابة بالعين وما أدراكم ما الإصابة بالعين! إنها نظر باستحسان مشوبٍ بحسد من خبيث الطبع، يحصل للمنظور منه ضرر، يقال: أصابت فلانٌ عينٌ إذا نظر إليه عدوٌ أو حسود، فأثرت فيه فمرض بسببها. لذلكم -عباد الله- بيَّن أهل العلم حقيقة العين، وبها تعلمون أن العين إنما هي جمرة مضرمة من حطب الحسد، ابتلي بها الكثيرون على حين غفلة من الأوراد الشرعية التي هي حروز أمينة، وحصون مكينة، فتناثرت جثث وهام، وتردت نفوس، وتهالكت أجسادٌ من جُرها. ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: {أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين} رواه البخاري في تاريخه، والبزار في مسنده وهو حديث حسن. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 2 دلالة الكتاب والسنة على أن العين حق عباد الله! العين حقٌ لا ممارات فيها ثابتة بالكتاب والسنة، وبواقع الأمم المتكررة. يقول الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم:51] أي: يعينونك بأبصارهم. قال ابن كثير رحمه الله: " وفي هذه الآية دليلً على أن العين إصابتها وتأثيرها حقٌ بأمر الله عز وجل ". ثم اعلموا عباد الله! أن اللقع بالعين كان في بني إسرائيل، وقد كانت العرب إذا أراد أحدهم أن يعتان أحداً تجوَّع ثلاثةً أيامٍ ثم اعتانه، ولقد قال الحسن البصري رحمه الله: [[دواء من أصابته العين أن يقرأ هذه الآية]] . ومما يدل على أن العين حقٌ -عباد الله- قول الخالق جلَّ وعلا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1-5] ، قال قتادة: أي [[من شر عينه ونفسه]] . وقال ابن القيم رحمه الله: كل عائن فهو حاسد، ولما كان الحسد أعم من العائن كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن. وقال ابن عطية: إن عين الحاسد في الغالب لاقصة، نعوذ بالله عز وجل من شرها. ومن لطائف هذه الآية عباد الله! أن بعض العامة يقولون للحاسد إذا نظر إليهم: الخمس على عينيك! ويشيرون على الأصابع الخمسة، وهذا غلطٌ بيِّن، إذ المراد بالخمس: هي آيات سورة الفلق، إذ كلها خمس آيات. أيها المسلمون! لقد جاءت السنة مؤكدةً للقرآن ومفسرةً له، ولقد قال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه في ذلك: {العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا} رواه مسلم. والمعنى: إن طلب من أحدكم أن يغتسل لمن أصابه بالعين فليجب. وقال صلوات الله وسلامه عليه: {استعيذوا بالله من العين، فإن العين حق} رواه الحاكم وابن ماجة. كما صح عند أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن العين لتوقع بالرجل بإذن الله، حتى يصعد حالقاً: فيتردى منه} ومعنى يصعد حالقاً أي: يصعد مكاناً مرتفعاً ثم يتردى منه بسبب العين. وقال صلوات الله وسلامه عليه مرةً لـ أسماء بنت عُميس: {مالي أرى أجسام بني أخي ضارعة -أي: نحيفة- يصيبهم الحاجة؟ قالت: لا. ولكن العين تسرع إليهم، قال: ارقيهم، فقالت: فعرضت عليه، فقال: ارقيهم} رواه مسلم. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 3 أنواع الإصابة بالعين ثم اعلموا عباد الله! أن العين عينان: عينٌ إنسية، وعين جنية. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم: {يتعوذ من الجان، ثم من أعين الإنس، فلمَّا نزلت المعوذتان أخذهما وترك ما سوى ذلك} رواه الترمذي وابن ماجة. ثم إن المرء بذاته قد يُعين نفسه إذا رأى منها ما يُعجبه، واستقى أهل العلم ذلك من قوله: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف:39] . ولقد ذكر الفقهاء -رحمهم الله- أن من عُرِفَ بالعين؛ فإن الإمام يحبسه ويجري له ما ينفق عليه إلى الموت. قال ابن القيم رحمه الله: وهذا هو الصواب قطعاً، وما ذاك -عباد الله- إلا لعظم هذا الأمر وخطورته في المجتمع وإهلاك الأنفس به، وهدم الأسر والبيوتات، مما يدل بالتأكيد على أن العين حق، لا لعلها وكفى الله المسلمين شرها. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 4 ضلال بعض الناس في إنكار العين أيها الناس! في حضارتنا المعاصرة كثر المثقفون، وشاعت المعارف الذكية، في حين أن البعض منها مقطوع الصلة بالله وبشرعه، والإنسان مهما قوي فهو ضعيف، ومهما اتسع تعلمه فعلمه قاصر، وحاجته إلى شريعة ربه والوقوف بالتسليم لنصوصه أشد من حاجته إلى الماء والهواء، فما أعظم نعمة الدين الصحيح والعقل الصريح! فلا دين بلا عقل، إذ لا تكليف حينئذٍ ولا عقل بلا دين إذ {إِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] . ولقد برزت طائفة من المعنين بالطب وفنونه، ممن قلَّ نصيبهم من نصوص الشارع الحكيم، فأبطلت أمر العين، وادَّعت كاذبةً أنها لا تعدوا كونها أوهاماً، وأطياف خيالٍ لا حقيقة لها. ولا غرو -أيها المسلمون- أن يضل أمثال هؤلاء وقد قال ربنا جلَّ وعلا: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] ، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] . الجزء: 40 ¦ الصفحة: 5 دفع العين بين المشروع والممنوع أيها المسلمون! إن أمر العين غير خافٍ على كل ذي لبٍ متجرد، وهذه حالٌ غير مستنكرة البتة، وإنما المستنكر -عباد الله- أن يكون المتفاعل معها كالمستسمن غير سمن، وكالمستبعد غير غرب، إذ ظن بعض السُّذَّج أن ليس للعين سبيل إليهم بمجرد أن يعلق تميمة أو ودعة، أو ناباً، أو تعاويذ ورقى ملفقة ينسجها لهم أدعياء الكهانة والشعوذة، يخدعون بها الرعاع، أو يدعون أن لهم خصوصية في نفع رقاهم وتعاويذهم؛ لأخذهم العهود على شيوخٍ أو أصحاب طرقٍ أو نحو ذلك مما لا أصل له في الدين، بل هو بدعة وضلالٌ مبين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الرقى والتمائم والتولة شرك} رواه أحمد وأبو داود. والتمائم: شيء يُعلَّق على الأولاد عن العين، وقال صلوات الله وسلامه عليه: {من تعلَّق شيئاً وُكِلَ إليه} رواه أحمد والترمذي، والتعلق يكون تارة بالقلب؛ كالاعتقاد في قراءة الشيخ الفلاني، أو التعلق بها من دون الله، أو أنها شافية أو نحو ذلك. ويكون تارة بالفعل؛ كمن يُعلِّق تميمة أو خيطاً أو نحوهما لدفع العين أو دفع الضر. ويكون تارة بهما جميعاً -أي: بالقلب والفعل- فمن تعلَّق بالله وأنزل حوائجه به، والتجئ إليه، وفوَّض أمره إلى ربه كفاه وهداه، وقرَّب إليه كل بعيد، ويسَّر له كل عسير. ومن توكل بغيره أو سكن إلى رأيه وعقله وتميمته ودوائه، وكله الله إلى ضيعة، فما ظنكم -عباد الله- بمن تعلَّق بغير الله، بل ما ظنكم بمن وكله الله إلى نفسه أو إلى غيره من المخلوقين، أترونه ناجياً أم هالكاً {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] . والله -سبحانه وتعالى- هو الذي تعلق عليه الآمال {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] ، {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم:12] . إن العجب كل العجب! في أولئك المصابين بالعين حين يستبدلون الرقى والعزائم الشركية، بالرقى والعزائم الشرعية، جاهلين أو متجاهلين خطورة هذا المسلك والهوة السحيقة التي تقذفهم إليها تبعاته، قال القرافي في فروقه عن ألفاظ الرقى: وهذه الألفاظ منها ما هو مشروعٌ؛ كالفاتحة والمعوذتين، ومنها ما هو غير مشروع؛ كرُقى الجاهلية والهند وغيرهم وربما كان كفراً، ولذلك نهى مالك وغيره عن الرقى العجمية لاحتمال أن يكون فيه محرم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: نهى علماء الإسلام عن الرقى التي لا يفهم معناها؛ لأنها مظنة الشرك، وإن لم يعرف الراقي أنها شرك، فعن عوف بن مالك الأشجعي قال: {كُنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك، قال: اعرضوا عليَّ رقاكم -ولا بأس في الرقى- ما لم يكن فيه شرك} رواه مسلم. فكل اسم مجهول لا يجوز لأحدٍ أن يرقي به فضلاً عن أن يدعو به، وأما جعل الألفاظ الأعجمية، أو الحروف المقطعة شعاراً للرقى فليس من دين الإسلام، كقول أرباب الدجل في رقاهم وتعاويلهم (كركدن ده ده شراهيا جلَّ جلود) وأمثالها مما هو دجلٌ فوق دجل، وخرافة فوق خرافة مما ليس من دين الإسلام في شيء، بيد أن كثيراً من الناس في هذا العصر قد كبا كبوة مثيرة، وزل زلة خطيرة، فجمهورهم قد أصابهم لوثات هذه العلل مذ أسلموا عقولهم لأيادي الهدي التي لبَّست قفاز التدين، واستطاعت من وراء هذا القفاز أن تصافح كثيراً من ضعاف النفوس؛ بسبب تخلفهم وإبان غفلة من علمائهم وأولي الأمر منهم. فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولسان حالهم يقول: وداوني بالتي كانت هي الداء، فزادوهم مرضاً إلى مرضهم، واقتلعوا أطناب حياتهم الهانئة، فخر عليهم سقف السعادة من فوقهم، وما خذل أمثال هؤلاء إلا حينما لجئوا إلى ذئاب الظلام، وركنوا إلى هرائهم وأهازيجهم، ناسين شرعة الله وصبغته {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50] . الجزء: 40 ¦ الصفحة: 6 شروط الرقية الشرعية فإذن عباد الله! يستخلص من ذلك أن الرقى تكون مشروعة إذا تحقق فيها شروطٌ ثلاثة: أولها: ألا يكون فيها شركٌ ولا معصية؛ كدعاء غير الله، أو الإقسام بغير الله. ثانيها: أن تكون بالعربية وما يعرف معناه. وثالثها: ألا يعتقد كونها مؤثرةً بنفسها؛ قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: " اتفقوا على أن كل رقية وتعزيم وقسم فيه شرك بالله فإنه لا يجوز التكلم به، وإن أطاعته الجن أو غيرهم ". الجزء: 40 ¦ الصفحة: 7 الواهم بسبب الخوف من العين وبعد -عباد الله- فإن كون العين حقاً أمر ثابت شرعاً وواقعٌ عقلاً، وحينما تظهر أمامنا هذه الحقيقة جلية؛ فإن من الأخطاء الشائعة والبلايا المعقدة؛ أن يصبح المرض بالعين شبحاً مروعاً، أو هاجساً متدلياً إلى الذهن عند كل وخزة ألم، أو نكست نفس، حتى يصل الأمر بذلك إلى درجة الوهم لدى الناس؛ فإذا ما عطس أمراء قالوا: هذه عين، وإذا أخذته سعلة، قالوا: إنها العين، وإذا ما أصيب وأبتلي قالوا: يالها من عين! حتى لقد أخذ الوهم من البعض وأمامه العين، وينام كذلك، ويصبح كذلك، وهذا هو الدواء العضال إذ لا يزيد الوهم إلا وهناً. فاتقوا الله عباد الله! وبادروا بالرقى والأذكار الشرعية لإصابات العين، وليتق الله العائن، وليذهب من قلبه الحسد إن وُجِدَ، وإلا فليُطفئ نار إعجابه بشيء بذكر الله سبحانه، وليدفع شر عينه بقوله: اللهم بارك عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنين: {ألا باركت عليه أي: قلت اللهم بارك عليه} . أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة. بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 8 علاج العين والسحر في الشرع الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين واعلموا أنه لا بأس على المرء في أن يتحرز من العين، بستر محاسن من يخاف عليه العين بما يقيه منها، أو أن يعوذه منها بالتعويذ الشرعي، فلقد قال سبحانه وتعالى عن يعقوب عليه السلام: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67] . قال ابن عباس وغيره: [[إنه خشي عليهم العين، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة]] فإن العين حقٌ تستنزل الفارس عن فرسه، وهذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضائه، فإن الله إذا أراد شيئاً لا يخالف ولا يمانع، ولذا قال يعقوب عليه السلام: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف:67] ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين يقول: {أُعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، ويقول: هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل عليهما السلام} رواه البخاري وأصحاب السنن. وبعد عباد الله! فإن العين داءٌ عُضال، ونارٌ آكلة، لم يهمل الشارع الحكيم جانبها، بل بيَّنها ووضحها، وأبدى للناس علاجها. وإن من أعظم ما يزيل العين والسحر بأمر الله: الرقية الشرعية من الكتاب والسنة، يقول أبو محمد ابن حزم: " جرَّبنا من كان يُرقي الدمل الحاد القوي الظهور في أول ظهوره، فيبدأ من يومه ذلك بالذبول ويتم يبسه في اليوم الثالث، جرَّبنا من ذلك مالا نُحصيه، وكانت امرأة ترقي أحد دملين قد دفع في إنسان واحد ولا ترقي الثاني، فيبس الذي رقت، ويتم ظهور التي لم ترق، وشاهدنا من كان يرقي الورم المعروف بالخنازير، فيندمل ما يفتح منها ويذبل ما لم ينفتح ويبرأ ". والرقية عباد الله! تكون بآيات القرآن؛ كالفاتحة، وآية الكرسي، والإخلاص، والمعوذتين وغيرها من آيات القرآن الذي أنزله الله هدىً وشفاء. وكذا بالأدعية النبوية الثابتة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ كتعويذه للحسن والحسين، وكرقية جبريل له بقوله: {باسم الله أُرقيك، من كل شيء يُؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسدٍ، الله يشفيك، باسم الله أرقيك} رواه مسلم. ومن أدوية العين الناجعة: ما ذكرت عائشة رضي الله عنها بقولها: [[كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين]] رواه أبو داود. كما أن من العلاج عباد الله! عسل النحل بشتَّى أنواعه؛ لثبوت ذلك في الكتاب والسنة، وكذا ماء زمزم فهو: {فهو لما شرب له، وهو طعام طعمٍ وشفاء سقم} كما صح بذلك الخبر عن المصطفى صلوات الله وسلامه عليه. هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأكرم البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم لا تمنعنا خير ما عندك بشر ما عندنا، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم لتسقي به العباد، ولتحيي به البلاد، ولتجعله بلاغاً للحاضر والباد. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 9 واسألوا أهل القرية إن كتاب الله عز وجل هو المنبع الصافي، والمنهج الحق الذي يجد المسلم فيه النور الذي يضيء له طريق الحق والهداية، فهل جلست أخي مع هذا الكتاب؛ وتدبرت آياته وأحكامه وقصصه ومواعظه؟ أحسب أن ستقول نعم. ولكن تعال بنا اليوم لنعيش مع قصة أوردها الله في كتابه في سورة الأعراف ألا وهي قصة أصحاب السبت، ما هو حالهم؟ وكيف كان مصيرهم؟ وما هي الدروس المستفادة من هذه القصة. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 1 الحث على تدبر كتاب الله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوه وراقبوه؛ لئلا تدابروا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا يبغي بعضكم على بعض، وتكونوا عباد الله إخواناً. أيها الناس: إن كتاب الله عز وجل هو المنبع الثر للهدى والحق، فيه يجد المسلم النور الذي يضيء له الطريق، ومنه يفوز بالقوة والخشية من الله، المثمرة للاعتبار والادكار اللذان يحفزان إلى الخير، وينقذان من ترادف الزلات وحلقات الانحراف، ومن ند عن السوي من ذلك فما هو بحي، ولو نما جسمه ونبض عرقه، بل هو ميت وإن طار في السماء أو غاص في الماء: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122] . الجزء: 41 ¦ الصفحة: 2 الحث على تأمل واعتبار قصص القرآن ألا وإن المرء المؤمن حينما يغشى معالم كتاب ربه، بقلب غير مقفول، لهو كمتعبد يغشى في مصلاه، ولربما أكرمه مولاه جراء تدبره فلم يخطئ دمع عينه مجراه، يغدو في خمائل القصص والعبر، ينزح من هذه وينهل من تلك، متأول قول ربه سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111] . إن مثل آيات القصص عباد الله، لجديرة بحق أن نقف عند معانيها، وما ترمي إليه من دروس وعظات، ينبغي ألا تذهب هدراً على ذوي الألباب، إذ ليس شيء أنفع للمرء من تدبر القرآن، وإطالة النظر في عواقب المثلات التي قد عفت، فيرى لعن اليهود ومسخهم، ويقرأ غرق فرعون ذي الأوتاد، وخسف قارون ويتأمل عذاب إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد. فيعيش المرء مع القرآن حتى كأنه في الآخرة، ويغيب عن الدنيا حتى كأنه خارج عنها: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] . الجزء: 41 ¦ الصفحة: 3 قصة أصحاب السبت عباد الله! يقول ربنا جل وعلا في سورة الأعراف: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:163-166] . عباد الله: هذه الآيات إنما هي بث في المقام لما أجمل في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] والمقرر عباد الله! أن من خصائص القرآن الكريم الإجمال في موضع، والبيان في موضع آخر، لأجل أن تشرئب النفوس إلى معرفة التأويل، وربط الآيات القرآنية بعضها ببعض، وليس ذلك إلا للقرآن خاصة: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] . أيها الناس: إن حاصل معنى آيات الأعراف هذه هو أن اليهود المعارضين لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، زعموا أن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان ولا معاندة لما أمروا به، ولذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم على جهة التوبيخ لهم عن هذه القرية، وهي على المشهور من أقوال المفسرين، قرية أيلة على شاطئ بحر القلزم بين مدين والطور، هذه القرية أهلها من اليهود، وكانوا يعتدون في يوم السبت، ويخالفون شرع الله حيث أنه نهاهم عن الصيد فيه، وكان الله سبحانه قد ابتلاهم في أمر الحيتان، بأن تغيب عنهم سائر الأيام، فإذا كان يوم السبت جاءتهم في الماء شرعاً، مقبلة إليهم مصطفة، فإذا كان ليلة الأحد غابت برمتها، ففتنهم ذلك وأضر بهم، فتطرقوا إلى المعصية بأن حفروا حفراً يخرج إليهم ماء البحر على أخدود، فإذا جاءت الحيتان يوم السبت فكانت في الحفرة، ألقوا فيها حجارة فمنعوا الحيتان من الخروج إلى البحر، فإذا كان الأحد أخذوها حتى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فنهضت فرقة منهم، ونهت عن ذلك، وجاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة أخرى لم تنه ولم تعص، بل قالوا للناهين {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} [الأعراف:164] فلما لم يستجب العاصون؛ أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنص سبحانه على نجاة الناهين، وسكت عن الساكتين، فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيماً فيذموا. روى ابن جرير بسنده عن عكرمة قال: [[دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما والمصحف في حجره وهو يبكي فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداءك؟ فقال: هؤلاء الورقات، وإذا هو في سورة الأعراف، فقال: ويلك تعرف القرية التي كانت حاضرة البحر، فقلت: تلك أيلة، فقال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم، نرى فلا ننكر فقلت: أما تسمع الله يقول: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} [الأعراف:166] فسري عنه فكساني حلة]] . الجزء: 41 ¦ الصفحة: 4 الدروس المستفادة من قصة أصحاب السبت عباد الله! إننا بحاجة ماسة إلى أن نرفع الستار، ونلقي الضوء الواعظ، على هذه الآيات الكريمات، التي يتمخض عنها دروس ثرة، ووصايا حثيثة نوجز منها على سبيل المثال لا الحصر. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 5 الاعتبار بأحوال الأمم الماضية إن مما أوضحه الله في هذه الآيات ما تنطوي عليه طبائع يهود من خبث ومكر وتنكر للرسالة السماوية، يتلونون تلون الحرباء؛ مما جلب لهم المقت من ربهم، فأوقع بهم شر العقوبات: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60] . لقد كان لليهود شأن في بادئ الأمر، وقد أثنى الله عليهم بقوله: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنْ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:30-32] . لكن التحول الذي حدث فيهم كان جذرياً، حتى أصبح لا يعرف من شمائلهم، أنهم يقودون إلى تقوى أو يعرفون بمهادنة، ومن هنا تبدو النكتة اللطيفة وهي: أنه من الغباء بمكان أن يحسب أهل دين ما، أن رحى الأيام لا تدور بالمجتمعات، وأن من ارتفع اليوم ستبقى رفعته له غداً إذا غير وبدل، إن التاريخ صفحات متتابعة، يطوى منها اليوم ما يطوى، وينشر منها غداً ما ينشر. وإن الله جل شأنه يختبر بالرفعة والوضاعة، وبالزلزلة والتمكين، وبالخوف والأمن، وبالضحك والبكاء: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم:42-44] . كل ذلك حتى تنقطع الأعذار، وتخرس الألسن التي مرنت الجدل، فإن أناساً سوف يبعثون يوم القيامة وهم مشركون ويقولون لله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:23-24] . ولأجل ذا -عباد الله- جاء التحذير الصارخ من أن نسلك مسالكهم، بل جاء الأمر الصريح بمخالفة اليهود والنصارى في غير ما حديث. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 6 أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن الدروس المستقاة -عباد الله- أنه ينبغي على أهل العلم، وذوي الإصلاح أن يقوموا بواجب النصح والوعظ في إنكار المنكرات على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا يمنع من التمادي في الوعظ والنهج والإصرار عليه، عدم القبول من المخالف؛ لأنه فرض فرضه الله قبل أو لم يقبل، ولأن هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله. وبذلك تكون المعذرة إلى الله، ويكون الخروج من التبعية وسوء المغبة، وبمثل أولاء يدفع الله البلايا عن البشر: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] ولم يقل وأهلها صالحون، فإن مجرد الصلاح ليس كفيلاً بالنجاة من العقوبة الإلهية الرادعة، ولأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم. إذا كثر الخبث} رواه البخاري ومسلم. قال الله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 7 التحذير من التهوين في شأن الإصلاح الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد: فإن من الدروس المستقاة من الآيات عباد الله! أن التهوين من شأن الإصلاح أو التخذيل أو الإرجاف فيه، ليس من سمات الأمة المسلمة الحقة، وأن مقولة بعضهم: دع الناس وشأنهم، فربهم رقيب عليهم، ليس من السنة في شيء، إنما هو في الواقع إقعاد بكل صراط يوعد فيه ويصد عن سبيل الله من آمن، وحينئذٍ لا بد من معرفة العاقبة لمن كان ديدنه ذلك: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} [الأعراف:164] . ومن هنا عباد الله جاء حذر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن يكون ومن معه من الفرقة الثالثة، وبعد فيا رعاكم الله: ليت من لم يكن بالحق مقتنعاً يخلي الطريق ولا يؤذي من اقتنعا الجزء: 41 ¦ الصفحة: 8 سد الذرائع والحيل المفضية إلى الحرام عباد الله: ومن الدروس أن الشارع الحكيم جاء بسد الذرائع المفضية إلى ما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن شيئاً من أنواع الحيل الموصلة إلى ما حرم الله، لا يجوز ألبتة، لأن الحيل طرق خفية، يتوصل بها إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن لها إلا بنوع من الذكاء والفطنة. وهي وإن أخفاها المرء فقد تخفى على جملة من البشر، لكنها لا تخفى على رب البشر، إذ إنها من باب الإلحاد في حدود الله، وهو الميل والانحراف عنها: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] . وأياً كانت هذه الحيل في العبادات، أو المعاملات، أو الأحوال الشخصية، أو نحوها، فإنه لا يجوز فعلها للوصول إلى المحرم من طرف خفي، ولربما انتشر مثل هذا في أوساط الكثيرين لا سيما في البنوك والمصارف، أو في الهيئات والشركات المتعهدة في اتخاذ طرق ومرابحات دولية أو مضاربات صورية، إنما هي في حقيقتها حيلة على أخذ الربا؛ فيخدع ببهرجتها السذج ويغرر بها الذين ينشدون الكسب الحلال؛ فيوقعونهم في شرٍ مما فروا منه، دون الرجوع إلى أهل العلم والمعرفة في كشف حقيقة تلك المرابحات، ما يجوز منها وما لا يجوز، وكذا الحيل في التخلص من الزكاة بتفريق المجتمع، وجمع المتفرق، ولقد كتب أبو بكر رضي الله تعالى عنه فريضة الصدقة، التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها: {ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة} رواه البخاري. ومن ذلك -عباد الله- الحيل في إباحة المطلقة طلاقاً لا رجوع فيه نتيجة شقاق ورعونة عقلٍ أعقبها ندم ولات ساعة مندم، ثم لا تسألوا بعدها -عباد الله- عن كذا حيلة وحيلة يزورها في نفسه، ويخدع بها في إباحة ما حرم الله من لا يعرف الحيل. إلا على المحتال فهو طبيبها يا محنة الأجيال بالمحتال عباد الله: ولا غرو أن يقع أولئك في الإثم والتعدي على حدود الله، متناسين بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبو عبد الله بن بطة بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل} . وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها} وغير ذلك كثير وكثير، وما الأمثلة المطروحة إلا شعبة في واد، ونزة من نبع، القصد من ورائها تنبيه الغافلين وإنذار المتغافلين، والتأكيد الجازم على خطورة شيوع الحيل المحرمة، وما تودي به من كدر في الصفو، وعطب في النية والمقصد، وهي وإن تقالهّا ثلة من الناس، فإن هذا لا يهون من شأنها، إن القليل بالقليل يكثر كما الصفاء بالقذاء يكدر اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 9 لم يبق في القوس منزع منذ سقوط الأندلس هدد الأمة وكيانها خطر عظيم، وخطب جسيم، فقد توالت الأزمات وتتابعت المصائب والنكبات، وإن من تلك المآسي والمصائب مأساة شعب البوسنة والهرسك، وما يواجهونه من حرب إبادة من قبل أعدائهم الصرب الحاقدين، فيا لها من مآس يندى لها الجبين، ويتفطر من منظرها القلب الحي. فعلى المسلمين أن يبذلوا ما بوسعهم؛ من مال ونفس وغيرهما؛ لكشف كرب إخوانهم. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 1 سقوط الأندلس منعطف إلى المأساة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70] * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] . أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوا الله في السر والعلن، فإن تقوى الله سبحانه هي وصيته للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] . أيها الناس: لقد ظل العالم الإسلامي بأسره قرابة ألف عام وهو متجانس متماسك يشد بعضه أزر بعض، ويأرز إلى عقيدته الجامعة، كلما هدد كيانه خطر أو ادلَهَمَّ عليه خطب، ومنذ فقدان الأندلس وقع تغير رهيب في حياته، وأخذت أرضه تنقص من أطرافها، ففُقدت أقطارٌ وأمم، وانتُهِكَت محارم ومقدسات، ودارت رحى الحرب على المسلمين، حتى تداعت عليهم الأمم والشعوب، وتحقق فيهم قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمِن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهْن. قالوا: وما الوهْن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت} صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، فهذا هو الوهْن وهو سر الضعف الأصيل، أن يعيش الناس عبيداً لدنياهم، عشاقاً لأوضاعها الرتيبة، تحركهم شهواتها وتموج بهم، كالخاتم في الأصبع، وتسيرهم الرغائب المادية كالثور في الساقية، يتحرك في مدار محدود، فاقد الهدف، معصوب العينين، وهذا هو الوهْن حين يكره المسلمون الموت، ويؤثرون حياة ذليلة على موت كريم، يؤثرون حياة يموتون فيها كل يوم موتات على موت يحيون بعده حياة سرمدية. شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سباتِ بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلماتِ الجزء: 42 ¦ الصفحة: 2 أسباب الذلة والهوان أيها المسلمون: إن السؤال الذي يفرض نفسه على واقع المسلمين هو: لماذا ولأي شيء لم نبحث عن أسباب تلك الهزائم والخسائر الفادحة في الأموال والأهلين والأوطان؟ هل أذكاها عوج خلقي أو خلل سياسي أو اقتصادي أو غش ثقافي أو انحراف عقدي، أو أنه مزيج متفاوت النسب من هذه العلل جميعاً؟ ما هي المعاصي الخلقية والسياسية والثقافية التي ارتكبها أهل الإسلام، فأصابهم ما أصابهم؟ يجب على كل منصف أن يبين ويوضح، وإن من المتحتم على أصحاب الألسن، وحملة الأقلام ألا يقترفوا خيانات قاتلة في حق دينهم وأمتهم بتجاهل تلك القضايا، وليعلموا أنهم بتجاهلهم يؤخرون يوم النصر ولا يقدمونه، وإن اللُّجة التي تحمل بعض أولئك على تجاهل واقعهم في تلك القضايا تقودهم ومجتمعَهم إلى الغرق، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم. فهل يرتفع شعار الإسلام، وترفرف رايته في تحليل القضايا الإسلامية، أم تبقى تحت الرايات العمِّية لنبلغ بها القاع والعياذ بالله؟ الجزء: 42 ¦ الصفحة: 3 البوسنة تهنئة وتعزية أيها الناس: المؤمن الصادق لا يمل كثرة الحديث عن البوسنة والهرسك؛ لأنها اليوم نقطة الارتكاز في ميدان الجهاد الإسلامي، وقضيتها حديث القضايا الإسلامية، وساحتها محطة امتحان وكسب لقوة المسلمين، وغيرتهم على دينهم وأوطانهم وحرماتهم، وقصة البوسنة والهرسك الدامية يختلط فيها الشجو بالرضا والتهنئة بالتعزية. رضىً وتهنئة. حينما يستحضر المسلم مرأى أولئك الأبطال الذين وقفوا في وجه الصليبية الحاقدة فسارعوا إلى ملاقاة ربهم، ودماؤهم على ثيابهم وأبدانُهم لم ترفع؛ لتبقى وساماً فوق صدورهم؛ يلقون به ربهم يوم القيامة. وشجوٌ وتعزية. حينما يقع ما يقع على مرأى من أهل القبلة ومسمع؛ فلا يحيرون جواباً، ولا يحيون ألباباً إلا من رحم الله، تقع أمامهم الحوادث، وتدلهم الخطوب فلا يتألمون لمتألم، ولا يتوجعون لمستصرخ، ولا يحنون لبائس. والمشاهَد مِن أمثال هؤلاء قساة القلوب، غلاظ الأكباد، حكموا على أنفسهم بالذلة، وعلى مجتمعاتهم بالحطة، والمثقفون من هؤلاء يندبون وينقمون ويتلقون المواساة والعزاء، والغرب الكافر الحاقد يخفض جناح الذل من رحمته وعدله -المزعوم- على دعم وتحصين منظمات عالمية لمحبي الكلاب، وأصدقاء الحيوانات الأليفة، فتفتح الصوالين للكلاب ليقوم أخصائيون بقص شعرها، وتزيينها وتعطيرها، فهي على الضد تماماً من صوالينهم الدموية التي يقصون فيها شعور البشر، ويحلقون أديانهم، ويزينونهم بالأشلاء، ويعطرونهم بالدماء، فليت منصفاً يخبرنا أو يسائل الغرب الحاقد: أتكون الكلاب المكلبة أهم وأعظم في قلوب عباد الصليب من قطر إسلامي ضخم؛ تعدو عليها حثالة لئيمة؛ فتقتل شيوخه وترمل نساءه، وتبيح حياءهن في فجور، وتتاجر بأعراضهن في توقح، وتتخذ من عفتهنَّ إناء تلغ فيه الكلاب بلا استحياء؟ ولكن من يدري؟ لعل هناك نسباً وصهراً جمع بين الغرب الكافر وبين الكلاب، فهم يعنون بشئونها عناية منقطعة النظير في حين أنهم لا يقيمون وزناً للملايين من البشر، سبحانك يا رب! رحماك يا رب! الجزء: 42 ¦ الصفحة: 4 التضامن والتكافل في ظل الإسلام أيها المسلمون: لقد أقام الإسلام مجتمعات المسلمين على أركان ثابتة، ودعائم راسخة، ومن أهم هذه الدعائم: أن يتحقق بين أبناء المجتمعات المسلمة روح الإخاء والتضامن؛ فيأخذ القوي بيد الضعيف، ويشد المقتدر من أزر العاجز، ويمكن لكل مسلم منصف أن يحكم على المجتمعات بالخير والصلاح؛ إذا رأى الضعفاء من بني ملته تتسلل إليهم المحن، وتتوالى عليهم الأتراح حثيثة، ويرى مع ذلك الأيادي الإغاثية تحميهم عن أن يضيعوا وسط الزحام، أو تسحقهم الأقدام، أو تصبح أعراضهم نهباً مقسماً بين الخونة واللئام من سفلة الناس، وشياطين البشر، إذا رأى المسلم ذلك جلياً في المجتمعات المسلمة فليشهد لها بالخير والصلاح، وإن لم يُرَ ذلك فإن على قلوبهم العفاء. إنه من الواجب على المسلمين بعامة أن يبحثوا في كل مظنة ضعف عن سبب قوة، ولو أخلص المسلمون المجاهدون في تلمس ذلك وتطلُّبِه لصار الضعف قوة؛ لأن الضعف قد ينطوي على قوة مستورة؛ يؤيدها الله بعنايته ورعايته، فإذا قوة الضعف تهد الجبال، وتحير الألباب {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح:7] . سمع معاوية رضي الله عنه أن رجلاً من أعدائه شرب عسلاً فيه سم فمات، فقال رضي الله عنه: [[إن لله جنوداً منها العسل]] . إن الحديث عن القوة النابعة من الضعف ليس دعوة إلى الرضا بالضعف أو السكوت عليه، بل هو دعوة إلى استشعار القوة حتى في حالة الضعف، ودعوة إلى التدثر بالرجاء والأمل وحسن الظن بالله حتى في مواطن الشدة واليأس، ودعوة إلى بذل الجهود في كل حالة وعلى أي وضع كان، ودعوة إلى اليقين بأن الله قادر على أن يجعل من الضعف قوة؛ مادام الإنسان يجاهد قدر استطاعته. وإني لأدعو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانعُ وبذلك ينتزع المسلمون من ضعفهم قوة؛ تحيل قوة عدوهم ضعفاً، وينصرهم الله نصراً مبيناً {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196-197] . الجزء: 42 ¦ الصفحة: 5 استشعار مآسي المسلمين عباد الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16] ؟ وتلين أفئدتهم؟ أفَقُدَّت مِن حجر؟ ألا يكلف المرء نفسه تحريك جفنيه وفتح عينيه ليرى صرعى البؤس والتشريد، وضحايا الظلم والعدوان والفاقة ماثلين أمامه في غير ما سبيل؟ ألا يرى ذلك فتأخذه بهم رحمة الإنسان؟ كيف يستطيع أن يهنأ صاحب الترفُّه بطعامه وشرابه؟! بل كيف يدلل صبيانه وبناته؟! وكيف يضاحك عياله ويمازح أهله وهو يرى في البوسنة والهرسك صبيةً مثل عياله برآءة؛ ما جنوا ذنباً، أطهار؛ ما كسبت أيديهم إثماً، يبكون من الحيف، ويتلمظون من الجوع؟ أفلا يكون للمسلم السهم الراجح، والقدح المعَلَّى في العطف على إخوانه في الدين، وفي كفكفة دموعهم والمسح على رءوسهم؟ أولا ينظر المرء إلى إخوانه تحت سيطرة الصرب الحاقدين؟ أولا ينظر المسلم إلى سقوفهم وقد وكَفَتْ، وإلى الجدران وقد نَزَّتْ، وإلى الغرف وقد اسَّاقَطَتْ، وإلى الجبال وقد سالت حمماً من القنابل والشظايا، وإلى الأودية وقد امتلأت جثثاً وهاماً وغدت أباطح، وإلى اختباء المضطهدين في البيوت، وما تكاد تمنع عنهم برداً ولا بللاً؟ أولا ينظر المسلم إلى مَن خرج من ساكنيها؛ فراراً منها حين لم تعدُ دوراً ولا منازلاً، وإنما صارت جيفاً وأشلاءً؟ يقف البوسنوي أمامها مشدوهاً ولسان حاله يقول: سقوف بيوتي صرن أرضاً أدوسها وحيطان داري رُكَّعٌ وسجودُ إن القرآن الكريم يعطي الإنسان درساً لا يجحده؛ لأنه معقود من صميم الحياة، ولباب الواقع المتكرر، يقول تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9] إن القرآن هنا يمس شغاف القلوب، ويهز أوتارها هزاً، ويدفع الناس دفعاً إلى تصور ذريتهم الضعيفة المكسورة الجناح تنهشهم أفاعي البشر، وتفتك بهم ذئاب الكفر، فقد تدور عليهم رحى الأيام، والأيام قُلَّب، فيصبحون لا حول لهم ولا قوة! يطمع فيهم الطامع، وما من نصير لهم ولا مدافع، والجزاء من جنس العمل. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 6 وسائل دفع الفساد وقمعه أيها المسلمون: عندما يستشري الشر، ويطغى الفساد، لا مندوحة للمسلم عن أن يدرأ الشر، ويقمع طغيان الفساد بكل وسيلة، وإن من تلك الوسائل المتاحة: المال المسلم، شريان الحياة، إن المال الإسلامي طاقة مهدرة؛ تحركها بنوك الغرب ومصارفه، مليارات الأموال قابعة في تلك البنوك، ماذا يفعل بها المسلمون؟ الشعب البوسنوي يستغيث ولا مجيب، أكلتهم صروف الحرب المدمرة ولا من يغيث، والبعثات التبشيرية النصرانية متخصصة في سرقة العقائد من أولئك العراة المفجوعين، وإننا لنتساءل: أين المسلمون؟! أين المسلمون حكومات وشعوباً؟! ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ونام عنها تولَّى رعيها الأسدُ جاء الذئب فرعى الغنم؛ لأنها ليس لها حارس، ليس لها راعٍ، ما السبب؟ وما الأمر؟ أمة غافلة، والغرب الحاقد لا يحمي المغفلين. لقد دقت ساعة الخطر، وبلغ الشر مداه، فلم يبقَ في القوس منزع، ولم يعد للصبر مجال على أمل تسوية سلمية، فتاريخ الغرب سلسلة إجرام، وحملات صليبية لا تعرف السلم ولا الموادعة. فالبدار البدار -عباد الله- للجهاد في سبيل الله بأموالكم، لتجهيز المضطهدين الذائدين عن حياض الإسلام في أوطانهم، وإن كتاب الله يدل دلالة واضحة على أن الإنفاق والبذل في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله في طليعة أعمال البر التي وعد الله عليها بالجزاء العظيم: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 7 دعوة للبر والإنفاق وتكاتف الجهود الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: عباد الله: اتقوا الله واعلموا أننا بحمد الله نعيش منجاةً من القتال وأهواله، والحروب وبلاياها، وما لنا عدو يحاربنا، وما عدونا إلا من يحارب إخواننا في الملة والدين، وارتضوا لهم أن يجوعوا ويعروا فأرهقوهم نهاراً، وأوحشوهم ليلاً، والذي ينبغي على المسلمين بعامة أن يقفوا مع إخوانهم المستضعفين، ويكونوا لهم سنداً وعضداً، وأن يقيموا العزم في وجه التهاون، والشدة في وجه التراخي، والقدرة في وجه العجز، وبذلك كله يصبحون شركاء متعاونين، متأولين قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً} . وإن الواجب على الأمة المسلمة أن لا تعظم الدينار والدنيا؛ لئلا تستعبدها المعاني المنحرفة بالنظرة للمال والحياة، فيكنز الغني مالاً، ويكنز الفقير عداوة، وليعلم الجميع أن العزة في الإسلام بإنفاق المال لا بإمساكه، وفي بذل الحياة لا بالحرص عليها، وفي اعتبار الغني من يعمل بماله لا من يجمع منه، هذا هو الإسلام الذي غلب الأمم؛ لأنه قبل ذلك غلب النفوس والشهوات. وفي ظل هذه الظروف الحالكة يقيِّض الله نفوساً سوية في أقطار شتى؛ تشد من أزر المنكوبين، وفي مهبط الوحي ومنبع الرسالة على مستوى المؤسسات والهيئات الإغاثية؛ يشرف عليها ولاة الأمر في هذه البلاد، وفقهم الله للهدى والسداد، تعد بارقة أمل، وومضة تفاؤل بأن في الأمة خيراً، ينبغي أن يذْكَى على كافة الأصعدة، إعلاماً وصحافةً، وهيئاتٍ ومؤسسات، ولن تذهب تلك الجهود سدى؛ إذا حسن العمل، وخلص القصد. فعليك -أيها المسلم- أن تساهم بما تستطيع لتكفل يتيماً، أو تجير ثكلى، وتئوي شيخاً، وتكتنف شاباً، وتستر شابةً، وتؤنس مستوحشاً، ولا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو كان قليلاً؛ فإن القليل بالقليل يكثر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سبق درهم ألف درهم} رواه النسائي وهو حديث صحيح. وإننا لنعلم أن في الموسرين محسنين، وفي التجار منصفين، ولكن في الموسرين من يريد الإحسان ولكنه لا يذَكَّر، ومن المضطهدين من يريد الإحسان فيشق أن يُعْثَر، فإذا تكاتفت الجهود، وتصافحت الأكف بورك في العمل، وبلغ كل شيء مبلغه قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وقال عز من قائل عليما: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا أحد إلا ماله أحب إليه. قال: فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر} رواه البخاري وقال صلوات الله وسلامه عليه: {يقول العبد مالي مالي، وهل له من مالِه إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى. ما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس} رواه مسلم. فيا أيها الأغنياء: شمروا عن سواعد الإنفاق فإن النعم لا تدوم، وإن بعد اليوم غداً، وإن بعد الحياة موتاً، وإن بعد الموت لحساباً، وإنما أموالكم عوان وأمانات عندكم، استودعكم الله إياها ابتلاءً وامتحاناً لينظر كيف تعملون. وما المال والأهلون إلا ودائعٌ ولا بد يوماً أن تُرَد الودائعُ وما المرء إلا كالشهاب وضوءه يحول رماداً بعد إذ هو ساطعُ هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بالصلاة عليه في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم من أراد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره يا سميع الدعاء. اللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، اللهم اهزم الصرب وأعوانهم وانصر البوسنة عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم فرج عن إخواننا في البوسنة والهرسك، اللهم فرج عن إخواننا في البوسنة والهرسك، اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، نسألك اللهم أن تنصر إخوانَنا في البوسنة على الصرب وأعوانِهم، اللهم إن نسألك أن تنصر إخواننا في البوسنة والهرسك على الصرب وأعوانِهم يا قوي يا عزيز! يا سميع الدعاء! يا من لا يُهزَم جندك إنك قوي عزيز. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا دَيناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا حاجة من حوائح الدنيا والآخرة هي لك رضىً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها، ويسرتها برحم الجزء: 42 ¦ الصفحة: 8 سبعة يظلهم الله السنة النبوية ينبوع يتدفق منه الهدى، وشمس تضيء للبشرية طريقها في غياهب الدجى. وموضوع هذه المادة شعاعٌ من ذلك النور يهدي الإنسان إلى ظل الله يوم لا ظل إلا ظله. والمؤمن الحق يسعى دائماً إلى أن يتحلى بكل تلك الصفات؛ فهو عادلٌ ينشأ في طاعة الله، ويحب بيوت الله، ويحب في الله، وهو عفيف لا يرائي بأعماله، ويعتني بصحة قلبه. ويلين قلبه بذكر الله فيبكي وينتحب، والله المستعان. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 1 نص حديث السبعة الحمد لله الكريم الوهاب، خالق البشر من تراب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه أدعو وإليه مآب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وأناب، صلوات الله وسلامه وعليه على آله وصحبه أولي النهى والألباب. أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوا ربكم حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي فإن أقدامكم على النار لا تقوى. أيها الناس! في الليلة الظلماء يفتقد البدر، وفي لهيب الشمس وسموم الحر يستطلب الظل وتستجلب النفحات، وما أروع العدل حين يطغى الجور! والإنصاف حين يعلو الغمط! وما أعجب الشاب حينما ينتصر على الصبوة المتفتقة! ويا لعظم الحظ ووطأة التوفيق لمن أوقف قلبه فبات معلقاً في كل مسجد! وما أهنأ الرجلين إذا يتحابان في الله فلا يجتمعان إلا عليه، ولا يفترقان إلا عليه. ويا حبذا العفة والخشية حينما تظهر المغريات وتضمحل العقبات، وما أقوى صدقة السر في إطفاء غضب الرب! وما أعذب الدموع الرقراقة في الخلوة حينما تسيل على خد الأسيف العامي! أيها المسلمون! إن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم هي المنبع الثر للهدى والحق والنور، وهي المعين الذي لا ينضب، والحق الذي لا يعطب، وإن الوقوف الدقيق عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبعث من مشكاة النبوة؛ ليحمل النفس المؤمنة على أن تعرف أسراره وتستضيء بأنواره، فلا ينفك يشرح للنفس ويهديها بهديه فتؤمن بالنبي المصطفى والرسول المجتبى صلوات الله وسلامه عليه، وكلما ذكر كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم فكأنما قيل من فمه للتو، كلام صريح لا فلسفة فيه، يغلب الأثرة والشهوة والطمع. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} . عباد الله! ما أحوجنا جميعاً إلى أن نستظل في ظل الرحمن في يوم عصيب يعظم فيه الخطب! ويشتد فيه الكرب، يوم أن تدنو الشمس من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، رحماك يا رب، عفوك يا ألله. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 2 الإمام العادل ألا ما أحوج الأمة المسلمة في كل عصر وفي كل مصر إلى الإمام العادل، وهو صاحب الولاية العظمى، وكذا كل من ولي شيئاً من أمور المسلمين فعدل فيه، الرعية عبيد يستعبدهم العدل، العدل مألوف وهو صلاح العالم، الإمام العادل هو الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط، فهو أبو الرعية والرعية أبناؤه، يعلِّم جاهلهم، ويواسي فقيرهم، ويعالج مريضهم، يرى القوي ضعيفاً حتى يأخذ الحق منه، والضعيف غطريفاً حتى يأخذ الحق له، وإن تحقيق العدل أمام الرغبات والمصالح والأهواء أمر في غاية الصعوبة، إذ حلاوته مرة وسهولته صعبة، وحينما يستطيع تخطي تلك العقبات فإن معنى ذلك أن فيه من الإيمان والتقوى ما يجعله مستحقاً لأن يكون واحداً من هؤلاء السبعة. ولقد ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة فأرسل إلى الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكان مما كتب له الحسن: اعلم يا أمير المؤمنين! أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصر كل جائر، وهو كراع الإبل على شعيره الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويكنها من أذى الحر والقر، هو كالأم الشفيقة البرة بولدها، حملته كرهاً ووضعته كرهاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، والإمام العادل يا أمير المؤمنين! وصي اليتامى، وخازن المساكين، وهو كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه، وتفسد بفساده. اللهم أظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 3 الشاب الذي ينشأ في طاعة الله أيها الناس! إن الشاب المسلم الذي يستحق أن يكون واحداً من هؤلاء السبعة هو ذاك الفتى اليافع الذي تعلق قلبه بربه، ولما يشب تتجاذبه مزالق الرغبات النفسية ومتطلبات الجسد، ترق عنده الحياة فتسحره بالنظرات المغرية، وتجمع له لذائذ الدنيا في لحظة مسفرة أو شبهة عارضة. الشباب الذي يعيش للهوى وأحلام اليقظة {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] . الشاب شأنه شأن غيره من الشباب الذين تعتريهم في هذا السن أنواع من التصرفات غير المتزنة، والذين هم أحرى في أن يقعوا فريسة لمثل هذه الدركات اللامسئولة. إن للشباب مرحلة هي من أخطر مراحل الحياة؛ لأنها مرحلة قوة بين ضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة. ولما كان الشباب من العمر، وسيسأل الإنسان عن عمره؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص الشباب في قوله: {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: وذكر منها وعن شبابه فيم أبلاه} رواه الترمذي. إن من أكرم الناس نفساً، وأنداهم كفاً، وأطيبهم قلباً، وأصدقهم عزماً: الشاب المسلم النقي التقي، الذي يجل الكبير ويرحم الصغير، لا تسمعه إلا مهنئاً أو معزياً، أو مشجعاً أو مسلياً، ولا تراه إلا هاشاً باشاً، طلق الوجه مبتسماً، يبعده إيمانه بربه عن طيش الصغر وإصرار الكبر، فهو الجندي في الميدان، والتاجر في السوق، والعضو الفعال في الجمعيات والمنتديات الخيرة {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:59-60] {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:30] . إن مما يساعد الشاب على عبادة ربه صفاء المحضن ممثلاً بالبيت والمدرسة والمجتمع، وكذا قيام المحضن بواجبه من توجيه وإرشاد حتى يشب الشباب عن الطوق ألا {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} ولن يستغني شاب عبد ربه عن مطالعات حديثة في سير أسلافه إبان شبابهم؛ كـ ابن الزبير وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وأسامة وأنس والحسن بن علي والحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين، وجدير بشاب هذا شأنه أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 4 شاب تعلق قلبه بالمساجد عباد الله! المساجد بيوت الله وأماكن عبادته، وهي خير بقاع، يكرم الله عمارها وزواره فيها، ويثيب على الخطى إليها {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36-37] ومن هنا كان فرح الباري جل وعلا بزوار المساجد، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {ما توطن رجل المساجد للصلاة والذكر؛ إلا تبشبش الله تعالى إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم} رواه ابن ماجة وابن خزيمة وغيرهما وإسناده صحيح. ولم يكن للمسلمين في القرون الأولى من معاهد ولا مدارس إلا المساجد، ناهيكم عن خمس صلوات في اليوم والليلة، ففي المسجد يدرس القرآن وتفسيره والسنة وفقهها، واللغة وأصول الدين، وأين مجلس إمام دار الهجرة، والحسن البصري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، إن لم يكن في المسجد، أما إنه لو رجع لبيوت الله ما كانت عليه من إقامة الشعائر واجتماع المسلمين فيها؛ لتعلقت بها قلوب الكثيرين ممن أعرضوا عنها وأُعرضوا عنها واستخفوا بشأنها {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:114] اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 5 المتحابون في الله عباد الله! إن المؤمن في هذه الحياة يجد صعوبة بالغة في أن يعيش وحيداً فريداً دون صديق أو مؤانس، صديق يناجيه، وخل يلاقيه ويواسيه، يشاطره مسرته ويشاركه مساءته، لقد أصبحت علاقات الكثيرين من الناس في هذا العصر خداج غير تمام، تقوم لغرض وتقعد لغرض، والإسلام دين الأخوة والمحبة والتآلف {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وبه تقع الألفة. المتحابون في الله دائمة صحبتهم، باقية مودتهم، لا تزيدها الأيام إلا وثوقاً وإحكاماً؛ لخلوصها من الإثم والأغراض الدنيئة {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {أيها الناس! اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عز وجل عباداً ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله، فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس فقال: يا رسول الله! ناس من المؤمنين ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم؟! انعتهم لنا. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسؤال الأعرابي ثم قال: هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نوراً، وثيابهم نوراً، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} رواه أحمد ورجاله ثقات اللهم أظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 6 الرجل العفيف عباد الله! إذا ما يسرت للمسلم سبل الغواية ودعت إليها الدواعي والمغريات دعاً؛ فهو بحاجة ماسة إلى أن يرى برهان ربه، وأن يسطع نور الهداية في فؤاده، وليس هناك امتحان أقسى من امتحان يتغلب فيه المرء على صبوته وغريزته، تبذل له حسناء نفسها وهو في فحولة الرجولة، وهي في حالة رفيعة من الجمال والجاة فاتنة عاشقة، مختلية متعرضة، منكشفة متهالكة، فحينها لا ينبغي أن ييأس الرجل، إذ إن مطارق الخوف من الله ومراقبته تعينه على أن يرى برهان ربه، وتذكره بقوله تعالى عن يوسف: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] لقد اجتمع ليوسف عليه السلام من الدواعي لإتيان الفاحشة الشيء الكثير، فلقد كان شاباً وفي الشباب ما فيه {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] وقد غلقت الأبواب وهي ربة الدار، وتعلم بوقت الإمكان وعدم الإمكان، فكان ماذا؟ {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] استعاذة وتنزه واستقباح، لماذا؟ وما هو السبب؟ لأنه يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، فأراه الله برهان ربه {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] . {كان كفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها، فلما أرادها على نفسها ارتعدت وبكت فقال: ما يبكيك؟ قالت: لأن هذا عمل ما عملته، وما حملني عليه إلا الحاجة. فقال: تفعلين أنت هذا من مخافة الله؟ فأنا أحرى، اذهبي فلك ما أعطيتك، والله ما أعطيه بعدها أبداً. فمات من ليلته فأصبح مكتوباً على بابه: إن الله قد غفر للكفل؛ فعجب الناس من ذلك} رواه الترمذي وحسنه الحاكم وصححه فاتقوا الله معاشر المسلمين، وتخلقوا بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، واهتدوا بهديه تفلحوا، ويتحقق لكم ما وعدكم به من الاستظلال في ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله. اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك. بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه كان للأوابين غفاراً. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 7 الإسرار بالصدقة الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، وأصحابه ومن اهتدى بهديهم واتبع سنتهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- واعلموا أن من الناس من أنعم الله عليه بشيء من المال، فما أنكر فضل الله عليه، بل هو ينفق بسخاء ويتسلل إلى المساكين لواذاً، يعلم أن من الفقراء من يحرجه علانية العطاء، فذاك رجل تخطى عقبة الجشع، أنقذه الله ممن عبدوا الدينار والدرهم، فكانوا أحلاس كفر وإمساك، سجاياهم المتكررة منع وهات، بل هات وهات، قد قضوا على أنفسهم أن يعيشوا مرضى بالصحة، فقراء بالغنى، مشغولين بالفراغ، لكنهم مع ذلك لا يجدون في المال معنى الغنى، إذ كم من غني يجد وكأنه لم يجد إلا عكس ما كان يجده، وما علموا قول النبي صلى الله عليه وسلم: {اليد العليا خير من اليد السفلى} متفق عليه. إن النفس بطبعها تميل إلى إبراز عملها لا سيما الصدقة، كل هذا لأجل أن تُحمد، فإذا ما جاهد المرء نفسه حق له أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ورحم الله مالك بن دينار حيث يقول: قولوا لمن لم يكن صادقاً: لا يتعنى. ولقد قال ابن عائشة قال أبي: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين رضي الله عنه. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 8 البكاء من خشية الله عباد الله! ما أسعدها من لحظات يجلسها المرء خالياً فيها مع نفسه، يناجي ربه وخالقه، فينهمر دمعه عذباً صافياً خالياً من لوث الرياء، وإن نيران المعاصي التي تأتي على قلب المسلم فتحيله إلى فحم أسود كالكوز مجخياً، لا يطفئها إلا تلك الدموع التي تنهمر على إثر ذكر الخالق وخشيته، ولقد كان ابن سيرين رحمه الله تعالى يضحك بالنهار، فإذا جن الليل فكأنه قتل أهل القرية من شدة البكاء! ولقد كان أيوب السختياني رحمه الله ربما حدث بالحديث فيرق فيتمخط ويقول: ما أشد الزكام. يظهر أنه مزكوم لإخفاء البكاء؛ رجاء أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وقام محمد بن المنكدر ذات ليلة فبكى فاجتمع عليه أهله ليسألوه عن سبب بكائه فاستعجم لسانه، فدعوا أبا حازم فلما دخل هدأ بعض الشيء فسأله عن سبب بكائه فقال: تلوت قول الله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فبكى أبو حازم، وعاد محمد بن المنكدر إلى البكاء، فقالوا له: أتينا بك لتخفف عنه فزدته بكاءً! روى النسائي وأحمد من حديث عقبة بن عامر قال: {قلت: يا رسول الله! ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك} فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أنه لا بد من الخوف والبكاء، إما في زاوية التعبد والطاعة، أو في هاوية الطرد والإبعاد، فإما أن تحرق قلبك -أيها المسلم- بنار الدمع على التقصير، وإلا فاعلم أن النار أشد حراً {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82] فانظروا عباد الله! إلى البكائين في الخلوات، قد نزلوا على شواطئ أنهار دموعهم، فلو سرتم عن هواكم خطوات لاحت لكم قيامتهم ولسمعتم بكاءهم ونشيجهم، ولسان حالهم يقول: نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرارُ من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للدموع تعار اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم ارض عن صحابته الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم أظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك يا أرحم الراحمين، اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم، اللهم آمنا في أوطاننا، واصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 9 رسالة إلى مسافر إن السفر في هذه الأرض والتنقل فيها من مكان لآخر يحصل به فوائد كثيرة من أعظمها: التفكر في آيات الله التي في هذا الكون الفسيح من السهول والجبال والشلالات والأنهار، والنظر فيما حل بالأمم الماضية من العذاب والنكال، وتذكر نعمة الله علينا في تقارب الزمان والمكان، وتطبيق سنن النبي صلى الله عليه وسلم في السفر حتى يحفظنا الله في أسفارنا. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 1 مسائل في السفر الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل مواسم الخيرات لنا مربحاً ومغنماً، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمته طريقاً وسُلَّماً، له الحمد يُطاع فيشكر، ويعصى فيغفِر، لا تواري منه سماءٌ سماءً، ولا أرضٌ أرضاً، ولا جبل ما في وَعْره، ولا بحر ما في قعره، له الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، ما خاب مَن رجاه، ولا أفلح مَن قلاه، بيده ملكوت السماوات والأرض، وهو يجير ولا يجار عليه، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بعثه بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله الأتقياء البررة، وعلى أصحابه ومن سار على طريقهم واتبع نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ حق التقوى، والاستمساك من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي؛ فإن أقدامكم على النار لا تقوى، فاتقوا الله: {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17] . حجاج بيت الله! يا من أديتم مناسككم فوقفتم بـ عرفات، وانحدر بكم الشوق إلى المزدلفة، فسكبتم عند المشعر الحرام العبرات. فَلِلَّهِ كم من خائف منكم أزعجه الخوف من الله وأقلقه! وراجٍ أحسن الظن بوعد الله فصدَّقه! وكم من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه! وبلغ الأماني عشية عرفة! حجاج بيت الله الحرام! ليس السابق اليوم من سبقت به راحلتُه، إنما السابق من غُفر له ذنبُه، وقُبل عملُه؛ فاخلصوا لله حجكم، واتبعوا سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم تفلحوا. ومن قصر في جنب الله فليرجع إلى جهاد النفس، فهو الجهاد الأكبر. وحذارِ حذارِ أن تحلقوا رءوس أعمالكم بالذنوب، فإن الذنوب حالقة الدين، ليست حالقة الشعر {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل:92] . فَلِلَّهِ ما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة! وما أقبح السيئة بعد الحسنة! فالحذر الحذر -عباد الله- من العمى بعد الهدى، ومن الحور بعد الكور. عباد الله: إن الحج المتكرر في كل عام، منذ أن أذن إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج، وهم يفدون إلى بيت الله العتيق من كل فج عميق، رجالاً وعلى كل ضامر، لَهُو أمر دالٌّ باللزوم على أن السفر وقطع الفيافي والقِفار أمر ذو بال في واقع كل امرئ حي. وما أكثر ما يسافر الناس لشئون حياتهم، ماديةً كانت أو معنوية! ولقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرات وكرات، إبَّان شبابه قبل البعثة، وبعد نبوته ما بين حج وعمرة، وجهاد وتجارة. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 2 فوائد السفر والسفر -غالباً- يعري الإنسان من الأقنعة التي كانت تحزم طبيعته، وما سمي السفر سفراً إلا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال. ولذا فإن السياحة في الأرض، والتأمل في عجائب المخلوقات مما يزيد العبد معرفة بربه عزَّ وجلَّ، ويقيناً بأن لهذا الكون مدبراً، لا رب غيره، ولا معبود بحق سواه. فالمسافر يتأمل ثم يتدبر ثم يخشى، كل ذلك حينما يرى عجيب صنع الله، وعظيم قدرته: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88] . ولقد أنكر سبحانه على من فقد هذا الإحساس المرهف بقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] . الجزء: 44 ¦ الصفحة: 3 أحوال السفر السفر -عباد الله- مُعْتَرَىً بحالتين اثنتين: الأولى: حالة مدح. الثاني: حالة ذم. فالخروج من الملل والسآمة، والضيق والكآبة، من الناس والمكان؛ للتأمل في خلق الله، أو طلب علم نافع، أو صلة قريب أو أخ في الله، هو سمة السفر الممدوح. وهو مذموم أيضاً من جهة كونه محلاً للمشاق والمتاعب؛ لأن القلب يكون مشوَّشاً، والفكر مشغولاً، من أجل فراق الأهل والأحباب، ولذا قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه، ونومه، فإذا قضى نهمته، فليعجل إلى أهله} رواه البخاري ومسلم. والمراد بالعذاب -عباد الله-: الألم الناشئ عن المشقة لما يحصل في الركوب والسير من ترك المألوف. ولقد ذهب بعض أهل العلم كـ الخطابي وغيره إلى أن تغريب الزاني إنما هو من باب الأمر بالتعذيب، والسفر من جُملة العذاب. ولقد سئل إمام الحرمين: لِمَ كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور: لأن فيه فرقة الأحباب. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 4 يسر السفر في هذه الأزمنة ألا فاعلموا -عباد الله- أن السفر في هذه الآونة يختلف عن السفر في قرون مضت، فقد مُهِّدت الطرق، وجرت عليها العربات الآلية، بشتى أنواعها المُبْدَعَة، فهي تسير بهم على الأرض إن شاءوا، أو تقلهم الطائرات السابحة في الهواء إن رغبوا، أو تحملهم الفلك المواخر في البحر إن أرادوا. كما أن الأزمنة قد تقاصرت، فما كان يتم في شهور بشق الأنفس أضحى يتم في أيام قصيرة، بل وساعات قليلة، وبجهود محدودة، بل ولربما عطس رجل في المشرق، فشمته آخر في المغرب. وهذا -أيها الإخوة- مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة تقارب الزمان، كما عند البخاري في صحيحه. ومع هذه الراحة الميسَّرة فإن الأخطار المبثوثة هنا وهناك لم تنعدم. ففي الجو يركب المرء طائرة يمتطي بها سَبَجَ الهواء، معلقاً بين السماء والأرض، بين مساومة الموت، ومداعبة الهلاك، فوق صفيحة مائجة قد يكون مصيره معلقاً -بأمر الله- في خلخلة مسمار أو إعطاب محرك، مما يؤكد الاحتماء بالله, وارتقاب لطفه المرتجى بلزوم آداب السفر، والبُعد عن معصية الله، في هوائه، بين سمائه وأرضه، المستلزمة -وجوباً- إقصاء المنكرات من الطائرات، والتزام الملاحين والملاحات بالحشمة والعفاف، والبُعد عما يثير اللحْظ، أو يستدعي إرسال الطرف. وإن تعجب -أيها المسلم- فعجب ما يفعله مشركو زمان النبي صلى الله عليه وسلم من اللجوء إلى الله في الضراء! {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] . وبعض عصاة زماننا سراؤهم وضراؤهم على حد سواء، فقبح الله أقواماً مشركو زمان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بـ (لا إله إلا الله) منهم. أيها المسلمون: إن التقارب في الزمان والمكان، بما هيأ الله من أسباب السرعة لَهُو نعمة عظمى، ورحمة جُلَّى، تستوجبان الشكر للخالق، والفرار إليه، في مقابل التذكر فيما فعله الله جل وعلا بقوم سبأ الذين كانوا في نعمة وغِبْطَة من تواصل القرى، بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ:18] ولكن لما بطروا نعمة الله ومالت نفوسهم إلى ضيق حالهم: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19] ففرق الله شملهم بعد الاجتماع، وباعد بينهم بعد التقارب، حتى صاروا مضرب المثل. ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 5 أعظم فوائد السفر المتعلقة بالله وبعدُ -عباد الله- فإن من أعظم فوائد السفر، وأكثرها تعلقاً بالله: معرفة عظمته وقدرته، بالنظر إلى ما ابتدعه جل وعلا خلقاً جميلاً عجيباً، من حيوان وموات، وساكن وذي حركات، وما ذرأ فيه من مختلف الصور التي أسكنها أخاديد الأرض، وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها، من أوتاد ووهاد، فصار منها: {جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر:27] ومن ذوات أجنحة مختلفة، وهيئات متباينة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات:26] ، كونها بعد أن لم تكن في عجائب صور ظاهرة، ونَسَقها على اختلافها، بلطيف قدرته ودقيق صنعه، فمنها: مغموس في قالب لون لا يسوغه غير لون ما غُمس فيه، ومنها: مغموس في لون صِبْغ قد طُوِّق بخلاف ما صُبغ به: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] . فسبحان من أقام من شواهد البينات على عظمته وقدرته؛ ما انقادت له العقول معترفة به، ومستسلمة له! فبان لها أن فاطر النملة هو فاطر النخلة، فالويل كل الويل لمن جحد المقدِّر، وأنكر المدبِّر. زعموا أنهم كالنبات، ما لهم زارع، ولا لاختلاف صورهم صانع، وغاب عن عقولهم المختلة، وأذهانهم المعتلة، مَن عقلُه أكبر من حضارتهم، بعبارات ثرة على أعرابيته وبداوته: سماءٌ ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وأثر يدل على المسير، وبعرة تدل على البعير، ألا يدل ذلك كله على اللطيف الخبير؟! {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام:95-96] . الجزء: 44 ¦ الصفحة: 6 مظاهر الإشراك في توحيد الربوبية أيها الناس: لربما رفع أحدٌ منا عقيرته فقال: إن مثل هذا الحديث داخل في توحيد الربوبية، الذي لم ينازع في إثباته حتى مشركو زمان النبي صلى الله عليه وسلم، أَفَيُخَصُّ بالحديث؟! ف الجواب نعم. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 7 اللجوء إلى المشعوذين والدجالين إن الإشراك في توحيد الربوبية قد داخل فئاماً من الناس في القديم والحديث، ففي الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: {صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بـ الحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، قال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي، كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطِرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب} . فانظروا -يارعاكم الله- أليس هذا حديثاً عن توحيد الربوبية؟ بلى وربي. ومع ذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في الشرك فيه، لقد وقع ثلة من الناس في براثن هذا الشرك في عصرنا الحاضر، قصدوا ذلك أو لم يقصدوا، فأخذوا يلجئون إلى المشعوذين والدجاجلة الأفاكين، بقايا مسيلمة الكذاب، وابن صياد، من مدعي علم الغيب بالكهانة والتنجيم، وقراءة الأكف والفناجين، والذين يوحي إليهم أولياؤهم من الشياطين ومسترقي السمع من السماء، فيقرقرونها في آذانهم كقرقرة الدجاج، فيخلطون مع ما يصدقون فيه مائة كذبة، ومما يزيد القرح، ويشعل الكمد أن لهم رواجاً في أوساط الناس، في بقاع شتى من هذه البسيطة، وفي جانبٍِ عظيم من جوانب توحيد الربوبية ألا وهو علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، فلا يطلع عليه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، إلا بما يوحي إليهم ربهم. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 8 تفسير الظواهر تفسيراً مادياً بل لقد امتد الكفور بتوحيد الربوبية على غرار ما جاء في حديث زيد بن خالد الآنف الذكر ما يطالعه العالم في حياته اليومية، عبر الأثير المسموع والمرئي في تفسير الظواهر المتكررة من زلازل، وفيضانات، ومنخفضات جوية ومرتفعات، ورياح وبراكين، تفسيراً مادياً بحتاً مبتوت الصلة بالله ومشيئته، مستقىً من فلسفات يونانية، وأخرى إغريقية، قررها ملاحدة أفاكون، ولاقت رجع الصدى من قبل بعض المسلمين المعجبين بما عند الغرب. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 9 الطوالع والأبراج بل لقد جاوز الأمر قنطرته بمطالعات الصحافات المتكررة في أقطار شتى عما يُسمى مستقبل الأبراج وما لها من آثار مُكْلِمَة في شرخ توحيد الربوبية، وربط المسلم بالأسباب المادية الجافة، أو بالتعبير من قبل بعض ضعاف النفوس بالاحتياج بما يفرحه بقوله: من حُسن الطالع أن كان الأمر كذا، وبما يسوؤه بقوله: من سوء الطالع أن كان الأمر كذا، فأصبحوا يتناوشون الطوالع والأبراج، يبحثون عن سعادتهم في برج الميزان، وينأون بأنفسهم عن أن يكونوا من أهل برج العقرب. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 10 من براهين كذب المنجمين وهكذا تحيا الخرافة، ويتجدد مذهب مسيلمة وابن صياد، فالله المستعان! ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما أراد المسير لقتال الخوارج عرض له منجم فقال له: [[يا أمير المؤمنين! لا تسافر، فإن القمر في العقرب، وإنك إذا سافرت والقمر في العقرب هُزِم أصحابُك، فقال رضي الله عنه: بل نسافر، ثقةً بالله، وتوكلاً على الله، وتكذيباً لك، فسافر رضي الله عنه، فبورك له في ذلك السفر، حتى قتل عامة الخوارج]] . ومثل ذلك ما فعله المنجمون الأفاكون مع الخليفة المعتصم حينما أراد فتح مدينة عمورية استجابة لصرخة امرأة مسلمة، فَنَهَوهُ أن يغزوهم قبل أن ينضج التين والعنب، فرد قولهم وسافر، فأكذب الله المنجمين، وأعد المسلمين، وسار بتسعين ألفاً كأسد الشرَى، نضجت أعمارهم قبل أن ينضج التين والعنب. ولذا فقد كان المسلم مأموراً بالفأل، ونبذ التطيُّر في سائر شئونه، ومنها السفر. ولقد ذُكرت الطِّيَرَة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك} . رواه أبو داود. ولـ أحمد من حديث ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك} . الجزء: 44 ¦ الصفحة: 11 عاقبة الإشراك بالله فانظروا -عباد الله- كيف وقع بعض الناس أسارى في هذا الشراك، فوطئتهم هُوَّتُه بكَلْكَلِها، وتَمَعَّتَت عليهم بكَواهِلِها، فأصبحت نفوسهم بذلك ساجية مقهورة، وفي حَكَمَة الذل منقادة أسيرة، حتى صيروا أنفسهم في حوزة خشناء، يغلظ سنامها، ويَخْشُن مسحها، ويكثر العِتار فيها. فلا جرم أن المتخلص منها بعد الإدمان فيها كراكب الصعبة من الإبل، إن أَشْنَق لها خَرَمَ، وإن أَفْلَتَ لها تقحَّم، فيُمْنَى -لعمر الله- بِخَلْط وخَط، حتى لا يُرى في عينه إلا القذى، وليس في حلقه إلا الشجا، إلا بعون من الله ورضوان، فمن وفق للتوحيد رُزق التسديد. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. قد قلتُ ما قلتُ، إن صواباً؛ فمن الله، وإن خطأً؛ فمن نفسي والشيطان، واستغفروا الله، إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 12 سنن السفر الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة من عصيانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين! واعلموا أن الإسلام قد عني بالسفر عناية فائقة، فجعل له أحكاماً تخصه، من سنن، وآداب، وواجبات، ومحرمات، ومكروهات، ينبغي ألا يغفل عنها كل مسافر. كما يُؤَكَّد على إحياء السنن المندثرة عند السفر، من ذلك: 1- ذكر الوداع بقوله لمن يودعهم: استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه. 2- وكذا دعاء الركوب على الدابة، والتكبير على كل شرف، والتسبيح إذا هبط وادياً. 3- وذكر إقبال الليل أثناء السفر، كأن يقول: يا أرض ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، ومن شر ما فيك، وشر ما خُلق فيك، وشر ما يدب عليك، وأعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد. 4- وأن يقول إذا نزل منزلاً: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك. وقد قال القرطبي رحمه الله: هذا خبر صحيح، علمنا صدقه دليلاً وتجربة، منذ سمعتُه عملتُ به، فلم يضرني شيء إلى أن تركتُه فلدغتني عقرب ليلة، فتفكرت فإذا بي نسيتُه. 5- كما يُستحب للمسافر -عباد الله- إذا بدا له الفجر، وهو في السفر أن يقول ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله حينما بدا له الفجر: {سمّع سامع بحمد الله، وحسن بلائه علينا، ربنا صاحِبْنا في السفر وأفضل علينا، عائذاً بالله من النار} رواه مسلم. وغير ذلك من السنن كثير وكثير، يطول المقام بذكرها، غير أنا نوجه بأن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم بآداب السفر من ذكر وتكبير وتسبيح كأنه يعني بالتعريف أن القافلة المسافرة كلها في صلاة، وما هي إلا صور تجعل من تمجيد الله شغل قافلة السفر، ومن ذكره والثناء عليه السمو الذي تطمئن به قلوب ذاكريه. ومن ثم يشعر المسافر باختصار السفر وسهولته، فينجو من وعثائه وكآبته. هذا، وصلوا رحمكم الله على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . وقال صلوات الله وسلامه عليه: {من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً} . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين, واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وسلِّم الحجاج والمسافرين والمعتمرين في برك وبحرك وجوك، يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم. اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. اللهم ما سألناك فأعطنا، وما لم نسألك فابْتَدِئنا، وما قَصُرت عنه آمالنا من الخيرات فبلغنا. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 13 بئست العجلة الدين الإسلامي دين وسط لا يرضى بالإفراط ولا التفريط، ولا المغالاة ولا المجافاة، والنظرة الشرعية للعجلة هي نظرة عادلة، كرهها الإسلام في مواضع وندب إليها في مواضع أخرى، فكما أن التأني مندوب إليه في ظروف تليق به؛ فإن ظروفاً أخرى تليق بالعجلة. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 1 تباين مواقف الناس أمام ظروف الحياة الحمد لله الحكيم الخبير، يحكم بالعدل ويمن بالفضل والله ذو الفضل العظيم، علم القرآن، وخلق الإنسان، علمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له طهر الإنسانية وزكاها، وفضلها على من خلق تفضيلاً، جعل لها سبيلاً واحداً لا سبلاً، وصراطاً واحداً لا صراطات {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من أدب، وأفضل من هذب، قال عنه ربه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:54] . أما بعد: فيا أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي فإن أقدامكم على النار لا تقوى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71-72] . أيها المسلمون: إن البواعث التي تسوق المرء إلى عمل ما، وتدفعه إلى خوض غمار الحياة، بظروفها الواقعة لهي كبيرة متباينة، يبين لتباينها مواقف أهل الاحتكاك بها؛ فتكون نفوسهم إحدى نفسين: إما نفس عجلة تثير الفوضى في المنظوم المحكم، وإما نفس متأنية متئدة، يشرق نبلها من داخلها، فتحسن التصرف وسط الأعاصير. ومن المقررات التي لا ينبغي أن تجهل أو تتجاهل أن تكرار المواقف واستحكامها، وترادف الطوارق والعلائق، وتعقد حبالها ليس لها إلا التأني وحده بعد الله سبحانه، إذ هو عاصم بأمر الله من التخبط، وواق من القنوط في الوقت نفسه. ولابد للمرء في حياته أن يبني أعماله وآماله على ذلك، وإلا كان هالكاً تاركاً حظوظ العجلة أن تصنع له شيئاً ما، أو تبدي له من التدبير ما قصر هو في تدبيره لنفسه، فإن هناك أقواماً يجعلون من اللجوء إلى العجلة ستاراً يواري تفريطهم المعيب، وضيق فطنهم الذميم، وهذا في الحقيقة التواء يعلق القلب بالريب، ويطيش العقول عند الكرب؛ فلا يجلب لهم إلا المعرة وإلا العودة بالألم فيما طلبوا منه السلامة، وبالنصب والأرق فيما رجوا منه الراحة. وذلك كله مما كرهه لنا الدين الحنيف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه} وقال صلوات الله وسلامه عليه: {من يحرم الرفق يحرم الخير كله} رواهما مسلم في صحيحه. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 2 العجلة داء المجتمعات العجلة -عباد الله-: هي داء المجتمعات في القديم والحديث، كما أنها ثغرة ضخمة في إنسانية المرء، وهي بالتالي إذا تبدت فيه كانت ثلمة في إيمانه وحسن تدبيره. العجلة أيها الناس: هي فعل الشيء قبل أوانه اللائق به، وهي بذلك تكون من مقتضيات الشهوة البغيضة، لخروجها عن إطارها المشروع لها، يقول الله جل وعلا: {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11] ويقول جل شأنه: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] ويقول سبحانه: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114] {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16] . الجزء: 45 ¦ الصفحة: 3 العجلة المذمومة مواقف وتصرفات لقد جاء لفظ العجلة في القرآن الكريم متصرفاً في سبعة وثلاثين موضعاً، كلها على سبيل الذم إلا موضعاً واحداً وهو قوله جل وعلا: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] . أيها الناس: إننا لنجد أن هذه العجلة المذمومة، بادية في كثير من أعمالنا وتصرفاتنا، نجدها في الحكم على الأشخاص قبل البحث والتحري، وفي سوء الظن قبل التثبت واليقين، وفي الغضب والاستجابة لترف النفس المؤدية إلى الوقوع في المحذور، فيستحمق الأمر على عجل، ويكون لسانه وفعله قبل قلبه وعقله، فلا يلزم نفسه ولا يتريث، بل يهذي بكلام ويوكس ويسقط في أفعال يحتاج بعدها إلى اعتذار طويل، وتلفيق ملفت، فيقع فيما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: {ولا تتكلم بكلام تعتذر منه غداً} رواه أحمد وابن ماجة. ونقل أبو حاتم البستي رحمه الله أن أعرابياً شهد شهادةً عند أحد السلف فقال: كذبت، قال الأعرابي: إن الكاذب للمتزمل في ثيابك، فقال الرجل: هذا جزاء من يعجل. ولربما لم تفلح المعاذير، ولم ترقع الفتوق، كل ذلك لعجلة لحظة كانت كبرق، وبخاصة ما يثير خصومة ويعجل الطلاق، حتى لقد عد يميناً عند الرعاع، وضرباً من اللغو ينقض به كثير من عرى الزوجية؛ فيقع الندم ولات ساعة مندم، ويسبق السيف العذل، ولكل شيء في الحياة وقته، وغاية المستعجلين فوته، والقاعدة المشهورة: من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 4 علامات العجلة في علاقة المرء بخالقه ومولاه العجلة -عباد الله- قد تكون في أداء الواجب دون إحكام وإتقان، حتى لقد بدت بعض الأعمال المؤداة وكأنها في صورة آلية، لا يتلبث أهلها ليجيدوا ولا يتأنون ليتقنوا، وكأنهم بداخل أغلال أو أطواق، يحاولون في سرعة بالغة وعجلة مقيتة أن ينطلقوا منها، بل تعدى الأمر إلى أبعد من ذلك؛ حتى علاقة المرء بخالقه ومولاه، في جوانب العبادة والمسألة، فترى المرء يعجل في وضوئه فلا يسبغه، ولربما بدا من عقبه أو نحوه ما لم يصل إليه الماء؛ فيقع في وعيد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {ويل للأعقاب من النار} متفق على صحته. كما أنكم -عباد الله- قد ترون المرء يعجل في صلاته فلا يطمئن في ركوعه ولا سجوده، يسرع في الحركات ولا يتلبث وكأنه أفلت في أرض هش، ويغيب عن وعيه قول أبي هريرة رضي الله عنه: {نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث وذكر منها: عن نقرة كنقرة الديك} أي: في صلاته رواه أحمد. ولربما طغت العجلة على المرء حتى في اللحظات الحرجة والتي ينادي فيها ربه ويدعوه متضرعاً إليه، فيفقد بسبب ذلك الاستجابة التي دعا الله من أجلها، جراء ما استعجل غير آبه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: {يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي} رواه البخاري ومسلم، فليتنبه لهذا الأمر أهل الضوائق والبلاء، أو الحوائج والأمراض الذين يتعجلون الله في أدعيتهم أو رقاهم أو نحوها. فإن الاستجابة موكلة بالأناة والصبر، التي ينسلخ المرء بها من الضجر والتبرم، ويقف في أرض الله أواباً، يرجو رحمته ويخاف عذابه، فلا يضيره ما فقد ولا يحزنه ما قدم. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 5 عليك بالتأني وإياك والعجلة إن المرء المسلم عندما يكون يقظ الفكر على هبوب الأخطار والمخاوف، وعندما يظل رابط الجأش يقلب وجوه الرأي هنا وهناك، ابتغاء مخلِّص مما عراه فإن النجاح لن يخلفه بإذن الله تعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما الصبر عند الصدمة الأولى} رواه البخاري ومسلم. فالواجب على العاقل -عباد الله- أن يلزم التأني في الأمور كلها، والاعتدال في الحالات المتضاربة، وترك العجلة والخفة بها لأن الزيادة على المقدار في المبتغى عيب، كما أن النقصان في ما يجب من المطلب عجز، وما لم تصلحه الأناة لن تصلحه العجلة، ففي ترك الأناة يكون الخرق، وفي لزوم الخرق تخاف الهلكة، وبالتثبت حاله من حمد إلى ظفر، فمن يركب الأناة لا يستعقب الزلل، ولا صار ألف مدبج في حاجة لم يقضيها إلا الذي يتأنى، فالمتأني الحذق لا يكاد يسبق، كما أن العجل النزق لا يكاد يلحق، وما أحسن ما قيل في الصديق رضي الله تعالى عنه: من لي بمثل مشيك المدلل تمشي رويداً وتجي في الاول وخلال العجل -عباد الله- أنه يقول قبل أن يعلم! ويجيب قبل أن يفهم! ويحمد قبل أن يجرب! ويذم بعدما يحمد! يعزم قبل أن يفكر! ويمضي قبل أن يعزم! العَجِل تصحبه الندامة وتعتزله السلامة. ولقد كانت العرب في القديم تكني العجلة "أم الندامات" والمثل السائد: في التأني السلامة وفي العجلة الندامة. قد يدرك المتأني جل حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل قال المهلب بن أبي صفرة: أناة في عواقبها درك، خير من عجلة في عواقبها فوت. إن التأني مع الصبر سبب في التحصيل المتكامل، في شتى شئون الحياة بدءاً من العلم والتعلم، وانتقالاً إلى التربية والتكوين، والكسب والتكسب فيما أحل الله وأباح، فليس المرء يولد عالماً غنياً حليماً، وإنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، والغنى بالتكسب. وإن القليل بالقليل يكثر كذا الصفاء بالقذى ليكدر الجزء: 45 ¦ الصفحة: 6 عاقبة العجلة المشئومة ألا وإن بروز العجلة في هذا الميدان لهو المؤذن بالفشل الذريع، وكثرة الفتور والقنوط من التكامل، ولقد ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله: أن رجلاً من أهل العلم كانت له مدارسات وتلمذة فتباطأ تحصيله، وأيس حصوله فترك العلم، وخرج مرة فإذا هو بماء يصب فوق صخرة وقد أثر فيها؛ فقال: سبحان الله، هذا الماء على لطافته أثر في هذه الصخرة على كثافتها، فلا والله ليس العلم بألطف من هذا الماء، وليس عقلي بأثخن من هذا الصخرة، فعاد إلى العلم والتعلم حتى أصبح من كبار المحدثين الحفاظ. اليوم شيء وغداً مثله من نخب العلم التي تلتقط يحصل المرء بها حكمة وإنما السيل اجتماع النقط فاتقوا الله معاشر المسلمين، وعليكم بالتؤدة والتأني تفلحوا، وإياكم والعجلة فليست من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا هي من شأنه، فما علينا إلا الأناة والانضباط في الأعمال، وعدم النظر إلى الثمرة فقد تتأخر، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد سراقة بن مالك رضي الله تعالى عنه بسواري كسرى، ولم يلبسهما إلا في عهد الفاروق رضي الله عنه، لأن المؤمل غيب وليس لنا إلا الساعة التي نحن فيها، وإن غداً لناظره قريب. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 7 نظرة الإسلام إلى العجلة الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، ثم اعلموا! أن من الناس من لا يحسن التؤدة ولا الأناة، كما أنه بعيد الإتقان لمواطن العجلة المحمودة، فلا هو من أهل الأناة فيحمد، ولا أحسن مواضع العجلة فيشكر، حيث يبلغ في البطء غايته، ويصل في العجلة مزلتها، فيصير مثل فند مضرب للمثل، حيث كان مولى لإحدى نساء التابعين، فأرسلته مرة يحتطب، فرأى قافلة تسير إلى مصر فارتحل معهم ثم عاد بعد سنة، وتذكر الاحتطاب فعجل حتى تعثر على الأرض، ثم قال: بئست العجلة، فصار مثلاً مضروباً حتى قيل فيه: ذاك فند أرسلوه قابساً فثوى حولاً وسب العجلة وأمثال هذا كثير ممن يسيرون في أعمالهم على عادة قبيحة، يقول أصحابها: لا تؤخر إلى الغد ما تستطيع أن تفعله بعد غد. والدين الإسلامي عباد الله دين وسط لا يرضى بالإفراط ولا التفريط، ولا المغالاة ولا المجافاة، والنظرة الشرعية للعجلة هي نظرة عادلة كرهها الإسلام في مواضع وندب إليها في مواضع أخرى، فكما أن التأني مندوب إليه في ظروف تليق به، فإن ظروفاً أخرى هي تليق بالعجلة، والعجلة لا تليق إلا بها، ولربما فات قوم جل طلبهم من التأني وكان الأمر لو عجلوا، وليس معنى تنفير الإسلام من العجلة أنه يريد أن يعلم أتباعه البطء في الحركة أو الضعف في الإنتاج أو التماوت في العمل والكسل في أداء الواجبات، كيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر} رواه الترمذي. ويقول صلوات الله وسلامه عليه: {ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده} رواه البخاري ومسلم. ومن هذا المنطلق عباد الله كان ثم أمور ومواقف تتطلب من التصرف الحازم، والعمل السريع، ما لا يناسبه التأجيل والتسويف مثل العجلة في اغتنام الأوقات وترك التسويف فيها، وكذا التعجيل في الفطور للصائم، وتعجل المسافر إلى أهله لقضاء نهمته، وكذا صد الشر الظاهر، وإغاثة الملهوف، والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وعدم تأخير البيان عن وقت حاجته فيما للمسلمين فيه حاجة، كبيان حق، وإبطال باطل، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وكذا الواجبات الموقوتة في وقت محدود، يقول صلى الله عليه وسلم: {التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة} رواه أبو داود. ويتأكد أمر العجلة بشدة في وجوب الأخذ بالحق إذا ظهر وعدم التواني في قبوله، وترك التسويف المودي إلى تركه ومجانبته، والبعد كل البعد عن التعليلات أو التبريرات التي يدَّعى أنها مسوغ لتركه أو تأجيله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] والمعاذير التي يقدمها المرء في تأجيل الحق أو رده مهما بلغت ما هي إلا أوهام وخيوط أوهى من نسج العنكبوت، فإذا كنت أيها المرء ممن: إذا كنت يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا ويلهيك حسن جمال الربيع فأخذك للعلم قل لي متى اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا إلى ما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم لتحيي به البلاد وتسقي به العباد، ولتجعله بلاغاً للحاضر والباد. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 8 إياكم والجاهلية من يعبد الله بغير ما شرع الله فإن عمله مردود عليه، وقد كان أهل الجاهلية يؤدون الحج بصفات ما أنزل الله بها من سلطان، حتى حجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الناس عنه مناسكهم. ومما أورده الشيخ في حديثه هذا -بالإضافة إلى ذلك- أن كل المعاصي في أعمال الجاهلية. وأورد أيضاً بعض صور معصية الله التي كانت في الجاهلية وقد تتكرر، فلذلك يلزم الحذر منها. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 1 صفة الحج في الجاهلية الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، له الحمد في الأُولى والآخرة، يحي ويميت وله اختلاف الليل والنهار، وهو يتولى الصالحين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة بها نحيا وبها نموت وعليها نُبعث يوم الدين. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الناصح الأمين، وقائد الغر المحجلين، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فوصيتي لنفسي ولكم -عباد الله- هي تقوى الله سبحانه، في السر والعلن، والحضر والسفر، والفرح والحزن، في خلواتكم وجلواتكم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4] . أيها الناس! لقد اُبتليت المجتمعات الجاهلية في غابر الأزمان برجس الأصنام والوثنية، والخمر والميسر، والأنصاب والأزلام، يتخرج منها رجال ونساء في الشرك والتضليل، والجهالة والعِبِّيَّة الجاهلية، حتى لقد أصبحت مقاصد الحج عندهم عبارة عن تجمعات مكثفة في سوق عكاظ، يقصدها الناس من شتَّى أنحاء البلاد. وكان يُقام فيها السوق في شهر ذي القعدة نحواً من نصف شهر. ثم يأتون بعد ذلك موضعاً دونه إلى مكة، يقال له: سوق مجنة، فيُقام فيه السوق إلى آخر الشهر. ثم يأتون موضعاً قريباً منه، يقال له: ذو المجاز، فيقام فيه السوق إلى يوم التروية. ثم بعد ذلك يَصْدُرون منه إلى منى. كانت تجتمع في هذه الأسواق قبائل العرب، ووفود ملوكهم بالهدايا والقرابين إلى الأصنام، يتناشدون الأشعار، ويفتخرون بالسلب والنهب، وقتل الأنفس البريئة دون ما ذنب أو جريرة، ويمارسون وأد البنات إبَّان حياتهن، ويعدون ذلك من المكرمات التي تهون دونها الحُرُمات. عباد الله! لقد كانت مواقف الجاهلية في الحج مواقف مخزية، إنما هي خليط ممزوج من الأضداد والمتناقضات، يظهر ذلك جلياً في بعض المواقف المتكررة، فمن ذلك -مثلاً-: تلبيتهم في الحج التي يخلطون معها الشرك، فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما مَلَك {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] . وكانت قبيلة عَكٍ إذا خرجت حاجَّة قدمت أمامها غُلامين أسودين من غلمانهم، فكانا أمام ركبهم، فيقولان: نحن غرابا عَكٍّ، فتقول عَكٍّ من بعدهما: عَكٌّ إليك عانية عبادة يمانية كيما نحجَّ الثانية هذه هي تلبيتهم. ولقد كانت قريش ومَن دان بدينها، يقفون بـ المزدلفة، وسائر العرب يقفون بـ عرفات، حتى أنزل الله على رسوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] . ومن مظاهر الجاهلية في الحج عباد الله! ما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بقوله: [[كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يُطعم، ويحمل الحمالات ويحمل الديات ليس لهم ذكر غير فِعال آبائهم، فأنزل الله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة:200]] ] . الجزء: 46 ¦ الصفحة: 2 دروس وعبر من حج الرسول صلى الله عليه وسلم وفي خضم الجاهلية الجهلاء يمن الرب الرحيم القادر الحليم على عباده بالنبي الخاتم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم بالنفس الطاهرة، فأُنْزِلت آيات الكتاب المتلوة، وأبلغ الرسول دعوته، فسمع الأصم نبراته، وأبصر الأعمى آياته، جاء البشير النذير، والسراج المنير، فاقتلع الوثنية من جذورها، واستأصل شأفتها، بعد أن سفَّه أحلامهم، وعاب آلهتهم، في مدة من الزمن وجيزة {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] . وَيمنَّ الله عليه بفتح مكة، وتحطيم ما فيها من أصنام وأوثان، ثم يُرسل أبا بكر في السنة التاسعة حاجّاً، لينادي في الناس: {ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان} . ثم يأتي -صلوات الله وسلامه عليه- حاجاً في السنة العاشرة، ليختم دعوته بلقاءٍ حاسم مع جموع المسلمين في عرفات المشاعر المقدسة، ويقول لهم: {خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد يومي هذا} . وفي يوم عرفة في اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأنزل فيه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] في يوم عرفة -عباد الله- يرى الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أن هذا الجمع العظيم، وهذه القلوب الصافية الخاشعة فرصة عظمى لأن تعي ما سيقول لها من قواعد عظيمة، ربما عدُّوها وصية مودع مشفق، فيقف على راحلته، ويخطب الناس خطبته المشهورة، كما جاء في سنن أبي داود وسنن ابن ماجة، وغيرهما، فكان مما قال فيها: {ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمانا: دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب -كان مسترضعاً في بني سعد، فقتلته هُذيل- وربا الجاهلية موضوع كله، وأول ربا أضعه ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله} الحديث. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 3 وجوب مخالفة المسلمين لأهل الجاهلية إن هذه الكلمات المنبعثة من مشكاة النبوة ليؤكد بها المصطفى صلى الله عليه وسلم حتمية المخالفة لما كان عليه أهل الجاهلية، ويبين بذلك أنَّ مسمَّى الجاهلية يعني: أن يكون الأمر إسلاماً أو لا إسلام. فالجاهلية والإسلام أمران نقيضان، لا يمكن أن يجتمعا في نفس واحدة البتة. إن كلمة الجاهلية لم تكن نشازاً من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، لا وكلا! بل هي كلمات مطروقة، تكرر ذكرها في غيرما موضع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد قال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] ، وقال عزَّ وجلَّ: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] ، ويقول جل شأنه: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] ، ويقول سبحانه: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح:26] . ولقد بوَّب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه باباً فقال: (باب المعاصي من أمر الجاهلية) وذكر فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر رضي الله عنه لما عيَّر رجلاً بأمه: {إنك امرؤ فيك جاهلية} . قال الحافظ ابن حجر: " إن كل معصية تؤخذ من ترك واجب أو فعل محرم فهي من أخلاق الجاهلية ". وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: {قال رجل: يا رسول الله! أنؤاخَذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أُخذ بالأول والآخر} رواه البخاري ومسلم. وقد قال ثابت بن الضحاك رضي الله تعالى عنه: {ينذر رجل أن ينحر إِبِلاً بـ بوانة، فسأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوفِ بنذرك} الحديث. رواه أبو داود. فيؤخذ من هذا الحديث وغيره -عباد الله- التحذير الشديد من أمور الجاهلية، أو مشابهة أهلها في أي لون من ألوانها. كيف لا! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ألا إن كل شيء من أمور الجاهلية تحت قدمي موضوع} ؟! ولو لم يكن من ازدرائها، وشناعة قبحها، إلا حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليها بأنها تحت قدميه لكفى. لقد أكدَّ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه مخالفة ما عليه أهل الجاهلية من الكتابيين والأميين، مما لا غنى للمسلم في أن ينبذها وينأى بنفسه عن الوقوع في هُوَّتها، وأن ينسلَّ بنفسه عن أشدها خطراً، وأكثرها ضرراً، وهو عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، ناهيكم عما ينضاف إلى ذلك من استحسان ما عليه أهل الجاهلية الذي تتم به الخسارة والبوار، كما قال جل شأنه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت:52] ، {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83] . الجزء: 46 ¦ الصفحة: 4 صور من التشبه بأهل الجاهلية وإن من أعظم التشبه بما كان عليه أهل الجاهلية، وأكثرها إيقاعاً للخلل في دين الناس ودنياهم أموراً ثلاثة: الجزء: 46 ¦ الصفحة: 5 إشراك الصالحين في الدعاء والعبادة الأمر الأول: أن كثيراً من الناس يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله وعبادته، يُريدون شفاعتهم عند الله، في حين أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، بل إنهم في الوقت نفسه لأحوج إلى عفو الله ورحمته من أولئك الذين يدعونهم، كما قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] . وهذه عباد الله! هي أعظم مسألة خالف فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان عليه أهل الجاهلية، وعندها بدت بينه وبينهم العداوة والبغضاء أبداً حتى يؤمنوا بالله وحده. ومن هنا افترق الناس إلى مسلم وكافر. ولأجل هذه القضية العُظمى شُرِع الجهاد في سبيل الله، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193] . الجزء: 46 ¦ الصفحة: 6 الفرقة والاختلاف الأمر الثاني: أن أهل الجاهلية متفرقون في دينهم ودنياهم، وهم في ذلك فِرَق وأحزاب {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53] كلُّ منهم يرى أنه على الحق دون سواه، فمُحق الخير، وأحيي الشر، حتى أصبح المرء لا يعرف إلا نفسه، ولا يتأثر بالفرح والحزن إلا لما يمسه هو من خير أو شر، فماتت العاطفة والصلة بمشاعر الأخوة الإسلامية العامرة. فجاء الإسلام، ودعا إلى الأخوة الدينية، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول ربه عزَّ وجلَّ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13] ، وتلا قول خالقه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] . ويعلن المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه قولته المشهورة: {مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر} رواه مسلم. ويكون بذلك مؤكداً أخوة الدين التي تفرض تناصر المؤمنين المفلحين، لا تناصر العِبِّيَّة العمياء، والجاهلية الجهلاء؛ لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وإجارة المهضوم، وإرشاد الضال، وحد المتطاول. وهذا كله هو ثمرة قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {انصر أخاك ظالِماً أو مظلوماً} رواه البخاري. إن الله سبحانه ردَّ أنساب الناس وأجناسهم إلى أبَوَين اثنين، فهم جميعاً,. الناس من جهة التمثال أكْفَاءُ أبوهمُ آدم والأم حواءُ وإن يكن لهم من أصلهم نسبٌ يفاخرون به فالطين والماءُ ليجعل الله من هذه الرحم ملتقى تتشابك عنده الصلات، وتُسْتَوثَق العُرى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] . إنه التعارف لا التفاخر، والتعاون لا التخاذل، وأما الشرف والرفعة فإنما هو في قوة الدين، وتمكَّن التقوى من قلب العبد في إزالة الفوارق البشرية. فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من أشراف قريش يقف مع الناس، ويقول لقومه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] تحقيقاً للمساواة بين المسلمين، وكان الرجل من أشراف قريش يأنف أن يُزوج ابنته أو أخته من الرجل من عامة الناس، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزوج ابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية من مولاه زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما. ويقول صلوات الله وسلامه عليه: {يا بني بياضة! أنكحوا أبا هند، وأنكحوا إليه} وقد كان حجَّاماً رضي الله تعالى عنه. رواه أبو داود والحاكم. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 7 مخالفة ولي الأمر الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد البشر، والشافع المشفع في المحشر، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه السادة الغُرَر. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أن ثالثة الأثافي من أمور الجاهلية هي: دَيْدَن الجاهلية المتمثل في ظنهم المقلوب: أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة ورفعة، وأن السمع والطاعة والانقياد ذلٌّ ومهانة، ونقص في الرجولة والعلم، فخالفهم المصطفى في ذلك في السمع والطاعة في المنشط والمكره للولاة الشرعيين، بالبيعة الشرعية، وأمر بالصبر على جَور الولاة، وعدم الخروج عليهم، مع بذل النصح والإرشاد لهم، فغلَّظ في ذلك وأبدى وأعاد، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، حيث يقول: {من كره من أميره شيئاً فليصبر؛ فإن من خرج عن السلطان شبراً مات ميتة جاهلية} رواه البخاري ومسلم. فهذه الأمور الثلاثة التي مضت جَمَعَها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إن الله يرضى لكم ثلاثاً: ألا تعبدوا إلا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولَّاه الله أمركم} . رواه البخاري ومسلم. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 8 الجاهلية والتحاكم إلى غير الشريعة ومما ينبغي التنبه إليه -عباد الله- هو ما وقع فيه كثير من الناس في هذا العصر إلا من رحم الله، من التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتراضي بأحكام البشر، وقوانينهم، ودساتيرهم، وهذا -وربي- هو عين فعل الجاهلية {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50] . لقد أنكر الله -سبحانه- على من خرج عن حكمه المشتمل على كل خير، الزاجر عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من قوانين البشر وأعرافهم التي وضعها رجالهم، بلا مستند أو أثارة من علم، كما كان عليه أهل الجاهلية الأولى، وكما كان يحكم به التتار في السياسات المأخوذة عن سلاطينهم التي اقتبسوها من شرائع شتى، كـ اليهودية، والنصرانية وغيرها، فصار فيمن بعدَهم شرعة متبعة يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. يصف أمثالَهم لبيد بن ربيعة ويقول: مِن معشرٍ سنَّت لهم آباؤهم ولكل قوم سُنَّةٌ وإمامها وهم بذلك كله قد كفروا كفراً وجب قتالهم لأجله حتى يرجعوا إلى حكم الله ورسوله {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] ، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] . هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين, واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم فرج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وسلِّم الحجاج والمسافرين والمعتمرين في برِّك وبحرك وجوك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى. اللهم أصلح له بطانته، يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا. اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك. اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار، اللهم لتحيي به البلاد، وتسقي به العباد، ولتجعله بلاغاً للحاضر والبادِ. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 9 القلم بريد اللسان الصامت القلم خطيب الناس، وفصيحهم، وواعظهم، وطبيبهم، بالأقلام تدبر الأقاليم وتساس الممالك. القلم في المعركة سلاح ذو حدين، والمسلمون في حاجة ماسة إلى القلم الصادق الأمين الملهم الذي ينشر الحق، ويحيي السنة، ويدل الناس إلى ما فيه خير دينهم ودنياهم، وللتأكيد على أهمية صاحب القلم فقد وضع أهل العلم شروطاً يجب أن تتوفر فيهم. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 1 إقسام الله بالقلم الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، ولي الصالحين، ومجيب دعوة المضطرين {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الحديد:3-4] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] له الحكم كله وإليه يُرجَع الأمر كله، وبيده الخير كله {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70] . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير مرسول وأشرف متبوع، بالحق قضى، وللحق دعا، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن سعادة المؤمن ورفعته تبدو مُجَلاَّة في تقواه لربه، إذ بالتقوى يُذكَر، وبالتقوى يُنصَر، يطيع فيُشكَر، ويعصي فيُغفَر، فليتق الله امرؤٌ حيثما كان، وليُتْبِع السيئة الحسنة تمحها، وليخالق الناس بخلق حسن {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] . أيها الناس! قاعدةٌ من قواعد التفسير مقررة، كشف معناها علماء التأويل وأئمته، وعدوها معنى من معاني التشريف والتكريم، ما جاءت أفرادها في القرآن إلا وفُهِم منها علو المكانة، ورفعة المنة بها، ونعمة الإيجاز التي يمن الله بها على عباده من مخلوقاته في الأرض وفي السماء، تلكم القاعدة -عباد الله- هي: أن لله -جل وعلا- أن يُقْسِمَ بما شاء من مخلوقاته في سمائه وأرضه، كالليل، والقمر، والشمس، والنجم، والطارق، والفجر، والعصر وغيرها من المخلوقات. وهذا القسم من الله أمارة على المكانة، والاختصاص من بين سائر المخلوقات، وإذا ما أرسلنا الطرف رامقاً بين دفتي كتاب الله جل وعلا؛ فإننا -ولا جرم- سنجد أن هناك قسَماً من بين تلك الأقسام الجليلة، قسَماً أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، نزل به الروح الأمين، قسماً أنزله الله تسلية وتثبيتاً لخاتم الرسالات والمرسلين، قسَماً من الباري -جل شأنه- في مقابل تكذيبٍ وعنادٍ يصرخ به كفار قريش وصناديدهم، إنه قول الباري جل وعلا: بسم الله الرحمن الرحيم {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:1-2] الإقسام من الله لا يُتبَع إلا بشريف ما أبدع، وكريم ما صنع، لقد أقسم الله بالكتاب وآلته وهو القلم، الذي هو إحدى آياته وأول مخلوقاته. والقلم -عباد الله- اسم جنس لكل ما يُكتب به، وهو أول مخلوقات الله تعالى، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن أول ما خلق الله القلم} الحديث. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 2 وظائف القلم القلم -أيها المسلمون- هو خطيب الناس، وفصيحهم، وواعظهم، وطبيبهم، بالأقلام تُدبَّر الأقاليم، وتساس الممالك، القلم نظام الأفهام يخطها خطاً فتعود أنظر من الوجه المرقوم، وكما أن اللسان بريد القلب؛ فإن القلم بريد اللسان الصامت، وإذا كان الأمر كذلك؛ فقلمك -يا أُخَيَّ- لا تذكر به عورة امرئ إذْ كلك عورات وللناس أقلام. الكتابة بالقلم للمرء شرفٌ ورفعةٌ، وبضاعةٌ رابحةٌ، وأثرٌ غالٍ، ومأثرٌ علِيٌّ، هي للمتعلم بمنزلة السلطان، وإنسان عينه بل عين إنسانه، كيف لا! وأعظم شاهد لجليل قدرها، وأقوى دليل على رفعة شأنها؛ أن الله -سبحانه- نسب تعليمها إلى نفسه، واعتدَّها من وافر كرمه وجزيل أفضاله! بسم الله الرحمن الرحيم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:1-4] . بالإضافة إلى ما يؤكد أن هذه الآية مفتَتَحُ الوحي، وأول التنزيل على أشرف نبي وأكرم مرسل، وفي ذلك من الاهتمام بشأنها ورفعة محلِّها ما لا خفاء فيه، بل هي ما وصف الله به حفظته بقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:10-11] يقول ابن القيم رحمه الله: "التعليم بالقلم من أعظم نِعَمِهِ على عباده، إذ به تخلد العلوم، وتثبت الحقوق، ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض، واندرست السنن، وتخبطت الأحكام، ولم يعرف الخلف مذهب السلف، وكان يعظُم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم لِمَا يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم إلى أن قال رحمه الله: فمن ذا الذي أنطق لسانك، وحرَّك بنانك؟ ومن الذي دعَّم البنان بالكف، ودعَّم الكف، بالساعد؟ فكم من الله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم". انتهى كلامه رحمه الله. أيها الناس! دعا إلى القلم والخط به نبيٌّ أميٌّ، لم تكن أُميته يوماً ما قدحاً في رسالته أو مسلباً في نبوته! كلا. بل هي مدح ومنقبة؛ لأن من ورائها حكمةٌ بالغة، هي رد وحجة على الملحدين المعاندين، حيث نسبوه إلى الاقتباس من كتب المتقدمين كما أخبر الله بقوله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5] وأكد ذلك بقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] فكان ذلك من أقوى الحجج على تكذيبهم، وحسم أسباب الشك في نبوته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 3 تاريخ الكتابة بالقلم لقد كان الخط في مبدأ ظهور الإسلام هو الخط الأنباري، وكان يُكتب به النزر اليسير من العرب عامة، وبضعة عشر من قريش خاصة، وبعد انتصار النبي صلى الله عليه وسلم في بدر؛ أُسِرَ جماعةٌ من المشركين كان من بينهم بعض الكُتَّاب، فقُبِل الفداء من أمِّيِّيهم، وفادَ الكاتبَ فيهم بتعليم عشرة من صبيان المدينة، فانتشرت الكتابة بين المسلمين، وحضُّوا على تعلمها، واشتهر كُتَّاب الصحابة؛ كـ زيد بن ثابت، ومعاوية، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ثم ازدادت انتشاراً في عهد التابعين على قلة الإمكانات وعسر الحال. يقول سعيد بن جبير رحمه الله: [[كنت أجلس إلى ابن عباس فأكتب في الصحيفة حتى تمتلئ، ثم أقلب نعليَّ فأكتب في ظهورهما]] . وقال عبد الله بن حنش: [[رأيتهم عند البراء يكتبون بأطرف القصب على أكفهم]] . وذكر الإمام الدارمي رحمه الله: أن أباناً رحمه الله كان يكتب عند أنس في سبورة. قال سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه: [[من لم يكتب فيمينه يُسرى]] . وقال معن بن زائدة: إذا لم تكتب اليد فهي رجل. هذه النصوص وأمثالها لا أبعاد لها إلا التحضيض والترغيب في الكتابة وتعلمها ليس إلا. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 4 القلم سيف في المعركة أيها المسلمون! لقد فاخر كثير من البلاغيين في القلم؛ حتى جارَوا به السيف أو أزيد من ذلك بضروب من وجوه الترجيح كيف لا! وقد أقسم الله به، إضافةً إلى أن القلم يُؤثر في إرهاب العدو على بُعْدٍ، بخلاف السيف فإنه لا يُؤثر فيه إلا عن قرب، إذ أن القلم البَرَّ الجاد يرقُم صحائف الأبرار لتحطيم صحائف الأشرار، لا يصرفه عن ذلك ما يلاقيه في عوالم شتى مِن قِبَل ذوي النزغ من أهل البدع والإلحاد في الدين، أو من ذوي الأقلام المأجورة ممن همُّهم الإحبار أمام الدرهم والدينار، فضلاً عمَّا يصاحب ذلك من تعسف وإرهاق وقوةٍِ باسترقاق الأقلام أو تجفيف المحابر. إنه في الحقيقة لا يزيد أهلَ العلم إلا بياناً وتبياناً، وعزماً على قول الحق، وتبيين الدين للخلق، والتحذير مما يغضب الله ورسوله مع سكينة وأريَحْيَّة، حاديهم في ذلك قوله جل وعلا: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5] . عباد الله! صدق القلم وفصاحته من أحسن ما يتلبس به الكاتب ويتزر به العاقل، والاعتناء بأدب القلم في المعنى هو ضرورة كما الأمر في المبنى، وهو بذلك صاحبٌ في الغربة، ومؤنس في القلة، وزينٌ في المحافل وأشياع الناس، ناهيكم بعد ذلك عن دلالته على العقل والمروءة ورباطة الجأش، والتبرِّي من ضيق العطن، وعشق رأي الذات {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] . ثَمَّةَ ولا شك أن من غرس فتيلاً يوشك أن يأكل رطبها، وما يستوي عند أولي النهى وذوي الحجا قلمان: أحدهما ثرثار متفيهق، يطب زكاماً فيحدث جذاماً، والآخر: يكتب على استحياءٍ محمود، وغيرةٍ نابتة من حب الله ورسوله، وإذا تعارض القلمان فإن الخَرَس خيرٌ من البيان بالكذب، كما أن الحصور خير من العاهر. من عزم الكتابة -عباد الله- فلا يتخذها للمماراة عُدَّة، ولا للمجاراة ملجئاً، ولا يأمننَّ الزلة والعرضة للخطأ، وكما قيل: "من ألَّف فقد استُهْدِف! " وفي القديم: "مَن كتب فكأنما قدَّم للناس عقله على طبق". وإن تعجبوا -عباد الله- فعجبٌ! ما يقول المزني رحمه الله عن شيخه الإمام الشافعي الفقيه النحوي المحدث: قرأتُ كتاب الرسالة للشافعي عليه ثمانين مرة، نجد في كل مرة ما لا نجده من قبل. يعني بذلك: مما يستوجب إعادة النظر. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 5 القلم المؤثر في القلب ألا وإن أبلغ الأقلام في الوصول إلى القلب ما لم يكن بالقروي المجدع، ولا البدوي المعُرب، مع ما يتحلَّى به صاحبه من صدق في الحال، ونية في الإصلاح، وإلا فماذا يغني الضبط بالقلم إذا لم يشف من ألم، وحاصل ذلك: أنه ما رُؤي كمثل القلم في حمل المتناقضات، فهو عند اللبيب المهتدي آلة من آلات الخير والبر، ومركبٌ من مراكب البلوغ والنجاح، ورأب صدع الفلك الماخر، وهو عند الوقح السفيه عقرب خبيثة، ودود علق يلاصق لحم من ينال، وبينهما ثالث برزخ يقول فيه بعض أهل العلم: العرب تضرب المثل بحاطب الليل الذي يكتب كل ما يسمع من غث وسمين، وصحيح وسقيم؛ لأن المحتطب بالليل ربما ضم إليه أفعى تنيناً فتنهشه وهو يحسبها من الحطب. وأهل هذا الصنف سواد في الناس غير خاف لرامق ببصر. قد يُوفَّق الكاتب في كتابته فيكون لها شأن يظهر عليها منه الجِدَّة وإجادة المطلع وحسن المقطع، مُدعَّمة بالنصوص الشرعية، والأقوال المرعية، فتبهر القلوب، وتأخذ بالألباب حتى يظن القارئ أو السامع أنها غير ما في أيدي الناس وهي مما في أيدي الناس، حيث ترى براعة القلم، وشجاعته، ولطف ذوقه، وشهامة خاطرة، وليس كل خاطر براقاً، وفي الحديث الحسن: {إن من عباد الله من إذا قرأ القرآن رأيت أنه يخاف الله} {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] . لقد بُهِرت الأمة بكُتَّابٍ مسلمين في كافة الميادين، شعراء مُلهمين من شعراء الزهد والحكمة كـ أبي العتاهية وأئمة المهديين، أشاعوا العلم ونصروه، ونصروا السنة بأقلامهم، كالأئمة الأربعة، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وابن القيم، وابن كثير، ومحمد بن عبد الوهاب , وغيرهم كثير وكثير من مجددي ما اندرس من معالم الإسلام. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 6 حال القلم في هذا الزمن بَيْد أن القلم في هذا الزمن قد فشا فشواً كبيراً، واتسع نطاقه حتى بلغ القاصي والداني، في صورة هي في الحقيقة مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم: {إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشوا التجارة؛ حتى تعين المرأةُ زوجَها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم} رواه أحمد، ومما لا شك فيه أن الشيء إذا فشا وذاع ذيوعاً واسعاً كثر مُدَّعوه، وقلَّ آخذوه بحقه، فكثر الخطأ، وعمَّ الزلل. وإن من ذلك عُرِي بعض الأقلام عن الأدب، فلم تُرعَ حرمةً، ولم تحسن رقماً، ولم تزن عاطفة في نقاش؛ فثارت حفائظ، وبُعِثَت أضغان، وكُشِفَت أستار، واشتد لغطٌ رقماً بقلم في قرطاس ملموس بالأيدي! ناهيكم عن الكذب والافتراء والتصريح بالعورات والمنكرات، والجرأة على الله ورسوله، مع ما يصاحب ذلك من قلم مُتعثر، ومقالات لها في كل واد شعبة يعثرون من خلالها عثرات متكررة، دون التفات إلى أسباب تلك العثرات، حتى يزداد خطرها، ويستفحل شرها، ومن ثمَّ ينوء أصحابها بأحمال ندم لا يُقِلُّها ظهر، وتنكيس رءوس يُمْسون بها بعيدي الرفع، ودموع حزن على قبح تقصير ما لمددها انقطاع، وأقسى الكل أن سيقال لمثل أولئك: بماذا! ومن أجل ماذا! ولأي شيء! يا من خططت ببنانك ما يوبق انتماءك للحق وصدق جنانك، ثم توزن بالعدل والميزانُ غالب. فيا لِلَّه العجب! كيف وُهبت لهؤلاء عقول، وأسيلت أقلامٌ، فما قدروا الله حق قدره بها، ولم يستحضروا ثمرة العقل الموهوب، والرقم المكتوب، الذي باينوا به البهائم؛ حتى تشمخوا بفعلهم وغفلوا عمن وهب، وهو الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. ولعمر الله! أي شيء لهم في الحبر والقلم ليس ملكاً لهم، ويا لَلَّه كيف لا تُوَجَّه الموضوعية في الطرح على شِرْعةِ ومنهاجِ مَن بعث لصاحب القلم السيَّال في ظلام طبعه نورَ القبس؟ {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. قد قلت ما قلت إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 7 شروط أهل العلم في الكتابة بالقلم الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وإخوانه. أما بعد: فإن المسلمين بعامة في حاجة ماسة إلى القلم الصادق إلى القلم الأمين إلى القلم الملهم، الذي ينشر الحق ويُحيي السنة، ويدل الناس إلى ما فيه خير دينهم ودنياهم {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} [البقرة:282] . إن القلم أمانة، وحَمَلَته كُثْر من بني الإنسان {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] وما كل مَن حمل الأمانة عرف قدرها، ولأجل ذا لَفَتَ عُلماء الإسلام الانتباه إلى صفاتٍ وضوابط لا يسع الأمةَ إهمالُها، ولا ينبغي أن يقصر فيها كاتب أو ذو قلم، أو من جهة أخرى تلفت الفطن من قبل القراء وأمثالهم عمن يتلقون ما ينفع، ولمن يقرءون ما يفيد، وممن يأخذون، ولمن يذرون، فتكلموا عن كون صاحب القلم، مكلَّفاً بليغاً، قوي العزم، كفواً، عالي الهمة ونحو ذلك، إلا أن أجل التأكيد منصب في كثير من كلام أهل العلم على أمور ثلاثة هي من الأهمية بمكان: الجزء: 47 ¦ الصفحة: 8 الشرط الأول: الإسلام أولها: أن يكون الكاتب مسلماً، ليؤمَن فيما يكتبه ويُسطِّره، ويوثَق به فيما يذره ويأتيه، إذ هو لسان المجتمعات الجاذب للقلوب؛ ولأجل ذا لما قَدِمَ أبو موسى الأشعري على الفاروق رضي الله عنه ومعه كاتب نصراني، فأعجب الفاروق بحسن خطه، فقال: [[احضر كاتبك ليقرأ، فقال أبو موسى: إنه نصراني لا يدخل المسجد، فزجره عمر، وقال: لا تُأمِّنوهم وقد خونهم الله، ولا تدنوهم وقد أبعدهم الله، ولا تعزوهم وقد أذلهم الله]] ، وقد قال الشافعي في كتابه الأم: ما ينبغي لقاضٍ ولا والٍ أن يتخذ كاتباً ذمياً، ولا يضع الذمي موضعاً يفْضُل به مسلماً، فإذا كان هذا -أيها المسلمون- فإنه يعز علينا جميعاً أن يكون لنا حاجة إلى غير مسلم، وإذا كان هذا في حق كاتب القاضي أو الوالي ففي كتاب المسلمين وصحافتهم من باب أولى؛ لعموم النفع أو الضر به، فليت شعري! هل يعي ذلك ممتهن الصحافة قراءة وكتابة؟ وهل سيظلون في دائرة التلقي ممن في صدق انتمائهم للدين شكٌ وريبة؟ أم أننا سنظل أبداً نتذوق مرارةٍ نتجرعها ولا نكاد نسيغها غير مرة من جراء ثقة عمياء كإعماء البُلْه، أو على حد قول بعضهم: اعصب عينيك واتبعني! الجزء: 47 ¦ الصفحة: 9 الشرط الثاني: العلم بما يكتب أما ثاني الأمور -يا رعاكم الله-: أن يكون صاحب القلم عالماً بما يكتب على وفق ما أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أي جانب من جوانب الأقلام، سياسةً أو اقتصاداً أو اجتماعاً أو حضارةًً أو غير ذلك، فالشريعة تسع الجميع، وهي الرسالة العظمى، والجميع مفتقر إليها، ومن ظنَّ أنه يسعه الخروج عنها ولو بشبر كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فقد خلع رِبْقة الإسلام من عنقه، والله الهادي إلى سواء السبيل. {بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى أهل اليمن بكتاب قال فيه: إن بعثت إليكم كاتباً} قال ابن الأثير في غريب الحديث: أراد عالماً، سمي بذلك لأن الغالب على من كان يعلم الكتابة أن عنده علماً ومعرفة. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 10 الشرط الثالث: عدالة الكاتب وثالث الأمور -عباد الله-: هي العدالة، وما أدراكم ما العدالة؟ لأن صاحب القلم إذا كان فاسقاً غير مستقيم المروءة يكبُر ضرره، ويشتد خطره، وربما قادته أهواؤه ومآربه إلى استمالة قلوب الرعاع، لأنه لو زاد أو حذف أو كتم شيئاً عَلِمَه أو تأوَّل أو حرَّف أو لبَّس ودلَّس أو كان ممن وصفهم الله بقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91] ليقضوا لباناتهم من جراء هذا التلاعب، فيؤدي ذلك إلى ضرر من لا يستوجب الإضرار، ونفع من يجب ألا يرفع عنه الضرر، وربما موَّه وغشَّ حتى مدح المذموم وذم الممدوح، فيؤثِّر فعلُه من الأضرار ما لم تؤثِّره السيوف؛ لأن مثل هذا إذا عزم عداوةً سفك الدم بسِنَّة قلمه، والمقرر المشاهد أن الكلام ينسى والهم يغفر، والمكتوب موثق باقٍ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم} فكيف -يا رعاكم الله- إذا كتبه ونشره؟! ألا إن الأمر أشد، والعلة أدهى وأمر، ولا يضر المخطئ إلا نفسه، والمكر السيئ لا يحيق إلا بأهله {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سُقيا رحمة لا سُقيا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم لتحيي به البلاد، وتسقي به العباد، ولتجعله بلاغاً للحاضر والباد. اللهم ما سألناك من خيرٍ فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا من الخيرات فبلغنا. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 11 الطلاق لقد رغب الإسلام في الزواج، وحث على اختيار الزوجة صاحبة الدين، والزوج صاحب الدين والخلق، وقد جعل الإسلام لكلا الزوجين حقوقاً وواجبات، وتتكامل الحياة الزوجية عند ما تكون مبنية على الحب والتفاهم والتعاون والصبر، وعندما تفقد الحياة الزوجية معناها وتصبح العشرة صعبة يكون الطلاق هو الحل. ولانتشار الطلاق في أيامنا هذه أسباب كثيرة، ودوافع عديدة، يجدر بأهل العلم بيانها. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 1 الطلاق كلمة الوداع والفراق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70] . أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي فإن أقدامكم على النار لا تقوى، ثم اعلموا أن ملك الموت قد تخطَّاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم! فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني. أيها المسلمون! يحكي واقع كثير من الناس اليوم صوراً شتَّى من اللآمبالاة من قيم الألفاظ ودلالات الكلام وثمراته، ترى الكلمة تخرج من فم المرء لا يلقي لها بالاً، ربما أهوت به في مسالك الضياع والرذيلة، احتقر بعضهم أجمل كلمات، واستنكف عن معانيها، وما علم أولئك أن النار بالعيدان تذكى، وأن الحرب مبدأها كلام. أيها الناس! لا يستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمةً من الكلمات تكون معولاً صلباً يهدم به صرح أسر وبيوتات، أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تنقل صاحبها في سعادة وهناء إلى محنة وشقاء! أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمةً من الكلمات تحرِّك أفراداً وجماعات، وتنشئ تداخلات ونداءات؛ لرأب ما صدعت، وجمع ما فرقت! أتدرون أي كلمة هذه؟! إنها كلمة أبكت عيوناً، وأجهشت قلوباً، وروعت أفئدة، إنها كلمة صغيرة الحجم لكنها جليلة الخطب، إنها كلمة ترعد الفرائص بوقعها، وتقلب الفرح ترحاً، والبسمة غصة، إنها كلمة الطلاق، وما أدراكم ما الطلاق؟! كلمة الوداع والفراق، والنكاح والشقاق، فلله كم هدمت من بيوت للمسلمين! وكم قطعت من أواصر للأرحام والمحبين؟! يا لها من ساعة رهيبة، ولحظة أسيفة، يوم تسمع المرأة طلاقها؛ فتكفكف دموعها، وتودع زوجها. يا لها من لحظةٍ تجف فيها المآقي، وتغص الحلوق، حين تقف المرأة على باب دارها لتلقي النظرات الأخيرة؛ نظرات الوداع على عش الزوجية المليء بالأيام والذكريات. يا لها من عصيبة حين تقتلع السعادة أطنابها من رحاب ذلك البيت المسلم المبارك. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 2 العشرة الزوجية بين السعادة والشقاوة عباد الله! العشرة الزوجية ضرب من المحبة في النفس، ليس له في أنواعه ضريب؛ فهو الذي يسكن به الزوجان، وهو الذي يلتقي به بشران، فيكون كُلاً منهما متمماً لوجود الآخر، ينتجان بانتقائهما بشراً مثلهما {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل:72] . إن اختلال العشرة بين الزوجين يُزكي نار الفرقة، وكثرة الخصام تضرم غبارها، ولو أحب الأزواج أنفسهم حُباً صادقاً، وسكن بعضهم إلى بعض لوادَّ كُلاً منهما الآخر، ووادَّ لأجله أهله وعشيرته؛ لأن المودة بين الزوجين سبب من أسباب سعادة العشيرة، وسعادة العشيرة سعادة للأمة المؤلفة من العشائر المؤلفة من الأزواج، فهذا التآلف والتأليف هو الذي يتكون منه ميزات الأمة، فما يكون عليه من اعتدال وكمال يكون كمالاً في بنية الأمة واعتدالها، وقرة عين لمجموعها، وما يطرأ عليه من فساد واعتلال يكون مرضاً للأمة يوردها موارد الهلكة، فمن لا خير فيه لأهله لا خير فيه لأمته، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي} . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 3 حث الإسلام على اختيار الزوجة الصالحة عباد الله: لقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: {فاظفر بذات الدين تربت يداك} . هذه هي الزوجة التي يحث الشارع الحكيم على تحصيلها والرضا بها، ويدعو في الوقت نفسه على من أراد غيرها، وزهد فيها، ورغب عنها. ومن المعلوم بداهةً: أنه لا يرغب الظفر بذات الدين إلا من كان قلبه معلقاً بالدين، وكانت نفسه من النفوس الزكية، ومن هذه حاله فلا خوف أن يرزق المودة بينه وبين زوجته؛ لأنها من ثمرات المشاكلة في السجايا والصفات الفاضلة. وعلى العكس من ذلك المشاكلة في الصفات الرذيلة، والسجايا الدنيئة؛ فهي لا تبقي محبة، ولا تُؤنس توددا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {خير متاع الدنيا المرأة الصالحة} رواه مسلم. إنه متى كان الدين بين كل زوج وزوجته فمهما اختلفا وتدابرا وتعقدت نفساهما؛ فإن كل عقدة من العقد لا تزيد إلا ومعها طريقة حلها، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه، وهو اليسر والمساهلة والرحمة والمغفرة، وهو العهد والوفاء، وهو اتساع الذات وارتفاعها فوق كل ما تكون به منحطة أو وضيعة، ومن كان هذه حاله فلن يستنكف أن يكون ممتثلاً بما خُوطب به من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {لو كنت آمراً أحد أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها} رواه أحمد وغيره، وقوله صلى الله عليه وسلم: {استوصوا بالنساء خيراً} ، وثمرة الدين في المرأة يظهر في قول عائشة رضي الله عنها: {يا معشر النساء! لو تعلمن بحق أزواجكن عليكن؛ لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بحر وجهها} فما أجهل الرجل يسيء معاشرة امرأته! وما أحمق الرجل تسيء معاملة بعلها! الجزء: 48 ¦ الصفحة: 4 آخر الدواء الكي أيها الناس! الطلاق كلمة لا يُنازع أحدٌ في جدواها وحاجة الزوجين إليها، عندما يتعذر عند العيش تحت ظل وارف؛ وإذا بلغ النفور بينهما مبلغاً يصعب معه التودد؛ فالواجب أن يتفرقا بالمعروف والإحسان كما اجتمعا لهذا القصد {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} [النساء:130] . إن الله -عز وجل- لم يخلق الزوجين بطباع متفقة من كل وجه، والزوجان اللذان يظنان أنهما مخلوق واحد يعيشان في أوهام، إذ كيف يريد منها زوجها أن تفكر هي بكل ما في رأسه؟ وكيف تريد هي منه أن يحس بكل ما في قلبها؟ {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] . إن النسيم لا يهب عليلاً دائماً على الدوام، فقد يتعثر الزوج وقد تثور الزوابع، وإن ارتقاب الراحة الكاملة نوع وهم، ومن العقل توطين النفس على قبول بعض المضايقات وترك التعليق المرير عليها {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر} رواه مسلم. ومن يتتبع جاهداً كل عثرةٍ يجدها فلا يسلم له الدهر صاحب بيد أن بيوتاً كثيرة فقدت روح التدين، فهي تتنفس في جوٍ من الشراسة والنكر، واكتنفتها أزمات عقلية وخُلقية واجتماعية، فقد تطلّق المرأة اليوم بسبب نقصان ملح أو يبوسة خبز أو باستعصاء باب صعب عليه فتحه، فيخبط هؤلاء خبط عشواء، ويتصرفون تصرف الحمقاء، فيقعون في الإثم. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 5 أسباب كثرة الطلاق في هذا الزمان . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 6 فقدان قوامة الرجل على المرأة عباد الله: لقد كثر الطلاق اليوم لما فقدت قوامة الرجل في بعض المجتمعات؛ إبِّان غفلة وتقهقر عن مصدر التلقي من كتاب وسنة، وركن فئام من الناس إلى مصادر مريضة، قلبت مفاهيم العشرة، وأفسدت الحياة الزوجية من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وتولَّى كبر تلك المفاهيم: الإعلام بشتى صوره؛ من خلال مشاهدات متكررة، يقعد فيها مفاهيم خاطئة، ومبادئ مقلوبة في العشرة الزوجية، حتى وضع بعض الزوجات تأريخهن، ولرب منظرٍ تشهده ألف امرأة في مرة واحدة، فإذا استقر في وعيهن، وطافت به خواطرهن وأفكارهن؛ سلبهن قرارهن ووقورهن كما استنهل في واقعهن ألف مرة، بألف صورة، في ألف حادثة؛ فلا تعجبوا حينئذ إذا استأسد الحمل، واستنوق الجمل! والعجب كل العجب! أنه في ثنايا المناقشة، يُقرر الإعلاميون أن دور الإعلام مع المرأة إنما هو كالتلقيح بمصل بعض الأدواء المعدية والتسمم بمكروبها، بزعم أنها تكسب صاحبها مناعة تقيه من أن يعدى بوبائها. وحقيقة الأمر عباد الله! أنهم بالذي وطئوا زادت العقد، وأن ما يذكره الإعلاميون هو التعرف لعدوى الوباء في عنفوان شدته، ولقد صدق من قال: وكانت دوائي وهي دائي بعينه كما يتداوى شارب الخمر بالخمر والواقع أيها المسلمون! أن داخل البيت المسلم يتأثر بخارجه، وتيارات الميوعة والجهالة إذا عصفت في الخارج تسللت إلى الداخل، فلم ينجو من بلائه إلا من عصم الله. الحياة الزوجية حياة اجتماعية! ولا بد لكل اجتماع من رئيس يُرجع إليه عند الاختلاف في الرأي والرغبة، والرجل أحق بالرئاسة؛ لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بما أودع الله فيه من ذلك، وإن ما تتلقاه المرأة من الأجواء المحيطة بها على منازعة الرجل قوامته لمن الانحراف الصرف والضلال المبين. ألا وإن قوامة الرجل في بيته لا تعني منحه حق الاستبداد والقهر، فعقد الزوجية ليس عقد استرقاق ولا عقد ارتفاق بجسد المرأة، إنه أزكى من ذلك وأجل، وكلٌ من الزوجين بشر تام، له عقل يتفكر به، وقلب يحب به ويكره، فوجب الحق للمرأة حتى مع قوامة الرجل {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] ، كما أن قوامة الرجل لا تعني استغنائه عن زوجه، فالله عز وجل يقول: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] . عباد الله! لقد كَثُرَ الطلاق اليوم لما صار المطلق أحد رجلين: إما رجل أعمل سلطته وأهمل عاطفته؛ فكان في بيته سيداً، ولكنه لم يذق طعم المحبة والسعادة، ولا عرف الصفا والهناء، وإما رجل تبع عاطفته فأطاعها وأهمل سلطته فأضاعها؛ فعاش في داره عبداً رقيقاً، فصار شر مغلوب لمن غلب. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 7 كثرة الحسدة والواشين لقد كثر الطلاق اليوم لما كثر الحسدة والواشون، فنكسوا الطباع، وعكسوا الأوضاع، وصيروا أسباب المودة والالتئام عللاً للتباغض والانقسام، ولربما كان لأهل الزوجين مواقف ظاهرة بدت سبباً مباشراً في كثير من الخلافات، فقد يتدخل الأب، وقد تتدخل الأم أو الأخ أو الأخت، فيحار الزوج من يقدِّم: أيقدم والديه الذي عرفاه وليداً وربياه صغيرا؟ أم يقدم الزوجة التي هجرت أهلها وفارقت عشها من أجله؟ إن هذه لمرتقاة صعبة؛ أهونها أصعب الصعاب، وأحلاها أمر من المر، وأوجعها أضيق من الضيق، إن مثل هذه التدخلات في الحياة الزوجية لهي مكمن خطرٍ لدى كثير من الأسر، فما بال أولئك يهجمون على البيوت فيأتونها من ظهورها، ويمزقون ستارها، ويهتكون حجابها، وينتزعون الخرائج من أكنافها، والفرائد من أصدافها، ويوقدون العداوة والبغضاء بين الزوجين، ماذا يكون أثر هؤلاء في البيوت التي تتكون منها الأمة وفي الأمة المكونة من البيوتات؟ إنه لا يغيب عن ذهن عاقل أن شرهم مستطيل، وأن ما يفعلونه فتنة في الأرض وفساد كبير. عباد الله! إن العلاقات الزوجية عميقة الجذور، بعيدة الآماد، فرحم الله رجلاً محمود السيرة، طيب السريرة، سهلاً رفيقاً بيناً رؤوفاً رحيماً بأهله، لا يكلف زوجته من الأمر شططاً، وبارك الله في امرأة لا تتطلب من زوجها طلباً، ولا تحدث عنده لفظاً، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشرها} رواه أبو داود، ويقول صلوات الله وسلامه عليه: {إذا صلت المرأة خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت} رواه ابن حبان. ولهذا كله يفهم الرجل أن أفضل ما يستصحبه في حياته، ويستعين به على واجباته، الزوجة اللطيفة العشرة، القويمة الخلق؛ وهي التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره، إن هذه الزوجة هي دعامة البيت السعيد، وركنه العتيق، {فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] . بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه كان غفاراً. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 8 المثالية في العشرة الزوجية الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله وخيرته من خلقه، صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الناس! إن أحدنا لتمر عليه فترات لا يرضى فيها عن نفسه، ولكنه يتحملها ويتعلم بما يخبره من المعاذير، وإذا كان الأمر كذلك؛ فليكن هذا هو الشأن بين الزوجين، يلتمس كلٌ منهما لقرينه المعاذير، فإن المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب الزلات، ولا بد من غض الطرف عن الهفوات والزلات حتى تستقيم العشرة: فمن ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط وجميل من الزوجين أن يعاشر بعضهما بعضاً على هذه القاعدة السمحة، فإن الزوج إذا كان في كل أموره معاتباً زوجه؛ لم يلق الذي لا يعاتبه. وإذا هي لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه وجماع ذلك: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه إنه لا شيء يخفف أثقال الحياة وأوزار المتاعب عن كاهل الزوجين كمثل أحدهما للآخر، ولا شيء يعادل للإنسان عن مصابه في نفسه وغيره مثل المرأة للرجل والرجل للمرأة، فيشعر المصاب منهما بأن له نفساً أخرى تمده بالقوة وتشاطره مصيبته. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 9 عشرة خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم هذه أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كانت له في المحنة قلباً مع قلبه العظيم، وكانت لنفسه صلى الله عليه وسلم كقول: نعم! فكأنها لم تنطق قط "لا" إلا في الشهادتين، وما زالت -رضي الله عنها- تعطيه من معاني التأييد والتهوين، كأنما تلد له المسرات من عواقبها كما تلد ذرية من أحشائها بمالها تواسيه وبكلامها تسليه: [[كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتقرئ الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق]] . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 10 العشرة الزوجية بين أم سليم وأبي طلحة وحدث أنس بن مالك رضي الله عنه عن أمه أم سليم بنت ملحان الأنصارية رضي الله عنه، قال: {مرض ابن لي من أبي طلحة يدعى أبا عمير، فبينا أبو طلحة في المسجد مات الصبي، فهيئت أم سليم أمره، وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه، فرجع من المسجد، وقد تطيبت له وتصنعت، فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان، وقدمت له عشاءه، فتعشى هو وأصحابه، ثم أتما ليلتهما على أتم وأوفق ما يكون، فلما كان آخر الليل، قالت: يا أبا طلحة! ألم ترَ إلى آل فلان استعاروا عارية فتمتعوا بها، فلما طلبت إليهم شق عليهم، قال أبو طلحة: ما أنصفوا! قالت: فإن ابنك فلان كان عارية من الله فقبضه الله إليه، فاسترجع وحمد الله، وقال: والله لا أدعك تغلبينني على الصبر حتى إذا أصبح غداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: بارك الله لكم في ليلتكما} . الله أكبر! بمثل هذا فلتكن العشرة أيها الأزواج بمثل هذا فلتكن الحياة الهانئة السعيدة بالنفس والمال والولد. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 11 حقوق مشتركة بين الزوجين ثم اعلموا رحمكم الله! أن لكلا الزوجين حقاً على الآخر؛ فحق الزوجة على الزوج: أن ينفق عليها، ولا يُكلفها من الأمر ما لا يطيق، وأن يسكنها في بيت يصلح لمثلها، وأن يعلمها ويؤدبها ويغار عليها ويصونها، وألا يتخونها ولا يتلمس عثراتها، وأن يعاشرها بالمعروف، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {استوصوا بالنساء خيراً} ، وسئل صلوات الله وسلامه عليه: {ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت} رواه أبو داود. ومن حق الزوج على زوجته: أن تطيعه في المعروف، وأن تتابعه في مسكنه، وألا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، وألا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه، وألا تخرج بغير إذنه، وأن تشكر له نعمته عليها ولا تكفرها، وأن تدبر منزله وتهيأ أسباب المعيشة به، وأن تحفظه في دينه وعرضه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة} رواه الترمذي والحاكم. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر المسلمين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين من المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح بطانته يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 12 الصحبة يا رسول الله إن الناظر في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، ليرى أن أعجب موقف في حياته عليه الصلاة والسلام هو يوم أن هاجر المصطفى من مكة إلى المدينة، وما لقيه من اضطهاد خلال تلك الأيام، وإن في ذلك لدروساً وعبراً. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 1 نظرة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها المسلمون! اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، فبتقوى الله عز وجل تجتمع الكلمة، وتتم النعمة، وتتجلى الحكمة. أيها المسلمون! إن في دنيا الناس ذكريات لا يُمل حديثها، ولا تُسأم سيرتها، بل قد تحلو أو تعلو إذا أعيدت وتكررت، كما يحلو مذاق الشهد وهو يكرر، ومن الذكريات التي لا يُمل حديثها ولا تُسأم سيرتها: حياة محمد صلى الله عليه وسلم، إمام البشرية، وسيد ولد آدم، فهي من الذكريات الغوالي التي تتجدد آثارها وعظاتها كلما سلك المرء سبيله إلى الاعتبار والادكار. والعبد المؤمن إذا غشي معالم سيرته صلى الله عليه وسلم فهو كعابد يغشى في مصلاه، ومن حسن حظ المؤمن أنه ما قلب سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يوماً فأخطأ دمع العين مجراه. وفي أيام محمد الجليلة النبيلة أيام خوالد، ما تزال تتطوى على الأيام وتتألق في غرة الزمان، ولعل من أصدعها وأروعها يوم الهجرة الذي تهب علينا نسمات ذكراه في كل عام من أعوام الزمن، ومن شواهد عظم حادث الهجرة أنه يزداد بهاءً وسناءً كلما تناوله العرض والبحث، كالذهب الإبريز كلما عرضته على النار لتمحصه؛ ازداد إشراقاً وصفاءً. وهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت فاتحة الأمل، وبارقة النصر، وطريقة العودة له ولأصحابه إلى مكة فاتحين ظافرين، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] أي: إلى مكة. عباد الله: إننا هنا نعرض لمحات من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، في الوقت الذي يشهد فيه المسلمون نكبات وويلات تعصر قلوبهم، وتمزق صدورهم، وأمتهم وعقيدتهم وحرماتهم ومقدساتهم؛ تستصرخ ولا مجيب، وتطالب المسلمين بتضحيات وفداء وبذل. والهجرة النبوية تعطينا في هذا المجال قدوة وأسوة، ففيها تتجلى دروس ودروس من التضحية والفداء والبذل، فهذا رأس الأمة وإمام الملة صلوات الله وسلامه عليه يتحمل العبء الثقيل في سبيل الدعوة إلى الله، وإعلاء كلمته، ويشتاط المجرمون من أعدائه في مقاومته، والتطاول عليه بالسخرية والاستهزاء، ثم بالكذب والافتراء، ثم بحيلة الوعد والإغراء، ثم بتسليط الغوغاء والسفهاء، ثم بالتآمر الدنيء ينتهي إلى الإجماع على اغتياله بلا ارعواء قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] . الجزء: 49 ¦ الصفحة: 2 تجهز النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة أيها المسلمون: لما رأى المشركون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا وخرجوا بالذراري والأطفال وساروا بهم إلى المدينة؛ خافوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ولحوقه بهم، فاشتد عليهم أمره ولم يبق بـ مكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي رضي الله عنهما، ومن اعتقله المشركون كرهاً، فلما كانت ليلة همَّ المشركون بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءه جبريل بالوحي من عند ربه تبارك وتعالى فأخبره بذلك، وأمره ألا ينام في مضجعه تلك الليلة {وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر نصف النهار في ساعة لم يكن يأتيه فيها فقال له: اخرج من عندك، فقال: إنما هم أهلك يا رسول الله! فقال: إن الله أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: الصحبة يا رسول الله؟ قال: نعم. فقال أبو بكر: فخذ بأبي وأمي إحدى راحلتي هاتين. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: آخذها بالثمن} . وأمر علياً أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلعون من صير الباب ويرصدونه ويأتمرون أيهم يكون أشقاها، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من البطحاء، فجعل يذروه على رءوسهم وهم لا يرونه، وهو يتلو: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] . الجزء: 49 ¦ الصفحة: 3 خروجه إلى غار ثور ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في داره ليلاً، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى غار ثور فدخلاه، وضرب العنكبوت على بابه، وجدت قريش في طلبهما، وأخذوا معهم القافة حتى انتهوا إلى باب الغار فوقفوا عليه، فقال أبو بكر: {يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما} . الجزء: 49 ¦ الصفحة: 4 قريش تعلن الجائزة الكبرى ولما يئس المشركون من الظفر بهما جعلوا لمن جاء بهم دية كل واحد منهما، فجد الناس في الطلب، فلما مروا بـ حي مدلج بصر بهم سراقة بن مالك فركب جواده وسار في طلبهم، فلما قرب منهم سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسه في الأرض، ثم قال سراقة: ادع الله لي ولكما علي أن أرد الناس عنكما، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق، ورجع يقول للناس: قد كفيتكم ما هاهنا. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك بخيمة أم معبد فقالا عندها، ورأت من آيات نبوته في الشاة وحلبها لبناً كثيراً في سنة مجدبة ما بهر العقول صلوات الله وسلامه عليه. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 5 استقبال الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم وكان قد بلغ الأنصار مخرجه صلى الله عليه وسلم من مكة وقصده المدينة، فكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه أول النهار، فإذا اشتد حر الشمس رجعوا على عادتهم إلى منازلهم، فلما كان يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة، خرجوا على عادتهم فلما حمي حر الشمس رجعوا وصعد رجل من اليهود على حصن من حصون المدينة لبعض شأنه، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة! هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدكم الذي تنتظرونه. فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت الرجة والتكبير وكبر المسلمون فرحاً بقدومه، وخرجوا للقائه فتلقوه، وحيوه بتحية النبوة فأحدقوا به مطيفين حوله والسكينة تغشاه، وجاء المسلمون يسلمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم لم يره بعد، وكان بعضهم أو أكثرهم يظنه أبا بكر لكثرة شيبه، فلما اشتد الحر؛ قام أبو بكر رضي الله تعالى عنه بثوب يظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحقق الناس حينئذٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم. بذلك كله -أيها المسلمون- يتضح موقف هو من أعظم المواقف التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضد العدوان؛ فغير به مجرى الأحداث، وضيع على خصومه فرصة الانتقام، وأحبط مسعاهم، وبلبل أفكارهم، وأسفر عن مبلغ تأييد الله له وحمايته من كيد الكائدين وطيش الظلمة الجاحدين. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 6 فوائد وعبر من هجرة المصطفى أيها الناس! بمثل هذه السيرة العطرة تتجلى الخواطر؛ لتنهل منها دروساً عظيمة الدلالة، دقيقة المغزى، بعيدة الأثر في نفوس الكرام من أبناء الملة، ومن واجب المسلمين أن يحسنوا الانتفاع بها عن طريق التذكر المفضي إلى العمل بها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] ومهما تتبارى القرائح، وتتحبر الأقلام مسطرة فوائد الهجرة؛ فستظل جميعاً كأن لم تبرح مكانها، ولم تحرك بالقول لسانها، وقد يعجز عن حصرها كثير من الناس، قال شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب المجدد لما اندرس من معالم الإسلام رحمه الله تعالى قال في حادث الهجرة: وفيها من الفوائد والعبر ما لا يعرفه أكثر من قرأها. انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 7 البذل من أجل العقيدة والدين ولعل من أبرز الدروس المستقاة من حادث الهجرة أن صاحب الدين القويم والعقيدة الصحيحة ينبغي أن لا يساوم فيها أو يحيد عنها، بل إنه يجاهد من أجلها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وإنه ليستهين بالشدائد والمصاعب التي تعترض طريقه عن يمين وشمال؛ ولكنه في الوقت نفسه لا يصبر على الذل يناله، ولا يرضى بالخدش يلحق دعوته وعقيدته. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 8 شرف الصحبة والصداقة ويلوح لنا في حادث الهجرة خاطر آخر، يتعلق بالصداقة والصحبة، فالإنسان في هذه الحياة لا يستطيع أن يعيش وحيداً منفرداً، بل لا بد له من الصديق الذي يلاقيه ويناجيه ويواسيه، يشاركه مسرته، ويشاطره مساءته، وقد تجلت هذه الصداقة والصحبة في تلك الرابطة العميقة التي ربطت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر رضي الله تعالى عنه. ولقد أصبحت علاقات الكثيرين من الناس في هذا العصر تقوم لغرض أو لعرض إلا من رحم الله، وتنهض على رياء أو نفاق، والأمة المسلمة اليوم أحوج ما تكون إلى عصبة أهل الخير، تتصادق في الله، وتتناصر على تأييد الحق وتتعاون على البر والتقوى قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] . الجزء: 49 ¦ الصفحة: 9 نصر الله لمن نصر دينه وخاطر ثالث يتجلى من ذكر هذه الحادثة: وهو أن الله ينصر من ينصره، ويعين من يلجأ إليه ويعتصم به ويلوذ بحماه، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن المخلص الموقن بما عند الله، حين تنقطع به الأسباب وحين يخذله الناس، وبعض الأغرار الجهلاء يرون مثل ذلك فراراً وانكساراً، ولكنه في الحقيقة كان عزاً من الله وانتصاراً {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة:40] وبم نصره الله؟ نصره بأضعف جنده قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] نصره بنسيج العنكبوت {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] . الجزء: 49 ¦ الصفحة: 10 تربية الشباب على الدين وخاطر رابع: يشير إلى أن الشباب إذا نبتوا في بيئة الصلاح والتقوى؛ نشئوا على العمل الصالح، والسعي الحميد والتصرف المجيد. والشباب المسلمون إذا رضعوا رحيق التربية الدينية الكريمة؛ كان لهم في مواطن البطولة والمجد أخبار وذكريات، فـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يتردد في أن ينام على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أن سيوف المشركين تستعد للانقضاض على النائم فوق هذا الفراش، ويتغطى ببردته في الليلة التي اجتمع فيها شياطين الكفر والغدر ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويا لها من نومة تحيطها المخاوف والأهوال، ولكن {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] . الجزء: 49 ¦ الصفحة: 11 تذكر إخواننا المشردين أيها المسلمون: هكذا تعطينا الهجرة اليوم ما يعظنا في حاضرنا وينفعنا في أولانا وأخرانا، وهناك اليوم في أرجاء المعمورة إخوان لنا مهاجرون مسلمون، أرغموا على ترك ديارهم وأوطانهم بعد أن فعل بهم الكفرة الأفاعيل، وبعد أن تربصوا بهم الدوائر، ووقفوا لدعوة النور في كل مرصد، يقطعون عليها الطريق ويعذبون أهلها العذاب الشديد، لا لشيء إلا لأنهم قالوا: ربنا الله؛ فهاجروا كرهاً وأخرجوا كرهاً، فهم يهاجرون من وطن لآخر؛ إقامة لدين مضطهد وحق مسلوب، في فلسطين، وفي البوسنة والهرسك، وفي كشمير وإرتريا وغيرها من بلاد المسلمين. فاتقوا الله أيها المسلمون: وقفوا وقفة المهاجر بنفسه وإن لم يهاجر بحسه، فلنهاجر إلى الله بقلوبنا وعقولنا وأعمالنا، ولنلجأ إليه ليكون ناصرنا ومؤيدنا قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 12 تعظيم عمر للهجرة ومخالفته للمشركين الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على طريقه إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: فيا أيها الناس: لقد كان ابتداء التاريخ الإسلامي الهجري منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، حيث جمع الناس إبان خلافته فاستشارهم من أين يبدأ التاريخ؟ فقال بعضهم: يبدأ من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: يبدأ من بعثته، وقال بعضهم: يبدأ من هجرته، وقال آخرون: يبدأ من وفاته. ولكنه رضي الله عنه رجح أن يبدأ من الهجرة؛ لأن الله فرق بها بين الحق والباطل، فجعل مبتدأ تاريخ السنين من الهجرة، ثم تشاوروا من أي شهر يبدءون السنة فقال بعضهم: من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة، واتفق رأي عمر وعثمان وعلي رضي اللهم تعالى عنهم على ترجيح البداءة بالمحرم لأنه شهر الله الحرام ويلي ذي الحجة الذي به تمام أركان الإسلام وهو الحج. فعلينا جميعاً -أيها المسلمون- أن نأخذ بالتاريخ الهجري؛ فأعداء الله حريصون على أن يمسخوا الأمة المسلمة في كل شئونها حتى في تسمية الشهور والأعوام، وإن استبدال تاريخ الكفار بالتاريخ الهجري عدول عن الطريق السوي والمسلك القويم وتشبه بالكفرة والمشركين، والمشاكلة في الأمور الظاهرة؛ توجب مشابهة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخطير، والمشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن؛ فتكون محرمة كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بجودك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم! اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. عباد الله: اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروا نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 13 السعادة والشقاء إن السعادة والطمأنينة هي جنة الأحلام التي ينشدها كل البشر، وهم يختلفون في تفسيرها باختلاف طبقاتهم واهتماماتهم. وإن السعادة الحقيقية هي دين يتبعه عمل؛ فهي إيثار الباقي على الفاني. ومن عوامل وأسباب فقدان السعادة الآثام والمعاصي على وجه العموم، ومنها ترك الصلاة وسماع الغناء وغيره. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 1 السعادة هي الغاية المنشودة الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، لا إله إلا هو يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله وخيرته من خلقه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار. أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ، اتقوه واعبدوه {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] ، {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42] ، افعلوا الخير، واسجدوا لربكم، واركعوا مع الراكعين. أيها المسلمون: لا يُعرف مفقود تواطأ الناس على البحث عنه، والإعياء في طِلابه، وهم مع ذلك يسيرون في غير مساره، ويلتمسونه في غير مظانه، مثل السعادة والطمأنينة والبال الرخي. فَلِلَّهِ ما أقل عارفيها! وما أقل في أولئك العارفين من يقدرها ويغالي بها، ويعيش لها! بل لو غُلْغِل النظر في بعض عارفيها، لَمَا وُجد إلا حق قليل يكتنفه باطل كثير، حق يُعرف في خفوت، كأنه نجمة توشك أن تنطفئ في أعماء الليل، وما أكثر العواصف التي تَهُبُ علينا، وتملأ آفاقنا بالغيوم المرعدة! وكم يواجَه المرء منا بما يكره، ويُحرم ما يشتهي. وهنا يجيء دور السعادة التي تطارد الجزع، والرضا الذي ينفس السخط. السعادة التي تسير مع الإنسان حيث استقلت ركائبه، وتنزل حيث ينزل، وتُدفن في قبره. السعادة التي يعبر عنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أوْج إحساسه بها: ما يفعل أعدائي بي؟! إنَّ سجني خلوة، وإن قتلي شهادة، وإن إخراجي من بلدي سياحة في سبيل الله. إن الحديث عن السعادة والشقاء سيظل باقياً ما دام في الدنيا حياة وأحياء، وإن كل إنسان على هذه البسيطة ليبحث عنها جاهداً، ويود الوصول إليها، والحصول عليها، ولو كلفه ذلك كل ما يملك. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 2 بطلان القول بأن السعادة لا حقيقة لها ألا وإن جمعاً من الواهمين يهرفون بأن السعادة لا حقيقة لها، وأنها خيال يبتدعه الوهم، ويكذبه الواقع. والحق -عباد الله- أن هؤلاء جاهلون أو مخادعون؛ لأنه لا يُعقل البتة أن يخلقنا الله ثم يريد لنا أن نشقى جميعاً! كيف ذاك؟! والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1-2] ؟! ويقول: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] . السعادة عباد الله: هي جنة الأحلام التي ينشدها كل البشر من المثقف المتعلم في قمة تفكيره وتجريده، إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته، ومن السلطان في قصره المشيد، إلى الصعلوك في كوخه الصغير، يعيش على تراب الإملاق. ولا نحسب أحداً منهم يبحث عمداً عن الشقاء لنفسه، أو يرضى بتعاستها. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 3 فقدان السعادة يعقبه الهم والاضطراب أيها المسلمون: إن العبد بغير إيمان مخلوق ضعيف، وإن من ضعفه أنه إذا أصابه شر جزِع، وإذا أصابه خير منَع، وهو في كلتا الحالين قلق هلِع {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19-22] . وإن فقدان السعادة من قلب المرء يعني -بداهة- حلول القلق والاضطراب النفسي في شخصه، فتجتمع عليه السباع الأربعة، التي تهز البدن وتوهنه، فضلاً عن كونها تحلق سعادته، وتقصر اطمئنانه، ألا وهي: الهم، والحزن، والأرق، والسهر. ولا شك -عباد الله- من وقوع الهم في حياة العبد، إذْ هو جند من جنود الله عزَّ وجلَّ، يسلِّطه على من يشاء من عباده، ممن كان ضعيف الصلة بالله، خَوِي الروح، مرتعاً للمعاصي والذنوب {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4] . ولقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه: [[من أشد جند الله؟ قال: الجبال، والجبال يقطعها الحديد؛ فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد؛ فالنار أقوى، والماء يطفئ النار؛ فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء؛ فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب؛ فالريح أقوى، والإنسان يتكفأ الريح بيده وثوبه؛ فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان؛ فالنوم أقوى، والهم يغلب النوم؛ فأقوى جند الله هو: الهم، يسلطه على من يشاء من عباده]] . فالمفهوم إذاً عباد الله: أن السعادة والطمأنينة عطاء من الله ورحمة، كما أن الهم، والقلق، والضيق، غضب من الله ومحنة، فقد يلتقي الملتقيان ويتواجهان، النفس بالنفس، وبينهما من الفوارق كما بين السماء والأرض، بل وفي أحلك الظروف، وحين تدلهم الخطوب، يظهر البون شاسعاً بين مُوَفَّق سعيد يُغْبَط، وبين هلِع جزِع يُتَعَوَّذُ بالله من حاله. ولقد ذكر الله تعالى مثل هذا في كتابه الحكيم، عن غزوة أحد، حينما ألقى النومَ والنعاسَ على المؤمنين، في حين أن القتال قائم بعد سويعات قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران:154] . والنعاس في هذه الحال، دليل على الأمن والأمان، لمن كانوا جازمين بأن الله سينصر رسوله، ويُنجز له مأموله، ولهذا قال عن الطائفة الأخرى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154] أي: من القلق والجزَع والخوف، وهذا شأن أهل الريب والشك، يعيشون بين (لَوْ) المتندمة، و (لَيْتَ) المتحسرة. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 4 اختلاف الناس في تفسير السعادة عباد الله: إن السعادة عبارة يتوه معظم الناس في تفسيرها، ولا يتفقون عليها، يجلبون بخيلهم ورَجِلِهم على ما يتوهمونه، ثم يعودون بخُفي حنين، وكأنهم خَرِفٌ يكلِّم الأشباح، أو يطعن في الرياح، فصاروا كطالب اللؤلؤ في الصحراء، مجهود البدن، كسير النفس، خائب الرجاء. فظن الغني منهم أن سعادته كامنة في صحته وعمارة قصره. وتوهمها الفقير في الثروة، والملبس الحسن. وأكَّد السياسي أنها في تحقق الأهداف، والمهارة في جعل الجور عدلاً، والشر خيراً. وجزم العاشق على أنها في الوصال، والتيم بمعشوقه. وعند فلان كذا، وعند علان هي ذا. ولكن المنصف الملهم -عباد الله- حينما يبرق بعيني بصيرته؛ ليعلم يقيناً سُخْف التخمين، وسُحْق الهُوَّة التي يقع فيها أصحاب الأوهام المعلولة. فإذا بالغني يرى أن قصره المشيد قد شاطره السعادة الموهومة فيه خدمه وحشمه، بل وكلب حراسته وخيله، فتأكد له جيداً أن السعادة لا تتمثل في بناء الدور، وتشييد القصور. وإذا بالفقير المرهق ينظر إلى أصحاب الثروة واللباس الفاخر مُلْتاثين بطيف سعادةٍ، وإنما هي رجع ضوء مُنْعَكِس على سحابة عما قريب ستنقشع، فيقول في قرارة نفسه: هذا القطن الذي يلبسونه كان في الغابة على الأشجار، والحرير الذي يضاهون به كان في بطن دودة تعيش في الأوكار، أما الحلي الذي يلبسونه فقد كان وسط أحجار ينقلها بغل أو حمار، فيتيقن حينئذٍ أن السعادة الحقة قد تمثلت في مثل شخص الفاروق رضي الله تعالى عنه، في حين: يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدْمٌ له، والكوخ مأواهُ ومع ذلك كله: يهتز كسرى على كرسيه فَرَقاً من خوفه, وملوك الروم تخشاهُ الجزء: 50 ¦ الصفحة: 5 حقيقة السعادة فالسعادة إذاً -يرعاكم الله تعالى- ليست في وفرة المال، ولا سطوة الجاه، ولا كثرة الولد، ولا حسن السياسة. السعادة: أمر لا يُقاس بالكم، ولا يُشترى بالدنانير، لا يملك بشر أن يعطيها، كما أنه لا يملك أن ينتزعها ممن أوتيها. السعادة: دين يتبعه عمل، ويصحبه حمل النفس على المكاره، وجبلها على تحمل المشاق والمتاعب، وتوطينها لملاقاة البلاء بالصبر، والشدائد بالجلَد. والسعيد: من آثر الباقي على الفاني: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] ، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] . السعادة -أيها المسلمون- هي الرضا بالله، والقناعة بالمقسوم، والثقة بالله، واستمداد المعونة منه، ومن ذاق طعم الإيمان ذاق طعم السعادة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً} رواه مسلم. ولذا فإن من أضاع نعمة الرضا؛ أصابه سُعار الحرص والجشع، فهو يطمع ولا يقنع، ويجمع ولا يدفع، يأكل كما تأكل الأنعام، ويشرب كما تشرب الهيم، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {من سعادة ابن آدم: رضاه بما قضى الله، ومن شقاوة ابن آدم: سخطه بما قضى الله} رواه الترمذي. ولقد كتب الفاروق إلى أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنهما يقول له: [[أما بعد: فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى، وإلا فاصبر]] . الجزء: 50 ¦ الصفحة: 6 صور من حياة السعداء إذاً: يا عبد الله! لا تخشَ غماً، ولا تشكُ هماً، ولا يصبك قلقٌ ما دام أمرك متعلقاً بقول الله جل وعلا في الحديث القدسي: {أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منه} رواه البخاري ومسلم. بهذا الحديث وأمثاله بدت السعادة في وجوه السعداء، والتي يعبر عنها من أحس بنشوتها من أئمة الإسلام والدين فيقول: إننا في سعادة، لو علم بها الملوك وأبناء الملوك؛ لَجَالَدُونا عليها بالسيوف. السعادة التي يمثلها من يغدو في خمائلها، ويقول: إنه لتمر عليَّ ساعات أقول فيها: لو كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه الآن إنهم -إذاً- لفي عيش طيب. إن أمثال هؤلاء هم الذين ابتسموا للحياة حينما كشَّرت عن أنيابها، واستقبلوا الآلام بالرضا والتسليم، الذَين يحولانها إلى نعمة تستحق الشكر والحمد، على حين إنها عند غيرهم مصائب تستوجب الصراخ والعويل. فإذا كانت السعادة شجرة منبتها النفس البشرية، فإن الإيمان بالله، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، وكتبه، والقدر خيره وشره، هو ماؤها، وغذاؤها، وهواؤها، وضياؤها {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:28-29] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 7 عوامل فقدان السعادة الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصبحه وإخوانه. أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن العلم الذي يبصِّر ويهدي، والهمة التي تحفز وترقي؛ إنما هما في الحقيقة مفتاح مراكب السعادة والفلاح، وإنما تفوت هذه المراكبُ على العبد من هاتين الجهتين أو من إحداهما، فإما ألا يكون له علم بها؛ فلا يتحرك في طلبها، أو يكون عالماً بها ولا تنهض همته إليها {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] . ألا فاعلموا -عباد الله- أن لفقدان السعادة أبواباً ينبغي إحكام إغلاقها، وكشف عَوارها، فمن ذلك: أولاً: الغناء: وهو مزمار الشيطان، ورُقية الزنا، الذي ينبت النفاق والقلق كما ينبت الماء الكلأ والزرع، يقول الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6] ولقد أقسم ابن مسعود رضي الله عنه ثلاثاً على أنه الغناء. ثانياً: الصور: كما أن من مهلكات السعادة جعل البيت المسلم محلاً لمردة الجن وبُعد الملائكة، وذلك متمثل في نشر الصوَر التي حرمها الشارع على جدران البيت، وفي فنائه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة} . فما بال الكثيرين يُغلقون أبوابهم في وجوه الملائكة، ويستدعون أسباب الشقاء والقلق، ثم هم بعد ذلك ينشدون السعادة بكل ألوانها. ثالثاً: الذنوب والمعاصي: ومن ألوان الشقاء: الذنوب والمعاصي، التي قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: {إن العبد ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه} رواه أحمد. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في (مسنده) : وُجِد في خزائن بني أمية حنطة الحبة بقدر نواة التمر، وهي في صرة مكتوب عليها: هذا كان ينبت في زمن العدل. ولذا -عباد الله- فإن سعادة القلب المثمرةَ بركةَ الرزق منوطة بالطاعة والتقوى، ولقد جاء عند مسلم في صحيحه في وصف المهدي المنتظر الحديثَ وفيه: {ويقيم الدين الذي بعث الله به رسوله، وتخرج الأرض بركتها، وتعود كما كانت، حتى إن العصابة من الناس لَيأكلون الرمانة، ويستظلون بقحفها -أي: بقشرها- ويكون العنقود من العنب حِمل بعير} الحديث رواه مسلم. رابعاً: التهاون بالصلاة: ومن أسباب القلق أيها المسلمون: التهاون بشأن الصلاة، أو التقليل منها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {وجُعلت قرة عيني في الصلاة} رواه أحمد والنسائي {وكان صلوات الله وسلامه عليه إذا حَزَبَه أمر أو اشتد عليه لجأ إلى الصلاة} رواه أحمد وأبو داوُد. خامساً: ترك الذكر والدعاء: ثم إن ترك الذكر والدعاء، والاستغفار محلٌ للشقاء والهم والحزن، ولذا كان لزاماً على من ينشد السعادة ألا يُغْفِل هذا الأمر المهم، بل عليه أن يمسك بزمامه، ويعض عليه بالنواجذ، وليستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: {من لزم الاستغفار؛ جعل الله له من كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب} رواه أبو داوُد والنسائي. ولقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يوم، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: {يا أبا أمامة! ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت صلاة قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله! قال: أفلا أعلمك كلاماً إذا قلتَه أذهب الله همك، وقضى عنك دينك؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: قل إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبُخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، قال أبو أمامة: ففعلتُ ذلك، فأذهب الله همي، وقضى عني ديني} رواه أبو داوُد. هذا، وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين, واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم فرج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم! اللهم أصلح له بطانته، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، ولا تجعلنا من الجزء: 50 ¦ الصفحة: 8 الخدم بين الإفراط والتفريط من نعم الله على عباده تسخير العباد بعضهم لبعض، وثمة ظاهرة متفشية هي ظاهرة الخدم، وقد أنعم الله على هذه الأمة بأن جعل غيرها خدماً لها عبر التاريخ. والإسلام يوصي بالاستغناء عن الآخرين والتوكل على الله، وإن كان لا بد من وجود خادم فلا بد من مراعاة بعض الأمور الهامة. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 1 نعمة تسخير العباد لبعضهم البعض الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المستضعفين، ومجيب دعوة المضطرين، نحمده سبحانه ونثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يفجره، إياه نعبد، وله نصلي ونسجد، وإليه نسعى ونحفد، نرجو رحمته، ونخشى عذابه، إنَّ عذابه، الجد بالكفار ملحق. وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله رحمةً للعالمين بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فالذين آمنوا به وآزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه؛ أولئك هم المفلحون، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغر الميامين، رضي الله عنهم ورضوا عنه إن الله لعليٌ حكيم. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين! اتقوا الله حقَّ تُقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ومن ثَمَّ فلتعلموا أن نِعَمَ الله علينا كثرا، يكذب مدعي حصرها، ويعجز مؤمل عدها. نِعَم تترادف حلقاتها، تقول اللاحقة للسابقة: أختي أختي، نعمٌ في شئون العبادات والدين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] ونعم أخرى في وسائل الفهم وحسن التعايش، ونعم في تسخير البشر بعضه لبعض ونعمٌ ونعمٌ ونعمٌ يخص ربنا بها هذا ويمنح ذاك، ويقدر على هذا ويمنع ذاك {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32] تسخير العباد بعضهم لبعض من أعظم منن الله على خلقه، وأكثرها ابتلاءً وامتحاناً في الوقت ذاته. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 2 ظاهرة انتشار الخدم ألا وإن ثَمَّ ظاهرة متفشية هي من نوع التفخير الذي منَّ الله به على عباده، ظاهرة استطالت جذورها، واتسع نطاقها حتى أصبحت من شرط اتخاذها عادة فحسب أن جعلت في منأى عن التأمل والتفكر، والنظر المنصف في حقيقتها وحسن الإفادة منها، بل التفكر فيما يجب لها وما فرض عليها، إنها ظاهرة ليست وليدة الحاضر ولكنها ليست قديمة الماضي، هي في مأزق من الأمر، تترقب الأطروحات الجادة، والبحوث المثمرة من على منابر التوجيه والإرشاد، أو في المنتديات العامة والتوجيه الإعلامي، أتدرون أي ظاهرة هذه؟ إنها ظاهرة الخدم! نعم. إنها ظاهرة الخدم! إنها بحق ظاهرة؛ ولكن ليس هذا هو العجب! وإنما أن تكون بهذا الحجم الكبير بين ظهرانينا دون أن تكون محلاً لحسن التكييف وصحة الأَسْلَمَةِ لها، يعبُّ الناس منها عبَّا، لا ينوي الكثير منهم على شيء سواء أنها عادة وطبع وتفاخر، وحب في الرفعة والشرف، وحب التسلط والتشبه ببلاط السلاطين ونحوهم. إننا لو أمعنا النظر شيئاً يسيراً لوجدنا أن هذه الظاهرة مترامية الأطراف، وأن الحديث عنها يعوزه الوقت الطويل بعد سبرها وتشخيصها من خلال استقراء ميداني واسع النطاق؛ ولكن على حد قول القائل: ما لا يدرك كله لا يُترك جله، فلنكتفي إذاً بشذرات متفرقة التناثر حول ما يتعلق بهذه الظاهرة الجلية. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 3 رحمة الله بهذه الأمة فأقول أيها المسلمون! إن أول ما ينبغي أن يُذكر به هو أن الله سبحانه قد منَّ على أمة الإسلام فجعلها تابعة لا متبوعة، وأنه لم ولن يجعلها لقمةً سائغة لتسلط أهل الكفر عليها في الجملة، وذلك -عباد الله- يظهر بوضوح لما نرمي إليه من خلال سماع قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: {سيكون في آخر أمتي رجالٌ يركبون على سروجٍ كأشباه الرحال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رءوسهن كأسنمة البخت العجاب، العنوهن فإنهن ملعونات، لو كانت وراءكم أمة من الأمم لخدمن نساءكم نساءهن كما يخدمنكم نساء الأمم قبلكم} . إذاً لقد رحم الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم يكن أمة أخرى وراءهم؛ يكن نساء المسلمين خدماً لهم كما صاروا خدماً لنا عبر التاريخ. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 4 حال الخدم عبر التاريخ لقد كان الخدم فيما مضى هم المملوكين لمن يخدمونهم؛ وذلك بسبب الحروب الناشبة بين أهل الكفر وأهل الإسلام، وبقاء راية الجهاد في سبيل الله تطاول الزمان شامخة، وفي عصرنا الحاضر قلَّ الرقيق، واضمحل أمره إلى درجة لا تكاد تذكرك في العيان، وصار الخدم كلهم من الأحرار، ولو فرزنا حقوق المملوكين التي أوجبها الإسلام على الأسياد، ورأينا ما لهم من حقوق وواجبات، وما عليهم من مثلها مما لم يحصل لكثير من الأحرار اليوم؛ لعلمنا صدق القوة وعمق الجرح الذي يعيشه كثير من المسلمين اليوم؛ ولحلت عبارة الرجل المسلم مع عمرو بن العاص -رضي الله تعالى- عنه حينما قال: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار؟]] . الجزء: 51 ¦ الصفحة: 5 أهمية الاستغناء عن الآخرين إننا -أيها المسلمون- قبل أن نخوض في غمرات هذه المعرة، وقبل أن نُدلل عليها ونكشف عوارها؛ يجدر بنا أن نذكر على اقتضاب إلى أهمية استغناء الفرد بنفسه، وتوكله على الله، وعدم سؤال الآخرين من خدم وغيرهم، وتلك لعمر الله مزية قلَّ أن توجد في أوساطها، فإلى الله المشتكى! يقول أحد الصحابة فيما رواه مسلم في صحيحه: [[بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: على ألا نسأل الله شيئاً حتى إن أحدنا ليسقط سوطه على الأرض لا يقل لأحد: ناولني]] . ومنها فإن الاستغناء عن الخدم والإكثار منهم غنيمة بارزة، ولو لم يكن فيها إلا السلامة من عواقبهم والوقوع من سلبياتهم التي يقل الفتاق لكفى. ورحم الله الإمام أحمد حين قال: " السلامة لا يعدلها شيء ". وعلى مثل قول الإمام أحمد نُرِشَد كل مسلم على ألا يلجأ إليهم إلا في حالات الحاجات الملحة مع عدم استغفال السلامة وأنها مطلب، ونقول -أيضاً- لكل مسلم شاخصة أحداقه، مشرئب إلى اتخاذ الخدم ولكن بينه وبين حصول ذلك مسكنةٌ وفقر تجعله أقرب في أن يَخدم مِنْ أن يُخدم، نقول له ولأمثاله: اسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد هُنيهة؛ لتكون رضي البال شاكراً ولي نعمته. اشتكى علي وفاطمة -رضي الله عنهما- إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما تواجهه من الطحن والعمل المجهد فسألته خادماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمداه ثلاثاً وثلاثين، وكبراه أربعاً وثلاثين؛ فتلك مائة على اللسان وألف في الميزان} فقال علي رضي الله عنه: [[ما تركتها بعد ما سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين]] رواه أحمد. وليلة صفين هي ليلة حرب ضروس دارت بينه وبين خصومه رضي الله تعالى عنهم أجمعين. هذه -يرعاكم الله- صورة حية من صور الاستغناء عن الغير. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 6 متاع الدنيا قليل بيد أن في الناس فئام لها ولعٌ بمشاكلة الآخرين، والسير في ركب الجمهور منهم، وُحبَّ التباهي مع قلة ذات اليد؛ فيطمعون في الإكثار من الخدم والتنويع فيهم، فلهؤلاء نقول: رويدكم مهلاً! فمتاع الدنيا قليل، ولتقنعوا بمثالين عظيمين يمكن من خلالهما حصل القناعة، والرضى بالمقسوم، والزهد في الدنيا، والاكتفاء من الخدم بما يسد الحاجة. روى مسلم في صحيحه أن رجلاً قال لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: [[ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادماً، قال: فأنت إذاً من الملوك]] فيا لله العجب! من قول ابن العاص رضي الله عنه. إذاً ما أسهل ملك الدنيا وأحقره، فما بال أقوام لا يقنعون بمثل هذا؟ ألا تسمعون -حفظكم الله- المثل الثاني الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة} رواه الترمذي في جامعه. إذا سمعتم ذلك فمنهم إذاً خدم الجنة؟ إنهم ولدان مُخلَّدون، وغلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون. اللهم لا تحرم خير ما عندك بشر ما عندنا. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 7 أمور ينبغي مراعاتها لمن كان له خادم أيها المسلمون! من كان منكم متخذاً خادماً فليعلم أن عليه مراعاة أمور هامة: الجزء: 51 ¦ الصفحة: 8 اختيار الخادم الصدوق الأمين أولاها: اختيار الأمين الصادق كما قال تعالى عن ابنتي شعيب حينما قالت إحداهما لأبيهما: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] ولا يغيب عن بالنا أثر الأمانة والصدق في ذوات الخدم من خلال موقف يوسف عليه السلام من امرأة العزيز حينما قالت له: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] ، فكان الجواب {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] كانوا يدعون السيد رباً؛ فهو يرى أن سيده أكرمه وأحسن مثواه، فلا يلوث ذلك بالتخون والفاحشة. أين الكثيرين عن هذا الأمر الجلل؟ أين اختيار الخادم المسلم ذكراً كان أو أنثى؟ لله كم هم صرعى الخدم غير المسلمين؟ وماذا عسى أن يجنى منهم؟ دين غير ديننا، يحلون ما نحرم، ويحرمون ما نحل، فضلاً عما يقوم به جملة منهم إلى ما يسمى: التبشير والدعوة إلى مللهم إبَّان غفلة من الجمهور. ألا وأن إحضار المحرم مع الخادم، الذي يكون سبباً -بإذن الله- في قلة الفواحش، والبعد عن الزلل، والأمن على النفس والعرض. ألا إن الكثيرين منا لا يُبالون بالسائقين والخدم؛ امرأة مع سائق! ورجل مع امرأة الخادم! خادم تتكشف لمخدومها! وسائق تتكشف له مخدومته! وكأنه من أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء!! تساهل في الأمر واستخفاف به. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 9 عدم الركون إلى الخدم في تربية الأطفال ثانياً: تكمن أهميته في عدم الركون إلى الخدم في تربية الأطفال، وكثرة محاكاتهم، ويزداد الأمر تأكيداً إن كانوا غير مسلمين؛ لأن من الأمور المسَّلمة أن كثرة المحاكاة تحدث مشاكلة في الطباع، ومن هنا يقع التأثر والتأثير في بني آدم؛ بل إن الآدمي إذا عاشر نوع من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه؛ فنجد الجمَّالين والبغَّالين فيهم أخلاق مذمومة من أخلاق الجمال والبغال، ونجد الحيوان الإنسي فيه بعض أخلاق الناس بسبب المآلفة وقلة النفرة، وقديماً قيل: " الطيور على أشكالها تقع ". يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام ". كل ذلك -أيها المسلمون- سببٌ في التأثير على الطفل؛ فضلاً عن كون صحة الطفل الدينية والنفسية والدينية ناتجة عن تفرغ الأم لطفلها وعدم إسلامه للأجنبي عنها. ألا وإن تركها الساعات الطوال مع الخدم؛ لا يضمن تمتعه بالرعاية الدافئة التي يحتاجها كل حين، وثّمَّ دراسات نفسية كثيرة نشرت برامجها عبر جهات أكاديمية وأخرى تطبيقية كما يقال كلها تتفق على أن جُلَّ الأطفال والصغار من ذوي المشاكل النفسية هم الذين عانوا حرماناً عاطفياً كبيراً في طفولتهم المبكرة؛ بسبب غياب أمهاتهم عنهم وتسليمهم إلى الخدم. ألا ترون -يا رعاكم الله- كيف يكون حال الطفل إذا غابت عنه أمه؟ ماذا يحدث عندما يشاهدها بعد فترة غيابها؟ إنه يشد إليها بقوة، وحين تدفع إليه لترضعه يلتقمها بلهفة ويحاول أخذ حاجته بلهفة، ولربما خانته حاسة البلع فشرغ وغص مع ما يصاحب ذلك من نظرات ازراء إلى أمه تدل على الشره واللوم دون استطاعته عن تعبير ذلك باللسان، فماذا عسى الخادمة أن تفعل؟ إن قلبها ليس كقلب الأم، وحنانها ليس كحنان الأم، ولا غرو -عباد الله- إذ ليس النائحة المستأجرة كالمرأة الثكلى. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 10 التزام الخادم بالأحكام الشرعية أما ثالث الأمور أيها الناس! فهو أن يتقي المرء ربه، وأن يعلم أن أمر الخدم محسوم في شريعة الله، وأن هناك حدود ينبغي ألا يتجاوزها المرء المسلم، ومن ذلك: الحجاب الشرعي للخادمة، فلا يجوز أن تتكشف لدخول المنزل، ولا أن تختلط برجاله أو أن تخلو بأحدٍ منهم، وإن التباهي بالخادمات النساء، وكشفهن للعيان في الأسواق والأفراح والمستشفيات من باب التباهي، وحب الظهور؛ لهو أمر جد خطير وفيه من الإثم والوزر الشيء الكثير، فضلاً عن كون ذلك مدعاة لفتنة الناس وجذب أبصارهم، ومن ثَمَّ الولوغ في حمأة هذا الموقف العظيم، ووقوعهم في النظر إلى ما حرَّم الله. وكذا الرجل الخادم: لا يجوز أن يخلو بالمرأة لا في منزلها، ولا في سيارتها، ولا أن تكشف وجهها له، أضيفوا إلى ذلك أمر الخدم بالتزام شرع الله إن كانوا مسلمين، أو دعوتهم إلى الإسلام إن كانوا غير ذلك، مع التأكيد بحزم على وجود الاستغناء عن الكفار لا سيما في جزيرة العرب؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجهم منها، وكذا الظهور بمظهر القدوة الصالحة أمام الخدم، وذلك بالكرم والعطف والصدق والصفح إن الله يُحب المحسنين. ثم الحذر الحذر! من التساهل مع من لا يخاف الله منهم أو التقليل من خطورة أمرهم، ويزيد الأمر تعقيداً حينما يكون بعضهم من مرضى الأفئدة، وممن يكون مضنة الانتقام، وحب الإفساد، من مثيري اللغط وهدم البيوت، واستخدام الشعوذة والسحر، وقلب ظهر المجن على البيت وأربابه، ونشر أسرار البيوت وأحوالها إلى خدم البيوت الأخرى، وكم هم صرعى هذا التقصير؟ وكم هم ضحايا هذا الإهمال؟ إذ بعض الخدم إذا شبع فسق، وإذا جاع سرق، ولا جرم! فقد قال مجاهد رحمه الله: [[إذا كثرت الخدم كثرت الشياطين]] . ووقائع المجتمعات وأحاديث المجالس تغص بها الحلوق، وتطفح بها الأذان، ألا وإن هذا ليُذكرنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن كان الشأم في شيء ففي الفرس والمرأة والخادم والمبسم} قال الخطابي وجماعة من أهل العلم: هذا الحديث هو في معنى الاستثناء من الطيرة: أي أن الطيرة منهي عنها في قوله صلى الله عليه وسلم: {لا عدوى ولا طيرة، وأحب الفأل الصالح} رواه مسلم، إلا أن يكون للمرء دار يسكنها وهو كارهٌ لها، أو زوجة يكره صحبتها، أو فرس أو خادم فليفارق الجميع ببيعٍ أو نحوه. قال أهل العلم: وشؤم الخادم سوء خلقه، وقلة تعهده لما فُوِضَ إليه. وأقول حفظكم الله: هذا الحديث وأقوال أهل العلم؛ إنما هو فيما مضى من زمن الصدق والدين، فما ظنك في هذا الزمن! سبحان الله ما أبعد الليلة عن البارحة، وما أشبه اليوم بما هو على العكس من الأمر. بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر والحكمة، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله وأتوب إليه، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 11 العدل في القضايا من سمات المؤمنين الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يُحمد، وأصلي وأسلم على أفضل المصطفين محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعَّبد. أما بعد: فاتقوا الله -أمة الإسلام- واعلموا أن أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أيها المسلمون! العدل في القضايا من سمات المسلمين، وإعطاء كل ذي حق حقه هو مما أوجبه الله على عباده، وإن كان ثَمَّ مآخذ غير مرضية تصدر تارات كثيرة من الخدم؛ فإننا في المقام نفسه نشير إلى سماتٍ متعددة من الحقوق والواجبات التي يستحقونها، ومن ذلك: احترام قدرهم، وأنهم بشر مثلنا؛ فنتلطف معهم ونرحم غربتهم، وأنه لولا حاجتهم إلى المال واكتسابه؛ لما هان عليهم فراق العيال، والسفر آلاف الأميال، فلتطعموهم إذا طعمتم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا أتى أحدكم خادمه بطعام فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين أو لقمة أو لقمتين} رواه البخاري، ولا تحجرن إطعام الخادم ولو لم يكن ذلك في صلب العقد بينكما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة} رواه أحمد. وإياك إياك أيها المرء! أن تتوانى أو تتأخر في إعطائه أجرته في حينها، فلنفسه بالذات ولعٌ بها كما تفرح بمحصلتك، يقول صلى الله عليه وسلم: {أعطي الأجير أجره قبل أن يجف عرقه} رواه ابن ماجة. فعليك -أيها المرء- أن تتنبه لذلك، وإلا فاعلم أنك خصيم للنبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة -وذكر منهم-: رجلاً استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره} رواه البخاري. فاتقوا الله يا أهل البيوتات! واتقوا الله يا أصحاب الشركات والمؤسسات والتعهدات! وأعطوا العمال والخدم أجورهم في أوقاتها المحددة، وإلا فأعدوا لمخاصمة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- جواباً، وللجواب جلبابا حين ليس ثم جواب ولا جلباب. وإياكم وضرب العمال والخدم، فقد ضرب أبو مسعود غلاماً له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منه، فقال أبو مسعود: يا رسول الله فهو حر لوجه الله، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إن لو لم تفعل لمستك النار أو للفحتك النار} رواه مسلم والترمذي، ولم يكن الأمر مقتصراً على مس اليد فحسب، بل وحتى اللفظ باللسان من شتم وسب، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: {لا تدعوا على خدمكم} رواه أبو داود. وسمعتَ أم الدرداء عبد الملك بن مروان قد لعن خادمه، فقالت أم الدرداء: سمعتك الليلة لعنت خادمك حين دعوته، فقد سمعتُ أبا الدرداء يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة} رواه مسلم. عباد الله! بما أن الشيء بالشيء يُذكر، وحيثُ إن الحديث عن الخدم والاستخدام؛ فاعلموا أن هناك ثلة من إخواننا المسلمين يعيشون حالاً لا يعرف من خلالها أيراد بهم أن يعيشوا خُدَّاماً أم يعيشوا بشراً؟ امتدت إليهم أيادي آثمة، أيادي أناملها صربية، ودماءها قد نزت من سلسلة حروب صليبية، ليس لهم هدف إلا قتل من يقول: ربي الله. سر إخواننا المسلمين في كوسوفا المسلمة، شردوهم وأثخنوهم وشدوا الوثاق، مشردون هم أحياء في عِدَادَ الأموات، إذ ما الحياة بلا أمن ولا استقرار؟ ليس من مات منهم ذبيحاً؛ ولكن من يعيش منهم بالتشريد هو الذبيح! ألا من محير جواباً! أو من محييٍ ألباباً! ألا من آمنٍ لمتألم ومن مستودع لمستصرخ! مسلمون مهجرون منبوذون في العراء وهم مذئومون سقوفهم واكفة، وجدرانهم نازة، وغرفهم متساقطة، جبالهم حممٌ من القنابل والشظايا، ووديانهم جثث وهال حتى غدت أباطح. ألا تتقوا الله معاشر المسلمين! والبدار البدار بالجهاد في سبيل الله بأموالكم، بإيواء المضطهدين الذائدين عن حياض إسلامهم في أوطانهم، ألا وإن الإنفاق في سبيل الله والبذل فيه لإعلاء كلمة الله في طليعة أعمال البر التي وعد الله عليها الجزاء العظيم {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعدائك أعداء الدين، اللهم دمر أعدائك أعداء الدين، اللهم أهلك الصرب الحاقدين، اللهم عليك بهم، اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم أهلكم بالسنين، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف يا ذا الجلال والإكرام. اللهم انصرنا على من عادانا، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، ا الجزء: 51 ¦ الصفحة: 12 البيت العتيق ووفود الرحمن جعل الله تعالى في بعض الأيام والشهور ميزة وفضيلة، وما ذاك إلا لتتحفز النفوس وتستيقظ من غفلتها، فتسارع باستغلالها؛ رجاء التعرض لنفحات الله ومرضاته. وإن من ذلك شهر الحج المبارك، فقد جعل الله فيه من الطاعات ما ليس في غيره. وإن من أعظم ما يحققه هذا الموسم الكريم هو ترسيخ توحيد الله تعالى، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 1 الحث على استغلال مواسم الخيرات الحمد لله حمد الشاكرين، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره. سبحانه! جعل في تعاقب الليل والنهار عبرةً لمن ادكر أو تذكَّر، يُداول الأيام بين الناس ليبلوهم أيهم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، دعا إلى الله على بصيرةٍ هو ومن اتبعه، فأكمل الله به الدين، وأتم به النعمة، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الأخيار، الأتقياء الأبرار؛ الذين استجابوا له، وأحيوا سنته، ومهدَّوا لمن بعدهم منهاجه وشرعته، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله جلَّ وعلا، اتقوه في السر والعلن، في الخلوة والجلوة، اعبدوا ربكم واسجدوا له واركعوا مع الراكعين، وافعلوا الخير، وجاهدوا في الله حق جهاده لعلكم تفلحون. أيها الناس حجاج بيت الله الحرام! بعد ساعات معدودات من ساعات العمر يُهلُّ هلال ذي الحجة الوليد في ذلك التو يلوح ذلك الوليد في السماء، ليعلم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أن خالقهم -جلَّ شأنه- قد آذنهم بشهرٍ له في مجتمعهم تأثير، وفي نفوسهم تأديب، وفي مشاعرهم إيقاظٌ وتنبيه. يلوح الهلال في السماء ليوقنوا أن فضل الله عليهم متواصل، وأن مواسم النفحات والغفران لا تزال متواليةً لمن وفقه الله لاغتنامها، إذ لا يمضي من عمر المؤمن ساعة من الساعات إلا ولله فيها عليه وظيفة من وظائف الطاعات والقربات؛ إن هو أحسن القصد، فيغدو ويروح في خمائلها، وإلا كان مُضيعاً يدهش من حاله، أو خاسراً يتعوذ بالله من مآله. حيث عمي عن الهدف، وحاز عن الغاية، وخالف سيرة الناجحين من أولياء الله الصالحين، يقول الحسن البصري رحمه الله: [[ما ظننت عمر بن عبد العزيز خطا خطوة إلا وله فيها نية]] وقبل ذلك يقول سلمان الفارسي رضي الله عنه: [[إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي]] . الجزء: 52 ¦ الصفحة: 2 دور الحج في ترسيخ التوحيد أيها المسلمون! الحديث عن الحج ومآثره مطلب تشرئب له نفوس الحجيج المؤمنة، وتمتد له أعناق المتقين من عباد الله؛ ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أو يحدوهم الشوق إلى أن يجتمعوا للإيمان ساعةً، فيقولون: سمعنا وأطعنا؛ ليكون خيراً لهم وأقوم عند الله. ومن هنا يظهر البون شاسعاً بين العاصي والمطيع، فالمطيع عرف خالقه فعبده حق عبادته، والعاصي مكفوف البصيرة تائهٌ عن ولي نعمته؛ تستهويه الشياطين في الأرض حيران. عباد الله! الحج قصد بيت الله الحرام لأداء النسك على صفة مخصوصة بينها الشارع الحكيم، ألا وإن هذا البيت الحرام الذي رفع قواعده إبراهيم خليل الرحمن، وابنه إسماعيل عليهما السلام، لم يُبن في الحقيقة إلا بالتوحيد، ومن أجل التوحيد، ولأهل التوحيد، تتعاقب الأجيال على حجه، ويتنافس المسلمون في بلوغ رحابه، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم:34-35] ، {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] . الحج في الإسلام عباد الله! أمارةٌ وحكمة تدعو إلى التوحيد؛ فاجتماع الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسهم؛ ليوحي إليهم أنه ينبغي للمسلم ألاَّ يُعبد إلا الله في خوفه ورجائه، وذبحه ونذره، ورغبته ورهبته، فالله -جلَّ وعلا- إنما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالتوحيد الخالص لا غير، وتحريم كل صور الشرك وضروبه، ومنع كل مشرك من دخول المسجد الحرام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28] . وفي الحديث: {بعث النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسعٍ من الهجرة من ينادي في الحج إلا يطوف بالبيت عريان، وألا يحج بعد العام مشرك} رواه البخاري ومسلم. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 3 مظاهر الانحراف في التوحيد ألا فليتق الله أولئك المفرطون المضيعون الواقعون في براثن الشرك بالله في ألوهيته أو ربوبيته، أو الملحدون في أسمائه وصفاته: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] . ألا فاتق الله يا من ترجو قبةً، أو تتوسل بوثن! أو أنت يا من تطوف بقبرٍ أو تتمسَّح بعتبة أو باب! أو أنت يا من تعلق تميمة أو ودعةً أو ناباً رجاء نفع أو دفع ضر، فإن الله جل وعلا هو النافع وهو يدفع ما بالإنسان من ضرٍ ومصاب {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل:53-55] . إن الطائع الموحد ليشعر من أعماق قلبه أن ما دون الله هباء، بل ويستحيل عنده عقلاً أن يغلب الله على أمره، أو أن يقطع شيء دونه إذ التعلق بأمر الله عجز، والتطلع إلى سواه ضلال وحمق {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] . لقد قصر فئام من الناس مع التوحيد فصادموا المنقول، وخالفوا المعقول، فانحازوا إلى أصحاب القبور، وتضرعوا أمام أعتابهم، بل لقد كثر مروجوها والساعون إليها، بل لقد صور بعضها عبر إنشاد القصائد، أو المدائح الطافحة بالاستغاثات والنداءات؛ التي لا تصح إلا لفاطر الأرض والسماوات، لقد قصر جمع من الناس مع التوحيد، فافتن بعضهم بالتمائم والحروز، يُعلقها عليه وعلى عياله، بدعوى دفع الشر عنهم أو جلب الخير لهم، أو صرف العين وشبهها. روى الإمام أحمد في مسنده: {أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذا؟! قال: من الواهنة، فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً} ، وفي المسند -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من تعلَّق تميمة فلا أتمَّ الله له} ، وفي رواية: {من تعلق تميمة فقد أشرك} . نعم. أيها المسلمون! لقد قصَّر فئام من الناس مع التوحيد، فنازعوا الخالق جلَّ وعلا، فيما هو من خصائصه سبحانه، فادَّعوا علم ما لم يعملوا، وخاضوا في أمور الغيب التي لا يعلمها إلا هو، وذلك من خلال الشعوذة والكهانة، أو ما يسمى: مجالس تحضير الأرواح، أو قراءة الكف والفنجان، أو الخوض فيما يتعلق بمستقبل الأبراج وقراءتها، أو نحو ذلك من سيل الأوهام الجارف، والخزعبلات المقيتة {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الطور:38] {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:41-43] . الجزء: 52 ¦ الصفحة: 4 التوحيد الخالص وأهميته إن التوحيد الخالص هو أفضل طلبة، وأعظم رغبة، وأعلى رتبة، يصير الحقير شريفاً، والوضيع غطريفاً، يطول القصير، ويُعلي النازل، ما شُيد ملك إلا على دعائمه، ولا زال إلا على طواسمه، ما عزت دولةٌ إلا بانتشاره وحمايته والدعوة إليه، ولا زالت إلا باندثاره وخذلان أهله، بل يا ويح من تعلَّق بغير الله أو رجا غيره، يشرب الموحدون صفواً، ويشرب هو كدراً آسناً، دعوا هم رباً واحداً، ودعا هو ألف رب {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:39-40] . الجزء: 52 ¦ الصفحة: 5 شيوع الأمن والأمان في البلد الحرام أيها الناس حجاج بيت الله الحرام! في الحج إلى الكعبة المشرفة تتجلى نعمة الأمن وحكمة الأمان، من خلال النهج الذي شرعه الله في عرصات مكة والحرم، وذلك متمثل في حقن الدماء، وإلقاء السلاح، والأمن على الأرواح والممتلكات، واللقطة والأعراض، بل وحتى من القول البذيء، واللفظ الفاحش {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] ، ناهيكم -يرعاكم الله- عن أمن الطير والوحش وسائر الصيود. إن العبد المسلم لفي حاجةٍ ماسة إلى أن يقدر هذه النعمة، وإن المجتمعات طراً -على اختلاف أقاليمها- ليست في غنىً عن الأمن الذي هو ماس بهم، عظيم الوقع في نفوسهم، متعلق بحرصهم على ذواتهم وأرواحهم، وفي ظل الأمن والأمان تحلو العبادة، ويصير النوم سباتاً، والطعام هنيئاً، والشراب مريئاً. الأمن والأمان -عباد الله- عماد كل جهد تنموي، وهدف مرتقب لكل المجتمعات وإن اختلفت مشاربها، فالمجتمع إذا آمن أمن، وإذا أمن نما، والثمرة الحاصلة: أمنٌ وإيمانٌ ونماء، فلا أمن بلا إيمان، ولا نمو بغير ضمانات ضد الهدم {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] . وأظلم الظلم -عباد الله- هو الشرك بالله، فلا يجتمع -إذاً- ظلمٌ وأمن؛ ظلم النفس، وظلم الهوى، وظلم الحجارة، وظلم الدساتير، والأحبار والرهبان، ومتى بقيت من ذلك بقية فالله أغنى الشركاء عن الشرك، وهو لا يرضى بمزاحمة صنم الظلم، قال سهل بن عبد الله: " حرام على قلب أن يدخله النور، وفيه شيء مما يكرهه الله ". إن الأمن والأمان المنبثقين من تطبيق شرع الله على وجه الأرض، ليتيح لقلب المسلم النير في كل قطر ومصر أن يعبد الله في هدوءٍ واستقامة، بل قد يتغير به مجرى تاريخ المجتمع بأسره، بل هي حياة فرداً من الأفراد، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي في جامعه: {من أصبح آمناً في سربه، معافاً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها} . الجزء: 52 ¦ الصفحة: 6 الخير كل الخير في اتباع السلف أيها المسلمون! في الحج إلى بيت الله الحرام تتجلى صُور عظمى، وسمة أجلى، هي جزء أساس لا يتجزأ في صحة العمل وقبوله بعد إخلاصه للباري جل وعلا، تلكم هي المتابعة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه ذلك: هو أن مناسك الحج شُرِعت على هيئة واجبات وأركان، وسنن في الأقوال والأعمال، ندب إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم بفعله، متبعاً ذلك بقوله: {خذوا عني مناسككم} . والطريق الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم في الحج وغيره من أمور الدين لا هدي أحسن من هديه فيه، ولا طريق أقوم من طريقه فيه، وهيهات هيهات! أن يأتي الخلف في أعقاب الزمن بخير مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح في عصور النور. وإن من غربة الدين أن تلتصق به المحدثات، ألا وإن البدع المحدثة فيها مع سوء الظن بصاحب الرسالة تشويهٌ لجمال الدين، وطمس لمعالم السنن، وحيلولةٌ بين الناس وبين دينه الصحيح. والحكم الفصل في ذلك هو الوقوف عند السنن، ورد الأمور إلى حكم الله، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] . يقول سفيان الثوري رحمه الله: [[من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]] ] . البدعة عباد الله! هي ما أحدث في الدين مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وهي تأخذ في الغالب تقليداً لشيخ معظم، أو والد يحترم، أو مجتمع تقدس عاداته، أو أفكارٍ تستحسن، أو مبادئ تستورد، كما أن البدع في الوقت نفسه سريعة الانتشار تنجم كقرون المعز، تستلفت أنظار الدهماء، فيعمدونها الذين لا يبصرون، ويصمون عنها الذين هم عن السمع معزولون، وجماع النهي عن ذلك كله، ما حدث به الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه بقوله: {من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد} رواه الشيخان، وفي رواية لـ مسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} . فاتقوا الله معاشر المسلمين! واحذروا البدع صغيرها وكبيرها، واعلموا إن من ابتدع بدعة في الإسلام فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25] . بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 7 فضائل أيام العشر من ذي الحجة الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وهدايته وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، عبد الله حق عبادته ودعا إلى رضوانه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين! ثم كونوا على علمٍ أنكم قاب قوسين أو أدنى من حلول شهرٍ مبارك، الناس فيه صنفان: إما قاصدٌ بيت الله الحرام حاجاً أو معتمراً، يتعرض لنفحات خالقه ومولاه في عرصات المناسك المباركة، وإما قاعدٌ حلك أرضه لم يُقدَّر له بلوغ رحاب البيت العتيق، إما لعرضٍ أو لمرض، لم يكونا مانعين -بإذن الله- من أن يتلَّقى عشر ذي الحجة المباركة فيعمل فيها أعمالاً هي أفضل من الجهاد في سبيل الله، فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -أي: أيام عشر ذي الحجة- فقالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله! قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء} . وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن عشر ذي الحجة هي المقصودة بقول الباري جلَّ شأنه: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1-2] قال ابن كثير رحمه الله: وبالجملة فهذه العشر قد قيل: إنها أفضل أيام السنة كما نطق بذلك الحديث، وفضَّلها الكثير على عشر رمضان الأخيرة؛ لأن هذا يشرع فيه ما لا يشرع في غيرها؛ من صيامٍ وصدقةٍ وغيرها، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه. والحاصل -عباد الله- أن النصوص دلت بمنطوقها ومفهومها على أن كل عملٍ صالح يقع في هذه الأيام، فهو أحب إلى الله تعالى من العمل نفسه إذا وقع في غيرها، كما أن الأعمال في هذه العشر تتنوع إلى الصوم والصدقة والتوبة النصوح، والإكثار من التسبيح والتحميد والتهليل، كما أن فيها الأضحية والحج، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فاكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد} رواه أحمد. وقد ثبت عند أبي داود والنسائي: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر} كما أن السنة قد دلَّت -يرعاكم الله- على أن من أراد أن يُضحِّي، وقد دخلت عليه العشر فلا يأخذنَّ من شعره أو أظفاره أو بشرته شيئاً حتى يُضحِّي، لورود الخبر بذلك عن الصادق المصدوق عند مسلم في صحيحه. وثمة أمر جليل ينبغي التنبيه إليه: ألا وهو ما يفعله البعض ممن ابتلوا بحلق لحاهم، تراهم يجتنبون الحلق إذا دخلت عشر ذي الحجة، فلا يأخذون منها شيئاً، ولو سُئل أحدهم لم فعل ذلك؟ لقال: أنا أريد أن أضحي، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أخذ شيءٍ من الشعر حتى تضحى الأضحية. فيا لله العجب! إن النبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن أخذ شيءٍ من الشعر في هذه المدة الوجيزة، هو الذي نهى في الوقت ذاته عن أخذ شيءٍ من اللحية طيلة العمر؛ لما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: {خالفوا المشركين، وفروا اللحى واحفوا الشوارب} . لكنَّ بعض ضعاف النفوس يسهل عليهم تنفيذ أمره صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالأضحية؛ لأنها أيام قلائل، أما أمره بإعفائها مطلقاً فهو ثقيل على كسلان وذي ملالة، أما على الحريص فهو يسير {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وسلِّم الحجاج والمسافرين في برك وبحرك وجوك يا رب العالمين. اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 8 هادم البيوت إن العلاقات الزوجية عميقة الجذور، بعيدة الآمال، تقوم على حقوق متبادلة من كلا الطرفين، وإن اختلال تلك العلاقة يشعل نار الفرقة، ويعكر صفو العشرة، مما يلجئ الزوجين أحياناً إلى اتخاذ القرار المر ألا وهو الطلاق، وهي كلمة تصدر حينما يتعذر العيش تحت ظل وارف، وأسباب ذلك كثيرة منها ضعف قوامة الرجل، وفقدان البيت لروح التدين، والمفاهيم الفاسدة الدخيلة عبر وسائل الإعلام ونحوها. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 1 آثار انحلال الرابطة الزوجية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فيا أيها الناس! اتقوا الله، اتقوه حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي؛ فإن أجسامكم على النار لا تقوى، واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني. عباد الله: يحكي واقع كثير من الناس اليوم صوراً شتى من اللاَّمبالاة بقيم الألفاظ، ودلالات الكلام وثمراته، ترى الكلمة تخرج من فم المرء لا يلقي لها بالاً؛ ربما أهوت به في مسالك الضياع والرذيلة، استحقر بعضهم حجم الكلمات، واستنكف عن معانيها، وما علم أولئك أن النار بالعيدان تذكى، وأن الحرب مبدؤها كلام. أيها الناس: أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تكون مِعْولاً صلباً يهدم به صرح أُسَر وبيوتات؟! أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تنقل صاحبها من سعادة وهناء إلى محنة وشقاء؟! أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تحرك أفراداً وجماعات، وتنشئ تزلفاً وشفاعات؛ لرأب ما صدعت، وجمع ما فرقت؟! أتدرون أي كلمة هذه؟ إنها كلمة أبكت عيوناً، وأجهشت قلوباً، وروعت أفئدة، إنها كلمة صغيرة الحجم؛ لكنها جليلة الخطب، إنها كلمة ترعد الفرائص بوقعها، وتقلب الفرح ترحاً والبسمة غصةً، إنها كلمة الطلاق، إنها كلمة الطلاق وما أدراك ما الطلاق؟ كلمة الوداع والفراق، والنزاع والشقاق، فلله كم هدَّمت من بيوت للمسلمين! وكم قطَّعت من أواصر للأرحام والمحبين! يا لها من ساعة رهيبة، ولحظة أسيفة يوم تسمع المرأة طلاقها، فتكفكف دموعها، وتودع زوجها! يا لها من لحظة تجف فيها المآقي حين تقف المرأة على باب دارها لتلقي النظرات الأخيرة؛ نظرات الوداع على عش الزوجية المليء بالأيام والذكريات! يا لها من لحظة عصيبة حين تقتلع السعادة أطنابها من رحاب ذلك البيت المسلم المبارك! الجزء: 53 ¦ الصفحة: 2 طريق السعادة الزوجية عباد الله: العشرة الزوجية ضرب خاص من المحبة في النفس ليس له في أنواعه ضريب، فهو الذي يسكن به الزوجان، وهو الذي يلتقي به بشران؛ فيكون كل منهما متمماً لوجود الآخر، ينتجان بلقائهما بشراً مثلهما {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل:72] . إن اختلال العشرة بين الزوجين يذكي نار الفرقة، وكثرة الخصام تضرم أوارها، ولو أحب الأزواج أنفسهم حباً صادقاً، وسكن بعضهم إلى بعض لَوَادَّ كل منهما الآخر، ووادَّ لأجله أهله وعشيرته؛ لأن المودة بين الزوجين سبب من أسباب سعادة البشر، وسبب من أسباب سعادة العشيرة، وسعادة للأمة المؤلفة من العشائر المؤلفة من الأزواج، فهذا التآلف والتأليف هو الذي يتكون منه مزاج الأمة؛ كما يكون عليه من اعتدال وكمال يكون كمالاً في بنية الأمة واعتدالاً، وقرة عين لمجموعها، وما يطرأ عليه من فساد واعتلال يكون مرضاً للأمة يوردها موارد الهلكة، فمن لا خير فيه لأهله لا خير فيه لأمته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي} . الجزء: 53 ¦ الصفحة: 3 المرأة الصالحة خير متاع الدنيا عباد الله: لقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: {فاظفر بذات الدين تربت يداك} هذه هي الزوجة التي يحث الشارع على تحصيلها والرضا بها، ويدعو على من أراد غيرها، وزهد فيها، ورغب عنها، ومن المعلوم بداهة أنه لا يرغب بالظفر بذات الدين إلا من كان قلبه معلقاً بالدين، وكانت نفسه من النفوس الزكية، ومن هذه حاله فلا غرو أن يرزق المودة بينه وبين زوجه؛ لأنها من ثمرات المشاكلة في السجايا والصفات الفاضلة، وعلى العكس من ذلك المشاكلة في الصفات الرديئة، والسجايا الدنيئة؛ فهي لا تثمر محبة، ولا تورث تودداً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خير متاع الدنيا المرأة الصالحة} رواه مسلم. إنه متى كان الدين بين كل زوج وزوجته فمهما اختلفا وتدابرا، وتعقدت نفساهما، فإن كل عقدة من العقد لا تزيد إلا ومعها طريقة حلها، ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه، وهو اليسر والمساهلة، والرحمة والمغفرة، وهو العهد والوفاء، وهو اتساع الذات وارتفاعها فوق ما تكون به منحطة أو وضيعة، ومن كانت هذه حاله فلن يستنكف أن يكون ممتثلاً لما أُمر به من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها} وقوله صلى الله عليه وسلم: {استوصوا بالنساء خيراً} وثمرة الدين في المرأة يظهر في مثل قول عائشة رضي الله عنها: [[يا معشر النساء! لو تعلمن بحق أزواجكن عليكن؛ لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بحر وجهها]] . فما أجهل الرجل يسيء معاملة امرأته! وما أحمق المرأة تسيء معاملة بعلها! الجزء: 53 ¦ الصفحة: 4 الحياة الزوجية أفراح وأتراح أيها الناس: الطلاق كلمة لا ينازع أحد في جدواها، وحاجة الزوجين إليها حينما يتعذر العيش تحت ظل وارف، وإذا بلغ النفور بينهما مبلغاً يصعب معه التودد؛ فالواجب أن يتفرقا بالمعروف والإحسان؛ كما اجتمعا بهذا القصد {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} [النساء:130] . إن الله عز وجل لم يخلق الزوجين بطباع واحدة، والزوجان اللذان يظنان أنهما مخلوق واحد يعيشان في أوهام، إذ كيف يريد منها زوجها أن تفكر برأسه؟ وكيف تريد هي منه أن يحس بقلبها؟ {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] إن النسيم لا يهب عليلاً داخل البيت على الدوام، فقد يتعكر الجو، وقد تثور الزوابع، وإن ارتقاب الراحة الكاملة نوع وَهْمٍ، ومن العقل توطين النفوس على قبول بعض المضايقات، وترك التعليق المرير عليها {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر} . ومن يتتبع جاهداً كل عثرة يجدْها ولا يسلم له الدهر صاحب بيد أن بيوتات كثيرة فقدت روح التدين، فهي تتنفس في جو من الشراسة النكر، واكتنفتها أزمات عقلية وخلقية واجتماعية؛ فقد تطلق المرأة اليوم في رطل لحم؛ علق الرجل به طلاقها إن قامت بشرائه، فيخبط هؤلاء خبط عشواء ويتصرفون تصرف الحمقى؛ فيقعون في الإثم والحيف. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 5 أسباب انتشار الطلاق عباد الله: لقد كثر الطلاق اليوم لما فقدت قوامة الرجل في بعض المجتمعات، إبان غفلة وتقهقر عن مصدر التلقي من كتاب وسنة، وركن فئام من الناس إلى مصادر مريضة، قلبت مفاهيم العشرة وأفسدت الحياة الزوجية، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وتولَّى كبر تلك المفاهيم الإعلام بشتى صوره، من خلال مشاهدات متكررة، يقعِّد فيها مفاهيم خاطئة، ومبادئ مقلوبة بالعشرة الزوجية، حتى وضع بعض الزوجات تاريخهنَّ، ولرُبَّ منظر تشهده ألف امرأة بمرة واحدة، فإذا استقرَّ في وعيهنَّ، وطافت به الخواطر والأفكار سلبهن القرار والوقار؛ فمثَّلنه ألف مرة؛ بألف طريقة في ألف حادثة، فلا تعجبوا حينئذ إذا استأسد الحمل واستنوق الجمل! والعجب كل العجب أنه في ثنايا المناقشة، يقرر الإعلاميون أن دور الإعلام مع المرأة إنما هو كالتلقيح بمصل بعض الأدواء المعدية، والتسمم بميكروبها، بزعم أنها تكسب صاحبها مناعة تقيه من أن يعدى بوبائها، وحقيقة الأمر أنهم بالذي وضعوا زادت العقد، وإن ما يذكره الإعلاميون هو التعرض لعدوى الوباء في عنفوان شدته، ولقد صدق القائل: وكانت دوائي وهي دائي بعينه كما يتداوى شارب الخمر بالخمر والواقع -أيها المسلمون- أن داخل البيت المسلم يتأثر بخارجه، وتيارات الميوعة والجهالة إذا عصفت في الخارج تسللت إلى الداخل، فلم ينجُ من بلائها إلا من عصم الله. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 6 أهمية قوامة الرجل الحياة الزوجية حياة اجتماعية، ولابد لكل اجتماع من رئيس؛ يُرجع إليه عند الاختلاف في الرأي والرغبة، والرجل أحق بالرئاسة؛ لأنه أعلم بالمصلحة، وأقدر على التنفيذ بما أودع الله فيه من ذلك، وإن ما تتلقنه المرأة من الأجواء المحيطة بها على منازعة الرجل قوامته لمن الانحراف الصرف، والضلال المبين، وإن قوامة الرجل في بيته لا تعني منحه حق الاستبداد والقهر، فعقد الزوجية ليس عقد استرقاق، ولا عقد ارتفاق لجسد المرأة، إنه أزكى من ذلك وأجل، وكل من الزوجين بشر تام له عقل يتفكر به، وقلب يحب به ويكره، فوجب الحق للمرأة حتى مع قوامة الرجل {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] كما أن قوامة الرجل لا تعني استغناءه عن زوجه؛ فالله عز وجل يقول: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] . عباد الله: كثر الطلاق اليوم، لما صار المطَلِّق أحد رجلين: إما رجل أعمل سلطته، وأهمل عاطفته؛ فكان في بيته سيداً، ولكنه لم يذق طعم المحبة والسعادة، ولا عرف الصفاء والهناء. وإما رجل تبع عاطفته فأطاعها، وأهمل سلطته فأضاعها، فعاش في داره عبداً رقيقاً. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 7 كثرة الحاسدين والواشين لقد كثر الطلاق اليوم لما كثر الحسدة والواشون، والكذبة والنمامون، فنكثوا الطباع وعكسوا الأوضاع، وصيروا أسباب المودة والالتئام عللاً للتباغض والانقسام، ولربما كان لأهل الزوجين مواقف ظاهرة بدت سبباً مباشراً في كثير من الخلافات، فقد يتدخل الأب، وقد تتدخل الأم، أو الأخ أو الأخت فيحار الزوج من يقدم: والديه اللذين عرفاه وليداً وربياه صغيراً، أم زوجه التي هجرت أهلها وفارقت عشها من أجله؟ إن هذا لمرتقاة صعبة؛ أهونها أصعب الصعاب، وأحلاها أمر من المر، إن مثل هذه التدخلات في الحياة الزوجية لهي مكمن خطر لدى كثير من الأسر، فما بال أولئك يهجمون على البيوت فيأتونها من ظهروها، ويمزقون ستارها، ويهتكون حجابها، وينتزعون الخرائط من أكنافها، والفرائد من أصدافها، ويوقعون العداوة والبغضاء بين الأزواج، ماذا يكون أثر أولئك في البيوت التي تتكون منها الأمة، ومن الأمة المكونة من البيوتات؟ إنه لا يغيب عن فهم عاقل أن شره مستطير، وأن ما يفعلونه فتنة في الأرض وفساد كبير. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 8 عمق الجذور في العلاقة الزوجية عباد الله: إن العلاقات الزوجية عميقة الجذور، بعيدة الآمال، فرحم الله رجلاً محمود السيرة، طيب السريرة، سهلاً رفيقاً، ليناً رءوفاً، رحيماً بأهله؛ لا يكلف زوجته من الأمر شططاً، وبارك الله في امرأة لا تطلب من زوجها غلطاً ولا تحدث عنده لغطاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشرها} رواه أبو داود. وقال صلى الله عليه وسلم: {إذا صلت المرأة خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت} رواه ابن حبان. وبهذا كله يفهم الرجل أن أفضل ما يستصحبه في حياته، ويستعين به على واجباته: الزوجة اللطيفة العشرة، القويمة الخلق، وهي التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره، إن هذه الزوجة هي دعامة البيت السعيد، وركنه العتيد {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 9 مواقف للسلف في العشرة الزوجية الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه؛ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الناس! إن أحدنا لتمر عليه فترات لا يرضى فيها عن نفسه، ولكنه يتحملها ويتعلل بما يحضره من المعاذير، وإذا كان الأمر كذلك فليكن هذا هو الشأن بين الزوجين؛ يلتمس كل منهما لقرينه المعاذير؛ فإن المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب الزلات، ولابد من غض الطرف عن الهفوات والزلات؛ حتى تستقيم العشرة من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط الجزء: 53 ¦ الصفحة: 10 خديجة تواسي الرسول صلى الله عليه وسلم وتسليه ولا شيء يخفف أثقال الحياة، وأوزار المتاعب عن كاهل الزوجين كمثل أحدهما للآخر، ولا شيء يبعد الإنسان عن مصائبه في نفسه وغيره مثل المرأة للرجل، والرجل للمرأة، فيشعر المصاب منهما بأن له نفساً أخرى تمده بالقوة، وتشاطره مصيبته، فهذه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كانت له في المحنة قلباً مع قلبه العظيم، وكانت لنفسه صلى الله عليه وسلم كقول "نعم" فكأنها لم تنطق قط "لا" إلا في الشهادتين، وما زالت رضي الله عنها تعطيه من معاني التأييد والتهوين، كأنما تلد له المسرات من عواطفها كما تلد الذرية من أحشائها، بمالها تواسيه، وبكلامها تسليه: [[كلا والله، لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق]] . الجزء: 53 ¦ الصفحة: 11 موقف أم سليم بنت ملحان وحدث أنس بن مالك رضي الله عنه عن أمه أم سليم بنت ملحان الأنصاري رضي الله عنها قال: {مرض أخ لي من أبي طلحة يدعى أبا عمير، فبينما أبو طلحة في المسجد مات الصبي، فهيأت أم سليم أمره وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه، فرجع من المسجد وقد تطيبت له وتصنعت فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان، وقدمت له عشاءه؛ فتعشى هو وأصحابه، ثم أتما ليلتهما على أتم وأوفق ما يكون، فلما كان آخر الليل. قالت: يا أبا طلحة! ألم تر إلى آل فلان استعاروا عارية فتمتعوا بها، فلما طلبت إليهم شق عليهم! قال أبو طلحة: ما أنصفوا. قالت: فإن ابنك فلان كان عارية من الله فقبضه إليه؛ فاسترجع وحمد الله وقال: والله لا أدعك تغلبينني على الصبر، حتى إذا أصبح؛ غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: بارك الله لكما في ليلتكما} الله أكبر! بمثل هذا فلتكن العشرة أيها الأزواج! بمثل هذا فلتكن الحياة الهانئة السعيدة بالنفس والولد، والمال والأوطان. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 12 الحقوق الزوجية واعلموا رحمكم الله: أن لكلا الزوجين حقاً على الآخر: فحق الزوجة على الزوج أن ينفق عليها ولا يكلفها من الأمر ما لا تطيق، وأن يسكنها في بيت يصلح لمثلها، وأن يعلمها، ويؤدبها، ويغار عليها، ويصونها، وألا يتخونها، ولا يلتمس عثراتها، وأن يعاشرها بالمعروف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {استوصوا بالنساء خيراً} وسئل صلوات الله وسلامه عليه: {ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت} رواه أبو داود. ومن حق الزوج على زوجته أن تطيعه في المعروف، وأن تتابعه في مسكنه، وألا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، وألا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه، وألا تخرج بغير إذنه، وأن تشكر له نعمته عليها ولا تكفرها، وأن تدبر منزله، وتهيئ أسباب المعيشة به، وأن تحفظه في دينه وعرضه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض، دخلت الجنة} رواه الترمذي والحاكم. هذا وصلوا -رحمكم الله- على أفضل البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره يا سميع الدعاء! اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها، ويسرتها برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم ما سألناك من خير فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا من الخيرات فبلغنا. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم! اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. عباد الله: اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 13 كيف نفرح؟ الفرح والحزن حالتان نفسيتان أودعهما الله في نفس الإنسان ضمن أضداد أخرى كثيرة، والموضوع الأساس في هذه المادة هو الفرح. وقد مضى الشيخ في حديثه من تعريف الفرح عموماً إلى فرح الله سبحانه، ثم إلى تقسيم الفرح إلى محمود ومذموم، والكلام على كل منهما. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 1 الفرح من آيات الله في نفس الإنسان الحمد لله على تقديره، وحسن ما صرف من أموره، نحمده سبحانه بحسن صنعه، شكراً على إعطائه ومنعه، يصير الرزق للعبد وإن لم يشكره، ويستر الجهل على من يظهره، خَوَّف من يغفل من عقابه، وأطمع العامل في ثوابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خير من يدعى لدى الشدائد ومن له الذكر مع المحامد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، قضى بالحق وبه عدل، ربّى فصقل ووعد ففعل، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر صحابة نبيك محمد وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله سبحانه فاتقوه وراقبوه وأخلصوا له في السر والعلن، وتزودوا بطاعته فإن خير الزاد التقوى. أيها الناس: يقول الله جل وعلا في محكم التنزيل: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20-21] ويقول جل شأنه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] ألا فاعلموا عباد الله أن الآيات العظام التي أودعها الله جل وعلا أنفس بني آدم لهي كثيرة حقاً، يعز على اللبيب حصرها ويعيى المتحدث سردها، ولو كلف المرء نفسه مرة في أن يستخلص بعضاً مما يثير الإعجاب في هذا التكوين، لوجد أن من الملفت حقاً ما يكمل في نفسه التي بين جنبيه من الأضداد المزدوجة، والعكوسات المتقابلة، والتي تكيف نفسها بقدر من الله وحكمة، بالتعامل مع الأحداث والمواقف، ولوجد المرء نفسه بين خلايا من الشعور اللا إرادية التي فطر الله الناس على أصله وقاعدته ويبدو ذلك بوضوح في مثل الضحك والبكاء، والقوة والضعف، والرغبة والرهبة، والذلة والعزة، والخوف والرجاء، والحب والفرح، والغضب والرضا، كل ذلك عباد الله يجتمع في النفس الواحدة في غير ذهول ولا جنون، وإنما هي خلال جبلية أودعها الله النفس البشرية {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] . الجزء: 54 ¦ الصفحة: 2 حقيقة الفرح عباد الله: إننا بحاجة ملحة إلى أن نلقي الضوء قليلاً في عدل وإنصاف، ومن منطلق النصح والتوجيه على واحد من تلك الأضداد الآنف ذكرها، ألا وهو الفرح، الفرح الذي يكون مقابلة الحزن والكآبة، الفرح الذي هو لذة في القلب بسبب الحصول على أمر محبوب، وانشراح في الصدر عند بلوغ مقصد مطلوب، أنساً بما يسر عند بلوغ مقصد مطلوب، أنساً بما يسر والذي يترجم عنه بالجوارح بالابتسامة حيناً، أو بأسارير الوجه حيناً آخر، ولربما بلغت العاطفة نفس الفرح فكان من فرط ما قد سره أبكاه. إن الله عز وجل بقسطه وعدله جعل الفرح والروح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن بالسخط والشك، فالساخط والشاك لا يذوق للفرح طعماً، ولا يرى له طيفاً؛ لأن الساخط العيش كثير الطيش، بل إن حياته كلها سواد ممتد وليل حالك لا يعقبه نهار إلا بفضل من الله ومَنَّ، فهو دائم الكآبة ضيق بالناس، ضيق بنفسه، كأن الدنيا في عينه سم الخياط حتى يكون حرضاً أو يكون من الهالكين. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 3 فرح الله سبحانه وتعالى قال ابن القيم رحمه الله: كما ورد الرضا والفرح والسرور من ربي تبارك وتعالى. الفرح -أيها المسلمون- صفة الكمال في البشر، وهو قبل ذلك صفة لله جل وعلا تليق بجلاله سبحانه، وهي في منتهى الكمال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَلَّهُ أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم كان على راحلة في أرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فيئس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح} . إن لفرح الله سبحانه بتوبة عبده شأناً لا ينبغي لأحد أن يغفله، أو يعرض عنه، بل إن من عرف ذلك فهو الموفق الذي لا يغضب، إذ لا يتنبه لمثل هذا، إلا من له معرفة بالله وبأسمائه وبصفاته، وما يليق بالباري جل ذكره، ومثل هذا الحديث قد تقصر عنه أصحاب بعض بني هذا الزمان؛ لضعف عقولهم وعلومهم عن احتماله، إبان نقص في العلم وجنوح غير يسير عن تربية المرء على التعلق بالله سبحانه، غير أننا نقول كما قال ابن القيم رحمه الله: إن الله عز وجل سيتم هذه البضاعة إلى تجارها ومن هو عارف بقدرها، وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفاً بها فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 4 الفرح فرحان أيها المسلمون: إن المقاصد المثيرة للفرح برمتها منها ما هو شريف ومنها غير شريف، والإسلام بشرعته ومنهاجه يحرض أتباعه في كل حين على أن يفرحوا بما يحمد ويذكر، من الأمور والأعمال الظاهرة والباطنة؛ ولأجلها نهاهم جل وعلا عن أن يفرحوا بزخرف الدنيا ومتاع الحياة الزائل، أو يفرحوا بالسطوة في الأرض بغير الحق، أو يفرحوا فرح الاعتزاز أو الادخار الكاذب {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد:26] {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:75] . الجزء: 54 ¦ الصفحة: 5 مظاهر الفرح المحمود الفرح -عباد الله- شأنه شأن الوعاء، الحكم عليه مبني على ما يكون فيه من المادة الداعية إليه، فالفرح إنما يكون محموداً حينما تجده في مقابل نعمة التوفيق بطاعة من الطاعات أو قربة من القربات، أو كفرحة المجاهد الذي قهر شهواته وقاوم رغباته، أو كانتصار ما يحبه الله على ما لا يحبه، وكذا دفع الباطل بالحق فإذا هو زاهق {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:4-5] . وإن للمسلمين كل الحق في أن يبتهجوا ويفرحوا؛ إذا نالوا نعمة خالصة أو أمنية خالية من شوائب الحظوظ العاجلة في دينهم ودنياهم مما يضر ولا ينفع، ولكنهم يفرحون إذا فرحوا فرح الأقوياء والأتقياء، وهم في الوقت نفسه لا يبغون ولا يزيغون ولا ينحرفون عن الصواب ولا يتعسفون، ناهيكم عن كونهم يعمرون فرحتهم بذكر ربهم الذي أتم عليهم نعمته ورزقهم من الطيبات، وهيأ لهم في كونه كثيراً من أسباب البهجة والسرور، بل ولربما تعدى الأمر إلى أبعد من ذلك حتى إلى مقابلة الابتلاء والامتحان بالفرح لما يفضي إليه، من محو للسيئات ورفع للدرجات. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: {دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضعت يدي عليه؛ فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله! ما أشدها عليك، قال: إنا كذلك يضعَّف لنا البلاء ويضعَّف لنا الأجر، قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء، قال: الأنبياء، قلت: يا رسول الله! ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء} رواه ابن ماجة بسند صحيح. الفرح المحمود -عباد الله- يترجم في الواقع بما تحمله في طيات نفسك لأخيك المسلم، فتفرح لفرحه وتسر لوصول النعمة إليه، أضف إلى ذلك الفرح حينما يسلم عبد أو يتوب عاصٍ، كما فرح الصحابة رضي الله عنهم بإسلام الفاروق رضي الله عنه أو غيره من الصحابة، لا الازدراء الموجه تجاه من يتمسك بدينه ويعتز بكونه من ركاب الصالحين والطائفة الناجية المنصورة. قال أبو هريرة رضي الله عنه: {كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي قلت: يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره؛ فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهدِ أم أبي هريرة، فخرجت مستبشراً بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فلما جئت وصرت إلى الباب فإذا هو مجافى، فسمعت أمي خجف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قلت: يا رسول الله! أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة فحمد الله وأثنى عليه} الحديث رواه مسلم في صحيحه. الفرح المحمود يرعاكم الله في مثل فرح الصائم بفطره الذي عناه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {للصائم فرحتان يفرحهما: إذ أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه} رواه البخاري في صحيحه. الفرح المحمود فرح المؤمن بشريعة ربه، وأمره ونهيه، وعدم التقديم بين يدي الله ورسوله، بل يفرح أشد الفرح إن كان ممن عناه الله بقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51] أو ممن قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنْ الأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد:36] ففي هاتين الآيتين دعوة محضة للارتقاء بفرح القلب بالإسلام ومجيء المصطفى صلى الله عليه وسلم، خلافاً لمن يشاققون بها أو يناقشون {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57-58] . روى ابن أبي حاتم بسنده لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه، خرج عمر ومولىً له، فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل عمر يقول: [[الحمد لله تعالى، ويقول مولاه: هذا من فضل الله ورحمته، فقال عمر: كذبت ليس هذا الذي يقول الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] وهذا مم الجزء: 54 ¦ الصفحة: 6 مظاهر الفرح المذموم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد البشر، والشافع المشفع في المحشر، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين: ثم اعلموا رحمكم الله أن الجانب الآخر من جانب الفرح هو الفرح المذموم وهو الذي يولد الأشر والبطر وهو ما كان ناتجاً عن الغفلة والخواء، وقد ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] أن الشيطان الوسواس ينفث في قلب ابن آدم عند الحزن وعند الفرح، فإذا ذكر الله خنس، والشخص المكثر من الفرح في الإسراف مما هو متاع الدنيا وزخرفها هو المعني بمثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] وليس من شأن المسلم أن يكون مفراحاً إلى درجة الإسراف؛ إذ ما من شيء من أمور الدنيا إلا والإسراف يشينه كما أن الاعتدال يزينه، إلا عمل الخير ولذلك قيل: لا خير في الإسراف ولا إسراف في الخير. ومن هذا المنطلق فإن الإسراف في الفرح سواء كان في الأعراس أو شبهها، مدعاة للخروج عن المقصود بل ولربما أدى إلى وقوع فيما لا يرضي الله من معاصي أو ضجيج وأهازيج، تقلق الذاكر، وتنغص الشاكر، لقد سمعتم عباد الله! الحديث الدال على أن شدة الفرح مدعاة للوقوع في الخطأ كما في قصة صاحب الراحلة حين قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، ناهيكم عباد الله! عن ذم الفرح بالمعصية والمجاهرة بها والافتخار في نشرها أو الشروع بالألقاب والمدائح لفاعلها، ووصفهم بالتحرر أو التنور بما يصيغونها فيه على هيئة مقالات أو روائيات على حين فترة من التذكير بقول النبي صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين} رواه البخاري. ومن الطوام العظام في الفرح المذموم فرح المرء بالعمل وإظهاره للناس والتسميع والمراءاة به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من سمع سمع الله به ومن راءى راءى الله به} رواه البخاري، ويشتد الأمر خطورة حينما يفرح المرء بما لم يفعل من باب الرياء والتكبر، ففيهم يقول جل وعلا: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188] . ومثل ذلك في الخطورة فرح المرء بتقصيره في طاعة الله أو تخلفه عن ركب الصلاح والاستقامة، ونكوصه عن دعوة الداعي وأمر الآمر ونهي الناهي {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:81-82] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا بلاء ولا غرق ولا استدراج، اللهم لتحيي به البلاد وتسقي به العباد ولتجعلها بلاغاً للحاضر والباد، اللهم أمطر ما لم يمطر من بلاد المسلمين، اللهم ألف قلوبنا بالإيمان وبلادنا بالأمطار يا ذا الجلال والإكرام. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 7 داء الشباب حينما أشرق الإسلام على أهل الجاهلية؛ أتى على فاسد أخلاقهم فأبطله، وعلى المختل فعدله، وعلى الناقص فأكمله، وعلى الصالح فكلله. فمنحهم بعد الظلم إنصافاً، وبعد العهر عفافاً، أتى بالخير للإنسان فأنقذه، وشرع الزواج وحبذه، فهو لداء الشهوة عند الشباب بلسم وعلاج، وكل عقبة توضع في طريق الزواج؛ فليست من الإسلام في شيء. وإشكاليات الزواج في العصر الحديث هي محور هذه الخطبة، بالإضافة إلى بعض القضايا الأخرى. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 1 الزواج بين الجاهلية والإسلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . فيا أيها الناس! لقد أشرق الإسلام بآدابه وتعاليمه الخالدة، فأقر كل خير وجد في الأخلاق الأصيلة، وغسلها مما علق بها خلال القرون من الأوبار الدخيلة، ثم أكملها بما أوحى به رب السماوات والأرض إلى نبيه صلوات الله وسلامه عليه تحقيقاً لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب:45-46] فبعثه الله عز وجل لحفظ مصالح الخلق ومقاصدهم، وسد كل ذريعة تخدش دينهم، أو تهز كيانهم، ولذا فقد أجمع الأنبياء والرسل قاطبة على الديانة بالتوحيد في مللهم، وعلى حفظ المال والنفس والنسب، وحفظ العقل والعرض، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الستة، فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول، فهو مفسدة، ودفعها مصلحة، ولأجل هذا شرع الله الجهاد لحفظ الدين، والقصاص لحفظ النفس، وحد المسكر لحفظ العقل، وحد الزنا لحفظ العرض، وحد السرقة لحفظ المال، وعقد النكاح لحفظ النسب. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 2 حديث عائشة في زواج الجاهلية أيها المسلمون! لقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [[كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء: نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته، أو ابنته، فيصدقها، ثم ينكحها، ونكاح الاستبضاع، كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من حيضها: أرسلي إلى فلان، فاستبضعي منه -أي: اطلبي منه الجماع، ويعتزلها زوجها حتى يتبين حملها، فإذا تبين حملها، أصابها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبةً في نجابة الولد، ونكاح آخر يجتمع الرهط على المرأة، فيدخلون كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجلٌ منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم ما كان من أمركم، فقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل، ونكاح رابع يجتمع أناس كثير، فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن، ووضعت، جُمعوا لها، ودعوا لها القافة، وهم الذين يشبهون الناس، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به -أي: التصق به وثبت النسب بينهما- ودعي ابنه، لا يمتنع منه الرجل، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق، هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم]] . الجزء: 55 ¦ الصفحة: 3 مشكلة الزواج في العصر الحديث أيها المسلمون! النكاح عبادةٌ يستكمل بها المسلم نصف دينه، ويلقى بها ربه على أحسن حال من الطهر والعفاف، وفي كثرة النسل من المصالح الخاصة والعامة ما يساعد الأمة على تكثير سواد أفرادها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة} وقديماً قيل: إنما العزة للكاثرين، ولا تزال هذه حقيقة قائمةً لم يطرأ عليها ما ينقضها. أيها الناس! إن في البلاد المسلمة اليوم مشكلةً من أعظم المشاكل، وأعمقها أثراً في حياة الأمة المسلمة؛ إنها مشكلة الزواج، والتي تتلخص في كلمات هي أن في المسلمين آلافاً مؤلفة من البنات في سن الزواج، لا يجدن الخاطب، وآلافاً مؤلفة من الشباب لا يجدون البنات، أو لا يريدون الزواج، وهذه المشكلة الظاهرة إن لم يتنبه إليها المسلمون، ويفتحوا لها طرق العلاج بالحلال؛ فإنه لن يجد الشباب للوصول إلى حاجاتهم الغريزية إلا سلوك طريق الحرام، في نحو ما ذكرت عائشة رضي الله عنها، أو يزيد؛ لأنه من النتائج الحتمية الظهور والتي لا ينكرها عاقلٌ مسلمٌ أن الفساد الخلقي سببٌ في قلة الزواج، وقلة الزواج سببٌ في الفساد الخلقي، وهذا ما يسمى بالدور كما قال القائل: لولا مشيب ما جفا لولا جفاه لم أشب إن الوقدة من ضرم الشهوة في أعصاب الشاب المسلم هي داء الشباب في كل حين، ولطالما أرقت الكثيرين صغاراً وكباراً، ولطالما نفت عن عيون الكثيرين لذيذ العيش، ولطالما صرفت التلميذ عن دروسه، والعامل عن عمله، والتاجر عن تجارته، وكل هذا طبعيٌ معقولٌ، ولكن الذي لا يكون أبداً طبعياً، ولا معقولاً أن يحس الفتى، أو الفتاة بهذا كله في سن الشباب، ثم يضطرهما المجتمع بأسلوبه على مختلف المحاور إلى البقاء على العزوبة، والصرف عن الزواج من حيث يشعر، أو لا يشعر، وهذه هي المشكلة، وهي مكمن الداء، ولربما كانت بعض المجتمعات تقول للشاب بلسان حالها: اختر إحدى ثلاث كلها شر، ولكن إياك إياك أن تفكر في الرابعة والتي هي وحدها الخير وهي الزواج، وهذه الثلاث: الاختيار الأول: إما الانطواء على النفس، وعلى أوهام الشهوة، والتفكير فيها، وتغذيتها بالروايات الرخيصة، وأحلام اليقظة ورؤى المنام؛ حتى تنتهي به الحال إلى الهوس، أو انهيار أعصابه، ولسان حاله يقول للمجتمع: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء الاختيار الثاني: وإما اللجوء إلى طرقٍ سريةٍ خفيةٍ؛ لإبراز غلة الشهوة، والتي حرمها جمهور أهل العلم عملاً بقوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] . الاختيار الثالث: وإما الاغتراف من حمأة اللذة المحرمة وسلوك سبل الضلال؛ لتبذل فيها الصحة والشباب في لذة عارضة ومتعة عابرة، ثم هو لا يشبع، بل كلما واصل واحدة؛ زاده الوصال هماً كشارب الماء المالح لا يزداد شرباً إلا ازداد عطشاً. وهذا كله نتيجة ما نحسه اليوم من جمود في حركة الزواج؛ حتى أصبحت العزوبة الممقوتة أصلاً لدى عديد من الشباب ليس بالقليل، والتي أتبعها بعد ذلك اضطراب الأقيسة الاجتماعية في طريقة اختيار القرينة عندما يرغب الشباب بالحياة الزوجية، والزواج ينبغي ألا يكون قضاء وطر، وإدراك شهوةٍ فقط، ولكن ينبغي أن يكون امتداداً لأمة تحمل رسالة نبيها صلى الله عليه وسلم، وبناءً لأجيال تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] . الجزء: 55 ¦ الصفحة: 4 عقبات في طريق الزواج أيها المسلمون! لقد توصل الكثير من الباحثين في مشكلة الزواج إلى أسباب كثيرة كانت سداً منيعاً في طريق من يريد الزواج، وهم وإن اختلفوا في عدِّ تلك الأسباب ما بين مقل منها ومكثر؛ إلا أن أهمها لا يخرج عن أسباب ثلاثة: أولها: تلكم العادات الشنيعة التي تخرب بيت الأب وبيت الخاطب معاً، وليس فيها نفعٌ لأحد، وإنما هو التفاخر والتكاثر، والتسابق إلى التبذير والترف، ولو سئل كثير من العزاب اليوم ما منعكم من الزواج؟ لكان جواب الكثيرين منهم في صوت واحد: غلاء المهور، غلاء المهور، الذي أدى بالناس إلى الازدواجية بالحياة، وفئام من الناس كأنهم يعيشون في عصر مضى، وفئام من الناس كأنهم يعيشون في عصر لم يأت بعد، فكيف إذاً يلتقي الزوجان وبينهما عصرٌ مديدٌ، هو يعيش كفافاً، وأهل الزوجة يعيشون إسرافاً، هو يريد الزواج، وأهلها يريدون الفخر والمباهاة؟ {جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على كم تزوجتها؟ قال: على أربع أواق يعني: مائة وستين درهماً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على أربع أواق؟! كأنما تنحتون من عرض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك} الحديث رواه مسلم، وعندما يصل المجتمع المسلم إلى حد الرشد، فإنه لا يستطيع بطبيعة الحال أن ينظر بعين الرضا إلى التنافس الصبياني في غلاء المهور، وعشق الأثاث، ومن أبى إلا ركوب رأسه في هذا المنحدر، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وسبب ثانٍ من أسباب تلك المشكلة: يتمثل في قلة الدين، وتغيب العفاف الذي أدى ببعض المجتمعات في كثير من البقاع -إلا من رحم الله- إلى إقرار الاختلاط بين الجنسين، والذي أصبح وسيلة ناجحة لإطلاق عنان الغرائز، ليعيش الشباب نكوصاً على أعراض الناس، يكتفون باختلاس النظرة، واستراق اللحظة، وسلوك مسالك الغش والتضليل التي غفل عن خطرها كثيرٌ ممن حرم هداية الله. والسبب الثالث: من أسباب تلك المشكلة هو ما يردده بعض أرباب الأفكار اللقيطة الذين ينفثون سمومهم عبر قنوات متعددة، يقررون من خلالها أن التبكير في الزواج عملٌ غير صالح، وضرب من التغرير بالمراهقين، وأنه لا ينبغي أن يغامر بعملية الزواج قبل التزود الكافي من التجارب، وفي ذلك قال قائلهم: لا قبل لي بهذا المعني الذي يسمونه الزواج، فما هو إلا بيت ثقله على شيئين: على الأرض، وعلى نفسي، وأطفال يلزمونني عمل الأيدي الكثيرة من حيث لا أمد إلا يدين اثنتين، وأتحمل منهم رهقاً شديداً، ومن ثم سيصبحون عالةً على المجتمع، ومن الذي تعرض عليه الحياة سلامها وأشواقها في مثل رسالة غرام، ثم يدع ذلك كله، ويتزوجها، فكأنه بذلك يسألها غضبها وخصامها في نحو قضية من قضايا المحاكم كل ورقة فيها تلد ورقة. وطبعياً أن يكون لمثل هذا الصدى مريدون ومريدات، يضعون مثل هذه الترهات في مقام القداسة والتعظيم، حتى يقف بهم الأمر لأن يكون الواحد منهم خواراً جباناً، لا يستطيع أن يحمل أثقالاً مع أثقاله، ويستوطن العجز والخمول، فلا يكون إلا قاعد الهمة رخو العزيمة، وكل شاب تلك حاله، فهو حادثة ترتبط بالحوادث وتستلزمها، ولا يأتي السوء إلا بمثله، أو بأسوأ منه، فيشهد العزب بنفسه أنه يبتلى بالعافية، مستعبد بالحرية، مجنون بالعقل، مغلوب بالقوة، شقي بالسعادة، وما علم أولئك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألجمهم بقوله: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة، فليتزوج؛ فإنه أحصن للفرج، وأغض للبصر، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه له وجاء} قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] . قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: [[أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح؛ ينجز لكم ما وعدكم به من الغنى]] . بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 5 أثر الزواج في الحياة ومكانة الأبناء في النفس الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فيا أيها الناس! بالنكاح يلتئم الشعث، وتسكن النفس، ويطمئن القلب، ويستريح الضمير من تعب التفكير، ويحصل الولد، ويعمر البيت، وتتم به نعمة الله على الزوجين، ولن تكمل الرجولة حتى يتزوج الشاب، أما الذي لا زوجة له ولا ولد، فرحمته بالناس مفقودة، وشفقته عليهم غير موجودة، لا يهمه إلا بطنه وظهره، ولا يجمع من المال إلا ما يكفيه لحياته، هو عالةٌ على أهله في صغره غير مأمولٍ في كبره، إذا طال عمره؛ فغير ملتفت إليه، وإذا مات؛ فغير مبكي عليه، ومن رغب عن النكاح فقد ترهب، وعنده يقف بعض نسل ابن آدم، من جهته تنقطع الأبوة والبنوة، فلا يذكر إلا بعلم علمه، أو مال ترك منه صدقة جارية. [[دخل الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى على معاوية رضي الله عنه وأرضاه، ويزيد بين يديه، وهو ينظر إليه معجباً به، فقال: يا أبا بحر ما تقول في الولد؟ فعلم ما أراد، فقال: يا أمير المؤمنين هم عماد ظهورنا، وثمر قلوبنا، وقرة أعيننا، بهم نصول على أعدائنا، وهم الخلف لمن بعدنا، فكن لهم أرضاً ذليلةً، وسماءً ظليلةً، إن سألوك فأعطهم، وإن استعتبوك فأعتبهم، لا تمنعهم رفدك، فيملوا قربك، ويكرهوا حياتك، ويستبطئوا وفاتك، فقال: لله درك يا أبا بحر هم كما وصفت والله]] . هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية، وأزكى البشرية جمعاء محمد بن عبد الله بن عبد المطلب سيد المرسلين، وإمام الغر المحجلين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضا، ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها ويسرتها برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 6 حقوق الإنسان الزائفة لقد تكالب أعداء الإسلام على الأمة الإسلامية، بهدف النيل من دينها ومعتقداتها، فانطلقت الشعارات الزائفة، والدعايات الخداعة، والنداءات الفاجرة إلى ما يسمى بحقوق الإنسان وتحرر المرأة. وإن المتأمل للدين الإسلامي يجد أن الشريعة الإسلامية ضامنة للمصالح العامة وكامل الحريات مبنية على الرحمة والعدل. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 1 ضمانة الشريعة الإسلامية للمصالح العامة الحمد لله سبحانه، أنعم على العباد بدينه القويم ودعوته، ومنَّ عليهم بشرعته وصبغته، وأكرمهم بتوضيح الطريق إلى مرضاته: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:84-85] لا إله إلا هو سبحانه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس:31] يسبح له الليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، قائد المجاهدين، وإمام المتقين، قضى دهره لله عابداً، وأفنى عمره فيه مجاهداً، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الأتقياء البررة، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. مهما يكن من شيء بعد فوصيتي لكم ونفسي بتقوى الله سبحانه، فهي عماد المؤمن في الدنيا، وأنيسه في قبره، وسلوانه في وحشته، ودليله في الأخرى، يوم يلقى الله سبحانه في جنات النعيم. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 2 الحق في اتباع شرع الله عباد الله: إننا لنعلم بالضرورة، أنه لا يجوز للناس أن يتخذوا غير الله رباًَ أو حكماً، وأن من فعل ذلك أو همَّ به فهو جاحد للحق، خائن للنعمة، وكذا من اتبع غير ما شرعه الله، أو حكم بغير ما أنزله الله، إنما هو مهمل للتشريع الإلهي، ومعتنق للقوانين البشرية، في عبث شائن، وجاهلية منكرة: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام:114] . لم تترك أحكام الله إلا ببواعث الهوى، غير أنه منظم مُزَوَّق، وكأنه منطق العقل الرشيد، وهدي المصلحة الزائفة التي لا تتصل بحنايا القلوب: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147] {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ * لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:87-88] . إن الشريعة الإسلامية ضمانة للصالح العام، وهي مبنية على الرحمة والعدل، والخير الذي يأمر الله عباده به -وما يأمر إلا بخير، تعود غايته لإسعاد الناس في عاجلهم وآجلهم- والشر الذي نهاهم عنه، وما ينهى إلا عن شر، ليس إلا وقاية لهم من أذىً قريب أو بعيد، أو من سوء مغبة جلية أو خفية. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 3 تكريم الإسلام للإنسان ولذا سما الإسلام بالإنسان روحاً وجسداًَ، عقلاً وقلباً، ولم يضع في عنقه غلاً، ولا في رجله قيداً، ولم يحرم عليه طيباًً، كما أنه لم يدعه كالكرة تتخطفها مضارب اللاعبين، فتتهادى في كل اتجاه، بل خاطبه ربه خطاباً صريحاً: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6-8] {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] . يقول ابن القيم رحمه الله: اعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرّمه وفضّله وشرّفه، وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسله وأرسل إليه، فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات؟ ومِن ثَمَّ عباد الله! فإن الناس في هذه القضية طرفان: فالماديون التحرريون: قالوا: إن الإنسان يعيش لنفسه، ومتاع الدنيا، فإذا كان الأحمق منهم يعيش ليأكل؛ فإن العاقل منهم يأكل ليعيش. وأما المؤمنون الموحدون: فقالوا: إنما يعيش الإنسان لربه الأعلى، ولحياته الباقية الأخرى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] . الجزء: 56 ¦ الصفحة: 4 دعوة أهل الكفر إلى مبادئ حقوق الإنسان الزائفة بَيْد أن أهل الكفر -عباد الله- قد بذلوا غاية وسعهم في الدعوة إلى قضية كبرى، وراءها ما وراءها من الخطورة على الفكر، والوعورة في المسلك، ألا وهي ما أسموها "مبادئ حقوق الإنسان" وجعلوا الحريات حسب مفهومهم العلماني الرافض للفطرة السليمة -التي فطر الله الناس عليها- سبباً يبيحون به تدمير الأخلاق، ويشيعون به فوضى الغرائز في ديارهم، والبلاد التي تشبهها أو تقتدي بها، حتى تتلبس بلباس العلمانية المخيط من جراء التحرر من الدين، وتنحيته عن واقع الحياة، وهم يزعمون أنها مبادئ الحضارة، والتقدم والرقي، من خالفها وكابر فيها رموه بأنه مخالف لمبادئ حقوق الإنسان، وليست من الحق في وَرْدٍ ولا صَدَر، ولا هي من دابَتِه، حيث إن حلوها مر، وسهلها صعب، ودماثتها دميمة. ولقد صدقوا ظنهم؛ فاتبعهم أَغْرارٌ ولهازم من مفكرين وكُتّاب في العلوم السياسية والاقتصادية والقانونية وعلم الاجتماع، وأخذوا في الدعوة إلى حقوق الإنسان على ما يريده الغرب الحاقد، ومن عامة الناس أشياع لهذه الدعوات والواردات، يتنكرون لأصول دينهم، إبَّان سِنَةٍ من ذوي الإصلاح والتوجيه، ويظنون أن في مبادئ حقوق الإنسان النضج والخروج من المأزق. وأن ما يأتي من ديار الإسلام قديم بالٍ؛ حتى وقعت مواقع بين الطرفين، وكان سلاحها من أولئك قذائف الزندقة والكفر، ومن أولاء دروع الاستكانة، والتخاذل عن القيام بالواجب. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 5 شعارات حقوق الإنسان الزائفة هذه المبادئ التي أرادوها، تمثلت في شعار الحرية والمساواة والإخاء، ويا لله! إلى أي مدىً بلغت هذه المبادئ من تضليل الشعوب؟! بَيْد أن الجميع غير قادرين على أن يصلوا إلى نقطة ارتكازٍ ينبثق منها هذا المبدأ المزعوم، فماذا تعني عندهم كلمة الحرية والمساواة والإخاء؟ أهي في الفكر أم الاقتصاد؟ أم الصحافة؟ أم الاجتماع؟ وإذا سلمنا جدلاً أنها تعني هذه المعايير كلها، فمن الذي يحدد نسب هذه الحريات وحدودها؟ أهو السلطان؟ أم الشعوب؟ أم الشعار نفسه؟ والواقع المشاهَد -عباد الله- أن منشئي معاني هذه المبادئ لم يصلوا إلى تحديد الوِجهة، ولا زالوا يعانون بمشكلات هذه الطروحات. والحق عند من كان خصب الحدس، واسع العلم أن هذا كله كان ألفاظاً ورسوماً لمقررات اليهود وحكمائهم، والتي قالوا فيها: كنا أول من اخترع كلمات الحرية والمساواة والإخاء، التي أخذ العميان يرددونها في كل مكان، دون تروٍّ، بل إنها جلبت لنا أعواناً من جميع أنحاء الدنيا. والحق -عباد الله- أنه مخطئ من ظن يوماً أن للثعلب ديناً. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 6 اتهام الإسلام بالقسوة والجفاء أيها المسلمون: إن الكثيرين يسمعون ويشاهدون في صحف العالم تارة، وفي المنتديات المقنعة تارة، لَغَطاً جهولاًَ، مصحوباً بقلم متعثر، وفكر في كل وادٍ منه شعبة، حول قسوة القيود التي جاء بها الشارع الحكيم، ورميها بأحد العبارات المُسِفَّة، ودهماء الناس مشغولون بالجدل والحوار، حول ما يثيرونه، ويتوهمون أنها مشكلات حقيقية لا بد لها من حلول، فيقدحون في التشريع، ويهوِّسون في الحدود، ويفتحون ملف المرأة على أنها مهضومة الحق، أسيرة الكبت، لا حظ لها في الحد من الفوضى، ولا قدم لها في المنتديات أو الدوائر المكشوفة، وأنها متى رغبت في أخذ حقها المزعوم، أو التعبير عن رأيها الفاضح، فليس لها إلا أن تتسلل لواذاً على تخوُّف، لا يزيله إلا تقادم الأيام ومر الليالي. ونظن أن خطورة مثل هذه القضية قد تبدت خطوطها، ولا يُظن بالطبع أن ما بقي من ألوانها ورسومها بمعجزنا أن نتخيله، فمواقعوها صنف من الناس، يتمددون بالحرية، وينكمشون بالإسلام، وكفاكم مِن شرٍ سماعُه، وتلكم عمالة نعيذكم بالله من غائلتها، يشوشون حق المرأة، ويطلبون إنصافها، فطبوا بذلك زكاماً، في حين إنهم ما أحدثوا إلا جذاماً، وحلوا بزعم منهم عُقداً، وبالذي وضعوه زادت العقد، ولا غرو أن يحصل هذا -عباد الله- إذا نطقت الرويبضة، ولا جرم أنه: لا يصل العطّاش إلى ارتواءٍ إذا استَقَتِ البحار من الركايا ومن يثنِ الأصاغر عن مراد إذا جلس الأكابر في الزوايا الجزء: 56 ¦ الصفحة: 7 فساد الطوية عند دعاة الحرية إني أسائلكم -عباد الله- ما هذه الحرية التي يطبلون لها ويزمرون، ويجعلون الاعتداء عليها أو التطرق لنقدها كفراً بها وبـ الديمقراطية، ما هذا كله؟ أهي حرية المرأة في أن تخلع جلباب حيائها، وتكشف من جسدها ما تريد؟ أم هي حرية الفسوق والعصيان اللذين كرَّهَهُما الله إلى السلف الصالح فقال: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7-8] . إنهم بين أمرين لا ثالث لهما: إما إنهم يَهْرِفُون بما لا يفقهون. وإما إنهم يتسترون بالألقاب والمسميات الخلابة، من حرية وإخاء وفكاك من إصرٍ وأغلال والله يقول: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق:23] والمثل السائد: (وتحت الرَّغوَة اللَّبنُ الصريح) . وإلا فأي أمة تصنع هذا الصنيع، وهي تريد أن تكون ممن يرد حوض نبيها صلى الله عليه وسلم؟! أتريد أن تكون بِدْعاً من الأمم، تأخذ من كل أمة شر ما عندها، وتدعو إلى أن تبدأ حياتها الاستقلالية بهذه الأخلاط من الشرور المركبة تركيباً مزجياً، يمنعها من الصرف والعدل، إنه والله طريق الموت الحاضر، لا طريق الحياة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى} رواه البخاري. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 8 هل من مبلغ عنا الرعاع من بني قومنا؟ ولكن مَن مُبْلِغ عنا الرِّعاعَ من بني قومنا أن دعاة حقوق الإنسان وأبواقهم، قد رأوا الناس يدخلون في دين الله أفواجاًَ، وخافوا بذلك أن تفوتهم حظوظ من الدنيا، بانقطاع لذائذهم وانتشال علائقهم، فتقدموا حاقدين، ضامرين للغدر، ناسين أن الله سميع بصير، وأنه خيرٌ حافظاً، وهو أرحم الراحمين. كما أنه كتب على نفسه أنه سيبلغ هذا الدين كما قال عليه الصلاة والسلام: {ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يدع بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر} . ولمثل هذا فليبك الباكي حسبكم بالبيود من هلاكي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرْسِلْتُ به إلا كان من أصحاب النار} رواه مسلم. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 9 حقوق الإنسان في الإسلام برزت لنا حقوق الإنسان على ما أراده الشرع الحكيم، ممثل في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: {إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا} . وقد ترجم البخاري رحمه الله في صحيحه باباً، فقال: " ظهر المؤمن حمىً إلا من حد أو حق " وتفسير هذه القاعدة يتمثل في أن حقوقه محمية، إلا إذا ارتكب ما يُوجب العقوبة عليها، كما أنها تعني كذلك وجوب تطبيق الحدود، والغيرة على حرمات الله، لقول عائشة رضي الله عنها: {والله ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تُنْتَهك حرمات الله، فينتقم لله} رواه البخاري. ومن معاني القاعدة أيضاً: المساواة أمام العقوبات بين الشريف والوضيع؛ لأن الغاية هي المحافظة على حقوق الجميع، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها} رواه البخاري. كما أن من معاني تلك القاعدة العظمى: المحافظة على حقوق أهل الذمة، وهم الكفار، الذين يدخلون في ذمة المسلمين، فإن دخلوا تحت أحكامهم حفظوا لهم حقوقهم ما داموا في ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا عليهم الحدود فيما يعتقدون تحريمه، كالزنا ونحوه. فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: {مُرَّ على يهودي مُحَمَّماً مجلوداً، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: أنشدك بالله، الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك ناشدتني بهذا لم أخبرك، نَجِدهُ الرجم، لكنه كثر في أشرافنا، فقلنا: إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلناه التحميم والجلد مكان الرجم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذْ أماتوه فأمر به فرُجم، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] } الحديث رواه مسلم. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. قد قلتُ ما قلتُ، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 10 وجوب الدفاع عن الشريعة الإسلامية الحمد لله حمداً كثيراًَ طيباً كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد البشر، والشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله السادة الغُرَر. أما بعد: عباد الله: فإننا من هذا المقام لنذكر المصلحين من أمتنا بوجوب الدفاع عن الشريعة الإسلامية من منطلق عقدي صحيح، وبيان مقاصد الشريعة في حدودها، وما تنطوي عليه من حفظ للدين والنفس والعقل والعرض والمال، كلٌّ حسب طاقته ووُسعِه، مع كشف الجوانب المظلمة التي تضمنتها مبادئ حقوق الإنسان، والرد على من أسموا أنفسهم بالمفكرين أو المتنورين، الذين انخدعوا بتلك الشعارات، وخدعوا الأمة الإسلامية بها، وما طرحنا لهذه القضية إلا كنفثة مصدور ولا بد للمصدور أن ينفث، والمشاهَد -عباد الله- أن الكأس تفيض عند امتلائها. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 11 الولاء والبراء في الإسلام كما أنه ينبغي التنبيه إلى أمر مهم قد يخفى على البعض منا، وهو أن من مستلزمات الأخذ بمبادئ حقوق الإنسان هو الجلوس على موائد أهل الكفر المستديرة، في ندواتهم ومقرراتهم، والتي مفادها هدم ركن ركين، وأصل أصيل من أصول الإسلام، ألا وهو ركن الولاء والبراء، أعني: الولاء للمؤمنين، والبراء من الكافرين، الذي هو من لوازم كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) ذلك اللازم المؤكد في مثل قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28] . وفي مثل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم لـ جرير بن عبد الله البجلي لما بايعه على الإسلام، قال له: {أن تنصح لكل مسلم، وتبرأ من الكافر} رواه أحمد. قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، العالم المجدد لما اندرس من معالم الإسلام في القرن الثاني عشر " فأما صفة الكفر بالطاغوت، كأن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم ". وذكر رحمه الله أن من نواقض الإسلام: " أن من لم يكفّر المشركين، أو يشك في كفرهم، أو يصحح مذهبهم كَفَرَ ". وقال رحمه الله: " ومظاهرة المشركين، ومعاونتهم على المسلمين كُفْرٌ، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] ". اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين, واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان. اللهم فرج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته، يا ذا الجلال والإكرام. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 12 حاسبوا أنفسكم تحتاج النفس إلى ترويض وتهذيب حتى ترقى إلى مرتبة الاطمئنان، وإن من أجدى الوسائل في الترويض المحاسبة، فتحاسب النفس عما تذر وتفعل مع استشعار رقابة الله تعالى، ومن حاسب نفسه في الدنيا خف حسابه في الآخرة. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 1 ضرورة المحاسبة لبناء الأمة الحمد لله الواصل الحمد بالنعم، والنعم بالشكر، نحمده على آلائه كما نحمده على بلائه، ونستعينه على نفوسنا البطاء عما أمرت به، السراع إلى ما نهيت عنه، ونستغفره مما أحاط به علمه، وأحصاه كتابه، علمٌ غير قاصر، وكتاب غير مغادر، خلق الإنسان، وبصره بما في الحياة من خير وشر {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق كل شيء فقدره تقديرا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ، فإن تقوى الله سبحانه دار حصن عزيز، تمنع أهلها وتحرز من لجأ إليها، وبها تقطع حمة الخطايا، فهي النجاة غداً والمنجاة أبداً. أيها الناس: إن للأمم مع نفوسها غفوة تعقبها غفوات، وللأفراد المنفردين كما للأمم والشعوب سواءً بسواء، وإذا كانت غفوة الفرد تُعَدُّ بالساعات؛ فإن غفوة الأمم تعد بالسنين؛ لأن السنة في حياة الأمة تقوم مقام اليوم أو بعضه في حياة فرد من الأفراد، وحينما تتعرض الأمم للنكبات تزلزلها وتبلبلها؛ يكون حتماً على أفرادها ومجتمعاتها، أن يعودوا إلى أنفسهم ليتبينوا مواضع أقدامهم، ويبصروا مواقع خطواتهم، فيصححوا ما في واقعهم من أخطاء، أو ليرقعوا الفتوق الناتجة عن الغفلة وقلة الاكتراث؛ حتى تعود نفوسهم لبنات صالحة؛ لإقامة صرح الأمة المشيد، ولذلك يقول الحق جلَّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] ويقول جلَّ شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105] ويقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: {عليك بنفسك} رواه أبو داود والترمذي. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 2 استشعار رقابة الله عباد الله: إن الفساد في الدنيا إنما يكون ظاهراً جلياً، حينما لا يظن المجتمع أو بعض أفراده حساباً؛ لا يظنون حساباً من رب قاهر، أو من ولي حاكم، أو من مجتمع محكوم، أو من نفس لوَّامة، وحينما لا يظن المجتمع أو بعض أفراده حساباً على تصرفاتهم؛ فإنهم ينطلقون في حركاتهم كما يحبون، ويموتون كما يشتهون، وكما تهوى أنفسهم، فيتقلبون على الحياة ودروبها، بلا زمام ولا خطام، فيتشبهون بأهل النار من حيث يشعرون أو لا يشعرون {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً} [النبأ:27-28] فهؤلاء لم يكونوا مؤمنين بالمُحَاسِبْ، ولا موقنين بالمُحَاسَبْ، لو أن الأمم والمجتمعات يخبطون في الدنيا خبط عشواء، ويتصرفون على ما يحلو لهم دون معقب أو حسيب، لجاز على تفريط وحمق أن يبعثروا حياتهم كما يبعثر السفيه ماله، فكيف ولِله حَفَظَةٌ يدونون مثقال الذرة {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] . والذي ينبغي على الناس بعامة أن يكونوا على وعي وبصيرة بمقدار ما يفعلون من خطأ أو صواب، والحق -عباد الله- أن هذا الانطلاق في مهامه الحياة أفراداً وجماعات دون اكتراث بما كان أو يكون، أو الاكتفاء بنظرة خاطفة لبعض الأعمال البارزة أو الأعراض المخوفة، الحق أن ذلك نذير شؤم والعياذ بالله. وقد عده الله في كتابه الكريم من الأوصاف التي يعرف بها المنافقون الذين لا كياسة لديهم، ولا يقين لهم: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126] . الجزء: 57 ¦ الصفحة: 3 ترويض النفس على الاستقامة إن العقول السوية والفطرة السليمة، لن تخرج عن إطارها؛ إذا اعتبرت النفس الصالحة هي البرنامج الوحيد لكل إصلاح، وأن ترويضها للاستقامة وتذليلها للطاعة هو الضمان الحي لكل حضارة ورفعة، وإن النفس إذا اختلَّت وزلَّت أثارت الفوضى في أحكم النظم، والبلبلة في كنف الهدوء، واستطاعت النفاذ من ذلك إلى أغراضها الدنيئة، ومطامعها المريبة، والنفس الكريمة ترقع الفتوق في الأحوال المختلفة، ويشرق نُبلها من داخلها، فتحسن التصرف والمسير وسط الأنواء والأعاصير. إن القاضي المسلم النزيه يكمل بعدله وتقواه نقص المتداعين الغششة، والقاضي الجائر يستطيع الميل بالنصوص المستقيمة، ولي أعناقها؛ لتحقيق رغباته، وإشباع شهواته، وقائد القاضيين كليهما هي النفس {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] . أيها الناس: إن أصعب الأشياء مجاهدة: النفس ومحاسبتها؛ لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة، وقدرة رهيبة، فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب؛ فأوقعتهم فيما كرهوا، وإن آخرين بالغوا في خلافها حتى ظلموها ومنعوها حقها، وأثر ظلمهم لها في تصرفاتهم وتعبداتهم، ومن الناس من أفرد نفسه في خلوة وعزلة؛ أثمرت الوحشة بين الناس، وآلت به إلى ترك فرائض أو فضل؛ من عيادة مريض؛ أو بر والدة. وإنما الحازم المحكم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأصول، فالمحقق المنصف: هو من يعطيها حقها، ويستوفي منها ما عليها، وإن في الحركة بركة، ومحاسبة النفس حياة، والغفوة عنها لون من ألوان القتل صبراً. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 4 عاقبة محاسبة النفس عباد الله: لقد قال الله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] إن العبد المسلم لن يبلغ درجة التقوى؛ حتى يحاسب نفسه على ما قدمت يداه، وعلى ما يعقد عليه العزم من شئونه في جميع الأمور، فينيب إلى الله مما اجترح من السيئات؛ ملتمساً عفو الله ورضاه، طامعاً في واسع رحمته وعظيم فضله. ومحاسبة النفس المؤمنة سمة للمؤمن الصالح {الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني} والذنوب واردة على كل مسلم ولكن لا بد لها من توبة، ولا توبة دون محاسبة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون} رواه الترمذي. يتوب العبد بعد أن يحاسب نفسه، ويحاسب نفسه لينجو من حساب الآخرة؛ فإن الشهود كثير، ولا يملك العبد في الاحتيال من فتيل ولا نقير ولا قطمير {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] يقول الصحابة رضي الله عنهم: {يا رسول الله! وما أخبارها؟ قال: أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا} رواه أحمد وغيره. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 5 وصية عمر لمحاسبة النفس فنظّر الله الخليفة الراشد ورضي عنه ذا الكلمة الراشدة؛ الراسمة طريقة النجاح: [[حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله]] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] . إن ارتفاع النفس ونضوجها لا يتكون فجأة، ولا يولد قوياً ناضجاً دونما سبب، بل يتكون على مُكْثٍ، وينضج على مراحل، وإن ترويض النفس على الكمال والخير، وفطامها عن الضلال والشر يحتاج إلى طول رقابة، وكرَّات حساب. وإن عمارة دار جديدة على أنقاض دار خربة لا يتم طفرة بارتجال واستعجال، فكيف ببناء النفس وإنشائها المنشأ السوي! وإذا كانت النفس الرديئة دائمة الإلحاح على صاحبها تحاول العوج بسلوكه بين الحين والحين؛ فلن يخفف شرها علاج مؤقت، وإنما تحتاج إلى عامل لا يقل قوة عنها، يعيد التوازن على عجل إذا اختل ألا وهو عامل المحاسبة. إنه لا أشد حمقا، ولا أغرق غفلة؛ ممن يعلم أنه يحصى عليه مثاقيل الذر، وسيواجه بما عمله من خير أو شر، ويظل في سباته العميق لاهياً غير مستعتب لنفسه، ولا محاسب لها، يمسي على تقصير، ويصبح على تقصير، سوء يتلوه سوء، كذب وزور، غيبة ونميمة، حسد وتشفٍّ، دجل وفجور، فجور في السلوك، وفجور في التطاول بالسوء على من سوى نفسه وأهله، يقول أحد السلف رحمه الله: من حاسب نفسه قبل أن يُحاسب؛ خفَّ في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومئابه، ومن لم يحاسب نفسه دامت خسارته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 6 علاج غلبة النفس والهوى أيها المسلم: يا رعاك الله! إن قهرتك النفس بغلبتها، فصل عليها بسوق العزيمة، فإنها إن عرفت جدك، استأسرت لك، فالدنيا والشيطان خارجان عنك، والنفس عدو مباطن لك، ومن أدب الجهاد {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} [التوبة:123] إن مالت إلى الشهوات فألجمها بلجام التقوى، فإن رفعت نفسها بعين العجب؛ فذكرها حقارة أصلها ومهانته {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات:20] فإنك والله ما لم تجد مرارة الدواء في حلقك؛ لم تقدر على ذرة من العافية في بدنك، النفس المريضة كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. والمعلوم المشاهد أنه متى قوي عزم المجاهدة للنفس؛ لانت له بلا حرب، ولما قويت مجاهدة النبي صلى الله عليه وسلم تعدت إلى كل من تعدى، فأسلم قرينه صلوات الله وسلامه عليه، والفاروق رضي الله عنه، يشيد به المصطفى صلى الله عليه وسلم: {إيه يا بن الخطاب! والله ما رآك الشيطان في فج إلا سلك فجاً غير فجك} . الجزء: 57 ¦ الصفحة: 7 مجاهدة النفس فرض عين فيا أيها المسلم! بدل اهتمامك لك باهتمامك بك، واسرق منك لك فالعمر قليل، تظلَّم إلى ربك منك، واستنصر خالقك عليك، يأمرك بالجد وأنت على الضد! أبداً تفر من الزحف، وما ارتقيت درجة مجاهدة النفس ومحاسبتها، أتروم حينها الحصاد وأنت لم تبذر بعد؟! فإن النفس لن ترضى إذا لم تروض؛ لأنها سبع عقور، وإنما يراد الصيد لا العضود {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] إن النفس إذا كانت تهوى وتشتهي، والمرء ينهاها ويزجرها كان نهيه إياها عبادة لله تعالى يثاب عليها، يقول صلى الله عليه وسلم: {المجاهد من جاهد نفسه} رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. والمرء إلى جهاد نفسه أحوج منه إلى جهاد الكفار، فإن هذا فرض كفاية، وجهاد النفس فرض عين، ومن جاهد النفس لا يكون محموداً فيه إلا إذا غَلَب، بخلاف جهاد الكفار، فإنه كما قال جل وعلا: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:74] وأما المجاهد نفسه فإذا غُلِب كان مذموماً ملوما، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} رواه البخاري ومسلم. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 8 الوقوف مع النفس قليلا ً فما أحرانا -معاشر المسلمين- بالمحاسبة مع أنفسنا، وما أحرى وأحق أن يقف المسلم مع نفسه بذلك مذكراً لها، ومحاسباً إيَّاها عما أسلفته بحق وصدق معاتباً لها: وَيْحَكِ أيتها النفس! ما دورك؟! وما أشد غفلتك وسِنَتَكِ؟! ما موقفك من فرائض الإسلام، وشرائع الدين وقضاياه، وما يتطلبه من جد وتضحيات؟ قال مالك بن دينار: رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان لها قائداً. عباد الله: اتقوا الله واعلموا أن محاسبة النفس ميدان جهاد لا يحتاج إلى جيوش ولا مجنزرات، ولكنه يحتاج إلى جيش الهمة والعزيمة؛ ولا بد لنا -معشر المسلمين- من معركة مع أنفسنا؛ لنصلح بعد ذلك للمعركة مع أعدائنا، ولنتذكر قول ربنا: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30] . بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه كان غفاراً. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 9 النفوس ثلاثة أنواع الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه؛ كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون! ثم اعلموا أن النفوس ثلاث: الأولى: نفس أمارة بالسوء. والثانية: نفس لوَّامة. والثالثة: نفس مطمئنة. ولا شك أن شر هذه النفوس: هي الأمارة بالسوء، الداعية إلى الضلال، المحرضة صاحبها على الانحراف والاعتساف، والإنسان الغافل الضال حينما تدركه رحمة خالقه؛ ينازع نفسه بعد طول شقاء وعناء، ويقاومها لينقلها من منبت السوء إلى منبت الخير والرفعة، ويوقظ فيها صوت الضمير؛ فإذا هي نفس لوَّامة تتفكر وتتدبر وتعتبر فتنزجر، ثم تبلغ القمة والعلو؛ فإذا هي نفس مطمئنة لا تزلزلها الأهوال ولا الشدائد الثقال. فليت كل واحد منا يسائل ذاته: أين نفسي بين تلك النفوس الثلاث، وفي أي طريق تسير؟ أفي المقدم أم المؤخر؟ أفي العلو أم في السهل؟ هل ساءلت نفسك -أيها المرء- فحاسبتها قبل أن تحاسب؟ هل تفكرت تفكر محقق؟ هل نظرت إلى خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً، ولو كُشف للناس بعضها لاستحييت من قبحها وشناعتها؟ أُفٍ ثم أُفٍ لنفس مريضةٍ إن نوظرت شمخت، وأن نوفحت تعجرفت، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم، وسقطت عليها سقوط الغراب على الجيف. أين أنت -أيها المسلم- من ذلك المثل الرائع الذي ضربه لمحاسبة النفس أبو الدرداء رضي الله عنه حين جلس يبكي وقد رأى دولة الأكاسرة تهوي تحت أقدام المسلمين، وأجاب من قال له: [[يا أبا الدرداء تبكي في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! فيقول أبو الدرداء: ويحك يا هذا! ما أهون الخلق على الله؛ إنما هي أمة قاهرة ظاهرة تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى]] . وقد حمل ابن سيرين رحمه الله ديناً فسئل فقال: إني لأعرف الذنب الذي حمل به عليَّ الدين ما هو؟ قلت لرجل منذ أربعين سنة: يا مفلس! الله أكبر أيها المسلمون! قلت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون؟ وكثرت ذنوبنا فليس ندري من أين نؤتى! اللهم اعصمنا من شر الفتن، وعافنا من جميع البلايا والمحن، وأصلح منا ما ظهر وما بطن، ونق قلوبنا من الغل والحقد والحسد، ولا تجعل علينا تبعة لأحد من خلقك يا أرحم الراحمين! اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين. اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم! اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ما سألناك من خير فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قَصُرتْ عنه آمالنا من الخيرات فبلِّغنا، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 10