الكتاب: شرح لامية ابن تيمية المؤلف: عمر بن سعود بن فهد العيد مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 19 درسا] ---------- شرح لامية ابن تيمية عمر العيد الكتاب: شرح لامية ابن تيمية المؤلف: عمر بن سعود بن فهد العيد مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 19 درسا] شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الأول) مكانة العلم عظيمة، وأهميته كبيرة، وثمرته جليلة وعليه دأب العلماء وحرص على طلبه الفطناء؛ متحلين بآدابه من الإخلاص والعمل به، وكان من هؤلاء النجباء والأذكياء الفطناء علم الأعلام وقدوة الأنام شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني مولداً، وفي ثنايا هذا الدرس مولده ونشأته وطلبه للعلم وتدريسه وتصنيفه، وموقفه من أهل البدع والأهواء، وجهاده بلسانه ويده، وما لقيه من اضطهاد وتشريد، وما عاناه من خصوم حاقدين حتى توفي وهو سجين، خلف رحمه الله تراثاً علمياً هائلاً في جميع علوم الدين، فقدس الله روحه وأنار ضريحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 نص عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال شيخ الإسلام: يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي رزق الهدى من للهداية يسأل اسمع كلام محقق في قوله لا ينثني عنه ولا يتبدل حب الصحابة كلهم لي مذهب ومودة القربى بها أتوسل ولكلهم قدر وفضل ساطع لكنما الصديق منهم أفضل وأقول في القرآن ما جاءت به آياته فهو القديم المنزل وجميع آيات الصفات أمرُّها حقاً كما نقل الطراز الأول وأرد عهدتها إلى نقّالها وأصونها من كل ما يُتخيل قبحاً لمن نبذ القرآن وراءه وإذا استدل يقول قال الأخطل والمؤمنون يرون حقاً ربهم وإلى السماء بغير كيف ينزل وأقر بالميزان والحوض الذي أرجو بأني منه رياً أنهل وكذا الصراط يمد فوق جهنم فموحد ناج وآخر مهمل والنار يصلها الشقي بحكمة وكذا التقي إلى الجنان سيدخل ولكل حي عاقل في قبره عمل يقارنه هناك ويسأل هذا اعتقاد الشافعي ومالك وأبي حنيفة ثم أحمد ينقل فإن اتبعت سبيلهم فموفق وإن ابتدعت فما عليك معول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 فضل العلم وأهله الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: في مقدمة شرحنا لـ لامية شيخ الإسلام وتسمى (عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى) أود أن أنبه على أهمية العلم وفضله. فقد ورد في فضل العلم آيات وأحاديث، وليس درسي هو بيان فضل العلم، ولكني أحث الأحبة جميعاً أن يبدءوا قبل بدايتهم في هذه الدورة، حبذا لو أنهم قرءوا خمسة كتب في آداب طالب العلم؛ وذلك لأهميتها؛ نظراً لأننا نرى كثيراً من الشباب ينطلقون إلى حلق العلم انطلاقاً عاطفياً، فسرعان ما يسمع فضل العلم وأهميته، ثم تراهم جثوا بالركب في المساجد أسبوعاً أو أسبوعين، وربما بلغوا شهراً أو شهرين، ثم انعطفوا عن الطريق وعن المواصلة، ولعل السبب في ذلك أعزوه إلى أمرين: الأمر الأول: أن الواجب عليهم أن يدرسوا كتباً في آداب الطلب، خاصة الكتب المتقدمة، وكم هي -ولله الحمد- متوفرة في الأسواق، يمكن للإنسان أن يطلع عليها ويقرأها، وتكون تلك القراءة ليست قراءة عاطفية، وإنما قراءة المتمعن المستفيد، ليعلم خبر العلم الذي يطلبه، وفائدته وثمرته. الأمر الثاني: أن كثيراً من الأحبة لعلهم لا يقرءون سير العلماء وطلاب العلم الذين مضوا، وسير بعض العلماء وطلاب العلم في عصرنا وفي حاضرنا، وكم الشباب في حاجة إليها حاجة صادقة، وكم هي كتب التراجم والسير التي كتبت عن العلماء، وعن حياتهم، وأوقاتهم، وعلمهم، ومشايخهم، وطريقتهم، وظروفهم إلى غير ذلك، فقراءة تلك تغرس في النفس همماً عالية في مواصلة الطلب والاستمرار عليه. وأقول للأحبة: إننا ربما نحضر حلقات للعلم، ولكننا نحضر لها مدة معينة، ثم نجد من أمثلة ذلك: تلك الدورات التي أعتبرها أو أراها في نفسي أنها من الترقيع وليست من التأصيل، وأرى أن طالب العلم ينبغي له أن يجثو بركبتيه عند العلماء وطلاب العلم سنين عديدة، فلا يكفي مجرد دورة يحضرها لمدة أسبوعين أو ثلاثة أو شهر أو شهرين، فتلك أسميها مفاتيح فقط، وهي جرعات تُعطى لطالب العلم لينطلق بعدها للمواصلة، ليس ليعتمد عليها على أنه حصل العلم كله، وعلى أنه استفاد من العلوم كلها بمجرد حضور وقت، ولكنها شحذ للهمم، وفتح للمدارك، وبيان لفضل العلم وأهميته، والمواصلة في الطريق، ولنعتبرها زاداً، لكنه ليس زاداً يستمر إلا في الاستمرار في المواصلة في حضور حلقات العلم. واقرءوا في تراجم السلف رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم، تجد فيها أنه يقال: إنه لازم شخص شيخه عشرين سنة! جاثياً بركبتيه عند شيخه لا يفلت عنه، ولازم العلماء دهراً طويلاً إلى غير ذلك، وقلت: نحن بحاجة إلى دراسة حياة سلفنا رحمهم الله ورضي عنهم. قضية فضل العلم: في الذهن أنني أتحدث في مقدمة كل درس شحذاً للهمم للمواصلة، وعلها أن تكون مفاتيح خير، وتكون نواة للاستمرار في الطلب، ومعرفة قيمة العلم وثمرته وأهميته في واقع الناس. قضية فضل العلم قد ذكر الله في غير ما آية {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] وكما في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] يقول الإمام القرطبي: لو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه المزيد منه، فلم يوجد شيء أفضل من العلم. ولذا قال العلماء رحمهم الله تعالى: "إن طلب العلم أفضل من جميع نوافل العبادات" فجلوسك للعلماء ولطلب العلم والقراءة والتحصيل أفضل من صيام الإثنين والخميس، وأفضل من قيام الليل، وأفضل من كثير من العبادات، بل ربما يكون طلب العلم الذي يحصله الإنسان ويجثو على ركبتيه أفضل من الذهاب إلى العمرة والحج نافلةً وغيرها؛ لأن العلم لا يعدله شيء أبداً. وسبحان الله! موسى كليم الرحمن يطلب أن يزداد علماً حين سأل الخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] وأيهما أفضل: موسى أم الخضر؟ نحن نعلم بأن موسى لا يفضله الخضر أبداً ولن يفضله، ومع ذلك لما آتاه الله شيئاً من العلم سأله سؤال المتأدب المتلطف معه: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] وبعد ذلك واصل موسى، ولكن كما قال محمد صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى ليته صبر، لنعلم من أخبار الخضر وأعاجيبه) . ولعل من اللطائف في قصة موسى مع الخضر، وفيها دروس وآداب لطالب العلم عجيبة جداً، وكم يستنبط العلماء منها من الآداب، ذكر ابن كثير وذُكر في الصحيح وغيره في أصل هذه القصة: أن موسى عليه الصلاة والسلام خطب في بني إسرائيل بعد أن ذكرهم: إني لأعلم أهل الأرض، فعتب الله عليه، ثم بين له أنه يوجد في الأرض من هو أعلم منه، وسأل ربه أن يستفيد منه، وإذا هو الخضر، مشى موسى مع الخضر وفي آخرها بعد أن علَّمه الخضر الأحداث الثلاثة وأسبابها، كان معه على السفينة فوجد طيراً ينقر في البحر، فقال الخضر لموسى عليه الصلاة والسلام: يا موسى! إنما علمي وعلمك في علم الله تعالى كمثل ما نقر هذا الطير من هذا البحر. فمهما حصلت من العلم ستجد أنه ليس عندك شيء، وسبحان الله! كلما ازداد الإنسان علماً ازداد معرفة بجهله إذا كان صادقاً في الطلب والعلم، ولكن مشكلتنا أن الإنسان يقرأ كتاباً أو كتابين ويحفظ متناً أو متنين، ثم يتصدر للناس بمسائل تبصير وتوجيه وإفتاء وشرح للمتون وقراءة للمطولات، وهو لم يؤسس القواعد التي نعتبرها كما قال سلفنا من قبل: (من حفظ المتون حاز الفنون) . ولعل الأحبة يرون أننا أخذنا متناً صغيراً وهو لا يجاوز (15) بيتاً، وفي بعض النسخ (16) بيتاً، ولكني أعتبر أنه يجب علينا أن نعلم أنه لا بد أن نبدأ بالمتون لنؤسس بها، ثم ننطلق على ضوء تلك في الاستفادة والتحصيل. ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري ومسلم من حديث معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) وتكلم العلماء على هذا الحديث كلاماً عظيماً عجيباً، وأخذوا بمفهومه المعاكس أن من لم يطلب العلم فإنه لم يرد الله به الخير حتى ولو كان هذا الإنسان على توجيه وعلى حرص على الخير والاستقامة، لكن هذا الخير الذي ميز الله به العلماء وطلاب العلم نعتبره اصطفاءً ربانياً يؤتيه الله من يشاء {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:4] . وأقول للأحبة: إن هذا الحديث الذي سأذكره يجب أن نستشعره دائماً في حضورنا لحلقات العلم، وجثونا بالركب للاستفادة والتحصيل، فقد ثبت من حديث أبي الدرداء الذي رواه أبو داود والترمذي وحسنه الشيخ ناصر الدين الألباني وهو حديث: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) . أخي المسلم: إنك إذا انطلقت لدرسٍ أو لعلم -وأخاطب أحبتي الذين يدرسون في الكليات الشرعية- هل إذا انطلقت تشعر بأنك تمشي في طريق الجنة، وتبحث عن رضا ربك، وأنك تريد من هذا العلم فائدةً وتحصيلاً ترفع الجهل عن نفسك، ثم تعمل بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم تبلغ ما علمت إلى الناس وتوصله إليهم، أم أنك تذهب وترجع بمجرد الحضور والبركة؟ لا شك أن حضور حلقات العلم ولو لم يستفد الإنسان شيئاً كما ثبت في الصحيح: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) وهنيئاً لأولئك الذين يحضرون حلقات العلم، ولو لم يكن لهم تخصصاً شرعياً، فالعلم الشرعي ليس خاصاً بطائفة معينة، وليس لصنفٍ معين، لا للصغير ولا للكبير، وليس لطلاب الكليات الشرعية فقط، بل كل من جثا بركبتيه في المساجد لطلب العلم فإنه يحظى بما ورد من الفضائل في القرآن والأحاديث، وفي غيرها من كلام السلف في فضل العلم وأهميته، ولذلك فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) ومن يوازي محمد صلى الله عليه وسلم؟! وإنما هذا من باب التشبيه؛ شحذاً للهمم من حضور حلقات العلم والاستفادة منها؟ وهذا الحديث قد رواه الإمام الترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سلوا الله علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع) في سجودك وفي آخر تشهدك سل ربك دائماً أن يرزقك علماً نافعاً، وكم من الناس قد يؤتون علماً ولكنهم لا يستفيدون منه شيئاً، ولا يفيدونه لغيرهم، ولذلك لما وصف الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى علماء أهل الكلام، قال: أوتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاءً، ولما ترجم الإمام الذهبي رحمه الله تعالى لأحد علماء أهل الكلام قال: إنه من بحور العلم، لكنه قال بعدها: من بحور العلم الذي لا ينفع؛ لأنه بعيد عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بعيد عما كان عليه سلف الأمة، فلا يستفد من ذلك العلم شيئاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 إخلاص النية في طلب العلم أتكلم حول أدب واحد وأسكت بعدها؛ لأنطلق لشيخ المسلمين وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أقول للأحبة: أول أدب: إخلاص النية لله تعالى في الطلب، كيف لا وطلب العلم يعتبر عبادة! وعندنا قاعدة: أن العبادة لا تصح إلا بنية خالصة، وأي إنسان يطلب ثواباً للعبادة بدون نية وبدون إخلاص فإنه لا يستفيد من ذلك أبداً، والله تعالى قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] . ويقول الإمام ابن جماعة رحمه الله تعالى في مسألة حسن النية في طلب العلم: إن حسن النية لا يكون إلا بأمور: 1- أن يقصد الإنسان بطلب العلم وجه الله تعالى. 2- أن يقصد به أن يعمل بهذا العلم، وإن العلم الذي يحمله ربما يكون حجة عليه لا حجة له بين يدي الله تعالى. 3- أن يقصد به إحياء الشريعة ونشرها في الناس، وتبصير الناس فيما علم. 4- تنوير قلبه وتحلية باطنه. 5- القرب من الله تعالى يوم القيامة والتعرض لما أعده الله لأهل العلم من رضوانه وعظيم فضله. يقول سفيان الثوري رحمه الله تعالى: "ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي". وسبحان الله! فقد نقل عن كثير من السلف أن بعضهم ربما تصدر يوماً لإلقاء كلمة أو بيان شيء للناس ثم يسكت، قيل: لِمَ لم تتكلم؟ قال: "أعجبتني نفسي فأردت أن أهينها" كأنها استشرفت فأراد أن يؤدبها تأديباً عملياً، فأعظم ما يؤدب الإنسان أن يؤدب نفسه، وغيره ربما لا يطلعون عليه، وما في القلب والنفس لا يعلم به إلا الله سبحانه وتعالى تحتاج تصفية. ولهذا وجب على المسلم أن يقصد بطلبه للعلم وجه الله، لا يريد منه أغراضاً دنيوية، ولا تحصيل رياسة، ولا جاه، ولا مال، ولا مباهاة الأقران، فربما بعض الأحبة يحضر حلقات العلم، قال: لأكون أفضل من فلان وفلان، أو من أجل أنك إذا بحثت مسألة ناقشته وأفحمته في هذه المسائل. نقول: أبعد هذا المرض من قلبك فإنه يفسد عليك العلم، ويسحب منك بركته، وبعضهم قد يطلبه لتعظيم الناس له، وللتصدر في المجالس. لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار) والحديث رواه ابن ماجة، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله. فنعوذ بالله أن نسير على طريق آخره إلى النار، بل نسأل الله أن يكون طريقنا إلى جنات عدن. أختم بحديث عظيم جداً ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، وقد بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أوائل من تسعر بهم النار، وأول من يقضى عليه يوم القيامة، ذكر منهم النبي صلى الله عليه وسلم والحديث طويل: (رجل تعلم العلم وقرأ القرآن، ولكنه أوتي به، فعرفه الله نعمه، ثم قيل له: تعلمت ليقال: عالم، وقرأت ليقال: قارئ ثم يؤمر به فيلقى في النار) نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء القوم. وبناءً عليه: وجب علينا أن نحرص على طلب العلم، وأن نستفيد منه. أذكر قصة واقعية: كنا في حلقة شيخنا قريباً من عشر سنوات أو أكثر من ذلك، وهو شيخنا العلامة مفتي هذه الديار، وكان أحد طلابه يقرأ عليه من فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان فيه بيان فضل العلم وطلبه وأهميته، وقد ذكر شيخ الإسلام حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيح، والحديث طويل: (إن لله ملائكة سيارة يبحثون عن حلق العلم، حتى إذا وجدوها نادى بعضهم بعضاً: هلموا إلى بغيتكم، فتجتمع الملائكة، وتحضر إلى حلقة العلم، فإذا انقضى الدرس ذهبوا إلى ربهم وسألهم وهو أعلم بهم) -الحديث بطوله: يسألونك الجنة، كيف لو رأوها؟ قالوا: لكانوا أشد لها طلباً يستعيذون بالله من النار، كيف لو رأوها؟ قالوا: لكانوا أشد هرباً منها وفزعاً منها ثم يقول الله: ماذا يسألون؟ قالوا: يسألونك يا رب مغفرة الذنوب، فيقول الله: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة: إن فيهم فلاناً ليس منهم -كمن مر حول المسجد فسمع هاتفاً فدخل ولم يكن في نيته طلب العلم- فيقول الله: (أشهدكم أني قد غفرت لهم جميعاً، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) وقال الشيخ هنا وقفة عجيبة: وبكى الشيخ في هذا الموطن وهو في حلقة علم، وأعظم حلقة أشعر بها في نفسي في وجه الدنيا حلقة شيخنا، ومع ذلك قال: "وإنا لنرجو الله أن نكون منهم". إذا كان هذا الشيخ يقول هذه الكلمة، نقول نحن: وإنا لنسأل الله أن نكون منهم، وهذا يدلنا على فضل حلقات العلم وحضورها، وأنها ليست هينة، ولئن زهد الناس فيها فهي عند الله عظيمة، ولها منازل عالية. وسبحان الله! إني أرى عجباً، أخيار السماء -ملائكة الله- ينزلون على أخيار الأرض، جمع الله الطيبين مع الطيبين، ولذلك سل ربك دائماً أن تكون من القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم، فإن في ذلك الخير والبركة والنفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو شيخ الإسلام ابن تيمية، فلا أدري ما أحدثكم عن أخباره وعن واقعه، ولكني أذكر لكم وقفات، وللعلم بأن هذه الدورة أعتبرها دورة مختصرة، ولعل الله أن ييسر أن نكمل هذه الأبيات، وإن في نفسي أن هذا الوقت ربما لا يكفي، ولكن سوف نجاهد النفس ما استطعنا ألا نتوسع توسعاً كثيراً في بعض الأمور، لكن ما سنحتاجه سنقف معه. وسوف يكون منهجنا -إن شاء الله- حل العبارات التي ذكرها المؤلف شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ثم التعرض للمسائل العلمية التي تطرق لها، ثم ذكر ما نحتاج إليه مما نراه مكملاً لهذه المسائل، ولعلنا -إن شاء الله- في كل جزئية من الجزئيات نذكر المصادر والمراجع العلمية التي يمكن أن يستفيد منها طالب العلم حول هذه القضايا التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى، وربما نذكر في أثناء عرضنا مقدمات نحتاج لها دائماً، ويحتاج لها كل دارس لكتب العقيدة، خاصة أن الناس في حاجة إلى ذكر شيء من القواعد والتأصيل في المنهج، وخاصة في مسائل الاعتقاد. وإذا عرف الناس قواعد في الصفات، وقواعد في الربوبية، وقواعد في الألوهية، وقواعد في الغيبيات، وكيف كان السلف رحمهم الله تعالى يتعاملون مع النصوص، أصبح يقرأ في أي كتابٍ على ضوء بصيرة ونور، فتلك القواعد كان قصب السبق في تأصيلها أو جمعها وتبينها هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 نسب شيخ الإسلام ابن تيمية شيخ الإسلام: هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي، ويقال: الحنبلي، وإن كان في النفس منها هنيهة، ولكنا نقول: إنه درس على مذهب الحنابلة، ونعتبره إماماً مجتهداً رحمه الله تعالى، ويفتخر الحنابلة وإن كان السلفيون منهم أن شيخ الإسلام منهم، ويوجد من لا يكون من الحنابلة على منهج سلف الأمة، وهذا أمر سيأتي الكلام عليه، ولكنا سنذكر تقعيداً -إن شاء الله- حول هذا الأمر، وهو أن الأئمة الأربعة كلهم على منهج سلف الأمة. وما نقل عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أنه مر في مراحل حياته، واستتيب عدة مرات كما نقله الإمام عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه: السنة، نقول: هذه مرت في أول حياته، وأما آخرها فإنه كان على ما كان عليه سلف الأمة رحمهم الله تعالى. والحنابلة كغيرهم من الأئمة من الطوائف أو المذاهب الأخرى، فيوجد من أتباع أبي حنيفة والشافعي ومالك من ليس على منهج سلف الأمة في باب الصفات أو في باب القضاء والقدر، ولكن التقعيد عندنا: من وافق الكتاب والسنة سرنا على ضوئه، ومن خالف ذلك لم نلتفت إليه، والعبرة بالمنهج لا بالأشخاص، نحن لا نعبد أناساً أو أشخاصاً معينين، وقد يرد في الذهن ما قاله الشاعر: أنا حنبلي ما حييت وإن أمت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا نقول: المقصود من هذا البيت أنه على مذهب الإمام أحمد في مسائل الاعتقاد، وهذا أمر سيأتي -إن شاء الله- بيانه: أن كل من انحرف ثم رجع إلى منهج أهل السنة أعلن أنه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ونقول: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِى} [الجمعة:4] شرَّف الله هذا الإمام بأن أصبح منافحاً عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عقيدة الإسلام، ومبيناً للمنهج الحق. ذكر العلماء من صفات شيخ الإسلام بأنه الإمام الفقيه، المجتهد الناقد، المفسر البارع، الأصولي، علم الزهاد، نابغة دهره، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين، صاحب المنتقى رحمه الله، قال كثير من أهل العلم: إنه كالعلم فلا يحتاج أن يطلب فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 مولد شيخ الإسلام ابن تيمية وبداية طلبه العلم ولد رحمه الله تعالى يوم الإثنين العاشر من ربيع الأول سنة (661هـ) بـ حران، وقدم به والده مع إخوانه إلى دمشق عند استيلاء التتر على كثيرٍ من بلاد الإسلام سنة (667هـ) ، فسمع في أثناء قدومه من علماء دمشق عدداً كبيراً رحمه الله تعالى، عُني رحمه الله بعلم الحديث، وسمع المسندات وحفظ كثيراً منها، وسمع كتب السنة الستة، ومعجم الطبراني، وكتباً حديثية كثيرة، حتى قال بعض أهل العلم ومن معاصريه: أي حديث لا يعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية فليس بحديث، وإن كنا نقول: في هذا نوع من المبالغة، لكنه ثناء عليه بما آتاه الله من العلم. قرأ رحمه الله كتباً كثيرة، ورزقه الله حافظة قوية، وكان سريع القراءة رحمه الله، وسبحان الله! أقول للأحبة: من آداب طالب العلم أن يكثر من القراءة، ويسهل عليه بعد ذلك أن يقرأ، بعض طلاب العلم ربما يقرأ في كتاب فيشعر أنه لا يقضي عشر صفحات إلا في وقت طويل، وبعضهم مع الاستمرار يقرأ في جلسة واحدة ما بين الظهر إلى العصر مقدار مائتي صفحة إلى ثلاثمائة صفحة ويفهم ما فيها؛ نظراً لأنه ينمو عنده قضية التحصيل والقراءة، وهكذا ما ينمو من قضية الحفظ. أقبل رحمه الله تعالى على تفسير القرآن، وكان متميزاً فيه، وذكروا أنه فسر سورة نوح في سنوات عديدة، كان يشرحها يوم الجمعة رحمه الله تعالى، وهذا يدل على سعة إطلاعه ومعرفته وإدراكه بتفسير القرآن. كان لسجنه أثراً عظيماً جداً في تعمقه وفهمه لكتاب الله تعالى، يقول لما سجن: لا أدري ماذا أجزي من سجنني على ما حصل لي من الخير، فسجن معه أخويه، وكان يسجن هو ويدخل أخوه معه من أجل أن يخدمه رحمه الله تعالى، وكانا يعرضان القرآن، يسمع بعضهم لبعض، وفي سنته الأخيرة التي توفي فيها مكث في السجن سنتين ثم توفي، قالوا: إنه ختم ثمانين ختمة وهو يتأمل القرآن، وكان يستحضر الآيات كأن المصحف أمام عينيه رحمه الله تعالى، مما يدل على قوة حافظته، يقول لما سجن: سبحان الله! بدأنا نفهم القرآن ونتأمله، والسبب أنه لما كان خارجاً كان اهتمامه بمناظرة المبتدعة، وبشرح بعض الكتب والتوسع فيها، وتبيين وتأليف بعض المسائل في الاعتقاد وغيره، فلما سجن تفرغ لكتاب الله تعالى رحمه الله ورضي عنه. قالوا: إنه تأهل للإفتاء والتدريس وعمره دون العشرين سنة، وأصبح يفتي بعد أن بلغ عشرين سنة. قالوا عن حافظته: إنه ما حفظ شيئاً فنسي، وتولى التدريس بعد وفاة والده الذي تعلم عليه، ودرس بدار الحديث في أول سنة (683هـ) . كان يحضر دروسه بعض مشايخه وعلمائه ويتعجبون من فطنته وذكائه، ومن استحضاره للنصوص، وسبحان الله! رجل تميز بفنون عديدة، وإذا تكلم بفنٍ معين ظن السامع أنه لا يجيد إلا هذا الفن، بل والأعجب من ذلك أنه درس علم الفلسفة، وهو خلاف ما كان عليه الإمام الغزالي عفا الله عنا وعنه وهو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الذي يسمى حجة الإسلام الفقيه الشافعي المشهور. ذاك درس العلم وخاض في الفلسفة قبل أن يؤصل عقيدة أهل السنة والجماعة، وكتب كتابه العجيب الذي اسمه (المنقذ من الضلال) ، ذكر في مقدمته أنه كان من منهج الإمام أحمد رحمه الله تعالى عدم القراءة في كتب أهل البدع، وعدم الحضور في حلقاتهم، وعدم الاجتماع بهم، ولا التعلم عليهم، ولا دراسة علومهم، قال: ولكني لم آخذ بها، فدرس الفلسفة وخاض فيها، حتى قيل فيه: أراد أن يبتلعها فغُص بها، حتى توفي وفي قلبه شيء من الفلسفة، ولم يرجع إلى ما كان عليه سلف الأمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم. بخلاف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه ما درس الفلسفة إلا لحاجة بيان بطلان ما كانوا عليه، ولأن الفلاسفة كان لهم قوة وصولة في عصره رحمه الله، وحتى أنه يناظر الفلاسفة ويبين لهم شيئاً من أصولهم لم يفهموها هم، بل لم يطلعوا عليها من كلام كبار أئمة أهل الكلام، مما يدل على اطلاعه رحمه الله تعالى. ومن اللطائف: أنه تناظر مع أبي حيان رحمه الله، وهو الإمام المفسر، وكان أبو حيان قد أعجب بـ شيخ الإسلام أشد الإعجاب، وأثنى عليه أشد الثناء، وكتب رحمه الله ثناءً عليه، ولكنه لما ناظره في مسائل نحوية -وكان من كبار أئمة النحو- وبين أن هذا القول ليس بصحيح، فرد عليه بأن سيبويه قد قال كذا، قال: لقد أخطأ سيبويه في كتابه (الكتاب) -وهو من أنفس الكتب التي كتبت في النحو- في ثمانين موضعاً، ثم قال: لا تعرفها أنت ولا غيرك، فغضب عليه أشد الغضب، وبعدها عاداه أشد المعاداة، مما يدل على سعة اطلاعه في النحو والفلسفة وفي مسائل الاعتقاد وغيره. وقالوا عنه رحمه الله: كان يتميز بأن عنده دراية ومعرفة بأقوال الصحابة أمراً عجيباً، ويتميز بالإسناد. ولذلك كلما وجدت عالماً يربطك بما كان عليه سلف الأمة في الفقه، والأصول، والعقائد، والحديث، وغيرها فامسك بغرزه؛ لأنه يرجعك إلى المنبع، ويؤصل لك المنهج، وتستفيد منه استفادة عظيمة. ذكر الإمام الذهبي رحمه الله ترجمة له وافية، وذكر في معجم شيوخه في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية قال: إنه برع في التفسير وغاص في دقائقه ومعانيه بطبع سيال، وخاطر إلى واقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ من يحفظ مثلما يحفظه رحمه الله، وكان لا يحفظ شيئاً إلا ويعزوه إلى أصوله وإلى صاحبه الذي قاله، وكان شديد الاستحضار للأدلة وإقامتها، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف مذاهب الفقهاء، وفتاوي الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، بحيث أنه إذا أفتى في مسألة لم يلتزم بمذهب معين، بل يقوله مع دليله رحمه الله، وأتقن العربية أصولاً وفروعاً وتعليلاً واختلافاً، ونظر في العقليات إلى غير ذلك مما قال. ثم قال في آخره: وأوذي رحمه الله في ذات الله تعالى من قبل المخالفين، وأخيف في نصرة السنة المحضة، حتى سار على منارة، وعلى وضوح، ولكن الله جمع له قلوب أهل التقوى، وجمعهم على محبته، والدعاء له، وكبت الله أعداءه، وهداه إلى صراطه المستقيم، وبين أن له علماً بالملل والنحل وغيرها. قال الإمام الذهبي رحمه الله مع جلالته في آخر ترجمته له: وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي -يعني في عظمته ومحبته له وإعجابه به- فلو حلفت بين الركن والمقام وكنت صادقاً لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله رحمه الله تعالى ورضي عنه، مما يدل على تمكنه ومعرفته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 تصانيف شيخ الإسلام ابن تيمية تصانيفه رحمه الله كثيرة جداً، ولن أتعرض لتصانيفه لوجود كثير منها، وقد ذكروا أنها بغلت (300) مجلد، وبعضهم أوصلها إلى (500) مجلد، وذكروا أن كتبه لو قسمت على حياته فكأنه يكتب كل يوم مائة صفحة، وكان له خطاً عجيباً ربما لا يقرؤه إلا ابن القيم رحمه الله من سرعة كتابته وتأليفه، وذكروا أنه لما سجن في القلعة كان يكتب كتباً هناك، وكان الطلاب يصلون إليه، وذكروا أنه كتب في آخر حياته لما سجن ستين مجلداً، وبعدها كان الناس يفدون إليه إلى السجن ويتعلمون، فعلم الوالي هناك بهذا فأمر بسحب كتبه، وسحبت كذلك أقلامه، وما كان يكتب، قالوا: فكان يكتب بالفحم -لعله كان في السجن يوقد له- على الأوراق وغيرها رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 صفة شيخ الإسلام الخلقية ذكروا في صفته الخلقية أنه: كان أبيض أعين أسود الرأس واللحية قليل الشيب شعره إلى شحمة أذنيه وكأن عينيه لسان ناطق، يعني في نظرته تشعر بالرجولة والقوة والشجاعة، بعيد ما بين المنكبين جهوري الصوت فصيحاً سريع القراءة تعتريه حدة، أي: شدة، ولكنه يقهرها بالحلم رحمه الله وغفر له. قال الإمام الذهبي رحمه الله في صفاته الخلقية: كان محافظاً على الصلاة والصيام، معظماً لشعائر الله ظاهراً وباطناً، لا يؤتى على سوء، أي: لا يذكر فيه شيء مما يقدح به، سبحان الله! ادعى عليه أناس واتهموه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الاتهامات والامتحانات التي واجهها شيخ الإسلام نقول قاعدة: كل صاحب نعمة محسود، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قد حسده من كان في عصره من أقرانه من العلماء وطلاب العلم، وكان من أكبرهم ابن مخلوف المالكي القاضي، اتهمه رحمه الله بأنه خالف ما كان عليه سلف الأمة، وذكر اتهامات له في العقيدة وهي باطلة: منها: أن شيخ الإسلام يقول: إن الله فوق العرش حقيقة، وإن الله يتكلم بحرف وصوت، ولعل هذا الكلام يومئ إلى أن هذا الإمام المالكي كان على مذهب الأشاعرة نتيجة هذا التهمة لما وشى به عند الحاكم، وكان ذلك في عشرين رمضان سنة (705هـ) نتيجة حبس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في برج من الأبراج هناك أياماً، ثم نقل منه ليلة العيد إلى حبس معروف بالجب عندهم، رافقه أخوه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن. وممن اتهمه كذلك الصوفية، وكان شيخ الإسلام من أشد الناس إنكاراً على الصوفية، وتكلم عليهم كلاماً قاسياً قوياً، وسبحان الله! عجباً من هؤلاء الصوفية ما أقل عقولهم، وما أقل فقههم، ابن عربي وابن الفارض وغيرهم من الذين يتكلمون بكلام إلحادي وكفري، ومع ذلك يبجلونهم هؤلاء القوم، يقول أحدهم وهو ينفض جبته: ما في الجبة إلا الله، ويذكرون أشعاراً شركية وإلحادية ومع ذلك يعتبرونهم من كبار الأئمة، ابن الفارض قُتل بفتوى علماء زمانه لإلحاده، ومع ذلك يعتبر شهيد الصوفية، وأن الناس وشوا به ولا يعرفون كلامه. لما تكلم شيخ الإسلام رحمه الله في الصوفية وعقد له مجلس قضاء الشافعية، وادعي عليه بأشياء رحمه الله، ومع ذلك لم يثبت منها شيء، ودحض حجتهم وباطلهم. ومما حدث له كذلك: الإفتاء في مسألة الطلاق، وكان رحمه الله تعالى يفتي بأن الطلاق الثلاث يعتبر طلاقاً واحداً وقد رجع، وهذه المسألة خلافية ولن أتعرض لها بشيء، ويفتي بها سماحة شيخنا العلامة حفظه الله وأمد في عمره، نتيجة لما أخبر الناس بهذا الخبر امتحن رحمه الله من قبل علماء زمانه وقضاتهم، وكان نتيجتها أنه رحمه الله تعالى مُنع من الإفتاء بذلك، ولكنه سئل مرة أخرى فافتى بها وكانت النتيجة أن حبس في القلعة خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً، وأخرج يوم الإثنين في عاشوراء سنة (721هـ) . ومنها كذلك: افترى عليه بعض المفترين ومنهم الطوفي، وكان على مذهب الحنابلة ولكنه أشعري، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قد رد على الأشاعرة وأبطل ما كانوا عليه من المذهب في أغلب كتبه رحمه الله تعالى، وتكلم على الإمام الغزالي وبأنه من أئمة الأشاعرة ومن منظريهم، وله كتب في ذلك في الرد عليهم. وتكلموا عليه كذلك في مسألة النزول، وكذلك في غيرها من المسائل، وكانت النتيجة أن عقد له مجلس ونوقش فيه ورد عليهم. من الاتهامات العجيبة التي اتهمه بها ابن بطوطة، قد نقول: يستحق أن نقول له: قبحه الله إن ثبتت عنه هذه الكلمة، ذكر ابن بطوطة صاحب الرحلة المشهورة أنه دخل دمشق، وذكر أنه رأى شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: إنه من كبار فقهاء الحنابلة، ورآه يتكلم في فنون عديدة، وتكلم قال: وحضرت له يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، قال: فكان من جملة كلامه -أي: شيخ الإسلام- أن قال: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل شيخ الإسلام درجتين، وهذا كلام باطل وليس بصحيح، وأصبح الناس يتناقلون هذا الكلام، ورد عليه جمع من تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم، ومنهم: ابن عبد الهادي رحمه الله وهو من كبار تلامذته، ومنهم: أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب في طبقات الحنابلة وغيرهم، وذكروا أن الوقت الذي زار فيه ابن بطوطة دمشق كان شيخ الإسلام ابن تيمية في القلعة مسجوناً، فكيف يخرج هنا وهناك، ذاك أمر لا يقر به إلا غلاة الصوفية. ولكننا نقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يقول مثل هذا الكلام وهو أعظم من نافح عن عقيدة السلف الصالح، وأعظم من قرر منهج أهل السنة والجماعة رحمه الله تعالى، وحاشاه أن يتكلم، ولكن ليس إلا الحسد والكذب، وليس غريباً أن يوجد هذا من الأقران وغيرهم، أو من المبتدعة في مقالاتهم. ولعلي أذكركم بقصة من اللطائف للصوفية كانت لهم، ذكرها الشعراني في طبقاته، وكان من العجائب التي ذكر: أن أحد أئمة الصوفية، وكان يعتبر ولياً من أولياء الله، ويعظمونه ويجلونه، دخل المسجد يوم الجمعة فصعد المنبر، ثم قام خطيباً في الناس، وقال: أشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة والسلام، فقال الناس وهم حضور: كفر الشيخ، كيف يقول هذا الكلام، فنزل عليهم بسيفه وخرج أغلب من في المسجد مخافة منه، قالوا: فجلس على المنبر والناس لم يستطيعوا الدخول لما رأوا من كلامه، ومكث إلى قريب العصر، يقول: فجاء رجل من قريةٍ من القرى إلى هذه البلدة التي فيها الشيخ القبيح، فقالوا: أما علمت ما قال الإمام والشيخ والولي؟ قال: ماذا قال؟ فذكروا له، فقال: قبحكم الله، والله لقد كان بنا خطيباً صلى بنا الجمعة وخطب بنا أربع خطب، وهو في قرية وقال كذلك، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية لن يقول مثل هذا الكلام، وهو أعظم من نافح عن عقيدة السلف الصالح، وأعظم من قرر منهج أهل السنة والجماعة وحاشاه أن يتكلم بهذا، ولكن هذا سببه الحسد والكذب، وليس غريباً أن يوجد هذا من الأقران وغيرهم، وخاصة إذا كانوا من المبتدعة. وقد ذكروا أنه رحمه الله سجن سجوناً عديدة، منها: أنه سجن في قلعةٍ في الشام في رجب سنة (720هـ) إلى عاشوراء سنة (721هـ) ، وسجن في القلعة في القاهرة، كذلك سجن في الجب، أُدخل رحمه الله سنة (698هـ) وذكر بعضهم أنه أخرج بعدها بسنوات. ذكر الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى كلاماً عظيماً جداً في سجن شيخ الإسلام ابن تيمية، وأنه توفي رحمه الله تعالى في السجن، ويقال: لما توفي كانت وفاته يوماً مشهوداً، ضاقت بجنازته الطرق، وسارع الناس من كل فج عميق يتقربون إلى الله بحضور جنازته رحمه الله تعالى، وكلهم يسارع إلى حمل جنازته. ذكروا من صفاتها: أنه أغلقت الحوانيت والمحلات، حضرها عدد من الرجال والنساء قدَّر بعضهم بأنها أكثر من مائتي ألف شخص. وذكروا -وإن كان هذا غلواً ولا نرتضي بالغلو- أن طاقيته رحمه الله بيعت بخمسمائة درهم، ولكنا نقول: إن هذا من التبرك غير المشروع، وقاعدتنا أنه لا يجوز التبرك بأحدٍ كائناً من كان إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم بذاته، أما ما عداه فسوف يأتي إن شاء الله بيان شيء من التبرك. ذُكر في جنازته الضجيج والبكاء والتضرع إلى الله، والناس أخذوا يزورون قبره رحمه الله، ورثاه جمع من الناس، صلي عليه مراراً، صلى عليه الشيخ محمد بن تمام مع الناس في القلعة، ثم صُلي عليه بجامع دمشق عقب صلاة الظهر، ثم صلى عليه أخوه زين الدين في سوق الخيل مرة ثالثة، ثم دفن بعد ذلك، توفي في الصباح ولم يدفن إلا قريب العصر رحمه الله تعالى. ذكر بعضهم أنه صلي عليه صلاة الغائب في كثير من البلدان المجاورة، حتى ذكروا -وإن كان هذا فيه مبالغة- أنه صلي عليه في الصين، وفي اليمن وفي غيرها من البقاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أعداء وخصوم شيخ الإسلام ابن تيمية من أشد الناس عداوة لشيخ الإسلام ابن تيمية -أنا أذكر لكم بعض الأمثلة سريعاً، وإلا فأعداؤه كثر وأغلبهم من المبتدعة، وليس غريباً أن المبتدعة يقفون في وجوه أئمة أهل السنة. ممن ذكر اليافعي في مرآة الجنان في كلامه على شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: إن له مسائل غريبة أُنكر عليه فيها، وحبس بسببها مباينة لمذهب أهل السنة. سبحان الله! كل طائفة مبتدعة ترى أنها على السنة، ولكن هذا كلام باطل، وإنما كما قال الشاعر: وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك أي: ليست ليلى تعرف صاحبها، وكل الناس يتمنى أن ليلى له. ذكر اليافعي أن من أقبح ما نقد على شيخ الإسلام ابن تيمية نهيه عن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وطعنه في مشايخ الصوفية العارفين، وذكر منهم: حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، والإمام أبو القاسم القشيري، وابن عربي، والشاذلي، وخلائق من أولياء الله الكبار، والصفوة الأخيار. سبحان الله! ذكر الغزالي في المنقذ من الضلال بعد أن بحث في المذاهب وتخبط فيها، ذكر في آخر الأمر أن أصح المذاهب وأرجحها والذي تبين له الحق فيها هو مذهب الصوفية، ولكن هذا الكلام باطل، وهو مسكين لم ير النور، وإنما رأى ظلمة فظن أنها خير، ولا شك أن هذا الكلام ليس بصحيح. وممن ذكر كلاماً ينقد فيه شيخ الإسلام ابن تيمية عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني، قال: ومن أشنع وأبشع ما نقل عنه رحمه الله في حديث النزول: (ينزل ربنا ثلث الليل الآخر) كما ذكره ابن بطوطة، وقد بينا كلام ابن بطوطة أنه كلام ليس بصحيح، ونقل من مسألة شد الرحال، وغيرها من الأمور. ومن أعداء شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا العصر أو في العصر القريب، وله تلامذة ولا زالوا: محمد بن زاهد الكوثري، نذر حياته كلها للقدح في عقيدة أهل السنة والجماعة، وكان أسلوبه ساخراً وقحاً قبيحاً في تكلمه على شيخ الإسلام ابن تيمية وعلى تلامذته، اتهم ابن تيمية رحمه الله تعالى بأنه يلعب في دين الله تعالى، وأنه يفتي بفتاوي منحرفة عن الدين، ونقل عن شيخ الإسلام عقائد فاسدة ذكرها ابن حجر الهيتمي المكي وهذا من أعداء شيخ الإسلام، وذكر نقلاً عن اليافعي قال: وهو بشر له ذنوب وأخطاء. وذكر كذلك تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى، وعرج على شيخ الإسلام في هذا العصر الحديث القريب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بأن أمهات العقائد التي عند ابن تيمية وابن القيم وتلامذته تنحصر بأمهات عقائد موجودة عند محمد بن عبد الوهاب، وذكر بأنها تشبيه الله بخلقه، وتوحيد الألوهية والربوبية، وعدم توقير النبي صلى الله عليه وسلم، وتكفير المسلمين، وهي شنشنة نسمعها من قديم، ولكن الحق أبلج والباطل لجلج. وذكر أن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى قلد فيها ابن تيمية، وهو مخترع توحيد الألوهية والربوبية الذي تفرع عنه عدم توقير الرسول عليه الصلاة والسلام، وتكفير المسلمين، ولكن كبرت كلمة تخرج من أفواههم. ذكر عن ابن تيمية كلاماً ومن ألفاظه التي يقول في ابن تيمية: كافر، مفتون، شاذ، ضال وغير ذلك، بل ذكر عن ابن القيم: المتعصب الشاذ المعتوه والوقح المزور إلخ، قاتله الله أنى يؤفك، وذكر عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأخف ما قال عنه: إن وصفه بالجهل والكفر إلخ. ذُكر في رسالة لطيفة جداً لشيخنا الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله وأمد في عمره اسمها: براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة، ذكر فيها كلاماً لطيفاً، وذكر في كلامه لـ ابن القيم الكوثري وأتباعه، من كلامهم: أن ابن القيم غبي وجاهل ومهاتر وتيس حمار ومعتوه إلى غيره قبح الله الظالمين، وذكر من كلامه في ابن تيمية قال: وقد سئمت من تتبع مخازي هذا الرجل المسكين الذي ضاعت مواهبه في شتى البدع، وتكلمنا على الشيخ السقيم ما يشفي! ولا شك أن كلامه هذا كلام باطل، ورحم الله شيخنا الشيخ أحمد ابن تيمية ورضي عنه، وجعلنا ممن يستفيد من علمه وعلومه. وختاماً: أسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم بما نعلم، وأن يجعل ما نعلم حجة لنا لا علينا. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثاني) إن الذي يريد أن يطلب علماً في مسائل الاعتقاد لابد أن يعرف قواعد وأسساً في ذلك، حتى يسير على منهج واضح لا لبس فيه ولا غموض، ولمنهج أهل السنة والجماعة مزايا وخصائص من وسطية واعتدال ووحدة مصدر التلقي والتوقف في الأمور الغيبية، وغيرها من المزايا المبثوثة في هذا الدرس، كما تناول أيضاً أسباب انحراف أهل البدع عن المنبع الصافي والمنهج الرباني وذكر سماتهم وعلاماتهم التي بها يعرفون وعلى منوالها يسيرون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 فضيلة الالتزام والتمسك بالسنة الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قبل أن أبدأ بالدرس لعلي أقول للأحبة توجيهاً لهم ولنفسي. أولاً: إن ثمرة العلم التقيّد بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولعلي لاحظت ملحوظة لطيفة، ولا بد من بيان التناصح والتوجيه فيما بيننا، أن بعض الأحبة يسارع إلى مكانه قبل أن يؤدي سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأقول لكم قاعدة: كلما عظم في نفس الإنسان الحرص على تأدية سنة محمد صلى الله عليه وسلم، كل ما يسر الله للعبد أموره، ويسر له كلما يحتاج إليه، ورفع منزلته وأعلى كلمته؛ لأن مبعث الحرص والتقيّد هو التأسي بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأقول: هذه الظاهرة ليست موجودة هنا بل في كثير من حلقات العلم، ومن أعظمها حلقة شيخنا العلامة، تجد بعض الأحبة ينسى أوراد الصباح في درس الفجر، وفي المغرب ينسى السنة الراتبة، وينسى ورد المساء وغيره حرصاً منه على المكان، ويبقى الأحبة يزدحمون فلا يجد أحدهم موقعاً يصلي السنة فيه. وبناءً عليه نحن بحاجة إلى الحرص على التأسي بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولعل على ضوء ما شاهدته لم أجد شخصية فيها من الحرص على سنة محمد صلى الله عليه وسلم كشخصية شيخنا العلامة، وما أظنه نسي ورداً أبداً فيما علمت، ولا أداء سنة، وسبحان الله! أمر هذا الرجل عجيب! وما علم بسنة ثبتت عن محمد صلى الله عليه وسلم إلا حفظها وعمل بها مباشرة، ولهذا أبقى الله ذكره، وأعظم الله منزلته، وأصبح يشار إليه بالبنان؛ لما لسنة محمد صلى الله عليه وسلم في قلبه من التعظيم والإجلال. ونحن ينبغي أن نتربى على مثل هذا المنهج، وهو منهج سلفنا رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم. وقلت: لا بد أن نعلم أن ثمرة العلم هو الأدب والسلوك، والامتثال والانقياد، وقديماً قال سلفنا رحمهم الله تعالى: (إن نصف العلم الأدب) ليس العبرة بكثرة ما يحفظ الإنسان، أو يقرأ، وإنما الثمرة هو أن يحرص على أن يطبق ما علمه؛ حتى يكون لذلك أثراً عظيماً في حياة الإنسان وسلوكه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 قواعد مهمة في أبواب الاعتقاد أنطلق إلى ما أود أن أنبه عليه، وسأذكر عدداً من القواعد وإن كنت لم أرتبها ترتيباً علمياً دقيقاً يُحتاج إليه، ولكني أذكرها لكم خواطر، وأرى أن طالب العلم الذي يريد أن يطلب علماً في مسائل الاعتقاد لا بد أن يعلمها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 القاعدة الأولى: الأصل في جميع الناس هو التوحيد الأصل في الناس هو التوحيد وليس الشرك، والدليل على ذلك: أن آدم عليه الصلاة والسلام كان على توحيد الله تعالى، وبقي آدم عليه الصلاة والسلام وذريته على التوحيد عشرة قرون، وقد دل على ذلك حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قدسي: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) . فأصبح الأصل في الناس هو توحيد الله ليس الانحراف، وقبول هذا الدين، والعمل به، وبقي آدم عليه الصلاة والسلام يبلغ دين الله لأولاده، وأولاده ساروا على ذلك حتى مضى عشرة قرون وهم على ذلك، ودليله: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: أو يمسلمانه؛ لأن الأصل فيه هو الإسلام، والأصل فيه هو قبول هذا الدين والعمل به. سبحان الله! لم تقتضِ حكمة الله أن يستمر الناس على التوحيد إلى أن يلقوا ربهم، وتبدأ قضية الانحراف في مسائل الاعتقاد، وأول انحراف وقع هو في قوم نوح عليه الصلاة والسلام، إذ أنه وُجد عندهم عباد صالحون كما ذكرت كتب السيرة، وورد كذلك لها أصل في الصحيح، كان منهم: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، وكانوا أهل صلاح وإيمان وتقوىً وزهد وبعد عن الدنيا، وكان الناس يحبونهم حباً جماً، ويفرحون إذا رأوهم أو لقوهم، فإذا شاهدهم أحد من عصرهم يجتهد في طاعة الله تعالى، ويحرص على الانقياد، وقد روي في الأثر: (إن من خير الناس من إذا رأيته ذكرك الله) إذا رأيته تعترف بتقصيرك وتفريطك في حق ربك، وإذ تراه تشعر أنه أنموذجاً فريداً في العبادة والصلاح والتقوى. ويقدر الله أن يموت هؤلاء في خلال شهر، وحزن الناس على فقدهم حزناً عظيماً، وكانت النتيجة أن جاء الشيطان فقال لهم: ألا أصنع لكم مثل صورهم؛ حتى إذا أردتم أن تنشطوا في العبادة ترونهم فتذكروا الله تعالى وتزدادوا طاعة وقربى؟ وأقول: إن هذه شبهة قد ترد في الذهن، وهذه ذكرى طيبة أن يتذكر الإنسان طاعة الله ويجتهد، ولو جاء الإنسان بمجرد العقل لقال: إن هذا العمل طيب، إذ يذكرنا الصلاح والخير والإيمان، ويمضي القرن الأول وهم على ذلك، ثم يأتي جيل بعده، فأتاهم الشيطان فقال: إن أهلكم لم يضعوا هذه الصور وهذه التماثيل إلا لأنهم يرجون بركتها ويرجون نفعها، فأخذ هؤلاء وبدأت بوادر الشرك بتوسل وبتبرك. ويمضي هذا القرن، ثم يأتي جيل بعده فقال: إن أهلكم لم يضعوها إلا لأنهم يدعونها، ويستشفونها، ويطلبون العلاج منها وغيره ذلك، فعبدت من دون الله تعالى. ثم كانت النتيجة أن بعث الله نوحاً عليه الصلاة والسلام إلى هؤلاء القوم، ومكث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً يدعوهم إلى الله تعالى. سبحان الله! نوح عليه الصلاة والسلام تعتبر حياته أعظم مدرسة للدعاة إلى الله تعالى، وللذين يريدون أن ينشروا توحيد الله، فإن نوحاً مكث تسعمائة وخمسين عاماً كان حصيلته: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] ويقال له بعد هذا الجهد الطويل: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ} [هود:36] . ويقدر الله بعد هذا الجهد الذي يتعب من أجله نوح في الليل والنهار وفي السر والجهر، وفي مجتمعاتهم وفي أفرادهم، حتى أصبح القوم كلما رأوه استغشوا ثيابهم وغطوا وجوههم، لا يريدون أن ينظروا إليه، ووضعوا أصابعهم في آدانهم لا يريدون أن يسمعوا دعوته، وهم يعلمون ما عنده، ولا يريدون أن يقبلوا منه إطلاقاً، ومع ذلك يستمر ويستمر، كأنها تربية للأنبياء من بعده، ولنا نحن وللدعاة إلى قيام الساعة أننا لا نيأس من هداية أحدٍ كائناً من كان. إن كثيراً من الأحبة قد ينصح أخاه أو قربيه في معصية، وترى النتيجة بعد ذلك يقطع الأمل بمجرد أن يقول له: لا تنصحني، فإني أعرف ولا أقبل منك شيئاً، وهذا نعتبره خلاف ما كان عليه أنبياء الله ورسله. وإنا لنرى عجباً وخوارق عجيبة في قصة نوح، كموضع هذه الديار ليس فيها بحار ولا غيرها، ولو رأينا شخصاً من الناس يصنع سفينة في الأرض المجاورة عندنا لقلنا: سبحان الله! لعل في عقله شيئاً، وما تغني السفينة في صحراء قاحلة، وفي أرض ليس فيها أنهار ولا بحار، وأصبح قومه كلما مروا ونظروا إليه سخروا منه، ولكنه إيمان النبي الموقن بوعد الله: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [هود:38-39] . وينتظر نوح عليه الصلاة والسلام متى ترسو هذه السفينة وتطفو وترتفع، ووعد الله صادق وسيكون لا محالة، ثم دعا نوح بعد ذلك على قومه: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] وفجر الله الأرض عيوناً، وانهمرت السماء بالأمطار، وأغرقت الأرض كلها، وطفت سفينة الإيمان والتوحيد، ويُحمل فيها نوح عليه الصلاة والسلام ومن آمن معه ومن كان من أهل التوحيد الذين ساروا على منهاج هذا النبي الكريم، ويُحمل فيها أهل الإيمان، ويُحمل فيها ما أمر الله من كلِّ زوجين اثنين. وسبحان الله! تدرك هذا النبي شفقة الأبوة، وينادي ابنه ولم يكن مؤمناً: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42] وإننا بمنظارنا الواقعي الحسي المادي أن كل إنسان إذا وجد شيئاً يبحث عن أعلى موقع، فما كان من الابن إلا أن قال: {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43] ولكن نوحاً عليه الصلاة والسلام عالم بأن الله مريد إهلاك هؤلاء ولن ينجو إلا من كان معه، قال له كلمة الموقن: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] . ولا زال نوح يتعلق بابنه وفلذة كبده، ويدعو ربه: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] ويرد الله عليه مبيناً المنهج إلى قيام الساعة أنه لا رابطة بين أحدٍ كائناً من كان إلا رابطة الإيمان والتوحيد: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي} [هود:46] وتقطع العلائق والوشائج كلها، وتبقى رابطة الإيمان وحدها، ورابطة التوحيد التي ينبغي أن نؤصلها في نفوسنا؛ لنسير على ضوء ما كان عليه أنبياء الله ورسله، وما كان عليه سلف الأمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 القاعدة الثانية: براءة الصحابة من البدع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لم يكن أحد منهم مؤسساً لبدعة ولا لفرقة ضالة أبداً، ولعلي إذ أرسي هذه القاعدة؛ لأبين أن بعضاً من الناس أو بعضاً من الكتَّاب، أو الوعاظ، أو المذكرين، تجده يتكلم عن ظواهر منحرفة، فيقول: ظاهرة الغلو كانت في حياة محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال أحدهم: لا أتزوج، وآخر: ظاهرة الإرجاء كانت في حياة الصحابة موجودة إذ قال قدامة بن مظعون قولته، ونقول: رويدك!! فإنك لم تعرف الأدب مع هؤلاء القوم. لم يكن أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مسانداً لمبتدع، ولا مؤسساً لبدعة أبداً، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حدث منهم شيء من التقصير أو الخطأ رضي الله عنهم وأرضاهم يوجهون مباشرة فينقادون للمنهج مسارعين، وليس كالمبتدعة يُبَين للمعتزلة ويصرون على باطلهم، ويبين للمرجئة ويصرون، ويبين لغيرهم من طوائف الانحراف ولا يقبلون دين الله مع وضوحه كالشمس، أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه متى وضح له فإنه سرعان ما يلتزم بما جاءه عن الله وعن رسوله. قدامة بن مظعون رضي الله عنه أحد الصحابة الأخيار، جلس مع الصحابة يتذاكرون القرآن، فتلوا قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة:93] ويكملون الآية فقالوا: الحمد لله نحن ممن آمن، ونحن على صلاح وتقوى، وليس علينا جناح فيما طعمنا، فجاءوا بالخمر فشربوه رضي الله عنهم وأرضاهم، فعلم عمر بالخبر، وأُخبر بهذا الأمر، وأنه فهم عجيب وغريب، ثم جاء عمر بـ قدامة ومن كان معه، فقال له: اجتمع رأي الصحابة جميعاً فيهم وسألوا قدامة بن مظعون لِمَ؟ وتأول لهم الآية، فقال له عمر بن الخطاب: أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو كنت اتقيت لما شربت الخمر. ثم قال لمن حوله من القضاة: سلوهم فإن شربوها مستحلين كفروا، وإن شربوها متأولين جلدوا، وعلم قدامة بن مظعون رضي الله عنه وأرضاه بعد ذلك أنه قد أخطأ وعصى الله ورسوله، فماذا كانت النتيجة بعدها؟ قالوا: مكث دهراً وهو يبكي على نفسه حتى وصل به الحد إلى أن يئس من رحمة الله، متعجباً كيف به وهو صاحب رسول الله لا يفهم هذا الفهم، كيف يقع في مثل هذه الكبيرة العظيمة؟ أين أثر الإيمان وغيره، فجاء به عمر رضي الله عنه مرة أخرى، ثم قال له: لا أدري أي ذنبيك أعظم استحلالك الخمر؟ أم يأسك من رحمة الله؟ وتلا عليه أول سورة غافر: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3] وبعدها سار على ما كان عليه سلف الأمة، وهو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبناءً عليه لا يمكن أن نجعل لطائفة بدعية منحرفة أن تقول: هذا هو قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن الصحابة هم الذين أسسوا هذه الطائفة الضالة، أبداً وكلا، بل لهم المنازل العليا رضي الله عنهم وأرضاهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 القاعدة الثالثة: الخلاف بين الصحابة في الفروع لا في العقائد يجب أن نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقع بينهم خلاف في مسائل كثيرة، في مسائل التشريع والفروع، أما مسائل العقائد ومسائل الأسماء والصفات فلم يقع بينهم شيء من الاختلاف رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد أسسنا هذه القاعدة لكي ننطلق إلى مفهومٍ نعلم أن كل قول في مسائل العقيدة لم يكن عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نعلم بأنه مبتدع ومنحرف عن منهج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا ليس منهج سلف الأمة رحمهم الله تعالى. كم حدث بين الصحابة من خلافٍ في مسائل الطهارة، وفي مسائل الصلاة والصيام والزكاة وفي غيرها، لكن أين الاختلاف في أصول الدين، وفي مسائل الاعتقاد وباب الأسماء والصفات؟ لم يكن ذلك موجوداً، ليعطينا أنهم كانوا على ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتجاوزوا ذلك أبداً. ويرسيها الصحابة فيما بينهم بوصايا: [من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تُؤمَنُ عليه الفتنة] ثم يذكر لنا ابن مسعود وغيره رضي الله عنه وأرضاه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم معطياً منازلهم: [أولئك أصحاب محمد، -ويصفهم بالصفات العلى- أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً وفهماً وتصوراً، ثم يقول: اعرفوا لهم قدراً] . وهذا هو الواجب علينا أن نسير على ضوء ما سار عليه هؤلاء الصحابة، وأن نعلم يقيناً أنه ما حدث بينهم شيء من الاختلاف في مسائل الاعتقاد رحمهم الله تعالى ورضي عنهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 المقصود بسلف الأمة أمر آخر وأسميه نوع تقعيد، وهو حول مفهوم نحن بحاجة إلى فهمه وتصوره، وهو قضية سلف الأمة ومن يكون سلف الأمة هؤلاء؟! إن كثيراً من الناس يدعي أنه من سلف الأمة وعلى منهج السلف، ولكن انطلق لمعرفة هؤلاء من هم، وعند ذلك نفتخر ونتشرف بأن كنا على منهاج سلف الأمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم. وأصح ما ورد أننا كثير ما نسمع أن سلف الأمة هم الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان، ومنهم من يقول: القرون المفضلة، ونجد أن من في التابعين من عليه ملحوظات في المعتقد، وفي القرون المفضلة وجدت بعض طوائف الانحراف، ولكن التعريف الصحيح لذلك: أن سلف الأمة أولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة من بعده، ثم نقول: ومن سار على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم افتراق الأمم، وذكر أن أمته ستفترق إلى ثلاثة وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، أرسى النبي صلى الله عليه وسلم القاعدة إذ قال: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) ربطنا بنفسه صلى الله عليه وسلم وبصحابته رضي الله عنهم وأرضاهم، وبناءً عليه: كل من كان على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وما عليه الصحابة فهو يعتبر على منهج سلف الأمة، وسار على الصراط المستقيم، ويسمى الإنسان (هذا سلفي) ويقصد به: من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثر الصحابة الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 خصائص ومزايا منهج أهل السنة والجماعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 الأمر الأول: الوسطية والاعتدال مما يتميز به منهج أهل السنة: أنه مذهب وسط بين الإفراط والتفريط، وانطلق إليه في كل جزئية من جزئياته، سواء في الفروع، أو الأصول، أو في مسائل الاعتقاد، أو كذلك في مسائل التأصيل تجد أنهم وسط، فهم وسط في صفات الله وسط في أصحاب رسول الله وسط كذلك في باب الإيمان وسط في باب القضاء والقدر وسط فيما هم فيه من التحسين والتقبيح إلى غيرها من مسائله الكثيرة في مسائل التأصيل وما كان عليه أولئك السلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 الأمر الثاني: توحيد مصدر التلقي والاستدلال مما يتميز به منهج أهل السنة: أنه منهج مستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يتميز به ما كان عليه سلف الأمة، وتجدهم يقتفون الآثار العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس خلفٌ فيه دل على أنهم يتأسون ويقتدون في كل صغير وكبير، وسبحان الله! نجد ذلك متميزاً في منهج الأئمة الأربعة يحرصون ما استطاعوا على ذلك بأن يأخذوا بكتابٍ وسنة، وبسير على ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتمد على الكتاب والسنة؛ لأن منهجهم جله متلقى من الله ورسوله، ولا يمكن للعقل أن يأتي بشيء جديد لم يكن دل عليه الكتاب والسنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 الأمر الثالث: موافقة النقل الصحيح للعقل الصريح مما يتميز به منهج أهل السنة: أنه موافق للعقل الصريح، فإن العقل متى خلا من الشبهات والشكوك سبحان الله! يقبل هذا الدين قبولاً كاملاً. ولذلك سيأتينا أن مما تتميز به عقيدة الإسلام أنها عقيدة فطرية، ولعلي ألطف بمثال بسيط في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقصة واقعية: قدم غماد إلى مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُتهم بأنه مجنون قريش، ويوصم بالنقص وبالسحر وبالكهانة وبغيرها، ولما قدم من نجد إلى مكة وقد كان سيداً مطاعاً فخشيت قريش أن يسلم هذا الرجل، فقالوا: الحقوا به، وقولوا له: إن لدينا مجنوناً، فرق بين النساء والأزواج، وكذلك بين الابن وأبيه وغيرهم، ولا حاجة للجلوس معه، فقد مس في عقله، يقول غماد: وكنت أعالج من الريح أي: من الجنون في الجاهلية. ولما دخلت إلى مكة أديت العمرة، ثم مكثت بها أياماً ما كان في ذهني أبداً أن أذهب إلى هذا الرجل، ولو قيل لنا: هناك ثمة مجنون لم يكن لأحد منا أن يذهب ليسلم عليه، وليسأل عن أحواله وأخباره، فما تفيدنا شيئاً فعقله لا يستفاد منه، يقول: ولكني بعد مدة قلت في نفسي: إني أعالج المجانين، فما يضرني أن أذهب إلى مجنون قريش ثم أعالجه إن شُفي على يدي كانت لي منقبة عند قريش، وإن لم يشف فليس بأول مجنون يمر علي أصلاً. ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم جلس إليه، قال: اسمعني من كلامك، ونحن نعلم أن من كان مجنوناً يعرف بحركته أو بكلامه، فذكرت كتب السير أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: بل أنت أسمعني من كلامك، وتنزلاً مع محمد صلى الله عليه وسلم أخذ يسمع النبي قصائد وأشعاراً للعرب، ولما انتهى قال: أسمعني أنت، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بخطبة الحاجة، ثم بعد ذلك أخذ يتلو عليه القرآن، ويتلو عليه آيات نزلت على قلبه كالصواعق، ويريد الله أن يحيي قلبه بها، وينتهي النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن وما كان منه إلا أن قال: أمدد يدك أبايعك، لم يحتاج إلى معجزات، ولا إلى خوارق للعادات، ونطق: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. سمعت قريش بالخبر وقالت له: صبأت، انحرفت، قال: أنتم الصابئون، بين أظهركم رسول الله ولا تقبلون منه، بل أنتم الذين على الانحراف، دلنا على أن هذا المنهج يوافق العقل ويوافق الفطرة، وهو منهج سلف الأمة لم يخرج عن الكتاب والسنة، ولم يخرج عن الفطر السليمة، والعقول الصريحة. ولذلك يعتبر العقل الصريح شاهد لمنهج سلف الأمة ولا يعارضه أبداً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 الأمر الرابع: البراءة من وجوه الانحراف والبدع مما يتميز به منهج أهل السنة: أنه برئ من وجوه الانحراف التي وقعت فيها سائر الطوائف، فطوائف ضلت في تشبيه أو تعطيل، وطوائف ضلت في سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في تأليههم له، وطوائف ضلت فذهبت إلى مذهب الإرجاء، وأخرى إلى مذهب الجبرية وهكذا. أما منهج سلف الأمة فهو خالٍ من هذه الانحرافات كلها ولله الحمد؛ لأن عمدتهم: كتاب وسنة، ومن عمدته الكتاب والسنة فلن يضل ولا يشقى أبداً؛ لأن الله قد بين أن من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله بأن له معيشة ضنكا، ويحشره الله يوم القيامة أعمى. مما يتميز به أنه خالٍ من أنواع الابتداع، أياً كانت في فروعه أو أصوله، وكم نجد للبدع من الأثر العظيم في انحراف كثير من الطوائف. سبحان الله! يقلب الإنسان طرفه في واقع أمته وفي مجتمعه الإسلامي يجد العجب من قضية الانحراف: طواف بالقبور، ودعا غير الله، وتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحلف بغير الله، وتعليق للتمائم وغيرها، كم هي أنواع البدع والانحرافات التي عشعشت على عقول الناس، وسلف الأمة -ولله الحمد- لا يوجد عندهم شيء من ذلك. ومن هنا نصل إلى نتيجة فنقول: يجب أن نؤسس في نفوسنا دائماً أننا نسير على منهج سلف الأمة، ومن لا يقبل ذلك المنهج فإنه منحرف عن صراط الله، ومنحرف عما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 الأمر الخامس: التوقيف في الأمور الغيبية من ميزات منهج أهل السنة: أن الأصل عندهم في الأمور الغيبية التوقيف، أي أمرٍ غيبي الواجب عليك أن تتوقف فيه، بمعنى: أنه ليس للعقل مجال أبداً في الأمور الغيبية. الأمر الثاني: أنها ليست محلاً لاجتهادات العلماء، ولا يمكن أن يجتمع جمع من العلماء فيجتهدون لنا في الأمور الغيبية أبداً. والسبب: لأن الأمر الغائب عن العقول لا يمكن أن نتوصل إليه بمعنى أي أمر غائب عن العقل أو غيبي لا يمكن أن نتعرف عليه إلا بطرق ثلاث: الطريق الأول: المشاهدة، فأنت إذا شاهدت الأمر الغائب عنك لم يكن غيبياً بعد، نحن هنا جلوس، ولو سئلنا: ماذا وراء الجدار؟ لا نستطيع أن نعرف، لكن لو خرج إنسان ثم جاء وأخبرنا أن وراءه عدد من السيارات، هل يصبح غيبياً؟ لا يصبح غيبياً؛ لأننا توصلنا إلى العلم بهذا الغائب، وهو من الطرق العظيمة، بل هو أعظم الطرق للوصول إلى الأمر الغائب، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولذهبتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش) ونتساءل: لِمَ؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد الجنة، وشاهد النار، وشاهد ما أعد الله لأوليائه، وما أعد الله لأعدائه كما ثبت في الصحيح فإنه في صلاة الكسوف كان يصلي بالناس، وفي أثناء الصلاة تقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمد يده الشريفة يريد أن يأخذ شيئاً، وتقدم الصحابة معه، ثم إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعدها يرجع ويرجع القهقرى صلوات الله وسلامه عليه، ورجع الصحابة بعده من مكانهم، فقال الصحابة: يا رسول الله! عملت شيئاً لم تكن تعمله من قبل؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (فتحت لي الجنة ورأيتها رأي العين، وأردت أن آخذ عنقوداً من عناقيدها، ولو أخذته لأكلتم منه إلى قيام الساعة) أمر عجيب! والسبب المشاهدة. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة) في حديث: (إن لله ملائكة سيرة يستعيذون من النار، ويسألونك الجنة، يقول الرب: كيف لو رأوها؟ قالوا: لكانوا أشد لها طلباً) وهي الجنة، والنار لو رأوها لكانوا أشد هرباً منها، مما يدلنا على أن الأمر المشاهد له أثر عظيم على النفس. الطريق الثاني: ونسميه الطريق الذي يوصلنا إلى العلم الغائب الشبيه والمثيل، فإذا وجد شبيه ومثيل لهذا الأمر الغائب وصلنا إلى العلم، وتعرفنا على هذا الأمر الغائب، فلو أخبرتكم مثالاً بسيطاً في شيء، مثلاً: أكلت اليوم تمراً لا يوجد مثله في الدنيا، فتجد أصحاب بلدي يذكرونه، فأهل القصيم يقولون: مثل السكري مثلاً، أو نبت سيف أو غيره؛ لأنه يقربه، فإذا قلت: مثله، قرب إلى الذهن أم لا؟ أو شبيهاً له؟ أوصل لي تصوراً معيناً لهذا الأمر الغائب الذي لم يعرفه الناس، وهذا يعتبر طريقاً صحيحاً، ولكنه ليس كالطريق الأول. الطريق الثالث: الخبر الصادق: والخبر الصادق لا شك أنه يوصل العلم للإنسان بالأمور الغائبة عن العقول البشرية التي لا تستطيع إدراكها أبداً. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية أو تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى تقعيداً لطيفاً هنا في هذا الموضع: إن الشريعة تأتي بما تحار به العقول، ولا تأتي بما تستحيله العقول، ولعل مثالاً بسيطاً للأمور التي هي غيبية عنا لا يمكن للعقل إدراكها أبداً، من الأمثلة: قضية الجنة والنار، وقضية الملائكة وصفاتهم عليهم الصلاة والسلام ورؤيتها رأي العين، مثلما يتعلق كذلك بذات الله سبحانه وتعالى، وكيفية صفاته، لا يمكن للعقل أن يدركه، هل يمكن لنا عن طريق المشاهدة؟ لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا كما في صحيح مسلم: (واعلموا أن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت) لا يمكن أبداً. هل لله شبيه ومثيل؟ الله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] فأصبح الطريق الأول والطريق الثاني لا يمكن الوصول إليه. بقي عندنا الطريق الثالث وهو الخبر الصادق: ونقول الخبر الصادق عندنا هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا فيما يتعلق بمسائل الاعتقاد، وبالنسبة عندما قلنا للكتاب: إنه خبر صادق؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] . ولا يوجد إطلاقاً من يخبر عن الله مثل نفسه سبحانه وتعالى، والله أخبرنا عن أسمائه وصفاته، وعن جنته وناره، وعن ملائكته أخباراً يجب علينا أن نؤمن بها، ولا نجد في أنفسنا شيئاً من التردد في إثباتها؛ لأن الله هو الصادق سبحانه وتعالى، وقد وصف نفسه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] . وبالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فلا شك بأنه صادق؛ لأن الله قد قال عنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] . ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: (والذي نفسي بيده اكتب فإن كل ما أقوله حق) دل على أنه لا يقول صلوات الله وسلامه عليه إلا كان الصدق والحق الذي يجب أن تطمئن نفوسنا إليه، ولا نجد في أنفسنا شيئاً من التردد تجاه ذلك. سبحان الله! كنت أقرأ في أحد كتب العقلانين، وإذا به ينكر أحاديث ثابتة كالشمس؛ لأنه أمرَّ العقل عليها وما علم هذا الجاهل المسكين أنه ما عرف قيمة الكتاب والسنة، ولا قدرهما قدرهما، وإلا كيف يكون للعقل مجال لأجل أن نرد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ولعلي أقول للأحبة: لو كان للعقل مجال في أمور الغيبيات فلا ندري نأخذ بعقول من؟ أنأخذ بعقول الأشاعرة؟! أم بعقول المعتزلة؟! أم بعقول الفلاسفة؟! أم بعقول الجبرية؟! أم بعقول الخوارج؟! أم بعقول الفساق؟! أم بعقول أهل الصلاح؟! كل الناس لهم عقول ومشارب شتى، ولكن من رحمة الله تعالى أن جعل لنا تقعيداً عاماً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي) وسنته صلى الله عليه وسلم باقية خالدة. ولعل من المثال على ما تحار به العقول تجاه ذلك من الأمور الغيبية، لما حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن سدرة المنتهى لما رآها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطع ظلها) رسول الله صادق ولا يكذب أبداً، ويبقى العقل حائراً تجاه هذا الخبر، لكنه هل يكون مستحيلاً؟! لا وربي لن يكون مستحيلاً؛ لأن الله قادر على كل شيء. ولما حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ملكٍ من الملائكة، كما في سنن أبي داود بسند صحيح إذ قال: (ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) كيف يكون هذا المخلوق العجيب؟! ولكن نقول: آمنا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم. قاعدتنا تجاه الغيبيات هو التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وتصديقاً بذلك، وهذه قاعدة عظيمة جداً. ولذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، وأرويه لكم بمعناه: لما عدا ذئب على غنم، ثم أخذها الراعي من الذئب -أخذ الذئب شاة فجاء الراعي وأخذها- فتكلم الذئب قال: من لها يوم لا راعي لها إلا أنا!! فقال الصحابة رضي الله عنهم: عجباً ذئب يتكلم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولكني اؤمن به أنا وأبو بكر وعمر) تسليم قال: وما كان أبو بكر وعمر في المجلس؛ لأن قاعدتهم: هو التسليم للأمر الذي تحار العقول تجاهه، وكم هي الأمور التي جاءتنا في شرعنا يبين لنا أنها غيبية وبعضها خوارق للعادات، والواجب علينا التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. سار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ الانحراف بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بأسبابٍ متعددة، وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أسباب هذا الانحراف وبينوه تحذيراً أن يقع الإنسان في مثل هذه الانحرافات التي وجدت فيمن سبق، وأول من حذر عنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 أسباب انحراف أهل البدع عن منهج الكتاب والسنة قام المجتمع على أساس العقيدة الصحيحة المأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ذلك شيئاً عجيباً بأن ساروا على المنهج، بل لم يكن أمراً عجيباً عليهم، بل هو أمر عادي؛ لأن التأصيل هو الكتاب والسنة، ولكن بدأ الانحراف بأمور متعددة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 السبب الأول: الغلو ظهرت ظاهرة الغلو في طوائف متعددة، وأول هذه الطوائف التي بزغ الانحراف عندها: الخوارج فغلوا في آيات الوعيد، وأعملوها على الناس جميعاً، بل أدى بهم الأمر إلى أن حملوا سيوفهم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسوا الآيات الواردة في الوعد: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116] والحديث القدسي كذلك: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة) إلى غير ذلك من النصوص. ونسوا تلك الأحاديث الواردة في الوعد، وأعملوا نصوص الوعيد كلها على المجتمع الذي كانوا فيه، مما أدى إلى أن اتهموا الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بالتفريط والتقصير، بل وصل الحد ببعضهم إلى تفسيق الصحابة، بل بلغ الحد ببعضهم إلى تكفير بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقابلتهم طائفة أخرى وهي طائفة الرافضة، فغلوا غلواً آخر في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فكان مقتل الحسين مقوياً لتيار ذلك الغلو، وجاء المختار بن أبي عبيد ليستغل هذا الأمر فنصر دعوة الحسين، ثم كان سبباً للانحراف؛ وسببه الغلو في هؤلاء، واستمر هذا التيار، ولايزال لهاتين الطائفتين بقايا إلى عصرنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 السبب الثاني: رد البدعة بالبدعة إن الذين قاموا بالرد على هؤلاء المبتدعة هم المبتدعة، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية تنبيهاً لطيفاً عجيباً، كما في الفتاوى، قال: من رحمة الله تعالى بـ سلف الأمة وبـ أهل السنة، أن أهل السنة يتركون المبتدعة يناظر بعضهم بعضاً. ولذلك تجد أقوى من رد على المعتزلة الأشاعرة، وأقوى من ناقش الأشاعرة المعتزلة، وأقوى من رد على المعتزلة الجهمية، والجهمية على الفلاسفة وهكذا. قال: فـ أهل السنة يتركون بعضهم ليبطلوا بعضاً، فلا يبقى مع الأشاعرة إلا القليل، ولا يبقى مع الجهمية إلا القليل، ولا يبقىمع المعتزلة إلا اليسير، قال: فينقض أهل السنة على هذه الطوائف فلا يبقى إلا المنهج الحق الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك وقفت المرجئة في وجه الخوارج. سيأتي إن شاء الله لعلي تعريف لكل طائفة من طوائف البدع التي نحتاجها في عصرنا ولا يزال لها بقايا، من باب توضيح ما هي الطائفة التي نعني. المرجئة: سموا بذلك من باب الإرجاء، قالوا: والإرجاء هو التأخير، وهم يرون تأخير العمل عن الإيمان، وبناءً عليه يقولون: إن العمل غير داخل في الإيمان أصلاً، والنتيجة: أن شارب الخمر والسارق والزاني إيمانه كإيمان أبي بكر وعمر لا فرق بينهما، ولا شك أن هذا القول باطل، وعلى النقيض جاءت طائفة الخوارج وقالت: إن شارب الخمر خارج عن الإسلام. فقيض الله أن يرد بعضهم على بعض، وكانت هذه الردود سبباً لنشوء طوائف من البدع لم تكن موجودة من قبل، وهذا يدل على أن رد البدعة ببدعة أخرى، ومناقشة أهل البدع للمبتدعة يخرج لنا شيئاً جديداً أدى إلى افتراق الأمة، وعدم وجودها على ما كان عليه سلف الأمة. وذكروا منها: المؤثرات الأجنبية، ويقصد بها قوم كانوا على الانحراف وعلى الإلحاد والكفر، دخلوا في الإسلام سراً وقلوبهم منطوية على الخبث والكيد للإسلام وأهله، وحملوا معهم عقائدهم وأصولهم التي عندهم، ومنهم من بقيت عنده رواسب، وكان نتيجتها أن عرضوا نصوص الكتاب والسنة على الرصيد الذي عندهم فخرجوا برأي جديد لم يكن عليه سلف الأمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم، كـ عبد الله بن سبأ وغيره، الذي كان سبباً في وجود كثير من الطوائف، وبث كثيراً من الشبه، وبيان شيء من الانحراف. وكـ معبد الجهني الذي أسس مذهب القدرية، وكان رجلاً نصرانياً، أخذ مقالته عن رجل من النصارى اسمه: سنسوية، وتلقاها عنه معبد الجهني وبدأ ينشرها، والجهمية كذلك كان لهم أثر، وسيأتي -إن شاء الله- تعريف يسير لبعض طوائف المبتدعة كـ الجعد بن درهم، وكـ الجهم بن صفوان، وكـ واصل بن عطاء، هؤلاء أئمة ضلال، تجدها تمر كثيراً في كتب السلف، ويناقشونهم، وكذلك بشر المريسي، وعمرو بن عبيد، وبيان بن سمعان وغيرهم من أئمة الانحراف، لابد أن نأخذ شيئاً من تراجمهم وإن كانت يسيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 السبب الثاني: تحكيم العقل في القضايا الشرعية من الأسباب كذلك: تحكيم العقل في القضايا الشرعية، وخاصة في الأمور الغيبية التي لا يمكن أبداً أن يكون للعقل فيها مجال، ولعلي أضرب مثالاً على ذلك: المبتدعة يؤسسون أدلة عقلية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن أهل الكلام والنظر جاءوا بأدلة عقلية ليست إلا جهليات وليست يقينيات، ثم قال تقعيداً: ما من دليلٍ عند أهل الكلام والنظر دل العقل عليه إلا وجد في كتاب الله ما هو أعظم دلالة منه وأحسن منه، ولا حاجة إلى زبالة عقولهم وما كانوا عليه، ومن الأمثلة على ذلك أن عندهم تقعيداً يبنونه بمقدمتين ونتيجة أو أكثر. المقدمة الأولى: الصفات لا تقوم إلا بأجسام. المقدمة الثانية: الأجسام متماثلة. النتيجة: الله ليس بجسم. مادامت الأجسام متماثلة والله ليس بجسم. النتيجة: الله ليس له صفات أبداً، لكن {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4] {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] إلى غيره؟ يقولون: لا نثبتها لله أبداً. ونقول: سبحان الله! من أين جاءنا هذا الدليل؟ أله رصيد من كتاب وسنة؟ لا. أله رصيد من كلام الصحابة والسلف؟ لا. فبناءً عليه هذا الدليل العقلي باطل، وما في الكتاب والسنة هو الأصل الذي يجب أن نعمله، ومن هنا جعلوا لهم مقدمات عقلية، وهي ليست إلا جهليات، وحكموها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 السبب الرابع: تعريب كتب الفلاسفة واليونان وذكر الإمام السفاريني في لوامع أنواره نقلاً عن تاريخ الصفدي رحمه الله: أن أول من بدأ بتعريب الكتب هو المأمون، قالوا: كان مولعاً بحب الكتب وبجمعها، فعربت الكتب اليونانية، ولما فتح الله تلك الديار كانت النتيجة أن حملوا كتبهم معهم مخافة أن يأخذها المسلمون، فأرادوا أن تبقى عندهم ليستفيدوا منها. كتب المأمون بعد أن حملوها إلى ملك قبرص يطلب منه هذه الكتب، فجمع من حوله ممن يشار إليهم بالبنان يستشيرهم في هذا الأمر، أيرسل الكتب إليهم أم لا يرسلها؟ فجلهم قالوا: لا نرسل الكتب إليهم أبداً، فهي تراثنا، وحصيلة آبائنا وأجدادنا وعلمائنا لا يمكن أن نعطيهم -وهي ثروة ضخمة- إلا رجلاً منهم قال: إني أرى أن ترسلوا هذه الكتب إليهم. قالوا: وما بالك؟ قال: إن هذه الكتب ما دخلت على أهل دين سماوي إلا أفسدت دينهم. وعربت هذه الكتب، وقام المعتزلة بنصرها، ونشرها، وتدريس قواعدها، وتأصيلها، مما أدى إلى الانحراف العظيم. وقالوا: إن أبا جعفر المنصور كذلك عرب بعض الكتب، وكان له أثر كبير في تعريب الحضارة الهندية، وغيره من الخلفاء الذين جمعوا هذه الكتب، فلما عربت -وجلها مبنية على العقل- كان لها أثر في انحراف الناس عن صراط الله المستقيم، ووجود الطوائف المنحرفة، وتشعبت تلك الفرق، فلم تكن المعتزلة فرقة واحدة، وإنما شملت معها عشرين فرقة، ولم تكن كذلك الخوارج فرقة، بل شملت معها أكثر من عشرين فرقة وهكذا تشعب الناس وتفرقوا أحزاباً بسبب هذه المؤثرات التي وجدت فيهم، وغيرها من هذه المؤثرات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 علامات وسمات أهل البدع وأذكر لكم الآن علامات المبتدعة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 السمة الأولى: الفرقة والاختلاف ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى ممتناً على رسوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] ويقول سبحانه وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] . وسبحان الله! انظر إلى سلف الأمة وإلى أهل السنة والجماعة لا تجدهم أحزاباً في مسائل الاعتقاد. ولئن كان بينهم خلاف في مسائل الفروع، شافعي وحنبلي ومالكي وحنفي فهذا لا يؤثر، لكن عقائدهم واحدة، بخلاف المبتدعة فرق المعتزلة والجهمية والخوارج والرافضة تجد فرقاً وأحزاباً، معتقدهم في الجملة متقارب، ولكن تجدهم شيعاً يضلل بعضهم بعضاً، ويرد بعضهم على بعض. أما الأئمة رحمهم الله وسلف الأمة لم يكن بينهم هذا أبداً، وهذا من رحمة الله تعالى بـ أهل السنة والجماعة، ولذلك تجد الإمام أحمد رحمه الله لا يرد على الإمام مالك، ولا يرد على الإمام الشافعي؛ لأن معتقدهم واحد، ومنهجهم ليس فيه تفرق ولا تحزب رحمهم الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 السمة الثانية: اتباع الهوى الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] كم من المبتدعة من يحصل لهم هذا الأمر وهم يتبعون الهوى، مع أنهم ربما يجدون الحق واضحاً، ولعل من المثال على ذلك كما سيأتي -إن شاء الله- حين نعرف المعتزلة أن الحسن البصري رحمه الله كان في حلقته واصل بن عطاء، وكان واصل من كبار المعتزلة، ولم يكن قد بدأ الانحراف عنده أبداً. حصل بينه وبين الحسن البصري نقاش في مسألة صاحب الكبيرة هل يكفر أم لا يكفر؟ هل يخرج من الإيمان أم لا يخرج؟ فقال الحسن البصري: لا يخرج بمجرد كبيرته، ولكن واصل بن عطاء أصر أشد الإصرار على أنه خارج من الإيمان، ولكنه ليس داخل في الكفر، ومصيره في النار أنه خالد فيها. فغضب الحسن وطرده من حلقته، وماذا كانت النتيجة؟ خرج عمرو بن عبيد بمجرد الهوى متبعاً انتصاراً له. أما أهل السنة فلا يوجد عندهم الهوى أبداً، اعرض عليه الحق يقبله لا محالة، ولا يحكم هواه أبداً في مثل هذا الأمر، قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير: إنما يأتمر بهواه مهما رآه حسناً فعله، ومهما رآه قبيحاً تركه، وهذا ينطبق على المعتزلة الذين يذهبون إلى التحسين والتقبيح العقليين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 السمة الثالثة: اتباع المتشابه ذكر الله في كتابه: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] . وتكلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته التدمرية بكلام نفيس حول قضية التشابه، وأن التشابه ينقسم إلى قسمين: 1- تشابه عام. 2- تشابه خاص. والتشابه الخاص: هو الذي يشتبه على بعض الناس دون بعض. والتشابه العام: هو الذي يشبه بعضه بعضاً، يعني: يصدق بعضه بعضاً ولا يعارض بعضه بعضاً، وهذا التشابه الذي وجد من علامات المبتدعة وهو ما يشتبه على بعض الناس، فتجد بعض الناس يأتي بالآية ويقول: هذه الآية ترد هذه الآية، وهذا الحديث يرد هذا لحديث، ولذلك ذكر الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7] . لكن الله أثنى على الراسخين في العلم فإنهم: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله كلاماً عظيماً نفيساً يتعلق بالأمور الغيبية، وبالأمور المتشابهة، قال: (آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذا هو التسليم التام لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الواجب على كل مسلم أنه متى علم شيئاً عمل به وسلم له، وما لم يعلمه فإنه يرده إلى عالمه كما سنبين ذلك إن شاء الله في شرحنا لـ لامية شيخ الإسلام لأنه أومأ إليها: وأرد عهدتها إلى نقالها وهذا هو مقتضى قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. روى الإمام البخاري من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه الآية، قال: (إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) . ولذلك يدخل في هؤلاء طوائف المبتدعة كـ المعتزلة وغيرهم، الذين يجلسون فيثيرون الشبه والشكوك. وسبحان الله! نُقل أن الفخر الرازي وهو من كبار أئمة أهل الكلام، ومن كبار الأشاعرة، وعليه ملحوظات في معتقده، ألَّف كتاباً في التفسير اسمه: مفاتيح الغيب، ويسمى: التفسير الكبير، قالوا: إنه يورد الشبه فيه ويؤصلها ويمكنها، ولكنه لا يستطيع الرد عليها، قالوا: فكان يورد الشبه نقداً ويدع الرد نسيئة، كأنه نوع ربا، وليته لم يذكر الشبه أصلاً ولا تعرض لها، وكانت عقليته عجيبة جداً. وذكروا من اللطائف أنه مر ذات مرة في طريق وكان يمشي، فمر أحد تلاميذه ومعه امرأة كبيرة السن، ربما تكون أمه أو قريبة منه، فأراد أن يعرِّف أمه بهذا العالم الكبير، فقال لها: إن هذا العالم يحفظ ألف دليل على وجود الله تعالى. فقالت هذه المرأة بفطرتها: والله لو لم يكن في قلبه ألف شك ما احتجنا لألف دليل، ما الحاجة إلى ألف دليل على وجود الله تعالى، مثلما يقال لإنسان: هات مائة دليل على أن (اللمبات) مضيئة؟ ليس هناك حاجة إليها أصلاً، مما يدل على أن الواجب على الإنسان أن يبتعد عن الأمور المتشابهة. ولذلك كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى ورضي عنه وهو إمام أهل السنة قاطبة يحذر تلامذته من حضور مجالس المبتدعة كـ المعتزلة وغيرهم، وكذلك الكلابية الذين كان لهم قوة وانتشاراً في عهد الإمام أحمد رحمه الله تعالى، والسبب: لأنهم يثيرون الشكوك والشبه. ولما قيل للإمام أحمد رحمه الله تعالى: ألا تناظر المعتزلة على الملأ وتناقشهم؟ قال رحمه الله: ليس من ضعفٍ فيَّ من ردي ومن مناقشتهم، ولكن ربما أرد رداً لا يفهمه بعض الحاضرين يكون فتنة عليه وشبهة وشكاً في قلبه لم يكن يعلمه، ولهذا قال علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى ورضي عنه: [حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله] ولهذا لو جاء إنسان عندنا يحدث في جماعة المسجد وليس في حلقة علمية، يحدثهم عن شبه المعتزلة والرد عليها، ثم يأتي بنصوص نفي صفة الرؤية، ثم يبدأ يرد عليهم، أو يأتي بكتاب من كتب النصارى ثم يقول: قال النصارى كذا وكذا، ونحن نرد عليهم بكذا، نقول: ليتك ما تكلمت وإن كان ما تقوله حقاً، فربما يكون في قلب أحدهم شبهة فتنقدح في قلبه، وربما يكون سبباً لانحرافه عن صراط الله المستقيم، ولذا قال علي كما في الصحيحين: [حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 السمة الرابعة: معارضة السنة بالقرآن ذلك أن بعض الطوائف ترى أن العمدة هو كتاب الله تعالى، وتجد بعض الناس ولعل من الأمثلة عليه أن يأتي بعض الناس -مثلاً- وتقول له: يا أخي! جزاك الله خيراً: التدخين لا يجوز، قال: هل هناك آية من القرآن تدل عليه؟ تجد أنه يعارض الحكم، وكأن التقعيد عنده أنه لا يريد أصلاً أن يعمل، وليس قصده بحثاً عن الحق لإرادته، ونعتبر هذا من الخطأ ومن الجهل. ولذلك نجد بعض الطوائف تكتفي بقضية القرآن وحده، ويسمون أنفسهم: القرآنيون، وهؤلاء منحرفون وليسوا على منهاج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم محذراً من ذلك أشد التحذير: (يوشك الرجل متكئاً على أريكته، يحدث بحديث فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إني أوتيت القرآن ومثله معه) . فما جاءنا عن سنة يجب أن نأخذ بها كما نأخذ بالقرآن، والله قد قال عن رسوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] ولو أخذنا بالقرآن وحده! من أين عرفنا أن صلاة الظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث وغيره، من أين؟! فليس في القرآن شيء من ذلك، من أين عرفنا أنصبة الزكاة؟! من أين عرفنا مسائل رمي الجمار في الحج؟ كلها من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الواجب. قال الإمام البربهاري رحمه الله، وهو من كبار أئمة أهل السنة والجماعة: إذا سمعت الرجل يطعن في الآثار، أو يرد الآثار، أو يريد غير آثار النبي صلى الله عليه وسلم فاتهمه على الإسلام. إذا رأيت الرجل يطعن في الآثار، أي: يقدح فيها وهي صحيحة، أو يردها فلا يقبلها؛ لأنه أجال بها العقل، ولا يريدها لعدم موافقتها للعقل، أو يريد غير الآثار، مثل بعض الناس تناقشه، فيقول: أنا كلما أناقشك في قضية تقول تلقائياً: قال الله وقال رسوله، ناقشني بالعقل ولا تأت بقول الله ولا بقول رسوله. ولذلك قال: فاتهمه على الإسلام، ولا تشك بأنه صاحب هوىً ومبتدع؛ لأنه ليس على منهج أهل السنة والجماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 السمة الخامسة: بغض أهل الحديث والأثر بغض أهل الأثر وأهل الحديث والوقيعة فيهم، علامة تدل على خبث صاحبها، ولعل السبب في ذلك إذا أبغضوا أهل الحديث بناءً عليه لم يقبلوا ما ينقلونه إليهم، وما يبينونه لهم من سنة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولهذا يتهمونهم بعدم المعرفة وبعدم الدراية. يقول أحمد بن سنان القطان رحمه الله تعالى: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، والسبب: لأن الحديث يلقمهم الحجر، وإذا جئت بالنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يكن لأحدٍ منهم أن يقول شيئاً، ولهذا بدلاً من أن يبغضوا السنن أبغضوا نقالها، وإذا أبغض النقال أسقطت قيمة ما رووه من الأحاديث، وما وصلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 السمة السادسة: إطلاق الألفاظ القبيحة على أهل السنة إطلاق الألفاظ والألقاب الخبيثة على أهل السنة؛ للتنفير منهم، ولعلنا سمعنا ما كان يقوله الكوثري في شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعاً، فهم إذ يطلقون هذه الكلمات؛ لأجل أن ينفر الناس منهم، وكم نسمع في واقعنا المعاصر، تأتي إلى صاحب قبرٍ يدعوه من دون الله، وربما يذبح له ويطوف حوله، وتقول له: هذا الأمر لا يجوز، يقول لك تلقائياً: أنت وهابي، بمعنى أن هذا الوصف ذم عندهم، ونقول: رويدك! فليس وصف ذم، بل هو منهج ما جاء عن الله وجاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم. ولهذا قالوا عن أهل السنة: حشوية، ونواصب، ومجسمة، وبأنهم وبأنهم ألفاظ، حتى إذا سمعها إنسان نفر منهم وابتعد، وسبحان الله! كم نجد من الناس حين تناقشهم يقشعر جلودهم لأنه يقول: أنت على غير المنهج الذي أنا عليه، وأتذكر في حجنا في العام الماضي وجدنا شخصاً في يوم عرفة في يده تميمة وفي رقبته تميمة، وجئنا به وأخذناها وفتحناها وذكرنا له، فما استطاع أن يقول شيئاً غير أن قال: أنا أخدتها من المولوي، وأنا أتبعه ولا أتبعكم. وكأن معه أحداً أوحى إليه إيحاءات بأن هؤلاء وهابية لا يحبون هذه الأمور، وما علم أن الواجب علينا أن ندله على الخير وأن ننقله من هذا الشرك الذي تعلق قلبه به، وهذا من الخطأ ومن الجهل أن يوصف أهل السنة بهذا الأمر، وقد ذكر ذلك الإمام البربهاري رحمه الله في شرح سنته، وإسماعيل الصابوني رحمه الله في عقيدة السلف أصحاب الحديث، وذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 السمة السابعة: عدم اتباع مذهب السلف تجد بعض الناس يستحي أن ينتسب لـ سلف الأمة، ولا يرى أنه شرفاً له ومنقبة أن يسير على ما سار عليه الطراز الأول، وعلى ما سار عليه من كان على هدى وعلى صراط الله المستقيم. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى ورضي عنه: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن كثيراً من الناس ينتسبون إلى رجال، فـ المعتزلة تنتسب إلى واصل بن عطاء. والجهمية ينتسبون إلى الجهم بن صفوان، وغيرهم من الطوائف الجعدية، والبيانية، وطوائف أخرى تنتسب إلى أشخاص ورجال، لكن أهل السنة والجماعة ينتسبون إلى المنهج، وإلى سلف الأمة رحمهم الله تعالى من الصحابة ومن سار على هديهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 السمة الثامنة: تكفير وتبديع من خالفهم ولهذا ذكرنا أن الكوثري ومن سار على نهجه يكفرون من خالفهم على منهجهم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في منهاج السنة النبوية في رده على الرافضة قال: والعجيب من أهل البدع أنهم يبتدعون البدعة، ويكفرون من خالفهم عليها، هم المبتدعون في الأصل، ويكفرون من لا يسير على بدعتهم، ولا شك بأن كلا المقدمتين قبيحة: المقدمة الأولى: أنهم جاءوا ببدعة لم تكن لها رصيداً من كتاب ولا سنة. المقدمة الثانية: التكفير من أجلها مع أنه لا رصيد لها من كتاب ولا من سنة، ولا رصيد لها من منهج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 كيفية معرفة المبتدع أقول للأحبة تأصيلاً عاماً: ما ذكرته مقدمات للقراءة في كتب العقائد، ولعلي أذكر كيف تستطيع أن تميز هذا العالم وهذا الكاتب أنه من سلف الأمة أو ليس من سلف الأمة، ويكون ذلك عن طرق متعددة، وأولها: أن تبحث في كلامه أو في كتابه في باب الأسماء والصفات، فإذا وجدته يقول: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] وجاء أمر ربك، أو: {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] نعمته أو قدرته، فاعلم بأنه مبتدع، وليس على منهاج أهل السنة والجماعة. إذاً: الأمر الأول: أن أبحث عن آيات الصفات وأنظر كلامه أو كتابته فيها، فإن أوّل صفة واحدة أقف في حذر منه، وأعلم بأنه لم يسر على ما كان عليه سلف الأمة. الأمر الثاني: أن أبحث عن كلامه في خبر الآحاد، فالمبتدعة يرون أن خبر الآحاد لا يحتج به في باب العقائد، ويرون أنه ظني الدلالة، ولا يفيد العلم، ولا يؤخذ لله من النصوص الواردة في الأسماء والصفات، ولا شك أنه إذا قال: خبر الآحاد لا يحتج به في باب العقائد، أو أنه ظني الدلالة لا يعمل به وإنما يعمل به في باب الأحكام دون العقائد، علمت بأن هذا ليس على منهج سلف الأمة. الأمر الثالث: كلامه في مبحث القضاء والقدر، هل هو يقول بالكسب فيكون أشعرياً، أو يقول بالجبر فيكون من الجبرية، وأن كل هذا بقضاء الله وقدره، أو يقول: إن الإنسان خالق لفعله، فاعلم أنه معتزلي، ويصبح مبحث القضاء والقدر من المباحث المهمة التي يتميز بها، أو يمكن تميز صاحب الكتاب وغيره. الأمر الرابع: مسألة التحسين والتقبيح، وهي من المسائل التي تكلموا فيها في العقائد، وفي أصول الفقه، فإذا كان يقول: إن التحسين والتقبيح عقليان فقط، فاعلم بأنه معتزلي، أو يقول: إن التقبيح والتحسين شرعيان فقط فاعلم أنه أشعري وأنه ليس على منهاج أهل السنة والجماعة وإن قال بأنه يكون عقلياً ويكون شرعياً وفصل فيه، علمت بأنه سلفي في ذلك الأمر. الأمر الخامس: مبحث الإيمان: فإن قال: إن الإيمان قول فقط، أو قال: الإيمان قول واعتقاد، أو قال: الإيمان هو المعرفة، أو قال: الإيمان ليس إلا مجرد الذي يوجد في القلب وهو الاعتقاد كقول الماتريدية، علمت أنه مبتدع، لكن إذا قال: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، علمت أنه على منهاج سلف الأمة وهذا هو منهجه. وتوجد علامات غير هذه كثيرة يمكن التمييز لطالب العلم حين يقرأ في أي كتابٍ يبحث عن هذه بسهولة، ويستطيع أن يعرف الكاتب وما قرأه. ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثالث) كان سلف الأمة الأخيار إذا أتاهم نص في مسائل الاعتقاد تلقوه بالتسليم والانقياد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع من عرض النصوص على عقولهم، فما قبلته أخذوه وما لم تقبله ردوه. والتوحيد تعريفه وأقسامه وأهميته في منهج أهل السنة واضح للعيان، وما ورد من شبه حول تقسيمه مردود ممن كان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 من آداب طلب العلم الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: لعلي أتكلم عن أدبين من آداب طلب العلم، وقد تكلمت فيما سبق عن أدب وهو إخلاص النية في الطلب، وأن طالب العلم يجب أن يعلم أنه في عبادة، والعبادة لا بد فيها من إخلاص النية حتى يستفيد الإنسان منها، وتكون في ميزان حسناته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 من آداب الطلب: طهارة الباطن والظاهر أن يشتغل طالب العلم بطهارة باطنه وظاهره من شوائب المعاصي والمخالفات لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخاصة أن النفس قد جبلت على أخلاق رديئة، وفيها من الصفات ما تحتاج إلى نزعها منها حتى يكمل الإنسان ويشرف، ويعلو ويتطهر بما جاء من شرع الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وكم في النفس من الأخلاق الذميمة مثل الغضب، والشهوة المحرمة، والحقد، والحسد، والعجب، والكبر وغيرها من الأمراض التي تحتاج إلى علاج. وسبحان الله! تلك الأمراض هي ظلمة في القلب، والعلم الذي يأخذه الإنسان هو نور، ولا يمكن أن تجتمع الظلمة مع النور اجتماعاً كاملاً، ولذلك قيل: القلب المظلم المشحون بالذنوب لا يستطيع استقبال النور، ولا تحدث بركة العلم فيه كاملة. وقد ذكروا أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى حفظ الموطأ عند الإمام مالك في أيام، ولعله في أسبوع أو أكثر من ذلك، فقال: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يؤتى لعاصي ولذلك ربما يكون الإنسان حافظاً، وذا اطلاع وفهم وإدراك ومعه معصية لكن العلم الذي معه لا تحدث بركته فيه، فلا يستفيد الناس منه، ولا يستفيد منه بذاته شيئاً يثمر به، ولهذا وجب على الإنسان أن يطهر نفسه من أدران المعاصي صغيرها وكبيرها. ونبه العلماء رحمهم الله تعالى على أن من الواجب على المسلم أن يطهر نفسه من أدران البدع التي ربما توجد عند بعض الناس، سواء كانت تلك البدع صغيرة أو كبيرة، وهذا هو الواجب، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح سائر الجسد) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وهي القلب) والقلب هو موطن العلم، وبركته إنما تصدر من القلب إذا نفع الله به، وكان طلب العلم فيه إخلاص، وابتعاد عن المعاصي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 من آداب الطلب: تفريغ القلب للعلم يجب أن يبتعد الإنسان عن العلائق التي تكون سبباً لصرفه عن العلم، ولذلك كم من الناس من يبحثون عن أمور تملأ فراغهم، وربما يملئونها بأمور تشغلهم عن الأفضل، وعن الاستفادة والعلو والارتفاع إلى الأكمل، ولذلك تجد كثيراً من الناس ربما يشتغل بالمفضول عن الفاضل، وربما يشتغل بالمباح عن الواجب، وبالمستحب عن الأمور الواجبة، وكم من الناس من يضيعون أوقاتاً في أمورٍ لا يستفيدون منها، وإنما تحدث لهم ملء فراغٍ لا ينتقلون منها إلى الأكمل والأفضل. ولهذا لم يكن السلف رحمهم الله تعالى يؤثرون على العلم شيئاً أبداً؛ لأن ثمرة العلم لا يوازيها جلوس مع الناس، ولا حديث، ولا زيارة، ولا اتصال ولا غيره، والعلم علو كامل وثمرة واضحة على صاحبها يستفيد منها في الدنيا والآخرة، ولهذا قالوا: ينبغي للإنسان في قضية الطلب أن يذل نفسه، وقالوا: لن يصل الإنسان إلى العلم ويستفيد منه مع عزة النفس وارتفاعها، بل لا بد من الذل، وأن يصبح الإنسان يقضي وقته كله في العلم. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لا يطلب أحد هذا العلم بالملك، ولا عز النفس فيفلح، ولكن إذا طلبه بذل النفس، وضيق العيش، وخدمة العلماء، فإنه يفلح في الدنيا والآخرة. لذلك كان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه يلازم النبي صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه، ما كان يشتغل بالضرب في الأسواق، ولا بجمع المال ولم يكن يشتغل فيه، ولا يتحدث بحديث الناس، ولا بحديث الركب، جل وقته للعلم، حتى كان رضي الله عنه وأرضاه ربما أغمي عليه من قلة أكله وزاده رضي الله عنه، كله لزوماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وحرصاً على ذلك، ولذلك روى الخطيب البغدادي عن أبي هريرة رضي الله عنه: إن الناس يقولون: [أكثر أبو هريرة، ثم قال: إني كنت لا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني حين لا آكل الخمير، ولا ألبس الحبير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وكنت ألصق ببطني الحصى من شدة الجوع] رضي الله عنه. وأعظم من ذلك أحد كبار الصحابة ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، كان يأتي إلى الصحابي يريد أن يسأله عن مسألة فلا يقرع عليه الباب تأدباً معه، وربما كان في الظهيرة ويدركه النوم وينام على عتبة باب هذا الصحابي، ويخرج ويجد ابن عم رسول الله هنا، ويقول: لِمَ لم تقرع ولِمَ لم تستأذن؟ قال: هكذا أمرنا أن نتأدب مع علمائنا. صبراً وتحملاً في الطلب، وعدم إزعاجه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول ابن جماعة رحمه الله تعالى: على طالب العلم أن يبادر شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل، ولا يغتر بخداع التسويف والتأميل، فإن كل ساعة تمضي من حياة الإنسان ومن عمره لا يمكن أن يبدلها، ولا يمكن أن يعوض عنها، وعليه أن يقطع ما يقدر من العلائق الشاغلة. كثير من الناس قسموا أوقاتهم ليلة في الأسبوع هذه لجلسة كذا، وليلة أخرى لزيارة وغيرها، وثالثة لجلوس مجالس ربما يضيع وقتها ولا يستفيد منها. كان السلف يقطعون علائقهم كلياً، والسبب: لانشغالهم بذات العلم، وقالوا: إن ذلك من تمام الطلب أن يقطع الإنسان العلائق، وأن يبذل الجهد، وأن يقوي نفسه بالجد والتحصيل ليستفيد، ولذلك كان السلف رحمهم الله تعالى يغتربون في طلب العلم، ويبتعدون عن الأهل والأوطان؛ تفريغاً لأنفسهم في تحصيل العلم، ولذلك قال أبو يوسف رحمه الله تعالى: العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك. وعجباً من كثير من الأحبة! يجعلون للعلم فضالات أوقاتهم، فإذا لم يجدوا شغلاً في أمورهم الذاتية وفي حاجاتهم النفسية وفي علائقهم، قالوا بعد ذلك: هذا الوقت سنجعله للعلم. وربما يجعل أحدهم درساً في الأسبوع، وينظر لنفسه أنه قد فاق تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية وعلماء زمانه، ويقول: جعلنا للعلم وطلبناه وسرنا له واستفدنا منه، وما علم أنه ما حصّل إلا جزءاً يسيراً، ولا نقول: إنه لم يستفد علماً، لكن علمه الذي حصله لم يكن له ثمرة كما يحدث لمن سافر في طلب العلم واغترب. أذكر قصة لطيفة من اللطائف: كنت أقرأ في أحد الكتب، فذكر أن هذه هي عقيدة الإمام أحمد رحمه الله وبقي بن مخلد وغيره، بقي بن مخلد رحمه الله تعالى هو ممن سافر إلى الإمام أحمد وهاجر إليه، وذكروا أنه جاء من الأندلس، ولد في رمضان سنة (201هـ) ورحل إلى الإمام أحمد من الأندلس إلى أن وصل، ولما قرب من ديار الإمام أحمد علم بأن الفتنة قد قامت بخلق القرآن، وأن الإمام أحمد لا يستطيع أن يحدث بحديث رسول الله في المسجد، ولا يستطيع أن يبين عقيدةً؛ نظراً لأن المعتزلة كان لهم الحكم والصولة والجولة، وكانت الخلافة قد أخذت برأي المعتزلة، فحوصر رحمه الله عن التحديث. يقول: لما قربت من بغداد اغتممت غماً شديداً، والسبب: أني قدمت من الأندلس؛ لأطلب العلم على يد الإمام أحمد، ولما علمت بأني سأمنع حزنت لذلك أشد الحزن، قال: فلما دخلت بغداد استأجرت لي حانوتاً وأنزلت متاعي ثم ذهبت إلى المسجد، فأتيت الجامع الكبير، وأنا أريد أن أجلس إلى الخلق، وأتعلم من كبار أئمة السلف، وأتذاكر معهم، قال: فجئت إلى حلقة نبيلة، وإذا برجل جالس في الحلقة يكشف أحوال الرجال، ويضعف هذا ويقوي هذا، فسألت: من هذا الرجل؟ قالوا: إنه يحيى بن معين رحمه الله، فرأيت فرجة قريبة من عنده فاندسست حتى وصلت إليه، فقلت له: يا أبا زكريا! رحمك الله رجل غريب نائي الدار، أردت أن أسأل فلا تستخفني في شيء، ثم سأله عن بعض أهل الحديث، فبين له ضعفهم وغيره، قال: فسألته عن هشام بن عمار رحمه الله تعالى، وكنت قد أكثرت من الأخذ عنه؟ فقال يحيى بن معين: أبو الوليد هشام بن عمار صاحب صلاة، دمشقي ثقة وفوق الثقة، قال: ففرحت؛ لأنه قد حكم عليه بصلاحه وبتوثيقه، ثم سألته عدة أسئلة، قال: صاح من حوله يكفيك، كمن يسأل ويلح على الشيخ، يكفيك فغيرك كثير يريدون أن يسألوا. ثم سألته عن الإمام أحمد، وعجب يحيى بن معين رحمه الله تعالى ونظر إلي كالمتعجب وقال لي: ومثلنا نحن نكشف عن الإمام أحمد، أي: هل نحن نتكلم في الإمام أحمد أو نقول فيه شيئاً؟ إن ذاك إمام المسلمين، وخيرهم وفاضلهم رحمه الله. ثم قلت: دلوني على منزل الإمام أحمد، قال: فسرت إليه، وقرعت الباب، وكان بيته مراقب لا يستطيع أحد الدخول عليه، ثم أخبرته بخبري، وقلت له: يا أبا عبد الله، رجل غريب نائي الدار، جاء من بعيد، وإني أريد أن أدخل إليك، وإني طالب حديث ومفيد سنة، أي: أنني أرغب أن أستفيد، ولم تكن رحلتي إلا إليك، أي: ما قدمت من الأندلس إلا لأجلك، فأدخله الإمام أحمد رحمه الله تعالى. ثم سألني: من أين أنت؟ قال: جئت من المغرب الأقصى. قال: من أفريقيا؟ قال: من أبعد من ذلك، بيني وبين أفريقيا بحر، جئتك من الأندلس. قال: إن موضعك لبعيد، أي: إن مكانك لبعيد، كيف بهذه الهمة العجيبة. ذكروا أنه مكث سنة كاملة حتى وصل إلى الإمام أحمد، ومع ذلك قدم ووجده لا يستطيع أن يستفيد علماً، ومع ذلك طلب منه أن يعمل حيلة، والقصة بطولها ذكرت في طبقات الحنابلة، وترجم لـ بقي بن مخلد رحمه الله ترجمة في مقدمة مسنده، وهو يعتبر من كبار أئمة أهل السنة رحمه الله تعالى. ثم قال له رحمه الله بحيلة: إني أريد أن أطلب الحديث عليك، قال: إنك كما ترى، ثم احتال حيلة صنع له ثوباً وكماً طويلاً، ثم كان يضع الدواة والقلم في كمه ويقرع على الإمام أحمد ويقول: الأجر رحمكم الله، وأحياناً يقول: سائل يسأل من فضل الله الذي عندكم، ويدخل إلى الإمام أحمد يروي له حديثين أو ثلاثة أو يزيد على ذلك ثم يخرج، قال: فالتزمته حتى ماتت الفتنة، ومات الخليفة الذي كان يمتحن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ثم بعد ذلك طلبت العلم على يديه، وجلست عنده، وكان إذا رآني الإمام أحمد أجلسني عنده وقص لتلامذته خبري، وما قدمت من أجله، وكان يرى أنني على تميز على التلاميذ، ويذكر لهم ما كنت قدمت من أجله. أصبت بمرض، قال: فجلست في الحانوت أياماً، وفقدني الإمام أحمد، ثم سأل عني فإذا بي مريض، قال: فكنت من شدة المرض مغطى ومسجى بما عليه من اللباس وغيره رحمه الله، قال: فما شعرت إلا وبلغط في السوق، وبصوت عظيم، والناس يقولون: هذا إمام المسلمين، أي: قدم إليه لزيارته رحمه الله ومعه التلاميذ، وكل تلميذ معه دواته وقلمه يكتب ما يقول الإمام أحمد، يستفيدون من علمه في أثناء الطريق بفتوىً أو سؤال أو غيره والناس يقيدون، قال: فدخل علي الإمام أحمد، وعجب أهل الحانوت كلهم لماذا جاء إمام المسلمين هنا؟ قال: وزارني ثم دعا لي بالشفاء وخرج، ثم قال رحمه الله: فما وجدت أعظم من أهل الفندق الذي كنت أسكنه براً بي وإحساناً، لدخول عالم الأمة لزيارة هذا الرجل الصالح. يقول: فكانوا يمرضونني، هذا يغطيني، وهذا يلبسني، وهذا كذا حتى شفيت، كله ببركة هذا الرجل الصالح، وذلك يدل على منازل علماء السلف رحمهم الله تعالى وكبارهم. وقد قلت عندما تكلمت عن أهمية الطلب والناس في حاجة إلى أمرين: دراسة آداب الطلب، ودراسة سير علماء الأمة وكبارها حتى يعلموا ثمرة العلم وفائدته، وأن هؤلاء العلماء ر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 منهج التلقي والاستدلال عند أهل السنة وأهل البدع قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي رزق الهدى من للهداية يسأل سبق أن تكلمنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدث بينهم اختلاف في مسائل العقيدة، كباب الأسماء والصفات، أو مسائل الألوهية رحمهم الله ورضي عنهم، وأسسنا هذه القاعدة لنعلم أن كل اختلاف حدث بعدهم ليس إلا البدع والانحراف عن صراط الله المستقيم. لقد كان سلف الأمة رحمهم الله تعالى إذا أتاهم نص في مسائل الاعتقاد يتلقونه بالتسليم والقبول، ويقابلونه بالإيمان العظيم والتسليم لله ولرسوله. لم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع من عرض هذه النصوص على عقولهم فما قبلته أخذوه وما لم تقبله عقولهم ردوه، ولم يجعلوا القرآن عضين، بل أقروا بآيات الأسماء والصفات، وعملوا بآيات الأحكام، وساروا على صراط الله المستقيم، حالهم ومنهجهم رضي الله عنهم في حال التنازع والاختلاف الرد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] . ولم يكن رده إلى العقول، ولا لأقوال أهل البدع، ولا لمناهج المبتدعة، وإنما كان لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] فما حدث بينهم من نزاع أو اختلاف عندهم الكتاب والسنة، ثم ما أسرع ما يرجعون إليه، ويتمسكون به، ولم يكونوا يحكمون الرأي في مسائل الدين والاعتقاد؛ لأن الكتاب والسنة أصل عظيم في مسألة التنازع. لقد نهى السلف رحمهم الله تعالى عن قضية الرأي في الدين. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [اتهموا الرأي في الدين] ثم ذكر قصته في صلح الحديبية رضي الله عنه: [لقد رأيتني وإني لأرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي، وأجتهد ولا آلو، وذلك يوم أبي جندل] رضي الله عنه وأرضاه ثم يقول رضي الله عنه محذراً: [إن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها] . فكان بعد ذلك أن تفلتت عليهم السنة، فلم يحفظوا منها شيئاً، فعند ذلك أجالوا عقولهم في دين الله تعالى، وأفسدوا الرأي، وأخطره ما كان متعلقاً بباب الأسماء والصفات، وبمسائل القضاء والقدر، وهو الذي حدث فيه الانحراف من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والقدرية وغيرهم؛ لأنهم حكموا عقولهم في باب الأسماء والصفات، وفي مسائل القضاء والقدر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 طرق أهل البدع في رد نصوص الكتاب والسنة إن المبتدعة على وجه العموم لما لم يقبلوا الكتاب والسنة وقفوا منهما موقفاً عجيباً! الأول: رد تكذيب رواة الحديث والطعن فيهم، وعدم قبول ما رووه، ولا شك بأنه إذا قُدِحَ في الراوي قدح فيما رواه، وتلك طريقة الروافض، فإنهم قدحوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعدها لم تقبل روايتهم ولن يقبل حديثهم. الثاني: تحريف ما دل عليه النص، يقبلون الحديث ولكنهم يقولون: إن هذا الحديث لا يدل على ما تذهبون إليه، وإنما يدل على معانٍ أخرى، مثلاً: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] يقولون: اليد هنا النعمة {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] يقولون: إنها القدرة أو النعمة، وكذلك تجد الرضا والغضب والمحبة يؤولونها تأويلاً لا يدل النص عليه، ولا شك بأن هذا تغيير للنص ولما دل عليه الكتاب والسنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 تقديم أهل البدع العقل على النقل سبب فساد العالم لا شك أنه تقديم الرأي على الوحي، وكذلك الهوى على النقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب أحد إلا لم يستفد من نور الكتاب والسنة أبداً، ولهذا روى لنا ابن عبد البر بسنده عن عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه رضي الله عنه، أنه كان يقول وهو الإمام أحمد: دين النبي محمد آثار نعم المطية للفتى الأخبار ولربما جهل الفتى طرق الهدى والشمس طالعة لها أنوار وكذلك ما أحسن ما قال بعضهم: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس خلف فيه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه إن كثيراً ممن كان عندهم انحراف في مسائل العقيدة دائماً ينسبون معتقدهم إلى الإمام أحمد، وهنيئاً لهذا الرجل الصالح ورضي الله عنه لموقفه في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولبيان معتقد أهل السنة، ولموقفه في مسألة القول بخلق القرآن وصموده، وما حصل له رضي الله عنه من الجلد والسجن وغير ذلك، ولكن الله أبقى ذكره وجعله خالداً، وعند أهل السنة والجماعة لا ينسى الإمام أحمد، بل كل إنسان يتشرف بأن كان على عقيدة الإمام أحمد رحمه الله تعالى ورضي عنه، ولعل السبب في ذلك: أن الإمام أحمد لم يكن رأيه من عند نفسه، وإنما سار على الآثار التي أتته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عن الصحابة الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم. ولهذا قال رحمه الله: هذا مذهب أئمة أهل العلم، وأصحاب الأثر المعروفين بالسنة المقتدى بهم، فيها أدركت من أدركت من علماء العراق والحجاز والشام، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة، زائغ عما كان عليه سلف الأمة، وهذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ومذهب بقي بن مخلد، والحميدي، وسعيد بن منصور وغيرهم من كبار سلف الأمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم. عندنا مسألة وهي: كيف يمكن أن نجمع بين العقل والنقل، وهل يمكن أن يتعارض النقل والعقل؟ نقول قاعدة: لا يمكن التعارض أبداً بين العقل والنقل، والسبب في ذلك: أن الذي جاء بالنقل والشرع هو الذي خلق العقل، فما جاء إلا بشيء يصدق ما كان عليه العقل، ولا يمكن أن يُوجد شيء لا تقبله العقول، ولهذا قلنا: إن الشريعة تأتي بما تحار به العقول، لا بما تستحيله العقول، ولئن وجد شيء من التعارض فإننا نقول: لا يخلو من أحد أمرين: الأمر الأول: أن يكون العقل غير صريح، بمعنى: أن العقل فيه شبه وشكوك، وفيه انحرافات وضلال، فعند ذلك لا مانع أن يعارض النقل، فالعقل هو الذي فيه الخلل، والشرع لم يكن فيه شيء. الأمر الثاني: أن يكون النقل غير صحيح، ولا شك أن الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمكذوبة يمكن أن تعارض العقل، وأما إذا كان العقل صريحاً والنقل صحيحاً فلا تعارض بينهما ولله الحمد، ولئن ضلت المعتزلة في هذا الباب، وانحرفت عنه انحرافاً قوياً، حيث قالت: إن العقل هو الحاكم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن هذا القول باطل، وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى برد مطول في كتابه: درء تعارض العقل والنقل، وبين انحرافهم، وأنهم لم يصلوا إلى الحق، ولن يصلوا إليه بقولهم حيث حكموا العقل، فلا ندري أنأخذ بعقل المعتزلة، أم بعقل الجهمية، أم بعقل الأشاعرة، أم بعقل الماتريدية أو غيرهم؟ وإنما نقول: نأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي الحاكمة على ذلك والموضحة له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 سند أهل البدع يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مفهوم كلامه: إن للمبتدعة سنداً، ويسلسله فيقول: عندهم الجهم بن صفوان، عن الجعد بن درهم، عن بيان بن سمعان، عن طالوت، عن لبيد بن الأعصم، وربما بعضهم يقول: واصل بن عطاء، عن جهم، ثم بعد ذلك واصل، عن جهم، عن الجعد، عن بيان بن سمعان، عن طالوت، عن لبيد بن الأعصم، كأنه سند سداسي للمبتدعة، وهؤلاء نعتبرهم أئمة ضلال وانحراف، لم يهتدوا إلى صراط، وإنما كان كل واحد منهم قائداً لفرقة ضالة عن صراط الله المستقيم. ولعلنا نذكر بعضاً من تراجمهم على عجل، فمثلاً: بيان بن سمعان: كان يرأس فرقة تسمى البيانية، وهي من غلاة الرافضة، يقال: بيان بن سمعان التميمي مولاهم، أصله من سواد الكوفة، قالوا: كان تباناً، ويبدو أن التبن خير من عقله وما عنده، قالوا: وهو يعتبر من الغلاة، وهو من الباطنية، قبض عليه خالد بن عبد الله القسري رحمه الله، وسبحان الله! خالد بن عبد الله القسري لما ترجم له الإمام الذهبي في سير أعلامه ذكر أنه عنده حدة وظلم، ولكن لعلنا نقول ظلمه كما قال الله: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} [الأنعام:129] فسلط الله الرجل على قيادات وعلى أئمة من أئمة الضلال، قتل بيان بن سمعان، وقتل الجعد بن درهم، وقتل المغيرة بن سعيد العجلي وهو من الباطنية، فسلطه الله عليهم، قبض عليه خالد بن عبد الله القسري هو والمغيرة بن سعيد مع خمسة عشر من رجالهم، جيئ بهم إلى مسجد الكوفة، وعلقهم بأوتاد من قصب، ثم صب عليهم النفط وأحرقهم. ذكروا أن بيان بن سمعان لما وصلته النار فر، ثم لما نظر إلى أصحابه يحترقون وهو لم يحترق دخل معهم، فموته معهم يرى أنه خير، فجمع الله له هذه النار ونار جهنم نعوذ بالله منها. له آراء عجيبة غريبة، كان يفسر القرآن تفسيراً باطنياً، ويقول: أنا الوارد في قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138] ويقول: إنه هدى وموعظة للمتقين، من أراد الهداية والتقوى فليتبعنِ، ولا شك أن هذا كلام باطل لا شك فيه، كان يقول: إن علياً إله. ويفسر قول الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210] قال: إن هذا هو علي بن أبي طالب، قبحه الله أنى يؤفك. ومنها كذلك: أنه كان يعتقد أن في السماء إله وفي الأرض إله غير إله السماء، وقيل: إنه أول من قال بخلق القرآن، وهو شيخ الجعد بن درهم. الجعد بن درهم هو مولى بني مروان، قال ابن كثير رحمه الله: أصله من خراسان، والإمام الذهبي يقول: من حران، وقيل: كانت حران موطن للصابئة، وذكر الموطن يدل على أن الإنسان يتأثر بالموطن الذي يعيش فيه، وبالفكر الذي يقول به. قالوا: إن الجعد بن درهم هو أول من نشر نفي الصفات، وتعلم على يديه الجهم بن صفوان، قتله كذلك خالد بن عبد الله القسري سنة (120هـ) ، وقيل: إن سبب قتله أنه كان يقول: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً. ولما قبض عليه جاء به خالد بن عبد الله القسري، ثم ربطه في أصل المنبر، وقام خطيباً -وكان الأمراء هم الذين يخطبون- فبدأ خالد بن عبد الله القسري خطبته بحمد الله، قال: الحمد لله الذي اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم موسى تكليماً، وكان الجعد بن درهم في أصل المنبر قال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، ولما انتهى من خطبته ووعظ الناس وذكرهم، قال: ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم، فنزل فذبحه كما تذبح الشاه، وأثنى عليه الإمام ابن القيم، قال: شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان أثنى عليه، فدل على أن هذه من القرابين التي يتقرب إلى الله تعالى بها، له أراء عجيبة في مسائل القدر وغيرها. ومن الأعلام: الجهم بن صفوان، وهذا الرجل أسس مذهب الجهمية، وكان للجعد طائفة اسمها الجعدية، لكن من رحمة الله تعالى أن هذه الطائفة لم تستمر، بل انقرضت، ومن أفراخاها: الجهمية، ومن أصول رجالها: الجهم بن صفوان وهو أبو محرز أصله من بلخ، ذهب إلى الكوفة واتصل بـ الجعد، وأخذ عنه القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله تعالى، حصلت بينه وبين أبي حنيفة رحمه الله تعالى مناظرات في مسمى الإيمان، فهو يرى أن الإيمان ليس المعرفة، ولذلك قالوا: إن الجهم بن صفوان من أجهل الناس بالله تعالى، يرى أنه يكفي مجرد المعرفة بالله تعالى، قالوا: الجهم لا يعرف ربه، والسبب: لأنه يقول: إن الله ليس له أسماء ولا صفات، ويرى الجبر كذلك. قالوا: هو سمى الإيمان: المعرفة، وسمى الكفر: الجهل، قالوا: فهو أجهل الناس، فكفر نفسه بمعتقده وبمذهبه، قتله سلم بن أحوز حين خرج على الخلافة في عهد بني أمية، وكان خرج مع رجل اسمه: الحارث بن سريج وعلى خلافة بني أمية، وقبض عليه، وكان ذا منزلة عند الحارث، وكان يفاوض الخلافة في مسألة الرجوع، ولم يقبل منه، وغزته الخلافة الإسلامية وقبض عليه، وقيل: إنه قتل لمعتقده، وبعضهم يقول: إنه قتل لأجل خروجه على الخلافة، ولا شك أنه قتل للسببين جميعاً: لخروجه على الخلافة ولمعتقده الضال المنحرف. هؤلاء بعض رجالات أهل البدع، ولعلنا نكمل بعضاً من هؤلاء في تراجم بعض حياتهم، خاصة وأن بعضهم دائماً يمرون علينا، الجهم والجعد وبشر وواصل وغيرهم من أعلام المبتدعة، نجدهم دائماً أثناء قراءتنا لكتب سلف الأمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 مفهوم التوحيد قد يقول الأحبة: لِمَ تركزون على مسائل التوحيد والاعتقاد؟ نقول: لأهمية التوحيد ولمنزلته، وقبل أن أتكلم عن أهمية التوحيد ومنزلته سنعرِّف ذلك المصطلح وهو لفظة (توحيد) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 تعريف التوحيد في اللغة كلمة التوحيد: مصدر من كلمة (وحد) وأصلها (وحد يوحد توحيداً) فالتوحيد في اللغة: هو جعل الشيء واحداً كأنه شيء متفرق ثم بعد ذلك اجتمع، ولذلك قيل: هذه القبيلة كلمتها واحدة، وقولها واحد، كأن آراءهم متعددة ولكنها اجتمعت إلى رأي واحد، ويدل على أنه جعل الشيء واحداً يأخذ مفهوم القوة والتماسك، ويدلنا على ذلك أن هذا اللفظ من النسبة لا من الجمع، فإنه ليس مقصوداً بهذا الكلام، وليس الإنسان هو الذي يجعل الله واحداً، فالله واحد قبل أن يخلق السماوات والأرض سبحانه وتعالى بل إننا من قوم ينسبون الوحدانية لله تعالى. فأنا أقول: الله واحد، بخلاف النصراني فليس بموحد؛ لأنه يقول: ثلاثة آلهة، وبخلاف مشركي العرب فليسوا يقولون: الله واحد، بل يقولون بآلهة متعددة، ولما نادى النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) قالت قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7] متعجبون من هذا الأمر! حسناً بالنسبة لكلمة التوحيد قلنا: إن أصله جعل الشيء واحداً، والإنسان لا يجعل الله واحداً، فالله واحد قبل أن يخلق السماوات والأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 تعريف التوحيد في الاصطلاح - من العلماء من عرفه فقال: هو إفراد الله بالعبادة. - ومنهم من قال: هو إفراد الله بأفعال العباد. - ومنهم من عرفه فقال: هو إفراد الله تعالى في ألوهيته وربوبيته وفي أسمائه وصفاته. والتعريف الثالث هو الأولى؛ لأنه يجمع أقسام التوحيد الثلاثة، بخلاف التعريفين الأولين، فإنهما لا يتعلقان إلا بتعريف توحيد الألوهية، وبالنسبة للتعريف الأول فقد ذكره شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بأنه: إفراد الله بالعبادة، ولِمَ ذكر هذا القسم؟ الجواب: نظراً لأن توحيد الألوهية هو أهم أقسام التوحيد كلها، وهو الذي من أجله أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وخلقت الجنة والنار، وأمر الناس به، ولأن الشرك والانحراف يقع في ألوهية الله أكثر مما يقع في ربوبيته وأسمائه وصفاته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 شبهه حول تقسيم التوحيد والرد عليها هناك سؤال قد يثير بعض الناس، فيقول: إنكم تقولون: إن هناك توحيد ألوهية وربوبية وأسماء وصفات، ولعلنا في الدرس الماضي تكلمنا عن الكوثري وأنه نقد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم، بأنهم هم المبتدعة، وهم الذين جاءوا بتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وربما يتبادر إلى الذهن سؤالاً فيقول الإنسان: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة: ينبغي لك أن توحد الله في ألوهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته، فمن أين جئتم بهذه؟ نقول: إن تقسيمات التوحيد وتسمياته اجتهادية، ولكن أصلها توقيفي، والمسميات والتقسيمات اجتهادية، والعلماء رحمهم الله تعالى عندهم قاعدة يقولون: (لا مشاحة في الاصطلاح بعد فهم المعنى) قسِّم التوحيد كيف شئت، ولكن لا تخرج على ما دل عليه الكتاب والسنة، ومن هنا أصبحنا نعلم أن تسمياته وتقسيماته اجتهادية وأصله توقيفي، ولذلك وجدنا من السلف كما ذكره الإمام ابن القيم وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية أن التوحيد ينقسم إلى قسمين، وقد أومأ إليه الإمام الطحاوي رحمه الله: 1- توحيد الإثبات والمعرفة. 2- توحيد القصد والطلب. ومن العلماء من قسمه القسمة الثلاثية: 1- توحيد ألوهية. 2- توحيد ربوبية. 3- توحيد أسماء وصفات. ومن العلماء من جعله قسماً واحداً. ومن العلماء من جعله ثلاثة أقسام بمسميات أخرى، ونقول: سمه ما شئت ولكن لا تخرج عما دل عليه الكتاب والسنة. ومنهم من يقول: توحيد الرسول وتوحيد المرسِل، دل على أن كل واحد متعلق بألوهية وربوبية وأسماء وصفات، ولا مشاحة في قضية التقسيم ما دام أنه لم يخرج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. بعد أن عرفنا أقسام التوحيد: الإثبات والمعرفة يدخل فيه الربوبية والأسماء والصفات، أما توحيد القصد والطلب فإنما يقصدون به توحيد الألوهية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 منزلة علم التوحيد إن منزلة علم التوحيد عظيمة، ولذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن شرف العلم يدل على شرف المعلوم" ونحن بتوحيد الله تعالى ماذا نتعلم منه؟ نتعرف على الرب سبحانه وتعالى، وعلى أسمائه، وعلى ما يجب علينا، وشرف العلم بشرف المعلوم مادام معلقاً بالرب، فالله له المنازل العليا سبحانه وتعالى في قلوب أهل الإيمان والصلاح والتقوى، وكان تعلم علم التوحيد أفضل العلوم على الإطلاق، كيف لا وقد دلت عليه النصوص الكثيرة. فنقول: مما يدل على شرف هذا العلم: أولاً: أنه أول دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وما من نبي إلا قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف:85] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73] . ثم إنه أول واجب على المكلف، فأول ما يجب على المكلف هو توحيد الله تعالى، بل هو أول ما يدخل به الإنسان إلى الإسلام، فلا يدخل الإنسان إلى الإسلام إلا بتوحيد الله تعالى، ولذلك نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) بدأ بقضية التوحيد، مما يدل على عظم منزلته، وأنه أول ما يدخل به الإنسان إلى الإسلام. قالوا: إنه أول منازل الطريق والسير إلى الله تعالى، ومن سار إلى الله بغير توحيد فلن يعرف الطريق ولم يسر إلى الله حق السير. ثانياً: ومن منزلة التوحيد كذلك: أنه الحياة لكل إنسان، ولا حياة للمسلم أبداً إلا بتوحيد الله تعالى، والله قد ذكره في كتابه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] أي حياة تلك إلا بوقور لا إله إلا الله في قلبه، والعمل بمقتضاه، مما يدل على أن للتوحيد منازل عليا. ثالثاً: ومن منزلة التوحيد: أنه جعل نوراً يضيء القلوب {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} [الشورى:52] وأعظم ما يُهدى إليه الإنسان وينور قلبه به هو توحيد الله تعالى، ولذلك تعتبر قلوب أهل الكفر والشرك مظلمة، أما قلوب أهل الإيمان والتوحيد مضاءة أشد من ضوء الشمس؛ لأنهم يبصرون بتوحيد الله تعالى، ويحصل لهم السعادة في الدنيا والآخرة. رابعاً: ومن منزلة التوحيد: أن الإنسان لا يستغني عنه طرفة عين، وسبحان ربي! إن الإنسان ليتأمل الصلوات، يصلي الفجر وليس علينا صلاة بعدها إلا وقت الظهر وهكذا، والصيام يمر في العام مرة، والحج وهكذا العبادات، لكن توحيد الله لا نستغني عنه طرفة عين، فما نقول: هذا الوقت ليس عندنا توحيد فيه ولا نحتاج إليه أبداً، بل يصبح التوحيد مع الإنسان منذ أن يدخل في دين الله تعالى إلى أن يودع هذه الدنيا وتوحيد الله معه كاملاً. خامساً: ومن منزلة التوحيد: أنه آخر ما يودع به الإنسان الدنيا، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) دل على أن بدايتك توحيد ونهايتك توحيد، بل كل أجزاء حياتك هي توحيدٌ لله تعالى، وأعظم دليل على ذلك قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162-163] حياتك كلها لله، وهكذا وفاتك يجب أن تكون لله؛ ليصبح الإنسان جل وقته وحياته هو لله تعالى. سادساً: قيل: إن التوحيد من منزلته أنه شفاء، كم نجد ممن دخل في دين الله تعالى كان التوحيد شفاء لقلوبهم، نسمع من كثير ممن أسلم سبب توحيده أنه لم يجد في عقائده التي كان عليها شفاء لما في قلبه، ولا إجابة لأسئلة ملحة عليه إلا في توحيد الله تعالى، فالحمد لله على هذا التوحيد، ونسأل الله أن يتوفانا على هذا التوحيد الذي لا نتجاوزه طرفة عين، بل يختم لنا بكلمة لا إله إلا الله. يقول السلف، وذكرها ابن القيم، وتكلم عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن القرآن كله توحيد، وما من جزئية منه تخرج عن توحيد الله تعالى. قالوا: فإن القرآن إما خبر عن الله تعالى وأسمائه، وإما دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعة الله تعالى، وتعتبر تلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرام الله تعالى لأوليائه ولأهل توحيده، وما يفعل الله بهم في الدنيا والآخرة، وإما خبر عن أهل الشرك، وما يكون لهم في الدنيا وفي الآخرة من المعيشة الضنك، ومن العذاب في الدنيا والآخرة، وهذا يعتبر جزاءً لإعراضهم عن توحيد الله تعالى، ولذلك قال سلف الأمة رحمهم الله تعالى: ليس في القرآن شيء ليس مرتبطاً بتوحيد الله، مما يدل على أهمية التوحيد والتركيز عليه. ثم إني أقول: كم نجد من بعض الكتاب المعاصرين يقولون: أشغلتم الناس بهذه القضايا، وفرقتهم الأمة بسبب قضية التوحيد. نقول: لسنا نحن الذين جئنا بهذا المنهج، هو منهج الله ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد فرق الأنبياء بين أبنائهم وبين أنفسهم، وبين أزواجهم وأنفسهم، وجُعل منهجاً التفريق على قضية التوحيد، والوزن بتوحيد الله تعالى، وكلما قرب الإنسان من توحيد الله كانت له المنازل العليا عند الله، وفي دين الإسلام وعند أوليائه، وكلما ابتعد عن توحيد الله؛ ابتعد عن المنهج، ولم يكن على ضوء ما كان عليه سلف الأمة. وإني أقول للأحبة: إننا لفي حاجة إلى نشر عقيدة السلف الصالح، وبيانها للناس، وتوضيحها وتبصير الناس بها، وغرسها في نفوسهم؛ لأنها أصبحت غريبة في المجتمعات الإسلامية. انطلق إلى كثير من المجتمعات تجد القبور قد ضربت أطنابها، عليها القبب، والناس يطوفون جولها، وتجعل لها مزارات، وتعتبر من المتاحف السياحية، يتوجه الناس إليها، ويرجون بركتها ويدعونها من دون الله، وأصبح كثير من المسلمين يحلفون بغير الله ويدعون غير الله، ويعلقون التمائم، ويحصل عندهم من المعالم التي ترى بعضها موصلة إلى الشرك بعينه، ومع ذلك يقول بعض الدعاة: لا تفرقوا الناس على توحيد الله، بل اجمعوهم وإن كانوا على ما كانوا عليه من المعتقد. نقول: لا، نحن ننصح ونوجه، وندل الناس على عقيدة سلف الأمة، وعلى عقيدة أهل السنة والجماعة، نشلاً لهم من هذه الأمراض، والانحرافات، التي نسأل الله أن يرد المسلمين إلى عقيدة أهل السنة رداً جميلاً، وأن يبصرهم بمعتقد سلف الأمة، وأن ينفع بهم. ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الرابع) نسبة اللامية إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أمر مشهور ومنقول عن جمع من أهل العلم، وقد نظم ابن تيمية هذه اللامية بناءً على سؤال ورد إليه، ومن هنا يتضح لنا مدى أهمية السؤال ومكانته، فمن خلاله تستخرج درر العلماء وفوائد الحكماء، وقد وقع للصحابة وقائع متعددة في سؤالهم أعلم الخلق محمد بن عبد الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 صحة نسبة اللامية إلى شيخ الإسلام ابن تيمية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي رزق الهدى من للهداية يسأل الشرح: كنت أتمنى أن أتكلم عن كثيرٍ من المقدمات التي يحتاجها طالب العلم في مسائل الاعتقاد، ولكننا نخشى أن تأخذ وقتاً طويلاً، وربما نُغفل مما أراد شيخ الإسلام بيانه في هذه العقيدة التي ألفها، وتسمى عقيدة شيخ الإسلام رحمه الله تعالى. هذه القصيدة قد عزاها إلى شيخ الإسلام ابن تيمية: الألوسي في جلاء العينين، وممن عزاها إليه الشيخ: محمد خليل هراس رحمه الله تعالى، وممن عزاها كذلك الشيخ: محمد الشيباني في ترجمته لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وقد شرحها أحمد بن علي المرداوي وأومأ إلى أنها تنسب لشيخ الإسلام ابن تيمية في شرحه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 تأليف الكتب بين المختصرات والمطولات إن العلماء رحمهم الله تعالى إذ يؤلفون كتبهم ومصنفاتهم في العقيدة تكون لأمورٍ عدة: أولها: لبيان حاجة الناس في مسألة العلم، وخاصة لنشر العلم الشرعي إذ ينتشر الجهل في مسائل الاعتقاد ويكثر، فعند ذلك يؤلف العلماء كتباً ورسائل يتلقاها الطلاب، ويقومون بنشرها، ويرتفع الجهل عن الناس بسبب ذلك. ثانيها: قد يكون في مسائل الاعتقاد لإبطال عقائد كانت سائدة، كما ألف عدد من سلف الأمة كتباً في الرد على المعتزلة، وكما ألف شيخ الإسلام ابن تيمية منهاج السنة في الرد على الرافضة القدرية، وكما ألف جمع من العلماء في الرد على الأشاعرة، وفي الرد على الماتريدية، فإذا انتشرت طائفة ونحلة ليست على منهاج النبوة، وليست على الكتاب والسنة، شعر العلماء بأن مهمتهم الدفاع عن عقيدة السلف، وإبطال تلك العقائد. وقد يكون السبب في تأليفها إجابة لبعض السائلين، كما هي هذه العقيدة التي بين أيدينا: يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي لقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عدداً من الرسائل بسبب أنه يفد إليه بعض الطلاب والتلاميذ من مناطق متعددة، فيطلبون منه أن يكتب مختصراً لهم، أو كتاباً يرجعون به إلى بلدهم، وذكروا منها العقيدة الواسطية، فإن شيخ الإسلام ابن تيمية كتبها بعد العصر رحمه الله تعالى، وأعطاها لأهل واسط؛ لأنهم سألوه أن يكتب لهم مختصراً في العقيدة يستفيدون منه. مؤلفات العلماء رحمهم الله تعالى تنقسم إلى أقسام: منها ما يكون مختصراً، ومنها ما يكون مطولاً، ومنها ما يكون بين ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 أسباب استحباب تأليف الكتب المختصرة وتأليف العلماء رحمهم الله تعالى للمختصرات يكون لأمور عدة: أولاً: ليسهل على طالب العلم حفظها؛ وذلك نظراً لأن المختصرات تعتبر كالقاعدة لطالب العلم، ويجعلونها هي المنطلق لبداية الطلب. ولذلك قال العلماء رحمهم الله تعالى: من حفظ المتون حاز الفنون، دل على أن أول ما يُقعِّد به طالب العلم هو حفظ المتون، وإني أقترح على المسئولين في هذا المسجد أن يُجعل مسابقة في حفظ بعض المتون، كحفظ الحائية، وكحفظ النخبة، وكحفظ الثلاثة الأصول والأربعين النووية، ولامية شيخ الإسلام، ثم بعد ذلك يجعل هناك ثمة حوافز للتشجيع؛ نظراً لغربة قضية حفظ المتون في عصرنا، ونحن نعيش في عصر يُعلَّم الناس أن أهم شيء هو الفهم، دون أن يكون للطالب تقعيد وتأصيل في علمه، وإن كنا نقول: أصل العلوم كلها وقاعدتها هو حفظ كتاب الله تعالى، ثم بعد ذلك حفظ سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وحفظ ما تيسر من المتون العلمية التي تعتبر تأصيلاً لطالب العلم. ثانياً: تأليف المختصرات لتصبح مرجعاً لطالب العلم على مر العصور كلها، فمهما بلغ العالم رتبة عالية فلا يستغني عن هذه المتون التي حفظها، وسبحان الله! كم نسمع من شيخنا العلامة أمد الله في عمره، يستشهد بـ النخبة، ويستشهد بـ البلوغ، ويستشهد بـ أليفة ابن مالك، ويستشهد بـ الواسطية، ويستشهد بـ كتاب التوحيد وغيره؛ لأنها قواعد، ويصبح الإنسان إذا حفظ هذه المتون كلما وجد علماً من العلوم أو قرأ في فن من الفنون، أصبح عنده قاعدة يمر ما جاءه من العلوم الجديدة على هذه المتون، فيزداد نوراً ومعرفة وإدراكاً وتصوراً، أما إذا كان طالب العلم كما هو حاصل يقرأ طالب العلم في الكتب المطولة، ثم يصبح جمَّاعة لأقوال لا يميز بين الراجح من المرجوح، ولا يميز بين الصواب من الخطأ، ولا يستطيع فرز شيء من هذه العلوم، لا يستطيع أن يجعله أصلاً، ولا يعتبر مكملاً للعلم، يصبح كشكولاً للعلم دون أن يكون علمه رصيناً قوياً، فرحم الله العلماء الذين ألفوا هذه المتون لتصبح تأسيساً لطالب العلم. ونجد الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى ألف كتبه في الفقه: العمدة، ثم انطلق بعد ذلك إلى المقنع ثم إلى الكافي، ثم إلى المغني، بالتدريج، جعل العمدة قاعدة لطالب العلم لحفظه، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الروايتين والثلاث، ثم ينتقل إلى الموسوعة الضخمة وهو كتاب المغني، الذي قال فيه العز بن عبد السلام: من لم يكن عنده أو لم يقرأ كتاب المغني والمحلى لـ ابن حزم فلا يحق له أن يفتي في مسائل العلم الشرعي، هذا فيما يتعلق بقضية المتون والمختصرات. نحن في عصر نؤسس بالمختصرات، لكن كان سلفنا رحمهم الله تعالى لا يحفظون المختصرات فقط، بل يحفظون المطولات، وأظن منذ أكثر من سبع عشرة سنة كنا في حلقة شيخنا عبد الله بن حميد رحمه الله وغفر له وكان يقول: إن ابن مفلح رحمه الله، ألف كتابه الفروع، وكتاب الفروع خمسة مجلدات، ولو نشر بالطباعة المتوسعة يوصل إلى عشرة مجلدات -قالوا: إنه لما ألفه ذكر أنه جرده من كثير من الأدلة ومسائل الخلاف المطولة، قال: ليسهل على طالب العلم حفظه. ونجد الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى -ولعل الإمام ابن كثير استفاد من مدارس الحنابلة- حين تقرأ في البداية والنهاية وتقرأ في تفسيره رحمه الله تعالى، لا تجد حدثاً من الأحداث، بل لا تجد آية من الآيات فسرها إلا وروى لنا فيها أحاديث عن المسند، مما يدل على حفظه لكتاب المسند رحمه الله تعالى، مع أنه اشتمل على أربعين ألف حديث. وإنا لنتأمل ما كتبه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مقدمة أعلام الموقعين، أن الإمام أحمد سئل: أيفتي طالب العلم إذا حفظ مائة ألف حديث؟ قال: لا، قال: أيفتي إذا حفظ مائتي ألف حديث؟ قال: لا، قال: أيفتي إذا حفظ ثلاثمائة ألف حديث؟ قال: إني لأرجو أن يفتي هنا. ولسنا بذلك بل تضعف الهمم في قضية الطلب، ولكن هذا من باب شحذ الهمم لحفظ ما استطاع الإنسان من المتون العلمية وإن كنا نقول: أولها: كتاب الله. وثانيها: سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وثالثها: المختصرات التي ألفها العلماء لطلاب العلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 أسباب تأليف كتب المطولات الطريقة الثانية للعلماء: كتابة المطولات، والمطولات إذ يؤلفها العلماء رحمهم الله تعالى يقصدون من ذلك: نشر العلم والتوسع فيه، وبيان مسائل الخلاف، وعرض العلم بتأصيل وعمق، ونجد عجباً في كتب أهل العلم أن شخصاً واحداً يشرح حديثاً ويستخرج منه ألف مسألة علمية، ومن ذلك ما يوجد في كتابات العراقي كما في طرح التثريب، وكذلك تجد ابن حجر مثلاً في فتح الباري، ومثلها كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتابات الإمام ابن القيم رحمهم الله تعالى فقد تكون مسألة واحدة يسأل عنها العالم فيؤلف مجلدات بسبب هذه المسألة، ولو نظرنا إلى ابن القيم عندما شرح منازل السائرين، وهي مختصر صغير، ولكنه كتب ثلاثة مجلدات ضخمة في شرح هذا المتن الصغير، فرحمه الله تعالى. ومن الأمثلة على ذلك حديث الذي جامع أهله في نهار رمضان، ذكر شيخنا الشيخ: محمد بن صالح العثيمين أن بعض العلماء استنبط من هذا الحديث ألف مسألة علمية، ونقول: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] وهو مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) أي: يعطيه ملكةً لاستنباط مسائل العلم والاستفادة منها. ونقول لطالب العلم: اقرأ في المطولات بعد أن تؤسس نفسك بمسائل المتون وقراءة المختصرات، ونجد عجباً في حال بعض الأحبة من طلاب العلم، فتجده في حال الطلب ربما لم يطلب العلم إلا بعد أن خرجت لحيته، وربما شعر بأنه قد وصل إلى رتبة لا حاجة إلى أن يقرأ في متنٍ صغير، ويبدأ بالكتب المطولة، ويقول: إني أفهم وأعرف ما يقوله هؤلاء العلماء، فلست بحاجة إلى أن أبدأ بالمختصرات التي لصغار طلاب العلم، ولكن نقول: أخطأت الطريق، ولو بلغت ما بلغت من السن فلا بد أن تبدأ بالمتون الصغيرة؛ لأنها قاعدة لطالب العلم ينطلق بعدها إلى ما بعده. وكان مشايخنا رحمهم الله تعالى وغفر لهم يجعلون لطلاب العلم دروساً وملتقيات، يبدءون المبتدئين فيها بالمختصرات، ويجعلون للكبار المطولات، وربما لا يسمحون للمبتدئ أن يحضر المطولات؛ مخافة أن يزهد في المختصرات وفي تأصيلها، ويجد الإنسان إذا رأى أنه جلس مع كبار طلاب العلم فرح وانشرح صدره، وربما بعد شهرين وثلاثة قد يجرؤ على الفتيا فيقول: أنا معهم، والعلم الذي يقوله الشيخ قد سمعته، فلا مجال لأن أحجم عن قضية المواصلة وعن الطلب، ولكن هؤلاء لم يعرفوا الطريق في طلب العلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 السؤال وآدابه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 سؤال الشخص غيره عن معتقده أولاً: نقول: أي شخص يسألك عن معتقدك فهو لا يخلو عن أحد هؤلاء الأشخاص: الشخص الأول: أن يكون معجباً بما أنت عليه من العقيدة والدين، ويريد أن يأخذ منك هذه العقيدة، ولعل مثالاً على ذلك: لو جلس إنسان مع عالم من العلماء الكبار، ثم بدأ يتكلم في مسائل الاعتقاد، تجد أنك تسأل: ما هي عقيدتك؟ وكأنه جاء بأمرٍ مستند إلى كتاب وسنة، ولعل الإمام ابن تيمية كان من أعجب الناس في عرضه لمسائل الاعتقاد. ومن الأمثلة على ذلك: ما ثبت في الصحيح أن عمرو بن عبسة رضي الله عنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عما جاء، فسأله من أنت؟ (قال: أنا نبي، قال: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، قال: وبم أرسلك؟) معجباً، وكان يسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليه، ثم أسلم من لحظته رضي الله عنه وأرضاه. الشخص الثاني: أن يكون حاقداً ولا يريد ذات العلم، وإنما يريد أن يفرز هذا المعتقد الذي جئت به لقصد أن يرد عليك أو يبطل معتقدك، أو يشي بك عند بعض العلماء ليقوموا برد معتقدك، وهذا قد حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وكم حصل له من الحاسدين والحاقدين الذين لم يقبلوا منه، وكانوا يسألونه ويستفهمون منه لا للبحث عن الحق لذاته، وإنما كان قصدهم إبطال ما كان عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. وكم عقدت له من المناظرات بين يدي الخليفة، وكانوا يشون به إلى السلطان، وكم حصل له بسبب ذلك من السجن عدة مرات بسبب عقيدته رحمه الله تعالى، وسبحان الله! كان لا يجلس معهم مجلساً يناظرهم فيه إلا وقف موقف المتحدي لهم أن يأتوا بدليل من كتابٍ أو سنة، أو بقول صحابي، أو بقول أحد من سلف الأمة يخالف ما عليه معتقده، ويلقمهم الحجر، ولكن في قلوبهم من الغيظ والحقد عليه مما كان سبباً لسجنه مراراً بل وموته في السجن رحمه الله تعالى. الشخص الثالث: أن يكون السائل جاهلاً يطلب منك علماً، كما حدث، ليس في قضية العقيدة فقط للنبي صلى الله عليه وسلم مع المسيء في صلاته، قال: يا رسول الله! والله لا أحسن إلا هذه فعلمني، يا رسول الله! دلني، مثلما تأتي إلى بعض الأشخاص فتبين له أو يسألك فيقول: دلني على الخير، دلني على المعتقد الصحيح، دلني على المنهج الذي أسير على ضوئه، فيدل الإنسان. وربما نقول: قد يكون السائل يقصد منه دلالة المسئول إلى الحق، أنت تسأل ويكون مقصودك أن تدل المسئول إلى الحق، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع حصين رضي الله عنه، سأله النبي صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة، ستة في الأرض وواحداً في السماء) ثم دله النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعتقد الصحيح صلوات الله وسلامه عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 فوائد السؤال قاعدة يجب أن نعلمها: السؤال يستخرج به العلم، ولا يستفاد العلم إلا بالسؤال، ولذلك قيل: لا يأخذ هذا العلم ولا يحوزه ولا يصل إليه مستحٍ ولا مستكبر. إن بعض الناس يحضرون إلى حلقات العلم، ولكن الواحد منهم يمكث سنوات عديدة في الحلقة ما سأل سؤالاً واحداً، لِمَ لم تسأل؟ قال: إني أستحي. ولذلك فإن الذي يستحي لا يحصِّل علماً أبداً. ومنهم المتكبر، ولعل قضية التكبر تحصل بين الأقران أو بين الطلاب ليس تكبراً عن العلم، وإنما يتكبر أن يسأل، فربما رد عليه الشيخ بردٍ قاسٍ، أو ربما ضحك الطلاب من سؤاله وعجبوا منه، فيتكبر يقول: سكوتي خير لي من كلامي، وبعد ذلك تمر عليه مسائل عديدة، وإشكالات متعددة، ومع ذلك يبقى على جهله فلا يستفيد شيئاً. لما سئل ابن عباس رضي الله عنه ورحمه: كيف حصلت هذا العلم؟ قال: [بلسان سئول وبقلب عقول] لقد كان ينطلق هنا وهناك يسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل صغير وكبير أشكل عليه، وينبغي لطالب العلم أن يكون دائماً كثير السؤال، ولكن بضوابط، وليس السؤال على إطلاقه. وتذكر كتب الأدب لطيفة من اللطائف والله أعلم بصحتها، أن أبا حنيفة كان مرة بين يدي تلاميذه يشرح لهم ويعلمهم، قالوا: فجاء شخص على هيئة حسنة، وعليه آثار طلب العلم، وكان أبو حنيفة ماداً لرجله، فلما رآه أبو حنيفة كف رجله، فجلس هذا الرجل يسأل، ولعل أبا حنيفة يتكلم عن شهر رمضان وعن أحكامه، ثم سأل هذا السائل ذو الهيئة والسمت: يا أبا حنيفة! أرأيت إذا جاء رمضان في وقت الحج ماذا يعمل الناس، أو قريباً من هذه؟ قال أبو حنيفة: لقد آن لـ أبي حنيفة أن يمد رجله الآن. ظن أنه طالب علم وإذا به جاهل، فما فهم الدرس ولا جاء بشيء يستفاد منه، مما يدل على أن مثل هذه الأسئلة لا يستفاد منها، وينبغي إذا سأل طالب العلم أن يكون السؤال حول العلم الذي يطرح حتى لا يكون كما قال الشاعر: سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 تعريف السؤال في اللغة والاصطلاح السؤال في اللغة: مأخوذ من مادة سأل يسأل سؤالاً، يقال: سألته عن الشيء أي: استخبرته، قالوا: ومن معانيه في اللغة: الطلب، وكأن السائل يطلب من شيخ الإسلام أن يخبره عن معتقده ومذهبه. عُرِّف السؤال: أنه طلب أحد من آخر بذل شيء أو إخباره بخبر، قالوا: فإذا كان الطلب للبذل عدِّي الفعل بنفسه، مثل: أسألك أن تجلس، عدي بنفسه، وإن كان طلباً عن خبر معين من الأخبار عدي بعن مثل كلام شيخ الإسلام: (يا سائلي عن مذهبي) هذا خبر من الأخبار. يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما روي عنه -وإن كان الحديث يضعفه بعض العلماء- وهو حديث صاحب الشجة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما شفاء العي السؤال) والعي: هو الجهل. فإذا كان الإنسان جاهلاً فلا يشفيه إلا أن يسأل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 أنواع السؤال في نصوص الكتاب والسنة يقول الإمام ابن الأثير رحمه الله تعالى: السؤال في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على نوعين: أحدهما: ما جاء على وجه التبيين والتعلُّم مما تمس الحاجة إليه، فهو إما مباح أو مندوب أو مأمور به، فإذا سأل الإنسان عن هذه الأمور لا مانع منه. ولعل من الأمثلة على هذه الأمور: كأن يسألك الإنسان سؤالاً مباحاً، يسألك عن السوق دلني على السوق، هذا سؤال مباح ليس واجباً ولا مستحباً، أو يسألك شخص أن تدله على منزل شخص. وأما بالنسبة للسؤال عن الأمر المندوب، فهو سؤال أن تعلِّمه من سنن النبي صلى الله عليه وسلم؛ من أجل أن يتفقه فيها. وبالنسبة للسؤال عن الأمور الواجبة كالسؤال عن القبلة في البلد، فمثلاً: إخوة قدموا من خارج المملكة، ثم أُسكنوا في مسكن ولا يدرون أين القبلة، هل يعذرون بقضية الاجتهاد؟ لا، بل هذا واجب عليهم أن يسألوا، ومثله لما سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) . ثانيهما: ما كان عن طريق التعنت والتكلف، وهذا مكروه، بل أمر منهي عنه، والله يقول: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] . وقالوا: من الأسئلة التي رد الله على سائليها برد فيه توجيه وتأنيب: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] كأنه ما كان ينبغي أن يسأل عن هذا السؤال {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [النازعات:42-44] قطع الطريق على العقول أن تصل إلى ما تريد من السؤال، ولهذا نصل إلى قاعدة مهمة وهي: ليس كل سؤال يجاب عليه. وأقول للأحبة: إن بعضاً من الناس يكون لديه غيرة ومحبة للدين، وحماساً لنصر دين الله تعالى، فربما يسأل عن أشياء فيتسارع إلى الإجابة عليها، ولذلك ليس كل سؤال يجاب عليه وليس كل سائل يجاب عن سؤاله، فقد يكون السائل متعنتاً لا يريد الحق لذاته، فهنا لا يجاب، وكم سأل الكفار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فسألوه أن ينزل معه ملكاً، وسألوه أن يفجر لهم من الأرض ينبوعاً، وسألوه أن يرقى في السماء ولن يؤمنوا لرقيه حتى ينزل عليهم كتاباً يقرءونه، وسألوه أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً، فهل أجيبوا على ذلك؟ لا؛ لأنهم لم يقصدوا من هذه الأسئلة حقاً. وكذلك بعض الناس يجلس مجلساً ثم يقول: أتريدون أن أرفع ضغط هذا الشخص؟ فيثير عليه سؤالين أو ثلاثة، ثم تكون النتيجة بعدها أن هذا يتحمس وينفعل، وذاك جالس على أريكته يضحك لما يرى من حماسه وغيرته ومحبته لبيان الحق، وهو لم يرد الحق، ولذلك نقول: رويداً في كل سؤال يثار إليك! لا تتفاعل معه، لكن إذا كان الإنسان باحثاً عن الحق مريداً له فيجاب هذا الإنسان على سؤاله. ومن الأسئلة التي لا نجيب عليها، وهي التي نقول: لا يمكن للعقل أن يجيب عليها، ولا نجد في الكتاب والسنة إجابة عليها، ولا نتكلفها أبداً، مثلما حدث من السؤال للإمام مالك رحمه الله تعالى، لما جاءه رجل قال: يا مالك! الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ فقال له الإمام مالك رحمه الله تعالى: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ثم قال: وما أراك إلا مبتدعاً"، فأمر به أن يخرج من الحلقة، ولعل السبب في ذلك أنه قد يوجد من الأشخاص من يثير أسئلة تكون سبباً لدخول الشبه في قلوب الحاضرين، ويصبح الشيخ إما أن يوجه التلميذ إلى الإعراض عن مثل هذه الأسئلة إعراضاً كلياً، أو يقول له: إن كان عندك ثمة سؤال فلا مانع أن تأتي إلي في البيت، أو بعد انتهاء الحلقة، وسل عما بدا لك، فإن علم أنه يريد حقاً أجابه، وإن كان لا يريد إلا باطلاً فليس له إلا أن يطرد من المسجد ومن حلقة العلم. ولذلك فإن الله يبغض الألد الخصم الذي دائماً يجادل ويخاصم، ولقد أثني على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ما سألوا إلا عن بضع عشرة مسألة يستفتون فيها، ونزل الرد والجواب لهم، ولقد كان من أدب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدبهم أنهم كانوا يفرحون بقدوم الأعرابي؛ لأنه يسأل عما بدا له، ولعل بعض الأعراب قد لا يكون عنده حسن تعامل في بعض الأشياء، ولعل من الأمثلة: قد يرفع صوته, وقد يقطع الحلقة ويتكلم، وما أراده يسأل عنه بفطرته، ويريد أن يرفع عن نفسه الجهل، ولعل من أمثلة ذلك في قضية زر بن حبيش حديث صفوان، أن زراً سأل صفوان: (هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهوى شيئاً؟ قال: نعم، جاء أعربي ثم نادى بأعلى صوته: يا محمد! يا محمد! بصوت مرتفع، فقال له الصحابة: اغضض من صوتك فإنك بين يدي رسول الله، قال: والله لا أغض، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فرفع النبي بمثل صوته: هاؤم -أي: هاأنا ما عندك؟ قال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال له الرسول: أنت مع من أحببت، قال: فأنا أحب الله ورسوله) يقول أنس رضي الله عنه: [ما فرحنا بمثل هذا الحديث] أي: لم نجد فرحاً بعد الإسلام أعظم من فرحنا بمثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت مع من أحببت) قال أنس: [فإني أحب رسول الله، وأحب أبا بكر وعمر، وإني لأرجو الله أن أحشر مع هؤلاء] كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم يسألون ويستفتون. من الأمور التي ذكرها ابن الأثير رحمه الله ما كان على طريق التكلف والتعنت فهو مكروه ومنهي عنه، قالوا: فكل ما كان من هذا الوجه، ووقع السكوت عن جوابه، فإنما هو ردع وزجر للسائل {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] هذا فيه ردع {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [النازعات:42] أليس الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله الصحابي قال: (يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا أعددت لها) هل أجابه؟ لم يجبه عن وقتها، هذا يعتبر تأديباً للسائل أن يسأل، قالوا: فإذا وقع الجواب عن السؤال أُعتبر عقوبة وتغليظاً لهذا السائل. لقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن كثرة السؤال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) ولعل السبب في ذلك: أن هذا يخالف الأدب في قضية طلب العلم، أن يصبح الإنسان جالساً في مجلس، فكلما ورد في ذهنه سؤال جاء به، ولهذا قال العلماء: إذا كانت الحلقة متعلقة مثلاً بالفقه فلا ينبغي أن يُسأل عن مسائل في النحو، أو يسأل في مسائل في أصول الفقه، وإنما تكون قريبة، وإذا انتهت الحلقة فلا مانع بعد ذلك أن يسأل الطالب عما بدا له وأشكل عليه، لكن إذا كان حول العلم فإنه ينبغي أن يكون حول المسألة التي طرقت. كان السلف لا يُسألون عن مسألة إلا سألوا السائل: هل وقعت أم لا؟ فإن كانت هذه المسألة وقعت أجابوه، وإن لم تكن وقعت خاصة إذا كانت من الفرضيات، أو كانت من الأمور التي هي معضلة، قالوا: دعوها، فإذا وقعت يقيض الله من يجيب عليها. أذكر لكم من اللطائف: أننا زرنا بعض بلاد الكفر، وكنا ذات مرة نلقي كلمة عن أهمية العلم وطلبه، فسأل أحد الحضور سؤالاً عجيباً غريباً، قال: -وهو في دولة قد غزت النجوم على ما يسمون وغزت الفضاء- كيف يمكن لنا أن نوصل دعوة الله تعالى إلى الذين يسكنون الكواكب هناك ونبلغهم دين الله تعالى؟ وكأن الأرض قد ملئت بالعلم فما نقص علينا إلا أصحاب الكواكب ليجاب عن مسائلهم وإشكالاتهم. هل هذه من أسئلة طلب العلم، نقول: هذا مسكين ينشد خيالاً، فهو لم يؤصل نفسه بالعلم ليستفيد، وما أشكلت عليه إلا قضية الساكنين في الكواكب كيف يمكن أن يوصل لهم العلم، والكفار هم الذين وصلوا إلى الكواكب، ونحن المسلمين لم نصل إليها، أي: يشكو حاله بأنه لم يصل إلى غزو النجوم وغيرها، ونقول: هذا ما عرف كيفية العلم والطلب، وما درى به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 ورع الصحابة في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يتورعون أن يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم في المسائل الواقعة الحادثة خاصة التي يخشون أن ينزل عليهم فيها قرآن، ولعل من الأمثلة: قصة الذي جامع أهله، فذكرت كتب السير وشراح الحديث أنه لما جامع أهله في نهار رمضان جاء إلى قومه، فقال: انطلقوا فاسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أستحي أن أسأله، فقال الصحابة: والله لا نسأل، نخاف أن نسأل فينزل فينا قرآن. فذهب ضيق الصدر خائفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقف بين يديه وهو يقول: يا رسول الله! هلكت. تعبير عظيم جداً، مما يدل على حرقته من الذنب الذي قد عمله، ومن أثر المخالفة التي وقعت في نفسه، وهذا يبين لنا ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنهجهم الفريد عن منهجنا نحن، الصحابي إذا حدث عنده تقصير أو تفريط، يعبر عن هلاكه وحسرته لما فقد من الأجر والثواب، وعن خوفه من عقوبة الله تعالى، ثم سأله صلى الله عليه وسلم: (ما أهلكك؟ قال: يا رسول الله! واقعت أهلي في نهار رمضان) يقول: فكنت أظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيغضب علي، وسوف يسبني وسيتكلم عليّ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعتق رقبة، قال: يا رسول الله! والله لا أجد، قال صم شهرين متتابعين، قال: يا رسول الله! وهل وقعت إلا بسبب الصيام، لم أصبر شهراً كيف أصبر شهرين، فقال له الرسول: أطعم ستين مسكيناً، قال: والله ليس عندي طعام، خرجت من بيتي وما فيه ما آكله، قال له: اجلس، فجلس، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم بمكتل فيه تمر، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: أطعمه ستين مسكيناً فقال: يا رسول الله! أعلى أفقر منا؟ فقال له الرسول: خذه وكله أنت وأهلك) . وماذا كانت النتيجة؟ رجع إلى قومه يسبهم؛ لأنه أراد منهم أن يشفعوا له عند رسول الله فما شفعوا له، قال: ذهبت إلى رسول الله فوالله ما كهرني ولا نهرني ولا سبني، ثم رجع بمكتل سيأكله بقية رمضان رضي الله عنه وأرضاه، جامع أهله في نهار رمضان، وجاء بطعام يكفي ستين مسكيناً رضي الله عنه وأرضاه، مما يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم يتميزون بمزايا وخصائص على سائر الناس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 مفهوم (المذهب) (يا سائلي عن مذهبي) قالوا: المذهب مأخوذ من مادة ذهب، والذهاب هو السير، ذهب أي سار ومر، والمذهب هو المتوضأ كذلك، ولذلك روي في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يقضي حاجته أبعد في المذهب، وذكروا من معاني المذهب: المعتقد الذي يذهب إليه والطريقة. ولذلك كان سلف الأمة يقولون: نحن على مذهب الإمام أحمد في مسائل العقيدة، وقد يطلق المذهب ليس على المعتقد فقط وإنما على مسائل الفروع مذهب الشافعي، مذهب أبي حنيفة، مذهب كذا، هذا يُتلقى بالأحكام الفروعية التي تتعلق بالشرع، أما مذهب هنا فلعله الذي يقصد منه أن يظهر؛ لأنه هو المعتقد، وإن كان الشارح ذكر بأنه مسائل الفروع؛ لأن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يذكر في مسائل الفروع شيئاً، إلا إذا حُمل على أنه في بيت لعله سقط عندكم وهو قول المؤلف رحمه الله: وأقول قال الله جل جلاله والمصطفى الهادي ولا أتأول لكنه يظهر أنه في العقيدة إذا قيل: أن مذهبه رحمه الله في الفروع، ومذهبه في الأصول، أو في مسائل الاعتقاد وفي الشريعة هي: قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم فيكون المعنى صحيحاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 تعريف العقيدة يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 العقيدة في اللغة العقيدة: مأخوذة في اللغة من مادة عقد، ومعاني عقد في اللغة تأخذ معنى: الشد والحزم والربط، ولذلك قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وجاء عقد البيع وعقد الإجارة؛ لأنه قوي، فإذا عقدت مع شخصٍ عقداً لا يجوز لك أن تخلفه، مما يدل على أنه مشدود مقوى، ولذلك نفهم إذا ربط الإنسان حبله سميت عقدة مشدودة، ويقال عن الرجل المنطوي عن الناس: فلان هذا معقد، وإن كان هذا المصطلح أصبح الناس يطلقونه على أهل الصلاح والإيمان والاستقامة. فمن التزم بشرع الله قالوا: معقد، لكن من أطلق نفسه للمحرمات وللمعاصي قالوا: هذا شخصية مندمجة وليست منطوية، هذا الشخص منفتح، كما قال بعضهم: إن جلس مع المغنين غنى، وإن جلس مع المصلين صلى، قالوا: هذه شخصية اجتماعية متطورة تعيش مع جميع شرائح المجتمع، وهذا من الغلط، ويسمى الذي يربط نفسه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم شخصية معقدة، وهذا الكلام باطل وليس بصحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 العقيدة في الاصطلاح ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن العقيدة ترتبط بمسألة القلب، وأي شيء يُعتبر معتقداً للإنسان لابد أن يكون منبعه القلب، سواء كانت العقيدة ضالة أو صحيحة، ولذلك فإن مسائل الاعتقاد منبعها القلب. ولذلك قيل: هي ما يدين الإنسان به ربه. وبعض أهل العلم قالوا: هي ما يدين الإنسان ربه على وجه العموم. وبعضهم قال: هي حكم الذهن الجازم، فإذا طابق الواقع كان صحيحاً، وإذا خالف الواقع كان فاسداً. فمسائل حكم الذهن الجازم في مسائل متعددة، بالنسبة للمؤمن ذهنه جازم بأن الله موجود، وبأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله وهو الصادق، ويصبح هذا معتقداً جازماً لا تردد فيه، فإذا طابق الواقع كان صحيحاً وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد عقيدتنا ولله الحمد صحيحة، لكن إذا جاءنا الشيوعي فقال: لا يوجد إله أبداً، قلنا: الواقع كله يشهد لله، فعقيدتك باطلة لا محالة. ومن العلماء من قال في تعريف العقيدة: هي مثلٌ عليا يؤمن بها الإنسان ويعتقدها ويدين بها، فيضحي من أجلها بماله ونفسه وما يملك، ومن الأمثلة عليها: قضية عرض الإنسان الأخلاق إلى غيره، تجد الإنسان إذا تعرض له في عرضه لا يصبر أبداً إلا إذا كان ديوثاً، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة ديوث) إنسان لا يعرف هذه المثل ولا قيمتها، وجاءت عندنا مثل عليا، فلو دخل علينا شخص الآن، ثم جلس يسب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ هل نسكت؟ تجد أحدنا لن يصبر، هذا سيرميه بمسجلة, وهذا بشيء، وهذا بعقاله، وهكذا فلن نسكت عليه أبداً. السبب: لأن شخصية محمد صلى الله عليه وسلم واجب أن ندافع عنها بمالنا وأنفسنا وكل ما نملك، ولا يمكن أبداً أن نسكت على القائل في محمد شيئاً، وكذا إذا تعلق بسب الرب سبحانه وتعالى، أو دخل شخص يسب ديننا، ويسب عقيدتنا، نحن لا نرتضي منه ذلك أبداً، ولو دخل شخص قال: إنكم على ضلال مبين، وإنكم على انحراف، وأن مصيركم إلى النار، كما تقوله بعض الطوائف المنحرفة روي عن الكوثري أنه كان يقول: جنة يدخلها شيخ الإسلام لا ندخلها نحن!! ومسكين هذا لا يمكن أن نسكت على مثل هذا الأمر، ندافع عنه، ولذا وقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مدافعين عن مسائل الاعتقاد أشد الدفاع، بل نجد أنه لم يشرع الجهاد في الإسلام إلا للدفاع عن قضية العقيدة، وكان الصحابة يفدون رسول الله بأموالهم وأنفسهم وكل ما يملكون، ولعل الأمثلة على ذلك كثيرة، فإن طلحة بن عبيد الله وقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم يدافع، حتى شلت يمينه، وجاء يفتخر بيده الشلاء، ويقول للتابعين: والذي نفسي بيده ما شلت هذه إلا دفاعاً عن نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، واعتبرت منقبة له لا تُنسى إلى يوم القيامة. والصحابي خبيب رضي الله عنه عندما كان يقول: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي والسبب: لأنه دافع عن دين الله تعالى، وعن العقيدة الصحيحة. من التعاريف قالوا: إنها أمور وقضايا لا تقبل الجدال ولا المناقشة، أي: أنها مؤصلة معمقة في القلب لا زعزعة فيها أبداً. ومن الأمثلة البسيطة في مسائل التي تجد أنك جازم بها: لو دخل علينا شخص، ثم أراد أن يشكك في أصلٍ من أصول الإيمان، هل يمكن أن نقول له: اجلس لعل عندك حقاً نسمعه منك، أو خيراً نستفيده منك؟ نقول: لا، مسائل العقيدة لا تقبل الجدال ولا المناقشة؛ لأنها أمور ومسلمات، وكل هذه التعاريف التي ذكرناها تشمل العقيدة الصحيحة الإسلامية والعقائد الأخرى، ولكن هناك ثمة تميز، ولذلك نقول: إن العقيدة هي الأمور التي يعتقدها الإنسان ويعقد عليها قلبه وضميره، وهي تتعلق بما جاء به الله وجاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب، وتعتبر مسائل اعتقاد هنا فيما يتعلق بذات الله تعالى، أصول الإيمان كلها تعتبر من الأصول التي يعقد الإنسان عليها قلبه وضميره، ولهذا اعتبرت متعلقة بالأمور الباطنة بخلاف الإسلام فإنه يتعلق بالأمور الظاهرة. ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الخامس) مصدر عقيدة أهل السنة والجماعة هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف الصالح، وهذه العقيدة لها سمات وخصائص تميزها عن غيرها من العقائد الأخرى؛ من الوضوح والوسطية، والسلامة من التناقض والتعارض والتغيير، كما أنها شاملة لجميع جوانب الحياة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 مصادر العقيدة الإسلامية الحمد لله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. لنا وقفات حول قول المؤلف رحمه الله تعالى: (وعقيدتي) . أولاً: نحن نعلم أن عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هي عقيدة السلف الصالح، وأنه رحمه الله تعالى من أحرص الناس على اتباع سلف الأمة، وما من قول يقوله في مسائل الاعتقاد إلا حرص أن يأتي عليه بنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كان فيه فهم لأحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما دامت عقيدة شيخ الإسلام هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي عقيدة سلف الأمة؛ فإن السلف لهم مصادر في عقيدتهم يعتمدون عليها في أخذهم هذا المعتقد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 القرآن الكريم أول هذه المصادر هو كتاب الله تعالى، وكتاب الله هو العمدة لمن أراد النجاة والوضوح والاعتماد في كل جزئياته صغيرها وكبيرها، واعتبر سلف الأمة الكتاب هو المصدر العظيم الذي يعتمد عليه، والله يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] واعتبر الكتاب هو الموصل لنا للأمور الغيبية التي لا تطلع عليها العقول، فمسائل الاعتقاد فيما يتعلق بذات الرب سبحانه وتعالى، أو فيما يتعلق بالأصول الإيمانية الستة: كالإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتب، والرسل، لا نستطيع الوصول إليها بعقولنا، وإنما بخبر صادق، ولا شك بأن أعظم تلك الأخبار هو كتاب الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 السنة النبوية المصدر الثاني: هو سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] والله قد بين في كتابه أن محمداً: {لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46] دل على أنه لا يمكن أن يأتي بشيء من هواه، وإنما يأتي مبلغاً عن ربه سبحانه وتعالى، ولذلك ما جاءنا عن الله أخذنا به، وما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذنا به؛ لأنه أعلم الخلق بربه سبحانه وتعالى، ولذلك أصبح هو المصدر الثاني عندنا في الاعتماد عليه في مسائل الاعتقاد. ولم تُربط العقيدة بمسائل العقل ليعتبر مصدراً مستقلاً استقلالاً كلياً، ويُعتمد عليه اعتماداً كاملاً، وإنما جعل العقل دالاً لمعرفة الكتاب والسنة، والسبب: لأن العقل مخلوق لله سبحانه وتعالى، فكيف يمكن أن يحكم على ما يتعلق بمسائل الاعتقاد وعلى أخبار الرب سبحانه وتعالى، ثم إن العقول محدودة، وإطارها ضيق، ولا تستطيع التجاوز عن الحد الذي حدها الله لها، وأما من تجاوز بعقله عما خلقه الله عليه فإنه يتخبط في الظلمات ليس بخارج منها. ثانياً: أن العقل ضعيف التأثر، وسرعان ما يتغير الإنسان، يدخل عليك الإنسان بتصور جازم به، ثم تجده بعد ذلك ينطلق إلى آخر فيتغير بمتأثرات وغيرها، ثم يرجع لك بصورة غير الصورة التي دخل عليك بها من قبل، ولهذا عقول الناس تختلف باختلاف المؤثرات والأجواء التي يعيش فيها. سبحان الله! كم من الناس عاشوا في بلاد الإسلام، وكانوا على صفاء ونقاء! ولما انطلقوا إلى بلاد الكفر مسخت عقولهم، وبعضهم تأثروا بما تعلموا به، فجاءوا بأمور جديدة على الناس لم تكن معروفة، مما يدل على أن العقل يتأثر بالمؤثرات التي تحيط به سواء كانت النفس أو الهوى أو التعلم أو غيرها، فلا يمكن أن يكون معتمداً أبداً يعتمد عليه في مسائل الصفات، ولهذا ظل (الفلاسفة) ولئن كان الناس يسمونهم (فلاسفة) ينسبونهم إلى الإسلام، وفي الحقيقة بعضهم لا ينسب إلى الإسلام؛ نظراً لأقواله المنحرفة عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 فهم السلف الصالح وهنا يتميز أهل السنة والجماعة بخصيصة: أنهم يأخذون عقيدتهم على ضوء فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يأتون بفهومهم هم، وإنما يأخذون بفهم الصحابة، وفهم الصحابة هو العمدة؛ نظراً لأنهم عاصروا التنزيل، وأدرى بمقاصد الشرع، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين لهم كل شيء، ولم يترك شيئاً من أمور الدين في مسائل الاعتقاد أو الفروع إلا وقد وضحها لهم، وقد قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) وبذلك كان اعتمادنا على فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتماداً قوياً في مصادر التلقي. ذُكر في مسائل الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وإن كنا قلنا في الدرس الماضي: إن سلف الأمة دائماً ينتسبون إلى الإمام أحمد رحمه الله ورضي الله عنه لما تميز به، فكتب في رسالته لـ عبيد الله بن يحيى كما روى الإمام ابن الجوزي بسنده عن عبد الله ابن الإمام أحمد، قال: كتب أبي إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان يبين له منهجه رضي الله عنه وأرضاه: "لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا، إلا ما كان في كتابٍ أو حديثٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه رضي الله عنهم، أما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود". ونجد أمراً عجيباً وتنبيهاً لطيفاً هنا: مسائل الاعتقاد نجد أنها جاءت تلقينية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1-2] {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1-2] {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:136] {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام:14] {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19] {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [غافر:66] {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا} [الأنعام:71] كلها مسائل عقيدة تلقن الأمة إلى قيام الساعة أن تتمسك بها، مما يدل على أنها توقيفية يُتبع فيها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وبهذا نعلم أن العقيدة هي ما يدين الإنسان به ربه، ويؤمن به في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته. بعد أن أخذنا مصادر العقيدة، ننطلق فنتكلم عما تتميز به العقيدة الإسلامية، ونقول: إنها تتميز بمزايا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 مزايا العقيدة الإسلامية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 أنها من الأمور الغيبية تعتبر العقيدة من الأمور الغيبية، إذ لا نعلم حقائقها وإن كنا نعلم مدلول اللفظ، وإنما ما يتعلق بكيفيتها لا يعلمها إلا الله، نحن نعلم أن لله ملائكة، لكن كيف هؤلاء الملائكة؟ ما طولهم؟ ما لونهم؟ ما مهمتهم (100%) دقيقة؟ ورد لنا أن بعض الملائكة لهم بعض المهمات، والصفات والوظائف، لكن الحقائق والكيفيات لا نعلمها. منها: فيما يتعلق بالرب سبحانه وتعالى، نحن نعلم بأن الله موجود، ونعلم بأن له الأسماء الحسنى والصفات العلى، لكن كيفية تلك الصفات الله أعلم بها كما قال الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" وتصبح هذه الأصول من مسائل الاعتقاد غيبية لا يمكن إطلاقاً أن ندركها إلا على ضوء الكتاب والسنة. العقيدة الإسلامية توقيفية، ويقصد بالتوقيفية أنه يتبع فيها الكتاب والسنة، وهذه من أهم ما تتميز بها، فلم يجعل الله للعقول فيها مجالاً، ولذلك نقول: إنها ليست محطة لاجتهاد أحد من العلماء، وليس لأحد أن يغير مسائل الاعتقاد بوجهٍ من الوجوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 أنها تنتهج الوسطية فلا إفراط ولا تفريط فهي عقيدة وسط، وتتميز وسطية هذه العقيدة بأمور كثيرة، والوسط هنا يقصد به أنها عقيدة بين الإفراط والتفريط، وبين الغلو والتقصير، فليست كالعقائد الأخرى التي فيها نوع من الانحراف والتغيير والزيادة والنقص، ولذلك نجد أن عقيدة أهل السنة والجماعة وسطاً بين الأديان كلها، فاليهود هم الذين وصفوا الله بالنقائص وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] وقالوا قبحهم الله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] . ونجد أنها في المقابل وسط بين طائفة النصارى الذي غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام، ووصفوه بأن أعطوه صفات الرب سبحانه وتعالى، وجعلوا له حق التصرف في الإحياء والإماتة، وله حق التصرف في الكون كله، وأصبح أهل السنة وسطاً بين هؤلاء، فأثبتوا لله الأسماء الحسنى والصفات العلى. وهكذا في مسألة العبودية، فهم وسط بين الدهريين الذين ينكرون وجود الله تعالى بالكلية -وكذلك في عصرنا الشيوعين الذين يقولون: لا إله والحياة مادة- والدهريون الذين قالوا: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} [الجاثية:24] وبين طوائف المشركين الذين عبدوا آلهة متعددة، فقريش عبدت عند الكعبة ثلاثمائة وستين صنماً من دون الله، وجاءت هذه العقيدة (عقيدة أهل السنة والجماعة) لتعلن للناس أن لا إله إلا هو سبحانه وتعالى، وعجبت قريش!! {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7] وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] مستنكرين لهذه الألوهية. وهم كذلك وسط في أمورٍ متعددة، ولقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى على وسطية أهل السنة والجماعة بكلام نفيس، بيَّن فيه أنهم وسط بين الملل السابقة، كما أنهم وسط يبن الطوائف التي تعيش بين ظهراني المسلمين، فهم وسط في أسماء الله وصفاته بين المشبهة والمعطلة، فـ المعطلة نفت الصفات كلياً، وقالوا: إن الله ليس له الأسماء الحسنى ولا الصفات العلى. ووسط بين المشبهة الذين يقولون: إن يد الله مثل يدي، وسمع الله مثل سمعي، قاتلهم الله أنى يؤفكون، فإن هذا أمر لا يجوز لنا بأي وجه من الوجوه، بل لله سبحانه وتعالى الأسماء الحسنى والصفات العلى، ونقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] . ووسط بن القدرية الذين ينفون القدر، وهذا ينطبق على المعتزلة، وكذلك الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على فعله. ووسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الذين يكفرونهم ويجعلونهم خارجين من الإسلام، وبين طوائف تؤله بعض الصحابة وتعظمهم، وتجعل لهم تصريفاً في الكون وتدبيراً، ولذلك أصبح أهل السنة والجماعة وسطاً بين الطوائف المنحرفة، ولسنا بصدد الحصر لوسطية أهل السنة في كثير من مسائل الاعتقاد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 أنها ثابتة لا تتغير على مرِّ العصور والدهور وعقيدة الإسلام لا تتغير على مر العصور والدهور أبداً، وسبحان الله! من عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يأتيه الرجل يريد أن يسلم فيقول له: اشهد بأن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ونحن في عصرنا من أراد الإسلام نأمره بقضية الشهادتين، ونجد عقيدتنا التي كانت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم هي عقيدتنا الآن، بل إن من تمسك بها سيستمر إلى قيام الساعة لا زيادة هناك ولا نقص، ونجد في مقتضى الثبات هذا بمعنى: أنه لا يجوز تطويرها بما يناسب العصور أبداً. وسبحان الله! إنك إن تنطلق إلى تاريخ الكنيسة تجد عجباً، فكلما مر عليهم قرن أو قرنان اجتمع مجلس الكنائس فطوروا العقيدة لتناسب العصر، وما من عصرٍ إلا وتجد فيه تجديداً وتغييراً، أما عقيدتنا فهي ما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ما كان عليها الإمام أحمد رحمه الله، وهي ما كان عليها شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي ما كان عليها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إلى قيام الساعة، ثابتة لا يجوز تغييرها، ولا يمكن أن يزاد فيها ولا ينقص منها. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة إلى قيام الساعة) وذكر شيئاً من خصائصها ومن صفاتها، ونسأل الله أن نكون من هؤلاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 أنها لا تتعارض مع العقل السليم العقيدة الإسلامية لا تتعارض مع العقل السليم أبداً، ولذلك نجد في القرآن آيات تأمر العقل بالتدبر: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه:54] إلى غير ذلك لفتة للعقل بأن يتأمل في هذه الأمور، وأن يتمسك بها، وليس هناك نص يخالف العقل في مسائل الاعتقاد إطلاقاً، ولذلك قلنا: إن الشريعة تأتي بما تحار فيه العقول، لا بما تستحيله العقول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 أنها مبرهن على كل جزئية من جزئياتها عقيدة الإسلام عقيدة مبرهنة، فما من جزئية من جزئياتها إلا ويوجد لها نص من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا قيل لك: اعتقد بهذا الشيء دون أن يوجد نص من كتابٍ وسنة فلا تقبله أبداً، ولذلك لما ذكر الله في سورة البقرة: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111] جاءت: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] أعطونا دليلاً على هذا الشيء؟ ونحن نعلم أن دخول الجنة ودخول النار لا يكون إلا على مسائل الاعتقاد، ولهذا ذكر الله عن اليهود عندما قالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:80] أي: أنه لا دليل لكم ولا حجة، بل إنكم مفترون على الله، فلذلك تتميز العقيدة الإسلامية بأنها عقيدة مبرهنة، تتبع قضاياها وجزئياتها بالحجة الدامغة وبالدليل الناصع الصحيح الثابت الوارد في كتاب الله، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 أنها سالمة من التناقض والتعارض والعقيدة الإسلامية ليس فيها شيء من التناقض والتعارض أبداً، ولذلك لا نجد تعارضاً بين آيات القرآن، ولا بين أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بين جزيئات العقيدة فلا ينقض بعضها بعضاً، بل بعضها يوافق ويؤيد بعضاً، وتسير في بيان معتقد صحيح ثابت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 أنها واضحة ومبينة لجميع الناس العقيدة الإسلامية عقيدة واضحة، وتميز وضوح هذه العقيدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) ولذلك لا نجد في مسائل الاعتقاد شيئاً من الغموض، ولئن وجد عند بعض الناس شيئاً من الغموض، فلعل السبب في ذلك جهل هذا الإنسان بمعتقده وعدم معرفته له، وإلا فإن مسائل العقيدة لا غموض فيها أبداً، كيف يكون فيها نوع من الغموض وهي معتمدة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! ونحن في مسائل الاعتقاد لا نكتم على أحد، ولا يقال لأحد: إنك لم تبلغ الرتبة، فلا يمكن أن تصل إليك هذه المسائل الاعتقادية. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض هذه العقيدة على أبي بكر وعمر كما يعرضها على الأعرابي الذي يتبع الإبل يرعاها وغيره، وهو قد يكون من أقل الناس معرفة ودراية، لم يكتم النبي صلى الله عليه وسلم عقيدته على أحد، بل لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لمن ليس له علم: إنك لم تبلغ الرتبة، انتظر فترة من الزمن حتى تترقى وتصل إلى مرتبة تعرف فيها مسائل الاعتقاد، يأتي النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الجاهل، ومع ذلك يأمره بأصول الاعتقاد والإيمان، ويأتيه سيد القوم وربما العالم، وربما أعلى الناس رتبة، ويعرض عليه أصول الاعتقاد كما يعرضها على هذا وهذا سواء، يأمرهم بتأصيل هذه المسائل الاعتقادية. والعجب أننا نجد في الديانة النصرانية مسائل غامضة، وكم نجد من الناس الذين دخلوا في دين الله تعالى من النصارى وكان سبب إسلامهم: أنهم لا يجدون من الوضوح ولله الحمد كما في مسألة التوحيد والعقيدة عندنا، ويجدون إشكالات وغموضاً في مسائل الاعتقاد عندهم، ولو سألوا أساقفتهم عُتِّب عليهم، ولم يقبل منهم أن يسألوا نظراً لأنها مراتب عندهم. ويشابه النصارى غلاة الصوفية الذين يقولون: إن من سأل منع أو سحبت منه بركة العلم، ولم يستفد من الشيخ، ويقال: إنك لم تصل إلى رتبة، فانتظر حتى يرقيك الشيخ إلى هذا المستوى، وهذا ليس في عقيدة أهل السنة والجماعة، وليس في عقيدة سلف الأمة، بل تعرض العقيدة ناصعة واضحة كالشمس في رابعة النهار لكل من أراد أن يستفيد منها، فهي ولله الحمد واضحة وبينة بياناً كاملاً، ولقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم يرسي معالم العقيدة، ويؤصلها في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن ولله الحمد فيها شيء من الغموض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 أنها تقبلها الفطر السليمة العقيدة فطرية، ويقصد بفطرية هذه العقيدة: أنها لا تعرض على صاحب فطرة سليمة إلا قبل هذه العقيدة قبولاً تاماً ورضي بها، ولم يجد شيئاً من المعارضة في نفسه لهذه العقيدة، بخلاف العقائد الأخرى فكم تجد فيها من الغموض، وكم تجد أن النفوس تنفر منها ولا تقبلها، كما قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما حدثت المناقشة مع النجاشي رحمه الله ورضي الله عنه، قال: كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونئد البنات، ونأتي الفواحش، ونأكل الربا، ونسيء الجوار إلخ، ولكن أتانا الله بهذا الدين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأمر التوحيد، وبحسن الجوار، وبر الوالدين، وبصدق الحديث والأمانة، فقال النجاشي بعد ذلك قابلاً لهذا الدين لأنه على الفطرة، قال: إن هذا الذي أمر به محمد لهو الذي أمر به عيسى وأمر به موسى عليهم الصلاة والسلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 أنها شاملة لجوانب الحياة العقيدة شاملة، ويقصد بها: أنها عقيدة شاملة لجميع جوانب الحياة، وتغذي نفس الإنسان واحتياجه، وإن الإنسان يجد في نفسه فراغاً، ويحتاج إلى شيء من الإجابات على أمور كثيرة، يحتاج إلى الإجابة لماذا خلق في هذه الحياة الدنيا؟ وإلى أين ينتقل إذا مات؟ وما مصيره بعد الموت؟ أسئلة ملحة تحتاج إلى إجابات، ولله الحمد توجد في عقيدة الإسلام واضحة بينة، ولذلك يقول الله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] إلى غير ذلك مما تتميز به العقيدة الإسلامية من النصوع والوضوح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 تميز منهج السلف عن غيره في تقرير العقيدة يتميز سلف الأمة بمنهج فريد على سائر الطوائف كلها، ونجد أن هناك مناهج عديدة فللمعتزلة مناهج، وللخوارج مناهج، ولكل طائفة منحرفة منهج في تقرير مسائل اعتقادها. أول ما يتميز به منهج سلف الأمة في تقرير العقيدة: تحكيم الكتاب والسنة في كل قضية من قضايا الاعتقاد، وعدم رد شيء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولذلك يقول الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] وجعل الله الكتاب والسنة باقيين إلى قيام الساعة يستفيد الناس منهما في مسائل النزاع والاختلاف، وبينه الله سبحانه وتعالى: (ولو ردوه إلى الله والرسول) جاء الأمر بالرد إلى الله والرسول في مسائل الاختلاف. ومنها: الأخذ بما ورد عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل العقيدة، بل في المسائل كلها في الفروع وفي مسائل الأصول، أي: في أصول الإيمان، وفي مسائل التشريع التي وردت من صلاة وزكاة وغيرها. منها كذلك: عدم الخوض في مسائل الاعتقاد مما ليس للعقل فيه مجال، وهي فيما يتعلق بالمسائل الغيبية، فإن العقل له حدود معينة، ومن منهجهم رحمهم الله ورضي عنهم أنهم لا يقحمون العقل فيما لا يقدر عليه أبداً، ولا يجعلون العقل يتجاوز الحدود التي جعلها الله له، فلا يجاوزون الحد الذي حده الله لهم، ولذلك انضبطت عقولهم، وانضبطت قلوبهم وجوارحهم، فلم يوجد عندهم شيء من الانحراف. ومنها كذلك: عدم مجادلة أهل البدع، ويقصد بالمجادلة لأهل البدع في الحدود التي لا يستفاد منها، وليس المعنى: ألا يرد على المبتدعة، وألا يبين بطلانهم، فلقد وقف أئمة أهل السنة رحمهم الله تعالى في وجوه المبتدعة، وألقموهم الحجر، فشيخ الإسلام ابن تيمية كم له من الصولات والجولات، وقبله الإمام أحمد رحمه الله، وكثير من أئمة أهل السنة وقفوا في وجوه المبتدعة مبينين بطلان ما هم عليه، وانحرافهم عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ويقصد بالمجادلة: تلك المجادلات التي تعقد في المجالس العامة، والمناظرات التي يجلس فيها الصغير والكبير، ويسمع لها الذكر والأنثى والعالم وغير العالم، فتلك مجادلات ربما يكون فيها نوع من الخطر، ولقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى وقيل له: ألا تناظر المعتزلة؟ وكان المعتزلة لهم صولات وجولات في عهد الإمام أحمد رحمه الله، وكانت لهم الصدارة في تعليم الناس، وفي الإفتاء، وفي تدريس الناس وغير ذلك، وكانوا يعقدون المناظرات أمام الناس في المساجد وغيرها، ولما قيل للإمام أحمد: ألا تناظرهم؟ قال: "ليس من نقص في قضية المناظرة والمجادلة، وإنما أخشى أن أرد رداً فلا يفهمه بعض الحاضرين فيكون لبعضهم فتنة" أي: أنه يُوجِدُ في قلبه نوعاً من الشكوك، وإلا فإن أئمة أهل السنة قد ألفوا الكتب، وقد ناظروا هؤلاء المبتدعة، وبينوا عوارهم وفضحوهم. ومنها كذلك: عدم مجالسة المبتدعة، ويقصد بالمجالسة: تلك المجالس التي يُطمئن إليها، بل الواجب أن يكون الإنسان بعيداً عن هؤلاء المبتدعة مخافة أن يتأثر بهم، وكم من الناس من تأثر بمجالستهم للمبتدعة، بل أعظم ما يكون من ذلك: ضعف قضية الولاء والبراء في النفوس، مما يؤدي إلى محبة المبتدعة والأنس بهم، والبشاشة في وجوههم، وعند ذلك يضعف في نفسه النصح لهم، ودلالتهم إلى الحق ومناظرتهم، وبيان الحق الذي قد تمسك به، ولقد كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى ينهى عن حضور مجالس الحارث المحاسبي وغيره؛ نظراً لأن لديه شيئاً من مذهب الكلابية، وكان السلف يمنعون من حضور مجالس المبتدعة، مخافة أن يتأثر الناس بفكرهم. كذلك من منهج أهل السنة في تقرير العقيدة: الحرص على جماعة المسلمين ووحدتهم، ولعل ذلك يدل على أن الشيطان إلى الواحد أقرب، لكن من كان مع جماعة المسلمين من علماء الأمة وكبارهم وموجهيهم، ومن المنقادين للحق من العلماء والدعاة وغيرهم كان على الحق، خاصة إذا كان منهج هؤلاء هو الحرص على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. هذا فيما يتعلق بقول شيخ الإسلام: يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 منهج السلف الصالح في مسألة السؤال والإجابة عليه أنبه تنبيهاً لطيفاً في قضية أدب الطلب، ونحن نحتاج إليه، وهو قضية السؤال: ينبغي أن نعلم أن من منهج سلف الأمة في مسألة السؤال والإجابة عليه، أن السلف رحمهم الله كانوا يتورعون في الإجابة على الأسئلة، ولا يستشرفون لها، ولقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وغيره في آداب الطلب أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا سئل أحدهم عن مسألة أحالها على الآخر، كل يحيل على أخيه ليس استشرافاً للفتيا. ونقول للأحبة: ينبغي لك إذا سئلت عن مسألة، إن كان معك أو تعرف الحق فيها كالشمس، فلا مانع من الإجابة، ولكن إذا وجد في المجلس من هو أعلم منك وأحسن منك في التأصيل والتقعيد، فينبغي أن تسكت ولا تستشرف لها، ولهذا روي: (أجرؤهم على الفتيا أجرؤهم على النار) ولأن قضية بيان الحكم كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله وغيره: بيان أن هذا هو قول الله، أو هذا الذي قال به الرسول صلى الله عليه وسلم، والإفتاء في هذه الأمور خطره عظيم؛ لأنه ينسب إما إلى الله في قضية الحكم، أو أن هذا هو قول رسوله صلى الله عليه وسلم، ووجب على الإنسان أن يربي نفسه على قضية التورع في الإفتاء، ولهذا ذكر بعض السلف مبيناً واقعاً كان يعيشه ومحذراً منه: [إنكم لتفتون في أمور لو كانت في عهد عمر لجمع أهل بدر يستفتيهم فيها] . والعجب أن نجد بعضاً من المبتدئين في طلب العلم يفتي في قضية الطلاق بالثلاث، وفي مسائل الحيض، وفي مسائل عظيمة، يعجب الإنسان كيف يجرؤ سمع فتوى وانطلق بها، وليس الأمر بقضية الفتوى أنه عرضها ثم يلقيها، بل إنه يقيس عليها وينظر لها، ويعطي مسائل متعددة استنباطاً من هذه، وما علم أنه ربما يقع في أمرٍ ويخطئ فيه، ويصبح هذا الرجل يتدين لله بغير علم، فأصبح هذا الإنسان قد أضله بدلاً من أن يهديه إلى هذا الأمر. أتذكر قصة من اللطائف وهي قصة مع شيخنا العلامة حفظه الله وأمد في عمره، وأقول للأحبة: كلما ازداد علمك كلما عرفت بأنك على جهل، وتحتاج إلى زيادة علم. أتذكر أني زرت شيخي حفظه الله وأمد في عمره! مع أحد العلماء الكبار الذين يشار إليهم بالبنان، وكنت معه في استفتاء في بعض المسائل، جمعناها لعرضها على شيخنا العلامة، وكانت من المسائل المعضلة. وجاء العالم الكبير الذي جئت معه يعرض على الشيخ بعضاً من هذه المسائل، ثم لما عرض عليه السؤال قال: إننا لم نجد كلاماً لأهل العلم كثيراً، وبضاعتنا في هذه المسألة قليلة، فقال عالم الأمة شيخنا العلامة أمد الله في عمره: كلنا قليل العلم، فوقفت مبهوراً، عالم كبير وفي مصاف كبار العلماء، ومع ذلك يقول: بضاعتنا في هذه المسألة قليلة، وعالم الأمة يقول: كلنا قليل العلم. وأقول للأحبة: إذا كان هذا كلام العلماء الكبار، فمن نحن أمام هؤلاء؟ إن هذا مما يوجب علينا أن نحرص على الزيادة من العلم، وعلى الحرص على القراءة والتحصيل والاستفادة، شحذاً للهمم في المواصلة في الطلب، وهذا هو الواجب علينا أن نسير على ضوئه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 شرح قول شيخ الإسلام: (رزق الهدى) ننطلق إلى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: رزق الهدى من للهداية يسأل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هنا: (رزق الهدى) ولعلنا نشم من قوله: (رزق الهدى) حسن تلطف من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، حيث لم يأنف من هذا السؤال: ما هي عقيدتك أنت؟ بل تلطف به، ويظهر من هذه العبارة أن شيخ الإسلام ابن تيمية يدعو له بالهداية إلى صراط الله المستقيم، وإلى المعتقد الصحيح، وأن الهداية هي بيد الله وحده لا شريك له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 سؤال الهداية من الله تعالى إن السؤال عن الأمر الذي يشكل على المسلم من أعظم أسباب الهداية، ومن أعظم أسباب تحصيل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما شفاء العي السؤال) . وينبغي أن نعلم من قول المؤلف: رزق الهدى من للهداية يسأل أنه ليس كل سؤال يكون سبباً للهداية، وإنما السؤال الذي يكون مقصد الإنسان به معرفة الحق والتمسك به، والحرص على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هؤلاء هم الذين يهدون، ولكن الأسئلة التي كان يطلبها المشركون من محمد صلى الله عليه وسلم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الإسراء:90] {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} [الإسراء:93] تجدها أسئلة لا يريدون منها الحق، فهؤلاء لم يرزقوا الهداية، وينبغي أن نستفيد فائدة وهي: أنه ينبغي للمسلم أن يكون همه وقصده الوصول إلى الحق والبحث عنه، فإذا كانت هذه نيته فإن الله يوفقه ويهديه ويرشده لمعرفة الحق. فائدة أخرى: نقول: إن الهداية لا بد فيها من عمل الأسباب، وليست الهداية تنزل على الناس من السماء، ولذلك نقول للأحبة: قد تأتي لأخٍ لك أو لقريب لك لا يصلي، ثم تقول له: يا أخي اتق الله! صلِّ أدِ الصلاة، فتجد إجابته عجيبة، فيقول لك: يا أخي! احمد الله أن الله هداك وأنا ما هداني، اسأل لي الهداية، يريد أن تنزل عليه الهداية من السماء! لا، ولهذا قال شيخ الإسلام: رزق الهدى من للهداية يسأل من بحث عن الهداية وفقه الله وسدده ودله على الخير. ولهذا لما بحث أبو ذر وعمر بن عنبسة عن الهداية وعن الدين، هداهم الله، لكنهما لو جلسا ولم يسألا ولم يبحثا لم تنزل عليهما الهداية من السماء، بل لا بد ولهذا قال الله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5-7] إذاً لا بد من قضية العمل حتى ترزق الهداية، وييسر الله لك أمورها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 حقيقة الرزق وإيصاله للعباد وفي قول المؤلف رحمه الله: (رزق الهدى) قالوا: الرزق (بالكسر) هو ما ينتفع به، و (بالفتح) هو الإعطاء، وقيل: أصل الرِزق الحظ، ويقال: رزقه الله، أي: أوصل إليه رزقه، ونحن نعلم أن من أسماء الله تعالى أنه الرازق، وهو سبحانه وتعالى يرزق الخلق أجمعين مؤمنهم وكافرهم، وهو الخالق للأرزاق سبحانه وتعالى، وهو معطي الخلائق سبحانه وتعالى هذه الأرزاق، وهو الموصل لها سبحانه، مما يدل على أنها أولاً وأخيراً من الله سبحانه وتعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 أقسام الرزق والرد على المعتزلة يقول العلماء: إن رزق الله ينقسم إلى قسمين: 1- رزق طيب. 2- رزق خبيث. ومنه الكسب الخبيث، هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حلوان الكاهن ومهر البغي، وكسب الحجام بصفة النقص، والعجب من المعتزلة فإنها تقول: إن الرزق الحرام ليس برزق أو إن المال الحرام ليس برزق، وأن الله لا يرزقه؛ بناءً على تأصيلهم في مسألة أصل من أصول المعتزلة الخمسة: وهو العدل، وقالوا: إن الله لا يرزق الحرام أبداً وإنما الله يرزق الحلال، فلو كان الله يرزق الحرام ثم يعذب عليه لكان عندهم ظالماً، وهذا الكلام باطل، والنتيجة قالوا: إن الله عادل، إذاً الله لا يرزق الحرام، وكذلك الله لم يكتب المعاصي على العبد وغيرها من الأصول التي تكلم عليها المعتزلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 تعريف الهداية وحديث القرآن عنها قول المؤلف: (رزق الهدى) قال العلماء رحمهم الله تعالى: الهدى بضم الهاء وفتح الدال: الرشاد والدلالة، وقيل: الدلالة بلطف، وقال ابن سيد الناس: الهدى ضد الضلال، وهو الرشاد والدلالة. سبحان الله! نجد في اللغة العربية بعضاً من الأمور يريد العلماء أن يعرفوها فيأتون بضدها، الليل ضد النهار فقط، ولا يحتاج إلى تعريف، ومثله إذا قالوا في قضية الهدى يقولون: هو ضد الضلال، والضلال ضد الهدى، كأنه من الأمور التي يعرفها الناس ومن الأمور اليقينية. لقد ورد في القرآن آيات كثيرة في مسألة الهدى، والله يقول: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل:12] أي: إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال، وقال سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] أي: بينا لهم طريق الحق وطريق الضلال، وبينا لهم طريق الإيمان وطريق التوحيد، ولكنهم استحبوا الضلالة على الهدى فلم يريدوه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وقيل: إن الذين هداهم الله تعالى إلى الحق: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم. وقال بعضهم: إن من أسماء الله الهادي، قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير سورة الفاتحة، عند قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] قال: الهدى يطلق ويراد به: الإطلاق الأول: ما يقر في القلب من الإيمان، قال: وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله سبحانه وتعالى، ولعلها تسمى هداية التوفيق والإلهام، ويدل على هذا قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ويقول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272] وفي قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] . الإطلاق الثاني: يطلق ويراد به بيان الحق وتوضيحه، والدلالة عليه والإرشاد، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] وهذه تسمى هداية الدلالة والإرشاد، الأولى لا يقدر عليها إلا الله، أما الثانية فهي للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وللدعاة إلى الله؛ لأنهم يدعون الناس ويدلونهم ويرشدونهم إلى الحق، وللعلماء وطلاب العلم وللآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فهم يصفون للناس دلالة الإرشاد، وتوضيح الحق وبيانه، وقد قال الله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] . يجب أن نعلم أن الهدى لا ينزل على الإنسان من السماء، بل لابد من بذل الأسباب، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "سؤال الهداية متضمن لحصول كل خير والسلامة من كل شر. وقال: (إن الهداية هي البيان والدلالة، ثم التوفيق والإلهام، وكأن أول طريق لها البيان والدلالة، قبل أن يحدث للإنسان بيان ودلالة لا يحصل له التوفيق والإلهام، وأصبح لا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام) ، وهذه قاعدة، فلن تستطيع دلالة الناس إلى الحق إلا عن طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهذا أمر معلوم، فمن أراد أن يدل الناس إلى الحق بدون أن يكون مستنده النبوة أو الرسالة فلن يستطيع إيصال الحق إلى الناس، فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب على ذلك هداية التوفيق، وحصل له الفلاح والسعادة بالهدايتين جميعاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 مراتب الهداية ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أن الهداية لها مراتب: المرتبة الأولى: التكليم، وهو أن يكلم الله عبده يقظة بلا واسطة، وهي أعلى المراتب، كما حصل لموسى عليه الصلاة والسلام لما واعده ربه، وكما حصل لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج. المرتبة الثانية: مرتبة الوحي، وهذه تختص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] . المرتبة الثالثة: مرتبة إرسال الملك إليه، وهو إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري، فيوحي الله إليه بما أمر الله أن يوصله إليه، كما كان جبريل يأتي إلى محمد صلى الله عليه وسلم بل جبريل يأتي الأنبياء جميعاً، وهذه المراتب الثلاث يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: إنها خاصة بالأنبياء لا تكون لغيرهم أبداً، وكل هذه المراتب الثلاث قد حصلت لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم. المرتبة الرابعة: مرتبة التحديث، كما حصلت لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان في الأمم قبلكم محدثون، فإنه في أمتي عمر بن الخطاب) رضي الله عنه وأرضاه، قالوا: والمحدث هو الذي يحدث في سره وقلبه في شيء، فيكون كما يحدث به، أي: يقذف الله في قلبه شيئاً فيقول للناس: سيحصل كذا ويحدث كذا، وقد حدثت لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسائل عديدة. لطيفة من اللطائف: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن هذه الأمة ليس فيها محدثون كثير" وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت في الأمم السابقة، ويذكر العلة من ذلك والسبب، قال: استغناء بكمال شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته فلم تحتج إلى محدثين كثير في هذا الأمر؛ لأن الشريعة قد كملت ولله الحمد، فلم يحوج الله الأمة بعد محمد صلى الله عليه وسلم إلى مُحَدَثٍ أو ملهمٍ، أو إلى صاحب كشف كما تقوله الصوفية. المرتبة الخامسة: مرتبة الإفهام، ولهذا ذكر الله في قصة داود وسليمان: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:78] ثم قال الله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] فالفهم نعمة من الله سبحانه وتعالى على عبده، وهو نور يقذفه الله في قلب من شاء فيعرف به ويدرك ما لا يدركه غيره. ومثله قصة ابن عباس رضي الله عنهما عندما كان يجلس في مجالس عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكان عمر يصدره في المجالس، فقال الصحابة الكبار: إن لدينا أبناءً مثله في سنه فلماذا لا يجلسون؟ فسأل عمر عن قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ما تفهمون منها؟ قال الصحابة: إنه إذا فتح على النبي صلى الله عليه وسلم مكة فإنه أمر بالاستغفار، قال: ما تقول يا بن عباس؟ [قال: إن هذا دليل قرب أجل النبي صلى الله عليه وسلم] ففهم ابن عباس فهماً دقيقاً، بمعنى: أنها انتهت الرسالة، وقد كملت مهمة محمد صلى الله عليه وسلم، والآن أمر بقضية كثرة الاستغفار لله سبحانه وتعالى والإنابة إليه. المرتبة السادسة: مرتبة البيان العام، وهو تبيين الحق وتمييزه من الباطل بأدلته وشواهده وأعلامه، ولذلك يقول الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115] فأصبح الإضلال الذي يحدث للناس عقوبة من الله تعالى بعد البيان، أما كون الناس يضلون وليس عندهم وضوح ولا أدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا أمر معلوم، لكن بعد أن يبين لهم يحدث الضلال، ولا شك أن هذا عقوبة؛ لأنهم أعرضوا عما ذكروا به: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] لأنهم هم المنحرفون. وذكروا أن البيان يحدث بأمرين: بالآيات المسموعة وهي القرآن وغيره، وبالآيات المشاهدة، ولعل كثيراً من الناس يصلون إلى الآيات المسموعة ويعرفونها، لكن الآيات المشاهدة لا تحدث لهم، والله يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ويعتبر من الآيات المشاهدة موت العلماء، ولاشك أنها آيات عظيمة، وثلمة تحدث في الأمة، ونقص لا يشعر به ولا يعرف خطره إلا من كان متميزاً وفاهماً. منها: الآيات التي تحدث في الأمم من الزلازل والبراكين وغيرها آيات، من الناس من يتعظ ومن الناس كما قال الله تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] فلا يستفيدون شيئاً. المرتبة السابعة: البيان الخاص: وهو البيان المستلزم للهداية الخاصة، وهي هداية التوفيق والإلهام. المرتبة الثامنة: مرتبة الإسماع، وسنتكلم على مرتبة الإسماع في البيت الثاني والله قد قال في القرآن: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] . ويقصد بالإسماع هنا ليس إسماع الآذان وإنما إسماع القلوب، ولهذا تجدهم يسمعون الآيات ويسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن، لكنهم لا يستفيدون، ولهذا قال الله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] . المرتبة التاسعة: مرتبة الإلهام، والله يقول: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7-8] والمقصود بالإلهام هنا: أن يُجْعَلَ في قلب الإنسان تمييزه بين الحق والباطل، ولعل من الإلهام أن الإنسان إذا أذنب ذنباً سرعان ما يتوب، ويعرف بجرمه وبمعصيته، وبأنه خالف الحق، أو أنه إذا مر في طريق ميز بين أهل الحق والباطل، وميز بين أهل المعصية والطاعة، وميز بين الطريق الذي يأخذه والطريق الذي لا يأخذه، وهذا لا شك أنه نعمة ينعم الله بها على من يشاء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: (اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي) ولهذا يقال: كل مؤمن فإنه قد ألهمه الله رشده، إذ أنه اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وأعرض، وأهل العقيدة الصحيحة ألهموا رشدهم إذ لزموا ما كان عليه سلف الأمة، وأعرضوا عن أقوال أهل البدع وما كانوا عليه. المرتبة العاشرة: الرؤيا الصادقة، ولا شك أن الرؤيا الصادقة جزء من النبوة، وهي أن يراها المسلم أو ترى له، وسبحان الله! تكثر الرؤى في آخر الزمان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول بعثته أول ما بدأ به الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، مصداقاً لرؤيته صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يتميز به النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل هذه كانت من أوائل ما تأتي للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتصبح الرؤى الصادقة للأنبياء إرهاصاً لهم ومقدمات لنبوتهم؛ حتى لا تفجؤهم قضية النبوة، فإنهم يبدءون يرون الرؤى ثم تقع، ثم تتكرر عليهم، ثم تأتي المرتبة التي بعدها حتى ينزل عليهم الوحي، ويؤمروا بقضية التبليغ. أما بالنسبة للمسلمين أو لأفراد الناس فلا يمكن أن نقول: مقدمات للنبوة، بل هي جزء من أجزاء النبوة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يراها الإنسان أو ترى له، وتصبح إذا كانت الرؤيا صادقة. ولعلنا نذكر من اللطائف هنا ونختم بها: الرؤى إما أن تكون أضغاث أحلام، وإما أن تكون رؤى صادقة، فأضغاث الأحلام لا يلتفت إليها أصلاً، والرؤى التي قد تكون صادقة تنقسم إلى قسمين: رؤىً تسر الإنسان ويفرح بها، ورؤىً تسوءه، أما الرؤى التي تسر الإنسان فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم ما يحب، فليحدث من يحب مخافة أن يحسده أحد) مثل الإنسان رأى أنه سلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو رأى أنه دخل الجنة، أو رأى أنه تزوج، أو أنه كسب مالاً، هذه رؤى طيبة، فهذه نقول: يحدث من أحب بها. أما إذا رأى الإنسان ما يكره، مثل أن يرى أنه مقتول، أو أن على رأسه طائر، أو رأى أنه سقط في بئر، من الرؤى المفزعة، أو شخصاً يلحقه بسلاح، فلا شك أن هذه الرؤى تحزن القلب، وقد تؤثر عليه تأثيراً مباشراً. بعض الناس يقوم من النوم وهو يبكي من شدة ما رأى، أو يصيح بأعلى صوته مما رأى، فماذا يعمل المسلم هنا؟ بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أدباً عظيماً، وكان عمر يقول: [إني لأرى الرؤيا فتهمني، أو فتمرضني شهراً من فزعها] ثم دله النبي صلى الله عليه وسلم: أولاً: أن يتحول الإنسان عن موقعه الذي هو عليه، فإذا كان على جنب انتقل على الجنب الآخر، وإذا كان على ظهره انتقل على جهة أخرى. ثانياً: أن يتعوذ بالله من شر ما رأى، وأن ينفث ثلاثاً، ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا يخبر بها أحداً) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تضره بعد ذلك) وفي بعضها أنه يتوضأ ويصلي، ولكن إذا عمل بهذا لا يضره شيء أبداً، وهذا هو هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تكون الرؤى لا شك مفزعة. وينبغي للإنسان ألا يفسرها، ولقد فسر يوسف عليه الصلاة والسلام للذين رأيا رؤيا وهما في السجن، أحدهم رأى أنه يعصر خمراً ويسقي ربه، والآخر رأى أنه يحمل على رأسه خبزاً تأكل الطير منه، فأخبر يوسف عليه الصلاة والسلام بعد أن دعاهم إلى العقيدة الصحيحة: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ} [يوسف:39] ثم بين لهم أن أحدهم يصلب فتأكل الطير من رأسه، لو أُخبر الإنسان بهذا الخبر بأن رأى رؤيا مفزعة وقيل له: إنك ستموت وتقطع إرباً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس السادس) تعددت العلوم وتنوعت، فمنها ما هو مذموم ومنها ما هو محمود، ومن العلوم المذمومة علم الكلام، فقد ورد ذمه عن كبار أئمة الإسلام وعلمائه العظام. وإن من أصول عقيدة المسلمين حب الصحابة أجمعين؛ لأن محبتهم دين وإيمان وبغضهم كفر ونفاق، والشهادة لهم بالفضل والإيمان أصل قطعي معلوم بالضرورة من دين الإسلام، وقد قدمهم شيخ الإسلام في لاميته على الكلام على التوحيد لأسباب مبثوثة في ثنايا هذا الدرس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 شرح قول الناظم: اسمع كلام محقق في قوله الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: اسمع كلام محققٍ في قوله لا ينثني عنه ولا يتبدل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 معاني السمع في اللغة السمع هنا يراد على ظاهره, ويقصد شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بهذا أنه ينبغي لك الإنصات والإصغاء لما سأقوله عن عقيدتي ومذهبي؛ ولأن فائدة السمع هو العمل بالمسموع, فمن سمع الحق ولم يعمل به فهو والذي لا يسمع سواء لا فرق بينهما، وكم من الناس يسمعون وكأنهم لا يسمعون كما سنبين ذلك. رتب الله السماع الذي يؤدي إلى الامتثال والعمل على قضية سماع الحس وهو سماع الأذن وهذا الحكم في الجملة، ولهذا من لا يسمع سماعاً كلياً إطلاقاً يصعب عليه أن يفهم ويعمل، وكانت حاسة السمع من أعظم الوسائل في إيصال المعلومات للإنسان؛ ولأن يفقد الإنسان بصره خير له من أن يفقد سمعه، ولهذا كم نجد من علمائنا من فقدوا البصر، ولكنهم برزوا على الناس كلهم، ولكن لا نجد من العلماء من فقدوا السمع وتميزوا على سائر الناس. وقد يطلق السمع ويراد به غير ظاهره، وإنما هو كناية عن الانتفاع بالمسموع، ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22] وهذا تشبيه للكفار، فإن الكفار صم بكم، أنهم يسمعون ويبصرون ويتكلمون، ولِمَ وصفوا بهذا الوصف؟ الجواب: هذا كناية عن عدم انتفاعهم بما جاءهم من الآيات والنذر، وأنهم كمن لم يسمع شيئاً. ولذلك فإن هذه الآية ظاهرها أن الدابة الصماء البكماء تعتبر أخس الدواب كلها، ولهذا شبهوا بالصم في عدم الانتفاع بما سمعوا به؛ لأنه مما ينبغي على المسلم إذا سمع شيئاً وعرف مدلوله أن ينقاد إليه ويعمله، وشبهوا بالبكم بناءً على انقطاع الحجة في المناقشة وفي العجز عن رد الحق الذي وصل إليهم، وهو مما جاءهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال رب العزة سبحانه وتعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] مع أن عندهم آذاناً يسمعون ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن قصد هنا: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] أي: أن قلوبهم لا تستفيد من الآيات ولا مما جاءهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول الله: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] . جاء المؤلف رحمه الله لما قال: (اسمع) بصيغة الأمر لأن ذلك من أساليب التشويق لما يراد أن يقال بعد هذه الكلمة، فقد سأله عن عقيدته ومذهبه ودعا له بأن يرزق الهداية. قال له: (اسمع) من باب تنبيه الإنسان، مثلما أقول: أيها الإخوة! اسمعوا ما سأقول لكم، ومعلوم أنني ما جلست إلا لتسمعوا أصلاً، فلماذا جئت بـ (اسمع) ؟ من باب جذب قلب السامع، ومن باب تهيئته لما سيلقى إليه، وهذا أسلوب من الأساليب التي تستعمل في لغة العرب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 معنى الكلام والقول قال شيخ الإسلام رحمه الله: اسمع كلام محققٍ في قوله قال أهل اللغة: الكلام هو ما تركب من كلمتين فأكثر، وله معنى مفيد مستقل. قد يتركب الكلام من كلمتين لكن لا يفيد شيئاً ولا يسمى كلاماً، وإنما يسميه أهل اللغة: (القول) كما سيأتي الكلام على ذلك، والكلام يتركب من كلمتين، وأصل الكلام كلمة، والكلمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: اسم، وفعل، وحرف، ومنها يتركب الكلام ويتركب القول. قوله: (في قوله) قال في لسان العرب: القول هو الكلام على الترتيب، وهو كل لفظ قال به اللسان تاماً كان أو ناقصاً، ويدلنا على هذا الكلام ما قاله صاحب اللسان: أن القول أعم من الكلام، الكلام المفيد: قام زيد، هذا كلام مفيد ركب من كلمتين، وله معنىً مفيد مستقل، أما القول فقد يكون من كلمتين بينهما تنافر، وهي في اللغة تعتبر تركبت من كلام اللغة، مثل: قام، صار، لو ركبنا هذا ما تم شيء عندنا، وتعتبر هذه الكلمة لا تفيد شيئاً، وإنما جاء في كتب النحو أن تعريف القول: كل لفظ نطق به الإنسان سواء كان لفظاً مركباً أو لفظاً مفرداً، وسواء كان مفيداً أو غير مفيد، ويُعني بالقول: الألفاظ المفردة التي ينبني منها الكلام. القول له إطلاقات متعددة ومن إطلاقاته: المسائل الاعتقادية، ولهذا تجد العلماء رحمهم الله تعالى يقولون: وهذا قول المعتزلة، وهذا قول الخوارج، دل على أن هذا هو معتقد المعتزلة أو معتقد الخوارج. وقد يطلق ويراد به الرأي، كما يقال: هذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أي: هذا رأي لـ أبي حنيفة رحمه الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 معنى قول الناظم: (محقق) قول المؤلف في مسألة: اسمع كلام محقق قي قوله المحقق قال في اللسان: أحققت الشيء أي: أوجبته، وتحقق عنده الخبر أي: صح، وحقق قوله وظنه تحقيقاً أي: صدق، وكلام محقق أي: رصين. وقالوا: يصل الإنسان إلى مرتبة التحقيق بحيث لا يعتريه شك ولا تردد ولا رجوع عما اعتقده، وهذا يؤخذ من معنى: محقق، أي أن هذا كلام موثق ويقين وجزم لا تردد فيه أبداً، وشيخ الإسلام إذ يعرض عقيدته ليس عنده تردد في مسألة الاعتقاد، بل هو جازم حق الجزم. ولعلنا ننبه هنا تنبيهاً لطيفاً عند قوله: اسمع كلام محقق في قوله لا ينثني عنه ولا يتبدل يقول العلماء رحمهم الله تعالى: إن أهل البدع دائماً لا ينقلبون عن مذاهبهم، ولعل هذا ينطبق على أهل الكلام والنظر، ولقد اتفق سلف الأمة رحمهم الله تعالى على النهي عن الجدال والخصومات على منهاج أهل الكلام والبدع، خاصة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، ونهوا عن ذلك أشد النهي، ولعل السبب في ذلك: أن أهل الكلام والنظر سرعان ما يتقلبون يمنة ويسرة فلا ينضبطون في معتقدهم، والأمثلة على ذلك كثيرة، فهذا الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله قالوا: إنه كان ربيباً عند القاضي أبي علي الجبائي رباه على الاعتزال أربعين سنة، ثم قيض الله له أن أضاء الله قلبه، وكانت النتيجة أن رجع عن مذهب الاعتزال ورد عليهم رداً قوياً، وغير مذهبه إلى الكلابية، ثم بعد فترة انتقل وكتب كتابه (الإبانة عن أصول الديانة) ، وأعلن فيه رجوعه عن معتقد أهل الكلام كله، وقال: إنه في باب الأسماء والصفات يسير على عقيدة الإمام أحمد رحمه الله ورضي عنه، واعتبر الإمام أحمد مرجعاً ورمزاً لـ أهل السنة والجماعة دائماً يعتمدون عليه، ويفخر الإنسان أنه على عقيدة الإمام أحمد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 أنواع العلوم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ناقلاً عن يحي بن عمار: العلوم خمسة: العلم الأول: علم حياة الدنيا، أي: لا تتم حياة العبد إلا به، قال: وهو علم التوحيد، ولا شك أن علم التوحيد هو الحياة الحقيقية، ولا يمكن أن يوصف الإنسان بالحياة الحقيقية حتى يوحد الله تعالى، والله قد قاله في كتابه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] إن الحياة الحقيقية هي بعلم التوحيد. العلم الثاني: علم الغذاء ويسمى غذاء الدين، قال: وهو علم التذكير، ويقصد به التذكير بمعاني القرآن والحديث وغيره، وهذا يرمز له بطلب العلم، إذا عرفت توحيد الله فانطلق لطلب العلم، وإذا طلبت العلم فإنك تتغذى وتنمي الدين الذي عندك. العلم الثالث: علم دواء الدين، والدواء هنا يقصد به علم الفتوى، فإن الإنسان تنزل به نازلة، ويحتاج إلى أن تُكشف عنه بسؤال أو بإشكال يمر عليه أو غيره، ويكون هذا العلم دواء له، ومعالجاً لهذا الداء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما شفاء العي السؤال) . العلم الرابع: علم داء، ولعل هذا كناية عن المرض الذي يصيب الإنسان بسبب طلبه لهذا العلم، قالوا: وهو علم الكلام المحدث الذي نحذر عنه وحذر عنه سلف الأمة، وعلم الكلام المحدث لا شك أن الإنسان إذا خاض فيه انحرف عن دين الله، ولم يهتد للصواب أبداً. العلم الخامس: علم هلاك الدين، قالوا: وهو العلم المتعلق بالسحر ونحوه، كمن يتعلم علوم الباطنية وغيرها من طوائف البدع، ولا شك أن الإنسان إذا تعلم هذه العلوم هلك في دينه ولم يستفد شيئاً، وإن صلى وصام وعمل العبادات كلها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 موقف العلماء من علم الكلام لقد ورد عن سلفنا رضي الله عنهم وأرضاهم ذم أهل الكلام، وممن ورد عنهم الذم: كبار أئمة السلف كالإمام مالك رحمه الله تعالى ورضي عنه، فقد قال: "إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله! ما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان" ليس مقصوده ألا نتكلم ولا نوضح تلك العقيدة، وإنما المقصود هو السؤال عن الكيفيات، وهي التي قال فيها الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" دل على أن أهل الكلام والنظر يبحثون عن هذه الأمور ويتعمقون فيها، مما يكون سبباً لانحرافهم وزيغهم عما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد روى عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله عن الإمام مالك: "لو كان الكلام علماً لتكلم فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم، كما تكلموا في الأحكام والشرائع" ولكنه باطل دل على باطله أنه تركه الصحابة والتابعون؛ لأنه باطل لا يستفاد منه. ولقد سئل الإمام سفيان الثوري رحمه الله: عن علم الكلام؟ فقال: [دع الباطل، أين أنت من الحق؟ اتبع السنة ودع البدعة]] . وقال: [وجدت الأمر في الاتباع]] . وقال: [عليكم بما عليه الحمالون، والنساء في البيوت، والصبيان في الكتاتيب، من الإقرار والعمل]] أي: خذ بعقيدة هؤلاء النساء والصبيان وغيرهم؛ لأنهم أخذوا من المنبع، ولهذا نقل عن الإمام أبي المعالي الجويني والفخر الرازي أنه كان يقول: ليتني أموت على عقيدة عجائز نيسابور، يتمنى أن يموت على عقيدة أمه، دل على أنها عقيدة فطرية، وسيأتي من الأمثلة على ذلك. يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لأن يبتلى المرء بما نهى الله عنه -يعني: من السرقة والزنا وغيره- خلا الشرك، خير له من أن يبتلى بعلم الكلام. ويقول الحسن بن محمد بن الصباح: سمعت الشافعي يقول: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في الأسواق، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ الكلام. ومن الذين ندموا: الإمام الفخر الرازي، ويعتبر الفخر الرازي من كبار أئمة أهل الكلام، فإذا ندم أصحاب أهل الكلام والفلاسفة وغيرهم ورجعوا عن المذاهب الباطلة ثم جاءوا يحذرونا أخذنا بأقوالهم وقلنا: إن أقوالهم حجة. يقول الإمام الفخر الرازي وهو القائل: "ليتني أموت على عقيدة عجائز نيسابور؛ قال في شعرٍ له: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذىً ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا أي: ما جمعنا شيئاً نستفيد منه، وإنما إن قالوا كذا قلنا كذا، وإن قالوا كذا قلنا كذا، ثم قال كلاماً نفيساً: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} [فاطر:10] وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255] ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي". فدل ذلك على أنه تورط بهذه العلوم، وبعد ذلك رجع إلى ما كان عليه. سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن قضية المنطق وغيره، وتكلم عليه وهو علم أهل الكلام وغيره، فقال: إن أكثر ما فيه مما ورد الفطر السليمة تستقل به ولا تحتاج إليه، وقال رحمه الله كلاماً لطيفاً معناه: إن البليد لا ينتفع من علم الكلام، وإن الذكي لا يحتاج إليه أصلاً. إذاً ما فائدة هذا العلم إذا كان البليد لا ينتفع به والذكي لا يحتاج إليه؟ ثم قال: ومضرته على من لم يكن خبيراً بعلوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أكثر من منفعته بهذا العلم، فإن فيه قواعد باطلة لا تنبني لا على عقل صريح، ولا مأخوذة من نص صحيح، ولهذا وقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وقفات من تعلم علم الكلام وغيره. تكلم الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله وعفا عنه في حكم تعلم علم الكلام في مقدمة كتابه: إحياء علوم الدين، وإن كان هذا الكتاب عليه ملحوظات عديدة، ففيه دعوة إلى التصوف، وفيه نشر أشعريته، وفيه أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة ومكذوبة. ذكر حكم تعلم علم الكلام وذكر خلاف الناس فيه، فمنهم من قال: إنه واجب، ومنهم من قال: إنه فرض كفاية، ومنهم من قال: إنه مستحب، ومنهم من قال: إنه محرم وهو قول جمهور السلف في تعلم علم الكلام، والعجب أن نجد كثيراً من الجامعات في بلدان العالم الإسلامي يسمون علم التوحيد: علم الكلام، وهذه التسمية غير صحيحة، بل هي باطلة؛ لأننا نجد سلفنا رحمهم الله تعالى تكلموا على علم الكلام ذامين له، ولم يذكروه من باب المدح. وما يذكر للناس من العقائد ليس منه، وخاصة ما كان موافقاً للكتاب والسنة، وإلا فإن أكثر البلدان تدرس عقائد الأشاعرة، أو عقائد الماتريدية، وبعضها قد تعرض العقائد عرضاً مجملاً، أو تعرضها عرضاً تخير الطالب فيما يشاء مما يختار، سواء يأخذ عقيدة المعتزلة، أو الأشاعرة، أو الماتريدية، أو يأخذ عقيدة سلفية، يجعلون له حرية الاختيار، وهذا ليس بصحيح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 أسباب تسمية علم الكلام بهذا الاسم اختلف العلماء لِمَ سمي علم الكلام بعلم الكلام وإن كانت تسميته هنا ربطاً له بقضية أن التوحيد هو علم الكلام؟ فمنهم من قال: إن كثيراً من الكتب التي كتبت في مسائل الاعتقاد تذكر في مقدمة كلامها على أي جزئية من جزئيات العقيدة: الكلام في رؤية الله، الكلام على نزول الله، الكلام على الجنة، الكلام على النار، قال: فكان يصدر بكلمة الكلام، ولهذا سمي هذا العلم بعلم الكلام. - ومن العلماء من قال: إن السبب في تسميته لأن أكبر قضية وقع فيها النزاع والخلاف وتعتبر من أوائل ما حدث مسألة كلام الله تعالى، وحدث النزاع فيها كثيراً. - ومن العلماء من قال: إن علم العقائد لا يمكن تبيينه للناس إلا بالكلام، وليس علماً سلوكياً عملياً مثل الصلاة، والحج، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خذوا عني مناسككم) إلى غيره، وإنما كان يعرضها على الناس بلسانه صلى الله عليه وسلم ويوضحها لهم في مسائل الاعتقاد. وعلى كل حال فأياً كانت تسميته فإننا نقول: إن علم التوحيد وعلم العقائد لا يسمى بعلم الكلام، وإنما سماه أهل البدع بهذه التسمية، ونحن نسير كما سار عليه سلف الأمة، ولا نأتِ بلفظٍ جديد من عندنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 شرح قول الناظم: لا ينثني عنه ولا يتبدل قول المؤلف رحمه الله تعالى: (لا ينثني) الانثناء في اللغة: هو الانعطاف، ومعناه: أي لا ينصرف عنه ولا يرجع، ومنه ذكروا في كتب اللغة: اثن وجوه الإبل عن الماء، أي: اصرف وجوهها عنه. ومعنى هذا: أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في معتقده الذي سيعرضه، لا ينعطف ولا ينصرف عنه أبداً، بل هو متمسك به، مما يدل على توثقه من معتقده وعدم تردده فيه. (لا ينثني) أي: عن العقيدة، (ولا يتبدل) . قال في القاموس: بدله تبديلاً، أي: حرفه، ويقال: تبدل أي: تغير. قال في اللسان: بدَّل الشيء: غيره، والأصل في التبديل تغيير الشيء عن حاله، ولهذا يقال: بدل هذا الكتاب بهذا الكتاب، أي: غيره، بدل هذا الموضع، أي: غير هذا الموضع. وقالوا: التبديل تغير الشيء عن حاله، والأصل في الإبدال جعل شيء مكان شيء آخر. ومقصود شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أنه لا يبدل مذهب السلف بغيره من المذاهب الأخرى، بخلاف المبتدعة فهم كل يوم يتبدلون عما كانوا عليه ويتغيرون عن معتقدهم الذي هم فيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة ثم قال المؤلف رحمه الله: حب الصحابة كلهم لي مذهب الحب في اللغة: نقيض البغض، والحب هو الوداد، أي: المودة التي تكون في القلب، كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] أي: محبة في قلوب أهل الخير تكون لهم، ولهذا تجدون أهل الصلاح والاستقامة يحبهم أهل الخير، هذا نعتبره من ثواب الله تعالى لأوليائه في الدنيا أن يحبهم الناس، وهو مقتضى الحديث: (إذا أحب الله العبد قال لجبريل: أحبه، ثم جعل له المحبة في السماء، ثم رزق القبول في الأرض) إلى آخره كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين: لا تحد المحبة بحدٍ أوضح منها أبداً، والمقصود بها: أنه يقول: المحبة هي المحبة، بمعنى: أن كل شخص منا يعرف ما هو المقصود من المحبة؛ لأنك تعيشها واقعاً يومياً في كل أجوائك، تشعر بمحبة واضحة لبعض الأشخاص إذ تراهم في بعض المواضع التي تجلس فيها، فالمسجد نحبه، وأهل الخير نحبهم، والقرآن نحبه، والله نحبه، ورسوله نحبه، فلا حاجة لأن تعرف، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فالحدود -أي: التعريف لها- لا تزيد المحبة إلا خفاء وجفاء، قال: فحدها وجودها عند الإنسان، أنت إذا حملت طفلك الصغير عندك له محبة، لا تحتاج إلى أن تعرف المحبة، ولذلك يقول ابن القيم: ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، ومع ذلك ذكر ابن القيم رحمه الله نحو ثلاثين تعريفاً للمحبة، وبين بعض الكلام عليها، وذكر تعاريف الصوفية لها، وتعاريف بعض السلف رحمهم الله تعالى للمحبة وغيرها، ولكن كما قال: لاتحد المحبة بوصف أظهر من المحبة. وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن للمحبة عشر مراتب، -كما في المدارج - وذكر في روضة المحبين أنها قد تصل إلى ستين نوعاً، وغالب ما عرفه لا نعيشه نحن، وإنما يعيشه بعض الناس الذين يعيشون الغرام والحب والهيام وغيره، وذكر أن أعلى مراتب المحبة: العلاقة، وأعلاها وأرقاها وأكملها: الخلة، ولذلك لا تكون الخلة إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم ولإبراهيم عليه الصلاة والسلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ولسنا في صدد الكلام على الخلة وسوف نترك الكلام على ذلك إلى باب الصفات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 تعريف الصحابي الصحابة لغة: من صحِب يصحب فهو صاحب، والجمع: أصحاب، وصحاب وصحبة، ولها في اللغة العربية معانٍ متعددة تدور كلها على الملازمة والانقياد، ولهذا تقول: هذا صاحب لي، أي: ملازم وينقاد لي، إذا كان صاحباً صادقاً، فإذا قلت له: سنذهب إلى مكان كذا لا يردك أبداً، أي: أن بينك وبينه علاقة ومحبة ومودة توجب لك معها الملازمة والانقياد. يقول الراغب في مفرداته: الصاحب الملازم إنساناً كان أو حيواناً أو مكاناً أو زماناً، ولهذا يقول الله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} [الكهف:9] لأنهم لازموا المكان وصاروا أصحاباً له، ولذلك قال الله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [البقرة:82] دل على أنهم في مكان وسموا أصحاباً لها، ونسأل الله أن نكون من أصحابها. والصحابي: منسوب إلى الصحابة، قال الراغب في مفرداته: والصاحب في العرف -أي: في عرف الناس- هو من طالت صحبته وكثرت ملازمته. أما تعريف الصحابي عند المحدثين، فيقول البخاري رحمه الله تعالى ورضي عنه كما في صحيحه: الصحابي هو من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه. يقول الإمام أحمد رحمه الله ورضي عنه في الصحابي: إنه يطلق على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه مجرد رؤية، ولعل من أمثلة الذين رأوه مجرد رؤية الذين حجوا معه في حجة الوداع، لما علم الصحابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيحج وأذن في الناس بأن محمداً صلى الله عليه وسلم سيحج هذا العام قدمت الجزيرة كلها، ما من أحدٍ يستطيع أن يأتي إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم راجلاً -أي: مشياً على قدميه- أو راكباً، إلا وفد، كلهم حرصاً منهم تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمن الصحابة من لم يكن رآه إلا مرة واحدة صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يسمى هذا صحابياً. ذكر الإمام الحافظ ابن حجر في مقدمة كتابه الإصابة أصح التعاريف في هذا الأمر، قال: وأصح ما وقفت عليه في تعريف الصحابي أنه من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على الإسلام، ومعنى: مات على الإسلام لئلا يكون لقي النبي صلى الله عليه وسلم ومات على الكفر، كمثل بعض الذين أسلموا ثم ادعوا النبوة وقتلوا مرتدين، أو الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتدوا بعده، فلا نقول: هذا صحابي، قال: فيدخل فيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ويدخل فيه كذلك من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يرو عنه، ويدخل فيه من غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يغزُ معه صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه من رآه رؤية بصرية أو لم يره ببصره، كـ عبد الله بن أم مكتوم ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم. قال: رآه ببصره ولو لم يجالسه، أو لم يره لعارضٍ كالعمى، وهذا التعريف لا شك أنه أصح التعاريف، وهو الذي رجحه الإمام البخاري، وهو تعريف شيخه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. قال أهل الأصول: إن تعريف الصحابي: كل من طالت صحبته، (قالوا: طالت) والأولون لم يقولوا: طالت أصلاً، إنما يكفي مجرد الرؤية. قالوا: من طالت صحبته مع النبي صلى الله عليه وسلم متبعاً إياه، والأصح عدم تحديد الطول. وبعض العلماء قال: ستة أشهر، وقيل: سنة، وقيل: لا بد أن يغزو مع الرسول صلى الله عليه وسلم. وبعضهم قال: لا بد أن يروي عنه، وإذا لم يروِ عنه لا يُسمى صحابياً، ولكن لا عبرة بما قاله هؤلاء. وقالوا أيضاً: ولا يوصف من جالس عالماً ساعة بأنه من أصحابه. شخص جلس مع شخصٍ لمجرد درس أو كلمة أو إفتاء أو غيره لا يسمى من أصحابه، قال القاضي عياض رحمه الله نقلاً عن الواقدي: إنه يشترط -أي: الواقدي - أن يكون بالغاً، ولكن هذا القول ضعيف وليس بصحيح، لخروج كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصغار الذين شاهدوه ورأوه وهذا القول كما قال الحافظ ابن حجر: قول شاذ. وقال الإمام العراقي رحمه الله: إنه روي عن ابن المسيب: لا يعد صحابياً إلا من أقام مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، أو غزا معه غزوة أو غزوتين، ولا شك أن قول ابن المسيب هنا ضعيف ولا يصح سنده عنه؛ لأنه نقل عن الواقدي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 أسباب ابتداء شيخ الإسلام بقضية الصحابة قبل التوحيد السؤال: عندما قال المؤلف رحمه الله: حب الصحابة كلهم لي مذهب لماذا بدأ شيخ الإسلام ابن تيمية بقضية الصحابة ولم يبدأ بقضية التوحيد؟ الجواب: بدأ بذكر الصحابة لثلاثة أمور: الأمر الأول: أن قضية الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم هي من أول القضايا التي وقع الخلاف فيها، فقد حدثت في عهد عثمان والقدح فيه، فهي تعتبر من أول المسائل العقدية التي حدث الانحراف فيها، ولهذا ركز عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه. الأمر الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم هم الذين نقلوا لنا مسائل العقيدة، وقاعدة: (إذا قدح في النقال قدح فيما نقلوه) إذا قلت لشخص: إنك لا تصدق في حديثك فمقتضاه تلقائياً لا أقبل منك شيئاً، فإذا قدحت في الناقل قدحت فيما نقله، ولهذا بين شيخ الإسلام ابن تيمية كتأسيس القاعدة، وأن المنهج أننا نحب الصحابة ونأخذ كل ما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم. الأمر الثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من أراد أن يأخذ المنهج بحق فليسر على نهج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر الشارح المرداوي رحمه الله أن سبب بداية شيخ الإسلام رحمه الله بقضية الصحابة؛ لأن قضية الصحابة من مسائل الاعتقاد، وأنها إجماعية بين أهل السنة والجماعة، قال: والقرآن والسنة مملوءان بالثناء عليهم، ولذا بدأ بها مصرحة، ومسألة الصحابة رضي الله عنهم والقدح فيهم قدح في الدين. والقدح في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوائل المسائل العقدية التي حدث فيها الانحراف، ثم بين الأمر الثالث أن شيخ الإسلام أراد أن يبين رحمه الله أن الواجب علينا أن نحب الصحابة، وأن نأخذ بمعتقدهم وبمنهجهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم الذين يؤخذ عنهم الاعتقاد، ويؤخذ عنهم فهم الكتاب والسنة دون غيرهم. عندنا مسألة حب الصحابة، قال: (كلهم) جاء بلفظة الكل، وقصد شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن يرد على بعض الطوائف المنحرفة التي تحب بعض الصحابة دون بعض، فطائفة كفرت الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على وجه العموم كلهم، ولم يبق على الإسلام إلا ستة، وبعضهم قال: لم يبق على الإسلام إلا ثلاثة فقط. وطائفة أخرى كفرت بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كـ الخوارج، فبعضهم كفر عمرو بن العاص، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية وعثمان وغيرهم. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: نحن من قوم لا نقدح في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ننتقصهم، ولا نسبهم، ولا نكفرهم، فلا نفرق بين علي ومعاوية، ولا بين عائشة وفاطمة، بل نحبهم كلهم جميعاً رضي الله عنهم وأرضاهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 أسباب محبة الصحابة رضي الله عنهم نقول للأحبة: منهج أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المحبة، وأنه يجب علينا أن نحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبب حبهم لأمور متعددة: أولاً: أن هؤلاء القوم اصطفاهم الله اصطفاءً ربانياً، ولذلك روى أبو داود الطيالسي رحمه الله، عن ابن مسعود قال: [إن الله نظر إلى قلوب العباد فلم يجد قلباً أطيب من قلب محمد صلى الله عليه وسلم فاختاره الله للنبوة، ثم نظر إلى قلوب العباد فلم يجد قلوباً أطيب من قلوب الصحابة إلى قيام الساعة فاختارهم الله لصحبة محمد صلى الله عليه وسلم] فيعتبر ذلك اصطفاء ربانياً، فلم يختر أحداً من العصور القريبة، وإنما اصطفاهم لصحبة هذا النبي الكريم، فجمع الله الطيب مع الطيب، وبناءً عليه نقول: هذا اصطفاء رباني يوجب لهم الحب رضي الله عنهم وأرضاهم. الأمر الثاني: أن الله شرفهم بصحبة محمد صلى الله عليه وسلم، وهنيئاً لقوم رأوا محمداً رؤية واحدة ولو لحظة، ولهذا فإن فضل الصحبة لا يوازيه شيء أبداً من الدنيا، ولذلك ثبت في الصحيح وتكملته في بعض كتب السير أن سعيد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه أحد العشرة المبشرين بالجنة، قالوا: إنه دخل مجلساً وهو في الكوفة، فوجد رجلاً قائماً ويتكلم، ولعل سعيداً رضي الله عنه وأرضاه كان ثقيل السمع، فسأل من حوله: ماذا يقول هذا الرجل؟ قالوا: إنه يسب علي بن أبي طالب، فعجب رضي الله عنه وأرضاه ووقف غاضباً وقال: أشهد بالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة) ثم عد العشرة، ولما وصل إلى العاشر تلكأ لسانه وسكت، قالوا له: يا سعيد! من العاشر؟ قال: قد عدني رسول الله منهم، لم يرد تزكية نفسه رضي الله عنه وأرضاه، بل سكت ورعاً وزهداً رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال قولته المشهورة: [لمقام أحدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تغبر فيها قدماه خير من عمر أحدكم يعمر عمر نوح يعبد الله فيه] . إذاً شرف عظيم من يستطيع أن يقدح فيه. يقول شيخ الإسلام رحمه الله ورضي عنه في الفتاوى: إذا جهل الناس فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تعليمهم تلك الفضائل من دين الإسلام. عجباً لأمة تعرف عن أهل المعاصي والفسق ما لا تعرفه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم!! كم من المسلمين لا يعرفون أسماء العشرة المبشرين بالجنة، مع أنهم يعرفون عشرات بل مئات من أهل المعاصي والفسق، دل على أنه يجب علينا نشر فضائلهم لأجل أن يحب هؤلاء القوم، وقاعدة: أنك لا تحب شيئاً أو شخصاً حتى تعرف ما فيه من المزايا والخصائص، وكلما عرفت عن الشخص شيئاً يرغبك فيه ازددت حباً فيه. الأمر الثالث: نصرتهم لدين الله تعالى، فهؤلاء القوم كان لهم من السابقة العظيمة العجيبة في نصر دين الله تعالى، وقد أثنى الله عليهم: {يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8] وسبحان الله! كم حدث لهم من النصر لدين الإسلام، سواء في المعارك في قتال المرتدين، أو في قتال الكفار، أو من المواقف العجيبة العظيمة، ولهذا قدموا نفوسهم رخيصة في سيبل الله، ولهذا قال الصحابي رضي الله عنه وأرضاه: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي إذا كان في ذات الله تهون النفس، وكم قدم الصحابة من نفوسهم، وذكروا أن في قضية نصرتهم لدين الله تعالى أن عبد الله بن حرام رضي الله عنه وأرضاه في غزوة أحد لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج جاء بابنه جابر بن عبد الله، وقال له: يا بني! والله لولا أنني أحب أن أموت وأقتل في سبيل الله في هذه المعركة لتمنيت أنك تقتل أمام عيني وأنا أنظر في معارك رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو يفدي الإسلام بنفسه ويريد أن يقدم ابنه كذلك، وكل ذلك محبة في نصر دين الله تعالى وإعلاء كلمته، وقصصهم في ذلك تطول بنا، وكم نحن في حاجة إلى أن يعرف الناس الصحابة والجهاد ومواقفهم في جهادهم لإعلاء كلمة الله. الأمر الرابع: صبرهم على أذى المشركين، ولقد صبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أذى المشركين صبراً عجيباً غريباً، وكم حصل لهم من الأذى رضي الله عنهم وأرضاهم. وقد ورد بسند حسن أن عمار بن ياسر وأمه وأباه كانوا يعذبون، فمر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض كتب السير أن عماراً رضي الله عنه قال: يا رسول الله! أكل الدهر هكذا؟ أي: منذ أسلمنا إلى الآن ونحن نعذب، أما ينكشف ما نحن فيه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) فما اشتكى عمار بعده ولا سمية؛ لأنهم صبروا لذات الله تعالى على أذى المشركين، وما كانوا يعاقبون به وكذلك بلال وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مما حدث لهم. الأمر الخامس: هجرهم لأوطانهم وتركها، وما أصعب على الإنسان أن ينطلق من وطنه ويتحول ولعلي أضرب لكم مثالاً بسيطاً: أنت مثلاً وظيفتك في الرياض، فلو حصل للإنسان ترقية في وظيفته، ونقل إلى خارج الرياض لضاقت عليه الأرض بما رحبت، وتكدرت عليه نفسه، وحاول بشتى الوسائل والوسائط؛ لأجل أن يرجع إلى ما ألفه وغيره، ونقول: أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم تركوا بيوتهم وأموالهم، وتركوا عشائرهم في هجرتهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وبعد ذلك كتب الله لهم الأجر العظيم. وميزهم الله بمزايا عجيبة عظيمة، ولعل من اللطائف مما يدل على هجرة الصحابة: أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها كانت ممن هاجرت إلى الحبشة، وما قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا في السنة السابعة من الهجرة في يوم خيبر، ولما قدمت رضي الله عنها سأل عمر بن الخطاب ولعلها كانت في بيته: [من هذه؟ قالوا: أسماء بنت عميس، قال: الحبشية -أي: التي هاجرت إلى الحبشة k:- قالوا: نعم، قال لها عمر مفتخراً: لقد هاجرنا مع رسول الله وقاتلنا فوقفت رضي الله عنها وقالت: إنكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يواسيكم ويطعم جائعكم، ولكننا في أرض البغضاء البعداء]] أي: كأنها تعجب كيف توازن بين هذا وهذا، وغضبت رضي الله عنها، كيف لا يكون لهم من الفضل، وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبره بخبر عمر، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم مسلياً لها: (إن الله كتب لكم هجرتين ولهم هجرة) هاجروا وتركوا، وما أشق على النفس أن يترك الإنسان وطنه الذي ألفه، وهذا يوجب لهم الحب في قلوبنا والتعظيم والإجلال. الأمر السادس: تقديم حب الله ورسوله على كل شيء، أليس قيل لـ خبيب رضي الله عنه وأرضاه لما ربط للقتل: [أتحب أن محمداً مكانك وأنت عند أهلك طليق؟ قال: لا أحب أن محمداً يصاب بشوكة] ودل على أنهم يفدونه صلى الله عليه وسلم من عظيم حبهم، ويعبرون عن الحب: إني أحب الله ورسوله، ويثني عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وعجب لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر لما قدح الصحابة فيه قال: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم، إنه يحب الله ورسوله) مع أنه يشرب الخمر لكنه يحب الله ورسوله، مما يدل على ما يتميز به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر. الأمر السابع: سابقتهم للإسلام، والله سبحانه وتعالى قد أثنى عليهم في غير ما آية لسبقهم للإسلام، وكلما كان الإنسان أسبق كان أعلى رتبة. الأمر الثامن: تبليغ دين الله على أيديهم، ولعل من أعظم ذلك: (من دعا إلى هدى كان له مثل أجره وأجر من عمل به إلى قيام الساعة) وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوا إلى الهدى، وما من خير وصلنا إلا على أكتافهم رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن علم منهم وروى عنهم واستفاد منهم يكون ذلك في ميزان حسناتهم إلى قيام الساعة، وهذا فضل من الله تعالى عظيم جداً، أن يجري الله على أيديهم هذا الأجر العظيم، وهذه المنازل العظيمة. بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً لنا ألا نقع فيهم، حيث قال: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه) والحديث في سنن الترمذي، ورواه الإمام أحمد في مسنده، والبيهقي في الاعتقاد، وقال الإمام الترمذي: حديث حسن غريب. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار) وهذا الحديث في صحيح البخاري. دل على أن من يبغض الأنصار فهو منافق، وأن هذه آية من الآيات التي تدل على نفاق قلبه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة كما أخرجه البيهقي من حديث ابن مسعود: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً لهم: (لا يبغلني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاًَ، فإني أحب أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) أي: يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحبهم. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصار كما في صحيح مسلم من حديث البراء رضي الله عنه وأرضاه: (لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، ومن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله) . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس السابع) ثناء الله على الصحابة الكرام متواتر مشهور؛ لما حازوا من قصب السبق وما نالوا من معالي الأمور والفضل والمعروف والصدق، وموقف أهل السنة فيما شجر بينهم هو الإمساك والكف وترك الخوض، ولقد طعنت طوائف في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كالخوارج والنواصب والروافض وغيرهم من التعساء ممن عدل عن طريقهم ولم يتحقق بتحقيقهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 ثناء الله ورسوله على الصحابة والنهي عن سبهم الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. لا نزال في مبحث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن المتتبع لنصوص الكتاب والسنة يجد أن الأدلة الواردة في فضائلهم منها ما ورد وروداً عاماً بالثناء عليهم جميعاً، كقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] والذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم هم جميع أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) . يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في منهاج السنة: "وإنا لنعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنفقوا المد والمدين وأكثر، ولكننا لم نجد على مر التاريخ من أنفق مثل أحدٍ ذهباً في سبيل الله تعالى" وكأن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يريد أن يقطع الآمال في أن يوجد أفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما لهم المنازل العليا التي أدت للثناء عليهم على وجه العموم. والناظر لسبب ورود هذا الحديث يعلم تلك المزية العظمى التي تميز بها هؤلاء الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم، إذ أن سبب ورود هذا الحديث: أنه اختصم عبد الرحمن بن عوف مع خالد بن الوليد في سلب قتيل، وكان خالد رفض أن يعطي عبد الرحمن بن عوف سلب القتيل، ولعل خالداً رد على عبد الرحمن بغلظة أو بنوع من الشدة، فذهب عبد الرحمن يشتكيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث العظيم: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد) الحديث، وإذا كان هذا الكلام يقال لـ خالد بن الوليد مع أنه ممن أسلم متأخراً وعبد الرحمن بن عوف من السابقين للإسلام، فمن بباب أولى أن يقال لمن بعدهم ممن لم يحصل لهم شرف الصحبة، ولهذا يقول أهل السنة والجماعة: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أفضل الخلق بعد الأنبياء والرسل، بل هم أفضل أتباع الأنبياء على الإطلاق. ولذلك تميزوا بخصائص، فكلهم عدول لئلا يقدح أحد في روايتهم ونقلهم، ولهذا لا يوجد في أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم أفضل من الصحابة، ولا يوجد في الأمم السابقة من أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من هو أفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر مقرر متفق عليه بين أهل السنة والجماعة؛ وذلك لأنهم أنفقوا أموالهم لنصرة دين الله تعالى، وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ثناءً عاماً مطلقاً على هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت لـ عروة بن الزبير: [يا ابن أختي! أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبوهم] والأمر بالاستغفار لهم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر:10] . فمن أول من سبقنا بالإيمان؟ إنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولعل عائشة إنما قالت هذه المقالة: [أمروا بالاستغفار فسبوهم] لأنها سمعت أن أهل العراق أو النواصب يسبون عليّ بن أبي طالب، وكذلك الطائفة الأخرى تسب عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وهؤلاء كلهم من أجهل الناس، فأرادت أن تبين منهجهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وأن الواجب علينا أن نثني عليهم ونستغفر لهم ونترحم عليهم. وورد أيضاً حديث: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) ولكن هذا الحديث ضعيف لا يعول عليه، ولا شك بأن أصحاب رسول الله يؤخذ منهم ويستفاد من علمهم، ويؤخذ من فقههم، وفقههم أرجح من فقه غيرهم كما سنبين ذلك. يقول الإمام السفاريني رحمه الله تعالى في الثناء عليهم على وجه العموم: ولا يرتاب أحد من ذوي الألباب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين حازوا قصب السبق، واستولوا على معالي الأمور من الفضل والمعروف والصدق، فالسعيد من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهجهم القويم، والتعيس من عدل عن طريقهم ولم يتحقق بتحقيقهم، فأي خطة رشد لم يستولِ عليها هؤلاء الصحابة؟! وأي خصلة خير لم يسبقوا إليها رضي الله عنهم؟! تالله لقد وردوا ينبوع الحياة عذباً صافياً زلالاً، ووطدوا قواعد الدين والمعروف، ولم يدعوا لأحد بعدهم مقالاً، فتحوا القلوب بالقرآن والذكر والإيمان، والقرى بالسيف والسنان رضي الله عنهم وأرضاهم، بذلوا النفوس النفيسة في مرضاة الرحيم الرحمن، فلا معروف إلا ما عرف عنهم، ولا برهان إلا ما بعلومهم انكشف، ولا سبيل ولا نجاة إلا لما سلكوه، ولهذا تميزوا بمزايا عجيبة لم تكن في غيرهم من الأمم التي جاءت من بعدهم. ولهذا لما أثني عليهم، ذكروا من سعة علمهم رضي الله عنهم وأرضاهم أشياء، فهم من أفضل الناس على الإطلاق توقداً في الأذهان، وفصاحة في اللسان، وسعة في العلم، وسهولة في الأخذ والإدراك، وسرعة في الاستنباط والفهم، ولا شك أنه لم يوجد لهم في قضايا العرض والطرح معارض منهم، بل كلهم متفقون على الأخذ بالمنهج وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وكانت بذلك أقوالهم أرجح ممن بعدهم، وهذا أمر يتفقون عليه رضي الله عنهم وأرضاهم، إذ أن من بعدهم لن يكون أفقه ولا أعلم منهم، وإذا قلنا للناس جميعاً: من أعلم الناس على الإطلاق؟ قالوا: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا قلنا: من أكثر الناس عبادة؟ قالوا: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا قلنا: من أكثر الناس إنفاقاً في سبيل الله؟ من أكثر الناس جهاداً؟ من؟ من؟ إلى آخره، لن يشيروا بالبنان إلا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تميزوا به، ولهذا أمرنا بالاستغفار والدعاء لهم، وما ذلك إلا لما حازوه من المناقب الحميدة، والسوابق القديمة، والمحاسن المشهورة، ولما لهم من الفضل الكبير لمن بعدهم، فما وصلنا الدين إلا على أكتافهم رضي الله عنهم وأرضاهم، ولذلك أمرنا الله بالاستغفار لهم في غير ما آية: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر:10] . أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم رحمهم الله أن عائشة رضي الله عنها قالت: [أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبوهم] . ونقل الإمام النووي رضي الله عنه ورحمه عن القاضي عياض أنه قال: الظاهر أنها إنما قالت ذلك حين سمعت أهل مصر يسبون عثمان، وسمعت أهل الشام يقدحون في علي بن أبي طالب. يقول ابن عباس رحمه الله تعالى ورضي عنه كما في الشرح والإبانة على أصول الديانة لـ ابن بطة العكبري رحمه الله: [لا تسبوا أصحاب رسول الله، فإن الله قد أمرنا بالاستغفار لهم، وهو يعلم أنهم سيقتتلون] بمعنى أن ما حدث بينهم من الخلاف لا يجيز لنا أبداً أن نتعرض لهم بسب أو نقد أو غير ذلك. وذكروا أن عامر بن شراحيل الشعبي رحمه الله قال: [يا مالك! فُضلت اليهود والنصارى على الطائفة التي تعتقد محبة علي بن أبي طالب وتعظمه وتجله بخصلة وهي: أنها عندما سئلت اليهود: من أفضلكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وسئلت النصارى: من أفضلكم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وسئلت الطائفة التي تدعي محبة علي بن أبي طالب: من شركم؟ قالوا: شرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم] . روى أبو نعيم بإسناده إلى عمر بن ذر قال: أقبلت أنا وأبي إلى دار عامر، فقال لأبي: يا أبا عمر! قال: لبيك، قلت: ما تقول في هذين الرجلين؟ فسأل من هذين الرجلين؟ قال: ما تقول في علي وعثمان؟ قال: والله إني لعلي أن أجيء يوم القيامة خصيماً لـ علي بن أبي طالب وعثمان وقد غفر الله لهما. كيف غفر الله لهما؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد لهما بجنات عدن في غير ما موقف وفي غير ما حدث، وليس في حدث واحد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 موقف أهل السنة والجماعة مما شجر بين الصحابة الكرام ننتقل انتقالة سريعة إلى ما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلي أنقل نصوصاً متعددة وأكثر منها، لأني أشعر أننا جميعاً بحاجة إلى غرس ذلك المنهج في نفوسنا؛ لما نجد من جرأة بعض الناس في التعرض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إما بلمزهم، أو بالسخرية بهم، أو بسبهم، أو بتفسيقهم، وأخطرها تكفير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. نقول: إن مما درج عليه أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحملون في قلوبهم بغضاً ولا غلاً ولا عداوة لهؤلاء الأخيار، كما أن من منهجهم سلامة ألسنتهم من تعرضهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرون أن الواجب الإمساك عما حصل بينهم من نزاع، وما ذلك إلا لأنهم كسائر الناس، ولا نشك بأنه حدث نزاع بين علي ومعاوية، وحدث نزاع كذلك بين علي وبين الزبير وطلحة وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك نقول: أمرنا بالاستغفار لهم مع ما حدث بينهم من النزاع، ومن منهجنا إحسان الظن بهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وواجب علينا جميعاً أن نقف في وجوه هؤلاء الذين يتعرضون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبونهم ويعيبونهم. ويرى أهل السنة والجماعة أن الإشادة بمناقب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمدافعة عن أعراضهم والذب عنها من أعظم واجب على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، بل يرون أن هذا هو معتقدهم ودينهم، وسار أئمة أهل السنة على هذا المسلك وكذلك علماؤهم، متحلين بكتاب الله تعالى كما ورد في قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر:10] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 كلام أئمة أهل العلم فيما شجر بين الصحابة ننقل عن كبار أئمة السلف رحمهم الله تعالى ما قالوه حول ما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ننطلق إلى عظيم من عظمائهم وهو الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فإنه قال: (ومن الحجة الواضحة الثابتة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين، والكف عن مساويهم، والخلاف الذي شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحداً منهم، أو انتقصه، أو طعن عليهم، أو عرض بعيبهم، أو عاب أحداً منهم، فهو مبتدع خبيث مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والإقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة من الفضائل) هذا قول إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله تعالى ورضي عنه. ثم أعطانا المنهج في قضية تفضيل أصحاب رسول الله، وخير الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي بن أبي طالب، هؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون، ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك خير الناس، لا تجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن على أحدٍ منهم بعيب أو نقص. سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن الفتن التي حدثت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] . قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: وأفضل الناس بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام: أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب الفاروق، ثم عثمان بن عفان ذو النورين، ثم علي بن أبي طالب المرتضى رضوان الله عليهم أجمعين، ثم قال: نتولاهم جميعاً، ولا نذكر أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بخير. وقال أبو زرعة رحمه الله تعالى وهو من كبار أئمة أهل السنة، وقد روى الخطيب رحمه الله تعالى في الكفاية في علم الرواية، بسنده إلى أبي زرعة أنه قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، فمن قدح في الصحابة قدح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: والجرح بالقادحين هو أولى، وهم زنادقة بما جرحوا به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا كلام نفيس بديع للإمام ابن بطة العكبري رحمه الله تعالى، ذكره بعد أن ذكر فضائل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قال بعدها: ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شهدوا المشاهد معه صلى الله عليه وسلم، وسبقوا الناس بهذا الفضل، فقد غفر الله لهم، وأمرك بالاستغفار لهم، والتقرب إليه بمحبتهم، وفرض ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم سبحانه وتعالى ما سيكون منهم، وأنهم سيقتتلون، وإنما فضلوا على سائر الخلق جميعاً؛ لأن الخطأ والعمد الذي حدث ووقع منهم كله مغفور لهم رضي الله عنهم وأرضاهم. وهنا يبين المنهج الفريد لهؤلاء، قال: ولا تنظر في كتاب صفين -وقد ألف في معركة صفين كتاباً، وكذلك الجمل، ووقعة الدار، وسائر المنازعات التي جرت بينهم- ولا تكتبه لنفسك أبداً، ولا لغيرك، ولا تروه عن أحد، ولا تقرأه على غيرك، ولا تسمعه ممن يرويه. ومن الخطأ أن تلقى دروس ومحاضرات في خلاف الصحابة رضي الله عنهم، ويعرضون كأنهم كسائر الناس، يقال: إن هؤلاء كانوا على باطل وهؤلاء على حق، ثم يقدح فيهم؛ لأن الإنسان لن يخرج بعد عرض هذه المسائل إلا وفي نفسه شيء على بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، والله قد غفر لهم ورضي عنهم. ولذلك قال ابن بطة العكبري رحمه الله: وعلى ذلك اتفق سادات علماء هذه الأمة على النهي عما وصفناه، ومنهم: حماد بن زيد، ويونس بن عبيد، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن إدريس، وابن أبي ذئب، وابن المنكدر، وابن المبارك، وشعيب بن حرب، وأبو إسحاق الفزاري، ويوسف بن أسباط، وأحمد بن حنبل، وبشر بن الحارث، وعبد الوهاب الوراق، يقول: كل هؤلاء قد رأوا النهي عنها والنظر فيها والاستماع إليها، وحذروا من طلبها، والاهتمام بجمعها، وقد روي عنهم فيمن فعل ذلك أشياء كثيرة بألفاظ مختلفة متفقة المعاني على كراهية ذلك، والإنكار على من رواها واستمع إليها، وهذا يدلنا على ما يتميز به أهل السنة والجماعة في هذا الأمر. وكذلك نقل عن أبي الحسن الأشعري، وأبي عثمان الصابوني، ونقل كذلك عن ابن دقيق العيد، ومما نقل عنه فيما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما نقل في هذا الأمر منه ما هو باطل وكذب، فلا يلتفت إليه، وما كان صحيحاً منه أولناه تأويلاً حسناً؛ لأن الثناء عليهم من الله سابق، وما ذكر من الكلام اللاحق من الأخبار محتمل التأويل أو مشكوك، قال: والموهوم لا يبطل المحقق المعلوم وهو الثناء عليهم رضي الله عنهم وأرضاهم. وهنا كلام نفيس للإمام الذهبي رحمه الله تعالى ورضي عنه. فقد ذكر في سير أعلام النبلاء في المجلد العاشر قال: وقد تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وعن قتالهم، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، قال: ولكن أكثر ذلك إما منقطع أو ضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين أيدي العلماء فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفو القلوب وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين على العامة وآحاد العلماء, وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى. لا يكون إلا للعالم والمنصف ويكون في خلوة بشرط أن يستغفر لهم بعد أن يقرأ كما علمنا الله حيث يقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] . إلى أن قال: فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع منهم من جهاد، وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم، ولا ندعي فيهم العصمة، ثم قال: أما ما نقله من يدعي محبة آل البيت وأهل البدع في كتبهم، فهذا لا نعرج عليه ولا كرامة، فأكثره باطل وكذب وافتراء، فدأب هؤلاء الذين يعظمون آل البيت في رواية الأباطيل، أو رد ما في الصحاح والمسانيد، ثم قال واصفاً لهم: ومتى إفاقة من كان سكران؟! أي: من كان سكران لا يفيق وهو مستمر على قضية السكر. ولقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً طويلاً نفيساً نثره في الفتاوى، وكذلك في منهاج السنة، وذكر ذلك في جل كتبه التي كتبها في العقيدة، سواء الواسطية، أو شرح الأصفهانية، أو غيرها من الكتب العظيمة التي ألفها، لا بد أن يتطرق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبين فضائلهم رضي الله عنهم وأرضاهم. ومما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ونعلم مع ذلك في أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله، لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين قال النبي صلى الله عليه وسلم: تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث دليل على أن مع كل طائفة حقاً، ولكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقربُ إلى الحق من معاوية. قال: وأما الذين قعدوا عن القتال في الفتنة كـ سعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اتبعوا النصوص التي سمعوها في مسألة القتال في الفتن، قال: وعلى هذا أكثر أهل الحديث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 توجيه الآثار التي وردت فيما شجر بين الصحابة ذكر شيخ الإسلام رضي الله عنه منهجاً فريداً فيما ينبغي لنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموقفنا مما ورد من الآثار وما ينبغي لنا، أذكرها على هيئة عناصر استنباطاً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال: أولاً: إن أهل السنة يرون أن الآثار الواردة في مساوئهم وفيما شجر بينهم منها ما هو كذب، وما كان كذباً فإنه لا يعول عليه أصلاً، ولا يعتمد عليه في الحكم أبداً. ثانياً: أن ما ورد من الآثار منه ما قد زيد فيه ومنه ما نقص منه، ولذلك لا يلتفت إليه، ثم قال رحمه الله تعالى: ومنه ما ورد وكان صحيحاً ثابتاً بسنده، فإنهم معذورون فيه رضي الله عنهم وأرضاهم، ووجه العذر أن نقول: إنهم مجتهدون رضي الله عنهم، فمن اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر، فلهم الأجر لا محالة رضي الله عنهم وأرضاهم، أما أنت في نقدك لهم فماذا سيكون لك من الأجر والثواب؟! ثالثاً: من منهج أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا لا نعتقد عصمة أحد من الصحابة عن الكبائر، عن كبائر الإثم ولا عن الصغائر، بل تجوز عليهم الذنوب بمقتضى بشريتهم، وكم سمعنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من زنى، ومنهم من سرق، ومنهم من حدث له من المعاصي رضي الله عنهم وأرضاهم، لكن نقول: ما موقفنا مما حدث لهم؟ نقول: إن لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة هذه الذنوب، وما يصدر عنهم من التي نسميها شيئاً من المعاصي، فإذا كان قد صدر من أحدهم ذنب، فنحن نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم من أسرع الناس توبة وإنابة إلى الله تعالى، ومسارعة إلى الرجوع إلى ربهم، ومن تاب من الذنب فكمن لا ذنب له أصلاً، ونعلم كذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم حسنات، والله يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وحسنات الصحابة ليس كحسنات من جاء من بعدهم، ونعلم كذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد أصحابه بالشفاعة العظمى، وهم أولى من يدخل في شفاعته صلى الله عليه وسلم، فإذا كنا نرجو شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أولى من يدخل في هذه الشفاعة. ثم قال شيخ الإسلام: وإننا نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حصل لهم من الابتلاء في الدنيا ما يكون سبباً لتكفير سيئاتهم، لما نزل قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] جاء أبو بكر وجثا بركبتيه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله! كلفنا بأمور وأطقناها، وجاءنا شيء لا نطيقه، قال: ما ذاك؟ قال: إذا كنا كل سوء سنجزى به متى النجاة يوم القيامة يا رسول الله؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ألست تنصب؟ أليس يصيبك اللأواء؟ ألست تمرض؟ ألست كذا، قال: بلى، قال: فإن الله يكفر عنك بذلك) وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتلوا بلاءً شديداً في مكة والمدينة وغيرها، وكان لهم من السابقة ما يكون سبباً لتكفير سيئاتهم وما حدث منهم من القصور. ونعلم أن ما وقع منهم أنه نزر يسير أمام الفضائل العظمى والمنازل العجيبة التي كانت لهم. وهذا هو الواجب علينا أن نقف فيه، فمما كان من فضائلهم: الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، والهجرة، ونصرة الرسول، والعلم النافع، والعمل الصالح إلى غير ذلك مما تميز به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونقول بعد ذلك: أبعد هذه النصوص من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة أيجرؤ أحد أن يقدح في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لا وكلا! بل نقول: لا ينطلق لسان أحد إليهم إلا لخبثٍ في قلبه، وبدعةٍ في نفسه، وانحرافٍ في منهجه، فأصحاب رسول الله لهم المنازل العليا رضي الله عنهم وأرضاهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 موقف الخوارج من صحابة رسول الله ممن انطلق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قادحاً ولامزاً طائفة الخوارج، وهي من الطوائف التي انحرفت، وكان بزوغ هذه الطائفة قديماً، ولعل هذه من أسرع الطوائف خروجاً في الأمة. وأقول قبل أن أنطلق إلى هذه الفرقة أنبه على بعض الكتب التي يحتاجها طالب العلم في التعرف على الفرق التي ضلت عن صراط الله المستقيم، وينبغي لكل طالب علم أن تكون عنده كمصدر، ولكن الطالب المتخصص ينبغي له أن يقرأ فيها، أما غير المتخصص فينبغي ألا يكثر الاطلاع فيها إلا إذا مرت به فرقة أو طائفة وأحب التعرف عليها أن يجدها. أولاها: كتاب مقالات الإسلاميين، وهو لـ أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى، وهو من أنفس ما كتب عن الفرق. الثاني: كتاب الملل والنحل للإمام الشهرستاني. الثالث: كتاب الفرق بين الفرق، للبغدادي. الرابع: كتاب الفصل في الملل والنحل لـ ابن حزم. هذه الكتب الأربعة تعتبر من أعظم المصادر، وهي من الكتب المتقدمة للتعرف على الطوائف سواء الجهمية أو المعتزلة أو الخوارج، أو الرافضة أو غيرهم من الطوائف التي انحرفت، ولم تحصر جميع الطوائف، لكنها في الجملة أفادت في هذا المجال، وتعتبر من المصادر الأصلية التي يعتمد عليها طالب العلم في التعرف على هذه الطوائف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 حقيقة الخوارج وسبب تسميتهم بذلك يقول: أبو الحسن الأشعري: إن اسم الخوارج يقع على تلك الطائفة التي خرجت على رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وبيَّن أن السبب الذي سموا من أجله خوارج قال: لخروجهم على علي بن أبي طالب لما حكَّم -أي: رضي بقضية التحكيم- وسيأتينا أن الخوارج منهم من كفر علي بن أبي طالب ومنهم من فسقه. ويقول الشهرستاني في تعريف عام للخوارج: كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه فإنه يسمى خارجياً، سواء خرج أيام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأئمة الراشدين، أو خرج على من بعده من الأئمة التابعين لهم بإحسان في كل زمان. ونعلم بعد ذلك أن طائفة الخوارج من الطوائف المبتدعة التي انحرفت عن صراط الله المستقيم. تسمى طائفة الخوارج وتلقب بألقاب متعددة، منها: الحرورية، لنزولهم إلى موقع اسمه حروراء. ويسمون: بـ الشراة لأنهم يقولون: إنا شرينا أنفسنا بطاعة الله، ويقصدون بها أنهم شروا أنفسهم بالجنة يقتلون ويكون مصيرهم إلى الجنة. ويسمون: بالطائفة المارقة، وإن كانت لا تقبل هذا الاسم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية) . ويسمون: الطائفة المحكمة؛ لأنهم أنكروا الحكمين: عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما وأرضاهم في ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 بداية ظهور فرقة الخرواج من العلماء من يقول: إنها بدأت بقضية التحكيم بين علي بن أبي طالب وبين معاوية بن أبي سفيان، وبذلك يربطونها في آخر الخلفاء الراشدين، ولذلك قالوا كلاماً غريباً: إن من وافق على التحكيم واعتبر التحكيم ووافقه فإنه يكون بذلك كافراً، وبناءً عليه كفَّروا علي بن أبي طالب والصحابة الذين كانوا معه، والذين ارتضوا بهذا التحكيم، ولهذا قالوا: إن علي بن أبي طالب خرج من الإسلام بهذا الشيء، ولا شك أن هذا كلام باطل، وكفَّروا كذلك معاوية بن أبي سفيان، ولم يبق أحد من الصحابة رضي الله عنهم مؤمناً بهذا الكلام. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى بعد أن ذكر شيئاً من أخبار الخوارج قال: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم، وقال: وما أحسن ما قاله بعض السلف فيهم، لما سئل عن الخوارج؟ فقال عنهم: إنهم المذكرون في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:103-105] . يقول: وبالقول الثاني، كما قاله العلامة ابن الجوزي رحمه الله تعالى في تلبيس إبليس، وكذلك نقل عن ابن حزم، ونقل عن الشهرستاني: إن أول خروج الخوارج وأولهم وأقبحهم حالاً ذو الخويصرة التميمي، إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اعدل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل) قالوا: فيعتبر ذو الخويصرة التميمي هو أول خارجي في الإسلام، وآفته أنه رضي بعقله وحكمه، ولم يأخذ بما قسم به النبي صلى الله عليه وسلم. القول الثالث: أنهم قالوا: بدأت الخوارج في عهد عثمان رضي الله عنه وأرضاه لما خرجوا عليه وقتلوه واستحلوا دمه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 طعن الخوارج في الصحابة الخوارج طعنوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعون، والعجيب أن لهم منهجاً يتميزون عن الطائفة التي تدعي موالاة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: من حسنات الخوارج أنهم أقروا بإمامة أبي بكر وعمر، ولم يتعرضوا لهما أبداً، ورأوا أن إمامتهما شرعية ورضوا بها، وأن أبا بكر وعمر سارا على الصراط المستقيم، وإنما حدث ما حدث في عهد عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فأنكروا إمامته مع أن العصر الذهبي للأمة المسلمة كان في عصر عثمان رضي الله عنه وأرضاه، إذ عاش أكثر من اثنتي عشرة سنة أو قريباً من ذلك، وكانت عشر سنين من خلافته نصراً وتمكيناً ورخاءً ورغداً، وإنما نقد عليه في آخر حياته، ولم ينظروا إلى ما قدمه رضي الله عنه وأرضاه من الأعمال العظيمة التي لا تُنسى إلى قيام الساعة، ونقدهم هذا لا شك أنه باطل، والله قد أثنى على أصحاب رسوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وفي آيات شهد الله لهم بالإيمان: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68] ولا تنطبق هذه الآية إلا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك من ثناء الله على رسوله وعلى أصحابه مما يرد بها على الخوارج في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7] فأعظم ما تنطبق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تميزوا به. ومن مطاعنهم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة على علي، يقول نافع بن الأزرق وهو من كبار الخوارج: إن علي بن أبي طالب قد كفر وافترى على الله تعالى، وأن الله أنزل في شأن علي بن أبي طالب قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204-205] وقبح الله هذا الخارجي كيف يقول هذا الكلام في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه! وذكر أن هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل علي بن أبي طالب: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] وهذا الكلام باطل، بل هذا من الانحراف عن منهج الله. لقد وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تحذر من هؤلاء الخوارج وتبين انحرافهم، منها: ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم مالاً، إذ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من تميم، فقال: يا رسول الله! اعدل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويلك! ومن يعدل إن لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أعدل؟ فقال خالد: يا رسول الله! ائذن لي لأضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) . وقد بين أبو سعيد الخدري رضي الله عنه بعد أن روى الحديث قال: [فأشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قاتلهم وأنا معه] ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامة هؤلاء الخوارج رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة وتتدردر، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يخرجون على حين فرقة من الناس. وبين النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن المسلم لا ينبغي له أن يغتر بالشخص مهما كثرت صلاته وعبادته وطاعته واستقامته, وإنما العبرة بالمنهج الذي يسير على ضوئه، وكم من الطوائف نشاهدها في واقعنا إذا ذكروا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سيرة علي بن أبي طالب أو غيره من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بكوا بكاءً مراً، وذرفت أعينهم، وأنفقوا ومع ذلك ينطبق عليهم قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:2-4] دل على أنه لا ينخدع الإنسان بكثرة العبادة ولا غيرها. ولهذا لما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج قال: (هم شر الخلق أو من شر الخليقة، تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق) وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن في وجوههم مثل ركب المعز من كثرة السجود، وينفقون، ولو سمع الإنسان خطب الخوارج لوجد أنهم يتكلمون بقوة، ويَبكون ويُبكون من حولهم، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة وهم أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم) إلى غير ذلك مما يبين أنهم ليسوا على الحق مع كثرة ما يعملون من الطاعات والعبادات. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم من صفاتهم: أنهم لا يسمعون الحق ولا يهتدون، ولما سئل عبد الرزاق عن معمر، عمن سمع الحسن لما قتل علي بن أبي طالب الحرورية، قال: [من هؤلاء يا أمير المؤمنين؟ أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، فمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً، قيل: فما هم؟ قال: قوم أصيبوا بفتنة فعموا فيها وصموا] أي: أصيبوا بفتنة ثم أصبحوا يتخبطون فما يدرون أين يتوجهون. ولقد نقل عن أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه: لما أتي برءوس الأزارقة وهم من الخوارج، فنصبت على درج دمشق، جاء أبو أمامة فقال لهم مشيراً وقد دمعت عيناه لما رأى حالهم: [كلاب النار كلاب النار، هؤلاء لشر القتلى قُتِلُوا، وخير القتلى الذين قتلهم هؤلاء القوم] ثم قيل: فما شأنك؟ لِمَ بكيت وذرفت عيناك بالدمع؟ يقصدون أبا أمامة صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [رحمة لهم إنهم كانوا من أهل الإسلام، قال: أقلت برأيك أن هؤلاء كلاب النار أو شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني إذاً لجرئ، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، ولا اثنتين ولا ثلاث، فعدد مراراً، ثم تلا قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] حتى بلغ قوله تعالى: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107]] ونعوذ بالله أن نكون من هؤلاء وأن يتشبه الإنسان بمثل حالهم، وصفاتهم متعددة وكثيرة ولسنا بصدد حصرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 موقف النواصب من الصحابة وآل البيت هناك طائفة تسمى طائفة النواصب، وهي إحدى طوائف البدع، وأصيبت في معتقدها بعدم التوفيق في أصحاب رسول الله، وهؤلاء لم يكفروا الصحابة، وإنما فسقوهم، وسموا نواصب لأنهم يتدينون ببغض علي بن أبي طالب، ونحن نتبرأ من معتقد الخوارج ومن معتقد النواصب الذين ناصبوا لـ علي بن أبي طالب العداوة. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن الخوارج هم الذين يكفرون علياً، والنواصب هم الذين يفسقونه، وكانوا يتهمون علياً بالظلم، وأنه كان طالباً للدنيا، وطالباً للخلافة، ولم يرد الحق، وقاتل الصحابة على السيف، ولم يكن مقصده تأليف المسلمين وربطهم بإمام واحد، ولا شك أن قولهم هذا قول باطل. والنواصب نالوا من الحسين بن علي رضي الله عنه وأرضاه، فقالوا: إن الحسين بن علي كان من الخوارج، وكانوا يجوزون قتله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان) والحديث رواه مسلم في صحيحه، ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث علي بن أبي طالب: (من أحب علياً فقد أحبني، ومن أبغض علياً فقد أبغضني) وهؤلاء لا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبناءً عليه فهم لا يحبون علي بن أبي طالب ولا غيره. روى مسلم بإسناده إلى زيد بن أرقم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس! إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به فحث النبي صلى الله عليه وسلم على الأخذ بكتاب الله ورغب الناس فيه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي) فما زال النبي صلى الله عليه وسلم يذكر هذا الأمر ويؤكد عليه، إعلاناً للأمة أن الواجب عليها أن تقدر أهل البيت وأن تنزلهم منازلهم رضي الله عنهم وأرضاهم. ولا شك أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لهم منازل عليا، وسوف نتكلم على من هم آل بيت النبي وقرابته وذلك بتكميل الشطر الثاني من البيت في: ومودة القربى بها أتوسل والقربى هم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك نحن نقول: لسنا من النواصب، ولسنا من الخوارج، ومنهجنا يتميز تميزاً كاملاً عن هؤلاء القوم. وهناك طائفة تدعي موالاة أهل البيت جعلت أهل السنة والجماعة كلهم - نواصب - وأنهم أعداء لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وقولهم هذا باطل، ويجعلون كل من تولى أبا بكر وعمر رضي عنهما وأرضاهما يعتبر من - النواصب - وهؤلاء يطلقون علينا أننا - نواصب - ولا شك أن كلامهم هذا باطل. يقول أحد أئمتهم وهو يوسف البحراني في كتابه: الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، يقول: ومن هذه الأخبار يعلم أن مظهر النصب والعداوة لهم عليهم السلام منحصر في أمرين: تقديم الجبت والطاغوت -ويقصدون به: أبا بكر وعمر، يسمون أبا بكر: الجبت، وعمر الطاغوت- وإظهار العداوة لآل بيت النبي. والعجب منهم أنهم يرون أن النواصب ليسوا من أهل الجنة أصلاً، والجنة لهم وحدهم، ويرون أن موالاة أهل البيت لهم وحدهم، وليس بصحيح، فنحن نتولى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ونحبهم ونرى أنه دين ندين الله به، ونتعبد لله تعالى بمحبة هؤلاء القوم رضي الله عنهم وأرضاهم. ولذلك ذكروا أن النواصب شر من اليهود والنصارى والمجوس، ويرون أن الناصبي كافر نجس بإجماع علمائهم، ولاشك أن هذا الكلام ليس بصحيح، بل هو باطل لا شك فيه. وذكرا قصة وأظنها في كتاب: الأنوار النعمانية لـ نعمة الله الجزائري، أن رجلاً كتب إلى الكاظم رضي الله عنه كتاباً، وذكر أنه هدم سجناً وكان فيه خمسمائة شخص ماتوا، وكان هذا الذي كتب إلى الكاظم هو: علي يقطين، وكان وزيراً للرشيد، وقد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين يقصدون بهم أهل السنة، وذكروا أنه هدم هذا السجن وفيه خمسمائة وماتوا، فكتب يريد الخلاص من تبعات دمائهم، فماذا يجب عليه؟ فكتب إليه الكاظم مبيناً له ماذا سيعمل، قال: أما إنك لو كنت تقدمت إلي قبل قتلهم بخبر كان لا عليك، أي: لو استفتيتني لأمرتك بقتلهم ولا شيء عليك، لكنك عندما عملت بغير فتوى فإنه يجب عليك أن تذبح عن كل واحد منهم تيساً، قال: والتيس خير منهم. ويقول نعمة الله الجزائري: فانظر إلى هذه الدية الجزيلة التي لا تعادل دية أخيهم الأصغر وهو كلب الصيد، فإن دية كلب الصيد عشرون درهماً، ولا تعادل دية أخيهم الأكبر وهو اليهودي والمجوسي فإن ديته ثمانمائة درهم، وحالهم في الآخرة أخس وأنجس! ونقول: ليس هذا إلا الكذب بعينه، ولا نرتضي هذا منهجاً لنا، ولا ندين الله به، بل نحن ممن يحب أصحاب رسوله جميعاً، ويحب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ونتولاهم ولا نتعرض لهم بقدح ولا لمزٍ ولا غير ذلك. ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثامن) لقد وقفت الشيعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفاً تقشعر منه الأبدان، وعلى منوالهم ظهرت المقلدة ممن يسمون أنفسهم بأهل الأدب والحداثة؛ فوقعوا في الصحب الكرام بالنقد والطعن والتشهير والتجريح، ونسوا أو تناسوا تزكية الله لهم من فوق سبع سماوات، وأهملوا منازلهم ومناقبهم وفضائلهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 1 موقف الشيعة من الصحابة رضي الله عنهم الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. لعلنا تكلمنا في الدرس الماضي عن طائفة الخوارج وموقفهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسنتكلم عن طائفة تدعي محبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم، وقد وصلت بهم إلى مرتبة الألوهية والربوبية، وجعلتهم في منازل الأنبياء ومن لم يكن من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم لا يعتبرون به ولا ينظرون إليه، ولهذا انطلقت إلسنتهم في الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بالطعن والقدح والنقد، ويقولون: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتدوا بعده، ولم يبق منهم على الإسلام إلا عدد يسير أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وكذلك المهاجرون والأنصار كلهم تحولوا عن دين الإسلام وانحرفوا، ولم يبق إلا سلمان، وأبو ذر، والمقداد، وعمار، وحذيفة، وأبو الهيثم، وسهل بن حنيف، وعبادة بن الصامت، وأبو أيوب، وعدد يسير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويدل على ذلك ما رواه الكليني بسنده إلى أبي جعفر أنه قال: ارتد الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة: المقداد وسلمان وأبو ذر. وروى الكليني عن عبد الرحمن بن القصير قال: قلت لـ أبي جعفر: إن الناس يفزعون إذا قلنا: إن الناس ارتدوا، يقصد أهل السنة يفزعون إذا قيل: إن الصحابة ارتدوا فقال: يا عبد الرحمن! إن الناس عادوا بعدما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم أهل جاهلية، إن الأنصار اعتزلت فلم تعتزل بخير، جعلوا يبايعون سعداً وهم يرتجزون ارتجاز الجاهلية، أي: سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه وإذا بالنتيجة حصلت أنهم أعادوا مجد الجاهلية كما كانت من قبل، وغيرها من الأمور التي اتهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالارتداد، ولا شك أنهم في هذا قد خالفوا آيات كثيرة، كما في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [التوبة:100] الله يعدهم بجنات عدن وهؤلاء لا يعدونهم إلا بنارٍ خالدين فيها. وكذلك في قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:88-89] وهذا لا شك أنه من ثناء الله تعالى عليهم. ويقول شرف الدين الموسوي في كلام طويل حول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فالصحابة كغيرهم من الرجال فيهم العدول وهم عظماؤهم وعلماؤهم، قال: وفيهم البغاة، وفيهم أهل الجرائم من المنافقين، وفيهم مجهول الحال، قال: فنحن نحتج بعدولهم، ونتولاهم في الدنيا والآخرة، وأما ما عداهم فلا نقبل منه. ويقول: إن العدالة في الصحابة لم يدل عليها دليل لا من كتاب ولا من سنة، ولو تدبرنا القرآن الكريم لوجدناه مشحوناً بذكر المنافقين، ويكون هؤلاء المنافقين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن كلامهم هذا قبيح. ومما اتهموا به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم حرفوا القرآن، وأسقطوا منه كلمات وآيات، وتزعم هذه الطائفة التي تدعي محبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة أضعاف القرآن الموجود بين أيدينا قد حرفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن الصحيح هو الذي كان موجوداً عند علي بن أبي طالب، والآن هو محفوظ عند الإمام الغائب في السرداب الذي ينتظر متى يخرج فيخرج لنا القرآن الذي لم يكن موجوداً بين أيدي الناس. وذكروا أن القرآن نزل على سبعة عشر ألف آية -وهذا موجود في كتاب الكليني - والقرآن الذي بين أيدينا هو قريب من ستة آلاف آية، فبناءً عليه حرف الصحابة فيه، ولهذا قالوا: إن سورة (لم يكن) ورد فيها أسماء سبعين من رجالات قريش حذفها الصحابة كلها، وكانت تفضحهم وتسمى الفاضحة عندهم إلى غير ذلك. والعجب من هذه الطائفة أن كل آية وردت في المنافقين، وفي أهل المعاصي، وفي أهل الفجور وغير ذلك كلها تنطبق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل آية وردت في أهل الجنة، وفي أهل الإيمان والصلاح ربطت بـ علي وآل بيته فقط، وأما سائر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فليس لهم حظ في القرآن أبداً. ومن الأمثلة: روى الكليني في كتابه الكافي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله وهو جعفر الصادق، قال: إن عندنا لمصحف فاطمة، وما يدريك ما مصحف فاطمة؟ قلت له: وما مصحف فاطمة؟ قال: مصحف فاطمة فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما في قرآنكم الذي بين أيديكم حرف واحد منه، قلت: والله هذا العلم، أي: فقدنا العلم كله إن لم يكن بين أيدينا هذا المصحف، وإن الذي بين أيدينا شيء محرف وقد غُير وبُدّل. ومنها: ما ورد عن جابر، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذب، وما جمعه وحفظه كما أنزل إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده. ومنها كذلك آثار كثيرة تبين أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قد غيروا هذا المصحف، بل ألف أحد أئمتهم كتاب (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب) وهو كتاب طبع في إيران، وإن كانت نسخه لا يريدون بقاءها مخافة أن يتهموا بذلك، ويرون أن القول الراجح عندهم أن القرآن ليس بمحرف، ولكن هذا غير صحيح، بل رجح ذلك جمع منهم، بل في كتاب الكليني إذا أردت أن تعرف هذه الطائفة فانظر له في وضوئه؛ لأن عندهم قول الله تعالى عندنا: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] عندهم: (وأيديكم من المرافق) فتجده يبدأ بالغسل من أعلى ولا يبدأ من أسفل، وهذا موجود في كتاب الكليني لا أحد يستطيع أن ينكره، ولو قالوا بتحريفه فهذه نصوص سواء كان التحريف لآيات أو لسور، أو كان التحريف لحروف القرآن وما دلت عليه فهذا جزء نسميه من التحريف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 موقف بعض الكتاب المعاصرين من الصحابة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 موقف طه حسين من الصحابة من الذين قدحوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الكتاب المعاصرين ممن تأثروا بالمستشرقين، وكان من أكبرهم أعمى البصر والبصيرة: طه حسين، فإنه تعرض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقدح واللمز والتهكم، وقام عدد من العلماء بالرد عليه وبيان بطلان ما ذهب إليه، وكان يقول من ضمن كلامه: كان معروفاً أن عائشة رضي الله عنها لا تحب علي بن أبي طالب ولا تهواه، بل كان معروفاً أنها كانت تجد عليه موجدة عظيمة بسبب قصة الإفك، قال: وكانت تنكر على علي بن أبي طالب في أمرين: الأمر الأول: لما كان لـ علي من الخيرية رضي الله عنه وأرضاه، والسبب: أنه تزوج فاطمة، وفاطمة أنجبت ذرية، قال: فإن عائشة حقدت على فاطمة؛ لأنها كانت سبباً لنسل الذرية الطاهرة وهم آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي لم تنجب أولاداً، فحسدتها في نفسها. وهذا كلام باطل لا يقوله عاقل إطلاقاً. الأمر الثاني: أن علي بن أبي طالب تزوج أسماء الخثعمية بعد وفاة فاطمة، وأسماء الخثعمية هي أم محمد بن أبي بكر الذي نشأ في حجر علي، فكانت عائشة تجد عليه في نفسها. وهذا الكلام لا شك أنه باطل. فإن طه حسين ممن تربوا على أيدي المستشرقين تربية كاملة، وحتى تخرجوا تلاميذ خبثاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 موقف جرجي زيدان من الصحابة وكذلك ممن قدح في الصحابة: جرجي زيدان وغيره، وإن كان جرجي زيدان لا يعتبر، فقد قيل: إنه نصراني وقد لمز أبا هريرة وسعد بن أبي وقاص وشتم معاوية بن أبي سفيان وأوغل في عرض سيف الله المسلول خالد بن الوليد وتهكم عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 موقف أحمد أمين من الصحابة وممن اتهم الصحابة رجل اسمه: أحمد أمين، وله كتب في الأدب: فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام، وهي مشهورة ومتداولة. وقد قدح في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أن الأولى بالخلافة هو علي بن أبي طالب، لكنه لم يستطع أن يقف في وجوههم؛ نظراً لأن أبا بكر وعمر قد أقاما العدل وأنصفا من أنفسهما، ولم يرجعوها جاهلية قبلية، وإنما لما ولي عثمان رضي الله عنه وأرضاه لم يرتض علي بن أبي طالب بولاية عثمان؛ نظراً لأنه أعاد مجد بني أمية، وهذا كلام باطل لا يعتمد عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 موقف أبي رية من الصحابة وممن انتقد الصحابة، ونقده لاذع، ولعله ركز على أبي هريرة رضي الله عنه المدعوة: أبو رية، وقد اتهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتهامات باطلة، وقد قام بالرد عليه جمع من العلماء، فممن رد عليه يوسف السباعي في كتابه: السنة ومكانتها في التشريع، ومنهم كذلك شيخنا: حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله في كتابه: الرد القويم على المجرم الأثيم. وقد كان نقده على أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يكذب لصالح معاوية رضي الله عنه وأرضاه، فقال من كلامه: ولم يكن ما قدمه أبو هريرة لـ معاوية جهاداً بسيفه أو بماله، وإنما كان جهاده بأحاديث ينشرها بين المسلمين يخذل بها أنصار علي ويطعن فيها عليه، ويجعل الناس يتبرءون من علي بن أبي طالب، وكان يشيد بفضائل معاوية وبدولته. وهذا الكلام لا شك أنه باطل، بل إن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه كان من أكثر الصحابة رواية لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، والقدح في أبي هريرة قدح في سنة محمد صلى الله عليه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 موقف عبد المنعم ماجد من الصحابة ومن هؤلاء كذلك رجل اسمه: عبد المنعم ماجد، وله كتاب اسمه: التاريخ السياسي للدولة العربية، وقد انتقد فيه أبا بكر الصديق، وانتقد العرب كذلك على وجه العموم، ولعل نقده للعرب نقداً لهذا الدين ونقداً للصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وذكر خلافة عثمان، وكذلك ذكر عائشة لامزاً لها وناقداً عليها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 موقف محمد الخضري من الصحابة ومنهم كذلك رجل مشهور وله كتابات في التاريخ اسمه: محمد الخضري، وله محاضرات في التاريخ، وفد طعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعناً عجيباً، ولعله ممن طعن في علي بن أبي طالب والحسن وطلحة والزبير وأبي ذر وعبد الله بن الزبير، وكان جل انتقاده في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، بضعف الرأي والطيش وعدم التثبت، والشح والكبر والتعاظم على جميع الصحابة حتى على أشياخهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وقال في الحسين بن علي رضي الله عنه: رمي بقلة مشورته وعدم معرفته، فقد أشار عليه الصحابة وضرب بآرائهم عرض الحائط، ولم يقبل منهم إطلاقاً وأخذ برأي نفسه. وهذا الكلام لا شك أنه من اللمز في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا فيما يتعلق بالذين انتقدوا الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولمزوهم وتعرضوا لهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 عدالة الصحابة رضي الله عنهم يجب أن نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اتفق أهل السنة والجماعة على أنهم عدول، ومقتضى العدالة لهم أنه لا يُتكلم فيهم بموازين الجرح والتعديل التي وجدت عند أئمة الحديث، وهذا مما اتفق عليه أئمة أهل السنة والجماعة على وجه العموم، وأن من نقد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما ينقدهم لمرضٍ في قلبه وخبث في طويته. ومن أسباب عدم جعلهم تحت موازين الجرح والتعديل: أن الله سبحانه وتعالى قد عدلهم في كتابه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم زكاهم، بل جعل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم السياج المنيع فلا يتعرض لهم أبداً، والله سبحانه وتعالى يقول: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] وكذلك أثنى الله عليهم في غير ما آية مثل آية {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح:29] وحصل الثناء عليهم في التوراة والإنجيل، ولهذا وجب على كل مسلم ألا يتطرق إلى قلبه شك في عدالة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 منازل الصحابة رضي الله عنهم أما في قضية منازل الصحابة رضي الله عنهم فنقول كما سيأتي: أفضل الصحابة على الإطلاق: أبو بكر الصديق، ثم عمر، وهذا بإجماع الأمة قاطبة، وحصل خلاف بين التابعين هل بعده علي بن أبي طالب أم عثمان، ولكن الرأي الصحيح وهو رأي جمهور سلف الأمة أن عثمان أفضل، ثم بعد ذلك علي بن أبي طالب ثم العشرة المبشرون بالجنة. واتفق أهل السنة والجماعة على القول بتفضيل المهاجرين على الأنصار، وأن المهاجرين أفضل من الأنصار، وليس هذا التفضيل يؤدي إلى استنقاص أحدٍ منهم، بل لكل منهم منزلة وفضل؛ رضي الله عنهم وأرضاهم. ويشهدون كذلك لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بجنات عدن، وهذا هو الواجب علينا دائماً أن نسير على ضوئه، ثم يقدمون أهل بدر وكذلك من شارك في الغزوات فلهم منازل عليا. ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته إلى عدي بن مسافر، قال: ويجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فإن الله أثنى عليهم في كتابه في غير ما آية، وقد ذكر أن اتفق أهل السنة والجماعة على ما تواتر من فضائل أمير المؤمنين، وأن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر، واتفق كذلك الصحابة على بيعة عثمان رضي الله عنه، لئلا ينتقده الخوارج، وكذلك ينتقد خلافته الذين يدَّعون موالاة آل البيت من الرافضة وغيرهم. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفضيل هؤلاء الأربعة الأئمة الخلفاء الراشدين المهديين قال: (خلافة النبوة ثلاثون سنة) ثم تصير بعد ذلك ملكاً يتولاها ابناً عن أب، وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سيرة هؤلاء الأربعة رضي الله عنهم، وذكر أن آخر الخلفاء الراشدين هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه. ومما اتفق عليه عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد أنهم يقولون: أبو بكر وثم عمر وثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم وأرضاهم، وكذلك نجد أهل السنة والجماعة يتولون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الكلام عليه بشيء من التفصيل. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن أهل السنة والجماعة يشهدون لـ عائشة بنت أبي بكر الصديق أنها المبرأة من السماء على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام إخباراً عن الله عز وجل، وقد ورد فيها عشر آيات في سورة النور تبين براءة عائشة مما اتهمت به. ولذلك قال جمع من أئمة أهل السنة: إن من قدح في عائشة رضي الله عنها أو اتهمها بما برأها الله به فإنه كافر خارج من هذا الدين، لأنه بذلك كذب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كذب الله ورسوله فلا شك بأنه كافر، لأنه أنكر شيئاً تواتر في الكتاب وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ويحذرنا أهل السنة والجماعة من التعرض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقد أو لمز أو غيره؛ لأن ذلك قد حرم علينا في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] وأول ما ينطلق على أدنى كلام في الصحابة فهو غيبة، وقال تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] قال: ومن تعرض للصحابة رضي الله عنهم فإنه داخل في أذى المؤمنين والمؤمنات، بل في أذى الأمة جميعاً، فنحن نتأذى إذ نسمع أحداً يتكلم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدنى شيء. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال فيهم في بيعة الرضوان كما ثبت في الصحيح: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) وهم لا شك بأن عددهم كبير، ومن تعرض لهم بشيء فقد لمز أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابن ماجة وابن أبي عاصم في السنة والإمام أحمد في فضائل الصحابة، عن نسرين بن ذعلوب، قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: [لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره] وكذلك نقلاً عن عائشة أنها قالت: [يا ابن أختي! أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله فسبوهم] ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة] ويُروى أثر عن ابن المبارك وذكره ابن كثير رحمه الله تعالى أنه سئل: أيهما أفضل: عمر بن عبد العزيز أم معاوية بن أبي سفيان؟ فقال ابن المبارك: غبار في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز، ولعل هذا مبالغة في جعل السياج لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيماً، ومنازلهم كبرى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 منهج أهل السنة والجماعة في آل البيت ثم قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومودة القربى بها أتوسل المودة: هي المحبة، ويقصد المؤلف رحمه الله تعالى أن محبة قرابة النبي صلى الله عليه وسلم (أتوسل بها) . ولماذا أفرد القربى مع أنها داخلة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: ذكرها تركيزاً عليهم؛ نظراً لأن لهم فضائل يتميزون بها عن سائر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولأن قرابة النبي صلى الله عليه وسلم قد تُعرض لها باللمز وبالسخرية وبالسب وبالتهجم؛ خاصة من طائفة الخوارج الذين قدحوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. القربى: يقصد بها قرابته صلى الله عليه وسلم، وهم أهل بيته المنوه بذكرهم في قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] . وقوله: (ومودة القربى بها) أي: بمحبة أهل البيت كلهم (أتوسل) أي: أتقرب إلى الله تعالى. ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لهم حقوق يجب رعايتها، فإن الله قد جعل لهم حقاً في الخمس، وحقاً في الفيء، وأعظم ما فيه أن الله أمرنا بالصلاة عليهم مع رسوله في كل صلاة نصليها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ألسنا نقول: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، في كل صلاةٍ نصليها ونقولها، وما من مسلم إلا ويقولها، مما يدل على فضلهم ومنازلهم التي لا تنطبق إلا على من استقام على دين الله تعالى وسار على منهاجه، وإلا فإن من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا لهب ومع ذلك ليس داخلاً في آل البيت، بل أنزل الله فيه قرآناً يتلى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ولم يستفد من تلك القرابة شيئاً. وآل محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين حرمت عليهم الصدقة، وهكذا قال الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) وقد قال الله فيهم ثناءً عليهم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33] . ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الحسن أو الحسين أخذ تمرة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كخ كخ) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن تكون من الصدقة لأخذتها، ثم قال: إن آل محمد لا تحل لهم هذه الصدقة، لأنها من أوساخ الناس) ولذلك وجب علينا محبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد ورد في المسانيد والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه العباس وقال: (يا رسول الله! إن قريشاً تجلس في أنديتهم يتضاحكون، حتى إذا جئنا لم يحدثونا وجفونا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً: والذي نفسي بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي) يقصد بهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك وجب علينا أن نحبهم ونجلهم ونعظمهم ونجعل لهم المنازل؛ لأن الله قد اصطفاهم، فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم) صلوات الله وسلامه عليه، مما يدل أن لهؤلاء منازل يجب أن تحترم وأن ينزلوا منزلتهم التي دل عليها الكتاب والسنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 من هم آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في المراد بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على أقوال: القول الأول: إن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين حرمت عليهم الصدقة، واختلف العلماء في المراد بالذين حرمت عليهم الصدقة: فقيل: إنهم بنو هاشم وبنو المطلب، وهذا هو قول الشافعي رحمه الله تعالى وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد. وقيل: هم بنو هاشم خاصة، وهذا هو مذهب أبي حنيفة، والرواية الأخرى عن الإمام أحمد، وهو اختيار الإمام ابن القاسم صاحب مالك رحمه الله تعالى. وقيل: إن الذين حرمت عليهم الصدقة هم بنو هاشم ومن فوقهم إلى بني غالب، فيدخل فيهم بنو المطلب، وبنو أمية، وبنو نوفل، ومن فوقهم إلى بني غالب، وهذا اختيار أشهب من أصحاب الإمام مالك ونقل عن غيره، وهذا بناء على أن الآل هم الذين تحرم عليهم الصدقة، ولكن الصحيح أن الذين تحرم عليهم الصدقة هم من ذكروا في قول الشافعي ومن وافقه وهم بنو هاشم وبنو المطلب رحمهم الله ورضي عنهم. القول الثاني: إن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته وأزواجه خاصة، وهذا نقله وحكاه ابن عبد البر في التمهيد، واستدل على أنهم أزواجه وذريته بما ورد عندنا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وورد في بعض الأحاديث: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، وهذه صفة من صفات الصلاة على محمد، وهي صفة صحيحة ثابتة في الحديث، وذكروا في اللغة: أن آل الرجل هم أهل بيته، يدخل فيه أزواجه وذريته. القول الثالث: ‘ن آل محمد صلى الله عليه وسلم هم أتباعه إلى يوم القيامة، وقالوا: حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم، وهذا القول مروي عن جابر بن عبد الله، وذكره البيهقي عنه كذلك، وروي عن سفيان الثوري رحمه الله ورضي عنه، واختاره بعض أصحاب الشافعي. القول الرابع: إن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم الأتقياء فقط من أمته، وقالوا: حكاه القاضي حسين والراغب وجماعة. وأرجح هذه الأقوال أن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين تحرم عليهم الصدقة، وقد يدخل فيه القول الثاني: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بظاهر الحديث، وله نوع من القوة بناءً على: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد. أما فيما يتعلق بتحريم الصدقة وغيرها فلا شك أنه يدخل فيهم بنو المطلب وبنو هاشم، وبالنسبة لأتباعه فلا يدخلون، وبالنسبة للأتقياء فلا يدخلون تلقائياً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 منزلة آل البيت عند أهل السنة عندنا في قول الله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] وهناك آثار في بيان منازل هؤلاء الصحابة، ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية أثراً عن السدي، عن أبي الديلم، قال: لما جيء بـ علي بن الحسين رضي الله عنه أسيراً -ولعله بعد مقتل الحسين رضي الله عنه وأرضاه- فأقيم على درج دمشق، فقام رجل من أهل الشام من أعداء آل البيت فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة، فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: أقرأت الـ (حم) ، يعني: السور المبدوءة بـ (حم) ؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ هذه. قال: أما قرأت قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] . قال: وإنكم لأنتم هم؟ قال علي بن الحسين: نعم، إننا لنحن الذين أمر الله بأن يحسن إليهم: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] كأنه يبين منزلته رضي الله عنه وما يجب في حق آل بيته رضي الله عنهم. يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: ولا ننكر الوصاية بآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض، ولا شك في ذلك أن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من أشرف بيت وجد على وجه الأرض. فخراً وحسباً ونسباً، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة، كما كان عليه سلفهم كـ العباس وبنيه، وعلي وذريته رضوان الله عليهم أجمعين. وقد وردت الوصايا بهم في حديث غدير خم، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته في غدير خم قال: (إني تارك فيكم ثقلين: كتاب الله وعترتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) وكذلك روى الإمام أحمد رحمه الله ورضي عنه من حديث عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب، قال: (قلت: يا رسول الله! إن قريشاً إذا لقي بعضهم بعضاً، لقوهم ببشر -أو بوجه حسن- وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها -كأنه لا تنشرح صدورهم لجلوسهم- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل إيمان حتى يحبكم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم) . ونجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: [ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في آل بيته] وفي الصحيح أن الصديق رضي الله عنه قال لـ علي: [والله لأن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أن أصل قرابتي أنا] . ونجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه تطبيقاً حياً لـ (ومودة القربى بها أتوسل) أنه لما أسلم العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر بن الخطاب: [والله لإسلامك اليوم هذا أحب إلي من إسلام الخطاب] وهو والده رضي الله عنه وأرضاه، ولما سئل عن السبب في ذلك قال: [لأن إسلامك أحب إلى رسول الله من إسلام أبي] فقدم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبة نفسه، وهذا يدل على ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من معرفة قدر آل محمد، ومن مودة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك قال ابن كثير: فحال الشيخين رضي الله عنهما هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك، ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنهم وعن سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 بيان قدر أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ثم قال شيخ الإسلام: ولكلهم قدر وفضل ساطع لكنما الصديق منهم أفضل ذكر المؤلف رحمه الله تعالى: (ولكلهم قدر) أي: لكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر، والقدر في اللغة بفتح فسكون: وهو مقياس الشيء وضابطه، يقال: هذا له قدر أي: له مقياس وضابط، ولعله يقصد بها هنا المنزلة، ويقال: فلان له قدر عظيم أي: منزلة عظيمة؛ وذلك لوجود الدلائل على فضائل هؤلاء الصحابة، ومنه قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] أي: ما عظموا الله حق تعظيمه، ولا عرفوه حق المعرفة. ولهذا تجد النواصب والخوارج الذين يكفرون الصحابة المدعين لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم محبة، فإن هؤلاء ما عرفوا قدر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. قال: (ولكلهم قدر وفضل) قال في اللسان: الفضل والفضيلة معروف، والفضيلة ضد النقص، وكذلك ضد النقيصة، قيل: الفضيلة هي الدرجة الرفيعة في الفضل، ولا شك أن الصحابة لهم منازل يفوقون بها سائر الناس، وكم كانت النفوس تتمنى أن لو رأت أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغزو قوم -أي: جيش- فيقال: هل فيكم من صحب رسول الله؟ فإذا قيل: فيهم فلان فتح الحصن بكامله) لما يعرفون من المنازل العليا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن سار على نهجهم. قال: ولكلهم قدر وفضل ساطع قالوا: سطع يسطع سطعاً وسطوعاً، وقال في اللسان: أصلها من سطع، والسطيع كل شيء انتشر، فضل ساطع أي: واضح، ومنازلهم لا تخفى إطلاقاً، ولئن جهلناها نحن فإنها لا تجهل، فقد دونت ووجدت في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قالوا: السطيع كل شيء انتشر أو ارتفع من برد أو غبار أو نور أو ريح، وكل هذه تدل على البروز والظهور، فالبرد والغبار والنور والريح ظاهرة واضحة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم المنازل العليا. قال: ويقال للصبح: السطيع؛ لانتشاره ولإضاءته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 من مناقب الصديق رضي الله عنه ثم قال الناظم رحمه الله: لكنما الصديق منهم أفضل قوله: الصديق: في القاموس: الصدق ضد أو نقيض الكذب، قال: وصدقه قبل قوله، وصدقه الحديث أي: أنبأه بالصدق، والصديق الدائم التصديق، ويكون في الذي يصدق قوله بالعمل، أي شخص يصدق قوله بالعمل يسمى صديقاً، وورد في القرآن: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75] أي: مبالغة في الصدق. وكذلك روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه سمي بـ الصديق بأثر ونص من السماء، وهذا الأثر قد رواه الحاكم والطبراني في الكبير لكن الحديث ضعيف لا يحتج به. وذكروا السبب في تسميته صديقاً، وإن ذلك كان بعد حادثة الإسراء والمعراج، فإنه لقي في أثناء الطريق فقيل له: أما سمعت ما قال صاحبك؟ قال: وما قال؟ قالوا: إنه يدعي أنه صعد إلى السماء وذهب إلى بيت المقدس ورجع في ليلته، قال: لئن كان قد قال ذلك فقد صدق، أما إني أصدقه في أعظم من ذلك، أصدقه في خبر السماء. أي: في الوحي وهو أعظم من قضية الذهاب إلى بيت المقدس أو الصعود إلى السماء، قالوا: فمنذ ذلك الحين سمي أبو بكر صديقاً. ونقل إجماع أهل السنة والجماعة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو أفضل الصحابة على الإطلاق، وقد ورد فيه آيات، وذكر المفسرون رحمهم الله تعالى في آيات أنها نزلت في أبي بكر كما في قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل:17] قالوا: إنها نزلت في أبي بكر، وقوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] كذلك، وبإجماع المفسرين أنه هو المعني في قوله في ثناء الله عليه: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] . ولذلك نقل في كتب السير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: [لساعة من أبي بكر الصديق -يتمنى أن تكون له- خير لي من عمري أو من عملي كله، وذكر هذه الآية {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]] مما يدل على فضل أبي بكر الصديق. وقد أخرج الإمام أحمد وغيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: [خير الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر /W>] يقول الإمام الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: وهذا متواتر عن علي بن أبي طالب، وذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوي المصرية أنه روي عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجهاً، مما يدل على أنه متواتر عن علي بن أبي طالب. أبو بكر الصديق له منازل عليا: أولها: أنه من أوائل من أسلم من الرجال رضي الله عنه وأرضاه، وهذا فضل عظيم جداً، ولذلك ما جاءت الموازنة، بعض العلماء يقول: أول من أسلم أبو بكر، ولكن الذين جمعوا فقالوا: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة، وأول من أسلم من الفتيان علي بن أبي طالب، وأول من أسلم من النساء خديجة بنت خويلد؛ لكي يجعلوا لكل واحد منهم فضلاً ومنزلة رضي الله عنهم وأرضاهم. ثانيها: أنه أسلم على يديه ستة من العشرة المبشرين بالجنة أو أكثر من ذلك، فأسلم علي يديه: عثمان، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. له خصائص منها: جمع المصحف، وقيل: إنه رضي الله عنه أول من جمع القرآن بعد وقعة اليمامة حين قتل عدد كبير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعضهم يرى أن هذا نقد عليه ولكنهم من أجهل الناس، بل هذا من حفظ الله تعالى لدينه، وحفظ الله تعالى لما جاء عن الله وجاء عن رسوله بأن يسر الله هذا الرجل الصالح رضي الله عنه وأرضاه بأن جمع القرآن مخافة أن يتفلت. كان من أشد الناس تورعاً رضي الله عنه وأرضاه، وقصته مشهورة في أنه ما كان يدخل في جوفه طعاماً حتى يسأل الغلام: من أين جئت به؟ وأكل رضي الله عنه لقمتين وسأل الغلام: من أين؟ قال: ذاك مال تكهنت به في الجاهلية، وكانت النتيجة أن أدخل إصبعه ليخرجه، فقال له الصحابة: رويدك! هذا طعام قد ذهب، قال: والله لو لم يخرج إلا بروحي معه لأخرجته، فقاءه رضي الله عنه تورعاً وتقوى. ولاشك أنه رضي الله عنه وأرضاه سمي بـ الصديق، وهذا لقب يتميز به على سائر الصحابة إطلاقاً، ولعل السبب في ذلك: ما وجد في قلبه من التسليم والتصديق لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وما نقل أنه اعترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً في أمر أو مشورة أو خبر أو غيره، بل كلها التسليم والتصديق لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ومن أعظمها أنه لما حدث خلاف بينه وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ولعل عمر بن الخطاب غضب على أبي بكر الصديق، وكان قد قيل: إن أبا بكر قد أخطأ على عمر، فندم أبو بكر الصديق وجاء يستسمح من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يقبل منه عمر، فرجع أبو بكر الصديق ورآه النبي صلى الله عليه وسلم وإذا بوجه أبي بكر قد تغير، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم على عمر وقام أمام الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، معلناً لهم منزلة أبي بكر الصديق العظمى، فقال لهم: (هل أنتم تاركو لي صاحبي؟) أي: لا ينبغي لكم أن تتعرضوا له بشيء ولا أن تغضبوه فله المنازل العليا، ثم قال: (إني قلت: أيها الناس! إني رسول الله إليكم جميعاً فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت) فبعدها جاء عمر بن الخطاب يستسمح ويقول: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، نظراً لأنه علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب، وهذا يدلنا على أن أبا بكر رضي الله عنه كانت له المنازل العليا. بل أعظمها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يفقده صباحاً ولا مساءً، فقد كان أبو بكر رضي الله عنه كان من ألصق الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر الصحابة صحبة له، ولذلك قال الإمام الذهبي رضي الله عنه وأرضاه: صحب أبو بكر الصديق النبي صلى الله عليه وسلم من حين أسلم إلى حين توفي لم يفارقه لا حضراً ولا سفراً إلا في أمرٍ قد أذن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم له، كالحج والجهاد وغيره، وكذلك أنفق ماله كله في سبيل الله تعالى. سأل بعض الأحبة، قال: إنك تترضى على بعض أئمة السلف، ونقول: قضية الترضي قد جعلت شعاراً لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن إذا مرت مروراً عرضياً فلا مانع من الترضي على بعض أئمة السلف، كالإمام أحمد، أو كشيخ الإسلام ابن تيمية أو غيره، لكن جعلها شعاراً فهي خاصة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أنفق ماله كله، فقيل: إن عمر بن الخطاب جاءته تجارة، فقسم ماله نصفين حين سمع أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإنفاق في سبيل الله، وقال عمر: [قلت في نفسي: إني أغلب أبا بكر رضي الله عنه في الإنفاق، فجئت بمالٍ عظيم وقدمته بين يدي رسول الله، وسألني النبي صلى الله عليه وسلم: ما الذي تركت لأهلك؟ قلت: يا رسول الله، تركت لهم مثل الذي أعطيتك، قال عمر: وجلست أنتظر وإذا أبو بكر جاء بمال عظيم، وقدمه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله الرسول: ما الذي تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله، أي: لم يَبْقَ عنده شيء من ماله، وما أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن أنفق ماله كله في سبيل الله، فقال عمر بن الخطاب: والله ما هممت أن أسبق هذا الرجل إلا سبقني] كأنه يريد أن يقطع الأمل كلياً في أن يفكر أحد أن يسبق هذا الرجل الصالح رضي الله عنه وأرضاه. وفي الصحيحين من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال (قلت: يا رسول الله، أي النساء أحب إليك؟ قال: عائشة، ومن الرجال؟ قال: أبوها -أي: أبو بكر - قلت: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب /H>) . وورد أن الواجب علينا أن نتعرف على شخصية هذين الكبيرين: أبي بكر وعمر؛ والسبب في ذلك أن لهم منازل عليا رضي الله عنهما. وقد ذكرنا في دروس مضت أن الحسن البصري لما سئل: أحب أبي بكر سنَّة؟ قال: بل فريضة! وكان الإمام مالك بن أنس يقول: كان السلف يعلمون أبناءهم حب أبي بكر وعمر كما يعلمونهم السورة من القرآن. وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر في قوله: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم -يقصد نفسه- خليل الله) . وقد كانت له من المنازل العليا في المسابقة بالأعمال، ومرة سأل رس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 التوسل بين المشروع والممنوع نرجع إلى قول الناظم رحمه الله: ومحبة القربى بها أتوسل ونتطرق لقضية التوسل سريعاً، وخاصة ونحن في عصر كثر فيه التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما يقول الناس: بجاه محمد، تجد أنه يسألك به. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 تعريف التوسل التوسل في اللغة: مأخوذ من الوسيلة، والوسيلة في اللغة: هي ما يتقرب بها إلى الغير، قال في القاموس: الوسيلة والواسلة هي: المنزلة عند الملك والدرجة والقربة، وقيل في الوسيلة: هي أن يعمل عملاً يتقرب به إلى الله تعالى. والتوسل، في الشرع: هو التقرب إلى الله تعالى بطاعته، أي: اتباع ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبكل عمل يحبه الله ورسوله. والدليل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:35] والله يقول: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:56-57] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 أقسام التوسل المشروع لما كان التوسل نوع من العبادات، نقول: إن التوسل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: التوسل المشروع، ويقصد به ما دل الكتاب والسنة على جوازه، وهذا لا شك أنه يجب علينا أن نعمل به؛ لأنه من العبادة التي نعبد لله بها. القسم الثاني: التوسل الممنوع، وهو ما لم يدل عليه الكتاب والسنة. والتوسل المشروع ثلاثة أقسام: القسم الأول: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته، ودليله قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] كأن تقول: اللهم أنت السميع الذي تسمع كل شيء، اللهم أنت المدبر لهذا الكون والمصرف له، اللهم إن لك الأسماء الحسنى، والصفات العلى، أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك إلخ. ولعل من التوسل أن تقدم شيئاً قبل أن تطلب ما تريد، فإذا قلت: اللهم إن لك الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأنت الذي تدبر هذا الكون، أسألك بكل اسمٍ هو لك إلى الآن هذا توسل، فإذا قلت: ارزقني الهداية، وثبتني على صراطك، وارزقني ذرية صالحة إلى غيره، فذلك هو المطلوب، فقدمت مقدمة من أسماء الله وصفاته قبل أن أنطلق أطلب حاجتي ولذلك يقول الله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] . ونجد من الأدلة على ذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:38] ثم جاء بعدها في دعاء إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:40] جاء قبل ذلك بمقدمات من أسماء الله وصفاته، وهذا يعتبر من أعظم الوسيلة التي نتقرب إلى الله تعالى بها. القسم الثاني: التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح الذي يقدمه الإنسان في الحياة الدنيا، ولذلك فإن من الأعمال الصالحة التي نقدمها في الحياة الدنيا كثيرة مثل: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران:193] أليس الإيمان عمل؟ بل هو عمل، ثم جاء بعدها الدعاء، مثل أعمال صالحة تقدمها وقد دل عليها الكتاب والسنة، فمثلاً: نحن صلينا الصلاة، فتقول في الصلاة: اللهم إني يا رب قمت بين يديك، وأديت هذه العبادة، وركعت لك وسجدت استجابة لما جاء في كتابك وسنة رسولك، اللهم إني أعمل الصالحات في هذه الحياة الدنيا بعدها: ارزقني، اعطني، وفقني، ثبتني على صراطك، فأقدم أعمالاً صالحة. ومن أعظم الأدلة على ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما حصل من التوسل بالثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فإنهم قدموا أعمالاً صالحة في هذه الحياة الدنيا، فأحدهم توسل ببره لوالديه، والثاني: توسل بتركه للزنا، والثالث: توسل بتنمية مال الأجير. ولعلي أقف وقفة لطيفة هنا في قضية بر الوالدين، فإن هذا الرجل له أعمال صالحة كثيرة، وهم كانوا في مسير، وأووا إلى غار، ولعلهم أرادوا أن يستظلوا من الشمس، أو يناموا فيه، فانطبقت عليهم صخرة من أعلى الغار، وبعدها دفعوها بأيديهم فلم يستطيعوا، فما كان منهم إلا أن جلسوا ينتظرون الموت، ثم بعد ذلك قال أحدهم: إنه لا منجي لكم إلا الله، فإني أرى أن يتوسل كل واحدٍ منكم بأحسن عمل قدمه في هذه الحياة الدنيا، تعبد لله تعالى فيه. فذاك توسل ببره بأبويه، فقال: ما كنت أغبق أحداً قبلهما، فذكر من الفضائل العظيمة أنه ما كان يعطي أحداً اللبن قبل أن يعطي والديه أبداً، وتأخر عليهم ليلة من الليالي، فلما جاء وجد والديه قد ناما، وصبيته يريدون اللبن ولم يعطهم إياه أبداً ولم يقدمه لهم، بل جلس واقفاً ينتظر، وتأخر ساعات طوال وصبيته يتضاغون يبكون تحت قدمه فما أعطاهم شيئاً، وعندما استيقظ والداه سقاهما، ثم بعد ذلك سقى صبيانه ثم قال: اللهم إن كنت قد عملت هذا العمل ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. وهذا يدل على أن الواجب على المسلم أن يحسن إلى والديه: بالنفقة، وبالكلام الطبيب، وبالابتسامة، وبالجلوس بين أيديهم إلى غيره، ونحن نعلم أنه قد روى الإمام مسلم بلاغاً، قال: وبلغنا أن أبا هريرة رضي الله عنه ما ذهب للحج إلا بعد أن ماتت أمه، براً بها؛ نظراً لأنها كانت كبيرة السن، وتحتاج إلى شيء من الجلوس عندها. كثير من المسلمين لا ينظرون لحقوق الوالدين شيئاً، وتجد أن الإنسان يسافر إلى مكة، وينطلق إلى هنا وهناك ويخرج ووالدته تأمره بالجلوس، بل إن بعضهم قد يسافر إلى مكة أيام رمضان ولا يعبأ بوالدته تحتاج إلى أن يوصلها أو إلى أن يزور بها، أو إلى إحسان إليها، أو إلى نفقة أو غيره، وقد تقول له: لا تذهب فلا يصغي لها، ولا شك أن هذا من الخطأ والجهل، فهؤلاء مساكين ما علموا أنهم بتعبدهم وذهابهم إلى مكة قد أخذوا بالمفضول مع تركهم للفاضل، فبقاء الإنسان عند والديه أعظم أجراً وأفضل عند الله من حج النافلة، ومن عمرة النافلة، بل أفضل نوافل العبادات كلها، نجد أن بر الوالدين من الواجب علينا أن نحرص عليه أشد الحرص، فهؤلاء لما توسلوا بأعمالهم الصالحة فرج الله عنهم ما هم فيه، وأزال ما هم فيه. القسم الثالث: من التوسل المشروع: التوسل إلى الله تعالى بدعاء الصالحين، وقد أخذ به إخوة يوسف، فإنهم قالوا: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97] وقال يعقوب: إنه سيستغفر لهم ربه، وأنه سبحانه وتعالى هو الغفور الرحيم. ومنها: قصة العباس عندما كان مع عمر بن الخطاب، فإن عمر كان يقول: اللهم إنا كنا نتوسل بنبينا، وإنا الآن نتوسل بعم نبينا، قم يا عباس فاستسق لنا، فقام العباس رضي الله عنه فاستسقى للصحابة فسقوا، وذلك في عام الرمادة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس التاسع) فضل العلم عظيم ونفعه عميم، ولطالبه مراتب ينبغي أن يتنقل فيها ولا يجافيها، بذلك بدأ الشيخ هذا الدرس، ثم أتبعه بأبيات متعلقة بعقيدة أهل السنة في صحابة الرسول وآل بيته واعتقادهم في القرآن، وبعض المسائل المفيدة المتعلقة بنوعي التوحيد (الألوهية والربوبية) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1 الأولوية في طلب العلم لحفظ القرآن الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قبل أن أتكلم عن أنواع التوسل البدعي لعلي أن أنبه إلى أدب لطيف من آداب الطلب، وقد يكون غريباً على عدد من الأحبة، ولكنه في كتب السلف لا يعتبر غريباً. نبهنا سابقاً إلى أنه ينبغي لطالب العلم أن يهتم بتعلم العلوم ويبدأ بالأهم فالأهم، ولو سُئل الجميع: ما أهم شيء يطلبه طالب العلم؟ ستجدنا أول ما نقول: أن يهتم بالعقيدة، ثم بالحديث ثم ثم وهكذا، ولكننا نجد جمعاً من أئمة السلف رحمهم الله تعالى ذكروا أن أهم ما يبدأ به طالب العلم حفظ القرآن، فقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة) يقول الإمام الحافظ ابن حجر: قوله: (ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة) فيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنن، والمراد بالسنن: ما يتلقونه عن النبي صلى الله عليه وسلم واجباً كان أو مندوباً. ولقد سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى حيث قال الميموني: سألت أبا عبد الله: أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أم بالحديث؟ فقال له: بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ -أي: أعلمه كل القرآن؟ - قال: إلا أن يعسر عليه. إذا لم يستطع حفظ القرآن فلا مانع أن تجمع بين القرآن وبين سنة النبي صلى الله عليه وسلم. يقول ابن مفلح رحمه الله في آدابه الشرعية: وعلى هذا أتباع الإمام أحمد إلى زماننا هذا، من عهد الإمام أحمد إلى زمان ابن مفلح وهم يجعلون القرآن هو الأصل في قضية التعلم. يقول محمد بن الفضل: سمعت جدي يقول: استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة لطلب العلم، فقال: اقرأ القرآن أولاً حتى آذن لك، أي: حتى آذن لك أن تطلب العلم، قال: فاستظهرت القرآن، أي: حفظته عن ظهر قلب، فقال لي: امكث حتى تصلي به الختمة، أي: حتى تختم به في صلاة التراويح، يقول: ففعلت، فلما عيدنا -انتهينا يوم العيد- أذن لي بالخروج إلى مرو لطلب الحديث، مما يدل على أن البداية هي بكتاب الله تعالى. وكذلك نقل عن أبي عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى في جامع بيان العلم وفضله، قال: طلب العلم درجات، ومنازل ورتب لا ينبغي تعديها، أي: كأنه برنامج معين ينطلق به طالب العلم من هنا ثم يترقى به، ثم قال: ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، أي: من لم يأخذ بالطرق التي بينها له سلف الأمة فإنه يأتي بمنهج لم يُعرف، وقال بعدها: من تعدى سبيلهم عمداً ضل، أي: من قال: أنا لا أحتج بكلامهم ولا أقبل منهم ضل ولم يعرف طريق الطلب أصلاً، ومن تعداها مجتهداً زل، بعض الناس يقول: أنا لا أرى هذا الرأي ولا غيره، قال: زل فلم يكن على الجادة التي كان عليها هؤلاء السلف، ثم قال: فأول العلم حفظ كتاب الله تعالى وتفهمه، وكل ما يعين على فهمه فواجب على طالب العلم أن يطلبه. ثم قال رحمه الله: ولا أقول: إن حفظه واجب فرض، بمعنى: أنه يأثم من ترك حفظ القرآن، ولكن أقول: إن ذلك واجب ولازم على من أحب أن يكون عالماً أن يحفظ كتاب الله تعالى، ولكنه ليس من الواجبات والفرائض التي يأثم الإنسان بتركها، ثم قال: فمن حفظه قبل بلوغه ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه باللسان العربي، كان ذلك عوناً له كبيراً على مراده من طلب العلم، وعوناً له على ضبط سنة النبي صلى الله عليه وسلم. كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه إلى الآفاق قائلاً لهم أن يتعلموا السنة والفرائض واللحن -أي: النحو- كما يتعلم القرآن. قال الإمام النووي في مقدمة كتابه المجموع: وينبغي أن يبدأ من دروسه على المشايخ في الحفظ والتكرار والمطالعة بالأهم فالأهم، ثم قال: وأول ما يبدأ به حفظ القرآن العزيز، فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن، وإذا حفظ قالوا: فليحذر من الاشتغال عنه بالحديث والفقه وغيرهما اشتغالاً يؤدي إلى نسيان شيء منه أو تعرض القرآن للنسيان، ثم ذكر بعد ذلك ما ينبغي لطالب العلم أن يحرص عليه. وذكر كذلك الإمام ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر مقدمة عن العلم وأهميته، ثم ذكر فيها، قال: فإذا علم العاقل أن العمر قصير، وأن العلم كثير، قال: فقبيح بالعاقل الطالب لكمال الفضائل أن يتشاغل مثلاً بسماع الحديث ونسخه ومتعلقاته وغيره ثم لا يحفظ القرآن. ونختم بكلام للخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، قال: وينبغي لطالب العلم أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل؛ إذ كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم، أي: أنه أهم ما يبدأ به طالب العلم. ولست بصدد كيفية قراءة وحفظ القرآن وآدابه ومتعلقاته، فهذا له وقت آخر، لكني أحببت أن أنبه على الأدب الذي هو أنه ينبغي لكل شخص منا أن يكون حريصاً على حفظ القرآن، وأن يجعله هو الأصل والقاعدة التي ينطلق منها. وقد ذُكر أن بعض مشايخنا وليسوا من المعاصرين ولكنهم قد توفوا رحمهم الله، وأظن أن من أقربهم هو مفتي هذه الديار الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، فإنه كان إذا جاء الطالب يريد أن يطلب العلم لديه سأله: أحفظت القرآن أم لا؟ فإن كان حافظاً أجلسه مع الطلاب، وإن لم يكن حافظاً قال: انطلق فاحفظ القرآن ثم تعال فاجلس مع إخوانك من طلاب العلم، وهذا أدب كان يحرص عليه السلف، وينبغي أن يكون نصب أعيننا، وأن نجاهد النفس في تحصيل حفظ كتاب الله تعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 2 أقسام التوسل الممنوع ذكر العلماء أن التوسل الممنوع محرم، وحرمته تتراوح بين درجات قد يصل بعضها إلى كفر الإنسان، وقد يكون بعضها من الأمور المبتدعة، فمن توسل بالأصنام لأجل أن تشفع له عند الله فلا شك في كفره وردته، لكن التوسل الذي وقع الخلاف فيه هو ثلاثة أنواع: الأول: التوسل بذوات الأشخاص، وهو أن يقول الإنسان: اللهم إني أتوسل إليك بفلان، ويقصد به ذاته، أي: ذات هذا الشخص، كصاحب عبادة أو صلاح أو استقامة، أو دعوة مستجابة، أو أعمال صالحة إلى غيره، فيأتي يقول: اللهم إني أتوسل إليك بفلان أن تغفر لي، أو أتوسل إليك بفلان أن تجيب دعوتي إلى غير ذلك، وهذا التوسل لا يجوز، بل هو من التوسل البدعي المحرم. التوسل الثاني: التوسل بجاه فلان أو حقه. والجاه: هي المنزلة، أو أن يكون لهذا الشخص حق عند الله تعالى، ولذلك يتوسل بحق هذا الشخص وبمنزلته، كأن يقول: بجاه محمد، تجد بعض الناس اعتادوا هذه الكلمة، فيريد أن يطلب منك، فكأنه يعظم هذا الأمر في نفسه وفي نفسك، ويقول: بجاه محمد لا تردني عن هذا الطلب. فنقول: هذا من التوسل البدعي المحرم الذي لا يجوز، والجاه: هي المنزلة والحق والمكانة، وهذا الأمر ليس جائزاً عندنا أبداً. القسم الثالث: الإقسام على الله بالمتوسل به، وهو أن يقول: اللهم إني أقسم عليك بفلان أن تقضي حاجتي، وهذا لا شك أنه لا يجوز؛ لوجود الأمر الأول وهو أنه حلف بغير الله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) والأمر الثاني: أنه توسل بدعي لا يجوز شرعاً إطلاقاً. والأدلة على بيان أن هذا الأمر غير جائز، نحن نتساءل: حين ذكرنا سابقاً وقعدنا أن التوسل هو تقرب إلى الله، والأشياء التي نتقرب بها إلى الله هي نوع تعبد، والأصل في العبادات التوقيف ولابد من نص، فهذا الآن كأنه يتعبد إلى الله تعالى بشيء لم يوجد عليه دليل من كتابٍ ولا سنة، هل يوجد نص يدل على جواز التوسل بالذات أو بالمكانة أو الجاه أو بالشخص أو الإقسام؟ لا، وبناءً عليه نقول: هذا التوسل بدعي. الأمر الثاني: أننا لا نجد أحداً من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يعملون مثل هذا العمل، ونجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر الفرقة الناجية قال: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) ربطنا بالصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم أعظم مثال لتطبيق هذا الدين، فإذا لم يأتِ نص من كتاب ولا سنة، ثم إنه كذلك لا يوجد له من فعل الصحابة شيء، دل على أنه محدث، كما أننا نقول في قضية: أسألك التوسل سواء بالذات أو بغيره كأن تقول: بهذا الشخص أعطني، فما الرابطة بين دعائك وبين ذات الشخص، أو بجاهه ومنزلته، كون الإنسان له منزلة عند الله تعالى كمحمد صلى الله عليه وسلم والأولياء والصالحين فلهم منازل عند الله، ما وجه الرابطة بين سؤالك وبين منزلتهم؟ لا رابطة بينهما أصلاً. لكن لو جاء إنسان وقال: اللهم إنك تغفر لأوليائك وتعفو عنهم وتعطيهم الجنات العليا، اللهم إني أسألك أن تعطيني أجراً وثواباً وتغفر لي، فهذا جائز؛ لأنك أخبرت بفعل لله تعالى، وكأنك قدمت شيئاً من أسماء الله وصفاته وهذا أمر مشروع، فدل على أن التوسل البدعي هي الأنواع الثلاثة. السؤال هنا الذي يأتي: عندما قال المؤلف رحمه الله: ومودة القربى بها أتوسل هذا التوسل من أي أنواع التوسل؟ الجواب: من التوسل الجائز، توسل بالعمل الصالح مثلما تقول: اللهم إني أحب أولياءك وأحب دينك، وأحب ما جئت به من شرعك فاغفر لي، مثلما نقول: نحن نحب هؤلاء الصالحين، ونحب رسولك، ونحب قرابة نبيك صلى الله عليه وسلم، فنسألك أن ترزقنا بهذه أجراً وثواباً من عند الله تعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 حكم سب الصحابة قبل أن نختم مسألة الصحابة أومئ إيماءة سريعة في قضية: ما حكم من سب أحداً من الصحابة؟ هل يكفر؟ هل يقتل؟ هل يعتبر مبتدعاً؟ هل يعزر أو غيره؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 حكم سب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فقضية عائشة رضي الله عنها جعلت مفاصلة، فمن تعرض لـ عائشة رضي الله عنها واتهمها بما برأها الله منه فلا شك في ردته وخروجه من الإسلام، والسبب في ذلك: لأن الله أنزل في براءتها عشر آيات في سورة النور، وبين الله سبحانه وتعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] كأنه بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب فلم تكن عنده زوجة إلا طيبة، ومن قدح فيها كأنه قدح في محمد صلى الله عليه وسلم ووصفه بالنقص، بل كذب الله ورسوله. وجاءت مسألة: من قدح في إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان تعرض لمسألة العرض فهذا لا شك أن كالقدح في عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وهذا قد أومأ إليه جمع من العلماء رحمهم الله تعالى كـ ابن حزم وكـ الخرشي في شرحه على مختصر خليل، وكذلك ابن قدامة في المغني، وكذلك في شرح إعلاء السنن وغيره والقاضي عياض نقل عن الباقلاني وجمع، والخطيب البغدادي، ذكروا فيما يتعلق بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم أن لهن المنازل العليا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 حكم تكفير جميع الصحابة مسألة: إذا سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً وحكم بارتدادهم وبكفرهم، قالوا: فإن هذا يعتبر ردة عن الإسلام، والسبب: أن الله أثنى عليهم في غير ما آية: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] وشهد لهم بجنات عدن في غير ما آية، وشهد لهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بجنات عدن، فكأنه مكذب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ذكروا هذا في مسألة الردة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 حكم وصف الصحابة عموماً بالصفات الذميمة مسألة: إذا اتهم الصحابة بالصفات الذميمة، وقال: إن أصحاب محمد جبناء، وبخلاء، ووصفهم بصفات النقص بالجملة، قالوا: هذه ردة، ولذلك لما ذكر الله تعالى عن حال المنافقين، لما قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أجبن عند اللقاء، كأنهم يقولون: إذا جاءت الموائد هم أسرع الناس، وإذا جاءت المعارك هم أجبن الناس، فأنزل الله فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66] ولعل السبب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى بين في كتابه أنه رضي عنهم، ووصفهم بصفات عظيمة جداً في عبادتهم وشجاعتهم وجهادهم وتضحيتهم وبذل أموالهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فمن لمزهم وسخر منهم أو انتقصهم على وجه العموم فكأنه بهذا يكون مكذباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. هناك نصوص كثيرة في مسألة القدح في الصحابة، ذكر العلماء النقود التي نقد بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نجعلها على أقسام: القسم الأول: التعرض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحدهم قالوا: وهذا لا يخلو من أمور متعددة: الأول: الشتم له، وهذا لا شك أنه يعتبر شتم واحد من الصحابة، كأن يقول: فلان بخيل، فلان ليس بكريم، أو عنده صفة الجبن صحابي، فهذه كبيرة من الكبائر. لكن إذا حكم بها على الصحابة جميعاً فهذا يعتبر كفراً، والسبب: لأنه تكذيب للنصوص الواردة. قالوا: وإن كان التعرض له بدينه، أي: تعرض للصحابة رضي الله عنهم بالدين سواء بالكفر أو النفاق أو الردة، فلا يخلو إما أن يكون هذا الصحابي ممن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بجنات عدن، قالوا: هذه ردة عن الإسلام، لكن إذا كان رماه بالموبقات وبالمعاصي، ولم يكن ممن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بجنات عدن، فهذا يعتبر كبيرة من كبائر الذنوب. القسم الثالث: إذا تعرض لجمهور الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فهذه المسألة للعلماء فيها أقوال، فمن العلماء من يكفره، ومن العلماء من لا يكفره، لكن الأظهر أن من تعرض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق فإنه يكفر، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في منهاجه: أن من تعرض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنهم ارتدوا ما عدا ثلاثة أو غيره، فإن هؤلاء يعتبرون كفاراً؛ لأنهم كذبوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، هذا ما يتعلق بما ينبغي علينا تجاه الصحابة رضي الله عنهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 مناسبة ذكر القرآن بعد الكلام على الصحابة ذكر المؤلف رحمه الله تعالى مسألة القرآن فقال: وأقول في القرآن ما جاءت به آياته فهو القديم المنزل وجميع آيات الصفات أمرُّها حقاً كما نقل الطراز الأول وأرد عهدتها إلى نقّالها وأصونها من كل ما يُتخيل بعد أن بين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى منزلة الصحابة وأنهم يحبون جميعاً، وأن قرابة النبي صلى الله عليه وسلم لهم المنازل العليا، وبين أن أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم لهم منازل ورتب كما أن الرسل عليهم الصلاة والسلام فضل الله بعضهم على بعض: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم مراتب ومنازل، ثم بين أن أعلاهم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقلنا في منازل الصحابة أن أفضلهم على الإطلاق أبو بكر ثم الخلفاء الثلاثة، ثم العشرة المبشرون بالجنة، ثم أهل بدر ثم أهل بيعة الرضوان، ثم أهل أحد، ثم من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بجنات عدن ما عدا العشرة المبشرين بالجنة، ثم من لهم سابقة إلى الإنفاق ومن أسلم من بعد رضي الله عنهم وأرضاهم. ثم انتقل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إلى قضية التوحيد، فإنه قعد لنا قاعدة في الصحابة، وذكرنا السبب في ذلك؛ لأن الصحابة هم نقال هذا الدين؛ ولأن مسألة الصحابة هي من أوائل المسائل التي حدث الخلاف فيها، ولذلك كانت نواتها في عهد عثمان رضي الله عنه وفي عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره. ثم انتقل الآن إلى مسألة التوحيد وربطنا بمسألة القرآن، والقرآن هو كلام الله تعالى، قبل أن نتكلم على قضية القرآن أود أن أذكر: لماذا ذكر القرآن بعد قضية الصحابة؟ نقول: القرآن هو كلام الله تعالى، وتعتبر مسألة الكلام من أعظم المسائل التي وقع الخلاف فيها، بل هي من أكبرها، ووقع النزاع فيها، ووقعت الفتنة بها في القول بخلق القرآن، حيث قامت المعتزلة بفتنة عمياء وأوذي عدد كبير من أئمة أهل السنة بسببها. ولذلك تميز الإمام أحمد بموقفه رضي الله عنه ورحمه من هذه الفتنة العظيمة، وكانت من المسائل التي تقتضي المفاصلة، كما أن من مسائل المفاصلة عندنا الصحابة رضي الله عنهم، فإذا أردت أن تعرف هل هذا سني أم مبتدع فانظر موقفه من الصحابة، فإن كان يقدح في آل بيت النبي عرفت أنه خارجي، وإن كان يقدح في أبي بكر وعمر عرفت أنه رافضي، وهكذا نفس مسألة الكلام، فإنك إذا علمت أنه قال: القرآن مخلوق، عرفت أنه معتزلي، أو قال: إن القرآن كلام نفسي عرفت أنه أشعري، وسيأتي ذكر شيء من الأقوال. وقبل أن ننطلق إلى مسألة الكلام أومئ إيماءة سريعة جداً إلى أقسام التوحيد: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 مسائل متعلقة بتوحيد الربوبية ذكرنا سابقاً أن أقسام التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وسوف نذكر توحيد الربوبية ونأخذ فيه ثمانية عناصر: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 تعريف الربوبية في اللغة والاصطلاح العنصر الأول: في تعريف الرب: الرب في اللغة له معانٍ، يقتضي المالك، والمتصرف، والمدبر، والسيد، ولفظ الرب لا يطلق على الإله وحده، ولذلك قال جد النبي صلى الله عليه وسلم: أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه، ولذلك يقال للإنسان: هذا فلان رب أسرة. أما في الاصطلاح: فيأخذ معنى التنشئة والنمو، ولذلك يقال: هذا يربي أسرة أي: ينميها، ويقال: هذا يربي غنماً وهذا يربي دجاجاً وهذا كذا، أي: يحرص على تنشئتها وتنميتها، والإحسان إليها وإطعامها وغير ذلك. أما تعريفه في الاصطلاح: فهو إفراد الله بأفعاله، أي: بأفعال الرب سبحانه وتعالى، وقوله: أفعاله لتشمل جميع أفعال الله تعالى: الخلق الرزق الإحياء الإماتة التدبير ومنهم من يعرفه فيقول: هو الإقرار والاعتراف بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المصرف لهذا الكون وحده لا شريك له، بمعنى: أنه لا يشركه في أفعاله أحد أبداً، الإحياء لا يشركه فيها أحد، الإماتة لا يشركه فيه أحد، الرزق لا يشركه فيه أحد، التصريف في هذا الكون لا يشركه فيه أحد أبداً، فمن أوجد شريكاً مع الله في ربوبيته لم يكن موحداً لله تعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 أدلة توحيد الربوبية أدلة الربوبية كثيرة جداً في القرآن، بل إنها من الأمور التي يشعر بها الإنسان في ذاته، وقد دل عليها الكتاب والسنة والفطرة والعقل، والأعرابي في الجاهلية يقول: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا يدل على اللطيف الخبير؟! نقول: بلى. وقال الشاعر: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد بل نجد أعظم من ذلك أن الله قد أعطانا لفتة فقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] في نفسك أنت فقط تعرف أنك لا تستطيع شيئاً، ولهذا لو نظر الإنسان إلى مثال بسيط، من يزور مثلاً أصحاب مرض الكلى، تجده يدخل جهازاً ضخماً جداً ويجلس أربع ساعات من أجل أن يغسل، ومع ذلك في جوفه قطعة لحم صغيرة جداً تقوم بهذه المهمة كاملة: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] . ومن اللطائف في قضية العقل، أن العقل مليء بالخلايا، وهذه الخلايا مخزونة بأشياء عجيبة جداً فمثلاً: تجد أن الإنسان وهو جالس يستذكر حدثاً منذ عشرين سنة مباشرة، ويتصوره مباشرة، كأنها أشرطة، قالوا: فلو أريد أن يركب في عقل، أي: يؤتى عن طريق الكمبيوتر الآن مثلما يعمله عقل الإنسان، قالوا: وجدوا أن شرائح الاسطوانات يمكن أن تملأ الكرة الأرضية في حجمها، فتجد الإنسان وهو جالس يسمع كلمة مباشرة يبتسم، يسمع كلمة يبكي، يسمع كلمة يتغير يغضب، انفعالات سريعة جداً، لكن إذا طلبت -مثلاً- جهاز كمبيوتر يحتاج يقول: انتظر الآن الجهاز يرد، الإنسان سريع سبحان الله العظيم: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] . إذاً: هذا دليل على قضية الربوبية، وأدلته في القرآن: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [العنكبوت:61] {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] إلى غيرها، وما كانت كفار قريش تقول: إن آلهتها هي التي تحيي وتميت، ولا تقول: إن آلهتها هي التي تدبر هذا الكون. ذكروا من الأدلة العقلية دليلاً عقلياً على ربوبية الله تعالى، ومن الأدلة ما أومأ إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] هل أنت خلقت من غير شيء؟ ستجد الإجابة معروفة: أنني خلقت من شيء. أم أنا الذي خلقت نفسي؟ أعرف بأني لم أخلق نفسي. لم يأتِ الجواب، كأنه يريد أن تستنتج هذا أنت بعقلك، فتعرف بأن الخالق لك هو الله وحده لا شريك له. ذكروا قصة مشهورة عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، أنه جاءه بعض الملاحدة، وكانوا ينكرون الرب، فقال: دعونا من مسألة الرب، أي: كونه موجوداً أو غير موجود، أريد أن أسألكم سؤالاً، وكان في العراق رحمه الله، قال: هناك سفينة على نهر دجلة تأتي إلى طرف الشاطئ وتحمل البضائع بدون أن يكون لها ربان، أي: قائد لها، ثم تنزل البضائع في الشاطيء من الجهة الأخرى وترجع دون أن يكون معها أحد، قالوا: هذا أمر مستحيل ولا يمكن تصديقه، قال: سبحان الله! سفينة صغيرة، وفي شواطئ نهر فقط، ويستحيل هذا الأمر، كيف بالكون كله، فبهتوا وأقروا بأن الله هو المدبر لهذا الكون وحده لا شريك له. ويضربون أمثلة على توحيد الربوبية وتفاصيله وغيره، كقول بعض الشيوعيين والدهريين والطبائعيين وغيرهم إن الأمر حدث بالصدفة، ولا يمكن أن يكون له إلهٌ ولا ربٌ، وهذا كلام باطل، ولهذا ضربوا بمثالين لطيفين: قالوا: لو قلنا بقضية الصدفة، فلو جئنا مثلاً بقرد وأعطيناه آلة كاتبه، ثم قلنا للناس: ضرب هذا القرد على الآلة الكاتبة، فأخرج لنا رسالة عظيمة جداً ولطيفة في مسائل في علمٍ من العلوم، قالوا: لا يمكن أبداً، كيف يكتب الحروف ويصيغها؟ قلنا: صدفة، قالوا: لا نصدق، قلنا: سبحان الله!! الكون كله تقولون: صدفة بنظامه، وله مئات السنين بل آلاف السنين، والله قد جعل له سنناً كونية باقية فيه، تقولون: إنه صدفة، وهذا القرد لا يمكن أن يكتب صدفة، فدل على نقص عقولهم. ومن اللطائف الأخرى، قالوا: حدث أن مطبعة انفجرت، فطارت الحروف والأوراق ولصقت بالورقة وأخرجت لنا رسالة أو قصيدة جميلة جداً، وهذا حدث صدفة، قالوا: لا يمكن أبداً، فيقال: إذا لم يمكن هذا في ورقة وفي رسالة صغيرة، فكيف بهذا الكون العظيم البديع الذي دبره الله سبحانه وتعالى؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 توحيد الربوبية بين الإقرار والجحود الربوبية لم ينكرها إلا طائفتان فقط، والأصل أنهم لم ينكروا الرب، ولهذا جاءت: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم:10] أفي الله شك؟ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38] وتأتي الآيات العظيمة جداً: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:68-69] {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} [الواقعة:71-72] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58-59] أدلة كثيرة جداً لم يكن الكفار يقولون: نحن الذين خلقناها، أو يقولون: آلهتنا هي التي أوجدت هذا الشيء، مما يدل على أنهم كانوا مقرين ومعترفين بأن الله سبحانه وتعالى هو المتصرف. ذكروا من الأمثلة على هذا المثال في قضية الذين كابروا هذا الأمر إما تعطيلاً وجحداً كحال فرعون، والله قد قال عنه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] وفي قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102] . كأنه الآن في قرارة نفسه مقر ولكنه مستكبر. ومن الذين جعلوا مع الله غيره في الربوبية كحال المجوس وكحال النصارى وكحال المعتزلة، فالمجوس قالوا: بإلهين، إله الظلمة وإله النور، والنصارى قالوا: إن عيسى عليه الصلاة والسلام له حق التصرف في هذا الكون، وأنه يحيي ويميت، والمعتزلة قالوا: إن الإنسان يخلق فعله، والله ليس خالقاً لأفعال العباد، وهذا الكلام باطل لا شك فيه. - ومن الذين أنكروا توحيد الربوبية: الدهريون الذين قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] ولذلك قال قائلهم: (أرحام تدفع، وأرض تبلع) ما عندنا شيء، نساء تحمل وتقذف ثم الأرض تبتلعها وينتهي الإشكال، وهذا الكلام باطل لا شك فيه. - ومنهم كذلك النمرود بن كنعان الذي قال لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] فقال إبراهيم بعد هذا: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] وهذا ممن أنكر توحيد الربوبية. وفي عصرنا الحاضر يوجد الشيوعيون، ومن اللطائف أن الذين صعدوا القمر هم من روسيا وقالوا عندما نزلوا وقوبل معهم قالوا: علمنا أن هذا الكون له مدبر ولا يمكن أن يحدث صدفة، وبعده بأيام مباشرة قابلوا معهم فقالوا: صعدنا إلى الكون فما وجدنا إلهاً، خافوا أن يرجع الناس عن معتقد الشيوعية. ومن اللطائف أن الذين يعيشون في المراكب الفضائية قالوا: إنهم يرجعون بروحانيات وبتأمل وفكر عجيب في عقولهم، لما يشاهدون من عجيب صنع الله تعالى في الكون، وهذا لا شك أنه من العجائب. ولهذا ربطنا الله بلطائف: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ذكر الليل والنهار واختلافهما، كلما كثرت هذه الأمور قوي عند الإنسان ترسيخ ربوبية الله تعالى، وإن كان سيأتي البيان أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لم تبعث لتقرير الربوبية، وإنما بعثت لتقرير ألوهية الله تعالى. وعندما كان الشرك موجوداً وقد يقع في الأمم جاء في القرآن دليل على إبطاله، وهو قول الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] الله يبين أنه لو كان للكون إلهان لكانت النتيجة: لانفصل كل إله بما خلق، كل إله يستقل: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} حصلت خصومة في الكون، ونحن نتساءل: هل نجد نظام الكون منفصلاً أم أنه واحد؟ الجواب: نجده واحداً. وهل نجد علو بعضهم على بعض؟ الجواب: لا. إذاً الكون ليس له إلا رب واحد وإله واحد. نقول: الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالربوبية، وتفرده بالربوبية تفرد بالخلق، وهو سبحانه وتعالى يقول: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ} [فاطر:3] {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] وكما أنه متفرد بالملك والله يقول: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون:88] دل على أنه سبحانه وتعالى هو المالك لكل شيء، ولذلك قال مثنياً على نفسه: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] هل معناه: أنه يوجد هنا خالق غير الله؟ لا، وكذلك الذين يصورون يقال لهم يوم القيامة: (أحيوا ما خلقتم) هل خلقهم مثل خلق الله؟ لا يمكن أبداً، فلا شك أن هذه إطارها صغير، وأما بالنسبة لما يتعلق بالله فإنه هو المدبر لكل شيء. يجب أن نعلم قاعدة وهي مهمة جداً: توحيد الربوبية ليس مطالباً به أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقط، وليس الإقرار هو للعرب في الجاهلية وحدهم، بل إن الأمم السابقة كانت مقرة به، قوم نوح مقرون به، ولهذا جاء في سورة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] ما اعترض قوم نوح على نوح فقالوا: آلهتنا هي التي تعمل هذه، بل هم معترفون بأن الله هو الذي يعمل تلك، يرسل السماء مدراراً، ويمددهم بأموالٍ وبنين، ويجعل لهم جنات وأنهاراً، هو سبحانه وتعالى المدبر وحده، ولهذا فإن الأمم السابقة مقرة بربوبية الله تعالى، وإنك إذ تقرأ قصة أي نبي من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام في القرآن تجد الإيماء لقضية الربوبية. نصل إلى نتيجة فنقول: إن توحيد الربوبية غلت فيه طوائف المبتدعة، فتجد أهل الكلام والنظر والصوفية يركزون على توحيد الربوبية تركيزاً عظيماً جداً، ويرون أنه هو التوحيد الذي خلقت من أجله الخليقة، وهو الذي بعثت به الرسل، والعجب أنهم يفسرون لا إله إلا الله تفسيراً بربوبية الله إذ يقولون: لا مخترع إلا الله، وهذا الكلام باطل لا شك فيه، ووجه بطلانه: أن مشركي العرب كانوا مقرين بربوبية الله تعالى، والدليل على ذلك: {إِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] وكذلك من الأدلة بل أعظم دليل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] وجاءت الآيات التي: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} [الواقعة:68] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:58] {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة:71] خطاب لمن؟ للعرب في الجاهلية وللمشركين، ومع ذلك لم يعترضوا أبداً على ربوبية الله تعالى، وهم إذا أصابتهم الشدائد لجئوا إلى الله في كشف أمراضهم، وما أصابهم منه، مما يدل على أنهم مقرون بربوبية الله، ومع ذلك لم يفدهم شيئاً، قاتلهم النبي، وسبى النساء، وأخذ الأموال وغنمها صلى الله عليه وسلم ولم ينظر إلى قضية الربوبية، ولهذا نقول: إن الرسل عليهم الصلاة والسلام لم يرسلوا لتقرير ربوبية الله تعالى، كما أن الشرك في الربوبية لم يكن كثيراً، وإنما كان الشرك في إلهية الله تعالى. لعلي ذكرت لكم قصة نقلت عن أحد أئمة أهل الكلام عندما مر في الطريق وقال لامرأة: إنه يحفظ ألف دليل على وجود الله تعالى، قالت المرأة: لو لم يكن في قلبه ألف شك ما احتجنا إلى ألف دليل على وجود الله تعالى، فالله موجود، ولا يحتاج إلى كثرة أدلة على إثبات وجوده وربوبيته تعالى. يقول العلماء رحمهم الله: إن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، والآيات التي ترد في ربوبية الله تعالى كلها إنما ترد ليس ليبين للناس أن الله هو الخالق الرازق المدبر لأنهم يعرفونه، وإنما لينقل من الربوبية إلى الألوهية، والدليل على ذلك، ما ذكره الله في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة:21-22] كل هذه ربوبية، جاءت بعدها: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة:22] جيئت المقدمة ليبين للناس أن الواجب أن يذكروه، وجاءت الآن في الآيات التي تقرر الربوبية (أَفَلا تَتَّقُونَ) (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) كله، لماذا لا تأخذون بألوهية الله تعالى؟ أومأ ابن القيم إيماءً لطيفاً أظنه في الوابل الصيب، وأربطه بمثال واقعي، لما طلب الله من عيسى عليه الصلاة والسلام أن يبلغ بني إسرائيل، وذكر من اللطائف هنا في مسألة النقل من الاستلزام كحال من استقدم رجلاً أو موظفاً عنده أو سائقاً، نحن إذا استقدمنا سائقاً يحتاج أن تؤمن له السكن، أن تؤمن له مكيفاً، أن تؤمن له فراشاً، أن تؤمن له موقع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 مسائل متعلقة بتوحيد الألوهية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 تعريف توحيد الألوهية أما توحيد الألوهية فقالوا: إن الإلهية نسبة إلى الإله بمعنى: المعبود، وقالوا: إن أصلها مأخوذ من أله يأله إلهة وألوهة، وهو بمعنى: عبد، ويؤخذ منها معنى التذلل والخضوع، نجد أن الإله اسم يطلق على المعبود بحق وبغير حق، بخلاف لفظ (الله) فإنه مختص بالمعبود بحق، ولا يجوز أن يطلق على أحد كائناً من كان، ولهذا قالوا: إنه علم على الذات الإلهية. توحيد الألوهية هو: إفراد الله بأفعال العباد، وقيل: هو إفراد الله بالعبادة، هذه عبادة الأفعال عامة، وجاءت أفعالي كما في قوله تعالى: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] جاءت {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] حياتي كلها أعمال. إذاً كل ما عندي يجب أن يكون لله تعالى من الأعمال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 الغاية من إرسال الرسل توحيد الألوهية لا شك أنه التوحيد الذي بعثت به الرسل، وأنزلت من أجله الكتب، ومن أجله خلقت الجنة والنار، ومن أجله خلقت الخليقة كلها، كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] . وسبحان الله! هذا التوحيد هو الذي وقع النزاع فيه بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبين أممهم، ونجد أنه ما من نبي إلا ويأتي إلى قومه فيقول لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73] {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] . يعتبر توحيد الألوهية أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول واجب على المكلف، وآخر ما يخرج به الإنسان من الدنيا إلى غيره. ذكرنا أن الأصل في البشرية هو توحيد الله، والله خلق آدم وذريته على التوحيد، ولذلك جاء في الحديث القدسي: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) وأول شرك وقع في البشرية هو في ألوهية الله تعالى، ولذلك قوم نوح عبدوا القبور والتماثيل التي كانت لرجال صالحين، ومع ذلك وقع الانحراف فأُرسل نوح عليه الصلاة والسلام لأجل هذا. وضد توحيد الألوهية صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله تعالى، سواء كانت ذبحاً أو نذراً أو غيره، أو صرف العبودية كلها لغير الله تعالى، وهذا لا شك أنه أخطر شيء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 أساليب القرآن في الدعوة إلى توحيد الألوهية ورد في القرآن أساليب الدعوة إلى توحيد الألوهية، ومن الأساليب ذكرنا في توحيد الربوبية شيئاً منها، قالوا: سوق آيات الربوبية في الخلق والتدبير والملك والحفظ لتقرير الألوهية، كما ذكرنا في الآية التي في سورة البقرة. ومن الأساليب في الدعوة إلى توحيد الألوهية التنديد بما يتخذه الكفار من آلهة من دون الله تعالى، وإظهار حالها من العجز: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191] كأنه يندد بآلهتهم أنها لا تستحق شيئاً: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف:192-193] كل هذا بيان أنها لا تستحق شيئاً ولا لها تصريف أبداً. ومن الأساليب كذلك: ذكر أسماء الله وصفاته، والله يقول: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] فمن كان متصفاً بالصفات الحسنة وبالصفات العليا والأسماء الحسنى فهو المستحق لأن يعبد. ومنها كذلك: بيان حال العابدين يوم القيامة ممن عبد، وكذلك بيان حال الآلهة المعبودة من دون الله تعالى يوم القيامة، ولهذا بين الله سبحانه وتعالى حال العابدين: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54] {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5-6] إذاً لا يستفيدون من الآلهة شيئاً لا في الدنيا ولا في الآخرة، إذاً آلهتكم لا تستحق أن تعبد أبداً بوجه من الوجوه. لما كان توحيد الألوهية هو أول دعوة الرسل كان جل الكتب التي تكتب في العقائد تركز على توحيد الألوهية، ولعل أعظم ما ألف إفراداً منفصلاً في توحيد الألوهية كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ويعتبر من أنفس الكتب التي ركزت على توحيد الألوهية، ولا يستغني عنه عصر ولا أمة، وإن كانت بعض الكتب التي ألفها بعض العلماء قد تكون ركزت على توحيد الأسماء والصفات؛ نظراً لانحراف معين، وكأن هذه تعالج جزئية، وبعضها ألفت في الرد على طوائف منحرفة، لكن كتاب التوحيد للشيخ محمد رحمه الله ركز تركيزاً عظيماً جداً على توحيد الألوهية، وينبغي لطالب العلم أن يحفظه، وأن يقرأه ويعلمه ويتعلم ما فيه من المسائل العظيمة، وأن يبلغها للناس. نجد أن الشارع احتاط لتوحيد الألوهية احتياطات عظيمة جداً، ونجد أنه نهى عن ألفاظ التعظيم كالحلف بغير الله، وكذلك نسبة الشيء لغير الله تعالى، ونُهينا عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، ونهي الإنسان عن شد الرحل، ونهي عن تجصيص القبور وإنارتها وغيره، كل هذا لسد الوسائل التي تؤدي إلى الوقوع في الشرك. ومنها كذلك: القيام للشخص القادم وغيره، ولذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً) وإن كانت هذه المسألة فيها كلام لطيف جداً لشيخ الإسلام ابن تيمية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 تعريف العبادة ما دمنا نقول: إفراد الله بالعبادة، فالعبادة في اللغة: هي الذل والخضوع، يقال: طريق معبد أي: مذلل وطئته الأقدام. وتعريفها في الشرع: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. والأقوال الظاهرة مثل: قراءة القرآن، الذكر، التلبية. الأقوال الباطنة مثل: أول ما يرد على القلب من قضية التصديق يسمى قول القلب. والأعمال الظاهرة، مثل: الركوع والسجود والصيام والحج، والجهاد في سبيل الله. والأعمال الباطنة: مثلما يحدث للإنسان بعد قضية الورود من التمكن، ومن الأمثلة على ذلك: أنت إذ ترى شخصاً معيناً، تجد منذ أن تنظر إليه تشعر أن قلبك يميل إليه لخلقه وما عرف شيئاً من خلقه، لكنك وجدت رابطة بينك وبينه، قالوا: هذا أول وارد يرد على القلب، والنتيجة بعد أن تعرفت على هذا الشخص، ورأيت أخلاقه وأدبه وتضحيته وتفانيه وعبادته وصلاحه وطلبه للعلم، تجد أن قلبك يتفاعل. ولعل من الأمثلة البسيطة على قضية قول القلب وعمل القلب: نحن جلوس هنا، وسمعنا صوتاً مفزعاً، كأن يكون إطلاق نار مثلاً، ونحن جلوس ورد على القلب شيء، كل شخص ينظر إلى الباب، هل يدخل أحد أم لا يدخل؟ لكن بعد قليل دخل شخص مسرعاً، قال: انتبهوا ورائي الآن شخص يلاحقني، ماذا تكون النتيجة؟ القلب يصبح على نفس الكلام الأول أم يزداد تفاعله؟ يوجد تفاعل كبير جداً، يصبح القلب يخفق وكل واحد ينظر باب نافذة لكي يفك نفسه مخافة أن يصاب بسوء، قالوا: فهذا العمل وهذه الحركة تسمى عمل القلب. ويدخل في قضية العبادة حب الله ورسوله، ورجاء رحمة الله تعالى والخوف من عذابه، والتوكل عليه وغير ذلك، تدخل هذه كلها وتسمى من الأعمال الباطنة، والعبادة لا شك أنها هي الغاية المحبوبة والمحمودة والمرضية التي خلق الناس من أجلها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] لا شك أن العبادة من حيث هي أعم من كونها توحيداً عموماً مطلقاً، فكل موحدٍ يكون عابداً لله تعالى، وليس كل عابد لله تعالى يكون موحداً؛ لأن المشرك قد يعبد الله ويعبد غيره، يعبد الله فترة ويعبد غيره، لكن الموحد هو العابد لله حق العبادة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 أصول العبادة ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن للعبادة أصولاً ثلاثة تنبني عليها: 1- المحبة. 2- الخوف. 3- الرجاء، ومن لا توجد عنده هذه الأصول الثلاثة فإنه لم يعبد الله حق العبادة، ولذلك نقل عن بعض السلف رحمهم الله تعالى أن من عبد الله تعالى بالخوف وحده فهو خارجي حروري، ومن عبد الله تعالى بالحب وحده فهو صوفي زنديق، ومن عبد الله تعالى بالرجاء وحده فهو مرجئ، ولكن أهل الإيمان يعبدون الله تعالى بالمحبة والخوف والرجاء جميعاً، ويعتبر هذا هو السلفي السني، والله يقول في كتابه: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 أقسام العبادة تنقسم العبادة إلى أربعة أقسام: 1- عبادة قلبية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] . 2- عبادة قولية: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] . 3- عبادة بدنية: كالحج والصلاة وطلب العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غيره. 4- عبادة مالية: مثل الزكاة، والصدقات، والذبائح، والنذور، وتجتمع العبادات الأربع في الحج وحده، فالحج فيه عبادة قلبية؛ لأنه قصد ونية، وفيه عبادة قولية وهي التلبية، وفيه عبادة عملية وهي الطواف، وفيه عبادة ماليه؛ لأن الإنسان يحتاج إلى نفقه في الحج. ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس العاشر) معرفة أسماء الله وصفاته لها قواعد وأصول مستمدة من نصوص الكتاب والسنة، ولا عبرة بطعن أهل البدع والأهواء في نصوص الأسماء والصفات وتحريفهم لها؛ اتباعاً لما قعدوا وأسسوا على وفق عقولهم وأهوائهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 1 مدلول كلمة (القرآن) في اللغة والاصطلاح الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأقول في القرآن ما جاءت به آياته فهو القديم المنزل في بعض نسخ المنظومة: (فهو الكريم) ولعل هذا أولى وأصح كما سيأتي بيان ذلك. قوله: (وأقول في القرآن) ذكرنا سابقاً أن القول يطلق ويراد به الاعتقاد، وهو يقول: وأعتقد في القرآن، والقرآن هو اسم للكلام الموحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جملة المكتوب في المصاحف، المشتمل على مائة وأربع عشرة سورة، أولها سورة الفاتحة وآخرها سورة الناس، وأصبح القرآن علماً يطلق على الوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. واختلف أهل اللغة رحمهم الله تعالى في أصل اشتقاق هذه الكلمة، هل هي من قرأ أم من قُران؟ فإذا قيل: قرأ، تكون مهموزة، وقران سيأتي أنها ليست مهموزة، وإذا قيل: إنه اشتق من قرأ، سبب اشتقاقه يقال: إنه أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم هي سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] وكما في قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء:106] . والاشتقاق الثاني: أنها مأخوذة من قُران، على وزن فعال من القرن، أي: أن القرآن جمع بعضه لبعض، ويقصد به: أنها قرنت سوره وآياته بعضها ببعض، ويؤخذ من معناه: الاجتماع، فنجد أن الحروف مجتمعة، والسورة مجتمعة، والآيات مجتمعة. ولفظ القرآن لم تطلق على كتاب من الكتب السابقة سوى ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وللقرآن أسماء كثيرة ومشتهرة وردت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد أوصلها السيوطي في إتقانه إلى نيف وعشرين، وإن كان جلها أوصافاً وليست أسماء، وأشهر ما أطلق على القرآن أنه التنزيل، والكتاب، والفرقان، والذكر، والوحي، وكلام الله تعالى، وشرح العلماء رحمهم الله تعالى سبب تسميته بالقرآن، والتنزيل، والفرقان وغيره، ولسنا بصدد الكلام على هذا. يقول الشيخ رحمه الله: وأقول في القرآن ما جاءت به أي: أنه عقيدته في كلام الله تعالى هو ما ورد في الآيات. (ما جاءت به آياته) ما جاء في الآيات في كتاب الله تعالى، ويدلنا على المنهج الواجب في باب الأسماء والصفات، وهو ألا نثبت لله شيئاً من الأسماء ولا نثبت لله شيئاً من الصفات إلا بنص من كتاب أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والمنهج في باب الأسماء والصفات نقول: باب الأسماء والصفات من الأمور الغيبية، والأمور الغيبية لابد فيها من نص من كتابٍ أو سنة، وما لم يرد نص من كتاب أو سنة فلا يمكن أن نثبتها، ولا يمكن أن ننفيها. (آياته) الآية: هي مقدار من القرآن مركب سواء كان تقديراً أو إلحاقاً تقديراً مثل: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:64] معناها: هما مدهامتان، مثل قول الله تعالى: {وَالْفَجْرِ} [الفجر:1] {وَالضُّحَى} [الضحى:1] كأنه قسم: والله أقسم بالفجر، أقسم بالضحى. ومثل الإلحاق: الآيات التي وردت في فواتح السور، مثل: (آلم) ، (آلر) هذه تسمى ملحقاً، وقالوا: إنما سميت الآية آية لأنها دليل على أنها موحى بها من عند الله تعالى. والآية التي يوحى بها من عند الله تعالى جلها تكون إلى الأنبياء والرسل، فإن أفراد الناس لا يوحى إليهم أصلاً، وإنما يوحى للأنبياء والرسل، وتأتي الآية دليلاً على صدق هذا النبي والرسول عليه الصلاة والسلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم أوتي الآيات العظيمات الدالة على صدقه. بالنسبة لتحديد الآية بدايتها وأولها وآخرها، هذا أمر توقيفي لا يمكن للإنسان أن يقول: هذه آية من عند نفسه، وإنما كان الصحابة يتلقون ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكرت للآية إطلاقات متعددة، وذكروا أن من الإطلاقات للآية ما أطلق على المعجزة، وتطلق على القطعة من القرآن، والآية في كلام العرب يطلق ويراد بها أمارة، يقال: آية هذا الشيء أمارته، أي: علامة على هذا الشيء، ولعل كل هذه تطلق على ما ورد من هذه الآيات. وذكر العلماء أطول آية، وهي قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح:25] قالوا ومثلها: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:102] لكن أعظم آية في كتاب الله تعالى: هي آية الكرسي، وأقصر آية في القرآن في عدد كلماتها قوله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:64] وبالنسبة لما يتعلق بالحروف المقطعة قالوا: إن أقصر آية: {طه} طه 1] وبالنسبة لعدد آيات القرآن فقد ذكر أبو عمرو الداني رحمه الله تعالى وهو من كبار القراء في كتابه وسماه: (العدد) قال: أجمعوا أن عدد آيات القرآن ستة آلف آية، وما حصل من الزيادة على ذلك فقالوا: إنه اختلاف بين العلماء في تحديد أول الآية أو آخرها، بناءً على قول بعضهم: ربطناها بالمعنى، وبعضهم يقول: لا، بناءً على التلقي الذي أخذوه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. بالنسبة لترتيب الآيات في المصحف فهو ترتيب توقيفي، ولا يجوز للإنسان أن يقدم آية على آية في قراءة أو في غيره بأن يقرأ القرآن منكساً، أي: مثلاً يبدأ بآخر الفاتحة، ثم يختم بالحمد لله رب العالمين. نقول: لا، لأن القرآن معجز في ترتيبه، وفي آياته، وبالنسبة لترتيب السور فالصحيح أنه ليس توقيفياً، ومنهم من يقول: إنه توقيفي، ومن قال: ليس ترتيب السور توقيفية قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة، ولو كان توقيفياً لسردها النبي صلى الله عليه وسلم سرداً على ضوء ما ورد، ولكن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعوا على أن عثمان رتب المصحف بالترتيب الموجود بين أيدينا، وكأن جمعاً من أهل العلم قالوا: الأولى للمسلم ألا يقدم سورة على سورة، نظراً لإجماع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. هذا فيما يتعلق بـ: وأقول في القرآن ما جاءت به آياته فهو القديم المنزل في كلمة: (القديم المنزل) لفظة القديم سيأتي إن شاء الله تفصيلها، وبيان معتقد أهل السنة والجماعة في كون القرآن قديم. أقول للأحبة: إن تركيزي على بعض المسائل؛ نظراً لما تمس الحاجة إليه، فمبحث الأسماء والصفات تحتاجه الأمة، ولا يزال كثير من المسلمين يتخبطون فيه، ومبحث الصحابة لا يزال كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام يتخبطون فيه، وبقية الأبيات متعلقة باليوم الآخر فلا تحتاج إلى شيء من التفصيل؛ لأنها من المسائل الخبرية التي يتلقاها المؤمن بالتسليم، ولم يحدث فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله تعالى في كثير منها، خاصة الخلاف الذي ينبني عليه تفرق وانقسام في الأمة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 2 أصول توحيد الأسماء والصفات توحيد الأسماء والصفات: هو الإقرار والاعتراف بأن لله تعالى الأسماء الحسنى والصفات العلى التي لا يشركه فيها أحد، يقول العلماء رحمهم الله تعالى: إن توحيد الأسماء والصفات ينبني على ثلاثة أصول لابد منها: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 أسماء الله وصفاته توقيفية الأصل الأول: أن أسماء الله وصفاته كلها توقيفية، لا يجوز إطلاق شيء منها على الله تعالى في الإثبات والنفي إلا بنصٍ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول العلماء رحمهم الله تعالى تفريعاً لهذا الأساس: باب الأسماء والصفات ينبني على ركنين: الركن الأول: الإثبات. الركن الثاني: النفي. فمن أتى بالإثبات وحده دون النفي لم يأتِ بالمنهج الصحيح، ومن أتى بالنفي دون الإثبات لم يأتِ بالمنهج الصحيح، ولذلك يعتبر عقيدة أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات يقولون: إثبات ما أثبته الله لنفسه، ثم قالوا: وإثبات ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فهل يكفي الإثبات وحده؟ نقول: لا، ثم يأتون بالركن الثاني: ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. جاءوا بقضية الإثبات قالوا: من غير تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل، هذا الإثبات عندهم. ثم جاءوا إلى قضية النفي فقالوا: من غير تعطيل ولا تحريف ولا تأويل، حتى يبتعدوا عن طوائف المبتدعة من المشبهة والمعطلة، ولذلك لا إثبات إلا بنص، ولا نفي إلا بنص. عندنا ألفاظ أطلقت على الرب لم يرد عليها دليل لا من كتاب ولا سنة، ووجدت في بعض كتب العقائد، فيقول السلف رحمهم الله تعالى: ما لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة فإنا نتوقف فيه مثل: الجسم، والحيز، والعرض، والجوهر، والجهة، كل هذه لا دليل عليها من كتاب ولا سنة، فما موقفنا منها؟ قالوا: لا نثبت ولا ننفي. الواجب علينا أن نتوقف فنسأل القائل أو المطلق لهذا اللفظ: ماذا تقصد منه؟ فإن قصد حقاً قبل منه المعنى الحق، ونقول له: إن هذا اللفظ لم يرد في كتاب ولا سنة، فالأولى لك ألا تتكلم فيه، وإن كان مدلوله باطلاً رددنا عليه اللفظ والمعنى جميعاً، والسؤال هنا يرد: لماذا تكلم السلف فيها؟ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى تكلم فيها وغيره تكلموا فيها لأن المبتدعة تكلموا فيها، وأطلقوها بألفاظ موهمة، فلابد من التفصيل فيها، فإن قصد معنى الحق قبل المعنى الحق ورد اللفظ، وإن قصد معنىً باطلاً رد اللفظ والمعنى جميعاً، حتى لا يتورط الإنسان بشيء، فيأتيك مثلاً: الجهمي أو المعتزلي فيقول: أنا أقول: إن الله ليس بجسم، فيسألني: أنت تثبت لله الجسم؟ إذا قلت على القاعدة: الله لا نثبت له إلا ما ورد في نصٍ من كتاب وسنة، فهل ورد نص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر؟ لم يرد، فإذا قلت: إذاً أنا أقول: الله ليس بجسم، قال: إذاً أنا وإياك سواء، المعتزلي إذ يقول هذه الكلمة لا يقصد بها يقصد بها أن الله ليس له شيء من الأسماء، والجهمي يقول: ليس لله أسماء ولا صفات، فيصبح السني قد قارب أن يكون جهمياً أو معتزلياً. إذاً نسألك أنت أيها الجهمي ما تقصد بالجسم؟ فإن قال: أقصد به أن الله ليس له أسماء ولا صفات أصلاً، قلنا له: هذا الكلام باطل، فنحن نقول: الله له أسماء وصفات تليق بجلاله وعظمته، مما دل عليه الكتاب والسنة، ولكن لفظ الجسم لا أطلقه على الله تعالى لأنه لا دليل عليه. نتساءل: لماذا باب الأسماء والصفات توقيفي؟ السبب: لأن الله سبحانه وتعالى أعلم بنفسه من خلقه، ومن أصدق من الله قيلاً، ومن أهدى من الله سبيلاً، ومن أصدق من الله حديثاً، والرسول صلى الله عليه وسلم لا شك أنه أعلم الخلق بالله سبحانه وتعالى بما يجب له وما يمتنع عليه وما يجوز له، ولا يمكن لأحد كائناً من كان أن يأتي من عقله بشيء من هذه الأسماء والصفات. ومن رحمة الله تعالى بنا أنه لم يكل هذا المبحث إلى عقول الناس، بل جعل ما ورد من كتاب وسنة فقط، ولو كان لعقول الناس ما نستطيع، نأخذ بعقل من؟ أنأخذ بعقل المعتزلي، أو الجهمي، أو الأشعري، أو الماتريدي، أو الكلابي، أو الكرامي، أو نأخذ بعقول السلف؟ نقول: من رحمة الله تعالى أن جعل هذا الأمر توقيفياً، ولم يجعل لعقول الناس مجالاً في ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 نفي الشبيه والمثيل لله تعالى الأصل الثاني من الأصول عند أهل السنة والجماعة: أن الله سبحانه وتعالى في كل ما ثبت له من الأسماء والصفات لا يماثل شيئاً من خلقه أبداً، ما ورد من الأسماء والصفات لله تعالى لا يماثل أحداً من خلقه أبداً، بل كل ما ورد من الأسماء والصفات فهو مختص به، مثل: (يضحك الله لرجلين يقتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة) فيه إثبات الضحك لله تعالى {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] إثبات اليد، فلا يأتيني أحد من الأشاعرة أو من المعتزلة أو الجهمية أو غيره ويقول: نعوذ بالله لا يمكن أن نثبت لله الضحك. نتساءل لماذا؟ قالوا: أصلاً الضحك من صفات المخلوقين، ونحن لا يمكن أن نثبته، نقول: لا، الأصل إذا أثبت الله لنفسه شيئاً من الأسماء والصفات لا ندخل في عقولنا قضية المماثلة أبداً بوجه من الوجوه، فما ثبت في كتاب وسنة أثبتناه لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى. ونجد أن الله سبحانه وتعالى قد سمى نفسه بأسماء وسمى خلقه بأسماء، ووصف نفسه بصفات ووصف خلقه بصفات، ومع ذلك لا يمكن أن يرد في العقل مقتضى المماثلة أو المشابهة، ولهذا إذا جئنا إلى قضية التسلسل كأنه تدرج، فأتينا مثلاً عندنا أشاعرة، ثم معتزلة، ثم جهمية، ثم فلاسفة، وإن كان هذا التسلسل الذي أذكره ليس تسلسلاً تاريخياً، فـ الأشاعرة يثبتون لله سبع صفات، والمعتزلة تثبت الأسماء دون الصفات، والجهمية لا تثبت الأسماء ولا الصفات، والفلاسفة لا يثبتون الإثبات ولا ينفون النفي، فتأتي مثلاً المعتزلة تناقش الأشاعرة فتقول لهم: ماذا تثبتون؟ قالوا: نثبت لله سبع صفات فقط. إذاً هذه السبع هل هي على ما يليق بجلال الله وعظمته أم أنها تشابه صفات المخلوقين؟ سيقولون: لا تشابه صفات المخلوقين، فيثبتون الحياة والعلم والقدرة، ويثبتون لله تعالى السمع والبصر والكلام، ويثبتون لله الإرادة، سبع صفات، فيقولون: هذه على ما يليق بجلال الله وعظمته، قالوا لهم: الغضب، الضحك، اليد، القدم؟ قالوا: لا، هذه تشابه المخلوق، قالوا: كما أنكم تقولون: اليد والغضب هي للمخلوقين، فالمخلوق له سمع وإرادة وقدرة وله علم وحياة. لماذا لا تقولون: هذه تشابه؟ فإما أن يقولوا: إن الصفات التي لم يثبتوها لا تشابه المخلوقين فينطلقون لـ أهل السنة، وإما أن يقولوا: الصفات التي أثبتوها تشبه صفات المخلوقين فينتقلون ليصبحوا معتزلة، فأصبح الأشاعرة في برزخ، فلا هم إلى أهل السنة ولا هم إلى المعتزلة. جاءتهم الجهمية وناقشت المعتزلة فقالت: ما منهجكم؟ قالوا: نثبت الأسماء دون الصفات، قالت لهم الجهمية: لماذا لا تثبتون الصفات لله؟ قالوا: لأن الصفات تقتضي المشابهة. قالوا: وكذلك الأسماء الواردة في المخلوقين تسمى بهذه الأسماء {قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] سمي هذا الرجل عزيزاً، وهذا من أسماء الله تعالى {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4] فقالوا لهم: إما أن تثبتوا الصفات أو تنفوها فتكونوا مثلنا جهمية. وجاءت الفلاسفة فناقشت هؤلاء الجهمية، فقالوا لهم: أنتم لا تثبتون لله لا أسماء ولا صفات، وبناءً عليه شبهتم الله بالمعدوم، فالذي لا أسماء له ولا صفات يكون معدوماً. ما رأيكم أنتم أيها الفلاسفة؟ قالوا: نحن تورطنا ورطة ماذا نعمل فقالوا: إذا أثبتنا لله الأسماء والصفات شبهنا الله بالمخلوق، وإذا نفينا عنه الأسماء والصفات شبهنا الله بالمعدوم، فنقول: الله لا حي ولا ميت، ولا سميع ولا غير سميع، ولا متكلم ولا غير متكلم، فنفر من هاتين الصفتين، قالوا لهم: وقعتم في شر مما فررتم منه، والنتيجة: أنكم شبهتم الله بالممتنع. هل يمكن أن يتصور الإنسان أنه يوجد إله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا حي ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، هذا شيء ممتنع. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: إن المبتدعة لا يفرون من محذورٍ مما دلت عليه النصوص فيما يتوهمون إلا وقعوا في مثله أو في شر من مما فروا منه، وهذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة. يخشى من تشبيه الله بالإنسان أو بالحي فيشبه الله بالجماد، ويخشى من تشبيه الله بالجماد فيشبه الله بالمعدوم، ويخشى من تشبيه الله بالمعدوم فيقع فيشبه الله بالممتنع، فخير له أن يبقى على ما دلت عليه النصوص ويقول: الله ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى. هناك قد يرد في الذهن -وهذا ما وقع المبتدعة فيه على وجه العموم- وهو أنهم وجدوا أن النصوص دلت على أن الله سميع والإنسان سميع: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] . فقالوا: مادام أن الله له سمع والمخلوق له سمع، يجب أن ننزه الله، والنتيجة: الله ليس له سمع ولا بصر، وهذا كلام باطل، فأنت إذ تثبت نصاً لم تثبته من عند نفسك، وإنما الله هو الذي أثبته لنفسه، وبناء عليه نقول: يوجد -وهذا كلام لطيف جداً ذكره شيخ الإسلام وأومأ إليه جمع من أئمة أهل السنة - اشتراك بين أسماء الله وأسماء خلقه، بل بين صفات الله تعالى وصفات خلقه، وهذا الاشتراك في أمرين: الاشتراك الأول: في اللفظ، عندنا (سمع الله) يقول: {وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1] وذكر الله عن الإنسان أنه يسمى سميعاً بصيراً، هذا اشتراك في اللفظ. الاشتراك الثاني: في المعنى المطلق الكلي العام، وهذا لا يوجد إلا في الأذهان فقط، فمثلاً: إذا قلت: سمع، ستجد يتبادر إلى الذهن مفهوم مدلول السمع ما هو، يتبادر إلى الذهن نفهم معناه، هذا الذي يتبادر إلى الذهن قالوا: هذا هو المطلق الكلي العام، هذا إذا قلنا: سمع، أين موقع هذه اللفظة؟ أو ما يرد في الذهن فقط، لكن في الخارج لا يوجد عندنا شيء، ولكن عند الإضافة يقول شيخ الإسلام: وعند الإضافة والتخصيص يتميز ذلك، فإذا قلت: سمع الله، ليس هناك مجال للاشتراك، ولا يمكن أن يشابه سمع المخلوق، وإذا قلت: سمع الإنسان، لا يمكن أن يشابه سمع الله أبداً، وإذا قلت: سمع الحيوان لا يمكن أن يشابه سمع الإنسان ولا سمع الله تعالى، فإذا فهم هذا لم يحدث عنده أدنى لبس أبداً. ما فائدة وجود المعنى المطلق الكلي العام؟ فائدته أن يفهم الإنسان مطلق الألفاظ والنصوص الواردة عليه، ولو لم يوجد المعنى المطلق لأصبحت نصوص الكتاب والسنة نصوصاً جوفاء لا نعرف مدلولها أصلاً كما تقوله المفوضة من المبتدعة، فإنهم يقولون: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] لا نعرف ما معنى السمع، ولا نعرف ما معنى البصر، ولا نعرف ما معنى الحياة، ولا الإرادة، ولا القدرة، ولا غيره، إذاً ما هو مدلوله فإن الله وصف نفسه بها؟ قالوا: الله أعلم بها، نفوض معناها إلى الله، وهذا كلام باطل، وهم بهذا صدوا القلوب عن معرفة الرب سبحانه وتعالى بأسمائه وبصفاته، ولا شك أن في هذا اتهاماً لخطاب الشارع، بأنه ليس مفهوماً ولا مدلول له ولا يعرف إطلاقاً، ولذلك يحتاج إلى شيء من التفصيل والإيضاح وغيره. ولذلك قال بعض المبتدعة مقالتهم الباطلة وإن كان هذا ليس قول المفوضة، قالوا: علم السلف أسلم، وعلم الخلف أعلم وأحكم، وهذا كلام باطل لا شك فيه، يقولون: علم السلف أسلم، بمعنى: أن السلف رحمهم الله ورضي عنهم إذا جاءتهم النصوص يقولون: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، لا يتعرضون للكيف ولا للتفصيل ولا لغيره، فقط يقول لك: آمن بها وبما دلت عليه لأن النص دل عليه، والخلف قالوا: أعلم وأحكم لأن لهم دراية ومعرفة أفضل مما عند سلف الأمة، ولا شك أن هذا الكلام باطل لا شك في بطلانه، فإن السلف علمهم أسلم وأعلم وأحكم وأدرى بمدلول النصوص ومعرفة خطاب الشارع من هؤلاء الخلف المبتدعة الذين لم يفهموا ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 صفات الله كمال من جميع الوجوه الأصل الثالث: أن صفات الله تعالى كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، أي صفة لله تعالى فهي صفة كمال كما لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فمثلاً: السمع، البصر، اليد، القدم، الإصبع، الضحك، العجب إلى غيره، كلها صفات كمال لا يوجد فيها نقص، ولهذا قال بعض السلف: كل صفة أضيفت إلى الرب سبحانه وتعالى فهي كمال، حتى لا يرد في ذهنك أن هذه توجب نقصاً، مثلما قال المبتدعة في: (ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الأخير) قالوا: كيف ينزل ولا حاجة للنزول، والنزول من صفات المخلوقين، ويلزم أن تكون السماوات فوقه وغيرها من الشبه التي وردت، وهذا كلام لا نقبله، نقول: بمجرد أن يوصف الله بهذه الصفة، فإنها كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه تلقائياً، حتى لا يرد علينا ما قاله المبتدعة أن بعض الصفات توجب النقص. يقول العلماء رحمهم الله تعالى: إن أصل الصفات تنقسم إلى أقسام متعددة: القسم الأول: صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، مثل: الحياة، والعلم، والقدرة. القسم الثاني: صفات نقص لا كمال فيها أبداً، مثل: العجز، إنسان عاجز يقال: والله ما شاء الله هذه صفة جميلة أنه عاجز، ليس فيه كمال أبداً، ومثله: الموت صفة نقص. القسم الثالث: صفات مترددة بين الكمال والنقص، مثل: المكر، الكيد، الخداع، الاستهزاء، فترددها بين الكمال والنقص إذا كانت في باب المقابلة كانت كمالاً، وإذا أخذت وحدها كانت نقصاً، ومن الأمثلة على ذلك: إذا قيل: ترى فلاناً هذا يمكر، وهذا مخادع، هذا يعتبر نقصاً وليست كمالاً، لكن إذا قيل: ترى فلاناً هذا يخادع المخادعين كلهم، يدل على أن عنده نوعاً من الكمال، ولهذا جاءت في باب المقابلة في النصوص: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] هؤلاء يمكرون بالمؤمنين لكن الله يمكر بهم كانت صفة كمال، وتجد {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] جاءت في باب المقابلة وكانت كمالاً: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق:15-16] جاءت مقابلة وكانت كمال. القسم الرابع: صفات كمال في الخالق، ولكنها صفة نقص في المخلوق، مثل: صفة الكبرياء، الله هو المتكبر، لكن المخلوق إذا قيل: فلان متكبر هذه صفة نقص، لكنها في الخالق سبحانه وتعالى كمال. القسم الخامس: صفة نقص في الخالق، وإن كان فيها نوع كمال في المخلوق، مثل: الصاحبة والولد، إذا جئنا نقول: والله فلان متزوج له أربع سنوات مسكين ولم يأته أولاد، يجئ إنسان يقول: الحمد لله ليس عندي أولاد، الله ليس له أولاد وأنا ما عندي أولاد هل يمتدح بهذا؟ لا. لعل كون الولد والصاحبة يفهم منها احتياج الإنسان وضعفه وحاجته، الإنسان ضعيف، يحتاج إلى هذه الأمور، ويفهم منها نوع نقص، لكنا نعتبر هذا من الكمال النسبي. عندنا قاعدة لـ أهل السنة والجماعة ذكرها وأومأ إليها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وقد أخذت عن طريق التتبع للنصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: وهي أن النصوص وردت بالإثبات المفصل وبالنفي المجمل، ويقصد به: أنك إذا أردت أن تمدح أحداً فماذا تقول له؟ هل تأتي تقول: والله إنك إنسان؟ هذا إثبات، لكن إذا قلت: أنت طالب مجتهد فاضل حافظ، تجد كل ما أعطيته صفة انشرح صدره وفرح لذلك، هذا يسمى إثباتاً مفصلاً؛ لأنك تثبت، والله سبحانه وتعالى قال: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر:24] إلى غير ذلك فهذا إثبات مفصل. لكن النفي المجمل مثل -ولله المثل الأعلى- إذا قلنا لطالب: لا يوجد في القاعة طالب مثلك أبداً، تراه يستريح جداً جداً، لكنك إذا أردت أن تنفي عنه نفياً مجملاً فقلت له: أنت طالب -من النفي المفصل- أفضل من الكرسي، وأفضل من الطاولة، وأنت أحسن، مثلما قيل: أنت أفضل من الزبال والحمال والعامل وخير من الكلب والحمار، يضيق صدره، هل المعنى صحيح أم باطل؟ المعنى صحيح، لكنه بهذا الأسلوب ليس مدحاً. ولذلك قيل من اللطائف: أن أعرابياً جاء يمدح الخليفة، فقال له في مدحه: أنت كالكلب في الوفاء وكالتيس في قرع الخطوب ما عنده إلا تيوس وكلاب، فأراد أن يمدح الخليفة بهذا، فغضب وكاد أن يفتك به، فقيل له: انتظر عليه وأمهله فجعله في القصر، في قصر الملك سنة، ثم جاء مادحاً للخليفة وأثنى عليه بقصيدة: عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري جاء بالغزلان وبالرصافة وبالقصور وبغيره؛ لأنه عاش في جو غير الجو الذي هو فيه، وإذا أردت أن تمدح شخصاً فخذ هذه القاعدة بالمدح والإثبات له، فإنه يكون بالإثبات المفصل وبالنفي المجمل، مثال الإثبات المفصل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} [الحشر:22-23] . ومثال النفي المجمل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] كذلك: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل:74] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] كل هذه تسمى نفياً مجملاً. إذاً لا يمكن أن نتصور شيئاً من ذلك، قال العلماء رحمهم الله تعالى: قد يرد النفي مفصلاً، والأصل أن النفي مجمل، قالوا: لأمرين، ولعل المثال عليه: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3-4] هذا نفي مفصل، و {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [الجن:3] هذا نفي مفصل، قالوا: العلة في ذلك: أولاً: للرد على بعض من الطوائف المنحرفة، حين قالت اليهود: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] والنصارى: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] حيث قالوا: لإبطال عقائد كانت موجودة مثل العقائد التي كانت عند مشركي العرب، بأنهم قالوا: إن الملائكة هم بنات الله تعالى، وإلا فإن الأصل الإثبات المفصل والنفي المجمل. ذكر بعض أهل العلم إيماءً لطيفاً وإن كان ليس على إطلاقه: أن توحيد الأسماء والصفات هو الذي انقسمت فيه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، ولكن الحقيقة ليس على إطلاقه، فإن هناك مسائل خلاف أعظم من مسائل باب الأسماء والصفات، ومن الأمثلة على ذلك: طائفة الخوارج عندها انحراف، وطائفة الرافضة عندها انحراف في مسائل، وإن كان يوجد عندهم انحراف في الأسماء والصفات، ولكن كان الانحراف عندهم في باب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان عندهم انحراف في ألوهية الله تعالى وفي ربوبيته، إذ يعتقدون أن أئمتهم يعلمون ما كان وما يكون إلى قيام الساعة، وأنه لا يحدث في الكون شيء إلا بعلمهم واطلاعهم، بل ولهم شيء من التدبير فيه، ولا شك أن هذا القول قول باطل بأن الانقسام كله في باب الأسماء والصفات ليس على إطلاقه، وإنما في الجملة وقع الخلاف فيه قوياً، والأصل عندنا أن نرجع إلى مسائل الاعتقاد على ضوء ما ذكره أو ما قسمه أصحاب الملل والفرق في كتبهم، فنجد أن التقسيم جزء منه يرجع إلى الأسماء والصفات، وجزء يرجع إلى الصحابة، وجزء يرجع إلى مسائل القضاء والقدر، وجزء يرجع إلى مسائل الإيمان، وغيرها من المسائل التي حدث الانحراف فيها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 أصناف الناس تجاه توحيد الأسماء والصفات قد انقسم الناس في باب الأسماء والصفات إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: من لم يثبت لله تعالى الأسماء والصفات على مقتضى النصوص، وهؤلاء يسمون: بطائفة المعطلة، قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تقسيم التعطيل على وجه العموم بعد أن ذكر أن المعطلة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: تعطيل الصانع عن مصنوعه، ويقول: تعطيل المصنوع عن صانعه أو عن خالقه وهو أولى لأن الصانع لا يطلق على الله، وذكر بعض أهل العلم أنه يمكن أن يطلق من باب الخبر، لكن على أنه صفة من صفات الله تعالى أو اسم من أسماء الله فلم يرد نص من كتاب ولا سنة، ولكن يقال: تعطيل المصنوع عن خالقه لا مانع منه، وهذا ينطبق على المنكرين ربوبية الله تعالى، فيقال: إن الكون ليس له خالق. القسم الثاني: تعطيل الرب عن كماله المقدس، وهو المتعلق بتعطيل أسماء الله وصفاته. القسم الثالث: تعطيل المعاملة، ويقصد بها ما يجب لله سبحانه وتعالى من العبادة، وهذا يتعلق بالألوهية، فإذا لم يعبد الإنسان ربه سبحانه وتعالى كان قد عطل معاملته، وهي العبادة له سبحانه وتعالى. يقول ابن القيم تنبيهاً لطيفاً، وهو متعلق بمبحث الأسماء والصفات: إن المعطل يعبد عدماً، والمشبه يعبد وثناً، ولا يعبدون إلهاً، لكن الموحد هو الذي يعبد إلهاً خالقاً رازقاً مدبراً مستحقاً للألوهية سبحانه وتعالى، فالمعطل يعبد عدماً تجده يقول: الله ليس بسميع، ولا متكلم، وليس له إرادة ولا غير ذلك، هذا عدم لا يمكن أن يكون إلهاً. والمشبه يعبد وثن، فالذي يقول: الله يده مثل يدي، والله سبحانه وتعالى له سمع مثل سمعي، وحياة مثل حياتي، وإرادة مثل إرادتي أعوذ بالله، فالله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] فهذا لم يعبد الإله الحق وإنما عبد وثناً ولم يعبد الرب المستحق للكمال سبحانه وتعالى. القسم الثاني: من أثبتها لله تعالى ولكنه شبهها بخلقه، قالوا: فصار مشابهاً للمشركين الذين يعبدون مع الله إله، فجعلوهم مشاركين لله تعالى، وهذه الطائفة ما قدرت الله حق قدره، نعوذ بالله من هذه الطائفة. ولذلك نقل عن نعيم بن حماد، وكذلك الإمام أبي حنيفة رحمهما الله وغيرهما أنهم قالوا: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ولذلك الله سبحانه وتعالى ليس يشبه أحداً من خلقه بوجه من الوجوه، فهؤلاء يقول بعض المشبهة قبحه الله، والتشبيه كثيراً ما يوجد في الكرامية، ويوجد في غلاة الرافضة مثل بيان بن سمعان، وإن كان في غيره أكثر مثل هشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي، فكان أحدهم يقول قبحه الله: سلوني عن الله كل شيء إلا السوءتين، قاتله الله أنى يؤفك، وهذا هو الكفر. ولذلك يقولون: طوله كذا وعرضه كذا، وله طعم وله غير ذلك، ونعوذ بالله أن نشابه الله بأحدٍ من خلقه، بل لله سبحانه الأسماء الحسنى وله الصفات العلى. سؤال: أيهما أشد جرماً المشبهة أم المعطلة؟ المعطلة، لأنه أدى قولهم إلى نفي وجود الله سبحانه وتعالى، وإن كانت كلاهما كما قيل: حنانيك بعض الشر أهون من بعض، وليس معنى هذا: قرب المشبهة إلى أهل السنة! لا، كلهم طوائف ضلال، لكن يقال: إن المعطلة أشد جرماً من المشبهة؛ لأن هؤلاء المعطلة أدى بهم قولهم إلى نفي وجود الله تعالى، وإن كانوا لا يقولون: إن الله ليس موجوداً. عندنا الآن الطائفة الثالثة: من أثبتت لله أسماء وصفات مع نفي مشابهة المخلوقين، وهؤلاء هم الموحدون، إثبات بدون تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل، وكذلك نفي دون تعطيل، ولذلك وجب علينا أن نؤمن بأن ما وصف الله به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، نثبته لله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تأويل ولا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل، هذا هو الواجب علينا أن نسير على ضوئه، فنصبح قد تمسكنا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. هؤلاء الذين ضلوا في باب الأسماء والصفات يقال: أنهم ليسوا على منهج أهل السنة والجماعة، والسبب في ذلك: أن هؤلاء المبتدعة لم يأخذوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلو قلنا: المشبهة هل معهم دليل من السنة؟ لا. هل معهم دليل من الكتاب؟ لا. وكذلك ليسوا على ما كان عليه جماعة المسلمين -سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم- فـ المشبهة فهؤلاء لا يمكن أن ننسبهم إلى أهل السنة والجماعة، بل إن الناظر في أقوالهم يعلم الاضطراب عندهم، ولعلنا سنتكلم بشيء من التفصيل في قول المؤلف: قبحاً لمن نبذ القرآن وراءه وإذا استدل قال يقول الأخطل يعني: نجد مثالاً يسيراً للأشاعرة، فإن الأشاعرة أثبتوا سبع صفات وبعضهم أثبت عشراً، وبعضهم أثبتوا ثلاث عشرة صفة، وبعضهم أوصلها إلى عشرين صفة لله تعالى، اضطراب ليس عندهم دليل، تراهم يتخبطون لم يسيروا على ضوء ما سار عليه أهل السنة والجماعة. إذاً أصبح من منهج أهل السنة أن الواجب على المسلمين جميعاً في نصوص الكتاب والسنة إبقاء دلالتها على ظاهرها، فإذا قيل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] نثبت اليد لله (يضحك الله! لرجلين يقتل أحدهما الآخر) نثبت لله الضحك ونبقيه على ظاهره ولا نتعرض له بشيء من الزيادة ولا التحريف ولا النقص، فلا ننفي عن الله ولا نثبت إلا بنصٍ من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 قواعد جليلة في باب الأسماء والصفات ذكر شيخ الإسلام قواعد في باب الأسماء والصفات منها: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 القاعدة الأولى: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، ذكرها في رسالة التدمرية، وهذه القاعدة يرد بها شيخ الإسلام على الأشاعرة، وقد نقول: يرد بها كذلك على الماتريدية، ويرد بها كذلك على الكلابية، وإن كان كلام شيخ الإسلام يقول: إنه يرد بهذه على الطوائف المنحرفة ممن تسمى الصفاتية، فإن لفظ الصفاتية يطلق على الذين يثبتون الصفات، وهذا اللفظ ينطبق على أهل السنة، وينطبق على الأشاعرة والماتريدية والصفاتية؛ لأنهم يثبتون الصفات، لكن أولى من ينطبق عليهم هم أهل السنة؛ لأنهم يثبتون جميع أسماء الله وصفاته، أما هؤلاء فإنهم يثبتون بعضاً دون بعض. وقصد شيخ الإسلام في: (القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر) أن الصفات التي نثبتها إذا أثبتنا لله أي صفة فلابد أن نقول: ما أثبتناه من الصفات مثل: السمع أو البصر أو الحياة، هل هذه الصفات التي أثبتناها تشبه صفات المخلوقين أم لا؟ إن قلنا: لا، إنها كما يليق بجلال الله وعظمته، فيجب أن نقول في اليد والإصبع والقدم وغيرها نقول: هي لا تشبه صفات المخلوقين، وإن قلنا: تشبه صفات المخلوقين فإما أن تثبت الجميع أو تنفي الجميع؛ لأن الباب واحد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 القاعدة الثانية: القول في الصفات كالقول في الذات من القواعد التي ذكرها شيخ الإسلام: (القول في الصفات كالقول في الذات) ولعل شيخ الإسلام يرد على المعتزلة والجهمية، وانطباقه على الجهمية عظيم، فمثلاً: الجهمية الذين يقولون: الله ليس له أسماء ولا صفات، نسألهم: هل تثبتون لله ذاتاً أم لا تثبتون لله ذاتاً؟ فإن قالوا: نثبت لله ذاتاً. قلنا لهم: هل ذات الله مثل ذات المخلوقين أم تختلف؟ فإن قالوا: لا، الله له ذات تليق بجلاله وعظمته. نقول لهم: فإن الذات التي تقولون: تليق بجلاله وعظمته لها صفات تليق بالله تعالى وتليق بجلالته وعظمته، فإن الباب واحد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 القاعدة الثالثة: كل نفي في القرآن فهو لإثبات كمال ضده من القواعد التي ذكرها العلماء رحمهم الله تعالى، وأومأ إليها شيخ الإسلام وشارح الطحاوية وغيرهم: (كل نفي ورد في الكتاب والسنة لم يقصد لذاته وإنما قصد لإثبات ضد هذه الصفات) مثل: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] ما المقصود منه؟ إثبات كمال العدل لله تعالى. ومثله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] إثبات كمال قيوميته وكمال حياته سبحانه وتعالى. ومثله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ} [فاطر:44] نفي العجز عن الله تعالى إثبات كمال قدرته، حتى لا تأتينا طوائف المبتدعة، ولعل مبحث الصفات يحتاج إلى مزيد بسط وعناية أكثر مما أمررناه إمراراً سريعاً، فإن الطوائف قد تخبطت في الأسماء والصفات تخبطاً عجيباً، وانحرفت انحرافاً كبيراً، وأصبحت لم تلتزم أو لم يكن على المنهج الحق إلا من أخذ بظاهر ما دلت عليه نصوص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 القاعدة الرابعة: السؤال في كيفية الصفات كالسؤال في كيفية الذات من القواعد ما ذكره العلماء رحمهم الله تعالى وهذه القاعدة نقلت عن جمع من سلف الأمة رحمهم الله تعالى: من سألك عن كيفية صفات الله تعالى فيمكنك أن ترد عليه بجوابين، إذا سألك الإنسان: كيف يضحك الله؟ كيف يتكلم الله؟ كيف يسمع الله؟ كيف يبصر الله؟ فلك جوابان لهذا الرجل: الجواب: الأول: أن تجيبه بالإجابة المشهورة التي نقلت عن الإمام مالك، ونقلت عن ربيعة، ونقلت عن إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: السمع معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة، مثلما قال الإمام مالك في الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. الجواب الثاني: إذا سأل: كيف سمع الله؟ تسأله كيف هو الله؟ كيف ذاته؟ هل يستطيع إجابةً، فسيقول: لا أدري، وكذلك كيفية صفاته، لكن الصفة نعلم مدلولها، السمع نعرف مدلوله، الاستواء نعرف مدلوله في اللغة العربية، ونعرف ما المقصود به، والحياة نعرفها، مثلما يقول العلماء رحمهم الله تعالى عندما تكلمنا على حب الصحابة، لما قال ابن القيم: لا يوجد حد أعظم من تعريف المحبة من المحبة هي، بوجودها في الإنسان نعرف مدلولها، والمقصود منها، فإذا قال الله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] نعرف ما مدلول المحبة، لكن كيفية هذه المحبة نقول: الله أعلم، فتصبح المحبة معلومة، والاستواء معلوم، والكلام معلوم وغيره، فنقول: هذه نثبتها لله. ومثل الآن تجد بعضاً من الكتاب وبالأخص بعض المعاصرين يقول: وقد ورد على لسان الرب، لفظة اللسان لا نثبتها لله سبحانه وتعالى أبداً؛ لأنه لابد من نص يدل عليها، وإذا لم يرد نص فإنا نمسك، ونقول: الله يتكلم كيف كلامه؟ نقول: يتكلم بكلام يليق بجلاله وعظمته. فلو جاء الإنسانَ بعضٌ من المبتدعة، ولعل ممن أومأ إلى هذا الإمام الغزالي في كتابه: المقصد الأسنى لشرح الأسماء الحسنى، لما ذكر الله أن الله يبصر لكن يبصر بغير أهداب ولا جفون ولا حدقة ولا غيره، هذا تفصيل في النفي لا دليل عليه أصلاً، وتجد مثلاً إنساناً يقول: الله يتكلم لكن بغير لسان ولا شفتين ولا أوتار صوتية، ولا ولا، من أين جئت بهذا التفصيل؟ فنقول: الله يتكلم بكلام يليق بجلاله وعظمته، وكلام الله ليس ككلام المخلوقين، بل هو له سبحانه وتعالى لا يشاركه فيه أحد, وهذا هو الواجب علينا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 القاعدة الخامسة: الإيمان بما أخبر به الوحي عرفناه أم لم نعرفه ذكر العلماء قاعدة ولعلنا نختم بها باب الأسماء والصفات، وهي أنه يجب علينا الإيمان بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء عرفناه أو لم نعرفه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الصادق المصدوق، وقد ورد في مسند الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه يقول: [لقد جلست أنا وأخي ومشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنا جلوساً عند باب من أبواب النبي صلى الله عليه وسلم، فكرهنا أن نتحدث فنزعج النبي صلى الله عليه وسلم أو نقرع عليه، فجلسنا عند حجرته، وجلسنا نتذاكر آية من آيات القرآن] فحصل نقاش بينهم وارتفعت أصوات الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم أصواتهم مرتفعة خرج عليهم مغضباً قد احمر وجهه، يرميهم بالتراب صلوات الله وسلامه عليه، ويقول: (مهلاً يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضرب الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه) ولعل هذا هو مصداق ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو مقتضى التسليم، وسيأتي لها مزيد بيان عند قوله المؤلف رحمه الله: وأرد عهدتها إلى نقّالها وأصونها من كل ما يُتخيل ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الحادي عشر) أسماء الله وصفاته توقيفية لا مجال للعقل والرأي والهوى في الخوض فيها، والألفاظ المجملة التي تطلق على الله يستفسر عن معناها، فإن كانت حقاً أثبتت باللفظ الشرعي، وإن كانت باطلاً ردت. وإن من صفات الله تعالى الفعلية والذاتية صفة الكلام، وقد افترقت الطوائف وتباينت في هذه المسألة، والصواب أن الله تعالى يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء، والقرآن كلام الله حروفه ومعانيه منه بدأ وإليه يعود، والقول بأن القرآن مخلوق كفر، وفي هذا الدرس مع ما سبق بعض المصطلحات المهمة في باب الأسماء والصفات؛ حتى لا تختلط الأفهام أو تزل الأقدام بعد ثبوتها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 1 أسماء الله ليست محصورة بعدد معين الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد فإن أهل السنة عندهم قاعدة يقولون: إن أسماء الله وصفاته ليست محصورة بعدد معين، وما ورد في الحديث: (إن لله تسعاً وتسعين اسماً) لم يقصد منها الحصر، ويستدلون على ذلك بدليلين: الدليل الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك وفيه: أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فدل على أن من أسماء الله ما استأثر الله بعلمه عنده ولا يُطَّلَعُ عليه. الدليل الثاني: حديث الشفاعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فأسجد تحت العرش، فيفتح الله عليَّ بمحامد لم أكن أعرفها من قبل) وما يُحمد به إنما يكون في أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، فدل على أن لله أسماء وصفاتاً تليق بجلاله وعظمته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 2 أقسام صفات الله عز وجل وحقيقتها يقول العلماء: إن صفات الله تنقسم إلى قسمين: 1- صفات ثبوتيه. 2- صفات سلبية. فالصفات الثبوتية هي التي ورد ثبوتها في الكتاب والسنة كالسمع، والبصر، والحياة، والعلم، والقدرة. والصفات السلبية: هي الصفات التي نفاها الله عن نفسه أو نفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كالعجز، والظلم، والولد والصاحبة وغيرها. وصفات الله الثبوتية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: صفات ذاتية. القسم الثاني: صفات فعلية. فالصفات الذاتية: هي التي لا تتعلق بالإرادة والمشيئة، مثل: الحياة، والسمع، والبصر، والعلم. والصفات الفعلية: هي التي تتعلق بالإرادة والمشيئة، كالمحبة، والغضب، والرضا، والنزول وغيرها من صفات الله تعالى، كل هذه الصفات قاعدتنا فيها هي قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] فلا يتطرق إلى أذهاننا شيء من التشبيه أو التجسيم لله سبحانه وتعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 لفظ القديم بين النفي والإثبات ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأقول في القرآن ما جاءت به آياته فهو القديم المنزل لفظ: (القديم) عندنا، ولعل هذا اللفظ: (القديم) كان هو السبب في التوقف في نسبة هذه الرسالة أو هذه المنظومة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن يمكن أن يحمل على محملٍ صحيح، وعندها لا يوجد ثمة إشكال في الجملة. الأصل أن إطلاق القرآن أنه (قديم) ليس هو قول أهل السنة والجماعة، والسبب في ذلك: أن هذا القول -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - أول من أحدثه هو عبد الله بن سعيد بن كلاب، وسار عليه طوائف، فـ الأشاعرة يرون أن كلام الله قديم، وكذلك السالمية يعتقدون أن كلام الله قديم، ولهذا تُحمل أو تُخرج هذه اللفظة كما في نسخة: (وهو الكريم المنزل) فإذا جاءت: (وهو الكريم) انتهى الإشكال، وليس في العبارة شيء من الوهم، ولكن تحمل على معنىً يقصد به، وهو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة في كلام الله بأنه قديم النوع حادث الآحاد، متعلق بالإرادة والمشيئة بحرف وصوت يسمع، وكل لفظ وجزئية من هذه العبارة ترد على طائفة انحرفت. وأهل السنة والجماعة في كلام الله تعالى منضبطون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقولنا: قديم النوع، فيه رد على الكرامية التي تعتقد أن الكلام حدث لله بعد أن لم يكن متكلماً فكان، لم يكن متكلماً ثم حدثت له صفة الكلام، وهذا الكلام ليس صحيحاً بل باطل، والسبب أنه يؤدي إلى أن يكون الله ناقصاً ثم وجد له الكلام فأصبح كاملاً به، ولهذا قالوا: أصلها قديم، أي: أنه لا بداية لكلام الله تعالى، فنقول: أفي هذا الزمن بدأ يتكلم وقبله لم يكن متكلماً؟ بل الله سبحانه وتعالى موصوف بالكلام أزلاً ولا بداية لكلامه سبحانه وتعالى. قولنا: حادث الآحاد، أي: أن آحاده متجددة، بمعنى: أن الله قبل أن يخلق آدم خاطب الملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] ثم بعد أن خلق الله آدم قال له: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] هل كل هذا الكلام كان في وقت واحد؟ لا، الله تكلم قبل أن يخلق آدم، ثم تكلم بعد أن خلق آدم، كذلك قال لآدم: اخرج أنت وزوجك، أمرهم بالخروج من الجنة، فحدث كلام، ثم كلم موسى بعد ذلك، ثم كلم محمداً صلى الله عليه وسلم، ولم يزل ربنا يتكلم متى شاء كيف شاء. وقولنا: متعلق بالإرادة والمشيئة: وهو أنه بمعنى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] وإذا أراد الله أن يتكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة، دل على أنه متعلق بإرادته ومشيئته، يتكلم متى شاء كيف شاء سبحانه وتعالى وبما شاء يتكلم. وقولنا: (بحرف وصوت) : لا يمكن أن يكون الكلام أبداً إلا بحروف؛ ولأننا نجد من طوائف المبتدعة من تقول: إن الكلام حدث كله في وقت واحد، وهذا قول للسالمية، فمثلاً: بسم الله الرحمن الرحيم، أو أي آية من القرآن قالوا: إنها خرجت جملة واحدة، فلم يتقدم الميم على الباء، في باسم الله، بل خرجت كلها خروجاً واحداً، وهذا كلام باطل لا يمكن أن نسلم به بوجه من الوجوه، بل إن مجرد التأمل -كما قال الإمام ابن القيم - يكفي في بطلان هذا الرأي، وبطلان هذا القول. وقولنا: (بحرف وصوت يسمع) رداً على المبتدعة الذين يقولون: إن كلام الله لا يسمع، كذلك بالصوت، فقد قال البخاري رحمه الله تعالى وذكره الحافظ ابن حجر وغيره من كبار أئمة السلف: إن كلام الله بصوت، والدليل عليه: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} [مريم:52] والنداء لا يكون إلا بصوت، إذا قيل: نادِ فلاناً، لا يمكن أن تناديه بدون صوت، والله سبحانه وتعالى نادى موسى عليه الصلاة والسلام، ونادى محمداً، وحصل له مناداة ومناجاة، ويقال: إن النداء يكون بصوت مرتفع، والنجاء يكون بصوت منخفض، وكلها تدل على أن فيها صوتاً، وأنها تسمع، فسمع آدم كلام الله, وسمع موسى كلام الله، وسمع محمد صلى الله عليه وسلم كلام الله تعالى. نأتي إلى لفظ: (القديم) إطلاق القدم بالنسبة للرب سبحانه وتعالى نجد أن صاحب الطحاوية قال: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء) والأصل عندنا في الألفاظ التي نصف الله تعالى أو نسمي الله بها أنه لابد فيها من نص، فلفظ القديم لا نطلقه على الله تعالى على أنه من أسمائه وصفاته لأننا لم نجد له دليلاً من كتاب ولا سنة، وإنما الدليل ورد في الأول: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) أما إطلاق (القديم) فإنه لا يعتبر من أسماء الله الحسنى. ومن غرائب المتكلمين أنهم يجعلون أخص وصف لله هو القدم!! وهذا قول للمعتزلة، وذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن لفظ القدم ليس من الأسماء أو الصفات التي هي حسنى، والسبب: أن الله لما ذكر القمر قال: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] والعرجون القديم دل على أنه كان من قبل فيه كمال ثم رجع عرجوناً، والعراجين هي في النخل يحصل فيها ميلان، ثم بعد ذلك كانت قبل ليست مائلة، ثم حدث فيها ميلان، ووصف القدم يدل على أنه كان سابقاً فيه شيء من الحسن، ثم بعد ذلك تقادم فأصبح الناس لا يرون فيه حسناً، ولهذا تجد أن العملات القديمة والآثار القديمة وغيرها ليست مجالاً لأن يعتز بها وتعتبر شيئاً حسناً في الجملة، ولهذا لما ذكر الله: {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} [الشعراء:76] يعني: المتقدمون عليكم أنتم. وذكر الله أن فرعون يقدم قومه يوم القيامة بمعنى: يتقدم قومه، وسميت القدم قدماً نظراً لأنها تتقدم على جسد الإنسان أو على بدنه في المشي، لكن إدخال (القديم) في أسماء الله الحسنى ليس بصحيح، بل هو مشهور عند أهل الكلام، وقد أنكر السلف عليهم في هذا، ولكن نقول: الأولى الأخذ بضابط الشرع ونقول: (أنت الأول فليس قبلك شيء) وهو الصحيح الذي دل عليه الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 أقوال الناس في كلام الله تعالى ذكر العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى، وكذلك الإمام ابن القيم في الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة، وكذلك شارح العقيدة الطحاوية وغيرهم: أن أقوال الناس في مسألة كلام الله متعددة ومختلفة، حتى ذكر بعضهم أنها تصل إلى تسعة أقوال، ولن نتعرض للأقوال كلها؛ لأن بعضها قد انقرض، لكن نذكر ما تمس الحاجة إليه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 قول الاتحادية في كلام الله القول الأول: قول الاتحادية: وهم الذين يقولون: إن الكون كله متحد في ذاته، ويقولون: إن كل كلام في الكون كله فهو لله تعالى، وهذا الكلام باطل لا شك في بطلانه، وبناءً عليه يكون الكفر والسحر والشتم واللعن والهجاء وكذلك الفحش كله كلام لله تعالى، ويقول شاعرهم: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه أي: كل كلام في هذا الوجود فهو كلام الله تعالى، وهذا قول باطل، وهو مبني على أصلهم الذي أصلوه، وهو أن عين هذا الوجود واحد، فيقولون: العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنَّى يكلف أي: لا فرق بينهما إطلاقاً، وهذا كلام لا شك في بطلانه، وقد دل الكتاب والسنة على نفي هذا، وأصل المذهب باطل، فإنهم يقولون: إن كل شيء في هذا الوجود هو رب ولا فرق فيه. إذاً الكلام هو كلام الرب، وليس هناك فرق بينه وبين كلام غيره من المخلوقات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 قول الفلاسفة في كلام الله القول الثاني: وهو مذهب الفلاسفة، ولعلنا نومئ إليه نظراً لأنه يوجد من تأثر بـ ابن سينا والفارابي والطوسي وغيرهم، هؤلاء الفلاسفة يقولون: إن الكلام هو فيض فاض على العقل الفعال وعلى نفس فاضلة زكية، وهذا مبني على قولهم الباطل، وهو: إن الإنسان يمكن أن يخرج قرآناً، وأن يكون نبياً، ولذلك يقول الفلاسفة: إن النبوة مكتسبة، يمكن أن يكتسبها كل أحد، لكن بشروط: 1- قوة التأثير. 2- قوة التصور والتخيل. 3- قوة التعبير، فإذا وجدت هذه يمكن أن يكون الإنسان نبياً، وأن يخرج للناس قرآناً أياً كان هذا الشخص، بشرط أن توجد فيه هذه الشروط وهذا الكلام لا شك في بطلانه، بل هذا هو عين الكفر، إذ أنه كيف يمكن أن تكون النبوة مكتسبة، وبناءً عليه يقولون: إن قضية الأنبياء والرسل والملائكة وغيرهم هذه تخيلات يتخيلها النبي فقط، ولا يوجد ملك يكلمه، أو يوجد كلام صدر إليه، وإنما هو من عقله الفعال. ومن الأمثلة على قضية التأثير العقلي الفعال: أنك قد تسير في الطريق بسيارتك، وتنظر إلى أمامك وإذا بشخص يحرك يديه ويتكلم، تمر ولا أحد عنده يتكلم معه، وعنده مشكلة معينة أو موقف معين، فيفرغ ما في نفسه بالكلام وبالصوت، ويحرك يديه تحريكاً عنيفاً، ويتحدث، وتشعر أنه تكلم، وهو الآن ليس عنده أحد، لكن أصبح عقله يتفاعل مع الحدث الذي حدث، فهم يقولون: محمد عنده هذا التصور وأخرج للناس قرآناً، ويمكن أن يكون لكل أحد، ولا شك أن هذا هو الكفر وهذا باطل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 قول الجهمية في كلام الله القول الثالث: وهو قول الجهمية، ويدخل فيهم جزء من المعتزلة، وإن كان الجهمية لهم مذهب فريد، وهم يقولون: إن كلام الله تعالى مخلوق، وهو من بعض مخلوقات الله تعالى، ولم يقم به سبحانه وتعالى كلام أبداً، وإنما يعتبر خلقاً من مخلوقات الله تعالى، وهذا الكلام لا شك في بطلانه، ولهم أدلة على هذا يمكن أن نومئ إلى دليل واحد ونبين بطلان مذهبهم من خلاله فيما بعد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 قول جعفر بن حرب في كلام الله القول الرابع: وهو قول من يزعمون أن كلام الله سبحانه وتعالى عرضاً وليس حقيقياً، والأعراض هي التي تذهب وتزول، وذكروا أنه مخلوق، وأحالوا أن يوجد في مكانين في وقت واحد، وزعموا أن المكان الذي خلق سبحانه وتعالى كلامه فيه محال انتقاله منه، أي: أن الله خلقه في مكان معين، ويستحيل أن ينتقل إلى جهة أخرى، وهذا نقل عن جعفر بن حرب، وأكثر البغداديين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 قول الكلابية في كلام الله القول الخامس: وهو قول الكلابية، نظراً لأن أول من قال بالقدم في كلام الله تعالى هو: عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهذا الرجل يقول: إن الكلام معنىً قائم بالنفس، لا يتعلق بالإرادة والمشيئة أبداً، وأنه لازم لذات الرب سبحانه وتعالى كلزوم الحياة والعلم والقدرة، وأنه لا يسمع على الحقيقة، والحروف والأصوات ليست إلا حكاية عن كلام الله، وليست هي كلام الله، وهي مخلوقة من المخلوقات، وهذا يؤدي إلى نفي أن يكون الكلام صفة من صفات الله تعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 قول الأشاعرة في كلام الله قول الأشعري ومن وافقه، وهو مذهب الأشاعرة المنتشر أن كلام الله معنىً واحد، قائم بذات الرب سبحانه وتعالى، وهو صفة قديمة أزلية، وقالوا: هو معنىً نفسي، وليس بحرف ولا صوت، ولا ينقسم، ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا غير ذلك وقالوا: إن كلام الله واحد فقط، فالأمر والنهي معناه واحد، والتوراة والإنجيل معناهما واحد لا فرق بينهما، وهذا كلام باطل لا شك في بطلانه. كون كلام الله نفسي هذا باطل، وكون معناه واحد باطل، وكون التوراة والإنجيل والقرآن كلها واحدة هذا ليس بصحيح هل ما ورد في القرآن هو ما ورد في التوراة وهو ما ورد في الإنجيل؟ لا، والله قد قال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] فجعل الله لمحمد شرعة، وجعل لموسى شرعة، ولعيسى ولغيره من أنبياء الله جعل لكل واحد شرعةً ومنهاجاً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 11 قول السالمية في كلام الله القول السابع: وهو قول السالمية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة، وبعض أهل الحديث قالوا: إن كلام الله تعالى صفة قائمة بذات الرب سبحانه وتعالى، وأنه لم يزل ولا يزال يتكلم، وأنه لا يتعلق بإرادته ولا مشيئته، وحروفه وأصواته وسوره وآياته كذلك سمعها جبريل من الرب، ومحمد سمعها من جبريل، وذكروا أن القرآن خرج جملة واحدة، مثل: باسم الله لم تسبق الباء الميم، وإنما خرجت دفعة واحدة، وهذا كلام باطل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 12 قول الكرامية في كلام الله القول الثامن: قول الكرامية حيث ذكروا أنه متعلق بالإرادة والمشيئة، وقائم بذات الرب سبحانه وتعالى، وهو حروف وأصوات، ولكنهم قالوا: إنه حدث بعد أن لم يكن، أي: حدث كلام الله بعد أن لم يكن متكلماً، كان الله غير متكلم ثم بعد ذلك تكلم، ولا شك أن هذا الكلام باطل؛ لأنه يلزم منه أن يوصف الله سبحانه وتعالى بالنقص، إذ أنه كان ناقصاً ثم حدثت له صفة الكلام. ونحن نقول: هل الكلام صفة مدح أم صفة ذم؟ الجواب: بالاتفاق أن الكلام صفة مدح، وبناءً عليه إذا قلنا: إن الله لم يكن متكلماً ثم تكلم كان يلزم منه أن يكون الله فيه نقص ثم بعد ذلك حدث له الكمال، وهذا كلام باطل، ونحن نعلم أنه لم يحدث لله صفة لم تكن من قبل. ولهذا قال الطحاوي رحمه الله في متنه: (ليس بعد خلق الخلق استفيد اسم الخالق، ولا بإحداث البرية استفيد اسم الباري) ولهذا قال: (له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق) دليل على أنه لم تطرأ عليه صفة لم تكن موجودة من قبل، بل هو سبحانه وتعالى قبل أن يخلق وبعد أن خلق صفاته واحدة لم يحدث له شيء من التجدد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 13 قول أهل السنة في كلام الله القول التاسع: وهو قول أهل السنة وهو ما ذكرنا من أنهم يقولون: كلام الله قديم النوع، حادث الآحاد، متعلق بالإرادة والمشيئة، وأنه بحرف وصوت يسمع، يقول بعضهم: يجب علينا أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى يتكلم بكلام حقيقي، وليس كلامه مجازي، حتى لا يقال: هذا معنى أو عبارة عن كلام الله تعالى، وكما يقول بعض المبتدعة في تأويلهم لصفات الرب سبحانه وتعالى فيقولون: اليد مجازية، والكلام مجازياً، والسمع مجازي، بل نقول: كلام الله على الحقيقة، وأنه يتكلم متى شاء، وكيف شاء، فدل على أنه متعلق بالإرادة والمشيئة، وأنه بحرف وصوت، وصوت الرب ليس كصوت الآخرين المخلوقين أبداً. وكذلك من عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن: أنه كلام الله، منزل، ودل على تنزيله: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2] وكذلك تنزيل الكثير من القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] كذلك نقول: إنه غير مخلوق والدليل على ذلك قول الله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] فدل على أن الخلق غير الأمر، والقرآن من الأمر وليس من الخلق، والله يقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] ففرق الله بين الخلق وبين الأمر، فلو كان القرآن مخلوقاً لدخل في الخلق، فدل على أن الخلق غير الأمر، والقرآن غير مخلوق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 14 مسائل متعلقة بكلام الله تعالى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 15 معنى: منه بدأ وإليه يعود يقول العلماء رحمهم الله تعالى: (منه بدأ وإليه يعود) (منه بدأ) أي: أن الله هو الذي ابتدأ بالكلام، وتكلم به أولاً، والقرآن أضيف إلى الرب سبحانه وتعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] وأضيف إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأضيف إلى جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] فإضافته إلى الرب إضافة ابتداءٍ، أي: أن الله هو المبتدئ بالكلام به، وإضافته إلى جبريل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: إضافة تبليغ، فمحمد صلى الله عليه وسلم مبلغ وجبريل عليه الصلاة والسلام كذلك مبلغ عن الله، لم يأتِ بالكلام من عند نفسه أبداً. وقولهم: (وإليه يعود) يحتمل معنيين: المعنى الأول: إليه يعود، كما روي في بعض الآثار أنه إذا لم يعمل الناس بالقرآن، أي: أطبقت الأرض على عدم العمل به، ينزه الله كتابه فيرفعه من صدور الناس ومن مدادهم، وقد روي فيها بعض الآثار، قالوا: وذلك حين تهدم الكعبة، وقالوا: قياساً على الكعبة، فإنها إذا تعطلت فلا أحد يستفيد منها ولا يحجون إلى بيت الله، ولا يعتمرون ولا غيره أرسل الله ذو السويقتين رجل من الحبشة يأتي بقومه من جهة البحر، ثم ينقضون الكعبة حجراً حجراً، وترمى في البحر. قالوا: ومثله القرآن يُسَرَّى به من القلوب ومن المداد، فلا يبقى منه شيء. المعنى الثاني: أي أنه يعود إلى الله تعالى وصفاً، فهو الموصوف به سبحانه وتعالى لا يوصف به أحد سوى الرب سبحانه وتعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 16 أقسام كلمات الله تعالى ونقول: كلمات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: 1- كلمات دينية. 2- كلمات كونية. فالكلمات الكونية: هي التي استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات) وهذه الكلمات الكونية ليست مخلوقة أبداً، ولو كانت مخلوقة ما جاز لنا أن نستعيذ بمخلوق، وإنما نستعيذ بالله تعالى، ونحن إذا أردنا أن نسأل الله نسأله بأسمائه وصفاته. أما كلمات الله الدينية فهي التي تتعلق بشرعه، ومنها: القرآن، قالوا: فالقرآن يعتبر من كلمات الله الشرعية. قضية التكليم لا شك أنها صفة وميزة خص الله بها بعض خلقه، فممن ميزه الله بصفة التكليم كما ذكر الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] فممن كلم الله الملائكة، وكلم الله آدم عليه الصلاة والسلام، وكلم الله موسى عليه الصلاة والسلام، وكلم محمداً صلى الله عليه وسلم. ومنها: ما ورد في عبد الله بن حرام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحاً) دل على أن هذه ميزة، وهذا مما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور الغيبية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 17 أقسام كلام الله وبالنسبة لكلام الله ينقسم إلى: 1- كوني قدري. 2- ديني شرعي. فالكوني القدري هو الذي توجد به الأشياء كلها، من نزول الأمطار، وإحياء الأرض بعد موتها، وكذلك في خلق الناس وإيجادهم وغيره، قالوا: هذه تتعلق بالكوني القدري، ومنه قول الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] . الكلام الثاني: الديني الشرعي، وهو المتعلق بقضية التحليل والتحريم، ويرتبط بالكتب المنزلة التي أنزلها الله على رسله عليهم الصلاة والسلام، وتكليم الله تعالى لخلقه يكون بأنواع: 1- تكليم بلا واسطة: كما كلم موسى وكلم محمداً صلى الله عليه وسلم وكلم الأبوين. 2- تكليم بواسطة: وهي التي تكون عن طريق إرسال الرسل إليهم، وهذه حدثت لأنبياء الله وللرسل عليهم الصلاة والسلام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 18 الرد على المعتزلة في مسألة الكلام بالنسبة لكلام الله وهو من باب الرد على طائفة المعتزلة الذين يقولون: إن كلام الله مخلوق. يقول العلماء رحمهم الله تعالى: إن المضاف إلى الله نوعان: الإضافة الأولى: إضافة أوصاف. الإضافة الثانية: إضافة أشخاص أو ذوات. فالأول: المضاف إلى الله تعالى مثل: سمع الله، بصر الله، كلام الله، وهذا لا يمكن أن يكون مخلوقاً أبداً، بل هذا يعتبر صفة من صفات الرب سبحانه وتعالى. والثاني: المضاف إلى الله إضافة أعيان، كبيت الله، وناقة الله، فهذه تسمى أشياء مخلوقة، لماذا أضيفت إلى الرب؟ من باب تشريفها وعلو مكانتها. فإذا قيل: هذا بيت الله تعالى، الكعبة بيت الله لها تعظيم، المسجد بيت الله، لكن بالنسبة لسمع الله وبصر الله، فهذا يعتبر من صفات الله تعالى، ولا يمكن أن نقول: إنه مخلوق كما قالت المعتزلة كما في قولهم: إن القرآن من المخلوقات التي خلقها الله سبحانه وتعالى. وسيأتي إن شاء الله الكلام على قول المؤلف: وإذا استدل يقول قال الأخطل وهذا هو مذهب الأشاعرة، وأنه معنى نفسي، واستدلوا ببيت باطل، وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من تسعين وجهاً أبطل به مذهب الأشاعرة، ومواقف شيخ الإسلام هي التي جعلت الأشاعرة يقفون منه مواقف عظيمة، وكانوا يدققون عليه في كل صغير وكبير، مما أدى ذلك إلى سجنه عدة مرات بسبب صدعه بالحق، وإبطاله لبعض المذاهب التي كانت موجودة في عصره، سواء كانت ماتريدية، أو أشاعرة، أو معتزلة، أو مبتدعة، فيما يتعلق بألوهية الله والتوسل وغير ذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 19 أول من أحدث القول بخلق القرآن نقول: إن أول من أحدث القول بخلق القرآن هو الجعد بن درهم، وتبعه على ذلك الجهم بن صفوان، وتبعه على ذلك بقول قوي ومذهب كبير المعتزلة: واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وغيرهما من كبار المعتزلة، الذين قالوا: إن القرآن مخلوق، لكن أول من قال: إن القرآن قديم هو عبد الله بن سعيد بن كلاب. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فلم يقل أحد من السلف بهذين القولين أبداً، ولم يقل أحد منهم: إن القرآن عبارة عن كلام الله ولا حكاية، ولا قال أحد منهم: إن لفظي بالقرآن قديم، بل كان السلف يقولون: ما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات صفة الكلام لله تعالى على ما يليق بجلال الله وعظمته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 20 لوازم نفي صفة الكلام عن الله تعالى يقول العلماء رحمهم الله تعالى: إن نفي صفة الكلام عن الله تعالى يلزم عليه لوازم خطيرة: الأولى: نفي صفة العلو عن الله تعالى؛ لأن الله يقول: {تَنْزِيلٌ} [فصلت:2] والنزول لا يكون إلا من العلو. فإذا قيل: إن الله سبحانه وتعالى لا يتكلم نفيت عنه سبحانه وتعالى صفة العلو. الثانية: يلزم عليه كذلك نفي الرسالة، ويؤدي إلى نفي الكتب السماوية، كيف بلغت الرسالة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا عن طريق الكلام، وأن الله كلمهم سواء كان الكلام بواسطة أو بغير واسطة، فمن الواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام يبلغ ما أراد الله إلى رسوله، مثلما جاءت: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] هذا كلام الرب سبحانه وتعالى، فإذا نفيت الكلام نفيت النبوة والرسالة، ونفيت الكتب السماوية كلها، وأدى إلى نفي عدد من الصفات لله سبحانه وتعالى، وهذا يؤدي إلى تعطيل عظيم. سبحان الله! نجد بعض الصفات متلازمة، إذا أثبتَّ صفة أثبتَّ الجميع، وإذا نفيتَ صفة لزم عليك أن تنفي عدداً من الصفات التي تثبت للرب سبحانه وتعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 21 الرد على مقولة: لفظي بالقرآن مخلوق مسألة: هل نقول: لفظي بالقرآن مخلوق، أو لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ الأصل عندنا أن مثل هذه الكلمة لم يقلها الصحابة رضي الله عنهم، ولم يتكلموا فيها، ولكن لما قويت فتنة المعتزلة، وكان لهم من المسائل احتاج العلماء أن يبينوا: هل لفظه بالقرآن مخلوق أم لفظه بالقرآن غير مخلوق، وهذه من الألفاظ المجملة التي تحتاج إلى شيء من التفصيل. فإن قصد به الملفوظ أي: القرآن مخلوق كان معتزلياً، والقرآن ليس بمخلوق، لكن إن قصد أن صوته وكلامه هو الذي تكلم، وليس الُمَتَكَلَمَ به أنه مخلوق فهذا لا مانع منه، كما نقول: المداد مخلوق وهو ما يكتب به القرآن، والصحف مخلوقة، وصوت الإنسان مخلوق، وأنا إذا تكلمت فهذا مخلوق، لكن ما أتلفظ به من القرآن فليس بمخلوق، بل هو كلام الله سبحانه وتعالى الذي هو صفة من صفاته، ولهذا يجوز للمسلم أن يحلف بالمصحف فيقول: والمصحف أو والقرآن، نظراً لأنه هو القرآن، ولا يقصد به المداد والأوراق، وإنما يقصد به ما نسميه كلام الله الذي هو صفة من صفاته سبحانه وتعالى. ذكر العلماء في مسألة النزول رداً على من قال إن النزول يدل على أنه مخلوق، وهذا كلام باطل، وذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن الإنزال والنزول ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: إنزال من السماء وهذا مخلوق، وهو قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان:48] . القسم الثاني: إنزال مطلق، مثل قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25] وهذا مخلوق. الثالث: إنزال منه سبحانه وتعالى، كما في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل:102] قالوا: فهذا هو كلام الله الذي نزل به جبريل، وليس هو مخلوق، وإنما ذكر العلماء هذا التفصيل من باب الرد على المعتزلة في قولهم: إن القرآن مخلوق، وليس القرآن مخلوق، بل القرآن صفة من صفات الله سبحانه وتعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 22 صفة الكلام من الصفات الذاتية الفعلية يقول العلماء رحمهم الله تعالى: إن صفة الكلام من الصفات الذاتية الفعلية، فصفة ذاتية بمعنى أنها لم تحدث للرب سبحانه وتعالى، بل هي متعلقة بالذات، كما أن ذاته أولية لا بداية لها، فصفة الكلام أولية لا بداية لها، ولهذا قال الطحاوي: (قديم بلا ابتدأ) أي: ليس له بداية (دائم بلا انتهاء) أي: ليس له نهاية، بخلاف المخلوق فإن له بداية وله نهاية، بالأمس لم نكن شيئاً مذكوراً ثم وجدنا، وبعدها لنا نهاية ويتوفى الإنسان، ثم يحيا مرة أخرى إما إلى جنة أو نار. وكون الكلام صفة فعلية، بمعنى: أنها تتعلق بإرادة الله تعالى ومشيئته متى شاء، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فالله يتكلم متى شاء كيف شاء بما شاء سبحانه وتعالى، ويقولون: إن صفة الكلام قائمة بذاته، لئلا تكون شيئاً خارجاً عن ذاته كما يقول بعض المبتدعة، وهذا لا شك أنه كلام باطل. وبناءً عليه نقول: إن أهل السنة والجماعة يقولون: إن هذا القرآن الذي نقرؤه بألسنتنا، ونحفظه في صدورنا، ونكتبه بألواحنا، وكذلك نعلم أنه كلام الله تعالى لفظه ومعناه، الواجب علينا ألا نبحث عن كيفيته، نعرف مدلول الكلام؛ لكن كيف يتكلم الرب وغيره الله أعلم بها، نقول كما قال الإمام مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) وهذا مما يجب. سبحان الله! جاءت صفة الكلام صفة كمال، وفي الضد في النقص انتقد العجل الذي اتخذه قوم موسى، ومما نقد به: أنه لا يتكلم ولا يرجع لهم قولاً، كما في قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] دل على أن من لم يتكلم فهو ناقص، والله هو المتكلم وله الكمال سبحانه وتعالى. ومن قبح المعتزلة أن بعضهم قال لـ أبي عمرو بن العلاء وهو أحد القراء السبعة: أريدك أن تقرأ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] جاءت في القرآن (الله) فاعل قال: (وكلم اللهَ موسى) بنصب لفظ الجلالة، ليكون موسى هو المتكلم، أي: أن موسى هو الذي كلم الله!! فقال له أبو عمرو رحمه الله: هب أني قرأتها مثلما قلت، فماذا نعمل بقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] أي: هب أني غيرت هذه فكيف أغير الأخرى؟!! فبهت المعتزلي ولم يستطع أن يتكلم بجواب، وهذا يعتبر من التحريف اللفظي الذي انطلق إليه المبتدعة. كان يوجد في أستار الكعبة قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فكان بعض كبار المعتزلة يقول: إني لأتمنى أن أحك هذه من المصحف!! حتى لا يتعلم الإنسان صفة الاستواء على العرش، ويسمى هذا من التحريف اللفظي، لأن التحريف الأصل فيه التغيير. وينقسم التحريف إلى قسمين: 1- تحريف لفظي. 2- تحريف معنوي. وهذا التحريف تحريف لفظي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 23 أدلة إثبات كلام الله من القرآن والسنة أما بالنسبة للأدلة في إثبات كلام الله تعالى فكثيرة جداً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لما قال الله لأهل الجنة: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ويقول الله لأهل الجنة: (يا أهل الجنة! هل رضيتم؟) وكذلك إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئاً، فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق، فنادوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ:23] . وكذلك (إن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في الأرض) إلى غير ذلك أحاديث كثيرة جداً تبين لنا أن الله سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء، كيف شاء، بكلام يليق بجلاله وعظمته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 24 شرح قول الناظم: وأقول قال الله جل جلاله قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأقول قال الله جل جلاله والمصطفى الهادي ولا أتأول أقول: ذكرنا أن القول يطلق ويراد به الاعتقاد، أي: وأعتقد بما قاله الله تعالى. و (الله) علم على الرب سبحانه وتعالى، وذكرنا أن هذا اللفظ لا يطلق إلا على الله تعالى أبداً، ولا يجوز أن يسمى به أحد غيره. والصحيح أن الله مشتق، وبعضهم يقول: إنه غير مشتق، والذي يظهر أنه مشتق، ويستدل له بقول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3] قوله (في السماوات) متعلق بلفظ الجلالة، أي: أن الله سبحانه وتعالى هو المألوه في السماوات وفي الأرض. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 25 معنى جل جلاله قوله: (جل جلاله) (جل) قال في اللسان: وجل الشيء يجل جلالاً وجلالة، أي: عظم، وجل فلان أي: عظم قدره، هذا فلان جل أي عظم. أما (جلاله) قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: الجلال هو العظمة، وفي لسان العرب ذكر جلّل، وقالوا في لفظة جلّل: الله جليل، وقالوا: الله الجليل سبحانه وتعالى، وهو ذو الجلال، وقد ورد في القرآن: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:77-78] قالوا: والجليل هو سبحانه وتعالى أي: المقصود به: الموصوف بنعوت الجلال، والجليل المطلق راجع إلى إطلاقه على الله، راجع إلى كمال صفاته سبحانه وتعالى، فهو المستحق للصفات الكاملة لا يُشرك معه فيها أحد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 26 معنى المصطفى قول المؤلف: (والمصطفى) الاصطفاء هو الاجتباء والارتضاء، ومعنى: الارتضاء والاجتباء متقارب، قال في اللسان: الاصطفاء هو الاختيار، ومنه النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنه صفوة الله من خلقه ومصطفاه، ولذلك الأنبياء يسمون بأنهم المصطفون، ونجد السبب: لأنهم قد اختيروا على سائر الناس كلهم، ويعتبر هذا من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم أنه المصطفى، قال بعض العلماء: المصطفى مأخوذ من الصفوة، وهي الخلوص. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 27 معنى الهادي وأقسام الهداية أما قوله: (والمصطفى الهادي) الهادي: اسم فاعل من هدى هداية، والهداية هي الدلالة، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] وهذه هي الهداية العامة. والهداية تنقسم إلى قسمين: 1- هداية دلالة وإرشاد. 2- هداية توفيق وإلهام. هذه تسمى هداية الدلالة والإرشاد، أي: أن محمداً صلى الله عليه وسلم يهدي الناس ويدلهم ويرشدهم إلى طريق الخير والصلاح لهم. وفي ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم مصطفى وهادٍ تنويه بشأنه وعلو منزلته، فإن الرب اصطفاه، وأصبح هادياً للناس لكل خير. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 28 معنى التأويل وإطلاقاته أما قوله: (ولا أتأول) يقصد به التغير، آل الشيء إلى هذا الشيء أي: صار إليه، هذا آل كذا، أي: صار، وقالوا: إطلاقات التأويل يطلق، ثلاثة إطلاقات، وعند السلف ليس منها إلا اثنان فقط: الإطلاق الأول الذي عند السلف: بمعنى التفسير، وهذا إطلاق صحيح، ولذلك كان ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى يقول: (تأويل هذه الآية) في تفسيره دائماً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) وهذا المعنى صحيح. الإطلاق الثاني الذي يطلق عند السلف: هو حقيقة الشيء وما يئول إليه، ومنه أن عائشة رضي الله عنها: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر في ركوعه وسجوده من أن يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، قالت: كان يتأول القرآن) أي: حقيقة الشيء وما يئول إليه، أخبر بهذا الشيء فطبقه النبي صلى الله عليه وسلم، وكما في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53] دل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يحذرون الناس، ويخوفونهم من عقوبة الله تعالى، فإذا نزلت أخبر هؤلاء وقالوا: هذا تأويل الذي ذكره الأنبياء وأخبرونا به فأصبح. قالوا: ومنه قصة يوسف عليه الصلاة والسلام لما قال: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف:100] فإن يوسف لما كان صغيراً قال لأبيه: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] ثم أخبره والده ألا يخبر أحداً، فلما بلغ وكبر أدخل أبويه إلى مصر وخروا له سجداً ورفع أبويه، فلما أخبر، قال: هذا تأويل، هذا حقيقة ما أخبرتك يا أبت، هذا الآن وقع، هو معنىً صحيح. القول الثالث: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر لوجود قرينة، قالوا: وهذا القسم لا يرد على إطلاقه، ولا يقبل على إطلاقه، وإن كان هذا المفهوم انطلق به المبتدعة لنفي ما دلت عليه النصوص الشرعية من المعاني الصحيحة، وكان بهذا انحرافاً، ولذلك جاء التأويل: (يد الله) قالوا: هي القدرة (غضب الله) قالوا: هي إرادة الانتقام أو إرادة الإنعام في الرضا، ولا شك أن هذا معنىً باطل، وليس كل ما ورد في اللغة العربية على إطلاقه يؤخذ به فتفسر النصوص، فمثلاً نجد اليد في اللغة بمعنى القوة، ولهذا تجد الحكام والسلاطين وغيرهم يقولون: أي شخص يخالف هذا الشيء نضرب عليه بيد من حديد، هل معه يد من حديد يضرب بها الناس؟ لا، وإنما يقصد بها القوة، أي: أنه يتكلم بمنطق القوة. وقالوا في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] أي: القوة، إذاً ليس معنى هؤلاء المبتدعة أن الله ليس له إلا قوتين فقط، أو النعمة، فمثلاً: حصل لك حادث وأعطاك شخص مالاً أو غير ذلك، فإنك تقول عن هذا الشخص: والله إن له يداً عندي لا أنساها أبداً، وقد أحسن، هل معناها: أعطاك يده؟ لا، وإنما أنعم عليك، وأحسن إليك بشيء فلا تنساه، فهل إذا قلنا: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] لم يكن لله إلا نعمتين فقط، هذا تأويل باطل، والله يقول: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) [المائدة:64] وأخبر: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] إلى غير ذلك من النصوص الدالة على إثبات الصفات لله تعالى. إذاً هذا هو مدلول التأويل، ولهذا نجد المبتدعة انطلقوا بقضية التأويل لتغيير ما دلت عليه النصوص، ولم يفهموا ما بُيِّنَ في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 29 منهج أهل السنة في باب الاعتقاد هو التوقيف قول المؤلف رحمه الله تعالى هنا، في قوله: وأقول قال الله جل جلاله. هذا بيان لمنهج أهل السنة والجماعة، وأن منهج أهل السنة والجماعة في باب الاعتقاد هو التوقيف، أي: الأخذ بما دلت عليه النصوص، فهو لا يأتي برأي من عنده، وإنما يأتي بما قاله الله جل جلاله وبما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، والتوقيف هو أن يأخذ الإنسان بالنصوص، وإذا قلنا: هذا شيء توقيفي قطعنا وبينا أمرين: الأمر الأول: أنه ليس للعقل فيه مجال أبداً. الأمر الثاني: أن هذه المسألة التوقيفية ليست محلاً لاجتهاد العلماء فيها أصلاً، فإذا قطعنا عن العقل وقطعنا عن اجتهاد العلماء أصبح التلقي فيها كاملاً بنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويُفهم منه أنه يأخذ بظاهر ما دلت عليه النصوص، وقد ذكرنا قاعدة في باب الأسماء والصفات وهي (الأصل في نصوص الأسماء والصفات إبقاؤها على ظاهرها، وعدم التعرض لها بتأويل أو تحريف أو تشبيه أو تكييف أو تمثيل) أو غيره مما ينطلق إليه المبتدعة في مقالتهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 30 مصطلحات في باب الأسماء والصفات الجزء: 11 ¦ الصفحة: 31 مصطلح التعطيل حقيقته ومعناه التعطيل في اللغة يقصد به: الخلو والفراغ، ومنه قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] أي: بئر خالية، ليس فيها شيء يستفاد منه لا ماء ولا غيره. والتعطيل في الاصطلاح: هو نفي ما دلت عليه النصوص من إثبات أسماء الله وصفاته أو غيره، ويدخل التعطيل على وجه العموم ما ذكرنا سابقاً في أنواع التعطيل الثلاثة التي ذكرها الإمام ابن القيم: تعطيل المعاملة، وتعطيل الصانع عن مصنوعه، وتعطيل الله عن كماله المقدس، وكل هذه الأنواع باطلة، وأهل السنة لا يعطلون أبداً إطلاقاً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 32 مصطلح التكييف التكييف: الأصل من لفظة (التكييف) أنها لم ترد في كتاب ولا سنة، ولم يرد نفيها في شيء، ولكن أوردها أهل السنة والجماعة لما وصل المبتدعة في نفي ما دلت عليه النصوص، أو بدأت عقولهم تجول في أشياء ليس للعقل فيها مجال، ولهذا قال الإمام مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول) بمعنى أنه لا يجوز لك أن تتصور هذا الشيء وأن تكيفه. قالوا: إن الكيفية أن يذكر كيفية الصفة، مثل أن تقول مثلاً: كيف جاء زيد؟ فتقول: جاء ماشياً، هذه كيفيته، ولذلك إذا قال: كيف يتكلم الله؟ يحتاج إلى تفصيل، كيف تتكلم أنت؟ معروف أن كلام الإنسان يتكلم بحركة لسانه وبغيره وتأتي ارتباطات أخرى، ومن لم يكن له لسان في فهمنا نحن بالنسبة للبشر لا يستطيع أن يتكلم، لكن قد يتكلم الإنسان بدون لسان وبدون شفتين وأوتار صوتية: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] وقد تتكلم الطاولة، وقد تتكلم الحجر، وقد تتكلم البهيمة، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ذئب عدى على غنم، ثم لما جاء الراعي واستنقذها منه، قال: (من لها يوم لا راعي لها إلا أنا، فعجب الصحابة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أنا أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر) دل على أنه قد يتكلم. قالوا ومن مثاله: يسألك كيف لون منزلك؟ أو كيف لون المسجد؟ تقول: لونه أبيض. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 33 مصطلح التمثيل بالنسبة للتمثيل فإنه قد ورد النهي عنه في القرآن مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] والتمثيل ذكر مماثل للشيء، مثل أن نقول: هذا الكرسي مثل الكرسي هذا، أي: بمعنى أن فيه قرباً ومشابهة له من أغلب الوجوه، هذا القلم مثل هذا القلم، هذا الكتاب مثل هذا الكتاب، ويتبين لنا أن بين التكييف والتمثيل عموماً وخصوصاً مطلقاً، قالوا: فكل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلاً، فدل على أن مفهوم التمثيل أوسع من التكييف، وأن التكييف يكون أدق. ولذلك قد يجتمع التكيف والتمثيل في جهة واحدة؛ لأن التكييف ذكر كيفية غيره مقرونة بمماثل، فإذا قرنت بمماثل صار التكييف والتمثيل شيئاً واحداً، فأقول: هذا القلم مثل هذا القلم، فكان فيه تكييف وتمثيل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 34 مصطلح التشبيه بالنسبة للتشبيه نقول: الله سبحانه وتعالى له أسماء وصفات من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف، ولفظة الشبيه في أصلها لم يرد دليل عليها في النفي، ومن أطلقها من السلف فإنما يقصد بها التمثيل، وإذا أطلقت بمعنى التمثيل قد دل عليها النفي في نصوص الكتاب والسنة، والأولى أن نعبر بالتمثيل؛ لأن لفظ التشبيه من الألفاظ الموهمة، ووجه الإيهام: أنه ما من شيئين إلا ويوجد بينهما مشابهة، وهذه المشابهة هي المعنى المطلق الكلي العام، الله سميع والمخلوق سميع يوجد نوع مشابهة في الاسم والمعنى المطلق الكلي العام، لكن في الحقائق والأعيان لا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ولولم يوجد القدر المشترك من هذا الشيء ما فهمنا مراد الشارع ولا خطابه أصلاً. فمثلاً: لو جئت بلفظة، ثم قلت مثلاً في أول مرة يسمعها الناس، حروفها عربية، لكنهم لا يعرفون مدلولها، ستجد السؤال: ما هذا الكلام؟ لكن إذا قلت مثلاً: قام، جلس، يكون عنده تصور وفهم، فإذا قلت: ينزل ربنا، انتهى الإشكال، ليس فيه مجال لشخص بأن يأتي ويقول: أعوذ بالله! أنت تقول: إن ربنا مثل المخلوق، لأنه بمجرد الإضافة والتخصيص تلغى قضية التشبيه. إذاً التعبير بلفظ التمثيل أولى من التشبيه لأمور: الأول: لأن القرآن عبر بالتمثيل ولم يعبر بالتشبيه. الثاني: أن التشبيه عند بعض المبتدعة يقصد به إثبات الصفات، فمثلاً: الأشاعرة والمعتزلة والجهمية يسموننا أهل السنة مشبهة، قلنا لهم: لماذا تقولون مشبهة؟ قالوا: أنتم تثبتون لله يداً، تثبتون لله قدماً، تثبتون لله إصبعاً، تثبتون أن الله يضحك، أنتم مشبهة، فلما كان لفظاً قد يرد فنقول: لو جيء بدلاً منه بالتمثيل كان أولى. الأمر الثالث: أن نفي التشبيه ليس على إطلاقه، بخلاف التمثيل فعلى إطلاقه ننفيه عن الله، لا نقول: لا يوجد مشابهة بين الخالق والمخلوق أبداً، لأننا قلنا: يوجد اشتراك بينهما في الاسم وفي المعنى المطلق الكلي العام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 35 أهم المراجع المتعلقة بالصحابة والأسماء والصفات بالنسبة للمراجع المتعلقة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اعتدت في كل موضوع أطرحه في أي درس أن أذكر المصادر، حتى يتمكن الإنسان من التوسع، وبالنسبة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراجع فيهم كثيرة: أولها: الكتب التي كتبت عن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، كـ الإصابة، والاستيعاب، وأسد الغابة، وكذلك فضائل الصحابة للإمام أحمد، وكل من كتب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ منهم منهجهم. ذكرت لكم ممن كتب عن الصحابة سابقاً الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في سير أعلامه، وأظن أني ذكرت مثالاً عن الجزء والصفحة، في (92- 93) ذكر الكلام الذي نقلته: بأنه ينبغي محو ما ورد من الكلام في الشجار بين الصحابة لئلا يكون في نفس الإنسان وغيره. واللالكائي رحمه الله تعالى، والإمام ابن بطة العكبري في شرح الإبانة، وشيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى، وفي عقيدته الواسطية، وفي منهاج السنة النبوية، كتب كثيرة جداً، بل ولا نجد كتاباً فيه عقيدة أهل السنة والجماعة إلا ويتطرق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. بالنسبة لباب الأسماء والصفات، مما تميز به تميزاً عجيباً شيخ الإسلام ابن تيمية، ولعلنا نقول: من قبله الإمام أحمد رحمه الله تعالى فإنه كتب في رده على المعتزلة، والإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله تعالى فقد رد على بشر المريسي، والإمام ابن مندة رحمه الله في كتابه الإيمان بين بطلان ما كان عليه المبتدعة، ومنهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات. شيخ الإسلام ابن تيمية نثر الكلام على باب الأسماء والصفات من أعظم ما أفرد فيه العقيدة الواسطية وهي مختصرة، ومن أشملها تقعيداً وتأصيلاً الرسالة التدمرية، وإن كانت حقيقة عندما يدرسها الإنسان في البداية تسمى المدمرة؛ لأن الإنسان لن يستوعبها بسهولة، وتحتاج إلى حل عباراتها، وفيها نوع من الصعوبة، لكن إذا أصَّل الإنسان وقرأ كتباً قبلها، كـ الواسطية ثم بعد ذلك العقيدة الطحاوية، ثم الحموية، إذا تدرج سهلت عليه الرسالة التدمرية لأنه ذكر فيها قواعد نفيسة رحمه الله تعالى. الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، وهو كتاب عظيم جداً، وإن لم يطبع إلا جزء منه، والمطبوع الآن كاملاً له مختصر، وذكر فيه ردوداً، وكذلك شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين ألف القواعد المثلى، وجمعها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وأفردها في رسالة لطيفة نفيسة، وإن كنت أقول حقيقة إنها تحتاج إلى أن تقرأ، ونقترح لو أتت دورات قادمة أن يُقرأ هذا الكتاب ويؤصل؛ نظراً لأنه مفرد إفراداً كاملاً في باب الأسماء والصفات حتى يكون الإنسان عنده وضوح في فهم أسماء الله وصفاته، ويوجد كتاب في صفات الله لـ علوي السقاف وكتاب آخر للدكتور إبراهيم البريكان كذلك هي في أسماء الله وصفاته مفردة. وتوجد كتب كتبت في شرح الأسماء الحسنى ولسنا بصددها؛ لأن بعضهم ينحى إليه منحىً لغوياً، وكتب ألفت من كتب الأشاعرة والمبتدعة لا يلتفت إليها في أسماء الله وصفاته، وممن كتب من الأشاعرة الفخر الرازي وأبو الحسن الأشعري والقرطبي صاحب التفسير، ولا يحتج بقوله في أسماء الله وصفاته في تفسيره ولا في كتابه، وإن كان لم يطبع، ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 36 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثاني عشر) في هذا الدرس بيان منهج أهل السنة والجماعة في كيفية التعامل مع النصوص، وكذا بيان منهج أهل السنة في كلام الله تعالى، وأن القول بأن كلام الله معنى نفسي أو أن القرآن حكاية أو عبارة أو مجاز أو فيض وما أشبهها ضلال وزيغ، وأن رؤية المؤمنين لربهم في المحشر والجنة حق، وقد دل على ذلك نصوص القرآن والسنة ومن أوّلها أو أنكرها فهو زائغ ضال. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1 منهج أهل السنة والجماعة في نصوص الأسماء والصفات الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. لا زلنا في صفة الكلام للرب سبحانه وتعالى، ولعلنا نتكلم عن دليل من أدلة الأشاعرة، ودليل من أدلة المعتزلة مع الرد عليها، ولعلنا نتكلم عن رؤية الرب سبحانه وتعالى في الآخرة: يقول المؤلف رحمه الله: وجميع آيات الصفات أمرها حقاً كما نقل الطراز الأول بين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى منهجه في آيات الصفات، ويقصد بالآيات هنا ما ورد في الكتاب والسنة، أي: أنه يمر النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويجريها على ظاهرها. والإمرار: قال في القاموس: مرّ مروراً، بمعنى: جاز وذهب، أي: أنه يجيز آيات الصفات كلها، لا يجد في قلبه أدنى حرج من إثبات ما دلت عليه هذه الآيات، ويكون المقصود أنه لا يقف معها باحثاً في كيفياتها، ولا منقباً فيها، ولا معترضاً عليها، وإنما قابلاً لكل ما دلت عليه هذه النصوص. قوله: (حقاً) أي: أنه سيأخذ بظاهرها وما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله تعالى. قوله: (كما نقل) أي: روي، سواء كان ذلك النقل في كتاب، أو دلت عليه نصوص السنة، أو فهمها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. قوله (الطراز) يقال: هو البز والهيئة، وقالوا: الطراز هو الجيد من كل شيء. وذكر بعض أهل اللغة أن هذه الكلمة معربة، وعلى كل حال فإن المقصود بها: الرعيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان كـ سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وابن المبارك وغيرهم، وقالوا: إن حساناً رضي الله عنه مدح قوماً وقال فيهم: بيض الوجوه كريمة أنسابهم شم الأنوف من الطراز الأول أي: يثني عليهم بما يتميزون به من الصفات. هذا البيت يبين لنا منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في جميع النصوص الدالة على الأسماء والصفات، وأنه يمرها على ظاهرها ولا يتعرض لها بشيء، ويبين ما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى. ثم انتقل شيخ الإسلام بعد ذلك مبيناً أنه يرد عهدتها إلى نقالها فقال: وأرد عهدتها إلى نقّالها وأصونها من كل ما يُتخيل قوله: (وأرد عهدتها) الضمير عائد على آيات الصفات وأحاديثها، وأنه يرد آيات الصفات الواردة في نصوص الكتاب والسنة إلى نقالها، (والعهدة) أي: الخروج من تبعتها، أي: أنني لست أنا الذي جئت بها، وإنما أعيد ما دلت عليه إلى من نقلوها، ومفهومه أني أصون اعتقادي عن الخوض فيها بعزوها إلى نقالها، ولذلك دائماً يقال: (والعهدة على الناقل) أنا أروي لكم والعهدة على الناقل، أي: لست أنا الذي جئت بها، وكأن شيخ الإسلام ابن تيمية يبين أن عقيدته ليس هو الذي جاء بها، وإنما أخذها من نقالها، وأيضاً لم يأتِ بعقيدة جديدة من عند نفسه رحمه الله تعالى، وإنما جاء بها نقلاً عن السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين. ويقال: عهدة الخبر يقصد به: صدقه أو كذبه، وكأن الآن عهدة الخبر في الصدق والكذب ليست لي، وإنما لرواتها وما نقل عنهم من أئمة السلف، ولذلك ردها إلى نقلتها وهم الأئمة الأثبات رحمهم الله تعالى، والذين أخرجوها من مهرة أئمة الحديث وغيرهم. يفهم من (العهدة) أنها بمعنى الاستئمان، فإذا قلت: عهدت إليك هذه العهدة، أي: استأمنتك، ونحن نستأمن سلفنا فيما ينقلونه لنا، فالصحابة مستأمنون على الوحي، والرسول صلى الله عليه وسلم مستأمن على الوحي، ولهذا يقول كل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68] أي: وما أنقله أنا أمين عليه، فهكذا الرواة الذين نقلوا لنا الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقل لنا كذلك الصحابة العقيدة مما أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم فهم مستأمنون عليه، ونقلوه لنا كما جاءهم عن الله أو جاءهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (وأصونها) الصون في اللسان: أن تقي شيئاً، أي أحميها، فالصيانة معناها: الحماية، ولهذا قال: (وأصونها) أي: أصون آيات الصفات وأحاديثها عن الخوض في معناها، ثم ذكر الصيانة لها مبيناً أن الصيانة عن كل ما تخيل، فإن المبتدعة من المعطلة والمشبهة لم يصونوا نصوص الصفات عن التخيل، ولهذا قالوا قاعدة: (كل مشبه معطل، وكل معطل مشبه) فإذاً: كل من المشبهة والمعطلة جاءوا بقضية التخييل، فلم يسيروا على ما سار عليه سلف الأمة، ولهذا قال: وأصونها عن كل ما يتخيل فأجعل لها حماية، لا أتخيل بعقلي أي صفة وردت لله تعالى، فإن المعطل شبه الله أولاً ثم عطل، فالمعطل الذي نفى الصفات قال: لا أفهم من مدلول الصفات إلا أنها تشبه صفات المخلوقين والله ليس كالمخلوقين، إذاً أنا أنفيها، والمشبه كذلك معطل، ووجه التعطيل عنده أنه قال: الله له يد مثل يدي، ولو سألناه: هل النص الذي ورد يراد منه أن يثبت لله مثل يد المخلوق؟ الجواب: لا، فمن قال: يد الله مثل يد المخلوق فقد عطل النص عما دل عليه من إثبات الصفة اللائقة بالله تعالى، ولهذا كل من المشبه والمعطل كان عنده شيء من التخييل ومن التشبيه. ونصل إلى نتيجة أن كل ما خطر في بال الإنسان من شيء حول الصفات فالله على خلافه، ولا يمكن أبداً أن يكون كما يتصوره الإنسان، فإن العقل قد يتخيل أشياء والله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ولهذا يقول صاحب القاموس: وتخيل الشيء له، أي: تشبه، كأنه أصبح له شبيه. قال شيخ الإسلام: قبحاً لمن نبذ القران وراءه وردت (قبحٌ) ووردت (قبحاً) : قبحاً لمن نبذ القران وراءه وإذا استدل يقول قال الأخطل (قبحاً لمن نبذ القرآن وراءه) هذه القاعدة تنطبق على الأشاعرة والمعتزلة والجهمية والفلاسفة، لأن كل هؤلاء لم يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة، وعدم أخذهم لما دل عليه الكتاب والسنة قد يكون شيئاً ظاهراً، يقول: أنا لا أريد الكتاب والسنة، ولا أحتج بهم، كما نقل عن بشر ونقل عن غيره أنهم عندما يناقشون يقولون: دعونا من نصوص الكتاب والسنة وناقشونا بالعقل، وهذا أشد قبحاً، ويصل إليه هذا الدعاء: (قبحاً لمن نبذ القران وراءه) هذا نبذ كامل. وقد يكون النبذ غير مباشر كأن يتأول ما دل عليه الكتاب والسنة، وقد ذكرنا سابقاً قاعدة: (أن الأصل إجراء الألفاظ على ظاهرها) {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] نثبت اليدين. يضحك الله فنعرف مدلول الضحك ونثبته لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، ومن لا يثبته فإن هذا يعتبر قد نبذ القرآن وراءه ولم يحتج به أصلاً، وينطبق انطباقاً كاملاً على المعتزلة الذين عندهم قاعدة يقولون: (إن العقل هو الحاكم على الكتاب والسنة) ولقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى برد عظيم في كتابه: درء تعارض العقل والنقل، بين تأصيلهم وبين بطلان ما ذهبوا إليه ولم يعملوا به، ولهذا قالوا: أي نص في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يقبله العقل فإنه يطرح! وهذا هو النبذ الحقيقي لما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. القبح في اللغة: ضد الحسن، ويكون في الصورة والفعل، أي: قد يكون الإنسان صورته قبيحة، وقد تكون أفعاله قبيحة، وبعضهم يقول: إنه عام في كل شيء، قد يكون القبح في الاعتقاد، وقد يكون في القول، وقد يكون في العمل، وقد يكون في الصورة، وكل هذه يدخل فيها القبح، يقول الأزهري: القبح هو نقيض الحسن، وهو عام في كل شيء. قوله: (لمن نبذ) قال في اللسان: النبذ طرحك الشيء من يدك، أي: طرحك للشيء من يدك سواء كان طرحك له أمامك أو كان في خلفك، فهذا نبذ، ولهذا قالوا: نبذ النوى: طرحه وإلقاؤه، ونبذت الشيء إذا رميته وأبعدته عنك، ويقال: كل طرح يسمى نبذاً، ونبذ الكتاب وراءه أي: ألقاه، ولهذا قال: نبذوا القرآن، كأنهم غير مبالين بكتاب الله وسنة رسوله، واستحقوا بذلك أن يكونوا مقبوحين، فإن من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يستحق أن يقبح ولا يلتفت إليه. ذكر: (وراءه) نقول هنا: قد يكون النبذ حسياً وقد يكون النبذ معنوياً. والنبذ الحسي هو رمي القرآن فلا يقبله أصلاً، ويقول: هذا القرآن لا يحتج به، وقد يكون النبذ معنوياً بأن لا يعمل به، وإن كان يعظم القرآن، أي: القرآن على العين والرأس، لكن لا نفهم مدلوله ولا نقبله حجة بينا وبينكم، وكل هذه تنطبق على طوائف المبتدعة الذين ينبذون ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 2 استدلال الأشاعرة بكلام الأخطل في كلام الله والرد عليهم قول المؤلف: وإذا استدل يقول قال الأخطل إذا استدل أي: إذا جاء بحجة وبرهان على ما يدل على مذهبهم الباطل، والاحتجاج الآن نفهم منه أن هذا خلاف منهج أهل السنة والجماعة، فـ أهل السنة والجماعة لا يجعلون حجتهم الرجال، وإنما حجتهم الكتاب والسنة، أما الرجال وعقولهم فلا نحتج بهم، ولهذا قالوا: إن أهل السنة والجماعة لا ينتسبون إلى رجل معين، إنما ينتسبون إلى كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على فهم الصحابة، لكن لا ينتسبون إلى شخصية معينة، بخلاف المبتدعة فكل طائفة بدعية تنتسب إلى رجل، فـ البيانية تنتسب إلى بيان بن سمعان، والجهمية تنتسب إلى الجهم بن صفوان، والخوارج ينتسبون إلى أشخاص معينين خرجوا، والزيدية ينتسبون إلى زيد بن علي، أما أهل السنة والجماعة فينتسبون إلى المنهج الذي جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: وإذا استدل يقول قال الأخطل حجة هؤلاء هو قول الرجال، وهذا فيه رد على الأشاعرة الذين يستدلون بقول الأخطل، والأخطل شاعر نصراني، ولد في الصحراء الشامية -أي: في الشام - واسمه: غياث بن الصلت بن طارقة، وينسب إلى عشيرة بني جشم بن بكر التغلبية، وبعض العلماء يقولون: تعتبر هذه العشيرة من القبائل العربية، ولكنها كانت قبيلة نصرانية، كانت أمه اسمها ليلى من قبيلة إياد النصرانية، وكنيته أبو مالك، وقد عاش هذا الرجل ومات نصرانياً، ولم يكن على الإسلام، قالوا: كان قبحه الله يظهر تعليق الصليب على صدره وفي عنقه، وهذه من عادة النصارى، وذكر أن الخليفة دعاه إلى الإسلام فرفض ولم يقبله، وهجا خصومه من المسلمين، وكان في عصر جرير والفرزدق، وكان بينه وبين جرير أشعار وذم وقدح، وليس غريباً أن يحدث بين الشعراء مثل هذا. كان الأخطل مسرفاً في شرب الخمر، ولا شك أن النصارى يستبيحون هذا الأمر، ويرون أن: الخمر هي مصدر الإلهام الشعري، ولا شك أن هذا الكلام باطل وغير صحيح. هذا الأخطل له بيت من الشعر، وهذا البيت من الشعر يحتج به الأشاعرة، وعجباً من الأشاعرة كيف يستدلون بقول نصراني وليس بسلفي في معتقده في مسألة الكلام لله سبحانه وتعالى، والبيت الشعري هو: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً ولو جئنا نناقش الأشاعرة في هذا الأمر لتبين بطلانه من وجوه متعددة: أولاً: نقول لهؤلاء الأشاعرة في استدلالهم على أن كلام الله نفسي: (إن الكلام لفي الفؤاد) أي: الكلام الحقيقي هو في النفس (وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً) أي: أن اللسان هو دليل على كلام في القلب، وإن الكلام الحقيقي هو الذي في القلب والنفس، وهذا الكلام باطل لا شك فيه. يقول الأشاعرة: لا يحتج بالكتاب والسنة التي ثبتت بالآحاد في مسائل الاعتقاد إلا إذا كانت متواترة، أما إذا لم تكن متواترة فلا يحتج بها، ونحن نقول لهم: أعطونا سند هذا البيت الآن عن الأخطل، هل سنده متواتر حتى نحتج به، أم سنده خبر آحاد؟ بل بعضهم يقول: إنه منسوب أصلاً إلى الأخطل فلا يحتج به، وهذا من منهج المبتدعة، أنهم إذا لم يقبلوا النص أخذوا يتشبثون ببيت العنكبوت، ولعلهم هنا لما لم يقبلوا ما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات صفة الكلام لله على ما يليق بجلال الله وعظمته، أخذوا يتشبثون بلغة العرب وأعرضوا عن القرآن والسنة، وتشبثوا ببيت لم يصح سنده أصلاً، وحتى على فرض صحته، فإنه ورد بصيغة: إن البيان لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا وإذا قصد (إن البيان لفي الفؤاد) قد يكون المعنى له وجه من الصحة. ثم نقول كذلك: كيف يُستدل بالنصارى في مسألة الكلام وهم من أضل الناس في كلام الله تعالى؟ كيف خلق عيسى عليه الصلاة والسلام؟ هل هو ذات الكلام أم أنه خلق بكلام الله؟ هم يقولون: هو كلام الله وهذا الكلام باطل، بل إن عيسى عليه الصلاة والسلام خلق بكلام الله تعالى، خلق عيسى عليه الصلاة والسلام بكلام الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] . فعيسى ليس هو الكلمة، وإنما خلق بكلمة: كن، فكان عليه الصلاة والسلام. ومنها كذلك: لو أخذ بكلام هؤلاء الأشاعرة للزم أن يقال: إن الأخرس متكلم، أليس الأخرس في جوفه كلام؟ إن الكلام لفي الفؤاد، فالأخرس عنده كلام يشير وغيره، ولا يقول أحد: إن الأخرس متكلم أصلاً، ولو قيل: إن الكلام هو النفسي فقط، للزم أن يكون الأخرس متكلماً. ثم نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال لنا: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) أنت إذا دخلت الصلاة لا يجوز لك أن تتكلم فتقول: يا فلان! كيف حالك، أو تسلم على فلان، أو ترد على أحد سلاماً، لكن أنت في الصلاة وأنت محرم بها يحدث من الكلام في النفس أمر عجيب، بل ربما يلفظ الإنسان لا شعورياً ويتحدث في الصلاة بأمر، يبيع ويشتري ويبني ويسكن ويذهب ويرجع، وهو محرم بالصلاة، هل يقال: هذه تبطل صلاة الإنسان؟ لا، وإنما الذي يبطله هو ما تلفظ به. ولهذا اتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم بصوته متعمداً في صلاته بطلت صلاته، لكن ما خطر في قلبه لا يعتبر كلاماً ولا يلتفت إليه أصلاً، ثم نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عفي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) دل على أن حديث النفس لا يسمى كلاماً، ولا يمكن أبداً أن نفسر كلام الله تعالى على أنه حديث النفس، ونجد هذا مدلوله في لغة العرب، بل نجد القرآن نزل بلغة العرب، وهذا هو المدلول الصحيح في ذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (أمسك عليك هذا، قال: يا رسول الله! أو نحن مؤاخذون بما نتكلم به؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) لكن خواطر القلب الناس معذورون فيها، ولما نزل قول الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] (جثا الصحابة على الركب، قالوا: يحدث في قلوبنا من الحديث، فإذا كنا نحاسب على ما في القلب، ولكن عفي عن هذا ولم يلتفت إليه، وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن ما حدث في القلب لا يلتفت إليه، بل إن الإنسان ما لم يتكلم أو يعمل به فلا ينظر، وبهذا نعلم أن قول) الأشاعرة في كلام الله قول باطل مخالف لما كان عليه أهل السنة والجماعة، ولعقيدة سلف الأمة، وبهذا عرفنا أن قولهم: إن الكلام نفسي ليس بصحيح. ولقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رداً على هؤلاء كما في رسالته التسعينية رد على الأشاعرة من تسعين وجهاً أبطل به مذهب الأشاعرة على أن كلام الله نفسي، مما يدل على أن قولهم هذا ليس صحيحاً، وقد خالفوا ما كان عليه أهل السنة والجماعة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 حقيقة الأخطل حجة هؤلاء هو قول الرجال، وهذا فيه رد على الأشاعرة الذين يستدلون بقول الأخطل، والأخطل شاعر نصراني، ولد في الصحراء الشامية -أي: في الشام - واسمه: غياث بن الصلت بن طارقة، وينسب إلى عشيرة بني جشم بن بكر التغلبية، وبعض العلماء يقولون: تعتبر هذه العشيرة من القبائل العربية، ولكنها كانت قبيلة نصرانية، كانت أمه اسمها ليلى من قبيلة إياد النصرانية، وكنيته أبو مالك، وقد عاش هذا الرجل ومات نصرانياً، ولم يكن على الإسلام، قالوا: قبحه الله كان يظهر تعليق الصليب على صدره وفي عنقه، وهذه من عادة النصارى، وذكر أن الخليفة دعاه إلى الإسلام فرفض ولم يقبله، وهجا خصومه من المسلمين، وكان في عصر جرير والفرزدق، وكان بينه وبين جرير أشعار وذم وقدح، وليس غريباً أن يحدث بين الشعراء مثل هذا. كان الأخطل مسرفاً في شرب الخمر، ولا شك أن النصارى يستبيحون هذا الأمر، ويرون أن: الخمر هي مصدر الإلهام الشعري، ولا شك أن هذا الكلام باطل وغير صحيح. هذا الأخطل له بيت من الشعر، وهذا البيت من الشعر يحتج به الأشاعرة، وعجباً من الأشاعرة كيف يستدلون بقول نصراني وليس بسلفي في معتقده في مسألة الكلام لله سبحانه وتعالى، والبيت الشعري هو: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً ولو جئنا نناقش الأشاعرة في هذا الأمر لتبين بطلانهم من وجوه متعددة: أولاً: نقول لهؤلاء الأشاعرة في استدلالهم على أن كلام الله نفسي: (إن الكلام لفي الفؤاد) أي: الكلام الحقيقي هو في النفس (وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً) أي: أن اللسان هو دليل على كلام في القلب، وإن الكلام الحقيقي هو الذي في القلب والنفس، وهذا الكلام باطل لا شك فيه. يقول الأشاعرة: لا يحتج بالكتاب والسنة التي ثبتت بالآحاد في مسائل الاعتقاد إلا إذا كانت متواترة، أما إذا لم تكن متواترة فلا يحتج بها، ونحن نقول لهم: أعطونا سند هذا البيت الآن عن الأخطل، هل سنده متواتر حتى نحتج به، أم سنده خبر آحاد؟ بل بعضهم يقول: إنه منسوب أصلاً إلى الأخطل فلا يحتج به، وهذا من منهج المبتدعة، أنهم إذا لم يقبلوا النص أخذوا يتشبثون ببيت العنكبوت، ولعلهم هنا لما لم يقبلوا ما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات صفة الكلام لله على ما يليق بجلال الله وعظمته، أخذوا يتشبثون بأي شيء، تشبثوا بلغة العرب وأعرضوا عن القرآن والسنة، وتشبثوا ببيت لم يصح سنده أصلاً، وحتى على فرض صحته، فإنه ورد بصيغة: إن البيان لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا وإذا قصد (إن البيان لفي الفؤاد) قد يكون المعنى له وجه من الصحة. ثم نقول كذلك: كيف يُستدل بالنصارى في مسألة الكلام وهم من أضل الناس في كلام الله تعالى؟ أليس عيسى عليه الصلاة والسلام كيف خلق؟ هل هو ذات الكلام أم أنه خلق بكلام الله؟ هم يقولون: هو كلام الله وهذا الكلام باطل، بل إن عيسى عليه الصلاة والسلام خلق بكلام الله تعالى، خلق عيسى عليه الصلاة والسلام بكلام الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] . فعيسى ليس هو الكلمة، وإنما خلق بكلمة: كن، فكان عليه الصلاة والسلام. ومنها كذلك: لو أخذ بكلام هؤلاء الأشاعرة للزم أن يقال: إن الأخرس متكلم، أليس الأخرس في جوفه كلام؟ إن الكلام لفي الفؤاد، فالأخرس عنده كلام يشير وغيره، ولا يقول أحد: إن الأخرس متكلم أصلاً، ولو قيل: إن الكلام هو النفسي فقط، للزم أن يكون الأخرس متكلماً. ثم نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال لنا: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) أنت إذا دخلت الصلاة لا يجوز لك أن تتكلم فتقول: يا فلان! كيف حالك، أو تسلم على فلان، أو ترد على أحد سلاماً، لكن أنت في الصلاة وأنت مكبر كم يحدث من الكلام في النفس أمراً عجيباً، بل ربما يلفظ الإنسان لا شعورياً ويتحدث في الصلاة بأمر، يبيع ويشتري ويبني ويسكن ويذهب ويرجع، وهو مكبر في الصلاة، هل يقال: هذه تبطل صلاة الإنسان؟ لا، وإنما الذي يبطله هو ما تلفظ به. ولهذا اتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم بصوته متعمداً في صلاته بطلت صلاته، لكن ما خطر في قلبه لا يعتبر كلاماً ولا يلتفت إليه أصلاً، ثم نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عفي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) دل على أن حديث النفس لا يسمى كلاماً، ولا يمكن أبداً أن نفسر كلام الله تعالى على أنه حديث النفس، ونجد هذا مدلوله في لغة العرب، بل نجد القرآن نزل بلغة العرب، وهذا هو المدلول الصحيح في ذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (أمسك عليك هذا، قال: يا رسول الله! أو نحن مآخذون بما نتكلم به؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) لكن خواطر القلب الناس معذورون فيها، ولما نزل قول الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] جثا الصحابة بالركب، قالوا: يحدث في قلوبنا من الحديث، فإذا كنا نحاسب على ما في القلب، عفا عن هذا ولم يلتفت إليه، وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أنما حدث في القلب لا يلتفت إليه، بل إن الإنسان ما لم يتكلم أو يعمل به فلا ينظر، وبهذا نعلم أن قول الأشاعرة في كلام الله قول باطل مخالف لما كان عليه أهل السنة والجماعة، ولعقيدة سلف الأمة، وبهذا عرفنا أن قولهم: إن الكلام نفسي ليس بصحيح. ولقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رداً على هؤلاء كما في رسالته التسعينية رد على الأشاعرة من تسعين وجهاً أبطل به مذهب الأشاعرة على أن كلام الله نفسي، مما يدل على أن قولهم هذا ليس صحيحاً، وقد خالفوا ما كان عليه أهل السنة والجماعة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 مذهب المعتزلة في كلام الله والرد عليهم أما المعتزلة فيذهبون إلى أن كلام الله مخلوق من مخلوقات الله تعالى، وهذا الكلام باطل لا شك في بطلانه، ويستدلون لذلك بدليل من القرآن، ولا شك أن لهؤلاء قاعدة يقولون: (إن أهل السنة والجماعة يوفقون بين النصوص، أما المبتدعة فإنهم يضربون النصوص بعضها ببعض) وهذه من رحمة الله تعالى أن وفق أهل السنة والجماعة للتوفيق بين النصوص، ولا يعارضون بعضها ببعض. ومما استدل به هؤلاء قالوا: قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] ويسألون: أليس القرآن شيئاً؟ نقول: نعم، قالوا: إذاً هو مخلوق، وكلامهم هذا لا شك في بطلانه، وبطلانه من القرآن ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم واضح وبين، فقول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] نجد أن (كل) لا تدل على العموم على إطلاقها، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] فهل دمرت المساكن؟ وهل دمرت السماوات والأرض؟ لا، وإنما تدمر كل شيء أمر الله بتدميره، ولذلك قال الله تعالى: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] أي: مساكنهم هي التي بقيت ولم يحدث فيها شيء من التدمير. ثم نقول: في قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] (كل) ليس على إطلاقها، وإنما ترد في بعض الأحيان، وبعضها لا ترد على إطلاقها، نجد أن قول الله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] أوتيت من كل شيء، هل الآن أوتيت ملك سليمان عليه السلام؟ لا، هل أوتيت ملك السماوات والأرض؟ لا، إنما أوتيت من كل شيء يحتاج إليه الملوك من القوة والجبروت والسلاح والطاعة وغير ذلك، لكنها لم تؤت ملك سليمان عليه الصلاة والسلام، فأصبحت الآن (كل) في كل موضع بحسبها تعرف بما دلت عليه القرائن، وليس على إطلاقه كما قال هؤلاء. الآن قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] الأصل عندنا (كل شيء) أي: مخلوق، والكلام صفة لله تعالى وصفات الله ليست مخلوقة. ثم لو جئنا الآن على إطلاق هؤلاء المعتزلة قبحهم الله ماذا يلزمهم، نسألهم: السمع شيء أم ليس شيئاً؟ البصر شيء أم ليس شيئاً؟ فإن قالوا: شيء قلنا: إذاً يصبح مخلوقاً، وهم لا يقولون به، فلو أجرينا الكلام على قاعدتهم، للزم عليه أن يكون سمع الله وكلام الله ويد الله وقدرة الله وقدم الله كلها مخلوقة، وهذا الكلام باطل، بل إن الله سبحانه وتعالى كما أن ذاته ليست مخلوقة فكذلك صفاته تليق بجلاله وعظمته ليست مخلوقة، فبطل ما قال هؤلاء. ومما استدل به هؤلاء قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] قالوا: إن الله قد قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] والرسول مخلوق أم ليس مخلوقاً؟ نقول: نعم مخلوق، قالوا: إذاً هذا (قوله) فهو مخلوق، ولكن هذا الاستدلال باطل، وقد ذكرنا أن القرآن أضيف إلى الله، وأضيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأضيف إلى جبريل، وقلنا: إن إضافته إلى الله إضافة حقيقة؛ لأنه هو المتكلم به، وإضافته إلى جبريل وإضافته إلى محمد صلى الله عليه وسلم إضافة تبليغ وليس إضافة ابتداء. ثم نسأل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] هذا القرآن إذا كان مخلوقاً كيف يكون مخلوقاً في وقت واحد في جبريل وفي محمد؟ هذا الكلام غير صحيح، ولكن إذا قلنا: إن جبريل ومحمداً مبلغون له، فلا شك أنه هو قولهم على اعتبار قضية التبليغ. عندنا الله سبحانه وتعالى كفَّر من قال: إنه قول البشر، ولذلك بين تكفيره في سورة المدثر، فلو قيل: إنه قول بشر للزم أن يكون من قال به كافراً، وهذا الكلام غير صحيح، بل كلام الله منه ابتدأ سبحانه وتعالى، أي: أن الله هو المبتدئ له وهو القائل له سبحانه وتعالى، ليس كما قاله هؤلاء المبتدعة. ثم نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول للعرب حين يعرض نفسه على القبائل: (ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي) ما قال: كلامي أنا، وإنما كان يريد أن يبلغ كلام الله سبحانه وتعالى، ولذلك حصل فيه قضية التبليغ، ولم يحدث شيئاً من عنده، بل إن الله قد قال: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46] فلو كان محمد أحدث شيئاً ولو حرفاً واحداً فقد أخبر الله تعالى أنه سيأخذ منه الوتين، ثم لم يكن أحد من الخلق حاجزاً عنه أن يؤتيه عقوبة من عند الله تعالى بسبب أنه زاد شيئاً من عنده. هذا بعض ما يتعلق ببعض أدلة الأشاعرة والمعتزلة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 تفاضل القرآن بعضه على بعض مسألة: يجب أن نعلم أن كلام الله تعالى متفاضل، وممن ذكر هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، والله سبحانه وتعالى ذكر ثناءً على المؤمنين: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18] واستدل لذلك بآيات وردت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تعدل ثلث القرآن، ووردت أحاديث الفاتحة أنها أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ما تتميز به من المزايا، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها أعظم سورة في القرآن، وأنها السبع المثاني، وأنها القرآن العظيم، وقال النبي لـ أبي بن كعب: (ألا أعلمك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا الفرقان مثلها، فإني لأرجو أن تخرج من هذا الباب حتى تعلمها، قال: ثم ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم سورة الفاتحة، وبين ما تتميز به من الفضائل والأحكام) وقد أُلف في هذه السورة من الكتب العظيمة في بيان فضلها وبيان الأحكام المتعلقة بها، ولهذا نقول: إن كلام الله تعالى متفاضل، وذكر الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] مما يدل على أن هناك شيئاً من التفاضل في كلام الله تعالى، ولا يلزم منه كما يقول المبتدعة: إن هذا يؤدي إلى أن فيه فاضلاً ومفضولاً، ولكن كله فاضل، ولكن بعضه أفضل من بعض كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 مسائل تتعلق بالرؤية قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والمؤمنون يرون حقاً ربهم وإلى السماء بغير كيف ينزل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 أدلة الرؤية في الكتاب والسنة والرد على المبتدعة ثبت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مسألة الرؤية، وقد دل عليها آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، منها قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] وفي قوله تعالى: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:35] {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] . بل إن سلف الأمة يقولون: إن مسألة الرؤية مما تواترت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر هل تضامون في رؤيته؟) ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون ربهم، بل تعتبر رؤية الرب سبحانه وتعالى أعظم نعيم لأهل الجنة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً هذا المعتقد، وإن كانت طوائف من المبتدعة تنفي رؤية الله تعالى كـ المعتزلة، والجهمية، والخوارج، وبعض طوائف الرافضة ويقولون: إن الله لا يُرى يوم القيامة، وكلامهم هذا مخالف لما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويصبح من عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات الرؤية لله تعالى، بل يعتبر من أعظم نعيم أهل الجنة رؤية الله، ونسأل الله أن نكون ممن يراه. نأخذ الآن الأدلة ونبين وجه الدلالة، وسنذكر شيئاً من أدلة النفاة لرؤية الرب سبحانه وتعالى، ونتكلم على مسائل: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه أم لا؟ هل يمكن أن يرى الله سبحانه وتعالى في الدنيا أم لا؟ أما بالنسبة للآخرة فإنه لا شك في رؤية المؤمنين له سبحانه وتعالى. في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] لا شك بأن الناضرة هنا مقصود بها الحسن والجمال، ولذلك قال تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] هنا يقصد به النظر وهو بالبصر، والنظر عندنا قد ينقسم إلى قسمين: نظر حسي، ونظر معنوي، والنظر الحسي يتعلق بالبصر، والنظر المعنوي هو الذي يتعلق بالقلب، والنظر الحسي بالبصر، فمثلاً أنا أشاهد الآن الأحبة أمام عيني، لكن النظر المعنوي هو نظر البصيرة، وهو متعلق بالقلب، وأن الله يُبصِّر الإنسان بمعرفة الحق من الباطل، ويصبح يميز بينهما، هل هو لمجرد المشاهدة؟ لا. قد أسمع مثلاً كلاماً، ويصبح عندي بصيرة فيه أعلم بأنه حق أو باطل، هذا لم يتلق بمشاهدة وإنما بسمع، وكانت البصيرة في القلب، هذه الآية تدل على أن النظر بالبصر، وأنها إلى ربها، وقد عديت بإلى، مما يدل على أن هذه الأجساد التي تبصر الرب تزداد حسناً ونضارة وجمالاً؛ بسبب رؤيتها لله تعالى، وذلك من فضل الله تعالى على المؤمنين بأنهم يرون ربهم سبحانه وتعالى، ولذلك أنشدوا في قضية التواتر وقد ذكرناه: مما تواتر حديث من كذب ومن بنى لله بيتاً واحتسب ورؤية شفاعة وحوض ومسح خفين وهذي بعض دل على أن هذه المسائل مما تواترت. ومما يستدل به أهل السنة والجماعة على الرؤية كذلك قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ونفي الإدراك هنا يدل على أنه يرى لكننا لا نحيط به إدراكاً، وإن كانت المبتدعة من الخوارج والمعتزلة استدلوا بهذه الآية على نفي الرؤية، وكلامهم هنا باطل، فالله تعالى يبين أنه لا تدركه الأبصار، أي: أنها تراه لكنها لا تحيط به إدراكاً، ونحن نرى ربنا بأبصارنا، ولكن أبصارنا لا تدركه، وهذه من شبهة نفاة الرؤية عن الله سبحانه وتعالى: الله ليس بجسم، وبناءً عليه لا ترى إلا الأجسام، والله ليس بجسم، والنتيجة أن الله لا يرى، بني على مقدمتين ونتيجة، وهذا استدلال عقلي، وهو ما قاله شيخ الإسلام أن المبتدعة يقدمون العقل على الكتاب والسنة، ويستدلون بأدلة عقلية ولكنها جهليات في الحقيقة وليست أدلة عقلية. المقدمة الأولى، قالوا: إن الله ليس بجسم. المقدمة الثانية: أنه لا يرى إلا الأجسام. النتيجة: أن الله لا يرى. ومما استدل به هؤلاء قول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] قالوا: الله قال لموسى: ((لَنْ تَرَانِي)) وعند المبتدعة يقولون: إن (لن) تفيد التأبيد، ولكن هذا القول باطل لا شك فيه. في قوله: ((لَنْ تَرَانِي)) هذه الآية استدل بها أهل السنة واستدل بها المبتدعة، أهل السنة يثبتون بها الرؤية، ووجه إثبات الرؤية: أن الله قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: ((لَنْ تَرَانِي)) أي: لن تراني في الدنيا؛ لأن النصوص الأخرى دلت على الرؤية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم سترون ربكم) ويخاطب الصحابة، وأيهما أفضل: موسى أم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؟ لا شك أن موسى أفضل، فكيف يمنع موسى من الرؤية ويقال للصحابة: (إنكم سترون ربكم) فدل على أن الرؤية هنا يقصد بها إثبات الرؤية في الآخرة، لكن قيل لموسى عليه الصلاة والسلام: ((لَنْ تَرَانِي)) أي: في الدنيا، وقولهم: إن (لن) تفيد التأبيد قول باطل لا شك فيه، ودل على بطلانه في فهمه للتأبيد أن الإمام ابن مالك رحمه الله تعالى قال في ألفيته: ومن رأى النفي بلن مؤبدا فقوله اردد وسواه فاعضدا دل على أن قول المبتدعة أن (لن) تفيد التأبيد على أن الله لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، قال: فقوله اردد وسواه فاعضدا دل على أن (لن) في لغة العرب لا تفيد التأبيد. ومن الأدلة على إبطال مقالتهم أن (لن) تفيد التأبيد: لما ذكر الله عن الكفار: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95] ((وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ)) أي: الموت ((بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)) ومع ذلك يوم القيامة ينادون: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يطلبون الموت، فدل على أن قولهم: (لن) لا تفيد التأبيد ليست صحيحة، حتى على فرض جمعنا بين النصوص ومع ذلك جئنا بنص في كتاب الله تعالى: ((وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ)) ومع ذلك نادوا مالكاً يطلبون منه أن يقضي عليهم وأن يصل إليهم الموت. ولما جاءهم من الأدلة على إبطال مقالتهم في هذه الآية، أن موسى عليه الصلاة والسلام لما طلب من ربه أن ينظر إليه، قالوا: إن موسى ما سأل إلا أمراً يجوز له السؤال فيه، موسى عليه الصلاة والسلام حين سأل: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] سأل أمراً يجوز له السؤال فيه، إذاً ما وجه الجواز هنا؟ قالوا: إن نوحاً عليه الصلاة والسلام لما سأل قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45] أليس رد عليه الرب، قال له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] فلو كان سؤال موسى ليس صحيحاً لبين الله سبحانه وتعالى لموسى أنه ما كان ينبغي لك أن تسأل الرؤية؛ لأنها لا تجوز رؤيتي أصلاً، والله قال هنا: ((لَنْ تَرَانِي)) ولم يقل: إني لا أرى، أو إنه لا يمكن رؤيتي أبداً، بل قال: ((لَنْ تَرَانِي)) أي: لن تراني في الدنيا، ولكنك ستراني في الآخرة، مما يدل على بطلان ما ذهب إليه هؤلاء المبتدعة في قولهم: إن الله سبحانه وتعالى لا يرى. ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في الصواعق ردوداً كثيرة جداً في هذه الآية تصل إلى خمسة عشر رداً تقريباً، باستنباط وإبطال استدلال المبتدعة من الخوارج والمعتزلة في نفي الرؤية، قالوا: لما سأل موسى عليه الصلاة والسلام رؤية الله تجلى الله للجبل، قالوا: أيهما أفضل: موسى أم الجبل؟ لا شك أن موسى عليه الصلاة والسلام أفضل، فإذا تجلى الله للجبل فمن باب أولى أن يرى موسى ربه، ويتجلى له يوم القيامة فيراه. وبُين أن الناس في الدنيا لن يروا ربهم؛ والسبب أنهم لا يستطيعون، قالوا: فإذا كان الجبل عندما تجلى الرب سبحانه وتعالى له أصبح دكاً، وخر موسى صعقاً من هول ما رأى، لكنهم يوم القيامة يرون ربهم، بل أعظم نعيم أهل الجنة رؤية الرب سبحانه وتعالى، وهذا من فضل الله تعالى على أهل الإيمان أنهم يؤمنون بهذا الفضل، ويسألون ربهم دائماً أن يكونوا ممن يروه، وألا يحجبوا عنه سبحانه وتعالى. ننتقل إلى الآية الأخرى في قوله تعالى: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:23] استدل بها أهل السنة على إثبات رؤية الله تعالى، قالوا: فإنه قد ورد أن أهل الجنة يرون أشياء كثيرة يرون نعيمهم وما أعد الله لهم، ويرون مثلما قال من قال: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] فأراد من إخوانه أن يطلعوا إليه وأصبح يراه {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:56-57] أي: معك في النار، ولكن من فضل الله أن هداني إلى هذا الدين، والإسلام فكنت من أهل الجنة ولم أكن معك. ومما يراه أهل الجنة الرب سبحانه وتعالى، فيصبح أعظم نعيم يراه أهل الجنة هو رؤية الرب سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أنهم ينظرون إلى ربهم سبحانه وتعالى. وذكروا منها قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] والعجب من المبتدعة كيف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 رؤية الله في الموقف مسألة: هل يرى الله في الآخرة كل الناس أم الرؤية خاصة بأهل الإيمان؟ الجواب: اختلف العلماء على أقوال: القول الأول: أنه لا يراه إلا المؤمنون فقط. القول الثاني: أنه يراه جميع أهل الموقف مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عنهم فلا يراه الكافر. القول الثالث: أنه يراه أهل الإيمان ويراه كذلك المنافقون، وهذه الأقوال الثلاثة كلها مروية في مذهب الإمام أحمد، ونقلت عن أصحابه، ولكن بالنسبة لرؤية أهل الإيمان هي الرؤية التي تسمى رؤية النعيم ورؤية اللذة التي لا تكون إلا لأولياء الله تعالى، أما المانعون لها فقد ذكرنا من المبتدعة والجهمية والمعتزلة والخوارج وبعض من الرافضة هم الذين نفوا رؤية الله سبحانه وتعالى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا كذلك بالنسبة لرؤية محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لم يرَ ربه؟ على خلاف بين العلماء، وبالنسبة لرؤيته ببصره إنما اختلفوا في مسألة الإسراء والمعراج، فمن العلماء من يقول: تثبت رؤية محمد صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج، ولكن الصحيح من أقول أهل العلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربه لا في ليلة الإسراء والمعراج ولا في غيرها إطلاقاً، وهذا هو أصح أقوال أهل العلم، وقد استدلوا على ذلك بحديث أبي ذر: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره) وحديث عائشة: (ثلاث من حدثكن بهن فقد كذب، ومنها قالت: من حدثكن أن محمداً رأى ربه فقد كذب) وهذا هو الصحيح أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير ربه. بالنسبة لآحاد الناس فلا شك أنه لا يمكن رؤية أحد من البشر إطلاقاً لربه؛ لما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت) إلا ما ينقل عن الصوفية، ولا شك أن كلام الصوفية لا حجة فيه أصلاً، فإنهم يقولون: إنا نرى الله ونتحدث معه وغيره. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 رؤية الرب في المنام مسألة: هل يمكن رؤية الله مناماً أم لا يمكن رؤيته مناماً؟ الجواب: اختلف العلماء فيها، فليست لآحاد الناس، أما بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أنه رأى ربه صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح مناماً، قال: (رأيت ربي في أحسن صورة) وهذا الحديث صحيح، هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم، أما ما عداه فخلاف بين العلماء فيه. فمن العلماء من قال: إنه يمكن رؤية الله مناماً، وأومأ إليها شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن الناس يرونه على حسب إيمانهم وما في صلاحهم. ومن العلماء من يقول: لا، الأصل أنه يمسك عن هذه المسألة، ولا يتكلم فيها؛ نظراً لأنه لا يمكن التمييز بين من قال: رأى ربه أو لم يرَ ربه أو غيره، لأن الخوض والتوسع قد خاض فيه طوائف من المبتدعة مما أدى إلى الانحراف فيها. ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أثراً أظنه في الفتاوى أن عبد القادر الجيلاني يقول: جاءه ربه قال: أنا ربك يا عبد القادر، وإني أسقطت عليك الصلوات فلا حاجة بأن تصلي، قال: اخسأ فأنت الشيطان، قال من حوله: عجباً! ترى الله وتخاطبه وتقول له هذا الكلام، قال: لأني أعلم أن شريعة الله ثابتة، وشريعة الله غير منسوخة وباقية، فما جاءني إلا الشيطان ليضلني، لكن الصوفية المبتدعة لو جاءهم الشيطان وقال: أنا ربك، وأسقطت عنك صلاة الفجر، أو جئت لك بهذا الذكر، أو جئت لك بكذا، طاروا وراء تلك، وجاءوا بشرع لم يأتِ عليه دليل من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. نقل عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، أنه قال: [إن محمداً صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه] وهذه المسألة رويت عنه ونقل أنه رآه مرتين، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه بالنسبة للرؤية وما نقل عن ابن عباس قال: لم يصح ولم يثبت سند عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: [إن محمداً رأى ربه بعينه] وإنما قال: [رآه مرتين] فمن العلماء من قال: إن المرتين تلك إحداهما منامية والأخرى رآه بفؤاده صلى الله عليه وسلم، وبناءً عليه نقول: لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم بسند صحيح أنهم قالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره صلوات الله وسلامه عليه، وإنما حمل على أنه رآه رؤية منامية فقط. وبهذا نقف على مسألة الرؤية، ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثالث عشر) رؤية الله في الآخرة لأهل الجنة حق كما جاءت بذلك الآثار، وموقف السلف ممن أنكر الرؤية والحكم عليه متواتر في كتب الاعتقاد. وصفة النزول ثابتة لله تعالى كما يليق بجلاله ولا نسأل عن الكيف، ولا نؤول أو نعطل كما ذهب إلى ذلك أهل البدع، وما ورد من شبه في إنكار النزول أو تأويله فهي شبه باطلة ومردودة لإجماع السلف على إثبات ذلك، ومناظرات علماء السلف لمن أنكر صفة النزول مبثوثة ومشهورة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 1 موقف السلف ممن أنكر رؤية الله في الآخرة الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. نختم مبحث الرؤية ببعض الآثار التي نقلت عن بعض سلف الأمة رحمهم الله تعالى في حكم من أنكر رؤية الله تعالى، والناظم يقول: والمؤمنون يرون حقاً ربهم وإلى السماء بغير كيف ينزل أخرج اللالكائي رحمه الله في أصول اعتقاد أهل السنة من طريق مفضل بن غسان، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: "عندي سبعة عشر حديثاً في الرؤية كلها صحاح" مما يدل على أن رؤية الرب سبحانه وتعالى مما تواترت النصوص في إثباتها والدلالة عليها. وقال علي بن المديني رحمه الله تعالى: سألت ابن المبارك عن رؤية الله تعالى؟ فقال: ما حجب الله عنه أحداً إلا عذبه، ثم قرأ قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] فقلت له -أي: مفسراً الآية على أنها لإثبات الرؤية-: إن عندنا أقواماً من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث، وذكروا منها: أن الله ينزل إلى السماء الدنيا، ومنها: أن أهل الجنة يرون ربهم، قال: فحدثني -أي: ابن المبارك - بنحو عشرة أحاديث في هذا، وبين منهج أهل السنة، قال: أما نحن فإننا نأخذ ديننا هذا عن التابعين، والتابعون أخذوا دينهم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم عمن أخذوه؟ فما سندهم فيما أخذوه في نفي الرؤية وفي نفي النزول للرب سبحانه وتعالى؟! وهذا ما يتميز به المنهج السلفي أنه يأخذ عقيدته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذهم لها عن طريق السند، أي: لا يأتون بها من عند أنفسهم، بخلاف المبتدعة فما لهم سند يأخذون عنه إلا أئمة من أهل الضلال والانحراف عن صراط الله المستقيم. وقال عبد العزيز بن الماجشون: ولم يزل -أي: المبتدعة من الجهمية وغيرهم- يملي لهم الشيطان حتى جحدوا قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] فقالوا: لا يراه أحد من خلقه يوم القيامة، ولهذا جحدوا أفضل كرامة يكرم الله بها أولياءه سبحانه وتعالى. ومما نقل عن الإمام أحمد في الذين نفوا الرؤية، قال: من لم يقل بالرؤية فهو جهمي. وقال أيضاً وقد بلغه عن رجل قال: إن الله لا يرى يوم القيامة، فغضب لذلك غضباً شديداً رحمه الله تعالى وقال: إن من قال: إن الله لا يرى يوم القيامة فقد كفر، وعليه لعنة الله وغضبه كائناً من كان من الناس، أليس الله تعالى يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] . قال مالك: من كذب بالرؤية فهو زنديق. وقال أيضاً: إن الرؤية وأحاديثها نعلم أنها حق من عند الله جاءتنا، وكذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه نصوص تثبت قضية الرؤية للرب سبحانه وتعالى. ومن اللطائف: ما ذكر بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى أن النساء لا يرين الله يوم القيامة، واستدلالهم بهذا أن يوم الجمعة هو يوم المزيد، وقد ورد حديث: (أنهم يرون ربهم فيزدادون حسناً، قالوا: فيرجعون إلى أهليهم -أي: إلى أزواجهم- فيقولون: قد بلغ منكم الحسن) وما ذلك إلا لرؤيتهم للرب، ولكن الذي يظهر أن الرؤية عامة للرجال والنساء، وللصغير والكبير، وتكون لأهل الإيمان ولأهل التوحيد بالله سبحانه وتعالى. ثم قال الناظم: والمؤمنون يرون حقاً ربهم وإلى السماء بغير كيف ينزل قول المؤلف: (والمؤمنون) هذا وصف ينطبق على المتبعين لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة. وقوله: (يرون ربهم) هذه نسميها الرؤية الحقيقية الحسية، وهي الرؤية بالأبصار، وليست رؤية القلب، فإن رؤية القلب كل يعرف ربه كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن الكفار بأنهم يعرفون الله تعالى. وليست رؤية بصرية: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، هذه نسميها رؤية قلبية، فهم يعرفون بها ربهم سبحانه وتعالى، لكن الرؤية هنا للمؤمنين هي الرؤية البصرية الحسية، ولذلك نثبتها لله تعالى. قوله: (حقاً) أي: صدقاً وحساً لا خيالاً، فليست رؤية خيالية، وليست رؤية مجازية كما يؤولها المبتدعة، فالمبتدعة يؤولون رؤية الله تعالى، ولذلك قال: (يرون ربهم) أي: خالقهم ورازقهم وموجدهم من العدم. ومن اللطائف هنا: أن الأشاعرة ينفون علو الله سبحانه وتعالى، ويقولون: إن الله ليس في العلو، وقولهم هذا ليس صحيحاً بل باطل، ولكنهم يثبتون الرؤية لله تعالى، ولهذا نجد الجهمية نفوا الرؤية ونفوا العلو جميعاً، ويقال: هناك ثمة صفات مرتبطة بعضها ببعض، الاستواء على العرش، والعلو، والنزول، والرؤية، فمن أثبت واحدة منها لزمه أن يثبت الجميع، لأنه يترتب بعضها على بعض، ولهذا قال أئمة أهل السنة: إن الأشاعرة مضطربون، فقد قالوا: الله ليس في العلو، ولكنهم يقولون: الله يمكن أن يرى، أو الله يرى، فلما جاءهم هذا الاضطراب قيل لهم: كيف يرونه؟ بالنسبة لأهل الإيمان فقد ثبت في صحيح مسلم كما في حديث صهيب في صحيح مسلم: (إذ سطع عليهم نور من وفقهم فإذا الجبار سبحانه وتعالى) أما هؤلاء فماذا سيعملون؟ قالوا: إن الله يرى في غير جهة، لا ندري من أي جهة يرى! المهم أننا نثبت الرؤية لكن من غير جهة، وبهذا أصبحوا مضطربين في قولهم، ليسوا على منهج صحيح، أما أهل السنة فإنهم قالوا: إنه يُرى من جهة العلو، ولذلك رفعوا أبصارهم فإذا الجبار سبحانه وتعالى، وأصبحوا يرونه رؤية حقيقية ليس كما يقوله المبتدعة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 2 مسائل متعلقة بصفة النزول وقوله: (وإلى السماء) السماء في اللغة: هي العلو والارتفاع، وإذا ارتفع الشيء وعلا سمي: سماء هذا الشيء، وقيل: إن سقف كل شيء يسمى سماء، ويقال لسقف البيت: سماء، ونجد السماوات السبع هي الأطباق المحيطة بالأرض، ولذلك السماء الدنيا الثانية الثالثة الرابعة إلى أن نقول: السماء السابعة، وهي نثبتها لله تعالى، ولها أجرام حقيقية، والدليل على ذلك: ثبت في حديث الإسراء والمعراج: (أن جبريل عليه الصلاة والسلام يقرع باب السماء فيقال له: من؟ فيقول: جبريل، يقولون: ومن معك؟ يقول: معي محمد، قالوا: أو قد أرسل إليه) ثم يفتحون له، فجبريل يقرع ويستأذن، مما يدل على أن لها أجراماً محسوسة، وقد وردت أحاديث أن كثف كل السماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء والسماء مسيرة خمسمائة عام، مما يدل على أن هذه المخلوقات عظيمة جداً، وقد نثبتها إثباتاً لا تدركه عقولنا نحن، لكننا نؤمن بها على ضوء النصوص الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. بالنسبة لصفة النزول، وقبل أن أنتقل إلى صفة النزول أومأ المؤلف رحمه الله تعالى الله في رسالته هذه إلى ثلاث صفات: الصفة الأولى: الكلام. الصفة الثانية: صفة الرؤية. الصفة الثالثة: صفة النزول. والمؤلف رحمه الله لم يقصد الحصر هنا، ولهذا قال: وجميع آيات الصفات أمرها أي: أنه جاء بمنهج. ولماذا ركز المؤلف على هذه الصفات الثلاث؟ بالنسبة لصفة الكلام فهي من الصفات العظيمة التي اضطربت فيها عقول الناس، ووصلت أقوالهم إلى أكثر من تسعة أقوال في كلام الله تعالى، وأومأ إليها لوجود الخلاف القوي فيها. وصفة الرؤية لأنها من الصفات التي تواترت وثبتت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أنكرتها الخوارج والمعتزلة وبعض الرافضة، وبعض الزيدية، فـ الزيدية معتزلة، وكذلك الخوارج في الصفات هم معتزلة، والمعتزلة لهم أصل في هذا فأنكروها. وجاءت صفة النزول، وتعتبر صفة النزول من الصفات السمعية التي قد دل عليها الكتاب والسنة، ويقصد بالصفات السمعية أو الصفات الخبرية التي لو لم ترد في نص لم نستطع إثباتها، قالوا: ومثلها صفة الاستواء على العرش، فإنه قد ورد النص عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إثبات هذه الصفة وفي القرآن في سبعة مواضع، ولذلك نثبت لله تعالى صفة الاستواء على العرش. وقوله: (بغير كيف ينزل) بين لنا المؤلف رحمه الله أن الله ينزل، وتعتبر صفة النزول من الصفات الفعلية وليست من الصفات الذاتية، والحكم بأنها صفة فعلية لأنها متعلقة بالإرادة والمشيئة، فإن الله ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر، فدل على أنه ينزل كل ليلة متى شاء سبحانه وتعالى، ففي ثلث الليل الآخر ينزل ربنا سبحانه وتعالى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 اختلاف الناس في صفة نزول الرب نقول: إن الله ينزل نزولاً حقيقياً، وذهب بعض أهل العلم ونقل عن بعض السلف: إنه ينزل بذاته، وروي فيه حديث، لكن الحديث فيه ضعف، ولكن نقول: ينزل ربنا نزولاً حقيقياً كما يليق بجلاله وعظمته، وإذا قلنا: كما يليق بجلاله وعظمته، لم نجعل للعقل أن يشبه قضية النزول أو يكيفها، ونقطع أطماع العقل فيها، بل نقول: ينزل نزولاً حقيقياً كما يليق بجلاله وعظمته نثبته لله تعالى، ولا نتأول هذا النزول بشي أبداً. اختلف العلماء في مسألة النزول، فـ أهل السنة والجماعة يثبتون للرب سبحانه وتعالى نزولاً حقيقياً، وقالوا: ينزل بذاته، ومنهم من قال: ينزل نزولاً حقيقياً. من الطوائف من قالت: النزول هنا هو نزول المَلك، أي: أن النازل هو المَلك وليس الرب سبحانه وتعالى، ومن الطوائف من قالت: النزول هنا أي: ينزل أمر ربنا، وليس نزول الرب سبحانه وتعالى، وهذا يعتبر تأويل وتحريف للنص، ومن الطوائف من قالت: تنزل رحمة الله تعالى، فأصبحت طوائف المؤولة أثبتت ثلاثة تأويلات: التأويل الأول: هو نزول الملك. التأويل الثاني: نزول الأمر. الثالث: نزول الرحمة. ولكن هذه التأويلات باطلة لا شك في بطلانها. أما القول بأنه ينزل الملك فلا شك أنه ليس صحيحاً، والدليل عليه أن الملائكة تنزل في كل ساعة من ليل أو نهار، ثم لماذا التخصيص لها بأن تنزل في ثلث الليل الآخر دون غيره؟ ثم يبطل هذه المقالة أنه في نفس لفظ الحديث: (فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟) فهل الملك هو الذي يقول: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ هل من داع؟ حاشا وكلا أن يكون هذا هو قول الملك، وإنما هو قول ملك الملوك وهو الرب سبحانه وتعالى. وأما الذين قالوا: إنه ينزل أمره، فنقول: هذا الكلام باطل لا شك في بطلانه، فنزول أمر الله تعالى ينزل في كل لحظة {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ولا يخصص أمر الله تعالى بهذا الجزء من الليل دون غيره، مما يدل على بطلان أصحاب هذا القول. ثم القول: بأنه نزول رحمته، هذا أيضاً باطل، والدليل على بطلانه: أن رحمة الله تعالى قريبة من المحسنين، ولذلك يقول تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:50] وكيف تخصص بالثلث الأخير دون غيره، مما يدل على أن قول هؤلاء أن الرحمة لا تنزل على عباده إلا في ثلث الليل الآخر، وما عداه فلا رحمة للعباد، وهذا تأويل باطل لم يدل عليه كتاب ولا سنة. ثم نقول: إن النصوص التي وردت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والقاعدة عندنا: أن نحملها على ظاهرها، ولا نجري فيها المجاز أبداً، وقد وردت أحاديث وآثار تبين نزول الرب سبحانه وتعالى وكلها تدل على الحقيقة، ولا يمكن أبداً لنص واحد أن نقول: يمكن أن نحمل هذا النص على النص الآخر، مما يدل على غلط هؤلاء وانحرافهم عما دل عليه الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. نحن نعلم أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني؟ من يسألني؟ من يستغفرني؟) والحديث متفق عليه. وهذا الحديث من الأحاديث العظيمة التي تلقتها الأمة بالقبول، وشأنه عظيم، وقد أفرد العلماء رحمهم الله تعالى كتباً مستقلة في النزول، وممن أفرد في ذلك الإمام الدارقطني رحمه الله تعالى، وأبو بكر الصابوني، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب عظيم نفيس اسمه: شرح حديث النزول، بين فيه أدلة هؤلاء وأدلة أهل السنة، وشبه المبتدعة والرد عليهم، ثم أورد ما خطر في أذهانهم، ثم أبطل تلك الموارد التي وردت، وسيأتي إن شاء الله إيماء إليها، والإمام الذهبي رحمه الله تعالى أفرد كتاباً في النزول. يقول عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله في رده على بشر العنيد: إن هذا الحديث أغيض حديث على الجهمية، أي: ما أضره على قلوبهم، والجهمي إذا سمع الحديث وجد الغيض في قلبه، وإذا أردت أن تغيض جهمياً فأورد له حديث: (ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الآخر) فتضيق عليه الأرض بما رحبت، ولا شك أن هؤلاء الذين لا يقبلون ما دلت عليه النصوص ولا يرتضون بها من المبتدعة. بينا أن صفة النزول نثبتها كما يليق بجلال الله وعظمته، وأثبتنا أنها صفة فعل لله تعالى، وأنها متعلقة بالإرادة والمشيئة، وقلنا: أحاديث النزول من الأحاديث المتواترة، وقد رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون صحابياً رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن هؤلاء الصحابة: أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وجبير بن مطعم، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وعبد الحميد بن سلمة عن أبيه عن جده، وأبو الدرداء وغيرهم، وأورد أسماء هؤلاء الصحابة الإمام ابن القيم في صواعقه المرسلة، وأورد كل حديث ولفظه ومن خرجه من باب تبيين أن أحاديث النزول من الأحاديث المتواترة الثابتة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. يقول أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى بعد أن أورد هذا الحديث: هذا حديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، وهو حديث منقول من طرق شتى، هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على أن الله سبحانه وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته، وهو يبطل مقالة الجهمية أن الله في كل مكان، ولا شك أن هذا القول باطل منحرف عما كان عليه سلف الأمة. ومن المسائل التي اختلف العلماء فيها أن أهل السنة قالوا: إنه ينزل نزولاً يليق بجلاله وعظمته، وهل نقول: ينزل بذاته، أم نقول: ينزل نزولاً حقيقياً؟ قولان لـ أهل السنة: القول الأول: ينزل بذاته، وذكروا أن فيه حديثاً لكنه لا يصح رفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم. القول الثاني: ينزل نزولاً حقيقياً يليق بجلاله وعظمته. وبعضهم يقول: نمسك فلا نقول: ينزل بذاته، ولا لا ينزل بذاته، بل نقول: ينزل نزولاً يليق بجلاله وعظمته. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 4 مسألة خلو العرش أثناء نزول الرب مسألة: هل إذا نزل الرب سبحانه وتعالى يخلو منه العرش أم لا يخلو منه العرش؟ في هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل العلم: القول الأول: من العلماء من يقول: إنه إذا نزل يخلو منه العرش، وذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وبين أن هذا قول بعض أئمة أهل الحديث، وقول لبعض أهل السنة، ولكنه قول ضعيف. القول الثاني: أنهم يتوقفون في هذه المسألة، ويقولون: لا نقول: يخلو منه العرش ولا نقول: لا يخلو منه العرش؛ نظراً لأنه لم يثبت فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن التوسع في هذا المجال هو خوض في أمرٍ لا نص فيه. القول الثالث: وهو قول أكثر أهل الحديث، وقال شيخ الإسلام: وهو الصواب، وهو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها، أنه سبحانه وتعالى لا يزال فوق العرش، ولا يخلو منه العرش سبحانه وتعالى، مع دنوه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه، وكذلك يوم القيامة، إذ ينزل للفصل بين الخلائق لا يكون العرش فوقه، ولهذا ذكر أن هذا هو القول الصحيح في هذه المسألة، وهو الراجح. وسنذكر شيئاً من المناظرات التي وقعت بين أهل السنة وغيرهم من الطوائف المنحرفة في مسألة نزول الرب سبحانه وتعالى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 شبه حول مسألة نزول الرب والرد عليها من الشبه التي وردت وهي شبه نفاة العلو، ما الذي جعل بعض الطوائف تنفي النزول وتقول: لا نقبل أن الرب سبحانه وتعالى ينزل، ورد عندهم بعض الشبه، قالوا: إذا أثبتنا نزوله أين يكون في صفة العلو إذاً؟ الشبهة الثانية: قالوا: إذا نزل أين الآيات التي وردت في الاستواء على العرش؟ كيف ينزل ثم بعد ذلك فأين الاستواء على العرش؟ الشبهة الثالثة: قالوا: إننا إذا أثبتنا نزول الرب سبحانه وتعالى يلزم منه الحركة والانتقال، قالوا: والحركة والانتقال هي من طبيعة الأجسام والله ليس بجسم، إذاً: الله لا يتحرك ولا ينتقل. والشبة الرابعة: قالوا: إننا إذا أثبتنا النزول يلزم منها حلول الحوادث بالله سبحانه وتعالى، بمعنى: أنه يحدث له شيء لم يكن حادثاً له من قبل، وبناءً عليه قالوا: ننفي صفة النزول عن الله تعالى كما ينفون صفة الاستواء على العرش، بل إن هذا القول وهذه الشبه كلها تلزم على صفات الأفعال كلها، فإن نفاة صفات الأفعال المتعلقة بالإرادة والمشيئة شبهتهم أنه يلزم منها حلول الحوادث بالرب سبحانه وتعالى، وقالوا: إن صفة الفعل تؤدي إلى أن يكون الله جسماً، والله ليس بجسم، إذاً: ننفي عنه صفات الأفعال كلها. ولكن هذه الشبة باطلة لا شك فيها. ولعل مما يتميز به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يجادلون في آيات الله تعالى، ولا يمرونها على العقل أبداً، ولهذا قال المؤلف في النزول: (بلا كيف) بمعنى: أنه لا يكيف الرب سبحانه وتعالى، وقاعدة الصحابة رضي الله عنهم في أي صفة وردت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هي التسليم لله ولرسوله، ولا يجرون فيها الاحتمالات، والذين جاءوا بالاحتمالات الأربعة أمروها على العقل ثم أوردوا الاحتمالات، أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يأتون بمجرد احتمال عقلي، كيف ينزل وعنده صفة العلو؟ كيف ينزل وهو مستوٍ على عرشه؟ كيف كذا؟ لا يوردون هذه أبداً، بل عندهم يقولون: سمعنا وأطعنا وآمنا وصدقنا وقبلنا، وسلمنا لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا وجب علينا أن نؤمن بصفة النزول؛ نظراً للنصوص الواردة الصحيحة الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. عندنا شبهة ترد في الذهن، وهي أننا نعلم أن الأرض كروية، وقد أثبت هذه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ومسألة كروية الأرض إذا نظرنا الآن الشمس تشرق عندنا، ولو اتصلت على رجل مثلاً في أمريكا ستجد الوقت عنده الآن ليلاً، قالوا: فإذا أصبحت الآن الكرة الأرضية تمشي، فإذا قلنا: ينزل في ثلث الليل الآخر، ثلث الليل عندنا في المملكة معروف، إذا جاء ثلث الليل الآخر في أمريكا أو أوروبا تجد أن جل الوقت يصبح ثلث الليل الآخر، إذاً: يلزم منه مباشرة أن يصبح الرب دائماً نازلاً، هذه شبهة ترد في الذهن، ولكن هذه الشبهة في أصلها باطلة، ما هو سبب بطلانها؟ الجواب: إذا بطلت الشبهة لم نحتج إلى كثير من الرد، والسبب: ما وجد عند الإنسان إشكال في هذا الأمر إلا لأنه شبه الخالق بالمخلوق، ثم نقل هذا التشبيه إلى الخالق، أي: عرف ما للمخلوق ثم نقله إلى الخالق وعند ذلك استبعد هذا الأمر، وإذا قلنا: الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأنه ينزل، ولهذا سيأتينا بعض القصص عن بعض السلف يقولون في مسألة النزول وغيره أول ما يقولون: أثبت أولاً أنه ينزل، مثلاً في المملكة ثلث الليل الآخر أثبت أنه ينزل، وإذا كان ثلث الليل الآخر في أمريكا أثبت أنه ينزل، فإذا أثبت ذلك قلنا: إذاً: ليس هناك إشكال، لا حاجة لأن تقول: كيف ينزل هنا وكيف ينزل هناك؟ أنت أثبت ما دل عليه النص، وإذا دل النص على شيء وجب علينا إثباته والتسليم له، وعدم طروق الذهن له بشيء من التأويل أو التحريف أو التغيير لما دل عليه إطلاقاً، ولذلك وجب علينا الإيمان بكل نص وارد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولذلك قال أهل السنة لمن أورد هذه الشبهة: أنت آمن أولاً بأن الله ينزل في هذا الوقت المعين، وإذا آمنت ليس عليك شيء من وراء ذلك، أي: لست مطالباً كيف ينزل في كذا أو كيف ينزل في كذا؟ أنت مطالب أن تؤمن بأنه ينزل في ثلث الليل الآخر في أمريكا وينزل في ثلث الليل الآخر في المملكة وفي غيرها من البقاع التي سبحانه وتعالى يقول فيها: (هل من داع؟ هل من سائل؟ هل من مستغفر؟) ووجب علينا إثبات هذه لله كما يليق بجلاله وعظمته. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 تعدد روايات صفة النزول ورد النزول بصفات متعددة: منها ما هو صريح: (ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الآخر) ومنها: ورد في مسألة الدنو، وورد في مسالة: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] وكذلك جاء في صفة الإتيان: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158] {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] هذا يثبت لنا النزول، وقد ورد في بعض الآثار قضية الهبوط. ونحن نقول: إن النزول والمجيء والإتيان والصعود والاستواء إلى غيرها من الألفاظ الواردة كلها واجب علينا أن نقول: إنها أفعال للرب سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله وعظمته. ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تنبيهاً لطيفاً هنا: يجب علينا أن نؤمن أن الرب سبحانه وتعالى فعال لما يريد، فإذا كان فعالاً لما يريد فهو الذي إذا أراد أن ينزل نزل، وإذا أراد أن يأتي أتى، وإذا أراد أن يستوي استوى إلى غيره، كل هذه أفعاله، فهو الفعال لما يريد، وأفعاله سبحانه وتعالى قائمة به، ولولا ذلك -إثبات هذه الأفعال- لم يكن موصوفاً بصفات الكمال، وصفات الكمال عند الإنسان -ولله المثل الأعلى- إنما كانت بفعله الاختياري في الفعل والقيام والحركة وغيرها، والرب سبحانه وتعالى موصوف بالكمال، فله سبحانه وتعالى الفعل الاختياري، ولذلك قال العلماء: وإذا حملت أفعاله الاختيارية على المجاز ولم يكن فاعلاً حقيقة لم يكن إلا بمنزلة الجماد، والله سبحانه وتعالى منزه عن أن يكون كالجماد، بل هذا تعطيل للرب سبحانه وتعالى ووصف له بالنقائص، وإن من أنكر قيام الأفعال بالرب سبحانه وتعالى كـ الجهمية فإنهم معطلة، ولذلك قال الإمام ابن القيم وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم: إن المعطلة يعبدون عدماً لا يعبدون إلهاً، والمشبهة يعبدون وثناً، وكلا الطائفتين على ضلال. ولذلك عندما نفوا هذه الصفات عن الله -الأفعال الاختيارية- مخافة التشبيه، نقول لهم: إذا نفيتم الأفعال الاختيارية عن الله مخافة التشبيه فوجب عليكم كذلك أن تنفوا السمع والبصر والحياة والقدرة، فإنها للمخلوق كما أنها لغيره. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 مواضع نزول الرب سبحانه وتعالى بالنسبة لنزول الرب سبحانه وتعالى ورد أنه ينزل بمواضع متعددة، منها: نزوله في ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا، وهذا قد ثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك ينزل ربنا سبحانه وتعالى في يوم القيامة ليقضي بين العباد، وكل أمة جاثية، فأول من يدعى رجل جمع القرآن، وهذا الحديث أصله في صحيح مسلم، وكذلك في صحيح البخاري من حديث أنس، وفيه: (ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) . ومنها: نزوله إلى الجنة يوم المزيد. وكذلك ذكروا نزوله يوم عرفة أنه تعالى يدنو من العباد فيباهي بهم ملائكته سبحانه وتعالى. فأصبحت النصوص الدالة على النزول متعددة، وإن الواجب علينا تجاه هذه النصوص أن نثبتها لله سبحانه وتعالى، وأن نحملها على الحقيقة، ولا نتطرق إلى قضية المجاز فيها، قال أبو العباس بن سريج: وقد صح عند أهل الديانة والسنة إلى زماننا أن جميع هذه الآثار والأخبار صادقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات يجب على المسلم أن يؤمن بها، وأن السؤال عن كيفيتها بدعة، والجواب كفر وزندقة، كما في قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] ونظائر هذه من النصوص الواردة في القرآن في الفوقية والنفس واليدين والسمع والبصر إلى غير ذلك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 مناظرات في مسألة النزول قال إسحاق بن منصور: قلت للإمام أحمد رحمه الله تعالى: (ينزل ربنا كل ليلة) الحديث، فقال له الإمام أحمد وكان معه إسحاق بن راهوية: الحديث صحيح، وزاد إسحاق رحمه الله تعالى: لا يدع هذا الحديث إلا مبتدع، أي: لا ينكره ولا ينفيه إلا رجل مبتدع ليس منقاداً لكتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقيل للإمام أحمد رحمه الله تعالى: ينزل ربنا إلى السماء الدنيا، قال: نعم، قلت: ينزل بعلمه، فسكت الإمام أحمد عن هذا الكلام وغضب غضباً شديداً وقال: ما لك ولهذا؟ ثم قال له: أمض الحديث، أي: أثبت الحديث كما ورد بلا كيف ولا تحديد إلا بما جاءت به الآثار وبما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ عليه قول الله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل:74] وأنه ينزل كيف شاء سبحانه وتعالى نزولاً يليق بجلاله وعظمته. قال بشر بن السري لـ حماد بن زيد: ينزل ربنا إلى السماء الدنيا، يتحول من مكان إلى مكان؟ أي: كأن هذه وردت شبهة في ذهنه، فقال: ينزل يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد منكراً عليه غاضباً، ثم قال حماد: هو في مكانه يقرب من خلقه سبحانه وتعالى كيف يشاء. قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: أجمع الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك التابعون الذين حُمل عنهم التأويل أي: تفسير القرآن بالسنة في قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7] قال: هو على عرشه، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله إطلاقاً وإنما خالفهم المبتدعة، ثم قال تقعيداً لمنهج أهل السنة والجماعة: وأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في كتاب الله وسنة رسوله والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز؛ لأنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك. وهنا من اللطائف التي وقعت لأحد التابعين رضي الله عنه، روى أبو عبد الله الحاكم مما قال: سمعت أحمد بن سعيد الرباطي يقول: حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ذات يوم وحضر إسحاق بن راهوية، فسئل عن حديث النزول: أصحيح هو؟ قال إسحاق: نعم صحيح، قال بعض القواد ولعله من الجهمية والمعتزلة للأمير كأنه يستعديه عليه ويريد أن يفتك بـ إسحاق بن راهوية: يا أبا يعقوب! أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: نعم، قال: كيف ينزل؟ فقال له إسحاق: أثبته فوق حتى أصف لك النزول؛ لأن المعتزلة لا يثبتون فوقية الله تعالى، قال: أقول: إنه فوق، فقال: ما دمت أثبت فوق فإن الله يقول: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] أورد عليه صفة المجيء، فقال الأمير عبد الله بن طاهر: إن هذا يوم القيامة -أي: مجيء الله يوم القيامة- قال: إن من يجيء يوم القيامة من يمنعه أن يجيء في الحياة الدنيا؟ فسكت عبد الله بن طاهر، وهذا المعتزلي لم يستطع أن يتكلم بكلمة، فبهت، وعند ذلك لم يستطع أن يرد بعد أن بين له أن الله سبحانه وتعالى ينزل نزولاً يليق بجلاله وعظمته، ولذلك وجب على أهل السنة أن يثبتوا لله تعالى صفة النزول. ومن المناظرات التي وردت، قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الصواعق المرسلة: قيل لبعض أصحابنا، أي: ممن يثبتون صفة النزول لله: أتقول: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا؟ فقال هذا السلفي: ومن أنا حتى أقول ذلك، لست أنا الذي قلت ذلك، فقد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغه أمته، ولست أنا الذي قلته، فقال له الجهمي: هذا القول يلزم منه الحركة والانتقال -شبهة المعتزلة التي ذكرناها سابقاً- فقال له السني: أنا لم أقل ذلك وإنما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشبهة التي عندك قلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقلها لي أنا، فاعتراضك الذي قلته قله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تقله لي، أما أنا فإني أصدق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فبهت الجهمي، وما استطاع أن يرد عليه إطلاقاً، ولهذا قال العلماء رحمهم الله تعالى: إن الأفعال الاختيارية للرب سبحانه وتعالى هي من لوازم الحياة، فالإرادة والمشيئة من لوازم الفعل، وللفعل لوازم لا يجوز نفيها إطلاقاً بل الواجب إثباتها لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلال الله وعظمته. ولهذا إذا سألك رجل فقال لك: كيف ينزل ربنا؟ فتقول له: الله ينزل نزولاً يليق بجلاله وعظمته، لا نكيفه، ولا نشبهه بأحد كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، وما نرى السائل إلا رجلاً مبتدعاً جاء بقول باطل مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. نذكر هنا بعض القصص التي وقعت، ولعل أكثرها وقعت مع عبد الله بن طاهر رحمه الله، من هذه ما نقله ابن بطة، قال إسحاق بن راهوية: دخلت على عبد الله بن طاهر، فقال: ما هذه الأحاديث التي تروونها؟ أي: أنتم تروون أحاديث المجيء والرؤية وأحاديث النزول، وأحاديث الاستواء على العرش وغيرها، فقلت: أي شيء أصلح الله الأمير؟ قال: إنكم تروون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا، فقال إسحاق بن راهوية: فقلت: نعم. رواها الثقات الذين يروون لنا الأحكام، فالأحاديث التي وردت في الأحكام أتعملون بها في الصلاة وفي الزكاة؟ قال: نعم، قال: فالذين رووا هذه الأحاديث هم الذين رووا لنا أحاديث النزول، فنحن نثبتها لله سبحانه تعالى، فنقول: الله ينزل ونثبته لله تعالى على ما يليق به، فقيل له: أينزل ويدع العرش؟ فقال: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو منه العرش، فقال له: أتثبت ذلك؟ أي: أن الله يقدر أن ينزل دون أن يخلو منه العرش؟ قال: نعم، قال: إذاً ولماذا تتكلم في هذا الأمر، إذاً: أثبته، أي: كأنه يقول: أثبت الاستواء على العرش، وأثبت النزول، فلا تضرب النصين بعضهما ببعض، فلا تقل: إذا أثبتنا النزول أدى إلى خلو العرش، بل كما ورد الاستواء على العرش وورد النزول فأثبت الاثنين جميعاً، وهذا هو الواجب علينا أن نثبتهما. روى الأثرم في السنة عن الفضيل بن عياض، أنه كان يقول: إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب ينزل عن مكانه، أو يتحول عن مكانه، أو يزول عن مكانه! فقل له: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، وكأنهم يفاصلونا بقضية الرؤية، ونفهم من هذا أن هؤلاء الجهمية يكفرون من يثبتون النزول للرب، ويثبت الاستواء، بل يثبت الأفعال التي تتعلق بالإرادة والمشيئة، ولهذا قال: أنا أكفر برب -نعوذ بالله- إذا كان لا يقبل هذا الرب الذي ينزل ويستوي على عرشه وغيره! نعوذ بالله من حال هؤلاء الجهمية، وهذا يدل على تكبرهم وعدم قبولهم، هذا القول نقل عن الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى، ونقل عن يحيى بن معين رحمه الله تعالى كما رواه اللالكائي، يقول يحيى بن معين رحمه الله ورضي عنه: إذا سمعت الجهمي يقول: أنا أكفر برب ينزل، فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، ولا ننفي هذه إطلاقاً أبداً. ومما ورد ما ذكره الإمام أحمد في كتاب السنة بسنده قال: قدم علينا شريك، فسألته عن الحديث: (إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان) فقلنا له: إن قوماً ينكرون هذه الأحاديث عن الرب، قال: فما يقولون؟ قال: يطعنون فيها، قال: إن الذين جاءونا بهذه الأحاديث هم الذين جاءونا بالقرآن وجاءونا بالسنة، وجاءونا بالصلاة، وجاءونا بالحج، وجاءونا بالصيام وغيره، فما يعرف الله إلا بهذه الأحاديث. ومما ذكر كذلك قصة وهي بسند طويل، ولعلها كلها تدور على إسحاق بن راهوية رحمه الله، يقول: اجتمعت الجهمية إلى عبد الله بن طاهر في مجلس، فقالوا: أيها الأمير! إنك تقدم إسحاق بن راهوية وتكرمه وتعظمه وهو كافر، يزعم أن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، ويخلو منه العرش، فغضب عبد الله بن طاهر على إسحاق بن راهوية أشد الغضب يقول: وبعث إليَّ، ثم دخلت عليه في مجلسه وسلمت قال: فلم يرد علي عبد الله بن طاهر متأثراً بقول الجهمية، وكان من عادته إذا دخلت عليه أن يرد علي السلام، وأن يجلسني. يقول: فما قال لي شيئاً أبداً، ثم رفع إلي رأسه مغضباً، وقال لي: ويلك يا إسحاق! ما يقول هؤلاء عنك؟ قلت: لا أدري ماذا قالوا عني، قال: تزعم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، وأنه يخلو من عرشه، قلت: أيها الأمير! لست أنا الذي قلته، قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وروى بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من داع؟) الحديث، ثم قال عنهم: مرهم أيها الأمير أن يناظروني، فأنا على استعداد لهم. فلما سمع الأمير الحديث وسمع بأني أريد أن أنازلهم هدأ ما في نفسه، ثم قال لي: اجلس، فجلست، ثم قلت له: أيها الأمير! مرهم أن يناظروني فأنا على استعداد لمناظرتهم، فإما أن يبدءوا وإما أن أبدأ، فقال لهم: ناظروه، فقال لهم إسحاق الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الرابع عشر) علو الله على خلقه حق دل عليه الكتاب والسنة، والعقل والفطرة السليمة التي لم تختلط بلوثات أهل البدع والكلام؛ ممن جعلوا العقول حاكمة على الكتاب والسنة، ومن ثم حرفوا النصوص على ما تشتهيه أهواؤهم وعقولهم. وإن مما يصلح حياة الإنسان هو تذكر أهوال اليوم الآخر ابتداءً من الموت، ثم القبر، ثم النفخ والبعث وحشر العباد إلى ربهم، ووقوفهم للحساب، ثم إتيان الناس الحوض؛ فمنهم من يسقى ومنهم من يذاد، ثم يأتي وزن الأعمال، ثم المرور على الصراط، فناج مسلم ومخدوش مكردس. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1 أدلة إثبات صفة العلو والرد على المخالفين الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قبل أن نختم مبحث الصفات أرى من المناسب أن نتكلم عن صفة العلو للرب سبحانه وتعالى، وقد ذكرنا في الدرس الماضي أن ثمة صفات يرتبط بعضها ببعض، كصفة الاستواء والنزول والعلو وصفة الرؤية، وأن من أثبت واحدة لزمه أن يثبت الجميع، ومن نفى واحدة لزمه أن ينفي الجميع لارتباطها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 2 الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال بعض السلف فاستواء الله على عرشه قد تكلم عليه العلماء، وبينوا أن الله مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته، ولكن المبتدعة شرقت نفوسهم بأن يثبتوه للرب سبحانه وتعالى، ولهذا فإنهم يقولون: كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان عليه، أي: لا يثبتون عرشاً، ولا يثبتون استواءً، ولا يثبتون علواً للرب سبحانه وتعالى، ومن باب أولى ألا يثبتوا صفة النزول. وصفة الاستواء على العرش قد دل عليها الكتاب والسنة، فقد وردت في القرآن في سبعة مواضع، وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وردت مستفيضة، بل هي متواترة في إثبات الاستواء على العرش. ومن اللطائف: أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه أتى جارية له، فنظرت إليه زوجته فغضبت أشد الغضب، فقالت لـ عبد الله بن رواحة: أتأتيها وعلى فراشي، فقال تورية: لم آتها، قالت: إذاً اقرأ قرآناً، لأنها تعلم أن الجنب لا يقرأ قرآناً. فألقى عليها أربعة أبيات من الشعر، من ضمنها: وفوق العرش رب العالمينا فقالت: كذبت عيناي وصدق الله، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر فتبسم صلى الله عليه وسلم. بل إن الاستواء على العرش كما يقول بعض العلماء: إنه قد ثبت في شعر جاهلي، وهو مرتبط بإثبات العلو للرب سبحانه وتعالى، والأشاعرة قد استدلوا ببيت مصنوع وموضوع ولا حجة فيه، وهو قول الشاعر: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق وهذا البيت احتجوا به على أن هذا وارد في اللغة، لكن هذا البيت من الشعر لا يحتج به؛ لأن الذين يستنبطون من اللغة العربية جعلوا زماناً يحتج به، وما بعده لا يحتج بالأشعار التي وردت فيه، ومن هنا أخذوا: قد استوى بشر، أي: استولى بشر، ويفسرون الاستواء بالاستيلاء، وهذا الكلام باطل، ويلزم عليه محاذير كثيرة: فمن علامة بطلانه: أننا نجد النصوص في سبعة مواضع في القرآن كلها تبين استوى الله على العرش: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ولم يرد نص واحد يدل على أنه بمعنى الاستيلاء، ثم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كلها ترد وتبين لنا أنه مستوٍ على عرشه. ثم يلزم على ذلك محذوراً باطلاً: فإن قضية الاستيلاء يلزم منها أن هناك مغالبة بين الرب وبين العرش، ثم إن الرب غلبه، وهل يوجد شيء من الكون بينه وبين الرب نزاع؟ لا، والله قد قال في كتابه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] ولا نجد علواً للكون بعضه على بعض أبداً لا العرش ولا غيره، مما يدل على بطلان ما ذهب إليه الأشاعرة ومن نحا منحاهم في نفي صفة الاستواء على العرش. أما قضية العلو فهي من الصفات العظيمة للرب سبحانه وتعالى، بل هي من تمجيد الله وتعظيمه وإعطائه منزلته أن نثبت بأنه سبحانه وتعالى فوق سماواته مستوٍ على عرشه، عالٍ على خلقه سبحانه وتعالى، والأدلة على إثبات العلو في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي أشعار الصحابة رضي الله عنهم، وفي العقل، والفطرة أكثر من أن تحصى، ولقد أبدع الإمام ابن القيم رحمه الله في الصواعق إذ أنه جمع ووجد أن الأدلة كما قال: تزيد في النصوص الشرعية على ألف دليل في إثبات العلو، ومن الصعب عرضها، وتحتاج إلى مؤلفات في عرضها وذِكْر وجه الدلالة، لكنه رحمه الله جمعها بمجاميع قال: كل نص يرد فيه التصريح بالعلو فإنه يدل على علو الله تعالى، وكل نص يدل على التصريح كذلك بالعروج إليه فإنه يدل على علوه، وكذلك التصريح بأن الله رفع بعض خلقه إليه يدل على علوه، والتصريح كذلك بالنزول يدل على علوه سبحانه وتعالى، والتصريح بالاستواء يدل على علوه، كذلك في قضية الإسراء والمعراج أخبر سبحانه وتعالى أنه أسرى بعبده، وعرج بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى العلو، وكلم ربه سبحانه وتعالى لما صعد، وكذلك أدلة الرؤية وغيرها، لسنا بصدد الحصر ولكن نمرها على عجل، هذه من أدلة الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وسأل النبي صلى الله عليه وسلم جارية أراد أن تُعتق، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ فأشارت في السماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة) ولم يقل لها: قبحك الله كيف ترفعين بإصبعك إلى الرب، فأنتِ تجسمين وتشبهين، ولهذا إذا رفعت إصبعك فقلت: الله في العلو ضاقت على المبتدعة الأرض بما رحبت، ويقولون: إنكم تجعلون السماوات تحيط بالرب سبحانه وتعالى، وهذا من ضيق أفقهم وجهلهم بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول: إن الله سبحانه وتعالى في العلو بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة. ولقد كانت إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهي زينب كما روى البخاري تفتخر على نساء الرسول صلى الله عليه وسلم كلهن، وكانت تقول: (زوجكن أهليكن، وأنا زوجني الله من فوق سبع سماوات) وهنيئاً لها إذ تفتخر بهذا الفخر العظيم: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] فكانت كأنها تفتخر بأنها أنزلت في قضية زواجها نص من الله تعالى، ويبقى إلى قيام الساعة فخراً لها. ولقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على سعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات) ثناءً عليه بأنه أثبت الحكم الذي حكم الله فيه، وأثبت الرسول صلى الله عليه وسلم أن ربه فوق سبع سماوات. وروي أن عمر رضي الله عنه وأرضاه كما في سنن الدارمي وغيره، والحديث يظهر أنه ليس بثابت، لأن في سنده انقطاعاً: وقف عمر مع امرأة عجوز في الطريق، ولما وقف معها قيل لـ عمر وكان قد سد الطريق: كيف أغلقت الطريق من أجل هذه العجوز؟! فقال: [ويحكم! أتدرون من هذه؟ إن هذه قد سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات] وهي خولة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] فأثبت أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته عالٍ على خلقه، هذه أدلة الكتاب والسنة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 3 دليل الفطرة أما دليل الفطرة فقد دل على ذلك أنه ما من مؤمن أو عارف يعرف بأن له رباً، يقول: يا ألله! إلا وجد قلبه يتوجه إلى العلو. وأنت إذ تتساءل الآن في ذات نفسك وتقول: قد ربيت عليه وأنا صغير، لكن إخوانك الصغار تشاهدهم ما أحد يعلمهم فيقول لهم: إنك إذا دعوت الله تعالى فواجب عليك أن ترفع بقلبك إلى العلو، وهذا نسميه رصيد الفطرة. ونُقل أن البهائم إذا أصابتها الشدائد في حال تعسر ولادتها، فإنها وهي مضطجعة، تسلم أمرها لله، وترفع رأسها إلى السماء؛ لأنها تعلم أن ربها هناك، فترجو منه أن يكشف كربها وما أصابها. فسبحان الله! كان أبو المعالي الجويني على المنبر يحدث أتباعه، وكان من كبار الأشاعرة، وكان يقول لهم: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان، أي: ليس هناك عرش وليس هناك استواء ولا غيره، فكان الهمداني في مجلسه، فقال له: يا شيخ! دعنا من قضية الاستواء على العرش ومن آية: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قال: إننا لا نجد عارفاً يقول: يا ألله إلا وجد في قلبه اضطراراً إلى العلو فبماذا نفسر هذا؟ أنت تريد أن تنفي لنا النصوص الشرعية، لكن كيف ننفي الفطر التي توجد في قلوبنا، ماذا نعمل بها؟ قال: فنزل الجويني وهو يضرب على رأسه يقول: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني، وقيل: إنه كان يبكي ولم يستطع أن يقول شيئاً؛ لأنه إذا جاءته النصوص يستطيع أن يأولها، لكن فطر الناس لا يمكن أبداً؛ لأنها تثبت بأن الله سبحانه وتعالى في العلو. ويأتي الدليل العقلي على إثبات علو الله تعالى، وهو مركب من مقدمات كثيرة، وقد بسط هذا الدليل العقلي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بطوله في الفتاوى وفي غيره، وفي الرد كذلك على الرافضة القدرية، وكان يبنى على مقدمات أعرضها سريعاً، فيقولون: ليس في الكون إطلاقاً إلا خالق ومخلوق، فقالوا: إما أن يكون الله خلق الخلق داخل ذاته أو خارج ذاته، أو أنه لا داخل ذاته ولا خارج ذاته، أصبحت عن طريق السبر والتقسيم ثلاثة أقسام: 1- إما أن يكون خلق الله الخلق داخل ذاته. 2- أو يكون الخلق خارج ذاته. 3- أو يكون الخلق لا داخل الذات ولا خارج الذات. إذاً القول بأن الخلق في داخل ذات الرب سبحانه وتعالى باطل باتفاق العقلاء، والسبب هل نحن نشعر بأننا داخل ذات الرب؟ لا. ثم بطلانه بأنه يلزم أن يكون الله محلاً للقاذورات والخسائس، وهذا الخلق فيه ما هو طيب وفيه ما هو خبيث، فهل يمكن أن يكون الخبيث في داخل الرب؟ حاشا وكلا، إذاً تعين أنه بطل أن يكون الخلق داخل ذات الرب، ولا يقول بهذه المقالة إلا الصوفية الغلاة، أهل وحدة الوجود، وأهل الحلول والاتحاد، الذي يقول قائلهم قبحه الله: ليس في الجبة إلا الله وينفض جبته، ولا شك أن هذا هو الكفر بل هو الإلحاد. ننتقل إلى القسمة الثانية: أن يكون الكون لا داخل ذات الرب ولا خارجه، وهذا نفي لوجوده بالكلية، فالشيء الذي لا يكون موجوداً ولا داخلاً ولا خارجاً يؤدي إلى نفي وجود الله تعالى، وهذا أمر باطل بالاتفاق، ولهذا نجد العجيب أن بعض طوائف المبتدعة يقولون: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا الكلام باطل، يؤدي إلى نفي وجود الله تعالى. بقي عندنا أن يكون الرب خارج هذا الكون، فتعينت المفاصلة والمباينة، وتعين المفاصلة والمباينة يقتضي أن ننتقل إلى مقدمات أخرى وهي أن نقول: إن السفول صفة نقص، والعلو صفة كمال، والله موصوف بالكمال، إذاً الله في العلو سبحانه وتعالى. ولهذا إذا وجد شيء عزيز عليك فإنك ترفعه فوق رأسك؛ نظراً لأن العلو باتفاق العقلاء كمال، ولا يمكن أبداً أن يكون نقصاً، بخلاف السفول فإنه نقص، ولهذا تجدون الأطفال الصغار يرفع فمه إلى السماء ويقبل، ويبصق على الأرض لاعتقاده أن الشيطان في السفول، ويعترف بأن الله في العلو، وهذا دليل على مسألة فطرية ومسألة دلالة العقل على إثبات علو الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 4 أقسام العلو نعجب من هؤلاء المبتدعة إذ لم يقبلوا نصوص الكتاب والسنة بل أولوها، وقالوا: إن المقصود منها أن العلو للفوقية هنا فوقية المكانة والقدر، بمعنى أن الله في العلو له المكانة، وإلا فإنهم لا يقبلونه، وأهل السنة يقولون: إن العلو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- علو قدر وهي المكانة. 2- علو قهر وهي الغلبة {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] . 3- علو الذات. المبتدعة لا يجادلونا في علو القدر ولا في علو القهر، ولكن يجادلونا في علو الذات، ولا يثبتون الله في العلو، أما نحن فنثبت أنواع العلو كلها لله، ونقول: إن لربنا الكمال فيها كلها، ونقول: الله سبحانه وتعالى عالٍ على خلقه علواً يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى. والقول بعلو القدر وعلو المكانة لله تعالى أمر تأنف منه العقول، فإذا جئت إلى شخص مثلاً وقلت له: إنك والله لك منزلة في نفسي أفضل من الحمار والكلب، هل ينبسط أم يغضب؟ قال الشاعر: ألم ترَ أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا فلو جاء إنسان يوازن بين السيف وبين العصا فإنه قد نقص قيمة السيف، وإذا قيل: إن الله خير من خلقه وأفضل من خلقه فهذا تنقص للرب سبحانه وتعالى؛ لأن هذا الأمر مغروس في الفطر (أن الله سبحانه وتعالى فوق خلقه منزلة وقدراً وقهراً) ومع وجود هذا الأمر وهو أمر فطري نثبته لله، لكن ليس هذا هو مدح للرب سبحانه وتعالى، بل إن المدح أن نثبت له سبحانه وتعالى الكمال المطلق، ومنه إثبات علو الذات له سبحانه وتعالى، وبهذا يبطل كلام هؤلاء في تأويلهم على أن العلو يقصد به علو المكانة أو أن المقصود أن الله خير من خلقه سبحانه وتعالى. انطلقوا إلى النصوص الدالة على الدليل الفطري، عندما قلنا لهم: إن الإنسان إذ يقول: يا الله، يجد قلبه يتعلق بالعلو، قالوا: تعلق القلب بالعلو لأن السماء هي قبلة الدعاء، وهذا الكلام باطل وليس بصحيح لا لغة ولا شرعاً ولا عقلاً، القبلة في اللغة هي ما تستقبل بوجهك، فهل نحن إذا دعونا نرفع أبصارنا إلى السماء؟ لا، بل نهينا عنه: (لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء أو ليخطفن الله أبصارهم) نهينا أن نرفع، ولهذا يسمى ما يقبل به الإنسان قُبل، وخلفه يسمى دُبر، ندعو الناس إذا أرادوا أن يدعوا أن يتوجهوا بوجوههم إلى السماء. ثم قال العلماء: لم يأتِ دليل على أن هناك قبلتين: قبلة للصلاة وهي إلى الكعبة، وقبلة للدعاء وهي السماء، فهذا لم يرد فيه دليل لا من كتاب ولا من سنة، ولم يقل به أحد من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وقولنا بهذا يدل على ابتداع هؤلاء القوم، وأنهم جاءوا بأمر محدث. ثم قال العلماء: إن القبلة تقبل النسخ، فكان الصحابة يستقبلون بيت المقدس سابقاً، ثم صرفوا إلى الكعبة، لكن في توجه الإنسان بقلبه إلى العلو لا يمكن أن يطرأ عليه نسخ؛ لأن هذا شيء مركوز في الفطر، وما كان في فطر الناس مركز لا يحدث فيه النسخ أبداً، مما يدل على بطلان ما جاء به هؤلاء القوم، ويدل على انحرافهم. واعترضوا على قضية الدليل العقلي، بإنكار بداهته، فجاء المبتدعة يقولون: نحن عقلاء أم مجانين؟ قلنا: أنتم عقلاء، قالوا: نحن إذاً لا نقبل، الدليل العقلي يجب أن يتفق فيه العقلاء كلهم ونحن لا نقبل. فنحن نقول لهم: إن كان دليلنا العقلي باطلاً فما توردونه من الأدلة في نفي علو الله تعالى أشد بطلاناً، أي: أنتم أكثر عمقاً في الباطل، وإن كان قولنا حقاً وقولكم حقاً، فنحن أكثر تمكناً في الحق منكم، فتميز أهل السنة بقلة الباطل -على فرضه تنزلاً- وبكثرة الحق في هذا الأمر، وما دامت القضية الدليل العقلي أصبح أمراً مشتركاً بيننا وبينكم فإننا نسأل ونقول: فطر الناس معنا أم معكم؟ نقول: مع أهل السنة وليس مع المبتدعة، فزاد أهل السنة بفطر الناس، ثم نسأل فنقول: أدلة الكتاب والسنة معنا أم معكم أيها المبتدعة؟ فـ أهل السنة معهم أدلة مرجحة لدليلهم العقلي (الفطرة وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) وبهذا ترجح دليلهم العقلي في إثبات علو الله سبحانه وتعالى والإقرار به، وبهذا نعلم أن الله سبحانه وتعالى له العلو بجميع أنواعه: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات سبحانه وتعالى، ولا نتعرض لذلك ولا ننفيه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 5 أئمة المذاهب الأربعة سلفيون قاعدة: يجب أن نعلم أن الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى كلهم أثريون سلفيون، والمقصود بالأثري السلفي أنه متى ثبت له النص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم طرح مقالته كلها وتركها، سواء كان في مسائل الفروع -أي: مسائل الشريعة أو الأحكام- أو كانت في مسائل الاعتقاد، حتى لا يأتينا أحد فيقول: إن قول فلان وفلان وفلان كان مثل قول المبتدعة، ونذكر الأدلة على ذلك: أبو حنيفة رحمه الله تعالى كان ممن يقول: إن الإيمان هو مجرد الاعتقاد فقط، ولا يرى الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وحكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد، وأن حماد بن زيد لما روي له حديث: (أي الإسلام أفضل) الحديث، قيل له: ألا تراه يقول: بأي الإسلام أفضل، والأحناف عندهم خطأ في مسألة الإيمان، فهم لا يرون الإيمان يزيد وينقص، ولهذا يسميهم العلماء: مرجئة الفقهاء، فقيل له: إنه يقول: (أي الإسلام أفضل؟) ثم أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن قضية الإيمان فقال: (الجهاد في سبيل الله والهجرة) والجهاد والهجرة أليست عملاً؟ وأبو حنيفة لا يرى الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، فقال له بعض أصحابه: ألا تجيبه، ألا ترد على هذا القول؟ هو يروي حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ألا تجيبه؟ فقال أبو حنيفة: بم أجيبه وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ما كان لي أن أرد عليه بعد أن جاءني بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الواجب على كل مسلم أن يأخذ بظاهر قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب:36] . قال البخاري: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فأتاه رجل فسأله عن مسألة، فأجابه الشافعي رحمه الله تعالى وقال فيها: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث كذا وأورد له الحديث، فقال له هذا الرجل: ما تقول أنت يا إمام؟ أي: ما رأيك أنت؟ فغضب الشافعي أشد الغضب، وقال: سبحان الله! أتراني خرجت من كنيسة، أتراني في وسطي زناراً، حتى أقول قال رسول الله ولا أقول به؟! كأنه منكر عليه أن يسأله عن مقالته، وهذا يدلنا على أمرٍ يجب أن نعلمه، وهو أن الواجب علينا جميعاً ألا نتعلق بالأشخاص أبداً كائناً من كان، إلا بما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن القوم الذين يتعلقون بالأشخاص يصل بهم الأمر إلى أن يزلّوا إذا زل الأئمة، ويصبوا إذا أصابوا، لكن من تعلق بالمنهج وتعلق بالكتاب والسنة فلا يضل ولا يزل أبداً، وهذه من نعمة الله تعالى أننا لا نتعلق بالأشخاص. أقول للأحبة وهي ظاهرة على ضوء التتبع: تبين لنا في واقعنا الذي نعيشه أن الناس يتعلقون بالأشخاص في كثير من أمورهم، في مسائل دعوتهم، وفي مسائل إفتائهم، وفي مسائل عرضهم للحق وغيره، وهذا من الخطأ والانحراف، ولعل هذا قد حذرنا منه الله تعالى في كتابه فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] وكأن الله يبين لنا هنا أن الواجب علينا ألا ننظر إلى ذات محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما نأخذ بمنهجه ((أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ)) وكم من الناس كأنهم يتعلقون بالأفراد، ويظنون أنهم إذا وجدوا وجد الحق، وإذا ذهبوا ذهب الحق، وإذا ماتوا مات الحق، وإذا حيوا حيا الحق، هذا من الخطأ والجهل، والله قد جعل لنا منهجاً ودستوراً وهو الكتاب والسنة، وهو المنهج الذي يجب أن نأخذ به، وهو المنهج الذي يجب أن يرضى الناس به دون أن يربطوا بأفراد وبأشخاص معينين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 6 علامات معرفة أهل البدع ننتقل إلى موقف المبتدعة من نصوص الكتاب والسنة: قلنا سابقاً: إن المؤلف رحمه الله تعالى لم يتعرض لكثير من أسماء الله وصفاته، وإنما أومأ لبعضها، والمبتدعة يشرقون دائماً بالنصوص التي تلقمهم الحجر، فمثلاً: الصفات الفعلية: المحبة، والغضب، والنزول، والاستواء، والرضا وغيرها صفات أفعال، والمبتدعة لا يثبتونها للرب سبحانه وتعالى، ولهذا ما موقفهم منها؟ وهناك طوائف أشد ضلالاً، فلم يثبتوا شيئاً من الأسماء والصفات للرب أبداً، بل شبهوا الله إما بالجماد أو بالمعدوم، عجباً لهؤلاء القوم من الجهمية المعطلة! وسار على ذلك المعتزلة، وغلاة الرافضة. 1- من علاماتهم: قالوا: الأخبار تنقسم إلى قسمين: أخبار متواترة وأخبار آحاد، فقالوا: الأخبار المتواترة هي ما تواتر سندها، أما ما تدل عليه من المعاني والفوائد والأحكام فهي ظنية، فإذا كان المتواتر هو الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم المتواترة ظنية الدلالة، فما النتيجة؟ أننا لا نفهم منها شيئاً، ولا نحتج بها لا في الاعتقاد ولا في غيره، وهذا انحراف واضح بل هو الضلال بعينه. ثم أخبار الآحاد: وإن صح سندها، فهي ظنية الثبوت من جهة السند، وظنية الدلالة، فلا يقبلونها، ولذلك عندما ذكرت أنك إذا أردت أن تميز شخصاً مبتدعاً، فمن العلامات أن تنظر إلى كلامه في الأخبار، فإن قال: خبر الآحاد لا يحتج به في مسائل الاعتقاد فاعلم أنه ليس سلفياً في معتقده، وأن عليه ملحوظات في هذا المعتقد، هذا جزء من علامات المبتدعة. 2- ومن علاماتهم: أنهم يؤصلون مقدمات عقلية، ثم يجعلونها هي الحاكمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قالت المعتزلة: أي نص في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يوافق العقل فإنه يقدم العقل ويطرح الكتاب والسنة، ولا شك أن هذا هو الضلال بعينه. فلا ندري أنأخذ بعقل المعتزلي أم بعقل الجهمي؛ أم الأشعري، أم عقل الماتريدي، أم الكلابي أم غيره، بمن من العقول نأخذ؟! ومن هي العقول التي تكون حاكمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ هذا هو الضلال بعينه، ولهذا جعلوا لهم مقدمات وليست إلا ضلالات، وقال فيها الإمام ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية مستشهداً بقوله تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39] ولذلك لم يهتدوا لكتاب ولا سنة. 3- ومن علامات المبتدعة: أنهم يجعلون بدعهم هي التي تعرض عليها نصوص الكتاب والسنة، فهم منحرفون في الأصل، وعندهم الضلال، فيجعل البدعة التي عنده هي الحاكمة على الكتاب والسنة، وكم نجد من الغرائب، اقرأ في كتب التفاسير، فـ الأشاعرة إذ يفسرون القرآن يعرضون نصوص القرآن على بدعهم التي عندهم، والمعتزلة إذ يفسرون القرآن كذلك، والخوارج إذ يفسرون القرآن كذلك، والرافضة إذ يفسرون القرآن يعرضون النصوص على البدعة التي عندهم فما وافق البدعة سموه محكماً، وما خالف البدعة سموه متشابهاً، فجعلوا ما وافق بدعهم محكماً، وما خالفها متشابهاً. إذاً لهم من المتشابه موقفان: الموقف الأول: أنهم يفوضون المعنى فيقولون: هذه النصوص لا ندري ما هي ولا نعرفها. الموقف الثاني: أنهم يئولون النص عما دل عليه، وفي الحقيقة أن التأويل حق أن نسميه تحريفاً وليس تأويلاً، مثلما قالوا في الاستواء: الاستيلاء و {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] قالوا: اليد هي النعمة والقدرة، هذا تحريفٌ وليس تأويلاً، بل هذا هو الضلال، والله يثبت لنفسه الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهم يقولون: نحن يا رب أعلم بأن نصفك منك إذ تصف نفسك، هذا هو لازم كلامهم وهو لازم مذهبهم، فمن يقول: أنا لا أثبت لله الأسماء الحسنى ولا الصفات العلى، كأنه يقول: يا رب! أنت جئت بهذه ولست الذي تصف نفسك نحن نعطيك ما هو أنزه لك ولا نريد أن نشبهك بالمخلوقين، وهذا هو الضلال بعينه. ولو سُئلنا يوم القيامة: لِمَ أثبتم اليد لله والإصبع والقدم؟ قلنا: قد وردت في كتابك وقد بينها لنا رسولك صلى الله عليه وسلم، فمن احتج بكتاب الله وسنة رسوله فلا عتبى عليه، لكن إذا قيل له: لماذا لا تثبت هذا الشيء وقد جاءك في الكتاب والسنة؟ يقول: يا رب! أنا خشيت أن أشبهك بالمخلوقين، أأنتم أعلم أم الله؟! أنحن أعلم أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بربه، والله يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] . إذاً أصبح الواجب علينا ألا نسير على مناهج هؤلاء الذين انحرفوا عما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 7 مسائل متعلقة باليوم الآخر ثم قال المؤلف رحمه الله: وأقر بالميزان والحوض الذي أرجو بأني منه رياً أنهل انتهينا من باب الأسماء والصفات، والمؤلف رحمه الله تعالى يورد لنا مبحثاً مهماً عظيماً جداً، ولعلنا نستفيد منه فائدتين: الفائدة الأولى: الإيمان باليوم الآخر، وتمكينه في القلوب، وهو أحد أصول الإيمان الستة، ولا يصح إيمان أحد كائناً من كان حتى يؤمن باليوم الآخر. الفائدة الثانية: نشم من قول المؤلف أن هذه هي ثمرة الإيمان بالمعتقد السابق، أننا: نقر بالميزان والحوض الذي أرجو بأني منه رياً أنهل أي: أنه ينهل منه بسبب معتقده السابق، فإن من حرف وغير منهج الله وصراطه؛ فإنه يذاد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ولهذا ورد أن أناساً يردون على حوض النبي صلى الله عليه وسلم ويذادون، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمتي أمتي! فيقال له: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً) أي: بعداً لهؤلاء. قال العلماء: وينطبق على هؤلاء الذين يذادون طوائف الخوارج، والجهمية، ويدخل فيهم الرافضة، فهؤلاء غيروا وبدلوا ما جاء عن الله وجاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس في باب الصفات وحدها، بل في أبواب متعددة، بل في غالب مباحث العقيدة غيروا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 8 أسماء اليوم الآخر اليوم الآخر وردت له أسماء كثيرة، منها: يوم القيامة، واليوم الآخر، والساعة، والبعث، ويوم الدين، والصاخة، والقارعة، والطامة الكبرى إلى غيره، ولقد شرح ذلك بشيء من التفصيل الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تذكرته، ويعتبر من المباحث والكتب المهمة المتعلقة باليوم الآخر كتاب التذكرة في أحوال الآخرة للإمام القرطبي، وكتاب العاقبة للإشبيلي رحمه الله في قضية اليوم الآخر، ومن المعاصرين الدكتور عمر الأشقر كتب: اليوم الآخر جمع فيه ما ذكره المتقدمون رحمهم الله تعالى في مسألة اليوم الآخر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 9 بداية اليوم الآخر قضية اليوم الآخر نحن نعلم أنها تبدأ أول ما تبدأ بموت الإنسان، فمنذ أن تنطلق الروح يبدأ اليوم الآخر، وكأن الإنسان عنده الحياة الدنيا والحياة الآخرة، فالدنيا هي الأولى القريبة، ثم بعدها الحياة الآخرة، وتبدأ الآخرة بالموت ثم القبر، وسيأتي الكلام عليه وإن كان المؤلف رحمه الله تعالى أخر قضية القبر، لكن نأتي على ضوء ما شرحه المؤلف ولن نتكلم به على حسب الترتيب، وتبدأ قضية اليوم الآخر بعد قضية النفخ في الصور. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 10 الصور وموعد النفخ الصور هو مثل القرن، والنافخ في الصور هو إسرافيل عليه الصلاة والسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف ينعم وصاحب الصور قد التقم الصور ينتظر متى يأذن الله الرب سبحانه وتعالى) . والنفخ في الصور يكون في يوم الجمعة، فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة) قالوا: إن يوم الجمعة تصبح كل الدواب خائفة من هذا اليوم تنتظر الساعة متى تقوم. وإن كان عجباً لأمة الإسلام أن جعلت يوم الجمعة يوم لهو ومعصية، وبعضهم يوم نوم وضياع وقت، مع أننا نجد أن يوم الجمعة ميز بعبادات كثيرة: سنة التبكير، وقراءة سورة الكهف، وكثرة الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكثرة الدعاء، ثم الإتيان إلى المسجد والتبكير إليه إلى غيره، عبادات كثيرة جداً في يوم الجمعة؛ نظراً لأنه يوم مبارك، ويوم عظيم، ولعله إذا قامت الساعة على الإنسان أو نفخ في الصور يكون عند الإنسان شيء من العبادة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 11 عدد النفخات في الصور النفخ في الصور اختلف العلماء: كم نفخة في الصور تحديداً؟ فمن العلماء من قال: نفختان، وهي أصح أقوال أهل العلم في هذه المسألة. ومنهم من قال: ثلاث نفخات، ونقلت هذه عن ابن كثير والسفاريني، وذُكِرَ أنها قول لشيخ الإسلام ابن تيمية، ونُقل عن ابن حزم رحمه الله أنها أربع نفخات، ولكن الصحيح أنها نفختان فقط. ويصعق الناس كلهم إلا من شاء الله، وقيل لبعض العلماء: من الذين يستثنون؟ - من العلماء من قال: إن الذي يستثنى هم الملائكة. - ومنهم من قال: جبريل وميكائيل وإسرافيل. - ومنهم من قال: أهل الجنة وما فيها من الحور العين وغيرهم، لكن الذي يظهر أن الصعق يكون عامَّاً واستثني كبار الملائكة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 12 البعث والحشر يُصعق الناس ثم يموتون ثم تأتي قضية البعث، وينزل الله مطراً من السماء، ورد في بعض الآثار أنه كمني الرجال، ونحن نعلم أن الإنسان يبلى كله إلا عجب الذنب، وهو ما نسميه (العصعص) وهو آخر خرزة في مقعدة الإنسان وفي دبره، وهو شيء صغير، قال: فينبتون كما ينبت البقل، ويخرج الناس ويعرضون على الله تعالى، يبدءون بعثاً جديداً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يحشرون حفاة عراة غرلاً بهماً، يصبح الإنسان عارياً وغرلاً وبهماً، وبينت عائشة فقالت: (يا رسول الله، الرجال والنساء سواء؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إن الأمر أعظم من ذلك) يشغلهم أن تنظر المرأة إلى الرجل أو ينظر الرجل إلى المرأة؛ لأن الأمر مفزع، وأمر عظيم. وأول من تنشق عنه الأرض هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في صحيح مسلم أنه قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع) صلى الله عليه وسلم، ويحشر الخلائق يوم القيامة ليوم الجمع، ويصبحون جميعاً على أرضٍ غير هذه الأرض؛ لأنها تبدل، فيحشرون على أرض بيضاء كالفضة لم يعص الله عليها أبداً. اختلف العلماء هل تحشر البهائم مع الناس أم لا؟ وأصح الأقوال أنهم يحشرون جميعاً الرجال والنساء وكذلك المسلم والكافر، والبهائم وغيرها، ويكون أول من يكسى هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم) وورد أنه يكسى بكسوة من الجنة، وذلك يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات. لقد كذَّب الكفار من الناس -والعياذ بالله- بقضية البعث، وكان هذا التكذيب من قديم وليس حديثاً، وقد بين الله في كتابه فقال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7] {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78-79] فلا شك أنه هو المحيي لها، فالذي أنشأها أول مرة وخلقها هو القادر على أن يحيها مرة أخرى ويعيدها فيما بعد. وهناك مباحث كثيرة في قضية الأدلة على البعث والأدلة على ذلك اليوم، والواجب على المسلم أن يستعد، قالوا: إن هذا الكون يتغير تغيراً كلياً، وقد ورد في الآثار: من أراد أن ينظر إلى القيامة رأي العين فلينظر في سورة التكوير: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار:1] تجد تغيراً للكون كاملاً، السماوات والأرضون وغيرها تبدل، والجبال والأنهار والبحار تسجر ولعلها تأتي من علامات الساعة الكبرى، وإن كانت العلامات الصغرى هي إيماء لها، ولسنا بصدد الكلام على علامات الساعة. والناس ينقسمون على حسب دياناتهم، وعلى حسب معتقدهم، ويحشر الناس على اختلافهم، فهؤلاء أهل التوحيد مع بعض، وكل يتبع إلهه الذي يعبده، فهؤلاء يعبدون المسيح، وهؤلاء يعبدون عزيراً، وهؤلاء يعبدون كذا، كل يتبع معبوده، ويبقى أهل الإيمان العابدون لله تعالى هم الذين لهم المنازل العليا يوم القيامة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 13 شرح قول الناظم: وأقر بالميزان والحوض قال الناظم رحمه الله: وأقر بالميزان والحوض الذي أرجو بأني منه رياً أنهل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 14 معنى الإقرار قول المؤلف رحمه الله تعالى: (وأقر) أصل الإقرار في اللغة هو الإثبات، من قر الشيء يقَر ويقِِر بفتح الكاف وكسره، ومنه قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [البقرة:36] أي: ثبات وقرار. وفي الشرع: الإقرار: هو الاعتراف بالمدعى به، ويعتبر الإقرار في كتب الفقه من أعظم الأدلة لإثبات دعوى المُدَّعى عليه، فإذا جئت وقلت لشخصٍ: أنا أقر بأن لفلان هذا عندي ألف ريال، فلا نحتاج إلى أدلة نقول: ما هو الدليل على أن عنده ألف دليل؟ أقوى الأدلة هو الإقرار، ولذا قال: (وأقر بالميزان) أي: أثبته ثبوتاً لا جدال فيه وأعترف به، ولهذا يقول العلماء: يعتبر الإقرار سيد الأدلة، ويسمى بالشهادة على النفس، أي: أنك تشهد على نفسك بقضية الميزان والحوض، ويشهد لهذا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء:135] . ولذا كان الإقرار يقضي به النبي صلى الله عليه وسلم في الحدود والدماء والأموال، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) دل على أن الإقرار أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذها وأقام عليها الحد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 15 معنى الميزان قوله: (بالميزان) قال في لسان العرب: الوزن هو الثقل، قالوا: وإنه هو المفهوم منه، فإذا أردت أن تزن شيئاً تزنه بخفة أو بثقل، ولهذا قال بعضهم: الوزن ثقل شيء بشيء مثله، كأوزان الدراهم، وتجدون هذا في الأسواق وغيرها، وكان الناس في السابق يجعلون في الوزن كفتين، أما الآن فلا يحتاجون إلى كفتين، وُجدت الآن موازين إلكترونية، وموازين أخرى، لكن هنا يبين أنهم كانوا يزنون به، والعرب يسمون الأشياء التي يوزن بها التمر وغيره المسواة من الحجارة والحديد يسمونها الموازين، وهي المعايير التي توجد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 16 معنى الحوض قوله: (والحوض) الحوض هو الذي يجتمع فيه الماء، كما قاله ابن الأثير في النهاية، قال في اللسان: حاض الماء وغيره، أي: حوضاً ويقصد به حاطه، اجعل حوضاًَ أي: أحطه بشيء، ولهذا قالوا: ورد في بعض الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لما نبعت ماء زمزم أخذت هاجر تجعل لها حوضاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنها لو لم تجعل ذلك لأصبحت عيناً معيناً) أي: تفور، لكن من حرصها رضي الله عنها كانت تحوطه مخافة أن يذهب الماء سدىً ولا تستفيد منه، ولكن لعل لله حكمة في هذا الأمر، وقال بعضهم: استحوض الماء، أي: اجتمع. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 17 معنى ريا ً وقوله: (رياً) قال في لسان العرب: روى من الماء من اللبن يروي رياً وروياً، قالوا: والريان ضد العطشان، أي: كأنه يريد أن يشرب منه ويتروي، أي: يزيل العطش الذي أصابه، والعطش الذي يحدث للإنسان لا شك أنهم وقفوا في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وأخبر أنه يخرج منهم العرق ويحتاجون للماء، فلهذا هو يريد أن يشرب من هذا حتى يرتوي ويذهب العطش الذي أصابه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 18 معنى النهل وقوله: (أنهل) قال في اللسان: النهل هو أول الشرب، ويقال: أنهلت الإبل أي: هو أول سقياها، أي: شربت في أول ما شربت، ونهلت إذا شربت في أول الورود، أي: أول ما تصل تشرب، ثم تنطلق، ثم تشرب مرة أخرى، فأول ما تشرب هو النهل، فكأن المؤلف يدعو ربه أن يجعل أول ما يشربه هو من ماء هذا الحوض العظيم الذي نسأل الله جميعاً أن يجعلنا ممن يرد هذا الحوض ويشرب منه. ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 19 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الخامس عشر) يوم القيامة أحداث وأهوال فالكفار لهم حال والمؤمنون لهم حال فيحاسب الناس على ما قدموا، ثم تتطاير الصحف، فآخذ لصحيفته بيمينه يطير بها فرحاً، وآخذ بشماله يتكبد حسرة وندما ثم يؤتى بالميزان وأدلة إثباته كثيرة، وقد اختلف العلماء في ماهية الوزن وكيفيته. والحوض ثابت بالكتاب والسنة، وصفته وموقعه ومساحته معلومة في الآثار. والصراط جسر ممدود على متن جهنم ويمر الناس عليه على قدر أعمالهم. وقد خالف في كل ذلك بعض الطوائف ممن أعمى الله أبصارهم وطمس على بصائرهم، وفي هذا الدرس تجد إثبات ذلك والرد على المخالفين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1 من أحداث وأهوال يوم القيامة الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فلعلنا تكلمنا عن بعض ما يتعلق باليوم الآخر، وشرحنا قول المؤلف رحمه الله حلاً لعبارته: وأقر بالميزان والحوض الذي أرجو بأني منه رياً أنهل وتكلمنا عن بعض أحداث يوم القيامة إمراراً سريعاً دون تفصيل؛ نظراً لأن هذه الأحداث قد تطول بنا. وبينا أن الله سبحانه وتعالى يبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وأن هذه الأرض التي نعيش فيها ليست هي أرض المحشر، وإنما تكون بيضاء كالفضة ولم يعص الله فيها أبداً. ويصبح الناس على أحوال، فالكفار لهم حال، والعصاة لهم حال، والمنافقون لهم حال، والمؤمنون لهم حال، فأما الكفار فالله قد بين حالهم يوم القيامة، وأن وجوههم مسودة، وما ذلك إلا لكفرهم وإشراكهم وإلحادهم بالله تعالى. وهؤلاء الكفار قد توعدهم الله تعالى بوعيد، وأصبحوا يشاهدون ذلك الوعيد وينتظرون متى يحل بهم، ولهذا قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53] وهذا الكلام حين الحشر والعرض على الله سبحانه وتعالى. - وطائفة من الناس وهم عصاة المؤمنين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فجمعوا بين أمرين: السيئات والحسنات، فهؤلاء تبقى مغبة الذنوب أمام أعينهم، وخاصة الذين لم يتوبوا من الذنوب والمعاصي، أما من تاب من الذنوب والمعاصي فنحن نعلم أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له أصلاً، وهذا من رحمة الله تعالى بالمؤمنين أنهم يذنبون فيتوبون فيتوب الله عليهم، وبين لنا أحوال هؤلاء الذين ماتوا، فممن بين الله لنا: أهل الزكاة، وما يكون من حالهم، وأن أموالهم التي كنزوها فإن كانت ذهباً وفضة فتكوى بها جنوبهم وجباههم وظهورهم، وكذلك بين لنا حال صاحب الربا الذي يتخبطه الشيطان من المس، وبين لنا كذلك حال المتكبرين، أولئك الذين تكبروا على الله وتكبروا على الخلق، وأنهم يحشرون يوم القيامة كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم وغيرها من الذنوب. وبين لنا كذلك حال المؤمنين الأتقياء، وأن منهم طائفة وهم أعلاهم سبعين ألفاً، هؤلاء يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، لا يصابون بشيء، وهذا من فضل الله تعالى ومن رحمته، ولا شك أن هؤلاء الذين هم أعلاهم لا يحصل لهم شيء منهم من هم أقل منهم رتبة، وكما بين أن الشمس تدنو من الخلائق ويخرج منهم العرق، ويصبح العرق في الناس على قدر أعمالهم في الدنيا، فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم إلى أنصاف ساقيه، إلى ركبتيه، إلى حقويه، إلى ترقوته، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، أي: كاللجام في فمه، وهؤلاء على حسب ذنوبهم وتقصيرهم يحدث لهم مثل هذا الأمر. ومن أحداث يوم القيامة: أن الناس يحاسبون على ما قدموا، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أول ما يحاسب عليه العباد الصلاة، فإذا صلحت صلح سائر العمل، وإذا فسدت -نعوذ بالله- فسد سائر عمل الإنسان. ويصبح الناس في حال الحساب أقسام أربعة: القسم الأول: يحاسبون حساباً شديداً، يدقق عليهم في كل شيء -حساباً عسيراً- وهؤلاء هم الكفار، والملاحدة والمشركون. القسم الثاني: يحاسبون حساباً ولكنه ليس كحساب الكفار، ويدخل فيه عصاة المؤمنين، فإن هؤلاء يحاسبون على أعمالهم، من المعاصي والفجور الذي وقع منهم. القسم الثالث: لا يحاسبون أبداً وهم السبعون ألفاً، ومن رحمة الله تعالى أن أعطى نبيه مع كل ألف سبعون ألفاً، وهذا من فضل الله تعالى ورحمته. القسم الرابع: وهم الذين يحاسبون حساباً يسيراً، وهو ما يسمى بقضية العرض، وهو العرض على الله تعالى، تعرض الذنوب ثم بعد ذلك يقرر بها الإنسان، ويعترف بها، ثم يقول الله: (إني سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم) وهذه من رحمة الله تعالى بالمسلم أن يكون من هؤلاء القوم إذ أنه تقرر ذنوبه، وفي بعض الروايات: أن هؤلاء يحصل لهم أنها تبدل سيئاتهم حسنات، فالسيئات التي عملوها في الدنيا تنقلب إلى حسنات، وهذا من فضل الله تعالى ورحمته. ذكر بعض أهل العلم أن بعد الحساب تتطاير الصحف، فمن الناس من يأخذ كتابه بيمينه، ويطير به فرحاً {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] ومن الناس من يأخذ كتابه بشماله ووراء ظهره، وعند ذلك يحدث لهؤلاء القوم بسبب تطاير الصحف فليس للإنسان خيار، فالإنسان له حركة في الأخذ والعطاء، لكنه عند تطاير الصحف ليس له خيار، تتجه الكتب لأهل الإيمان والصلاح فيأخذونها بأيمانهم، وذاك لا يستطيع أن يمد يمينه، وإنما يأخذها بشماله، ولا شك أن هذه عقوبة لهم، بل هذا نوع وجزء من عقوبة الله تعالى لهؤلاء القوم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 2 مسائل متعلقة بالميزان ثم يحدث بعد إيتاء الكتب أن يؤتى بالميزان، وقضية الميزان هي من أحداث يوم القيامة، ولذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأقر بالميزان) ومقصوده في إقراره أنه يعترف ويعتقد بالميزان ولا ينكره، وقد ذكرنا أن الإقرار هو أعظم الأدلة في إثبات الحق، ولهذا يسمى سيد الأدلة، فالشيخ رحمه الله تعالى يذكر قضية الميزان، وإعطاؤنا الميزان، والصراط، والحوض، والنار وغيرها، هذه نعتبرها من الأحداث الغيبية، ويسميها بعض العلماء (السمعيات) أي: أنها لا تؤخذ إلا من النصوص، ولو لم يرد لنا نص في قضية الوزن ما أثبتناه، ولو لم يرد لنا نص في إثبات الصراط ما أثبتناه، وليس للعقل فيها مجال أبداً، وتصبح من الأمور التوقيفية، ويوزن الناس يوم القيامة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 3 اختلاف العلماء فيما يوزن اختلف العلماء في الذي يوزن على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الذي يوزن هو العمل ويستدلون لذلك بحديث ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله بحمده، سبحان الله العظيم) وهذا يدل على أن هذه الأعمال توزن. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق) وهذا يدل على أن حسن الخلق عمل، وهو الذي يوزن يوم القيامة وهذا عمل. القول الثاني: أن الذي يوزن هي الصحائف، ويستدلون على ذلك بحديث صاحب البطاقة، فإن صاحب البطاقة يؤتى به يوم القيامة وله تسع وتسعون سجلاً كلها مد البصر، ويقال له: أتنكر هذه؟ فلا ينكر شيئاً منها، ويقال له: هل لك حسنة؟ قال: لا، فيقول الرب: إنك لا تظلم اليوم، ثم بعد ذلك يؤتى ببطاقة فيها: لا إله إلا الله، فتوضع لا إله إلا الله في كفة، ثم توضع البطاقة في كفة، فتطيش بها بطاقة لا إله إلا الله، قالوا: فهذا وزن للصحف التي تكتب، ودل على أن الإنسان تكتب عليه الملائكة كل عمل يعمله في هذه الدنيا في صحف، ثم بعد ذلك توزن يوم القيامة. القول الثالث: أن الذي يوزن هو الشخص نفسه، العامل نفسه، ويستدلون لذلك بحديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل السمين فيوضع في الميزان يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة) ويستدل له كذلك بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كان يجني للنبي صلى الله عليه وسلم الأراك، وقد كان رضي الله عنه وأرضاه دقيق الساقين، وربما كشفت الريح عن ساقيه وفي بعضها أنها تكفأه الريح، فرأى الصحابة دقة ساقيه، فضحك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (مم تعجبون؟ قال الصحابة: يا رسول الله! نضحك من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهما لفي الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد) . وبعض الطوائف ذهبت إلى أن الأعمال لا توزن أصلاً، وقالوا: لأن الأعمال أعراض وليست أجساداً، ولكن هذا اعتراض عقلي، وقاعدتنا في الأمور الغيبية التسليم لما ورد في النصوص، فلا مجال للعقل فيها أصلاً، والله قادر على أن يجعل الشيء الذي يسمى عرضاً أن يجعله شيئاً محسوساً كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرءوا القرآن ثم قال: فإنه تقدمه الزهراون البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو كطير صواف تحاج عن صاحبها) فكيف يكون هذا. هو عرض -قراءة قرآن- ومع ذلك تحاج له، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن حجة لك أو عليك، أي: تستفيد منه يوم القيامة، مما يدل على أن قول الذين قالوا: إن الأعمال لا توزن قول غير صحيح، بل هو مخالف لما دلت عليه النصوص. وجمع بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى جمعاً لطيفاً هنا، وقالوا: إنه لا مانع من أن توزن الثلاثة كلها، يوزن العمل، ويوزن العامل، وتوزن الصحف؛ لأن كل واحد منها قد دل عليه النص، ولا مانع من أن يحدث هذا الأمر كله، وهذا هو الذي يرجحه شيخنا العلامة، وقد أومأ إليه الإمام حافظ الحكمي، وجمع بعض العلماء رحمهم الله تعالى إيماءً إلى أن النصوص كلها ورادة، ولا تعارض بين هذه الأقوال. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 4 ماهية الميزان مسألة: الميزان هل هو حسي أم معنوي؟ الصحيح أن الميزان حسي وليس ميزاناً معنوياً، وقد وردت أحاديث تبين أن هذا الميزان له لسان وكفتان، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، ثم يوزن الإنسان أو عمله أو الصحف التي وردت، فأصبح هذا الميزان حسياً وليس معنوياً، وبعض الذين لا يقبلون هذه النصوص ولا يؤمنون بها كما سيأتي أن المعتزلة أنكرت قضية الوزن أصلاً، وقالوا: الله عالم بهذا الأمر فلا يحتاج إلى قضية الميزان، ولكن هذا الكلام باطل؛ نظراً لمخالفته لما دلت عليه النصوص، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [الأنبياء:47] {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:6-7] ويأتي في المقابل: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:8-9] دل على أن الوزن للحسنات وللسيئات. الميزان للإنس والجن سواء، وليس خاصاً بالإنس وحدهم، والسبب في ذلك إذا ذكرنا الحكمة من الوزن يتبين أن من الحكمة إظهار عدل الله تعالى، وأنه لا يظلم عنده أحد أبداً، والله قد قال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7] مثاقيل الذر تعملها تجدها أمام عينيك، وعلى العكس أن مثاقيل الذر من الشر ستجدها أمام عينيك لن تظلم إطلاقاً، مما يدل على أن هذا الخطاب للإنس وللجن سواء، والله سبحانه وتعالى هو العدل الحكم سبحانه، وإن لم يحدث لكن بإقامة الحجة على الناس. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 5 وزن أعمال الكفار مسألة: هل توزن أعمال الكفار أم لا توزن؟ الجواب: اختلف العلماء فيها، فمن العلماء من قال: إنها لا توزن أصلاً، ولا حاجة لوزنها، قالوا: لأن الكفار ليس لهم أعمال توزن، والله يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} [الفرقان:23] خاصة من الأعمال الصالحة {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] لا يستفيدون منها شيئاً، فما دامت هباء منثوراً، فلا يستفيد الكافر منها شيئاً، فما الذي يوزن، كله سيئات فهو يقحم في النار مباشرة. ومن العلماء من قال: إنها توزن وإن لم يكن له شيء من الحسنات إلا أن سيئات الكفار تختلف ويختلف الناس فيها، فمن الناس من سيئاته أعظم وأكبر من غيره، فهذا يجعل له عقوبة أشد، ومن الكفار من تكون عقوبته أقل كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب، حيث أنه عمل أعمالاً فخفف عنه العقوبة يوم القيامة، ولهذا ذكر الإمام ابن القيم تنبيهاً لطيفاً، وأظن أنه ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، من التنبيه الذي ذكره قال: إن مشروعية جهاد الكفار حتى ولو أدى إلى قتلهم هذا من رحمة الله تعالى بهم، حيث أنهم لو عاشوا لازدادوا في السيئات والذنوب، فيقحمون في النار أكثر، وتزداد عقوبتهم حتى لو أدى إلى قتلهم، فدل على أن وجود الوزن أن هؤلاء وهؤلاء يوزنون ولكن شتان بين ميزان أهل الإيمان وميزان الكفار. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 6 صفة الميزان مسألة: ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في صفة الميزان أنه ميزان حقيقي ذو كفتين وله لسان، وذكر بعض أهل العلم صفات الميزان وسعته وشكله، وأمور نحن في حاجة إلى نص ثابت من كتاب وسنة ولم نجد، ولكن نثبت الميزان ونعرف مدلوله ومعناه، ونقول: إنه ميزان حقيقي، وأما التفاصيل فلا عبرة إلا بنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 7 عدد الموازين مسألة: اختلف العلماء في الموازين، هل هي ميزان واحد أم أنها موازين متعددة؟ فبعض أهل العلم يقول: إنها ميزان واحد، وهذا لجميع الأمم كلها، وتأتي مسألة: كيف توزن الأعمال كلها وهو ميزان واحد؟ نقول: هذه من الأمور الغيبية، وقاعدتنا في الأمور الغيبية أننا لا نحكم الذهن فيها أبداً، ونسلم أن هناك ميزاناً توزن به أعمال العباد. والقول الثاني: أن لكل أمة ميزاناً. والقول الثالث: أن لكل واحد من المكلفين ميزاناً خاصاً به، وهذا القول نقل عن الحسن البصري رحمه الله تعالى. وذكر بعض أهل العلم لما قال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:102] قال: هناك موازين للأعمال، وموازين للأقوال، وموازين للاعتقادات، وهذه تفاصيل تحتاج إلى نصوص تفصل تلك وتبينها، والأصل أننا نثبت الموازين ونثبت الميزان، والتدقيق والتفصيل فيه يحتاج إلى بينة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 8 الحكمة من نصب الميزان يوم القيامة عندنا من المسائل المتعلقة بالميزان: الحكمة من قضية الوزن، مع أن الله سبحانه وتعالى مطلع على أعمال العباد وعارف بها، فلماذا إذاً توزن هذه الأعمال مع أن الله سبحانه وتعالى عالم بهذه، ذكر العلماء رحمهم الله تعالى الحكمة فيها، منهم من قال: تعريف العباد بما لهم من الجزاء والأعمال، ولو سئل كل واحد منا الآن: اذكر السيئات التي عملت فقط؟ قد لا نذكر إلا الجرائم العظام فقط، وما عداها من السيئات ننساها، فجيء بالميزان لأجل أن يرى الإنسان ما عمله من بداية تكليفه إلى أن توفي، يراه أمام عينيه، ولهذا جاء في قوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] سبحانه وتعالى، فيُعرِّف الله تعالى عباده بما عملوه من خير أو شر. ومنهم من قال: لإظهار عدل الله سبحانه وتعالى, وأنه الحكم العدل، وأن الناس لن يظلموا عنده أبداً: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] أي: أن الله سبحانه وتعالى لن يضيع الإنسان. ومن العلماء من قال: إن الناس لو دخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار، لقال صاحب الجنة: إني دخلت هذه بما قدمت من الأعمال والدرجات وغيرها، وأنا أستحق بعملي، ولقال العاصي عند ذلك: إني دخلت هذه النار بسبب أني قد أكون ظلمت، وقد أدخلت هذه النار بسبب أعمال لا تستحق، لكن إذا جعلت الموازين، والناس يشاهدون هذا الوزن، ويرون الصغير والكبير يعرض، يطمئن الإنسان بعدها، فمن دخل الجنة -ونسأل الله أن نكون من أهلها- فرح وسعد، ومن دخل النار -نعوذ بالله منها- يكون قد علم أنه إنما دخل ذلك بسبب ما قدمت يداه في هذه الحياة الدنيا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 9 مسائل متعلقة بالحوض ذكرنا أن الحوض هو مجمع الماء، وبالنسبة للحوض هنا فإن المؤلف رحمه الله تعالى أراد أن يثبت حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وحوضه صلى الله عليه وسلم ثابت في الكتاب والسنة، وقد دلت عليه النصوص الكثيرة، وذكر العلماء أنه قد روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، تصل إلى بضع وخمسين حديثاً عن الصحابة منهم الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم وأرضاهم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 10 أدلة ثبوت الحوض مسألة الحوض وإثباته قلنا: النصوص صريحة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الصحيحين وغيرهما أنه قال: (حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه -أي: كئوسه- كنجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً) وهذا الحديث ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما يدل على أن هذا وارد وثابت، وذكر بعض أهل العلم أنه يشهد له قول الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:1-2] فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أغفى إغفاءة، ثم أفاق صلى الله عليه وسلم وقرأ على الصحابة هذه السورة وهو يتبسم، وذكر العلماء أن هذه تدل على الحوض، والمفسرون رحمهم الله تعالى في كتب التفسير يذكرون الحوض عند هذه السورة، وإن كان بعض العلماء يقول: إن الكوثر هو الخير الكثير، ومن الخير الكثير الذي أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الحوض، بل هو من الأمر العظيم الذي يجب الإيمان به والتسليم له. قضية الحوض وإثباته نقول: الناس يردون على حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وورود الناس على حوض النبي صلى الله عليه وسلم بسبب الظمأ الذي يصيبهم، ويقف النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (أنا فرطكم على الحوض) أي: مقدمكم، وينادي النبي صلى الله عليه وسلم أمته لأجل أن يأتوا إليه، ويصبح النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يناول هؤلاء القوم، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً، والنبي صلى الله عليه وسلم وهو عند الحوض يقف فيجد أناساً تفد إلى الحوض ومع ذلك الملائكة تجذبهم فلا يأتون إليه، فيقول: (أصحابي أصحابي) ينادي ربه: هؤلاء أصحابي، فيقال له: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) بمعنى: أنهم غيروا ما كنت عليه من المنهج، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سحقاً سحقاً) أي: بعداً بعداً لهؤلاء القوم الذين غيروا ما جئت به، ونعوذ بالله أن نكون ممن يذاد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 11 تعدد الأحواض يوم القيامة هل الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم أنه عام؟ الجواب: ورد أن لكل نبي حوضاً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني لأرجو أن أكون أكثرهم وارداً) أي: أن محمداً صلى الله عليه وسلم يكون أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وارداً للحوض، ولا شك أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر الأمم إسلاماً وصلاحاً واستقامة، وبهذا يكون نبينا صلى الله عليه وسلم هو أكثر الأنبياء وروداً لحوضه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 12 صفة الحوض وورد في صفته أن طوله شهر، وعرضه شهر، وآنيته كعدد نجوم السماء، مما يدل على سعته، ودل على أنه يرده الناس وروداً، أي: يزدحم الناس حول هذا الحوض، وليس غريباً أن يزدحم الناس على هذا الأجر العظيم، والسبب أن ثمرته عظيمة، بل يعتبر هذا جزءاً من نعيم الله تعالى يوم القيامة، فإن من أعظم النعيم دخول الجنات, وأعظمه رؤية الرب سبحانه وتعالى، ولكن من النعيم أن يشرب الإنسان من هذا الحوض العظيم. ويعتبر الحوض من أحداث يوم القيامة، والمراحل التي يمر بها الإنسان أربع مراحل: المرحلة الأولى: الدنيا. المرحلة الثانية: البرزخ. المرحلة الثالثة: البعث. المرحلة الرابعة: إما جنة أو نار. وبذلك نعلم أن هذا من الأحداث المتعلقة بيوم القيامة، ويشرب الإنسان منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 13 موقع الحوض مسألة: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى هل الحوض قبل الصراط أم الصراط قبل الحوض؟ فالذين قالوا: إن الحوض قبل الصراط، قالوا: إن الناس يخرجون من قبورهم، ويقفون في الموقف العظيم في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، والله ذكر عن حالهم من نزول العرق والشدة التي تصيبهم، فيظمئون، فيحتاجون بعد هذا التعب إلى أن يشربوا من الحوض. والقول الثاني: أن الحوض بعد الصراط؛ وذلك لأنهم بمرورهم على النار فيظمئون، ولاشك أن الإنسان إذا مر على مناطق حارة احتاج إلى ماء. وبعض العلماء قال: إنه لا مانع من أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضين لا حوضاً واحداً، ويكون هذا الحوض قبل وبعد، وممن أومأ إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله، ولكن قوله غير صحيح؛ لأنه يظهر أنه أجال عقله في أمرٍ غيبي، قال: ظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة لينصب من ماء الجنة، أي: لا شك أن الحوض من أين يوجد الماء فيه؟ قالوا: إنه يصب فيه ميزابان من الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، والكوثر في الجنة والنتيجة لو كان قبل الصراط لأصبح الميزابان يمران على الصراط وعلى النار ثم يصب من هناك، قال: لا، هو يكون بعد الصراط، ولكن هذا الأمر إجالة للعقل في أمر غيبي، والله قادر على كل شيء، ولا حاجة لأن يستبعد أن الميزابين يمران على النار أو لا يمران، فالله قادر على كل شيء سبحانه وتعالى، وهذا يعتبر من إجالة العقل في أمرٍ لا يمكن إجالة العقل فيه. نجد مكان الحوض يكون على وجه الأرض، ويكون في الأرض المبدلة: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم:48] أي: أنه يكون في الأرض التي قلنا: إنها كالفضة، وهذه نثبتها بناءً على أنها من أحداث يوم القيامة. ذكر شيخ الإسلام وغيره أن الذين يذادون عن الحوض هم المبدلون لدينهم، وذكروا منهم: الجهمية والخوارج والرافضة، هؤلاء يذادون عن الحوض؛ لأنهم بدلوا دين محمد صلى الله عليه وسلم وما كان عليه، وهؤلاء قد يقال لهم: إنهم ممن يذاد، وقد يدخل فيه الذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ممن أسلم، ثم ترك هذا الدين نعوذ بالله تعالى من هذا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 14 مسافة الحوض مسألة: وردت أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حوضه في الصحيحين: (ما بين صنعاء والمدينة) وفي بعضها: (ما بين عدن وعمان) وفي بعضها: (ما بين المدينة إلى بيت المقدس) إلى غيرها، فلماذا ورد الاختلاف فيه؟ الجواب: بعض العلماء: ورد باعتبار المسير، فبعضه على أجاود الخيل، وبعضه على أقل. وبعضهم يقول: ليس المقصود من ذكر هذه المدن حصر المسافة، وإنما لبيان اتساع الحوض، واتساع عرضه، وأنه حوض عظيم، ومسافته كبيرة، وهذا يدل على فضل الله الواسع في هذا الحوض العظيم. وذكر العلماء رحمهم الله تعالى في أثرٍ رواه أبو داود يثبت الحوض في قصة لأحد الصحابة وهو أبو برزة رضي الله عنه وأرضاه، ذكروا أنه بُعِثَ إليه عبيد الله بن زياد يسأله عن سؤال، ولعله كان ساخراً في سؤاله، وما كان يريد قبول الحق، وجاء يسأله عن قضية الحوض، قال: إنما بعثت إليك لأسألك عن الحوض، هل سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئاً؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثاً ولا أربعاً ولا خمساً، أي: في سماعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن كذب به فلا سقاه الله منه، ثم خرج رضي الله عنه مغضباً؛ لأنه كان غير قابل للحق ولا مريداً له، ولا شك أن بعض المبتدعة ينكر قضية الحوض، وإنكار الحوض قول باطل لا نسلم به بوجه من الوجوه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 15 مسائل متعلقة بالصراط ثم قال الناظم رحمه الله: وكذا الصراط يمد فوق جهنم فموحد ناج وآخر مهمل نعوذ بالله أن نكون من المهملين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 16 تعريف الصراط قول المؤلف: (وكذا الصراط) الصراط هو الطريق، قالوا: يجوز أن يكون بالصاد وبالسين، سراط وصراط، وورد في قراءة: (اهدنا السراط) وورد بالزاي (اهدنا الزراط) وهي لغة، فيه، وهي قراءة متواترة، قرئ بها في السبع، والصراط هو طريق واضح، فإذا قيل: هذا صراط أي: طريق واضح لمن سار عليه أياً كان هذا الوضوح، واضح في الحق أو في الضلال، ولكنه حين يطلق الصراط المستقيم لا يطلق إلا على ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام. مسألة: هل الصراط كلمة عربية أم أنها معربة؟ لسنا بصدد الكلام عليه، بعضهم يقول: الصراط هو باللغة الرومية، ويطلق على الطريق، ولكن الصحيح أنها كلمة عربية وليست كلمة معربة، وإن كنا قد نقول: قد تكون هذه كلمة تستعمل عند العرب وعند العجم. (أل) التعريفية عندما قال المؤلف: (وكذا الصراط) للعهد الذهني، ويكون المقصود منها هو الطريق الذي يمشى عليه يوم القيامة، وذكر العلماء رحمهم الله تعالى في تعريف الصراط شرعاً: بأنه جسر ممدود على متن جهنم يرده الأولون والآخرون، فهو قنطرة، على جهنم وهو بين الجنة والنار، وخلق من حين خلقت جهنم، نعوذ بالله من النار. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 17 الصراط عدده ومن يمر عليه مسألة: هل الصراط واحد أم أنه متعدد؟ الجواب: الصحيح أنه صراط واحد، وأن الناس يمرون عليه على قدر أعمالهم في هذه الحياة الدنيا، ويصبح الناس على قدر ما قدموا في هذه الحياة الدنيا يمرون عليه. مسألة: هذا الصراط هل يمر فيه المؤمنون والكفار أم أنه خاص بالمؤمنين وحدهم؟ الصحيح أنه لا يمر عليه إلا أهل الإيمان. لكن أين الكفار؟ الجواب: يردون إلى النار فيقحمون مباشرة، لا يحتاجون إلى شيء أصلاً يمرون عليه، ولا لأجل أن يتجاوزوا، أما أهل الإيمان فهم الذين يمرون، فمخدوش وناج، ومن يمشي مدة طويلة ومن يمشي سريعاً، ويصبح الناس يمرون على قدر أعمالهم في هذه الحياة الدنيا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 18 صفة الصراط وصف العلماء رحمهم الله تعالى هذا الصراط بأنه أدق من الشعر، وأحد من السيف، وأحمى من الجمر، وأنه دحض مزلة، وأن الناس يمشون على اختلافهم، فمن الناس من يمشي واقفاً، ومن الناس من يمشي جاثياً، ومن الناس من يمشي على وجهه، فقال الصحابة: (يا رسول الله! كيف يمشي على وجهه؟ قال: إن الذي أمشاه على قدميه قادر على أن يمشيه على وجهه) ونعوذ بالله أن نكون من قوم يمشون على وجوههم يوم القيامة. والأحاديث الواردة في هذا كثيرة، فقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: [بلغني أن الجسر أدق من الشعر، وأحد من السيف] وهذا هو أصح ما ورد في الصفة. وقال العلماء: إن هذا لا يقال بمجرد الرأي، فإنه أمر غيبي، ولعله لم يقله أبو سعيد رضي الله عنه إلا عن أثرٍ سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 19 كيفية مرور الناس على الصراط الناس الآن في مرورهم يمرون على اختلافهم، فمن الناس من يمر كالبرق، ومنهم كالريح، ومنهم كأجاود الخيل، ومنهم كأجاود البهائم، ومنهم من يمر كأسرع الناس مشياً، ومنهم من يحبو حبواً على اختلافهم، ويقولون: إن دعوى الملائكة عند مرور العباد: اللهم سلم سلم، قالوا: وكذلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقولون: اللهم سلم سلم، يسألون أن يسلم هؤلاء الذين يمرون، لما يرون من تخطف الكلاليب للناس وهم في حال مرورهم، الإنسان يمشي والكلاليب تختطف الناس وترميهم في النار نعوذ بالله من النار، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر آخر أهل النار مروراً، ويصبح الناس مرورهم معهم من النور بمقدار ما عملوا في هذه الحياة الدنيا، بقدر ما عملت يعطيك الله نوراً، فمن الناس من نوره كالشمس، وقد روي في بعض الآثار أن من الناس من تقول له النار: [يا مسلم جز فإن نورك قد أطفأ لهبي]] ومن الناس كالقمر، ومن الناس كأضوأ كوكب دري، ومن الناس من يحمل نوره معه، ومن الناس وهم آخر أهل الجنة دخولاً من يكون النور في إبهام قدمه فقط. ونحن نعلم أن النار سوداء مظلمة، وإذا كانت سوداء وعندنا كذلك دحض ومزلة وأدق من الشعر تحتاج إلى إضاءة كبيرة جداً حتى تمر، فكيف إذا كان الإنسان يمر بنور في إبهام قدمه، ويمشي هذا الرجل الذي هو آخر الناس يمشي على هذا الصراط، وسبحان الله! لا يمشي قليلاً إلا ويسقط، ويتعلق بيده، ثم بعد ذلك يصعد، ومع مشيه المتأخر يمشي قليلاً قليلاً والنار تلفحه يمنة ويسرة، وكلما مشى قليلاً سقط وتعلق باليد الثانية ثم برجله ثم بيده وهكذا، وهو يسأل ربه أن ينجيه من النار، قالوا: حتى إذا انتهى وأنجاه الله التفت إلى النار وقال: الحمد لله الذي نجاني منك، يحمد الله على هذه النعمة. ونحن نعلم من وصلت إليه النار يحتاج إلى أمرين: 1- ظل وارف يبرد على جسده من الحرارة التي أثرت عليه. 2- ماء يشرب ليبرد جوفه، قالوا: فيخلق الله له شجرة وتحتها ماء، وهو قد قال: اللهم نجني من النار، فينظر إلى الشجرة وإلى الماء، فيسأل ربه: اللهم أوصلني إلى هذه الشجرة ويدعوه، فيقول الله: ألم أنجك من النار، ألم يكن مطلوبك من قبل مجرد النجاة فنجوت؟ ويلح على ربه، فيوصله الله إلى هذه الشجرة، فيشرب من الماء ويستظل، قالوا: فيخلق الله شجرة أحسن منها، وماء أطيب، فينظر إليها فيقول: يا رب! أريد أن تنقلني، فيقول الله: ألم آخذ عليك المواثيق ألا تطلب غيرها، ما أغدرك يا ابن آدم، فينقله الله ويأخذ عليه المواثيق، ثم يخلق الله شجرة أحسن منها، ولعلها عند باب الجنة، ثم يسأل ربه ويلح ويعرف أنه عند باب الجنة، يسمع كلامهم وينظر إلى ما هم فيه من النعيم، ويسأل ربه ملحاً فينقله الله إلى تلك، ثم إذا وصل إليها وجلس قال: رب أدخلني الجنة. الآن يطلب أن يدخل، وكان مطلوبه من قبل النجاة من النار، ولكنه يعلم أن له رباً يرحم عباده ولا يضيعهم سبحانه وتعالى، فيقول الله له: أترضى أن أعطيك مثل الدنيا ومثل ملكها؟ فيقول هذا المسكين: يا رب! أتسخر مني وأنت رب العالمين! فيضحك الجبار سبحانه وتعالى، فيقول: لك مثل الدنيا وعشر أمثالها. إذا كان هذا آخر أهل الجنة دخولاً فكيف بمن كان مع النبيين والصديقين والشهداء؟!! مما يدل على فضل الله الواسع. نحن في واقعنا الآن نقتتل من أجل قطعة صغيرة، من أجل جمع مال صغير وغيره، ويحصل من المشقات والتعب، وأقل أهل الجنة دخولاً وآخرهم هو من يعطى مثل الدنيا عشر مرات، وهذا من فضل الله الواسع الذي يعطيه الله من يشاء سبحانه وتعالى، ولهذا وجب على المسلم أن يحرص أشد الحرص على الأعمال الصالحة؛ ليجوز هذا الصراط. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 20 اختلاف الناس في إثبات الصراط العجب من المعتزلة أنهم أنكروا، ولم يثبتوا الصراط، وهؤلاء المعتزلة ما جاءهم من أمر إلا ووقفوا في وجهه غير قابلين له، وبمجرد إمراره على العقل فلا يثبتونه، وهذا لا شك من جهلهم وخرافاتهم. مسألة: اختلف الناس في المراد بالصراط؟ القول الأول: قول أهل السنة: وهو إثباته على ظاهره، وأنه جسر ممدود على جهنم يمر الناس منه. القول الثاني وهو قول المعتزلة: وهو إنكار الصراط، وقالوا: لا يمكن عبوره أبداً، وجاءوا بعقولهم، قالوا: أدق من الشعر، وأحد من السيف، ودحض مزلة، كيف يعبر الناس هذا؟ ثم إن من يمر عليه، الله قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] يصبح المؤمنون كلهم يمرون عليه، قالوا: وإذا كان المؤمنون سيمرون فهذا تعذيب لهم، والمؤمنون حقهم الجنة، فلماذا يعذبون؟ بمجرد إجالة العقل فقط، وهذا كلام باطل. ومن العلماء من قال: المراد بالصراط هي الأدلة الواضحة، ولا شك أن هذا الكلام باطل غير صحيح، وذكر بعض أئمة أهل السنة كـ القرافي ونقل عن العز بن عبد السلام كذلك: أنه لا يمكن أن يكون أحد من السيف وأدق من الشعر وغيره، وإنما الصراط عريض يمر الناس منه، ولكن نقول: ما ورد من حديث أبي سعيد رضي الله عنه في صحيح مسلم يدلنا عليه، فوجب أن نثبته إثباتاً كاملاً. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 21 نصب الصراط فوق جهنم قول المؤلف: (يمد) المد: هو: الجذب والطول، ومنه مد الحبل، أي: جذبه وغيره، وكون الصراط يمد على جهنم أي: يجعل من جانبها هذا وجانبها هذا، ويصبح الناس يمرون عليه. وقوله: (جهنم) مأخوذة من الجِهنام، وهو القعر البعيد، قالوا: وبئر جهنم، بعيدة القعر وبه سميت جهنم لبعد قعرها، أي: أنها عميقة جداً، وجهنم تعتبر من أسماء النار التي يعذب الله بها عباده المستحقين لها، وسيأتي في قضية النار أنها طبقات، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع وجبة، فلما سئل عنها أجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الوجبة -أي: هذا الصوت- حجر ألقي من أعلى جهنم منذ سبعين عاماً والآن وصل إلى قعرها، أي: وصل إلى قعر هذه النار، نعوذ بالله أن نكون من أهل النار. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 22 حال الموحدين والمهملين أثناء المرور على الصراط قوله: (فموحد) الموحد: هو من يعتقد أن الله تعالى واحد في ألوهيته، وواحد في ربوبيته، وواحد في أسمائه وصفاته، ومن أتى بهذا التوحيد وبأقسامه الثلاثة فهو الذي ينجو يوم القيامة، وأما من عداهم فإنهم يقحمون في النار على مقدار أعمالهم، فمن الناس من لهم الخلود، ومن الناس من يدخلون ثم يخرجون منها، وهذا في عصاة الموحدين وفي المشركين الشرك الأصغر والكفر الأصغر. قوله: (ناج) قال في لسان العرب: ناج مأخوذ من النجاة وهي الخلوص من الشيء، وقول الله تعالى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [العنكبوت:33] أي: نخلصك من العذاب وأهلك، أي: لا تصاب بشيء. (وآخر) قال في اللسان: الآخر بمعنى الغير، هذا رجل جاء رجل وآخر، أي: غير الأول، وقالوا: معنى غير كقولك: رجل آخر وثوب آخر، ويشهد له قول الله تعالى: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} [المائدة:107] والآخر: هو اسم من أسماء الله تعالى كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) الآخر أي: هو اسم من أسماء الله. قوله: (مهمل) قال في اللسان: (المهمل) أي: أمر مهمل، متروك ولا ينظر إليه، والإهمال أي: تركه، بمعنى: أنه يترك في النار ويقحم فيها، ويقال: أهملت الشيء خليت بينه وبين نفسه، ولهذا يقال: هذا فلان مهمل، أي: لا يحرص على دروسه، ولا يقرأ، ولا يتابع، ولا يستفيد، ولا غير ذلك، ونسأل الله أن نكون ممن يرد حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وممن يمر على الصراط فينجو منه. ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 23 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس السادس عشر) الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، وهو يستلزم الإيمان بوجود الجنة والنار، وإنهما لا تفنيان، وأن الكفار سيعذبون في النار لا يموتون فيها ولا يحيون، وأكثر أهلها النساء، أما عصاة الموحدين فسيعذبون فيها ثم يخرجون برحمة الله، وقد خلق الله للنار خلقاً وللجنة خلقاً، ولكل واحدة ملؤها، كل ذلك بحكمة أحكم الحاكمين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1 مصير الأشقياء والأتقياء الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والنار يصلاها الشقي بحكمة وكذا التقي إلى الجنان سيدخل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 2 معنى النار (أل) في لفظة (النار) للعهد، ويقصد بها النار التي توعد الله سبحانه وتعالى بها من خالف شرعه ودينه من الكفار والمشركين، ومن عصاة المؤمنين، ولا يقصد بها نار الدنيا، فإنها ليست المرادة في قول الناظم رحمه الله تعالى، وإن كانت نار الدنيا جزءاً من نار الآخرة -نعوذ بالله- وقد أمر الله باتقاء النار في غير ما آية، وحذر منها، وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من النار، وذكر المؤلف رحمه الله تعالى أن النار التي توعد الله بها إنما يصلاها الشقي. قال في اللسان في كلمة (يصلاها) يقال: أصلاه النار أي: أدخله إياها، وكأن النار يدخلها الأشقياء، يقال: صلي فلان بالنار يصلى صلياً أي: احترق، والله يقول: {هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً} [مريم:70] أي: أن الكفار أولى من يدخل هذه النار. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 3 من هو الشقي (الشقي) في اللغة مأخوذ من الشقاء والشقاوة، وهو بالفتح ضد السعادة، والشقي هو المتلبس بالشقاء والشقاوة، ويقصد بها في سوء حاله وشره، وسميت الشقاوة بمعنى نكد العيش فإذا كان الإنسان متنكداً في عيشه، سمي هذا الشخص شقياً. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 4 معنى الحكمة وقوله: (بحكمة) الحكيم: هو فعيل من أحكم، يقال: أحكم الإنسان هذا الشيء إذا أتقنه أي: أحاطه من الخلل، بمعنى أنه لا يقع فيه زلل ولا نقص، وأصل مادة (حكم) في كلام العرب مأخوذة من المنع، من الفساد والخلل، وقال: ومنه حكمة الدابة، أي: أن الدابة يوضع في فمها لجام ويصبح الفارس يحكمها، فلا تميل يمنة ولا يسرة، بمعنى: أنه يضبطها في سيرها وفي مشيها، والحكيم بمعنى: المتقن للأمور كلها، ولذلك يقال: إن الله سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين، ويعتبر من أسمائه الحكيم، ومن صفاته كذلك أنه الحكم والحاكم سبحانه وتعالى، وهو الذي يحكم الأشياء ويتقنها، وقيل: إن الحكيم بمعنى ذو الحكمة، و (الحكمة) هي: معرفة أفضل الأشياء، وقيل: إن الحكيم بمعنى الحاكم، وقالوا: الحاكم هو القاضي. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 5 الحكمة في دخول الأشقياء النار بين المؤلف رحمه الله تعالى أن النار يصلاها الشقي، وكون الشقي يصلى هذه النار لم يصلها عبثاً، ولم يصل هذه النار ظلماً له، وإنما بحكمة قد تبدو للناس وقد لا تبدو لهم، وإن كان الشقي يدخل النار فحكمته واضحة لإظهار عدل الله سبحانه وتعالى، فالله يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35-36] أي: أنكم تأتون بشيء من عند أنفسكم، ولذلك ميز الله أهل الحق من أهل الكفر، وأن أهل الحق في الدنيا على إيمان وصلاح واستقامة وفي الآخرة مثلها، وإن كان بعض الناس قد لا ينظر إليه إلا نظرة ازدراء، والله قد قال: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] ولكن أهل الإيمان يوم القيامة هم الذين يضحكون من الكفار، والسبب: هو ما يحدث من بيان حكمة الله تعالى فيما يجريه الله على عباده في الدنيا، وما يثيبهم الله في الآخرة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 6 معنى التقي قول الناظم: (وكذا التقي) قالوا: التقي مأخوذ من التقوى، ويقال لك: خذ هذا أي: اتق بهذا الشيء، إذا أردت أن تحمل شيئاً حاراً تجد الناس يفزعون، خذ هذا لتتقي به حرارة النار، وكأن التقي عمل أعمالاً في هذه الحياة الدنيا تقيه من عقوبة الله يوم القيامة، ولا تقوى للإنسان من نار الله يوم القيامة إلا بالعمل بطاعة الله تعالى، فمن لا يعمل بطاعة الله تعالى لن يجعل بينه وبين عقوبة الله تعالى وقاية. نجد أن التقي إلى أين؟ إلى الجنة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 7 معنى الجنة ذكر أن التقي سيدخل إلى الجنان، والجنان مفرد جنة، وقد تكلم العلماء في ألفاظ (الجنة والجِنة والمجن والجن) وكل هذه الألفاظ تأخذ معنى الاستتار، ولذلك يقال: المجن يستتر به المقاتل، والجن سموا جناً لأنهم يستترون عن الأعين، والجنة سميت جنة وهي البستان، وهي الحديقة ذات الأشجار الكثيرة الملتفة، وهذه تستر من دخل فيها، وتجد أن الإنسان إذا ذهب إلى حديقة ومعه أهله بحث عن شيء يستره من الأشجار الملتفة حتى لا يطلع عليه أحد، وهي دار النعيم التي أعدها الله لأوليائه، ونسأل الله أن نكون من أهلها، وهذه يوم القيامة، ولذلك قالوا: منه الاجتنان وهو الستر لتكاثف أشجارها والتفاف بعضها على بعض، وتظليلها لأهلها. قال: سيدخل التقي إلى الجنان، ومعنى الدخول: هو نقيض الخروج. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 8 قبول الحق والعمل بالعلم أنبه للأحبة تنبيهاً لطيفاً في أدب الطلب، ولعل هذا يكون هو آخر أدب: أولاً: قضية إبداء الملحوظات: يجب أن تكون صدورنا قابلة للحق، ويصبح ديدن المسلم دائماً الرجوع إليه، ولا تأخذ المسلم العزة أنه قال قولاً لا يمكن الرجوع عنه، أبداً، بل يرجع الإنسان؛ لأن المقصود هو الوصول إلى الحق، وليس المقصود أن يكون ما قاله الإنسان لابد أن يكون حقاً، ليس شرطاً. ولهذا قالوا: إن الرجال يعرفون بالحق وليس الحق يعرف بالرجال، وإذا وطن الإنسان نفسه على هذا الأمر كان ذلك خيراً له في الدنيا والآخرة، وسبحان الله! من أعظم ما وجدت أي: على ضوء معيشتي مع مشايخنا سماحة شيخنا العلامة، أن شخصيته فريدة، ومتميز بصفات من أندر ما تجدونها في الدنيا، ولعل من الأمثلة عليها قضية الرجوع، وأذكر من اللطائف أنه منذ أكثر من عشر سنوات أفتى سماحة شيخنا بفتوى، وجاء أحد الطلاب يسأله وقال: يا شيخ! أنت ذكرت هذا، ويوجد حديث كذا، فنظرت إليه ولعله في المتوسط أو في الثانوي ولم يجاوزها، فقال الشيخ حفظه الله، بعد أن أورد الحديث: ائت بالحديث وإذا صح رجعنا عما قلناه. أحدنا لو اعترض عليه صغير أو كلمه، قال: هذا طفل وهو لا يفقه شيئاً، أو أخذ الإنسان يلف يمنة ويسرة، وقال: المسألة خلافية، ولعلنا نرجح كذا، لا، بل المسلم ديدنه أن يبحث عما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك يلتزم به. الأدب الذي أحب أن أنبه عليه وقد نبه عليه العلماء رحمهم الله تعالى، وهي قضية العمل بالعلم، إن الأحبة عاشوا في هذه الأيام أجواء مليئة بالعلم، يقول السلف: [هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل] وجاءت الآيات تبين: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] ويقول نبي الله شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] وقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63] {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] ذكر العلماء في تفسير (ربانيين) : بأنهم الذين يعلمون ويعملون. ومن اللطائف في طلب العلم، وإن كنا نذكر أمثلة عليها: اتصلت على سماحة شيخي منذ أربعة أيام أستفتيه في مسألة، وهو في الطائف وأنا في الرياض، وعندما اتصلت سلم علي حفظه الله، ثم إذا بي أسمع المؤذن عندهم في الطائف، ثم قال لي: انتظر، إن المؤذن يؤذن؛ لأجل الإجابة، ثم بعد ذلك سل ما بدا لك، فقلت: سبحان الله! لو اتصل عليك أحد من هنا وهناك هذا وقت، وجلست أنتظر في المكالمة أردد مع مؤذن الطائف، والشيخ يردد كذلك، فقلت: سبحان الله! انظروا مثالاً عظيماً على قضية التطبيق والامتثال، وأن الإنسان ينبغي له أن يكون من أحرص الناس على التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم. وزرت أحد مشايخي الكبار وكان عندي سؤال، وحدثته بالقصة، سبحان الله! ويؤذن المؤذن وكنت أتكلم، قال: طبق، سمعت. وسكتنا، فقال: سبحان الله! كم من مرة نسمع ولا نجيب، ولكن ما تميز به هذا العالم العجيب بقضية التأسي وسرعة التطبيق، ولهذا نقول: سبحان الله! فيما أعرفه عن هذا العلامة أنه ما ثبتت عنده سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا طبقها، لا في أذكار ولا في أوراد، ولا في دعاء استفتاح، ولا في غيره من العبادة، لا تصح عنده سنة إلا نفذ، ولهذا أقول: رفع الله شأنه، وأعلى منزلته، وأعظم أجره فيها، وجعله أنموذجاً للتأسي والقدوة، وحببه الله للناس، كله بسبب محبته لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقه لها. نجد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، ومنها: عن علمه فيم عمل به) وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى حديثاً في صحيح مسلم، ويسمى من المسلسلات، ومنها: حديث مسلم نذكره بسنده، قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: حدثنا أبو خالد، عن داود بن أبي هند، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن عوف، قال: حدثني عنبسة بن أبي سفيان في مرضه الذي مات فيه بحديث يتسار إليه، قال: سمعت أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بنى الله له بهن بيتاً في الجنة) نجد الآن التطبيق العملي، قالت أم حبيبة: [فما تركتهن منذ أن سمعتهن من النبي صلى الله عليه وسلم] قال عنبسة الراوي عن أم حبيبة: [فما تركتهن منذ أن سمعتهن من أم حبيبة] قال: عمرو بن عوف الراوي عن عنبسة: [فما تركتهن منذ أن سمعتهن من عنبسة] قال النعمان بن سالم: "فما تركتهن منذ أن سمعتهن من عمرو بن عوف " مسلسل في التطبيق، ويدل هذا على أنه ينبغي للمسلم أن يكون حريصاً على تطبيق سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم علمه ورداً: (إذا أويتما إلى فراشكما فسبحاً) قيل لـ علي: ما تركت وردك؟ قال: [ما تركته منذ أن سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا له: ولا ليلة صفين -وقت المعركة- قال: ثكلتك أمك ولا ليلة صفين] مع وجود القتال ما نسيه. وأقول للأحبة: وكان في الذهن إعداد محاضرة كنت سميتها: (التأصيل والترقيع في واقعنا المعاصر) وكان هذا من الأدلة على إثبات التأصيل عند الصحابة رضي الله عنهم. أقول للأحبة: نحن ننطلق إلى سفر، ونصبح كلما صعدنا السيارة نقول للشباب: جزاكم الله خيراً لا تنسوا دعاء السفر، ونسافر معهم عشر سنوات ودائماً: لا تنسوا دعاء السفر، لا تنسوا أوراد الصباح والمساء، علي بن أبي طالب ما تركه بعدما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أبداً قال: [ولا ليلة صفين] وهكذا نجد أم حبيبة وغيرها سمع ولزم، وعرفت فالزم، أي: تمسك بهذا، وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به -أي: إذا ثبت عنده عمل به- حتى مر بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا قينة ديناراً، قال: فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت رضي الله عنه وأرضاه. ولذلك قال سفيان رحمه الله: من عمل بما يعلم كفي ما لم يعلم أي: يعلمه الله ويفتح الله عليه خيراً، إذا عرفت حفظ الحديث فاعمل به، قال الإمام ابن الجوزي ونختم به: لقيت مشايخ أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، يقول: الذي استفدت منه العامل بعلمه، وإن كان غيره أكثر علماً منه. هذا أدب وأمررناه على عجل، وننطلق إلى ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى من قضية النار -نعوذ بالله من النار- والجنة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 9 مسائل متعلقة بالنار وأهلها قال المؤلف رحمه الله تعالى: والنار يصلاها الشقي بحكمة بالنسبة للنار فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه النار داراً لأعدائه، وأعدها الله للكافرين والمنحرفين عن شرعه والمبتعدين، وتوعد الله بها العصاة، فالأصل أنها مقر للكفار، ولكن العصاة متوعدون بها، وتوعد العصاة بها ليس للخلود فيها، وإنما للدخول والتطهير، والله سبحانه وتعالى قد بين في غير ما آية ذكر النار وكذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد عن أولياء الله أنهم يقولون: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192] {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة:63] {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] وبين الله أنها: {لِلطَّاغِينَ مَآباً} [النبأ:22] {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [ص:56] . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 10 أدلة وجود الجنة والنار الآن الجنة يجب أن نثبت أنها موجودة الآن، ووجودها الآن قد دل عليه الكتاب والسنة، واتفق أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن، ولم يزل أهل السنة منذ القدم إلى قيام الساعة يثبتون وجودهما، ولا يقولون كما تقول المعتزلة، فإن المعتزلة تنفي وجود الجنة والنار الآن، ويقولون: إن الله ينشئها يوم القيامة، ولهم شبه باطلة في عدم إثباتهم للنار، ومن شبههم يقولون: إنها لو كانت مخلوقة الآن ولا ساكن لها، يكون وجودها عبثاً، والله منزه عن العبث، وهؤلاء مساكين قاسوا الله بخلقه فشبهوا أولاً، ثم عطلوا الرب سبحانه وتعالى عن هذه. ومن شبهتهم كذلك قالوا: إنها لو كانت موجودة ومخلوقة الآن لوجب أن تفنى يوم القيامة، والله يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] ويقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] دل على أنها تهلك يوم القيامة، فما الفائدة من وجودها؟! وهؤلاء من أجهل الناس، ما عرفوا المقصود في هذه الآية، والله يبين أن كل شيء هالك، أي: يبين أنه مما أراد الله هلاكه، وإلا فإن العرش لا يهلك، ومنها الجنة، وبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث أن الجنة موجودة، والدليل على وجود الجنة أحاديث كثيرة: (مر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج وإذا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، يقول: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، ثم أخبرهم أن الجنة طيبة التربة، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) بل إن من أعظمها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة) ونجد من الأدلة على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الجنة ورأى بها سدرة المنتهى، ووصف لنا السدرة: (يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها) . وأعظمه حديث ورد في قصة الكسوف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في صلاة الكسوف تقدم صلوات الله وسلامه عليه، وهو يمد يده الشريفة كأنه يتناول شيئاً وهو يتقدم، وتقدم الصحابة معه، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشيح بوجهه خائفاً، فرجع الصحابة، وسأل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن مد يده وتقدمه وعن تأخره؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (فتحت لي الجنة ورأيتها، وأردت أن آخذ عنقوداً من عناقيدها، ولو أخذته لأكلتم منه إلى قيام الساعة) دل على أن الجنة موجودة، وإلا لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سيأكلون منه إلى قيام الساعة، وسبب رجوعه صلى الله عليه وسلم أنه فتحت له النار، وخشي من وهجها ولهبها، ورأى بها النبي صلى الله عليه وسلم أناساً يعذبون ومنهم المرأة وكانت من بني إسرائيل، كان عندها هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض فماتت، فوجدها النبي صلى الله عليه وسلم تخمشها هذه الهرة عقوبة لها، فدل على أن الجنة والنار موجودتان الآن. وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (دخلت الجنة، ورأيت قصراً عظيماً، فقلت لمن هذا؟ قالوا: لرجل من قريش، قال النبي صلى الله عليه وسلم فظننت أنه لي، ثم أردت دخوله فقيل لي: إنه لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فاستحييت لما علمت من غيرة عمر) فبكى عمر عندما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، أعليك أغار! أعليك أغار! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة) والحديث المسلسل الذي سمعناه: (من صلى لله اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة) هذه النار لا شك في وجودها، وكذلك الجنة لا شك في وجودها. وبالنسبة للنار فإن النبي صلى الله عليه وسلم رآها ورأى أحوال الناس فيها، ونعوذ بالله من أحوال الزناة، وشرَّاب الخمر، وآكلي الربا وغيرهم، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم من حالهم ووصفه لنا كأنه يراهم رأي العين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) والسبب: أن النبي صلى الله عليه وسلم شاهد الجنة وشاهد النار رأي العين، ورآها النبي صلى الله عليه وسلم يحطم بعضها بعضاً. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 11 خزنة النار هذه النار -نعوذ بالله منها- لها خزنة، وهؤلاء الخزنة خلقهم عظيم، وبعثهم شديد: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] وذكروا بأنهم غلاظ شداد، ولذلك الغليظ الشديد ليس في قلبه شيء من الرحمة لأحد، وخلقهم الله بهذه الصفة حتى لا يسمع أو لا يتأثر ببكاء أهل النار، وبما يصيبهم من الشدائد، ولهذا سبحان الله! لو رأيت شخصاً يقام عليه القصاص، وسمعت بكاءه وصراخه وعويله، قد يرق قلبك لما تسمع، ولكن جعل الله هؤلاء الملائكة غلاظاً شداداً، حتى لا يوجد في قلوبهم رأفة لمثل هؤلاء، وبين الله سبحانه وتعالى لنا أن هؤلاء هم خزنة النار. وسبحان الله! ذكر هؤلاء الخزان وإذا عددهم: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] ويصبح عددهم في نظر الناس قليلاً، ولما سمع كفار قريش بهذا العدد جاء جاهل من هؤلاء وقال: أنا علي خمسة عشر؛ لأنه كان قوياً وكان بأسه شديداً، وأنتم عليكم كلكم أربعة، ولهذا قال الله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر:31] جعل الله تلك العدة فتنة، ويظن بعض الناس قلة العدد أنها دليل على أنه يمكن للإنسان الخلاص، وهؤلاء بمنظار عقولهم؛ لأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وإلا لو نظر الإنسان إلى قضية الملائكة وما عندهم، من أعظمهم ملك الجبال الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليطبق على أهل مكة الأخشبين، جبلين عظيمين يطبقهما، وبين النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود بسند صحيح، أنه قال: (أذن لي أن أحدثكم عن ملك من حملة العرش، ما بين شحمة أذنة إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) وكيف بالمخلوق الضعيف الصغير الحقير يعترض على هذا العدد، ويظن بأنه سيكون له شيء، ولهذا قال الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى: والمشهور بين السلف والخلف أن الفتنة إنما جاءت في ذكر عدد من الملائكة الذين اغتر الكفار بقلتهم، وظنوا أنه يمكنهم مدافعتهم وممانعتهم، ولم يعلموا أن كل واحد من هؤلاء الملائكة لا يمكن للبشر كلهم لو اجتمعوا عليه أن يفعلوا شيئاً أو يقاوموه، ولا شك أن هذا أمر عظيم، وسبحان الذي يقدر ما يشاء ويفعل ما يريد. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 12 مكان النار وسعتها أين توجد النار؟ اختلف العلماء على ثلاثة أقوال: القول الأول: من العلماء من قال: إن النار في الأرض السفلى، ويفسره بعض المعاصرين الآن، ولعلكم إذ تسمعون بعض من يتكلمون عن طبقات الأرض، يقولون: إن تحت هذه الكرة الأرضية ناراً، ويقصدون به تأجج البراكين الآن، البراكين تصهر الحجارة كلها، وتصبح مصهورة، وقالوا: إنها تحت الأرض وهي التي أعدت. القول الثاني: من العلماء من قال: إنها في السماء، واستدلوا لذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج رأى النار، وقالوا: إنها في السماء. القول الثالث: من العلماء من توقف في ذلك، وقال: لم يرد لنا شيء واضح في هذا الأمر، ولكن الواجب علينا أن نؤمن بوجود النار وأن لها مكاناً، لكن أهي في الأرض أم في السماء الله أعلم بهذا، ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى التوقف فيها، وعدم الجزم بالمكان لعدم الوضوح فيها. أما الجنة فالذي يظهر أنها في السماء، ويستدل لذلك وإن كان بعض أهل العلم توقف فيه، ولكن لا أدري ما السبب في التوقف؛ لأننا نجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنها أوسط الجنة وأعلاها، وسقفها عرش الرحمن) وعرش الرحمن في العلو في السماء، مما يدل على أن الجنة في السماء، أما النار فبعض العلماء توقف فيها ولم يجزم، وإن كان بعض المحققين يجزم بأنها في الأرض وليست في السماء. هذه النار سعتها عظيمة -ونعوذ بالله أن نكون من أهلها- ويظهر لنا سعة هذه النار في أمور متعددة: أولاً: لكثرة عدد الداخلين فيها، فقد ثبت أن الله يقول لآدم: (أخرج بعثاً من ذريتك إلى النار، فيسأل ربه كيف؟ فيقول الله له: أخرج من الألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحداً إلى الجنة) فإذا كان من أبناء آدم تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، يدل على أن العدد كبير جداً، ومكانهم كبير. ومنها كذلك: خلق أهل النار، فقد ثبت في صحيح مسلم أن (ضرس الكافر يوم القيامة في النار كمثل جبل أحد) كم له من الأسنان! وقالوا: وما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام، بل قالوا: إن غلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام، حجمه كبير جداً، والله سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء، وذكر العلماء هنا تنبيهاً لطيفاً، قالوا: إن تضخيم جسم الكافر حتى يزداد في العقوبة ويزداد ألماً، وتشتد عليه عقوبة الله تعالى. ومما يدل على ضخامتها وبعد قعرها: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وإذا بنا سمعنا وجبة -أي: صوتاً- فقال: أتدرون ما هذه؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار والآن وصل إلى قعرها) ونعوذ بالله من هذه. ومما يدل على ضخامتها ما يثبته أهل السنة والجماعة وإن كان المبتدعة لا يثبتونه، ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال النار يلقى فيها، ويقال لها: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ قال: فيضع فيها الجبار قدمه فينزوي بعضها على بعض -أي: تنطوي- فتقول: قط قط) أي: بعزتك وكرمك، أي: حسبي حسبي، الآن امتلأت مما يدل على سعتها، وهي تقول: هل من مزيد هل من مزيد؟ ومما يدل على ضخامتها كذلك: كثرة الملائكة الذين يسوقون هذه النار، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود: (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) أي: حتى يأتوا بها إلى الموقف، ونعوذ بالله أن نكون من أهل النار. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 13 أبواب النار هذه النار لها سبعة أبواب، قال سبحانه وتعالى في القرآن: {إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:43-44] ودل على أن هذه النار لها أبواب مستقلة، لكل باب جزء يدخلونه، ولعل ذلك على حسب ذنوبهم، وكل باب إذا دخله أهله فإنه يغلق عليهم، وقال العلماء: من الأبواب ما يغلق ولا يفتح، وهذا في حال الكفار وفي حال المشركين الملاحدة، ويدخل فيه المرتدون كذلك: الكفار، والمشركون، والمنافقون، كل هؤلاء يغلق عليهم الأبواب فلا تفتح أبداً، ويكون لهم الخلود في النار -نعوذ بالله منها- وهناك أبواب تفتح وتكون للعصاة من الموحدين، ولأصحاب النفاق العملي، وأصحاب الشرك الأصغر، وأصحاب الكفر الأصغر، فإن هؤلاء لا يخلدون في النار، وإنما يدخلون ثم يخرجون كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة بخلاف الخوارج والمعتزلة، فإنهم يقولون: من دخل النار فلا يخرج منها أبداً، وقولهم باطل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 14 شدة حر النار هذه النار حرها شديد، وأي شخص يشعر بحرارة في الدنيا أو الآخرة فإنه يحتاج إلى ثلاثة أمور: يحتاج إلى ماء بارد، وظل، وهواء، ولهذا إذا جلس الإنسان في ظل، ثم جاءه هواء، قال: أسأل الله برد الجنة، وأهل النار لا يوجد لهم هذا أبداً، بل هم في جهنم وفي سموم، أي: هؤلاء في جهنم وفي السموم وهي: الريح الشديدة الحارة، وفي الماء الحميم الذي اشتد حرارته، وفي ظل من يحموم، أي: شديد الحرارة -نعوذ بالله من ذلك- فلا يستفيدون لا من الماء ولا من الظل، ولا يستفيدون كذلك من الريح التي تأتيهم، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بشدة حرارة هذه النار كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم أنه قال: (نارنا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم) وقال في حديث آخر: (فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً) دل على أنه ضوعفت عليها أشد، فقال بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم: والله يا رسول الله إنها لكافية، أي: أن هذه النار التي في الدنيا كافية، فأحدنا لو أُدخل إصبعه في النار ما استطاع، كيف لو أدخل كاملاً تأكله النار، ومع ذلك شددت عليهم هذه النار زيادة في العقوبة، وورد أنها خففت، ولو لم تكن هكذا ما استفاد الناس منها، لو كانت بنفس النار التي وجدت وخلقت ما استطاع الناس أن يأكلوا، أو يستفيدوا منها، نعوذ بالله من هذه النار. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 15 رؤية نار الآخرة في الدنيا وتأثيرها بالنسبة لنار الآخرة هل يمكن أن ترى في الدنيا؟ نقول: لا، وإنما رآها النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين وغيرهما في صلاة الكسوف، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عباس: (ورأيت النار، فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع منها) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورأيت أكثر أهلها النساء) دل على أن النساء هن أكثر من يدخل النار، ولعل هذا نساء الدنيا، وسيأتي لماذا كان النساء أكثر أهلها؟ تأثير النار على الدنيا وأهلها: لا شك أننا نجد أثر النار التي هي نار يوم القيامة، ولهذا ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اشتكت النار إلى ربها، فقالت: رب! أكل بعضي بعضاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأذن الله لها بنفسين، ثم قال: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر) نحن في هذه الأيام الحر شديد جداً، هذا هو أشد ما تجدون من زمهرير النار، وهو من زمهريرها، وما نجد من البرد كذلك هو من نفس النار، نعوذ بالله من النار، ولهذا قيل: من السنة الإبراد بصلاة الظهر بسبب شدة الحر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن شدة الحر من فيح جهنم) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 16 خلود النار والرد على المخالفين مسألة: النار خالدة ولا تفنى، ولقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال متعددة ولم نومئ إليها، وبعض العلماء ذكر أنها تصل إلى سبعة أقوال: القول الأول: قول الجهمية: وهم يقولون بفناء النار وفناء الجنة، نعوذ بالله من حالهم، وقد رد عليهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى في آخر كتابه: الرد على الزنادقة، وبين أن الجنة والنار لا فناء لهما. القول الثاني: قول الخوارج والمعتزلة: يقولون بخلود كل داخل في النار، ولو كان من عصاة الموحدين، وهذا الكلام باطل، ولهذا فإن الخوارج يكفرون صاحب الكبيرة، والمعتزلة يرون أنه خارج من الإيمان، ولكنهم في الآخرة يتفقون مع الخوارج فيقولون: بخلود صاحب الكبائر. القول الثالث: وهو قول اليهود قبحهم الله، وذكره الله في قوله: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} [البقرة:80] ذكر الإمام ابن جرير أن اليهود قالوا: لن يدخل الله اليهود النار إلا تحلة القسم (أَيَّاماً مَعْدُودَةً) ثم يقول: أنتم المسلمون تخلفونا في النار وتخلدون فيها، أما نحن فندخل أياماً معدودة ثم نخرج، وكذبهم الله في هذه الآية وفي آية أخرى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:80] . القول الرابع: قول الاتحادية كـ ابن عربي الطائي وغيره، قالوا: إن هؤلاء يدخلون النار، ولكن تصبح طبائعهم طبائع الجهنميين وبعدها يتلذذون بالنار، أي: يصبحون يتلذذون بهذه النار وتصبح نعيماً لهم، ولاشك أن هذا كلام باطل، وهو ينسب إلى أهل التصوف من الزنادقة. القول الخامس: وهو أن الله سبحانه وتعالى يخرج من شاء منها، ثم يبقي من شاء، ثم يفنيها سبحانه وتعالى، وهذا القول عزي لشيخ الإسلام ابن تيمية، ونقل عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، وبالنسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية فليس كلامه صريحاً في ذلك، وبالنسبة لـ ابن القيم فإنه قد نقل عنه، ويؤمئ إليه كلامه رحمه الله تعالى، أومأ إليه في النونية إيماءً سريعاً، وقيل: إنه أومأ إليه في حادي الأرواح، ولكن هذا القول مرجوح، وشيخ الإسلام ابن تيمية وعلى فرض صحة النقل عنه، فإنه نقل عنه رحمه الله تعالى القول بعدم فناء النار، والذي يظهر أنه أرجح الروايات التي نقلت عنه رحمه الله تعالى، مما يدل على أن هذا القول مرجوح، والصحيح أن النار خالدة لا فناء لها، ومن نقل عنه من السلف بفناء النار، بعض العلماء يقول: لعل هذه هي نار العصاة، وكأنهم قسموا النار إلى قسمين: نار للمشركين ونار للعصاة، ونار العصاة يخرجون منها فلا يرجع إليها أحد، قالوا: فتلك تفنى، أما نار الكفار فإنه لا فناء لها، ولا شك أن هذا هو القول الصحيح، وهو قول جمهور سلف الأمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 17 عصاة الموحدين وحالهم في النار هناك أناس متوعدون بدخول النار وهم من المسلمين، وذكر بعض أهل العلم منها حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلها في النار إلا واحدة) وقد قدح بعض العلماء في هذا الحديث، وممن ذكر عنه تضعيف هذه الرواية الإمام الشوكاني، ونقل كذلك عن ابن الوزير، وقبله ابن حزم، وذكر بعضهم أن هذه الزيادة دسيسة، وكيف يمكن أن يدخل هؤلاء النار، ولكن الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله ذكر أن هذه الزيادة ليست ضعيفة، وذكر أن هذه تحمل على نار ليست نار الخلود، وإنما هي نار العصاة، وأن هؤلاء يدخلون بسبب انحرافهم، ثم بعد ذلك يخلصون منها، أما بالنسبة للملاحدة، فإنه لا مجال لدخولهم الجنة؛ نظراً لأن هؤلاء أهل نار خلود بسبب ارتدادهم عن دين الإسلام. ومن عصاة الموحدين المتوعدون بالنار: أصحاب الكبر، وقاتل النفس بغير حق؛ ومنهم الذي قتل نفسه، ومنهم أكلة الربا، ومنهم النساء الكاسيات العاريات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار) ومنهم الذين يعذبون الحيوانات، وهي المرأة التي دخلت النار بسبب هرة، ومنهم كذلك وهو بيت القصيد عدم إخلاص النية في طلب العلم، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله والدار الآخرة، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) أي: ريحها، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه الشيخ ناصر الدين الألباني، وقد رواه الإمام ابن ماجة وابن حبان والبيهقي: (لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، وتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، من فعل ذلك فالنار النار) يحذر النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك: (من تعلم علماً لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار) نعوذ بالله من النار. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 18 السر في كثرة أهل النار ذكر العلماء لماذا أهل النار كثير؟ أومأ العلماء رحمهم الله تعالى، ومنهم الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه: التخويف من النار، قال: الأول: أن أعظم أسباب دخول الناس النار هي الشهوات، ولا شك بأن الشهوات لها أثر عظيم جداً على القلب، وما أسرع ما تشتاق النفس، أضرب لكم مثالاً بسيطاً: نحن جلوس هنا، ولو زرت بيوت أهل الثراء والأموال وأصحاب القصور الفارهة وغيرها، تشعر قلبك وروحك تشتاق هنا وهناك، تتمنى لو أن كنت مثلهم، وتجد عندهم بعض تماثيل الذهب، وعليهم خواتيم الذهب، وعندهم آنية الذهب والفضة إلخ، يشعر قلبك لو أن لك مثل هذه الأمور، الشهوات تجذب، وربما تجالسهم وتأنس بهم، ثم تكون النتيجة: تألف ما هم عليه، وتسير مثلهم فيما هم فيه من المعاصي. وكذلك إذا جالست أهل المعاصي، أصحاب الخمور، أصحاب السفر إلى بلاد الكفار للزنا وغيره، رافقهم تجد أنك تزل، وتجد أنهم يحببون إليك المعصية ويزينونها إلى قلبك نعوذ بالله، ولهذا كانت الشهوات خطراً، وأمرنا بالابتعاد عن هؤلاء. ذكر بعض أهل العلم من الأمور، قالوا: التمسك بميراث الآباء، ولا شك بأن هذا خطر عظيم أن يتمسك الإنسان بميراث الآباء والأجداد، وخاصة في مسائل الاعتقاد: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] ونعوذ بالله أن نكون من هؤلاء، ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: لما خلق الله الجنة والنار، قال الله لجبريل: انطلق إلى الجنة، فرآها، قال: والله لن يسمع بها أحد إلا دخلها يا رب! ورأى النار فقال: والله لا ينظر إليها أحد ويسمع بها إلا فر، فحف الله الجنة بالمكاره، وحف الله النار بالشهوات، قال الله لجبريل: انطلق إليها، ولما نظر إليها قال: والله لا أظن أحداً يدخل الجنة لما حفت بالمكاره إلا النادر، وما أظن أحداً يدخل النار إلا دخل النار بسبب ما وجد فيها من الشهوات التي حفت بها وتلك بالمكاره. ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الواجب علينا أن نبتعد عن الشهوات، وأن نصبر على المكاره التي تصيبنا، أكثر من يدخل النار ولاشك قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين: (إن أقل ساكني الجنة النساء) ويحمل على هذا، ولذلك ثبت في الصحيح من حديث أسامة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء) وبين النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الكسوف: (رأيت النار ورأيت أكثر أهلها النساء) إلى غير ذلك من الأحاديث. قال العلماء: لأن المرأة ناقصة عقل ودين، ونقصان عقلها أنها سرعان ما تزل في بهرج الحياة الدنيا، إذا دخلت المرأة السوق ضاع عقلها نهائياً، والسبب لما تريده من زهرة الحياة الدنيا وغيرها وغيرها، ولهذا سبحان الله! ما أسرع ما تتأثر، وما أسرع ما تتغير، فإذا جالست صالحة تمسكت، وإن جالست فاسدة انحرفت، ولو كانت من أصلح الناس؛ نظراً لسرعة تأثرها ولضعفها، فلا تفكر في العواقب، ولميلها إلى الدنيا وزينتها وبهرجها، والنظر إلى عدم التفكير في عواقبها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 19 صفة الكافر في الآخرة نجد الكفار المنكب عظم خلقه مسيرة ثلاثة أيام، والضرس مثل جبل أحد، ويكون غلظ الجلد مسيرة ثلاثة أيام، وموضع جلوسه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من موضع كذا إلى كذا، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ما هم فيه من العقوبة، والعذاب، ونعوذ بالله أن نكون من أهل النار، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عذاب أهل النار متفاوت وليس على مزية واحدة، وأهونهم عقوبة من يوضع تحت أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، ونعوذ بالله أن نكون من أهل النار. ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 20 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس السابع عشر) الجنة مآل الأتقياء والنار مأوى الأشقياء، ودخول العبد الجنة هو برحمة الله والأعمال سبب في الدخول. وأول من يدخل الجنة هو محمد صلى الله عليه وسلم، وصفات الداخلين إلى الجنة متعددة وهي لا تفنى ولا تبيد، وأهلها خالدون مخلدون فيها. وإن الإيمان باليوم الآخر يوجب على العبد أن يؤمن بالقبر ونعيمه وعذابه، فإن أدلة إثباته في الكتاب والسنة كثيرة، والناس يسألون ويفتنون في قبورهم، والسؤال عام لكل الأمم ونمسك عن الاستفصال بأي لغة يسألون، ولعذاب القبر تأثير على البهائم كما ورد في الآثار، كل ذلك فصله الشيخ في هذا الدرس. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 1 مصير الإنسان بين الشقاوة والسعادة الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: وبعد فقد تكلمنا عن النار نعوذ بالله من النار وأن نكون من أهلها، واليوم نختم بأن النار كما قال العلماء: سبع طبقات: جهنم، فلظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم الجحيم، ثم الهاوية، ثم سقر، قالوا: ولكل طبقة منها داخلون وسكان، ونعوذ بالله أن نكون من أهلها. يقول شيخ الإسلام: (والنار يصلاها الشقي) ذكرنا تعريفاً للشقي، ولعل هذا الشقي هو الذي ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (فيرسل إليه ملك، فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد) وأود أن أنبه على مسألة، حتى لا يظن بأن ما دام أنه قد كتب على الإنسان أنه شقي أو كتب عليه أنه سعيد أنه لا خيار له في قضية العمل ولا غيره، وهذا مما سيجعلنا نتكلم عن مبحث القضاء والقدر تكلماً سريعاً، وإن كان المؤلف رحمه الله تعالى لم يذكره هنا. قال رحمه الله: والنار يصلاها الشقي بحكمة وكذا التقي إلى الجنان سيدخل إن الله سبحانه وتعالى كتب على هذا العبد بأنه شقي، وهذا كتب عليه بأنه سعيد ليس هذا جبراً لهذا العبد على العمل، ولكن الله سبحانه وتعالى عالم بما سيعمله العبد، لأن من مراتب القضاء والقدر: العلم، وهو أن تثبت بأن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، عالم بما كان في الماضي، وعالم بما هو كائن الآن، وعالم بما سيكون في المستقبل، فهذا الجليل علم ما سيفعله هذا الإنسان، فكتب عليه أهو شقي أم سعيد. ثم نقول للأحبة: إن الإنسان إذ يعمل العمل، ولنضرب بمثال يسير: حضور الإنسان حلقات العلم، هل يشعر الإنسان بقهر وإلزام بها؟ لا، بل ربما الأشياء التي تسعده لا يشعر الإنسان إلا بالاختيار التام الكامل، ولهذا قال بعض أهل العلم: القضاء والقدر ينقسم إلى قسمين: 1- قسم مجبور الإنسان فيه لا خيار له فيه أبداً. 2- قسم للإنسان فيه خيار، ويضرب بمثال للقسم الذي مجبور فيه الإنسان: طول الإنسان وقصره، هل للإنسان خيار فيه؟ لا. ومنه قالوا: كون الإنسان من عائلة فلان دون فلان، ليس للإنسان خيار فيه. منه: موطن الإنسان فكون هذا -مثلاً- يميناً وهذا عمانياً وهذا من بلد كذا؛ ليس للإنسان فيه خيار، ولو طلب من الإنسان أن يختار لتمنى أن لو كان من أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أهل مكة والحرم، لكنه لا خيار له فيه، ولون الإنسان لا خيار له فيه، ولذلك قال العلماء: إن ما كان من القضاء والقدر المسير فيه العبد، ليس محلاً للتفاضل ولا للتفاخر قالوا: ولا للثواب والعقاب، هذا من رحمة الله تعالى، لا يعاقب الإنسان لأنه من بلد كذا فتزاد عليه العقوبة، والآخر من بلد كذا فيخفف عنه. وتكلم العلماء إيماءة لطيفة، وممن أومأ إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في اقتضاء الصراط المستقيم، وهي قضية: تفضيل جنس العرب على غيرهم بناءً على الاصطفاءات الربانية التي لهم، اصطفى إبراهيم، ومن إبراهيم إسماعيل، ومن إسماعيل حتى قال: واصطفاني الله من بني هاشم، قالوا: فتلك الاصطفاءات تدل على فضل العرب على سائر الناس. وتأتي قضية: هل معناها أن العربي يزداد في الأجر أكثر من غيره؟ الجواب: اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: إذا تساوى العربي وغيره في التقوى والإيمان والصلاح قد يعطى شيئاً من المزية، لكنه لا يظلم ذاك الرجل، أي: من ليس من العرب. ومن العلماء من قال بالقاعدة العامة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فجعل الميزان هو تقوى الله تعالى. قوله: (بحكمة) أي: أنه بحكمة أحكم الحاكمين، فإن الله إذ يدخل هذا الشقي النار بحكمة يعلمها، ليس ظلماً له ولا عبثاً، وإنما بحكمة يعلمها الله تعالى، ولإظهار عدله سبحانه وتعالى. ذكرنا فيما سبق قضية التقوى والخلاف في التعريف، وجعلناها لبعض العلماء، وذكروا في تعاريفها الاصطلاحية: لما سأل عمر أُبياً عن التقوى؟ قال: [يا أمير المؤمنين! إذا مشيت في أرض ذات شوك ماذا تعمل؟ قال: أشمر -أي: أرفع ثوبي- وأنظر مواطئ قدمي حتى لا أصاب بشوك، قال: فكذلك التقوى] . وعرفها الإمام ابن القيم في مدارج السالكين بأنها: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وعرفت بأنها: العمل بطاعة الله بنور من الله، والبعد عن معصية الله بنور من الله. أي: أنه سائر في الطاعة وفي ترك المعصية بنور من الله وهو الكتاب والسنة، فهو يحمل ما أمر به وينتهي عما نهي عنه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 2 الجنة دار الأتقياء الأبرار قوله: (وكذا التقي إلى الجنان سيدخل) بين الآن أن التقي إلى الجنان سيدخل، وسبب دخول هذا التقي إلى الجنان: أنه دخل برحمة الله تعالى وليس بعمله، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: يا رسول الله! ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) فدل على أن دخول الإنسان إلى الجنة ليس بعمله، وإن كانت وردت: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر:17] قالوا: هذه الباء هي باء السببية، أي: أنهم بسبب أعمالهم يدخلون، ولو لم توجد تلك الأعمال لا يدخلونها، وهذه تدل على أن الإنسان ما عمله في هذه الحياة الدنيا سيجده أمام عينه يوم القيامة، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ونعوذ بالله أن نكون من أهل الشر. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 3 الجنة أعظم ثواب الله الجنة تعتبر أعظم ثواب الله تعالى، وسبب دخول الإنسان الجنة بسبب الأعمال الصالحة التي قدمها في هذه الحياة الدنيا، والله قد بين في قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] فقد ثبت في الحديث القدسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ومهما يخطر على قلبك فالجنة أعظم من ذلك، وقد قال: (ما لا عين رأت) وقد نستثني منها عين النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قد رأى الجنة صلوات الله وسلامه عليه، ورأى ما أعد الله فيها لأوليائه، وقد بين أن الدنيا مهما كانت فهي بالنسبة للجنة أمرٌ هين، ولذلك ثبت في صحيح البخاري من حديث سهل رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) فما تكون الدنيا أمام الجنات والقصور والأنهار، نسأل الله أن نكون من أهل تلك الجنات. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 4 دخول الجنة وشفاعة المصطفى ومما ينبغي أن يعلم أنه لن يدخل أحد الجنة أبداً إلا بعد شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم لأهلها، ولذلك فقد ورد في الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه أول شافع وأول مُشفع، وأن من شفاعته صلى الله عليه وسلم الشفاعة الخاصة به، والشفاعة الخاصة به ثلاثة أنواع: الشفاعة الأولى: شفاعته في أهل الموقف العظيم، وهذه قد ثبتت في الصحيح وغيره، حيث يأتي الخلائق كلهم يبحثون من شدة ما أصابهم من الهول العظيم في هذا الموقف، يأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم يأتون محمداً صلى الله عليه وسلم، فيسجد تحت العرش ويقول: أنا لها، ثم يفتح الله عليه بمحامد، وحينئذٍ يقال له: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فيشفع للخلائق جميعاً من آدم إلى قيام الساعة أن يقضي الله بينهم. الشفاعة الثانية الخاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: شفاعته في دخول أهل الجنة الجنة. والشفاعة الثالثة: شفاعته في عمه أبي طالب بأن يشفع له في أن يخفف عنه العذاب، فيكون في ضحضاح من نار يغلي منها دماغه، وهو أهون أهل النار عقوبة، هذه الشفاعة الخاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم. ذكروا أن أهل الجنة بعد أن يعبروا الصراط يقفون في قنطرة، وهذه القنطرة ثبتت في حديث أبي سعيد الخدري، وهو في صحيح البخاري (يخلص الناس من النار فيحبسون على قنطرة) والمقصود منها: (ليقتص بعضهم من بعض) بمعنى: أنهم لا يستحقون دخول النار، وحدوث القصاص بينهم حتى يعرف هذا منزلته: أفي أعلى الجنة، أم في وسطها، أم في أدناها؟ فيؤخذ بعضهم من بعض، دل على أنهم لا يستحقون النار، وإنما يكون الاقتصاص بمجرد أن توجد مراتبهم في جنات عدن. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 5 أول من يدخل الجنة من الأحداث التي يجب أن نعلمها: أن أول من يدخل الجنة هو محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يكون بعده الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وأول من يدخل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم: أبو بكر الصديق، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أنس: (أنا أول من يقرع باب الجنة) وفي صحيح مسلم كذلك من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول الخازن: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك) بمعنى: أنه لا يفتح لأحد إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في أمة محمد وهذه من نعمة الله تعالى علينا أن كنا من أمته صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة) نحن آخر الأمم وجوداً ولكننا أول الأمم دخولاً إلى جنات عدن، ونسأل الله أن نكون ممن يدخل الجنة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 6 مراتب الذين يدخلون الجنة وصفاتهم الذين يدخلون الجنة منهم من يدخل بغير حساب ولا عذاب، وهؤلاء ذكروا أن أول زمرة تدخل وجوههم كالقمر ليلة البدر، وذُكر من صفات هذه الزمرة كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: (أنهم لا ينامون ولا يبصقون، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، آنيتهم الذهب، وأمشطتهم الفضة) صفات عجيبة لهؤلاء القوم، ويكفي مجرد التخيل، وإن كان التخيل لا يوصلك إلى الحقيقة؛ لأن الله قطع الأطماع نهائياً (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) . ويأتي تسلية لأولئك الذين لم يأخذوا شيئاً من زهرة الحياة الدنيا، وهم الفقراء، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الفقراء من المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً، أي: أربعين سنة. ومن الأمور التي تأتي تسلية لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صحيح البخاري من حديث أسامة بن زيد قال: (قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين) مما دل على أنهم حرموا شيئاً من اللذة، فيعطون شيئاً من التعويض يوم القيامة، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأصحاب الجد -أي: الغنى- محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أدخلوا النار أو دخلوها) . وثبت في الصحيح كذلك أن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، أي: أصحاب الأموال وأكثر أهل الأموال هم أقل الناس دخولاً الجنة يوم القيامة، والسبب: لأنهم يعيشون في المعاصي والفجور، وتكون تلك الأموال سبباً للوبال عليهم، فيحبسون عن الجنة. ونجد أن آخر قوم من الناس يخرجون من النار، ولعل هؤلاء من عصاة الموحدين ويدخلون الجنة، ويسمى هؤلاء بالجهنميين، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن النار الذين هم أهلها لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أناس أصابتهم النار بذنوبهم أو بخطاياهم، فأماتتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن الله بالشفاعة فيهم، فيشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويخرجون من النار وقد امتحشوا فكانوا كالفحم، ثم يوضعون في أنهار الجنة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يخرجون ويوجد عليهم إشارة تبين أن هؤلاء هم آخر أهل الجنة دخولاً، ويسميهم أهل الجنة بالجهنميين، وليس استنقاصاً لهم، وإنما تميزاً لهم بفضل الله تعالى عليهم؛ لأنهم أقحموا في النار وخرجوا، فوجدوا شيئاً من هذا النعيم الذي أعطاهم الله، والأحاديث في هذا كثيرة. وقد ذكرنا فيما سبق آخر من يدخل الجنة عندما تكلمنا على الصراط. وذكر من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، والحديث أخرجه البخاري ومسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً فيها، رجل يخرج من النار حبواً، فيقال له: اذهب إلى الجنة، فيقف على باب الجنة، ويجدها مزدحمة، فيرجع إلى ربه فيقول: يا رب وجدتها ملأى وليس لي موضع فيها، فيقول الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشر أمثالها، فيقول: أي رب! أتسخر بي وأنت رب العالمين، قالوا: فيضحك الرب، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك حتى بدت نواجده، فكان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أدنى أهل الجنة منزلاً) فإذا كان هذا أدنى أهل الجنة منزلاً يعطى مثل الدنيا عشر مرات، فدل على أن هذه الجنة عظيمة، وأن مكانها كبير، وما نظر إليها هذا المسكين فإنما هو نظر لما أعطى الله لأوليائه من عظيم المنازل. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 7 أبدية الجنة وخلود أهلها فيها أهل الجنة خالدون فيها، ولا فناء لأهلها أبداً، وهذا هو الصحيح عند أهل السنة والجماعة، بل هو قول أهل السنة قاطبة أن الجنة لا فناء لأهلها، بخلاف ما قاله المبتدعة فإن هؤلاء لا يلتفت إلى مقالهم أبداً، ولذلك يقول الله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان:56] وقال: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف:108] أي: منزلاً آخر. ولذلك يؤتى بالموت بعد أن يخرج أهل النار من الموحدين من النار، ولا يبقى فيها إلا الخلص من المشركين والكفار، فيؤتى بالموت فيذبح بين الجنة والنار، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ولأهل النار: خلود فلا موت، وذكروا أنه إذا جيء به قيل لأهل الجنة: أتعرفونه؟ وقيل لأهل النار: أتعرفونه؟ فأهل الجنة يخشون منه مخافة أن يزول عنهم هذا النعيم، وأهل النار يفرحون برؤيته يتمنون أن لو جاءهم ملك الموت ليقبض أرواحهم، ولذلك يقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] ثم يذبح زيادة حسرة على الكفار، وزيادة نعيم لأهل الجنة، بمعنى: أن هؤلاء خلود لهم فلا موت، ولهؤلاء خلود فلا موت، ولذلك يبقون على ما هم فيه، ونعوذ بالله أن نكون من قوم يبقون في النار خالدين. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 8 أبواب الجنة ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن الجنة لها أبواب، والله قد قال في القرآن {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص:50] {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد:23] {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] . أبواب الجنة ثمانية، وقد ثبت ذلك في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد ورواه أهل السنن، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تؤضأ فأحسن الوضوء، ثم رفع بصره إلى السماء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء) بمعنى: أنه لو مات في هذه اللحظة فإن أبواب الجنة مفتوحة له يدخلها، وقد ثبت كذلك في الصحيحين، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله -أي: من ماله في سبيل الله- دعي من أبوب الجنة الثمانية، فمن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، ومن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! والله ما على أحد من ضرر دعي من أيها دعي -أي: أنه يدعى من الأبواب كلها- ثم قال أبو بكر رضي الله عنه: فهل يدعى يا رسول الله أحد من هذه الأبواب كلها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم وإني لأرجو أن تكون ممن يدعى من أبواب الجنة الثمانية) وما ذلك إلا لكثرة أعمال الخير التي يعملها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك ينبغي للمسلم أن يحرص على أن ينفق زوجين في سبيل الله. ذكر شيخنا العلامة أن من الأمثلة عليه: أن ينفق صاعين ينفق درهمين ينفق كذا من أعماله. وبعضهم قال: لا، ينفق زوجين، أي: من نوعين مختلفين، يعني: من مال ومن بر ومن غيره. وعلى كل حال إن أخذ بهذا القول أو بهذا القول فإنه يرجى له أن يدعى من أبواب الجنة الثمانية. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 9 نور الجنة وريحها بين العلماء بأن الجنة لها نور، وليس فيها ليل ولا نهار، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار، ولكن تعرف البكرة والعشية بنور يظهر لهم من قبل العرش، والله يقول: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم:62] هل معنى: أنه يوجد ليل ونهار وشمس وقمر؟ العلماء يقولون: ليس فيها شيء، وإنما تجد أن فيها نوراً يخرجه الله يميزون به بين الليل وبين النهار. هذه الجنة لها ريح، وريح الجنة ليس كريح الأمور الدنيوية التي توجد، ولهذا ثبت في صحيح البخاري وكذلك في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وسنن ابن ماجة، عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً) أي: مسيرة أربعين عاماً تجد ريح الجنة، ومع ذلك هذا الذي يقتل معاهداً لا يجد ريح الجنة، ولعل عدم وجود ريح الجنة عقوبة له، ويعتبر هذا من نوع العقوبة لهذا الذي قتل هذا المعاهد، وقد ورد كذلك في مسند الإمام أحمد وفي سنن النسائي وسنن ابن ماجة ومستدرك الحاكم بسند صحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً) دل على أن للجنة ريحاً وتتميز به. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 10 أشجار الجنة الجنة فيها أشجار، ولسنا بصدد ذكر الأشجار التي توجد فيها بأنواعها، سدرة المنتهى، وطوبى وغيرها، فقد ثبت كذلك في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام لا يقطع ظلها) لا يقطع هذه الشجرة، دل على أنها شجرة عظيمة، وهو مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) عقل الإنسان لا يمكن أن يتصور شجرة مسيرتها مائة عام على الجواد المضمر السريع، وهذا يدل على أنها ولا شك أكبر من الأرض كلها التي نحن ساكنون فيها، ولذلك لو جئت بجواد مضمر سبعين أو مائة عام ويمشي فيها، ما احتاج إلى هذه المسافة كلها ليقطعها، مما يدل على عظم هذه المخلوقات، وأن ما نشاهده من هذا الكون ليس إلا شيئاً يسيراً، وأن الله سبحانه وتعالى عالم بكل ما خلقه وأوجده سبحانه وتعالى وهو المدبر له. ووجد كذلك سدرة المنتهى، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من صفاتها العظيمة، بين النبي صلى الله عليه وسلم أن نذقها -أي: ثمرها- مثل تلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة، وأنه يخرج من أصلها أربعة أنهار، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الراكب يسير فيها سبعين عاماً لا يقطع ظلها. منها: شجرة طوبى، وذكروا أن شجرة طوبى شجرة عظيمة، ومنها يخرج ثياب أهل الجنة، تخرج من أكمامها، وهذا يدل على أنها شجرة عظيمة، ولها صفة معينة، وهذا الحديث ذكر في مسند الإمام أحمد، وتفسير ابن جرير الطبري، وفي صحيح ابن حبان، والحديث صححه جمع من أهل العلم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 11 دواب الجنة من الأمور وهي من لطائف الجنة: أن في الجنة دواب، ولذلك قال الله: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21] دل على أن فيها طيوراً، ويدل على أن الإنسان يمر الطائر فإذا اشتهاه الإنسان ينزل مشوياً طيباً يأكله الإنسان، وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيها نهر الكوثر، وكذلك ورد بسند صحيح، بل في صحيح مسلم أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة، وقال: يا رسول الله! هذه اجعلها فيما تراه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لك بها سبعمائة ناقة يوم القيامة) ويصح أن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وورد في حديث رواه أبو نعيم والحاكم في مستدركه من حديث ابن مسعود أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لك بها سبعمائة ناقة في الجنة) بينها النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، مما يدل على أن الله يأتيهم شيئاً من هذه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 12 صفات أهل الجنة ذكر العلماء في صفات أهل الجنة: أنهم على صورة أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام، قالوا: لا أكمل ولا أتم من هذه الصورة، لأنه خلقه الله بيده، وصوره سبحانه وتعالى. قالوا: وطوله ستون ذراعاً، دل على أن الطول عظيم جداً، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم أنه قال من حديث أبي هريرة: (خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعاً) وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لا زال الخلق ينقص) أي: إلى الآن الناس إلى قصر ليسوا إلى طول، وكان الناس إذا رأيت بعض الحضارات القديمة تجد فيها شيئاً عجيباً، من الأماكن الكبيرة، ومما جعله الله لهؤلاء القوم من القوة، ودل على أن الخلق لا يزال ينقص، وهذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وتصبح أمة محمد هي أقصر الخلق وأقلهم. وذكر أنه يدخل أهل الجنة الجنة وهم جرد مرد كأنهم مكحلون، أبناء ثلاث وثلاثين، والحديث في مسند الإمام أحمد وفي سنن الترمذي بسند صحيح، وذكر أنهم لا يبصقون ولا يتغوطون ولا يمتخطون، وأن أهل الجنة كذلك لا ينامون. ومما ذكر من فضل الله تعالى على أهل الجنة أنه ربما يتمنى أحدهم الأمنية فتحقق له مباشرة. ومن اللطائف التي وردت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتبسم النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعها، ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة، قال: كان الناس يتحدثون -أي: الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم- وعندهم رجل من أهل البادية، فسأل أحدهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه بالزرع) أي: هو في الجنة ويريد أن يزرع، فهذا الرجل لما استأذن فقال الله له: (ألست فيما شئت) أي: ما تطلبه موجود بين يديك: (قال: بلى. ولكني يا رب أحب الزرع، قال: فبذر، فبادر الطرف نباته في استواء) في لحظة حصل له النبات والاستواء والجني كله وحتى الحصاد، فكان أمثال الجبال، فيقول الله له: (دونك يا ابن آدم هذا زرعك) فكان أحد الأعراب موجود في المجلس، فقال الأعرابي: والله لا تراه إلا أنصارياً أو قرشياً، هم الذين يحبون الزرع، والأعراب لا يزرعون أصلاً، ولا يعرفون الزراعة، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا من اللطائف التي تحدث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإخبار، وليس الحكم خاص بالأنصار وغيرهم، فإن الزرع يحدث لقريش ولغيرهم، لكن يدل على أن ما تمناه الإنسان يحدث له. بل إنه قد يتمنى الإنسان الولد فيخلق الله له أمنيته في لحظة، وهذا من فضل الله تعالى. أعظم نعيم أهل الجنة ذكر العلماء أنه: رؤية الرب سبحانه وتعالى، وقد تكلمنا عليه بشيء من التفصيل في رؤية الرب سبحانه وتعالى. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 13 ذكر بعض نعيم الجنة قوله: (وكذا التقي إلى الجنان سيدخل) بين الآن أن التقي إلى الجنان سيدخل، وسبب دخول هذا التقي إلى الجنان: أنه دخل برحمة الله تعالى وليس بعمله، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: يا رسول الله! ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) فدل على أن دخول الإنسان إلى الجنة ليس بعمله، وإن كانت وردت: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر:17] قالوا: هذه الباء هي باء السببية، أي: أنهم بسبب أعمالهم يدخلون، ولو لم توجد تلك الأعمال لا يدخلونها، وهذه تدل على أن الإنسان ما عمله في هذه الحياة الدنيا سيجده أمام عينه يوم القيامة، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ونعوذ بالله أن نكون من أهل الشر. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 14 نور الجنة وريحها بين العلماء بأن الجنة لها نور، وليس فيها ليل ولا نهار، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار، ولكن تعرف البكرة والعشية بنور يظهر لهم من قبل العرش، والله يقول: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم:62] هل معنى: أنه يوجد ليل ونهار وشمس وقمر؟ العلماء يقولون: ليس فيها شيء، وإنما تجد أن فيها نوراً يخرجه الله يميزون به بين الليل وبين النهار. هذه الجنة لها ريح، وريح الجنة ليس كريح الأمور الدنيوية التي توجد، ولهذا ثبت في صحيح البخاري وكذلك في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وسنن ابن ماجة، عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً) أي: مسيرة أربعين عاماً تجد ريح الجنة، ومع ذلك هذا الذي يقتل معاهداً لا يجد ريح الجنة، ولعل عدم وجود ريح الجنة عقوبة له، ويعتبر هذا من نوع العقوبة لهذا الذي قتل هذا المعاهد، وقد ورد كذلك في مسند الإمام أحمد وفي سنن النسائي وسنن ابن ماجة ومستدرك الحاكم بسند صحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً) دل على أن للجنة ريحاً تتميز به. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 15 أشجار الجنة الجنة فيها أشجار، ولسنا بصدد ذكر الأشجار التي توجد فيها بأنواعها، سدرة المنتهى، وطوبى وغيرها، فقد ثبت كذلك في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام لا يقطع ظلها) لا يقطع هذه الشجرة، دل على أنها شجرة عظيمة، وهو مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) عقل الإنسان لا يمكن أن يتصور شجرة مسيرتها مائة عام على الجواد المضمر السريع، وهذا يدل على أنها ولا شك أكبر من الأرض كلها التي نحن ساكنون فيها، ولذلك لو جئت بجواد مضمر سبعين أو مائة عام ويمشي فيها، ما احتاج إلى هذه المسافة كلها ليقطعها، مما يدل على عظم هذه المخلوقات، وأن ما نشاهده من هذا الكون ليس إلا شيئاً يسيراً، وأن الله سبحانه وتعالى عالم بكل ما خلقه وأوجده سبحانه وتعالى وهو المدبر له. ووجد كذلك سدرة المنتهى، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من صفاتها العظيمة، بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عذقها -أي: ثمرها- مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة، وأنه يخرج من أصلها أربعة أنهار، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الراكب يسير فيها سبعين عاماً لا يقطع ظلها. منها: شجرة طوبى، وذكروا أن شجرة طوبى شجرة عظيمة، ومنها يخرج ثياب أهل الجنة، تخرج من أكمامها، وهذا يدل على أنها شجرة عظيمة، ولها صفة معينة، وهذا الحديث ذكر في مسند الإمام أحمد، وتفسير ابن جرير الطبري، وفي صحيح ابن حبان، والحديث صححه جمع من أهل العلم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 16 دواب الجنة وطيروها وأنهارها من الأمور وهي من لطائف الجنة: أن في الجنة دواب، ولذلك قال الله: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21] دل على أن فيها طيوراً، ويدل على أن الإنسان يمر الطائر فإذا اشتهاه الإنسان ينزل مشوياً طيباً يأكله الإنسان، وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيها نهر الكوثر، وكذلك ورد بسند صحيح، بل في صحيح مسلم أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة، وقال: يا رسول الله! هذه اجعلها فيما تراه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لك بها سبعمائة ناقة يوم القيامة) ويصح أن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وورد في حديث رواه أبو نعيم والحاكم في مستدركه من حديث ابن مسعود أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لك بها سبعمائة ناقة في الجنة) بينها النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، مما يدل على أن الله يؤتيهم شيئاً من هذه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 17 صفات أهل الجنة ذكر العلماء في صفات أهل الجنة: أنهم على صورة أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام، قالوا: لا أكمل ولا أتم من هذه الصورة، لأنه خلقه الله بيده، وصوره سبحانه وتعالى. قالوا: وطوله ستون ذراعاً، دل على أن الطول عظيم جداً، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم أنه قال من حديث أبي هريرة: (خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعاً) وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لا زال الخلق ينقص) أي: إلى الآن الناس إلى قصر ليسوا إلى طول، وكان الناس إذا رأيت بعض الحضارات القديمة تجد فيها شيئاً عجيباً، من الأماكن الكبيرة، ومما جعله الله لهؤلاء القوم من القوة، ودل على أن الخلق لا يزال ينقص، وهذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وتصبح أمة محمد هي أقصر الخلق وأقلهم. وذكر أنه يدخل أهل الجنة الجنة وهم جرد مرد كأنهم مكحلون، أبناء ثلاث وثلاثين، والحديث في مسند الإمام أحمد وفي سنن الترمذي بسند صحيح، وذكر أنهم لا يبصقون ولا يتغوطون ولا يمتخطون، وأن أهل الجنة كذلك لا ينامون. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 18 تحقيق الأمنيات لأهل الجنة ومما ذكر من فضل الله تعالى على أهل الجنة أنه ربما يتمنى أحدهم الأمنية فتحقق له مباشرة. ومن اللطائف التي وردت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتبسم النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعها، ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة، قال: كان الناس يتحدثون وعندهم رجل من أهل البادية، فسأل أحدهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه بالزرع) أي: هو في الجنة ويريد أن يزرع، فهذا الرجل لما استأذن فقال الله له: (ألست فيما شئت) أي: ما تطلبه موجود بين يديك: (قال: بلى. ولكني يا رب أحب الزرع، قال: فبذر، فبادر الطرف نباته في استواء) في لحظة حصل له النبات والاستواء والجني كله وحتى الحصاد، فكان أمثال الجبال، فيقول الله له: (دونك يا ابن آدم هذا زرعك) فكان أحد الأعراب موجود في المجلس، فقال الأعرابي: والله لا تراه إلا أنصارياً أو قرشياً، هم الذين يحبون الزرع، والأعراب لا يزرعون أصلاً، ولا يعرفون الزراعة، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا من اللطائف التي تحدث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإخبار، وليس الحكم خاص بالأنصار وغيرهم، فإن الزرع يحدث لقريش ولغيرهم، لكن يدل على أن ما تمناه الإنسان يحدث له. بل إنه قد يتمنى الإنسان الولد فيخلق الله له أمنيته في لحظة، وهذا من فضل الله تعالى. أعظم نعيم أهل الجنة ذكر العلماء أنه رؤية الرب سبحانه وتعالى، وقد تكلمنا عليه بشيء من التفصيل في رؤية الرب سبحانه وتعالى. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 19 القبر والحياة البرزخية ننتقل إلى موضوع القبر والحياة البرزخية، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول في لاميته: ولكل حي عاقل في قبره عمل يقارنه هناك ويسأل لاشك أن القبر يعتبر منزلاً، أو يسمى: الحياة البرزخية، منزلة بين الحياة الدنيا وبين دخول الجنة أو دخول النار نعوذ بالله من النار. قال المؤلف: (ولكل حي) قال العلماء في اللغة: الحي: هو نقيض الموت، أو الحياة هي نقيض الموت، والحي هو: كل متكلم ناطق، ويعرف أن الإنسان بالنسبة لخصيصته هذه أنه متكلم ناطق، هذا ينطبق على الإنسان فقط، قالوا: إن الإنسان حيوان ناطق، ويعتبر كلُ شيء له حياة مستقلة، بالنسبة للإنسان قالوا: هو متكلم ناطق، وبالنسبة للنبات قالوا: ما كان طرياً يهتز، وقالوا: المسلم هو الحي الحياة الحقيقية، ولذلك الكفار يعتبرون أمواتاً. قال المؤلف: (عاقل) العقل مأخوذ من عقل فهو عاقل وعقول، قال ابن الأنباري: رجل عاقل، وهو الجامع لأمره ورأيه، دل على أن من لم يجمع أمره ولا رأيه لا يصبح عاقلاً، قالوا: إنه مأخوذ من عقلت البعير، وهو إذا جمعت قوائمه بحيث لا ينطلق، والعقل يجعل الإنسان يضبط سلوكه وأعماله، ولهذا أضرب لكم مثالاً سهلاً: نحن الآن جلوس، فلو جاء إنسان وخلع ثيابه وجلس (بفنيلة) وسروال مثلاً، ستجد الناس يقولون: هذا ليس بعاقل، هل خالف في ستر العورة؟ لم يخالف. هل فعل أمراً محرماً؟ لا، لكن العقل يضبطه، وهو الذي يضبط تصرفات الإنسان، ولكل مقام مقال، ولكل حادث حديث، ينبغي للإنسان أن يضبط جوارحه، ولهذا تجد مثالاً سهلاً: لو جاء إنسان ولبس لباس الرياضة وجلس في وسط المسجد في حلقة العلم، نقول: هذا خلاف الأدب، وما كان ينبغي مثل هذا العمل. ولهذا قال بعض العلماء: بعض الأمور تخالف المروءة، والإنسان لا يذهب الآن إلى المسجد بقميص النوم مثلاً لصلاة الجمعة وغيرها، وإن كان قد بدأ يظهر عند الناس هذه المفاهيم ولا ينضبطون بها، هذا هو العقل. وسمي العقل عقلاً لأنه هو الذي يحبس الإنسان عن الانطلاق إلى سفاسف الأمور، أو الأمور التي لا تحب، وقيل: إن العاقل هو الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، وسمي العقل عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك. وقيل: إن العقل هو الذي يميز الإنسان عن سائر الحيوانات كلها، وما ميز الإنسان إلا بعقله. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 20 تعريف القبر قال المؤلف: (في قبره) قال في اللسان: القبر هو مدفن الإنسان، وجمعه قبور، وسيأتي الخلاف بين العلماء هل هذا خاص بالمسلم أم أنه حكم عام؟ الذي يظهر أن القبر عام بالبشرية كلها، وهذه تعتبر من كرامة الإنسان: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] لفظ عام ليس للمسلم ولا للكافر، وهذه من كرامته أن الله لم يجعل الإنسان يلقى على الأرض تأكله السباع، وتنهشه الطير، ويقذره الناس. ولذلك سن الله سبحانه وتعالى القبر للناس، وكان القبر مما أكرم الله به بني آدم، ونذكر هنا قصة ابني آدم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة:27] قتل أخاه، فلم يدر ماذا يعمل به، وقد ذكرت كتب السير أنه حمله معه زمناً طويلاً لا يدري ما يعمل به، فجاء الله بغراب اقتتل غرابان ثم قتل أحدهما الآخر، فقام الغراب فبحث في الأرض وذاك ينظر إلى ما يعمل فدفنه، فقال: {يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} [المائدة:31] . ولذلك ذكروا أن هذه سنة، وامتن الله في قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] أي: جعل له قبراً، أو أن الله سبحانه وتعالى جعل له سبباً أن يقبر، فالله جعل للناس قبوراً، والآية تدل على وجوب دفن الأموات، فهذه الآية: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] تدل على وجوب دفن الأموات وإقبارهم دون إحراقهم، إلا ما يفعله المجوس والهندوس نعوذ بالله، فإنهم إذا مات ميتهم يحرقونه بالنار، ولعل هذه عاجل عقوبتهم في الدنيا. وأذكر من اللطائف أنه ذكر لسماحة شيخنا لما ماتت أنديرا غاندي، فاجتمع أهلها وقراباتها بل وأولادها، وجعلوها في مكان وأضرموا عليها النار، ولما سئل سماحة شيخنا عن هذه قال: عاقبها الله في الدنيا بالنار قبل أن تصل يوم القيامة، مما يدل والعياذ بالله على نقص عقولهم وعدم معرفتهم. ولا كما يفعله المشركون بالموتى، فإن المشركين في الحروب يتركونهم، المجوس يحرقونهم بالنار، والمشركون في الحروب يتركون موتاهم في الفيافي والقفار تنهشهم وتأكلهم السباع والطيور ولا يعبئون بهم. وجاءت مفخرة لأهل الإيمان بقضية القبر، ولهذا قال الشنفرى: ولا تقبروني إن قبري محرم عليكم ولكن أبشري أم عامر أي: يفتخر بأنه يلقى بسبب المعارك والقتال، ويفخر أنه قتل في المعارك ويرى أن هذه شجاعة ليبقى، ويريد أن يترك حتى تأكله السباع، أبطل الله هذا الأمر وأمر بالدفن سواء قتلوا في المعارك أو غيرها، ودفن النبي صلى الله عليه وسلم شهداء أحد، وأما الكفار فألقاهم في القليب موارياً لجثثهم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 21 القبر من الأمور الغيبية السمعية يعتبر القبر وأحداثه من الأمور السمعية، أي: أنه لا يمكن إثبات هذه الأحداث والأخبار التي فيه إلا عن طريق نص من كتابٍ أو سنة. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تفتن في قبورها كما ثبت في حديث الكسوف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإنكم تفتنون في قبوركم وتسألون عني) وهذه الفتنة يقصد بها الامتحان والاختبار، وتسمى حياة القبر بالحياة البرزخية، والحياة البرزخية هي البرزخ، وهو الحاجز بين الشيئين، وتعتبر حياة القبر برزخاً بين الحياة الدنيا وبين الحياة الآخرة. يقول الإمام القرطبي: أول من سن القبر قيل: الغراب، لكن هذا القول ليس على إطلاقه، بل إن بعضهم قال: إن من شدة ما أصابه من المصيبة بقتل أخيه ما علم ماذا يعمل به، ولا علم كيف يواريه، فأرسل الله هذين الغرابين من أجل أن يريه كيف يواري سوأة أخيه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 22 أدلة إثبات عذاب القبر من أحداث القبر أن أول حدث يؤمر به: أننا نأتي بالإنسان وندفنه، وأول ما يحدث له من أحداث القبر سؤال الملكين، وهذان الملكان هما: منكر ونكير، وقد دل على قضية أحداث القبر الكتاب والسنة، يقول الله تعالى في حال آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ويقول الله سبحانه وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] وروى البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعدها: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] فدل على أن الإنسان يسأل في هذا القبر، هذا السؤال قد يستطيع الإنسان أن يجيب عليه في الحياة الدنيا، ولكنه يوم القيامة لا يدري أيجيب أم لا؟ والذين يجيبون هم أهل الإيمان، ويبقى أهل الكفر وأهل النفاق، فإنهم يعيشون مع أهل الإيمان ويعرفونهم، ولكن يقول: هاه هاه! لا أدري، أما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 23 حال العبد في قبره ذكر العلماء من اللطائف هنا: أن الإنسان في قبره لا يسأل إلا عن مسائل الاعتقاد فقط، أما المسائل المتعلقة بالأحكام فلم يرد فيها قضية السؤال، وهذه الأسئلة الثلاثة كلها مرتبطة بالعقيدة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ويصبح المؤمن يجيب. ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من مسائل القبر: أولها: أن الإنسان ترد إليه روحه، وهذا الرد رد جزئي، وتعتبر الحياة فيه حياة كاملة كحياته في الحياة الدنيا، وسوف يأتي تعلق الروح بالبدن، وأن العلماء ذكروا أن هذه التعلقات على ثلاث مراتب: 1- تعلق في الحياة الدنيا. 2- تعلق في القبر. 3- تعلق يوم القيامة. قالوا: أما التعلق في الحياة الدنيا فإن الروح مع الجسد وإن كانت الأغلب إلى الجسد، ولذلك تجد الإنسان في الحياة الدنيا يحرص على قضية الجسد حرصاً كبيراً جداً، اللباس المأكل المتاع القصر إلى غيره، كلها مرتبطة بالجسد، وهذا ليس ارتباطاً بقضية الروح، وتأتي أنه من رحمة الله تعالى جاءت الشرائع لتغذية الجانبين: الروح والجسد. التعلق الثاني: الحياة البرزخية، قالوا: هو مرتبط بالبدن وبالروح جميعاً وإن كان تعلقها بالروح أكبر منها بالجسد، ولهذا يحدث للروح من النعيم في القبر أكثر من قضية تنعم الجسد. التعلق الثالث: يوم القيامة، قالوا: تكون للجسد كاملاً وللروح كاملة، لا يغلب أحدهما على الآخر، قالوا: إن كان من أهل الجنة تحدث النعومة أو اللذة لجسده وروحه جميعاً، وإن كان من أهل النار -نعوذ بالله- يحصل له العقوبة جميعاً. بين النبي صلى الله عليه وسلم أن رد الروح له نوع من التأثير، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى أهله عنه، إنه ليسمع قرع نعالهم) ولهذا نقول: يتوسع بعض العلماء، وتجدونه في كتب الوعظ تذكر شيئاً من الأخبار، أن الموتى إذا زوروا يفرحون، وأنهم يردون السلام على من سلم عليهم، وأنهم إذا أنفق إليهم حصل لهم أشياء معينة، وأنهم يرون ويتحدثون: حدث لفلان، وفلان فعل كذا، ووصلنا كذا. نقول: قاعدتنا في الأمور الغيبية التوقف، أننا لا نتكلم إلا بما ثبت، فما ورد أثبتناه وما لم يرد نمسك عنه، هل معنى ننفيه بالكلية؟ نقول: لم يثبت بنص فنمسك عنه، ولذلك ثبت أنه يسمع قرع نعالهم، فإذا ثبت سماع قرع النعال نثبته، أما بقيتها فلا. ولهذا تجدون بعض الناس يوم العيد يذهبون إلى المقابر لزيارة موتاهم، ويوم الجمعة يذهبون إلى المقابر، ويستدلون برؤى ومنامات، نقول: مثل هذه الرؤى والمنامات لا نثبت بها حكماً شرعياً حتى نقول للناس: تسن زيارة المقابر يوم الجمعة ويوم العيد حتى يفرح الموتى بزيارتكم. ولكن نقول: قد يصلهم شيء من الأجر والثواب مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأعمال التي تصل إلى الميت ويستفيد منها، وما عداه فلا نثبته. ورد في تسمية هذين الملكين، وصححه بعض أهل العلم كما أظنه في مسند الإمام أحمد وغيره، أن اسميهما: منكر ونكير، فيثبت هذا الاسم وأنه منكر ونكير. المعتزلة أبوا أن يثبتوا هذا الاسم للملائكة، وقالوا: إن اسم منكر ونكير لا يليق بالملائكة، لكن هذا بمجرد إجالة العقل، ومادام أنه قد ورد وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تسمية هذين الملكين فنثبت أنهما ملكان، وقد ورد في بعض الآثار أنه ملك واحد، ولكن الصحيح أنهما ملكان، يأتيان الإنسان ويسألانه ويجيب الإنسان عما سئل عنه، ونثبت ذلك بمقتضى النص، وهذه الأسئلة ذكرنا أنها من مسائل الاعتقاد. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 24 حال الموتى الذين لم يدفنوا في القبور مسألة: من لم يدفن أصلاً أو كان مصلوباً، أو ألقي في البحر، أو حدث له أن تمزق أو احترق فما وجد منه شيء، أو سقط في بئر ثم لا ندري أين ذهب، فما حاله؟ نقول: كل هؤلاء بجميع صفاتهم يحدث لهم سؤال الملكين، ويحدث لهم النعيم والعقوبة، ويفتح لهم باب إلى الجنة وباب إلى النار، نثبته لأن هذا قد ثبت عندنا، وما استثني، أي: لم يرد عندنا من الأحاديث هو في مجرد من قبر، هل معناه أن من لم يقبر لا يحدث له؟ نقول:لا، وإلا لقام الإنسان ووضع والده الفاسق أو الكافر أو الملحد في (فريزر) عنده، وأبقاه سنوات حتى لا يصاب بعقوبة الله، نقول: بل يصل إليه، لكن كيفية الوصل وغيره؟ نقول: الله أعلم بها. والعجب من المعتزلة أنهم أنكروا ذلك إنكاراً كلياً، ولا شك أن هذا الكلام باطل، وأجالوا العقل فيه، ونحن نقول مثل هذه الأمور الغيبية: لا يمكن إجالة العقل فيها أبداً؛ لأن هذه ليس للعقل فيها مجال. ولذلك أنكرت المعتزلة عذاب القبر، ومن اللطائف أن أحد أئمة أهل السنة صلى على أحد المعتزلة، فكان من دعائه الذي دعا له أن قال: اللهم أذقه عذاب القبر فإنه لا يؤمن به، وهذا دعاء عليه وليس دعاء له. هؤلاء استبدعوا هذا الأمر بأمورٍ عقلية، منها قالوا: إن الملائكة لا نجدهم، لو فتحنا القبر لم نجد أنه يضرب بمرزبة من حديد، ولم نجد في قبره ناراً، ولم نجد تضييق القبر عليه في القبر واختلاف أضلاعه. قالوا: كذلك ونحن نجد المصلوب على الخشبة، قد يصلب الإنسان مثلما قيل عن أحمد بن نصر الخزاعي إنه بقي مصلوباً سبع سنين على خشبة في العراق، فهل معنى ذلك أنه لا يصل إليه شيء من النعيم ولا من العذاب؟ لا يمكن أبداً. وذكروا كذلك من افترسته السباع أو أكلته الحيتان في البحر، لم نجد له عقوبة ولا غيرها، نقول: هذا الكلام مجرد كلام وهذيان عقلي، وهذا لا يمكن أن نقول به إطلاقاً، بل ما ورد إثباته فنثبته. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 25 سؤال المؤمن والمنافق والكافر في القبر مسألة: اختلف العلماء: هل السؤال يكون للمؤمن والمنافق وللكافر، أم أنه خاص بطائفةٍ دون أخرى؟ الجواب: يقول الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى: إنه لا يسألُ إلا المؤمن والمنافق، وأما الكافر فلا يسأل، ولكن هذا القول خالف فيه الجمهور. وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الروح: والقرآن والسنة يدلان على إثبات السؤال للمؤمن والكافر والمنافق، ويستدل له بعموم قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] . وذكرت الأحاديث الكثيرة في إثبات أن السؤال للمؤمن والفاجر، ولا شك بأن الفجور يكون كفراً ويكون فسقاً. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 26 أقوال أهل العلم في خصوصية عذاب القبر وعمومه مسألة: هل السؤال خاص بأمة محمد أم أنه عام بالأمم كلها؟ من العلماء من قال: إنه خاص بأمة محمد، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (إنكم تفتنون في قبوركم، وإن أمتي تفتن) ولكن ذكر جمع من أهل العلم: أن الحكم عام بأمة محمد وبغيرها من الأمم. وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أنه ليس خاصاً بأمة محمد، بل هو عام بأمة محمد وغيرها، وممن ذكر بأنه خاص بأمة محمد: الحكيم الترمذي، وتوقف فيه ابن عبد البر، أي: هذا قول ثالث وسط بينهما، قالوا: نتوقف فلا ندري هل هو بأمة محمد أو ليس بأمة محمد صلى الله عليه وسلم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 27 الإمساك عن حقيقة سؤال القبر بأي لغة كان مسألة: هل يسأل الميت باللغة العربية أو باللغة السريانية أو غيره؟ الجواب: نمسك عنها فليس لنا حق أن نتكلم بهذا أصلاً، والواجب أن نقول: الإنسان يسأل ونثبت على ضوء النص ولا نستفصل في ذلك. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 28 أناس لا يفتنون في قبورهم مسألة: ذكر العلماء أن هناك أناساً لا تصلهم فتنة القبر، وذكروا منهم: من قرأ سورة تبارك لا يحدث له فتنة، وقد صحح أو حسن بعض أهل العلم الحديث الوارد فيها. وذكروا: من مات يوم الجمعة أو ليلتها أنه يُؤمَّنُ من فتنة القبر. وذكروا منها كذلك الذين يقتلون في الجهاد في سبيل الله وأن هؤلاء لا يفتنون في قبورهم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 29 الحكمة من عدم ذكر القبر في القرآن كثيرا ً مسألة: ذكر الإمام ابن القيم: ما الحكمة من عدم ذكر القبر في القرآن كثيراً؟ الجواب: ليس لنا الحق أن نعترض، بل الواجب علينا أن نسلم، وأن نصوص السنة كافية في إثبات هذا الأمر، والله قد بين أن رسوله لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] . قضية عذاب القبر وإثباته لا شك أنه قد تواتر في الكتاب والسنة، وذكر بعض أهل العلم أنه ورد فيه أحاديث عديدة جداً في إثبات هذا الأمر، وممن نقل التواتر فيه: الحافظ ابن رجب، والإمام السيوطي، والإمام ابن القيم، وأجمعت الأمة على إثباته، وبينوا في ذلك أحاديث كثيرة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 30 تأثير عذاب القبر على البهائم من اللطائف هنا أن عذاب القبر يؤثر على البهائم، وتأثيره على البهائم من جهتين: 1- تأثيره على البهائم من جهة سماعه، وسبحان الله! صاحب القبر في قبره يعذب ويحصل له من البكاء والعويل وغيره يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ومن رحمة الله تعالى أننا لا نسمع، ولذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر) والحمد لله أننا لا نسمع، وإلا لتنغص على الإنسان حياته كلها، لا يأكل ولا يشرب ويبقى في فزع وهلع مما يسمع من بكائهم، لكن البهائم تسمع. 2- أن البهائم إذا سمعت أدى إلى شيء من إسهالها، ونقل هذا عن ابن عباس وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن البهائم إذا أصيبت بشيء من الإمساك مروا بها على قبور المشركين فيصيبها إسهال؛ لأنها تسمع ما يحصل لهم من العقوبة، ويدل على أن هذه يحدث لها شيء من التأثر بما يحصل لها. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 31 ضمة القبر والحكمة في ذلك من أحداث القبر: قضية الضمة، أو ضغطة القبر، ولقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للقبر لضغطة، ولو كان أحد منها نجا لكان سعد بن معاذ) رضي الله عنه وأرضاه. وإثبات ضغطة القبر قد دلت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم على إثباتها، وهذه الضغطة نقول: إنها ضغطة حقيقية، وليست كما يقول بعض الناس: إنها ضغطة معنوية، لكنها تختلف باختلافها، المؤمن له ضغطة والكافر له ضغطة، فالكافر يحصل له ضغطة تختلف فيها أضلاعه، وأما المؤمن فيحدث له غم شديد. ولذلك قال بعض أهل العلم كـ ابن أبي مليكة: [ما أجير من ضغطة القبر أحد ولا سعد بن معاذ رضي الله عنه، مع أن مناديله في الجنة خير من الدنيا وما فيها] . مسألة: اختلف العلماء لماذا تحدث ضغطة القبر؟ الجواب: من العلماء من عللها وقال: لأنه ما من إنسان إلا ويحدث له شيء من المعاصي في الدنيا، ويحدث له في هذه الضغطة نوع تكفير، فتعتبر هذه نوع تكفير، ولعل هذه من نعمة الله تعالى أن يكفر الله عن العبد بها في أول دخوله إلى القبر. من المعلوم أن الناس في القبر على قسمين: 1- إما روضة من رياض الجنة. 2- وإما حفرة من حفر النار. 3- وإذا كان روضة من رياض الجنة فُتِحَ له باب إلى الجنة بعد أن يجيب، وقيل: يبين له هذا منزلك من النار لو كنت كفرت وعصيت، وهذا منزلك بسبب طاعتك، فيقول: رب أقم الساعة فرحاً بما رأى، وأما الكافر فعلى الضد! يرى مقعده من النار، وتكون نتيجتها نعوذ بالله من النار يقول: رب لا تقم الساعة، مخافة أن يدخل، مع أن ما هو فيه من العقوبة أمر عظيم جداً. القول الثاني لتعليل ضغطة القبر، وإن كان هذا معنىً الله أعلم بصحته، قالوا: إن الأرض أم، والأم تفرح بمجيء ولدها إليها، كما تأتي من سفر فتضمك أمك فهذا ضم له، ولكن هذا لا شك أنه قول يحتاج إلى دليل، ولا نجد دليلاً ثابتاً فيه يدل عليه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 32 أحداث تتعلق بالأصناف الذين يعذبون في القبر بين النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ممن يعاقبون في قبورهم، ومنهم صاحب النميمة، ومنهم الذي لا يتنزه من بوله، وبين النبي صلى الله عليه وسلم بعضاً من أصحاب القبور: (إن الشملة التي غلها تشتعل عليه في قبره ناراً قالوا: فنظرنا إليها وإذا هي لا تساوي درهمين) . أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أحوال أهل القبور الزناة، وآكلي الربا، والذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يفطرون في نهار رمضان بأنهم معلقون بأقدامهم، ومشدوقة أشداقهم تسيل دماً، ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل قال: (هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلته) وهذا الحديث حسنه بعض أهل العلم، والذين يتثاقلون عن الصلوات ترضخ رءوسهم بحجارة لتثاقلهم عن الصلوات إلخ هذه بعض الأحداث التي تتعلق بعذاب القبر، ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 33 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثامن عشر) تحتل عقيدة القضاء والقدر مكاناً بارزاً بين أركان الإيمان، ولذلك استفاضت أدلته من الكتاب والسنة، وتكلم فيه علماء السلف الصالح رادين على الضالين والمنحرفين فيه، حتى أصبح اعتقاد السلف فيه واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، ولم يختلط بغيره من الاعتقادات الفاسدة. وإن عقيدة القدر ليست مصدر قلق نفسي، كما أنها ليست مما يدعو إلى القعود والكسل والتعلل بالتعليلات الكاذبة، بل على العكس من ذلك كله، فقد كانت وما تزال أكبر داعٍ للمؤمن لكي يتصف بصفات المؤمنين، من شجاعة وإقدام وحسن خلق وعمل جاد مستمر، وغيرها من الصفات الحسنة التي تُغرس في قلب المؤمن بالعقيدة الإسلامية ومنها عقيدة القضاء والقدر. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 1 مسائل تتعلق بعذاب القبر الجزء: 18 ¦ الصفحة: 2 عذاب القبر متعلق بالروح والجسد معا ً الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قبل أن نبدأ بمبحث القضاء والقدر، بقي عندنا جزئيات يسيرة في مسألة عذاب القبر ونعيمه. مسألة: هل عذاب القبر متعلق بالروح والجسد، أم أنه للروح فقط، أم أنه للجسد وحده؟ الجواب: المعتزلة لما أنكروا عذاب القبر كانوا يقولون: إننا إذا بحثنا عن الميت بعد مضي سنين لم نجد شيئاً من جسده، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان يبلى ولا يبقى منه إلا عجب الذنب فقط، فقالوا: إذاً تعلق العذاب والنعيم هو على الروح فقط، ولكن هذا القول ليس بصحيح، والدليل على عدم صحته: أنه يأتيانه ملكان فيسألانه ويقعدانه، ثم يفتح له باب فيقال له: انظر، فينظر إلى الجنة، وينظر إلى النار، هذا كله يتعلق بالنظر وغيره للجسد ليس للروح، مما يدل على أنه للروح وللجسد جميعاً، وإن كان أغلبه للروح، والجسد له جزء من قضية التنعيم، وله جزء من قضية التعذيب. القبر ظلمة، ونعوذ بالله أن تكون قبورنا ظلمة علينا، ولقد ماتت امرأة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري ومسلم وهو في مسند الإمام أحمد وغيره، وهذه المرأة كانت تقم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماتت ولم يعبأ الصحابة بها، ولم يوقظوا النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليها، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ماتت ودفنت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (دلوني على قبرها) ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وصلى عليها ثم قال: (إن هذه القبور ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم) مما يدل على ما يتميز به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أن القبر ينور على أصحابه عندما يصلي عليهم، ويكون نوراً على الناس بسبب الأعمال الصالحة التي يقدمونها في الحياة الدنيا. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 3 سماع عذاب القبر للأحياء ذكرنا أن عذاب القبر ربما أن الناس قد يسمعون شيئاً من أصوات الموتى، ومنهم: النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم صاحبا القبرين، وقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) صاحب النميمة، وصاحب عدم الاستنزاه من البول. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على بغلة له، وجالت به صلى الله عليه وسلم، ثم سأل عن هذه القبور، وإذا هي ستة أو أربعة على خلاف في عددها، وكانت قبوراً للمشركين، فجالت بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كاد أن يسقط صلى الله عليه وسلم، بسبب أن هذه البغلة سمعت صوت الذين يعذبون. ومر النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة وكانت معه دابته فتحركت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يهود تعذب في قبرها) فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع شيئاً، وهذا يعتبر من أمر الغيب. مسألة: هل يمكن لآحاد الناس أن يسمع عذاب القبر؟ الجواب: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يمكن أن يسمع، وقد يكون السماع شيئاً حقيقياً، وقد يكون رؤىً يراها الإنسان، ونعلم أن الرؤى جزء من النبوة، فقد يرى الإنسان والده في هيئة سيئة، يراه بأنه يقول مثلاً: عندي أموال ردوها لأصحابها فلان قد كان كذا. أي: يستوحي الناس منها أن أباهم أو غيره من الميتين ربما يصاب بسوء، أو ربما ينعم بسبب شيء قدمه في الدنيا، فعند ذلك تكون سبباً لإبعاد هذه العقوبة، أو لزيادة النعيم الذي يحدث لهم. ولذلك تجد أن الذين يفسرون الرؤى تفسيراً، قد يمكن أن تخبره بخبر، فيقول: والدك ربما يحدث له كذا، أو ربما والدك مسرور لعمل عملته، أو ربما لشيء يحدث، ولعل مما يحدث في مسألة الرؤى بعض المفسرين يفسرون الرؤى: أن الإنسان إذا رأى ميتاً له -وإن كنت لست مفسراً للرؤى أصلاً- ودعاه أن هذا ربما يكون نذيراً لقرب أجله، أو لموت عزيز عندهم، وهذا ليس على إطلاقه. وأذكر من اللطائف: ذات مرة صليت في جامع الرياض قديماً، وكان سماحة شيخنا غائباً، فجاء رجل من البادية وسألني عن رؤيا؟ فقلت له: أنا لا أفسر الرؤى، قال: كنت في برية، وكان هناك باب، ثم فتح وخرج علي والدي، وقد يكون هذا علامة موتي، فهل ترى أن أتصدق أم أبذل شيئاً لهذا الميت وغيره؟ فمر علي أحد الأحبة فتبسمت في وجهه، ثم قلت له: حقيقة لا أفسر الرؤى، لكن لو عملت خيراً لوالدك الميت كان طيباً، ففي آخر الأمر، قال: لا، أنت تعلم بأني سأموت، ولم ترد أن تفسر لي الرؤيا، قلت له: أنا لا أدري عن الرؤى أبداً، قال: إنك ما ضحكت إلا لأني سأموت، فتورطت ماذا أعمل به؟ ولست ممن يفسر الرؤى أصلاً، وإن كنا قد بينا منهج الرؤيا إن كانت حسنة وإن كان سيئة، لكن أقول: إن الرؤى قد يحدث بها نوع خير للإنسان، مما يوقظ الله به قلب الإنسان، ومما يكون سبباً لصلاحه واستقامته على دين الله تعالى. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 4 حال العبد في قبره ذكر المؤلف رحمه الله تعالى أن الميت في قبره يكون له عمل يقارنه هناك ويسأل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت في قبره يأتيه رجل حسن الصورة، وحسن الثياب، وطيب الريح، فيقول له: أبشر بالذي يسرك، وأبشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، ويبشره بكل خير، فيقول هذا الإنسان الذي في قبره: من أنت فوجهك الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا أنك كنت سريعاً في كل خير في طاعة الله، بطيئاً عن المعصية، فجزاك الله خيراً، فيبقى مطمئناً، ويعطينا إيحاءً. سبحان الله! إن الإنسان إذا سار على الطريق وحده يشعر بوحشة، وإذا جاء الله بشيء يؤنس الإنسان ويطمئنه يشعر براحة ولذة وطمأنينة، كيف إذا كان هذا هو العمل الصالح الذي يقدمه الإنسان في هذه الحياة الدنيا؟ والأعمال الصالحة معروف أنها منوعة من صيام، وقيام ليل وقراءة قرآن وأمر بمعروف ودعوة إلى الله وتعليم علم وطلب علم وأعمال متنوعة، ولذلك ينبغي للمسلم أن يتنافس فيها، لعلها تكون معه بين يديه في قبره تؤنسه، وتكون سبباً لإزالة الوحشة التي في قلبه، وتحدث للإنسان الوحشة؛ لأنه ليس له قريب ولا عزيز ولا أنيس، وإذا أتى عمله الذي قارنه في حياته كلها كان أوثق الناس به، وأقرب الأشياء إليه، وأنس لقلبه واطمأن له. بخلاف العاصي -نعوذ بالله- فإنه يمثل له عمله في صورة رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، ويقول له: أبشر بالذي يسوءك، ثم يسأل: من أنت؟ فإن وجهك الوجه القبيح وغيره؟ فيقول: أنا عملك في هذه الحياة الدنيا الذي عملت، فيفتح له -نعوذ بالله- باب إلى النار، وينظر إليها، ويقال له: هذا مقعدك, ويفتح له باب إلى الجنة فيقال: هذا منزلك لو كنت طائعاً لله تعالى، ثم قالوا: يقيض له أعمى أصم أبكم معه مرزبة فيضربه بمطرقة إلى آخر ما يتعلق بعذاب القبر، ونعوذ بالله من عذاب القبر. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 5 مبحث الإيمان بالقضاء والقدر ننتقل الآن إلى مسألة القضاء والقدر، وأرى أنها من الأمور المهمة، والشارح الذي بين أيديكم قد نبهت سابقاً أنه يفوض في باب الصفات، ولذلك ينبغي أن ينتبه له، ولقد سار على منهج الإمام السفاريني رحمه الله، فإن الإمام السفاريني ليس عنده وضوح كامل في مسألة المعتقد، فإنه لما ذكر أهل السنة ذكر بأنهم ثلاث طوائف: قال: هم أهل الحديث يقصد بهم السلفيين، ويقصد بالثاني: الأشاعرة والماتريدية، قال: هؤلاء يطلق عليهم بأنهم أهل السنة، ولكن أهل السنة لا تنطبق إلا على من كان سائراً على منهج الكتاب والسنة، وكان على ما كان عليه سلف الأمة. ننتقل الآن إلى مسألة القضاء والقدر، ولذلك أومأ المؤلف إلى مسألة الشفاعة وأقسام الناس فيها ومتعلقاتها، وقالوا: هذه من المسائل التي لا بد من التنبيه عليها، ولكن يظهر أن الكلام حول مسألة القضاء والقدر قد تكون أولى من مسألة الشفاعة، وإن كان كل منهما مهم، وخاصة أن مسألة القضاء والقدر تعتبر أصلاً من أصول الإيمان الستة التي يجب التنبيه عليها، وكثر الخلاف فيها، والنزاع قوي جداً بين أهل السنة والطوائف الأخرى. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 6 تعريف القضاء والقدر في اللغة والاصطلاح القضاء بالمد وقد يكسر، قال في النهاية: هو في اللغة على وجوه، ومرجع هذه الوجوه الواردة في اللغة: إلى انقطاع الشيء وتمامه، وله معانٍ عدة، ومنها: الأداء والإتمام، فهو في اللغة: إحكام الشيء وإتمام الأمر. والقدر بتحريك الدال وإسكانها الطاقة، ولذلك منها قوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236] . فهو بمعنى: التضييق والتقدير، والمقصود عندنا هنا هو بمعنى: التقدير، وله معانٍ متعددة في اللغة العربية. قاعدة: إذا أردت أن تعرف مبحث القضاء والقدر فلابد أن يكون مشتملاً على مراتب القضاء والقدر الأربعة، ومن لم يأت بتعريفه في القضاء والقدر بالمراتب الأربع، فاعلم أنه ليس على منهج أهل السنة، ولذلك يقال: إنه تقدير الله أو كتابة الله للأشياء في اللوح المحفوظ، وعلمه سبحانه وتعالى بأنها ستقع، وفي أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى، وعلى صفات مخصوصة وكتابته لذلك، ثم مشيئته لها ووقوعها على حسب ما قدرها الله سبحانه وتعالى وخلقه سبحانه وتعالى لها. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 7 منزلة القضاء والقدر في عقيدة المؤمن لا شك أن القضاء والقدر أحد أركان الإيمان الستة، ودليله: حديث جبريل (أسألك عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره) ولذلك يعتبر الإيمان به جزء من عقيدة المؤمن، ولا يصح إيمانه إلا بالإيمان بالقضاء والقدر، قال ابن عباس رحمه الله ورضي عنه: [من وحد الله وكذب بالقدر، فقد نقض تكذيبه توحيده] دل على أنه لا يصح توحيد الإنسان حتى يؤمن بقضاء الله وقدره. ويقول العلماء: إن مبحث القضاء والقدر داخل في باب الربوبية؛ لأن القضاء والقدر متعلق بفعل الله تعالى، والربوبية هي فعل الله تعالى، فإنك إذا نظرت إلى القضاء والقدر وجدته يتعلق بمبحث الربوبية، العلم هو الربوبية، وهو من باب الأسماء والصفات، وبعض العلماء يدخل باب الأسماء والصفات في باب الربوبية عندنا الإرادة والمشيئة ربوبية وهي فعل عندنا الخلق ربوبية الكتابة فعل وهي ربوبية، فيقولون: إن من لم يأت بالإيمان بالقضاء والقدر فإنه لا يصح توحيده أبداً، ولا يعتبر موحداً؛ لأنه أخل بجزء من أجزاء التوحيد، وهو الإيمان بربوبية الله تعالى. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 8 أدلة الإيمان بالقضاء والقدر من الكتاب والسنة بالنسبة لأدلته، ففي الكتاب والسنة أدلة كثيرة جداً على إثبات القضاء والقدر، وإذا أخذت أدلة المراتب الأربع وربطتها جميعاً دلت على قضاء الله وقدره: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68] . وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3] وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً، وجاء الصحابة رضي الله عنهم يقولون: [ما نعمله من شيء كتب] . أي: في شيء قد مضى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات الأرض، وكان عرشه على الماء -قدرها- بخمسين ألف سنة) وتجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جفت الأقلام وطويت الصحف، فقال الصحابة: إذاً ففيم العمل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ونجد أن الله سبحانه وتعالى بيده الأمور كلها، خيرها وشرها، فهو يعطي ويمنع، ويعز ويذل، وينفع سبحانه وتعالى، ويصيب بعض الخلائق بنوع من الضر الذي يصيبهم، وما السبب؟ لأن الله هو القادر على كل شيء، وهو الفاعل المختار سبحانه وتعالى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، يجب على المسلم أن يؤمن بقضاء الله وقدره؛ لأنه قد دل عليه الكتاب والسنة، وبين الله سبحانه وتعالى في غير ما آية، وكذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الإيمان بها؛ لأنها إخبار، والإخبارات واجب علينا أن نصدق بكل ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم أو أخبرنا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] . ونجد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع -ثم ذكر منها النبي صلى الله عليه وسلم-: أن يؤمن بالقضاء والقدر) رواه الترمذي، وقال في تحفة الأحوذي: رجاله رجال الصحيح. وقد ورد التحذير من عدم الإيمان بقضاء الله وقدره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة عاق -أي: عاق لوالديه- ولا مدمن خمر، ولا مكذب بالقدر) رواه الإمام أحمد والبزار. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 9 مراتب القضاء والقدر مراتب القضاء والقدر أربعة، وقد دل عليها الكتاب والسنة: أولها: مرتبة العلم، ومرتبة العلم، سبق أن ذكرنا أن الإنسان يجب أن يعلم بأن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء. وعلم الله تعالى يتعلق بثلاثة أمور: الأول: علم بالشيء الماضي، وأن الله سبحانه وتعالى لم تخف عليه خافية فيما مضى، ولذلك قال فرعون لموسى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:51-52] دل على أن الله سبحانه عالم بما في الأزل. الثاني: علم الله سبحانه وتعالى بكل ما هو واقع وحادث الآن، وهذا الأمر يجب أن نؤمن به، فلا تخفى على الله سبحانه وتعالى خافية مما يحدث في الكون. الثالث: علم الله بما سيكون في المستقبل، وهو سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، يعلم بكل شيء سبحانه وتعالى، وقد بين: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الأنعام:59] دل على أنك حين تنظر إلى الشجرة حين تتساقط أوراقها، أي: منها الذي يسقط اليوم، وتلك غداً، فالله يعلم متى تسقط وفي أي موضع تسقط، مما يدل على علم الله تعالى بالجزئيات، ويخالف في هذا الفلاسفة، فيقولون: إن الله لا يعلم بالجزئيات، وإنما يعلم بالكليات فقط، وهذا الكلام باطل لا شك في بطلانه، بل الله يعلم بكل شيء، بالكليات وبالجزئيات. المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة، وأن الله سبحانه وتعالى قد كتب كل شيء عنده في اللوح المحفوظ، وقد دل عليه: (إن أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة) فكتب كل شيء. وكذلك جاء النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة يسألون: أعمالنا؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (جفت الأقلام، وطويت الصحف) أي: هذا أمر قد كتب، كل أعمالنا مكتوبة في اللوح المحفوظ، ما سنعمله غداً وبعد غد، ومكتوب في اللوح المحفوظ كيف سنموت بحادث سيارة بمصيبة بعلة بمرض إلى غيره، مكتوب في اللوح المحفوظ كم سيحصل لنا من الأموال إلى غيره، كل شيء قد قدره الله وكتبه. ويجب أن نعلم قاعدة وهي: أن اللوح المحفوظ لا يغير ما كتب فيه أبداً، ولن يخرج الإنسان عما كتب في اللوح المحفوظ أبداً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جفت الأقلام، وطويت الصحف) ونجد النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) رواه الإمام مسلم. ونجد الله تعالى يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] أي: من قبل أن نخلقها، دل على أنها كلها مكتوبة في اللوح المحفوظ. المرتبة الثالثة: مرتبة الإرادة والمشيئة، ويجب أن نعتقد أنه لا يكون في الكون، لا في السماوات ولا في الأرض إلا ما شاءه الله وأراده، ومشيئة الله وإرادته دائرة بين الرحمة وبين الحكمة، فربنا سبحانه وتعالى يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] . نجد من اللطائف قاعدة لـ أهل السنة وهي: أن أفعال الله لا يسأل عنها بـ (لِمَ) ، وصفات الله لا يسأل عنها بـ (كيف) ، هذه قاعدة يجب دائماً أن نعرفها. أفعال الله لا يسأل عنها بـ (لِمَ) ؛ للرد على طوائف المبتدعة المنحرفة في مسألة القضاء والقدر، وصفات الله لا يسأل عنها بـ (كيف) ؛ للرد كذلك على طائفة المبتدعة في الأسماء والصفات، الذين يقولون: كيف تكون صفات الله أو غيره؟ والسبب ولله المثل الأعلى: أنت في ذات نفسك لو كثر عليك السؤال لغضبت، فلو دخل -مثلاً- شخص منزلك أو بيتك، ثم قال: لماذا جعلتم المجلس هنا؟ لماذا جعلتم كذا؟ لماذا وضعت هذا مكان كذا؟ لماذا؟ ستجد آخر الأمر، تقول: هذا مسكين أنا حر أتصرف فيه بما أريد، ليس لك دخل في هذا، ويغضب الإنسان أن يسأل عن مثل هذه الأمور، وقد يكون توجيه واحد، لكن لِمَ لِمَ؟ الآن يأتي إنسان ويقول: لماذا خلق الله الذباب؟ لماذا خلق الله البعوض؟ لماذا خلق الله الأسد؟ لماذا كتب؟ تلك لحكمة يعلمها الرب سبحانه وتعالى، وقد تكون عقول الناس لا تدركها. ومن اللطائف ما ذكره صاحب كتاب: (غريزة أم تقدير إلهي) ، أظنه لـ شوقي خليل، كتاب يصلح إذا زرت مريضاً أن تهديه إليه، فيه بعض الحكم في الطيور، وفيه بعض المخلوقات العجيبة، سبحان الله! ترى فيه عجائب، لا يكثر الكلام لكنه يعطيك صفة، لماذا هذا الطائر منقاره عريض، وهذا دقيق، وهذا منثني؟ ولماذا هذه البهيمة كذا؟ ولماذا النمل بصفة كذا؟ لله حكم عظيمة في هذا الأمر. من اللطائف: كانت الهند تشتهر بالثعابين الكبيرة، طول الواحد منها ثلاثة أو أربعة أمتار وليست سامة، وكانت مستعمرة بريطانية، وجاء شخص وأخذ اثنين أو ثلاثة منها، ولم يكن الناس يتعرضون لها؛ لأنها لا تضرهم، وتعيش في مزارعهم، شخص أعجبه جلد ثعبانين أو ثلاثة، فسلخها، ثم اشتراها منه رجل بريطاني، وعندما أخذها هذا الرجل البريطاني سافر بها إلى بريطانيا معه، فوجدها شخص معه فقال له: ألا أصنع لك حذاء منها؟ أو أصنع لأهلك حذاء منها؟ فصنع فبيع بثمن غالٍ جداً، فسئل: من أين جئت به؟ قال: من الهند، فقالوا: لو أرسلت لنصنع ونبيع تجارة، فأخذوا يذبحونها وترسل، وسبحان الله! في السنة التي ذبح فيه عدد كبير أكلت الجرذان أهم محاصيلهم وهو الأرز، وتجد سكان بعض الدول أكلهم في الصباح والظهر والعصر والمغرب والعشاء كله أرز، ليس عندهم شيء، فجاءوا فتساءلوا: ما الذي حدث؟ وإذا بالسبب هو قتل هذه الثعابين، كانت تلتقم هذه الجرذان، فلا تصيب محاصيلهم، مما يدل على أن الله إذ يخلق بعضاً من هذه المخلوقات إنما هو لحكمة عظيمة يعلمها سبحانه وتعالى، عقولنا قاصرة، ولكن إيماننا بأن الله لا يفعل شيئاً إلا لحكمة يعلمها، ولهذا ذكر المؤلف: والنار يصلاها الشقي بحكمة أي: أن الله له حكمة في هذا الأمر، فيه شيء يظهر، وفيه ما لا يظهر لنا، ولذلك نحن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى يفعل كل شيء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] . ولذلك نحن لا نسأل: ما الحكمة من كذا؟ إن تبينت فالحمد لله، وإن لم تتبين فالواجب علينا أن ننصت لهذا الأمر. المرتبة الرابعة من مراتب القدر: مرتبة الخلق: ويجب أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى خالق لكل شيء، وأنه ما من ذرة في السماوات ولا في الأرض إلا قد خلقها الله سبحانه وتعالى، وخلق حركتها، وخلق سكونها، ولا خالق لها إلا هو، ولا رب سبحانه وتعالى لها إلا هو، نستدل على ذلك بعددٍ من الأدلة: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله صانع كل شيء وصنعته) دل على أنه سبحانه وتعالى هو المدبر والخالق لهذا الكون كله. وكل مرتبة من هذه المراتب ترد على طائفة من المبتدعة، يقول العلماء رحمهم الله تعالى: في إثباتنا لمرتبة العلم ردٌ على طائفة القدرية، نفاة هذه الصفة، ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا خصموا، وإن أنكروا كفروا) . من يقول: الله لا يعلم، يكون بذلك واصفاً لله بالنقص؛ لأنه جاهل ولا شك في كفره؛ ولأنه نفى عن الله صفة الكمال. وبمرتبة الإرادة والمشيئة يرد على طائفة القدرية، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: إن الإنسان هو الذي يفعل ما يشاء، والله ليس له إرادة ولا مشيئة في فعل الإنسان إطلاقاً. ومرتبة الكتابة ترد على المعتزلة الذين يقولون: إن الأمر أنف، أي: الآن حدث، أي: أن الله لا يكتب شيئاً ولا يقدر شيئاً إلا بعد عمل العبد، وقبل فعل العبد لا كتابة على العبد أصلاً، وهذا الكلام ترده الأحاديث والآيات الواضحة في بيان كتابة الله تعالى. ومرتبة الخلق ترد على المعتزلة الذين يقولون: الله خالق الإنسان، والإنسان هو الخالق لفعله. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 10 آراء الفرق في مسألة القضاء والقدر والرد عليها القول الأول: يقول العلماء: قول القدرية المعتزلة، ولفظ القدرية ينطبق على طائفة المعتزلة وعلى الجبرية، وانطباقه على المعتزلة؛ لأنهم نفاة للقدر، وانطباقه على الجبرية لأنهم يثبتون القدر على أن الإنسان مجبور على فعله، ولكن إذا ذكرها العلماء رحمهم الله تعالى؛ فإنما يقصدون بها المعتزلة ولا يقصدون الجبرية، فإنهم ميزوا، وإن كان كل لفظ يطلق على كلتا الطائفتين. لكن إذا قيل: القدرية المعتزلة، دل على أن هؤلاء هم نفاة القدر، الذين يقولون: لا قدر، هؤلاء ماذا يقولون؟ يقولون: إن الله سبحانه وتعالى لم يخلق أفعال العباد، بل العباد هم الخالقون لأفعالهم، وإن الله لا يعلم بها إلا بعد وقوعها، فالله سبحانه وتعالى شاء من المؤمن الإيمان، ولكن الكافر هو الذي لم يشأ الإيمان فوقعت مشيئة الكافر ولم تقع مشيئة الله تعالى، وهذا الكلام باطل لا شك فيه. ما هي حجة هذه الطائفة؟ قالوا: لو قلنا: إن الله إذا قدّر على العبد المعاصي، ثم عاقبه عليها كان ظالماً، وعند المعتزلة خمسة أصول، ومنها: العدل، قالوا: ومقتضى العدل، لو قلنا: إن الله خلق الإنسان وخلق فعله، ثم عاقبه عليه كان ظالماً، ثم إن الإنسان إذا كان مجبوراً على عمل ثم يعاقب عليه فإنه يكون مظلوماً بهذا، والله لا يظلم أحداً. إذاً النتيجة أن الله لم يقدر أعمال العباد، وإنما العباد هم الذين يتصرفون بأفعالهم ويدبرونها، وهذا باطل لا شك في بطلانه. لعل من اللطائف هنا ما ذكره شارح الطحاوية رحمه الله: أن أعرابياً أضل ناقة له، وعليها متاعه، فدخل إلى المسجد، فوجد حلقة، وإذا هي حلقة من حلقات المعتزلة، وأظن فيها عمرو بن عبيد أو غيره، فوجد ظاهرهم الصلاح، ولكن بواطنهم الاعتزال، فقال: معروف أن أهل الصلاح دعاؤهم يرجى -وأخذنا من أنواع التوسل: التوسل بدعاء الصالحين- فقال لهم: ناقتي ضاعت، ولو دعوتم الله أن يرد ناقتي جزاكم الله خيراً، فقال هذا المعتزلي: اللهم يا رب إنك لم ترد أن تذهب ناقته وتضيع، اللهم إنا نسألك أن تردها عليه، فقال هذا الأعرابي: والله لا حاجة لي بدعائكم، قالوا له: لِمَ؟ قال: إذا كان هو ما أرادها ثم ضاعت، وقد يريد أن ترجع ولا ترجع، فما الفائدة من دعائكم إذاً؟ فبهت المعتزلة في الحلقة كلهم، لم نحتج إلى أدلة ولا إلى نصوص وأفحمهم هذا الأعرابي بكلمتين. ولذلك نرد على المعتزلة بردود عديدة: الرد الأول: أن هذا مخالف للأدلة المثبتة لمشيئة الله تعالى، وأنه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13] ويقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الإنسان:30] ويقول: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] . الرد الثاني: أن هذا مخالف لعموم قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] الآن أنت عملك شيء أم ليس شيئاً؟ نقول: عملك شيء، إذاً: الله خالق له، ونجد الصفات والأفعال تبعاً للذات، فمادام أن الذات مخلوقة فأفعالها تبع لها مخلوقة لله سبحانه وتعالى، والله يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] . الرد الثالث: أن الله مالك السماوات والأرض، فكيف يكون في ملكه ما لا يريده ولا يشاؤه، هل يمكن أن يقع في ملكه ما لا يشاؤه الله ولا يريده؟ الله المدبر لهذا الكون، فلا يكون في ملكه إلا ما شاء سبحانه وتعالى وأراده، والشيء الذي يكون مدبراً ولا يقع فيه ما لا يريده يدل على عجزه وضعفه وعدم ملكه الكامل، ملكه ناقص، لكن الله سبحانه وتعالى ملكه كامل لكل شيء. الرد الرابع: أن نقول لهم -وهذه قاعده قالها شيخ الإسلام ابن تيمية، ودائماً ينبه عليها، وينبغي أن نقف معها دائماً -يقول: إن المبتدعة لا يفرون مما دلت عليه ظواهر النصوص إلا وقعوا في مثله أو شر منه. فنقول لهؤلاء المعتزلة: إنكم وقعتم في شر أعظم مما فررتم منه، وما ذلكم؟ قالوا: يلزم على قولهم: إن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، وهل الله يغالب؟ لا، هو أراد أن ينفي عن الله الظلم، فوقع في شر مما فر، أنها وقعت مشيئة الكافر ولم تقع مشيئة الله تعالى، فدل على أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله، وهذا أقبح اعتقاداً عندهم من الاعتقاد الأول. الرد الخامس: أن الله سبحانه وتعالى قد قدر الخير والشر، والله حذر من الشر وحث على الخير، وجعل للناس عقولاً يميزون بها بين الخير والشر، كما في قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7-8] وأرسل الله الرسل لإقامة الحجة على الناس؛ لأجل ألا يحتج الناس فيقولون: لولا أرسلت إلينا رسولاً، تجد أنه: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] فقامت الحجة ببيان الحق وإيضاحه للناس، وهناك ردود أخرى لسنا بصدد الكلام عليها. قال: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن القدرية انقسموا إلى قسمين: غلاة ومقتصدون، وإن كانت تلك الطائفتان على ضلال، فالغلاة أنكروا مرتبة العلم ومرتبة الإرادة، وهم الذين قال فيهم الإمام الشافعي رحمه الله: (ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا خصموا وإن أنكروا كفروا) . الطائفة الثانية: أنكرت المرتبتين الأخريين: الكتابة والخلق، وبهذا نعلم أنهما ليستا فرقة واحدة بل هما فرقتان. الجبرية ماذا يقولون؟ يقولون: إن الإنسان مجبور على فعله، ولهذا غلوا في إثبات القدر وإثبات الإرادة غلواً كاملاً، وقالوا: كل ما يفعله الإنسان فهو مجبور عليه، وحركة الإنسان في أفعاله كلها كحركة المرتعش، وكالريشة في مهب الريح، وكورقة الشجر التي تطير ولا تدري أين تتجه، لو جئت إلى شخص مريض بـ (الأنفلونزا) مثلاً، وينتفض من شدة البرد، وتقول: يا أخي! اتق الله، لماذا تنتفض؟ ليس بإرادته هو، هل يعتب عليه الانتفاض؟ لا يعتب؛ لأن حركة الإنسان مجبور عليها. ولذلك قالوا: إن الإنسان مجبور على فعله، طيب! هل نسبة الأعمال إليه؟ قالوا: هذا من باب المجاز، وليس من باب الحقيقة، وهذا لا شك أنه باطل، وأوصلهم هذا الأمر إلى أمرٍ قبيح وهو: أن كل ما يفعله الإنسان والله يحبه ويرضاه حتى وإن كانت -نعوذ بالله- معصية، وهذا لاشك أنه كلام باطل، وهذا القول غالباً ما ينطبق على غلاة الصوفية الذين وصل الحد ببعضهم إلى أن قالوا: إن فرعون لما قال: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] هذا من كمال إيمانه، لكن موسى لم يفهم مقصوده، ولذلك عتب عليه، وإلا فهو حين يقول: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] صحيح؛ لأن الله حال في كل مكان، وكل فعل يوجد في الكون حتى السجود للأصنام وغيره محبوب إلى الله تعالى، وهذا كلام باطل، بل هو الكفر بعينه، هذا مذهب لا شك أنه ظاهر الفساد. ما حجة هؤلاء؟ الجواب: الكتابة في اللوح المحفوظ، ويقولون: الأحاديث والأدلة تدل على أن الله كتب مقادير العباد كلها، فمادام أنها مكتوبة فلا يمكن للإنسان أن يتصرف إطلاقاً، وهذا الكلام باطل باطل باطل! ولعلي أقول للأحبة: يوجد في عصرنا من يوجد عندهم مفهوم الجبر، وإن كان هو ليس جبرياً، أي: ليس منتسباً إلى هذه الطائفة. نأخذ مثالاً بسيطاً الآن: قد يكون في بيتك وقد يكون من أقاربك من يأخذ بهذا المذهب، فبعض الناس تأتي تنصحه وتقول: يا أخي! اتق الله، لماذا لا تصلي؟ قال: جزاك الله خيراً، احمد الله أن الله هداك وأنا ما هداني، هذا مفهوم الجبر، بمعنى: أنني ليس لي تصرف أبداً، أنتظر الهداية فقط، وإذا كان طيباً قال: يا أخي! جزاك الله خيراً، ادع الله أن يهديني مثلما هداك فقط، وكأنه ليس عنده قدرة على الدعاء، بل يريد أن ينتظر حتى تنزل عليه الهداية من السماء فيلبسها، ثم يأتي إلى المسجد يصلي، وهذا كلام باطل لا شك في بطلانه، وإن كان قائل هذا القول لا يعرف الجبرية ولا يعرف مثبتة القدر، ولا يعرف غلاة التصوف ولا غيرهم، لكن قد يوجد له شيء من الرواسب في الناس، وكذلك يشم منه رائحة أخرى وهو مذهب الإرجاء، وإن كان في الجملة قد لا نقول: إن هؤلاء مرجئة، بعض الناس تجلس معهم في المجلس، وتجد الناس يجلسون ويقولون: أهم شيء الصلاة، يجلسون مجلساً على معاصٍ وغيرها، ويقولون: صلِّ والباقي كله يهون، أهم شيء الصلاة، وكأنهم يقولون بهذا المفهوم: من أدى هذه الصلاة سقطت عنه التكاليف كلها، بمعنى: أنه لاشيء عليه. والمرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب أصلاً، ولذلك قال شاعرهم: فأكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم مادام أنك ستقدم على رب كريم فلا تترك معصية إلا وذهبت إليها، وهذا -والعياذ بالله- خطر كبير، ووقف أهل السنة في وجوه المرجئة وأبطلوا مقالتهم، ولسنا بصدد الكلام عن الإرجاء، وأقسام المرجئة وغيرها. هؤلاء الجبرية نرد عليهم بردود عديدة: أولها: أن الله سبحانه وتعالى أضاف العمل إلى العبد، وجعله كسباً له يعاقب عليه ويحاسب عليه بث الجزء: 18 ¦ الصفحة: 11 انحرافات الأشاعرة في العقيدة أود أن أنبه -وإن كان مبحث القضاء والقدر سيطول بنا- بالنسبة للأشاعرة ليس الانحراف عندهم في باب الصفات فقط، ويظن الأحبة، وإن كان كثيراً ما نسمع أن الأشاعرة تعتبر أقرب المذاهب إلى أهل السنة، فلديهم انحراف في باب الأسماء والصفات، فهم لا يثبتون إلا سبع صفات فقط دون غيرها، وإن كان قولهم مضطرب في باب الصفات، فمنهم من أثبت سبعاً، وعشراً، وثلاثة عشر، وعشرين صفة، مما يدل على اضطرابهم، وأنهم ليس لهم قاعدة ثابتة في باب الصفات. عندهم انحراف كذلك في باب التحسين والتقبيح، فهم يرون أن التحسين والتقبيح للشرع فقط، وليس للعقل تحسين ولا تقبيح، وقولهم هذا باطل. ومنها كذلك: أنهم يذهبون في باب الصفات إلى قضية المجاز، وعندنا أن باب الأسماء والصفات ليس فيه مجاز أصلاً، الأصل إبقاء الألفاظ على ظاهرها. ومنها كذلك: خبر الواحد يرونه ظني الدلالة ولا يحتج به في باب الأسماء والصفات ولا في باب الاعتقاد أصلاً، وهذا الكلام ليس بصحيح. ومنها: في باب القضاء والقدر، فإنهم يذهبون إلى قضية الكسب، والقول بالكسب قول باطل، وقد رد عليه أئمة أهل السنة، وبينوا الانحراف فيه، فليس انحرافهم في جزئية واحدة، بل لديهم انحرافات متعددة، ومما يبين على أنهم ليسوا على منهج أهل السنة والجماعة في هذه الأمور التي ذكرناها، بل خالفوا فيها، ولئن كانوا أقرب في بعض الجزئيات، وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى ذكرهم، ونجد واقع المسلمين يرتبطون بمذهب الأشاعرة والماتريدية، ولكن عندنا نقول: الحق أحب إلينا، وهو أقبل لنا جميعاً، وحجتنا الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة. ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 12 شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس التاسع عشر) أوضحت الشريعة الإسلامية للناس حقائق العقيدة وضوحاً لا غموض فيه، ومن ذلك عقيدة القدر، حيث بقي الصحابة بها متمسكين ولها واعين، لم يخالط قلوبهم شك ولا ريب، وقد نهوا أن يبحثوا بعقولهم وأهوائهم، فكفوا واستسلموا لله رب العالمين، واستمر المسلمون على ذلك إلى أن نبتت في المسلمين بذور الخلاف والشقاق والانحراف وذلك بظهور فرق الجهمية والقدرية والمعتزلة إلخ، وبالتالي فإن الاعتصام بالكتاب والسنة نجاة، والبعد عنهما هلاك وضلال، لأن البدع ليس فيها ما هو حسن أبداً، بل كل بدعة في دين الله بالزيادة أو النقصان فهي ضلالة ولا يستثنى شيء من هذا العموم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 1 مسائل تتعلق بالقضاء والقدر الجزء: 19 ¦ الصفحة: 2 التحذير من الخوض والتنقيب في باب القضاء والقدر الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: لعلنا تكلمنا في الدرس السابق عن بعض المذاهب المتعلقة بالقضاء والقدر، ووجدت من الأحبة كثرة أسئلة حول هذا الأصل العظيم الذي هو الإيمان بقضاء الله وقدره خيره وشره، وأقول للأحبة كما قال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: رأيت أعلم الناس بالقضاء والقدر أجهلهم به، وأجهل الناس بالقضاء والقدر أكثرهم بحثاً فيه وتنقيباً، ولعل السبب في ذلك: ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لما قال: [إن القضاء والقدر هو سر الله في خلقه، فمن يكشف سر الله تعالى؟] . وتبقى العقول قاصرة أن تفقه أو تعلم دقائق هذا الأمر، ولكن أعطيت قواعد لابد من الإيمان بها، وهي المراتب الأربع: مرتبة العلم، والكتابة، والإرادة والمشيئة، والخلق، فإذا أقر الإنسان بها على ضوء النصوص اطمأنت نفسه ولم يجد في قلبه شيئاً من الاعتراض على أي شيء يحدث في هذا الكون من قضاء الله وقدره. قدمت بهذا الأمر مبيناً التحذير من كثرة التنقيب والخوض في باب القضاء والقدر، ولعل الشيطان أكثر ما يقدح في نفس الإنسان من الشبه والشكوك ومن الأمور التي تزعزع مبدأ القضاء والقدر والإيمان به، ولهذا لما ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن البدع والشبه خطيرة على الإنسان، قالوا: وأشدها خطراً ما كان متعلقاً بالقضاء والقدر، خاصة أنها تتعلق بأمرٍ غيبي ولا يمكن للإنسان تفسيرها إلا إذا كان عند الإنسان قاعدة بالإيمان بالله وبرسوله وبما أخبر عن الله وعن الرسول صلى الله عليه وسلم واطمأنت نفسه لهذا الأمر. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 3 أنواع تقديرات مرتبة الكتابة أنطلق إلى أنواع التقدير، وأبدأ بمرتبة الكتابة التي يجب علينا الإيمان بها، والتقدير أنواعه متعددة: التقدير الأول: التقدير الأزلي: وهو كتابة المقادير قبل خلق السماوات والأرض، ويشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) ويشهد له قول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة) ومفهوم هذه المرتبة أن المسلم يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد كتب كل شيء، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (جفت الأقلام وطويت الصحف) أي: أن هذا الأمر قد فرغ منه، وما كتب في اللوح المحفوظ لا تغيير فيه ولا محو، ولا زيادة فيه ولا نقصان. التقدير الثاني: التقدير العمري، وذلك حين أخذ الميثاق على بني آدم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] دل على أن هذا التقدير كان للإنسان منذ الأزل؛ قدر للإنسان ما سيعمله، ولقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث لـ عمر بن الخطاب قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً ومقصوداً لذلك: أن الله سبحانه وتعالى قدر جزءاً من ذرية آدم إلى النار، وجزءاً منهم إلى الجنة، والله عالم بأهل الجنة وما يعملون، وأهل النار وما سيعملون سبحانه وتعالى، ويسمي العلماء هذا التقدير: التقدير المتعلق بأخذ الميثاق، وإن كان بين العلماء فيه خلاف. والإمام ابن القيم رحمه الله تطرق إلى هذه المسألة، ورجح أن قضية مسح ظهر آدم وإخراج الذرية منه إخراجاً حسياً أن النصوص ليست صريحة في إثباته، وإنما ما كان من التقدير الذي إنما يشهد تمييز الناس إلى جنة أو إلى نار، وأن هؤلاء من ذرية آدم إلى النار، وأن هؤلاء من ذريته إلى الجنة. التقدير الثالث: الذي يكون للإنسان عند أول تخلقه، ويسميه العلماء: التقدير العمري الخاص بالإنسان -والأول: التقدير الذي يعتبر متعلقاً بالميثاق- فالتقدير الذي يكون خاصاً بالإنسان مثلما قال الله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32] ويشهد له حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة) ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلقة، ثم المضغة، ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح، ثم يكتب رزقه وأجله، ثم قال: وشقي أو سعيد، ويصبح كل واحد منا كُتب، وهذه الكتابة والتي قبلها كلها مرتبطة بقضية الكتابة المتعلقة باللوح المحفوظ. التقدير الرابع: التقدير الحولي: وهذا التقدير في ليلة القدر، وهي في قول الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] أي: أن الله سبحانه وتعالى يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من سيموت ومن سيمرض ومن كذا، ويقدر ما سيعمله في ليلة القدر في السنة التي هو فيها وجزء من السنة القادمة. التقدير الخامس: التقدير اليومي، يقول الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] سبحانه وتعالى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 4 أنواع الإرادة ذكر العلماء أن الإرادة تنقسم إلى قسمين: 1- إرادة كونية قدرية. 2- إرادة دينية شرعية. أما الإرادة الكونية القدرية فتتعلق بكل شيء في هذا الكون، وما من حركة ولا سكنة ولا فعل ولا عمل ولا إمراض ولا حياة ولا موت ولا غيره إلا داخل تحت الإرادة الكونية القدرية التي يجب علينا أن نؤمن بها، وقد دل عليها قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13] {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] ويشهد لها قول الله تعالى كذلك: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] دل على أنه لا يخرج من الكون شيء أبداً عن مشيئة الله تعالى. وهذه نسميها الإرادة الكونية القدرية، ويدخل فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ولا يخرج أحد منها إطلاقاً. وأما الإرادة الدينية الشرعية فهي المتضمنة لمحبة الله ورضاه، وهذه تتعلق بشرعه ودينه، مثل: الصلاة والزكاة والعبادات والتوحيد وغيره، نقول: هذه الله يريدها من العباد ديناً وشرعاً، ويستدل العلماء لها بقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) هذه كلها مما يكرهها الرب سبحانه وتعالى. ما هو الفرق بين الإرادتين؟ يفرق العلماء بين الإرادتين فيقولون: إن الإرادة الكونية القدرية تتميز: أولاً: أنها شاملة للكون كله، فلا يخرج شيء من الكون عنها. ثانياً: لا يلزم أن يحبها الله ويرضاها، فقد يحبها الله ويرضاها وقد لا يحبها الله ولا يرضاها، وهذه الإرادة نسميها: الكونية القدرية. ثالثاً: الإرادة الكونية القدرية تتحقق في الكافر وفي المؤمن. أما الدينية الشرعية فهي تتميز: أولاً: أن الله يحبها ويرضاها. ثانياً: لا يلزم وقوعها. ثالثاً: أنها لا تتحقق -أي: الدينية الشرعية- إلا في المؤمن المستقيم، أما الكافر فلا تتحقق فيه الإرادة الدينية الشرعية. مثال ذلك: إذا أراد الله سبحانه وتعالى إنزال المطر كوناً وقدراً لا بد أن يقع، لكن الإرادة الكونية الشرعية لو سئلنا جميعاً: أليس الله يريد من العباد أن يصلوا؟ هذه إرادة شرعية دينية يريدها منهم، لكن هل يلزم منهم أن يصلوا؟ لا يلزم، منهم من يصلي ومنهم من لا يصلي، والله أمرنا بالاستقامة على دينة، فهل يلزم كل الناس أن يستقيموا؟ لا، منهم من استقام ومنهم بقي على انحرافه، فلا يلزم وقوعها. الإرادة الكونية القدرية لا يلزم أن الله يحبها ويرضها، فإن الله أراد كوناً وقدراً أن يقع الكفر، وتقع المعاصي، هل يلزم أن الله يحبها؟ لا، لكن إرادته الدينية الشرعية: الصلاة، الصيام، الاستقامة وغيرها يحبها الله ويرضاها من عباده، ولهذا قال الله تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] . ولهذا نجد أن بعض الطوائف غلت في هذا الباب، فنجد طائفة الجبرية أخذت بالإرادة الكونية القدرية فقط، وبهذا انحرفت ونسيت الإرادة الدينية الشرعية، وطائفة المعتزلة أخذت بالإرادة الدينية الشرعية، ونسيت الإرادة الكونية القدرية، وضلت هذه الطائفة، وكلتا الطائفتين على انحراف وضلال، لكن أهل السنة والجماعة جاءوا بالإرادتين جميعاً فآمنوا بهما، ووفقوا بينهما، وكانوا أسعد الطوائف في باب القضاء والقدر، ولهذا كانوا من أصلح الناس في هذا الأمر. نقول للأحبة: أفعال العباد لا تخرج عن خلق الله تعالى، وهي داخلة في إرادة الله ومشيئته، ولا يخرج شيء من الناس إطلاقاً بفعله أو عمله عن هذه الإرادة أبداً، ويدل عليها من ناحية العقل ومن ناحية الشرع: أما ناحية الشرع: فجميع الآيات الواردة في الإرادة الكونية القدرية. وأما ناحية العقل: فنجد أن الكون ملك لله تعالى ولا يخرج شيء عن ملكه، فهل يقع في ملكه ما لا يريده ولا يحبه؟ بالنسبة لما لا يحبه قد يقع في مسألة الكفر، لكن ما لا يريده أبداً، الله هو المالك والمتصرف بهذا الكون سبحانه، ولا يقع فيه إلا ما أراده سبحانه وتعالى، سواء كانت أفعال العباد كلها اختيارية أو كانت أفعالاً نسميها جبرية جبل الإنسان عليها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 5 سبب نكوص كثير من الناس عن طلب الهداية مسألة: كثيراً ما يعرض بعض العصاة وأصحاب الفسق ويحتجون إذا نوقشوا بالاستقامة على دين الله بالقضاء والقدر، وقالوا: نحن لم يرد الله هدايتنا ولا استقامتنا، وأنتم هداكم الله، فما موقفك من هذه؟ الجواب: إن هؤلاء لا يحتاجون إلى كثير من النصوص الشرعية ولا المناقشات ولا غير ذلك، ولا تصغ إليه، بل يكفي ضرب المثال ليتضح بطلان ما هو عليه، ولهذا تجد بعض الناس عندما تقول له: لماذا لا تصلي؟ قال: سبحان الله! أنا مكتوب في بطن أمي وعندنا عقيدة شقي أو سعيد، نقول له: نعم، يقول: أنا مكتوب من أهل الشقاء وانتهى الإشكال، أو بعض الناس يقول: أنت هداك الله لماذا أنا لا يهديني؟ نستدل له بالقرآن، وسبحان الله! آية عظيمة جداً في سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] ، لما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل:5-6] جاءت بعدها {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:7] بدئ بالعمل أولاً، فنقول لهذا المنحرف: ائت إلى المسجد وصلِّ الصلوات، وجالس الأخيار، واحضر حلقات العلم، واحرص على الأعمال الصالحة ييسرك الله لليسرى، أما أن تجلس في محلات الخنا والمعاصي والفسق والفجور، وتنتظر الهداية إلى تنزل عليك من السماء، هذا أمر لم يجعله الله؛ إذ قد جعل الله سبحانه وتعالى من سننه الكونية أن ربط الأسباب بالمسببات، وجعلها الله سبباً، ولنذكر لهذا المسكين مثالاً بسيطاً وهو من اللطائف: ذكروا أن شيخاً لقي أحد تلاميذه وقد غاب عنه زمناً، وقد كبر سنه، سأله: هل جاءك أولاد؟ قال: والله ما رزقت بأولاد، ولكن لو دعوت الله لي لكان طيباً، فأخذ الشيخ يدعو له -وقد غاب عنه- وبعد سنة، سأله: أرزقت بأولاد؟ قال: والله ما رزقت، فسأله الشيخ: هل تزوجت أم لم تتزوج؟ قال: لا. لم أتزوج، قال: كيف تجعلني أدعو لك سنة أن يرزقك الله أولاداً وأنت ما تزوجت؟ وهذا الذي يريد الهداية أن تنزل عليه من السماء كحال من يريد أولاداً بدون زواج، هل يمكن؟ سنة من سنن الله الكونية وهي ربط الأسباب بالمسببات، وهؤلاء يعملون أغلوطات هم لا يعملون بها في كل جوانب حياتهم، قد يعمل بها في حال المعصية ولا يعمل بها في حال الطاعة. عجباً لهؤلاء القوم! يحتج بالقضاء والقدر في معصيته، لكن إذا جاء إلى المسجد وذهب إلى مكة يطوف ويسعى، ما قال: والله كل هذا بقضاء الله وقدره، ما عندي عمل إطلاقاً وأنا مجبور، لا يمكن! لو قلت له: أنت مجبور أن تذهب الآن إلى المسجد، يقول: السلام عليكم وانتهى الإشكال يقول: أنا مجبور حر، وبهذا يستطيع التمييز، وهؤلاء مساكين يكيلون بمكيالين، ففي الطاعات يقول: هذا عملي وأنا الذي قدمت. وتجد الشخص إذا بنى مسجداً أو أنفق أموالاً قال: بنينا، وعملنا، وتعبنا، وأسأل الله أن يتقبل هذا العمل وغيره، لكن في حال المعصية لا يقول: أسأل الله، إنما يقول: هذا بقضاء الله وقدره، ليس لي شيء، وهذا لا شك أنه احتجاج باطل لا شك في بطلانه. ثم نقول لهؤلاء المساكين الذين يحتجون بالقضاء والقدر في حال المعاصي، ونضرب لهم بمثالين بسيطين: أول مثال وهو من الأمثلة البديهية: أليس قد كتب رزقك أم لم يكتب؟ الجواب: مكتوب رزقك: (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها) ما رأيكم أن نجلس هنا ولا نخرج، إن كان الله كتب لنا أن يأتي الفطور جاء، وإن كان لم يكتب في اللوح المحفوظ فليس هناك مجال، لا يمكن أن يأتي، هل يعمل به؟ أبداً، هل يمكن أن يقبله؟ لا يقبله أبداً، ولذلك إذا جاء أحدنا الظهر أول ما يدخل يدخل المطبخ يفتح الثلاجة ويأخذ شيئاً خفيفاً، يسحب الصماط يقدم يعمل يعمل، لا يمكن أن يأتيه أكل بدون أن يقدم شيئاً [إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة] كما قال عمر للذي جلس في المسجد يسأل أن ينزل عليه شيء. إذاً فما نعمله في أمور الدنيا يجب أن نعمله لأمور الآخرة، فلماذا نعمل للدنيا ولا نعمل للآخرة، ونكيل بميزانين؟ الأمر الثاني: من الأمور التي غابت عن عقولنا الآن، وهي مثل مبحث القضاء والقدر، قضية موت أحدنا الآن، لو سئل كل واحد منا الآن سؤالاً: متى ستموت؟ ليس عندي خبر. أي سبب ستموت به؟ ليس عندي خبر. وعندك (100%) يقين؟ قال: نعم عندي (100%) يقين. ومكتوب في اللوح المحفوظ السبب؟ نعم. قلنا له: جزاك الله خيراً، مادمت تحتج بالقضاء والقدر على قضية الهداية، الخط السريع إذا جاء في الساعة الثانية عشرة ليلاً، افتح الفراش ونم وسط الخط السريع الدائري، وإن كان الله كتب موتك لا محالة ستموت، وإن كان لم يكتب الله موتك تجد السيارات يذهبن يميناً ويساراً ولا يقربنك أبداً. عندما ينام لا يمكن أن تقر له عين، لا تأتي سيارة إلا وهو ينتظر متى تصل إليه! إذاً ليس عندك يقين بهذا الشيء؟ عندي معتقد، فلماذا؟ ونحن نقول: نحن نعلم بأن الله قد كتب هذا الأمر، لكن لم يخبرنا الله أأنت شقي أم سعيد. ثم كل واحد منا يفرق بين الأمر الاختياري والأمر الإجباري، هذا أمر يقيني عندنا، أحدنا إذ يأتي إلى المسجد لحلقة علم لا يشعر أنه يجر برقبته حتى يدخل المسجد، بل يشعر بطمأنينة يمشي مختاراً، ويستطيع الإنسان أن يمشي، ولا يقول أحد: أنا مجبور أبداً. أضرب مثالاً بسيطاً: لو قتل أحد إنساناً، قلنا له: لماذا؟ قال: هذا أمر مكتوب، ثم جاء شخص آخر حامل السلاح قلنا له: إلى أين؟ قال: أنا سأقتل. هذا مكتوب عليه وأنا مثله مكتوب علي وهذا لا يمكن أبداً، لا يعلم أبداً بهذا الشيء، يستطيع الرجوع مباشرة، ولو قلت الآن لأي شخص: أنت الآن جئت إلى الدورة مجبوراً؟ قال: لا مجبور ولا أي شيء، السلام عليكم ولا درس ولا شيء أنا حر، ولهذا يشعر الإنسان بأفعاله في الطاعات، وفي المعاصي أنه ليس مجبوراً أبداً، لا يشعر بجبر، يستطيع الترك ويستطيع العمل. فمثلاً: بعض الفساق تمر المرأة مثلاً وقد تجملت، يقول: الحمد لله! هذا رزق جاء به الله، ما جئت به أنا؛ أنا جالس أنظر وينتهي الإشكال، هل يمكن؟ لا يمكن أبداً وهو يشعر بالاختيار، والدليل على ذلك أنه يمشي من هنا، ويمشي من الجهة الثانية، وينظر ويعمل إلى أن يقحم نفسه في المعصية، ليس هناك جبر أبداً، مع علمنا أن كل شيء قد كتب في اللوح المحفوظ. أردت أن أضرب هذه الأمثلة لنقطع دابر هؤلاء الذين يحتجون بالقضاء والقدر في معاصيهم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 6 الاحتجاج بالقضاء والقدر إنما يكون على المصائب والآلام لا المعايب والآثام يذكر أهل السنة والجماعة قاعدة عظيمة جداً، وهي في مبحث القضاء والقدر: إن القضاء والقدر يحتج به في باب المصائب لا في باب المعايب، ومن الأمثلة على ذلك: نحن نسير في طريق وانقلبت السيارة أو صدمت، نأتي للشخص ونقول: الحمد لله على قضاء الله وقدره، لله ما أخذ، الحمد لله أنه ما جعلها أعظم، نحتج بالقضاء والقدر. شخص الآن مشى وضرب شخصاً وقتله، لا نأتي إلى القاتل ونقول: الحمد لله على قضاء الله وقدره، هذا أمر مكتوب عليك! بل نعاتب عليه ونعنف عليه، ونسبه ونشتمه: أما تخشى الله أما تتقيه أما تعلم مغبة قتل المسلم وأثره؟ لا نحتج له بالقضاء والقدر، مع أن هذا الأمر واقع بقضاء الله وقدره، ولذلك قال العلماء: يحتج بالقضاء والقدر في باب المصائب لا في باب المعايب. ولعلي أذكر مثالاً وأنطلق للرد على أهل المعاصي، يمثل العلماء له بقضية القتل: فمثلاً: صديق لك قتله شخص، حين نذهب إلى أهل المقتول أول ما ندخل عليهم نقول: الحمد الله على قضاء الله وقدره، هذا أمر مكتوب عليه، ونسليهم، وحين نذهب إلى القاتل لا نأخذ هذا القاتل؛ بل نسبه ونشتمه، أما تعلم أنك ستقتل، أما تعلم بالآيات الواردة في تحريم القتل، أما تعلم أن هذا من كبائر الذنوب، أما تخشى الله؟ نعنف عليه، أما أولئك فنسليهم، ونسريهم، ونسحب من نفوسهم الحزن، وهذا هو مصداق: يحتج بالقضاء والقدر في باب المصائب دون باب المعايب، فإنه لا يحتج به في باب قضاء الله وقدره. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 7 الرد على الجبرية في الاحتجاج بالمعاصي ننتقل إلى من يحتجون بالمعاصي، أول رد عليهم: أن الله سبحانه وتعالى أضاف العمل للعبد، وإضافة العمل للعبد وجعْلُه كسباً له يدل على أنه هو المعاقب عليه، ولهذا قال: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر:17] {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] حثك بأن تعمل وتجتهد في هذا الأمر. الأمر الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه الله فوق طاقته، الصلاة فوق الطاقة، الصيام فوق الطاقة، الزكاة فوق الطاقة؟ أبداً، كلها في قدرة الإنسان، ولذلك إذا كلفك الله ما تطيق تستحق أن تحاسب على الخير وتحاسب على الشر، ولهذا قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ونقصد أن الإنسان مكلف على قدر طاقته، أي أنه ليس مجبوراً على أي عمل يعمله، لا صلاة ولا صيام ولا غيره، والدليل على ذلك: أيام الإجازات أناس ينطلقون لطاعة الله، وأناس ينطلقون إلى المعاصي، وكل واحد منهم مختار لهذا الأمر، ولكن شتان بين مشرق ومغرب! الأمر الثالث: أن كل واحد منا يفرق بين الفعل الاختياري والفعل الجبري، فالفعل الاختياري يستطيع الإنسان أن يتخلص منه، وأما الفعلي الجبري فلا يستطيع الإنسان التخلص منه، هل يستطيع واحد منا أن يوقف كبده أو تنفسه؟ لا يستطيع، لكن الفعل الاختياري: تمشي إلى حلقة مسجد، أو حلقة علم، أو إلى زيارة إخوانك في الله إلى غير ذلك، أما الأمر المجبور عليه الإنسان فلا تستطيع. ولذلك فالأمر الجبري لا مجال للحساب ولا للعقاب عليه أبداً، وحق الإثابة ليس عليه شيء كأن يكون طويلاً جداً، فيعطى أجوراً أكثر والقصير لا يعطى، ليس له علاقة، لون الإنسان موطنه سكنه ليس لها ارتباط. الأمر الرابع: أن العاصي قبل أن يقدم على المعصية لا يدري ما قدر الله له، إنسان انطلق ليزني، قلنا له: إلى أين؟ قال: أنا أريد أن أنظر القضاء والقدر إلى ماذا ينتهي بي، إلى أين؟ بدأ بنظرة، ثم انطلق إلى مكان المعصية، ينتظر القضاء والقدر! من أعلمك بما قضاه الله وقدره عليك؟ لكن الله أمرك أن تبتعد عن المعصية، ولذلك نقول له: اتق الله فلا تفعل هذا الأمر، حتى يكون رادعاً له به، ولهذا حري بالمسلم أن يسلك الطريق الصحيح، ويقول بعد ذلك: هذا ما قُدِّر لي. الأمر الخامس: أن الله أرسل الرسل لقطع الحجة على العباد: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] ولو كان القدر حجة للعاصي ما انقطعت الحجة بإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولهذا فإننا نقول لمن يحتج بالقضاء والقدر على عدم الحاجة للعمل: إنه لا ينبغي أبداً أن نحتج بالقضاء والقدر فنكسل عن العمل سواء في طاعة الله أو في الأعمال الدنيوية، بل الواجب علينا أن نعمل، قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] كله أمر بالعمل والاجتهاد فيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) كل هذا أمر لنا بأن نسير بالتسليم لقضاء الله وقدره والعمل بطاعة الله. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 8 ثمار الإيمان بالقضاء والقدر أولاً: أن الإيمان بالقضاء والقدر يعتبر من أكبر الدواعي التي تدعو الإنسان للعمل والنشاط بما يرضي الله تعالى، والإيمان بالقدر من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعمل ويقدم على عظائم الأمور بثبات وعزيمة ويقين. فمثلاً: أنا أسير، ثم بعد ذلك أؤمن بقضاء الله وقدره، مثلما جاء الأعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ناقتي أعقلها وأتوكل أم أتوكل على الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اعقلها وتوكل) أمرنا بالعمل لأمور الآخرة، ثم بعد ذلك نؤمن ونطمئن بأن الله مع أوليائه، وينصرهم ويوفقهم ويعينهم ويسددهم في الدنيا والآخرة، فيصبح حافزاً لك على العمل الصالح. ثانياً: أن يعرف الإنسان قدر نفسه، فلا يتكبر ولا يبطر ولا يتعالى أبداً؛ لأنه عاجز عن معرفة المخلوق، فإذا كان الإنسان صاحب مال كثير فهو يؤمن بقضاء الله وقدره، وأن هذا هو الذي كتبه الله له، فلا يؤدي إلى التكبر، الله الذي أعطاك هذا الشيء، وإذا كان الإنسان فقيراً رضي بما قضاه الله له وقدره، واطمأنت نفسه بعيشه الذي هو فيه، وسعى لأن يغير من واقعه، وهذا يعطي الإنسان طمأنينة نفسية قوية جداً، لعلمه أن الله هو المدبر لهذا الكون، وهو المصرف له سبحانه وتعالى. كذلك الإنسان قد خلق محباً للحياة الدنيا، وسبحان الله! يقول إبراهيم بن إسحاق الحربي: من لم يؤمن بالقدر لم يتهنأ بعيشه، وهذا لا شك أنه صحيح، ولذلك تجد بعض الشباب يعيشون فوق طاقاتهم، وأمرنا كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا أن ننظر إلى من هو أسفل منا؛ لئلا نزدري نعمة الله علينا، لكن في أمور الآخرة والعبادة ننظر إلى من هو أعلى منا، لا ننظر إلى من هو أدنى منا، ولعل هذا يعطينا طمأنينة. بعض الناس إذا ذهب إلى أصحاب الثراء تقطع قلبه، ثم أخذ يتعب نفسه ويجاهدها بكل الوسائل، ويريد أن يكون مثلهم ولا يكتب له ذلك، لكن إذا علم بقضاء الله وقدره، اطمأنت نفسه، يقول الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] . ولهذا جعل الله بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، جعل الله الناس طبقات، وهذا يوجب للإنسان طمأنينة، والله قد جعل من طبيعة الإنسان: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج:20-21] لكن من رزق الإيمان بقضاء الله وقدره فلا يتأثر في حال الخير ولا في حال الشر. ثالثاً: الإيمان بالقضاء والقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تقضي على المجتمعات وتورث الأحقاد بين الناس، ولعلي أضرب للأحبة مثالاً، يقول العلماء: إن الأقران بينهم من الحسد كما بين التيوس إذا كانت في زريبة غنم، وتجد مثلاً اثنين يتنافسان في العلم، تجد كل واحد يبحث عن زلة الآخر، يقول: والله هو طيب ولكن عليه ملاحظات، وتجد هذا يتكلم وهذا يتكلم، لكن من آمن بقضاء الله وقدره اطمأنت نفسه، وأصبح يرضى بما ميز الله بعضهم على بعض، وكم كان لـ شيخ الإسلام رحمه الله من الحساد في عصره، حتى وشوا به إلى السلطان وسجن عدة مرات ومات في السجن رضي الله عنه ورحمه، كله بسبب الحسد، لكن المسلم يرضى، وهذا يكون بين التجار بعضهم مع بعض، وبين أصحاب الأموال، كلما تجد أقراناً تجد بينهم هذا الأمر، ولكن إذا كان الإنسان مؤمناً بقضاء الله وقدره اطمأنت نفسه أن هذا هو الذي قسمه الله له، وما فضل الله عليه بعضاً من الناس {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] . رابعاً: أن الإيمان بالقضاء والقدر يوجب للقلوب المؤمنة الشجاعة في مواجهة الشدائد، ويقوي بها العزائم، ويثبتها في ساحات الجهاد فلا تخاف الموت: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وكم كان للصحابة من المواقف العظيمة العجيبة، ولعل من الأمثلة ما ذكر في ترجمة الزبير رضي الله عنه وأرضاه أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاد بعض المعارك، وفي بعضها لم يكن قائداً، وقيل للزبير: لو كنت أميراً علينا في هذه؟ قال: لا تستطيعون أن أكون عليكم أميراً، قالوا له: ولماذا؟ قال: أريكم، كان كبير السن وجيش العدو أمامه، فانطلق بجواده، فشق صفوف العدو ثم رجع مرة أخرى، قال: تستطيعون؟ قالوا: لا نستطيع مثل هذا، وما رجع إلا بطعنات، ويدل على أن هذا يوجب للإنسان طمأنينة أنه لن ينقطع الأجل، وليس دخول المعارك سبباً لقضية الموت. أيضاً خالد بن الوليد رضي الله عنه كم خاض من معارك يريد الشهادة ومع ذلك ما كتبت له، وإنما مات على فراشه رضي الله عنه وأرضاه. ويصبح الإنسان عنده شجاعة وطمأنينة بهذا الأمر، توجب له السير على ما كان عليه أو الرضا بقضاء الله وقدره، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس بقوله: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك: رفعت الأقلام وجفت الصحف) إلى غير ذلك مما تدعو الإنسان إلى ثمار الإيمان بقضاء الله وقدره. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 9 فضيلة الاتباع وخطورة الابتداع ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: هذا اعتقاد الشافعي ومالك وأبي حنيفة ثم أحمد ينقل فإن اتبعت سبيلهم فموفق وإن ابتدعت فما عليك معول الجزء: 19 ¦ الصفحة: 10 منهج السلف الصالح في الاتباع كنا نتمنى أننا لو ترجمنا لهؤلاء الأئمة الكبار رحمهم الله تعالى ورضي عنهم، ولكن إلى الله المشتكى لضيق الوقت، ولعلنا توسعنا في بعض الجوانب، وقلت في نفسي: تراجم هؤلاء من السهل الوصول إليها، لكن الحرص على عرض بعض مسائل الاعتقاد هو الذي جعلنا نُغفل هذه، وقد نبهت سابقاً واعتبرتها كالقاعدة عندنا نحن: أن الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى كلهم أثري سلفي في معتقده، وقصدي بذلك أنه متى ثبت عند أحدهم حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ترك رأيه واطرحه اطراحاً كاملاً. - مالك رحمه الله يقول: "كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم". - أبو حنيفة لما عرض عليه حديث الإيمان، قالوا: ألا تجيبه؟ وكان يرى أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، قال: كيف أجيبه وقد قال بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء بهذا عن رسول الله، لا أستطيع. - الشافعي سئل عن مسألة وقال فيها بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، قيل له: ما رأيك أنت؟ قال: أعوذ بالله! أتروني في كنيسة؟ أتروني في وسطي زناراً؟ أتروني في بيعة؟ أقول: قال رسول الله، فتقولون: ما رأيك أنت؟ منكراً عليهم، وهكذا منهج أئمة السلف، وهو السير على ما ثبت عن الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ويقول شيخ الإسلام رحمه الله: (هذا اعتقاد الشافعي) أي: هذا جملة من اعتقاد الشافعي وليس كله، وإلا فإن العقيدة جوانبها كثيرة، والمؤلف لم يعرض مسائل الاعتقاد كلها، لكن ما ذكره من المسائل الماضية هو ما يعتقده الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى، وهذا هو المنقول عنهم، وهو الصحيح فيما ذكر في هذا، ثم قال: فإن اتبعت سبيلهم فموفق أي: من سار على ما كان عليه الأئمة الأربعة في معتقدهم فهو الموفق للحق والصائب فيه، وهذا نعتبره في الجملة؛ لأنهم على المنهج، وليس معناه أنه لا يحصل عندهم خطأ أو لا يحدث عندهم عدم إصابة الحق؛ لأننا نعتقد أنهم غير معصومين، فإن كل يؤخذ من قوله ويرد ولا عصمة إلا للرسل عليهم الصلاة والسلام، أما من عداهم فإنه يحدث عندهم شيء من الخطأ، لكنهم كلهم على المنهج، أي: على منهج الكتاب والسنة والحرص عليه، ثم قال: وإن ابتدعت فما عليك معول أي: إن لم تأخذ بهذا المعتقد السابق وجئت بأمرٍ مبتدع محدث فما عليك معول، لا حجة فيما قلته أبداً، فالأول أدلته الكتاب والسنة، وإذا جئت بشيء غير ما دل عليه الكتاب والسنة فلا اعتماد على ما قلت، ولا قبول لما أردت. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 11 ذم البدع في ضوء الكتاب والسنة أود أن أعرج على مبحث البدع وما ورد من الذم لها، وقد ورد عندنا الذم لقضية البدع: يجب أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أنعم على هذه الأمة نعماً عظيمة، ومن أعظم نعمه التي أنعم الله عليها هي كمال الدين، وأن الله أكمل دينه وأتمه، وقصدنا بقضية كمال الدين أن نقطع على عقول المبتدعة أن يزيدوا لنا شيئاً أو ينقصوا منه شيئاً، من نقص في دين الله تعالى شيئاً فقد ابتدع، ومن جاء بشيء جديد فقد ابتدع، وكم هي طوائف المبتدعة كثيرة جداً، فمنها ما يتعلق بالبدع بدع تتعلق بالاعتقاد: كبدع الخوارج، والمعتزلة، والجهمية، والرافضة وغيرها، وبدع تتعلق بالأحكام: كبدع الصوفية وإن كان عندهم بدع كذلك في الاعتقاد بإتيانهم بأوراد وعبادات وصلوات وأعمال لا رصيد لها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. يقول ابن عباس رضي الله عنه عند هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] مفسراً لها: أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كذلك أنه أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله تعالى فلا ينقص أبداً، وقد رضيه فلا يسخطه أبداً، ثم بين الله لنا الأمر باتباع ما جاءت به الرسل في غير ما آية، ففي آدم عليه الصلاة والسلام: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] كذلك قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:3] {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55] {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] إلى غير ذلك من الآيات الآمرة به. وكذلك هناك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تأمرنا بقضية الاتباع، والسير على ذلك، وقد ورد في صحيح مسلم من حديث جابر في حجة النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله) دل على أن من تمسك بالكتاب والسنة فلن يضل أبداً، وقد روى مسلم كذلك من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) . وكذلك لما أمرنا باتباع السنة وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) إلى غير ذلك من الأحاديث. من أنصح الخلق للناس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبرهم بأمته، وأعلمهم بما يصلحهم، أمرنا بقضية الاتباع، وحذرنا من قضية الابتداع. رويت عن الصحابة رضي الله عنهم وعن التابعين آثار كثيرة جداً تأمرنا بقضية الاتباع في مسائل الاعتقاد وفي مسائل الأحكام، ليس بعضها دون بعض، فمنها: قول معاذ بن جبل رضي الله عنه حين قام بـ الشام فقال: [أيها الناس! عليكم بالعلم قبل أن يرفع، ألا وإن رفعه ذهاب أهله، وإياكم والبدع، والتبدع والتنطع، وعليكم بأمركم العتيق] أي: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم لا تأتوا بشيء جديد. ومنها كذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [عليكم بالطريق فلئن لزمتموه لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن خالفتموه يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً] ثم يقول أبو الدرداء: [لن تضل ما أخذت بالأثر] أي: ما جاءك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها: [عليك بتقوى الله والاستقامة واتبع ولا تبتدع] كما قالها ابن عباس رضي الله عنهما لرجل إلى غير ذلك من الآثار. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 12 تعريف البدعة في اللغة والاصطلاح البدعة في اللغة: مأخوذة من الشيء المخترع من غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] وقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد:27] {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة:117] نجد من هذا المفهوم أنه يدلنا على أن البدعة شيء جديد لم يكن عليه من قبل. يجب أن نعلم أن البدعة تستعمل في الخير والشر، إلا أنها أكثر ما ترد في قضية ما نسميه عرفاً في قضية الذم، إذا قيل: هذا أمر مبتدع، كأنك تنفر الناس منه. بالنسبة للبدعة فقد عرفها جمع من أهل العلم، وممن عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، قال: البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ولا رسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من دين الإسلام ولا يسمى الذي شرعه الله بدعة وإن تنازعوا -يعني: العلماء- في شيء من ذلك، وسواء كان هذا الأمر معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن معروفاً. ابن رجب رحمه الله تعالى ذكر تعريف البدعة: أنها ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل في الشريعة يدل عليه فليس ببدعة شرعاً، وإن كان يسمى بدعة لغوية. ونفهم من التعريفين السابقين أموراً متعددة: أولاً: أن البدعة إحداث في الدين، فيخرج بذلك ما أُحدث ولم يدخل به من أمور الدين، مثل: الأمور المتعلقة بالأمور الدنيوية، ميكرفونات سيارات إلى غيره، ما كانت هذه بدع، ولكنها ليست متعلقة بالدين، بل إن هذه من أمور مصالح الدنيا. كذلك نجد أن البدعة ليس لها أصل في الشرع يدل عليها، وأن ما دلت عليه قواعد الشريعة فليس ببدعة وإن لم ينص عليه الشارع، مثل الآن: الصواريخ والطائرات والآلات الحربية وغيرها، نصت عليها الأدلة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ولكننا لا نعتبرها بدعة؛ لأنها لم ترد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ونستفيد من التعريف كذلك أن البدع كلها مذمومة، وليس هناك بدعة أبداً حسنة، وهذا أصح أقوال أهل العلم في هذا الأمر. كذلك: البدع في الدين قد تكون بالنقص، وقد تكون بشيء زائد، فمن النقص: أن يبتدع الناس ترك السنن، فيقررون بينهم أنه لا حاجة لسنة أبداً، ولا حاجة للعمل بها، ويسيرون على أنه منهاج، ولكن هذا ليس مسلماً به على إطلاقه. ومن ألطف من كتب في البدع الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه الاعتصام، وله تعريف في البدعة نذكره. قال: البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 13 أقسام البدع ذكر العلماء تقسيمات للبدع، فمن العلماء من ذكر بأن البدع تنقسم إلى قسمين: بدعة حقيقية، وبدعة إضافية. ومنهم من قال: بدعة عادية وبدعة عبادية. ومنهم من قال: بدعة فعلية وبدعة تركية. ومنهم من قال: بدعة اعتقادية وبدعة عملية. ومنهم من قال: بدعة واجبة، وبدعة مستحبة، وبدعة محرمة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة. وممن ذكر هذا التقسيم أنها متعلقة بالأحكام التكليفية الخمسة أول من أحدث هذا الأمر العز بن عبد السلام، وتبعه على ذلك القرافي، وتقسيمهم هذا ليس بصحيح. أول من قسم البدعة هو الإمام الشاطبي رحمه الله وذكر أن البدعة تنقسم إلى قسمين: بدعة حقيقية، وبدعة إضافية. والبدعة الحقيقية هي البدع التي لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا من إجماع أو استدلال معتبر. وذكروا من هذه البدع: تحريم شيء من الحلال على الناس، مثل: بعض الصوفية يحرم على نفسه أكل اللحم، وبعضهم يحرم على نفسه ركوب الدواب، هذه نسميها بدعة حقيقية ولا تجوز شرعاً أبداً، بل هذه من الأمور المحرمة. وذكروا منها كذلك: تحليل شيء من المحرمات، كأن يجعل نظاماً عند أناس يحلون لهم هذا الأمر، مثل: يحل لهم الربا، أو يحل لهم الزنا، أو شرب الخمر أو غيره، وهذا لا شك بأنه باطل. ومن البدع الحقيقية: إنكار حجية السنة أو ادعاء النبوة، أو ادعاء الألوهية إلى غيرها. بالنسبة للبدعة الإضافية فهي تنقسم إلى قسمين: ذكر العلماء منها ما يقرب إلى الحقيقة ومنها ما يكاد يعد سنة محضة وإن كان يسمى بدعة إضافية. والبدعة الإضافية مثل: تخصيص بعض الأيام بأنواع من العبادات، مثل: يوم الخميس يخصص له شيء معين من العبادات، ولا شك بأن هذا الأمر ليس بمسلم، ومثله الآن عدم الالتزام بالسنن الرواتب، يأتي أناس يقولون: ليس هناك حاجة للالتزام بالسنن الرواتب، وقد يكون من المثال الواضح جداً على هذا الأمر، وهو لا شك أنه أصرح لهذه، قالوا: أن تلتزم شيئاً من العبادات غير السنن الرواتب التزاماً قوياً، فمثلاً: من السنة أننا نسبح بعد الصلوات، فيأتي إنسان ويقول: لا، نجعل بعد كل يوم عصر نسبح بعدد معين، فالتسبيح أصله مشروع، ولكن الهيئة والصفة ليست مشروعة، وبهذا نقول: إن مثل هذا العمل ليس صحيحاً أبداً. مسألة: بعض العلماء يقولون: هل تدخل البدع في الأمور العادية أم لا؟ الجواب: الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى يقول: إن مثل هذه الأمور قد تدخل في مسائل مرتبطة بمسائل التعبد لها شائبة فيها، أما بعضها فلا تدخل فيها، ولعل من الأمثلة نسميها البدع الآن الموجودة وينبغي الوقوف فيها، مثلما تجدون من الأمور المحدثة مثل: خاتم الخطوبة الآن، فيه نوع تشبه، وأصبحت من البدع الآن على المسلمين ما كانت تعرفها، قد يقال: الأصل في التختم أنه أمر عادي، وبعضهم يقول: من السنن، لكنه لما قرن بصفة معينة وجعل له هيئة معينة وبكيفية معينة، ولها تقديس في القلب، نقول: هذه أصبحت من البدع، ولهذا فإن من اللطائف هنا: أن بعض الناس قد يلبس خاتم الخطوبة لو خلعه خلعت رقبته بسببه؛ لأنه يعتقد وتعتقد الزوجة أنه خلع الميثاق بينه وبينها، وأغلى مسألة ما كان بينهم من عقد الزوجية وغيره وغيره، نقول: هذا كلام باطل، وليس بصحيح وليس بهذا التعلق، مما يدل على أن هذا يعتبر من البدع، وينبغي أن ينكر مثل هذا الأمر، فإن هذا لا شك أنه من الأمور المحدثة. أقول للأحبة: عندي مسائل كثيرة في مسائل البدع ولن أتطرق لها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 14 آداب في طريق طلب العلم الجزء: 19 ¦ الصفحة: 15 إخلاص النية في طلب العلم أقول للأحبة في ختام هذه الدورة وفي ختام هذا الدرس: ينبغي لنا دائماً إخلاص النية لله تعالى في الطلب، وأن يحتسب الإنسان الأجر والثواب عند الله تعالى، وأن يستشعر المسلم أنه يسير في طريق الجنة: (من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) وأن يكون أمام طالب العلم دائماً أن ما حصله في هذه الدورة أو الدورات أياً كانت ليس هي العلم كله، وإنما هي جزء من العلم ومفاتيح، وأنه ينبغي لنا مواصلة الطلب، فليس عهدنا بالعلم هذه الدورة، ثم بعد ذلك ننتظر سنة أخرى علنا نشارك في دورة ثانية، وإنما نسير على الطريق، ونلتزم به، وما شعرنا بلذائذه وثماره لن ننقطع عنه، فسبحان من جعل في قلب الإنسان من اللذائذ العظيمة في قضية العلم والفهم وبحث المسائل والفرح بها، وتدريسها وتعليمها، وتعلمها وتأصيلها، بل هي تعتبر من أعظم لذائذ المسلم أن يسير في طريق العلم، وليس أعظم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) . قال العلماء بمفهوم العكس: أن من لم يفقه الله في الدين فإنه لم يرد الله به الخير، ومن لم يطلب العلم من الذين لا يرد الله بهم الخير، وإن كان على صلاح واستقامة، لكن الخير الكامل هو في طلب العلم والاستمرار عليه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 16 الاستشارة في طلب العلم أقول للأحبة: ينبغي لنا دائماً في حال قراءتنا وفي حال تعلمنا أن نستشير من عنده تجربة وخبرة، فخبرات من قبلكم خير من أن يبدأ الإنسان من نفسه، وكم نسمع من الأحبة أن عنده مكتبة ضخمة لكن لا يدري ما الأولويات التي يقرأها من العلوم، ولا أولويات الكتب التي يطلع عليها، فيصبح جمَّاعة للكتب وجمَّاعة لمعارف مشتتة، لكنها ليست مؤصلة عميقة يستطيع أن يوصلها إلى غيره، ويستطيع أن يفيد نفسه ويستفيد منها، ويصبح الإنسان عاطفياً؛ سمع كلاماً عن العلم فانطلق أسبوعاً وشهراً فطلب، ثم نسي ستة أشهر وانتهى، وجد كلمة أخرى انطلق، نقول: لا، طريق العلم طريق مستمر ولا انقطاع له، ويوجب للمسلم أن يحرص عليه وأن يلتزم به. ثم أقول للأحبة: ينبغي أن يكون لكل واحد منا بعد انتهاء هذه الدورة درس أو درسان في الأسبوع يلتزم بهما التزاماً صادقاً قوياً، قد يكون الإنسان وأرى أنه فيه صعوبة على بعض الناس، لكني أقول: كثير من الأحبة عندهم لقاءات أسبوعية في جلسات وأنس وغير ذلك، وعنده التزام بها، لكن حلقة العلم ما أسهل على النفس أن تزهد بها، نقول: ينبغي لنا أن نواصل ونستمر. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 17 أهمية الجلوس في حلقات العلم ذكروا أدباً لطيفاً للعلماء رحمهم الله في الطلب، وأنبه عليه وأرى أنه من الآفات التي تحدث عند الطلب: بعض الأحبة ينتقل إلى طلب العلم على أيدي المشايخ الكبار، ولست أقول: لا يقرءوا عندهم، بل لست ممن يثبط عن طلب العلم ويجثو بركبتيه عند علمائنا الكبار، بعض الأحبة يقول: هذه الحلقات أرفع من مستواك، ويبقى الإنسان بعيداً، أقول: إن هؤلاء مخذلون عن طلب العلم، ولكن الأدب الذي ذكره العلماء في آداب الطلب أدباً نفيساً، قالوا: إن الإنسان إذا سافر إلى بلدٍ لطلب العلم ينبغي أن يمضي له فترة من الزمن، يتقلب في الحلقات الموجودة في البلد كلها، ثم يعرف من يطلب العلم عنده، وقصدي بهذا أن اجلس واجثُ بركبتيك عند هؤلاء العلماء الكبار شهراً وشهرين وثلاثة، ثم وازن بعد ذلك، هل أنت ممن يستفيد أم ممن يشعر بأن فائدته قليلة. أقول: ينبغي لك أن تبحث عن العالم وعن طالب العلم الذي تشعر بأنك تستفيد منه استفادة كبيرة، وليس هؤلاء العلماء لا تستفيد منهم، بل فيهم الخير وفيهم العلم، وما من حلقة إلا وفيها العلم والفائدة، وفيها من التأصيل العلمي، لكن بعض الناس لا يكون عنده قواعد. ولذلك أقول للأحبة: كم من طلاب العلم من يجثون بركبهم في حلقات لكنهم سرعان ما يفرون منها، ويصبح حالهم كشخصين: الشخص الأول: يحضر الحلقة للبركة، فيجلس ويبحث عن سارية ليسند ظهره إليها، ثم ما يبدأ الشيخ إلا وقد غاب في غيبوبة كاملة، وبعضهم يجلس نصفها والنصف الآخر يتقدم في روضة المسجد وربما توسد كتبه فأخذ يغط في نوم عميق، وتسأله قال: الحمد لله، نحن من طلاب الشيخ، وقد حضرنا، وأفتانا شيخنا، وقد علقنا عند شيخنا، واستفدنا منه، ولازمناه سنوات، وقد درس على السارية وعلى روضة المسجد أكثر مما تعلم من الشيخ وعلمه. الشخص الثاني: خرج قادحاً للعلم ولأهل العلم، وهذه سلبية كبيرة جداً، وأقول للأحبة: كم نجد من الأحبة وربما بعض طلاب العلم ينفرون من حلقات علمائنا الكبار، فيقولون: هذه الحلقات إمرار كتب، وليس فيها نفع كبير، وليست إلا قضاء للوقت، وليست مؤصلة للعلم، ولا تخرج طالب علم، ولا تصلح إلا لطلاب العلم الكبار، وخذ من الشبه التي تسمعها، ثم بعد ذلك يصبح عند الطالب قناعة داخلية أن هذه الحلقات إنما تفرج عليها وأحضر إليها من باب البركة فقط، ولذلك أقول للأحبة من الأمثلة: حلقة شيخنا العلامة يوم الخميس يحضرها أعداد كثيرة جداً، أسمي هؤلاء طلاب البركات يحضرون (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) لكنهم هل يؤصلون، يتابعون ويقيدون من الفوائد؟! يحضر يوماً وبقية الأيام لا يحضر، ولست أقول: لا يحضر إلى تلك الحلقة، لو حضر يوماً واحداً ففيه خير كثير. ولذلك أقول للأحبة: بالنسبة لشيخنا فهو عالم أمة، وما يخرج لك من كلمة هي جهد ستين أو سبعين سنة من الطلب، لا يخرج إلا زبداً ودرراً وذهباً مصفى من الأحكام وغيرها بالحكم على الأحاديث وفتاوى علمية وغيرها قد لا تجدها في الكتب مدونة، ولئن استفاد الإنسان فتوى أو اثنتين أو ثلاث خير له من الدنيا وما فيها؛ لأنه يتبصر بعلم عميق يستفاد منه، ولهذا أقول: ينبغي لنا أن نلازم الحلقات وأن نحرص عليها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وأحث الأحبة من لم يستطع حضور حلقات الفجر لسماحة شيخنا فلا أقل أن يحضر الإنسان درساً بعد المغرب في ليلتين، وتقرأ فيها كتب السنة، ويستفيد الإنسان ويعلق فوائد، ويحصل له من الخير العظيم. أقول للأحبة: ارقَ إلى القمم ولا تنزل فإن في ذلك الخير العظيم الذي يعين الإنسان على مواصلة الطريق والاستمرار فيه، فإنه والله لا أسعد على المسلم من لذة طلب العلم، وربما لا يشعر به إلا من عاشه واستمر فيه، وسبحان الله! لم نجد من منهج استفدناه من شيخنا العلامة أمره عجيب جداً وشخصية نادرة حقيقة، وبالنسبة لم أر مثله في قضية الحرص على الطلب والاستفادة مع كبر سنه، وسبحان الله! لا يجد في نفسه حرجاً أن يستفيد من الصغير أو من الكبير في مثل هذه المسائل. وأذكر من الطائف أمد الله في عمره على طاعته: زرته مرة يوم الاستسقاء، وكانت الزيارة في الفجر، جلس الشيخ وإذا به طلب من كاتبه أن يقرأ عليه أحاديث البلوغ في صلاة الاستسقاء، والشيخ ليس إمام مسجد ولا خطيب ولا غيره، أحدنا لو قيل له: صلّ صلاة الاستسقاء على طول ذهب إلى كتب الفقه من أجل أن يعرف كم عدد التكبيرات وكيف تتقدم الصلاة قبل أو بعد، ولكنه يؤصل العلم، مما يدل على أن الشيخ يراجع دائماً، وأذكره منذ ثمان سنوات فأكثر ما كان في بعض الدروس يقول حفظه الله: اليوم لا تقرأ فإني لم أحضر للدرس أصلاً، عالم الأمة يحضر! كثيراً من الأحبة يفتح درساً ويقول للطلاب ما هب ودب، يكفيهم قليل من العلم ولا يحتاجون إلى تأصيل، لا، وإنما إذا كان هذا العالم يحضر للعلم، ويحرص عليه ليعرض على الناس علماً يستفاد منه، فكيف بأفراد الناس والمبتدئين في الطلب، فيه الخير والبركة أن يكون الإنسان يحضر الدروس، وهذا يدل على أن الشيخ حفظه الله وأمد الله في عمره ليس فيه قضية التزكية بأنه مفتي هذه الديار، فلا حاجة للرجوع إلى كتب أهل العلم، ولا بحث المسائل، ولا التنقيب عنها، ولا الأخذ بآراء العلماء والاستفادة منها، بل يشعر دائماً أنه في حاجة إلى فهم كلام العلماء وتأصيله وتمكينه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 18 طلب العلم ومراجعة الدروس وقالوا في آداب الطلب: كان أحد العلماء رحمه الله تعالى ما تمر به سنة إلا وقد مر على أبواب الفقه كلها، ولعل عنده بعض الكتب المختصرة يقرؤها دائماً، ويؤصل فيها، بحيث تصبح دائماً أمام عينيه مسائل العلم، أحدنا لو قرأ كتاباً تسأله: -هذا الكتاب قرأه منذ عشر سنوات- رجعت إليه؟ قال: الحمد لله قرأناه وانتهى، وكأنه حصل كل العلم الموجود فيه، ولا شك بأن هذه سلبية، وسرعان ما ينسى الإنسان العلم الذي يكون عنده، بسبب عدم المذاكرة وعدم الاستفادة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 19 الدعوة إلى الله من ثمار طلب العلم أقول للأحبة: من اللطائف كذلك التي استفدناها من حياة شيخنا أمد الله في عمره: مرة من المرات أوصلته إلى منزله بسيارتي، وكنت مشيت معه لندخل إلى داخل منزله، وكان معي أحد الأحبة فذكر للشيخ بعضاً من الكتب، وقال الشيخ حفظه الله: كم من الكتب أحببنا أن نقرأها وأن نستفيد منها، ولكن علمنا بأن فائدة العلم إيصاله للناس، فأصبح إيصال كثير من هذا العلم للناس أشغلنا عن كثير من القراءة والتحصيل، وليس معنى ذلك أنه منقطع، لكن قصدي من ذلك أن نستفيد أن ثمرة العلم الذي استفدناه في هذه الدورات أن نوصله إلى غيرنا، نوصله إليهم بتعليمهم، وتوجيههم وتبصيرهم، فليس أحدنا أوعية للعلم دون الإيصال، بل نحن نتفاعل مع العلم، نتعلمه ثم نوصله إلى غيرنا. ولذلك بوب البخاري باب: العلم قبل العمل، وجاء بالعلم ثم العمل ثم الدعوة إليه، ثم الصبر على ذلك وإيصاله إلى الناس. ختاماً: نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يختم لنا بخاتمة خير. ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 20