الكتاب: شرح الأصول الستة المؤلف: خالد بن عبد الله بن محمد المصلح مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 6 دروس] ---------- شرح الأصول الستة خالد المصلح الكتاب: شرح الأصول الستة المؤلف: خالد بن عبد الله بن محمد المصلح مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 6 دروس] شرح الأصول الستة - الأصل الأول لا فوز للعبد ولا نجاة إلا بإفراد ربه بالعبادة والإخلاص له، هذا الأصل الأصيل هو الذي أنزل الله من أجله الكتب، وأرسل للدعوة إليه الرسل، وعلى هذا الأصل يقوم سوق الجنة والنار، وشرع لأجله الجهاد، وكل الأوامر والنواهي في الشريعة تبع له، فعلى العبد أن يحرص على إخلاصه وتوحيده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 بيّن الله عز وجل الدين بياناً واضحاً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: [من أعجب العجاب، وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغلّاب ستة أصول بينها الله تعالى بياناً واضحاً للعوام فوق ما يظن الظانون، ثم بعد هذا غلط فيها كثير من أذكياء العالم وعقلاء بني آدم، إلا أقل القليل!] . هذا هو الدرس المتعلق بستة أصولٍ عظيمةٍ مفيدة، وهو من رسائل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، والظاهر أن هذه الرسالة مقتطعة من كتابات الشيخ رحمه الله تعالى؛ فإنه رحمه الله لم يفتتحها بافتتاحٍ واضحٍ فيما نرى -في النسخة التي بين أيدينا- ولعل لها مقدمةً مستقلةً أو محذوفة. أشار الشيخ رحمه الله تعالى في بداية هذه الرسالة المباركة إلى أن هناك أصولاً ستة، هذه الأصول الستة بينها الله سبحانه وتعالى بياناً واضحاً شافياً ساطعاً في كتابه الحكيم. قال رحمه الله: [من أعجب العجاب، وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغلاّب ستة أصول بينها الله سبحانه وتعالى بياناً واضحاً للعوام] . قوله: [للعوام] ليس المراد أن ذلك خاصٌ بهم، بل مراده أن تلك الأصول الستة واجبةٌ على الجميع، وأنها واضحة لعموم الناس، يدركها الذكي والبليد، ويدركها العالم والجاهل، ويدركها كل من سمع الخطاب كائناً من كان إذا كان قد توافر فيه عقل الإدراك؛ فإن كل من توافر فيه عقل الإدراك والتمييز فإنه يدرك هذه الأصول من كلام الله عز وجل. والمؤلف رحمه الله بدأ الرسالة بالتعجب من وضوح هذه الأصول وغفلة الناس عنها، والتعجب هنا معناه: الدهشة والانبهار من هذه الحال، بغضّ النظر هل سببه معلوم أو غير معلوم، وهل سببه معروف أو غير معروف؛ فإنه ليس من لازم العجب جهل السبب كما هو معلوم مقرر؛ فإن العجب يطلق على ما جهل سببه، ويطلق على ما علم سببه ولكنه خارج عن العادة، وخارج عن نظائره وأمثاله مما يظهر ويلفت النظر، فالكلام هنا ليس بحثاً في السبب، وإنما هو بيان للتعجب من حال هؤلاء. قال رحمه الله تعالى: [من أعجب العجاب، وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغلّاب] . (الغلّاب) ليس من أسماء الله عز وجل، ولكن ذكره المؤلف رحمه الله تعالى على وجه الصفة، ومعلوم أن باب الأوصاف أوسع من باب الأسماء، فالأسماء توقيفية، أما الأوصاف فالأصل فيها التوقيف، لكنها أوسع من باب الأسماء؛ لأن الأسماء لابد فيها من توقيف على الكتاب والسنة، أما الصفات فيمكن أن تشتق من الأفعال، فكل فعل ثبت لله عز وجل فإنه مشتق منه صفة لله سبحانه وتعالى، وقد جاء في بعض الروايات والآثار وصفه جل وعلا بالغالب، وهو من معاني اسمه العزيز؛ فإن الغالب هو من معاني اسم العزيز كما تقدم؛ لأن من معاني العزّة الغلبة والقهر. قال رحمه الله: [ستة أصول بينها الله تعالى بياناً واضحاً للعوام فوق ما يظن الظانون، ثم بعد هذا غلط فيه كثير من أذكياء العالم] يعني: بعد هذا البيان الذي لا يتوقع بعده وقوع الخطأ؛ لأنه كان بياناً واضحاً، وما كان بيانه واضحاً ساطعاً يدركه عوام الناس ولا يحتاج إلى علماء وأفذاذ فإن المتوقع فيه ألا يكون فيه غلط، وألاَّ يغفل عنه، وألاَّ يقع فيه خلاف؛ لوضوحه وظهور أدلته وآياته. وقوله رحمه الله: [ثم بعد هذا غلط فيه كثير من أذكياء العالم] . الذكاء: هو حدة في الفهم يدرك بها الإنسانُ الغامضَ من الأمور، ولا صلة بين الذكاء والإيمان، إنما الصلة بين الزكاء والإيمان؛ لأن الزكاء في القلب، والذكاء في الفهم، فقد يكون الإنسان ذكياً كافراً، لكنه لا يمكن أن يكون زكيّاً إلا إذا كان مؤمناً بالله ورسوله. فقوله رحمه الله: [أذكياء العالم] أي: فطناؤه من أصحاب الفهم الذين لا تخفى عليهم الأمور. وقوله رحمه الله: [وعقلاء بني آدم إلاّ أقلّ القليل] يعني: غلط فيها كثير إلا أقل القليل الذين لم يغلطوا فيها، ونسأل الله عز وجل أن نكون ممن يدخل في قوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] وهذه هي حال بني آدم، فإن أكثرهم ضالون، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ، ولذلك لا يجوز الاستدلال على صحة القول أو المذهب أو الطريقة بكثرة السالكين لها، وإن هذا أمر مهم؛ لأن الله عز وجل لم يذكر الكثرة على وجه المدح، بل قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} ، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَقَلِيْلٌ مِنْ عِبَاْدِيَ الشَّكُوْرُ} ، وقال جل وعلا: {إِنَّ فِيْ ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَاْنَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:8] ، فالكثرة لا تدل على صحة الطريق، ولا على سلامة المنهج، بل الذي يدل على صحة الطريق وسلامة المنهج هو التزام الكتاب والسنة، فهما الحاكمان على كل قول ورأي وعمل، فما وافق الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة فهو الصواب، وما خالفه فهو الخطأ المردود، وإن كان عليه أكثر الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 إخلاص الدين لله جل وعلا أصل الأصول بدأ المؤلف رحمه الله من هذه الأصول بالأصل الذي هو الأصل الأصيل، وهو توحيد الله جل وعلا، فقال رحمه الله: [الأصل الأول: إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له، وبيان ضده الذي هو الشرك بالله، وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى بكلام يفهمه أبلد العامة، ثم لمّا صار على أكثر من الأمة ما صار أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقوقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين واتباعهم] . هذا هو الأصل الأول من الأصول الستة وهي أصول مهمة. فالأصل في هذه الدنيا وفي هذا الوجود هو عبادة الله جل وعلا التي قال عنها الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ، والتي جاء الأمر بها في أول الكتاب الحكيم؛ فإن أول أمر في كتاب الله هو الأمر بالتوحيد في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] ، فأول خطاب في كتاب الله الحكيم وجهه للناس عموماً هو الأمر بالتوحيد، وهذا يدل على أهمية هذا الأمر وخطورته ووجوب العناية به. قال رحمه الله تعالى: [إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له] . (إخلاص) أي: تخليص. فهو مصدر بمعنى: تخليص الدين. والدين هو العمل المراد إخلاصه لله تعالى، أي: تخليص العمل. ومعنى تخليصه وإخلاصه: تبرئته من كل لوث وشرك مع الله سبحانه وتعالى فإخلاص العمل تبرئته من كل نصيب لغير الله جل وعلا، والعمل يشمل العمل القلبي وعمل الجوارح -العمل الظاهر-، فيشمل الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، ويشمل الأعمال الواجبة والأعمال المستحبة، فإن الجميع يجب إخلاصه لله سبحانه وتعالى. وهل هناك دليل في الكتاب يدل على أن الدين يأتي بمعنى العمل؟ الجواب: نعم. وهو قول الله تعالى: {أَلاَ ِللهِ الدِّينُ الخَالِصْ} [الزمر:3] ، وقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين} [الكافرون:6] أي: لكم عملكم ولي عملي. أما قوله تعالى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فالدين هنا بمعنى الجزاء والحساب، وليس بمعنى العمل، وعلى هذا لا يكون المعنى: مالك يوم العمل؛ لأن يوم العمل هو هذه الدنيا، أما الآخرة فليست دار عمل، وإنما هي دار حساب وجزاء. قال رحمه الله تعالى: [إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له] . ألم يكن يكفي أن يقول: [إخلاص الدين لله تعالى] عن قوله: [وحده لا شريك له] ؟ الجواب: بلى. لكن قوله: [وحده لا شريك له] تأكيد لمعنى الإخلاص، فـ (وحده) تأكيد لمعنى التوحيد، و (لا شريك له) تأكيد لمعنى نفي الشرك، وأنه لا شريك له سبحانه وتعالى في شيء من أموره، لا شريك له في ملكه، ولا شريك له في خلقه، ولا شريك له في ربوبيته، ولا شريك له في إلهيته، ولا شريك له في أسمائه وصفاته، ولا شريك له فيما يجب له من العبادة، فيجب إفراد الله عز وجل بكل ما يستحق، فالله جل وعلا ليس كمثله شيء في شيء من شئونه، كما قال سبحانه عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 بيان خطر الشرك ثم قال رحمه الله تعالى: [وبيان ضده الذي هو الشرك] . أي أن الشرك هو ضد التوحيد والإخلاص. والشرك دائر على معنىً واحد، وهو تسوية الله بغيره، سواءٌ أكانت التسوية فيما يتعلق بالخلق والرزق والملك والتدبير، كأن يعتقد العبد أن هناك خالقاً أو رازقاً أو مالكاً أو مدبراً غير الله جل وعلا، أم كانت تسوية الله عز وجل بغيره فيما يجب له من الأسماء والصفات، كأن يعتقد العبد أن صفات الله كصفات المخلوق، فهذا -أيضاً- من الشرك الذي يجب أن يتخلص منه المؤمن؛ ليكمل توحيده وإيمانه من الشرك. وأخطر الشرك وأعظمه الشرك في الإلهية، وهو الشرك في العبادة، ومعناه: أن يجعل العبد مع الله من تُصْرَفُ له العبادة فيصوم لغير الله، أو يصلي لغير الله، أو ينذر لغير الله، أو يذبح لغير الله، أو يطوف تعبداً بقبر، أو يدعو غير الله في دفع المدلهمات، أو كشف الكربات، وما إلى ذلك مما يكون من كثير من الناس، وكل هذا من الشرك الذي جاءت الشريعة بالنهي عنه والتحذير منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 القرآن يدعو كله إلى التوحيد وقد بين القرآن هذين الأمرين -التوحيد والشرك- غاية البيان. ولذلك قال رحمه الله: [وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل] ، ولا إشكال أن أكثر القرآن هو في تقرير هذا الأصل الذي هو وجوب إفراد الله بالعبادة، والنهي عن الشرك بجميع صوره، والقرآن كله توحيد، فهو يدعو في جانب الدعوة إلى التوحيد إلى إخلاص العمل لله عز وجل، ويبين فضائل ومصالح التوحيد، ويبين عاقبة أهل التوحيد، أما في جانب النهي عن الشرك فإن الله نهى عنه وحذر منه، وبين أنه ظلم عظيم، وبين الله جل وعلا سوء عاقبة الشرك على أهله في الدنيا قبل الآخرة. وبين عاقبة المشركين وأنهم في نار تلظى؛ لعظم ما جاءوا به واقترفوه، كما قال تعالى: {إِنَّ اَللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء:48] ، فالله لا يغفر الشرك بالكلية، ويغفر مادون ذلك لمن يشاء، وما هذا الامتناع من الرحيم الرحمان البر الرؤوف إلاَّ لعظم الجرم؛ فإن الشرك ظلم عظيم كما وصفه رب العالمين، فالقرآن كله بيان للتوحيد وفضله وفضل عاقبته وعاقبة أهله، وبيان للشرك وسوء عاقبته وسوء حال أهله في الدنيا قبل الآخرة، ولذلك كان بيان التوحيد في القرآن واضحاً لكل أحد. ولذلك قال رحمه الله تعالى: [وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى] يعني: ليس من وجهٍ واحد، وليس -فقط- بالأمر بالتوحيد، أو بالنهي عن الشرك، بل بينه من جميع الوجوه، سواءٌ أكان أمراً بالتوحيد، أم نهياً عن الشرك، أم بياناً لمحاسن التوحيد، أم بياناً لمساوئ الشرك، أم بياناً لعاقبة أهل التوحيد، أم بياناً لعاقبة أهل الشرك. قال: [بكلام يفهمه أبلد العامة] يعني: لا يحتاج إلى فهم، ولا إلى قوة بلاغة، ولا إلى عظيم إدراك حتى يصل إلى فهم هذه المعاني، بل هي ظاهرة لكل أحد، فمثلاً قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اَللهُ أَحَد} [الإخلاص:1] هذه الآية يدرك معناها كل أحدٍ من الناس، وأنه عز وجل أحد فيما يجب له سبحانه وتعالى من الربوبية والإلهية والأسماء والصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 حيل الشيطان في إيقاع الإنسان في الشرك قال رحمه الله: [ثم لما صار على أكثر من الأمة ما صار -يعني من ترك الصراط المستقيم، والانحراف عن الهدي المستقيم هدي النبي صلى الله عليه وسلم- أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقوقهم] ، وهذا هو دأب الشيطان -أعاذنا الله وإياكم منه-؛ فإنه يأتي للمؤمن ويظهر له الطاعة بثوبٍ قبيح تنفر منه النفس وتزهد فيه، وتنصرف عنه، ويأتي إلى البدعة والمعصية فيكسوها أجمل الحلل، ويبهرجها ويزخرفها بأحسن الزخارف، حتى يقبل عليها من ضعف إيمانه ولم يرسخ يقينه، وأما أهل الإيمان والبصائر فإنهم لا تغريهم هذه المظاهر، بل ينظرون إلى الأمور بالبصيرة التي يمنّ الله سبحانه وتعالى بها على المتقين، فيفرقون بين الحق والباطل، ولا تختلط عندهم هذه الأمور، بل هي عندهم في غاية الظهور، فالشيطان يظهر الشرك بمظهر محبة الصالحين، ويظهر الداعين إلى التوحيد بأنهم لا يحبون الصالحين ولا يعظمونهم حق تعظيمهم، فإذا جئت إلى رجلٍ وقلت له: يا أخي! لا تتوجه إلى القبر في الدعاء، وتوجه إلى القبلة، واسأل ربك الذي يملك خزائن السماوات والأرض جلّ وعلا، ولا تسأل هذا المقبور الذي لا يملك لنفسه حولاً ولا طوْلاً قال: أنت لا تعرف قدر الصالحين، ولا تقدر أولياء الله. وهذا في الحقيقة من جهله، وأنه لم يقدر الله حق قدره، ولو قدر الله حق قدره ما توجه إلى مقبور بين التراب، ولتوجه إلى رب الأرباب، لكن لضعف يقينه وقلة بصيرته انطلت عليه هذه الصورة، وجعل تعظيم أهل القبور والصالحين بالانحناء لهم والركوع أو السجود، وغير ذلك مما يفعله أهل الشرك، وكل هذا مما يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يوقع في الشرك، والواجب على المؤمن أن يبعد نفسه عن كل ما خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يعلم أن خير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا وقع المؤمن في شيء من هذا فإن الشيطان سيزيِّنه له، لكن إن راجع المؤمن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح سلم من هذه الشبه. وليعلم أنه لا أحد أعظم اتباعاً للكتاب والسنة من رجل جعل الله عز وجل قصده ومعبوده، ولم يصرف إلى غيره نوعاً من العبادة، فليحذر المؤمن من الشيطان، فإنه يأتي إلى هؤلاء ويزين لهم الشرك، ويقول لهم: هذا ليس شركاً، إنما هذا من إجلال الصالحين ومن تعظيمهم. وحتى ينفرهم من دعوة التوحيد يقول: هؤلاء إنما يدعون إلى تنقص الصالحين والوقيعة فيهم، ولا يعظمونهم ولا يقدرونهم حق قدرهم. وهذه شبهة ضعيفة لا تنطلي إلاّ على ضعاف العقول. ولذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقوقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين واتباعهم] ، والصحيح أنها غلو في الصالحين، ومجاوزة للحد، وإلاَّ فالمؤمن لا يقع في هذا ولا يقرب منه، بل لا يعظم إلاّ ما عظمه الله ورسوله. ثم إن محبة الصالحين عبادة، لكن لا يجوز أن يتجاوز المؤمن في هذه العبادة حدها حتى يقع في الشرك، هذا هو الأصل الأول الذي ذكره المؤلف رحمه الله في هذه الأصول الستة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 شرح الأصول الستة - الأصل الثاني إن قوة الأمة لا تكون إلا في وحدتها واجتماعها، ولهذا لما تفرقت الأمة شذر مذر، تسلط عليها أعداؤها وساموها سوء العذاب، فإذا أرادت الأمة أن يعود لها مجدها وعزتها وقوتها فعليها بالاجتماع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعليها أن تنبذ التفرق والاختلاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 الاجتماع في الدين ونبذ الفرقة من الأصول التي جاء بها الإسلام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: [الأصل الثاني: أمر الله بالاجتماع في الدين، ونهى عن التفرق فيه، فبين الله هذا بياناً شافياً تفهمه العوام، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا فهلكوا، وذكر أنه أمر المسلمين بالاجتماع في الدين ونهاهم عن التفرق فيه، ويزيده وضوحاً ما وردت به السنة من العجب العجاب في ذلك، ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه هو العلم والفقه في الدين، وصار الأمر بالاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون] . يقول الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (الأصل الثاني) أي: من الأصول التي دل عليها القرآن، وجاءت بها السنة على وجه الاستفاضة، قال: (أمر الله بالاجتماع في الدين، ونهى عن التفرق فيه) الاجتماع في الدين لا يمكن ولا يتحقق إلاّ بالاعتصام بالكتاب الحكيم والأخذ بسنة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، والسير على صراط الصحابة والتابعين من خير القرون، هذه الأمور الثلاثة بها يحصل الاجتماع في الدين، ومن غيرها لا يمكن أن يحصل اجتماع، بل غيرها هو الفرقة التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها، وحذر منها رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أمر الله عز وجل بالاجتماع في الدين في آياتٍ كثيرة، كما أنه نهى عن الفرقة في آياتٍ كثيرة، فمن الأمر بالاجتماع في الدين قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] فهذا هو الذي شرعه الله عز وجل لهذه الأمة، كما أنه أمر به من تقدم من الرسل، وأمره للرسل أمر للأمم، فإن الله عز وجل أمر الرسل وأمر أممهم بإقامة الدين فقال: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ، وإقامة الدين لا تتحقق إلاّ بالأخذ بالكتاب الحكيم وسنة سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم، فالواجب على الأمة إذا أرادت الاجتماع أن تنبذ ماعدا هذين الوحيين: كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما أجمع عليه السلف؛ لأن ما أجمع عليه سلف الأمة لابد أن يكون له دليل من الكتاب أو السنة، وقد قال الله جل وعلا في بيان ذلك: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ، وحبله هو شرعه الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فالأمر بالاجتماع ليس مجرد الاتفاق على أي وجهٍ كان، كما يدعو إليه بعض من قل نصيبه من العلم، فيقول: الواجب على الأمة أن تجتمع مذاهبها على اختلافها، وعلى تناحرها، فهذا هو الواجب على الأمة في نظره، ونحن نقول: هذا هو الواجب، لكن مع أمرك بالاجتماع لابد أن تبين طريق الاجتماع، وهو ما بينه الله في كتابه، أما أن تطلق الدعوة إلى الاجتماع دون بيان الطريق الموصل للاجتماع فهذا لا يحقق المقصود؛ لأن الله لما أمر بالاجتماع لم يأمر به مطلقاً، بل أمر به أمراً واضحاً مقيداً فقال سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وقال جلّ وعلا: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] ، وإقامته لا تكون إلا بأخذه من مصادره الأصيلة الكتاب والسنة، فالأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق مما دل عليه الكتاب والسنة دلالةً واضحة، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (فبين الله هذا بياناً شافياً تفهمه العوام) يعني: لا يختلط، ولا يحتاج إلى عميق نظر وكبير تأمل حتى يتوصل الإنسان لهذه النتيجة، بل هي واضحة بينة لكل من أحسن قراءة أو سَمْع القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى أمر بذلك أمراً واحداً. وأما النهي عن الفرقة فإنه كثير، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] ثم قال رحمه الله: (ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا) . نهانا كما ذكرنا في الآية: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وقوله جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] ، والآيات التي تحذر من التفرق في الدين كثيرة جداً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 أسباب الاختلاف في الدين واعلم أن التفرق في الدين له أسبابٌ كثيرة، لكن الذي يجمع هذه الأسباب على اختلافها وتنوعها هو الإعراض عن الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، فبقدر ما يحصل عند الناس من الإعراض عن هذه الأمور يحصل بينهم من الفرقة والاختلاف بقدر إعراضهم؛ لأن الناس إذا أعرضوا عن الكتاب والسنة يرجعون إلى أهوائهم، وإلى آرائهم وأذواقهم، وإلى ما يشتهون ويحبون، وهل هذا مما يتفق فيه الناس؟ الجواب: إن هذا مما يختلف فيه الناس اختلافاً عظيماً، فاختلاف الناس في آرائهم وأقوالهم وعقولهم وما يحبون أشد وأعظم من اختلافهم في ألوانهم وأجناسهم وألسنتهم، ولو أردنا أن نحصي ما يتكلم به الناس من اللغات فهل نستطيع إحصاءها؟ الجواب: إننا لا نستطيع؛ لأنها كثيرة متنوعة، حتى اللغة الواحدة يتفرع عنها لغات عديدة، فاختلاف الناس في آرائهم وعقولهم أشد من اختلافهم في لغاتهم، وأشد من اختلافهم في ألسنتهم، وأشد من اختلافهم في ألوانهم، ولذلك فالمرجع الذي يجتمع عليه الناس ولا يختلفون فيه ولا يختلفون عليه هو الكتاب والسنة، ولذلك فمن دعا إليهما فهو الداعي إلى الاجتماع، ومن دعا إلى غيرهما فهو الداعي إلى الفرقة. فعرفنا الجامع لأسباب الفرقة، والجامع لأسباب الاجتماع، فأعظم أسباب الفرقة هو البغي، والبغي: هو مجاوزة الحد ويقابله العلم؛ فإن العلم من أعظم أسباب الاجتماع؛ لأنه كلما كثر علم الإنسان ورسخ كان داعياً إلى الاجتماع ونبذ الفرقة. ومن البغي الذي يسبب الفرقة والاختلاف الحسد والكبر، والحسد: هو كراهة ما أنعم الله به على الغير ولو لم يتمنَّ زواله. فكل من كره ما أنعم الله به على غيره في دينٍ أو دنيا فهو حاسد، سواء تمنى أن تزول النعمة أم لم يتمنَّ ذلك، وانتبه إلى هذا؛ لأن بعض الناس يظن أن الحسد هو تمني زوال النعمة عن الغير. وهذا تعريف قاصر للحسد، بل الحسد: هو أن يكره الإنسان ما منَّ الله به على غيره من النعم الدينية أو النعم الدنيوية. والكبر أيضاً هو سبب من أسباب الفرقة والاختلاف؛ لأن الكبر يحمل الإنسان على رد الحق، فالمتكبر يأنف ويستعلي أن يأخذ الحق من غيره، ويقول: أنا آخذ الحق من هذا! فما الذي تميز به عليَّ؟ أنا أحسن منه في كذا. إما في مالٍ، أو في جاه، أو في منصب، أو في نسب، أو في لون، ويرد الحق بسبب كبره، فتقع الفرقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة قال: [وذكر أنه أمر المسلمين بالاجتماع في دينهم، ونهاهم عن التفرّق فيه، ويزيده وضوحاً -أي: هذا الأصل- ما وردت به السنة من العجب العجاب في ذلك] . والعجب العجاب أن الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة) . ولذلك يجب على المؤمن أن يحرص على أن يكون من هذه الواحدة التي بشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنجاة، وصفتها جاءت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم في رواية الترمذي لما سئل عن الفرقة الناجية قال: (هم من كان على ما أنا عليه وأصحابي) ، وفي رواية أخرى قال: (هي الجماعة) ، والجماعة هم المجتمعون على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 انقلاب الموازين عند كثير من الناس قال رحمه الله تعالى: [ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه من العلم والفقه في الدين] . أصول الدين مسائل الاعتقاد، وفروعه مسائل الفقه، وهذا لا إشكال فيه، فقد أصبح الأمر على خلاف ما أمر الله به، فأصبح الناس يدعون إلى فرقٍ وإلى مذاهب شتى، ويعدون أن الدعوة إلى هذه الفرق وإلى هذه المذاهب وإلى هذه الأحزاب هي الموصلة إلى ما دعت إليه الرسل، والرسل لم تدعُ إلى مذهب معين، إنما دعت إلى عبادة رب العالمين، ودعت إلى صراط الله المستقيم، وإلى كلمة سواء، وهي أن يخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، وأن يطيعوا الله عز وجل فيما أمر، وأن يتركوا ما عنه نهى وزجر. ثم قال رحمه الله تعالى: (وصار الأمر بالاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون) أي: أن من يأمر الناس بالإقبال على الكتاب والسنة ونبذ الأقوال المخالفة لهما مهما كانت مصادرها، سواء أكانت في الاعتقاد أم في الفقه يصفونه بالزندقة، أو بالجنون، والزنديق في كلام السلف هو المنافق، فقوله: (إلاَّ زنديق) أي: إلاَّ منافق، (أو مجنون) ، أي: فاقد العقل، والزنديق هو فاسد الدين، والمجنون: هو فاقد العقل، فيصفونه بأحد هذين الوصفين، وهو نظير ما وصف به الجاهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر كما قال الله جل وعلا: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] أي أن هذه المقولة سببها الطغيان والخروج عن الصراط المستقيم. إذاً: الواجب على كل مؤمنٍ أن يسعى إلى الاجتماع، وأن يأمر به، وأن يحث عليه، لكن ما هو الاجتماع الذي دعت النصوص إلى الأخذ به؟ الجواب: هو الوارد في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران:103] ، والحبل في هذه الآية هو شرع الله المتين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 شرح الأصول الستة - الأصل الثالث لا يصلح الناس إلا بقائد يقودهم ويسوسهم حتى تستقيم أحوالهم وتصلح أمورهم، والناس بغير قائد تضطرب أمورهم، ويقعون في هرج ومرج واختلاف، ولهذا كان من الأصول التي جاء بها الإسلام السمع والطاعة لولي الأمر وإن كان ظالماً، ما لم يصدر منه الكفر صريحاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 السمع والطاعة لولي الأمر من أصول الإسلام بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: [الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبداً حبشيًّا. فبين الله له هذا بياناً شائعاً كافياً بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم فكيف العمل به؟!] . هذا الأصل الثالث هو تابع للأصل الذي قبله. ولذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: (أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبداً حبشيّاً) ، يعني: أن مما أمر الله به السمع والطاعة لمن تأمر علينا، أي: لمن ولي أمرنا. والسمع هو القبول، والطاعة: هي الانقياد والامتثال، وهما مقرونان في كثيرٍ من المواضع، قال الله جل وعلا في كتابه في آخر سورة البقرة: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا سمعنا وعصينا، وقولوا: سمعنا وأطعنا) . ، فالسماع المراد به القبول، والطاعة المراد بها الامتثال والعمل، فالواجب على الأمة لتحقيق الاجتماع أن تسمع وأن تطيع لمن ولي أمرها. ولذلك قال رحمه الله تعالى: (لمن تأمر علينا، ولو كان عبداً حبشيّاً) ، وهذا هو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ووعظهم به، وأمر به الأمة أن تسمع وأن تطيع، ولو تأمر عليهم من يحتقرونه، ولذلك قال: (ولو كان عبداً حبشياً) ، لاسيما في ذلك الوقت الذي كان مثل هذا في غاية الدنو عند أهل ذلك العصر؛ لأن العبد الحبشي في ذلك الوقت كان الغالب أنه يُستعبد، وأن يُؤمر، لا أن يترأس ويأمر، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا دل على أنه يجب عليهم أن يمتثلوا أمر من ولاه الله أمرهم، وأن يكون حالهم مع أمرائهم ومن ولاّهم الله عليهم أن يكونوا بين سمعٍ وطاعة، فيسمعون ويطيعون. وقوله: (ولو كان عبداً حبشياً) هذا من حيث اللون والجنس، أي: الأصل. أما من حيث حال من تولى فهل يلزم أن يكون على طاعةٍ وبر؟ الجواب: لا يلزم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (من رأى من أميره ما يكره فليصبر عليه) ، سواء فيما يتعلق به، أو فيما يتعلق بغيره أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر عليه، ثم بعد هذا الأمر جاء الوعيد فقال: (من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية) أي: مات على غير الطريقة السلفية، وعلى غير الطريقة النبوية، وهذا مما يتعلق بحال الأمير من حيث الاستقامة، ولذلك كان من عقيدة أهل السنة والجماعة السمع والطاعة لولاة الأمر، ومن عقيدتهم الجهاد والصلاة والحج خلف الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، وبهذا تستقيم أحوال الناس، بل لا استقامة لأحوال الناس إلاَّ بهذا، فإذا كره الإنسان من أميره شيئاً فالواجب عليه أن يصبر، ولذلك لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بأنه ستكون بعده أثرة سألوه: فما الواجب؟ قال: (أدوا الحق الذي عليكم، واسألوا الله الذي لكم) ، وهذا معناه أن يصبروا. ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى في بيان هذا الأصل: (فبين الله له هذا بياناً شائعاً كافياً بوجوهٍ من أنواع البيان شرعاً وقدراً) ، فمن الشرع قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (على المسلم السمع والطاعة في منشطه ومكرهه وفي عسره ويسره) ، والأحاديث والأدلة في هذا كثيرة، وأما قوله: (وقدراً) فالمراد به: بين الله هذا قدراً. فما من فئة خالفت هذا الأمر إلا دب فيها الخلاف، ووقعت في الفرقة والنزاع والقتال، وأكبر شاهد على هذا ما وقع في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه، فعند أن خرجوا عليه وقع السيف في الأمة، ووقع القتال والخلاف المعروف المشهور، وهذه هي الحال في كل من سعى في مخالفة ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتماع على من ولاه الله أمر الأمة. ثم قال رحمه الله تعالى: (ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم، فكيف العمل به) وهذا واقع، ولذلك تجد أن كثيراً ممن يخالف طريق أهل السنة والجماعة لا يذكرون هذا الأصل، فليس من أصولهم السمع والطاعة لولاة الأمر، بل من أصولهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعني الخروج على الأئمة ومنابذتهم ومقاتلتهم، وهذا مشهور عند الخوارج والمعتزلة وغيرهم من الفرق الضالة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 شرح الأصول الستة - الأصل الرابع أول أمر أُمر به النبي صلى الله عليه وسلم هو الأمر بالقراءة، وما ذاك إلا لبيان أن هذا الدين مبني على العلم، وقد جاءت الشريعة ببيان فضل العلم وبيان صفات حملته، حتى لا يختلط الأمر وينعكس، فيؤخذ العلم عن غير أهله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 بيان العلم وصفات أهله مما جاءت به الشريعة الإسلامية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين. أما بعد: فيقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: [الأصل الرابع: بيان العلم والعلماء والفقه والفقهاء، وبيان من تشبه بهم وليس منهم، وقد بين الله تعالى في هذا الأصل في أول سورة البقرة من قوله: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم} [البقرة:40] إلى قوله قبل ذكر إبراهيم عليه السلام: {يَا بَنِي إِسْرائيل} [البقرة:122] الآية، ويزيده وضوحاً ما صرحت به السنة في هذا من الكلام الكثير البين الواضح للعامي البليد، ثم صار هذا أغرب الأشياء، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات، وخيار ما عندهم لبس الحق بالباطل، وصار العلم الذي فرضه الله تعالى على الخلق ومدحه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون، وصار من أنكره وعاداه وصنف في التحذير منه والنهي عنه هو الفقيه العالم] . هذا هو الأصل الرابع في هذه الرسالة المباركة، وهذا الأصل ملخصه أن الشريعة جاءت ببيان العلم النافع وصفات حَمَلَتِه، وبينت صفات أهله بياناً واضحاً لا لبس فيه ولا شك، ولا شبهة فيه ولا ريب، فلا يلتبس الحق بالباطل، ولا يلتبس العلم بالجهل، ولا يلتبس الفقه بغيره لمن قرأ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله تعالى: (الأصل الرابع: بيان العلم والعلماء والفقه والفقهاء) . (العلم) هو موضوع هذا الأصل، (والعلماء) هم: حملة هذا العلم، (والفقه) أي أن هذا الأصل مخصوص ببيان حقيقة الفقه ومن هم الفقهاء. وليس مراد المؤلف رحمه الله بالفقه هنا معناه في الاصطلاح الخاص الذي هو معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، بل المراد بالفقه هنا إدراك الشريعة وفهمها، وهو المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، فليس المراد بذلك معرفة الأحكام الشرعية التفصيلية فقط. قال رحمه الله تعالى: (وبيان من تشبه بهم وليس منهم) . قوله: (تشبه بهم) أي: بالعلماء والفقهاء، (وليس منهم) أي: وحاله في الحقيقة أنه ليس منهم، وذلك أن الله سبحانه وتعالى بين صفات العلماء الربانيين، وبين من تشبه بهم في أخذه العلم، لكن لم يكن هذا العلم قد آتى ثماره، وحصّل به حامله مقصوده؛ لأن العلم يحمله من الناس صنفان: عامل به، فذاك الموفق المحصِّل للمقصود، ومهمل له، وذاك الخاسر المحروم؛ لأن من تعلم العلم ولم يعمل به فهو حجة عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) ، حجة لمن أخذ به وقرأه وعمل به، وهو حجة على من قرأه وأعرض عنه، وكذلك حجة على من أعرض ابتداءً فلم يقرأ أو يعمل، فكلاهما يدخل في كون القرآن حجة عليه، لكن من أخذ بالقرآن وأعرض عنه فإنه أعظم جرماً ممن لم يأخذه من الأصل، والسبب أن من أخذ القرآن فقد أبصر، وصار عنده آلة الاهتداء ومعرفة سلوك الطريق المستقيم، بخلاف الذي أعرض عنه بالكلية؛ فإنه لم ينل البصيرة، ولم يحمل النور. ولذلك كان الذم الشديد الذي ورد في القرآن هو لمن أخذ القرآن وأعرض عنه، فأسوأ مثلين ذكرهما الله عز وجل في كتابه هما فيمن أخذ العلم ولم يعمل به، قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] ، (آتيناه آياتنا) أي: البينات الواضحات، (فَانْسَلَخَ مِنْهَا) كما يسلخ الجلد من الشاة. أي: لم يبقَ معه شيء منها. كما أنك إذا سلخت الشاة لا يبقى شيء من جلدها عليها، فكذلك الواقع في هذا الذي منّ الله عليه بالعلم ولم ينتفع به، {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف:175-176] ، وهذا فيه بيان أن الضلال والانحراف كان منه، مأخوذ من قوله: (فَانْسَلَخَ مِنْهَا) ، ومن قوله: (أَخْلَدَ) . {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} أي: أعانه على هذا الشيطان، نعوذ بالله قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] أي أنه في عناءٍ دائم ولهثٍ غير منقطع عند قيام سببه، وعند عدم قيام سببه، وذلك أنه أعرض عن النور والهدى بعد البصر، وهو من أشد ما يكون على القلب أن يعرض الإنسان بعد البصيرة. والمثل الثاني في سورة الجمعة؛ حيث قال سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5] فجعل إعراضهم عن مقتضى ما حملوه من العلم تكذيباً، ومقتضى ذلك أنهم كذَّبوا بما حُمِّلوا من العلم؛ لأنهم لو كانوا صادقين مصدِّقين لهذا العلم لعملوا به، فلا يمكن لإنسانٍ يصدق ويعتقد ما يحمله من العلم أن يتخلى ويعرض عنه. وهذا في الإعراض الكلي، أما كون الإنسان يخالف ما علمه في بعض الأحيان بداعي الهوى أو الشهوة فهذا يقع، ولكنه لا يستمر على الإعراض، ولا يستمر على الانسلاخ، بل يعود ويستعتب ويستغفر ويرجع. والمهم أن كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بينا العلم النافع، وبينا أهله بياناً واضحاً شافياً، وميَّزا ذلك عما يلتبس بهما من مدعي العلم الذين هم في الحقيقة دعاة على أبواب جهنم يدعون الناس إلى النار بأفعالهم، بل في بعض الأحيان بآرائهم وأقوالهم؛ حيث إنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويسوِّغون للناس الشرّ والضلال، وبينا من تشبه بهم وليس منهم، وقد بين الله تعالى هذا الأصل في أول سورة البقرة في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40] إلى قوله قبل ذكر إبراهيم عليه السلام: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:122] ، فإن الله عز وجل قص في هذه السورة نبأ اليهود، وما كان منهم من تكذيبٍ وإعراض، وما قابلوا به الدعوة، فذكّرهم جل وعلا بعظيم ما أنعم به عليهم من العلم والهدى والاصطفاء وغير ذلك، وبين ما كانوا عليه، وكيف قابلوا تلك النعم، فكانت حجةً عليهم لا حجةً لهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 نصوص الوحي واضحة ثم قال رحمه الله تعالى: (ويزيده وضوحاً ما صرحت به السنة في هذا من الكلام الكثير البيِّن الواضح للعامي البليد، ثم صار هذا أغرب الأشياء، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات) . قوله: (ويزيده وضوحاً -أي: يزيد هذا الأصل وضوحاً وبياناً- ما صرحت به السنة في هذا من الكلام الكثير البيِّن الواضح للعامي البليد -أي: الذي ضعف إدراكه وقلّ ذكاؤه- ثم صار هذا أغربَ شيءٍ -يعني: أغرب الأشياء- وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات] ، وهذا من الانحراف الكبير، فإن العلم واضح، وهو العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح، وما عداه فهو جهل، بخلاف الحال في كثيرٍ من الأحيان، حيث يعد تشقيق الكلام بما لا يدل عليه الكتاب والسنة وتفريعه بما يحصل به قسوة القلب هو العلم، وإذا ذكَّرهم الإنسان بقول الله، أو بقول رسوله صلى الله عليه وسلم قالوا: هذه ظاهرية، وهذا جمود على النصوص، وهذا كذا وكذا وخلعوا عليه من الألقاب والأوصاف ما يزهد الناس في الإقبال على الكتاب والسنة، وما يجرِّئُهم على الوقوع في البدعة والدعوة إلى الضلالة، وهذا منعطف خطير، ومسلك يجب على المؤمن أن يحذر منه؛ فإنه لا يحصل كمال الإيمان ولا تمام الانقياد للنبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ بالتسليم بالنصوص، فبقدر ما مع الإنسان من تعظيم الوحيين والعمل بهما يكون حظه ونصيبه من العلم والعمل به، ومن المهم لنا نحن -طلبةَ العلم ومن يشتغل بطلب العلم- أن نعرف ونتلمس صفاتِ العلم النافع، ولذلك ينبغي علينا أن نجمع صفات العلم النافع من خلال الكتاب والسنة وكلام السلف؛ لأن في ذلك من الإشارات إلى العلم النافع ما ينبغي لنا أن نقف عليه، حتى نعرف ما الذي ينفع فنأخذه ونُقبِل عليه، وما الذي لا يدخل في إطار العلم النافع فنشتغل بغيره عنه؛ لأن العلم كثير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 تخبط من أعرض عن الكتاب والسنة ثم قال رحمه الله تعالى: (وصار العلم والفقه هو: البدع والضلالات، وخيار ما عندهم: لبس الحق بالباطل) وهذا هو شأن كل من أعرض عن الكتاب والسنة؛ فإنه في لبسٍ وخلط وتخبط وتناقضٍ واضطراب. قال: (وصار العلم الذي فرضه الله تعالى على الخلق ومدحه لا يتفوه به إلاَّ زنديقٌ أو مجنون) . يعني: في نظر الناس، كما تقدم ذلك. فالناس يصفون من تكلم بالعلم من الكتاب والسنة بهذين الوصفين، ولكن هذا -ولله الحمد- ليس هو الغالب، لاسيما في زماننا هذا، بل من تكلم بالحقِّ والهدى فمهما وصف به من الأوصاف المقذعة القبيحة فإن الله تعالى يدافع عنه، كما قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 بيان الحال في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ثم قال رحمه الله تعالى: (وصار من أنكره وعاداه وصنف في التحذير منه والنهي عنه هو الفقيه العالم) . ولا يخفى أن الشيخ رحمه الله عاش في عصرٍ أصبح المتكلم بالكتاب والسنة والداعي إلى نبذ الشرك والبدعة غريباً بين الناس، بل يُتهم بما ذكره رحمه الله من الزندقة والجنون والخروج عن سنن العلماء وطريقة أهل العلم، وصار الذي يؤلف في تقرير ما عليه عامة الناس من البدع والشرك وتعظيم غير الله هو العالم الجهبذ الإمام المتبع. فالشيخ رحمه الله تكلم عن زمانه، وقد فتح الله عز وجل خير كثيراً بعد ذلك ببركة دعوته ومن تلاه من أئمة الدعوة وأهل العلم في كل عصرٍ ومصر، أعني أهل العلم المتبعين للكتاب والسنة من أهل السنة والجماعة السائرين على طريق السلف الصالح، فبدعوتهم أصبح القول بالكتاب والسنة هو الحجة والبرهان، وهو الذي تطمئن إليه النفوس. ومن نعمة الله أن الدعوة السلفية تكتسح الدعوات اكتساحاً بالغاً واضحاً، وهذا من نعمة الله عز وجل على هذه الأمة، وهو تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) . فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا في زمرتهم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 شرح الأصول الستة - الأصل الخامس ولاية الله عز وجل لا تنال بالدعوى، وإنما تكون بالالتزام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن كان لله تقياً كان لله ولياً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 الولاية لله عز وجل وما تحصل به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 الفرق بين أولياء الله وأولياء الشيطان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: [الأصل الخامس: بيان الله سبحانه لأولياء الله وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله والمنافقين والفجار، ويكفي في هذا آية في سورة آل عمران، وهي قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] الآية. وآية في سورة المائدة، وهي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] الآية. وآية في سورة يونس، وهي قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] ، ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم وأنه من هُداة الخلق وحفّاظ الشرع إلى أن أولياء الله لابد فيهم من ترك اتباع الرسل، ومن تبعهم فليس منهم، ولابد من ترك الجهاد، فمن جاهد فليس منهم، ولابد من ترك الإيمان والتقوى، فمن تعهد بالإيمان والتقوى فليس منهم، يا ربنا! نسألك العفو والعافية إنك سميع الدعاء] . هذا هو الأصل الخامس من هذه الأصول الستة المفيدة العظيمة، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في هذا الأصل: [بيان الله سبحانه لأولياء الله، وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله والمنافقين والفجار] . هذا كالعنوان لهذا الأصل؛ فإن الشيخ رحمه الله يريد أن يقرر في هذا الأصل أن القرآن الكريم قد بين بياناً واضحاً لا لبس فيه ولا اشتباه، ولا شك في الفرق بين أولياء الله وبين أولياء الشيطان؛ فإن أولياء الله أولياء الرحمان لهم أوصاف ميَّزهم الله سبحانه وتعالى بها في كتابه، وذكر ذلك لئلا يشتبه حال أولياء الله بأولياء الشيطان؛ لأن من أولياء الشيطان من يلبِّس على الناس، فيظهر ولايته للرحمان، وأنه من عباد الله الصالحين الأتقياء الأنقياء، والأمر على خلاف ذلك، فلما كان مدّعو الولاية كُثُراً بين الله سبحانه وتعالى الفصل بين هؤلاء وبين غيرهم، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رسالةً لطيفةً سمّاها (الفرقان بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان) ذكر فيها ما وصف الله سبحانه وتعالى به أولياءه، وما ميزهم به عن أولياء الشيطان، وذكر فيها أشياء كثيرةً مفيدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 تعريف الولاية ومدارها قال رحمه الله تعالى: [بيان الله سبحانه لأولياء الله] . أولياء: جمع ولي. والولي: مأخوذ من الولاية، والولاية: مصدر (وُلَيِ) ، وهي بمعنى القرب، تقول: وَلِيَ كذا كذا: أي: قرب منه. وعلى هذا فإن الولاية تدور على أمرين: المحبة، والنصرة، وقد أثبت الله جل وعلا في كتابه ولايته لبعض خلقه، فقال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257] ، فأثبت سبحانه وتعالى ولايته للمؤمنين، كما أن الله سبحانه وتعالى نفى أن يكون له وليٌّ، لكن الولي المنفي غير الولي المثبت، فالولي المنفي مقيد؛ حيث قال سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء:111] أي: لم يكن له وليٌّ يستنصر ويعتز ويتقوى به فولاية الله عز وجل لمن يتولاهم ليست عن حاجة، ولا عن افتقار، بل هو الغني الحميد جل وعلا، وإنما ولايته سبحانه وتعالى لمن يتولاه هي ولاية رحمة ومنة وفضيلة ومنحة منه جل وعلا وإكرامٍ لمن يتولاه، نسأل الله أن نكون منهم. إذاً: الولاية المثبتة لله عز وجل هي غير الولاية المنفية. والولاية على اختلاف مواردها تدور على معنيين: المحبة، والنصرة، ويقابل الولاية العداوة، وهي دائرة على البغضاء والكره، فأعداء الله هم من أبْغَضَهم سبحانه وتعالى وأبعدهم وكرههم جل وعلا، فالعداوة مبنية على الإبعاد والكره والبغض، والولاية مبنية على المحبة والنصرة، والله سبحانه وتعالى قد بين أوصاف أوليائه. وقد لخص الشيخ رحمه الله هذه الأوصاف المذكورة في هذا المقطع القصير من كلامه رحمه الله، لكن من المهم أن نفرق بين أولياء الله وغيرهم، حتى لا يشتبه الأمر، فأولياء الله عز وجل لا يتميزون عن غيرهم بمظهر، بل هم كغيرهم من أهل الإسلام لا يتميزون عنهم بلباس ولا بهيئة، لكنهم يتميزون عن غيرهم بعملهم الصالح، فالمظاهر لا تمييز فيها، لكن المخابر والأعمال هي التي يدور عليها التمييز بين أولياء الله، وبين غيرهم من الناس، فما هو العمل الذي يميز أولياء الله عن غيرهم؟ قال رحمه الله تعالى في بيان ذلك: [ويكفي في هذا]-أي: في بيان الفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان- آية في سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] ، فقوله تعالى: (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) هذا هو المعيار الفارق والميزان الدقيق لبيان حقيقة الولاية، فالولاية التي يثبت بها للمؤمن الانتساب إلى الله بالولاية هي أن يكون متبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه) ، فعلى قدر ما يكون مع الإنسان من اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم يكون عنده بقدر ذلك من ولاية الله له، وبقدر ما يكون معه من تقصير فإنه ينقص عنه من ولاية الله له بقدر ما حصل منه من التقصير، والناس في هذا درجات متفاوتة، لا يحدها وصف. فالسمة الأولى لأولياء الله التي يتميزون بها عن غيرهم هي اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم يكون في أمرين: فيما فرض -وهذا في الدرجة الأولى-، وفيما ندب إليه من الأعمال، وهذا في الدرجة الثانية-، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ، ثم بعد أن ذكر جزاء الأولياء وانتصار الله لهم قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل) ، وهذا طريق تحصيل الولاية، قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) ، فذكر الطريقين اللذين يحصل بهما ولاية الله عز وجل، وهذا تفصيل لما أجملته هذه الآية في قوله تعالى: (فَاتَّبِعُونِي) . فالاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم يكون في الفرائض أولاً؛ لأنها أحب ما يتقرب به إلى الله عز وجل، ثم بالنوافل ثانياً. ولذلك قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه) ، وإذا أحب الله عبداً فقد تولاه. ثم قال رحمه الله تعالى: [وآية في سورة المائدة، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وهذا فيه الإشارة إلى معنى الولاية، وأنها دائرة على المحبة، فهناك قال: {يُحْبِبْكُمُ اللَّه} [آل عمران:31] ، وهنا قال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، ثم ذكر أوصافهم فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} ، فذكر ثلاثة أوصاف: الوصف الأول: (أذلةٍ على المؤمنين) ، فلا علو عندهم ولا استكبار ولا ارتفاع. الوصف الثاني: (أعزةٍ على الكافرين) ، لا يذلون لهم؛ لأن معهم سبب العزة، وهو الإيمان بالله ورسوله. الوصف الثالث: الجهاد في سبيل الله. وهو شامل لجميع أنواع الجهاد، وأعلاها جهاد الكفار المعاندين لله ورسله، فهذا من أوصافهم، والجهاد لا يأخذ صورةً واحدة فقط، فلا يقتصر على الجهاد بالسيف والسنان، بل هناك جهاد آخر قد يكون أعظم منه، وهو جهاد العلم والبيان، فالذي يبلغ شريعة الله عز وجل وينصح الناس ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هو من المجاهدين الذين يدخلون في قوله تعالى في آية المائدة: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} ، فهذا يشمل جميع أنواع الجهاد. وهذا تفصيل؛ لأن قوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه) فيه بيان مجمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل شأن، وهنا فيه ذكر صفات خاصة وتخصيصها لعظيم أثرها في تحقيق وتحصيل الولاية. ثم قال: [وآية في سورة يونس، وهي قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] ، وهذا فيه البشارة لهم بانتفاء المخاوف والأحزان عنهم، فقوله تعالى: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} هذا فيما يستقبلون، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} هذا فيما مضى. والإنسان إنما يلحقه الأذى من خوف المستقبل، أو فوات الخير في الماضي، فإذا حصل له الأمن من هذين الأمرين كان من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فهو في غاية الطمأنينة والسعادة. ثم بين سبحانه وتعالى من هم أولياء الله فقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] الذين آمنوا بقلوبهم فصلحت قلوبهم واستقامت أفئدتهم، وكانوا يتقون في أعمالهم وجوارحهم. والتقوى هنا هي فعل ما أمر الله سبحانه وتعالى به وترك ما نهى عنه، وهذا وصف شامل يتميز به أولياء الله عن غيرهم. ومما تقدم نعلم أن الولاية ليست مكتسبةً بالنسب، ولا مكتسبةً بالجاه، ولا مكتسبةً بالوراثة، ولا مكتسبة بملبسٍ معينٍ، أو بانتسابٍ إلى جهة معينةٍ كمذهبٍ أو غيره، إنما تكتسب بالعمل الذي دائرته الكبرى هي اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وتقوى الله، لقوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] . قال رحمه الله: [ثم صار الأمر عند أكثر من يدّعي العلم وأنه من هداة الخلق وحفاظ الشريعة إلى أن الأولياء لابد فيهم من ترك اتباع الرسل] ، وهذا في وقته رحمه الله؛ حيث هجرت السنة، وتعصب الناس لما كانوا عليه من مذاهبَ وأقوالٍ، وآراء، وأصبح المتَّبِعُ للنبي صلى الله عليه وسلم غريباً بينهم. ثم قال: [ومن تبعهم فليس منهم] أي: ومن تبع هؤلاء الذين استقاموا على الكتاب والسنة، فليس منهم، يعني: فليس من أولياء الله؛ لأنه إذا كان الداعي إلى الكتاب والسنة عند هؤلاء الذين تحدث الشيخ عنهم ليس من أولياء الله، فما هي حال غيرهم ممن هو تابع لهم؟ الجواب: أنه لا يكون من أولياء الله من باب أولى. ثم قال رحمه الله تعالى: [ولابد من ترك الجهاد] . هذا انتقال إلى تفصيل ما عليه أولئك الذين وصفهم رحمه الله ممن يدعون ولاية الرحمان وهم على خلاف ذلك، قال: [لابد من ترك الجهاد] ، وذكر الجهاد رحمه الله تعالى لأن الله سبحانه وتعالى جعل المجاهدين أولياءه، في قوله جل وعلا: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة:54] ، فخالفوا النص القرآني الدال على أن الجهاد في سبيل الله من أسباب تحصيل الولاية ومن أوصاف أولياء الرحمن، فلابد عندهم من ترك الجهاد، فمن جاهد فليس منهم، والقرآن يدل على عكس هذا، وهو أن الجهاد من أوصاف أولياء الله سبحانه وتعالى. ثم قال رحمه الله تعالى: [ولابد من ترك الإيمان أيضاً] . وهذا لكون الإيمان قد جاء في القرآن أنه من أوصاف أولياء الله، كما في قوله جل وعلا: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] . ثم قال: [فمن تعهد بالإيمان والتقوى فليس منهم] أي: من اتصف وحافظ على هذين الوصفين فليس من هؤلاء الأولياء المزعومين. وهؤلاء هم في الحقيقة أولياء الشيطان لا أولياء الرحمن؛ لأن أولياء الرحمن هم من وصفهم الله في كتابه، وأما هؤلاء فهم معاندون، معارضون، وكل من ادعى الولاية فلابد من عرضه على الكتاب والسنة، فإن ادّعى الولاية أو أدُّعيت له الولاية -إذ قد لا يدعي الولاية لنفسه فيقول: إني ولي، لكن قد يزعم اتباعه أنه ولي- فلابد حينئذٍ أن نعرض حال هذا الرجل على هذه الموازين الدقيقة والمعايير الناطقة المميزة لأولياء الرحمان عن غيرهم، وبذلك يتبين هل هو من المتبعين للكتاب والسنة، وهل هو من المجاهدين في سبيل الله ج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 شرح الأصول الستة - الأصل السادس باب الاجتهاد مفتوح لكل من كان أهلاً له إلى قيام الساعة، ومن قال بإغلاق باب الاجتهاد فقد أخطأ، بل ويلزم من قوله فتح باب التقليد على أوسع أبوابه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 الاجتهاد بابه مفتوح لمن كان أهلاً له بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، أجمعين. أما بعد: فيقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: [الأصل السادس: رد الشبهة التي وضعها الشيطان في ترك القرآن والسنة واتباع الآراء والأهواء المتفرقة المختلفة، وهي: أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا المجتهد المطلق، والمجتهد المطلق هو الموصوف بكذا وكذا أوصافاً لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر. فإن لم يكن الإنسان كذلك فليعرض عنهما فرضاً حتماً لا شك ولا إشكال فيه، ومن طلب الهدى منهما فهو إما زنديق وإما مجنون؛ لأجل صعوبة فهمها، فسبحان الله وبحمده! كم بيّن الله سبحانه شرعاً وقدراً خلقاً وأمراً في ردّ هذه الشبهة الملعونة من وجوه شتى بلغت إلى حد الضروريات العامة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57] ، {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:7-11] . آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين] . هذا هو آخر الأصول الستة من هذه الرسالة المباركة التي سماها الشيخ رحمه الله [ستة أصول عظيمة مفيدة] . يقول رحمه الله: [الأصل السادس: رد الشبهة التي وضعها الشيطان في ترك القرآن والسنة واتباع الآراء والأهواء المتفرقة المختلفة، ووهذه الشبهة- هي أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا المجتهد المطلق، والمجتهد المطلق هو الموصوف بكذا وكذا أوصافاً لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر) . هذا الأصل السادس والأخير هو دعوة من الشيخ رحمه الله إلى تدبر كتاب الله عز وجل، والإقبال على الانتفاع بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينظر الإنسان في هذين الأصلين العظيمين اللذين يضمن لمن أخذ بهما نجاة الدنيا والآخرة؛ فإن الإقبال على الكتاب والسنة هو سبيل السلف الصالح، وهو طريقهم، فهذه الشبهة منعت كثيراً من الناس من الإقبال على الكتاب السنة، والشيخ رحمه الله يريد أن يفند هذه الشبهة، وهذه الشبهة هي: أن الكتاب والسنة لا يفهمهما كل أحد، إنما يفهمهما المجتهد المطلق، أو يستنبط منهما المجتهد المطلق. قال رحمه الله تعالى: [والمجتهد المطلق هو الموصوف بكذا وكذا] كنى عن الصفات التي ذكروها مطولةً في كتب أصول الفقه بقوله كذا وكذا. ثم قال رحمه تعالى عن هذه الشروط: [أوصافاً لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر] ، وحقيقة أنها لا توجد في أبي بكر وعمر؛ لأنهم يشترطون أن يكون المجتهد محيطاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يغيب عنه منها شيء، وهذا ليس في أبي بكر، ولا في عمر؛ فإن أبا بكر رضي الله عنه رجع إلى الصحابة يسألهم عن سنة رسول الله ً صلى الله عليه وسلم، وعمر رجع إلى الصحابة يستشيرهم ويسألهم: هل عندهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر. فهذه الشروط المطولة التي لا تنطبق على أحدٍ من الناس فضلاً عن العلماء في متأخري الزمان كانت حائلاً بين كثيرٍ من أهل العلم وبين أن يستفيدوا من الكتاب والسنة، فمنعت الناس من الاجتهاد، وقَصَرَتهم على تقليد المتقدمين في أقوالهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستفيدوا من الكتاب والسنة، وهذا غلطٌ كبير، وهو الذي سبب إغلاق باب الاجتهاد في بعض العصور، وأصبح المجتهد -كما قال المؤلف رحمه الله-: إما زنديقاً أو مجنوناً، يعني: منافقاً أو مجنوناً، فلا يُقْدِم عليه إلا من تحمل هذين الوصفين، فامتنع الناس عن الاجتهاد، واقتصروا على التقليد، ولا شك أن الاجتهاد بابه مفتوح، ولكن ليس الاجتهاد أن يُعْمِلَ الإنسان الضعيف البضاعة رأيه في نصوص الكتاب والسنة فيأتي بما لم يأتِ به الأولون، بل لابد أن يكون عنده حد كافٍ من أوصاف المجتهد من العلم باللغة، والمعرفة بالكتاب وبالسنة، والمعرفة بقواعد الشريعة التي تمكنه من التوصل إلى الحكم، وأما هذه الشروط المطولة التي يذكرها علماء الأصول فهي نظرية فقط، ولو طبقتها على من اشترطها لم تجدها فيه؛ فإنه لا يصح ولا يسوغ. قال رحمه الله تعالى في هذا الأصل: (رد الشبهة) والشبهة: هي: عارض يعرض للقلب، يمنعه من تصور الأمور على حقيقتها، فيحصل بها اشتباه والتباس، فلا يميز الذي اشتبه عليه الأمر بين الحق والباطل. وقال رحمه الله تعالى: [التي وضعها الشيطان في ترك القرآن والسنة] أي: لأجل ترك القرآن والسنة، فهي سبب لترك القرآن والسنة، وسبب في اتباع الآراء والأهواء المتفرقة، وهو التقليد، وسماه اتباعاً تنزلاً، وهو في الحقيقة تقليد وليس اتباعاً. ثم قال: [فإن لم يكن الإنسان كذلك -يعني: موصوفاً بهذه الصفات التي اشترطوها للمجتهد المطلق- فليعرض عنهما فرضاً حتماً لاشك ولا إشكال فيه] ، وهذا خلاف ما أمر الله به في كتابه، والله عز وجل قال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] ، وقال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ، وقال جل وعلا: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:4] ، كل ذلك دعوة إلى التفكر والتأمل الذي يثمر الاستنباط ونتائج الاجتهاد، فالاجتهاد نتيجة للتفكر والتأمل والنظر في كلام الله عز وجل فمن لم ينظر في كلام الله عز وجل ولم يتدبره فإنه لا يتوصل إلى ما يريد من استنباطات حكميةٍ أو شرعية؛ فإن سبيل حصول الحكم هو التدبر والنظر. ثم قال رحمه الله تعالى: [ومن طلب الهدى منهما فهو إما زنديق وإما مجنون] يعني: لأجل صعوبة فهمهما وهذا غلط، فإن الله عز وجل يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ، فالله يسر القرآن، وهؤلاء يقولون: إنه عسير وتيسير القران هو تيسير قراءته وفهمه، وليس تيسير القراءة اللفظية؛ فإن القراءة اللفظية على العرب في ذلك الوقت كانت من أسهل ما يكون، ولكن الكلام في تيسير الفهم وتسهيله، وهذا ما تميز به القرآن، فإنه يفهمه العامي ويفهمه العالم، لكن هذا القدر المشترك بين العامي والعالم ليس مانعاً من أن يتفاضل الناس في فهمه، فمن الناس من يؤتى فهماً عميقاً في القرآن، ومنهم من يقتصر على فهم اللفظ في حده الأدنى، ويشهد لهذا تفاضل الصحابة رضي الله عنهم، مع أنهم أهل اللسان في فهم آي القرآن، فهذا ابن عباس رضي الله تعالى عنه يفهم من قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] ، ما لم يفهمه كبار المهاجرين والأنصار، كما جرى ذلك في قصته مع عمر رضي الله تعالى عنه لما سأله عن هذه السورة؛ فإنه سألهم أولاً عن السورة فقالوا: هذه سورة أمر الله فيها رسوله بالتسبيح عند حصول الفتح وهذا معنى واضح يدركه كل صاحب لسان، لكن الذي فهمه ابن عباس هو أمر زائد على هذا، وهو أن هذه السورة نعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وأنها أخبرته بدنو أجله، وهذا فهم دقيق ما يتوصل إليه إلاّ من أعمل فكره ونظر وتأمل في هذا الكتاب العظيم، وفي سياق الكلام وسباقه. ثم قال رحمه الله تعالى: [فسبحان الله وبحمده! كم بين الله سبحانه شرعاً وقدراً خلقاً وأمراً في رد هذه الشبهة الملعونة من وجوهٍ شتى بلغت إلى حد الضروريات العامة -ومن ذلك ما ذكرناه من إخبار الله عز وجل بتيسير القرآن- {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]] . ثم قال رحمه الله في الاستدلال على سوء حال هؤلاء، وأنهم إنما مُنعوا فهم القرآن لشيء فيهم: [ {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) * إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:8-11]] . فقوله تعالى: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ) المراد بالقول هنا قول الله سبحانه وتعالى وهو ما سبق في علمه وكتابه من أن هؤلاء لا ينتفعون بالقرآن، (عَلَى أَكْثَرِهِمْ) أي: على أكثر الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يكون المعنى: على أكثر الناس فهماً، (لا يُؤْمِنُونَ) أي: لا يصدقون ولا ينقادون ولا تطمئن قلوبهم بما جاءت به الرسل، (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً) : (في) للظرفية، وتصلح أن تكون بمع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2