الكتاب: شرح العقيدة الواسطية المؤلف: خالد بن عبد الله بن محمد المصلح مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 28 درسا] ---------- شرح العقيدة الواسطية لخالد المصلح خالد المصلح الكتاب: شرح العقيدة الواسطية المؤلف: خالد بن عبد الله بن محمد المصلح مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 28 درسا] شرح العقيدة الواسطية [1] من أهم العلوم التي يجب على الإنسان أن يتعلمها: علم العقيدة، إذ به النجاة من الفتن، والعصمة من الشبهات. ومن أحسن ما كتب في العقيدة: كتاب العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، وما ذاك إلا لما اشتمل عليه من الاعتقاد الصحيح المأخوذ من الكتاب والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 سبب تأليف العقيدة الواسطية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا أول دروس العقيدة الواسطية، والعقيدة الواسطية هي: عقيدة مختصرة مباركة، ألفها الإمام العالم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ألفها استجابة لطلب أحد قضاة واسط يدعى: رضي الدين الواسطي، أتى إلى الشيخ رحمه الله وطلب منه أن يكتب له عقيدة يعتمدها ويستند إليها، فاعتذر الشيخ رحمه الله وطلب منه العذر، وقال له في اعتذاره: إن عقائد العلماء المؤلفة كثيرة، فخذ أحدها واكتفي به، فألح عليه هذا القاضي، يقول الشيخ رحمه الله: فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر، والإنسان يعجب من هذه العقيدة التي كتبها الشيخ رحمه الله استجابة لطلب هذا القاضي دون إعداد مسبق، مع ما تميزت به من ميزات قل توافرها في كثير من العقائد المؤلفة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 بعض ميزات العقيدة الواسطية هذه العقيدة اتسمت وتميزت عن غيرها من العقائد بأنها عقيدة مستندة إلى الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم؛ ولذلك قال الشيخ رحمه الله -في المناظرة التي عقدت له حول هذه العقيدة-: تحريت في هذه العقيدة الكتاب والسنة، وقال رحمه الله -في جملة ما قال-: إنه ما من لفظ في هذه العقيدة إلا وله دليل من الكتاب أو السنة أو إجماع السلف، وهذا يدلك على أن هذه العقيدة منبثقة وصادرة عما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومما تميزت به هذه العقيدة أيضاً: أنها عقيدة استقرأت أقوال السلف، وتتبعت ما قاله أئمة الأمة من الصحابة ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة، وأجملت واختصرت بعبارة واضحة؛ ولذلك قال الشيخ رحمه الله -في المناظرة التي عقدت له حول هذه العقيدة-: ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم. يعني: لم تكن هذه العقيدة خاصة بإمام من الأئمة، أو عالم من العلماء، بل هي مجمل ما اعتقده سلف هذه الأمة، على اختلاف مذاهبهم العملية، وإن كانوا لا يختلفون في المذهب الاعتقادي والمنهج الاعتقادي، فالمنهج الاعتقادي لأهل السنة والجماعة واحد. ومما تميزت به هذه العقيدة أيضاً: تحرير ألفاظها تحريراً بالغاً دقيقاً، حتى إن الشيخ رحمه الله تحدى خصومه الذين ناظروه ووشوا به إلى السلطان، وأمهلهم ثلاث سنوات ليأتوا بشيء في هذه العقيدة يخالف ما عليه سلف الأمة، وهذا يدلك على بلاغة التحرير، وعظم التدقيق في هذه العقيدة. ومما تميزت به هذه العقيدة أيضاً: أنها من العقائد الشاملة لكثير من مسائل الأصول، فليست معتنية بجانب من جوانب العقيدة، بل انتظمت أكثر مسائل الاعتقاد: فيما يتعلق بالأسماء والصفات، وفيما يتعلق بالمعاد، وفيما يتعلق بالإيمان، وفيما يتعلق بالقدر، وفيما يتعلق بالمسلك العملي لأهل السنة والجماعة، وهذه إضافة على سائر العقائد، فإن كثيراً من العقائد تذكر صفات أهل السنة والجماعة في الأصول، وتذكر ما تميزوا به في الفروع، لكن يغفلون الجانب العملي، وهذه العقيدة أولت الجانب العملي اهتماماً، فأفرد الشيخ رحمه الله في هذه العقيدة توضيحاً في فصل أو فصلين في آخرها، بين فيه المسلك العملي الذي يسير عليه أهل السنة والجماعة. ومما تميزت به هذه العقيدة: أنها حضيت باهتمام وثناء العلماء قديماً وحديثاً، فالثناء عليها موصول، فأثنى عليها الذهبي، وأثنى عليها ابن رجب، والأول من تلاميذ شيخ الإسلام رحمه الله ومن معاصريه، والثناء عليها موصول إلى يومنا هذا؛ ولذلك كثر الحفاظ لها، والدارسون لها والمدرسون، فاهتم بها أهل العلم تعلماً وتعليماً، حفظاً وتدريساً، وهذا لما تضمنته من المزايا السابقة، وهي عقيدة مباركة سلفية واضحة، لا يملك الخصم إلا أن يسلم لما احتوته؛ لكونها مليئة بالدلائل الواضحة الساطعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقراءتنا لهذه الرسالة -إن شاء الله تعالى- ستكون تنبيهاً على القواعد والجمل والأصول في اعتقاد أهل السنة والجماعة، وسنترك الاستطراد فيما لا صلة له مباشرة بما نحن فيه من دراسة العقائد المضمنة في هذه الرسالة. أسأل الله عز وجل أن يرزقنا السداد، وأن يعيننا على الصواب، وأن يوفقنا إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وبالمناسبة فقد جمعت في كتاب لطيف كلام شيخ الإسلام رحمه الله على أكثر مباحثها، ولخصت فيه جل ما علق عليه الشيخ، وتكلم عليه من مسائل هذه الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 مشروعية البدء بالبسملة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً. أما بعد: فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة: أهل السنة والجماعة. وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره. ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل] . قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم) افتتح الشيخ رحمه الله هذه الرسالة المباركة بالبسملة، وهي سنة جارية جرى عليها أهل العلم قديماً وحديثاً تأسياً بكتاب الله عز وجل، حيث افتتح الله عز وجل كتابه بالبسملة، وعملاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح كتبه ورسائله بالبسملة، وعلى هذا جرى أهل العلم، وورد في ذلك حديث إلا أنه لا يقوى من حيث السند على إثبات سنية هذه البسملة في أول الرسائل، لكن دليل هذا كتاب الله عز وجل، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، أما الحديث الوارد في ذلك فهو ضعيف. والكلام على البسملة واضح، إلا أن شيخ الإسلام رحمه الله اختار في متعلق البسملة أنه اسم، خلافاً لما جرى عليه كثير من النحاة من أن متعلق البسملة فعل، وهذا شيء ينبه عليه؛ لخروجه عن المعروف المشهور في متعلق البسملة، فإن البسملة جملة تامة متعلقة بفعل أو باسم، والشيخ رحمه الله اختار أنها متعلقة باسم مؤخر مناسب، والتقدير: بسم الله الرحمن الرحيم قراءتي، وغيره يقدر فعلاً، فيكون التقدير: بسم الله الرحمن الرحيم أقرأ. افتتح الشيخ رحمه الله هذه الرسالة بالبسملة وثنى بالحمد، واختار هذه الصيغة في الحمد، وهي من براعة الاستهلال؛ لأن هذه الرسالة تضمنت بيان أمرين: بيان العلم النافع، وبيان العمل الصالح؛ ولذلك قال: الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، والهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، فالدين معناه العمل كقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] أي: لكم عملكم ولي عملي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الكلام على الحمد والحمد عرفه كثير من المفسرين بأنه: الثناء بجميل الأوصاف، وأبلغ من هذا وأصح في بيان معنى الحمد ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله من أن الحمد: ذكر المحمود بصفات الكمال محبة وتعظيماً؛ لأن الثناء بجميل الأوصاف مجرداً عن المحبة والتعظيم ليس هو الحمد المذكور في كتاب الله عز وجل، ولا هو المناسب للخالق جل وعلا، بل الحمد المناسب له هو ذكره سبحانه وتعالى بصفات الكمال محبة وتعظيماً. والألف واللام في الحمد للاستغراق كما هو معلوم، فجميع المحامد لله سبحانه وتعالى، فله الحمد أولاً وآخراً، ظاهراً وباطناً، وله الحمد كله جل وعلا. والغالب في الحمد أن يعقبه ذكر أسماء الله عز وجل، أو صفاته العلا، أو أفعاله الجميلة، هذا هو الغالب في ذكر الحمد في كتاب الله عز وجل، وفيما يفتتح به الخطاب. وهنا ذكر فعلاً من أفعاله الجميلة، وهو إرساله سبحانه وتعالى رسوله بالهدى ودين الحق، والرسول المقصود به محمداً صلى الله عليه وسلم، وإن كان كل رسول أرسله الله عز وجل موصوفاً بهذين الوصفين، أي: أن رسالته بالهدى ودين الحق، لكن أوفرهم نصيباً وأعظمهم حظاً من هذين الوصفين هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (ليظهره على الدين كله) . (ليظهره) : اللام هنا للعاقبة، أي: عاقبة هذا الإرسال ظهور هذا الرسول وما جاء به. (على الدين كله) يعني: على جميع الملل على اختلافها وتنوعها دون استثناء، ما كان منها صحيح في وقته، وما كان منها غير صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 معنى: وكفى بالله شهيدا ً (وكفى بالله شهيداً) أي: كفى به سبحانه وتعالى شهيداً على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من الاستشهاد بفعله على صحة ما جاءت به رسله؛ لأنه من المحال أن يكون ما جاءت به الرسل كذباً وضلالاً، ومع ذلك يشاهدهم الله عز وجل ويقرهم على كذبهم وضلالهم، فلما أقرهم وأدالهم على عدوهم ونصرهم وأظهر ما جاءوا به، دل ذلك على صحة ما جاءوا به؛ ولذلك تكفي شهادة الله في صدق الرسل، ولما طلب الكفار من النبي صلى الله عليه وسلم آية قال: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الرعد:43] أي: إني أدعوكم وأبين لكم وأقول لكم: إن الله يأمركم بكذا، وينهاكم عن كذا، والله شاهد على ذلك، ولم ينزل بي عقوبة، بل أظهرني وأيدني ونصرني وأمدني بالحجج والبينات! (وكفى) : فعل يستعمل غالباً في تقوية اتصاف الفاعل بوصف يدل على التمييز المذكور، وهذه في جميع السياقات التي يرد فيها هذا الفعل بهذه الصيغة: كفى بالله شهيداً، كفى بالله نصيراً، كفى بالله وكيلاً، كل هذا لبيان وتقوية اتصاف الفاعل -وهو الله جل وعلا في هذه السياقات- بالتمييز المذكور وهو في سياقنا هذا (شهيداً) ، وفيما ذكرنا من الأمثلة: وكيلاً ونصيراً وما أشبه ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 مناسبة ذكر الشهادة يقول رحمه الله: (وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً) بعد أن فرغ من ذكر الحمد ثنى بعد ذلك بذكر الشهادة، وهي مما تجمل به الخطب، وهي لب الإسلام، وقلب الإيمان، وهي أوله وآخره؛ ولذلك ناسب أن تفتتح بها الخطب والمقالات. أشهد أن إلا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً، أي: إقراراً بالقلب واللسان، وتوحيداً، أي: أشهد بذلك مفرداً الله عز وجل بهذه الشهادة، فلا أشهد بها لغيره سبحانه وتعالى. قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً) فبعد أن شهد لله بالوحدانية شهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ووصفه بأعظم وصفين يوصف بهما النبي صلى الله عليه وسلم، وهما وصف العبودية والرسالة في قوله: عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسلماً مزيداً آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 معنى: أما بعد ثم قال رحمه الله: (أما بعد) . جملة (أما بعد) يؤتى بها للانتقال من المقدمة إلى المقصود بالكلام، وليس كما يقول بعض أهل اللغة من أنها تستعمل في الانتقال من موضوع إلى موضوع، أو من أسلوب إلى أسلوب، هذا لم يجر على لسان العرب، والذي جرى في استعمال النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أبلغ الفصحاء- استعمال هذا اللفظ في الانتقال من المقدمة والاستفتاح إلى المقصود بالحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 اعتقاد الفرقة الناجية قوله: (فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة ) هذا هو ما تضمنته هذه الرسالة، فالمشار إليه ما احتوته هذه الرسالة المباركة من اعتقاد الفرقة الناجية، أي: ما تعتقده الفرقة الناجية المنصورة، فوصف هذه الفرقة بوصفين: وصف النجاة ووصف النصر، وهما وصفان دل عليهما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما النجاة: ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) ، وسميت ناجية لأنها نجت من النار، هذا في الآخرة، وأما في الدنيا فلكونها نجت من البدعة والضلالة، وأما كونها منصورة فلما رواه الإمام أحمد من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين -بهذا اللفظ- لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة) ، فشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر؛ ولذلك قال الشيخ رحمه الله: فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة، فهما وصفان لفرقة واحدة، (إلى قيام الساعة) أي: منصورة إلى قيام الساعة للحديث الذي ذكرناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 أهل السنة والجماعة قوله: (أهل السنة والجماعة) هذا من عطف البيان، والمقصود به زيادة التوضيح والبيان لهذه الفرقة، من هي هذه الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة؟ هم أهل السنة والجماعة، وأهل الشيء هم أصحابه المتمسكون به، المعروفون به، فهؤلاء عرفوا بهذين الوصفين، وهما: مصاحبة السنة، ومصاحبة الجماعة، أما السنة فلقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الفرقة الناجية: (هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وأما الجماعة؛ فللرواية التي وردت في بيان هذه الفرقة حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم (هم الجماعة) وقوله: (ويد الله على الجماعة) فدل ذلك على أن هذين الوصفين مأخوذان من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 عقيدة أهل السنة والجماعة إجمالا ً ثم بدأ المؤلف بعد بيانه لما تضمنته هذه الرسالة بتفصيل مضمونها، ومن جميل تأليفه وحسن تصنيفه رحمه الله أن افتتح ذلك ببيان الجملة العامة التي تنتظم عقيدة أهل السنة والجماعة، فبين عقد أهل السنة والجماعة على وجه الإجمال، وانتقل منه إلى التفصيل، وهذا من بديع التصنيف والتأليف، أن يبدأ الإنسان بذكر الجملة العامة التي تنتظم ما سيتكلم عنه؛ وذلك ليدرك الإنسان ما هو مضمون هذا المؤلف، وليتشوف أيضاً لمزيد بيان لهذه الجملة المقدمة، فابتدأ الشيخ رحمه الله في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ببيان الإيمان المجمل العام الذي يطالب به كل أحد، والذي لا يستقيم الإيمان في قلب أحد إلا بالإقرار به، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، هذه هي أصول الإيمان وقواعده ومبانيه العظام التي لا يثبت الإيمان إلا بها. ودليل هذا الكتاب والسنة، أما الكتاب: فقول الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] وهذا شاهد لخمسة أصول، بقي القدر أين دليله؟! قول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فهذا دليل هذه الأصول الستة من الكتاب، أما دليلها من السنة: فحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة مجيء جبريل، وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره) ، وهذا الإيمان هو الإيمان المجمل. ما معنى: الإيمان المجمل؟ معنى الإيمان المجمل أي: الإيمان المطلوب من كل أحد على وجه الإجمال، ولو لم يعلم تفاصيل ما يتضمنه الإيمان بالله، أو تفاصيل ما يتضمنه الإيمان باليوم الآخر، أو تفاصيل ما يتضمنه الإيمان بالملائكة، وبقية أركان الإيمان، فالإيمان المجمل هو: أن يقر الإنسان بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الإجمال، ولو لم يدرك معناه، ولو لم يبلغه تفصيله، وهذا الإيمان لا يعذر أحد بتركه، وأما التفصيل فيختلف باختلاف أحوال الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الأمور التي يتضمنها الإيمان المجمل وبعد أن ذكر الشيخ رحمه الله الإيمان على وجه الإجمال انتقل إلى التفصيل، ولكن نقف عند ما يتضمنه الإيمان المجمل في هذه الأصول الستة، فالإيمان بالله يتضمن: الإيمان بوجوده الإيمان بربوبيته الإيمان بأسمائه وصفاته الإيمان بإلاهيته جل وعلا، وأهم هذه الأمور وأصلها الذي لا يقر الإيمان ولا يستقيم إلا به، هو الإيمان بإلاهيته؛ لأنه يتضمن جميع أنواع التوحيد الأخرى؛ ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله في توحيد الإلهية: وهو قلب الإيمان وأوله وآخره. كيف أوله؟! لا يدخل إنسان الإسلام إلا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وآخره: أن من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، فهذا يدل على عظم هذا النوع من التوحيد، وعلى أهميته، وعلى شدة الحاجة إليه، ومن استقام له هذا النوع فإن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات تابع له؛ لأنه يتضمن ويستلزم هذين النوعين. والإيمان بالملائكة يتضمن الإيمان بما أخبر الله عنهم في كتابه من أنهم مخلوقون من نور، وأنهم مربوبون متعبدون لله جل وعلا، والإيمان بما ذكر من أسمائهم وأوصافهم وأعمالهم وأحوالهم، وكل هذا يندرج تحت بالملائكة، والإيمان بمن ذكر الله اسمه منهم كجبريل وإسرافيل وميكائيل، وأن من لم يسمه الله لنا منهم أكثر ولا يحصيهم إلا الله، والملائكة من عالم الغيب، هذا المعنى العام للملائكة وما يتضمنه الإيمان بهم. والكتب: جمع كتاب، والإيمان بالكتب يتضمن: الإيمان بأن الله عز وجل أنزل إلى رسله كتبه، منها ما ذكره في كتابه، ومنها ما لم يذكره، وأنه سبحانه وتعالى تكلم بهذه الكتب، فكل كتاب أنزله فقد تكلم به كلاماً حقيقياً، والإيمان بما سماه الله من هذه الكتب كالإنجيل والتوراة والزبور، هذا ما يتضمنه الإيمان بالكتب عموماً. والقرآن أخص هذه الكتب وألزمها إيماناً؛ لأنه الكتاب الذي اختصت به هذه الأمة، فتميز عن غيره من الكتب بوجوب تصديق أخباره، ووجوب الانقياد لأحكامه، وهذا ليس من لازم الإيمان بالتوراة، ولا من لازم الإيمان بالإنجيل، ولا بغيرهما من الكتب، بل هو مما اختص به الإيمان بالقرآن. والإيمان بالرسل يتضمن: الإيمان بأن الله عز وجل أرسل إلى خلقه رسلاً، سمى لنا منهم من سمى، وهم عدد لا يحصيه إلا الله جل وعلا، وأشرفهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، والواجب الإيمان بالجميع: من سماهم الله لنا منهم ومن لم يسمه. والبعث بعد الموت -أيضاً- من أصول الإيمان، وهذا الإيمان يتضمن الإيمان بكل ما أخبر به الله عز وجل، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، وسيأتي تفصيل هذا النوع من أركان الإيمان وأصوله في هذه الرسالة. والإيمان بالقدر خيره وشره هو الإيمان بأنه ما من شيء إلا بقضاء الله جل وعلا وقدره، وسيأتي تفصيل هذا النوع من الإيمان، وما يتضمنه من مراتب في هذه الرسالة المباركة. هذا هو الإيمان المجمل الذي افتتح به الشيخ رحمه الله هذه الرسالة المباركة، ثم بعد ذلك انتقل إلى التفصيل، وابتدأ في التفصيل بذكر ما يتضمنه الإيمان بالله تعالى، فقال رحمه الله: (ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه) إلى آخر ما قال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 شرح العقيدة الواسطية [2] إن مما يجب علينا الإيمان به: الإيمان بما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، فإن الله: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) ، هذه هي طريقة أهل السنة والجماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 وقوف أهل الحق عند أدلة الكتاب والسنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفء له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى، فإنه أعلم سبحانه بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً من خلقه، ثم رسله صادقون مصدقون، بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون، ولهذا قال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180-182] فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين؛ لسلامة ما قالوه من النقص والعيب] . نشرع بإذن الله في تفصيل ما ذكره الشيخ رحمه الله من جملة ما يعتقده أهل السنة والجماعة على وجه الإجمال في قوله: (وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره) . قال رحمه الله: (ومن الإيمان بالله -هذا تفصيل للإجمال السابق-: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم) هذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، فهم واقفون في هذا الباب على ما جاء عن الله عز وجل، وعلى ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يزيدون في ذلك ولا ينقصون، بل هم مع النصوص دائرون، وحيث ما نزلت ينزلون، وحيث ما ارتحلت يرتحلون، فإمامهم وقدوتهم فيما يعتقدونه في الله جل وعلا -في هذا الباب وفي غيره من أبواب العقائد- ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وهذه والله السعادة والطمأنينة؛ لأن الإنسان يصدر في أهم أمر وأعظمه عن حجج واضحة وبينات ساطعة، بخلاف أولئك الذين يتخبطون، وفي كل واد يهيمون، لا يصيبون صواباً، ولا يحققون خيراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 سبب تخصيص المصنف توحيد الأسماء والصفات بالذكر في هذه الرسالة وخص المؤلف رحمه الله هذا النوع من التوحيد بالبيان في هذه الرسالة؛ لما شاع في عصره وكثر في زمنه من الانحراف في باب الأسماء والصفات، ولأن الذي طلب منه التأليف والكتابة شكا له حال الناس في جهته، وما هم فيه من اضطراب واختلاف، فبين الشيخ رحمه الله هذا الجانب بياناً واضحاً في هذه الرسالة المباركة. هذا من وجه. ومن وجه آخر وهو أن سبب تخصيص المؤلف رحمه الله هذا النوع من التوحيد بالعناية: أن الرسل جميعاً جاءت داعية إلى الله عز وجل، مُعرَّفةً بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته، ولا يمكن أن يستقيم عقد الإيمان، ولا توحيد العبد إلا بكمال الإيمان بالأسماء والصفات؛ ولذلك فصل الشيخ رحمه الله في هذا، وبين بياناً شافياً واضحاً، وبدأ الشيخ رحمه الله في تقرير هذا الأمر ببيان المنهج العام الذي يسلكه أهل السنة والجماعة أهل الفرقة الناجية في هذا الباب من أبواب المعرفة بالله سبحانه وتعالى، فقال رحمه الله: (الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم) ، فالمصدر لإثبات الأسماء والصفات ما جاء في الكتاب وما جاء في السنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 قيود هامة في باب الأسماء والصفات ولما كان كل أحد ممن ينتسب إلى أهل الإسلام وهو من أهل القبلة يدعي أنه إنما يصدر عن الكتاب والسنة؛ أراد المؤلف تمييز منهج أهل السنة والجماعة (الفرقة الناجية) عن غيرهم من الفرق وعن غيرهم من الطوائف، وهذا تمييز دقيق ومعيار صحيح لتخليص طريق أهل السنة والجماعة عن غيرهم بهذه القيود التي ابتدأها بقوله: (من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل) وهذه القيود الأربعة يأمن بها الإنسان من نوعي البدع في باب الأسماء والصفات، فإن البدع في باب الأسماء والصفات على اختلاف الطوائف، وتنوع الطرق ترجع إلى طريقين كبيرين: طريق المعطلة، وطريق الممثلة، وبهذه الاحترازات المذكورة تحصل السلامة للمؤمن من هاتين البدعتين في باب الأسماء والصفات، فقوله: (من غير تحريف ولا تعطيل) هذا ضمان السلامة من بدعة المعطلة، وقوله: (ومن غير تكييف ولا تمثيل) هذا ضمان السلامة من بدعة التمثيل؛ ولذلك حري بنا أن نقف عند هذه القيود؛ لنتبين معانيها، ونعرف ماذا تتضمن، فليست هي من عطف المترادفات، وإنما كل قيد مراد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 معنى التحريف قوله رحمه الله: (من غير تحريف) . التحريف في الأصل: هو الميل بالشيء إلى حرفه، أي: إلى جانبه، فالأصل في التحريف الميل، من حرفت الشيء إذا أملته، والمراد به هنا: إزالة اللفظ عن معناه، أو صرف اللفظ عن معناه الراجح المتبادر إلى المعنى المرجوح من غير دليل، وهذا التحريف يسميه أهله تأويلاً، فحيث ما رأيت في كلام المبتدعة من أهل الكلام التأويل فمرادهم به التحريف، وليس هذا معروفاً في اصطلاح المتقدمين، فإن التأويل في اصطلاح المتقدمين هو التفسير؛ ولذلك يكثر في كلامهم: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا، ثم يفسر ويبين ويشرح الآية، فالتأويل في لسان القرون المفضلة وسلف هذه الأمة معناه التفسير. ومما يراد به أيضاً: حقيقة ما يئول إليه الخطاب، وهذا كفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يسبح في ركوعه وسجوده، ويكثر من قول: (سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي) ، يتأول بذلك قوله سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] فهو يتأول، أي: يعمل بما تضمنته هذه الآية، هذا هو معنى التأويل في كلام السلف وأهل القرون المفضلة، أما التأويل في كلام المتأخرين فهو التحريف الذي فسرناه: وهو إزالة اللفظ عن معناه، أو صرف اللفظ عن معناه الظاهر المتبادر إلى معنى مرجوح من غير دليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 معنى التعطيل ثم قال رحمه الله في بيان القيد الثاني: (ولا تعطيل) ، فثاني القيود نفي التعطيل، والتعطيل في اللغة: مأخوذ من عطَّل الشيء إذا أخلاه، والمراد به هنا نفي الصفات، إما كلياً أو جزئياً، فكل من نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فله نصيب من التعطيل، فمن نفى الصفات جميعاً فهو معطل للجميع، ومن نفى بعضها -كمثبتة الصفات- وأثبت البعض فهو معطل تعطيلاً جزئياً، المهم أن التعطيل هو نفي الصفات، فإما أن يكون كلياً يعني: يكون نفيه كلياً، وإما على جزء من الصفات فيكون نفيه جزئياً. والتحريف والتعطيل مقترنان، فكل من حرف فقد عطل، وكل من عطل فإنه لا يصل إلى تعطيله إلا بتحريف، وإنما قدم التحريف على التعطيل؛ لأنه سبيله والوسيلة إليه، فإنما يتوصل المعطل إلى تعطيله عن طريق التحريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 أنواع التحريف واعلم أن التحريف قد يكون تحريفاً في المعنى، وقد يكون تحريفاً في اللفظ، وقد يكون تحريفاً في اللفظ والمعنى، وكل هذه الأنواع تفضي بصاحبها إلى التعطيل، فتحريف المعنى -وهو الغالب الكثير في أهل الكلام-: صرف اللفظ عن ظاهره، أي: عن المعنى الظاهر، وإزالة اللفظ عن معناه، مثال ذلك: تأويل وتحريف الاستواء بالاستيلاء، فقالوا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: استولى، هل هذا تحريف لفظي أو معنوي؟ تحريف معنوي، هم ما غيروا ما في المصحف، إنما غيروا المعنى، ومن التحريف المعنوي: قولهم في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] قالوا: كلمه أي: جرحه بأظافير الحكمة، فحملوا الكلم هنا على معنىً غير المعنى المتبادر من اللفظ، وهو الكلام المعروف، وهذا من التحريف المعنوي. ومن التحريف اللفظي: ما اقترحه ابن أبي دؤاد على المأمون من تغيير قوله تعالى وكان مكتوباً على ستار الكعبة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] قال: أزل: السميع البصير، وضع: العزيز الحكيم (ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم) فهذا تحريف لفظي، وما المراد منه؟! المراد منه نفي اتصاف الله عز وجل بالسمع والبصر. ومنه قول جهم: وددت أن أحك من المصحف: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، أحك يعني: أزيل، فهذا تحريف لفظي. النوع الثالث من التحريف: التحريف اللفظي المعنوي، وهو مجتمع في تحريف بعضهم لقوله تعالى: (وكلم اللهَ موسى تكليماً) وجه ذلك: أنهم غيروا الحركة المتفق عليها بين القراء، وهي الضم في لفظ الجلالة، فالآية: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] فمن الفاعل للتكليم؟ الله جل وعلا، فقلبوا الأمر، وجعلوا الله مكلماً لا متكلماً فقالوا: (وكلم اللهَ موسى تكليماً) فجعلوا المتكلم موسى، وهذا تحريف لفظي ومعنوي، والرد عليهم من أسهل ما يكون، حيث قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ، فهذا لا يمكن تحريفها، فماذا يفعلون بالضمير: (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) ؟! وهذا يدل على أن كل من أراد أن يبطل شيئاً في كتاب الله عز وجل فإنه ينقلب عليه ما استدل به، وهذه قاعدة مطردة: أن كل من استدل بشيء من الكتاب والسنة على باطله، كان فيما استدل به ما يبطل ما ادعاه من الباطل والزور، المهم أن التحريف الذي يتوصلون به إلى التعطيل قد يكون في اللفظ، وقد يكون في المعنى، وقد يكون في اللفظ والمعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 معنى التكييف ثم قال رحمه الله: (ومن غير تكييف ولا تمثيل) التكييف مأخوذ من الكيف، والكيف هو طلب صورة الشيء، فالتكييف طلب صورة الصفات وحقيقتها، فكل من طلب هيئة الصفة وصورة الصفة وحقيقة الصفة، وحقيقة ما أخبر الله به عن نفسه فإنه مكيف، وأهل السنة والجماعة قد أوصدوا هذا الباب وأغلقوه، فلا سبيل إلى معرفة الكيفيات؛ لأن ما أخبر الله به عن نفسه أمر لا تدركه العقول على وجه الكمال، إنما ندرك منه المعنى، وأما الحقائق وما عليه الأمر فإنه من العلم الذي استأثر به الله سبحانه وتعالى، قال الله جل وعلا: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] إذا وقفنا على لفظ الجلالة فالمقصود بالتأويل هنا: حقيقة ما يئول إليه ما أخبر به سبحانه وتعالى عن نفسه وعن أمور الغيب، فإنه لا يعلم ذلك إلا الله سبحانه وتعالى. فإذا قال قائل: كيف استوى على العرش؟ كيف وجهه؟ كيف يده؟ كيف كلامه؟ كل هذا لا سبيل إلى معرفته؛ لأنه مما استأثر الله بعلمه، والله سبحانه وتعالى قد نفى الإحاطة بصفة من صفاته، فكيف بصفاته؟ فكيف به سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255] فنفى الإحاطة بشيء من علم الله جل وعلا، فكيف بمن أراد أن يحيط بجميع صفاته وما أخبر به عن نفسه؟ وقال سبحانه وتعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] حتى النظر الذي أخبر به سبحانه وتعالى في نعيم أهل الجنة ليس نظراً يدرك به الناظر الله جل وعلا، بل قد قال سبحانه وتعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] فنفى إدراك الأبصار له؛ وذلك لكماله وبديع وجميل صفاته وذاته سبحانه وتعالى. فإذا كان العبد لا يمكن أن يدرك ما وصف الله به نفسه إدراكاً تاماً، فكيف يستطيع أن يكيف ما وصف الله به نفسه؟ هذا باب موصد لا سبيل إلى تحصيله ولا إلى ولوجه، والمؤمن يقف عند ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويقول: يسعني ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة وسلف الأمة، ومن تجاوز هذا الحد فإنه قد ولج باب بدعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 معنى التمثيل رابع ما احترز به الشيخ رحمه الله لمنهج أهل السنة والجماعة قوله: (ولا تمثيل) فنفى عن أهل السنة والجماعة التمثيل، والتمثيل مأخوذ من المثل، والمثل هو النظير والمساوي، والمنفي من التمثيل هنا هو مساواة الله عز وجل بغيره فيما يجوز عليه، وفيما يجب له، وفيما يمتنع عنه، فكل من سوى بالله غيره فيما يجب أو فيما يجوز أو فيما يمتنع فإنه قد مثل، والنصوص واضحة وبينة ومتنوعة في نفي المثل، قال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فنفى عن نفسه المثل، وقال جل وعلا: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، وقال سبحانه وتعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] ، وقال سبحانه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] ، وقال جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] كل هذا لنفي المثل، فإذا كان لا مثل له ولا سمي ولا نظير، فإنه لا يمكن أن يماثل شيئاً مما يستحقه الله عز وجل أو يتصف به شيء من المخلوقات، والله سبحانه وتعالى لا مثيل له لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا فيما يجب له، بل ولا في شيء من أموره سبحانه وتعالى، وإذا وقر هذا في قلب العبد أورثه تعظيماً للرب، وعرف أن الرب الذي يعبده ويتقرب إليه بالطاعات لا يستحق أحد غيره ما يتعبد به، وما يتقرب إليه به، فيكون هذا التوحيد موصلاً إلى توحيد الإلهية، ومثمراً إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 الفرق بين التكييف والتمثيل قال رحمه الله: (من غير تكييف ولا تمثيل) . ما الفرق بين التكييف والتمثل؟ التكييف طلب الصورة من غير مثل، أي: من غير تقييد بمماثل، وأما التمثيل فهو ذكر صورة الصفة مقيدة بمماثل، هذا الفرق بين التمثيل والتكييف؟ ولماذا بدأ بالتكييف؟ لأنه لا يحصل التمثيل إلا عن طريق التكييف، فهو سببه وطريقه ووسيلته، وبهذا يتبين أن هذه القيود قيود مانعة جامعة، مانعة: تمنع من دخول غير أهل السنة والجماعة في زمرتهم، وجامعة تجمع طريق أهل السنة والجماعة في هذا الباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 قوله: بل يؤمنون بأن الله سبحانه ثم قال الشيخ رحمه الله: (بل يؤمنون بأن الله سبحانه) بل: حرف إضراب، وكم أنواع الإضراب؟ نوعان: إبطالي، وانتقالي، والإضراب هنا ما نوعه؟ هل يريد أن يبطل ما تقدم أم يريد أن ينتقل؟! يريد أن ينتقل، فهو إضراب انتقالي، والغالب أن يأتي بعد (بل) جملة فعلية، وقد يأتي اسم فتكون (بل) عاطفة. قال المؤلف رحمه الله: (بل يؤمنون بأن الله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ) يؤمنون أي: يعتقدون أن ربهم جل وعلا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهذا دليل للقيود السابقة، فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] يدل على صحة القيدين في قوله: من غير تكييف ولا تمثيل، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] دليل على صحة القيدين في قوله: من غير تحريف ولا تعطيل؛ لأن الله جل وعلا خاطب الناس بلسان عربي مبين، ولا يفهم العربي من السميع إلا إثبات صفة السمع، ولا من البصير إلا إثبات صفة البصر، فمن قال: إنه لا يوصف بالسمع ولا بالبصر فقد خالف ما دلت عليه النصوص، وخالف مقتضى اللسان العربي الذي خاطب الله به هذه الأمة، فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، يبطل بدعة التمثيل، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] يبطل بدعة التعطيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وقوف أهل السنة عند الأدلة نفياً وإثباتاً قال رحمه الله -في تفصيل سبيل أهل السنة والجماعة، والبيان للقيود السابقة-: (فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه) ، فليس من منهج أهل السنة والجماعة نفي ما وصف الله به نفسه، بل يثبتون ما وصف الله به نفسه، ثم إنهم لا ينفون عن الله شيئاً إلا وقد دل الدليل عليه، وهذا من تمام وقوفهم في هذا الباب على الكتاب والسنة، فهم في الإثبات لا يثبتون إلا ما دل عليه الدليل، وفي النفي لا ينفون إلا ما دل الدليل على نفيه، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، كما أنهم لا يصفونه بالنفي المطلق؛ وذلك لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض نقص، والله جل وعلا منزه عن النقص. قال رحمه الله: (ولا يحرفون الكلم عن مواضعه) الكلم جمع كلام، وهو اسم جنس للكلام، والمراد به ما تكلم الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، باب الأسماء والصفات وفي غيره، لكن نحن نتكلم فيما يتعلق بالأسماء والصفات، فأهل السنة والجماعة سالمون من تحريف الكلم عن مواضعه، وتحريف الكلم عن مواضعه هو: الخروج به عن معناه الذي جاء من أجله، هذا معنى تحريف الكلم عن مواضعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 معنى الإلحاد في أسماء الله قال: (ولا يلحدون في أسماء الله وآياته) لا يلحدون: هذا نفي للإلحاد، وهو تأكيد لنفي التحريف؛ لأن الإلحاد هو الميل، وأهل السنة سالمون من الميل في هذين البابين: باب الأسماء والصفات، وباب آيات الله عز وجل، بل هم سالمون من الميل في كل أمر؛ لأنهم أمة وسط، قال الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] فلا يميلون إلى غلو، ولا يميلون إلى تقصير وتفريط. والإلحاد يكون في الأسماء أي: في أسماء الله عز وجل، ويكون في آياته، أسماء الله هي ما سمى به نفسه سبحانه وتعالى: كالله الرحمن الرحيم العزيز الكريم الملك القدوس، كل هذه أسماء، فلا يلحدون في أسمائه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 أنواع الإلحاد والإلحاد في أسمائه يكون بأمور: يكون بتسمية غيره بأسمائه، نظير ذلك ما فعله أهل الجاهلية من تسمية أصنامهم بأسماء الله سبحانه وتعالى، أو الاشتقاق من أسماء الله عز وجل أسماءً لآلهتهم، ونظير ذلك تسميتهم العزى ومناة، العزى من العزيز ومناة من المنان، واللات من الإله، فهذا نوع من أنواع الإلحاد في أسماء الله عز وجل. النوع الثاني من أنواع الإلحاد في أسماء الله عز وجل: وصفه بالنقص كوصف النصارى لربهم بأنه أب، وقولهم: الأب يريدون به الله عز وجل، وكقول المتكلمين في وصف الله عز وجل: هو العلة الفاعلة، وهذا من وصفه بالنقص، فهذه من صور الإلحاد في أسمائه. الصورة الثالثة من صور الإلحاد في أسمائه: إثبات النقص فيما سمى به نفسه، وذلك بتحريفها وتعطيلها؛ لأنهم يقولون: إن مقتضى إثباتها يفضي إلى مشابهته بالمخلوقين، فالنوع الثالث من أنواع التحريف هو تعطيل أسماء الله عز وجل، وتعطيل صفاته، وصرفها عن معناها المتبادر الظاهر الراجح إلى تحريفات وتأويلات اخترعوها. هذه من صور الإلحاد في أسماء الله عز وجل، وقد تكلم عليها المفسرون، والجامع لجميع صور التحريف والإلحاد في أسماء الله عز وجل هو تغييرها وصرفها من الكمال إلى النقص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 معنى الإلحاد في آيات الله قال رحمه الله: (وآياته) أي: ولا يلحدون في آياته، والآيات تشمل الآيات الشرعية والآيات الكونية، والإلحاد يكون في الآيات الشرعية ويكون في الآيات الكونية، ومن الإلحاد في الآيات الكونية إضافة المطر مثلاً إلى غير الله عز وجل، كقول القائل: مطرنا بنوء كذا وكذا، فإنه من الإلحاد في آيات الله الكونية؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) ، فهذا من الإلحاد في الآيات الكونية. ومن الإلحاد في الآيات الشرعية تحريفها، أو طمسها وإلغاؤها، كما فعلت اليهود في آية الرجم، فإنهم حرفوها من الرجم إلى الجلد، أو إلى تسويد الوجه، فهذا من الإلحاد في الآيات الشرعية، وأهل السنة والجماعة سالمون من الإلحاد في أسماء الله عز وجل، ومن الإلحاد في آيات الله الشرعية والكونية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 شرح العقيدة الواسطية [3] من عقيدة أهل السنة والجماعة في صفات الله تعالى أنهم لا يكيفون ولا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، بل يؤمنون بكل ما ورد، ويسلمون لكل ما أخبر به سبحانه وتعالى عن نفسه، فإن الله عز وجل لا يقاس بخلقه، وهو أعلم بنفسه، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 عقيدة أهل السنة والجماعة في صفات الله سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وأصلي وأسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد: قال رحمه الله: [ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفء له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً من خلقه. ثم رسله صادقون مصدقون، بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون؛ ولهذا قال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180-182] فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين] . ذكرنا أن التكييف والتمثيل منتف بالكتاب وبالسنة، وبإجماع السلف، والشيخ رحمه الله ذكر علة ذلك، يعني: علة أنه لا يكيف ولا يمثل ما أخبر الله به عن نفسه، فقال: (لأنه سبحانه لا سمي له) ومن أين لنا أنه جل وعلا لا سمي له؟ من قوله سبحانه وتعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] ، فالاستفهام هنا استفهام نفي، وإنكار أن يكون لله جل وعلا سمي يساميه، ويماثله، ويشابهه سبحانه وتعالى في شيء من أسمائه وصفاته، فنفى عن نفسه أن يكون له سمي. قال: (ولا كفء له) وذلك في قوله جل وعلا: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، (ولا ند له) وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] ، فنفى عن نفسه سبحانه وتعالى السمي، ونفى عن نفسه الكفء، ونفى عن نفسه الند، ومجموع هذه يفيد نفي النظير والمثيل والعديل والمساوي له سبحانه وتعالى، وإذا كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة كنه ما وصف به نفسه، يعني: حقيقة ما وصف به نفسه، ولا سبيل إلى تمثيل شيء مما أثبته لنفسه بما هو ثابت لخلقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 الأقيسة الممنوعة والجائزة في حق الله تعالى ثم قال رحمه الله: (ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى) وهذا امتداد لنفي التكييف والتمثيل؛ لأن القياس تمثيل وتسوية وتعدية، والقياس الذي نفاه الشيخ رحمه الله في قوله: (ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى) هو قياس التمثيل وقياس الشمول، فقياس التمثيل: هو مساواة الله بغيره من خلقه، وهو ما يعرف عند الأصوليين بإلحاق فرع بأصل لعلة جامعة. فقياس التمثيل هو: أن يمثل الله جل وعلا بغيره من المخلوقين، ولو في شيء مما ثبت له، فهذا منتفٍ، ولا يمكن أن يقول به مصدق لما جاء في الكتاب والسنة؛ لأن الكتاب والسنة نفيا التمثيل، ونفيا عنه سبحانه وتعالى المثل، وإثبات قياس التمثيل هو إثبات للنظير والمثل، ومخالفة لما أفادته هذه الآيات الدالة على أنه لا مثيل له ولا نظير. النوع الثاني من القياس المنفي: قياس الشمول، وهذا القياس هو: أن يدخل الله جل وعلا وغيره في قضية عامة كلية تستوي أفرادها، وهذا لا يمكن؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، فلا يمكن أن يسوى بغيره، ويدخل هو وغيره في قضية كلية عامة، فهذان القياسان لا يمكن إثباتهما، ولا يجوز لمؤمن أن يثبتهما؛ لدلالة الأدلة على أنه سبحانه وتعالى لا مثيل له ولا نظير، والقياس الذي استعمله أهل السنة والجماعة هو قياس الأولى، وقياس الأولى: هو أن كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت للمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تخلى منه المخلوق فإن تنزيه الخالق عنه من باب أولى، هذا هو ضابط قياس الأولى، في الكمالات: كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به، وفي العيوب والنقائص: كل ما تنزه عنه المخلوق من العيب والنقص فتنزيه الخالق منه من باب أولى، ودليل هذا القياس الذي أثبته أهل السنة والجماعة قوله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] ، وقوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم:27] ، هذا هو دليل جواز إثبات قياس الأولى في باب الأسماء والصفات. لكن يجب أن نتنبه إلى أن هذا القياس -الذي هو قياس الأولى- لا يمكن أن نثبت به شيئاً لم يرد إثباته في الكتاب والسنة، أو ننفي به شيئاً لم يرد نفيه في الكتاب والسنة. إذاً: ما فائدة هذا القياس إذا كان لا يفيدنا في الإثبات ولا يفيدنا في النفي؟ فائدته في إثبات ما جاءت به النصوص أو نفي ما جاءت النصوص بنفيه عن الله عز وجل بدلالة العقل، وتنبه لهذا، فقل من ينبه عليه أو ينتبه له؛ حتى لا نضطرب ولا نعارض ما تقدم من أننا لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، وأننا لا ننفي عنه ما وصف به نفسه، نعلم بهذا كله أن قياس الأولى الذي أثبته أهل السنة والجماعة واستعملوه هو في الاستدلال لما ثبت بالكتاب والسنة من جهة العقل، وإلا فإنه لا يقوى في إثبات أمر لم يدل عليه الكتاب أو السنة، كما أنه لا يقوى في نفي ما لم يدل الكتاب أو السنة على نفيه. وبهذا يتبين لنا أن القياس في باب الأسماء والصفات ثلاثة أنواع: نوعان ممنوعان، ونوع جائز، النوعان الممنوعان هما: قياس التمثيل وقياس الشمول، والنوع الجائز هو قياس الأولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 من أوصاف خطاب الله كمال العلم والصدق والنصح قال رحمه الله: (فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً) هذه جملة تعليلة علل بها المؤلف رحمه الله القواعد المتقدمة من قواعد الأسماء والصفات، وأنه لا نثبت لله إلا ما أثبته لنفسه، ولا نثبت لله جل وعلا إلا ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الإثبات لما تضمنه الكتاب ولما تضمنته السنة من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، لماذا؟ لأنه قال: (فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره) فهذا إثبات كمال علمه سبحانه وتعالى، ولا ريب أن المخبر إذا اتصف بهذه الصفة كان ذلك من أسباب قبول خبره والوقوف عنده. ثاني ما اتصف به سبحانه وتعالى: أنه أصدق قيلاً، فقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] أي: لا أصدق من الله قولاً، فإذا كان قوله صدقاً، ومن لوازم الصدق النصح؛ لأن النصح فرع عن الصدق، فمن كان صادقاً كان ناصحاً، فتميز الخطاب أيضاً بخصيصة وميزة عظيمة وهي: الصدق والنصح، فاجتمع لنا الآن في خطاب الله عز وجل ثلاثة أوصاف: كمال العلم، وكمال الصدق، وكمال النصح. ثم قال: (وأحسن حديثاً من خلقه) فحديثه أحسن الأحاديث: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً} [الزمر:23] ، فالله جل وعلا أنزل على هذه الأمة أحسن الأحاديث، فخطاب توافرت فيه هذه الصفات من أين يرد عليه الوهم؟! ومن أين يتطرق إليه الخلل؟! علم وصدق ونصح وبلاغة وفصاحة لا تجارى، ولا يبلغ حدها، بل هي قد بلغت الغاية في الحسن والبيان، فلا سبيل إلى عدم قبول ما تضمنه الكتاب من الأخبار والأحكام، قال الله جل وعلا: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:115] فهي تامة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، ومن ادعى بتأويل أو تحريف أن النص يدل على خلاف ما ظهر منه وتبادر، دون مرجح؛ فإنه قد اتهم خطاب الله عز وجل إما بنقص العلم أو بنقص الصدق، أو بنقص النصح، أو بعدم البيان والفصاحة، وهذه أوصاف اضبطها، فإنها أوصاف تميز بها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة؛ ولهذا لا عدول لأهل السنة والجماعة عما تضمنه الكتاب والسنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 صدق الرسل فيما أخبروا وبلغوا قد يقول قائل: هذا خطاب الله، لكن الخلل أتانا من الطريق الذي وصلنا به الخطاب، فانتقل المؤلف رحمه الله كما سيأتي دليله في الآية إلى تزكية الطريق الذي وصلنا به خبر الله سبحانه وتعالى، وهم الرسل، فقال: (ثم رسله صادقون) فيما يخبرون به عن الله جل وعلا، من العقائد والأحكام والأخبار؛ فأمنا الخلل في الطريق، وقد يكون الإنسان صادقاً، لكنه يخطئ، فيخبر بخلاف الحق، ولنفي هذا الوارد الذي قد يورده المخالفون لطريق الرسل، فيقولون: نحن لا نتهم الرسل فيما أخبروا به، لكن الرسل أخطئوا أو قصروا، فيأتيك الجواب في قوله رحمه الله: (مصدقون) أي: من الله جل وعلا، فهو عليهم شهيد؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى في غير ما آية: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [الفتح:28] أي: شهيداً على ما تخبر به الرسل من الأخبار، وما تنبئ به من الأحكام، فشهادة الله على هؤلاء الرسل كافية في قبول ما جاءوا به؛ لأنه لو كان ما جاءوا به مخالفاً للحق لما أقرهم عليه جل وعلا، بل إنه سبحانه وتعالى تعهد وتكفل بفضح ومعاقبة كل من افترى عليه كذباً، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} [الحاقة:44] أي: شيئاً منها، {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:45-47] ، والآية الأخيرة تبين أن هذا التهديد ليس في حق الرسل فقط، بل في حق كل من كذب على الله عز وجل، وافترى عليه في خبر أو حكم، فإذا كان الرسل مصدقين، وهذه حال الله جل وعلا معهم من الشهادة والاطلاع والعلم بما يخبرون، ومع ذلك لم يتعقبهم بشيء، ولم نر أنه وقع بهم ما أخبر به سبحانه وتعالى من العقوبة العاجلة قبل الآخرة؛ دل ذلك على أن ما جاءوا به هو المطابق لما عليه الأمر، والموافق لما تكلم به سبحانه وتعالى. وهذه الميزة في خطاب الله عز وجل، وفي الطريق الذي وصلنا به خطابه، وليس في أي سبيل آخر، ولذلك قال: (بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون) وهذا وصف مطابق لحال المخالفين للرسل، ومخالفين لما جاءت به الدلائل في الكتاب والسنة، فمهما ادعوا العلم، ومهما بالغوا في خلع الألقاب عليهم، فإنهم يقولون على الله ما لا يعلمون؛ لأنه لا أتم، ولا أكمل، ولا أنصح، ولا أفصح، ولا أبين، مما أخبر به سبحانه وتعالى عن نفسه، أو أخبرت به رسله. ولا سلامة للمؤمن من الاضطراب والحيرة والضلال إلا بالتسليم لله جل وعلا، والوقوف عند النصوص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 تنزيه الله لنفسه عما وصفه المخالفون للرسل قال المؤلف رحمه الله: (ولهذا قال سبحانه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180-182] ) هذه الآيات العظيمة افتتحها الله سبحانه وتعالى بتنزيه نفسه، فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ} أي: يا محمد! سبحانه فسبح نفسه، والتسبيح معناه التنزيه، فالله سبحانه وتعالى نزه نفسه عن كل عيب ونقص وشر في الأقوال والأفعال، والأسماء والصفات، فلا يتطرق إلى شيء من أموره نقص سبحانه وتعالى. ولتأكيد امتناع النقص عليه قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ َ)) والعزة: هي الامتناع، وهو ربها أي: صاحبها سبحانه وتعالى، فـ (رب) هنا معناه: صاحب العزة، والعزة له وصف وملك، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [يونس:65] فالعزة له سبحانه وتعالى، وعزة كل عزيز فرع عن عزته، فهو الذي يهبها له، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، فإذا كان هذا وصفه سبحانه وتعالى فإنه لا يتطرق إليه النقص، بل أصحاب العقول السليمة لا يمكن أن يدور في عقولهم نقص هذا الرب جل وعلا بوجه من الوجوه. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180] أي: عما يصف به الكافرون والمخالفون للرسل ربهم، ويستوي في هذا الاعتقادات الفاسدة الكفرية فما دونها، فكل ما خالف الكتاب والسنة من العقائد في الله جل وعلا فإن الله سبحانه وتعالى قد نزه نفسه عن ذلك في هذه الآية: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180] . ثم سلم على المرسلين فقال: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:181] والسلام على المرسلين لسلامة ما قالوه كما سيبين المؤلف رحمه الله، وهذا السلام بشرى لكل من سلك سبيل المرسلين، فهو سلام للمرسلين ولأتباعهم، وليس خاصاً بالمرسلين، إنما هو للمرسلين ولمن سلك سبيلهم، وانتهج نهجهم، وسار على صراطهم. ثم بعد أن سبح نفسه ونزهها عن العيب والنقص، وسلم على أقوم الناس منهجاً وطريقاً حمد نفسه فقال: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:182] ، وهذه الجملة فيها إثبات الكمالات لله سبحانه وتعالى: الكمال في الأسماء، والكمال في الصفات، والكمال في الأفعال، فإنه لا يحمد إلا من كملت أسماؤه، ولا يحمد إلا من كملت صفاته، وجملت أفعاله سبحانه وتعالى، ولاحظ كيف افتتح هذا التعقيب بما ذكره في سورة الصافات من أقاويل أهل الكفر واعتقاداتهم في ربهم، واعتقادهم الولد، وجعلهم بينه وبين الجنة نسباً، وما إلى ذلك مما ذكره من العقائد الفاسدة، ثم عقب ذلك بذكر التسبيح والتحميد، وكثيراً ما يقترن في كتاب الله عز وجل التسبيح مع التحميد، بل نحن في صلاتنا نقول: سبحان الله وبحمده في الركوع والسجود، وفي الأذكار بعد الصلوات نقول: سبحان الله والحمد لله، فالتسبيح والتحميد مقترنان، ووجه اقترانهما أن التسبيح: تنزيه لله عز وجل عن كل عيب ونقص، وهذا تخلية، والتحميد: إثبات لكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، ولذلك كانت سبحان الله وبحمده من خير الكلام، ومما يملأ به الميزان، وتملأ ما بين السماء والأرض؛ لما تمضمنته من إثبات الكمالات لله عز وجل، ونفي النقائص عنه سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله: (فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل) وهذا يشمل الكفار الذين نسبوا له الولد، والذين جعلوا بينه وبين الجنة نسباً، والذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، والذين قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع عن تعب، وما إلى ذلك من العقائد الباطلة التي لا حصر لها ولا حد من عقائد الكفار، ويدخل فيها أيضاً العقائد المنحرفة من عقائد أهل القبلة، يعني: المنتسبين لملة الإسلام من أهل البدع المغلظة، والبدع التي تعتبر من البدع الخفيفة كبدع من أول بعض الصفات وأثبت بعضها. المهم أن هذا ينتظم جميع من خالف سبيل الرسل بكفر أو بدعة، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، فإن ما قالوه لا نقص فيه ولا عيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 جمع الله سبحانه فيما وصف به نفسه بين النفي والإثبات ثم بعد أن فرغ من الاستدلال لما تقدم من القواعد ختم هذا الفصل بذكر قاعدة مهمة وهي في قوله رحمه الله: (وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات) أي: الله سبحانه وتعالى في خبره عن نفسه جمع بين النفي والإثبات، النفي هو أمر سلبي، والإثبات أمر إيجابي، واعلم أن المؤلف رحمه الله أطلق القول في هذا الموضع، ولكنه فصله في كثير من مؤلفاته، ومراده رحمه الله أن يبين أن كلا النوعين -النفي والإثبات- قد وردا في صفات الله عز وجل، وفيما أخبر به عن نفسه، لكن هل هما على حد سواء؟ هل النفي كالإثبات؟ الجواب: لا، فالأصل في الإثبات التفصيل في الأسماء والصفات، وقد يرد الإثبات مجملاً في الأسماء والصفات، أما النفي فعلى عكس ذلك، فطريقة القرآن: الإجمال في النفي وعدم التفصيل. فمثال الإثبات المجمل في الأسماء: قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ، هذا من الكتاب، وفي السنة دعاء الاستخارة: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك) هذا فيه إجمال في إثبات أسماء الله عز وجل: (سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) هذا إجمال ليس فيه تفصيل، فهو يفيد ثبوت الأسماء إجمالاً. وإجمال الصفات في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] ، فهذا إثبات مجمل للصفات، ومنه قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم:27] ، والمثل في الموضعين بمعنى الصفة، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] يعني: له الصفة العليا سبحانه وتعالى، وهذا إثبات مجمل. أما التفصيل فهو الأصل، وهو الغالب، وهو الذي ملء به القرآن، من ذلك ما في آخر سورة الحشر من قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر:22-23] ، كل هذا تفصيل في الأسماء والصفات؛ لأن كل اسم يتضمن صفة، ويدل على صفة أو صفات بدلالة المطابقة ودلالة التضمن ودلالة الالتزام. أما النفي فالأصل فيه الإجمال، ومن ذلك الآيات التي سمعناها في نفي المثل كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] . واعلم أنه قد يأتي النفي مفصلاً، لكنه قليل، ثم إنه لا يرد إلا لغرض وهو: إثبات الكمال، إذاً: النفي الوارد في صفات الله عز وجل هل هو نفي لمجرد النفي؟ الجواب: لا، إنما هو نفي لإثبات كمال، فإذا قرأت في النفي المجمل: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] يفيدك هذا تعظيم الرب الذي لا سمي له؛ لثبوت الكمال له في أسمائه وصفاته وأفعاله، فأفادنا الإثبات. والنفي المفصل أيضاً لا يرد إلا لإثبات كمال، مثال ذلك قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ، هذا المراد منه إثبات كمال العدل، وأيضاً يرد النفي في الصفات لنفي ما يتوهمه الجاهلون، أو نفي ما وصف به الجاهلون رب العالمين، وذلك كنفي الولد عنه، لماذا قال سبحانه وتعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] ؟ لنفي ما وصفه به الجاهلون من أن له ولداً، ونفي الولد عنه يفيد كماله سبحانه وتعالى، وأنه لا شبيه له؛ لأنه ما من شيء إلا له فرع أو أصل، والله سبحانه وتعالى قد تنزه عن الفرع والأصل، فالنفي المفصل لا يرد إلا لأجل إثبات الكمال، سواء كان نفياً لما توهمه الجاهلون، أو نفياً لإثبات كمال ضد الصفات، كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، وكقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ، وكنفي العجز في غير ما آية. إذاً: عرفنا أن النفي الأصل فيه الإجمال، ويرد مفصلاً، ولكن يقصد منه الكمال. لماذا لا يرد النفي مفصلاً في صفات الله عز وجل؟ لأن النفي المحض الذي لا غرض منه عدم، والعدم ليس كمالاً، وليس بشيء كما يقول شيخ الإسلام فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً، بل قد يكون النفي نقصاً، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الواسطية [4] اشتمل القرآن الكريم على كثير من أسماء الله تعالى وصفاته، ومن ذلك ما ورد في سورة الإخلاص مما لم يرد في سواها، وهذا يدل على عظم هذه السورة؛ ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن، وكذلك آية الكرسي، فقد اشتملت على ذكر اسمين من أسمائه الحسنى، إليهما مرد جميع صفات الذات وصفات الفعل، وهما: (الحي القيوم) ؛ ولذلك كانت أعظم آية في كتاب الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 سورة الإخلاص وما تضمنته من قواعد العقائد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن، حيث يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] ، وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه حيث يقول: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] ؛ ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح] . آخر ما ذكر الشيخ رحمه الله من القواعد في هذه المقدمة قوله: [وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات] وبينا النفي الوارد في كتاب الله عز وجل والإثبات، وقلنا: إن الأصل فيما وصف الله به نفسه الإثبات، فهذا الأصل، حتى النفي الذي وصف الله به نفسه المقصود به والمراد منه الإثبات، وهذه هي طريقة القرآن، وهي الطريق التي سلكها سلف الأمة، وسار عليها من سلك منهج الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، وقابل هذا الطريق وخالفه الذين وصفوا الله عز وجل بالنفي تفصيلاً، وبالإثبات إجمالاً، وهؤلاء هم المتكلمون، فالمطالع ما ألفه المتكلمون من أهل البدع في هذا الباب يجد أنهم يفصلون ويطنبون في السلوب والنفي، ويجملون في الإثبات، حتى إن بعضهم لا يثبت لله عز وجل وصفاً إلا وصف الوجود. ولا شك أن هذا في غاية المضادة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولما بينه القرآن؛ فإن القرآن لم يأت بالنفي إلا لأجل الإثبات، ولم يأت نفي مقصود لذاته؛ ولذلك تجد أن هؤلاء المفتونين بالكلام يجعلون التنزيه والتقديس فيما يصفون الله به سبحانه وتعالى من السلوب، فتجد أحدهم يقول: لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، ولا يرى، ولا يشار إليه، ولا يقرب منه شيء، ولا يقرب من شيء، وما إلى ذلك من النفي، وهم يريدون بهذا النفي -زعموا- التنزيه والتعظيم، لكن أي تنزيه وتعظيم في قلب العبد إذا اعتقد مثل هذا الكلام الذي لا يحصل منه إلا النفي؟! قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:22-23] إلى آخر ما ذكر الله من أسمائه وصفاته في هذا الموضع وفي غيره، فمن أي الطريقين يحصل للعبد تعظيم الله عز وجل؟ فذاك لا يحصل به إلا الجفاء والغلظة للقلب والجهل بالرب، وأما هذا الطريق -طريق القرآن- فهو الذي يحصل به غاية العلم بالله سبحانه وتعالى، العلم الذي يستطيعه المخلوق؛ لأن العليم الخبير أعطانا وأظهر لنا من العلم المتعلق بذاته ما تحيط به عقولنا، وما تستطيع أن تدركه أذهاننا، والإحاطة التي ذكرناها ليست الإحاطة التامة، إنما هي إحاطة الإدراك، وإلا فالكيفيات أمرها إلى الله عز وجل لا نحيط بها، كما تقدم بيانه في الشرح. ثم بعد أن بين الشيخ رحمه الله هذا، وبين أن أهل السنة والجماعة ملتزمون بهذا الصراط، سالكون هذا السبيل لا يحيدون عنه ولا يميلون، بين أن هذا الصراط هو صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وبهذا تعلم أن ما جاءت به الرسل فيما يتعلق بالخبر عن الله عز وجل واحد، فلم تختلف الرسل فيما أخبرت به عن الله عز وجل؛ لأن الرب الذي بعث أولهم هو الذي بعث آخرهم، فالموصوف والمدعو إليه في جميع الرسالات هو رب واحد، هو رب العالمين الذي جاء القرآن ببيان أوصافه والخبر عنه على أكمل وجه. ثم بعد أن فرغ من هذا الفصل أتى بفصل بين فيه بعض ما في كتاب الله عز وجل مما يتعلق بالخبر عنه سبحانه وتعالى، تطبيقاً للقواعد المتقدمة واستدلالاً لها، فقال رحمه الله: [وقد دخل في هذه الجملة] ، والمشار إليه هو ما تقدم من القواعد المتعلقة بالأسماء والصفات. وقد تقدم لنا في كلامه رحمه الله قاعدتان: القاعدة الأولى: لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. الثانية: أنه سبحانه وتعالى جمع فيما وصف به نفسه بين النفي والإثبات، فننظر إلى ما ساقه رحمه الله من الأمثلة، وما أدرجه تحت تلك الجملة. فقال: [وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص] ، وسورة الإخلاص هي سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، والاسم المشهور في السنة لهذه السورة هو {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، سميت بأول ما جاء فيها، وورد اسم الإخلاص لهذه السورة في السنة أيضاً في جامع الترمذي، لكن الاسم المشهور الذي وردت به الأحاديث هو {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وسميت بهذا الاسم لأنها أخلصت في الخبر عن الله عز وجل، هذا فيما يتعلق بمضمونها. وأما ما يتعلق بمطلوبها فلأن من عمل بها، وقام بما تضمنته فإنه حقق الإخلاص، وهذه السورة لها شأن عظيم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح بها صلاة النهار ويختتم بها صلاة الليل، فكان يقرأ بها في وتره، ويقرؤها في سنة الفجر في ركعتي الفجر، وفي ركعتي المغرب، وفي ركعتي الطواف، فكان يكررها صلى الله عليه وسلم في العديد من النوافل، وقد قال لأصحابه مرة: (احشدوا -أمرهم بالاجتماع- أقرأ عليكم ثلث القرآن، فلما احتشدوا واجتمعوا قرأ عليهم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، ثم قال: ألا إنها تعدل ثلث القرآن) ، فجمعهم صلى الله عليه وسلم ليبين لهم صفة ربهم سبحانه وتعالى، وفضل ما جاء في هذه السورة. قال المؤلف رحمه الله: [في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن] . أي: تعدل في الثواب والجزاء، ووجه كونها تعدل ثلث القرآن أن معاني القرآن ثلاثة: ثلث يتعلق بالله عز وجل، وثلث يتعلق بالأحكام، وثلث يتعلق بالقصص والأخبار، وهذه السورة تضمنت الثلث المتعلق بالخبر عن الله وعن التوحيد، وذكرنا أنها تعدل ثلث القرآن في الثواب والجزاء، لكن هل تعدل ثلث القرآن في الإجزاء والاكتفاء؟ الجواب: لا؛ ولذلك لو قرأ الإنسان هذه السورة في ركعة من صلاته ثلاث مرات فإنها تعدل القرآن في الثواب، لكن هل تكفيه عن قراءة الفاتحة؟ لا تكفيه عن قراءة الفاتحة؛ لأنها تعدل ثلث القرآن في الثواب لا في الإجزاء. قال رحمه الله: [تعدل ثلث القرآن حيث يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4]] . افتتحت هذه السورة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقول الذاتي، والقول الإعلامي الإخباري التبليغي؛ وذلك لأهمية ما تضمنته هذه السورة، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بتبليغ القرآن كله، لكن حيثما رأيت القرآن أمر الله عز وجل نبيه بأن يقول، فذاك لأن المضمون بعد القول أمر يحتاج إلى عناية وانتباه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 مجامع التوحيد التي تضمنتها السورة قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] تضمنت هذه السورة ثلاثة معانٍ هي مجامع التوحيد، ولا يستقر التوحيد في قلب العبد إلا باجتماعها: الأمر الأول: إثبات الأحدية لله سبحانه وتعالى التي تقتضي نفي الشريك، وذلك في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] . الأمر الثاني: إثبات الصمدية له سبحانه وتعالى، وهي تقتضي اتصافه بأوصاف الكمال. الأمر الثالث: إثبات تنزهه سبحانه وتعالى عن الشبيه والنظير والمثيل، وذلك في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 ما تضمنته السورة إثباتا ً هذه السورة تضمنت إثباتاً ونفياً، فالإثبات قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، فأثبتت هذه الآية لله سبحانه وتعالى الإلهية، وأثبتت له الأحدية، والإلهية تتعلق بالعبادة، والأحدية تتعلق بالعبادة وبالربوبية وبالأسماء والصفات، وهذا الاسم (الأحد) لم يرد ذكره في غير هذه السورة، وهذا مما اختصت به هذه السورة، ومن مزايا هذا الاسم من أسمائه سبحانه وتعالى أنه لا يسمى به غيره إلا في النفي، أما في الإثبات فلا يسمى به إلا الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] فيه إثبات هذا الاسم له سبحانه وتعالى، والصمد تنوعت عبارات السلف في بيانه وشرحه وتفسيره، وأشهرها تفسيران: التفسير الأول -وهو الأكثر والأشهر في كتب المفسرين، والأكثر المنقول عن الصحابة والتابعين- تفسيره بأنه الذي لا جوف له، فهو مصمت سبحانه وتعالى، ونزه ربك عن المثال، أو عن تصور حقيقة هذه الصفة، فإنه لم يدر في خلد صحابة رسول الله ولا التابعين ولا سلف هذه الأمة التمثيل أو التشبيه، بل هم سائرون على ما تقدم تقريره من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فإثبات هذا المعنى لا يلزم منه أي محذور، ولا أي نقص في الرب سبحانه وتعالى، وإنما فسر بأنه لا جوف له لأنه الغني سبحانه وتعالى، وإنما احتاج غيره إلى الجوف لافتقاره إلى ما يغذيه، أو إلى ما تقوم حياته به، وهو سبحانه الصمد القائم بنفسه الغني عن كل أحد، فليس به حاجة إلى أحد سبحانه وتعالى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] . التفسير الثاني للصمد -وهو الذي جاء في كلام بعض السلف، ورجحه كثير من المتأخرين- أنه السيد الذي تنزل به الحوائج، فيكون (الصمد) بمعنى (القيوم) ؛ لأن القيوم الذي يقوم على كل نفس بما كسبت، فلا قيام لنفس من أنفس بني آدم ومن أنفس غير بني آدم إلا به سبحانه وتعالى، فالمعنى الثاني: الصمد الذي تنزل به حوائج الخلق ويقضيها جل وعلا. وهذان المعنيان هما بمعنى (القيوم) كما بينا في المعنى الثاني، وكذلك في المعنى الأول؛ لأنه القائم بنفسه المقيم لغيره. وجمع آخرون بين هذين المعنيين لهذا الاسم العظيم فقالوا: إن الصمد هو الكامل في أوصافه، فله من العلم غايته، وله من الحلم نهايته، وله من كل صفة منتهاها، فلا فوق ما وصف به نفسه من الصفات، فله الغاية في كل صفة من أوصافه، وهذا المعنى ورد عن بعض السلف فقال: السيد الذي كمل في سؤدده، الحليم الذي كمل في حلمه، العليم الذي كمل في علمه، فيكون معنى الصمد: هو الكامل في أوصافه. واعلم أن هذا الاسم من الأسماء الحسنى لم يرد ذكره في غير هذه السورة، فيكون ثاني اسم من الأسماء التي اختصت به هذه السورة التي بينت صفة الرحمن سبحانه وتعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 ما تضمنته السورة نفيا ً قال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] ، ما تقدم كله صفات ثبوت، وصفات وجودية، وقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] هذا أول الصفات السلبية، وأول النفي المذكور في هذه السورة، وهذا هو نفي للتفصيل، (لم يلد) فلم يتفرع عنه شيء، فليس له فرع، (ولم يولد) فلم يتفرع عن شيء، فلا أصل له، فهو سبحانه وتعالى المنزه عن الأصل والفرع؛ وذلك لكمال الله وكمال قيوميته سبحانه وتعالى، فلا يحتاج إلى أصل ينتسب إليه، ولا إلى فرع يستند إليه أو يتقوى به، بل هو الغني سبحانه وتعالى، فهل أفادنا هذا النفي معنى ثبوتياً أم لا؟ وهل هو نفي محض؟ الجواب: لا، إنما هو نفي لإثبات كمال الغنى، هذا من حيث المعنى العام، ونفي ما وصفه به الجاهليون من أن له ولداً، كما قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، فكل هذا منفي بقوله سبحانه وتعالى: (لم يلد) ، وهذا النفي في هذه الآية لبيان كمال صمديته سبحانه وتعالى؛ ولذلك فسر جماعة (الصمد) بأنه الذي لم يلد ولم يولد. ثم قال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، وهذا فيه النفي أيضاً، ووصفه سبحانه وتعالى بالنفي والسلب، وهو نفي وسلب إجمالي، والمراد منه نفي الشريك، ونفي النظير وهو المثيل العديل؛ وذلك لكمال تفرده سبحانه وتعالى بصفات الكمال، وهو معنى قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، ومعنى قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] ، ومعنى قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً} [البقرة:22] ، ومعنى قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، فهذا نفي مجمل لبيان كمال انفراده سبحانه وتعالى. واعلم أنه سبحانه وتعالى لا كفؤ له في أسمائه، ولا كفؤ له في صفاته، ولا كفؤ له في أفعاله، ولا كفؤ له في شيء من أموره، بل ولا فيما يجب له؛ ولذلك إذا جمعت بين أول هذه السورة وآخرها وبين قوله: (اللَّهُ أَحَدٌ) ، وبين قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} اجتمع لك غاية التوحيد بنفي التمثيل ونفي الشريك، وبهذا يصح ما ذكره الشيخ رحمه الله من أن هذه السورة وما ذكر فيها من أوصاف داخلة في الجملة المتقدمة التي اختطها أهل السنة والجماعة، وسار عليها سلف الأمة من إثبات ما أثبته الله لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، والإقرار بأن الله سبحانه وتعالى جمع فيما وصف به نفسه بين النفي والإثبات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 آية الكرسي وما تضمنته من أسماء الله وأوصافه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 سبب كونها أعظم آية ثم بعد ذلك قال رحمه الله: [وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه حيث يقول] وذكر آية الكرسي. أما كون آية الكرسي هي أعظم آية في كتاب الله عز وجل فذاك ثبت به الحديث في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبي بن كعب فقال له: (أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال أبي رضي الله عنه: الله ورسوله أعلم، ثم لما كرر عليه قال: آية الكرسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليهنك العلم أبا المنذر) إقراراً وتهنئة منه أن توصل إلى معرفة ذلك بنفسه، والبشارة له بالعلم، وهذا يفيد أن كل من تأمل وتدبر كتاب الله عز وجل فإنه اشتغل بتحصيل العلم؛ لأن أبياً لم يحصل على ذلك بنقل، إنما حصله بنظر وتأمل وتدبر فيما يحفظه ويتلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أعظم آية في كتاب الله، وهذا من حيث النقل، أما من حيث النظر فإنه يقال: لماذا كانت هذه الآية أعظم آية في كتاب الله؟ فالجواب: لأنها تضمنت من أوصاف الله عز وجل ما لم تتضمنه أو تشتمل عليه أي آية في كتاب الله سبحانه وتعالى، ففيها من الأوصاف وعظيم الصفات والأخبار عن الله جل وعلا ما ليس في غيرها من آيات الكتاب المبين، ويتبين هذا باستعراض ما تضمنته هذه الآية الكريمة. قال الله جل وعلا: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] افتتح هذه الآية الكريمة بأعظم مطلوب وأجل مقصود وغاية الوجود وهو التوحيد، توحيد العبادة له سبحانه وتعالى دون غيره، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، وهذا أول ما وصف الله سبحانه وتعالى نفسه في هذه الآية، وهو وصف بنفي، فنفى سبحانه وتعالى الإلهية عن غيره لانفراده بها سبحانه وتعالى، فهذا أول نفي تضمنته هذه الآية، وهل هو نفي مقصود لذاته أو مقصود لغيره؟ مقصود لغيره، وهو إثبات الكمال له سبحانه وتعالى بهذه الصفة، وهي صفة الإلهية. ثم قال: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} والحي القيوم اسمان من أسماء الله عز وجل، يثبت منهما للرب سبحانه وتعالى وصفان: وصف الحياة ووصف القيومية. واعلم أن جماعة من العلماء قالوا: إن الاسم الأعظم هو مجموع هذين الاسمين (الحي القيوم) ، وقد ورد في ذلك أثر وحديث، ولا غرو ولا عجب أن يكون هذان الاسمان هما الاسم الأعظم، وذلك لأن جميع ما وصف الله به نفسه وسمى به نفسه يرجع من حيث المعنى إلى هذين الاسمين، فمدار جميع الأوصاف على مضمون هذين الوصفين، أشار إلى هذا المعنى ابن القيم رحمه الله فقال: وله الحياة كمالها ولأجل ذا ما للممات عليه من سلطان وكذلك القيوم من أوصافه ما للمنام لديه من غشيان وكذاك أوصاف الكمال جميعها ثبتت له ومدارها الوصفان يعني: المتقدمين، وهما الحياة والقيومية، واعلم أن صفات الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين في الجملة: صفات ذات، وصفات فعل، أي: صفات ذاتية لازمة تختص به، وصفات فعلية تقوم به سبحانه وتعالى وتتعلق بغيره، وتتعدى إلى غيره، فجميع صفات الذات ترجع إلى اسمه الحي، وجميع صفات الفعل ترجع إلى اسمه القيوم سبحانه وتعالى، وبهذا يصح ما قاله رحمه الله: ومدارها -أي: صفات الله سبحانه وتعالى- الوصفان، فصفات الذات ترجع إلى كونه الحي، وصفات الفعل ترجع إلى كونه القيوم سبحانه وتعالى. وهذان الوصفان ثبوتيان، ولإثبات كمال اتصاف الله بهما جاء النفي في قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ، والسنة مقدمة النوم، فلا يأخذه جل وعلا نوم ولا مقدماته؛ لأن النوم يلزم منه نقص في الحياة، فالنوم أخو الموت، ونقص في القيومية؛ لأنه إذا نام فمن يقوم بشئون الخلق؟ ولذلك نفى هذين الأمرين السنة والنوم لثبوت كمال الوصفين المتقدمين، وهما الحياة والقيومية؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام) ، فيستحيل ويمتنع النوم عن الرب جل وعلا لكمال حياته وقيوميته. فعرفنا أن ثاني سلب ونفي في هذه الآية هو قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، وأنه يفيد إثبات كمال حياته وقيوميته سبحانه وتعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 إثبات الملك لله تعالى في هذه الآية ثم قال: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ، وهذا فيه إثبات ملك الله سبحانه وتعالى للسماوات والأرض، له السماوات والأرض وما فيهما، فكلها مملوكة لله سبحانه وتعالى، وهذا فيه عظيم ملكه جل وعلا، ولإثبات عظيم الملك جاء النفي بعده في قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ؛ فإن النفي هنا لإثبات تمام الملك، وأنه من تمام ملكه وكمال ربوبيته وقدرته وتصرفه وانفراده بالتدبير لا يمكن أن يشفع أحد عنده إلا بعد إذنه، ففهم من هذا النفي إثبات كمال الربوبية والملك الذي أفاده قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ، وهذا ثالث سلب ونفي جاء في هذه الآية، وعرفنا أن فائدته إثبات كمال الصفة التي تقدم ذكرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 إثبات كمال العلم له سبحانه ثم قال سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} ، وهذا فيه إثبات كمال علم الله عز وجل، (ما بين أيديهم) يعني: ما يستقبلون، و (ما خلفهم) يعني: ما مضى، وبه تفهم أن علم الله عز وجل محيط بالمستقبلات والماضيات، فيعلم الشيء قبل وقوعه، ويعلمه سبحانه وتعالى بعد وقوعه، لا تخفى عليه خافية، ولإثبات كمال علمه أتى النفي في قوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} ، فما عندنا من علم مما يتعلق بالله عز وجل أو مما يتعلق بغيره من أمور الدين أو أمور الدنيا إنما هو من تعليم الله لنا، وهذا فيه إثبات كمال هذا الوصف في هذه الآية، وأنه سبحانه كامل العلم كما قال سبحانه وتعالى: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [الأعراف:89] ، فوسع علمه كل شيء، واعلم أن صفة العلم من الصفات التي لها تعلق بكل شيء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه وتقريره في الآيات التي يذكرها الشيخ رحمه الله. المهم أننا استفدنا من قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} إثبات صفة العلم، ومن قوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} إثبات كمال عمله سبحانه وتعالى، ومن فوائد قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} أن يتضرع الإنسان إلى ربه، وأن يلجأ إليه أن يمن عليه بالعلم، وأنه لا سبيل له لتحصيل المعارف والعلوم إلا بمنة الله عز وجل، كما قالت الملائكة: {لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32] ، ومن قال: هذا علمي حصلته باجتهادي، وبذلي وكدي وسهر الليالي، فقد غرته نفسه، وأوبقته في المهالك. فعلمك الدقيق أو الجليل في أمر الدنيا أو أمر الدين إنما هو من قبل الله سبحانه وتعالى، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل:78] ، فتصور حالك أول ما خرجت من بطن أمك لا تعلم شيئاً، الذي هدى الرضيع إلى أن يلتقم ثدي أمه للرضاعة هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي علمه ذلك، ثم بنى هذه المعلومات شيئاً فشيئاً إلى أن تمايز الناس وتفاوتوا بما عندهم من علوم ومعارف، وكل ذلك فضل الله ومنه وإحسانه وكرمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 الكرسي وما قيل فيه وقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} الكرسي قيل: إنه العلم، فيكون المعنى وسع علمه السماوات والأرض، وقيل: إنه العرش، وقيل: إنه كرسي من خلق الله يضع الله جل وعلا عليه قدميه، كما ورد ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه، فهو خلق ليس بالعلم ولا بالعرش، وقيل: إنه خلق من خلق الله عظيم الله أعلم به، فهذه هي أبرز الأقوال في معنى (الكرسي) ، وجاءت أقوال أخرى لكن هذا أشهر ما قيل. وتفسير الكرسي بالعلم ضعيف، وذلك أن علم الله سبحانه وتعالى ليس قاصراً على السماوات والأرض، بل وسع السماوات والأرض وكل ما خلقه الله عز وجل قبل السماوات والأرض وبعدهما؛ ولذلك لم تأت سعة العلم مقيدة بالسماوات والأرض، قال تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر:7] ، والعلم يتعلق بكل موجود وبكل شيء، فتفسير الكرسي بالعلم تفسير قاصر، ثم إنه قد تقدم بيان سعة علمه سبحانه وتعالى في قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} فلا وجه لتكراره هنا. وتفسير من فسره بالعرش أيضاً فيه قصور؛ لأنه قد ورد ما يدل على أن الكرسي غير العرش، وأنه خلق آخر. أما تفسيره بأنه الذي يضع الرب جل وعلا عليه قدميه فقد جاء ذلك بسند لا بأس به عن ابن عباس، وتفسير الكرسي بأنه موضع القدمين اختيار شيخنا رحمه الله، وأما القول بأن الكرسي خلق من خلق الله عظيم، الله أعلم به، فهذا مبني على ضعف الأثر الوارد عن ابن عباس رضي الله عنه، وهو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله، وهو أن الكرسي خلق من خلق الله عظيم، الله أعلم به. وعلى كل حال، فسواء أقيل بأنه موضع القدمين، أم قيل بأنه خلق من خلق الله عظيم، فكلاهما موافق للصواب من حيث إنه ليس بالعلم ولا بالعرش، بل هو خلق مخالف لهذين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 خاتمة الآية الكريمة ثم قال تعالى: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} هذا لبيان كمال قدرته سبحانه وتعالى، وهذا السلب الخامس في الآية، فآية الكرسي تضمنت خمسة سلوب هذا هو خامسها. قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] ختم الآية بهذين الاسمين العظيمين له سبحانه وتعالى، الأول: (العلي) ، وسيأتي بيان وأدلة إثبات علو الله عز وجل قدراً وقوة وقهراً ومكانة وشرفاً، فهو سبحانه وتعالى العالي على خلقه، فكل هذه المعاني الثلاث ثابته له سبحانه وتعالى من هذا الاسم، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. (العظيم) هذا الاسم لا يقال لمعنى واحد، بل إنما يوصف الشيء بأنه عظيم لاجتماع أوصاف عديدة فيه، فالله سبحانه وتعالى عظيم لاجتماع صفات الكمال فيه، فهذا ما تضمنته هذه الآية الكريمة من النفي والإثبات. فلو قيل لك: أين الدليل في هذه الآية على أن الأصل في صفات الله عز وجل الإثبات؟ فالجواب: أنه في جميع الصفات التي ذكرت يبتدئ بذكر صفة ثبوتية، فأول سلب ورد في هذه الآية سلب الألوهية عن غير الله عز وجل، فافتتحت الآية بقوله تعالى: (الله) وفيها إثبات الإلهية له، ثم أتى بعد ذلك بقوله: (لا إله إلا هو) ، ثم بعد ذلك قال: (الحي القيوم) ، ثم بعد ذلك قال: (لا تأخذه سنة ولا نوم) ، ثم قال: (له ما في السموات وما في الأرض) ، ثم قال: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) إلخ الآية، فكل نفي سبق بإثبات، وهذا يدل على أن الأصل في صفات الله عز وجل الإثبات، وأن النفي تابع، والمقصود منه إثبات الكمال في الصفات. فرغنا من الكلام على آية الكرسي، وما تضمنته من الصفات الثبوتية والصفات السلبية. ثم قال رحمه الله: [ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح] ، وهذا الفضل جاءت به السنة في قصة الشيطان مع أبي هريرة رضي الله عنه، حيث تردد عليه في ثلاث ليال يسرق من الصدقة، وفي آخر ليلة قال له: ألا أعلمك شيئاً ينفعك؟! إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قال له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب) ، فأقر ما أخبر به من أن هذه الآية تحفظ صاحبها، وتبعد عنه كيد الشياطين، ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا ابتلي الإنسان بأحوال شيطانية من سحرة ومشعوذين وغير ذلك فقرأ هذه الآية فإن الله سبحانه وتعالى يبطل كيدهم، ويذهب ما يزينونه من الباطل، فهذه الآية لها مكانة عظيمة؛ ولذلك ورد الحث على قراءتها في أوقات عديدة، مثل أدبار الصلوات، وعند المنام، وذلك لما تضمنته من هذه الصفات العظيمة للرب جل وعلا. وقد يقول قائل: نحن نقرأ ونجد من الشياطين تسلطاً علينا! فنقول: إنما يثبت الفضل بالإقرار بما فيها، والعلم بما فيها وتدبرها، وهذا ليس خاصاً بهذه الآية، بل هو في كل فضل رتب على عمل، فكل الفضائل في الكتاب والسنة المرتبة على الأعمال لك من هذه الفضائل سواء أكانت الفضائل أجوراً أخروية أم فوائد معجلة في الدنيا لك منها بقدر ما يحصل لك من حضور القلب عند فعل تلك الأعمال وقول تلك الأقوال، وهذا أمر مهم يفوت كثيراً من الناس، وسببه الغفلة، وظن أن مجرد القول ومجرد لفظ اللسان يتحقق به المقصود من هذه الفضائل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الواسطية [5] في القرآن الكريم كثير من الآيات التي فيها ذكر صفات الله تعالى، كالآيات التي أخبرت عن علمه، والآيات التي أخبرت عن كمال حياته وقيوميته، والآيات التي أخبرت عن كونه الأول والآخر والظاهر والباطن، والآيات التي نفت وسلبت صفات النقص عنه وأثبتت ضدها، والقاعدة في هذا كله: أن نثبت ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وأن ننفي ما نفاه الله عن نفسه في كتابه ونفاه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 بعض ما جاء في القرآن من أوصاف الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 إثبات الحياة له سبحانه ونفي ضدها قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] ، وقوله سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ، وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2] ، وقوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18] ، وقوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ:2] ، وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] ، وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فاطر:11] ، وقوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]] . ذكر رحمه الله في سياق ما مثل له من القواعد السابقة قوله: [وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]] . وهذه الآية مقدمة على قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] ؛ فالنسخة المحققة فيها تقديم هذه الآية على آية الحديد. وهذه الآية فيها وصفان لله عز وجل: الوصف الأول: ثبوتي، وهو الحياة. والوصف الثاني: سلبي، وهو نفي الموت عنه سبحانه وتعالى، ونفي الموت لبيان كمال اتصافه بالحياة جل وعلا، فهو نظير قوله سبحانه وتعالى: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، وهذه الآية متصلة بالآية السابقة في إثبات الحياة له سبحانه وتعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 كونه الأول والآخر والظاهر والباطن ثم قال: [وقوله سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]] . هذه الآية فيها إثبات صفة الأولية لله سبحانه وتعالى وصفة الآخرية، والظاهرية والباطنية، وهذه أربع صفات فسرها النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً يبين معناها، وذلك فيما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) . فالأول هو السابق لكل شيء، وليس قبله شيء، قال: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) ، فهو الآخر سبحانه وتعالى، فله الآخرية المطلقة؛ لأنه الدائم بلا انتهاء سبحانه وتعالى، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وكل اثنين من هذه الأسماء الأربعة مرتبطان، فالأول والآخر مرتبطان وبهما يحصل كمال المعنى، والظاهر والباطن مرتبطان وبهما يحصل كمال المعنى المراد إثباته لله سبحانه وتعالى، فالأول والآخر فيهما إثبات الإحاطة الزمانية له سبحانه وتعالى، والظاهر والباطن فيهما إثبات الإحاطة المكانية له جل وعلا. ثم أكد هذه الإحاطة بقوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] ، و (الظاهر) مضمن معنى (العلي) ، فهو ظاهر على كل شيء ظهوراًَ مكانياً -فهو فوق كل شيء سبحانه وتعالى- وظهوراً معنوياً. وأما الباطن فقد فسره بعضهم بالقريب، فقالوا: هو القريب من كل شيء، والقرب هنا ليس القرب الذي ذكره الله عز وجل لأوليائه، كقربه ممن دعاه، وقربه من الساجد؛ فإن ذلك قرب خاص، وإنما القرب هنا قرب عام، وهذا على القول بأن القرب ينقسم إلى عام وخاص، وسيأتي رأي شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة فيما يذكره من صفة القرب، وأن القرب لا ينقسم إلى قرب عام وخاص، بل القرب لا يكون إلا خاصاً. وعليه فيكون معنى الباطن الذي لا تخفى عليه من خلقه خافية، فلا يحجب سبحانه وتعالى خلقه عنه شيء، بل هو المطلع على ظواهرهم وبواطنهم، وقد أطال الكلام على هذا ابن القيم رحمه الله في (طريق الهجرتين) ، ولما أفهم وبين وخشي أن يكون القارئ غير مدرك لما ذكر، قال: فإذا لم تستطع فهم هذا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع، يعني أن الإنسان لا يلزم أن يكون مدركاً لمعنى كل اسم من أسماء الله عز وجل على وجه الكمال، فإذا خفي عليه شيء، أو ضاق ذهنه أو فهمه عن إدراك معنى شيء من أسماء الله عز وجل، فالواجب عليه أن يؤمن بما أخبر الله به ورسوله على مراد الله ورسوله ويمضي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 علمه تعالى، والنصوص الواردة فيه ثم قال الله سبحانه وتعالى في هذه الآية: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] ، وهذا لتأكيد الإحاطة، وفيه إثبات صفة العلم، وصفة العلم صفة ذاتية لله سبحانه وتعالى، كصفة الحياة، وكصفة القيومية، وإن كانت صفة القيومية ترجع إليها صفات الفعل لكن هو قيوم سبحانه وتعالى أزلاً وأبداً، قائم بنفسه ومقيم لغيره من خلقه، فالعلم صفة ذاتية، وذكرنا في السابق أن الصفات تنقسم إلى قسمين: ذاتية، وفعلية، والذاتية تنقسم إلى قسمين: صفات لازمة، وصفات متعدية، فالصفات اللازمة كصفة الحياة، والصفات المتعدية هي أكثر ما ذكر الله عز وجل من صفاته، كالسمع، والبصر، والعلم، والإرادة، والقدرة، والكلام فكلها متعدية، وكذلك الصفات الفعلية تنقسم هذا الانقسام، فمنها ما هو لازم، ومنها ما هو متعدٍ، فمن اللازم في الصفات الفعلية الاستواء والمجيء والإتيان، وأما المتعدي فكالرزق والإحياء والإماتة. ثم ذكر المؤلف رحمه الله في إثبات هذه الصفة لله عز وجل -صفة العلم- قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2] وفي هذه الآية إثبات صفتين لله سبحانه وتعالى: صفة العلم وصفة الحكمة، والعلم قد تقدم في قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] . واعلم أن علم الله سبحانه وتعالى يتعلق بكل شيء، ولذلك جاء متعلقاً بجميع الأشياء في قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] ، وقال سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر:7] ، وقال: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه:98] أي: وسع علمه كل شيء، فعلم الله سبحانه وتعالى يتعلق -من حيث الزمن- بالماضي والمستقبل والحاضر، ومن حيث الأشياء يتعلق بالممكنات والمعدومات والممتنعات، ويتعلق علمه سبحانه وتعالى بفعله وبفعل غيره، فعلمه سبحانه وتعالى أحاط بكل شيء، ولبيان هذا ذكر المؤلف رحمه الله قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ:2] ، (ما يلج في الأرض) أي: ما يدخل فيها، (وما يخرج منها) من النبات وغيره، (وما ينزل من السماء) أي: من الملائكة والمطر والوحي وغير ذلك، (وما يعرج فيها) أي: ما يصعد إليها من الملائكة، ومن أعمال العباد وغير ذلك مما لا نعلمه، ولبيان تفصيل علم الله عز وجل وأنه أحاط بالكليات والجزئيات قال المؤلف رحمه الله في الاستدلال في هذا: [وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:59]] ، و (مفاتح) : جمع مفتح، وهو آلة فتح المغلق كالمفتاح، ولكن (المفتح) أفصح كما قال بعضهم، والغيب كل ما خفي على الإنسان ولم يدركه، سواء أكان غيباً كلياً أم غيباً جزئياً، فالغيب الكلي يكون في المستقبلات كعلم الساعة، والغيب الجزئي النسبي هو ما يعلمه غيرك ويخفى عليك، ومفاتح الغيب هي التي ذكرها الله عز وجل في قوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34] ، وهكذا بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح حيث قال: (مفاتح الغيب خمسة) ، وبينها بهذه الآية. قال تعالى: {لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} ، فبعد أن بين أن مفاتح الغيب عنده نفى علمها عن غيره، فقال: {لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} ، وبين شمول علمه فقال: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} ، وهذا لبيان إحاطة علمه لما في الجو؛ لأنه ذكر البر والبحر، ثم ذكر الجو في قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} ؛ لأن الأوراق الغالب فيها أن تكون في الجو. قالت تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ} وهذا ليبين أن علمه يشمل ما خفي واندثر في باطن الأرض، قال تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} ، وهذا يعم كل شيء، والمخلوق لا يخلو أن يكون رطباً أو يابساً من العاقلات ومن غير العاقلات، قال تعالى: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، فهو يعلم كل ذلك، وكل ذلك في كتاب مبين، وهو اللوح المحفوظ، وهذا يدل على سعة علم الله سبحانه وتعالى، وأنه محيط بكل شيء، فما من حركة ولا سكون في هذا الكون إلا بعلمه، فحركة الأشجار والأسماك في قاع المحيطات لا تكون إلا بعلمه جل وعلا، وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة، قال سبحانه وتعالى في بيان اتصافه بهذه الصفة: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فاطر:11] فقوله تعالى: ((وما تحمل من أنثى)) يصدق على كل أنثى من البشر وغيرهم، (وَلا تَضَعُ) يعني: ولا تضع ما في بطنها (إِلاَّ بِعِلْمِهِ) يعني: إلا وذلك بعلم منه سبحانه وتعالى، فالباء هنا للمصاحبة والملابسة، أي أن ذلك حاصل بعلم منه سبحانه وتعالى. قال رحمه الله تعالى: [وقوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12]] . هذا أيضاً فيه إثبات سعة علمه سبحانه وتعالى، وأن علمه محيط بكل شيء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 الفرق المخالفة لأهل السنة في صفة العلم واعلم -بارك الله فيك- أن صفة العلم خالف فيها طوائف، وأشدهم مخالفة الفلاسفة الذين قالوا بأن الله سبحانه وتعالى لا يعلم الجزئيات، إنما يعلم الأمور الكليات. فليس عنده علم بجزئيات ما يفعله العباد، إنما يعلم الكليات والأمور العامة، وأما الجزئيات فإنه لا يعلمها، وسبب ذلك أنهم قالوا: إنه يلزم من إثبات علمه بالجزئيات تجزؤ علمه. فانظر كيف الشبهة تدخل عليهم فتحملهم على تكذيب ما جاءت به الرسل، وما اتضحت وظهرت أدلته في الكتاب والسنة! ونقول لهم: خبتم وخسرتم؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبر بأن علمه محيط بكل شيء، وفي قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:59] رد مفحم لهؤلاء القوم؛ لأن الله تعالى أثبت أنه يعلم كل شيء حتى الورقة التي تسقط من الشجرة يعلمها سبحانه وتعالى، ولا تخفى عليه، هذا من وجه. ومن وجه آخر أن ما أخبر الله به في كتابه من تفاصيل ما وقع من الأمم السابقة والأنبياء فعلاً وقولاً يدل على أنه سبحانه وتعالى قد أحاط علمه بالجزئيات، فالعلم بالجزئيات ثابت له سبحانه وتعالى، ولا يلزم عن ذلك نقص، بل إنما هو وهم وخيال فاسد، والواجب إثبات ما أثبته الله في الكتاب والسنة، ولا شك أن من قال بهذا القول فهو كافر بتكذيبه ما جاء في الكتاب وما جاء في السنة، وما دل عليه العقل من أن الله متصف بالعلم الواسع لكل شيء. وطائفة ثانية ضلت في هذا الباب في صفة العلم، وهم غلاة القدرية، فقالوا: إن الله لا يعلم بالأشياء إلا بعد وقوعها، أما قبل وقوعها فإنه لا يعلمها؛ لأنه لو علمها لكان ظالماً -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-. وهذه البدعة أول ما ظهرت في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، وعرضت على ابن عمر فقال لمن أخبره عن هؤلاء: أخبروهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به ابن عمر لو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهباً لم يتقبل منه حتى يؤمن بالقدر. وهذه بدعة مهجورة مندثرة؛ لأن أصحابها تبين لهم أن قولهم أن الله لا يعلم بالأشياء إلا بعد وجودها مضادة واضحة لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الله عز وجل وفي سنته صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال الشافعي: ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خصموا وإلا كفروا، وهذه البدعة بدعة كفرية، فمن قال: إن الله لا يعلم بالأشياء إلا بعد وقوعها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذي أنزل عليه يدل على أن الله سبحانه وتعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها. وممن ضل في هذه الصفة مثبتتة الصفات، وهذا اسم يتكرر في كلام شيخ الإسلام رحمه الله وفي كلام غيره ممن يتكلم عن العقائد، فمن هم مثبتة الصفات غير أهل السنة والجماعة؟ هم الأشعرية والكلابية والماتريدية، وغيرهم ممن يثبت شيئاً من الصفات، لكن هذه الطوائف هي أبرز الطوائف من مثبتة الصفات، فهؤلاء يثبتون العلم لله سبحانه وتعالى كما يثبتون غيره من الصفات الذاتية التي يسمونها الصفات المعنوية؛ لأن المعنى قد دل عليها، وهي سبع صفات معروفة نظمها بعضهم فقال: له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدر فهذه هي السبع الصفات التي يقر بها مثبتة الصفات، وينبغي أن يعلم أن إقرارهم بهذه الصفات ليس كإقرار أهل السنة والجماعة، فإيمان هؤلاء بهذه الصفات مخالف لما عليه سلف الأمة، ولنأخذ لذلك مثلاً في هذه الصفة التي نحن نبحث فيها، وهي صفة العلم، فأهل السنة والجماعة يثبتون أن لله علماً أزلياً، وأنه سبحانه وتعالى العليم بكل شيء قبل أن يكون، وأنه سبحانه يعلم بالأشياء بعد وقوعها، كما أنه يعلم بها قبل وقوعها، أما هؤلاء فإنهم يقولون: إن العلم واحد أزلي لا يتجدد كسائر الصفات، والسمع أزلي واحد لا يتجدد، والبصر أزلي واحد لا يتجدد، وسمع الله لكلامنا ليس بسمع حادث في هذه اللحظة، إنما هو السمع القديم الذي في الأزل، وبصر الله لنا ونظره إلينا ليس ببصر حادث متجدد في هذه اللحظة، إنما هو بصر أزلي قديم، وكذلك علمه بما نقول ليس بعلم حادث متجدد، إنما هو بعلم قديم، وقالوا في سبب هذا: إنه إذا أجزنا تجدد وحدوث هذه الصفات لزم من ذلك أن تقوم به الحوادث، ومن قامت به الحوادث فهو حادث، هكذا زعموا، وهذه شبهتهم. والجواب أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد، فهو يعلم الأشياء قبل وقوعها، ويعلمها بعد وقوعها، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] ، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:11] ، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد:31] ، وكل هذا العلم علم حادث بعد أن لم يكن، لكن هل هذا العلم سبقه جهل؟ الجواب: لا، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وبهذا ينحل الإشكال عند كثير من المفسرين في هذه الآيات التي تثبت حدوث العلم لله عز وجل، فهم يقولون: هذا العلم علم الظهور الذي يحصل به الإثابة والأجر، فهو علم ظهر به حال الإنسان، لكن هذا العلم لا يعارض أن يكون قد حدث، بل ظاهر القرآن أنه حدث بعد أن لم يكن، ولا نقص في ذلك، وأنت -يا أخي- اعمل بالقاعدة المتقدمة أن (ما أثبته الله لنفسه فأثبته) ، ولا تخش شيئاًَ، وإذا قيل لك: ما دليله فعندك حجة من الكتاب أو السنة. واعلم أنه لا يمكن ومن المحال أن يترتب على ما جاء في الكتاب والسنة أي لازم باطل، بل كلها خيالات فاسدة وأوهام كاذبة، تتساقط عند الحجة والبرهان من الكتاب والسنة؛ ولذلك نثبت هذا الأمر ولا نبالي. وكذلك السمع والبصر، فالله سبحانه وتعالى أثبت سماعه للكلام، وأثبت استمرار هذا السماع، فقال سبحانه وتعالى في سورة المجادلة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ، و (سمع) فعل ماض، فهو إخبار عما مضى، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] . ثم قال: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ} [المجادلة:1] ، وهذا يدل على أن السماع حادث بعد أن لم يكن، وكيف نقابل ربنا وبأي حجة عندما نقول: إن السمع الذي حصل بكلام المخلوقين هو بالسماع الأزلي، والله يقول في كتابه: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] ؟ ولذلك كل من استمسك بالنصوص سلم من الاضطراب والتناقض، وكل من أعرض عنها فهو كما قال الله عز وجل عن المكذبين بما جاءت به الرسل: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] . أخي الكريم! ما هناك بدعة من البدع إلا وهناك من يقول بها في هذا العصر لا سيما البدع المشهورة، كبدعة الاعتزال، فإنها مثل التراب في الأمة الآن، وبدعة الأشاعرة لا حصر لهم ولا عد، والآن نسمع من الذين يطالعون الانترنت أن هناك محاضرات عبر الانترنت في إنكار الاستواء، فكيف يقال: إننا لا نحتاج إلى أن نطرق هذه المذاهب ونناقشها ونبينها؟ بل نحن بحاجة إلى معرفة المذاهب المبتدعة القديمة لنربطها بالبدع الحديثة، ولنتمكن من الرد على المحدثات الجديدة؛ لأنه إذا لم نكن على علم بطريقة سلفنا الصالح في الجواب على شبه هؤلاء ومناقشتهم فإننا ندخل الميدان بلا سلاح، وإن كان معنا الكتاب والسنة لفظاً بدون معنى، فإن الكتاب والسنة سلاح ماض في يد من تدبر وفهم وعقل عن السلف الطريقة التي ساروا عليها في كتاب الله وسنة رسوله. فهذا السؤال يتكرر: لماذا ندرس بدعة المعتزلة وبدعة الخوارج وبدعة الرافضة والبدع الأخرى؟ فنقول: ندرسها لأنها موجودة وإن تغيرت المسميات، مع إن كثيراً من البدع باقية باسمها، فالمدرسة الاعتزالية موجودة، وللأسف أنها موجودة حتى في كثير ممن ينتسبون إلى السنة، وهم لا يشعرون بذلك، فالواجب العناية بهذه المذاهب ومعرفتها؛ حتى نتمكن من الرد على أصحابها، وعلى ما يتجدد من البدع مما يتفرع عنها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 شرح العقيدة الواسطية [6] من أسماء الله الرزاق ذو القوة المتين، وهذه الأسماء تتضمن صفات عظيمة يجب وصف الله بها حقيقة. أثبت الله عز وجل لنفسه الإرادة والمشيئة، ويندرج تحتها كل ما شاءه الله عز وجل وقدره وقضاه، وإرادة الله عز وجل نوعان: إرادة كونية قدرية، وإرادة شرعية دينية على حسب ما وردت به النصوص، خلافاً لأهل البدع الذين يثبتون إرادة واحدة، معارضين بذلك النصوص الواردة في المسألة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 إثبات القدرة والقوة لله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: [وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] ، وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] ، وقوله: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف:39] ، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] ، وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] ، وقوله: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]] . فرغنا من الكلام على الآيات التي ساقها المؤلف رحمه الله لإثبات صفة العلم لله تعالى، وبعد فراغه من تلك الآيات ذكر الآيات الدالة على قدرة الله جل وعلا، وذلك في قوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] ، فهاتان الآيتان أثبتتا لله جل وعلا القدرة والقوة، وصفة القدرة والقوة معناهما متقارب، فالقدرة هي القوة على الفعل، وقد أثبتها أهل السنة والجماعة لله عز وجل كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وقوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الطلاق:12] فيه إثبات صفة القدرة، وأنها عامة تتعلق بكل شيء. واعلم أن القدرة تتعلق بالموجودات، فكل موجود فالله جل وعلا عليه قدير، فهي تتعلق بالممكنات، وتتعلق أيضاً بالواجبات مما يتصف به سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه وتعالى قادر على فعل نفسه قادر على غيره، وكل هذا مما ثبت في القرآن، وقد ثبت في القرآن إثبات القدرة المتعدية التي تتعلق بالخلق، وإثبات القدرة التي تختص به سبحانه وتعالى، وهي القدرة على أفعاله، فمن الأدلة على القدرة على أفعاله سبحانه وتعالى: قوله جل وعلا: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4] ، فهذه الآية أفادت أن الله سبحانه وتعالى قادر على فعله، والآيات التي تثبت قدرة الله جل وعلا على فعله كثيرة. وبهذا نفهم أن قدرة الله سبحانه وتعالى تتعلق بفعله المتعدي واللازم؛ لأن أفعال الله سبحانه وتعالى تنقسم: إلى أفعال متعدية، وأفعال لازمة، مثال للأفعال اللازمة: الاستواء الإتيان المجيء، مثال للأفعال المتعدية: الرزق الإحياء الإماتة الرفع الخفض البسط، أفعال كثيرة لا حصر لها، فهو: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] ، فالله جل وعلا قادر على هذا وعلى هذا. بقي عندنا الممتنعات، أو المستحيلات، هل تتعلق بها القدرة أم لا؟ الممتنع هو الذي لا يمكن أن يوجد، كثبوت صفة الوجود والعدم لشيء واحد، هل يمكن أن يتصف شيء بأنه موجود وفي نفس الوقت معدوم؟ لا يمكن، فهل هذه الأمور من المحالات والممتنعات تتعلق بها القدرة؟ الجواب: لا تتعلق بها القدرة؛ لأن الممنوعات والمحالات لا تسمى شيئاً في لسان العرب؛ فهي لا تدخل في عموم قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الطلاق:12] ، فلا يدخل في هذا إلا الممكنات والواجبات. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ} [الذاريات:58] ، أي: صاحب القوة، والقوة أبلغ من القدرة، فالقوة هي الكمال في القدرة، (الْمَتِينُ) أي: الشديد، وهذا فيه وصف قوته بالشدة؛ فهاتان الآيتان أثبتت لله سبحانه وتعالى هاتين الصفتين، وفيه أيضاً إثبات صفة الرزق، وذلك في قوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) وهذا تبع، لكن المقصود هو إثبات القدرة من خلال سياق هاتين الآيتين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 إثبات صفتي السمع والبصر لله تعالى قال رحمه الله بعد ذلك: وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، هذا فيه إثبات صفتي السمع والبصر لله سبحانه وتعالى بعد ذكر الصفتين المتقدمتين: العلم والقدرة، والسمع والبصر صفتان ثابتان لله جل وعلا بالكتاب والسنة، والإجماع والعقل؛ فإن السمع والبصر من صفات الكمال التي يدل عليها العقل؛ ولذلك فإن مثبتتة الصفات من أهل الكلام يثبتون السمع والبصر، لا لكونهما ثبتتا بالكتاب والسنة بل لكون العقل قد دل على ثبوتهما، فقالوا: إذا كان الله عز وجل حياً قادراً عليماً؛ فإما أن يكون يسمع أو لا يسمع، وإما أن يكون يبصر أو لا يبصر، وعدم السمع والبصر نقص، واتصافه بهما كمال؛ ولذلك أثبتوا لله عز وجل السمع والبصر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 معنى السمع والبصر في القرآن السمع في كتاب الله عز وجل يطلق على معنيين: المعنى الأول: إدراك الأصوات، وفهم معناها، وهذا هو السمع العام الذي لا يخرج عنه شيء، فقد أحاط سمعه بكل شيء سبحانه وتعالى، يسمع دبيب النملة على الصخرة، ولا تخفى عليه خافية. أما المعنى الثاني الذي يثبته أهل السنة والجماعة لله عز وجل، وجاء به الكتاب والسنة: سمع الإجابة والإثابة والقبول، وهذا سمع خاص، وذلك في مثل قوله جل وعلا: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39] ، وفي مثل قول المصلي عند رفعه من الركوع: سمع الله لمن حمده، فإنه لا يثبت السمع العام الذي هو إدراك الأصوات وفهم معناها -وهذا مما لا إشكال فيه- وإنما يثبت السمع الخاص، وهو سمع الإثابة والإجابة والقبول، وكلا النوعين ثابتان لله سبحانه وتعالى، فحيثما ذكر السماع لله عز وجل في الدعاء أو العبادة فإنه سماع الإجابة والقبول والإثابة، وأما إذا ورد مطلقاً كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فالمراد إثبات السمع العام الذي يفيد إدراك الأصوات وفهم المعاني، هذا بالنسبة لصفة السمع. أما صفة البصر فهو إدراك المبصرات، فالله جل وعلا يرى كل ما خلقه، ويقع بصره عليه، وهذا البصر لم يرد تقسيمه إلى بصر عام وبصر خاص، وإنما الوارد في البصر هو البصر العام، أما الرؤية والنظر فهناك أقسام لها وهي بمعنى البصر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 الرد على متأولي صفتي السمع والبصر وقوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] ، هذا أيضاً فيه إثبات هذين الوصفين لله سبحانه وتعالى، وهذا في آية النساء التي فيها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] ، وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، ولما بلغ قوله (سميعاً بصيراً) أشار بإبهامه إلى أذنه، وبسبابته إلى عينه، وهذا ثابت في السنن بسند صحيح، فما المراد من هذه الإشارة؟ هل المراد من هذه الإشارة التمثيل؟ لا، وحاشا أن يريد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك التمثيل، إنما مراده تحقيق اتصاف الله عز وجل بهذه الصفة، وأنه موصوف بها على حقيقتها، وهذا فيه الرد على الذين تأولوا هاتين الصفتين، فقالوا: السمع والبصر في كتاب الله المراد بهما العلم، وهذا عليه طائفة من المتكلمين، فقالوا: إن قوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) ، لا نثبت منه سمعاً ولا بصراً، إنما نثبت به لله عز وجل صفة العلم، وهذا بخس لما دلت عليه النصوص، وجناية على كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن صفة العلم ثابتة لله عز وجل ولا إشكال في ثبوتها، وقد أضافت النصوص صفتي السمع والبصر إلى الله؛ فوجب إثبات هذين له سبحانه وتعالى، وهما غير العلم؛ ولذلك ورد ذكرهما في كتاب الله عز وجل منفصلين، ولو كان المراد بهما العلم لكفى أحد الوصفين عن الآخر لإثبات العلم، ولاقتصر على أن يقول: وهو البصير، أو يقول: وهو السميع، ويحصل بذلك المقصود في إثبات العلم، ففرق الله جل وعلا بين هذين الوصفين في كثير من الآيات، ففي الآية الأولى: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) ، وفي الثانية: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) ، وقال سبحانه وتعالى لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، فدل ذلك على أن كل وصف مستقل عن الآخر. ثم إن الله سبحانه وتعالى قد قرن بين السمع والعلم في آيات عديدة، فدل ذلك على أنهما وصفان، وليسا وصفاً واحداً، ومن ذلك قوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200] ، فدل ذلك على أن السمع غير العلم، ومن فسر السمع بالعلم فقد جنى على النصوص، ولم يثبت ما أثبتت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 إثبات صفتي المشيئة والإرادة لله تعالى ثم انتقل المؤلف رحمه الله بعد إثبات هذين الوصفين له سبحانه وتعالى إلى إثبات المشيئة والإرادة، فقال: [وقوله: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف:39] ، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] ، وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] ، وقوله: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]] . هذه الآيات فيها إثبات صفة المشيئة، وصفة الإرادة لله سبحانه وتعالى، والمشيئة والإرادة معناهما متقارب، إلا أن بينهما فروقاً: فالمشيئة واحدة لا تنقسم، ويندرج تحتها كل ما شاءه الله عز وجل، كل ما قضاه الله وقدره في هذا الكون فإنه مندرج تحت المشيئة؛ فالخير والشر وكل حادث وكائن في هذا الكون مندرج تحت مشيئة الله عز وجل، {مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] ، فالمشيئة شيء واحد يندرج تحته كل خلق الله جل وعلا؛ إذ كل شيء خلقه الله عز وجل فقد شاءه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 أقسام الإرادة والفرق بينهما أما الإرادة فإنها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: إرادة أمرية شرعية دينية: والقسم الثاني: إرادة كونية خلقية، فما الفرق بينهما؟ الفرق بينهما: أن الإرادة الشرعية الدينية الأمرية يندرج فيها كل ما يحبه الله عز وجل، فكل ما أمر الله به ديناً من الواجبات والمستحبات فإنه يدخل تحت الإرادة الشرعية، فالأمر بالصلاة والإحسان إلى الأقارب من الإرادة الشرعية، وهكذا كل ما أمر الله به ورسوله. والإرادة الكونية الخلقية بمعنى المشيئة التي تقدم ذكرها، فالإرادة الكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات، وهل هناك فرق بينهما؟ الجواب: نعم، هناك فرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية: الإرادة الشرعية لا يلزم وقوع المراد فيها، فالله عز وجل أراد من عباده أن يعبدوه، قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ، فهل تحققت هذه الإرادة؟ لا، قال الله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ:13] ، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:8] ، فالآيات التي تدل على أن مراد الله عز وجل أن يعبده الناس كثيرة، وهذا لم يتحقق، فعلمنا بهذا أن الإرادة الشرعية لا يلزم وقوعها، فقد يريد الله عز وجل الشيء شرعاً، لكنه لا يقع كوناً. هناك أيضاً وصف آخر تتميز به الإرادة الشرعية: وهي أنها تتعلق بما يحبه الله سبحانه وتعالى؛ فكل ما يحبه الله مندرج تحت الإرادة الشرعية؛ لأنه لا يأمر شرعاً إلا بما يحب. أما الإرادة الكونية الخلقية القدرية فإنها لا تتعلق بمحاب الله عز وجل، وما تضمنته وما يندرج تحتها ليس لازماً أن يكون مما يحبه الله عز وجل، بل يقضي الله كوناً وقدراً وخلقاً ما يكرهه ويبغضه ويسخطه، هذا أولاً، والثاني: أنها إرادة لازمة الوقوع، فما أراده الله كوناً لابد أن يقع، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، فما قضاه كوناً لابد أن يقع، وبهذا نفهم أن قوله: (لا راد لقضائه) المراد بالقضاء هنا القضاء الكوني. ننظر فيما ذكر المؤلف من الآيات لنرى أيها المندرج تحت الكونية، وأيها المندرج تحت الشرعية. يقول رحمه الله: (وقوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف:39] ) ، هذا فيه إثبات المشيئة التي هي الإرادة الكونية، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] ، هذه أيضاً تثبت لله مشيئة كونية؛ لأن القتال لا يحبه سبحانه وتعالى، فلما وقع علمنا أنه من الإرادة الكونية. {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] الإرادة هنا هي الإرادة الشرعية، وقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] ، (فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) لو أن الآية اقتصرت على هذا لكانت شرعية، لكن لما ذكر الله جل وعلا إرادته للأمرين في سياق واحد كانت الإرادة هنا كونية، وهي نظير قوله تعالى: {مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] ، فالإرادة هنا إرادة كونية قدرية أمرية. وهل نقول: هناك مشيئة شرعية ومشيئة قدرية؟ لا، فإن المشيئة لا تنقسم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 ما تتعلق به الإرادة والمشيئة هذه الإرادة بماذا تتعلق، هل تتعلق بكل شيء؟ كل ما وجد وخلق فالإرادة الكونية والمشيئة تتعلق به. وأفعاله سبحانه وتعالى هل تتعلق بها إرادته؟ نعم تتعلق بها إرادته. والممتنع والمحال هل تتعلق بهما الإرادة؟ الجواب: لا تتعلق بهما الإرادة؛ لأن الممتنع والمحال ليسا بشيء، ففهمنا من هذا أن القدرة والإرادة أمرهما واحد في كونهما يتعلقان بالممكنات وبالواجبات، أما الممتنعات فإنهما لا يتعلقان بها، وهذا ما أشار إليه السفاريني رحمه الله لما ذكر الصفات فقال: له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدر بقدرة تعلقت بممكن كذا إرادة فعي واستبن (فعي واستبن) أي: انتبه واستوضح، ففهمنا من هذا: أن الإرادة والقدرة لا تعلق لهما بالمحالات والممتنعات، وإنما ننبه على هذا حتى لا يأتينا أحد ويقول: هل يستطيع الله جل وعلا أن يوجد مثل نفسه؟ الجواب: هذا مما لا تتعلق به القدرة، والصواب في السؤال أن يقال: هل يقدر الله جل وعلا أن يوجد مثله أو أن يعدم نفسه؟ هذا سؤال من سفيه لم يقدر الله حق قدره، والجواب عليه: أن القدرة لا تتعلق بالممتنعات، وهذا منها، وكذلك الإرادة لا تتعلق بالممتنعات، وهذا منها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 الفرق التي ضلت في الإرادة اعلم أن تقسيم الإرادة إلى قسمين هو منهج ومذهب أهل السنة والجماعة كما دلت على ذلك النصوص، وقد ضل في هذا طوائف الجبرية والقدرية وغيرهم، فجعلوا الإرادة نوعاً واحداً، وجعلوا أمر الله عز وجل بالصلاة كغيره من أوامره، وقضاء الله الشرعي بالصلاة كقضائه بوجود المحرمات، وهذا سفه ومخالفة لما دلت عليه النصوص من التمييز بين هذين النوعين من الإرادة الإرادة القدرية والإرادة الشرعية، ويتبين عدم تمييزهم بما سيأتي مما يذكره المؤلف رحمه الله من إثبات صفة المحبة له سبحانه وتعالى. المهم أن الجبرية والقدرية وجماعة من مثبتة الصفات جعلوا الإرادة نوعاً واحداً، فكل ما في هذا الكون يصدر عن إرادة واحدة، ولا يميزون بين محبوبات الله وبين ما لا يحبه مما اقتضت حكمته أن يكون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 إثبات صفة المحبة لله تعالى قال رحمه الله: [وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] ، وقوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] ، وقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:7] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] ، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31] ، وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] ، وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 الفرق بين الصفات الفعلية والذاتية هذه الآيات الكريمات فيها إثبات صفة فعلية من صفات الله عز وجل، وهي صفة المحبة، وهذا أول ما ذكره المؤلف رحمه الله مما يتعلق بالصفات الفعلية، وتقدم لنا فيما سبق أن الصفات تنقسم إلى قسمين: صفات فعلية، وصفات ذاتية، والصفات الذاتية هي الصفات التي لم يزل ولا يزال الله جل وعلا متصفاً بها أزلاً وأبداً، وتقدم لنا منها: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، وسيأتي بقية ما يكون من صفات الله عز وجل الذاتية، وهي ليست محصورة بالسبع، لكن أشهرها السبع التي يثبتها مثبتة الصفات من الأشاعرة والكلابية والماتريدية. أما الصفات الفعلية: فهي الصفات التي تتعلق بالمشيئة. هذا ضابطها: كل صفة تعلقت بالمشيئة فإنها صفة فعلية، فكل ما تعلق بالمشيئة: إن شاء الله فعله، وإن شاء لم يفعله فإنها من الصفات الفعلية، هذا هو الحد المميز أو الفاصل بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية. الصفة الفعلية التي ذكرها المؤلف هنا هي صفة المحبة، والآيات التي ساقها رحمه الله كلها تدل على إثبات صفة المحبة لله سبحانه وتعالى، ومن حسن تصنيف المؤلف رحمه الله أنه أتى بهذه الصفة بعد ذكر المشيئة؛ لأن جماعة من المتكلمين المبتدعين جعلوا المشيئة هي المحبة، ففسروا المشيئة بالمحبة، والمحبة بالمشيئة، فقالوا: إن قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] هذه لا نثبت بها صفة المحبة بل هي المشيئة، فأولوا وعطلوا الرب جل وعلا عن هذه الصفة، فأتى رحمه الله بعد إثبات المشيئة ببيان هذه الصفة، والأدلة الدالة على ثبوتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 القدر الذي يثبته أهل السنة من صفة المحبة اعلم أن صفة المحبة صفة يثبتها أهل السنة والجماعة لله سبحانه وتعالى على الوجه اللائق به من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ كسائر ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه، أو أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. والمحبة التي يثبتها أهل السنة والجماعة هي محبة الله لعباده، ومحبة العباد لله جل وعلا، فيثبتون المحبة من الطرفين من الله لعباده ومن العباد لله سبحانه وتعالى، وكل هذا قد دل عليه الدليل، وقد جمع النوعين في قوله تعالى: (يحبهم ويحبونه) ، فأثبت محبته لأوليائه وأصفيائه وعباده المتقين، وأثبت محبة عباده له سبحانه وتعالى، وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] ، وقوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] ، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31] ؛ هذا فيه محبة الله لعباده ومحبة العباد له سبحانه وتعالى. ومن ذلك قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] ، وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14] ومعنى: الودود المحب، فهو الغفور الودود جل وعلا، وهو سبحانه وتعالى الذي يحب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 الفرق التي ضلت في صفة المحبة والرد عليهم دلت النصوص على إثبات هذين النوعين لله سبحانه وتعالى، وهي من الصفات الفعلية، وقد ضل في ذلك الجهمية، فأنكروا المحبة من الطرفين، فقالوا: إن الله لا يحِب ولا يُحَب! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، قالوا: إن الله لا يحب أحداً من عباده، ولا يحبه أحدٌ من عباده، سبحان الله العظيم! كيف يجرءون على هذا، ويعطلون ما دل عليه الكتاب والسنة؟! وعلتهم في هذا النفي أنهم: قالوا: إن المحبة إنما تكون بين متناسبين، ولا نسبة بين الخالق والمخلوق. هكذا زعموا وافتروا في إبطال ما أثبته الله لنفسه من محبته لعباده، وما أثبته من محبة عباده له. والجواب على هذا أن يقال: كذبتم بأنه لا مناسبة بين الخالق والمخلوق، ولا يلزم من ثبوت المحبة بين شيئين أن يكون بينهما تناسب، فالإنسان يحب سيارته ومركبه وبيته، وهل هناك تناسب بين الجماد والإنسان؟ ليس هناك تناسب، النسبة منقطعة بينهما تماماً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جبل أحد: (أحد جبل يحبنا ونحبه) ، فأثبت له المحبة من طرفين وليسا متناسبين، هذا على التسليم بما قالوه من الشبهة التي عطلوا بها المحبة، وهي: لا نسبة بين الخالق والمخلوق، والصحيح أننا نمنع هذه الشبهة، ونقول: أعظم المناسبات هي المناسبة بين الصانع والمصنوع، فهو الذي خلقك ورزقك، ومن كل خير أمدك، فما بك من نعمة فمن الله، فكيف بعد هذا كله نقول: لا مناسبة بين الخالق والمخلوق، بل أعظم المناسبات هي بين الخالق والمخلوق، يعني: أعظم الأسباب التي يقوم من أجلها الحب هو ما كان بين الخالق والمخلوق؛ ولذلك كان من أسمائه: الإله، وهو الذي اشتق منه أعظم أسمائه وهو الله، الله أصله الإله؛ حذفت منه الهمزة للتسهيل، كأناس يقال: الناس، ولا يقال الأناس للتسهيل، ومن هو الإله؟ الإله هو المألوه الذي تتعلق به القلوب محبة وتعظيماً، فكيف يقال بعد هذا: لا مناسبة بين الخالق والمخلوق؟! إذاً: أبطلنا شبهتهم بالمنع والتسليم، يعني: سواء سلمنا لكم فيما تقولون من دعوى، أو أننا أبطلنا دعواكم؛ فعلى كلا الأمرين قولكم ليس بصحيح، بل أعظم المناسبة هي بين الخالق سبحانه وتعالى وبين المخلوقين. والطائفة الثانية التي ضلت في هذه الصفة هم الذين قالوا: إنه لا يحِب ولكنه يحَب، فعطلوا محبة الله لعباده، وأثبتوا محبة المخلوق للخالق. وهؤلاء الجواب عليهم أن يقال: كيف تنكرون ما جاءت النصوص بإثباته، فهم مثل الفرقة الأولى إلا أنهم أهون بدعة منهم. والصحيح أن يثبت الأمران لله سبحانه وتعالى، فهو الذي يحِب ويحَب جل وعلا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 شرح العقيدة الواسطية [7] الرحمة صفة من الصفات التي وصف الله بها نفسه، وأثنى على أوليائه المتصفين بها، وأمرهم أن يتواصوا بها، ويراد بها في الشرع الصفة القائمة بالله تارة، وتارة يراد بها آثارها ومتعلقاتها. ومن الصفات الثابتة للمولى عز وجل: الرضا والغضب والسخط والأسف والكره والمقت، وكلها نثبتها لله كما يليق به سبحانه وتعالى، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. أيضاً من الصفات الثابتة لله عز وجل صفة الوجه واليدين والعينين، وهي صفات حقيقية لا يعلم كيفيتها إلا الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 إثبات صفة الرحمة لله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر:7] ، وقوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43] ، وقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] ، وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] ، وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107] وقوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]] . هذه الآيات فيها إثبات صفة الرحمة لله عز وجل، والرحمة صفة فعليه اختيارية من صفات الله جل وعلا يثبتها أهل السنة والجماعة، لما جاء في الكتاب والسنة من إثبات هذه الصفة؛ ولأن السلف أجمعوا على ذلك، ولدلالة الفطر والعقول عليها. الرحمة صفة عظيمة من صفات الله جل وعلا، وهذه الصفة جاء لها اسمان من أسماء الله في القرآن وهما: (الرحمن الرحيم) ، وكلاهما مشتق من الرحمة التي هي صفته سبحانه وتعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 الفرق بين اسمي (الرحمن والرحيم) والفرق بين الرحمن والرحيم فيه عدة أقوال، وأصح ذلك وأقربه إلى الصواب: أن الرحمن يتعلق بالصفة القائمة بالذات، والرحيم يتعلق بإيصال الرحمة إلى الخلق، فالفارق بينهما: أن الرحمن دلالته على الصفة القائمة بالرب، والرحيم دلالته على فعله سبحانه وتعالى، وهو إيصال الرحمة، ودليل ذلك أنه سبحانه وتعالى قال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43] ، فلما ذكر إيصال الرحمة ذكر هذا الاسم وهو الرحيم، ولما ذكر المؤمنين قال: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117] ، فأثبت الرحمة التي تصل لعباده. هذا إذا اقترنا، أما إذا جاء ذكر الاسم مستقلاً فإنه يدل على صفة الذات وصفة الفعل، وكذلك مما يدل على التفريق: أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى الفعل الذي يقوم به قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، ولم يرد: (إنه كان بهم رحمان) أو ما أشبه ذلك، وهذا مما يقرر ويؤكد هذا الفرق، وقد تكلم ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد على الأقوال في التفريق بين هذين الاسمين العظيمين، وانتهى إلى هذه النتيجة، وهو أن الرحمن ألصق بما يقوم بالرب سبحانه وتعالى من صفة، والرحيم يوصف به إيصال الفعل إلى المرحوم. والرحمن من حيث الاشتقاق اللغوي على وزن فعلان، وهي تدل على كثرة الرحمة وسعتها، والرحيم فعيل بمعنى فاعل، أي: راحم، وهو يدل أيضاً على كثرة رحمة الله عز وجل، لكن اسم الرحمن أبلغ وأوضح في كثرة الرحمة. ومن الفروق بين الاثنين أيضاً: أن الرحمن اسم خاص لا يسمى به إلا الله جل وعلا، أما الرحيم فإنه يسمى ويوصف به غيره، كما قال الله جل وعلا في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 الصيغ التي وردت بها الرحمة في الكتاب والسنة الرحمة جاء ذكرها في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم على نحوين: الأول: يراد به الصفة القائمة بالله عز وجل، كقوله في الحديث: (سبقت رحمتي غضبي) ، وفي الآية: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] ، فالمكتوب هنا هو رحمته التي وصف بها. الثاني: يأتي ذكر الرحمة في كلام الله عز وجل والمقصود بها آثارها ومتعلقاتها؛ كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف:57] ، فالرحمة هنا ليست صفته، إنما هي أثر الصفة، وهذا ليس خاصاً بالرحمة، بل عدة صفات تذكر ويراد بها مسمى الصفة، وتارة تذكر ويراد بها متعلقها وأثرها، من ذلك قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] ، فالمشار إليه هنا هل هو الصفة القائمة بالله عز وجل أو أثر هذه الصفة، وهو خلقه جل وعلا؟ المراد الأثر، وهذا بالنظر والتتبع أمثلته عديدة في كتاب الله عز وجل، المهم أن اسم الصفة يطلق ويراد به مسمى الصفة، وهو ما يتصف به سبحانه وتعالى، ويطلق ويراد به أثرها ومتعلقها، ومثالها: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] ، هنا أطلق اسم الصفة وهو يريد الصفة القائمة بالله، أي: مسمى الصفة، وفي قوله: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:50] ، المراد هنا الرحمة التي تشاهد وتدرك، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق مائة رحمة) ، فالرحمة المخلوقة ليست هي صفته؛ لأن صفته سبحانه وتعالى ليست مخلوقة، والرحمة ذكرنا أنها من الصفات الفعلية الاختيارية التي يثبتها أهل السنة والجماعة كسائر ما وصف الله به نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 الفرق التي ضلت في صفة الرحمة ضل في صفة الرحمة أقوام فقالوا: إن الله لا يوصف بالرحمة، وهم الجهمية وبعض مثبتة الصفات، قالوا: لأن الرحمة رقة، فبماذا عرفوا الرحمة، وبماذا أولوها والكتاب من فاتحته ومروراً بكل سورة تفتتح بهذين الاسمين الكريمين إلا سورة براءة؟ أولوها فقالوا: إن كان المراد الوصف القائم بالذات فهو إرادة الخير، وإن كان المراد ما يصل إلى المخلوق من هذه الرحمة فالمراد به إرادة الإحسان، المهم أنهم أولوا هذه الصفة بالإرادة كالمحبة، وهذا من ضلالهم وعدم تسليمهم بالنصوص. يقول رحمه الله: وقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر:7] ، وهذا فيه إثبات سعة رحمة الله جل وعلا، وأنها وسعت كل شيء. قوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43] ، هذا فيه تخصيص المؤمنين بالرحمة؛ لأنهم أهلها المستحقون لها. وقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] هذا فيه إثبات أن رحمة الله وسعت كل شيء، حتى أهل الكفر فإن رحمته سبحانه وتعالى قد وسعتهم. وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107] هذا فيه إثبات صفة الرحمة له. وقوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] ، فيه أنه سبحانه وتعالى موصوف بمنتهى وغاية ما يوصف به شيء من رحمته سبحانه وتعالى، فرحمته بلغت المنتهى، فلا مثيل ولا نظير له فيها كسائر ما وصفه به نفسه سبحانه وتعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 إثبات صفات الرضا والغضب والسخط والأسف والكره والمقت قال رحمه الله: [وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] ، وقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93] ، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد:28] ، وقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55] ، وقوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46] ، وقوله: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3]] . هذه الآيات كلها من الآيات التي تثبت بها صفة الفعل له سبحانه وتعالى، وكلها صفات فعلية يثبتها أهل السنة والجماعة لله عز وجل على وجه الكمال له سبحانه وتعالى، ولا نقص فيها بوجه من الوجوه. ذكر المؤلف في هذه الآيات ست صفات: الرضا والغضب والسخط والأسف والكره والمقت، وكلها من صفات الفعل وكذلك الانتقام، لكن اعلم أن هذه الصفات قد جرى فيها أهل الكلام على ما جروا عليه من القول في الصفات الفعلية الأخرى من التعطيل والتأويل، فقد تأولوا كل هذه الصفات إما إلى إرادة الثواب أو إرادة العقاب، فالرضا أولوه بإرادة الثواب، والغضب والسخط والمقت والكره والأسف كلها أولوها بإرادة العقاب، وجروا في الصفات الفعلية على هذا النسق. واعلم أن الجهمية المحضة من المعتزلة ومن سار في طريقهم لا يسمون هذه صفات، إنما يسمونها إضافات، فهم لا يعدونها من آيات الصفات، إنما يعدونها من الإضافات التي يراد بها مفعول الله لا ما يقوم به من صفات، فيقلون: الرضا ثواب، والغضب، والكره، والسخط ما يفعله بالمخالف من العقاب، وهذا ديدنهم، وهذه هي طريقتهم، والصحيح أن نثبت لله عز وجل من الصفات ما أثبته لنفسه، وأن نعلم أن ما ثبت في الكتاب والسنة من صفات لا يمكن أن يتطرق إليها نقص بحال من الأحوال، ولسنا أعلم بالله سبحانه وتعالى من نفسه، ولسنا أحرص على تعظيمه جل وعلا وتنزيهه منه لنفسه، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم له، فهم قالوا: الرضا والغضب كلها أمور تقتضي ميلاً، وتقتضي نقصاً لا سيما الغضب؛ لأنه غليان دم القلب، فأولوه بإرادة السخط. والجواب عليهم كالجواب الذي قدمناه في صفتي المحبة والرحمة. وأما قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف:55] ، فقد فسرها ابن عباس رضي الله عنه بالغضب، يعني: فلما أغضبونا، وكذا فسرها ابن قتيبة، فقال: الأسف الغضب، وليس المراد بالأسف هنا الحزن، فإنه لا يوصف به سبحانه وتعالى، وليس من صفاته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 إثبات صفتي الإتيان والمجيء لله عز وجل [وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210] ، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158] ، وقوله: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:21-22] ، وقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً} [الفرقان:25]] . هذه الآيات أيضاً مما يثبت به صفات الفعل لله جل وعلا، والأصل في إثبات صفات الفعل قوله سبحانه وتعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] ؛ فكل صفة فعل تندرج تحت هذه الآية، وهذه الآيات ذكرها رحمه الله لأن فيها إثبات صفة الإتيان له سبحانه وتعالى، وذلك في قوله: (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) ، وكذلك إثبات صفة المجيء، وذلك في قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ) ، فهذه الآيات أثبتت لله سبحانه وتعالى هذين الوصفين على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى، والإتيان والمجيء من صفات الفعل، وهو سبحانه وتعالى يأتي لفصل القضاء في يوم القيامة. قوله: (هَلْ يَنظُرُونَ) هذا تهديد، والخطاب فيها لأهل الكفر والشرك المعاندين للرسل، (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ) يعني: بالموت (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) يعني: لفصل القضاء (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) يعني: أشراط الساعة، وهو خروج الشمس من مغربها، وعند ذلك تنقطع التوبة. قوله: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:21-22] ، هذا أيضاً فيه إثبات مجيئه سبحانه وتعالى، وذلك يوم القيامة لفصل القضاء، وهو المذكور في قوله: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ) ظلل: جمع ظلة وهي القطعة، (مِنْ الْغَمَامِ) أي: من السحاب الأبيض، وذلك حين مجيئه سبحانه وتعالى لفصل القضاء، وقوله: (فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ) (في) هنا بمعنى (على) ، أي: يأتي الله جل وعلا يوم القيامة على ظلل، أي: قد علا سبحانه وتعالى -كما يليق به- على ظلل من الغمام، (وَالْمَلائِكَةُ) أي: وتأتي الملائكة، وما عاقبة هذا المجيء منه سبحانه وتعالى ومجيء ملائكته؟ (وَقُضِيَ الأَمْرُ) أي: وقضي الأمر بين الناس بفصل القضاء بينهم. قوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) أي: بالسحاب الأبيض، (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً) ، وهذا إنما يكون إذا جاء الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء كما في الآية الأولى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210] فهذه الآيات أثبتت لله عز وجل المجيء والإتيان. وقد أول أهل الكلام المجيء والإتيان هنا بأنه مجيء أمره وإتيان أمره، وهو تأويل باطل؛ لأن الأصل فيما أضافه الله جل وعلا لنفسه من الأفعال فإنه له حتى يدل الدليل على أنه لغيره -وهذه قاعدة- الأصل فيما ذكره الله عز وجل في كتابه مما أضافه لنفسه بصيغة الإفراد فهو له سبحانه وتعالى ولا يضاف إلى غيره، وقالوا في تشبيههم: نحن نحمل المطلق في هذه الآيات على المقيد في قوله سبحانه وتعالى في سورة النحل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل:33] . قلنا لهم: أخطأتم؛ لأن قوله تعالى: (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) المراد بالإتيان هنا هو الساعة وهي القيامة، فذكر الله عز وجل في موضع أن المشركين ماذا ينتظرون تهديداً لهم؟ هل ينتظرون إتيان الملائكة بالموت قبل الساعة أو بإتيان الساعة؟ وفي موضع آخر ذكر شيئاً مما يكون في الآخرة، وهو إتيانه سبحانه وتعالى لفصل القضاء. ثم إننا نقول: لا يعقل أن يكون الأكثر والأغلب في كلام الله عز وجل إضافة الإتيان إليه، ثم نحمل الأقل على الأكثر، ونقول: إن الإتيان والمجيء إنما هو إتيان ومجيء أمر الله عز وجل. ثم نقول: المرجع في بيان الإتيان إلى السنة، وقد بينت السنة الصحيحة أنه سبحانه وتعالى يأتي لفصل القضاء، فلا مناص ولا مخرج ولا محيص من إثبات ما أثبته الله عز وجل لنفسه في هذه الآية، وهم عندما أنكروا ذلك قالوا: لأنه يتنزه عن الانتقال، ونحن نقول: أأنتم أعلم بالله من نفسه؟ الجواب: لا، والله سبحانه وتعالى قد أثبت لنفسه هذه الصفات، ومن أين لكم أن الانتقال نقص؟ ومن أين لكم أن إتيانه يلزم منه أن يخلو منه مكانه كما تزعمون؟ قال الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فهو كما أخبر به عن نفسه، ولا يمكن أن تدركه عقولنا، ولا أن تحيط به أفهامنا، ولا أن تبلغه فهومنا، بل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} سبحانه وتعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 إثبات صفات الوجه واليد والعين لله تعالى [وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] . وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] ، وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] ، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:14] ، وقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]] . هذه الآيات الكريمات فيها إثبات الصفات الخبرية السمعية لله سبحانه وتعالى، وهذا قسم من الصفات لم نذكره قبل ذلك. الصفات السمعية الخبرية هي الصفات التي لا سبيل إلى إثباتها إلا من طريق الوحي، وهي: الوجه واليد والعين والأصابع وما أشبه ذلك، وهذه الصفات باعتبار التفصيل السابق الذي ذكرناه في الصفات الفعلية والذاتية تعتبر من الصفات الذاتية؛ لأنه لم يزل ولا يزال متصفاً بها سبحانه وتعالى، وإنما خصت بهذا الاسم -وهو الصفات الخبرية- تمييزاً لها عن الصفات المعنوية التي يستدل في إثباتها بالدليل العقلي، أما هذه الصفات فمهما نظر الإنسان وتأمل وفكر فلن يتوصل إلى إثباتها من طريق العقل؛ لأنه لا يوصل إلى العلم بهذه الأمور. الآيات التي قرأناها فيها إثبات صفة الوجه واليد والعين لله تعالى، واعلم أن أهل السنة والجماعة جروا في هذا النوع من الصفات كما هي حالهم في بقية صفات الله عز وجل: يثبتونها له سبحانه وتعالى من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 إثبات صفة الوجه والرد على المخالفين فيها إذا قال قائل: كيف وجه الله؟ نقول: الله أعلم، فهذا أمر لا تحيط عقولنا به {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، لكن لما أخبر الله عن نفسه بأن له وجهاً، فليست لنا حجة، وليس معنا برهان إذا لم نثبت ذلك، كيف يلقى العبد ربه وهو لا يثبت له هذا الذي أثبته لنفسه؟ فنحن نسلم بالنصوص، ونؤمن بما جاء فيها، وقد جاء الخبر بأن ربنا تبارك وتعالى له وجه، واعلم أنه ليس كمثله شيء، فمهما تخيل الإنسان وبلغ في تصوره والتفكير فيما أخبر به عن نفسه فإنه لا يصل إلى شيء، وقد قال الله في إثبات هذه الصفة: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] . ومن حسن تصنيف المؤلف أن بدأ بهذه الآية في إثبات صفة الوجه؛ لأنها آية لا يتمكن أهل التأويل من إبطال مدلولها، فإنها أصرح آية في إثبات صفة الوجه لله سبحانه وتعالى، هم تأولوا الآيات التي فيها صفة الخبر، كالوجه واليد والعين، لكن هذه الآية فيما يتعلق بصفة الوجه لا يستطيعون تأويلها؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر عن بقاء الوجه، ثم إنه وصف وجهه سبحانه وتعالى فقال: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، وهم في صفة الوجه يؤولونها بأنه ما يقصد به الله، فيقولون: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] ، يعني: ما ابتغي به وجهه، أي: ما أخلص له هو الذي يبقى، وأما ما عداه فهو هالك، ويحملون عليه قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] ، قالوا: كل عمل يبطل ويضمحل ولا تحصل ثمرته إلا ما قصد به وجهه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وابتغي به وجهه) أي: قصد به سبحانه وتعالى. فالجواب على تأويلهم: أنه لا يستقيم لكم هذا التأويل -وبالأصح نقول: هذا التحريف- في قوله تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ؛ لأنه وصف الوجه بوصفين: فقال: (ذو الجلال) أي: صاحب الجلال، (والإكرام) أي: صاحب الإكرام، والجلال هو الكبرياء والعظمة، والإكرام تكلم في تفسيره أهل العلم، ويدور كلامهم فيه على معنيين من الإكرام، قالوا: ذو المحبة والحمد، يعني: صاحب المحبة فهو يحب سبحانه وتعالى، والحمد فهو أحق من حمد جل وعلا، وله المحامد كلها، فهل يصح أن يوصف العمل بأنه ذو كبرياء؟ لا يصح، فلما كان لا ينطبق عليه هذا الوصف، ولا يوصف به عمل الإنسان، ولا يوصف به ثواب العمل؛ فقد تبين بطلان هذا التأويل، وأن الوجه هنا هو ما اتصف به سبحانه وتعالى، فيكون المعنى: ويبقى وجهه الذي هو صفته، ووصف وجهه سبحانه وتعالى، الذي تنزه عن كل نقص وعيب بهذين الوصفين: (ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) ذو العظمة والكبرياء، وذو المحبة والحمد. ثم قال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] ، وهذا أيضاً فيه إثبات هذه الصفة من هذه الآية له سبحانه وتعالى. ولقائل أن يقول: لماذا لم يذكر الشيخ رحمه الله في الاستدلال لهذه الصفة قول الله سبحانه وتعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] ؟ الجواب على هذا السؤال: أن الشيخ رحمه الله يرى أن معنى قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي: قبلته، فالوجه هنا بمعنى الاتجاه؛ ولذلك لم يذكر هذه الآية في الآيات التي ساقها لإثبات صفة الوجه لله سبحانه وتعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 إثبات صفة اليد لله ذكر رحمه الله صفة اليد وصفة العين، وهما من الصفات الذاتية الخبرية السمعية، قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، هذا فيه إثبات صفة اليدين له سبحانه وتعالى، واليدان وصف له ذاتي ثبت بالنص في الكتاب والسنة، وجاء في هذا السياق بلفظ التثنية، وهذا أحد الصيغ أو الأوصاف التي ذكرت ووردت بها صفة اليد في كتاب الله. {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] ، هذه الآية تضمنت إثبات صفة اليد، ووردت بصيغتين: صيغة الإفراد في قوله: (يَدُ اللَّهِ) ، وصيغة التثنية في قوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) ، وهناك صيغة ثالثة لم يذكرها المؤلف رحمه الله هنا، وهي قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] ؛ فجاءت بصيغة الجمع، وبهذا نعلم أن هذه الصفة وردت في كتاب الله عز وجل بصيغة الإفراد، والتثنية، والجمع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 إثبات صفة العين لله الكلام في صفة اليد يشبه ما في صفة العين، ولذلك نقرأ ما يقول المؤلف من آيات في إثبات صفة العين: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] ، أثبت صفة العين بصيغة الجمع، {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:13-14] ، هذه صيغة الجمع أيضاً، {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] ، هذه صيغة الإفراد. إذاً: فهمنا أن صفة العين وردت في كتاب الله عز وجل بصيغتين: صيغة الجمع وصيغة الإفراد، فهل وردت في كتاب الله بصيغة التثنية؟ الجواب: لا، وإنما جاء ذلك في السنة في حديث أبي هريرة مفهوماً فهماً واضحاً في ذكر الدجال، وأنه أعور، فإن الأعور في لسان العرب الذي ليس له إلا عين واحدة، ففهم من نفي العور عن الله جل وعلا: (وإن ربكم ليس بأعور) ، أي: أن له عينين جل وعلا؛ ولذلك يثبت أهل السنة والجماعة لله عز وجل يدين، ويثبتون له سبحانه وتعالى عينين. هذا ما يعتقده أهل السنة والجماعة في صفة اليد، وفي صفة العين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 نفي التعارض بين صيغ الجمع والإفراد في الصفات ما الجواب عن ورود الصفة مرة بصيغة الإفراد وأخرى بصيغة الجمع؟ الجواب: صيغة الإفراد وصيغة الجمع لا تتنافيان ولا تتعارضان مع صيغة التثنية، فالإفراد في صفة العين واليد لم يرد إلا مضافاً، وإضافة المفرد تقتضي العموم، فيصدق الواحد والاثنان والثلاثة والأكثر، فلا يفهم منها عدد محدد، فبهذا تكون صيغة الإفراد لا تعارض التثنية ولا الجمع، فقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] ، وقول الله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] ، هل هذا يعارض صيغة الجمع؟ لا يعارض صيغة الجمع، وكذلك: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] لا يعارض صيغة الجمع؛ لأنه ورد مضافاً، ومن قواعد الأصول: أن المفرد المضاف يفيد العموم. هذا من وجه، من وجه آخر يقال: إن المراد إثبات الجنس، فما ورد بصيغة الإفراد المراد به إثبات جنس الصفة، جنس اليد وجنس العين، لكن دون بيان وتحديد لعدد، فهل يكون في هذا معارضة للتثنية والجمع؟ لا معارضة لا للتثنية ولا للجمع، وبهذا نعلم أن صيغة الإفراد لا تعارض صيغة التثنية وكذلك الجمع. بقي الجواب على الجمع: ما أخبر به من هذين الصفتين بصيغة الجمع فأيضاً لا يعارض الإفراد ولا التثنية، والسبب: أن صيغة الجمع متكررة في كلام الله عز وجل، وهي تستعمل للتعظيم والإجلال؛ ولذلك يسمي أهل اللغة هذا الضمير ضمير العظمة، فالمقصود بالجمع هنا التعظيم لا التعدد، وبهذا نعلم أن ما ورد في وصف اليد والعين بصيغة الجمع لا يعارض التثنية والإفراد؛ لأن المقصود به التعظيم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 إثبات اليدين والعينين لله تعالى لماذا قلنا: إنهما يدان وعينان؟ نقول: لأن التثنية اسم عدد مخصوص لا يراد إلا هو، فهو من أسماء الأعداد التي تقصد؛ ولذلك قلنا: إن الله جل وعلا له يدان، وعينان، ولما جاءت صيغة التثنية علمنا أنه سبحانه وتعالى موصوف بهذه الصفة، وأن له منها اثنين، فله يدان وعينان جل وعلا، وأبعد عن ذهنك أو عقلك كل تشبيه أو تمثيل، واعلم أن ربك أعظم مما يدور في خيالك، واستحضر قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، والمبتدعة يسمون أهل السنة والجماعة الذين يثبتون ما أثبتته النصوص: حشوية، مجسمة، نوابت، مشبهة، وهلم جراً من هذه الأسماء التي يريدون بها صرف الناس عن إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. واعلم أن ألفاظ هذه الصفات لابد من إثباتها، كما دلت عليه الأدلة، لكن من الألفاظ ما قد يستفاد منه معنىً آخر وهو معنى ثابت، لكن هذا المعنى الثابت لا يعود على الصفة بالإفراد، فمثلاً قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] ، هذا من حيث دلالة اللفظ يدل على ثبوت صفة العين لله عز وجل، ومن لازم هذه الصفة عنايته سبحانه وتعالى بموسى عليه السلام ورحمته به، فهم أثبتوا اللازم وعطلوا ما دل عليه اللفظ بدلالة التضمن أو المطابقة، فينبغي أن يعلم أن ما دلت عليه الألفاظ لابد من إثبات مدلول هذا اللفظ، وإثبات لازمه. ومن المعلوم أن دلالات الألفاظ منها ما هو دلالة مطابقة، ومنها ما هو دلالة تضمن، ومنها ما هو دلالة التزام أو دلالة لازم، ودلالة اللازم تختلف باختلاف أفهام الناس وأذهانهم، فهم عمدوا إلى دلالة المطابقة ودلالة التضمن وألغوهما، فقالوا: لا نثبت لله صفة العين، والمراد بالعين العناية، فأثبتوا اللازم وعطلوا مقتضى اللفظ، وهذا من تحريفهم وعدم تسليمهم بالنصوص. وفي هذا كفاية فيما يتعلق بهذه الصفات الخبرية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 شرح العقيدة الواسطية [8] معرفة أسماء الله عز وجل وصفاته من أهم العلوم، فينبغي على المسلم الاعتناء بها، والعمل بمقتضاها؛ فإن ذلك من أسباب صلاح القلب والجوارح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 1 إثبات صفة السمع والرؤية لله سبحانه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال رحمه الله تعالى: [ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] ، وقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] ، وقوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] ، وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]] . هذه الآيات من قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] إلى آخر ما قرأ، فيها إثبات صفة السمع لله عز وجل، وفيها إثبات صفة الرؤية، وقد تقدم الكلام على الآيات التي ساقها المصنف رحمه الله في إثبات صفة السمع والبصر لله جل وعلا، وعاد ذكر هاتين الصفتين، أما السمع فأعاده باسمه، يعني: بآيات تدل على ثبوت الصفة لله عز وجل بهذا الاسم، وأما البصر فأعاده باسم آخر قد ثبت به النص وهو الرؤية، وكلا الوصفين ثابت لله عز وجل، وهو من الصفات الذاتية الثابتة لله تعالى على الوجه اللائق به. وأفادنا في هذه الآيات أن الله سبحانه وتعالى يخص بعض خلقه بالسمع، ويخص بعض خلقه بالرؤية، وهذا التخصيص يفيد معنىً زائداً على إثبات هذين الوصفين له سبحانه وتعالى، فقوله جل وعلا: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} فيه تخصيص المجادلة بسماع ما تكلمت به، وقوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} فيه تخصيص السمع بقول هؤلاء، وكذلك قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} فيه أيضاً تخصيص السمع بهؤلاء الذين يسرون ويتناجون بالباطل، وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ} فيه تخصيص موسى وهارون بسماع دعوتهما لفرعون، فهذه الآيات كلها أفادت أن الله سبحانه وتعالى قد يخص بعض خلقه بسماع خاص، وهذا لا ينفي ثبوت السماع العام الذي ثبت له بالأدلة الكثيرة، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) . والرؤية جاء ما يدل على تخصيص بعض خلقه بالرؤية، كما في قوله تعالى: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) ، أما البصر فإنه لم يذكر في كتاب الله عز وجل خاصاً، إنما جاء عاماً، ومن تخصيص الرؤية قوله تعالى: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105] فهذا تخصيص عمل البعض بالرؤية، والخطاب في هذه الآية للمنافقين. المهم أن الأدلة دلت على أن الله سبحانه وتعالى يخص بعض خلقه بالسمع، ويخص بعض خلقه بالرؤية، واعلم أيضاً أن من فوائد هذه الآية التي ساقها المؤلف رحمه الله أن الله سبحانه وتعالى يسمع الأشياء بعد وقوعها، يسمع الكلام بعد وقوعه، وكذلك يرى الأشياء بعد وجودها، وهذا فيه أن السمع والبصر يتعلقان بكل مبصر وكل مسموع بعد وجودهما، مع أنه سبحانه وتعالى سميع بصير أزلاً وأبداً، فكون السمع والبصر يتعلق بالمخلوقات هذا صفة فعل، وكونه متصفاً به أزلاً وأبداً هذا صفة ذات. ومما أفاده ذكر سماعه سبحانه وتعالى ورؤيته جل وعلا لبعض خلقه تهديده للقائلين قولاً باطلاً، ووعده بالأجر لمن قال قولاً حقاً أو فعل فعلاً حقاً، يعني: من فوائد التخصيص في السمع والبصر الوعد بالجزاء على العمل إن كان خيراً فهو وعد، وإن كان شراً فهو وعيد. ومن فوائده أيضاً النصر والتأييد، وذلك في مثل قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، والمراد هنا: ليس مجرد إثبات مطلق السمع ومطلق البصر أو مطلق الرؤية له جل وعلا، إنما المراد: إنني أعلم بحالكما، وقادر على نصركما وإظهاركما على عدوكما أو على من تدعوان، وثبوت ما تقدم من المعاني أمر قطعي لا حيلة في إنكاره ودفعه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 إثبات صفات شدة المحال والمكر والكيد لله سبحانه على الوجه اللائق به عز وجل قال رحمه الله: [وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] ، وقوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:218-220] ، وقوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13] ، وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] ، وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] ، وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق:15-16]] . هذه الآيات ساقها المصنف رحمه الله لإثبات هذه المعاني لله عز وجل، ففيها إثبات شدة المحال لله سبحانه وتعالى، وفيها إثبات المكر، وفيها إثبات الكيد له جل وعلا، لكن اعلم أن هذه المعاني وهذه الصفات لم يصف الله سبحانه وتعالى نفسه بها إلا على وصف الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، فهو سبحانه وتعالى يمكر بمن مكر مكراً باطلاً، ويكيد بمن كاد كيداً باطلاً، فهي من الأفعال والصفات التي لم يصف الله عز وجل بها نفسه إلا في جزاء من استحق ذلك، وبه نعلم أن هذه الصفات منها ما هو محمود، ومنها ما هو مذموم؛ ولذلك لم ترد في كتاب الله عز وجل في إضافاتها إلى الله سبحانه وتعالى -يعني: في وصف الله بها سبحانه وتعالى- إلا مقيدة من حيث الفعل، ومن حيث الوصف، أما من حيث ثبوت المعنى فقد ورد بدون تقييد، وذلك في قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13] ، فالمحال فسره السلف بالكيد والمكر، أي: وهو شديد المكر والكيد، وهذا المعنى يثبت له على وجه الإطلاق لا في مقابلة كيد أو مكر، وكذلك قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] ، ففيه ثبوت المكر دون ذكر مقابل، وقوله: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] فيه ثبوت معنى الكيد له سبحانه وتعالى دون ذكر مقابل. لكن اعلم أن هذه المعاني من حيث إطلاق الفعل أو الوصف لله جل وعلا لم ترد إلا مقيدة، أما من حيث ثبوت أصل المعنى فإنها وردت مطلقة دون قيد لفظي، وإن كان هناك قيد معنوي، حيث إنها لم تذكر إلا في سياق كيد الكائدين أو مكر الماكرين أو غفلة الغافلين عن الله عز وجل، فهي من حيث المعنى لم ترد إلا مقيدة بمعنى، وإن كان ثبت أصل اللفظ دون ذكر مقابل، لكن من حيث المعنى لا تستعمل هذه الصفات إلا في مقابل فعل من يستحق أن يفعل به ذلك، وتنبه لهذا. واعلم أن سبب تعطيل من عطل هذه الصفات وقال: إنها لا تطلق على الله عز وجل إلا من باب المشاكلة، وإلا فليس لها حقيقة، أو من باب المقابلة ولا حقيقة لها، كقول المحرفين للصفات؛ فإنهم توهموا أن هذه المعاني لا يثبت منها إلا المعاني المذمومة، فلما كان في أذهانهم أن الكيد لا يكون إلا مذموماً، والمكر لا يكون إلا مذموماً، والمحال لا يكون إلا مذموماً، قالوا: لا نثبت ذلك لله عز وجل، وكذلك الخداع قالوا: لا يكون إلا مذموماً، فلم يثبتوه له سبحانه وتعالى، فلما لم يستقر في أذهانهم إلا المعنى المذموم لهذه الصفات عطلوا الله جل وعلا منها، وقالوا: إنها لم تذكر في الكتاب إلى على وجه المشاكلة والمقابلة دون إرادة المعنى، وهذا غلط وعدم فهم لما دلت عليه النصوص. ومن حيث الواقع المكر ليس مذموماً على كل حال، وكذلك الكيد ليس مذموماً على كل حال، وكذلك الخداع ليس مذموماً على كل حال، بل هو في مقابل كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وخداع المخادعين المبطلين؛ صفة كمال؛ ولذلك يتصف الله بها سبحانه وتعالى في مثل هذه المواضع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 إثبات صفات العفو والمغفرة والصفح والعزة لله سبحانه قال رحمه الله: [وقوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} [النساء:149] ، وقوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] ، وقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] ، وقوله عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] ، وقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]] . هذه الآيات فيها ثبوت صفة العفو والمغفرة والصفح والعزة لله جل وعلا، وهي صفات كمال له سبحانه وتعالى، وهي من الصفات الفعلية، فالمغفرة والعفو والصفح والعزة من صفات ذاته سبحانه وتعالى. الآية الأولى قوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} [النساء:149] فيها إثبات صفة العفو، والعفو إذا ورد مطلقاً فالمراد به التجاوز والستر، فقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) أي: يتجاوز عن المسيء ويستر عليه. وقوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] هذا فيه إثبات العفو، وفيه إثبات الصفح، وفيه إثبات المغفرة، ومعنى العفو: التجاوز، والصفح: الإعراض عن الخطأ والذنب، والمغفرة: الستر، وكلها صفات فعل ثابتة له سبحانه وتعالى تتعلق بمشيئته. وقوله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] ، وقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] كل هذا مما تثبت به صفة العزة له سبحانه وتعالى، فهو العزيز الرحيم جل وعلا، والعزة التي اتصف الله بها تتضمن ثلاثة معاني: القوة والغلبة والامتناع، وكلها ثابتة لله سبحانه وتعالى، وهي من صفات الكمال، قال الله: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) فالعزة التي لله هي القوة والغلبة والامتناع، فله العزة جل وعلا وصفاً، وله العزة أيضاً خلقاً وملكاً، فالتي له خلقاً هي العزة التي يهبها سبحانه وتعالى لعباده المتقين، كالتي في قوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] ، فالعزة التي للرسول والتي للمؤمنين هل هي صفة لله عز وجل؟ لا، هي خلقه جل وعلا، والله سبحانه وتعالى يهب العزة لمن يشاء كما قال سبحانه وتعالى: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] ، فالعزة التي له هي وصفه سبحانه وتعالى، وهي فعله سبحانه وتعالى. وقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] هذا فيه إثبات أنها من صفاته، حيث أضافها إليه سبحانه وتعالى، وأخبر عن إقسام الشيطان بها في قوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] . ثم بعد ذلك ذكر المؤلف رحمه الله قول الله جل وعلا: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78] تبارك أي: تعاظم وتقدس وتعالى وتنزه، كل هذا يفسر به هذا الفعل، وهو قوله: (تَبَارَكَ) . واعلم أن هذا الفعل وما تضمنه من وصف لا يطلق إلا على الله جل وعلا، ولذلك لم يذكره الله عز وجل في كتابه إلا له ولأسمائه، مثل قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان:1] ، وأما إضافته إلى أسمائه ففي مثل قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78] ، وذلك أنه معنى لا يناسب إلا الخالق جل وعلا، فلذلك لم يضف لغيره، ومعناه: الذي اجتمعت فيه صفات الكمال، فإن تبارك تدل على التعاظم، وعلى التعالي، وعلى المجد، وعلى كل صفة فضل وكمال، وعلى سعة تلك الصفات التي اتصف بها سبحانه وتعالى. ومن لوازم هذا الاسم أنه سبحانه وتعالى يبارك فيمن يشاء من عباده وخلقه، لكن من اقتصر في تفسير هذا الفعل بأنه الذي يهب البركة لمن يشاء فقد قصر في هذا المعنى، فإنه أوسع من ذلك وأجل وأعظم، فمعنى هذه الكلمة أجل من أن نحصره فقط في الذي يهب البركة لمن يشاء، لا شك أن من لوازم اتصافه سبحانه وتعالى بهذا الفعل أن يكون ذلك المعنى ثابتاً، وهو أنه يهب البركة لمن يشاء، لكن المعنى أوسع من ذلك. والتبارك أضافه سبحانه وتعالى إلى أسمائه فقال: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) ، واسم مفرد مضاف يعم جميع الأسماء، ولو لم يكن من بركة الأسماء إلى أنها تدل على الخالق، وأنها تعرف الخلق به؛ لكان ذلك كافياً، مع أن أسماءه سبحانه وتعالى بركتها أوسع من ذلك، وبهذا نعلم بطلان مذهب المعتزلة الذين يقولون: إن الأسماء أعلام محضة لا تتضمن المعاني، فهو سميع بلا سمع، عليم بلا علم، بصير بلا بصر، قدير بلا قدرة، وقد افتروا على الله كذباً؛ لأنها لو كانت أعلاماً مثل زيد وصالح وخالد وعمر وبكر، مجرد أعلام لا ينظر إلى معانيها؛ لما كانت مباركة، لكن لما أضاف البركة لهذه الأسماء، ووصفها بهذا الوصف، وأثبت لها هذا الفعل؛ دل ذلك على أنها تحتوي على معاني، ومن أجل ما يكون فيها من البركة أنها تدل على ما يتصف به سبحانه وتعالى وما يجب له. وقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78] تقدم الكلام على قوله: (ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) ، وأن معنى: (ذي الجلال) أي: الكبرياء والعظمة، والإكرام هو المحبة والحمد. ومن بركة أسمائه سبحانه وتعالى أنه لا تستباح الذبائح ولا تحل إلا بذكر اسمه، {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 إثبات الكمال لله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله قال رحمه الله: [وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] ، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، وقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] ، وقوله: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] ، وقوله: {وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:111] ، وقوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1] ، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:1-2] ، وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:91-92] ، وقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74] ، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]] . جميع هذه الآيات مقصودها وموضوعها واحد، وهو إثبات الكمال لله عز وجل في صفاته وأفعاله وأسمائه وما يجب له، وتنزيهه سبحانه وتعالى عن النقائص والعيوب، وقد نزه الله سبحانه وتعالى نفسه في كتابه عن العيوب: تارة بنفيها، وتارة بإثبات أضدادها، فقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] هذا فيه نفي السمي، وهو النظير والمثيل، فقوله: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) نفي أن يكون له سمي جل وعلا في صفاته أو في أفعاله أو في أسمائه أو فيما يجب له. وكذلك قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] هذا نفي أن يكون له كفؤ في شيء مما يجب له أو مما يتصف به سبحانه وتعالى. وقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] ، {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] هذا فيه نفي الند، وهذا النفي المتقدم في الآيات كله نفي مجمل، والمقصود منه والمراد به: إثبات الكمال له سبحانه وتعالى. وقوله: {وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} [الإسراء:111] هذا فيه نفي الولد، وهو نفي مفصل المقصود منه نفي ما ادعاه الجاهلون من أن لله ولداً كما قال النصارى وكما قال اليهود وكما قال المشركون، وقال الله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111] هذا فيه نفي الشريك لإثبات تفرده بالملك، وهو من مقتضيات ربوبيته سبحانه وتعالى، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ} [الإسراء:111] أي: لم يكن له نصير بسبب ذل، ولم يكن له محبوب بسبب الذل، فقوله: (مِنْ الذُّلِّ) أي: لأجل الذل، فمن هنا سببية، أي: لم يتخذ جل وعلا أولياء ليتقوى بهم أو لينتصر بهم على غيرهم، فهو الغني الحميد سبحانه وتعالى، وإنما يتخذ الله أولياء رحمة وإحساناً وبراً وكرماً وجوداً، فالولاية الثابتة في قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [يونس:62] هل هي ولاية نصر، أي: أنه تولاهم ليتقوى بهم ويعتز؟ لا، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، إنما هي ولاية رحمة وإحسان وبر وكرم منه جل وعلا. ثم قال: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:111] بعد أن ذكر ما نفاه مما يقتضي كماله سبحانه وتعالى قال: (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) ، فالتكبير هو التعظيم، وذلك أن الله جل وعلا أعظم مما تدركه العقول، بل ما جاء في النصوص إنما هو شيء من كماله، وما اخفي عنا شيء كثير، وشيء عظيم. ومن الحكمة أن الإنسان في دبر كل صلاة يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر، فسبحان الله ماذا يحصل بها؟ تنزيه الله عز وجل عن كل نقص، وقوله: الحمد لله إثبات كل كمال لله جل وعلا، وقوله: الله أكبر، أي: أنه مهما بالغت في التنزيه، ومهما بالغت في إثبات الكمال؛ فإنك لن تقدره جل وعلا حق قدره، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] . ولذلك -يا إخوان- من قال هذه الكلمات بعد دبر الصلوات مستحضراً هذه المعاني كفرت عنه الذنوب ولو كانت مثل زبد البحر، ولكن الذي يقولها دون إدراك لما تضمنته من المعاني لا يحصل له هذا الفضل. وقال الله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1] فيه تنزيه الله عز وجل عن النقص، واعلم أنه حيث ما سبح الله سبحانه وتعالى نفسه في كتابه أو جاء ذلك في السنة فالمراد تنزيه الله عز وجل عن النقص، هذا أولاً. ثانياً: المراد أيضاً إثبات الكمال له في الصفات. ثالثاً: نفي ما وصفه به الجاهلون، فهذه معان ثلاثة تثبت بالتسبيح، المعنى الأول: نفي النقص في صفاته، المعنى الثاني: إثبات الكمال له سبحانه وتعالى، المعنى الثالث: نفي ما وصفه به الجاهلون. وقال الله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] تقدم الكلام على تبارك قبل قليل، وأن معناها: تبارك وتعاظم وتقدس وكثرت بركته وخيراته. {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} [الفرقان:2] هذا تقدم، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ} [الفرقان:2] تقدم أيضاً {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] . وقال الله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:91-92] يشركون أي: يسوون به غيره، فالشرك مداره على التسوية، والتسوية تكون في الأسماء والصفات، وتكون في الربوبية، وتكون في الإلهية فيما يجب له من العبادة، والله عز وجل قد تنزه وتعالى عن كل شرك في أي نوع من أنواع التوحيد. وقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74] هذا فيه نفي المثيل عن الله سبحانه وتعالى. وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] هذا فيه أنه تنزه عن الشرك سبحانه وتعالى، وأنه حذر عباده أن يقولوا عليه -في شيء مما اتصف به، أو مما شرعه أو أي شيء مما يتعلق به سبحانه وتعالى- ما لا يعلمون، والواجب على المؤمن أن يقف في أخبار الله عز وجل وفي أحكامه على ما جاءت به النصوص. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 شرح العقيدة الواسطية [9] يؤمن أهل السنة والجماعة بما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه: من أنه مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه بالكيفية التي يعلمها وحده جل شأنه، وقد جحد هذا أهل البدع بخيالاتهم الفاسدة، وشبههم الباطلة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1 إثبات صفة الاستواء لله سبحانه بسم الله الرحمن الرحم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] في سبعة مواضع في سورة الأعراف في قوله: {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، وقال في سورة يونس عليه السلام: {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3] ، وقال في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2] ، وقال في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وقال في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان:59] ، وقال في سورة (آلم السجدة) : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4] ، وقال في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4]] . هذه الآيات كلها لإثبات صفة عظيمة لله جل وعلا تواتر النقل بإثباتها، وهي صفة الاستواء لله سبحانه وتعالى، وصفة الاستواء صفة ثابتة بالكتاب وبالسنة، وأجمع عليها سلف الأمة، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (أجمع عليها المؤمنون الأولون والآخرون بل هي ثابتة في كل كتاب أنزله الله عز وجل على كل نبي مرسل) ، وعلى كل حال نحن يكفينا في إثباتها أنها صفة أثبتها الله سبحانه وتعالى لنفسه في كتابه، وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم فيما ورد من سنته، وأجمع عليها سلف الأمة، فهذا يكفي في إثبات هذه الصفة ولو لم يتقدم لها ذكر في الكتب المتقدمة، وهذه الصفة صفة سمعية خبرية، أي: أن طريق إثباتها هو السمع (الكتاب والسنة) ، فليس لأحد أن يقول: استدل على إثبات صفة الاستواء بالعقل؛ لأنه لو لم يرد الخبر عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الله جل وعلا مستو على عرشه لم يمكن لنا أن نهتدي إلى ذلك ولا أن نتوصل إليه. ومما يقال في هذه الصفة أيضاً: إنها صفة فعلية؛ لأنها صفة كانت بعد عدم، فإنه سبحانه وتعالى اتصف بها بعد خلق السماوات والأرض كما دلت على ذلك الأدلة: {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، فالاستواء على العرش إنما كان بعد خلق السماوات والأرض، فهو صفة فعلية خبرية سمعية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 2 الاستواء علو خاص بالعرش ومن المهم في بحث الاستواء: أن نعلم أنه علو خاص، فالله سبحانه وتعالى موصوف بالعلو العام، كما قال: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] ، فعلوه سبحانه وتعالى عام على كل الخلق، وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في كلام المؤلف رحمه الله، ولكن علوه على العرش علو خاص بالعرش، ووجه الخصوصية: أن الاستواء المضاف إلى الله سبحانه وتعالى الموصوف به لم يضفه إلى غير العرش، فليس في الكتاب أنه استوى على السماء أو البحر أو الأرض، إنما الاستواء مضاف إلى العرش دون غيره من المخلوقات، ومن هذا نفهم: أن الاستواء علو خاص، وهو من الألفاظ المختصة بالعرش دون غيره، فلا يضاف إلى غيره لا على وجه الخصوص ولا على وجه العموم، فلا تقل: استوى الله على كل شيء، هذا لم يرد في الكتاب ولا في السنة، ولا تضيفه أيضاً إلى شيء مقيد كالاستواء على الأرض، أو السماء، أو غير ذلك من المخلوقات، وبه نعلم أن الاستواء أمر اختص به الله سبحانه وتعالى على عرشه دون غيره من مخلوقاته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 معاني الاستواء عند السلف هذه الصفة -أيها الإخوان- صفة عظيمة، تكرر ذكرها في كتاب الله عز وجل في سبعة مواضع، وجاء ذكرها في السنة في أحاديث كثيرة، وهي من الصفات الفعلية التي يجري فيها أهل السنة والجماعة على الصراط المستقيم؛ كغيرها من الصفات، فيثبتونها من غير تحرف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فما معنى الاستواء الذي يثبته أهل السنة والجماعة، أهل الفرقة الناجية لله سبحانه وتعالى؟ الاستواء الذي يثبتونه دار كلام السلف في معناه على أربعة معاني، وفسروه بأربع كلمات: فسر الاستواء بالعلو، وبالارتفاع، وبالصعود، وبالاستقرار. فهذه الكلمات الأربع عليها مدار ما نقل عن السلف في تفسير الاستواء، وقد جمعها ابن القيم رحمه الله في نونيته فقال: فلهم عبارات عليها أربع عليها يعني: الاستواء. قد حُصِّلت للفارس الطعان وهي استقر وقد علا وكذلك ار تفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع وأبو عبيدة صاحب الشيباني يعني: رابع المعاني التي ورد تفسير السلف فيها للاستواء. يختار هذا القول في تفسيره أدرى من الجهمي بالقرآن إذاً: تحصل لنا أربعة معان من معاني الاستواء: العلو والارتفاع والصعود والاستقرار، واعلم أنه مهما قيل من تفسيرهم بأي نوع من التفاسير التي وردت عن السلف -وهي محصورة في هذه الأربع معاني- فإننا نثبت ذلك على القاعدة من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 شبه نفاة الاستواء والرد عليها ومنشأ ضلال من ضل ممن أنكر الاستواء من طوائف المبتدعة المخالفين لأهل السنة والجماعة: أنهم اعتقدوا في إثبات الاستواء النقص، ولهم في ذلك شبه عديدة متنوعة، فمنهم من قال: إن إثبات الاستواء يلزم منه الجسمية، أي: أن الله تعالى جسم، ومنهم من قال: إن إثبات الاستواء يلزم منه وقوع الحوادث بالرب جل وعلا، ومن قامت به الحوادث فهو حادث، ومنهم من قال: إن إثبات الاستواء لله عز وجل يلزم منه أنه مفتقر إلى العرش. وكل هذه ظنون كاذبة في الله جل وعلا، وخيالات فاسدة، وإنما قذفها في قلوبهم فساد تصورهم وانحراف منهجهم، وإلا فإنه لا يلزم من إثبات هذه الصفة لله عز وجل أي لازم باطل، فما قالوه من لزوم الجسمية لا نقرهم عليه، ونقول: لا نثبت لله إلا ما أثبته لنفسه، وما قالوه من قيام الحوادث نقول: ما الذي يمنع من قيام مثل هذه الحوادث؟ لا دليل، أما الذي قالوه من أنه مفتقر إلى العرش، نقول: كذبتم، فالعرش وحملته والسماوات والأرض كلها إنما تقوم بإقامة الله لها، فكل مخلوق مفتقر إليه جل وعلا، وهو الغني الحميد الذي لا يفتقر إلى شيء. ومنشأ هذه التأويلات والتحريفات والشبه: أنهم اعتقدوا التمثيل، ولو أنهم سلموا للنصوص ونزهوا قلوبهم عن الخيالات والتصورات وطلب الكيفيات لسلموا، ولكنهم ضعفوا وقدموا العقل الفاسد على النص الصريح الصحيح؛ فإن علو الله سبحانه وتعالى كما يقول عنه شيخ الإسلام رحمه الله: من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية، فقد جاء إثباته في كتاب الله في سبعة مواضع، وفي السنة في مواضع كثيرة، فثبت بما لا يدع مجالاً للشك ولا مكاناً للريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أمته بأن الله جل وعلا قد استوى على العرش؛ ولذلك يندهش الإنسان من هؤلاء كيف يجرءون على تحريف وإبطال ما ثبت هذا الثبوت في الكتاب والسنة، مع أنهم في أمور دون ذلك يتورعون عن التأويل فيها، ويقولون: لا نستطيع أن نصرف اللفظ عن ظاهره، سواء كان ذلك في الأحكام أو فيما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر، وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله وابن القيم وغيرهما من أئمة السلف في الرد على المبطلين المحرفين لصفة الاستواء. واعلم أن أول من دعا إلى إنكار الاستواء: هو الجهم بن صفوان، وتلقى هذه المقالة عن الجعد بن درهم، وكلاهما منحرف ضال عن منهج أهل السنة والجماعة، وكلاهما لم يعرف بعلم ولا بدين، والعجيب أنه قد نقل بالسند من طريق ابن أبي حاتم والبخاري في كتاب خلق أفعال العباد، ومن طريق عبد الله بن أحمد عن الجهم بن صفوان أنه قال: (لو وجدت سبيلاً إلى أن أحك من المصحف {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] لفعلت) ، وهذه ليست مقالة غير معروفة ولا ثابتة كما يزعمه البعض، ويقول: إن هذه من المقالات التي تنقل بدون أسانيد، بل ذكرها البخاري رحمه الله وابن أبي حاتم وعبد الله بن أحمد، وهي مقالة مشهورة معروفة عن هذا الزنديق، فكيف يسوغ لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقبل مثل هذا القول، وإنما ضاق صدره بهذا لجهله وضعف علمه. وقد أنكر الاستواء الجهمية، ولما أنكروه من حيث المعنى اضطروا إلى أن يئولوا اللفظ؛ لأن اللفظ موجود، وهذا أمر يشترك فيه الاستواء مع بقية الصفات، فلما لم يتمكنوا من إنكار لفظه عمدوا إلى تحريف معناه، فأولوا الاستواء بالاستيلاء، وهذا من أشهر ما أُول به الاستواء، واستشهدوا على ذلك بالبيت المشهور في كتبهم، وهو: قد استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق قالوا: هذا دليل من اللغة على أن الاستواء معناه الاستيلاء، ولو أننا استدللنا عليه بنص من سنة النبي صلى الله عليه وسلم لطالبونا بصحة الإسناد، وإن كان الحديث صحيحاً ثابتاً، قالوا: هذا من طريق الآحاد، ونحن نطالبهم بإثبات صحة هذا البيت في اللغة العربية، وقد أنكره أئمة اللغة كـ الخليل بن أحمد وابن الأعرابي وغيرهما، وقالوا: هذا البيت لا يصح، وليس في اللغة أن الاستواء بمعنى الاستيلاء. هذا من حيث ثبوت ما استندوا إليه. أما من حيث إبطال هذا التأويل من جهة المعنى فقد بين شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى من اثني عشر وجهاً بطلان تأويل الاستواء بالاستيلاء، وأما ابن القيم فأبلغها إلى اثنين وأربعين وجهاً -كما في مختصر الصواعق -لإبطال تأويل الاستواء بالاستيلاء، وهذا هو التأويل الشائع المنتشر عند جمهور المسلمين ممن لم يسلكوا السبيل المستقيم؛ طريق أهل السنة والجماعة. وأصل هذا التأويل من الجهمية، ثم انتقل إلى الأشعرية، وأول من نقله إليهم أبو بكر الرازي في تفسيره، وأما متقدمو الأشعرية فإنهم يثبتون الاستواء ويقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، فهم يثبتون الاستواء الذي ذكره الله جل وعلا في كتابه، إلا أنهم ضلوا من جهة ثانية، وهي: أنهم جعلوا الاستواء فعلاً يقوم بالعرش لا بالرب سبحانه وتعالى، وأهل السنة والجماعة يثبتون الاستواء وصفاً يقوم به سبحانه وتعالى؛ لأنه أضافه إليه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، فأضاف هذا المعنى إليه سبحانه وتعالى، فلا وجه لصرفه عن غيره وإضافته إلى العرش. هم يقولون: إن الاستواء أمر يحدثه الله في العرش، يصير به الرب مستوياً على العرش، وسبب هذه المقالة الفاسدة وإن كانت أهون من مقالة أولئك؛ لأنهم يثبتون الاستواء من حيث هو، ولا يئولونه بالاستيلاء؛ سبب هذه المقالة الفاسدة: أنهم يمنعون قيام الحوادث بالرب سبحانه وتعالى، ويقولون: إن الله عز وجل لا يفعل ما يشاء؛ لأن قيام الفعل به دليل على الحدوث، ومن قامت به الحوادث فهو حادث. وهذه قواعد إذا طلبت دليلها من الكتاب والسنة لم تجد لها مستنداً، إنما هي شبه وخيالات تتهافت عند النظر السليم والعقل الصريح والنقل الصحيح؛ ولذلك يجب على المؤمن ألا ترعبه هذه الشبه، فهي كما قال القائل: شبه تهافت كالزجاج تخالها حججاً وكل كاسر مكسور ليس فيها شيء مستقيم، وليس لها شيء تستند إليه؛ ولذلك هم يتناقضون تناقضاً كبيراً، وتجد أن أحدهم يثبت ما ينفيه في آخر كلامه، وينفي ما يثبته في أول كلامه، وبعضهم يلعن بعضاً، ويكفر بعضهم بعضاً، مع اعتمادهم وانطلاقهم من أصول واحدة، لكن لما كانت هذه الأصول من عقول بني آدم دَبَّ إليها الضلال، وعرفت بالتناقض والاضطراب، أما من استمسك بالصراط المستقيم والحبل المتين بالكتاب المبين وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين؛ فإنه آمن من هذا الاضطراب؛ ولذلك ينبغي للمؤمن أن يفرح أن الله سبحانه وتعالى دله على هذا الصراط، وأن يثني عليه خيراً بذلك، وأن يسأله الثبات والزيادة منه. إذاً: عرفنا أن الجهمية ومتأخري الأشعرية أولوا الاستواء بالاستيلاء. ومنهم من أوله بالقصد والإقبال، فقالوا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يعني: أقبل عليه. قيل لهم: لماذا أقبل عليه؟ قالوا: ليخلقه، قيل لهم: العرش مخلوق قبل خلق السماوات والأرض، كما دل على ذلك ما في الصحيحين من حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء) ، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بسبق خلق العرش على خلق السماوات والأرض، فلا وجه لما أولوه به. ومما أولت به هذه الصفة قولهم: إن معنى (استوى على العرش) أي: دبر الملك، ففسروا العرش بالملك، والاستواء عليه بالتمكن منه، وهذا من جملة ما أولوا به كلام الله عز وجل وحرفوه، وإلا فالعرش معلوم أنه خلق من خلق الله عظيم، وليس هو الملك لقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] ، وهل يكون ملك الله فقط على الماء؟ ملك الله للماء ولما في السماوات والأرض، وفي الحديث الصحيح: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن) ، فهل يمكن أن يقال: معنى: (سقفه عرش الرحمن) ، أي: أن سقفه ملك الرحمن؟ هذا ليس صحيحاً؛ لأن الجنة وما فيها ملك للرحمن جل وعلا، فتبين بطلان هذا التأويل، وإنما ذكرنا تأويلات هؤلاء لكثرة تشبيههم، وكثرة تقريرهم خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة من اتصاف الله عز وجل بهذه الصفة العظيمة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 معاني الاستواء الواردة في الكتاب والسنة اعلم أن الاستواء في اللغة ورد على نحوين، وهو كذلك في بعض المواضع في كتاب الله عز وجل، ورد مطلقاً وورد مقيداً، فالمطلق في مثل قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:14] ، ومعنى الاستواء هنا: الكمال والنضج، وهذا لم يعد بالحروف، وهو غير مقيد بحرف، وقد ورد في اللغة مقيداً على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: مقيد بـ (إلى) ، ومعنى الاستواء هنا: الارتفاع والعلو بإجماع السلف، وذلك في مثل قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] ، فهنا بإجماع السلف وإجماع أهل اللغة أنه بمعنى: علا وارتفع. الثاني: تعديته بـ (على) كالآيات التي معنا، وهذا بإجماع السلف أنه العلو والارتفاع، وذكرنا لكم ما ورد عن السلف من كلمات في بيان معنى الاستواء. الثالث: تقييده بالواو، كقول القائل: استوى الماء والخشبة، فهنا يفيد المعية أو التسوية والمعادلة، وهذا لم يرد له ذكر في كلام الله عز وجل. نقرأ ما ذكر المؤلف رحمه الله من الآيات التي أوردها في إثبات هذه الصفة. قال رحمه الله: وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، أي: ذكر الاستواء في سبعة مواضع، أولها في سورة الأعراف، في قوله: {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، والعرش خلق من خلق الله عظيم؛ وصفه الله عز وجل في كتابه بالمجيد، ووصف الشيء بهذا الوصف دليل على سعته وكمال صفاته، وهو من حيث اللغة سرير الملك، وهو خلق من خلق الله عظيم استوى عليه الله جل وعلا. وقال في سورة يونس عليه السلام: {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3] ، هذا أيضاً فيه ما تقدم. وقال في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2] . وقال في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، ومن تشبيه بعض المشبهين: أنه جعل الوقف لازماً على قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ) ، ثم جعل ابتداء الكلام من قوله: (استوى له ما في السموات) ، وهذا من التحريف البارز؛ لأنه إذا استقام له هنا فكيف يستقيم له في الآيات السابقة التي لا يمكن له فيها مثل هذا التحريف، فهناك: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) في سورة الأعراف والرعد. وقال في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان:59] ، وقال في سورة (آلم السجدة) : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4] ، وقال في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] ، كل هذه الآيات فيها إثبات هذه الصفة الخبرية السمعية الفعلية لله سبحانه وتعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 شرح العقيدة الواسطية [10] أخبر الله سبحانه وتعالى أنه عالٍ على خلقه، مستوٍ على عرشه، وعلوه سبحانه على خلقه لا ينافي معيته العامة والخاصة، وقد بين أهل العلم رحمهم الله الفرق بين المعية العامة والخاصة، كما بينوا أقسام العلو الوارد في الشرع. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 1 إثبات علو الله على مخلوقاته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: قال رحمه الله: [وقوله: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] ، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36-37] ، وقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16-17]] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 2 أقسام العلو الوارد في الشرع هذه الآيات كلها في إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى، وقد تقدم في المقطع السابق آيات تثبت صفة الاستواء لله عز وجل، وقلنا: إن الاستواء علو خاص، فبعد أن ذكر الأدلة الدالة على علو الله عز وجل الخاص انتقل إلى ذكر الأدلة على ثبوت العلو العام لله سبحانه وتعالى، وهو العلو الثابت له على كل شيء، فالله جل وعلا عالٍ على كل شيء كما دلت على ذلك الأدلة. واعلم أن العلو الذي يثبته أهل السنة والجماعة للرب سبحانه وتعالى ثلاثة أنواع: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات. أما علو القدر فله المثل الأعلى جل وعلا كما قال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] ، وكما قال: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم:27] ، وكما قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180] أي: البالغة في الحسن منتهاه، فهذا علو القدر. وأما علو القهر فذلك في آيات كثيرة، ومنها قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] . وأما علو الذات فذلك الذي دل عليه الكتاب بالآيات التي سمعناها، وجاء في السنة في أحاديث كثيرة سيأتي شيء منها، وأجمع عليه سلف الأمة، ودل عليه العقل، واقتضته الفطرة، واتفق عليه الناس أجمعون، مسلمهم وكافرهم، فإن علو الله عز وجل مستقر في فطر بني آدم، فما قال قائل قط: يا الله! إلا ووجد من قلبه طلب العلو، وهذا من الأدلة الفطرية التي لا يملك أحد ردها، وهذا مما يتفق عليه أهل الإسلام وأهل الكفر، وذلك أن العلو صفة كمال لائقة بالرب جل وعلا، وقد تقدم لنا قول الشيخ رحمه الله: إن العلو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية، وذلك لتنوع أدلته وكثرتها في الكتاب والسنة، حتى إن الإنسان ليقطع قطعاً لا ريب فيه ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم ألقى ذلك إلى أمته، وأن الله عالٍ على كل شيء، وهو فوق كل شيء سبحانه وتعالى، وسيأتي إن شاء الله تعالى في كلام الشيخ تقريره للعلو فيما ذكره من الصفات التي ركز عليها في بيانها كالعلو، والمعية، والكلام، والرؤية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 الطوائف التي ضلت في إثبات صفة العلو وقد ضل في هذه الصفة طوائف منها: الجهمية المعطلة الذين قالوا: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، وهذا منهم وصف لله عز وجل بالعدم؛ ولذلك لما قيل لأحد الأمراء هذا الوصف قال: فرق لنا بين هذا الرب الذي تصفه وبين العدم؟ فلم يملك جواباً؛ وذلك لأن هذه الأوصاف لا تنطبق إلا على العدم، فهي صفات سلبية محضة، لا تفيد ثبوتاً ولا كمالاً، وهذا هو مذهب الجهمية المعطلة، وهو قول كثير من المعتزلة. الطائفة الثانية التي ضلت في هذا: هم الذين قالوا: إن الله في كل مكان، وهو قول الجهمية الحلولية، وقول غالب المتصوفة، فيعتقدون أن الله عز وجل في كل مكان، ولا شك أن هذا كفر، فهم يعتقدون وجوده سبحانه وتعالى في الحشوش والأماكن القذرة، وفي أمعاء الكلاب والخنازير، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! وقد دلت الأدلة على بطلان قولهم، وأنهم قد افتروا على الله كذباً. القسم الثالث ممن ضلوا في هذه الصفة: هم الذين قالوا: إن الله فوق العرش بذاته، وهو مع الخلق بذاته، فهؤلاء أثبتوا العلو، وأثبتوا نقيضه، فجعلوه سبحانه وتعالى بذاته فوق العرش، وبذاته في كل مكان، والفرق بين هذا القول والذي قبله أن الذي قبله لم يصرحوا بأنه فوق كل شيء، وسيأتي مزيد بيان لهذه الصفة إن شاء الله تعالى في كلام الشيخ. وهذه الصفة مرتبطة بصفة المعية؛ ولذلك إذا ذكر العلو ذكر معه معية الله عز وجل في كلام أهل العلم، وذلك لأن من الناس من توهم أن علوه سبحانه وتعالى ينافي معيته، وأنه لا يمكن أن يكون عالياً على كل شيء وهو معهم، وظنوا أن المعية تنافي العلو، وما ذاك إلا لأنهم قاسوا الله عز وجل على ما يعرفونه من أحوال الخلق، ولم يفهموا ما أخبر الله سبحانه وتعالى عن نفسه. وقد أجمع أهل العلم على أن من نفى علو الله عز وجل على خلقه فهو كافر، وذلك لتوافر الأدلة في الكتاب والسنة مع الإجماع والعقل والفطرة على وصف الله عز وجل بهذه الصفة، والعلو الذي وقع الخلاف فيه بين أهل السنة وغيرهم هو علو الذات، أما علو القدر وعلو القهر فإنه ثابت له سبحانه وتعالى، ولم يخالف فيه أهل الكلام المخالفون لأهل السنة والجماعة في باب الصفات، فيثبتون علو القدر وعلو القهر، وهم يؤولون العلو الثابت له بهذين، فعلو القدر وعلو القهر يجعلونه المراد في كل موضع وصف الله عز وجل فيه نفسه بالعلو. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 الآيات الواردة في إثبات العلو قال في ذكر آيات العلو: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] ، وقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] والرفع: يقتضي العلو، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] والإصعاد والرفع دليل على علوه سبحانه وتعالى، وقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36] في قول فرعون: {أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:37] وهذا فيه دليل على ما ذكرنا أن الفطر مجبولة على طلب العلو فيما يتعلق بالله سبحانه وتعالى، ولذلك فرعون موسى لم يطلبه لا يميناً ولا يساراً ولا نقب في الأرض، إنما قال لوزيره: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر:36-37] ، وهذا مما يدل على أن العلو هو الذي جاءت به كل الرسل، وأن صفة العلو جاءت في كلام كل من أرسلهم الله عز وجل. وقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] في الآيتين، فقوله: (من في السماء) أي: على السماء، هذا إذا كانت السماء المراد بها السبع الطباق، وأما إذا أريد بالسماء العلو فليست بمعنى (على) يعني: أنه سبحانه وتعالى في العلو، فهو عال على كل شيء سبحانه وتعالى، عال على خلقه بائن منهم سبحانه وتعالى. وعلى هذا تكون السماء اسم جنس للعالي، فقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] إن كانت السماء هي السماء المبنية فقوله: (في) المراد به على، وإن كان المراد بالسماء جهة العلو أي: اسم جنس للعالي فالمراد أنه سبحانه وتعالى في العلو. وهذه الأدلة شيء يسير مما ذكره الله عز وجل في كتابه مما يدل على علوه، وإلا فالآيات الدالة على العلو أكثر من أن تحصر، وقد أطال ابن القيم رحمه الله في ذكر الأدلة على علوه في النونية إطالة بينة، يقف عليها من يطالع هذه المنظومة. المهم أن علو الله سبحانه وتعالى ثابت بأدلة كثيرة لا يمكن حصرها، ولا يمكن رد مدلولها، ولذلك هم يؤولون هذا كله بعلو القهر وعلو القدر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 إثبات معية الله لخلقه قال رحمه الله: [وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] ، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] ، {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] ، {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] ، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]] هذه الآيات في إثبات صفة المعية لله سبحانه وتعالى، والمعية كما ذكرنا لكم يأتي ذكرها مع العلو في كثير من المواضع، ويقررها أهل العلم من أهل السنة والجماعة بعد ذكر العلو لنفي توهم أن علوه سبحانه وتعالى ينافي معيته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 أنواع المعية الثابتة لله تعالى واعلم أن المعية الثابتة له سبحانه وتعالى نوعان: معية عامة ومعية خاصة، المعية العامة مقتضاها وحكمها أنه سبحانه وتعالى بكل شيء عليم، وهو جل وعلا على كل شيء قدير، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء شهيد، هذا مقتضى المعية العامة، أما المعية الخاصة فمقتضاها يعينه السياق، ويدل عليه الموضع الذي وردت فيه، فالمعية ترد في مواضع، ويدل على معناها السياق في الموضع الذي وردت فيه؛ ولذلك لا تستغرب أن تكون في موضع المراد بها التهديد، وفي موضع المراد بها النصر والتأييد، وفي موضع يراد بها المعنى العام وهو الاطلاع والعلم وعدم خفاء حال الإنسان، وذلك أن المعية من حيث اللغة تفيد المصاحبة، ولكن هل من لازم المصاحبة المخالطة؟ الجواب: لا، ليس من لازم المصاحبة المخالطة؛ ولذلك تقول للشخص: أنا معك، وبينك وبينه مفاوز وقفار، والمراد بذلك المصاحبة في شيء ما، فلا يلزم من ثبوت معية الله عز وجل أي لازم باطل، كما سيأتي تفصيله وبيانه من كلام الشيخ وضرب الأمثلة في ذلك من كلام الشيخ رحمه الله فيما يأتي من تفصيل في هذه الرسالة المباركة. قوله رحمه الله: (وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] هذا فيه ثبوت علوه سبحانه على عرشه، وهو علو خاص، ثم قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الحديد:4] ، هذا فيه بيان سعة علمه جل وعلا، وأن علمه قد أحاط بكل شيء. قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] ، هذا فيه إثبات معيته، وحكم ومقتضى هذه المعية أنه لا تخفى عليه من أحوالنا خافية، ولذلك قال: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] ، فبين سبحانه وتعالى حكم هذه المعية ومقتضاها، وهو علمه بحال الإنسان، فمن قال من السلف: إن المعية المراد بها العلم إنما فسر المعية بحكمها ومقتضاها، وليس ذلك من التأويل الذي هو تحريف اللفظ وصرفه عن ظاهره إلى معنى مرجوح بلا دليل، إنما هو ذكر لحكم ومقتضى هذه الصفة، وانظر كيف قدم سبحانه وتعالى على ذكر المعية إحاطة علمه بكل شيء، وختم ذلك أيضاً بإحاطة علمه بما يعمل الخلق، فكان قوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الحديد:4] ، ثم قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] ثم أعقب ذلك بقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] . ثم انظر أيضاً إلى إثبات علوه سبحانه وتعالى على عرشه، وأن علوه على عرشه لا ينافي المعية، ولذلك ذكر المعية بعد ذكر استوائه على العرش، وذلك أنه جل وعلا ليس كمثله شيء في أي شيء من أموره: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 الأدلة الواردة في إثبات معية الله ثم قال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] هذه أيضاً فيها إثبات المعية العامة، والتي مقتضاها إحاطة علمه سبحانه وتعالى بما عليه الخلق، وبما عليه الناس، مهما كثروا أو قلوا. ثم قال في قوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] هذه معية خاصة، وهي غير المعية السابقة، ووجه كونها غير المعية السابقة أن المعية السابقة ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وخصومهما، والمعية هنا ليست تلك التي تكون لكل الخلق، إنما هي معية خاصة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـ أبي بكر: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، يعني: أنا وأنت لا خصومنا، فالله ليس مع خصومه -وهم كفار مكة الذين كانوا يطلبونه- فكانت معية خاصة، وما الذي أفادت هذه المعية هنا؟ أفادت تأييد الله سبحانه وتعالى لرسوله، ونصره له سبحانه وتعالى، وحفظه للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، هذه أيضاً معية خاصة، وهي لموسى وهارون دون فرعون ومن معه. وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] ، هذه معية خاصة بوصف، ما هو الوصف؟ التقوى والإحسان، وهي غير المعية العامة الثابتة في الآيتين المتقدمتين. كذلك قوله: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] ، هذه معية بالوصف وهي صفة الصبر، وقوله: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] كذلك، هذه فيها المعية الخاصة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 الطوائف التي ضلت في إثبات صفة المعية والذين ضلوا في العلو هم الذين ضلوا في المعية: فالقسم الأول الجهمية الحلولية الذين قالوا: إنه في كل مكان. القسم الثاني: الجهمية المعطلة الذين قالوا بالنفي، فوصفوا الله بالسلوب، وقالوا: لا داخل العالم، ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، وليس يميناً ولا يساراً، ولا خلف ولا أمام. القسم الثالث: الذين قالوا: إنه على عرشه بذاته ومعنا بذاته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 إثبات الكلام لله تعالى قال رحمه الله: [وقوله: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] ، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] ، {وإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة:110] ، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] ، وقوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] ، (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253]] . هذه الآيات فيها إثبات صفة الكلام لله جل وعلا، وهي صفة يثبتها أهل السنة والجماعة كما يثبتها مثبتة الصفات من الأشاعرة وغيرهم، وينكرها الجهمية المعتزلة الذين لا يثبتون لله عز وجل الصفات، بل ينكرون اتصافه بالصفات، وسيأتي بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في الكلام مفصلاً. والذي نقوله هنا: إن الكلام صفة ذاتية لله سبحانه وتعالى، هذا باعتبار أصل اتصافه بهذه الصفة، وأما باعتبار أفراد كلامه سبحانه وتعالى فهو صفة فعلية، فإنه سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء، ويكلم من شاء. قال رحمه الله في إثبات هذه الصفة: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] والحديث: كلام، فهذا فيه إثبات صفة الكلام له سبحانه وتعالى، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] والقول: الأصل فيه أنه قول كلام وليس قول فؤاد. وقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة:110] هذا أيضاً فيه إثبات القول له سبحانه وتعالى، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] ، والكلمة: إنما تكون كلاماً، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] ، (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] ، {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ، كل هذا فيه إثبات صفة الكلام له سبحانه وتعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 الطوائف التي ضلت في كلام الله وقد ضل في هذه الصفة الجهمية المعتزلة الذين سعوا في فتنة أهل الإسلام في عهد الإمام أحمد رحمه الله، ففتنوا الناس وقالوا: ليس لله كلام يتصف به، إنما كلامه شيء خلقه، فهو من باب إضافة الخلق، لا من باب إضافة الصفات، وقد رد الله بدعتهم، وثبت الله عز وجل الأمة بثبات الإمام أحمد، وظهرت السنة، وانقمعت البدعة ولله الحمد. الفريق الثاني ممن ضل في هذه الصفة: الأشاعرة الذين يثبتون أن لله كلاماً، لكنهم يقولون: إن كلامه ليس بحرف وصوت، وإنما كلامه كلام نفساني، يعني: كلاماً معنوياً لا يتبين منه شيء، ولا يعرف منه شيء بلفظ أو بحرف، إنما هو أمر في نفس الله عز وجل، وتصور هذا القول يكفي في رده، كما أن معرفة كلام العرب يكفي في رده، فضلاً عن تواتر الأدلة في الكتاب والسنة، وإجماع السلف على أنه سبحانه وتعالى متصف بالكلام، وأنه يتكلم جل وعلا بحرف وصوت، فإن تكليمه لموسى إنما كان بكلام مفهوم، وهؤلاء لا يفهمون إلا الكلام الذي يكون بحرف وصوت، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في الكلام الذي يأتي في هذه الرسالة عن القرآن. فإن الذين ينكرون رسالة الرسل إما أن ينكروا أن يبعث الله إلى الناس رسولاً بشراً منه، وإما أن ينكروا أن يكون الذي أتى به هو كلام الله، ويقولون: إن هو إلا قول البشر، فينفون أن يكون كلاماً له سبحانه وتعالى. ومن هنا كان الإلحاد في هذه الصفة له خطورة متميزة عن غيرها من الصفات. ثم ذكر المؤلف رحمه الله بعد ثبوت اتصاف الله عز وجل بهذه الصفة في هذه الآيات ذكر الآيات الدالة على أن كلامه بصوت وحرف فقال: [وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم:52] ، وقوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10] ، وقوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا} [الأعراف:22] ، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62] ، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]] . هذه الآيات كلها فيها إثبات النداء لله سبحانه وتعالى، وإنما أتى بها المصنف رحمه الله لأن النداء في لغة العرب لا يكون إلا لما كان بحرف وصوت، فهو أراد بهذه الأدلة إبطال مذهب الأشاعرة الذين يقولون: إن كلامه كلام نفساني ليس بحرف وصوت، فالنداء لا تعرفه العرب إلا للنداء الذي يكون بصوت رفيع ويكون بصوت وحرف، ولا يلزم من هذا أي لازم باطل، بل إثباته كسائر صفات الله عز وجل هو من كماله سبحانه وتعالى؛ لأنه إنما اتصف بالصفات العليا الكاملة المنتهية في الحسن والكمال، ونداؤه سبحانه وتعالى لموسى، ونداؤه لآدم وحواء ونداؤه يوم القيامة إنما هو بكلام له حرف وصوت، وليس نداءً نفسانياً كما يزعمه أهل الكلام، والنداء قد أثبته الله عز وجل لنفسه في كتابه في أكثر من عشرين موضعاً، ويأتي إن شاء الله تعالى تقرير أن كلامه بحرف وصوت فيما نستقبل. والله تعالى أعلم، وبالله التوفيق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الواسطية [11] من عقائد أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم بصوت وحرف متى شاء وكيفما شاء، وأن القرآن كلامه سبحانه وتعالى، أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يُرى يوم القيامة بالأبصار، وفي الجنة يراه المؤمنون ويزورونه، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة نزولاً يليق بجلاله فينادي: (من يدعوني فأستجيب له، إلخ) . وأن من صفاته الفرح والعجب والضحك، وهذه صفات لا نعلم كيفيتها ولا كنهها، وإنما علينا التسليم والقبول دون التعرض لشيء من الكيفيات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 1 عقيدة أهل السنة والجماعة في كلام الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: يقول المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وقوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75] ، وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح:15] ، وقوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف:27] ، وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76] ، وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:92] ، وقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] ، وقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:101-103]] . هذه الآيات كلها في إثبات أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، وقد نوع الشيخ رحمه الله الأدلة الدالة على أن القرآن كلام الله، وهذا الذي عليه سلف الأمة وجمهورهم، فإن عقيدة أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، دل على ذلك فيما ذكره المؤلف إضافة الكلام إليه سبحانه وتعالى، وما يضاف إليه إما أن يكون عيناً مستقلة، فهذه تكون إما إضافة خلق أو إضافة تشريف، من ذلك قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:56] ، الأرض عين مستقلة قائمة بذاتها، فإضافتها إليه سبحانه وتعالى إضافة خلق أو إضافة تشريف؟! يعني: أرضي التي تقام فيها العبادة، فتكون الإضافة تشريفاً، ومنه أيضاً (ناقة الله) فإن إضافة الناقة إلى الله عز وجل إضافة تشريف، وكذلك قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] ، فالإضافة هنا إضافة تشريف، فهذه إضافة الأعيان القائمة بذاتها. أما إضافة الأوصاف، أي: المعاني التي لا تقوم بذاتها، بل لا تقوم إلا بغيرها، فإن أضيفت إلى الله عز وجل فهي إضافة أوصاف، ومن ذلك الكلام، فإن الكلام لا يقوم بذاته، ولابد أن يقوم بشيء، فلما أضافه إليه سبحانه وتعالى دل على أنه صفته، وسيأتي تقرير هذا إن شاء الله تعالى في كلام الشيخ. والمهم في ذلك أن الشيخ رحمه الله استدل على أن الكلام صفة من صفات الله عز وجل بإضافة الله عز وجل الكلام إليه في قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وكذلك: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة:75] ، وكذلك: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] ، وكذلك: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف:27] ، كل هذا يدل على أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى. وكذلك استدل على أنه كلامه بأنه قرآنه، والقرآن هو المقروء، والمقروء لا يكون إلا بلفظ، ولا يكون إلا كلاماً: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76] ، فالقراءة لا تكون إلا بكلام. وكذلك استدل على أن القرآن كلامه سبحانه وتعالى بإنزاله، فكل آية أخبر الله سبحانه وتعالى فيها أنه أنزل الكتاب أو أنزل القرآن فإنه يدل على أنه كلامه سبحانه وتعالى من عنده، كقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:92] ، وقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر:21] ، وقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:101-102] ، كل هذا يدل على أنه كلام رب العالمين سبحانه وتعالى. وسيأتي تفصيل عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن وبيان بطلان عقائد المنحرفين في ذلك في كلام الشيخ رحمه الله في الفصول القادمة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 2 رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة قال: [وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وقوله: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] ، وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]] . هذه الآيات فيها إثبات رؤية الله عز وجل، ورؤية الله سبحانه وتعالى يثبتها أهل السنة والجماعة بما دل عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة، وسيأتي في كلام الشيخ رحمه الله تفصيل الرؤية، ونرجئ الكلام على هذه الصفة عند مجيئها في كلامه رحمه الله. ثم قال في آخر ما ساقه من الآيات: [وهذا الباب في كتاب الله كثير، من تدبر القرآن طالباً للهدى منه تبين له طريق الحق] . المشار إليه في قوله: (وهذا الباب) ، هو باب أسماء الله وصفاته، وأنه سبحانه وتعالى جمع فيما سمى بما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات كثيراً، بل لا تكاد سورة أو آية من كلام الله عز وجل إلا وتدل على شيء من صفاته؛ لأن القرآن إنما جاء لله معرفاً، وإليه داعياً، فلم تخل سورة من صفاته الدالة عليه سبحانه وتعالى، وإنما ساق المؤلف رحمه الله نماذج لما في كتاب الله عز وجل من الصفات. قال: (من تدبر القرآن) التدبر هو النظر بتأمل وتفكر، من تدبر القرآن، أي: نظر فيه نظر تأمل وتفكر، لكن انظر إلى القيد الذي ذكره: (طالباً للهدى منه) يعني: تفكر وتأمل للاهتداء به لا للتشغيب، ولا لإبطال الحق، ولا للتشبيه والتشكيك، ولا لطلب الاستدلال للأقوال الضعيفة التي اعتقدها قبل أن يرد كتاب الله عز وجل وينظر فيه. والهدى: هو العلم النافع والعمل الصالح. (تبين له طريق الحق) فجعل المؤلف رحمه الله النتيجة هي تبين طريق الحق، وهي مرتبة على أمرين: الأول: النظر إلى كتاب الله عز وجل بتدبر. الثاني: أن يكون نظره طلباً للحق لا انتصاراً للنفس، ولا غير ذلك من المقاصد التي قد يقصدها الناظرون في كتاب الله، لابد من هذين القصدين ليتحقق المطلوب، أن يكون مقصوده بالتدبر التوصل إلى الهدى والحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم التدبر لكتابه طلباً للهدى والحق، وأن يجعلنا من أهل الحق العاملين به الداعين إليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وبهذا نكون قد انتهينا من القسم الذي ذكر فيه آيات الصفات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 أسماء الله وصفاته في سنة النبي صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله: [فصل ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالسنة تفسر القرآن، وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه، وما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم به ربه عز وجل من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك] . فهذا هو الفصل الذي اختصه المؤلف رحمه الله بذكر الأحاديث التي فيها إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى، وقد تقدم في أول هذه الرسالة أن أهل السنة والجماعة يثبتون ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله، وما أثبته لنفسه هو ما تضمنه كتابه المجيد، وما أثبته له رسوله هو ما تضمنته السنة من الأحاديث الكثيرة، التي بينت وفصلت ووضحت صفات الله جل وعلا، فالسنة تفسر القرآن، وتفسيرها للقرآن بتوضيح معانيه، وكشف المراد منه، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب المبين على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل بيان ما تضمنه الكتاب إليه صلى الله عليه وآله وسلم، فبيان القرآن في الأحكام والأخبار راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] ، والذكر: هو الذكر الحكيم وكتاب الله المبين، فأنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله ليبينه للناس. والذكر الحكيم والكتاب المبين اشتمل على الأحكام والأخبار، وبيان النبي صلى الله عليه وسلم كان للأمرين الأحكام والأخبار. فالسنة تفسر القرآن، وتكشف معانيه وتبينه، وتدل عليه وتعبر عنه، فهذا ما أجمع عليه سلف الأمة، وهذا ما تميز به أهل السنة والجماعة عن غيرهم من الفرق والطوائف، فإن الفرق افترقت في دلالة السنة على ما وصف الله به نفسه، فمنهم من لم يقبل من السنة شيئاً، واقتصر على إثبات ما دل عليه الكتاب. ومنهم من قبل شيئاً، ورد شيئاً كالصفات الواردة في أحاديث الآحاد. ومنهم من تسلط بالتحريف والتأويل الباطل المذموم على الكتاب والسنة. وأهل السنة والجماعة جروا في الكتاب وفي السنة على سنة واضحة، وطريقة ثابتة، وهي: إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. قال رحمه الله: (وما وصف الرسول به ربه عز وجل من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك) ولا إشكال في أنه يجب الإيمان بما صح مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل؛ لأنه خبر صدق، وخبر من لا ينطق عن الهوى، فوجب الإيمان به والتسليم له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه) فأوتي النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ومثله وهو السنة، وهي الحكمة التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم. لكن مما تفترق به السنة عن القرآن أنه لابد في السنة من النظر إلى طريق الثبوت؛ ولذلك قال رحمه الله: (وما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم به ربه عز وجل من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول) . فلابد فيما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن ينظر في سند ذلك، فإن صح السند فإنها مقبولة، وإن كان السند مردوداً لضعف أو نحوه فإنه لا يثبت به حكم ولا خبر، والخبر حكم في الحقيقة؛ لأنك تحكم بأن الله سبحانه وتعالى متصف بكذا، أو لم يتصف بكذا، فالباب واحد. فلابد من النظر في سند ما ورد، فإن صح السند قبل، وإن لم يصح السند فهو مردود. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 إثبات النزول الإلهي إلى سماء الدنيا قال رحمه الله: [فمن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) ، متفق عليه] . هذا الحديث فيه إثبات صفة نزول الرب سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا، والنزول صفة فعلية يثبتها أهل السنة والجماعة لله سبحانه وتعالى على الوجه اللائق به، ولا يلزم من إثبات ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله اللوازم الباطلة التي يذكرها المبطلون المحرفون للكلم عن مواضعه، فإنه يجب الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من فعله أو فعل غيره، مما يتعلق به أو مما يتعلق بغيره كما تقدم ذلك في صفة القدرة، فمن أنكر الصفات الفعلية وقال: إن إثباتها يقتضي قيام الحوادث، فإنه رد ما أجمعت عليه الأمة، واتفق عليه سلفها الصالح من إثبات أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وهو ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فإثبات النزول لله سبحانه وتعالى لا يلزم عليه اللوازم الباطلة التي أوردها المتكلمون، فقالوا: إن أثبتنا النزول اقتضى التنقل والحركة، واقتضى أنه ينتقل من مكان إلى مكان، ويتحول من محل إلى محل، كل هذه لوازم باطلة يجب على المؤمن أن يعرض عنها، وأن يضرب عنها صفحاً، وألا يهتم بها، وألا ترد له على بال، بل يجب أن يثبت ما أثبته الله لنفسه، ثم ليعلم أنه لا يلزم على خبر الله أو خبر رسوله نقص بوجه من الوجوه، فكل لوازم الحق حق يجب إثباته. فهذا الحديث أخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الرب جل وعلا أنه ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، فهذا نزول ثابت كل ليلة. (حين يبقى ثلث الليل الآخر) وهذا بيان لوقت النزول الإلهي. فيقول: (من يدعوني؟) ومن القائل؟ الله سبحانه وتعالى الذي أضيف إليه النزول، فالقول مضاف إليه. (من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) جوداً وكرماً، براً وإحساناً، ولطفاً منه جل وعلا بعباده، ينزل يعرض رحمته وبره وإحسانه على عباده، ولا تقل: كيف ينزل؟ فالجواب: الكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، وهذا جار في كل ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله لا نحيط بالكيفيات علماً كما قال جل وعلا: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] ، وذلك المنفي عن غير الله من العلم هو علم الكيفيات. فلا تسأل عن (كيف) ، ولا تقل: إن الليل يتنقل، فيلزم منه أن يكون الله نازلاً إلى السماء الدنيا كل الوقت؛ لأن ثلث الليل يتنقل، هذا كلام فارغ، هذا كلام من لم يقدر الله حق قدره، نحن لم نعلم كيفية الصفات حتى نثبت هذه اللوازم. نثبت ما أثبته الله لنفسه، ولا نتعرض بعقول كليلة لا تصل إلى منتهى ما وصف الله سبحانه وتعالى به من الكمال في الكيفيات والهيئات والصور، فإن ذلك محجوب عنا لا ندركه، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] ، {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255] ، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، كل هذا ينبغي أن تستحضره، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . فإذا كان المؤمن قد شحن قلبه وملأه بهذه النصوص التي تثمر تعظيم الله وقدره حق قدره انجلت عنه هذه الشبهات، وزالت عنه هذه الوساوس، ولم يبق إلا في دائرة إثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله على وجه الكمال، وأنه لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وعلى هذا فالبحث الذي يذكره بعض أهل العلم، هل يخلو العرش من الرب إذا نزل أو لا؟ نقول: هل سأل عن هذا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لم يسألوا؛ ولذلك نسكت عما سكتوا عنه، ولا نخوض في هذه المسائل؛ ولذلك لما قال السري السقطي لـ حماد بن زيد أحد أئمة السلف: لا أؤمن بإله يتحول من مكان إلى مكان، قال مجيباً عنه إجابة العالم الراسخ: أؤمن برب يفعل ما يشاء. وهذا من كمال تعظيم الله عز وجل. فالإنسان يثبت ما أثبته الله عز وجل لنفسه دون أن يلج في هذه المضايق التي إنما جاءت من المشبهين المبطلين الذين يريدون إبطال ما دلت عليه النصوص، وتصوير الرب سبحانه وتعالى بما يعرف للمخلوق، وأن كيفية فعله ككيفية فعل المخلوق، ثم يضطر الإنسان إذا كان كذلك أن يقول: أعطل النزول، والنزول هنا معناه نزول الملك، أو نزول الأمر، وما أشبه ذلك. فهم أولوا النزول هنا بأنه نزول ملك إلى السماء الدنيا أو نزول أمره سبحانه وتعالى أما هو فلا. ونحن نقول: ما أضافه الله لنفسه من الأفعال فإنه له سبحانه وتعالى، لا نضيفه إلى غيره، ولا يمكن أن يقال: إن الملك أو الأمر ينادي فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ من يسألني فأعطيه؟ هذا لا يكون إلا من رب العالمين، ولا يجوز أن يسأل الملك حتى يقال: إن النازل هو ملك من الملائكة، كل هذه تحريفات وتأويلات باطلة، يكفي في ردها وإبطالها تصورها، فإن الإنسان إذا تصور القول على حقيقته تبين له بطلانه؛ لأن كل ما خالف الحق فإنه لا يقوى على الثبات، كما قال الله جل وعلا: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] ، وقال: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81] . هذه أوصاف ثابتة للباطل، وكلما خالف الكتاب والسنة فهو باطل. إذاًَ: هذا الحديث فيه إثبات هذه الصفة الفعلية الاختيارية لرب العالمين وهي: النزول إلى السماء الدنيا، والنزول ليس لكل أحد، إنما هو نزول لمن يدعو ويستغفر ويسأل رب العالمين، وهذا مما استدل به أهل العلم على أن قرب الله سبحانه وتعالى ليس عاماً لكل أحد، إنما هو قرب من الداعي العابد المصلي، وليس قرباً لكل أحد. فنثبت هذا النزول لله سبحانه وتعالى صفة لائقة به جل وعلا، بلا تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 إثبات أن الله يفرح ويضحك ويعجب [وقوله صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن التائب من أحدكم براحلته) متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة) متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب) حديث حسن] . هذه الأحاديث الثلاثة فيها إثبات صفة الفرح والضحك والعجب لله سبحانه وتعالى، وكلها صفات فعلية اختيارية، أما الضحك فإنه قد جاء من طرق كثيرة بلغت حد التواتر، فثبوته مستفيض في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صفة كمال؛ لأن الضحك في موضعه صفة كمال، وكل كمال اتصف به المخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق أولى به، وهذا الدليل يسميه أهل العلم قياس الأولى. فإذا كنا نقر بأن الضحك كمال في موضعه، يعني: عند وجوب موجب الضحك فإننا نثبته لله سبحانه وتعالى عقلاً كما أنه ثابت بالنص، فالنص قد أثبته في أحاديث كثيرة متواترة كما تقدم، وهذا منها. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدها الآخر كلاهما يدخل الجنة) فهذا فيه إثبات هذه الصفة لله سبحانه وتعالى، ولا يلزم عليها أي نقص في حقه سبحانه وتعالى. والمؤولون المعطلون المحرفون للكلم عن مواضعه قالوا: إن الضحك خفة في الروح ناتجة عن حصول ما ينفع أو اندفاع ما يضر، هذا معنى الضحك عندهم، وإذا كان كذلك فإنه منتفٍ عن الرب، فالرب لا يضحك، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يضحك الله إلى رجلين) وهؤلاء يقولون: الله جل وعلا لا يضحك؛ لأن الضحك خفة، والله منزه عنها! نقول: أنتم عرفتم الضحك بالنسبة للمخلوق، أما الخالق: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، يجب إثبات ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم لربه، وإلا فإننا لم نسلم له صلى الله عليه وسلم القياس، ولم نؤمن به حق الإيمان؛ لأن مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله تصديقه فيما أخبر، وهو يخبرنا بأن الله يضحك، وهؤلاء المحرفون يقولون: لا يضحك، هل يستقيم هذا في العقل؟ وهل يكون هذا ممن عظم الله حق تعظيمه؟ وامتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ المهم أن هؤلاء أنكروا الضحك، فلما ورد الضحك في السنة النبوية في مواضع كثيرة فإنه يحتاج عندهم إلى التحريف والتأويل، فقالوا: الضحك هو إبانة الفضل، والضحك: هو إرادة الثواب والإحسان، والضحك: الإخبار بالرضا عن الفعل، كل هذا فراراً من إثبات ما أثبته الله لنفسه، وكل هذه المعاني تفسير للضحك بلازمه، ونحن لا ننكر اللازم، فهو معنىً صحيح ثابت، لكن هل تثبتون لله هذا الوصف؟ يقولون: لا. نقول: إذاًَ: لم تؤمنوا بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نثبت هذا الوصف لله، ونقول: إن الله يضحك وهو موصوف بالضحك جل وعلا، لكن لا يلزم من ذلك مماثلة المخلوقين. ثم إن من لازم ضحكه جل وعلا رضاه وإثابته، وما إلى ذلك من المعاني الأخرى التي تثبت بثبوت هذه الصفة. أول ما بدأ به المؤلف رحمه الله من الصفات صفة الفرح، وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم براحلته) ، وهذا فيه إثبات صفة الفرح لله سبحانه وتعالى، وفرحه بتوبة العبد من كمال جوده وإحسانه وبره ورحمته بعبده، حيث يفرح بالتوبة وهو الذي وفقه إليها. والمنتفع من التوبة من؟ العبد نفسه! فإنه قد قال سبحانه وتعالى: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) كما في الحديث الإلهي حديث أبي ذر. فالمنتفع العبد لكن الله جل وعلا جوداً منه وكرماً وبراً وإحساناً ولطفاً يفرح بتوبة عبده، فالفرح صفة فعلية اختيارية للرب جل وعلا، ثبت وصف الله بها في أحاديث متعددة، وتلقاها أهل السنة بالقبول، وأثبتوها للرب سبحانه وتعالى. المحرفون المبطلون قالوا: الله لا يفرح ولا يوصف بالفرح؛ لأن الفرح لذة تقع في القلب بإرادة المحبوب ونيل المشتهى، هكذا زعموا. قيل لهم: إذا كان هذا في حق المخلوق فالخالق ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهم لهم عدة شبه، ونحن عندما نذكر بعض شبههم في إبطالهم ما أثبته الله لنفسه، ليس ما نذكره حصراً لشبههم في إبطال ما وردت به النصوص من إثبات الصفات الفعلية للرب سبحانه وتعالى. والجواب على هذه الشبهة الباطلة أن يقال: نثبت الفرح من غير أي لازم باطل، كما أثبته سبحانه وتعالى لنفسه، ونجري فيه كما جرينا في غيرها من الصفات من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. ثالث ما ذكره المؤلف رحمه الله: الحديث الذي فيه إثبات العجب لله سبحانه وتعالى: (عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره -يعني: وقرب تغييره سبحانه وتعالى مثل تغييره القحط إلى الخصب، ومنع القطر إلى إدراره- ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب) فأثبت هنا وصفين: وصف العجب، ووصف الضحك. أما الضحك فقد ذكرنا أنه ثابت بأحاديث متواترة. أما العجب فقد جاء في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] في قراءة حمزة، والكسائي، وخلف، والباقون قرءوا (بل عجبتَ ويسخرون) ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أما بالضم فهو مضاف إلى الله سبحانه وتعالى، فالتاء في (عجبت) ضمير الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى. والعجب وصف كمال له سبحانه وتعالى، نثبته كما أثبته الله لنفسه في كتابه على هذه القراءة، وكما أثبتته السنة في أحاديث متعددة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 الجواب على منكري صفة العجب عن الله تعالى والعجب من الصفات الفعلية الاختيارية التي تقتضي الرضا والإثابة وعظيم الأجر لمن تعجب منه سبحانه وتعالى، واعلم أنهم نفوا العجب عنه سبحانه وتعالى، وقالوا: لأن العجب جهل بالسبب، فالعجب يكون من الجهل بأسباب الشيء، والله سبحانه وتعالى ليس جاهلاً بشيء، بل هو سبحانه وتعالى العليم الخبير. فالجواب على هذه الشبهة أن يقال: العجب له أسباب، منه ما يكون ناشئاً عن جهل من المتعجب، وهذا ينزه عنه الرب سبحانه وتعالى، ومنه ما يكون لا عن جهل بل عن تعظيم للمتعجب منه لخروجه عن نظائره وأمثاله، فالشيء إذا خرج عن نظائره وأمثاله يتعجب منه ولو علم السبب وعرف، وهذا هو المعنى الثابت في عجبه سبحانه وتعالى، فالعجب المضاف إليه عجب يعظم فيه سبحانه وتعالى ما يشاء من عباده، ومن الأفعال والطاعات. فقوله: (عجب ربنا من قنوط عباده) هنا تعظيم لحال هؤلاء، وليس المراد أنه جهل بالسبب، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. والمحرفون المؤولون المبطلون قالوا: إن العجب هنا بمعنى الرضا. ثم نقول لهم: أنتم قد أولتم صفة الرضا وقلتم: الرضا هو إرادة الثواب، وكل صفة يحرفونها إلى صفة أخرى، وإذا نظرنا في الصفة التي يثبتونها حرفوها إلى صفة أخرى، وكل ذلك فراراً مما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه. وفي هذا أيضاً إثبات الضحك وهو صفة فعلية تقدم الكلام عليها، لكن انظر إلى الفارق بين هؤلاء وبين الصحابة الذين سلمت فطرهم، وزكت عقولهم، وسلمت قلوبهم من هذه التحريفات والتشبيهات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال هذا الحديث: (عجب ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين قنطين؛ فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب) قال أبو رزين العقيلي رضي الله عنه وهو من الأعراب: (أو يضحك ربنا يا رسول الله؟! قال: نعم، قال: لا عدمنا الخير من رب يضحك) فكيف استدل بهذه الصفة على كمال الرب وإحسانه وبره وجوده؟!! وهم يقولون: إن إثبات هذه الصفة يقتضي النقص. إنما النقص جاء من عقولهم الفاسدة، وقواعدهم المفترية، وظنونهم الكاذبة، وإلا لو أنهم سلموا للنصوص، وأخلصوا لله عز وجل في طلب الحق؛ لوفقوا إلى خير كثير، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الواسطية [12] علو الله عز وجل على خلقه من صفات الله عز وجل الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، فالله سبحانه وتعالى له العلو المطلق: علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القدر، وعلو القهر. فالواجب إثبات هذه الصفة لله عز وجل والإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تشبيه ولا تعطيل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1 إثبات صفة الرجل والقدم لله عز وجل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله -وفي رواية: عليها قدمه- فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط) متفق عليه] . هذا الحديث فيه إثبات صفة القدم والرجل لله سبحانه وتعالى، وهذه الأحاديث صواعق على رءوس المبطلين؛ لأنهم إما أن يردوها، وإما أن يجتهدوا في إبطال معناها، إما أن يردوها لفظاً ومعنىً، وإما أن يجتهدوا في إبطال معانيها بالتحريف والتأويل المذموم. أما أهل السنة والجماعة فهذه نصوص تزداد قلوبهم إيماناً بسماعها، ويقيناً بعظمة الرب، وتسبيحاً وتحميداً له سبحانه وتعالى. (لا تزال جهنم) (جهنم) هي: الدار التي أعدها الله عز وجل للكافرين، وهي النار، فجهنم اسم جنس للنار التي أعدها الله عز وجل للكافرين والعصاة المخالفين لأمره. (لا تزال جهنم يلقى فيها) أي: يرمى، و (لا تزال) المراد بذلك: أنها موصوفة بهذا الوصف، وهي لا تنقطع ولا تفارق هذا الوصف. (يلقى فيها وهي تقول) ، يعني: وحالها؛ لأن الواو هنا حالية، (وهي تقول: هل من مزيد؟) أي: تطلب الزيادة، وهذا الاستفهام استفهام طلبي، يعني: زدني زدني، وقال بعض أهل العلم: إن قول النار: هل من مزيد؟ استفهام استنكاري، أي: لا مزيد فيّ، لا مزيد فيّ، ولكن هذا ليس بصحيح، ولا يدل عليه اللفظ، بل الذي دل عليه اللفظ أنه استفهام طلبي؛ لطلب الزيادة من رب العالمين، ويدل على ذلك ما بعده حيث قال: (حتى يضع رب العزة فيها رجله) يضع رب العزة، وفي رواية: (حتى يضع رب العالمين -الله جل وعلا- فيها رجله) والرجل في كلام العرب تنصرف إلى الجارحة المعروفة بالنسبة لنا، أما بالنسبة للخالق جل وعلا فنثبت هذا المعنى له، لكن لا نملك أن نعرف كيفية ذلك، ولم نكلف بمعرفة كيفية ذلك، بل نثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات من دون تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وفي الرواية الثانية: (عليها قدمه) أي: يضع عليها قدمه سبحانه وتعالى، ولا تقل: كيف؟ فإن الكيف أمره مؤصد مغلق، والكيف مجهول، وهذه القاعدة اجعلها معك في كل خبر عن الغيب، الكيف مجهول فيما يتعلق بالله عز وجل أو فيما يتعلق بما أخبر به مما يكون يوم القيامة، وبذلك تريح نفسك، وتسلم من كل وساوس الشياطين، ومن كل ما يلقيه شياطين الإنس من زخرف القول الذي يريدون به إبطال ما دلت عليه النصوص. وقوله: وفي رواية: (عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض) يعني: ينظم ويجتمع بعضها إلى بعض، فتقول: (قط قط) أي: كفاني كفاني، أو حسبي حسبي، وعند ذلك تكتفي من طلب الزيادة. وفي لفظ: (قط قط) ، جاءت رواية بالتسكين (قطْ قطْ) ، ورواية: بالكسر (قطِ قطِ) ، ورواية بالكسر مع الياء (قطي قطي) ، ورواية بالتنوين (قطٍ قطٍ) ، ورواية خامسة: (قطني قطني) ، كل هذا مما جاء في هذا اللفظ، والمعنى في الجميع واحد، وهو حسبي حسبي أو كفاني كفاني. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 2 موقف أهل التحريف والتعطيل من إثبات صفة الرجل والقدم، والرد عليهم أما أهل التحريف وأهل التعطيل فقالوا: إن معنى الرجل هنا هو الجماعة من الناس، ومن أين أتوا بهذا المعنى؟ قالوا: إن الرجل يطلق على الجماعة من الجراد، كما أنك تقول لجماعة الطير: سرب، فتقول لجماعة الجراد: رجل، فيكون معنى: (حتى يضع رب العزة فيها رجله) أي: جماعة من الناس يتهافتون في النار كتهافت الجراد على النار. فنقول: هذا المعنى -أيها المحرفون- من سبقكم إليه من سلف الأمة؟ أعطونا واحداً من الصحابة أو من التابعين أو من تابعيهم من أئمة السلف قال بهذا القول، قالوا: اللغة دلت على هذا، فنقول: لا بأس، هذا المعنى قد يكون موجوداً في اللغة، لكن نحن نتلقى السنة لفظاً ومعنىً عن الصحابة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنزل عليه القرآن وأنزل عليه الذكر ليبينه للناس، فهو قد بلغ لفظه ومعناه، والله سبحانه وتعالى حفظ للأمة الألفاظ والمعاني فقال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، والحفظ ليس فقط حفظ اللفظ إنما حفظ اللفظ والمعنى؛ ولذلك ما تلقته الأمة بالقبول عن الرسول صلى الله عليه وسلم من المعاني الظاهرة لا يجوز الانصراف عنه إلى مثل هذه الإرادات الواهية. فنقول: الرجل معلومة عند العرب، وما ذكرتموه استعارة وتشبيه، والأصل في الكلام هو الحقيقة لا المجاز. وقوله: (حتى يضع رب العزة عليها قدمه) ، قالوا: القدم هو: اسم لمن قدمهم الله عز وجل في النار، فيكون واقعاً على الجماعة، وقالوا أيضاً: القدم: هم اسم لمن تقدم في علم الله أنهم من أهل النار. كل هذا -يا إخوة- تحريف وفرار مما دلت عليه النصوص وسلم له صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقته الأمة بالقبول، ولو أنهم اكتفوا بالنصوص، وعدلوا عن هذا الانحراف وعن هذه الشبه لسلموا ولسلكوا طريق أهل السنة والجماعة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 إثبات صفة الكلام لله عز وجل قال المؤلف رحمه الله: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (يقول تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان) ] . هذان الحديثان من جملة ما مثل به المؤلف رحمه الله لأحاديث الصفات الواردة في سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهما يفيدان إثبات صفة الكلام للرب جل وعلا، وصفة الكلام صفة ذاتية فعلية كما تقدم، وهي: صفة يثبتها أهل السنة والجماعة بالكتاب والسنة والإجماع والعقل، وهي: صفة ثابتة لله عز وجل في جميع الشرائع؛ ولذلك التحريف فيها وإنكارها مما يقدح في الإيمان بالرسل؛ لأن جميع الأنبياء أخبروا بذلك، وهم مجمعون على أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بحرف وصوت، كما سيأتي بيانه. والحديث الأول: فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى) والقول يدل على اتصافه سبحانه وتعالى بالكلام، وهذا النوع من الأحاديث يسمى بـ (الحديث القدسي) ، وهذا التعبير هو المشهور، وهو الاصطلاح المعروف عند كثير من أهل العلم، فالأحاديث المصدرة بقوله: قال الله تعالى، أو التي فيها: قال الله تعالى هي أحاديث قدسية، وشيخ الإسلام رحمه الله يسميها (الأحاديث الإلهية) ، والفرق بين الحديث الإلهي والحديث النبوي أن الحديث الإلهي فيه خبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ربه، فهو خبر عن الله. وقد قال جمهور المحدثين: إن الحديث الإلهي -الحديث القدسي- لفظه من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومعناه من الله، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الحديث الإلهي لفظه ومعناه من الله، وهذا القول قوي، وهو الذي يستفاد من ظواهر الأحاديث، فإن نسبة القول إلى الله هي نسبة لفظ ومعنى، ولكن يفارق الحديث الإلهي -الحديث القدسي- القرآن أن لفظه ليس بمعجز، وأنه لا يتعبد بقراءته، فليس كل حرف فيه بعشر حسنات كما ورد ذلك في القرآن، وأنه لا يشترط في مسه الطهارة لا الصغرى ولا الكبرى، فلو أن كتاباً تضمن الأحاديث الإلهية -الأحاديث القدسية- فلا يشترط للمسه ومطالعته أن يكون الإنسان على طهارة، هذا هو الصحيح، وبهذا يتميز الحديث الإلهي -الحديث القدسي- عن القرآن فيقال: إن لفظه ومعناه من الله جل وعلا هذا الأصل، وأن ما يثبت للمصحف من أحكام فهو غير ثابت للحديث الإلهي. فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى) هذا فيه إثبات أن الله جل وعلا يتكلم؛ لأن القول الأصل فيه لا يكون إلا على ما ظهر وتبين من اللفظ، وأما ما يدور في الخاطر فإنه قد يصح أن يقال: إنه قول، لكن لابد من تقييده. فلا يرد القول مطلقاً ويراد به حديث النفس، وإنما إذا أريد بالقول ما يدور في الخاطر وما يجول في الضمير والقلب فلابد من تقييده، فيقال: قول القلب أو قول النفس أو قالت نفسي، أما إذا ورد القول مطلقاً فإنه لا ينصرف إلا على القول الذي يتبين ويظهر بحرف وصوت. قوله: (يقول الله تعالى: يا آدم!) هذا فيه خطاب لأبي البشر آدم عليه السلام، وآدم إنما يعقل كلاماً بحرف وصوت، وليس المراد كلاماً معنوياً كما تقول الأشاعرة ومثبتة الصفات. (فيقول -أي: آدم عليه السلام-: لبيك وسعديك) . (لبيك وسعديك) هذان مصدران لا مفرد لهما من لفظيهما، ومعنى (لبيك) أي: أقمت على طاعتك وإجابتك، إقامة بعد إقامة، وإجابة بعد إجابة، والتثنية للتكثيف، كقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:4] ، فإن التثنية في كلام العرب ترد ويراد بها مطلق التكثيف لا العدد نفسه. وكذلك (سعديك) معناها: إسعاد بعد إسعاد، يعني: إعانة بعد إعانة، فهو يطلب من الله عز وجل العون والإسعاد على ما هو بصدده. (فينادي -والمنادي هو الله جل وعلا- بصوت) ، وهذا لفظ نبوي فيه إثبات النداء بصوت، وقوله: (بصوت) هذا تأكيد للنداء، وإلا فإن أهل اللغة مجمعون على أنه لا يكون نداء إلا بصوت رفيع؛ ولذلك لا حاجة إلى أن نقول: الذي يدل على إثبات الصوت هو قوله: (بصوت) ولا شك أنه إثبات ومستند، ولكن نقول: لو لم يرد إلا النداء مستقلاً لأفاد إثبات الصوت لكلامه سبحانه وتعالى، وقد ورد النداء في القرآن في أكثر من عشرين موضعاً كما تقدم في الآيات. (فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) قد يقول قائل: إن المنادي هنا غير الله بقرينة قوله: (إن الله يأمرك) ولكن هذا مصروف ومردود بأن يقال: إن ذكر لفظ الجلالة وذكر اسم الله سبحانه وتعالى في الأمر يكون لتأكيد الأمر ولزومه وإثباته. (فينادي -الفعل مضاف إلى الله عز وجل لأنه لم يذكر غيره في السياق- بصوت: إن الله يأمرك) تأكيداً للأمر، فذكر لفظ الجلالة -اسم الله سبحانه وتعالى- في ثنايا الأمر تأكيداً له وإلزاماً به. (إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) -نعوذ بالله منها- وهذا يثبت هذه الصفة لله عز وجل في موضعين: الأول: في قوله: (يقول الله تعالى) . والثاني: في قوله: (فينادي بصوت) . قال: (وقوله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه)) . (ما) نافية تفيد العموم، والكاف في قوله: (منكم) كاف الخطاب، فمن المخاطب؟ قيل: المخاطب هم أهل الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب الصحابة. وقيل: إن المخاطب هو جنس الإنسان، فكلٌ سيكلمه الله سبحانه وتعالى من كافر ومسلم: (ما منكم من أحد) وأكد العموم بـ (من) التي هي نص في العموم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه) ، والكلام إنما يفهم ويعرف باللفظ، فليس الكلام هنا كلاماً معنوياً كما تقول الأشاعرة، إنما هو كلام بحرف وصوت، وهذا الكلام قد وقِّت بظرف وهو يوم البعث، فدل ذلك على أنه كلام متعلق بمشيئته وإرادته. وهذا يدل على أن صفة الكلام صفة ذاتية فعلية، فهي ذاتية باعتبار أصل اتصاف الله عز وجل بهذه الصفة، فإنه لم يزل ولا يزال متصفاً بهذه الصفة، وفعلية باعتبار أفراد ما يتكلم به جل وعلا، فتكليمه للعباد يوم البعث متعلق بمشيئته، وهذا دليل على أن الكلام صفة فعلية، كما أنه صفة ذاتية له سبحانه وتعالى. قوله: (سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) الترجمان هو: المفسر، أي: ليس بينه وبين الله عز وجل مفسر يبين الكلام ويوضحه، وهذا النفي فائدته تحقق التكليف، وأنه من الله مباشرة، ليس هناك بينه وبينه وسيط، هذا فائدة التأكيد في قوله: (ليس بينه وبينه ترجمان) ، وهذا فيه إثبات صفة الكلام لله عز وجل، وسيأتي مزيد بحث في هذه الصفة في كلام المصنف رحمه الله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه قال المؤلف رحمه الله: [وقوله صلى الله عليه وسلم في رقية المريض: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا الوجع؛ فيبرأ) حديث حسن، رواه أبو داود وغيره. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟) حديث صحيح. وقوله صلى الله عليه وسلم: (والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) حديث حسن، رواه أبو داود وغيره. وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: اعتقها فإنها مؤمنة) رواه مسلم] . هذه الأحاديث فيها إثبات علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، وقد تقدمت الآيات الدالة على علو الله جل وعلا على على خلقه، وأنه على كل شيء سبحانه وتعالى، وهذه الصفة تقدم ذكر أدلتها، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة. والإجماع هنا ليس إجماع أهل القبلة، وإنما الإجماع هنا إجماع الخلق مسلمهم وكافرهم، فالناس مفطورة قلوبهم على أن ربهم جل وعلا في العلو. قال رحمه الله: (وقوله صلى الله عليه وسلم في رقية المريض) يعني: فيما يقرأ على المريض طلباً للشفاء: (ربنا الذي في السماء تقدس اسمك) ، هذا توسل لله سبحانه وتعالى، فيتوسل العبد لربه جل وعلا بوصفه الذي تفرد به، وهو أنه جل وعلا فوق كل شيء. (ربنا الذي في السماء) والسماء هنا اسم جنس للعالي، أي: الذي في العلو، وإذا كانت السماء هنا المراد بها اسم جنس لما خلقه الله من السموات السبع، ففي بمعنى: على، يعني: ربنا الذي على السماء، وكلا المعنيين صحيح. (تقدس اسمك) (تقدس) أي: تنزه، وهذا معنى قوله تعالى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] فإن تسبيح اسم الله جل وعلا هو تنزيهه، والمراد: تنزهت أسماؤه سبحانه وتعالى جميعها؛ لأن الاسم هنا مفرد مضاف، فيعم كل اسم له سبحانه وتعالى، وتقديس اسم الله عز وجل تقديس للمسمى؛ لأن الأسماء تدل على المسمى، أي: أسماء الله سبحانه وتعالى تدل عليه جل وعلا. ((أمرك في السماء والأرض)) (أمرك) أي: لك كامل التصرف، (في السماء والأرض) فيشمل الأمر الكوني والأمر الشرعي. قوله: ((كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض)) رحمة الله عز وجل في السماء، وهي في الأرض أيضاً، وسع ربنا كل شيء رحمة وعلماً، فرحمته وسعت كل شيء، وإنما توسل إلى الله عز وجل بصفته التي في السماء؛ لأنها محل الرحمة، فالجنة التي وعدها المتقون في السماء كما قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] ، فتوسل إلى ربه بأن الرحمة التي جعلها في السماء أن ينزل منها شيئاً إلى الأرض، والرحمة هنا هل هي صفته أو خلقه؟ الجواب: الرحمة هنا خلقه؛ لأن الرحمة تارة يراد به الصفة، وتارة يراد به متعلقها وهو أثرها كما تقدم ذلك في بيان الآيات التي تكلمنا فيها على صفة الرحمة. قوله: ((اغفر لنا حوبنا وخطايانا)) الحوب: هو الإثم، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء:2] أي: إثماً كبيراً، فالحوب في اللغة هو الإثم، فقوله: (اغفر لنا حوبنا) أي: إثمنا، (وخطايانا) ، وهذا ليس بغريب أن يذكر الذنب باسمين؛ لأن مقام الاستغفار مقام إطناب وتفصيل، ومن المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم اغفر لي ذنبي كله: دقه وجله، صغيره وكبيره، علانيته وسره) ، فهذا الإطناب والتفصيل في مقام الاستغفار هو الذي جاءت به السنة، فالتكرار هنا طلباً للمغفرة لتشمل المغفرة كل ذنب كبيرٍ وصغير، فالحوب: هو الإثم الكبير، والخطايا تشمل الإثم الكبير والصغير. قال: (أنت رب الطيبين) ، وهذا توسل بربوبية الله عز وجل الخاصة. والله رب كل شيء كما قال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، لكن هنا توسل إليه سبحانه وتعالى بربوبيته الخاصة وهي ربوبيته جل وعلا للطيبين من عباده، والطيبين من الخلق سواءً من الإنس أو من الجن أو من الملائكة أو من غيرهم من خلق الله جل وعلا. قوله: (أنزل رحمة من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا الوجع -أي: المرض أو أنه يعني المريض- فيبرأ)) أي: فيسلم من هذا المرض. الشاهد في هذا الحديث في قوله: (ربنا الذي في السماء) هذا فيه إثبات العلو، وكذلك تؤخذ صفة العلو من قوله: (أنزل رحمة من رحمتك) فإن الإنزال مما يثبت به علوه سبحانه وتعالى، ولذلك استدل السلف على أن الله سبحانه وتعالى في السماء بما أخبر في كتابه من أنه أنزل القرآن الكريم والكتاب الحكيم، فالإنزال دليل على علوه؛ لأن الإنزال لا يكون إلا من علو إلى سفل. ثم قال: (وقوله: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟)) وهذا الحديث هو في الرد على الخوارج حيث أنهم اعترضوا على قسم النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في حديث ذي الخويصرة عبد الله التميمي، فإنه اعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (اعدل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: خبت وخسرت إن لم أعدل) يعني: إن لم تعتقد عدلي خبتَ بضمير المخاطب وهو أصح من خبتُ وخسرتُ لضمير الفاعل؛ لأن المراد بيان خسران من اعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعدل، وليس المراد أنه خاب وخسر -حاشاه- صلى الله عليه وسلم، وهو أمين من في السماء. ثم قال: (ألا تأمنوني -أي: في قسم ما يتعلق بالدنيا- وأنا أمين من في السماء؟) أي: فيما يتعلق بأحكام الشريعة والأخبار عنه سبحانه وتعالى. وقوله: (وأنا أمين) (أمين) فعيل، بمعنى: فاعل، ويصلح فعيل بمعنى: مفعول، ففعيل بمعنى: فاعل، أي: حافظ ما اؤتمنت عليه، وفعيل بمعنى: مفعول أي: مؤتمن، فهو مأمون من في السماء، أي: أمنه الله سبحانه وتعالى على وحيه وشرعه. (من في السماء) هذا هو الشاهد، والمراد بمن في السماء الله جل وعلا، والعجيب أن المؤولين المحرفين الذين لا يثبتون علو الله عز وجل يقولون: معنى: (أمين من في السماء) أي: أمين الملائكة؛ لأن الملائكة يأتمنونه! فيتركون الذي هو أعلى وخير إلى من هو دونه، وأيما أعظم في حق النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مؤتماً من الله أو من الملائكة؟! الجواب: من الله جل وعلا، فهم يفرون من إثبات علو الله عز وجل ويحملون هذا على الملائكة. المهم أن قوله: (من في السماء) المراد به الله عز وجل، وقوله: (من في السماء) أي: من على السماء هذا إذا كانت السماء المراد بها السموات السبع التي خلقها الله عز وجل، أو من في العلو إذا كان المراد بالسماء اسم جنس للعالي، وهذا نكرره حتى يثبت في الأذهان. ثم قال: (وقوله: (والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه)) وهذه قطعة من الحديث الذي أخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن حملة العرش وفيه قال: (والعرش فوق الماء) العرش هو: سرير الملك، وهو الذي استوى عليه الرب جل وعلا. (فوق الماء) هذا الماء الله أعلم به، ولم يخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء. (والله فوق العرش) أي: أنه سبحانه وتعالى استوى عليه وعلا عليه، وفوقيته على العرش فوقية خاصة؛ ولذلك أضاف سبحانه وتعالى الاستواء على العرش إليه في سبعة مواضع من كتابه كما قاله الشيخ رحمه الله فيما تقدم عند قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] . قوله: (وهو يعلم ما أنتم عليه) هذا فيه إثبات أن علوه لا ينافي إحاطته وعلمه بما عليه الخلق، فشأنه سبحانه وتعالى ليس كشأن الخلق، الخلق إذا كانوا في مكان غاب عنهم غيرهم، أما الرب جل وعلا فليس كمثله شيء، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى، ويعلم الجهر وأخفى، كما قال جل وعلا: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] . ثم قال: [وقوله -وما زال الحديث موصولاً في إثبات صفة علو الرب جل وعلا- صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟) ] هذا سؤال من النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم الناس بربه، وأعلم الخلق بربه، وأنصحهم للأمة، وأكملهم تنزيهاً، وأخشاهم لله سبحانه وتعالى، وأصدقهم قولاً، يسأل جارية ترعى الغنم فيقول لها: (أين الله؟) وهذا عند أهل التحريف والتأويل إحدى الكبر، فلا يجوز عندهم أن تسأل: أين الله؟ فإن السؤال عن أين الله من أكبر ما يرونه، ومن أعظم جرم يُقترف، مع أن هذا السؤال صادر من النبي صلى الله عليه وسلم! قوله: (أين الله؟ قالت: في السماء) وهذا فيه الخبر عن الله عز وجل بأنه في السماء، وقلنا لكم: إن (في السماء) معناها: جنس العالي، فيراد به (في العلو) فتكون (في) بمعنى (على) . قوله: (قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله) ، فلما أجابت بهذين الجوابين اللذين فيهما إثبات الكمال للرب جل وعلا، وإثبات الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينئذٍ لمولاها: (اعتقها فإنها مؤمنة) فأمره بإعتاقها لأنها مؤمنة، وهذا الوصف نستدل به على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجارية في خبرها عن الله عز وجل بأنه في السماء. وهؤلاء المحرفون دخلوا بعقولهم الكليلة وآرائهم الحسيرة في تأويل هذه النصوص، وقالوا: إن هذا الإيمان إيمان العوام، وإن النبي صلى الله عليه وسلم أجراها على ما تعلم لضعف عقلها، وما إلى ذلك من الكلام الفارغ الذي محصله ونهايته رد ما جاء عن النبي صلى الله عليه وس الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 شرح العقيدة الواسطية [13] من عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات معية الله سبحانه وتعالى لخلقه، وليس معنى هذا أنه سبحانه وتعالى في كل مكان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل هو مستو على عرشه بائن من خلقه، ومعيته لخلقه هي معية علم وإحاطة واطلاع، فلا تنافي بين العلو والمعية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 1 إثبات معية الله لخلقه وبيان أنها لا تنافي علوه فوق عرشه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث ما كنت) حديث حسن. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه) متفق عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب السماوات السبع والأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شرك كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر) رواه مسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم لما رفع أصحابه أصواتهم بالذكر: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) متفق عليه] . هذه الأحاديث فيها إثبات معية الله عز وجل لخلقه، وفيها إثبات قربه سبحانه وتعالى من عباده، فبعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من الأحاديث الدالة على علو الرب جل وعلا ذكر الأحاديث الدالة على معيته سبحانه وتعالى لخلقه كما فعل ذلك في الآيات، وذلك أنه قد يتوهم متوهم أن إثبات علو الرب يناقض وينافي معيته سبحانه وتعالى لخلقه، والمؤمن تابع للنصوص، فالنصوص دلت على علوه ودلت على معيته، ولا تعارض بين ما أخبر الله به عن نفسه كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] ، ولكنه من الرب الحكيم الخبير الذي أتقن كل شيء، ومما أتقنه سبحانه وتعالى خبره، فإنه لا اضطراب ولا اختلاف ولا تضاد فيه. يقول رحمه الله: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت)) أفضل الإيمان أي: أعلى الإيمان، وفي هذا فائدة وهي: أن الإيمان يتفاضل، وأنه درجات كما سيأتينا إن شاء الله تعالى في مبحث الإيمان. قوله: (أفضل الإيمان -وهو أعلاه- أن تعلم أن الله معك) والمعية هنا الثابتة هي معية العلم، المعية العامة التي يثبتها أهل السنة والجماعة. ومعنى: (أن تعلم أن الله معك) هو ما جاء في الحديث الآخر: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، وقد ذكرنا في شرح حديث جبريل أن الإحسان أعلى مراتب الدين، وهذا يؤيد ذلك، فإن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك للمقامين: إما أن تعبد الله كأنك تراه، أو فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وكلاهما داخل في قوله: (أن تعلم أن الله معك) ؛ لأن المعية إما أن يراك أو أن تراه. قوله: (أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت) حيث هنا مكانية، يعني: في أي مكان كنت، وهذه المعية ثابتة كما تقدم في الآيات، قال الله جل وعلا: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] ، وهذه المعية ما هو مقتضاها؟ وما حكمها؟ وما لازمها؟ الجواب: مقتضاها وحكمها ولازمها أن الله سبحانه وتعالى مطلع على عبده، مهيمن عليه، متصرف فيه، وأن العبد لا خروج له عن إرادة الله عز وجل وتقديره وعلمه وإحاطته، هذا مقتضاها، فأهل السنة والجماعة يثبتون هذه المعية. ولا تظن أن المعية الثابتة له سبحانه وتعالى تقتضي المخالطة أو المماسة، بل هي تفيد مطلق المقارنة، لكن هل المقارنة تقتضي المخالطة والمماسة وأنه مع خلقه يخالطهم؟ الجواب: تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فهو سبحانه وتعالى المستوي على عرشه البائن من خلقه، وهو معهم أينما كانوا كما أخبر، وسيأتينا بيان ذلك بالأدلة في كلام الشيخ رحمه الله. ثم قال: (وقوله: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قِبَل وجهه -أي: جهة وجهه، يعني: أمامه- ولا عن يمينه، فإن الله قبل وجهه) ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى ينصب وجهه للمصلي تفضلاً وكرماً وإحساناً، وهذا لكل مصلٍ، فربنا ينصب وجهه الكريم لنا وقلوبنا غافلة، فتجد القلب في كل واد نازل، وبعض الناس تجد وجهه منصرفاً، فيكون منصرفاً عن صلاته بقلبه وقالبه. والواجب على المؤمن إذا دخل في صلاته أن يستحضر أن رب السماوات والأرض جل وعلا قد نصب وجهه له، وهذا لكل مصل، وسبحان ربي العظيم الذي وسع خلقه! وإلا كان الواحد يقول: الآن يكون في المسجد الواحد بل في الصف ما يقارب ستمائة رجل، فكيف ينصب الله عز وجل وجهه لكل واحد من هؤلاء إماماً أو مأموماً؟ الجواب: أنه لا كيف في هذا الأمر، فالذي يرزقهم في ساعة واحدة، ويدبر شئونهم في ساعة واحدة، لا يمتنع عليه مثل هذا. ثم إن القاعدة فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه: أنه لا كيف، فالكيف مجهول، والإيمان بما أخبر به الرسول واجب. ثم قال: (ولكن عن يمينه أو يساره أو تحت قدمه) ، هذا فيه فائدة وهي: أن كون الله سبحان وتعالى قبل وجهه لا ينافي علوه، كما أن المعية لا تنافي العلو، فكذلك كونه جل وعلا ينصب وجهه للعبد فإن ذلك لا ينافي علوه كما سيأتي بيانه في كلام الشيخ رحمه الله بالدليل العقلي. ثم قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب السماوات السبع، والأرض، ورب العرش العظيم) ، سبحان ربي! يذكر الله سبحانه وتعالى ربوبيته العامة والخاصة، وكثيراً ما يضيف الله عز وجل ربوبيته لمخلوقات عظيمة تدل على عظمته؛ لأن ربوبيته للعظيم تدل على عظمته، (رب السماوات السبع والأرض) ، وهذا يدل على عظمته؛ لأن رب هذه المخلوقات العظيمة لابد أن يكون عظيماً. (اللهم رب السماوات السبع والأرض ورب العرش العظيم، ربنا -هذه ربوبية خاصة- ورب كل شيء -وهذه ربوبية عامة- فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن) ، هذا كله توسل إلى الله سبحانه وتعالى بصفاته، فيتوسل العبد بصفات الله عز وجل وربوبيته العامة والخاصة وما اتصف به من كريم الصفات وعاليها. (أعوذ بك من شر نفسي) ، فبعد أن توسل توصل إلى سؤاله فقال: (أعوذ بك) والاستعاذة: هي طلب العوذ، وهو: طلب الحفظ والحماية. (أعوذ بك من شر نفسي) ، والنفس -يا إخوة- مليئة بالشرور، فإن لم يعنك الله عليها فإنها تتسلط عليك، وتوردك المهالك، فينبغي للإنسان أن يحرص على الاستعاذة بالله من شر نفسه، فكثيراً ما يستعيذ الناس من شر الشيطان، ولكنهم يغفلون عن عدو آخر وهو النفس الأمارة بالسوء. (أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، وشر كل ذي شر) يشمل شر بني آدم، وشر الجن، وشر الشياطين. (أنت الأول فليس قبلك شيء) ، هذا فيه إثبات أوليته سبحانه وتعالى. (وأنت الآخر فليس بعدك شيء) ، هذا فيه إثبات آخريته جل وعلا، وهذان الاثنان مقترنان، الأول والآخر، وبهما يثبت لله عز وجل الإحاطة الزمانية، فهو محيط بكل شيء زمناً سبحانه وتعالى، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، فهذا أفادنا إحاطته سبحانه وتعالى زمناً. (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء) ، وهذا فيه إحاطته مكاناً سبحانه وتعالى، فلا دونه شيء، ولا فوقه شيء سبحانه وتعالى، فهو عليٌّ في دنوه، قريب في علوه جل وعلا، كما سيأتي في كلام الشيخ رحمه الله. ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً آخر فقال: (اقض عني الدين، وأغنني من الفقر) ، وهذا الحديث فيه إثبات علوه من قوله: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء) ، وأيضاً من قوله: (ورب العرش العظيم) ، وربوبيته للعرش ربوبية خاصة؛ ولذلك اختصه بالاستواء عليه، وفيه إثبات علوه جل وعلا من قوله: (منزل التوراة والإنجيل) لأن الإنزال لا يكون إلا من علو إلى سفل. ثم قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم لما رفع الصاحبة أصواتهم بالذكر: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم -أي: هونوا على أنفسكم، ولا تكلفوها ولا تشقوا عليها برفع أصواتكم- فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً) النفي هنا نفي مفصل في صفات الله عز وجل، ومقصوده والمراد منه إثبات كمال سمعه سبحانه وتعالى، وكمال بصره جل وعلا. (فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً) . وقد ذكرنا قبل في صفة السمع أن سمع الله عز وجل يرد عاماً وخاصاً، فهنا السمع سمع خاص، وهو خاص بالداعي نظير قوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39] ، ونظير قول المصلي: سمع الله لمن حمده، فهذا سمع خاص، وهو سمع الإجابة والقبول والإثابة. وأما السمع العام فهو: إدراك الأصوات، والله جل وعلا لا تخفى عليه خافية كما قالت عائشة رضي الله عنها في نبأ المجادلة: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، إنها لفي طرف الحجرة أو في جانب الحجرة وإنه ليخفى عليَّ بعض قولها) ، والله جل وعلا قد قال: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1] ، وهو جل وعلا فوق عرشه، فوق السماء السابعة سبحانه وتعالى. (إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً) ، والقرب هنا هل هو القرب العام؟ الجواب: لا، إنما هو قرب خاص من الداعي، ولم يرد القرب عاماً لا في الكتاب ولا في السنة، إنما ورد القرب خاصاً هذا هو الصحيح، فالله أخبر بقربه من الداعي، وبقربه من المصلي، وبقربة من الساجد، وبقربة من أهل عرفة فإنه يدنو عشية عرفة من أهل الموقف، وهذا قرب خاص ليس عاماً. قال: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) وهذا -كما ذكرنا قبل- قرب خاص. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 2 إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة قال المؤلف رحمه الله: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا) ، متفق عليه. إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به] . حديث: (اللهم رب السماوات السبع والأرض، ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء) هذا يفيد -إضافة إلى العلو- المعية؛ لأن إحاطته سبحانه وتعالى تدل على معيته، فالمعية هنا من حيث المعنى لا من حيث اللفظ إحاطته بالخلق مكاناً وزماناً تدل على معيته سبحانه وتعالى. قوله: (إنكم سترون ربكم) إثبات رؤية الرب جل وعلا، ورؤية الله سبحانه وتعالى سيتكلم عنها المصنف رحمه الله في الفصول القادمة. أفاد الحديث أن أهل الإيمان سيرون الرب سبحانه وتعالى؛ لقوله: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته) لا تضامون بالتخفيف والتشديد، لا تضامون، أي: لا يلحقكم ضيم، يعني: ضر، ولا تضامون، أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض، وكلا المعنيين صحيح، والمراد: نفي الضرر ونفي الضيق في رؤية الله جل وعلا. (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) ، يعني: كما يرى الإنسان القمر ليلة البدر، وهل يحتاج إلى أن يقرب القمر ليلة البدر من أحد ليراه؟ الجواب: لا، بل كل يراه في مكانه، بخلاف الهلال في أول الشهر فإن الناس قد يحتاجون إلى التضام، وينضم بعضهم إلى بعض، ويقول بعضهم لبعض: انظر هذا هو الهلال أو انظر هنا أو انظر هناك، فينضم بذلك بعضهم إلى بعض، أما رؤية المؤمنين لربهم عز وجل فهي كرؤيتهم للقمر ليلة البدر. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عن رؤية المؤمنين لربهم، وشبه رؤيتهم لربهم سبحانه وتعالى برؤيتهم للقمر ليلة البدر، لكن هل شبه المرئي بالمرئي؟ الجواب: لا، فلم يقل: إن الله كالقمر، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما أراد تحقيق الرؤية وأنها كما نرى أعظم الأشياء ظهوراً وهما الشمس والقمر، وكذلك نراه جل وعلا متجلياً لعباده المؤمنين، وهذه الرؤية لا يلزم منها الإدراك كما قال سبحانه وتعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، وإنما هي رؤية تنعيم لا يدرك فيها العبد المرئي، إنما يراه رؤية لا إدراك فيها، كما أننا الآن ننظر إلى الشمس والقمر ونراهما وهما من خلق الله عز وجل، ولا ندرك لا الشمس ولا القمر، فما يستطيع الإنسان أن يدرك القمر ولا أن يدرك الشمس، فكذلك رؤية الرب جل وعلا. ثم بعد أن أخبر بهذا الفضل وهذه المنة بين النبي صلى الله عليه وسلم طريقها فقال: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا) وهما: صلاتا الفجر والعصر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة) ، ففضائل هاتين الصلاتين كثيرة، ومنها: حصول رؤية الرب جل وعلا، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يراه رؤية تنعيم وإكرام. قال المؤلف رحمه الله: [إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به] ، المراد: أنه مثل ببعض أحاديث الصفات، ولم يستوعب، وكل هذه الأحاديث يجري فيها أهل السنة والجماعة على سنن واحد وعلى طريقة واحدة كما سيبين المؤلف رحمه الله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 موقف أهل السنة من الأحاديث التي فيها إثبات الصفات الربانية قال المؤلف رحمه الله: [فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمة] . يقول رحمه الله: (فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة -جعلنا الله منهم- يؤمنون بذلك) أي: يؤمنون بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه. قوله: (بذلك) اسم الإشارة عائد إلى الأحاديث التي فيها إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا، وإيمانهم بهذه الأحاديث كإيمانهم بما دل عليه الكتاب ولذلك قال: (كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه العزيز) أي: أنهم لا يفرقون بين ما ثبت في الكتاب وما ثبت في السنة كطريق أهل البدعة، بل ما ثبت في السنة فهو كالثابت في الكتاب من حيث الإيمان بما تضمنه وما دل عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه القرآن ومثله معه كما قال (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه) أي: مثله في وجوب الإيمان والقبول، وإلا فليس مثله في الدرجة، وليست المثلية من كل وجه، إنما المثلية في الإيمان والقبول، وهو ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وقد جاء ذلك في القرآن في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ، وقد تقدم الكلام على هذا في أول الفصل عند أن تكلم عن منزلة السنة من القرآن. ثم قال رحمه الله: (كما يؤمنون بما أخبر به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل) وقد تقدم الكلام على هذه الضوابط فيما سبق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 4 مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة قال المؤلف رحمه الله: [بل هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم. فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة. وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم. وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم. وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية. وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج] . بعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من بيان المنهج العام الذي سار عليه أهل السنة والجماعة في هذا الباب -باب الأسماء والصفات- واستدل لذلك بأدلة من الكتاب والسنة انتقل رحمه الله إلى بيان أنهم وسط في عقائدهم وأعمالهم، وأن أهل السنة والجماعة وسط في الفرق -فرق الأمة- كما أن الأمة هي الوسط في الأمم. فقوله رحمه الله: (بل هم) الضمير عائد إلى أهل السنة والجماعة. (الوسط) والوسط من الشيء: أعلاه وأعدله وخيره. (في فرق الأمة) فهم من هذا أن في الأمة فرقاً، وقوله: (الأمة) الألف واللام للعهد، أي: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور في مسند الإمام أحمد وأبي داود وغيرهما: (أن الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صفة هذه الفرقة بقوله: (هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يد الله مع الجماعة) ، فهذان وصفان أساسيان لهذه الفرقة، جعلنا الله منهم. فأهل السنة والجماعة وسط عدول خيار في الأمة كما أن الأمة وسط بين أمم الكفر، أما وسطية الأمة فذلك في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] ، والمراد بالوسط: العدل الخيار، فجعل الله عز وجل هذه الأمة عدولاً خياراً حتى تتحقق لهم الشهادة على الأمم، فإنه لا يشهد على أحد إلا من كان عدلاً خياراً، ووسطية الأمة لا تنحصر في ذلك؛ ولذلك شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه (الجواب الصحيح) ذكر أوجهاً من وسطية الأمة بين أمتي اليهود والنصارى، ثم بعد إن ذكر وجوهاً عديدة قال: وهذا باب يطول وصفه، يعني: يطول تتبعه وتحديده، لكن كل من نظر إلى شرائع من تقدم، وإلى ما تميزت به هذه الأمة؛ وجدها قد سلكت طريقاً مستقيماً، صراطاً عدلاً قسطاً، لا وكس ولا شطط، لا غلو ولا تفريط، فليس عندهم غلو، وليس عندهم تقصير، بل هم على صراط مستقيم. وكذلك أهل السنة والجماعة لكونهم أخذوا هذا المنهج من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهما مصدر التشريع ومصدر العقائد لأمة الإسلام، فإنهم اتصفوا بهذا الوصف، فبقدر تمسك الإنسان بالكتاب وبالسنة يتحقق بقدر ذلك وصف الوسطية فيه، وبقدر ما يكون عدلاً خياراً. إذاً: فهمنا أن الوسطية في أمة الإسلام أمرها واسع، وكذلك الوسطية في منهج أهل السنة والجماعة -في الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة -أيضاً باب يطول وصفه، فهم وسط في الأعمال، وسط في العقائد، وسط في الأقوال، فليس عندهم غلو ولا تقصير، وإنما الغلو والتقصير عند غيرهم، فضرب المؤلف رحمه الله نماذج لوسطية أهل السنة والجماعة في خمسة أمور في باب العقيدة؛ لأن الرسالة في باب العقيدة، وهذه الأمور الخمسة، هي: الأول: باب صفات الله عز وجل. الثاني: باب أفعال الرب جل وعلا. الثالث: باب وعيد الله سبحانه وتعالى. الرابع: باب أسماء الإيمان والدين. الخامس: في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليست الوسطية مقصورة على هذه، إنما هذه نماذج وأمثلة لوسطية هذه الفرقة فرقة أهل السنة والجماعة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 موقف أهل التعطيل والتمثيل من صفات الله تعالى قال: (فهم وسط في باب صفات الله تعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة) صفات الله عز وجل هي: كل ما وصف به نفسه سبحانه وتعالى، والصفات لها مفهوم خاص ومفهوم عام، مفهومها العام يصدق أو يندرج تحته كل خبر عن الله عز وجل من وصف أو فعل، فإن كل خبر عن الله عز وجل بفعل أو باسم سواءً كان مصدراً أو اسم فاعل أو اسم مفعول أو صفة مشبهة كل ذلك يندرج في كونه وصفاً لله سبحانه وتعالى. وأهل السنة والجماعة فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه وسط بين الفرقتين من فرق الضلالة، فرقة التعطيل وفرقة التمثيل، والتعطيل يندرج فيه أو يندرج تحته كل من حرف في صفات الله عز وجل، سواءً كان التحريف تحريفاً كلياً أو تحريفاً جزئياً. فالتحريف الكلي هو كتحريف غلاة الجهمية الذين يقولون: إن الله جل وعلا لا يوصف بشيء لا بإثبات ولا بنفي، ومن دونهم كالمعتزلة الذين نفوا الصفات، ومن دونهم كالأشاعرة الذين أثبتوا بعض الصفات ونفوا بعضها، كل هؤلاء يستظلون في مظلة التعطيل على درجات، لكن الجميع يشترك في هذا الأصل وهو التعطيل. يقابل هذه البدعة بدعة أهل التمثيل وهم: الذين مثلوا الله بخلقه، فقالوا: يد الله كأيدينا، وسمعه كأسماعنا، وبصره كأبصارنا، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فهؤلاء -أيضاً- غلوا في الإثبات، فجعلوا الخالق كالمخلوق، وكذبوا بالقرآن حيث قال الله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، وهذه الآية رد على هاتين البدعتين المنحرفتين في هذا الباب، وقد تقدم الكلام على هاتين البدعتين في ثنايا الحديث على الآيات، وتبين لنا أن أهل السنة والجماعة يثبتون المعاني ويكلون الكيفيات إلى الله عز وجل، فيثبتون معاني ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه، وأما كيفيات ذلك فإنهم يكلونها إلى الرب جل وعلا. أهل التعطيل ماذا فعلوا في المعاني؟ الجواب: عطلوها بالتحريف والإبطال. وأهل التمثيل ماذا فعلوا بالمعاني؟ الجواب: غلوا في إثباتها حتى جعلوا ما للمخلوق للخالق، وما اتصف به الرب نظير ما اتصف به المخلوق، فأثبتوا كيفيات وأمثال لله سبحانه وتعالى، تعالى الله عنها علواً كبيراً. وأهل السنة والجماعة وسط بين هاتين البدعتين، والسلامة من هذين الطريقين في الضوابط التي تقدم ذكرها هي إثبات الصفات من غير تحريف ولا تعطيل، وبهذا نسلم من شبهة أهل التعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وبهذا نسلم من شبهة الممثلة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 موقف الجبرية والقدرية من أفعال الله تعالى قال رحمه الله: (وهم) الضمير يعود إلى أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية. (وهم وسط في باب أفعال الله تعالى بين الجبرية والقدرية) ، أفعال الله عز وجل هي: ما أخبر به سبحانه وتعالى من فعله، وقد انقسم فيها الجبرية والقدرية إلى فريقين: فريق غلوا في الإثبات، وفريق غلوا في النفي. الجبرية غلوا في أن الله عز وجل على كل شيء قدير، وأنه خالق كل شيء، وأنه ما من شيء إلا بمشيئته سبحانه وتعالى، فألغوا بذلك قدرة المخلوق ومشيئته وفعله، فجعلوا المخلوق كالريشة في مهب الريح، ليس له اختيار ولا فعل، وإنما الجميع فعل الله، وقالوا: الجميع فعل الله، فلا يضاف للمخلوق شيء، ولما قالوا هذا القول قالوا: إنه يجوز على الله عز وجل كل شيء إلا الممتنع، فيجوز على الله عز وجل الظلم، ويجوز عليه مخالفة الحكمة، ويجوز أن يجعل الشيطان في الفردوس الأعلى، ومحمداً صلى الله عليه وسلم في أسفل السافلين -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- لأنه لا حكمة للرب، ولا رحمة ولا عدل. والإنسان إذا سمع هذه الأقوال يقشعر منها بدنه، فكيف بمن جعلها في قلبه عقيدة يدين الله بها؟! فهذا أمر عظيم، لكن -سبحان الله العظيم! - طمس الله بصائرهم، وأعمى قلوبهم حتى اعتقدوا في ربهم هذه العقيدة، هؤلاء هم الجبرية. يقابلهم فريق آخر وهم القدرية الذين سلبوا الله سبحانه وتعالى قدرته وفعله وخلقه ومشيئته، فقالوا: إن العبد يفعل، والله جل وعلا لا قدرة له على فعل هذا، والله سبحانه وتعالى لم يشأ فعل العبد، والله سبحانه وتعالى لم يخلق فعل العبد. وأهل السنة والجماعة سلكوا طريقاً وسطاً، وصراطاً مستقيماً، فأثبتوا للعبد الفعل، وأثبتوا أن هذا الفعل بمشيئة الله عز وجل، فالعبد يفعل بمشيئته وإرادته، والرب جل وعلا قد أحاطت مشيئته بمشيئة عبده، فما شاء الله كان، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] ، فمشيئة العبد الثابتة له وإرادته الثابتة له؛ لا تخرج عن إرادة الله ومشيئته سبحانه وتعالى. وسيأتي مزيد بيان وتوضيح لهذا الأمر في كلام المؤلف رحمه الله عن القدر في قوله: [ويؤمن أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية بالقدر خيره وشره] في هذه الرسالة إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الواسطية [14] أهل السنة والجماعة وسط بين فرق الأمة، كما أن هذه الأمة وسط بين الأمم، فأهل السنة وسط بين الغلو والجفاء، وبين الإفراط والتفريط، فهم وسط في باب الصفات بين المعطلة والممثلة، وفي باب الوعد والوعيد بين المرجئة والخوارج، وفي باب الصحابة بين الرافضة والخوارج وهكذا فأهل السنة وسط في جميع أمورهم وأحوالهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1 وسطية أهل السنة والجماعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية. وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج] . هذا بقية ما ذكره المؤلف رحمه الله من المسائل التي مثل بها لوسطية أهل السنة والجماعة، وهي من مسائل العقيدة. قال رحمه الله: (وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية) الوعيد تقدم تعريفه، وأنه الإخبار بإيقاع ما يسوء، ويقابله الوعد وهو: الإخبار بإيقاع ما يسر. فقول المؤلف رحمه الله: (في باب وعيد الله) هل الخلاف الذي بين المرجئة وبين القدرية هو فقط في باب الوعيد؟ الجواب: لا، بل هو في باب الوعد والوعيد، وإنما اقتصر على أحد الأمرين اكتفاءً بدلالته على الآخر، فالخلاف الذي توسط فيه أهل السنة والجماعة هو في باب الوعد والوعيد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 2 الطوائف التي ضلت في باب الوعد والوعيد وموقف أهل السنة من ذلك باب الوعد والوعيد ضل فيه طائفتان: طائفة غلت في النفي، وطائفة غلت في الإثبات. وأهل السنة والجماعة سلكوا طريقاً وسطاً بين هاتين الضلالتين، فسلموا من ضلالة الإرجاء، ومن ضلالة القدرية. نصوص الوعد والوعيد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم جاءت عامة مطلقة، وهذه النصوص العامة المطلقة عطل عمومها المرجئة، فقالوا: إنها لا تعم أهل المعاصي، إنما هي في أشخاص معينين، هذا أحد ما حملوا نصوص الوعيد عليه، وقالوا أيضاً: إن نصوص الوعيد إنما هي في الكفار، وليست في أهل الإسلام، فكل نص تضمن وعيداً فإنه ليس في أهل الإسلام، إنما هو في أهل الكفر، فخصوا عمومها، بل إن غلاة المرجئة عطلوا العموم بالكلية فقالوا: لا عموم لهذه النصوص. وقابلتهم طائفة أخرى وهم القدرية الوعيدية الذين قالوا: إن نصوص الوعيد يدخل فيها مرتكب الكبيرة، وهي متحققة الوقوع فيه، فكل من فعل كبيرة فإنه خارج عن دائرة الإيمان، وحكمه الخلود في النار، فقالوا بتخليد أهل التوحيد في النار وذلك فرع عن إخراجهم من الإيمان بالكلية، والبدع متسلسلة يأخذ بعضها برقاب بعض، فالبدعة التي كانت في الاسم انتقلت إلى الحكم، كما سيأتينا أنهم أيضاً ضلوا في أسماء الإيمان والدين، وهذا الضلال في هذا الباب تبعه الضلال في باب الأحكام. قوله: (وفي باب وعيد الله بين المرجئة والقدرية) البحث الآن هو في ضلالهم في الحكم، حيث حكم القدرية على أهل الإيمان بالتخليد في النار، وحكم المرجئة بأن نصوص الوعيد لا تتوجه لأهل الإسلام، ولا يدخل فيها أهل الإيمان، بل أهل الإيمان ليس لهم إلا الوعد، وأما الوعيد فهو في حق الكفار، أو أنه في شخص معين، وقالوا: يجوز ألا يعذب الله أحداً بالكلية، فتكون هذه النصوص مقصودها التهديد، وليس معناها مراداً، وإنما يقصد بها التهديد. وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: نصوص الوعيد عامة، ولكن الوعيد مقيد، وكذلك نصوص الوعد عامة، ولكنها مقيدة، فكما أننا نقيد نصوص الوعد بعدم الكفر، فكذلك نقيد نصوص الوعيد بعدم التوبة. وبه نفهم أن لنصوص الوعد شروطاً وموانع، فعمومها له شروط وموانع، وكذلك نصوص الوعيد لها شروط وموانع في تنزيلها على الأفراد، وهذه مسألة مهمة إلى الغاية؛ لأن الخطأ فيها كثير، والفهم فيها حسير عند كثير من الناس، فبعض الناس قد يظن أن إطلاق الوعد أو إطلاق الحكم في أمر معين يلزم منه انطباق هذا الحكم على كل من قام بهذا الفعل، وهذه مسألة خطيرة، وهي التي أوقعت أهل التكفير في التكفير، ولم يفهموا ما نقل عن السلف مثلاً في تكفير من أنكر العلو؛ لأنه قد نقل عن السلف أنهم قالوا: من أنكر العلو فهو كافر، فهل الذين يقولون الآن من عوام المسلمين: إن الله في كل مكان، كفار بأعيانهم؟ الجواب: لا، لا نقول بذلك، وقد صرح شيخ الإسلام رحمه الله بهذا، ومثل بهذا المثال بعينه، فقال: إن من السلف من أطلق التكفير على بعض من قال بمقالات الجهمية كنفي العلو، ولكن لا يلزم من هذا أن يكون كل من قال بهذا القول فهو كافر؛ لأن التكفير لابد فيه من توافر الشروط وانتفاء الموانع، فلابد من قيام الحجة التي تنقطع بها المعذرة ممن قامت عليه. فكذلك هنا نصوص الوعد مشروطة بعدم الكفر وهذا لا إشكال فيه، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى عن أعمال أهل الكفر الصالحة: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، والمقصود به: العمل الصالح، فلما لم يتوفر شرط الإيمان لم ينتفع به، فنصوص الوعد من موانع تحققها وجود الكفر، ومن شروط ثبوت فضلها لأهلها وجود الإيمان. كذلك نصوص الوعد في كونها لمعين لابد من شرطين: الأول: الإخلاص. الثاني: المتابعة. ونصوص الوعد في تحقق الفضل لمعين يشترط لها الإخلاص، والمتابعة. فمن تحقق فيه الإخلاص والمتابعة فإنه يثبت له الفضل. ونصوص الوعيد -أيضاً- مقيدة بتوافر الشروط وانتفاء الموانع، فلو أن الإنسان فعل فعلاً مما توعد الله عليه بالنار فهل نحكم بأنه من أهل النار؟ الجواب: لا؛ لأنه لابد من أن ننظر هل الشروط متوافرة؟ فإن وجدت الشروط، فهل الموانع منتفية؟ فإن انتفت الموانع وتوافرت الشروط ثبت الحكم على المعين، ولذلك الحكم على المعين يحتاج إلى نظر، فأهل السنة والجماعة أطلقوا العمومات في نصوص الوعد وفي نصوص الوعيد، وقالوا: يدخل فيها أهل الإيمان كغيرهم، ولكن تنزيلها على أهل الإيمان لابد فيه من توافر الشروط وانتفاء الموانع، والموانع كثيرة: منها: التوبة، فالتوبة من موانع نزول العقاب. ومنها: الحسنات الماحية من موانع حصول العقاب. ومنها: سابق الفضل والعفو من الله جل وعلا، وهذا أيضاً من موانع حلول العقاب والوعيد. المهم أن الموانع متعددة، ولذلك كان أهل السنة والجماعة وسطاً بين هاتين الضلالتين، بين المرجئة الذين قالوا: لا يتوجه نص من نصوص الوعيد إلى أهل الإسلام، وبين القدرية الذين جعلوا نصوص الوعد حكماً على الأفراد دون نظر إلى توافر الشروط وانتفاء الموانع، فجعلوا نصوص الوعيد في حق كل أحد، فكل من ارتكب كبيرة فإنه مخلد في النار، هذا من حيث الحكم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 3 موقف أهل السنة والجماعة في باب الإيمان والفرق التي ضلت في هذا الباب أما توسط أهل السنة والجماعة من حيث الاسم فهو في قوله رحمه الله: (وفي باب أسماء الإيمان والدين) المراد بأسماء الإيمان والدين: (مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق) . هذه أسماء الإيمان والدين، وهي تمثل مراتب الناس في دينهم. فأهل السنة والجماعة وسط في هذا الباب بين فرقتين: الحرورية والمعتزلة من جهة، والمرجئة والجهمية من جهة أخرى. الحرورية هم: الخوارج، والمعتزلة معروفون، وجميع هؤلاء اتفقوا على بدعة وهي: سلب وصف الإيمان ممن ارتكب الكبيرة، فكل من ارتكب كبيرة فإنه غير مؤمن ولا مسلم فنفوا عنه الاسمين: الإسلام، والإيمان. وأثبت الخوارج له وصف الكفر، فقالوا: إنه كافر، أما المعتزلة فقالوا: إنه في منزلة بين المنزلتين، هذا من حيث الاسم، لكن من حيث الحكم يتفقون أن من خرج عن وصف الإسلام والإيمان فإنه مخلد في النار، فمن حيث الحكم يتفقون، وأما من حيث الاسم فهم يختلفون، فالخوارج يسمونه كافراً، والمعتزلة يقولون: لا نسميه كافراً، إنما هو في منزلة بين المنزلتين. يقابلهم المرجئة الجهمية، الذين قالوا: إن مرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، فأثبتوا له كمال الإيمان وتمامه ولم ينقصوا منه شيئاً، وأصل هذه البدعة بشقيها هو: اعتقادهم في الإيمان، وسيأتينا بيان ذلك مفصلاً في كلام الشيخ رحمه الله. فإن الفريقين أصحاب هاتين الضلالتين يعتقدون أن الإيمان كل لا يتبعض. وأنا أقول: من المهم لطالب العلم أن يعرف منشأ البدعة وأصلها حتى يتمكن من الرد عليها ومناقشتها. والفريقان: الخوارج والمعتزلة من جانب، ومرجئة الجهمية من جانب، كلهم يعتقدون أن الإيمان كل لا يتبعض، فالمعتزلة والخوارج قالوا: إذا خالف الإيمان في شيء واحد سلب منه جميعه؛ لأن الإيمان لا يتبعض، وإذا كان لا يتبعض وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل الكبيرة؛ فهذا دال على نقص إيمانه، والإيمان لا يتبعض؛ فقد خرج منه الإيمان بالكلية، وإذا خرج منه الإيمان بالكلية فهو إما كافر على قول الخوارج، أو في منزلة بين المنزلتين على قول المعتزلة. والآخرون الذين قابلوهم وهم مرجئة الجهمية قالوا: المعاصي لا تضر بالإيمان؛ لأن الإيمان كل لا يتبعض، فلو قلنا: إن الإيمان ينقص بالمعصية لزم خروجه؛ لأن الإيمان إما أن يبقى جميعاً أو يسلب جميعاً. وسلم من هذه البدعة أهل السنة والجماعة فأثبتوا زيادة الإيمان ونقصه، وقالوا: صاحب الكبيرة لا يسلب عنه مطلق الإيمان، ولا يثبت له الإيمان المطلق، كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل ذلك في كلام المؤلف، وإنما المراد بيان وسطية أهل السنة والجماعة في اسم الإيمان والإسلام، والكفر والفسق. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 4 موقف أهل السنة والجماعة من الصحابة والفرق التي ضلت في ذلك ثم قال رحمه الله في بيان وسطية أهل السنة والجماعة: (وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج) الرافضة غلوا في بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغلوا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى أبلغوه درجة الإلهية فجعلوه رب العالمين. ويقابلهم الخوارج الذين كفروا علياً وعثمان. والرافضة جمعوا بين البدعتين بين الغلو والتقصير في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالوا بعضهم حتى رفعوهم إلى درجة الإلهية، وقصروا في أكثرهم حتى وصفوهم بالكفر والخيانة، فكفروا أبا بكر وعمر والزبير وجمهور صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الخوارج فكفروا علياً وعثمان، وكفروا من كان معهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأهل السنة والجماعة وسط بين هاتين الضلالتين، فيوالون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً، ويعتقدون أنهم خير القرون، وأنه لا كان ولا يكون مثلهم رضي الله عنهم، وسيأتي بيان موقف أهل السنة والجماعة تفصيلاً في كلام الشيخ رحمه الله. والمراد: أن الشيخ رحمه الله بين لنا وسطية أهل السنة والجماعة في خمسة أبواب من أبواب الاعتقاد: في صفات الله عز وجل. وفي أفعال الله جل وعلا. وفي وعيده سبحانه وتعالى. وفي أسماء الإيمان والدين. وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الأمور سيأتي لها تفصيل في بقية هذه الرسالة المباركة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 5 وجوب الإيمان باستواء الله على عرشه وعلوه على خلقه قال المصنف رحمه الله: [فصل: وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله، وأجمع عليه سلف الأمة، من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه، عليٌّ على خلقه] . هذا المقطع فيه إثبات علو الله سبحانه وتعالى، وذكر المصنف أدلته إجمالاً بعد إن بين ذلك بنوع من التفصيل فيما تقدم، فإنه في فصل الآيات ذكر الآيات الدالة على علو الله عز وجل بأنواع من الدلالة، وكذلك فيما ذكره من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بين ثبوت ذلك بالنصوص النبوية الدالة على علو الله عز وجل على خلقه. ثم ذكر الدليل الثالث الذي يستند إليه أهل السنة والجماعة في إثبات علو الله عز وجل وهو: إجماع سلف الأمة، فقال: (وأجمع عليه سلف الأمة) ، وهذه الأدلة واضحة جلية بينة لا مرية فيها ولا شك، فإن من تأمل النصوص وكلام السلف أيقن إيقاناً هو من العلوم الضرورية أنهم كانوا يعتقدون بأن الله سبحانه وتعالى فوق كل شيء، وهذا مما استقرت عليه كلمتهم واتفقت ولا خلاف بينهم في هذا، والذين ينكرون العلو ينكرونه بشبه باردة، وقد سول لهم الشيطان هذه الشبه وزينها في أعينهم لرد ما استقر في الفطر، وأجمعت عليه الأمم. ومن أبلغ شبههم التي ينفون العلو لأجلها قولهم: إن إثبات العلو يقتضي أن الله جسم، وإثبات العلو يقتضي الجهة والحيز والمكان، وكل هذه ترهات وضلالات لا تستند على حق، بل في أعظم مجمع في موقف عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب لما أشهد الله سبحانه وتعالى على الأمة بأنه قد بلغ كان يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها عليهم، وهذا من تحقيق معنى العلو لرب العالمين، كما جرى ذلك في عدة صفات كصفة السمع والبصر، وكصفة القبض للسماوات والأرض، فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ليس تشبيهاً ولا تمثيلاً، إنما هو لتحقيق اتصافه سبحانه بهذا المعنى، ولم ينكر هذا أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولم يقولوا: كيف تشير إلى رب العالمين؟! ولو أننا طلبنا منهم نصاً يعتمدون عليه في إبطال هذه الصفة العظيمة لرب العالمين لما أتوا بشيء، وإنما يستدلون بدليل جمهور علماء الأمة على أنه موضوع، ومنهم من قال: إنه غريب، ولكن الجمهور على أنه موضوع، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وصف ربه: (هو الذي أين الأين) ويتركون ما دلت عليه النصوص الدالة على علوه سبحانه وتعالى على خلقه. ثم إن علوه على خلقه سبحانه وتعالى ثابت له بجميع أنواع الأدلة، ولا مناص لأهل التأويل من إثباته؛ ولذلك ذكر عن أبي المعالي الجويني أنه كان يخطب على المنبر ويقول: كان الله ولا عرش، وهو على ما كان عليه قبل أن يخلق العرش، يريد أن ينفي الاستواء، فأتى أبو الفضل جعفر الهمذاني فقال له: يا أستاذ! دعنا من العرش واستواء الرب عليه، بماذا تجيب عن هذه الضرورة التي يجدها كل أحد في قلبه: ما قال قائل قط: يا رب! إلا وجد في قلبه تحركاً إلى طلب العلو قبل حركة لسانه؟ فما كان منه إلا إن ضرب رأسه وقال: حيرني الهمذاني، حيراني الهمذاني. وهذا هو منتهى كل من عارض ما دل عليه الكتاب والسنة، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] ، وقال جل وعلا: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] ، أي: مضطرب، فيه اختلاف، وحيرة، وتناقض لا يعلمه إلا الله، ولو أنهم سلموا للنصوص، واتبعوا هدي السلف الصالح في هذا لسلموا، ولقدروا الله على طريقة السلف. ثم بين أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه، فذكر العلو العام والعلو الخاص فقال: (فوق سماواته على عرشه) هذا العلو العام، و (على عرشه) هذا العلو الخاص، (عليٌّ على خلقه جميعاً) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 6 وجوب الإيمان بمعية الله لخلقه وأن ذلك لا ينافي علوه سبحانه قال المصنف رحمه الله: [وهو سبحانه معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]] . هذا فيه إثبات معية الله عز وجل لخلقه، فهو سبحانه وتعالى مع خلقه، لكن أعلم أن (مع) في كلام العرب تفيد مطلق المقارنة، ولكن لا يلزم منها مماسة ولا مخالطة، وهذا ما سيبينه المؤلف رحمه الله، وإنما بين المؤلف هنا أن الله سبحانه وتعالى متصف بمعيته لخلقه، فهو معهم أينما كانوا، ثم بين مقتضى ولازم هذه المعية فقال: يعلم ما هم عاملون، وهذا -يا أخي- ليس تأويلاً ولا تحريفاً كما يزعمه المشاغبون على أهل السنة والجماعة، فإنهم يقولون لأهل السنة: أنتم أولتم المعية بالعلم. فنقول: ليس بصحيح، نحن لم نؤول المعية بالعلم، بل نقول: إن المعية ثابتة لله عز وجل، ومن مقتضاها وحكمها ولازمها أنه سبحانه وتعالى مهيمن على خلقه، مطلع عليهم، عالم بهم، فكثير من معاني الربوبية يثبت بإثبات معية الله عز وجل للخلق، ولكن لا نقول: إنه ليس مع خلقه، أو ننفي عنه هذا الوصف الذي وصف به نفسه؛ ولذلك المؤلف رحمه الله قدم إثبات الوصف ثم بين لازمه، وهم يقولون في الصفات التي ينفونها: لا يد لله، ولا سمع لله، ولا حكمة لله، فينفون الصفة ويحرفونها، وأهل السنة ما فعلوا هذا، وإنما أثبتوا ما أثبته الله لنفسه، ثم بينوا لازم ذلك وحكمه ومقتضاه، هذا هو الفارق بين أهل السنة والجماعة وبين غيرهم من أهل البدعة والضلالة. ولذلك قال: (وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون) ، وقوله: (يعلم ما هم عاملون) يشمل الفعل والقول، عمل القلب، وعمل الجوارح. قال: (كما جمع بين ذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} [الحديد:4] ، مع استوائه على العرش جل وعلا: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الحديد:4] ) ، هذه جملة حالية، أي: قوله: (يعلم) جملة حالية، من قوله: استوى على العرش، يعني: استوى على العرش حال كونه جل وعلا عالماً ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، فاستواءه جل وعلا على عرشه لم يمنعه من أن يحيط علمه سبحانه وتعالى بشئون خلقه وبأمر مملكته سبحانه وتعالى، بل هو المحيط بكل شيء. ثم قال: ( {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] ) بعد أن ذكر العلم أثبت المعية. ثم قال: ( {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] ) فأعاد ذكر سعة علمه سبحانه وتعالى، حيث قال: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] ، مع أنه داخل في عموم قوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الحديد:4] ؛ لأن مما يخرج من الأرض عمل بني آدم، فالعمل الصالح يرفع إلى الله جل وعلا، وتعرض أعمال العباد على الله عز وجل، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل كما في الصحيح، والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الواسطية [15] يجب علينا التسليم بكل ما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه من صفاته، ومن ذلك أنه معنا رقيب ومطلع علينا، لا تخفى عليه خافية، فله سبحانه المعية العامة لجميع خلقه، وله المعية الخاصة لعباده المؤمنين، ولا تنافي بين ذلك وبين علوه واستوائه على عرشه جل وعلا، فإنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو على كل شيء قدير. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1 وجوب الإيمان بالاستواء والمعية دون تنافٍ بينهما بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4] ، أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان. وهو سبحانه فوق عرشه رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع إليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته] . هذا فيه الرد على الذين قالوا بأن الله سبحانه وتعالى له معية يخالط بها خلقه، فمنهم من أثبت ذلك وهم الحلولية، ومنهم من أنف عن هذا فألغى المعية، فيبين المؤلف رحمه الله أن قوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4] ، لا يلزم عليه هذه اللوازم الباطلة، والاعتقادات الفاسدة في رب العالمين، فقال: (وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4] أنه مختلط بالخلق) بين عدم دلالة هذا اللفظ على هذا المعنى بعدة أوجه: الوجه الأول: إن هذا لا توجبه اللغة، هذا أول الأوجه في إبطال أن معنى المعية المخالطة. لماذا لا توجب اللغة هذا المعنى؟ لأن (ما) في كلام العرب تفيد مطلق المقارنة والمصاحبة، ولا يلزم من ذلك المخالطة والممازجة والمماسة، هذا هو الوجه الأول لإبطال قول من قال: إن من لازم قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4] أن يكون مختلطاً بخلقه، فيقال: هذا المعنى لا توجبه اللغة؛ لأن (ما) في جميع استعمالاتها في اللغة ليس مما تفيده أن ثبوت المعية يقتضي المخالطة والممازجة والمماسة، هذا أمر. الوجه الثاني: قوله: (وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة) فسلف الأمة يعتقدون اعتقاداً راسخاً ثابتاً بأن الله سبحانه وتعالى فوق عرشه، بائن من خلقه، وهو معهم جل وعلا أينما كانوا، فلم يفهم سلف الأمة من إثبات المعية أنه مخالط للخلق، أو أنه ممازج للخلق، أو أنه حال فيهم، أو أنه متحد بهم، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً! وهذا خلاف ظن الذين قالوا: إنه معنا بذاته في كل مكان، فالذين يقولون: إن الله في كل مكان، يلزم منه أن يكون سبحانه وتعالى في المطابخ والحشوش وأماكن مستقذرة، وكان الجهمية في البداية يقولون: إن الله في كل مكان، فلما أورد عليهم: كيف لا تنزهون الرب عن أن يستوي على أعظم مخلوقاته وهو العرش وتجعلونه في كل مكان، في الأواني والصحون والحشوش؟! فقال متأخروهم: إنه ليس فوق العالم، ولا داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا يسار، ووصفوه بالعدم، هذا قول متأخري الجهمية؛ وسبب ذلك هو ما أورد عليهم من إشكالات لما قالوا: إنه سبحانه وتعالى في كل مكان. فسلف الأمة مجمعون على أن المعية لا تقتضي المخالطة، فمن الجمل والعقائد التي شحنت بها كتب أهل السنة والجماعة: أن الله سبحانه وتعالى بائن من خلقه -بائن أي: منفصل عن خلقه- ليس فيه شيء من خلقه، ولا هو في شيء من خلقه سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً!! وقد أنكر القرآن ما يعتقده النصارى من أن الله عز وجل حل في المسيح، وأن فيه من الرب ما جعله إلهاً في مواضع كثيرة. الوجه الثالث في إبطال هذا المعنى: (وخلاف ما فطر الله عليه الخلق) ، فالخلق مفطورون على أن الرب سبحانه وتعالى في العلو، فلا أحد يطلب ربه يمنة ولا يسرة ولا تحت، كل من طلب ربه طلبه في جهة العلو سبحانه وتعالى، وهؤلاء يقولون: إن توجه الداعي إلى السماء في دعائه؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل السماء قبلة الدعاء كما جعل الكعبة قبلة المصلين، سبحان الله! وكيف نجيب عليهم؟ نجيب عليهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بربه، فإنه لما استشهد الله على أمته أشار إلى جهة العلو، وهل كان يدعو؟ لا. لم يكن داعياً، فبطل قولهم: إن السماء قبلة الدعاء. فنقول: السماء تتوجه إليها القلوب وتفزع إليها فطرةً قبل أن يعلم العالم بأن رب السماوات والأرض عليها، وأنه في جهة العلو سبحانه وتعالى، وهذا معنى قوله: (وخلاف ما فطر الله عليه الخلق) وهذا استدلال بالفطر، فالآن عندنا استدلال: باللغة. وبالإجماع. وبالفطرة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 2 الدليل العقلي في إثبات معية الله العامة لخلقه دون الاختلاط بهم ثم أتى بالدليل العقلي في قوله: (بل القمر) ويمكن أن نقول: إنه دليل عقلي ودليل حسي في نفس الوقت؛ لأنه دليل محسوس. قال: (بل القمر آية من آيات الله، من أصغر مخلوقاته -أي: السماوية- وهو موضوع في السماء) يعني: في العلو، وإلا فإنه دون السماء الدنيا، فإن هذه الكواكب السيارة دون السماء الدنيا فيما يظهر، أما القمر فيقين أنه دون السماء الدنيا. فقوله رحمه الله: (وهو موضوع في السماء) أي: في العلو، ثم قال في بيان وجه التنظير بين علو الله عز وجل وعلو القمر: (وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان) ، فهل كون القمر مع المسافر وغير المسافر اقتضى أن يكون مخالطاً للمسافرين، ومخالطاً للناس؟ الجواب: لا. فإذا كان كذلك وأدركته عقولنا، وقبلته أذهاننا فيما يتعلق بمخلوق من أصغر مخلوقات الله السماوية، فكيف به جل وعلا وهو الكبير المتعال؟! فلا يلزم من إثبات معيته مخالطته لخلقه، وهذا برهان واضح، ودليل ساطع، يقطع حجة أولئك الذين قالوا: يلزم من إثبات معية الله لخلقه أن يكون مخالطاً لهم، وهل في هذا التنظير محذور شرعي؟ الجواب: لا. ليس فيه محذور شرعي، وذلك أن التنظير في المعنى لا في كل ما يلزم من المثال، إنما التنظير من بعض الوجوه، وإلا فالله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وقد جاء في بعض روايات حديث: (ما منكم من أحد إلا وسيكمله ربه ليس بينه وبينه ترجمان، أن أبا رزين العقيلي قال: يا رسول الله! كيف وهو واحد ونحن الجميع؟ فقال: سأذكر لك مثل ذلك بآية من آيات الله وهي القمر، فكلكم يراه مخلياً به -يعني: ليس بينه وبينه أحد-) فهذا تمثيل وتنظير نبوي وقياس عقلي في إثبات هذا المعنى الذي جاء به النص. المهم أن الدليل واضح وساطع، وهو آخر ما ذكره المؤلف رحمه الله من الأدلة على عدم لزوم المعية لمخالطة الله عز وجل لعباده، وهناك دليل لم يذكره المؤلف رحمه الله، وقد ذكره في غير موضع من كلامه في الفتاوى وفي كتب عديدة وهو: أن المعية في كلام الله عز وجل جاءت على نوعين: معية عامة. ومعية خاصة. المعية العامة في مثل قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] ، هذه المعية العامة. والمعية الخاصة مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: (لا تحزن إن الله معنا) ، وأيهما أكثر وروداً في كتاب الله، الإخبار بالمعية العامة أو المعية الخاصة؟ الإخبار بالمعية الخاصة، ومن لازم إثبات المعية الخاصة أن يكون فيها من المعنى ما ليس في المعية العامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لـ أبي بكر: (لا تحزن إن الله معنا) ، هل هذه المعية التي اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثابتة لخصومهم الذين كانوا يلاحقونهما؟ الجواب: لا. فلما ثبتت المعية الخاصة دل ذلك على أن المعية العامة لا تقتضي المخالطة؛ لأنها لو كانت تقتضي المخالطة لانتفى التخصيص، وهذا دليل واضح بين يدل على أن المعية العامة الثابتة في كلام الله عز وجل لا تقتضي المخالطة ولا الممازجة، بل هو جل وعلا بائن من خلقه، ليس فيه شيء من خلقه ولا هو في شيء من خلقه سبحانه وتعالى، هذا خامس الأدلة التي ذكرها الشيخ رحمه الله في إبطال هذا المعنى الذي توهمه المبطلون في هذه الصفة التي أخبر بها سبحانه وتعالى عن نفسه. ثم قال رحمه الله: (وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان) وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء السفر: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل) هذا فيه إثبات المعية الخاصة أم العامة؟ المعية العامة؛ لأنه مصاحب للمسافر، ومصاحب لمن خلفه؛ ولذا قال: (أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل) ، والأهل هل هم معه أو خلف ظهره؟ خلف ظهره، وهذا من الأدلة الدالة على ثبوت المعية العامة، وإن كان فيها نوع تخصيص؛ لأن قوله: (وأنت الخليفة في الأهل) كأنه يقول: احفظهم، (وأنت الصاحب في السفر) كأنه يقول: احفظني، أو أعني على سفري، لكن مفاد الأمرين هو: ثبوت المعية العامة له سبحانه وتعالى، فلا يعارض كونه مع المسافر أن يكون مع غيره؛ لأن معيته لا تقتضي الممازجة والمخالطة. ثم قال رحمه الله: (وهو سبحانه فوق العرش) من أين هذا؟ من الآيات التي مرت معنا في إثبات علوه سبحانه وتعالى، وهو صريح حديث الأوعال الذي قال فيه: (والله فوق العرش) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 3 من مقتضيات المعية ثم قال: (رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته سبحانه وتعالى) ذكر ثلاثة لوازم ومقتضيات من مقتضيات المعية: الاطلاع. الرقابة. الهيمنة. وهذا تفسير للمعية باللازم، وهذا ما فيه إشكال، فتفسير المعية بهذه الأمور هو تفسير لها باللازم، لكن لماذا فسر أهل السنة والجماعة المعية بلازمها؟ هل لأنهم لا يثبتون مدلول اللفظ؟ الجواب: لا. إنما فسروها بذلك لإبطال قول من قال: بأن المعية تقتضي المخالطة والممازجة، وإلا فتفسيرها باللازم لا ينفي أنهم يثبتون مدلول المعنى، فثبوت لازم اللفظ يلزم منه إثبات الملزوم وهو ما دل عليه اللفظ، وهذه مسألة مهمة، وهي أن ما فسره السلف بلازمه لا يعني أنهم لا يثبتون مدلول اللفظ، بل هم يثبتون مدلول اللفظ على حقيقته اللائقة بالرب جل وعلا، وإنما احتاجوا إلى هذا لينفوا اعتقاد المبطلين الذين جعلوا المعية تقتضي المخالطة. وقد ورد تفسير المعية بهذا في كلام السلف، فنقل تفسير المعية بالعلم عن ابن عباس وعن الإمام أحمد وعن غيرهما من أئمة السلف من الصحابة ومن بعدهم. فقوله رحمه الله: (إلى غير ذلك من معاني ربوبيته) هذا فيه الإشارة إلى أن إثبات المعية هو إثبات لها، وإثبات للوازمها وما يلزم على ثبوت هذه الصفة، فهو سبحانه وتعالى مع خلقه بعلمه واطلاعه وهيمنته وقدرته وسلطانه، كل ذلك ثابت له، وهو مندرج في معاني ربوبيته سبحانه وتعالى؛ لأنها لا تتحقق الربوبية إلا بتمام الاطلاع والقدرة والعلم بحال المخلوق؛ ولذلك قال: (إلى غير ذلك من معاني الربوبية) ليشمل كل ما ورد عن السلف من تفسير للمعية، وأشهر ما ورد عنهم تفسيرها بالعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 4 وجوب صون الله سبحانه وتعالى عن الظنون الكاذبة قال رحمه الله: (وكل هذا الكلام الذي ذكره الله -من أنه فوق العرش وأنه معنا- حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن ظاهر قوله (في السماء) أن السماء تقله أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان، فإن الله قد وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:25] ) . يقول رحمه الله: (وكل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه -من أنه فوق العرش) وهذا علوه الخاص (وأنه معنا) - وهذا فيه إثبات معيته العامة (حق على حقيقته) أي: ثابت على حقيقته (لا يحتاج إلى تحريف) يعني: لا نحتاج إلى أن ندخل فيه متأولين بآرائنا، بل يجب إجراء ما أخبر الله به عن نفسه كما أخبر، فلا حاجة إلى التحريف الذي يسمونه تأويلاً، لكن ما الذي يحتاجه المؤمن في هذا المقام؟ الذي يحتاجه هو ما أشار إليه في قوله: (ولكن يصان عن الظنون الكاذبة) ، وهذا فيه فائدتان: الفائدة الأولى: بيان سبب تحريف من حرف في هذه الصفة، وهو أنه اعتقد معنىً باطلاً فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه فاضطر إلى تأويله وتحريفه. هذه فائدة. الفائدة الثانية: أنه يجب على المؤمن أن يجري هذا الأمر في كل ما أخبر الله به عن نفسه، وهو: أن يصون قلبه وفكره عن كل ظن سوء بربه؛ لأن من ظن بالله ظن السوء أوقعه ذلك في المهاوي والمهالك؛ ولذلك مثل رحمه الله بأمثلة فيما يتعلق بهذه الصفة وهي ثبوت العلو مع ثبوت المعية، فقال: (مثل أن يظن) إلى آخر ما قال. واعلم -يا أخي الكريم- أن الظن الفاسد فيما أخبر الله به عن نفسه يترتب عليه مفسدتان عظيمتان: المفسدة الأولى: الجناية على النصوص بالتحريف، فمن فهم من كلام الله وكلام رسوله معنىً باطلاً ضرب كل طريق، وسلك كل سبيل لإبطال هذا المعنى الباطل الذي توهمه. إذاً: المفسدة الأولى من مفاسد الظنون الكاذبة في كلام الله وكلام رسوله: الجناية على النصوص بالتحريف. المفسدة الثانية: ظن السوء بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ظن أن الله تكلم وأخبر عن نفسه بمعانٍ باطلة فاسدة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن ربه بما لا يليق أن يخبر به مطلقاً، بل كان الواجب عليه أن يقيد ويبين، وهذا فيه ظن سوء بالله عز وجل، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، ولو صان المؤمن قلبه وعقله وفكره عن هذه الظنون الكاذبة لسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 5 من أمثلة الظنون الكاذبة مثل رحمه الله بالظنون الكاذبة في هاتين الصفتين فقال: (مثل أن يظن أن ظاهر قوله (في السماء) أن السماء تقله أو تظله) تقله يعني: تحمله، أو تظله يعني: يكون تحتها، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. يقول: (وهذا الظن الفاسد باطل بإجماع أهل العلم والإيمان) أهل العلم هم أهل البصيرة بكتاب الله وسنة رسوله، وأهل الإيمان يشمل كل أهل الإسلام؛ ولذلك لا ينقدح في نفس عموم المسلمين الذين لم يتلوثوا بهذه اللوثات البدعية أن معنى قوله تعالى: {فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144] أن السماء تظله أو تقله، لا يرد هذا على خاطر أو بال عوام المسلمين، إنما يفهمون من هذا اللفظ تعظيم الله جل وعلا، وأنه على كل شيء قدير سبحانه وتعالى. ولو قلت لأحد من المسلمين: هل تفهم من قوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أن السماء تحمل الرب جل وعلا؟ لاقشعر بدنه. ولو قلت له: هل تفهم من هذا أن السماء تظله؟ لأنكر ذلك؛ وذلك لأن هذا لا يأتي إلا من الظنون الكاذبة التي أشار إليها الشيخ ونبه عليها في أول الكلام، فلو أن المؤمن صان هذا لسلم من هذه الإيرادات الفاسدة. ثم قال: (فإن الله قد وسع) هذا تقرير لبطلان هذا الظن الكاذب، (فإن الله قد وسع كرسيه السماوات والأرض) والكرسي: هو خلق من خلق الله، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، فإذا كان هذا خلقه فكيف به جل وعلا؟ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] ، لو قدروا الله حق قدره ما دارت هذه الخواطر في قلوبهم، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41] ، فكيف تحمله وكيف تظله؟ ومعنى (أن تزولا) أي: أن تتحول من مكانها أو أن تعدم، فالزوال يطلق على الأمرين: يطلق على العدم. ويطلق على تحول الشيء من حال إلى حال. فتقول: زالت الشمس، أي: تحولت من جهة المشرق إلى جهة المغرب، وتقول: زال الشيء، يعني: انعدم واضمحل، وكلاهما ثابت لله عز وجل، فإنه سبحانه وتعالى هو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، أن تتحول وتختل ويفسد نظامها، وأيضاً هو الذي يمسكها عن أن تعدم جل وعلا. {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65] ، والسماء هنا: المراد بها كل ما هو عال، فيدخل فيه إمساكه جل وعلا للشمس والقمر والنجوم والكواكب، لو شاء الله لتساقطت هذه الأجرام العظيمة على الأرض، لكنه يمسكها سبحانه وتعالى، ولا تقع إلا بإذنه جل وعلا، أي: بإذنه الكوني وتقديره سبحانه وتعالى، ولو أن الله سبحانه وتعالى لم يقم عليها لاختل نظامها وسيرها، ولذلك قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:25] ، تقوم أي: تسير سيراً مستقيماً بما فيها من الكواكب وبما فيها من الخلق الذي لا يعلمه إلا هو جل وعلا. (بِأَمْرِهِ) ، أي: بأمره الكوني. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 6 شرح العقيدة الواسطية [16] من الإيمان بالله الإيمان بأنه قريب مجيب، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ومن الإيمان بالله وبالرسل أن نثبت أن القرآن كلام الله سبحانه، منه بدأ وإليه يعود، وأنه منزل من عنده غير مخلوق ولا مفترى. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1 إثبات صفة القرب لله جل وعلا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [فصل: وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب مجيب، كما جمع بين ذلك في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) ، وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو عليّ في دنوه قريب في علوه] . هذا الفصل فيه إخبار عن صفة عظيمة من صفات الله، وهي: قربه جل وعلا، وأتى بصفة القرب بعد ذكر المعية؛ لأن كثيراً من المتأخرين وبعض المتقدمين يفسرون القرب بالمعية، فـ مقاتل بن حيان من السلف وكثير من الخلف يفسرون ما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه من القرب بأنه المعية، فيقولون: قرب العلم والقدرة، وهو قول لبعض السلف. والذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة: أن القرب وصف زائد على المعية، فهو ليس المعية التي أخبر بها سبحانه وتعالى عن نفسه، التي هي المعية العامة؛ لأن المعية العامة تثبت ولا يلزم منها قرب الشيء من الآخر، فتقول: القمر معنا وليس بقريب منك. فالمعية ليس من لازمها القرب، بل قد يكون الشيء مع الشيء وبينهما من البعد بون شاسع، والقرب الذي يثبته أهل السنة والجماعة للرب سبحانه وتعالى صفة فعلية اختيارية، فهو يقرب ممن يشاء سبحانه وتعالى، كيف يشاء، وهذا الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 2 أحوال قرب الله سبحانه من خلقه ولفظ القرب في كتاب الله عز وجل وفي السنة ورد على حالين: ورد بصيغة الإفراد، وورد بصيغة الجمع، فمن صيغة الإفراد قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ، فأضاف القرب إلى نفسه بصيغة الإفراد سبحانه وتعالى، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) ، وورد أيضاً وصف القرب بصيغة الجمع وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، وقوله تبارك وتعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] ، فهل كل هذا القرب مضاف إلى الله سبحانه وتعالى؟ بعض العلماء قال: نعم، القرب بصيغة الإفراد والجمع كله مضاف إليه سبحانه وتعالى، وعليه فسروا القرب في هذه المواضع كلها بقرب العلم والقدرة. والصحيح: أن الرب سبحانه وتعالى في كتابه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم في سنته لم يصف الله سبحانه وتعالى بالقرب على وجه العموم، فلم يرد أنه من كل شيء قريب كما ورد في نصوص المعية، إنما ورد ذلك خاصاً، فقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ، هذا قرب من الداعي، فهو قرب خاص، وليس قرباً من كل أحد. وقول عنه الصحابة: (يا رسول الله! أربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟) ما الذي سألوا عنه؟ هل سألوا عن قرب العلم والقدرة؟ هل كانوا يشكون في أنه قريب منهم قدرة وعلماً؟ لا. إنما سألوا عن القرب الخاص، وهو قربهم من الداعي؛ ولذلك قالوا: أقريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟! فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ، وهذا مما يبطل قول من قال: القرب معناه العلم؛ لأن الصحابة لم يشكوا في أن الله بهم عليم، ولا أنه جل وعلا عليهم قدير، فهم يؤمنون بأن الله بكل شيء عليم، وأن الله على كل شيء قدير، إنما سألوا عن قربه من عبده في هذه الحالة. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ، فهذا فيه إثبات القرب الخاص، وهو قربه من الساجد العابد. كذلك دنوه سبحانه وتعالى من أهل الموقف يوم عرفة دنو خاص، وليس دنواً عاماً، وقرب خاص وليس قرباً عاماً، فهو دنو من أهل الموقف دون غيرهم، وكذلك نزوله في الثلث الأخير من الليل، وإن كانت الأمثلة السابقة أوضح وأجلى ولا مجال فيها للمناقشة؛ لأنها مقيدة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 3 معنى القرب العام من الخلق والقرب العام الذي ذكر في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] ، هو قرب الملائكة، قد يقول قائل: ما الذي جعلكم تصرفون اللفظ عن ظاهره؟ نقول: ليس ظاهره أن القرب مضاف إلى الله، بل ظاهره أن القرب للملائكة، أما في آية سورة (ق) فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16] ، ثم قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق:16-17] ، وقوله: إذ، ظرف متعلق بأقرب، فهذا القرب مقيد بهذه الحادثة، ولو كان القرب عاماً لما احتاج إلى تقييده في هذه الحالة، فالقرب هنا هو قرب الملائكة؛ ولذلك قال جل وعلا: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق:16-17] ، فما فائدة ذكر المتلقيين إذا كان القرب له سبحانه وتعالى؟! فالآية سياقها وسباقها يدل على أي شيء؟ يدل على أن القرب للملائكة الكتبة الحفظة، الذين قال الله فيهم: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12] ، والذي في قوله: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4] ، حافظ يحفظ أعمالها وما كان منها، وقوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام:61] . المهم أن القرب هنا هو قرب الملائكة، أما الرب جل وعلا فإنه لم يصف نفسه بالقرب من كل أحد. أما الآية الثانية التي في سورة الواقعة: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] فهذه الآية أيضاً واردة في الملائكة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يرسل الملائكة تتوفى الأنفس، {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:83-85] ، وقوله: {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] ، الذي نفي إبصاره هل هو الله جل وعلا؟ لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يرى في الدنيا: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو إبصار الملائكة؛ ولذلك كان قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] ، يعني: أن الملائكة قريبون من الميت، ولكن لا تبصرونهم، أما الرب جل وعلا فإنه لم يصف نفسه بالقرب من كل أحد. ثم لو كان القرب عاماً لما كان هناك تمايز بين قربه من الميت وقربه من الحاضرين، فلا وجه للتخصيص، إلا أن القرب هنا هو قرب الملائكة. وبهذا يتبين أن القرب الذي وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه في كتابه هو القرب الخاص من العابد الداعي الساجد، أما القرب العام فلم يرد في الكتاب ولا في السنة مضافاً إليه سبحانه وتعالى. ومن أهل العلم من فسر القرب بالمعية الخاصة، فقال: صفة قربه سبحانه وتعالى هي معيته الخاصة لأوليائه وعباده المتقين والصابرين والمحسنين والمتطهرين وما إلى ذلك، وهذا الذي نحى إليه ابن القيم رحمه الله، وظاهر كلام شيخ الإسلام رحمه الله أن القرب صفة مستقلة عن المعية بالكلية، فليست هي المعية الخاصة ولا المعية العامة، وهذا هو الأليق بظواهر النصوص، وهو أن القرب صفة غير المعية. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 4 قربه ومعيته سبحانه لا ينافي علوه وفوقيته ثم قال رحمه الله: (وما ذكر في الكتاب والسنةمن قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته) وهذه مسألة مهمة للغاية، وهي وجوب اعتقاد ما أثبته الله لنفسه، وأنه لا تعارض بين ما أخبر به عن نفسه من العلو وما أخبر به عن نفسه من القرب والدنو والنزول والإتيان والمجيء والاستواء، وغير ذلك من الصفات، ومن توهم التعارض فإنه لم يقدر النصوص حق قدرها. فالواجب على المؤمن أن يؤمن بجميع ما أخبر الله به عن نفسه، وجميع ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يعتقد أن ذلك حق على حقيقته، ولا يرد في ذلك أن اجتماع هذه الأوصاف ممتنع في حق المخلوق، فإن ذلك هو المناسب للمخلوق، أما الخالق جل وعلا فإنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا فيما يجب له، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه جل وعلا، فتنبه لهذا، فإذا ضاق عقلك وقلت: إنه إذا قلنا إنه ينزل يلزم من ذلك ألا يكون عالياً والعلو صفة ذاتية، فكيف تنفي هذه الشبهة وهذا الإيراد؟! بأن تعلم أنه ليس كمثله شيء، وأنه سبحانه وتعالى ما وصف به نفسه ليس له نظير في المخلوقات، كما جاءت أدلة ذلك متواترة وكثيرة في الكتاب والسنة. وبهذا يندفع الوهم الوارد عند بعض الناس في صفة القرب، قالوا: إذا كان يقرب من بعض عباده فكيف يكون عالياً على خلقه؟! الجواب: أنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء في جميع نعوته؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته) ، يعني: في جميع ما وصف به نفسه، لا من جهة الاجتماع ولا من جهة الأفراد، من جهة الاجتماع كاجتماع العلو مع القرب، أو العلو مع المعية، أو العلو مع النزول، أو الظهور مع وصف الباطن سبحانه وتعالى، فهل يمكن أن يكون مخلوق من خلق الله ظاهراً وباطناً في نفس الوقت ويكون أول وآخر في نفس الوقت؟ لا يمكن، لكن امتناع هذا في المخلوق لعجزه وقصوره وضعفه، وأما الخالق فليس كمثله شيء سبحانه وتعالى، وهو الموصوف بصفات الكمال، فلا تعارض من ثبوت صفات الكمال لله؛ إذا كانت في المخلوق، وفيما ندركه منا، لا يمكن أن تجتمع، ولا يمكن أن تثبت لواحد. فتنبه لهذا فإنه مهم، واجعل معك هذا السلاح الماضي، والسيف القاطع لكل من عارضك وحاول أن يشكل عليك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فهو سبحانه وتعالى كما قال المؤلف: (وهو عليٌ في دنوه) يعني: في قربه من عباده سبحانه وتعالى، (قريب في علوه) ولا تعارض بين هذين الوصفين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 5 أنواع القرب الثابت لله جل وعلا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 6 قرب العبد من الله سبحانه وتعالى واعلم أن معنى القرب الثابت لله سبحانه وتعالى أمران: الأمر الأول: قرب قلب عبده منه سبحانه وتعالى، فقول النبي صلى الله عليه وسلم (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) هو قرب قلبه، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] ، وكذلك قول الله في الحديث الإلهي: (لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) . فيستفاد من هذا الوصف قرب قلب العبد من رب العالمين، ولا يلزم عليه أي إشكال، فقرب قلب العبد يثبته جميع أهل الإثبات، فهذا المعنى يتفق عليه أهل الإثبات جميعاً، ولا ينكره أحد إلا الصابئة والفلاسفة، فهؤلاء خارجون عن بحثنا وكلامنا، فليسوا من أهل القبلة، أما أهل الإثبات من أهل القبلة فإنهم لا ينفون هذا المعنى من ثبوت هذا الوصف للرب جل وعلا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 7 القرب القائم بذاته سبحانه وتعالى المعنى الثاني الذي يفسر به القرب: هو الذي وقع فيه الخلاف بين أهل الإثبات، والمقصود بأهل الإثبات الذين يثبتون الصفات في الجملة، ويدخل معهم الأشاعرة والكلابية والماتريدية، فسلف الأمة وأئمة السنة يثبتون القرب القائم بذاته جل وعلا، ويثبتونه قرباً قائماً بذاته، وهو فعل من أفعاله الاختيارية سبحانه وتعالى، ولا يلزم منه مماسة ولا مخالطة ولا شيء من هذه الظنون الكاذبة في الرب سبحانه وتعالى. أما جمهور المتكلمين من مثبتة الصفات فإنهم ينفون هذا المعنى، ولماذا ينفون هذا المعنى؟ لأنهم لا يثبتون الصفات الفعلية الاختيارية، وهذه معضلة عندهم، ومشكلة كبيرة، آثارها في جميع ما أخبر الله سبحانه وتعالى عن نفسه من صفات الفعل، فلعدم إثباتهم الصفات الاختيارية حملهم على إنكار هذه الصفات، وجعلوا نصيبها التأويل والتحريف بالباطل، وتحريف الكلم عن مواضعه، ولو قيل لهم: من أين لكم أنه سبحانه وتعالى لا تقوم به الأفعال الاختيارية وأنه لا يفعل ما يشاء؟ قالوا: لأن قيام الحوادث بالرب يقتضي الحدوث؛ لأن كل من قام به حادث فهو حادث، انتبه لهذه الشبهة! قلنا لهم: من أين لكم هذه القاعدة التي تعارض نصوص الكتاب والسنة، والتي سلطتموها على دلالات النصوص؟ قالوا: هذه قاعدة مجمع عليها. قلنا لهم: إن الإجماع لابد له من دليل، فالإجماع دليل سمعي، فأين ذلك في كلام الله؟ وأين ذلك في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وأين ذلك في كلام سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ هل في كلام الله سبحانه وتعالى أنه يمتنع أن تقوم به الحوادث، وأن من قامت به الحوادث فهو حادث؟ لا، ولم يأتوا بشيء ولا حرف واحد، فيقال لهم: هذه شبهة عقلية سلطتموها على النصوص، وجعلتموها مانعة لما دل عليه الكتاب والسنة من كمال الرب، وأنه سبحانه وتعالى فعال لما يريد، وأنه يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، فإذا بطلت هذه الشبهة بطل كل تأويل وتحريف في باب الأسماء والصفات. وهذه من أكبر الشبه التي تمنعهم من إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى. ونعود إلى ما نحن فيه، فنقول: القرب الثابت لله سبحانه وتعالى له معنيان: معنىً يتفق عليه أهل الإثبات وهو قرب قلب عبده منه. والثاني: يثبته أئمة السنة وسلف الأمة وهو: القرب القائم بذات الرب جل وعلا، وفي المعنيين لا يلزم أي لازم باطل، فكما أنه لا يلزم من قرب قلب العبد من الرب جل وعلا الذي يثبته أهل الإثبات أن يكون سبحانه وتعالى مختلطاً بخلقه، بل قلب العبد قريب من ربه، والرب جل وعلا فوق سمواته، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، والعبد في الأرض، فكذلك لا يلزم على المعنى الذي أثبته أهل السنة والجماعة أي لازم باطل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 8 الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق قال رحمه الله: (فصل: ومن الإيمان بالله وكتبه الإيمان بأن القرآن: كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود) . هذا الفصل عقده المؤلف رحمه الله لإثبات صفة الكلام للرب جل وعلا، وبيان أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله سبحانه وتعالى، ودل عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع سلف الأمة، بل وأجمعت عليه الأمم، وهو من لوازم الإيمان بالله، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والإيمان بالملائكة، فلا يتم الإيمان بهذه الأمور الأربعة إلا بالإيمان بأن القرآن كلام الله. أما الإيمان بالله فوجه ذلك أن الكلام صفته سبحانه وتعالى، فمن قال: إنه لا يتكلم فإنه لم يؤمن به تمام الإيمان؛ لأنه كذب ما أخبر به عن نفسه، وأخبرت به رسله من أنه سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء كيف يشاء، أما كون ذلك من لوازم الإيمان بالكتب، فإن من لازم الإيمان بالكتب أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد تكلم بكل كتاب أنزله على رسله، حتى التوراة التي كتبها الله جل وعلا بيده لموسى فإنه قد تكلم بها، هكذا قال أهل السنة والجماعة، ومضى على ذلك سلف الأمة، فمن قال: إن الكتب ليست كلام الله فإنه لم يؤمن بها حق الإيمان، بل ولم يعظمها حق التعظيم؛ لأنها إذا لم تكن كلام الله صارت كسائر المخلوقات ليس لها من الحرمة والتعظيم كما لو كانت صفته سبحانه وتعالى. أما كون الإيمان بأن القرآن كلام الله من الإيمان بالرسل؛ فإن الرسل أخبرت بأن الله سبحانه وتعالى يقول، ويأمر، وينهى، ويخبر، ويعد، ويتوعد، وكل ذلك بكلام، فمن قال: إنه لا يتكلم، فقد صدق المشركين فيما نسبوا الأنبياء إليه من أن القرآن قول البشر، كما قال الله سبحانه وتعالى في خبره عن المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] إن هنا نافية بمعنى: ما هو إلا قول البشر، فليس قول رب العالمين، كذلك هو من الإيمان بالملائكة؛ لأن الملائكة هم الذين بلغوا هذه الكتب إلى رسل الله، فالسفير بين الله ورسوله جبريل عليه السلام، ولا يتم الإيمان بالملائكة إلا إذا آمنا به، وبما أخبر الله عنه من أنه رسوله إلى رسله، يبلغ دين الله ورسالاته، فتبين بهذا أن إنكار هذه الصفة أمره خطير، وخطبه عظيم، وله تأثير في كثير من أركان الإيمان، في الإيمان بالله، الإيمان بالكتب، الإيمان بالرسل، الإيمان بالملائكة. قال رحمه الله: (ومن الإيمان بالله وكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله) ، أي: أن الله سبحانه وتعالى قد تكلم به حقيقة، ثم بعد أن بين العقد، قال: (منزل غير مخلوق) فهو كلام الله منزل، وهذا تأكيد أنه كلامه سبحانه وتعالى، فمن الأدلة الدالة على أنه كلام الله جل وعلا أنه منزل منه، ومبتدأ منه. وأما قوله رحمه الله: (غير مخلوق) ، فهذا رد على الجهمية الذين أنكروا أن يكون الله سبحانه وتعالى متصفاً بالكلام، فقالوا: إنه لا يتصف بهذه الصفة، وليس من صفاته الكلام، إنما الكلام خلقه؛ ولذلك قال: (غير مخلوق) ، فالجهمية يعتقدون أن لله كلاماً فيقولون: كلام الله، والقرآن كلام الله، لكنهم يقولون: إنه كلام مخلوق خلقه الله في غيره، خلقه الله وأنطق به غيره، فهم يضيفون الكلام إلى الله عز وجل لكنها إضافة خلق وليست إضافة وصف، وهذا الفارق بينهم وبين أهل السنة والجماعة، وهو فارق بيَّن كبير. واعلم أن هؤلاء الجمهية جرى منهم محنة لأهل السنة والجماعة في زمن الإمام أحمد رحمه الله، فامتحنوا الناس في مسألة خلق القرآن، امتحنوا الأئمة والعلماء وعامة الناس، فثبت الله سبحانه وتعالى بلطفه الإمام أحمد على عقد السلف الصالح، وما دل عليه الكتاب والسنة، حتى آب الناس وانقشعت الفتنة، وأصبح قولهم مهجوراً، وأصبح كل أحد يريد أن يستدل على صحة عقيدته ينتسب إلى الإمام أحمد رحمه الله. وهذا ليس فقط في أتباعه على مذهبه الفقهي، بل حتى أصحاب المذاهب الأخرى، لماذا؟ لأن أهل السنة والجماعة وإن تفرقت بهم الأقوال في مسائل الفروع والأحكام إلا أنهم متفقون في مسائل الاعتقاد، فقول أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من أئمة السنة واحد في باب الإعتقاد، فليس بينهم خلاف. واعلم أن أول من أظهر هذه البدعة الشنيعة -وهي إنكار هذا الوصف والزعم بأن القرآن مخلوق- الجعد بن درهم فهو أول من عرف عنه هذا القول، وقد قتله خالد بن عبد الله القسري لبدعته وشناعة ما جاء به؛ حيث أنكر صفة الكلام، وأنكر أن يكون الله سبحانه وتعالى قد اتخذ إبراهيم خليلاً، وأخذ عنه هذه البدعة الشنيعة تلميذه الموافق له في الشر والفساد الجهم بن صفوان وأظهر القول بذلك، ولذلك ينسب المذهب إليه فيقال: الجهمية، نسبة إليه؛ لأنه هو الذي أظهر مقالات السوء في أهل الإسلام، وإن كان الجعد هو الذي أسس وفصل لكن هذا هو الذي دعا وأظهر وبين. ولم يعرف من السلف من قال بهذا القول بالكلية، بل كلامهم مطبق -ولا خلاف بينهم- أن كلام الله سبحانه وتعالى صفة من صفاته، وقد جرى لأهل السنة والجماعة مناظرات في زمن الإمام أحمد، وبعد الإمام أحمد في هذه الصفة، وبينوا بياناً واضحاً شافياً ما يعتقده أهل السنة والجماعة ودلالة الكتاب والسنة وأقوال السلف على ذلك. قال رحمه الله: (منه بدأ) أي: منه ابتدأ، (من) في قوله: (منه) لابتداء الغاية، أي: من الله بدأ، والمراد بقوله: بدأ، أي: ابتدأ منه سبحانه وتعالى، وذلك رد على الجهمية الذين قالوا: إن الله يتكلم لكنه يخلقه في غيره، فأبطل أهل السنة والجماعة هذه البدعة بهذه المقولة التي اتفقوا عليها، وهي أن الكلام منه بدأ، أي: أنه منه ابتدأ، لا من غيره. وبعضهم قال: منه خرج، ليبطل ما يقوله الجهمية المعتزلة من أنه خلق الكلام في غيره، ونسبه إليه إضافة تشريف وتكريم، فقالوا: إن الذي كلم موسى ليس هو الله، إنما الذي كلمه صوت خلقه الله في الشجرة، ولا أدري كيف يستجيزون هذا مع أن القول الذي قاله الله جل وعلا لموسى في ذلك الموقف: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} [طه:14] ، فهل يجوز أن تقول الشجرة هذا القول؟! لا يجوز ولا يمكن، فعلم بذلك بطلان قولهم، وليس هذا هو الدليل الوحيد لإبطال هذه الشبهة والبدعة، بل الأدلة على ذلك كثيرة. المهم أن قول أهل السنة والجماعة: (منه بدأ) أي: منه ابتدأ لا من غيره، ولا يعني هذا أنه انفصل عنه كما تقول المعتزلة والجهمية، بل كلامه ليس ببائن منه؛ لأنه صفته، فهو كسمعه وبصره وعلمه وقدرته وغير ذلك من الصفات. وأما قوله: (وإليه يعود) فهذا فيه إشارة إلى ما جاء في الأثر من أنه يسرى على المصاحف في ليلة فلا يبقى في صدور الرجال من القرآن شيء، ولا يبقى في المصاحف منه حرف، وذلك في آخر الزمان، فيرفع الله جل وعلا كتابه إذا أعرض عنه الناس ولم يعملوا به، ولم يبق إلا شرار الخلق، وعند ذلك لا فائدة من بقائه. كما أن البيت يهدم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حجوا قبل ألا تستطيعوا أن تحجوا) وكما أخبر أن الكعبة يهدمها ذو السويقتين من أهل الحبشة. المهم أن القرآن يسرى به، وهذا معنى قوله: (وإليه يعود) ، وهذا لعظمته وأنه صفة الرب جل وعلا. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 9 شرح العقيدة الواسطية [17] من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بأن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه، وقد خالف هذه العقيدة الأشاعرة والكلابية والجهمية، فرد على شبهاتهم أهل السنة، وبينوا بطلان عقائدهم. ومن عقيدة أهل السنة الإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه، وتفصيل ذلك يذكر بأدلته في كتب العقائد. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 1 إثبات صفة الكلام لله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، وهو كلام الله حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف] . قال رحمه الله: (وأن الله تعالى تكلم به حقيقة) ، والمراد بقوله: (حقيقة) يعني: أن إضافة الكلام إليه حقيقة وليس مجازاً كما تقول الكلابية والأشاعرة، فإن الكلابية والأشاعرة يقولون: إضافة الكلام إلى الله مجاز وليس حقيقة، وإلا فإنه ليس لله كلام يسمع، وإنما هو معنىً يقوم بالذات، هكذا قال عبد الله بن كلاب، وهو أول من أحدث هذا القول في أمة الإسلام، وأول من عرف عنه إنكار أن القرآن كلام الله هو الجعد بن درهم، وأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان، وهذا عبد الله بن سعيد بن كلاب أتى بقول محدث، لم يرض قول المعتزلة، ولم يسلك طريق أهل السنة، فقال: إن الكلام معنىً يقوم بذات الرب سبحانه وتعالى، وهو معنى أزلي، وهذا المعنى ترجمه وبينه إما جبريل وإما محمد صلى الله عليه وسلم على خلاف عندهم، وهذا يرده الكتاب والسنة وإجماع السلف واللغة والعقل، كل هذا يرد على هذا القول، وتفصيل هذا مبسوط في كتابات أئمة السلف المتقدمين والمتأخرين. فالذي يجب اعتقاده في كلام الله أنه كلام الله سبحانه وتعالى لفظه ومعناه، هذا الذي عليه أهل السنة والجماعة. أما أولئك فإنهم قالوا: المعنى من الله، وأما الكلام فليس منه، أما الحروف والألفاظ فليست منه هي من غيره؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (وأن الله تعالى تكلم به حقيقة) . وقد أكد الله جل وعلا كلامه فقال سبحانه وتعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] ، فأتى بالمصدر المؤكد لفعله وهو الكلام، فقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] ، وهذا يبطل الأوهام الضالة التي تقول: إن الكلام مجاز وليس بحقيقة. ثم قال رحمه الله: (وأن هذا القرآن) المشار إليه القرآن كتاب الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، (الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره) ، وهذا تأكيد للمعنى السابق، كلامه حقيقة، فالإضافة إليه إضافة حقيقية، (لا كلام غيره) كما قالوا: إن الكلام عبر عنه جبريل أو عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: ما معنى الكلام على قول هؤلاء؟ معنى الكلام عندهم: هو أن الله جل وعلا يخلق إدراكاً في نفس السامع فيفهم به مراد الله ويعبر عنه، هذا معنى الكلام عند الأشاعرة والكلابية، إذاً: عاد قولهم إلى نفي ما وصف الله به نفسه من الكلام، وإلى موافقة الجهمية في بعض قولهم، لكنهم ليسوا كالجهمية في الصراحة، فالجهمية صرحاء يقولون: كلام الله مخلوق، وهؤلاء يراوغون، فأخذوا بعض قول الجهمية، وبعض قول أهل السنة، أخذوا من أهل السنة أن المعنى من الله، وأخذوا من الجهمية أن الحروف والألفاظ ليست من الله بل هي مخلوقة؛ ولذلك بعض أئمة السلف يسمي الأشاعرة مخانيث المعتزلة؛ لأنهم لم يتمحضوا في الاعتزال، ولم يسلكوا سبيل أهل السنة والجماعة، بل لفقوا بين حق وباطل، وكانت النتيجة أن قالوا ضلالاً؛ لأن الحق واضح لا يقبل مثل هذه المداهنات والمجاملات. فالواجب إثبات ما أثبته الله لنفسه، وإثبات ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 2 عدم جواز إطلاق القول بأن القرآن حكاية أو عبارة عن كلام الله ثم قال: [ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه] لا يجوز إطلاق القول بأنه -أي: القرآن- حكاية عن كلام الله، وهذا إشارة إلى قول الكلابية فإنهم قالوا: القرآن حكاية عن كلام الله وليس هو كلام الله وإنما قالوا ذلك؛ لأنهم يعتقدون أن المعنى من الله، وأما اللفظ فمن جبريل أو من الرسول. وأما قوله: [أو عبارة عنه] هذا فيه الإشارة إلى عقيدة الأشاعرة، فإن الأشعري لم يرتض قول عبد الله بن كلاب في أن القرآن حكاية، وقال: إنما تكون الحكاية مثل المحكي، واللفظ الذي يتركب من حروف ليس مثل المعنى، فقال: لا أقول حكاية، قالوا له: ماذا تقول؟ قال: أقول: القرآن عبارة. والحقيقة أن كلا القولين باطل وضلال، ما قاله الأشعري، وما قاله ابن كلاب، فكلا القولين ضلالة وخروج عن الصراط المستقيم، والواجب ما تقدم من كلام الشيخ، وهو الذي أجمع عليه السلف أن يقال: القرآن كلام الله، وماذا يضرنا إذا قلنا هذا؟ بل الضرر كل الضرر في مخالفة هذا؛ لأن مخالفة هذا هو مخالفة لما أفاده كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف الأمة، بل وأجمعت عليه الأنبياء. وبعد أن أشار المؤلف رحمه الله إلى طرق الضلالة في هذا الباب قال: [بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله حقيقة] . هل ما في المصاحف كلام الله؟ الجواب: نعم، كلام الله حقيقة وليس مجازاً، هل ما يقرأه القارئ كلام الله؟ الجواب: نعم، هو كلام الله حقيقة لا مجازاً، ولا أحد يقول: إن قراءة القارئ كلام الله؛ ويريد صوت القارئ، أو يريد حركة القارئ وما يكون منه من فعل في أثناء القراءة، بل كلام السلف على أن قراءة القارئ للقرآن: الكلام كلام الله، والصوت صوت القارئ، فالكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ، وهذا لا يمكن أن يرد على العقل السليم خلافهما أو شبهة فيها، وإنما جاءت الشبهة من تشبيه هؤلاء؛ لما أجلبوا بخيلهم ورجلهم على ما دلت عليه النصوص. ثم يبين المؤلف رحمه الله وجه كون إطلاق لفظ كلام الله على ما في المصاحف وعلى ما يقرأ، فيقول: [فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً] إذا قال القائل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً) ، إذا قال القائل هذا القول هل هو كلام رسول الله أو لا؟ لا أحد ينكر أن هذا هو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل يريد أحد إذا قال: إن هذا هو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللفظ والصوت الحادث هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا، فالمراد بوصف الكلام بأنه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام المبلَّغ، لا صوت المبلِّغ، ولا حركة المبلِّغ، فإن هذا لا يرد على ذهن أحد، وهذا أمر مستقر بالفطر، يدركه كل أحد، المسلم والكافر، ولكن هؤلاء خالفوا الحقائق الواضحة والبينات الساطعة ليقرروا ما عندهم من انحرافات وبدع. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 3 القرآن كلام الله حروفه ومعانيه ثم قال رحمه الله: [وهو كلام الله حروفه ومعانيه] الضمير يعود إلى أي شيء؟ إلى القرآن، فهو كلام الله حروفه ومعانيه، وهذا الذي يعتقده أهل السنة والجماعة، أن اللفظ والمعنى من الله؛ ولذلك سمى الله سبحانه وتعالى مجموع اللفظ والمعنى قرآناً، قال سبحانه وتعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] ، فجعل الكتاب الذي هو المكتوب وما تضمنه من لدن حكيم خبير جل وعلا، وقال سبحانه وتعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1] ، الإشارة إلى أي شيء؟ إلى ما يقرأه المسلمون من قول تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، فالحروف والمعاني كلها من الله جل وعلا. يقول رحمه الله: [ليس كلام الله الحروف دون المعاني] ، هذا قول جماعة من أهل اللغة قالوا: إن الكلام هو الحروف لا المعاني، أشار إلى هذا القول شيخ الإسلام رحمه الله، وأشار إلى القول الثاني بقوله: [ولا المعاني دون الحروف] إلى قول الأشاعرة والكلابية، وأما الجهمية فالحروف والمعاني عندهم مخلوقة؛ ولذلك هم يقولون ويطلقون: القرآن مخلوق، ويريدون بالخلق خلق الحروف وخلق المعاني ما عندهم إشكال، وقولهم أطرد من قول الأشاعرة والكلابية، لكنه أوغل في الضلالة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 4 إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة قال رحمه الله: [ولقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبملائكته وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عياناً بأبصارهم، كما يرون الشمس صحواً ليس بها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة، ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله تعالى] . هذا الفصل عقده المؤلف رحمه الله لتقرير رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه وتعالى يرى يوم القيامة. فقال رحمه الله: [وقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به -يعني: بالله جل وعلا- وبكتبه وبملائكته وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة] . أما دخول ذلك في الإيمان بالله فلأن الرؤية تتعلق به جل وعلا، فالإيمان بأن الله يرى من الإيمان بالله سبحانه وتعالى، أما كون ذلك من الإيمان بالكتب فلأن كتب الله سبحانه وتعالى أخبرت بأنه سبحانه وتعالى يرى يوم القيامة، ومن ذلك ما أخبر الله سبحانه وتعالى به في كتابه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة بالنظر إلى الله جل وعلا، وكما قال سبحانه وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وقوله جل وعلا: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] ، فسر المزيد برؤيته سبحانه وتعالى، والنظر إليه. فالكتب -والقرآن أشرفها وأعظمها وأجلها- أخبرت بأن الله سبحانه وتعالى يرى يوم القيامة، أما كون ذلك داخلاً في الإيمان بالملائكة فلأن الملائكة هي التي بلغت الكتب، فمن قال: إن الله سبحانه وتعالى لا يرى يوم القيامة فإنه لم يؤمن بالملائكة حق الإيمان، وكذلك الرسل؛ لأنهم أخبروا بأن الله سبحانه وتعالى يرى يوم القيامة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متواترة أن الله سبحانه وتعالى يراه أهل الإيمان يوم القيامة، فالأحاديث في ذلك مستفيضة متواترة. الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة هذا عقد أهل السنة والجماعة، ودل على ذلك الكتاب -وقد تقدم الإشارة إلى الآيات- والسنة، وذلك في أحاديث كثيرة تبلغ حد التواتر يخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وهذا الدليل الثاني. والدليل الثالث: إجماع سلف الأمة على أن الله سبحانه وتعالى يرى يوم القيامة، فقد اتفق الأئمة من السلف أن الله سبحانه وتعالى يرى يوم القيامة كيف شاء، وأنه سبحانه وتعالى يرى رؤية حقيقة لا كما يقول المؤولون: إنها كشف تجلي معنوي، بل هي رؤية حقيقة؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله في تقرير هذا المعنى: [عياناً بأبصارهم] ، أي: يرونه بأعينهم معاينة، وذلك لما جاء من الأدلة في الكتاب والسنة، وكلام السلف على هذا. ومن أوضح ما يكون في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وهم أولوها وقالوا: إلى فضله وإحسانه وجوده وثوابه وما إلى ذلك! الجزء: 17 ¦ الصفحة: 5 مذهب الأشاعرة في الرؤية جاء هذا اللفظ: [عياناً] في صحيح البخاري، ففي بعض روايات صحيح البخاري قال في حديث الرؤية: (يرونه عياناً) ، وهذه الكلمة فيها رد على الأشاعرة الذين أنكروا الرؤية التي يثبتها أهل السنة والجماعة، فقالوا: إنه يرى لكن من غير معاينة ولا مواجهة، وهذا يرده عليهم النصوص والعقل، فإنه لا يعقل شيء يرى بغير معاينة ولا مواجهة؛ ولذلك كان قولهم ضحكة عابهم فيه كل أحد، وهو معلوم الفساد بالضرورة، فإنه لا يمكن أن تحصل الرؤية إلا بمعاينة ومواجهة؛ ولذلك قال متأخروهم بإنكار الرؤية، لما رءوا أن قولهم: إنه يرى بلا معاينة ولا مواجهة؛ قول فاسد، ولم يتمكنوا من الإجابة على ما ورد عليهم، فقالوا: ننكر الرؤية، والرؤية هي الكشف، ورؤية الثواب، وما إلى ذلك من التأويلات الباردة، والتحريفات التي هي من جملة تحريف الكلم عن مواضعه. قال رحمه الله في تقرير هذه الرؤية: [كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب] ، وهذا يكون بمعاينة ومواجهة أو لا؟ نعم، تكون الرؤية بمعاينة ومواجهة في هذا المقام، فالرؤية بمعاينة ومواجهة؛ ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم الرؤية بالرؤية، ومن لازم التشبيه أن تكون الرؤية نظير ما ندركه من رؤية الشمس والقمر، ونحن لا ندرك من رؤية الشمس والقمر إلا ما كان فيه معاينة ومواجهة. قال: [كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته] أي: لا يلحقهم ضيم ولا ضير في رؤيته جل وعلا. ثم بين المؤلف رحمه الله وقت رؤية الله فقال: [يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة] ، عرصات القيامة يعني: في أرض المحشر، والعرصات جمع عرصة، وهي الفناء الواسع الذي لا بناء فيه، يرونه سبحانه كما دل على ذلك حديث أبي سعيد وأبي هريرة وهما من أصح الأحاديث، فإن فيهما: (ينادى في أرض المحشر: ليتبع كل من كان يعبد شيئاً معبوده، فيتبع الذين يعبدون الصليب الصليب، ويتبع الذين يعبدون الأصنام الأصنام، ولا يبقى إلا هذه الأمة وفيها منافقوها، فيتجلى لهم الرب سبحانه وتعالى بغير الصورة التي يعرفونها، ثم يتجلى لهم سبحانه وتعالى بالصورة التي يعرفونها -مما وصفته لهم الأنبياء- فيسجد أهل الإيمان، ويمنع أهل النفاق من السجود) . وهذه الرؤيا التي تكون في أرض المحشر رؤية التعريف، وأما الرؤية التي يحصل بها النعيم التام الكامل فهي ما يكون في الجنة، وهي التي أشار إليها رحمه الله في قوله: [ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله سبحانه وتعالى] فإن الرؤية التي تكون في الجنة هي أعلى نعيم أهل الجنة، وهي متفاوتة تفاوتاً كبيراً، ويختلف فيها الناس بحسب ما معهم من الإيمان والتقوى والإحسان، وكلما ازداد العبد إيماناً وتقوى كلما كان نصيبه من هذه الرؤية أوفر. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 6 معنى قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) واعلم أن رؤية الله سبحانه وتعالى التي تكون في الآخرة ينتفي عنها إدراك المرئي، وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، فإن هذه الآية نفت إدراك أبصار الخلق لله جل وعلا، وهذا لكماله وعظيم أوصافه سبحانه وتعالى، فهو لا تحيط به الأبصار، كما أن العقول تنحسر عن الإحاطة به سبحانه وتعالى، فكذلك الأبصار تنحسر عن الإحاطة به، وليس من دلالات الآية نفي الرؤية كما يقول المحرفون: إن قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] نفي للرؤية. فنقول: إن الله لم يقل: إن الله يرى أو لا يرى، قال: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، فنفى إدراك الأبصار، والإدراك هو الإحاطة وتمام العلم بالمرئي. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 7 هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه في الدنيا؟ ومن مباحث هذا الفصل أن الرؤية بالعين لا تكون لأحد قبل الموت، وهذا ما اتفق عليه جمهور الأمة، بل اتفق عليه أئمة المسلمين، ولا خلاف بينهم أن أحداً لن يرى ربه قبل أن يموت، وإنما وقع الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، والمقصود: الرؤية بالعين، أما الرؤية في المنام فقد وقع فيها خلاف بين أهل العلم حتى في غير النبي صلى الله عليه وسلم، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد اختلف أهل العلم هل رأى ربه بعينه في الدنيا على قولين، والذي عليه جمهور الأمة ومحققوها أنه لم ير ربه بعينه، وإنما رآه بفؤاده، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه رآه بعينه، وغاية ما ورد عن السلف إما إطلاق الرؤية بأنه رأى ربه، أو تقييد ذلك بالفؤاد، وليس عن السلف حرف واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه. وأما بالنسبة لرؤية غير النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المنام فإن هذا يمنعه كثير من أهل العلم، وقال بعض أهل العلم: تكون الرؤية على قدر ما مع الإنسان من العلم بالله سبحانه وتعالى. وعلى كل حال يقال: ما الذي أدراك أن هذا هو الرب؟ فقد يتصور الإنسان أمراً ويأتيه الشيطان بصورة يظنها ربه، والأمر على خلاف ذلك. فنحن نقول: إن الرؤية التي يحصل بها الفضل والتنعيم وكمال الجود هي ما يكون في دار النعيم الكامل في الجنة، نسأل الله أن نكون من أهلها! الجزء: 17 ¦ الصفحة: 8 هل يرى الكفار ربهم؟ ومما وقع فيه الخلاف في مسألة الرؤية هل يرى الكفار ربهم أو لا؟ والمسألة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم: منهم من قال: إنه لا يراه إلا أهل الإيمان فقط، وأما الكفار والمنافقون فإنهم لا يرونه. والقول الثاني يقول: إنه يراه أهل الإيمان والمنافقون دون أهل الكفر. والقول الثالث: أنه يراه الكفار ثم يحتجب عنهم، وهذه الرؤية ليست رؤية تنعيم ولا إكرام، بل هي رؤية معاقبة وحرمان، نعوذ بالله من الخسران! فإنهم يرونه ثم يحتجب عنهم، فيكون عندهم من اللوعة والحسرة بسبب فقدانهم رؤيته سبحانه وتعالى ما يعذبون به، ويكون زيادة في تعذيبهم والتنكيل بهم. وعلى كل حال هذه المسألة مما وقع فيها الخلاف بين أهل السنة والجماعة، فلا يضلل ولا يفسق ولا يكفر المخالف، وإنما يناقش للوصول إلى الحق، كما أنه يجب في هذه المسألة ألا يطلق القول بأن الكفار يرون ربهم، فإن هذا لا يجوز؛ لأن الرؤية إذا أطلقت فإنما يراد إثبات رؤية التنعيم والإكرام؛ فلذلك لا يقال: إن الكفار يرون ربهم على وجه الإطلاق، بل لابد من تقييد ذلك بأنها رؤية يعقبها حرمان، وأنها رؤية عقاب لا رؤية إكرام، هذه بعض المسائل المتعلقة بالرؤية. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 9 الإيمان بما يكون بعد الموت قال رحمه الله: [ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمن بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه] . هذا الفصل عقده المؤلف رحمه الله لتقرير هذا الأصل العظيم من أصول الإيمان، وهو الإيمان باليوم الآخر، واليوم الآخر اسم يصدق على كل ما أخبرت به الرسل مما يكون بعد الموت، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: [ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله وسلم مما يكون بعد الموت] ، وهذا الأصل العظيم -وهو الإيمان باليوم الآخر- أجمعت عليه الرسل، وهو من الأصول التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ولم يخالف فيه أحد من أهل القبلة، خالف فيه الفلاسفة والباطنية وأنكروا كثيراً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون يوم القيامة. وبدأ المؤلف رحمه في ذكر هذا الفصل بذكر الإيمان المجمل الذي يجب على كل أحد فيما يتعلق باليوم الآخر، فقال: [ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت] فهذا هو الإيمان المجمل الذي يشمل جميع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يقع في اليوم الآخر. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 10 الإيمان بفتنة القبر ثم بدأ المؤلف بتفصيل ذلك فقال: [فيؤمنون بفتنة القبر] ، والفتنة المراد بها: الاختبار، ففتنة القبر هي الامتحان والاختبار للميت، فإن الملكين يسألانه عن أمور سيأتي بيانها في كلام الشيخ رحمه الله، وأهل السنة والجماعة يقرون بذلك، وقد جاء ذلك واضحاً جلياً متواتراً في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أن الميت يفتن ويسأل في قبره. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 11 الإيمان بعذاب القبر ونعيمه قال: [ويؤمنون بعذاب القبر ونعيمه] ، وفهمنا من هذا أن القبر -وهو مدفن الميت- يكون فيه تنعيم وتعذيب، وهذا النعيم وهذا العذاب يكون لكل أحد ممن مات سواء قبر أو لم يقبر، قبض أو لم يقبض، فإضافة الفتنة والعذاب للقبر بناءً على الغالب، وهو أن غالب بني آدم إذا ماتوا يقبرون، ولكن لو قدر أن أحداً لم يقبر: غرق، أو أكلته السباع، أو احترق وذرته الرياح فإنه يسأل، ويفتن في أي مكان كان، ويجري عليه العذاب أو النعيم الذي يكون للمقبور. وعذاب القبر ونعيمه أمر دل عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة، فإن السلف أجمعوا على أن الميت في قبره إما أن يكون في نعيم وإما أن يكون في عذاب، والعذاب يكون على الروح أصلاً وقد يتبعه البدن، يعني: وقد يظهر أثر التنعيم أو التعذيب في البرزخ في القبر على البدن، لكن أصل التنعيم والتعذيب هو للروح، وقد جاء في كتاب الله عز وجل ما يدل على عذاب القبر: ومن ذلك ما ذكره الله جل وعلا عن قوم فرعون حيث قال: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:45] ، هذا في الدنيا، {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46] ، هذا في الحياة البرزخية، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، وهذه آية ظاهرة واضحة في ثبوت العذاب في البرزخ، وذلك أنهم يعرضون على النار في الغدو والعشي، أي: في الصباح في أول النهار وفي آخره. ومما يدل أيضاً على عذاب القبر ما ذكره الله سبحانه وتعالى عن قوم نوح حيث قال: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25] ، أغرقوا هذا في الدنيا، {فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25] ، هذا في الحياة البرزخية، والأدلة متعددة عند التأمل يجدها الإنسان في كتاب الله عز وجل، وهي تدل على العذاب في القبر. وأما السنة ففيها أحاديث كثيرة مستفيضة متواترة تدل على ثبوت العذاب لأهل القبور كما تدل على تنعيم أهل القبور. ومما يذكر هنا أن العذاب الذي يكون في القبر على نوعين: عذاب دائم، وعذاب منقطع. أما العذاب الدائم فنظير ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن آل فرعون حيث قال جل وعلا: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46] ، إلى متى؟ إلى قيام الساعة؛ ولذلك قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، فلم يذكر أمداً ينتهي إليه هذا العرض وهذا التعذيب، فدل ذلك على دوامه، نعوذ بالله منه! النوع الثاني من عذاب القبر: عذاب منقطع، وهو بقدر ما يكون مع الإنسان من المعصية، كما يعذب أهل النار من أهل التوحيد في النار بقدر سيئاتهم وذنوبهم حتى يمحصوا ثم يخرجون منها. واعلم أن العذاب في القبر مما يخفف به على الإنسان إن كان من أصحاب المعاصي، فإنه قد يعذب في القبر ولا يعذب يوم القيامة، وقد يعذب في القبر ويعذب يوم القيامة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 12 شرح العقيدة الواسطية [18] مما يجب على المؤمن أن يؤمن به: اليوم الآخر، وما يكون فيه مما أخبر الله في كتابه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته: من البعث، والأهوال، ونشر الصحف، ووزن الأعمال، وغير ذلك. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 1 فتنة القبر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [فأما الفتنة فإن الناس يمتحنون في قبورهم، (فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] ، فيقول المؤمن: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي، وأما المرتاب فيقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق) ] . هذا فيه تفصيل الفتنة التي تكون في القبر، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن أمن منها، وفاز فيها! يقول رحمه الله: (فأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم) يمتحنون ويختبرون، ثم بين وفصل ما هذا الاختبار: (فيقال للرجل -والمقصود المقبور ذكراً كان أو أنثى-: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟) وهذه هي الأصول الثلاثة التي إذا وفق العبد إلى القيام بها في الدنيا وفق إلى الجواب عنها يوم القيامة، فبقدر ما يكون مع الإنسان من الثبات على هذه الأصول الثلاثة بقدر ما يحصل له من الثبات عند الفتنة والاختبار. (من ربك؟) هذا سؤال عن الرب جل وعلا. (وما دينك؟) هذا سؤال عن الدين. (ومن نبيك؟) هذا سؤال عن الرسول. قال: (فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] ) يثبتهم وهم أشد ما يكونون حاجة إلى التثبيت؛ وذلك أن هذه الفتنة ليست أمراً سهلاً ولا أمراً يسيراً، إنما هي أمر عظيم، وخطب كبير، يأتي الإنسان في هذا المكان الموحش ملكان عظيمان، ورد تسميتهما: (منكر ونكير) في السنة، وهذان الاسمان يتضمنان وصفين لهذين الملكين، فإنهما يأتيان بهيئة تنكرها النفوس فيراهما حقيقة، وكيف بك إذا رأيت شيئاً لم يسبق لك أن تراه؟ فالهول عظيم؛ ولذلك يحتاج الإنسان إلى التثبيت، فقال الله سبحانه وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] ، وهو ما يكون في فتنة القبر، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم الثبات على الحق في الدنيا والآخرة! وفي هذا الامتحان ينقسم الناس إلى قسمين: مؤمن، وكافر. (فيقول المؤمن) في جواب هذه الأسئلة الثلاثة (الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي) فيأمن ويفوز، ويسلم من هذه الفتنة، (أما المرتاب) ويشمل المنافق والكافر، (فإنه يقول: هاه هاه، لا أدري) أعوذ بالله، أما المنافق فإنه يغلق عليه ما كان يتلفظ به في الدنيا بلسانه، وأما الكافر فإنه لم يهتد، فلا يقر برب يفرد بالعبادة، ولا بدين يجب اتباعه وقبوله، ولا برسول يلزم الإيمان به والتصديق؛ فلذلك يكون قوله: (لا أدري) مطابق لحاله. وأما المنافق فإنه يغلق عليه ويغفل عما كان يقوله بلسانه، ولم يقر منه شيء في قلبه، فيقول: [سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته] هذا حال المنافق والمرتاب، إما أن يكون قولاً صحيحاً لم يقره في قلبه، وإما أن يكون قولاً باطلاً فلا ينفعه حتى لو ذكره للملكين، فهذا يشمل جواب المنافق وجواب الكافر، فيصح أن يقول المنافق: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، يعني: ولم يقر في قلبي فلم أتذكره، ويصح أن يكون هذا الجواب من المنافق، أنه لم يهتم بهذا الأمر، وإنما قال قولاً لا يدري عن صدقه ولا عن صحته. فلا يلزم أن يكون هذا من المنافق فقط، بل قد يكون من المنافق وقد يكون من الكافر، المهم أنه لا يوفق إلى الجواب، ويحال دونه ودون الصواب. [فيضرب بمرزبة من حديد] ولا تقول: كيف ولا نرى؟ هذا أمر غيبي فلا تقل: كيف، ولا تعلق ذلك بالرؤية، فإن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم صدق وحق على حقيقته، ومن نعمة الله أن هذا لم يدخل فيه أهل التأويل بالتحريف الباطل، ولا بالتأويل المذموم، بل سلموا للنصوص؛ ولذلك قل الخلاف في هذا الأصل بين أهل الإسلام. والذين خالفوا شيخ الإسلام رحمه الله وشنعوا عليه في هذه الرسالة، لما قرئ عليهم هذا الفصل لانت جلودهم، وقبلوا قوله، ولم يخالفوه، بخلاف الفصول السابقة فإن الجدال فيها كثر، والنكير فيها واضح منهم على شيخ الإسلام رحمه الله. [فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء] ، ظاهره أنه يسمعها كل شيء على الأرض، ولكن جاء في الحديث: (أنه يسمعها من كان قريباً من القبر) ، وأنه ليس المراد يسمعها كل شيء ولو بعد، إنما يسمعها كل شيء ممن كان قريباً من القبر إلا الإنسان فإنه لا يسمعها، وهذا من رحمة الله عز وجل بنا. قال: [ولو سمعها الإنسان لصعق] لهول الأمر وعظيم الخطب، ولكن من رحمة الله عز وجل أن حيل بين الإنسان وسماع هذا الذي تفزع له القلوب، ولو أن الناس سمعوا لوقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصعق. هذه الفتنة هل هي عامة لكل أحد؟ ظاهر كلام الشيخ رحمه الله أنها عامة لجميع المكلفين، وهذا هو الصحيح، أن الفتنة عامة لكل مقبور، ولم يقع خلاف بين أهل السنة والجماعة في ذلك، إلا في الأنبياء فقد اختلف أهل العلم في وقوع الفتنة لهم على قولين: منهم من قال: إنهم يسألون، ومنهم من قال: إنهم لا يسألون. والظاهر أنهم لا يسألون؛ لأنه يسأل عنهم، وعلى كل حال المسألة ليس وراءها كثير فائدة بالنسبة لما يتعلق بالأنبياء. كذلك مما وقع فيه الخلاف الشهداء، وظاهر السنة أنهم لا يفتنون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث: (كفى ببارقة السيوف فوق رأسه -أي: المجاهد- فتنة) . وممن استثني من غير المكلفين المجنون والصغير، فقد اختلف العلماء: هل يسألون أو لا؟ على أقوال، وعلى كل حال نحن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى حكم عدل لا يظلم الناس شيئاً، فإنهم إن سئلوا فهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتنة التي تكون لهم يوم القيامة؛ لأن من لم تبلغه الرسالة أو مات وهو صغير ولم يمت على الإسلام وما أشبه هؤلاء يفتنون يوم القيامة ويختبرون، فإن آمنوا وصدقوا وامتثلوا نجوا، وإلا كان ذلك هلاكاً لهم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 2 نعيم القبر وعذابه قال رحمه الله: [ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى] . تقدم البيان بأن العذاب نوعان: منه ما هو دائم، ومنه ما هو منقطع. فقوله: إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة هذا من جهة العموم ينقسم الناس إلى هذين القسمين، أما من جهة الاستمرار وعدمه فإن ذلك لم يتعرض له رحمه الله في هذا الموضع، وقد يخفف ولا يرفع بالكلية كالذي جرى من النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول، ثم أخذ جريدة رطبة ووضعها صلى الله عليه وسلم على القبر، ولما قيل له في ذلك قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا) ، وهذا توقيت لارتفاع العذاب، حيث علق النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف بمدة رطوبة الجريدة، وهذا يدل على أنه قد يخفف العذاب، وقد يرفع، وأنه لا يلزم من كون الإنسان يعذب في القبر أن يستمر ذلك. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 3 الإيمان بالبعث قال رحمه الله: [فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون] . يقول رحمه الله: [فتعاد الأرواح إلى الأجساد] ، وهذا مما أجمع عليه أهل الإسلام، ولم يخالف فيه إلا الفلاسفة الذين قالوا: إن البعث لا يكون للأبدان، بل البعث للأرواح فقط! وهؤلاء مكذبون لما علم من الدين بالضرورة، وما جاءت به الرسل، فإن الرسل أخبروا بأن الأرواح تعاد إلى الأجساد، وأن الناس يخرجون من قبورهم في مواضع كثيرة من كتاب الله عز وجل وفي السنة، فهذا أمر كما قال المؤلف رحمه الله أجمع عليه المسلمون، ولم يخالف فيه إلا الفلاسفة الموحدون الذين قالوا: إن الإعادة إنما هي فقط للأرواح دون الأبدان. ثم قال رحمه الله: [وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق، فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102-103] ، وتنشر الدواوين -وهي صحائف الأعمال- فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره كما قال سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13-14]] . قال الشيخ رحمه الله: [وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون] ، وهذا القيام يكون بعد النفخ في الصور، وهي النفخة الثالثة التي تعاد بها الأرواح إلى الأبدان كما قال الله جل وعلا: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] ، فهذه هي نفخة البعث، وقد دل على هذا -كما ذكر المؤلف رحمه الله- الكتاب والسنة وإجماع السلف. فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين لا لغيره؛ لأنه جل وعلا الملك الذي وصف نفسه في أم الكتاب بقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ، مالك يوم الحساب، لا مالك إلا الله سبحانه وتعالى. (حفاة عراة غرلاً) وهذا فيه وصفهم عند قيامهم، وأنهم يعودون كهيئتهم في خلقهم الأول، (حفاة) فلا شيء يقي أقدامهم، (عراة) فلا شيء يقي أبدانهم، (غرلاً) لم ينقص منهم شيء، فيأتون على أكمل هيئة، لا نقص في أبدانهم، ولا شيء يواري أجسادهم، ولا يقي أقدامهم شيء في ذلك الموقف العظيم الذي تشيب منه الولدان كما قال جل وعلا: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] ، فيعيد الله عز وجل الخلق على هيئتهم الأولى، وتبعث الأجساد التي طاعت واستقامت، وتبعث الأبدان التي عصت وطغت؛ ولذلك تشهد عليك جوارحك يوم القيامة، ولا يشهد إلا ما شاهد، فإنها تبعث يوم القيامة وتشهد عليك، فالبعث للأبدان التي كانوا عليها في الدنيا، وإن كان يعطيهم الله جل وعلا من القوى ما ليس لهم في الدنيا، فإن الشمس -كما سيأتي- تدنو من رءوس الخلائق، ولو كان هذا في دنيانا هذه لاحترق الكون، واحترقت الأبدان، لكن يمدهم الله سبحانه وتعالى بخلق يستعينون به على مواجهة أهوال ذلك اليوم، ويناسب الحال الأخروية التي لا موت بعدها ولا فناء، ولا يلزم من هذا تغير الأبدان، بل الله على كل شيء قدير. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 4 دنو الشمس من الخلائق قال: [وتدنو منهم الشمس] وهذا قد ثبت في أحاديث كثيرة في السنة، وأن هذه الشمس العظيمة تدنو من رءوس الخلائق قدر ميل أو ميلين، واختلف في الميل: هل هو ميل المسافة أو ميل المكحلة؟ على قولين، وعلى أيهما فالأمر عظيم سواءً ميل المكحلة أو ميل المسافة. [ويلجمهم العرق] هذا فيه بيان منتهى ما يصل العرق من الإنسان، وإلا فإنه ليس كل أحد يكون هذا مصيره، فمن الناس من يبلغ العرق منه إلى الكعبين، ومنهم إلى حقويه، ومنهم دون ذلك، ومنهم أكثر من ذلك، إلى أن يبلغ الإلجام وهو موضع اللجام من الفرس. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 5 نصب الموازين قال رحمه الله: [وتنصب الموازين] والموازين جمع ميزان، والميزان جاء الخبر عنه في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما في الكتاب ففي قوله جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ، وكذلك في الآيات التي ذكرها المؤلف: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:102-103] . وأما السنة ففي قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ، وهو مما تواتر النقل بثبوته عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالميزان جاء فيه أحاديث متواترة، وهو ميزان حقيقي غير العدل؛ لأن من المئولة من يقول: المراد بالميزان: ظهور العدل. والصحيح أنه ميزان حقيقي كما أخبرت به النصوص، ودلت عليه الآثار، ومضى عليه سلف الأمة الأخيار، وأما كيفية هذا الميزان، فهو كسائر ما أخبرنا به مما لا تدركه عقولنا من أمور الغيب، نعرف أن الميزان يوزن به، أما تفصيل الكيفية فلا ندركه، هل هو نظير الموازين التي نعرفها في الدنيا أو لا؟ الله أعلم بذلك، لكن هو ميزان توزن به الأعمال، له كفتان كما دلت السنة، كفة توضع فيها الحسنات، وكفة توضع فيها السيئات، وهل هو ميزان واحد أو موازين متعددة؟ جاء لفظ الميزان في الكتاب والسنة مفرداً ومجموعاً، فمن العلماء من قال: إنه ميزان واحد توزن به أعمال الخلائق كلهم، ومنهم من قال: إنها موازين، ومنهم من قال: إن لكل أمة ميزاناً، ولا يجرؤ الإنسان على الجزم هل هو ميزان واحد أو هي موازين متعددة، لكن ظاهر السنة التعدد، وقال بعض أهل العلم: إن ظاهر الكتاب والسنة التعدد، والإفراد لا يعارض التعدد؛ لأن الإفراد باعتبار الجمع. ومن قال: بأنه ميزان واحد، قال: الجمع المراد به: اختلاف الموازين باختلاف الموزون لا باختلاف الميزان نفسه، يعني: باعتبار اختلاف ما يوزن، لا باعتبار اختلاف الميزان نفسه. على كل حال نحن نؤمن بما دلت عليه النصوص من إثبات هذا الذي أثبته الله عز وجل، وهو الميزان الذي توزن به الأعمال. وقوله: [تنصب الموازين] أي: تقام، كما قال الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ، موازين العدل، فتوزن فيها أعمال العباد. فأفادنا المؤلف رحمه الله أن الذي يوزن هو أعمال العباد، ودليل ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] ، (من) هنا شرطية، وجواب الشرط في قوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] ، والموازين هنا هي ما يوزن من الأعمال، فأعمال العباد توزن فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، فإن رجحت حسناته فأولئك هم المفلحون، فمعنى ثقل الموازين: رجحان الحسنات على السيئات، ومعنى خفة الموازين رجحان السيئات على الحسنات، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:103] ، نعوذ بالله من الخسران! وهذا فيمن خفت خفة لم يبق له معها حسنة، وهؤلاء هم الكفار الذي قال الله فيهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، فلا يقام لهم وزن يوم القيامة. والنصوص تذكر المتقابلين، تذكر مآل أهل الإيمان، ومآل أهل الكفر، وبينهم درجات، فالكفر دركات، والإيمان درجات، والنصوص تبين مآل منتهى الفريقين؛ ولذلك من خفت موازينه من أهل الإيمان بأن ثقلت سيئاته على حسناته ومعه أصل الإيمان، هل يكون في جهنم خالداً؟ لا، لا يكون في جهنم مخلداً، إنما يكون فيها إلى أن تمحص سيئاته، ويخلص من ذنوبه، ثم ينقل من النار إلى الجنة. وقد دلت نصوص أخرى على أن الميزان يكون للعامل نفسه؛ ومن ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ساقيّ ابن مسعود أثقل في الميزان من جبل أحد) ، فدل ذلك على أن الذي يوزن العامل نفسه. ودلت نصوص أخرى على أن الذي يوزن هو الكتاب لا العمل كما في حديث صاحب البطاقة، فإنه يؤتى بالبطاقة وتوضع في كفة، والبطاقة هي سجل العمل، فما الجمع بين هذه الآثار؟ قال بعضهم: إن الوزن يكون لهذا ولهذا ولهذا، فالكل يوزن. والظاهر أن الأصل في الوزن يكون للعمل، وأنه قد يوزن العامل، وقد يوزن سجل العمل، لكن الأصل في الوزن إنما هو للعمل كما دلت عليه الآية التي ذكرها المؤلف، وكما دل عليه قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ، فالمثقال هنا: معيار وزن، والموزون هو العمل، فأكثر النصوص على أن الوزن للعمل. فنقول: الأصل في الوزن للأعمال، وقد توزن الكتب والسجلات، وقد يوزن العامل. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 6 نشر الصحف قال رحمه الله: [وتنشر الدواوين] تنشر أي: تفرق، فالنشر أصله التفريق، والدواوين جمع ديوان، وما هو الديوان؟ الديوان في الأصل هو السجل الذي يكتب فيه، والمراد به: الكتاب الذي في أيدي الحفظة، فإنه ينشر يوم القيامة ويؤتى به، قال الله جل وعلا: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17-18] ، يسجل، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:10-11] ، يكتبون العمل، وقال جل وعلا: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] ، فدل ذلك على أن عمل الإنسان وما يكون منه مكتوب مسجل، وهذا المكتوب المسجل ينشر. قال المؤلف رحمه الله: [وتنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال، والناس في هذا الموقف بين مسرور ومثبور، فآخذ كتابه بيمينه -وهذا هو المسرور نسأل الله أن نكون منهم- وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره -وهذا هو المثبور نعوذ بالله من الخسران-] . كما قال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] ، طائره يعني: عمله؛ لأن العمل به يعلو الإنسان، وبه يهوي وينزل، قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) وقيل: إن الطائر هو القرطاس، وكان يستعمله العرب في ضربهم للأزلام، والمراد واضح: أنه يلزم ما كان منه من عمل، {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} [الإسراء:13] ، وأين يلزم؟ {فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] ، وهذا دليل على شدة الملازمة وقربها، وعدم التمكن من الانفكاك منها، فما كان في الرقبة لا سبيل للتخلص منه. {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا} [الإسراء:13] ، وهذا الكتاب ما هو؟ هو كتابه الذي كان يرصد فيه عمله، ويسجل فيه ما يكون منه، {يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:13] ، أي: مبسوطاً مفرقاً واضحاً. {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] ، فيؤمر بقراءة كتابه، ويقال له: نكتفي من حسابك بمحاسبتك لنفسك، فيكون الإنسان على نفسه حسيباً يوم القيامة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 7 الحساب قال رحمه الله: [ويحاسب الله الخلائق] وذلك بعد أن يأتي جل وعلا لفصل القضاء، وأول ما يحاسب عليه الناس التوحيد، فيقال: ماذا أجبتم المرسلين؟ أي: في أصل الدين والتوحيد، أما من حيث العمل، فالعمل قسمان: حق لله، وحق للخلق. فأول ما يحاسب فيما يتعلق بحق الله الصلاة، وأول ما يحاسب ويقضى به بين الناس فيما يتعلق بالحقوق التي بينهم الدماء، فيحاسب الله عز وجل الخلائق، والخلائق هنا يشمل جميع بني آدم، ويشمل الجن أيضاً جميعاً، يحاسبهم جل وعلا في ساعة واحدة، لا إله إلا الله! على اختلاف ألوانهم وأعمارهم وأعمالهم وألسنتهم وكثرتهم يحاسبهم سبحانه في ساعة واحدة، ولما قيل لـ ابن عباس: كيف يحاسبهم في ساعة واحدة وهم كثر وهو واحد؟ قال: كما يرزقهم في ساعة واحدة، ولا يشغله رزق فلان عن رزق فلان؛ كذلك يحاسبهم في ساعة واحدة، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . ويخلو بعبده المؤمن تكريماً له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكمله الله ليس بينه وبينه ترجمان، فيقرره بذنوبه) أي: يعرفه بها، ويجعله يقر بما كان منه من سيئات، وما هي الذنوب التي يقرره بها؟ هي الذنوب التي لم يتب منها، أما ما كان من الذنوب وتاب منها؛ فإن ذلك يعفى ويصفح عنه، وهذا من فضل الله ورحمته، فكل ذنب خالطه الإنسان وتاب منه يمحى عنه، ولا يسأل عنه، ولا يحاسب عليه؛ كرماً من الله وتفضلاً، أما ما كان من الذنوب التي لم يتب منها الإنسان فهو الذي يقرره بها جل وعلا، ويسأله عنها. يقول: [كما وصف ذلك في الكتاب والسنة] أي: أن تفصيل هذا جاء في الكتاب والسنة. وهل عاقبة هذا التقرير المحاسبة والمؤاخذة؟ الجواب: الناس على درجات، منهم من يناقش، ومن نوقش الحساب عذب، ومنهم من لا يناقش، إنما يعرض عليه عمله ويقال له: كما سترتها عليك في الدنيا أنا أغفرها لك اليوم، سبحان الله! فيجمع له فضيلتين ونعمتين: فضيلة وإحسان سابق، وفضيلة وإحسان لاحق. السابق هو سترها في الدنيا، واللاحق هو العفو عنها يوم الموقف والعرض على الله جل وعلا. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 8 محاسبة الكفار ثم قال: [وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته] لا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته لماذا؟ لأنه لا حسنات لهم؛ ولذلك قال: [فإنه لا حسنات لهم] كيف لا حسنات لهم؟ أي: لا حسنات معتبرة، قال الله جل وعلا: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، والعمل هنا المراد به: العمل الصالح، فإنه لا ينتفع به، لكن من عدل الله وإحسانه أنه يجزيه عليه في الدنيا، أما الآخرة فإذا وافى الآخرة لم يقدم بعمل إذا لم يأت بأصل الدين وهو التوحيد، والإقرار لله بالإلوهية، وللنبي صل الله عليه وسلم بالرسالة. وفهمنا من هذا أنه يحاسب محاسبة أخرى، فنفى عنه المحاسبة التي هي وزن الأعمال، وهو المشار إليه في قوله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] ، فإنه لا يقام لهم يوم القيامة وزناً، أي: وزناً ينتفعون به، وزناً يوازن به بين الحسنات والسيئات. أما المحاسبة التي هي عرض الأعمال على وجه التقريع والتوبيخ وإقامة الحجة عليه من نفسه؛ فذاك قد جاءت به السنة، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (إن الله سبحانه وتعالى يقول لعبده: يا فل! - ترخيم يا فلان- ألم أسودك؟ ألم أربعك؟ ألم أزوجك؟ ألم أجعلك ترأس؟ فيقول: بلى يا ربي! فيقول الله جل وعلا: أكنت تظن أنك ملاقِ؟ فيقول: لا. فيقول الرب جل وعلا: اليوم ننساك كما نسيتني) وهذا لا يكون إلا من الكافر؛ لأن من ظن أنه لا يلقى الله فإنه يكفر بذلك. وهذا فيه أنه يحاسبهم سبحانه وتعالى ويكلمهم، لكنه كلام توبيخ ومحاسبة وتقريع وزيادة حسرة وندامة، نعوذ بالله من الخسران! وقوله: [فإنه لا حسنات لهم] يصح أن تقول: لا حسنات بناءً على الفتح، ويصح بالبناء على الكسر، وجهان، يمكن أن تقول: فإنه لا حسناتَ لهم، ويصح أن تقول: فإنه لا حسناتِ لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، هذا هو الحساب الثابت للكفار، فما ورد من أن الكفار يحاسبون فمعناه: عد أعمالهم وإحصاؤها، فتعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها، ويقرون بها، ويجزون بها، هذا معنى محاسبة الكفار، والمؤلف رحمه الله إنما ذكر منتهى الفريقين كما هو الحال في الكتاب والسنة، وكما ذكرنا لكم أن أهل الإيمان درجات في حسابهم، كما أن أهل الكفر درجات في حسابهم، والقرآن إنما يبين منتهى حال الفريقين: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] ، وهذا هو الذي جرى عليه الكتاب، وجرى عليه المؤلف رحمه الله في كلامه في هذا الموضوع. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 9 شرح العقيدة الواسطية [19] من أركان الإيمان الإيمان باليوم الآخر، ومن ذلك الإيمان ب الحوض والصراط، فالحوض محل لتكريم عباد الله، فيشربون منه في الموقف الذي يشتد حره وكربه على الخلق، والصراط محل لمرور أهل الإسلام إلى الجنة، فمن ناج مسلم، ومخدوش مسلم، ومكردس على وجهه في نار جهنم أعاذنا الله منها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 1 الحوض بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وفي عرصات القيامة الحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر وعرضه شهر، من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً] . اللهم اجعلنا منه يا رب العالمين. يقول رحمه الله: (وفي عرصات القيامة) العرصة: الفناء الواسع الذي لا بناء فيه، والمقصود به أرض المحشر في تلك الأهوال العظيمة. قوله: (الحوض المورود) الحوض: اسم لما منّ الله به على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مما سيأتي وصفه، وقوله: (المورود) أي: الذي يرده أهل الإيمان من أتباع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك لكثرة من يرد عليه من أهل الإيمان، وهذا الحوض المورود قد دلت عليه السنة الصريحة، فهو قد ورد في السنة متواتراً، وقد جاء ذكره في الكتاب في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] ، فإنه قد فسر بالحوض المورود، مع أن الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم أوسع من الحوض المورود، لكن يدخل فيه الحوض الذي جاء الخبر عنه في سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكوثر اسم للخير الكثير، والنبي صلى الله عليه وسلم قد آتاه ربه وخصه بخير كثير في الدنيا والآخرة، فالحوض ثابت بالكتاب وبالسنة، وقد أجمع عليه أهل الإسلام. وهذا الحوض خاص بهذه الأمة، ولا يرده إلا أهل الإسلام، أما بقية الأمم فقد اختلف هل لهم حوض يردونه أو لا؟ فورد في جامع الترمذي من حديث سمرة: (إن لكل نبي حوضاً) ، وهذا الحديث في إسناده مقال، وعلى القول بأن لكل نبي حوضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم حوضه لا يجارى ولا يضارى، فهو أعظمها وأكبرها وخيرها. وقد ورد وصف هذا الحوض في السنة، وذكر المؤلف رحمه الله شيئاً من أوصافه فقال: (ماءه أشد بياضاً من اللبن) ، وهذا فيه جمال المنظر، (وأحلى من العسل) ، وهذا فيه طيب الطعم، وجاء في الصحيح: (ورائحته أطيب من المسك) ، وهذا فيه زكاء الرائحة، فحسبك بمورد حسن منظره، وطاب مذاقه، وزكت رائحته، في يوم يبلغ الناس فيه من الكرب والشدة ما تقدم وصف بعضه، ويكفي من ذلك دنو الشمس التي تلهب الأكباد، ويكون الناس بحاجة شديدة إلى الماء، فيردون هذا المورد الطيب جعلنا الله وإياكم من أهله. وقوله: (آنيته عدد نجوم السماء) أي: كثيرة، ومن يحصي عدد نجوم السماء؟ لا يحصيها إلا الذي خلقها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 2 مسائل في الحوض لم ينبت بها دليل قوله: (طوله شهر وعرضه شهر) . هذا خبر من النبي صلى الله عليه وسلم يبين فيه سعة هذا الحوض، وأنه في السعة بلغ طوله شهراً وعرضه شهر، فبأي حساب يحسب الشهر، أبسير الإبل أم بسير الطائرات أم بسير الخيول؟ الجواب: الله أعلم، ونقف حيث وقف عليه النص فنقول: طوله شهر وعرضه شهر. أما معيار الحساب فبعضهم قال: معيار الحساب يرجع فيه إلى الحقيقة العرفية؛ لأنه لم يرد فيه حقيقة شرعية ولا حقيقة لغوية، والحقيقة العرفية في هذا أنهم كانوا يحسبون السير بسير الإبل. واختلف أهل العلم في الحوض هل هو مستدير أو مربع. وعندي أن هذا الخلاف لا فائدة منه؛ لأنه لو كان فيه فائدة لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، وهل يستفاد من قوله: (طوله شهر وعرضه شهر) الاستدارة أو التربيع؟ الذي يظهر أنه لا يستفاد منه ذلك؛ لأن المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (طوله شهر وعرضه شهر) بيان سعة هذا الحوض، وليس المراد بيان هيئته وصفته هل هو مستدير أو مربع. فعندي أن اللفظ لا يدل على هذا ولا على هذا، إنما المراد بيان عظيم سعة هذا الحوض، وأنه لا يضيق بمن يرد عليه. قال: [من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً] . وهذا من فضل الله عز وجل ورحمته، فمن شرب منه أمن من الظمأ، وكيف يشرب منه؟ الله أعلم كيف يشرب منه، وأما أن يكون الشرب بمناولة النبي صلى الله عليه وسلم، كما يقول بعض الناس: اسقنا شربة من يده الشريفة فهذا ليس فيه دليل، ومن الاعتداء في الدعاء أن تقول هذا القول، فليس هناك دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يسقي الناس، وأنه هو الذي يناولهم بيده، فالنصوص أخبرت بأنه يشرب منه، ولم تبين هل الشرب يكون بمباشرة الإنسان بنفسه أو يكون بمناولة أحد. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 3 الصراط وما ورد فيه قال رحمه الله: [والصراط منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار، يمر الناس على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يخطف خطفاً ويلقى في جهنم، فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم] . قال رحمه الله: [والصراط منصوب على متن جهنم] . الصراط في اللغة فعال بمعنى: (مفعول) ، أي: مصروط، وهو ما يطرق ويسار عليه، فالطريق المسلوك يسمى صراطاً، وقد أخبرت السنة بالتواتر أن الناس يمرون على الصراط يوم القيامة. قال المؤلف رحمه الله في بيان الصراط: [منصوب على متن جهنم] أي: على ظهرها، فالمتن هنا هو الظهر، أي: أنه على جهنم. وأما صفة هذا الصراط فقد جاء في الحديث: (دحض مزلة) ، وجاء في حديث آخر: (أحد من السيف وأدق من الشعرة) ، وهذا الاختلاف في الوصف -إن ثبتت الرواية الثانية- هو اختلاف باعتبار أحوال الناس، فإن الناس يوم القيامة يختلف حالهم باختلاف أعمالهم؛ ولذلك يكون منهم المسرور ويكون منهم الشقي، مع أنهم في موقف واحد، والأمر عليهم واحد فيما يظهر، ولكنه يختلف باختلاف أحوالهم، فمن جاء آمناً يوم القيامة {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] ، ومن جاء مسيئاً مثقلاً بالذنوب فيدعو بالويل والثبور. فإن ثبت الوصف الثاني فإنه يكون باعتبار اختلاف أحوال الناس؛ لأن الوصف الأول مفاده سعة هذا الصراط، وهو ما يفيده اللفظ، فالصراط يطلق على الطريق الواسع المسلوك. وأما الوصف الثاني -وهو أنه أحد من السيف وأدق من الشعرة- فهذا جاء به الأثر، فإن كان محفوظاً فالمراد اختلاف أحوال الناس كما ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم، ولا تسأل كيف يكون كذا ويكون كذا والسالكون عليه أمرهم واحد؟! فإن أمور الآخرة لا تدركها العقول، لا تدرك حقائقها وكيفياتها عقول الناس، بل يجب الإيمان بذلك كما أخبرت به النصوص كسائر أمور الغيب. يقول رحمه الله: [وهو الجسر أو الجسر -بالكسر والفتح- الذي بين الجنة والنار] . أي: الذي لا يمكن لأحد أن يدخل الجنة إلا بعبوره، وإلا فهو مضروب على متن جهنم، والذي بين الجنة والنار هو القنطرة التي يحبس عليها أهل الأعراف، والجسر مضروب على جهنم نفسها، فمراد المؤلف رحمه الله بقوله: [الذي بين الجنة والنار] يعني: الذي لا يمكن الوصول إلى الجنة إلا من طريقه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 4 من يمر على الصراط؟ قال رحمه الله: [يمر الناس عليه على قدر أعمالهم] . المراد بالناس هنا أهل الإسلام، فإنه لا يمر على الصراط إلا مسلم، وبه نفهم أن المراتب المذكورة فيما سيأتي هي مراتب أهل الإسلام، فإن أهل الكفر يتبعون معبوداتهم وطواغيتهم قبل أن يعبر الناس الصراط، فأولئك يلقون فيها ابتداءً ولا يمرون على صراط، ثم لا يبقى إلا هذه الأمة وفيها منافقوها. فيعطى أهل الإيمان من النور على قدر أعمالهم، وأما أهل النفاق فلا نور لهم فيلقون في النار -نعوذ بالله من الخسران- ولا يمرون على الصراط، وتفاوت سير الناس على الصراط هو بقدر تفاوتهم في أعمالهم، وبقدر ما يمن الله به عليهم من النور، فمن كان نوره مشرقاً واسعاً كان مروره سريعاً، ومن كان نوره دقيقاً قليلاً حسيراً فإنه يسير سيراً بطيئاً. فالناس في ذلك اليوم في ظلمة شديدة وكرب عظيم، حتى إنه إذا ضرب الصراط ألجمت الألسن، فلا يتكلم إلا الأنبياء، وكلامهم: (اللهم سلم سلم! رب سلم سلم!) ، فهذا دعاء الأنبياء عند المرور على هذا الصراط، وهو أمر عظيم إذا تصوره الإنسان بعقله، وأداره في فكره، وأنه سيكون ممن يمر على هذا وجل قلبه، فتخفف من الذنوب بالتقلل منها، والتوبة والاستغفار؛ لأنه لا يكون النجاء من هذا الموقف إلا بالعمل الصالح، ومن زاد يقينه ورسخ إيمانه بهذه الأمور أفلح ونجح، ومن أخذها على أنها علم نظري ما استفاد. فالناس في هذا الموقف في كرب عظيم، والمرور على الصراط هو المشار إليه في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] ، فإن هذه الآية خطاب لأهل الإسلام وأهل الكفر. لكن الورود يختلف، فورود تعقبه السلامة، وهذا نصيب الذين قال فيهم جل وعلا: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72] . وورود إقامة، وهو الذي قال فيه جل وعلا: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72] ، نعوذ بالله! فهؤلاء سيبقون فيها، والظلم هنا يشمل الظلم الأعظم وهو الكفر والشرك، ويشمل ما دون ذلك، وبقاؤهم فيها بقدر ما معهم من الظلم. فأهل الكفر لا خروج لهم منها، وأما أهل المعصية فإنه يبقون فيها ما شاء الله أن يبقوا ثم يخرجون بعد ذلك إما بشفاعة أو بإكمال العذاب الذي استحقوه على سيئاتهم. ففهمنا من قول المؤلف رحمه الله: [يمر الناس] أن الناس هنا لفظ عام أريد به الخصوص، وهم أهل الإسلام، وهل يمر الناس على قدر شبابهم ونشاطهم وقوتهم وصحتهم؟ الجواب: لا، بل يمر الناس على قدر أعمالهم، فمطايا الناس في ذلك الموقف أعمالهم، فبها ينجون وبها. قال رحمه الله: [فمنهم من يمر كلمح البصر -وهذا أسرع ما يكون- ومنهم من يمر كالبرق الخاطف -وهذا قريب في السرعة من الذي قبله- ومنهم من يمر كالريح الشديدة، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل -أو كراكب الإبل، وركاب الإبل المقصود بها من يركب الإبل التي تستعمل لقطع المسافات والسفر- ومنهم من يعدو عدواً -وهو من يشتد ركضاً- ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يخطف ويلقى في جهنم] . فإذا قيل: كيف يخطف؟ فالجواب أنه قال: [فإن الجسر عليه كلاليب] ، والكلاليب: جمع كلاب أو كلوب، والمراد به في اللغة: حديدة منحنية الرأس، ويطلق أيضاً على ما كان منحني الرأس من غير الحديد. وهذه الكلاليب تختطف الناس بأعمالهم، فهي التي تعيقهم عن السير، فسالم ناجٍ، ومخدوش، ومكردس في النار نعوذ بالله من الخسران، والنار التي يلقى فيها من يخطف هي نار العصاة، وليست نار أهل الخلود؛ ولذلك قال: [فمن مر على الصراط دخل الجنة] ، وسيأتي بيان ذلك في الشفاعة، فإن نار أهل المعصية ليست كنار أهل الكفر، وإن كان المكان واحداً، فالمكان من حيث المنظر واحد، ولكن العذاب مختلف متفاوت، وقد دلت السنة على أن النار دركات، وأسفلها نصيب المنافقين. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 5 تجاوز الصراط وما يكون بعده ثم قال: [فمن مر على الصراط دخل الجنة] . (من مر) أي: من جاز على أي هيئة كان، كلمح البصر، أو كالبرق، أو كالريح، أو كالفرس الجواد، أو كركاب الإبل، أو كالذي يعدو عدواً، أو يمشي مشياً، أو يزحف زحفاً، كل هؤلاء إذا مروا على الصراط استحقوا دخول الجنة، فلا يجاوز الصراط إلا من كتب له دخول الجنة وكان من أهلها. قال رحمه الله تعالى: [فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته] . قوله: [فإذا عبروا] أي: أهل الإسلام [عليه] أي: على الصراط [وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار] القنطرة: هي الجسر في لغة العرب، وتطلق على البناء المرتفع، فإذا كانت الجسر فإننا نعتقد أنه جسر غير الأول، فإن الجسر الأول هو الصراط الذي يمر عليه الناس، وهو مضروب على متن جهنم، وأما هذا فإنه جسر غير الأول، وإذا كان البناء المرتفع فهو واضح. فعلى القولين أو على التفسيرين فإن القنطرة غير الجسر. قوله: [بين الجنة والنار] هذه التي يوقف عليها أهل الإسلام. قوله: [فيقتص لبعضهم من بعض] أي: يؤخذ حق بعضهم من بعض. وذلك أنهم إذا جازوا النار وأرادوا دخول الجنة احتاجوا إلى مزيد تطهير، وإلا فإن هؤلاء يطهرون بمرورهم على الصراط إن كان لهم ذنوب، ويطهرون أيضاً بالمحاسبة والمقاصة التي تكون في عرصات يوم القيامة. فإن أول ما يقضى بين الناس في الدماء، وهي من الحقوق التي تكون بين الناس، ويقضى أيضاً في الأموال وفي غيرها، وكل ذلك في عرصات يوم القيامة. ثم يحصل لهم مقاصة أخرى، وهي لا تتعلق بأصول الذنوب، إنما هي ببقاياها وآثارها، فإن المقاصة السابقة لا تزيل ما في صدورهم من غل، ولا تذهب ما في قلوبهم من شحناء وبغضاء، فإذا أتوا إلى هذا الموقف الذي لم يبق بعده إلا أن يدخلوا الجنة أزيل ما في قلوبهم من أوضار ومن بقايا آثار الذنوب، كما قال الله جل وعلا: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر:47] ، فينزع الله سبحانه وتعالى في هذا الموقف ما في صدورهم، ويزيل ويهذب ما بقي من آثار الذنوب، وذلك لأن الجنة طيبة لا يدخلها إلى طيب، قال الله سبحانه وتعالى: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] ، والطيب هنا هو زوال كل أثر سوء في القول أو في العمل أو في البدن أو في القلب، فلا يدخلها إلا المخلصون المنقون. فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا وخلصوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، أي: لم يبق لهم إلا أن يدخلوا الجنة، وأما الدخول الحقيقي فإنه لا يكون إلا بعد استفتاح النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال رحمه الله: [وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم] . فقوله: (يستفتح) أي: يطلب فتح بابها، وبه نفهم أن الجنة لها أبواب، وأن أبوابها مغلقة؛ وذلك صيانة لها، وحفظاً لها، وإكراماً لأهلها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يستفتح يطلب فتح باب الجنة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أنا أول شفيع في الجنة) ، وهذا أول شفاعاته صلى الله عليه وسلم المتعلقة بأهل الجنة، وهي طلب الإذن في الدخول والاستفتاح، كما جاء في الصحيح أنه (يقرع بابها فيقول الخازن -خازن الجنة-: من؟ فيقول: محمد. فيقول الخازن: بك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك) ، فإذا فتح باب الجنة دخل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أول من يدخل الجنة، فله السبق في جميع مواقف القيامة، فهو أول من تنشق عنه الأرض صلى الله عليه وسلم، وهو أول من يجوز الصراط، وهو أول من يستفتح باب الجنة، وهو أول من يدخلها صلى الله عليه وسلم. ثم قال: [وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته] . أول من يدخل الجنة من أمم العالم من آدم إلى آخرهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، وأول من يدخل الجنة) ، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) ، وهذا السبق -كما ذكرنا- ليس خاصاً بدخول الجنة، بل هو سبق في جميع مواقف القيامة، فهم أول من يحاسب، وأول من يقضى فيهم، وأول من يجوز الصراط، وأول من يدخل الجنة، وذلك لفضلهم ولتحقيقهم العبودية على وجه الكمال فاستحقوا هذا الفضل، قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 6 شرح العقيدة الواسطية [20] إن مما يجب الإيمان به الشفاعة يوم القيامة كما دلت عليه النصوص، والشفاعة منها ما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم كالشفاعة لأهل الموقف ليفصل الله بينهم، ومنها ما يشاركه فيها غيره، وقد اتفق أهل الإسلام على ثبوت الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم وهي التي للفصل بين الخلائق، وخالفت بعض الفرق في إثبات ما عداها، والحق إثبات ما دلت عليه النصوص في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 1 الشفاعة يوم القيامة وأنواعها الجزء: 20 ¦ الصفحة: 2 شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: قال رحمه الله تعالى: [وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات: أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه. وأما الشفاعة الثانية فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له. وأما الشفاعة الثالثة فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار ألا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها] . هذا هو بحث الشفاعة الذي اتفقت الأمة على بعضه، وهو متفق عليه عند الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة. يقول رحمه الله: (وله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات) . وإذا قيل لك: من أين هذا العد؟ فقل: هذا من الاستقراء والتتبع، ويستفاد هذا من دلالة الكتاب والسنة. والشفاعة في اللغة: مأخوذة من الشفع، وهو ضد الوتر، وفي الاصطلاح: التوسط للغير في جلب نفع أو دفع ضر، وعرفها شيخ الإسلام بقريب من هذا فقال: التوسط في جلب النفع أو التخليص من السوء، والتخليص من السوء هو من صور دفع الضر. وهذه الشفاعة جاءت في القرآن العظيم على نحوين، فجاءت مثبتة، وجاءت منفية. فالشفاعة المثبتة: هي ما دل عليه الكتاب والسنة من شفاعة أهل التوحيد بعد إذن الله جل وعلا ورضاه عن المشفوع، فهذه هي الشفاعة المثبتة، وأما الشفاعة المنفية فهي الشفاعة الشركية التي توصل بها أهل الشرك إلى صرف العبادة لغير الله. فالبحث هنا في الشفاعة المثبتة، والشفاعة المثبتة تنقسم إلى قسمين من حيث اعتقاد أهل القبلة فيها: الأول: قسم أجمع عليه أهل الإسلام، ولم يقع بينهم فيه خلاف، وهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم العظمى، شفاعته في أهل الموقف أن يأتي الله جل وعلا لفصل القضاء. فهذه لم يخالف فيها أحد من أهل الإسلام، بل أجمع عليها المسلمون، وهي المشار إليها في كلام المؤلف في الشفاعة الأولى حيث قال: [أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف- موقف القيامة- حتى يقضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء] فمتى يكون هذا؟ بعضهم قال: يكون في أول الأمر. لكن الظاهر أنه بعد أن يلقى أهل النار من الكفار فيها، فإنه إذا ألقي أهل النار فيها عند ذلك يشتد الكرب على أهل الإيمان، ولا يبقى إلا هم، فيتراجع الناس ويطلبون من يشفع عند الله أن يخلصهم من هذا الكرب وهذه الشدة، فيأتون آدم يطلبون منه الشفاعة فيعتذر، ثم يطلبون نوحاً فكذلك يعتذر، ويأتون بعد ذلك إبراهيم فيعتذر، وموسى فيعتذر، ويأتون عيسى فيعتذر، لكنه لا يذكر ذنباً بخلاف من تقدم، ويقول لهم: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وبهذا الخبر يتبين أن هذا المقام لا يصلح إلا لمن وصف بهذا الوصف، وهو مغفرة ما تقدم من الذنوب وما تأخر. فاعتذار الأنبياء إنما هو لأجل عظم الموقف، ورفعة المكان والمقام الذي طلب منهم، وهو الشفاعة عند الله سبحانه وتعالى في فصل القضاء، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الناس: (أنا لها أنا لها) . ثم إنه يذهب صلى الله عليه وسلم ويطلب الشفاعة، لكنه لا يبتدئ بالطلب، إنما يأتي الله جل وعلا، فإذا رأى ربه سجد، فيقال له بعد طول سجود وكثرة حمد وثناء: (ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع) فعند ذلك يشفع النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلب من رب العالمين أن يأتي لفصل القضاء. والأحاديث التي في الصحيحين تختصر ذكر الشفاعة العظمى، فإذا ذكرت ما يكون من مراجعة الأنبياء ووصول الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما يكون منه من سجود؛ تذكر بعد ذلك الشفاعة في الأمة خاصة، ولا تذكر الشفاعة في فصل القضاء إلا في أحاديث قليلة، والسبب في هذا -وهذه مسألة مفيدة قل من ينبه عليها- أن الشفاعة العظمى لا خلاف فيها بين أهل الإسلام، ولذلك طوى ذكرها رواة الأحاديث، بخلاف الشفاعة في أهل الكبائر، وبقية أنواع الشفاعة؛ فإن الخلاف بين أهل السنة وغيرهم فيها قائم؛ فلذلك احتاج الرواة إلى أن يصرحوا ويذكروا شفاعته في الأمة وفي أهل الكبائر والذنوب، وطووا ذكر الشفاعة العظمى، مع أن المراجعة لا تكون في الشفاعة للأمة، إنما تكون في فصل القضاء، وقد جاء ذكر طلب فصل القضاء من النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر في الصحيح، وهو أمر مجمع عليه. فإذا قرأت في صحيح البخاري، وفي صحيح مسلم وفي غيرهما أحاديث الشفاعة تجد أنه بعد قول الله للنبي صلى الله عليه وسلم: (اشفع) يسأل الشفاعة لأمته، مع أن الناس طلبوا منه المجيء لفصل القضاء لعموم أهل الموقف، وليس الشفاعة الخاصة بأمته صلى الله عليه وسلم. فيأتي الله جل وعلا لفصل القضاء، وهذا هو المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، وهو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ، فالمقام المحمود فسره النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث في الصحيحين وفي غيرهما بالشفاعة، وهي الشفاعة العظمى التي يحمده عليها الأولون والآخرون. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 3 شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر يوم القيامة أما الشفاعة الثانية -وهي التي وقع الخلاف فيها بين أهل السنة وغيرهم- فهي شفاعته في أهل الكبائر، وسيأتي ذكرها في كلام المؤلف. قال: [وأما الشفاعة الثانية فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة] . هذا غير الاستفتاح، فالاستفتاح هو طلب فتح الباب، وهناك أمر آخر وهو أنه إذا فتح الباب فإن أهل الجنة لا يدخلونها إلا بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فيشفع لأهل الجنة في دخول الجنة، وهو المشار إليه في بعض أحاديث الصحيحين بقوله: (فيحد لي حداً - يعني: من الأمة- فأدخلهم الجنة) ، وهو المشار إليه في قول النبي صلى الله عليه وسلم (أنا أول شفيع في الجنة) يعني: في دخولها. فيدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تدخل أمته. قال: [وهاتان الشفاعتان خاصتان له] أي: لا يشاركه فيهما غيره لا من الملائكة، ولا من النبيين، ولا من الصديقين، ولا من الشهداء، ولا من الصالحين. واعلم أنه يضاف إلى هاتين الشفاعتين شفاعة ثالثة خاصة به صلى الله عليه وسلم، وهي شفاعته في عمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه لا في رفعه، وذلك أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! عمك أبو طالب كان يحوطك ويغضب لك ما نفعته؟ -يعني: أي شيء جازيته على ذلك؟ - فقال: إنه في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل منها) ، وهذا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع في عمه فخفف عنه، وهذا التخفيف فيه إكرام للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وفيه فائدة، وهي تبيان مراتب أهل الكفر والشرك، فإنهم ليسوا على درجة واحدة في العقاب والمؤاخذة، وقد أخذ بعض أهل العلم من هذا الحديث عدم تخصيص أبي طالب بذلك، فقالوا: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي طالب فأخبر، وليس الأمر خاصاً به، بل هذا ثابت لكل من أحب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكفر ولو لم يؤمن به، فإنه يخفف عنه، واستدلوا لذلك بتخفيف العذاب عن أبي لهب بسبب عتقه الجارية التي بشرته بولادة النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى كل حال فنحن لم نعلم ذلك صريحاً إلا في أبي طالب، ثم إن المخفف عنه لا يدرك ذلك التخفيف، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي طالب: (عليه نعلان -أو شراكان- من نار يغلي منهما دماغه، لا يرى أن أحداً أشد عذاباً منه) ، هذا من حيث ما يظن وما يتصور، وأما من حيث الواقع فإنه تخفيف، فهذه ثالث الشفاعات التي يختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالشفاعة الأولى: الشفاعة العظمى. والشفاعة الثانية: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوها. والشفاعة الثالثة: شفاعته في عمه أبي طالب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 4 الشفاعة فيمن استحق النار أو دخلها ومن خالف في ذلك قال: [وأما الشفاعة الثالثة فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار ألا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها] . هذا النوع الثالث من الشفاعة، وهو الذي خالف فيه المعتزلة والخوارج وغلاة المرجئة. أما المعتزلة والخوارج فأنكروا الشفاعة، وقالوا: لا شفاعة، فمن دخل النار لا يخرج منها بل هو خالد فيها. وأما غلاة المرجئة فأيضاً أنكروا هذا النوع من الشفاعة، وقالوا: إنه لا يشفع؛ لأنه لا يدخل النار أهل الإيمان، فقالوا: إذا كان لا يدخل أهل الكبائر النار بسبب كبائرهم فإنه لا حاجة إلى الشفاعة، فأنكروا هذا النوع من الشفاعة، وهذا قل من ينبه عليه في هذه الفرقة المخالفة. أما عامة المرجئة فإنهم يثبتون هذا النوع من الشفاعة كأهل السنة وغيرهم. فالشفاعة التي وقع فيها الخلاف بين الفرق هي الشفاعة لأهل الكبائر، فالوعيدية من المعتزلة والخوارج نفوا الشفاعة، وقالوا: لا يمكن أن يشفع لأحد في الخروج من النار، فمن دخلها فإنه لا يخرج منها. وقابلهم غلاة المرجئة فقالوا: لا يدخل أهل الكبائر النار أصلاً، وعليه فلا شفاعة. فقابلوهم في التعليل، وإن كانوا وافقوهم في النتيجة من حيث إنكار الشفاعة. والذي عليه سلف الأمة -وهو ما دل عليه الكتاب والسنة- أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره يشفعون في أهل الكبائر، وأن ممن يدخل النار من يخرج منها، ولكن اعلم أن من يدخل النار نوعان: فنوع دخولهم أبدي، وهم أهل الكفر، فهؤلاء لا يخرجون منها، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72] . ومنهم من يدخل ويعاقب ويمحص ويخلص، ثم بعد ذلك يخرج، وهذا في حق أهل الكبائر المسرفين على أنفسهم بالذنوب والمعاصي مع وجود الأصل الإيمان، وهم الذين وردت فيهم الأحاديث: (لا يبقى في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) . يقول رحمه الله: [فيشفع فيمن استحق النار -أي: استوجبها- ألا يدخلها] . هذه شفاعة دفع، أي: قبل أن يحل به العقاب وينزل يدفع عنه، وكذلك يشفع فيمن دخلها أن يخرج منها، وهذه شفاعة رفع، وكلتاهما يثبتها أهل السنة والجماعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال ابن القيم رحمه الله في تعليقه على سنن أبي داود عند ذكر هذه الشفاعة: ولم أقف لها على دليل. يعني: الشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخلها، وكذلك قال شيخنا رحمه الله: لا أعلم لها دليلاً. أي: الشفاعة في قوم استحقوا النار ألا يدخلوها. وقد أشار بعض أهل العلم إلى دليل يمكن أن يكون مستنداً في إثبات هذه الشفاعة التي أثبتها أهل السنة والجماعة، وهو ما جاء في الصحيح أن الأنبياء عند الصراط يكون قولهم الذي يلهجون به: (رب سلم سلم) ، فإنه في رواية سهل في صحيح البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيوضع الصراط ثم تحل الشفاعة فأقول: رب سلم سلم) أو: (وعند ذلك حلت الشفاعة فأقول: رب سلم سلم) وهذا دعاء بالسلامة لهم -وهم سالمون من النار- ولأممهم، وهذا الأثر يصلح دليلاً على هذا النوع من أنواع الشفاعة، وهو الشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخلها. واستحقاقه لها كان برجحان سيئاته على حسناته، فهذا هو سبب استحقاق النار، وسبب استحقاق الجنة رجحان الحسنات على السيئات. بقيت حالة، وهي مساواة الحسنات بالسيئات، وهذا أيضاً مما يستحق به الإنسان النار؛ لأن مساواة الحسنات والسيئات لا تنفعه في تخليصه من المؤاخذة إلا أن ترجح الحسنات على السيئات، فيعاقب -إن شاء الله- حتى تخف كفة السيئات وتثقل كفة الحسنات، وعند ذلك يكون ممن ثقلت موازينه فيدخل الجنة. فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له -أي: للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فهي ليست خاصة به صلى الله عليه وسلم. لكن اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نصيبه من هذه الشفاعة أوفر وأعلى من غيره، فالنبي صلى الله عليه وسلم تميز في الشفاعة بأمرين: الأمر الأول: أن الله سبحانه وتعالى خصه بأنواع منها. الثاني: أن ما يشاركه فيها غيره حظه ونصيبه منها أوفر وأعلى، فهو أوفر الشافعين نصيباً، وأعلاهم حظاً؛ ولذلك فقوله: [وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم] لا يفيد التسوية بين هؤلاء، بل هم على درجات فيها. قال: [ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها] . وهذا كثير في السنة مستفيض متواتر، وهو الشفاعة في أقوام دخلوا النار أن يخرجوا منها، وهذا الذي خالف فيه من خالف من الوعيدية وغلاة المرجئة كما تقدم تقريره وبيانه. وأهل السنة والجماعة يثبتون هذا النوع من الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولسائر النبيين والصديقين، بل وللملائكة كما سيأتي بيانه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 5 حاصل أنواع الشفاعات والخلاصة في أنواع الشفاعات الثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره أن هذه الشفاعات هي الشفاعة العظمى، وهذه خاصة به، والشفاعة في دخول الجنة، وهي خاصة به، والشفاعة لعمه أبي طالب، وهي خاصة به، والشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخلها، وهذه له ولغيره، وليست خاصة به، والذي يتميز به عن غيره فيها وفيما يأتي أنه أوفر حظاً ونصيباً، والشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها. وبقي نوع سادس من أنواع الشفاعة لم يذكره المؤلف رحمه الله، وهو شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع الدرجات في الجنة، واستدلوا لهذا بحديث أبي سلمة وفيه أنه دعا له فقال: (اللهم ارفع درجته في المهديين) ، وكذلك استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه لـ عبيد أبي عامر: (واجعله فوق كثير من خلقك) ، لكن هذه ليست خاصة به، لكن هذا النوع من الشفاعة حصل في الدنيا، فالدعاء كان في الدنيا، والكلام في الشفاعات التي تكون في الآخرة. ويمكن أن يستدل لهذا النوع من الشفاعة بقوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] ، فإلحاق الذرية يكون برفع درجاتهم، وهذا فيه أن هذه الشفاعة -وهي شفاعة رفع الدرجات- ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 6 عموم فضل الله ورحمته على هذه الأمة والأمم قبلها قال رحمه الله: [ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته، ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها أقواماً فيدخلهم الجنة، وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء، والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء، وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذاك ما يشفي ويكفي، فمن ابتغاه وجده] بعد أن فرغ من ذكر أنواع الشفاعات قال: [ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته] . كما ثبت ذلك في الصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه إذا شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون لم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين رب العالمين جل وعلا، فيخرج من النار أقواماً لم يعملوا خيراً قط؛ تفضلاً منه ورحمة. لكن اعلم أن قوله: (لم يعملوا خيراً قط) أي: فيما زاد على أصل التوحيد؛ لأنه لا يمكن أن يدخل الجنة إلا موحد، لكن هؤلاء لما عظمت ذنوبهم وثقلت سيئاتهم وعظم جرمهم لم يسعهم شفاعة الملائكة ولا شفاعة النبيين ولا شفاعة المؤمنين، فلم يسعهم إلا فضل الله وجوده ورحمته التي وسعت كل شيء، فيخرجهم سبحانه وتعالى تفضلاً منه ورحمة. قال: [ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الجنة] . قوله: (فضل) يعني: زيادة لم تسكن وذلك لسعتها، نسأل الله أن نكون من أهلها. قال: [فينشئ الله لها أقواماً فيدخلهم الجنة] . أي: ينشئ لها أقواماً في ذلك الوقت من غير أهل الدنيا فيدخلهم الجنة، وهؤلاء لا يلحقون بأهل الجنة الذين هم من أهل الدنيا ضيقاً ولا مزاحمة، بل هذا لبيان عظيم سعة هذه الجنة، وأن أهل الجنة من أهل الدنيا إذا قضوا مآربهم وبلغوا منازلهم وأخذوا ما أعد لهم فإن فضل الله واسع لا يضيق على هؤلاء، بل فضله جل وعلا يسع جميع هؤلاء، وينشئ الله للجنة خلقاً فيسكنهم في فضولها، أي: فيما زاد منها عن أهل الجنة. وأما من هم هؤلاء الخلق؟ وكيف يكونون؟ فهذا ليس لنا البحث فيه؛ لأنه من أمور الغيب، ونحن نؤمن بما أخبرنا، ونقف فيما أخبرنا عنه من أمور الغيب على ما ورد بلا زيادة ولا نقص. قال رحمه الله: [وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة -يعني: أنواع وأجناس ما تضمنته الدار الآخر- من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء، والآثار في العلم المأثور عن الأنبياء] . أراد أن هذا الأمر ليس مما اختصت به الشريعة الإسلامية، ولا مما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء، بل هو من الأمور التي اتفقت عليها الأنبياء، فإن مما اتفق عليه الأنبياء في دعوتهم الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر، فختم الشيخ رحمه الله هذا الأصل العظيم من أصول الإيمان بهذا الأمر ليبين لنا أن ما جاء في هذا الأصل ليس مما اختص به أهل الإسلام، بل هو عام لأهل الإسلام ولغيرهم من الأمم. ولكن الذي تميز به خاتم النبيين وإمام المرسلين وما تميز به الكتاب المبين والقرآن المجيد هو في قوله: [وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفي ويكفي] أي: يشفي المحتاج ويكفي الطالب، وهذه الجملة تفيدنا فائدتين: الفائدة الأولى: أن ما جاء في الكتاب والسنة مما يتعلق باليوم الآخر فيه الكفاية، وفيه الشفاء، وفيه الغنية عن كل ما سواه، فلا حاجة بنا إلى مطالعة غير الكتاب والسنة، بل الواجب في ذلك الاقتصار على ما جاء في الكتاب والسنة. الفائدة الثانية: أن ما جاء في هذه الشريعة أعظم مما جاء في غيرها، وذلك أن هذه الشريعة أخبرت عمَّا يتعلق باليوم الآخر بأضعاف ما أخبرت به الشرائع السابقة، ففي العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنته وفي الكتاب الحكيم من ذلك ما لا يحصى كثرة وتنوعاً في الإخبار عما يكون في اليوم الآخر. فقال رحمه الله: [وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك -أي: من الخبر عن اليوم الآخر وتفاصيل ذلك- ما يشفي ويكفي فمن ابتغاه - أي: طلبه- وجده -أي: حصله-] ، وهو يشير إلى أنه لم يستوعب في هذا الفصل ما يتعلق باليوم الآخر، إنما ذكر جملاً وأصولاً، والذي يرغب في الزيادة والتفصيل فليرجع إلى الكتاب والسنة يجد في ذلك بغيته. وبهذا يكون قد تم الكلام على هذا الأصل من أصول الدين ومن أصول الإيمان وهو الإيمان باليوم الآخر. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الواسطية [21] إن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، وأصل من أصوله، لا يصح الإيمان إلا بالإيمانه به، وباب القدر من أخطر الأبواب العقائد، فقد ضلت فيه فرق، وهدى الله أهل السنة لاعتمادهم في هذا الباب وفي غيره على نصوص الكتاب والسنة، ثم السكوت عما وراء ذلك، وتسليم الأمر لله سبحانه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 1 القدر أصل من أصول الإيمان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وتؤمن الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره] . عقد المؤلف رحمه الله هذا الفصل؛ لبيان عقيدة أهل السنة والجماعة في أصل من أصول الدين، ومن أصول الإيمان، وهو القدر، وقد دل على ذلك حديث جبريل في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) فهو أصل من أصول الإيمان بدلالة السنة، وأما القرآن فالآيات التي قررت الإيمان بالقدر كثيرة جداً، ودلت هذه الآيات على أنه لا يستقيم الإيمان في قلب العبد إلا إذا آمن بالقدر، ومن ذلك قول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، وجعل بعض أهل العلم كل آية في تقرير التوحيد تدل على إثبات القدر، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: (القدر نظام التوحيد) . فلا ينتظم الإيمان في قلب العبد، ولا يقر له توحيد إلا إذا آمن بالقدر. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 2 تعريف القدر واعلم أن القدر في اللغة: يراد به التقدير. وأما في الاصطلاح: فقد عرفه شيخ الإسلام فقال: هو علم الله، وكتابته المطابقة لمشيئته وخلقه. وهذا التعريف انتظم أركان الإيمان بالقدر، ومراتب الإيمان بالقدر، ودرجات الإيمان بالقدر، وعرفه في موضع آخر فقال: هو الحكم الكوني، وهذا تعريف واسع، فكل ما قضاه الله كوناً فإنه من قدره، فالقدر هو حكمه الكوني، وهذا تعريف جيد. وعرفه الإمام أحمد رحمه الله فقال: القدر قدرة الله. وهذا تعريف بديع وجيد، ولذلك استحسنه ابن عقيل من أصحاب الإمام أحمد وقال: هذا يدل على عمق فقه الإمام أحمد حيث فسر القدر بقدرة الله سبحانه وتعالى، وهو يفيد أن كل من أنكر القدر فإنه منكر لقدرة الله جل وعلا. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 3 بدعة القدر من أوائل البدع واعلم أن القدر قد ضلت فيه طوائف، وهو من أوائل ما حصل به الضلال في الأمة، فإن إنكار القدر ظهر في أواخر عهد الصحابة، في عهد عبد الله بن عمر وابن عباس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وأنكره الصحابة إنكاراً شديداً كما في صحيح مسلم وغيره. فقد جاء جماعة إلى ابن عمر رضي الله عنه وذكروا له إنكار من أنكر القدر فقال لهم: اعلموهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء؛ وذلك لإنكارهم أصلاً من أصول الدين، وركناً من أركان الإيمان، وسيأتينا إن شاء الله تعالى بيان تفصيل إنكار المنكرين، ودرجات إنكارهم في كلامنا على الدرجات. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 4 أفعال الله سبحانه ليس فيها شر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تؤمن بالقدر خيره وشره) فيه إثبات أن القدر فيه خير وشر، ولكن ما هو القدر الذي يضاف إليه الشر ويوصف بالشر؟ هل هو فعل الله جل وعلا وحكمه وقضاؤه؟ الجواب: لا، إنما الشر في المقضي المقدر، أما فعل الرب سبحانه وتعالى فإنه لا شر فيه بوجه من الوجوه، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: (لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك) فنفى النبي صلى الله عليه وسلم إضافة الشر إلى الرب سبحانه وتعالى، وبه نعلم أنه ليس في أفعال الله جل وعلا شر، ولا في ذاته شر، ولا في أسمائه شر، ولا في شيء من شئونه سبحانه وتعالى شر، بل لا يكون منه إلا الخير؛ ولذلك قال: (والخير في يديك) فأثبت الخيرية كلها في يد الله سبحانه وتعالى، ونفى عنه الشر كله. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 5 الشر المجرد لا يضاف إلى الله سبحانه تجد في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم: أن الشر المجرد لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما يرد إما بإضافته إلى سببه ومن قام به وهو المخلوق، مثال ذلك: قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:2-3] فأضاف الشر إلى سببه ومحله ومن قام به وهو المخلوق، ومما يرد أيضاً في القرآن أن الشر لا يذكر فاعله إذا كان مضافاً إلى الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك قول الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ} [الجن:10] فجاء بالفعل على صيغة الفعل الذي لم يسم فاعله: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:10] ، أما الخير فقال: {أم أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] فلما كان الرشد خيراً ذكر الفاعل وهو الله جل وعلا. ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] فأضاف الإنعام إليه، وأما الغضب والضلال فإنه لم يضفه إليه فقال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، وهذا ثاني ما يرد الشر مطلقاً في كتاب الله عز وجل، فإنه لا يضاف إليه سبحانه وتعالى، فإما أن يضاف إلى فاعله، وإما أن يذكر مع حذف الفاعل. الثالث: أن يدخل في خلق الله على وجه العموم، وذلك نظير قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:102] ، وكل هنا من ألفاظ العموم التي تشمل كل مخلوق من خير أو شر، فأفعال الله سبحانه وتعالى لا شر فيها. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 6 الشر في المقدرات شر نسبي إضافي المفعولات المقدرات يكون فيها الشر، لكن اعلم أن هذا شر نسبي جزئي إضافي، أما الشر المطلق الكلي فإنه لا يكون في خلق الله، ولا في فعله سبحانه وتعالى، ولا في أسمائه وصفاته، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك) ،ففهمنا من قوله: (أن تؤمن بالقدر خيره وشره) يعني: خير المقدور وشر المقدور، خير التقدير وشر التقدير، فقوله: (خيره) الضمير يعود إلى أي شيء؟ إلى القدر، والمراد بالقدر هنا المقدور، أو التقدير، وكذلك شره، أي: شر المقدور الذي هو مخلوق الله جل وعلا ومفعوله. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 7 لا يجوز إطلاق إرادة الشر نفياً أو إثباتاً في حق الله وهنا سؤال: هل يجوز إضافة إرادة الشر إلى الله عز وجل نفياً أو إثباتاً على وجه الإطلاق؟ تفكر وتأمل في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب:17] هنا أضاف السوء والرحمة! لا يجوز إطلاق أن الله يريد الشر، ولا يجوز إطلاق أن الله لا يريد الشر، لا يجوز هذا الإطلاق ولا هذا الإطلاق، فيمتنع أن تطلق إرادة الشر على الله عز وجل، كما أنه يمتنع أن تطلق عدم إرادة الشر على الله عز وجل؛ وذلك أن الإطلاقين نفياً وإثباتاً يحصل بهما إيهام، ويحصل بهما نفي معنىً صحيح، يعني: فيهما إيهام معنى باطل، وفيهما نفي معنى صحيح، وبيان هذا: أن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة شرعية أمرية وهي: ما تعلق بالمحبة والرضا، وإرادة كونية قدرية وهي: التي لا تعلق فيها بالمحبة والرضا، فمن قال: إن الله يريد الشر يوهم أنه يريده محبة ورضا؛ ولذلك نقول: لا تطلق، ومن قال: لا يريد الشر يوهم أنه لم يقضه كوناً وقدراً، ولذلك كلا الإطلاقين فيه محظور، فيمتنع إطلاق إرادة الشر عليه نفياً وإثباتاً؛ لما تضمنه من إيهام معنىً باطل ونفي معنى صحيح، والله سبحانه وتعالى يريد من عبده الطاعة محبة ورضا، ويريد ما يكون في الكون من شر لكنها إرادة قدرية كونية لا تتعلق بمحبته سبحانه وتعالى، لكن لا ينبغي للإنسان أن يطلق ذلك نفياً أو إثباتاً. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 8 درجات الإيمان بالقدر ومراتبه قال رحمه الله تعالى: [والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين: فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى عليم بالخلق وهم عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق: (فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف) كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] ، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً] . الإيمان بالقدر على درجتين أي: على مرتبتين، وكل درجة تتضمن شيئين، فتكون مراتب الإيمان بالقدر على هذا أربع مراتب، وأول هذه المراتب: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، والخلق يشمل الجن والإنس والملائكة وكل شيء مما فيه حياة، وما لا حياة فيه، فكل ذلك من خلق الله سبحانه وتعالى، فهو يعلم ما هم عاملون بعلمه القديم، أي: بعلمه المتقدم الأزلي السابق لوجود الحوادث. قال: (الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً) ؛ لأن العلم من الصفات الذاتية كما تقدم بيانه. قال: (وعلم جميع أحوالهم) يعني: الله علم بهم على وجه الإجمال، وعلم بجميع أحوالهم، وهذا فيه أن علمه سبحانه وتعالى أحاط بدقائق العلوم، وليس فقط بالكليات، بل حتى بالجزئيات والفرعيات، علم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق. ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، فهذا العلم الثابت له سبحانه وتعالى علم مكتوب في اللوح المحفوظ، فاللوح المحفوظ حوى كل ما الخلق عاملون من الدقيق والجليل، وتسميته باللوح المحفوظ؛ لأنه محفوظ من التغيير والتبديل، ومحفوظ من الزيادة والنقصان. وسمي في الكتاب بالحفيظ أيضاً، وهو حفيظ بمعنى: محفوظ، وحفيظ بمعنى: حافظ. علم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي، وهذا يتعلق بفعل العبد، فالطاعات والمعاصي من فعل العبد، والأرزاق من فعله سبحانه وتعالى، والآجال -أيضاً- من فعله سبحانه وتعالى. ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق، وما فائدة هذه الكتابة؟ فائدة هذه الكتابة إثبات هذا العلم، وأنه علم لا يتغير ولا يتبدل كما قال موسى في جواب فرعون عندما قال له: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:51-52] فأثبت علمها عنده سبحانه وتعالى، وأثبت أن هذا العلم في كتاب ثم قال: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} فما كان مكتوباً فهو محفوظ مع أن الله جل وعلا غني عن هذه الكتابة، وليست خشية النسيان تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؛ وإنما ذلك لأجل إثبات هذه المعلومات وحفظها؛ ولأجل ما قدره من استنساخ الملائكة منها وأخذهم عنها. قال: (فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب) أي أنه: أول ما خلق القلم أمره بالكتابة في أول خلقه، فالقلم أمر بالكتابة في أول خلقه، فقال القلم للرب سبحانه وتعالى: ما أكتب؟! قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، ما هو كائن يعني: ما هو حاصل وما هو جار وما سيوجد إلى يوم القيامة، وهذا يشمل كل ما هو حادث في الكون، فإنه مكتوب في هذا اللوح العظيم، وفي هذا الكتاب المبين، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه. وهذا القلم هو أحد الأقلام التي جرت في المقادير، فهي أقلام متعددة تكلم عليها ابن القيم رحمه الله، ولا نريد الإطالة بذكر ما ذكر رحمه الله، وهذا القلم الذي كتب الله سبحانه تعالى به مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة هو أعظمها. قال: (فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه) أي: لم يكن ليتجاوزه ويتعداه (وما أخطأه) يعني: ما تجاوزه وتعداه إلى غيره (لم يكن ليصيبه) يعني: لم يكن ليرجع عليه، ولا أن ينال منه شيئاً بل ذلك كله وفق تقدير عزيز حكيم. قوله: (جفت الأقلام، وطويت الصحف) هذا فيه بيان أن ما كان من تقدير فإنه قد فرغ منه علماً وكتابة؛ ولذلك قال: جفت الأقلام، أي: انتهى الأمر، فليس هناك علم يحدث للرب جل وعلا لم يكن يعلمه قبل، بل علمه لا يسبق بجهل سبحانه وتعالى، فقوله: جفت الأقلام، وطويت الصحف، بناءً على أن ما كتبه الله من مقادير الخلائق فإنه قد فرغ منه. وقوله: (جفت الأقلام) يفهم من هذا أنه ليس الذي يكتب به قلم واحد، بل الذي يكتب به أكثر من قلم، لكن الذي كتب في اللوح المحفوظ هو القلم الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب) وهذه الدرجة تضمنت مرتبتين: المرتبة الأولى: العلم، والثانية: الكتابة. قال رحمه الله: (كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ) هذه الآية فيها الإعلام بأن الله سبحانه وتعالى أحاط علمه بما في السماء والأرض، وأن هذا العلم في كتاب؛ ولذلك قال: {إِنَّ ذَلِكَ} أي: علمه سبحانه وتعالى بما في السماء والأرض في كتاب، أي: مكتوب في اللوح المحفوظ: {إِنَّ ذَلِكَ} أي: العلم والكتابة {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: عليه جل وعلا هين سهل. والآن لو قيل لك: اكتب ما يجري منك في يوم واحد: كل ما يصدر منك من قول أو فعل، أو يدور في خلدك! أو يدور في قلبك! أو يطرأ على بالك! سجل كل ذلك! صعب هذا في يوم واحد، فكيف بالذي قدر مقادير الأشياء منذ تلك الساعة إلى قيام الساعة وكل ذلك مكتوب مسجل؟! سبحان الله! {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد:22] أي: إلا في مكتوب {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} وهذا فيه سبق الكتابة للخلق {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي: من قبل أن نخلقها {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: كتابة ذلك على الله يسيرة، وعلم ذلك على الله يسير، ومن لازم الكتابة ثبوت العلم؛ لأنه لا يكتب إلا المعلوم فهذه الآية دلت على هاتين المرتبتين في هذه الدرجة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 9 أنواع التقدير ثم قال رحمه الله: [وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه: (بعث إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد) ونحو ذلك، فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً، ومنكروه اليوم قليل] . هذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً، أي: أنه يحصل الإجمال بما في قدر الله عز وجل، ويحصل في مواضع التفصيل، فهناك إجمال وتفصيل في تقدير الله عز وجل فما في اللوح المحفوظ هو: ما هو كائن إلى قيام الساعة، ثم إن ما في اللوح المحفوظ لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ويطلع الله جل وعلا من شاء من خلقه على بعض ما فيه، ولذلك فالملائكة لا تعلم ما في اللوح المحفوظ، ليس لها علم بما فيه إلا ما أطلعهم الله سبحانه وتعالى عليه، ودليل ذلك في القرآن، فإنهم لم يعلموا فضيلة آدم بل لم يعلموا خلقه، فلما أخبروا بخلقه تعاظموا ذلك: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] استغربوا أن يخلق خلق في الأرض، فبين الله عز وجل لهم الحكمة من الخلق. المهم أن الأدلة تدل على أن ما في اللوح المحفوظ ليس معلوماً للخلق، ولكن الله سبحانه وتعالى يطلع من شاء على ما شاء مما تضمنه هذا الكتاب الذي أحاط بما هو كائن إلى يوم القيامة. ثم إن هذا التقدير السابق لخلق السماوات والأرض يعقبه تقدير بالنسبة لبني آدم عند نفخ الروح فيه، فإنه إذا خلق الجسد قبل نفخ الروح فيه بعث الله سبحان وتعالى إلى هذه المضغة المخلقة ملكاً، وهذا من عناية الله عز وجل ببني آدم: (فيأمر بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) بأربع كلمات، وهذا يسمى: التقدير العمري. ثم إن هناك تقديراً حولياً، وهو: ما يكون في ليلة القدر، فيكتب فيها ما هو كائن إلى ليلة القدر من العام القادم: تكتب فيها الآجال والأرزاق والأعمال. ثم إن هناك تقديراً يومياً، وهو: ما أشار إليه قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] سبحانه وتعالى. مراتب القدر هذه تجدها مفصلة ومجملة، فما يجمل في محل يفصل في محل، وهذا معنى قوله رحمه الله: [وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً] . فحفظ رزقك مثلاً الذي يكون في التقدير العمري هل هو مفصل: إنه سيأكل كذا، ويشرب كذا أم أنه مجمل؟ الظاهر أنه مجمل، وقد يكون مفصلاً، لكن شقي أو سعيد: هذا فيه إجمال، يكتب أنه من أهل السعادة مثلاً، ويكتب تفاصيل العمل في التقدير الحولي، وفي التقدير اليومي. قال: [ونحو ذلك، فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية] . هذا التقدير من مراتب الإيمان بالقدر، وكان ينكره غلاة القدرية قديماً أي: في أول ظهورهم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 10 انحسار مذهب غلاة القدرية قوله: [ومنكروه اليوم قليل] أي: في زمنه رحمه الله، وهم قليل من قبل زمنه، وذلك أن القدرية أول ما خرجوا كانوا يقولون: إن الأمر أنف، يعني: مستأنف، وإن الله سبحانه وتعالى لم يقدر الأقدار قبل الخلق بل هو سبحانه وتعالى عالم بما الخلق، عاملون بعد وجود أعمالهم، أما قبل وجود العمل فلا علم له بما يكون، وبعضهم قال: إن العلم هو العلم الكلي، وهذا قول الفلاسفة، أما غلاة القدرية فإنهم نفوا أن يكون الله سبحانه وتعالى عالماً بأعمال العباد قبل خلقها، فنفوا العلم والكتابة عن الله سبحانه وتعالى. ثم إن أهل السنة والجماعة وعلى رأسهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن عمر، وابن عباس، وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة ناظروا هؤلاء، وبينوا لهم خطأ قولهم، وضلال مذهبهم، وأن بل مذهبهم كفر وتكذيب بالقرآن الكريم؛ لأن من لم يؤمن بالقدر فقد أنكر التوحيد؛ ولذلك سمي هؤلاء مجوس الأمة؛ لأنهم لم يفردوا الله سبحانه وتعالى بتوحيد الربوبية، فوقع عندهم الشرك في توحيد الربوبية، فلما نوقشوا رجع منهم طائفة، وأصبح أكثر الناس يقرون بالعلم السابق والكتابة، ويناقشون ويجادلون في المرتبتين الأخريين، وهما مرتبتا المشيئة والخلق. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الواسطية [22] القدر سر الله في خلقه، فمن رام كشفه ضل وهلك، ومن نظر فيه بعيداً عن نصوص الوحي هلك، ومن نظر فيه ولم يجمع النصوص فيه ضل؛ ولذلك ضل من ضل في هذا الباب بسبب عدم جمعهم لنصوص هذا الباب والتوفيق بينها، فتراهم لا يفرقون بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية، ولا بين إرادة الله وإرادة العبد، فعارضوا بين القدر والشرع، وسلبوا الله العدل والحكمة، فضلوا وأضلوا. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 1 إثبات مشيئة الله وقدرته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: قال رحمه الله: [وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه ما لا يريد، وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه، لا خالق غيره ولا رب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد] . هاتان المرتبتان هما الدرجة الثانية. قال الشيخ رحمه الله: (وأما الدرجة الثانية فهي مشيئة الله النافذة) . مشيئته النافذة سبحانه وتعالى التي لا يحول دونها شيء، فالله على كل شيء قدير، وهذا مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وأجمعت الأمة على أن الله على كل شيء قدير، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ودلائل هذه المرتبة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وما لا يحصى كثرة من الآثار عن السلف، ولا إشكال أن الله على كل شيء قدير، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. قال: (فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة) وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن ما في السماوات وما في الأرض من حركة وسكون فبمشيئة الله سبحانه، والإنسان إذا تصور هذا علم قدر الرب جل وعلا، فهذه الأشجار التي في الشوارع تتحرك، وهذه البحار مليئة بغرائب الخلق؛ وما فيها من حركة وسكون فبمشيئة الله جل وعلا، والعبد إذا تصور هذا عظم في قلبه قدر ربه، وعلم أن جريان الدم في عروقه إنما هو بمشيئة الله الواحد القهار، فيحصل عنده من كمال التعظيم للرب والانقياد لشرعه والقبول لخبره ما لا يحصل لغيره، فما في السماوات وما في الأرض من حركة وسكون فبمشيئة الله سبحانه، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد. وقد قال بعض المعتزلة زاعماً تنزيه الله عز وجل وتعظيمه وتقديسه سبحانه وتعالى: سبحان الذي تنزه عن الفحشاء. تنزه عن الفحشاء، كلمة جذابة لكنها تحمل نفياً واعتقاداً فاسداً، فقال له العالم السلفي: سبحان الذي لا يكون في ملكه إلا ما يشاء. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 2 سبب ضلال من ضل في باب القدر أصل الإشكال عند من ضل في باب القدر: هو عدم تفريقهم بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية، ولو أعطوا النصوص حقها من النظر والتأمل والاعتبار والتفكر؛ لوصلوا إلى ما توصل إليه أهل السنة والجماعة من الحق والهدى، وتجنبوا ما وقعوا فيه من الضلالة والردى، فالواجب على المؤمن أن يسلم للنصوص، وأن يعلم أنه لن يبلغ في تقديس الله وتنزيهه قدر ما في خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه سبحانه على كل شيء قدير، سواء كان فيما يتعلق بالموجودات أو المعدومات، والموجودات هي المخلوقات، فكل ما قدره الله موجوداً فهو من الموجودات، والمعدومات هي التي لم توجد، فهو قادر على الإيجاد والإعدام، فقدرة الله سبحانه وتعالى تتعلق بالموجودات وبالمعدومات وبالواجبات، وأما الممتنعات المستحيلات فلا تدخل في القدرة أصلاً؛ لأنها ليست بشيء، فقوله: (الموجودات والمعدومات) هذا من قسم الممكنات. وأقسام الوجود ثلاثة: واجب الوجود، وممكن الوجود، وممتنع الوجود، فالموجود والمعدوم من الممكن؛ لأن ما قبل الوجود والعدم فهو من الممكنات. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 3 الله خالق كل شيء ثم قال: [فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه] . هذه هي المرتبة الأخيرة من مراتب القدر وهي: الإيمان بخلق الله جل وعلا، وأنه خالق كل شيء كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى، وكما دلت على ذلك النصوص المتواترة في الكتاب والسنة وإجماع السلف، وهو ما دل عليه العقل، فإن العقل يوصل إلى أنه ما من شيء في الكون إلا بخلقه سبحانه وتعالى. قال رحمه الله: (لا خالق غيره، ولا رب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله) ، قوله: (ومع ذلك) هذا فيه الرد على الذين غلوا في الإثبات، فهناك قوم أوغلوا في إثبات هذه المراتب، فانقسم الناس في مراتب القدر الأربعة -العلم والكتابة والمشيئة والخلق- إلى قسمين: قسم غلوا في النفي فنفوا هذه المراتب كلها فقالوا: لا علم ولا كتابة ولا مشيئة ولا خلق وهؤلاء هم غلاة القدرية. ودونهم في النفي: الذين أثبتوا العلم والكتابة، ونفوا الخلق والمشيئة، وهم عامة القدرية المعتزلة، وقابل هؤلاء قوم غلوا في الإثبات فقالوا: نؤمن بأن الله عالم بكل شيء، وأنه قد كتبه، وأنه قد شاءه وأنه قد خلقه، فغلوا في الإثبات؛ فألغوا فعل العبد، وقالوا: ما أنت إلا كريشة في مهب الريح، ليس لك اختيار، ولا لك رأي، والفعل لا ينسب إليك! فجعلوا ثبوت هذه المراتب مضاداً ومعارضاً للأمر والنهي، فعارضوا الأمر والنهي بالقدر فقالوا: كما قال المشركون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] ، فجعلوا كل فعل من العبد من الله، وإذا كان من الله فالعبد لا اختيار له، ولا يعاقب على هذا الفعل؛ ولذلك نفوا عدل الله وحكمته ورحمته وقالوا: لا نثبت لله الحكمة، ولا نثبت له العدل، ولا نقول: يمتنع عليه الظلم، بل لا يمتنع عليه إلا ما لا يمكن وجوده، هكذا قالوا! وسبحان الله! فإن المبتدع يبدأ بانحراف يسير، ثم ما يلبث إلا ويبعد عن الصراط، ويأخذ جادة مختلفة، حتى تستغرب أن هذه النهاية كانت تلك مقدمتها، وهذه النتيجة كان هذا القول أولها! وهنا أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن أهل السنة والجماعة -مع إثباتهم لهذه المراتب- لا يعارضون بذلك أمر الله ونهيه، فليس عندهم معارضة بين القدر والشرع، بل القدر والشرع متفقان، ويجب الإيمان بالجميع، والقبول لأمر الله ونهيه، والامتثال لشرعه، فنحن متعبدون بالشرع، ونؤمن بالقدر. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 4 الفرق بين الإرادة الشرعية والكونية قال رحمه الله: [ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد] كل هذا تقرير للفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، وأنه لا يستقيم لأحد قدم في باب الإيمان بالقدر إلا إذا تصور وأيقن بالفرق بين الإرادتين، حتى لا تضطرب عنده الأمور. وفيه الإشارة -أيضاً- إلى أن منشأ الضلال عند هؤلاء هو أنهم جعلوا الإرادة إرادة واحدة، فإرادة الله لصلاة المصلي هي التي يريد بها سبحانه وتعالى فسوق الفاسق ومعصية العاصي، وشتان فإن تلك هي: الإرادة الشرعية التي أمر بها وأحبها، وأما فسوق الفاسق فإنه بإرادته الكونية الخلقية، فلا توافق بينهما كما دلت على ذلك النصوص وسبق تقريره. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 5 الكلام على أفعال العباد وإرادتهم لها قال رحمه الله: [والعباد فاعلون حقيقية، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29] ، وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: (مجوس هذه الأمة) . ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها] . يقول رحمه الله في نهاية هذا المبحث الجليل: (والعباد فاعلون حقيقة) أي: أن ما يصدر منهم من قول أو فعل أو اعتقاد، ظاهر أو باطن، صالح أو فاسد، بر أو شر، كل ذلك مضاف إليهم حقيقة، وهم الفاعلون له حقيقة، وفيه الرد على الذين يقولون: إن هذه الإضافات -أي: إضافة الفعل إلى العبد- إنما هي إضافة مجازية، وقد قال بذلك جماعة ممن قال بالجبر، فالجبرية يقولون: الإضافات التي في الكتاب إضافات مجازية، وإلا فالعبد لا اختيار له ولا فعل، ولا ينسب إليه شيء، فرد عليهم الشيخ رحمه الله وقال: (والعباد فاعلون حقيقية، والله خالق أفعالهم) وفيه الجمع بين هذين الأمرين، فإضافة الفعل إلى العبد لا تنافي خلق الله لهذا الفعل، بل الله جل وعلا خلق الخلق وأفعالهم وجميع أحوالهم، وجميع ما يكون منهم ويصدر، ولا تعارض، وعلى هذا دل الكتاب، فكم من آية في كتاب الله يضاف الفعل فيها إلى العباد! ولا أظن أن أحداً يستطيع أن يحصي ذلك؛ لكثرته ووفرته، فالله عز وجل يضيف إلى العبد: الكفر والتقوى والإيمان والإحسان والبر والصلاح والفساد والصلاة والزكاة والحج، كل هذه إضافات حقيقية، والأصل في الكلام الحقيقة، حتى على القول بأن الكلام فيه حقيقة ومجاز، فالأصل في الكلام الحقيقة، ولا يصار إلى المجاز إلا بقرينة، فالعباد فاعلون حقيقة لما يكون منهم، والله جل وعلا خالق أفعالهم. على هذا مضى أهل السنة والجماعة واتفقوا، ودل على ذلك الكتاب والسنة والعقل والفطرة، وأجمعت عليه الأمم. ثم قال رحمه الله في تفصيل هذا: (والعبد هو المؤمن) يعني: هو الموصوف بهذا الوصف (والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم) ولذلك رتب الله سبحانه وتعالى على هذه الأوصاف وعلى هذه الأفعال الثواب والعقاب، ولو لم يكن ذلك من العبد؛ لما ترتب عليه الثواب والعقاب، ولما كان من العدل أن يرتب الثواب والعقاب على فعل لم يفعله. ثم قال رحمه الله: (وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم) واستدل على ذلك بآية من كتاب الله عز وجل، والآيات في هذا كثيرة جداً، وإنما استدل بآية؛ لأن الأمر يثبت بدليل واحد، وتضافر الأدلة مما يقوي الأمر ويثبته، ويكفي في ثبوت الحكم ورود دليل واحد من الكتاب أو من السنة، فكيف بما تواردت عليه الأدلة السمعية بنوعيها: الكتاب والسنة، وكذلك الإجماع، وأيضاً دل عليه العقل والفطرة وأجمعت عليه الأمم؟ فيكون ثبوته من باب أولى. واستدل لذلك: بأن الله سبحانه وتعالى خالق العباد، وخالق قدرتهم وإرادتهم كما قال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} فأثبت مشيئة وفعلاً، المشيئة: شاء، والفعل: يستقيم، فأثبت المشيئة والقدرة على الفعل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فمشيئة الله سبحانه وتعالى محيطة بمشيئة العبد، فلا تخرج مشيئة العبد عن مشيئة الله عز وجل، ولكن هذه المشيئة العامة لا تلغي مشيئة العبد ولا تنفيها بل الكتاب أثبت هذه، وأثبت هذه. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 6 الفرق الضالة في باب القدر الفرق الضالة في هذا الباب على نوعين: القدرية نفوا مشيئة الرب فكفروا بقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] ، والجبرية ألغوا مشيئة العبد فكفروا بقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} ، وهدى الله أهل السنة والجماعة إلى الحق وإلى الطريق المستقيم بين هاتين الضلالتين: ضلالة الجبرية، وضلالة القدرية. قال: (وهذه الدرجة من القدر) المتضمنة لمرتبتي المشيئة والخلق (يكذب بها عامة القدرية) أي: أكثرهم، وهم المعتزلة (الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: (مجوس هذه الأمة) ، وأول من أظهر هذه المقالة الفاسدة بين المسلمين: معبد الجهني فإنه نفى القدر، ويقابله الجبرية وأول من قال بقولهم: الجهم بن صفوان: رأس البدعة، ومنبع الشر في كثير من العقائد، ووجه تسمية هؤلاء بالمجوس: أنهم جعلوا في الكون خالقاً غير الله، فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى لا يخلق أفعال العباد، فأثبتوا خالقاً غير الله سبحانه وتعالى، وهذه هي عقيدة المجوس، حيث جعلوا إلهاً للخير وإلهاً للشر، إلهاً للنور وإلهاً للظلمة، وقد ذمهم النبي صلى الله عليه وسلم، ونهى عن الصلاة على موتاهم، وعيادة مرضاهم، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وصححه جماعة من أهل العلم. قال: (ويغلوا فيها) أي: في هاتين الدرجتين (قوم من أهل الإثبات) في الجملة هم من أهل الإثبات؛ لأنهم يثبتون هذه المراتب (حتى سلبوا العبد قدرته واختياره) فجعلوا الأخبار المثبتة لمشيئة الله عز وجل وقدرته وخلقه قاضية على مشيئة العبد وما يصدر منه من فعل. قال: (ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه) أفعال الله وأحكامه أي: شرائعه وأحكامه الكونية والقدرية (حكمها ومصالحها) لماذا يخرجون عن أفعاله وأحكامه حكمها ومصالحها؟ لأنهم لا يثبتون أنه الحكيم، فينفون عنه هذا الوصف ويقولون: إنه لا يفعل لحكمة، وإنما يفعل لمحض المشيئة، هكذا زعموا فألغوا حكمة الرب سبحانه وتعالى الذي وصف بها نفسه في آيات كثيرة، وفيها: أنه الحكيم سبحانه وتعالى، وجعلوا معنى الحكيم أي: ذو الحكم الذي له الحكم، أما الحكمة فإنها منفية عنه. هاتان البدعتان نزع إليهما فريقان من الفرق الإسلامية وهما: فرقة الكلابية، وفرقة الأشعرية، فالكلابية نزعوا إلى القدرية، والأشعرية مالوا إلى الجبرية، ولكن الأشعرية أتوا بقول ملطف فقالوا: إن العبد له قدرة على فعله، وفعله من كسبه، لكن لا أثر لقدرته على فعله، وهذه من المعضلات العقلية؛ ولذلك قالوا: إنها من المحالات العقلية، وعدوها من الأقوال التي لا حقيقة لها، الأقوال التي لا حقيقة لها متعددة، ومحصورة في كلام أهل العلم، منها: كسب الأشعري، حيث قال: إن العبد يقدر على فعله، لكن قدرته لا تأثير لها على فعله، قيل له: ما هذه القدرة التي تثبتها؟! قال: هي مقارنة القدرة للكسب، وإن كانت لا تؤثر! وعلى كل حال فهذا كلام يتعب الذهن ولا فائدة منه، وإنما هو خيال تصوره صاحبه، واتبعه عليه أقوام، لو فتشت وتأملت وبحثت معهم لم تجد عندهم معنى صحيحاً لهذا القول، ولذلك تجدهم يسعون إلى التلفيق، ولكنهم لم يوفقوا إلى الصواب. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 7 القول الفصل في باب القدر والقول الفصل في هذا: أننا نثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والواجب على المؤمن في باب القدر إذا أغلق عليه أمر أن يسلم، وأن يعلم أنه لا سلامة له إلا بالتسليم، فالقدر سر الله في خلقه، لم يطلع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً كما قال الطحاوي رحمه الله؛ ولذلك يجب على المؤمن أن يقتصر في فهم هذا الباب وفي دراسته على نصوص الوحيين الكتاب والسنة وما ورد عن سلف الأمة، وأن يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى عدل، وأنه لا يظلم الناس شيئاً، وأنه لا معارضة بين القدر والشر، فالواجب الإيمان بالقدر والعمل بالشرع، ومن عارض القدر بالشرع فقد ضل وشابه المشركين، ومن ألغى القدر فإنه شابه المجوس الذين أثبتوا خالقين. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 8 شرح العقيدة الواسطية [23] الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، هذه هي عقيدة السلف، وقد خالفها كثير من أهل البدع والأهواء. فيجب على المسلم التمسك بما كان عليه السلف، وينبغي له أن يعلم بالأدلة قولهم، حتى يطمئن به، ويدعو إليه على بصيرة. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 1 الإيمان قول وعمل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح] . هذا الأصل من الأصول المهمة التي يجب على المؤمن أن يعلم الحق فيها لكثرة الاشتباه والاضطراب. قال رحمه الله: ومن أصول أهل الفرقة الناجية -جعلنا الله وإياكم منهم- أن الدين والإيمان، الدين: عام، والإيمان: خاص، فهذا من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الدين يشمل الإيمان، ويشمل الإسلام، ويشمل الإحسان كما تقدم في أول هذا الكتاب المبارك. (أن الدين والإيمان قول وعمل) وعلى هذا أجمع أهل السنة والجماعة متقدموهم ومتأخروهم، والعبرة بإجماع السلف، والسلف مجمعون على هذا، حتى إنه لكثرة كلامهم وظهوره في هذا الباب، مما يؤدي إلى هذا المعنى: أن الإيمان قول وعمل؛ أصبحت هذه الكلمة من علامات السنة، ومن شعائرهم، ومن شعاراتهم، فمن شعارات أهل السنة وأعلامهم: أن الإيمان اعتقاد، وأن الإيمان قول وعمل. وقد تنوعت عبارات أهل السنة والجماعة في بيان الإيمان: فبعضهم قال: الإيمان قول وعمل كما هو كلام الشيخ رحمه الله، ومنهم من قال: الإيمان قول وعمل ونية، ومنهم من قال: الإيمان قول وعمل ونية واتباع سنة، ومنهم من قال: الإيمان قول اللسان، واعتقاد الجنان، وعمل الجوارح. واعلم أن هذه المنقولات عن السلف لا اضطراب فيها ولا اختلاف، بل هي من تنوع العبارة، فالعبارة متنوعة لكن المضمون واحد، والعقد فيها متفق، فلا اختلاف، وكلها ترجع إلى أمر واحد، والخلاف هو باعتبار تقسيم المعرف للإيمان، أما من حيث المضمون وما تؤديه هذه العبارات المختلفة فهو واحد. فمن قال: إن الإيمان قول وعمل فمراده: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح. ومن قال: إن الإيمان قول وعمل ونية فمراده: أن عمل القلب لا يدخل في القول؛ لأن القول ظهور من اللفظ، والقلب لا يظهر منه شيء فاحتاج إلى زيادة نية. ومنهم من زاد: (اتباع السنة) ؛ لأن العمل إذا لم يكن متبعاً فيه السنة فإنه مردود على صاحبه، فهذه العبارات المختلفة تؤدي إلى معنىً واحد كما بين ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، وقال: إن هذا من اختلاف التنوع، والمضمون في كلامهم واحد لا خلاف فيه. يقول رحمه الله: (قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح) . فأضاف القول إلى القلب، لو قال قائل: كيف تضيفون القول إلى القلب والقول لا يكون في الأصل إلا في اللسان؟ نقول: إن القول يضاف إلى اللسان وإلى القلب، فهو عند الإطلاق قول اللسان، لكن إذا قيد بإضافة إلى القلب فإنه يصح إثباته للقلب، فما هو قول القلب في كلام المؤلف رحمه الله؟ هو إقراره واعتقاده ونيته، وقال بعضهم: قول القلب هو إخلاصه. فقول المؤلف رحمه الله: (قول القلب) يعني: اعتقاده ونيته وإقراره، (وقول اللسان) هو ما ظهر من اللسان من الإقرار بالشهادتين، ولا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً إلا بهذين الأمرين، فإذا صدر منه قول اللسان دون إقرار القلب هل ينفعه هذا الشيء؟ لا، فمن تكلم بالشهادتين لكن قلبه خال منهما فهو منافق، هذه هي حال المنافقين: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11] . ولو قر في قلبه تعظيم هذا الدين ومحبته والتصديق به لكنه لم يتلفظ بلسانه، فلم يقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وهو قادر على التلفظ، هل يكون مسلماً؟ الجواب: لا، بإجماع أهل الإسلام؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا) والشهادة إنما تكون بالإعلام والبيان، وفي رواية: (حتى يقولوا) والأكثر: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله) ، فعلم بهذا أنه لا تستقر قدم أحد على دين الإسلام إلا بهذين الأمرين، قول القلب: وهو إقراره واعتقاده ونيته، وقول اللسان: وهو تلفظه بالشهادتين. وقوله: (عمل القلب) هل القلب له عمل؟ نعم، القلب له عمل عظيم، وهو أصل عمل الجوارح، المحبة أين هي؟ هل تتحرك اليدان بالمحبة؟ المحبة أمر قلبي، الخوف أين يكون؟ في القلب، وهكذا الخشية الرجاء التوكل الإنابة الإخبات، فأعمال القلوب كثيرة، وهي حركاته في الطاعات وهي من الإيمان، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والحياء شعبة من الإيمان) ، والحياء أمر قلبي، وأصله في القلب، وإن كانت تظهر علاماته على الجوارح، لكن أصل الحياء إنما يكون في قلب الإنسان. قال: (وعمل اللسان) . الشهادتان مضت في قول اللسان، فما هو عمل اللسان؟ اشتغاله بذكر الله عز وجل: التسبيح التحميد التكبير قراءة القرآن تعليم العلم تعلم العلم إذا كان بقراءة، كل هذا من عمل اللسان فهو من الإيمان، دليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ، الشاهد في قوله: (قول لا إله إلا الله) ، وكذلك الأحاديث الكثيرة التي لا حصر لها في فضائل الأقوال، وترتيب الأجور على ما يكون من الإنسان من الأقوال، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله؛ دخل الجنة) ، والجنة إنما تكون لأهل الإيمان، فجعل هذا القول سبباً لدخول الجنة، وهي لا تكون إلا لأهل الإيمان؛ فدل ذلك على أن القول من الإيمان. قال: (والجوارح) أي: عمل البدن، فعمل البدن كله من الإيمان؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان شعب الإيمان: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ، فبهذا نعلم أن الإيمان لا يكون مجرد اعتقاد في القلب، بل لا بد من اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح، فالذي يقول: الإيمان في قلبي، ولا يصلي ولا يتلفظ بالشهادتين هل يكون مسلماً؟ الجواب: لا؛ لعدم تلفظه بالشهادتين، وكذلك الذي يترك جنس العمل فلا يعمل عملاً صالحاً بالكلية هذا أيضاً انتفى عنه ركن الإيمان وهو العمل؛ لأن الإيمان قول وعمل. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 2 الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية قال رحمه الله: [وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] ، وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] ، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]] . مسألة الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية من المسائل الكبيرة التي اختلف فيها المختلفون، وهدى الله فيها أهل السنة والجماعة إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، الإيمان يزيد وينقص هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد تواطأت عليها عبارات السلف، ودل عليها الكتاب والسنة، وأجمع عليها الصحابة وسلف الأمة، وقد خالف في ذلك المعتزلة والخوارج والمرجئة، فالمعتزلة والخوارج قالوا: لا يزيد ولا ينقص، فنفوا الزيادة والنقصان وقالوا: الإيمان شيء واحد لا يتفاضل، فإذا وجد وجد جميعاً، وإذا سلب سلب جميعاً، هكذا زعموا! وأما المرجئة فالإيمان عندهم شيء واحد إلا أن منهم من يقول: الإيمان يزيد فقط، أما النقص فلا ينقص! والذي عليه أهل السنة والجماعة إثبات الزيادة والنقص للإيمان، أما الزيادة فقد ورد ذكرها وإقرارها والنص بها في كتاب الله عز وجل في مواضع عديدة، من ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] ، ومنه أيضاً قوله سبحانه وتعالى فيما أخبر عن المنافقين: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة:124] ، والأدلة على زيادة الإيمان كثيرة. وأما السنة فمن الأدلة الواضحة على زيادة الإيمان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) فجعل من الشعب ما هو عالي، ومن الشعب ما هو دون العالي، فجعل للإيمان أعلى وأدنى، فأدلة زيادة الإيمان في الكتاب والسنة وكلام السلف ثابتة بما لا مجال لإنكاره. وأما النقصان فإنه لم يصرح به في كتاب الله عز وجل، ولم يرد هذا اللفظ في كتاب الله عز وجل، ولكن من لازم الزيادة أن يكون هناك تفاضل في الإيمان. وأما السنة فقد ورد ذلك في أحاديث عديدة كثيرة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ، فدل ذلك على أن الزنا وما ذكر من المعاصي في هذا الحديث سبب لنقصان الإيمان؛ لأن نفي الإيمان دليل على نقصه، ولو لم يكن هذا العمل مؤثراً نقصاً في الإيمان لما كان لنفيه وجه، ويدل عليه صريحاً أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في النساء: (ناقصات عقل ودين) ، ونقصان الدين فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (تترك الصلاة والصيام أياماً) ، فدل ذلك على أن الإيمان ينقص؛ لأن الدين يشمل الإيمان والإسلام والإحسان. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 3 عدم تكفير أهل القبلة بمطلق المعاصي ثم قال: [وهم مع ذلك] أي: مع إقرارهم بما تقدم من أن الإيمان قول وعمل، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر. عندنا في كلام المؤلف رحمه الله في هذا الفصل مطلق الشيء والشيء المطلق. مطلق الشيء: هو أدنى وصف منه، فمطلق المعاصي المراد به أدنى معصية، يعني: كل ما يكون مندرجاً في المعاصي، وكذلك مطلق الكبائر يعني: أي كبيرة من الكبائر. وأما الشيء المطلق: فهو منتهى الشيء وكماله، فالشيء المطلق عام، ومطلق الشيء أقل ما يصدق عليه هذا الاسم، فالمؤلف رحمه الله يقول: لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، يعني: لا يكفرون بالكبيرة ولا بالمعصية، يعني: بمجرد الكبيرة وبمجرد المعصية، فإن الكبائر والمعاصي ليست سبباً لإثبات اسم الكفر ولا حكم الكفر. قال: [وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر] . والمراد بأهل القبلة هنا: من انتسب إلى الإسلام، ويشمل ذلك جميع فرق أهل الإسلام على اختلافها، من الثنتين وسبعين فرقة دون الفرقة الناجية، فهم كلهم من أهل القبلة، وهذا الاسم له شاهد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، وصلى صلاتنا، فذاك المسلم؛ له ما لنا، وعليه ما علينا) ، والحديث في الصحيح، فكل من كان من أهل الإسلام فإنه من أهل القبلة، وإنما أضيف الأمر إلى القبلة؛ لأنها التي يجتمع عليها أهل الإسلام على اختلاف طوائفهم واختلاف عقائدهم، فهي محل اجتماع أهل الإسلام، فأهل السنة لا يكفرون أهل القبلة المسلمين بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج ومن سار على طريقهم كالمعتزلة، وإنما ذكر الخوارج؛ لأنهم أبرز الفرق التي اشتهرت بهذا، وإلا فالمعتزلة يوافقونهم في إخراج المسلم من دائرة الإسلام بمطلق الكبيرة وبمطلق المعصية، ولكن الخوارج اشتهروا بهذا أكثر من غيرهم، وكفروا الصحابة رضي الله عنهم. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 4 الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي قال: [بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي] . الأخوة الإيمانية، أي: الأخوة التي سببها الإيمان والإسلام ثابتة مع المعاصي، يعني: مع وجود المعصية سواءً كانت المعصية كبيرة أو صغيرة، واستدل لذلك بقوله سبحانه في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] فأثبت في هذه الآية الأخوة بين القاتل والمقتول مع أن القاتل أتى كبيرة أو لا؟ أتى كبيرة من كبائر الذنوب، فأثبت الأخوة بين القاتل والمقتول مما يدل على أن المعاصي لا ترفع الأخوة الإيمانية، بل الأخوة الإيمانية ثابتة وباقية وقائمة مع وجود المعاصي. ومن الاستدلال على أن الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] ، والاقتتال بين المؤمنين سماه النبي صلى الله عليه وسلم كفراً فقال: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) ، ومع ذلك لم يرتفع وصف الإيمان عن هؤلاء المقتتلين، ودليل ذلك قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] ، فالشاهد من هذه الآية قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} ، وكذلك قوله بعد الأمر بالإصلاح ومقاتلة الباغية حتى تفيء: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وإن كان منهم باغ ومبغى عليه: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] أي: المتقاتلين، وبهذا يعلم أن المعاصي لا يرتفع بها وصف الإيمان، لكن ما الوصف الذي لا يرتفع؟ هل هو الإيمان المطلق الكامل؟ الجواب: لا، إنما الذي لا يرتفع هو مطلق هذا الاسم كما سيبينه المؤلف رحمه الله في كلامه بعد قليل. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 5 الفاسق لا يسلب اسم الإيمان بالكلية قال رحمه الله: [ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية] . يقول: لا يسلبون، أي: لا يرفعون عن الفاسق الملي يعني: الفاسق من أهل الإسلام، وقوله: الملي، يعني: من كان من أهل الإسلام، فلا يقولون: هذا ليس مؤمناً بالكلية، بل يثبتون له مطلق الإيمان، والذي ينفونه عنه هو الإيمان المطلق، أما مطلق الإيمان فهو ثابت، وتنبه للفرق بين مطلق الإيمان وبين والإيمان المطلق، الإيمان المطلق: هو الإيمان الكامل التام، وأما مطلق الإيمان: فهو ما يثبت به وصف الإيمان ولو لم يكن كاملاً تاماً، فأهل السنة والجماعة لا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية، بل يبقون معه مطلق الإيمان، هذا من حيث الاسم خلافاً للمعتزلة والخوارج والمرجئة، فالمعتزلة يسلبون عنه الاسم، فلا يسمونه مسلماً ولا مؤمناً، يعني: الزاني إذا زنى أو السارق إذا سرق فإنه لا يسمى عندهم لا مسلماً ولا مؤمناً، فهل هو كافر؟ يقولون: لا، ليس بكافر، هو في منزلة بين المنزلتين أي: بين الإيمان والكفر، هذا من حيث الاسم، وأما من حيث الحكم، فالمعتزلة يقولون: إنه خالد في النار، والجنة محرمة عليه، أما بالنسبة للخوارج فإنهم من حيث الاسم يقولون: مرتكب الكبيرة كافر، وأما من حيث الحكم فهو خالد مخلد في النار. إذاً: المعتزلة والخوارج يتفقان في النتيجة وإن اختلفا في الأسماء في الدنيا. أما المرجئة فإنهم يقولون: العاصي الذي أسرف على نفسه بأنواع المعاصي على اختلاف أنواعها وكثرة تكرارها هو مؤمن كامل الإيمان، إيمانه مثل إيمان جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم! فأثبتوا له الإيمان المطلق، فهم يقابلون الخوارج والمعتزلة. وهذا الكلام ليس كلاماً نظرياً لا واقع له، هذه عقائد موجودة وقائمة، ويدافع عنها أصحابها، ويحاولون تقريرها بأنواع من الوسائل، فلا تظن أن هذه الفرق بادت وانتهت، هذه الفرق رائجة وقائمة ولها دعاتها، فلا بد للمؤمن أن يحيط بها علماً، وأن يعرف أصول أقوال البدع حتى يسلم منها أولاً، وثانياً: يتمكن من الرد عليها، وثالثاً: يكون ممن وفقهم الله إلى الذب عن السنة، وعن منهج أهل السنة والجماعة، وطريقة السلف الصالح. قال رحمه الله: [ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة] . الخوارج مثل المعتزلة، لكن أتى هنا بما اختصت به المعتزلة، وهو أنهم يخلدونه في النار، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: هذا مؤمن ناقص الإيمان، ولا يرفعون عنه اسم الإسلام، وأما أولئك فإنهم يرفعون عنه اسم الإيمان والإسلام، ومن حيث الحكم في الآخرة فهو في النار خالداً مخلداً فيها. ثم قال رحمه الله تعالى في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ووسطيتهم في هذا الأمر: [بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:2]] . المؤلف رحمه الله تعالى يقول: بل الفاسق يعني: الملي من أهل الإسلام يدخل في اسم الإيمان المطلق، لماذا؟ لأن معه شيئاً من الإيمان، فلما كان معه شيء من الإيمان بقي في دائرة الإيمان المطلق، ولم يخرج عن مسمى الإيمان؛ لأن معه أصول هذا الإيمان الذي يثبت لكل من اتصف به؛ ولذلك يدخل في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، وهل يلزم في الرقبة المحررة أن تكون كاملة الإيمان؟ لا، لا يلزم، بل كل مؤمن ولو كان مسرفاً على نفسه بالمعاصي فإنه يدخل في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، وهذا يثبت لأدنى المؤمنين إيماناً، وهو من أقر بالأصول التي في حديث جبريل، ولو خالف في العمل بالذنوب والمعاصي، وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق الكامل التام؛ ولذلك لا يدخل المسرف على نفسه بالمعاصي في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} ، بل حتى الذي لم يسرف على نفسه بالمعاصي، وكان ممتنعاً عن المعاصي، لكنه لا يتصف بهذا الوصف (إذا ذكر الله وجل قلبه، وإذا تليت عليه آياته زادته إيماناً) ؛ فإنه لا يدخل في اسم الإيمان المطلق. وهل يكون منافقاً؟ الجواب: لا؛ لأن الإيمان المنفي هنا هو الإيمان التام الكامل الذي يستلزم القيام بجميع ما أمر به الإنسان، وترك جميع ما نهي عنه، وليس المراد أنه من لم يتصف بهذا فهو من المنافقين؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في الأعراب: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ، فنهاهم عن قول الإيمان وأمرهم بقول الإسلام، أن يقولوا: أسلمنا، فأثبت لهم حكم الإسلام، وهل هم منافقون؟ الجواب: لا، ليسوا منافقين، فالإسلام الذي معهم ليس هو إسلام المنافقين، بل هو نظير إسلام أهل الكبائر أي: إسلام وإيمان ناقص؛ ولذلك نفاه عنهم لما لم يكملوه. فتنبه لهذا! فعندنا في الإيمان حد أعلى، وحد أدنى، الحد الأعلى في الإيمان هو: الإيمان المطلق الذي يستلزم القيام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، الأوامر القلبية والبدنية، والنواهي القلبية والبدنية، ومطلق الإيمان الذي هو أدناه يصدق على كل من أقر بأصول الإسلام، فإنه يكون مؤمناً إيماناً مطلقاً، يعني: معه أدنى ما يتصف به من الإيمان، وهو الإيمان بالأركان الستة. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 6 شرح العقيدة الواسطية [24] من أصول أهل السنة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يترضون عليهم، ويكفون ألسنتهم عما حصل بينهم، والواجب على كل مسلم أن يعرف للصحابة فضلهم، وأن يقوم بحقوقهم، التي بينها أهل العلم رحمهم الله. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 1 معنى حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) ، ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم] . هذا الحديث فيه: أن صاحب الكبيرة ينفى عنه الاسم المطلق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) يعني: حال مواقعته لهذه المعصية لا يكون مؤمناً كامل الإيمان، لماذا لا يكون مؤمناً كامل الإيمان؟ لأنه لو كان مؤمناً كامل الإيمان لترك المعاصي؛ لأن الإيمان الكامل هو اسم للعمل بجميع ما أمر الله به ورسوله، وترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله، فلما كان هذا مخالفاً لما أمر الله به ومنتهكاً لما نهى الله عنه فإنه لا يستحق هذا الاسم. من السلف من مثل الإيمان والإسلام بدائرتين: الدائرة الواسعة الكبيرة هي دائرة الإسلام، وداخلها دائرة أضيق منها وهي دائرة الإيمان، فإذا خرج من دائرة الإيمان هل يكون قد خرج من الإسلام والإيمان؟ لا، إنما خرج من الإيمان وهو في دائرة الإسلام، وهو الذي أفاده قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ، فأخرجهم من الدائرة الضيقة التي لا يصل إليها إلا من جاهد واجتهد في طاعة الله وترك ما نهى الله عنه؛ إلى الدائرة الواسعة التي هي دائرة الإسلام الثابتة لكل من أقر بمباني الإسلام وأركانه الخمسة. (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ، يرتفع عنه هذا الاسم، والذي يرتفع عنه هو الاسم المطلق الكامل (ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) . وبعد أن ذكر المؤلف هذين الدليلين الدالين على أن انتفاء الاسم لا يرفع وصف الإيمان، كما أن ثبوت الاسم يفيد الثبوت الكلي والثبوت الجزئي، انتقل رحمه الله إلى بيان القول الوسط في مرتكب الكبيرة، فقال: (ونقول هو) الضمير يعود إلى الفاسق الذي بدأ الكلام عنه في قوله: ولا يسلبون الفاسق الملي، قال: (ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان) ، لكن هل يسوغ ويصح أن يقال: هو مؤمن فقط دون تقييد؟ الجواب: لا، إنما هذا قول المرجئة الذين يثبتون الإيمان لكل من اتصف به، وأنه كامل الإيمان. إذاً: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وهذا أيضاً تقييد: (مؤمن بإيمانه) يعني: مؤمن بما معه من الإيمان الذي حمله على فعل الطاعات وترك المنهيات (لكنه فاسق) يعني: خارج عن الإيمان بكبيرته، يعني: بسبب كبيرته، فالباء هنا للسببية. الفسوق هو الخروج، والخروج هنا عن أي شيء؟ عن دائرة الإيمان الكامل المطلق إلى دائرة الإيمان الناقص، وهي دائرة الإسلام، فلا يعطى الاسم المطلق، ما هو الاسم المطلق؟ الكامل، ولا يسلب مطلق الاسم بكبيرته، يعني: ولا يسلب الإيمان بالكلية بسبب كبيرته بل يثبت له أصل الإيمان، ويكون موصوفاً به على وجه العموم لكنه ناقص الإيمان، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. وبهذا يكون قد انتهى البحث فيما يتعلق بفصل الإيمان. واعلم أن هناك مسألة طال فيها الخلاف وهي هل الأعمال داخلة في مسمى الإيمان أو لا؟ والصحيح الذي لا ريب فيه أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهذا ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف بلا ريب، ومن قال: إن الأعمال خارجة عن مسمى الإيمان فإنما توهم ذلك من أن الإيمان ورد مقيداً في مواضع عديدة من كتاب الله عز وجل وذكر بعده العمل، والجواب: أن الإيمان إذا ورد مقيداً وذكر بعده العمل فإنه يكون -كما تقدم تقريره- المراد به: عمل القلب، ويكون العمل عمل الجوارح فمثلاً قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227] الإيمان هنا المراد به: عمل القلب، وقوله: {عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} المراد به: عمل الجوارح، وهذا لا ينفي أن يكون العمل من الإيمان، لكن إذا ورد الإيمان مطلقاً فإنه لا شك في دخول الأعمال في مسماه؛ ولذلك لما ورد وفد عبد قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (آمركم بالإيمان ثم قال: أتدرون ما الإيمان؟ -ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان- فقال: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن تقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتعطوا الخمس من المغنم) ، ففسره بتفسير يتضمن العمل بأنواع العمل القلبي وقول اللسان وعمل اللسان وعمل الجوارح، ومن أظهر الأدلة على أن الإيمان يندرج تحته العمل ويدخل في مسماه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) . الجزء: 24 ¦ الصفحة: 2 من أصول أهل السنة سلامة قلوبهم وألسنتهم للصحابة قال رحمه الله تعالى: [ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ] . هذا الأصل -وهو ما يتعلق بصحابة رسول صلى الله عليه وسلم- تقدم الإشارة إليه في قول المؤلف رحمه الله: [وفي صحابة رسول الله بين الرافضة الخوارج] لما ذكر وسطية أهل السنة والجماعة، فهم وسط فيما يتعلق بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ضلالتين، بين فرقتين مبتدعتين قصرت في صحابة رسول الله أو غلت فيهم وهم الرافضة والخوارج. قال رحمه الله: [ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم] . السلامة: هي البراءة من النقص والعيب، هذا في الألسن؛ والغل، والحقد، والبغي، هذا في القلوب، فأهل السنة والجماعة قلوبهم سليمة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي سليمة لهم ليس فيها غل ولا حقد ولا حسد، ولا كراهية، ولا بغض، بل على عكس ذلك، فقلوبهم مليئة بمحبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلالهم وتقديرهم ومعرفة سبقهم وفضلهم. قال: [وألسنتهم] أي: وسلامة ألسنتهم، فأهل السنة والجماعة سلمت ألسنتهم من عيب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن نسبتهم إلى فسق، أو كفر، أو خيانة، أو ردة، أو غير ذلك كما هي حال الفرق الضالة سواءً الرافضة أو الخوارج، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم خير القرون كما سيأتي في كلام المؤلف. والصحابة ثبت لهم فضل الصحبة، والصحبة فضل يثبت لكل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، هذا هو ضابط الصحبة، وبه نعرف أن الصحبة اسم جنس يصدق على قليل الصحبة وكثيرها، فليس هناك حد زمني أو تقدير زمني حتى يقال: إن من حصله فقد حصلت له فضيلة الصحبة، بل فضيلة الصحبة ثابتة لكل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، قل زمن صحبته أو كثر، والفارق بين قليل الصحبة وكثير الصحبة أنه كلما طالت الصحبة تأكد الفضل وازداد الحق؛ لأن الصحبة وصف، فكل ما قوي هذا الوصف قويت الحقوق المرتبة على هذا الوصف، فمن صحب النبي صلى الله عليه وسلم عمره في دعوته كـ أبي بكر رضي الله عنه ليس حقه كحق ذاك الذي لم يشهده إلا مرة واحدة، مع أن الجميع يشتركان في الصحبة، ولكن يختلفان فيما يثبت لهما من الحقوق بسبب هذه الصحبة، فمن كان نصيبه من الصحبة أكبر كان نصيبه وحظه من حقوقها أوفر. فسلامة القلب وسلامة اللسان لمن طالت صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليست كسلامة القلب واللسان لمن قلت صحبته، ولا يعني هذا أن من قلت صحبته يطوله ضرر قلبي أو لساني من أهل السنة والجماعة، فكف الشر عنهم واحد، ولكن إثبات الفضل والمحبة والثناء والفضيلة يختلف باختلاف صحبتهم وباختلاف منزلتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجميع يشترك في حق الصحبة، وأقل حقوق الصحبة، وأول عتبة في حقوق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يشترك فيه طويل الصحبة وقصيرها؛ هو سلامة القلوب والألسنة لهم، ثم بعد ذلك يتفاوتون. إذاً: قوله رحمه الله: (سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله) هذا أدنى حقوقهم. وأول حقوقهم -وهو من باب التخلية قبل التحلية- أن يخلي قلبه من كل غل، وحقد، وحسد، وبغض، وكره لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الألسنة فتكون خالية من كل نقص وعيب، وهمز، ولمز، ووقيعة فيهم رضي الله عنهم، وهذا خلاف ما عليه غير أهل السنة والجماعة من الفرق الضالة في هذا الباب. وبدأ بسلامة القلب قبل سلامة اللسان؛ لأن سلامة القلب هي الأصل، فمن سلم قلبه سلم لسانه، وبه تعلم أن كل من همز صحابة رسول الله، أو لمزمهم، أو عابهم، أو انتقصهم بلسانه؛ فهذا يدل على أن في قلبه فساداً، وأنه إما بلي بغل، أو حقد، أو حسد، أو كره لصحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والعجيب! أن أقواماً اتهموا هؤلاء الصفوة بأنواع من التهم، وألحقوا بهم أنواعاً من السباب، وألحقوا جمهورهم بالكفر كما سيأتي، ولم يبق إلا نفر قليل زعموا أنهم هم الذين تتنزل عليهم نصوص فضل الصحابة، ويستحقون ما للصحبة من حقوق، وأما جمهورهم فهم بين مرتد، أو كافر، أو خائن، نعوذ بالله! ولو قيل لعاقل: هل يسوغ هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لا، كيف يصطفي الله عز وجل لخير خلقه وصفوتهم وخاتم رسله هؤلاء الأصحاب الذين هم بين منافق وكافر وخائن؟! فالرد على هؤلاء بالعقل أبلغ من الرد بالنص؛ لأنهم لا يسلمون بالنصوص بل ما يسوقونه من النصوص في لمز الصحابة من الذي نقلها؟ ومن أين أتتنا هذه النصوص؟ من الصحابة، فهم يستدلون بالأحاديث التي رواها الصحابة على ذمهم، فمثلاً يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الحوض: (يذاد عن حوضي فأقول: أصحابي أصحابي فيقول: ما تدري ما أحدثوا بعدك) ، من الذي نقل لك هذا الحديث؟ الصحابة، فكيف تقبل نقلهم في ذم فئة منهم، وهم المرتدون، وتجعل هذا في حق جميعهم؟! سبحان الله العظيم! هذه البدعة التي هي بدعة الرفض وبدعة الخوارج أهلها من أفسد الناس عقلاً، ومن أفسدهم نقلاً، لا سيما بدعة الرافضة. يقول رحمه الله: [كما وصفهم الله] . هذا بيان لحال هؤلاء الذين استحقوا سلامة القلوب وسلامة الألسنة: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] ، قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} هذا عطف على ما تقدم، والذي تقدم هو ذكر المهاجرين والأنصار في سورة الحشر في الآيات التي قبل هذه الآية ذكر الله عز وجل أولاً المهاجرين، ثم ثنى بذكر الأنصار، ثم قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني: من بعد المهاجرين والأنصار: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} فهم يسألون المغفرة لهم: {وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} ، وأول وأحق من يدخل في قوله: {الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يدخل في هذا كل مؤمن قد سبقك وتقدم عليك، فكل مؤمن سبقك وتقدم عليك ولو بزمن يسير فإنه يدخل في قوله: {وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} ، لكن أول من يدخل في هؤلاء وأحق من يدخل في هذه الآية هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار. {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] سأل هؤلاء الله عز وجل المغفرة لهم ولإخوانهم، ثم قالوا: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} عموماً من السابقين والاحقين، لكن أول من يجب تسليم القلب من الغل في حقهم: {الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} ، وأحق أولئك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ، وهذه الآية تشير إلى أن من طرق تسليم القلب من الغل والحقد على أحد من أهل الإيمان أن تدعو له بالمغفرة. إذا كان على أحد في قلبك غل؛ بسبب معاملة أو سوء تصرف، فأكثر من الدعاء له بالمغفرة؛ حتى يسلم الله عز وجل قلبك مما فيه من غل في حق أخيك المسلم. ثم قال أيضاً في هذا الفصل، وفي هذا الأصل: [وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله] يعني: أهل السنة والجماعة سلمت قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمرين: الأمر الأول: الدليل من القرآن وهو يفيد سلامة القلب: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ} ، بل وسلامة اللسان وذلك في قوله: {اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} فالآية دالة على سلامة القلب وفضل اللسان، سلامة القلب في قوله: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ} ، وفضل اللسان بالدعاء لهم، وهو أمر زائد عن السلامة؛ لأن السلامة هو الامتناع من النقص والذم والعيب، فكيف إذا كان حقهم ونصيبهم من اللسان هو الدعاء لهم وطلب المغفرة! قال: [وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ] ، لا تسبوا هذا نهي، والسب يصدق في أي قول مذموم في حقهم، في أي قول فيه ذم لهم، فعيبهم سب لهم، تنقصهم سب لهم، احتقارهم سب لهم، لعن الصحابة من سبهم بل هو من أعظم السب لهم رضي الله عنهم، وسبب هذا الحديث خلاف وقع بين عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وبين خالد بن الوليد، فنال خالد رضي الله عنه من عبد الرحمن بن عوف، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي) إلى آخر الحديث، فالحديث له سبب وهو نيل خالد بن الوليد -وهو ممن تأخر إسلامه- من عبد الرحمن بن عوف -وهو ممن تقدم إسلامه- فهل هذا يعني أن خالداً ليس صاحباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل يعني أنه ليس من الصحابة؟ لا يعني أنه ليس من الصحابة، لكن هذا يشير إلى ما ذكرناه قبل قليل في الصحبة، وأن حق الصحبة يتأكد بقدر ما مع الإنسان منها، فنصيب عبد الرحمن بن عوف من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 24 ¦ الصفحة: 3 إثبات فضائل الصحابة ومراتبهم قال رحمه الله: [ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة من فضائلهم ومراتبهم، ويفضلون من أنفق من قبل الفتح -وهو صلح الحديبية- وقاتل على من أنفق من بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر -وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر-: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة] . قال المؤلف رحمه الله: [ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم] . يعني: من فضائل الصحابة ومراتبهم، واعلم أن أحاديث فضائل الصحابة رضي الله عنهم كثيرة مستفيضة قد بلغت حد التواتر، والثناء على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء في مواضع عديدة من كتاب الله عز وجل، وجاء في السنة من طرق متواترة مستفيضة، وجاء من طرق الإجماع، فإن الأمة أجمعت على أن الصحابة أفضل الأمة، وأنهم خير القرون رضي الله عنهم، ففضائلهم منشورة، كما أنه يدل على فضلهم العقل، فإنهم صفوة الخلق بعد الأنبياء حيث اصطفاهم الله عز وجل لصحبة خير الخلق وخاتم الرسل وسيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ففضائلهم ثابتة بالكتاب وبالسنة وبالإجماع وبالعقل. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 4 فضائل الصحابة العامة الفضائل الواردة في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ما هو عام -وهذا القسم الأول- كقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] هذا فضل عام، وكقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] ، وهذا أيضاً من الفضل العام الذي يعم جميع الصحابة. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 5 فضائل الصحابة الخاصة ومن الفضائل التي وردت في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضائل خاصة، وهذه الفضائل الخاصة تنقسم إلى قسمين: فضائل عامة يعني: هي خاصة لكن ليست خاصة بمعين بل يشركه فيها غيره، مثل قول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] هذه الفضيلة هل هي عامة لجميع الصحابة؟ لا، لجماعة منهم، لكن هل هي في واحد منهم أو في المجموع؟ في المجموع، فهذه فضيلة خاصة لكنها ليست خاصة بمعين، بشخص معين، بشخص واحد لا يشركه فيها غيره، بل هي خاصة في جماعة، فهي من حيث عدم عمومها لجميعهم خاصة، ولكنها لا ينفرد بها واحد منهم، وغالب ما ورد في فضائل الصحابة من هذا النوع، فالفضائل الخاصة غالب ما ورد فيها من فضائل لا على وجه الانفراد. القسم الثاني من الفضائل الخاصة هي التي اختص بها بعضهم، وانفرد بها عن غيره من الصحابة، وهذا أكثره في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فإن فضائلهما تميزت بأنهما قد انفردا فيها عن غيرهما من الصحابة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) هذه خاصة بهما، لم يشركهما فيها غيرهما، وأكثر الفضائل الخاصة وردت في أبي بكر، فإن له من الفضائل الخاصة التي انفرد بها عن سائر الصحابة ما ليس لغيره حتى ولا عمر، لكن عمر شاركه في الاختصاص في فضائل، لكن نصيب أبي بكر رضي الله عنه منها أوفر، فاضبط هذا التقسيم للفضائل. ثم اعلم أن مراتبهم رضي الله عنهم تنقسم إلى قسمين: مراتب على وجه العموم، ومراتب على وجه الأفراد. أما على وجه العموم فهو ما ذكره رحمه من تفضيل من أنفق من قبل الفتح وقاتل على غيره من الصحابة، وهذا تفضيل مرتبي على وجه العموم، فيفضل أهل السنة والجماعة من أنفق من قبل الفتح وقاتل -والفتح هو صلح الحديبية- على من أنفق من بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، وهذا تفضيل جملة، وليس تفضيل أفراد. قال رحمه الله: ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، وهذه فضيلة خاصة حتى في المهاجرين، فهي للمهاجرين والأنصار الذين حضروا بدراً، فهذا تخصيص بعد تخصيص، فالتفضيل العام الأول: من أنفق من قبل الفتح وقاتل، والثاني: تفضيل المهاجرين والأنصار، والثالث: تفضيل أهل بدر على غيرهم؛ وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) ، بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وهذا عدد كبير أثبت الله لهم الفضل بالرضا. وبهذا نعلم ضلال الرافضة والخوارج حيث كفروا غالب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فسقوهم وضللوهم، وقالوا: إن هذه الفضائل هي لمن بقي على الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا لهم: كم الذين بقوا على الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خمسة عشر، وإن تجاوزا أبلغوهم إلى عشرين، فهم لا يتجاوزون بضعة عشر رجلاً عندهم، وهؤلاء هم الذين نزلت فيهم هذه الفضائل!! فالجواب عليهم أن يقال: كيف يمدح الله مدحاً عاماً ويثبت رضاً عاماً لقوم يعلم أن خاتمتهم الكفر؛ ولذلك مضمون قول هؤلاء القدح في الكتاب والسنة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وباطن مذهب هؤلاء الطعن في الرسالة؛ ولذلك المسألة خطيرة فيما يتعلق بصحابة رسول الله، فهي تتعلق بإبطال نقلة الكتاب والسنة، فإذا كان القرآن لم يثبت إلا عن طريق كفرة، فكيف تعمل الأمة به وهو الكتاب المحفوظ؟ وأهل السنة والجماعة يقولون: إنه محفوظ منقولة حروفه بالتواتر، حتى حروفه يعني: ليس فقط جملة الكتاب، بل الحروف منقولة بالتواتر. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 6 الشهادة بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله: [ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة] . وهذا فضل خاص بهؤلاء العشرة، وهو ثابت لهم ولمن وافقهم، لكن قيل العشرة؛ لأنهم نص عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في سياق واحد، ففي جامع الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عشرة في الجنة -ثم سماهم-: أبو بكر، وعمر وعثمان وعلي) ، فهؤلاء نص النبي صلى الله عليه وسلم على الشهادة لهم بالجنة في حديث واحد؛ ولذلك عرفوا بالعشرة المبشرين بالجنة، وليس المقصود حصر البشارة بهم، بل البشارة لهم ولغيرهم، فإن النبي صلى الله عليه سلم قد بشر غيرهم بالجنة، مثل ثابت بن قيس بن شماس، وكـ بلال وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن سلام وعكاشة، فهم كثير الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وقد جمعهم بعض أهل العلم استقصاء وتتبعاً. المهم أن الشهادة بالجنة لا تكون إلا لمن شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء، على أننا نقر بفضلهم، لكن لا نشهد لمعين منهم بالجنة إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم. والعشرة هم أبو بكر، عمر، عثمان، علي، عبد الرحمن بن عوف، سعيد بن زيد، سعد بن أبي وقاص، الزبير، طلحة، أبو عبيدة بن الجراح، رضي الله عنهم، هؤلاء هم العشرة. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الواسطية [25] الله عز وجل يفضل من شاء على من يشاء، وهذا التفضيل يرجع لما في القلوب من التقوى (وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) ، ومن عقيدة أهل السنة تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي على غيرهم من الصحابة، وهم في الفضل على ترتيبهم في الخلافة، ومن عقيدتهم محبة آل بيت النبوة، وإعطاؤهم حقوقهم. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 1 تفضيل أبي بكر وعمر على غيرهما الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ويثلثون بـ عثمان، ويربعون بـ علي رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في علي وعثمان رضي الله عنهما -بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر - أيهما أفضل؟ فقدم قوم عثمان وسكتوا أو ربعوا بـ علي، وقدم قوم علياً، وقوم توقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي، وإن كانت هذه المسألة -مسألة عثمان وعلي - ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة؛ وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله] . قال رحمه الله: (ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره) يعني: ونقل عن غيره أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر. هذا هو القسم الثاني من المراتب وهو: بيان المراتب على وجه الانفراد، فأفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبو بكر رضي الله عنه، وهذا ثابت في كثير من النصوص التي مجموعها يفيد أن تفضيل أبي بكر وعمر على غيرهما لا ريب فيه، وهو الذي أجمع عليه سلف الأمة، واتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم، وإنما خص رحمه الله النقل عن علي لكونه ممن وقع فيه الخلاف بين أهل القبلة، فممن ينتسب إلى الإسلام من يفضله على أبي بكر وعمر، فأتى بالنقل عنه لكونه محور الخلاف مع بعض الطوائف. فقال: (ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر) ، وهذا قد ثبت عن علي رضي الله عنه من نحو ثمانين وجهاً، وهو أنه قال: خير الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر، في خلافته وبين أنصاره، حتى لا يقول قائل: إنه إنما قال ذلك خشية السلطان أو تقية، إنما قال ذلك في أوج سلطانه وبين أنصاره، حتى إنه قال في منبر الكوفة: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد الفرية؛ وذلك لثبوت تقديم هذين على غيرهما. وإنما حصل تقديم غيرهما عليهما من متأخري الشيعة الذين سموا رافضة، فإنهم سموا رافضة لأنهم رفضوا زيد بن علي حين سألوه عن أبي بكر وعمر، فأثنى عليهما، فرفضوه، فسموا بذلك رافضة، فتفضيل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أمر ثابت، عليه أهل السنة والجماعة قديماً وحديثاً، بل حتى متقدمي الشيعة لا يناقشون في تفضيل أبي بكر وعمر على غيرهما، وإنما جرى ذلك عند متأخريهم. قال: (ويثلثون) يعني: في الفضل والمرتبة (بـ عثمان ويربعون بـ علي رضي الله عنهم) فهؤلاء هم صفوة الصحابة وخيرهم على هذا الترتيب. يقول: (كما دلت عليه الآثار) فتفضيل أبي بكر وعمر استند إلى النقل المتواتر، وفي التثليث بـ عثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كما دلت عليه الآثار) ؛ لأن من نظر إلى الآثار علم أن عثمان رضي الله عنه مقدم على علي رضي الله عن الجميع، كما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، فهذا دليل من الأدلة على تقديم عثمان على علي، فإن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما تولى طلب الرأي والمشورة من الصحابة فيمن يتولى الأمر بعد عمر: علي أو عثمان، بقي ثلاثة أيام يسأل كل أحد من أعيان الصحابة بل ومن غيرهم، حتى النساء يسألهن، قال عبد الرحمن رضي الله عنه: لم أرهم يعدلون بـ عثمان أحداً، فقدمه رضي الله عنه على علي، وبويع بالخلافة بيعة رضا ورغبة لا خوف ورهبة، وهذا مما يستدل به أهل السنة والجماعة على فضيلة عثمان رضي الله عنه على علي رضي الله عنه. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 2 تفضيل عثمان على علي رضي الله عنهما، والخلاف فيه قال: [مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما أيهما أفضل بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر، فقد قدم قوم عثمان وسكتوا] . هذا رأي وهو قول عند بعض أهل السنة. الثاني: [أو ربعوا بـ علي] . يعني: لم يسكتوا بل قالوا: عثمان ثم علي. الثالث: [وقدم قوم علي ـاً] . هذا القول الثالث. الرابع: [وقوم توقفوا] . صار عندنا في المفاضلة بين علي وعثمان رضي الله عنهما أربعة أقوال، والذي استقر عليه أهل السنة ما أشار إليه الشيخ رحمه الله حيث قال: [لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان على علي] . وقد اختلفوا هل يبدع المخالف في تفضيل عثمان؟ فمن فضل علي ـاً هل يقال: إنه مبتدع؟ أشار الشيخ رحمه الله إلى جواب هذه المسألة فقال: [وإن كانت هذه المسألة مسألة عثمان وعلي ليست من الأصول] . أي: أن التضليل والتبديع إنما يكون في مسائل الأصول لا في مسائل الاجتهاد، خلافاً لما عليه كثير من الناس من التضليل في مسائل الاجتهاد، ومسائل مطارح الآراء، واختلاف الأنظار؛ وهذا من الغلو في التبديع، فالتبديع يجب أن ينظر فيه إلى هدي السلف، والسلف قد اختلفوا في مسائل ولم يبدع بعضهم بعضاً، فهو ليس من مسائل الأصول التي يضلل فيها المخالف. قال: [عند جمهور أهل السنة] . وهذا يشير إلى أن من أهل السنة من يبدع المخالف في هذه المسألة، فإنه نقل عن أيوب السختياني، وعن الإمام أحمد في رواية، والدارقطني أن من قدم علي ـاً على عثمان في الفضل فإنه مبتدع، والرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه لا يبدع، وهو قول جمهور أهل السنة، والمنقول عن أيوب أنه قال: من فضل علي ـاً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار؛ وذلك لظهور تفضيل عثمان على علي رضي الله عنهما. وفي حديث ابن عمر أنه لما سئل عن الفضل قال: كنا نقول: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ويقفون عند هذا، وكان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقول شيئاً، وهذا مما استدل به من استدل على أن تفضيل عثمان على علي مستند إلى نص، وهو الذي أشار إليه رحمه الله في قوله كما تدلت عليه الآثار. المهم أن الذي استقر عليه أهل السنة والجماعة تفضيل عثمان على علي رضي الله عن الجميع، وأنه لا يبدع المخالف. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 3 إثبات الخلافة الراشدة للخلفاء الأربعة قال: [لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة] . يعني: الخلاف فيمن هو الأحق بالخلافة؟ قال: [وذلك أنهم يؤمنون] . الضمير يعود إلى أهل السنة الجماعة. [وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي - كما هو الواقع - ومن طعن في خلافة أحد هؤلاء فهو أضل من حمار أهله] . وهذه عبارة الإمام أحمد رحمه الله: من طعن في خلافة أحد هؤلاء فهو أضل من حمار أهله، وفيه بيان بعد ضلال من خالف في هذا، فإن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على هذا الأمر: أبو بكر تولى ولم يخالف، وأجمعت على توليته وخلافته الأمة، ووافق على ذلك الصحابة رضي الله عنهم، وما نقل من تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة لا يدل على عدم موافقته؛ ولذلك وافق وبايع، وإنما تأخر لشيء في نفسه رضي الله عنه، وليس أنه كان يطلب الأمر له، وأما عمر فولايته لعهد من أبي بكر رضي الله عنه، وقد وافق على هذا العهد وعلى هذه الخلافة الأمة، وأجمع عليه الصحابة، ولم يقع فيها خلاف. ثم عمر رضي الله عنه عهد بالأمر إلى ستة، وهم الذين مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وهؤلاء الستة هم: عثمان، وعلي، وعبد الرحمن، والزبير، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عن الجميع، ثم انحسر الأمر في اثنين: في عثمان وعلي، وجرى البحث والمشاورة في أيهما أحق، وتولى ذلك عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فأخذ على كل واحد منهما العهد على أنه إذا ولي يعدل، وإذا لم يول يسمع ويطيع، فلما أخذ من عثمان العهد ومن علي العهد على هذا الأمر؛ بايع عثمان رضي الله عنه، وبايع الناس ومن جملتهم علي، فكانت بيعة رغبة ورضا، ولو كان علي يعتقد أنه حق بالخلافة من عثمان لما بايع؛ لأن المسألة ما هي بالإجبار، وكان قادراً من الأصل ألا يرضى بالعهد الذي أخذه عليه عبد الرحمن، ولقال: أنا أوصى لي رسول الله، كما تزعم بعض الطوائف. المهم أن عثمان تولى رضي الله عنه، ثم قتل، ولما قتل تولى علي رضي الله عنه، ووقع الخلاف بين الصحابة الذي سنشير إليه في كلام المؤلف رحمه الله، فخلافة الثلاثة الذي هم أبو بكر وعمر وعثمان لم يقع فيها خلاف ولا قتال، ولم يقاتل أبو بكر ولا عمر ولا عثمان أحداً على الولاية، أما علي رضي الله عنه فقد قاتل على الولاية؛ لأنه خولف وعورض، وكان أحق بها رضي الله عنه. المهم -يا إخواني- أن خلافة هؤلاء واضحة وبينة ولا إشكال فيها، واتفق عليها أهل الإسلام، ولم يخالف فيها إلا الرافضة الذين أتوا بقول يخالفه علي رضي الله عنه، ويرده علي رضي الله عنه؛ ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله: من طعن في خلافة أحد هؤلاء فهو أضل من حمار أهله؛ لوضوح الأمر وضوحاً جلياً بيناً لا يقبل الخلاف ولا النقاش. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 4 فضل آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام وبيان حقوقهم قال رحمه الله: [ويحبون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير خم: (أذكركم الله في أهل بيتي) ، وقال أيضاً للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفوا بني هاشم فقال: (والذي نفسي بيده! لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي) ] . بعد أن فرغ المؤلف من بيان فضيلة الصحابة، وما لهم من فضل وحق، وعقيدة أهل السنة والجماعة في ذلك؛ انتقل إلى بيان حق آل البيت، واعلم أن أهل السنة والجماعة أهل عدل وإنصاف وعلم، فهم لا يتكلمون إلا بالعلم والعدل، وبهذين الأمرين يحصل الخير لكل أحد، العلم يأمن به الإنسان من الجهل؛ والعدل يأمن به من الظلم، وهذان الأمران مصدر كل شر، مصدر كل شر في الأقوال والأعمال والعقائد الجهل أو الظلم؛ ولذلك ينبغي للإنسان أن يحرص على الاتصاف بهذين الوصفين -العلم والعدل- في قوله وعمله وعقيدته وسائر شئنه، وليعلم أن الإنسان في أصله مجبول على ذينك الوصفين كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] ، هذا وصف لجنس الإنسان، ولا خروج له من هذين إلا من طريق الكتاب والسنة، فبقدر استمساكه بهما وعمله بهما وأخذه بهما وإقباله عليهما؛ بقدر ما يسلم من هذين المحظورين. فلما كان أهل السنة والجماعة أهل علم وعدل خلافاً لغيرهم من الطوائف فإنهم يعطون كل ذي حق حقه؛ ولذلك هم يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يحبونهم محبة قلبية زائدة على محبة الصحابة، فأهل البيت لهم حق الإسلام، ولهم حق القرابة، ولهم حق زائد وهو حق الصحبة إن كانوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك هم يحفظون حقوق أهل البيت كما قال المؤلف: [ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم] . خلافاً لطريق النواصب الذين يعادون آل البيت ويذمونهم ويسبونهم. قال: [ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير خم: (أذكركم الله في أهل بيتي) ] وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غدير خم: (تركت فيكم ثقلين: كتاب الله فيه الهدى والنور - ورغب في كتاب الله - ثم قال: وعترتي أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي) كررها ثلاثاً صلى الله عليه وسلم. وتقدم لنا أن الثقلين جمع ثقل، والثقل هو كل ما له قيمة وشرف ومنزلة، فأهل البيت لهم قيمة وشرف ومنزلة؛ ولذلك أوصى بهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أذكركم الله في أهل بيتي) ، أي: فيما يجب لهم من الحقوق، ومن حقوقهم الصلاة عليهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك نقول في الصلاة: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد الصلاة الإبراهيمية، فهذا من حقوقهم. ومن حقوقهم: أن يعطوا الخمس من المغنم. ومن حقوقهم: الفيء. ومن حقوقهم: الإكرام والتقدير والمحبة لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهل السنة والجماعة يحفظون حقوق هؤلاء، لكن لا يغلون فيهم، ويلغون فضائل غيرهم بكونهم قرابة رسول الله، فـ علي رضي الله عنه نحبه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولبلائه وصحبته، ولكن هذا الفضل لا يلغي فضل غيره من الصحابة الذين هم خير منه ك أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عن الجميع. فالمفاضلة بين الناس بحاجة إلى هذين الوصفين اللذين تقدم الإشارة إليهما، وهما: العدل والعلم، حتى في المفاضلة بين المعاصرين أو أي أمر يفاضل فيه الإنسان ويحتاج أن يقول: هذا أفضل من هذا، فعليه أن يتكلم بعلم وعدل، وكلما اتصف بهما كلما أصاب الحق، وكلما قل وصفه بهما كلما جانب الصواب. قال النبي عليه الصلاة والسلام للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفوا بني هاشم: (والذي نفسي بيده! لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي) ، هذا الحديث بين أن آل البيت لهم حق خاص لله، والمحبة لله هي عامة لكل مسلم، فكل مسلم يحب لله، ولكن هؤلاء اختصوا بهذه الخاصية وهي قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم من محبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 5 بيان آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام قال رحمه الله: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) ، ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصاً خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية، والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ] . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى بني إسماعيل) إسماعيل هو ابن إبراهيم عليه السلام، (واصطفى من بني إسماعيل كنانة) ، وهو من بني إسماعيل عليه السلام، (واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) ، فالنبي صلى الله عليه وسلم خيار من خيار، وهذا ترقي في الاصطفاء، وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم بنو هاشم. وسبب سياق هذا الحديث بيان منزلة بني هاشم في العرب، وأيضاً: بيان من هم آل النبي صلى الله عليه وسلم الذين قال فيهم المؤلف رحمه الله: ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله، فمن هم؟ هم بنو هاشم: ولد العباس، وولد علي، وولد جعفر، وولد عقيل، هؤلاء هم أهل البيت الذين لهم حق لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم: آل العباس، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، هؤلاء هم آله من نسبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. واعلم أن آله الذين لهم هذه الحقوق هم الذين تحرم عليهم الصدقة. ومن آله أزواجه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأزواج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من آله الذين لهم الحقوق السابقة من المحبة والتولي وحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم؛ ولذلك أشار المؤلف رحمه الله إلى حقهم خصوصاً فقال: [ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين] . وإفراد الحديث عنهن لا لأنهن لسن من آل البيت؛ بل لأنهن اختصصن بأمور زائدة على ما اختص به آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من نسبه، فأولئك كلهم آله من النسب، وهؤلاء آله بالزوجية، وقد دل القرآن الكريم على أن أزواج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من آله حيث قال جل وعلا في سياق الآيات التي فيها خطاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهن بما أمر جل وعلا: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33] وهذا لا إشكال أنه في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الأمر بالطاعة في قوله: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} موجه إلى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الخطاب مفتتح: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32] ، فأزواجه من آله بنص القرآن. وأما ما ورد في صحيح مسلم عن عائشة، وفي مسند الإمام أحمد عن أم سلمة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خرج ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله في الرداء وغطاه في الرداء، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، وقال: هؤلاء هم أهل بيتي) ، وفي رواية: (اللهم! هؤلاء أهل بيتي فطهرهم تطهيراً) ، فهذا لا ينفي ما أثبته القرآن من كون أزواجه رضي الله عنهن من آله، فإن التخصيص لا يلغي ما دل عليه النص السابق، فهؤلاء لا شك أنهم من آله، ولم يختلف أهل الإسلام أن الحسن والحسين وعلياً وفاطمة رضي الله عنهم من آل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا خلاف في ذلك، ولكن هل هذا النص يفيد إلغاء هذا الوصف عن غيرهم؟ الجواب: لا، كيف لا؟ إذا قلت: لا، لا بد أن تبين، فنقول: إن القرآن كالصريح في أن أزواجه من آله؛ لأنه لما وجه الخطاب بأمر ونهي إلى أزواجه قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ، وهذا لا معنى له إذا لم يكن تعليلاً للأوامر السابقة، والأوامر السابقة موجهة إلى آل بيته من أزواجه، ثم إن القرآن دل على أن امرأة إبراهيم من آله، وأن امرأة لوط من آله، وهذا أمر معروف، فكيف يكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لسن من آله؟ هذا قصور في حقه صلى الله عليه وسلم. إذاً: ثبت عندنا بالقرآن أن أزواجه من آله، فكيف نجيب عن هذا الحديث؟ نقول: هذا الحديث فيه إثبات أن أحق من وصف بهذا الوصف هم هؤلاء الذين أدخلهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الغطاء، فهم أحق من وصف بهذا الوصف؛ لأنهم آله من النسب، ولا يعني هذا نفي الحكم والوصف عن غيرهم، ونظير ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أول مسجد أسس على التقوى مسجده صلى الله عليه وسلم، فلما سئل عن قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] قال: (هو مسجدي هذا) ، مع أن أهل التفسير متفقون على أن الآية نزلت في مسجد قباء فهل قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلغاء لما هو ثابت من أن الآية نزلت في مسجد قباء، لا، ليس إلغاءً لكنه يفيد أن أحق ما وصف بهذا الوصف هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل كونه أحق يلغي هذا الوصف عن غيره؟ الجواب: لا؛ ولذلك نقول: لهذا نظائر، والمقصود من هذا الأسلوب: هو بيان أحقية المخصوص بالوصف، ففي حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما تخصيص علي وفاطمة والحسن والحسين بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هؤلاء أهل بيتي) ، وما فائدته؟ بيان أنهم أحق من وصف بهذا الوصف، لكن كونهم أحق لا يلغي هذا الوصف عن غيرهم؛ ولهذا نقول: لا خلاف بين الكتاب والسنة في أن أزواجه من آله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 6 فضل أزواج النبي عليه الصلاة والسلام أمهات المؤمنين قال رحمه الله: [يتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين] . أزواج: جمع زوج، والنبي صلى الله عليه وسلم له عدة زوجات، مات عن تسع، والذين تزوجهن إحدى عشرة امرأة، وهؤلاء كلهن من آله، ولهن خاصية أخرى وهي: أنهن أمهات المؤمنين، دليل ذلك قول الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] أزواجه، أي: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهاتهم، لكن هذا لا يثبت إلا لمن بقي هذا الوصف لها وهو الزوجية، فمن طلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يثبت لها هذا الحكم؟ الجواب: لا، إنما هذا الحكم ثابت لمن مات عنهن أو متن في حياته. قال رحمه الله: [ويؤمنون بأنهن - أي: زوجاته - أزواجه في الآخرة] . فهن أزواجه في الدنيا، وأزواجه في الآخرة، وهذا يتضمن الشهادة لهن بالجنة، وبه نعرف أن الشهادة ليست مقيدة بمن ذكرهن رحمه الله، فجميع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة؛ لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة، وثبوت وصف الزوجية لهن في الآخرة يدل على تحريمهن على غيره، فلا يجوز لأحد أن يتزوجهن، وقد انتهى الموضوع فقد متن رضي الله عنهن؛ لكن هذا بيان لحكم سابق. قال: [خصوصاً خديجة] . بعد أن بين رحمه الله ما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، بين من هو أحق بهذا الوصف منهن، واعلم أن كل من خص بخصيصة فإنه خص لمعنى، ولم يخص بمجرد التخصيص؛ لأننا نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى حكيم كما قال جل وعلا: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] ، فالله أعلم حيث يجعل الفضل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] ، أزواجه اللواتي توفي عنهن صلى الله عليه وسلم هن: عائشة، وحفصة، وسودة، وزينب، وأم سلمة، وأم حبيبة، وصفية، وجويرية، وميمونة، تسع زوجات، ومات عنه: خديجة، وزينب بنت خزيمة رضي الله عنهن، فمات عنه زوجتان، ومات صلى الله عليه وسلم عن تسع زوجات، والحق ثابت لجميعهن، فقوله: [ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة] هذا ثابت للجميع: من مات عنهن، ومن متن عنه. قال: [خصوصاً خديجة] . يعني: أحقهن بما ذكر من التولي والمكانة والاحترام، وكونها أيضاً زوجة له في الآخرة خديجة رضي الله عنها. وجه التخصيص قال: [أم أكثر أولاده] هذا واحد. [وأول من آمن به وعاضده على أمره] هذا اثنين. [وكان لها منه المنزلة العالية] في حياتها وبعد موتها، فهذا وجه تخصيصها رضي الله عنها بهذا الفضل دون غيرها من الزوجات. قال: [والصديقة بنت الصديق] الصديقة بنت الصديق هذا معطوف على خديجة رضي الله عنها التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ، الثريد هو الخبز مع اللحم، وهو أفضل الطعام؛ لكون الخبز من البر وهو أفضل الطعام، ولكون اللحم من الأدم وهو أفضل الإدام؛ ولذلك كان أفضل الطعام، فـ عائشة رضي الله عنها فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وهذا تفضيل عائشة على أزواجه صلى الله عليه وسلم، وقد وقع الخلاف في أيهما أفضل عائشة أو خديجة؟ والقول الفصل في ذلك أن عائشة رضي الله عنها باعتبار ما جرى منها من نشر العلم وحفظ الشريعة هي أفضل من هذا الجانب، وأما خديجة فباعتبار ما كان منها في أول الإسلام من نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأييده وتثبيته وإعانته وإمداده هي أفضل، فكل منهما لها فضل من وجه، وكلهن فاضل رضي الله عنهن. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الواسطية [26] الصحابة رضي الله عنهم هم خير الناس بعد الأنبياء، لم يكن ولا يكون مثلهم، هذا هو معتقد أهل السنة، الذي دلت عليه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية، وقد خالف هذا الأصل الروافض والنواصب، فضلوا عن سواء السبيل. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 1 من أهل البدع: الروافض والنواصب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل] . (يتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم) الروافض: اسم لطائفة، وهم الذين رفضوا زيد بن علي لتوليه أبي بكر وعمر، سئل الإمام أحمد: من الرافضي؟ قال: الذي يبغض أبا بكر وعمر. وهذا حد ضابط؛ لأن من أبرز ما عرفوا به وأشهر ما اختصوا به بغضهم لـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهما الإمامان الجليلان وزيرا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه، فهؤلاء سبوا وأبغضوا، قال المؤلف: (الذين يبغضون الصحابة) وهذا أمر قلبي، (ويسبونهم) وهذا أمر قولي، فجمعوا في التقصير في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين فساد القلب وسوء القول، وأهل السنة الجماعة هداهم الله إلى الطريق الوسط، والصراط المستقيم، فسلموا من هذه البدعة، فلم يقعوا في أحد من الصحابة، بل ألسنتهم بريئة من ذم أو همز أو سب أو نيل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف وهم خير القرون الذين أثنى الله عليهم في كتابه في مواضع عديدة؟ واعلم أن سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخلو من أحوال: القسم الأول: أن يسبهم بما يقتضي كفرهم، أو يقتضي كفر أكثرهم، وهذا صاحبه كافر، يعني: سبهم بما هو كفر، وعابهم بما هو كفر كأن يقول: إن الصحابة ارتدوا، أو الصحابة خانوا وكذبوا، فهذا سب لهم بما هو كفر، وقائله كافر، لماذا؟ لأنه قادح في الكتاب والسنة، وطاعن في الرسالة. القسم الثاني: سبهم باللعن والتقبيح دون الكفر، يعني: لا ينسبهم إلى ما هو كفر، إنما يلعن ويقبح ويذم، وهذا اختلف العلماء في كفره على قولين، لكن على القول بأنه لا يكفر فالواجب أن يعاقب عقوبة بليغة تردعه. القسم الثالث في السب: أن يسبهم بما ليس فيه نقص في دينهم، كأن يقول: هم جبناء، أو يقول: فلان منهم جبان، أو ما أشبه ذلك مما لا ينقص به دينهم، فهذا صاحبه يعزر ولا يكفر، هكذا قسم شيخنا رحمه الله أحوال الساب. واعلم أن شيخ الإسلام رحمه الله أطلق الخلاف بين أهل العلم في سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا التقسيم يبين لنا مواضع الخلاف ومواضع الاتفاق، فسب المجموع أو الجمهور من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر، إذا كان السب من لازمه نسبتهم إلى الكفر أو الردة، وأما ما دون ذلك فهو الذي جرى فيه الخلاف بين أهل العلم، فهؤلاء سبوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واستثنوا منهم بضعة عشر فتولوهم، وعليهم حملوا النصوص الواردة في فضل الصحابة وما يجب لهم من التقدير والاحترام، بل غلوا في بعضهم حتى أبلغوه درجة الإلهية، كما غلوا في علي بن أبي طالب، وكما غلوا في الأئمة الذين قالوا: إنهم معصومون. قابل هؤلاء النواصب وأشار إليهم المؤلف في قوله: (وطريقة النواصب) ، نواصب: جمع ناصب، وهو من ناصب العداوة أهل البيت، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد رسول الله، فأفضل أهل البيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، آذوهم بقول إما بسب، أو شتم، أو لعن، أو تكفير، أو تفسيق، أو بعمل، وذلك بأن يوصل إليهم الأذى الحسي، ومنه أذى قبورهم إن عرفت بأن يلقى عليها القاذورات أو تمتهن، فإن هذا من الإيذاء وإن كان لا يصل إليهم بذواتهم، لكن هو إيذاء معنوي نظير السب والشتم، بل هو أشد. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 2 إمساك أهل السنة عما شجر بين الصحابة قال رحمه الله: [ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم من كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنهم خير القرون) وأن: (المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم) ، ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين؟ إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور، ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل؛ علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله] . يقول رحمه الله: (ويمسكون) أي: أهل السنة والجماعة (يمسكون عما شجر بين الصحابة) . شجر يعني: اختلف وتنازع، والمقصود أنهم يمسكون عن الخلاف الواقع بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل المراد الخلاف في المسائل العلمية؟ لا، إنما المراد الخلاف المشهور الذي عرف بالفتنة بين الصحابة، الفتنة التي وقعت بين الصحابة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وقعت الفتنة بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانقسم الناس إلى فريقين: فريق مع علي رضي الله عنه، وفريق مع معاوية، وجرى بينهم قتال في الجمل وصفين، وهذا هو المراد بقول المؤلف رحمه الله: [ويمسكون عما شجر بين الصحابة] أي: من الخلاف والفتنة. والإمساك هو: عدم الخوض لا بالفكر، ولا بالبحث، ولا بالطلب، ولا بالقول، فهو إمساك كلي عما وقع بين الصحابة؛ والسبب في هذا أنه لا فائدة في هذا البحث؛ ولذلك هذا المنهج ليس خاصاً فيما شجر بين الصحابة فقط بل شيخ الإسلام رحمه الله يقول: كل ما شجر بين أهل الإسلام مما لم يطلع عليه الإنسان لا يجوز له أن يتكلم فيه؛ لأنه إن كان مصيباً فلا فائدة في الحديث، وإن كان مخطئاً فقد بغى على القوم، وتكلم بجهل. وهذه القاعدة لو أعملها الإنسان فيما يقع من خلافات لاستراح قلبه، واشتغل بما ينفعه؛ لأن الدخول في مثل هذه الأمور يوغر الصدور، ويعمي عن الخير، ولو لم يكن فيه مذمة ولا سوء إلا أنه يشغل عن العلم النافع؛ لكان كافياً في الانصراف عنه والبعد؛ لأنه علم لا ينفع، أولئك قوم مضوا وهم في علم عليم خبير لا تخفى عليه خافية، والله جل وعلا يقضي بينهم، ولا مصلحة لنا ولا نفع في الخوض. ولذلك الذي يقول: أنا أريد أن أبحث حتى أستبين الحق، نقول له: يا أخي! لم يبق من الحق ما تحتاج إلى استبانته إلا هذه القضية! القضايا التي يحتاج الإنسان إلى أن يصل فيها إلى الحق كثيرة: في الأعمال والعقائد، فلينصرف الإنسان إلى ما ينفعه من العلم، وليعلم أن هذا من العلم الذي لا ينفع، ثم إنه من جهة ثانية قل من يخوض في هذا الأمر إلا ويقع في قلبه بغض لبعض الصحابة، وهذا في حد ذاته لوثة وسيئة يجب على المؤمن أن يطهر قلبه منها، فإن القلب إذا عمره بغض الصالحين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوشك أن يهلك، وأن ينصرف عن خير كثير، أقله إنه إذا ورد الحديث عن طريق هذا الصحابي الذي صار في قلبه عليه شيء لم يرفع به رأساً، هذا أقل ما يكون. ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: قل من خاض في هذا الأمر إلا وصار في قلبه من البغض والذم ما هو من قبيل المعاصي يعني: لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على المؤمن أن يحذر من هذا غاية الحذر، يحذر منه قراءةً، وكتابةً، وسماعاً، حتى الأشرطة التي تعرض فيها الفتنة يجب على المؤمن ألا يسمعها، بل يحرم عليه أن يسمعها؛ لأنها توغر صدره، وتشغله بما لا فائدة فيه. هذا فضلاً عن أن هذا الصراط مخالف لطريق أهل السنة والجماعة، هل رأيتم عالماً من أهل السنة والجماعة حرر هذه المسألة وبحثها، وكتب فيها، وألف؟ لم نعرف ذلك في سلف الأمة، ولا في المتأخرين ممن سار على طريق السلف الصالح، وهم أحرص منا على الحق وإظهاره. ثم إن قول المؤلف رحمه الله في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يمسكون عما شجر بين الصحابة ليس من لازمه عدم ترجيح إحدى الطائفتين على الأخرى، فإن أهل السنة والجماعة مع إمساكهم عما شجر بين الصحابة يعتقدون أن الفئة المحقة هي فئة علي رضي الله عنه، وأن الفئة الباغية هي فئة معاوية رضي الله عنه، وهذا ليس من الخوض، ولا مما أمسك عنه أهل السنة والجماعة، بل أهل السنة الجماعة مع إمساكهم عما شجر بين الصحابة يقولون: علي ومن معه أولى بالحق؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في عمار: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية) ، وعمار كان مع علي، وقتل في معسكره، وهذا من الدلائل على أن علياً رضي الله عنه كان هو المحق، وأن معاوية ومن معه كانوا هم الفئة الباغية. لكن اعلم أنه يجب صون اللسان عن أكثر من هذا، فلا يجوز للمؤمن أن ينال من معسكر هؤلاء أو معسكر هؤلاء، ولا يجوز له أيضاً أن يعتقد أن كل واحد في معسكر هؤلاء أو معسكر هؤلاء إما مصيب أو مجتهد، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد يكون في أحد العسكرين من هو مريد للدنيا أو صاحب هوى لكن الكلام عن المجموع، فينبغي صون اللسان وحفظه عما وقع بينهم رضي الله عنهم. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 3 حال الآثار المروية في مساوئ الصحابة يقول: [ويقولون: إن هذه الآثار المروية] . المشار إليه في مساوئهم، يعني: الآثار المروية فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، والتي هي في مساوئ الصحابة، والمساوئ هي: ما يعاب عليه الإنسان من السيئات والنقائص. قال: [منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغير عن وجهه] . هذا الاحتمال الثالث، منها ما هو كذب، والكذب مخالفة الواقع، يعني: لم يقع، ومنها ما وقع لكن زيد فيه أو نقص منه، زيد فيه ما لم يقع مما هو ذم لهم، ونقص منه ما يجعل القارئ المطالع لهذه الآثار يذمهم، والثالث من هذه الآثار: غير عن وجهه، أي أنه: لم ينقل نقلاً سليماً، ولم يفهم فهماً صحيحاً، فالتغيير هنا نظير التحريف، وهو تحريف الكلم عن مواضعه، بأن يحمل ما لا يحتمل، ويؤول ويوجه على غير وجهه؛ ولذلك قال: وغير عن وجهه يعني: عن مساقه الذي وقع فيه، فقد تنقل القصة وهي واقعة حقيقية نقلاً على وجه يلحق الذم بعض من في القصة. فإذا كانت هذه هي الآثار المروية عنهم: إما كذب، وإما زيد فيه، ونقص منه، وإما غير عن وجهه؛ فهذا مما يزهد المؤمن في النظر في هذه القصص وهذه الآثار، هذا قسم. والقسم الثاني: الصحيح منه ما حاله؟ قال: [والصحيح منه هم فيه معذورون] . وجه عذرهم هو أنهم: [إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون] ، فهم مجتهدون رضي الله عنهم، فلا يخلو الأمر أن يكونوا مجتهدين مصيبين، أو مجتهدين مخطئين، فالذي أصاب له أجران، والذي أخطأ له أجر، وإذا كان كذلك فلا حاجة إلى الخوض في خبر ما وقع بينهم رضي الله عنهم؛ لأننا نعلم أن ما كان منهم إنما هو باجتهاد وطلب للحق. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 4 هل الصحابة معصومون من الكبائر؟ قد يقول قائل: لازم هذا التوجيه أن نقول بعصمة الصحابة، فبادر الشيخ رحمه الله إلى بيان عقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بعصمة الصحابة فقال: وهم مع ذلك - يعني: ما تقدم من تلمسهم العذر لما نقل عنهم مما صح في الفتنة- لا يعتقدون أن كل واحداً من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره فتجوز عليهم المعاصي، قال: [بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة] ، وقد وقعت الذنوب منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذنوب جائزة عليهم، ولا يقول أهل السنة والجماعة بأنهم لا يذنبون، لكن انظر إلى قوله: في الجملة، يعني: جملة الذنوب، ويخرج من هذا الكذب، فإن الصحابة رضي الله عنهم عدول لا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم سالمون من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لعظيم ما ورد من التحذير في الكذب عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يعتقده أهل السنة والجماعة أن الصحابة عدول فيما ينقلونه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولعل هذا مراد الشيخ رحمه الله في قوله: بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، يعني: أنواع الذنوب في الجملة، لكن ما يتعلق بالكذب على رسول الله فلا يكون منهم؛ لعظيم وغلظة ما ورد في الكذب عليه صلى الله عليه وسلم، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدق، يعني: إذا كنا نجوِّز أن تقع منهم الذنوب فهل هذا مسوغ للنيل منهم؟ الجواب: لا، ولذلك قال: [ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدق] ، يعني: إن صح وثبت، إن ثبت صدوره، وصحت نسبته إليهم، قال: [حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم] ، وهذا صحيح، وشاهد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لما جرى من حاطب ما جرى من المكاتبة لأهل مكة، قال في جواب عمر لما قال: دعني أضرب عنقه: (لعل الله اطلع على أهل بدر وقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، وهذه فضيلة لا يلحقهم غيرهم، ولا يحصلها غير هؤلاء، فهم رضي الله عنهم لهم من السبق والفضل ما يوجب مغفرة ما صدر عنهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنهم خير القرون، وإن المد من أحدهم إن تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم) ، وجه ذلك أنهم سبقوا إلى الإسلام، وأن ما قام في قلوبهم من تعظيم الله عز وجل والانقياد للنبي صلى الله عليه وسلم والنصرة لهذا الدين؛ لم يقم في قلوب غيرهم. وبه علم أن التفاضل في الأعمال لا بصورها، إنما التفاضل بما يقوم في قلب العبد، وبنتائجها وعواقبها، فقد تكون صورة العمل واحدة من شخصين في وقت واحد وفي مكان واحد، ولكن بين هذا وهذا من الفضل كما بين السماء والأرض! الجزء: 26 ¦ الصفحة: 5 مكفرات الذنوب قال: [ثم إذا كان قد صدر عن أحد منهم ذنب فيكون قد تاب منه] . هذا احتمال، إذا ثبت أن أحدهم صدر عنه ذنب فيحتمل أنه تاب منه،والتوبة تجب ما قبلها، وهذا شروع في بيان أسباب مغفرة الذنوب، وهي ليست خاصة بالصحابة رضي الله عنهم لكنهم أحق الناس بها. أسباب مغفرة الذنوب متعددة، منها ما أشار إليه في قوله: فيكون قد تاب منه، هذا أول ما يكون: التوبة من الذنب، والتوبة من الذنب تمحوه وتزيل أثره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) ، وقال: (التوبة تجب ما قبلها) . ثم قال: [أو أتى بحسنات تمحوه] . أيضاً الحسنات مما يكفر به الذنوب كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ، فالحسنة تذهب السيئة وتزيلها. قال: [أو غفر له بفضل سابقته] . بفضل سابقته إلى الطاعة والاستقامة، وهذا دليله واضح، كما في قصة حاطب رضي الله عنه، فإنما يغفر لهم لسابقتهم وفضلهم وجهادهم في أول وقعة في مقابلة الكفار، فبه حازوا هذا الفضل. قال: [أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم] . وهذا واضح، فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يحصل بها مغفرة الذنوب، وهم أحق بشفاعته من غيرهم؛ لملازمتهم له، ونصرتهم إياه صلى الله عليه وسلم، ويدل لذلك من الأثر حديث الحوض: (فيذاد عنه أقوام فأقول: أصيحابي أصيحابي، فيقال: إنهم قد بدلوا وغيروا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً) ، فكونه صلى الله عليه وسلم يقول هذا القول يدل على عنايته بأصحابه، وأنه يشفع لهم، لكن هؤلاء لما غيروا وبدلوا تبديلاً لا تنالهم الشفاعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأقول: سحقاً سحقاً) ، ومن هؤلاء الذين غيروا وبدلوا؟ هم المرتدون الذين كفروا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، هذا معنى التغيير والتبديل خلافاً لما تقوله الرافضة من أنهم أبو بكر وعمر وأفاضل الصحابة، سبحان الله العظيم! قال: [أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه] . فالبلاء في الدنيا تكفر به الخطايا، وأدلة هذا كثيرة، وهذا في الذنوب المحققة. المؤلف رحمه الله ذكر هنا من أسباب تكفير الذنوب خمسة أسباب، وقد عدها في غير هذا الموضع عشرة أسباب يحصل بها تكفير الذنوب. قال: [فإذا كان هذا في الذنوب المحققة] يعني: التي لا مجال لإنكارها، وهي ذنوب ثابتة، فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين؟ العفو فيها أقرب، والتجاوز فيها أحرى وأجدر، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور. ثم قال: [ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم - من فعل بعض الصحابة - قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم] . قليل: ضد الكثير، والنزر: تأكيد للقلة، فهو قليل لا يكاد يوجد، هذا معنى قوله: قليل نزر، مغمور، أي: أنه لا يوقف عليه إلا بطلب وكد، فإن الذي ثبت من فضائلهم يغمر ما جاء من مساوئ عن بعضهم رضي الله عنهم. قال: [مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة -هذا في المهاجرين- والنصرة - هذا في الأنصار - والعلم النافع والعمل الصالح] . الجزء: 26 ¦ الصفحة: 6 سيرة الصحابة رضي الله عنهم ثم ختم هذا الفصل بخاتمة بديعة تبين عظيم سلامة قلوب أهل السنة والجماعة على أصحاب رسول الله، وطريق الوصول إلى ذلك، فهو نتيجة ووسيلة، نتيجة للطريق، ووسيلة لتحصيل النتيجة، قال: [ومن نظر في سيرة القوم] فمن أراد أن يطيب قلبه على أصحاب رسول الله فلينظر في سيرة القوم: [من نظر في سيرة القوم -لكن انظر- بعلم وبصيرة] العلم: ضد الجهل، والبصيرة: هو العمق في العلم، والتدقيق في النظر، وهو أن ينفذ بصر الإنسان في هذا المقروء، وهي منة من الله عز وجل يهبها العبد، وفرقان يفرق به بين الحق والباطل، فليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم بأن يلقى في قلب العبد نور يستبصر به، ويرى به الحق حقاً، والباطل باطلاً. قال: [من نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل؛ علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء رضي الله عنهم] ، فهم خير الخلق بعد الأنبياء، أي: خير من أصحاب موسى، وخير من أصحاب إبراهيم، وخير من أصحاب عيسى، وخير من أصحاب نوح، هم خير الخلق بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولذلك كانت هذه الأمة صاحبة السبق والفضل في الدنيا والآخرة. قال: [ما كان ولا يكون مثلهم] . كان هنا تامة، يعني: لا وجد ولا يوجد مثلهم، لا وجد في الزمن المتقدم عليهم، ولا يوجد في الزمن اللاحق لهم مثلهم رضي الله عنهم، فهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم، وأكرمها على الله جل شأنه. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الواسطية [27] يؤمن أهل السنة والجماعة بما تواترت به نصوص الكتاب والسنة، ودلت عليه الوقائع قديماً وحديثاً من وقوع كرامات لأولياء الله تعالى المتبعين لهدي نبيهم، وهم مع ذلك يفرقون بين الآية والمعجزة للنبي، والكرامة للولي، والسحر والشعوذة للسحرة وأتباع الشياطين. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 1 إيمان أهل السنة بكرامات الأولياء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [ومن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وسائر فرق الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة] . انتقل المؤلف رحمه الله إلى هذا الفصل الذي فيه بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في الكرامات. قال: (ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء) التصديق ضده: التكذيب، فأهل السنة والجماعة يصدقون بكرامات الأولياء، والكرامات: جمع كرامة، وهي: خرق العادة على يد ولي صالح؛ لكن لابد من قيد مهم حتى تخرج عن غيرها من خوارق العادات، وهذا القيد: هو أن تكون على يد ولي صالح، ولذلك قيدها المؤلف هنا بالإضافة فقال: (بكرامات الأولياء) والأولياء هم: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] ، وهذا يفيد: أن الكرامات ليست خاصة بالصحابة رضي الله عنهم، بل هي فيهم وفي غيرهم. والملاحظ لأخبار الكرامات يجد أنها في غير الصحابة أكثر منها فيهم رضي الله عنهم؛ والسبب: أن الكرامة يحصل بها تثبيت الإيمان عند الحاجة، وكلما عظم إيمان الشخص قلت حاجته، والصحابة أعظم الناس إيماناً، فما كان من الكرامات في وقتهم لم تكن في الغالب لزيادة إيمانهم إنما هي لنصرتهم على خصومهم، ولذلك كثرت الكرامات فيمن بعدهم؛ لحاجتهم إلى ذلك. واعلم أنه يشارك الكرامة في خرق العادة شيئان: الآية وهي للنبي، وفعل السحرة والشعوذة وهي للدجالين، لكن اعلم أن الآية التي يسميها كثير من الناس المعجزة أعظم بكثير من الكرامة، ويكون فيها عموم وسلطان وحجة باهرة، بخلاف الكرامة فإنها دون ذلك بكثير. وأما ما يكون على أيدي السحرة فإنه من جنس الخفة في الحركة، أو من عون الشياطين، أو فتنة من رب العالمين، ومثال الأخير: ما يكون مع الدجال من الآيات التي تبهر ضعاف الإيمان، نسأل الله السلامة والعافية، ولكن الفارق بين خوارق العادات: مرجعها إلى من تجري على يديه، فإن كانت قد جرت على يد صالح ولي فهي كرامة، وإن جرت على يد نبي فهي آية، وإن جرت على يد دجال كذاب فهي شعوذة وسحر وبهتان. هذا من حيث من تجري على يديه. أيضاً تختلف هذه الأمور من حيث المقصود بها: فإن ما يجري على يد الساحر مقصوده به: عز نفسه، أو إبطال حق، أو إحقاق باطل، وأما ما يجري على يد الأنبياء والأولياء فإن مقصوده: زيادة الإيمان، وتثبيت الحق وإظهاره، فهو أيضاً مما يحصل به التفريق بين هذه الأمور الثلاثة. قال رحمه الله: (التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات) ، ثم بين ما الذي تكون فيه خوارق العادات، قال: (في العلم والمكاشفات) . الجنس الأول من الكرامات العلم: ويكون ذلك بأن يكشف للإنسان من العلم ما لا يكشف لغيره، سواء كان ذلك في علم الشريعة أو في العلوم الطبيعية والعادية. فمن جنس العلوم العادية: ما كشف ل عمر رضي الله عنه وهو على المنبر في قصة قوله: يا سارية الجبل، فإنه كشف له الأمر، وقال هذا القول وهو على المنبر، وهذه الكرامة من جنس الكرامة التي تكون في العلم والكشف. الجنس الثاني من أجناس الكرامات: أنواع القدرة والتأثيرات، وهذا بأن يجري الله عليه ما يعجز عنه البشر في العادة، أو ما لا يمكن وقوعه في العادة، مثل ما جرى للعلاء بن الحضرمي لما مشى على الماء، وهذا في القدرة والتأثير. الجنس الثالث من أجناس الكرامات: أن يمكن الإنسان ما لا يمكن منه عادة، نظير ذلك: الاستغناء عن الطعام والشراب أياماً. وهذا مندرج تحت الجنس الثاني، لكن بعض أهل العلم فصله في قسم مستقل، وهو راجع إلى قول المؤلف رحمه الله: [وأنواع القدرة والتأثيرات] . ثم أراد الاستدلال على هذا الأصل، وهو إثبات الكرامات والإيمان بها. فقال: [كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها] ، قصة أصحاب الكهف فيها من الآيات ما الله به عليم، ومن أبرز ما يكون: مكثهم هذه المدة الطويلة نياماً، ثم استيقاظهم، والآيات فيها كثيرة، وغالبها من نوع القدرة والتأثير. ومن أمثلة ذلك أيضاً: قصص سورة البقرة، وقصة مريم لما كان يدخل عليها زكريا عليها السلام: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] ، والآيات والكرامات كثيرة في كتاب الله عز وجل. قال: [وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر فرق الأمة] . [وسائر فرق الأمة] هكذا في النسخة التي بين أيدينا، وفي نسخة أخرى: (وسائر قرون الأمة) وهو أصح؛ لأن مراد المؤلف أن الكرامة لم تقتصر فقط على الصحابة والتابعين بل هي موجودة في سائر قرون الأمة؛ فليست خاصة بالصحابة رضي الله عنهم. قال: [وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة] . الكرامات موجودة في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وإنما تكثر وتوجد عند الحاجة، لكن هل الكرامة تطلب أو يَمنُّ بها الله بدون طلب؟ الغالب أنه يَمنُّ بها بدون طلب، ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يتعرض لطلبها وسؤالها بل: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] ، والله أعلم بمواضع الفضل وبمستحقه. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 2 اتباع أهل السنة لآثار السلف قال رحمه الله: [فصل: ثم من طريقة أهل السنة والجماعة: اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة) . ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد، ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة، وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين. والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين. وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين. والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشر في الأمة] . هذا الفصل في ختام هذه الرسالة المباركة عقده المؤلف رحمه الله لبيان السمات العامة في السلوك والعمل لأهل السنة والجماعة؛ فإنه ذكر الأصول التي طوى عليها أهل السنة والجماعة قلوبهم في الفصول السابقة، وبين ذلك بياناً شافياً واضحاً، ثم هذا الفصل والذي بعده فيه بيان لمجمل ما يتسم به منهج أهل السنة والجماعة. قال رحمه الله: [ثم من طريقة أهل السنة والجماعة: اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً] . الآثار المقصود بها سنته صلى الله عليه وسلم، فاتباع الآثار، أي: اتباع ما أثر عنه في القول والفعل. وقوله رحمه الله: [باطناً وظاهراً] بيان لعناية أهل السنة والجماعة للمسلك القلبي والمسلك العملي؛ فهم لا يقتصرون في اتباع الآثار على ما تقع عليه الأبصار إنما يتبعون الآثار في باطن الأمر وظاهره، وقدم الباطن؛ لأنه الأصل في الثواب والجزاء؛ ولأنه الباعث للاتباع الظاهر، فتقديمه للباطن ليهتم الإنسان بذلك، ولبيان منزلة الاتباع الباطني. قال: [واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار] . وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن الصحابة تلقوا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدوا التنزيل، ومَنَّ الله عليهم بفهم وعمق في النظر لم يحصل لغيرهم؛ فسبيلهم هو السبيل القويم، وفهمهم هو الفهم المستقيم الذي يجب على أهل السنة والجماعة ويجب على الأمة الاستمساك به والرجوع إليه. قال: [واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (عليكم بسنتي) ] والمقصود بالسنة هنا الطريقة لا السنة الاصطلاحية التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، إنما المقصود بالسنة هنا الطريقة والشريعة والسبيل والمنهج، (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكاً) فالخلافة المهدية الراشدة هي خلافة الأربعة، وهم المعنيون بقوله صلى الله عليه وسلم: (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، وهذا تخصيص بعد تعميم؛ فالعموم الذي يستمسك به أهل السنة والجماعة هو منهج السلف الصالح من الصحابة المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، وأخص أولئك بالاتباع والاستمساك من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستمساك بسنتهم، وهم الخلفاء الأربعة الراشدون المهديون، وأخص هؤلاء أبو بكر وعمر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا بالذين من بعدي، أبي بكر وعمر) ، وقال في الغزوة التي تقدم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: (إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا) ، فلهما من الخاصية والميزة في الاتباع والاقتداء بأفعالهم العامة والخاصة ما ليس لبقية الخلفاء الراشدين المهديين الأربعة؛ فهذا تخصيص بعد تخصيص: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، ثم بين ما الذي يجب في هذه السنة، فإن قوله: (عليكم) هذا حزم وفرض للسنة بطريقته وطريقة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده. قال: (تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) ، تمسكوا بها، أي: استمسكوا بها، واعملوا وخذوا بها، وأمر بشدة الاستمساك والاعتصام بالسنة فقال: (وعضوا عليها بالنواجذ) ، والنواجذ هي: أقصى الأسنان التي يستمسك بها على الشيء حتى لا يكاد يفلت. قال: (وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) ، في الرواية التي عندنا: (فإن كل بدعة ضلالة) ، وليس فيها: (فإن كل محدثة بدعة) وهي في رواية أخرى، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من المحدثات، وقوله: (محدثات الأمور) المقصود: الأمور التي يتعبد بها، يعني: من أمر الشريعة والدين، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا - يعني: أمر الشريعة والدين - ما ليس منه فهو رد) ، (فإن كل بدعة ضلالة) وهذا عموم لا مخصص له، ومن رام تخصيص ذلك فعليه الدليل ولا دليل، وهذا من العمومات القوية المحفوظة من التخصيص. قال رحمه الله: [ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله] ، كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] . [وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم] ، فهو أكمل الهدي وأتمه، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، والخلق: هو الهدي والدين، وليس المقصود بالخلق فقط ما يستحسن في المعاملة، بل هو أعم من ذلك؛ فيشمل الهدي والدين. [ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس] ؛ لأن كلام الله حجة قاطعة، وكلام الله برهان ساطع لا يقوم مقامه غيره، ولذلك يؤثرونه على غيره من الكلام. [ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد] ، من رام نجاة نفسه فهذا هو سبيل النجاة، وقد نهى الله جل وعلا عن التقدم بين يدي الله ورسوله بشيء، وتقديم كلام غير كلام الله وغير كلام رسوله من التقدم بين يدي الله ورسول؛ فالواجب على المؤمن الاستمساك بهذا الغرز، وهذا المنهج والسبيل. ثم قال: [ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة] ، أهل الكتاب؛ لاعتصامهم بالكتاب، وأهل السنة؛ لاعتصامهم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم. [وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة] . فأهل السنة والجماعة أهل اجتماع وائتلاف؛ عملاً بالنصوص المتواترة الكثيرة في كتاب الله وفي سنة رسوله التي تدعوا إلى الاجتماع، وتنبذ الفرقة والاختلاف، فإن النصوص التي تأمر بالاجتماع وتنبذ الفرقة والاختلاف كثيرة جداً في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأهل السنة الجماعة يؤثرون الاجتماع ويقدمونه على كل شيء وينهون عن التفرق والاختلاف، ويذمون ذلك. قال: [وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين] . وهذا فيه بيان الاستعمال العرفي للجماعة، وأنه ليس المراد بوصف أهل السنة والجماعة بهذا الوصف لكونهم مجتمعين، ولكن لأنهم يأمرون بالاجتماع وينبذون الافتراق، يعني: كل أهل بدعة جماعة، وكل أناس اجتمعوا على قول أو رأي فهم جماعة، لكن هل هذا هو الوصف الذي يراد بقولنا: أهل السنة والجماعة؟ لا؛ لأن هذا الوصف ليس مميزاً لهم عن غيرهم، إنما الذي يميزهم عن غيرهم هو اجتماعهم على الحق، وذمهم للفرقة والاختلاف، فتنبه لهذا الفرق؛ فقوله: [وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين] هذا بيان: أن المعنى العرفي للجماعة ليس هو الذي يوصف به أهل السنة والجماعة، إنما الذي يوصف به أهل السنة والجماعة هو الاجتماع، ونبذ الفرقة والاختلاف. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 3 أصول منهج أهل السنة والجماعة قال: [والإجماع هو الأصل الثالث] . أيضاً هم سموا بهذا الاسم لاعتمادهم الإجماع. فهذا ثاني ما سمي أهل السنة من أجله بالجماعة، سموا بأهل الجماعة أولاً: لكونهم مجتمعين يذمون الفرقة والاختلاف، ولكونهم يعدون الإجماع أصلاً من أصول الدين التي يستندون إليها في إثبات العقائد والأحكام، والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين، والعلم المقصود به ما يعلم من أمور الغيب وما يعلم من أمور الاعتقاد، والدين المقصود به العمل، والمراد أنهم يثبتون به ما يتعلق بالعقائد والأعمال. قال: [وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين بهذه الأصول الثلاثة، وهي: الكتاب والسنة والإجماع] . يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من الأقوال والأعمال والعقائد؛ فما وافقها قبل، وما خالفها رد على من قاله كائناً من كان، وهذه الأصول هل هي أصول معصومة؟ نعم معصومة جميعها؛ لأن أول أصل الكتاب وهو معصوم لا إشكال في ذلك، والأصل الثاني السنة الثابتة الصحيحة وهي معصومة، والأصل الثالث الإجماع وهو معصوم؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة. واعلم أن الإجماع لا يمكن أن يثبت إلا وله مستند من الكتاب أو السنة، فإذا علمت أن أهل العلم أجمعوا على مسألة فاعلم أن لهذه المسألة دليلاً من كتاب الله وسنة رسوله، وبه نعلم أن أهل السنة والجماعة لا يزنون الناس بآرائهم ولا بأذواقهم ولا بأهوائهم، إنما يزنون الناس أقوالاً وأعمالاً وعقائد بهذه الموازين الدقيقة، والمعايير الثابتة البينة، وهي: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة. قال: [والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح] . هذا فيه بيان الإجماع الذي يحتج به، وأنه ليس مجرد قول لبعض العلماء اتفقوا عليه أو أجمعوا عليه، الإجماع الذي يستند ويعتمد عليه ويصدر عنه هو ما كان عليه السلف الصالح. وهذا أجود ضابط في الإجماع المعتبر الذي لا يعذر المرء في مخالفته، ما السبب في ذلك؟ قال: [وبعدهم كثر الاختلاف وانتشر في الأمة] . أولاً: لكونهم خير القرون بشهادة النبي صلى الله عيه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذي يلونهم، ثم الذين يلونهم) هذا وجه ترجيح إجماعهم بالنظر إلى المجمعين. أما قوله رحمه الله: [وبعدهم كثر الاختلاف وانتشر في الأمة] . هذا ترجيح لإجماعهم على غيرهم بالنظر إلى إمكان الإجماع وحصول الاجتماع؛ فإن الصحابة عددهم محصور، وليس المراد كل صحابي ولو لم يكن من أهل العلم، إنما المراد به من يعتبر إجماعهم، من الصحابة العلماء الذين يرجع الناس إليهم، ويصدر عن أقوالهم؛ فإن حصر هؤلاء ومعرفة آرائهم وأقوالهم ممكن وسهل بخلاف العلماء بعد عصر الصحابة؛ فإن الأمة قد كثرت وانتشرت، والخلاف أيضاً كثر وانتشر؛ فيتعذر التحقق من الإجماع؛ ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله: من ادعى الإجماع فهو كاذب، ما يدريه لعلهم اختلفوا؟! وهذا صحيح، أما في عهد الصحابة رضي الله عنهم فإن حصر ذلك والتحقق منه ممكن ميسور. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 4 شرح العقيدة الواسطية [28] منهج أهل السنة هو الإسلام الخالص المتضمن ما في القرآن والسنة، فهو منهج متكامل في العبادات والمعاملات والأخلاق، وقد سار على هذا المنهج أئمة الدين، ولا يزال الله يبعث منهم من يجدد لهذه الأمة دينها. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 1 المنهج السلوكي عند أهل السنة والجماعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة. ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) . ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء. ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) . ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك. وينهون عن الفخر، والخيلاء، والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق. ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفاسفها. وكل ما يقولونه أو يفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة، وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم. لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وفي حديث عنه أنه قال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ؛ صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة. وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى؛ أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة) . نسأل الله أن يجعلنا منهم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. والله أعلم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً] . هذا الفصل الأخير من هذه الرسالة المباركة هو في بيان المنهج التفصيلي لمسلك أهل السنة والجماعة؛ وذلك لأن في بيان المنهج التفصيلي تمييز أهل السنة والجماعة، وذلك أن الفصل الذي قبل هذا هو بيان للمنهج على وجه العموم، وهو اتباع الكتاب والسنة والإجماع، وبيان سبب وصفهم بهذين الوصفين، وتسميتهم بأهل السنة والجماعة. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 2 منهج أهل السنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال رحمه الله: (ثم هم مع هذه الأصول) يعني: المتقدم ذكرها، (يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر) ، بدأ رحمه الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل غيره؛ لأنه السياج الذي تحفظ به الشريعة وتقام به الملة، وقد قدمه الله سبحانه وتعالى على غيره في عدة مواضع: ومن ذلك قول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ، وقول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} [التوبة:71] ، ثم ذكر من صفاتهم ما ذكر؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو السياج الذي تحفظ به الأمة من الزيغ والضلال في العقائد والأعمال. قال رحمه الله: [يأمرون بالمعروف] ، المعروف: هو كل ما أمر الله به ورسوله إما أمر إيجاب أو أمر استحباب، والمنكر: هو كل ما نهى عنه الله ورسوله. قال: [على ما توجبه الشريعة] ، وهذا قيد مهم يميز أهل السنة والجماعة عن غيرهم؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل تعتمده كثير من الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة، لكن أهل السنة والجماعة اعتمدوا هذا الأصل وقيدوه بقيد مهم، وهو قوله رحمه الله: [على ما توجبه الشريعة] ، أي: على الطريقة الشرعية، لا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الناشئ عن العواطف أو الأهواء أو الآراء المنحرفة عن الكتاب والسنة بل هم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كما أمر الله سبحانه وتعالى بذلك على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم. وأهم ما يجب ملاحظته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هو أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعلم، وأن يكون برفق، وأن يكون معه صبر، هذه الأوصاف الثلاثة أوصاف ضرورية لكل آمر بالمعروف وناه عن المنكر: لابد من العلم حتى تميز بين المعروف والمنكر، ولابد من الرفق حتى يتحقق المقصود، ولابد من الصبر حتى تتحمل النتيجة؛ لأنه ما من إنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا ولابد أن يناله شيء من الأذى إما الأذى الحسي أو القولي والمعنوي. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 3 منهج أهل السنة في التعامل مع الأمراء قال: [ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً] . أتى بهذه المسألة بعد ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ليعلم كل أحد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس سبيلاً ولا وسيلة للخروج على ولاة الأمر الذين ولاهم الله أمر المسلمين؛ فمن جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة يخرج بها على ولاة الأمر فقد خالف منهج أهل السنة والجماعة بل يجب أن يكون الأمر المعروف والنهي عن المنكر مع ملاحظة حقوق ولاة الأمر، وأنه لا يتخذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة وسبباً لإسقاط الحقوق الواجبة لمن ولاه الله أمر المسلمين. [يرون إقامة الحج] أي: يعتقدون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع أمراء المسلمين، [أبراراً كانوا أو فجاراً] يعني: على أي حال كانوا من الاستقامة وعدمها؛ لأن هذه الأمور لا تستقيم ولا تصلح إلا بالاجتماع على من ولاه الله أمر المسلمين. فالحج لابد له من إمام يقود الناس ويرتب أمورهم، وكذلك الجهاد لابد له من إمام يتبع ويؤتمر بأمره حتى ينتظم الأمر، والجمع والأعياد كذلك، وهكذا كان الأمر في السابق، حيث كان الأمراء يتولون إمامة الجمع والأعياد، فكان السلف الصالح يصلون خلف الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً. وقد جاء حديث في الأمر بإقامة الجهاد مع كل أمير براً كان أو فاجراً في مسند الإمام أحمد، والأحاديث التي فيها وجوب صيانة الأئمة وولاة الأمر وحفظ حقوقهم كثيرة جداً؛ حتى إن هذا الأمر أصبح من سمات أهل السنة والجماعة خلافاً لغيرهم كالرافضة الذين يرون الخروج على الأئمة بسبب الظلم، ويوافقهم على ذلك المعتزلة والخوارج، فهؤلاء طوائف يرون أن الإمام إذا ظلم أو جار كان ذلك سبباً للخروج عليه وتفسيقه والوقيعة فيه خلافاً لأهل السنة والجماعة؛ فإنهم يعملون بوصية النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن تغير الأمور، وأخبر أصحابه في عهده عليه الصلاة والسلام وقال: (إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها، قالوا: فبماذا تأمرنا يا رسول الله؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -الناصح الأمين-: أدوا الحق الذي عليكم، واسألوا الله الذي لكم) . فالواجب على المؤمن أن يؤدي الحق الذي عليه من السمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، وأما ما له من حقوق فلا يجوز له أن يتظلم بالوقيعة، أو أن يخرج بقول أو فعل بل الواجب عليه أن يصبر، وأن يسأل الله حقه. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 4 منهج أهل السنة في النصيحة للأمة ثم قال رحمه الله: [ويحافظون على الجماعات] . الجماعات المقصود بها: الصلوات المفروضات، وهذا من أبرز ما اتسم به أهل السنة والجماعة خلافاً للرافضة الذين لا يرون إقامة الجمع والجماعات إلا وراء الإمام المعصوم. قال: [ويدينون بالنصيحة للأمة] . النصيحة: المراد بها هنا بذل كل خير يعلمونه للأمة، وكف كل شر يعلمونه للأمة، فالنصيحة هي أن يضمر المؤمن الخير وأن يعمل به، وأن يسعى إلى تحقيقه، وأن يسعى إلى إزالة كل ما يعيق الخير. قال: [ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ] . هذا في أمر الدنيا، وكذلك الأمر في أمر الدين، بل هو في أمر الدين أعظم وآكد وأحق؛ لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ، والبر: اسم جامع لكل خير. قال: [وشبك بين أصابعه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ] . وهذا أيضاً يدل على ائتلاف المؤمنين واجتماعهم، وتوادهم، وتناصحهم، وهذان الدليلان يدلان على جميع الأصول المتقدمة من الأمر بالمعروف، وحفظ حقوق ولاة الأمر، وإقامة الصلوات، والنصيحة للأمة. قال: [ويأمرون بالصبر عند البلاء] . سواء كان البلاء عاماً أو خاصاً. [والشكر عند الرخاء] . سواء كان الرخاء عاماً أو خاصاً. [والرضا بمر القضاء] . أي: بما يكرهونه من الأقدار والأقضية التي لا تلائم النفوس، يأمرونهم بالرضا بها، والرضا مرتبة عالية، والواجب هو الصبر لكن هم يأمرون بالرضا، فإن لم يحصل فلا أقل من الصبر. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 5 جماع مكارم الأخلاق عند أهل السنة قال: [ويدعون إلى مكارم الأخلاق] . المكارم: جمع مكرمة، وهي: كل خصلة جميلة، يأمرون بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ؛ فهم يعاملون الخلق بالفضائل والمحاسن، فلا سب عندهم ولا شتم، ولا لعن، ولا همز، ولا لمز، خلافاً لجميع الطوائف المخالفة لأهل السنة والجماعة؛ فإنهم يسبون ويشتمون ويلعنون ويكفرون ويفسقون ويهمزون ويلمزون، وهذا من منة الله على أهل السنة والجماعة: أنهم أكمل الفرق خلقاً كما أنهم أكمل الناس عقيدة وعملاً. قال: [ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين] ، والبر يشمل كل إحسان توصله إلى والديك، (وصلة الأرحام) ، وهي دائرة على بذل الإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم، والصبر على ما يكون من أذاهم، هذه ثلاثة أمور تحصل بها صلة الرحم، ويحصل بها أيضاً حسن الجوار. قال: [والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك] . أي: الإحسان إلى كل من يحتاج ويستحق الإحسان: اليتامى ليتمهم، والمساكين لفقرهم، وابن السبيل لحاجته وانقطاعه، والمملوك لرقه وهوانه. [وينهون عن الفخر والخيلاء] الفخر هو: العلو بسبب صحيح، والخيلاء كذلك، لكنه أعم من حيث أن السبب قد يكون صحيحاً وقد يكون غير صحيح، أما البغي فهو العلو بغير سبب صحيح، وأهل السنة الجماعة ينهون عن العلو بسبب صحيح وبغير سبب صحيح، ولذا قال المؤلف رحمه الله في بيان معنى النهي عن الفخر والبغي. قال: [والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق] ، الاستطالة على الخلق بحق: هذا الفخر، كأن يكون الإنسان نسيباً أو حسيباً، أو عنده مال، أو شيء يرتفع به على الناس، ويفخر به عليهم، فهل هذا يجوز؟ لا، هذه استطالة سواء كانت بحق أو بغير حق، وهذا السبب لا يجوز الاستطالة به على الناس مهما كان. وقوله: (أو بغير حق) ، هذا البغي، فلا يجوز الاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق. قال: [ويأمرون بمعالي الأخلاق] . أي: مكارم وأحاسن الأخلاق، (وينهون عن سفاسفها) ، أي: حقيرها ورديئها ورذيلها، وهذا فيه أنهم متصفون بكل خصلة جميلة، متخلون عن كل خصلة رذيلة. وكثير من أهل السنة والجماعة يحرص على تصحيح عقده، وأن يكون موافقاً للسلف فيما يتعلق بالعقيدة من الأسماء والصفات وغير ذلك مما مر، لكن هذا الجانب نغفل عنه كثيراً، والسبب: أننا نظن أن الإنسان يكفيه أن يكون متصفاً بالحق أو حاملاً للحق عن أن يكون متخلقاً بخلق حسن، والحق في ذاته قوة لا إشكال فيها، لكن لابد من خصلة تقرب هذا الحق إلى الناس وترغبهم فيه؛ ولذلك كان أهل السنة والجماعة يعظمون الحق ويرحمون الخلق، فهم رحمة للخلق بما معهم من جميل الصفات وكريم الخصال. قال رحمه الله: [وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة - أي ليسوا مبتدعين - وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم. لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وفي الحديث عنه أنه قال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ، صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة] . هذا جواب لسؤال مقدر وهو: لماذا لم يكتف أهل السنة والجماعة بوصف الإسلام الذي اتصف به الصدر الأول من هذه الأمة؟ ولماذا خصوا أنفسهم بهذا الاسم وعرفوا به، وهو أهل السنة الجماعة؟ الجواب: أن الإسلام الخالص من الشوب هو ما كان مستق من الكتاب والسنة، وأصبح الانتساب للإسلام لا يميز الفرقة الناجية من غيرها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، وكل هذه الفرق تقول: إنها مسلمة، وتنتسب إلى الإسلام؛ فاحتاج أهل السنة والجماعة إلى أن يتميزوا بوصف دل عليه الكتاب والسنة، وهو وصفهم بهذا الوصف، وهو أهل السنة والجماعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ؛ فكلام الشيخ رحمه الله هنا جواب عن سؤال مقدر. قال رحمه الله: [وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال وأئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم] . هذه سمة لا توجد في غير أهل السنة والجماعة على اختلاف الطوائف؛ فإنك إذا سألت أي فرقة من الفرق: من سلفكم في هذا الأمر؟ أتوك بأقوام في القرون الخارجة عن القرون المفضلة، وإن بالغ في الانتساب إلى أحد من القرون المفضلة وجدته منقوصاً في دينه، كالذين ينتسبون إلى واصل بن عطاء وجهم بن صفوان وعمرو بن عبيد ومعبد الجهني وغيرهم ممن عرفوا بالبدعة في القرون المفضلة هذا أولاً، ثانياً: أن تكون النسبة لا حقيقة لها. أما أهل السنة والجماعة فهم منتسبون إلى أئمة أجلة في القرون المفضلة، وفي القرون التي تلتهم وتبعتهم، وهذه السمة لا توجد في غير أهل السنة والجماعة. قال: [ومنهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة) ] . والطائفة المنصورة هي الفرقة الناجية، فقوله: (ومنهم الطائفة المنصورة) لا يدل على أن الطائفة المنصورة أخص من الفرقة الناجية، بل الفرقة الناجية هي الطائفة المنصورة، كما ذكر ذلك المؤلف رحمه الله في أول الرسالة عندما قال: (فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة) فهما وصفان لفرقة واحدة. بعد ذلك ختم المؤلف رحمه الله هذه الرسالة المباركة بسؤال الله عز وجل الثبات على هذا الطريق فقال: [نسأل الله أن يجعلنا منهم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً] . وبهذا تكون قد انتهت هذه العقيدة الواسطية التي ألفها الإمام العالم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يجعلها نافعة مباركة لنا ولكم. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 6