الكتاب: شرح العقيدة الطحاوية المؤلف: عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن إبراهيم بن فهد بن حمد بن جبرين (المتوفى: 1430هـ) مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 100 درس] ---------- شرح الطحاوية لابن جبرين ابن جبرين الكتاب: شرح العقيدة الطحاوية المؤلف: عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن إبراهيم بن فهد بن حمد بن جبرين (المتوفى: 1430هـ) مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 100 درس] شرح العقيدة الطحاوية [1] اتفقت جميع الرسل على الدعوة إلى توحيد العبادة، وهو أول واجب على المكلف، ومعرفة صفات الله تدعو إلى عبادته، وتوحيد الربوبية يلزم منه توحيد العبادة، وقد اعتنى أهل العلم ببيان التوحيد بأنواعه، لا سيما توحيد العبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 أهمية التوحيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فهذه العقيدة هي على مذهب أهل السنة والأئمة كلهم، ولكن الطحاوي ذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة وصاحبيه؛ وذلك لأنه كتبها لتلاميذه المختصين به الذين في قلوبهم وقع وقدر لهؤلاء الأئمة الثلاثة، الذين هم أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف، وهما صاحباه اللذان دونا مذهبه، وهما اللذان كتبا المسائل التي سئل عنها ونشراها، فلأجل ذلك أصبحا مختصين به، فيقول: إن هذه العقيدة هي معتقد هؤلاء الثلاثة. ولا ينافي هذا أن فيها معتقد الأئمة الآخرين كـ الشافعي ومالك وأحمد وبقية الأئمة؛ لأن العقيدة سالمة من الخلافات إلا خلاف المبتدعة، والمبتدعة لا يعتد بخلافهم. قال الطحاوي رحمه الله: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له. قال الشارح رحمه الله تعالى: اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] ، وقال هود عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65] ، وقال صالح عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73] ، وقال شعيب عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ، ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 اتفاق دعوة الرسل على التوحيد هذا الكلام يدل على أهمية التوحيد، والتوحيد الذي ذكره هو توحيد العبادة فإنه الذي دعت إليه الرسل واتفقت عليه دعوتهم، يقول: إن التوحيد هو أول ما يكلف به العباد. فالتوحيد هو الذي تسأل عنه في الحشر في يوم المعاد، والتوحيد هو الذي يسأل عنه في القبور يسأل عنه المقبور، والتوحيد هو أول دعوة الرسل، التوحيد اتفقت عليه الرسالات، فنأخذ من هذه الأدلة أهميته، فشيء اتفقت عليه دعوة الرسل يدل على أهميته، شيء بدأ به كل رسول دعوته يدل على أهميته، فالرسل من أولهم إلى آخرهم بدؤوا دعوتهم بنوع من أنواع التوحيد وهو توحيد العبادة كما في هذه الآيات، فإن كل نبي يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] ، وهذا هو توحيد العبادة، وجمعهم تعالى في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ، وهذا توحيد العبادة، يعني: نوحي إلى كل رسول ونقول له: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] يعني: افعل ذلك وأمر أمتك وادعهم إلى ذلك. وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ، وهذا هو توحيد العبادة. ويقول تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] ، و الجواب لو سأل لقيل: ما جعل الله ولا أذن الله لرسول أن يدعو إلى عبادة إله مع الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 أول واجب على المكلفين يذكر الشارح أن أول واجب على المكلف أن يأتي بالشهادتين، ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام مكث بمكة عشر سنين لا يدعو إلا إلى الشهادتين، يدعو إلى تحقيق لا إله إلا الله وإلى تصديقه أنه رسول من الله، عشر سنين وهو لا يدعو إلا إلى توحيد العبادة، أليس ذلك دليل أهميته؟ ما فرضت عليه العبادات حينئذ؛ لأنها متفرعة عن أصل وهو التوحيد، فالعبادات كلها ما تقبل إلا بهذا الأصل، فلو تعبد المشركون فصلوا وتصدقوا وحجوا وأنفقوا وجاهدوا وقرؤوا وهم لم يوحدوا الله بل يدعون غيره معه ما قُبلت منهم عباداتهم ولن تنفعهم؛ لأنهم فقدوا شرطها. وأهل الكلام الذين نهى علماؤنا عن الخوض في كلامهم من المعتزلة ونحوهم يقولون: إن أول واجب النظر. وبعضهم يقول: أول واجب قصد النظر. وبعضهم يقول: أول واجب الشك. وهذه أقوال باطلة، فصحيح أن الله تعالى أمرنا بالنظر لأجل الاعتبار، والآيات في ذلك كثيرة، كقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} [ق:6] {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:17-18] ، {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] ، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} [يوسف:109] فالنظر هنا لأجل الاقتناع، فمثلاً: إذا دعوت مسلماً وقلت له: أدعوك إلى الشهادتين. فإذا توقف فادعه إلى النظر، قل له: انظر إلى هذه المخلوقات، انظر إلى هذه الأفلاك الثابتة وهذه الأفلاك الجارية وهذه المخلوقات المنبثة، هل خلقت عبثاً؟ انظر إلى نفسك وتقلب أحوالك، هل خلقت من غير خالق؟ فإذا نظر وتفكر فإنه عند ذلك يعتبر ويرجع إلى ما تدعوه إليه، فالنظر والقصد إلى النظر وسيلة ودلالة وحجة للمعاند، لا أن أول واجب هو النظر، بل يدعى من شك وتوقف إلى أن ينظر حتى يستيقن. وأما معنى قولهم: إن أول واجب الشك فهم يقولون: إن أول ما يجب على الإنسان عندما يعقل أن يشك ثم يعمل بعد ذلك في إزالة ذلك الشك. وهذا قول باطل، بل الواجب أولاً قبل كل شيء أن يأتي بالشهادتين، ثم بعد ذلك يعمل بمقتضاهما، والأعمال متفرعة عن الشهادتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 اتفاق السلف على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان قال رحمه الله: [بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك، ولم يوجب أحدٌ منهم على وليه أن يخاطبه حينئذٍ بتجديد الشهادتين، وإن كان الإقرار بالشهادتين واجباً باتفاق المسلمين، ووجوبه يسبق وجوب الصلاة، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك] . معنى هذا الكلام أن الأطفال ينشئون بين آبائهم، ويلقنهم الأب معالم التوحيد من حين يميز، يلقنه معرفة ربه، ومعرفة نبيه، واستحقاق الله للعبادة، ووجوب العبادة، فينشأ على الإسلام وعلى قول (لا إله إلا الله) ويسمع ذلك من أبويه وهو صغير ما وجبت عليه الأحكام، فإذا بلغ استمر في العمل، ولا يحتاج عند البلوغ أن تقول له: الآن انطق الشهادتين. الآن أصبحت مكلفاً فإنه يكفيه نطقه فيما سبق بتشهده في صلاته، وفي إجابته للمؤذن وما أشبه ذلك، فلا حاجة بعد ذلك عند البلوغ إلى تلقينه، ولا إلى تجديد إسلامه، بل هو مسلم بين أبويه المسلمين، ومن حين يعقل وهو يلقن. والصحيح أيضاً أنه لو بلغ بعدما صلّى لا يؤمر بإعادة الصلاة، خلافاً لبعض العلماء، فبعضهم يقول: لو صلى الظهر قبل أن يبلغ ثم بلغ بعدها باحتلام أو نحوه فنأمره بإعادة الظهر؛ لأنه صلاها قبل أن يبلغ وهي في حقه غير واجبة، فبعدما بلغ تصير واجبة عليه، والصحيح أنه لا يؤمر؛ لأن الله ما أمر بالصلاة مرتين، وقد أداها ولو قبل البلوغ، فتصبح مجزئة، فكما لا يؤمر بإعادة الصلاة بعد البلوغ ولو كان الوقت باقياً فكذا لا يؤمر بعد البلوغ بتجديد الشهادتين، بل يكفيه أنه على الفطرة، وأنه قد تلقن وتعلم وفهم. قال الشارح رحمه الله: [وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء، فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما هل يصير مسلماً أم لا؟ والصحيح أنه يصير مسلماً بكل ما هو من خصائص الإسلام، فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه: (لا إله إلا الله) دخل الجنة) وهو أول واجب وآخر واجب، فالتوحيد أول الأمر وآخره، أعني توحيد الإلهية] . هذه مسألة نظرية ليست بصحيحة، وهي قولهم: قد يوجد من ينشأ ولم يتكلم بالشهادتين من أول أمره إلى أن يبلغ، فهل تصح عبادته؟ فنقول: هذا محال. وذلك لأن النطق بالشهادتين قد يكون ركناً كما في التشهد، فالصلاة فيها تشهد، وفي آخره يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. ثم يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسلم، ولا تصح الصلاة إلا بهذا التشهد، فهو ركن من أركانها، فكيف يُتصور أن إنساناً يولد بين أبوين مسلمين ويبلغ وهو ما تكلم بكلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ؟ هذا غير واقع، وذلك لأن المسلم دائماً يسمع كلمة (لا إله إلا الله) في الأذان وفي الخطب وفي التشهد وعند الذكر وفي القرآن، فقد ذكرت في القرآن في عدة مواضع كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [آل عمران:18] ، فلا بد أن الصبي يقرأ من القرآن أو يسمع، وينطق بذلك، فيكون بذلك مسلماً، فلا بد أنه قد أتى بالشهادتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أهمية توحيد العبادة التوحيد الذي ذكرت أهميته هو توحيد العبادة، وهو أول ما يدخل به في الإسلام، فالكافر أول ما يدعى إليه، وأول ما ينطق به، يقال: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) إلى آخره، فإذا أسلم كافر يلقن الشهادتين، ويبين له معناهما، ويؤمر بالعمل بمقتضاهما، فأول ما يدخل العبد في الإسلام هو نطقه بالشهادتين واعتقاده مدلولهما. وآخر ما يخرج العبد من هذه الدنيا يؤمر أن يختم حياته بـ (لا إله إلا الله) ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (من كان آخر كلامه (لا إله إلا الله) دخل الجنة) يعني: ختم له بالتوحيد، أو بما يدل على هذا المعنى، ففي هذه الحالة يكون مختوماً له بخاتمة حسنة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم وغيره: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) يعني: يكون آخر ما ينطقون به كلمة (لا إله إلا الله) حتى يختم لهم بما ابتدؤوا به، فيختم لهم بعقيدة سليمة وهي اعتقاد أن الله هو الإله الحق، وأن إلهية ما سواه باطلة، فبذلك يكون أول الأمر وآخره هو هذا التوحيد الذي هو توحيد العبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 توحيد الصفات قال رحمه الله: [إن التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع: أحدها: الكلام في الصفات. والثاني: توحيد الربوبية، وبيانه أن الله وحده خالق كل شيء. والثالث: توحيد الإلهية، وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له. أما الأول فإن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد كـ جهم بن صفوان ومن وافقه، فإنهم قالوا: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب. وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة؛ فإن إثبات ذاته المجردة عن جميع الصفات لا يُتصور له وجود في الخارج، وإنما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله، وهذا غاية التعطيل] . نعرف -بل يعرف أطفال المسلمين والحمد لله- أن أقسام التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، ويجب أن يلقن الطفل هذه الأنواع، وأن يعرف مدلولها، والمتقدمون من هذه الأمة أكثروا من التأليف في توحيد الأسماء والصفات، وغالب كتبهم التي ألفوها في العقيدة تدور حول الأسماء والصفات، حتى ولو سموها بكتب التوحيد، كـ ابن خزيمة وغيره، فإن الخلاف في الأسماء والصفات مشتهر في القرون الأولى، فـ الجهم بن صفوان أحدث بدعته في أول القرن الثاني، ثم تبعه أتباع له سماهم السلف بالجهمية، وسموا أيضاً بالمعتزلة، وكثروا وانتشروا وتمكنوا، ومن عقيدتهم إنكار الصفات، وسبب إنكارهم للصفات وأدلتهم في ذلك أنهم اعتمدوا في الغالب على الفكر وعلى الخيال وعلى العقول، فأدلتهم على نفي الصفات أدلة تخمينية عقلية، ولهذا يقول كثير منهم: إن هذا الباب لا يكشفه إلا الخيال، وإنهم يعجزون عن أن يعبروا عنه. والحاصل أن عقيدتهم نفي الصفات، فنفوا عن الله تعالى صفاته كلها. ومنهم من أثبت سبع صفات كالأشعرية، ومنهم من نفى أسماء الله مع صفاته، والعلة التي نفوا لأجلها هذه الصفات هي ما ذكره الشارح رحمه الله من كونهم يقولون: إن إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب. فهم يقولون: إن الواجب هو الله وحده، فالله تعالى واجب الوجود، وهذه لفظ من ألفاظ المتكلمين (واجب الوجود) ، ومثل: (ممكن الوجوب) و (ممتنع الوجود) ، وهذه من جملة ما تكلموا به وتوسعوا فيه، ومن أوصاف الله سبحانه عند المعتزلة القِدَم، أي أنه هو القديم، فيقولون: إذا أثبتنا أن الله قديم، وأثبتنا أن سمع الله قديم وقدرة الله قديمة وعلمه قديم وكلامه قديم ما صار القديم واحداً، بل صار عدداً، فلا جرم ننفي الصفات، ونجعل القِدَم لله وحده للذات. فنفوا الصفات وأثبتوا القدم للذات، فكيف يُردُّ عليهم؟ الشارح يقول: [إن إثبات ذات مجردة عن الصفات لا يمكن في الوجود] ولو فرض العقل إثبات كذلك فإن العقل قد يفرض المحال، فهذا من المحال، أي: مستحيل أن توجد ذات مجردة عن صفات ومتصلة بالقدم. فكما أنكم -يا معتزلة ويا مبتدعة! - تثبتون أن لله تعالى ذاتاً. فلا بد أن تثبتوا له الصفات؛ فإن الصفات من جملة الذات، والوحدانية لا تنافيها، فالله تعالى واحد بصفاته، وذاته وصفاته شيء واحد، ولا يلزم من إثبات الصفات تعدد. هذا هو الرد عليهم باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الحلول والاتحاد أقبح من كفر النصارى قال رحمه الله: [وهذا القول قد أفضى بقوم إلى القول بالحلول والاتحاد، وهو أقبح من كفر النصارى؛ فإن النصارى خصوه بالمسيح، وهؤلاء عموا جميع المخلوقات] هذا الكلام تقشعر منه الجلود، وهذه التفريعات فروع لمذهب أهل الوحدة، وهم طائفة يقال لهم: أهل وحدة الوجود. أو يسمون (أهل الحلول والاتحاد) ، وهم الذين يقولون: إن ذات المخلوق حالة بذات الخالق، وإنه لا فرق عندهم بين خالق ومخلوق، بل الكل شيء واحد، لا فرق بين الخالق والمخلوق -تعالى الله عن قولهم-، وهذه الطائفة كانت منتشرة في القرون الوسطى، وأكثر من أشاع هذا القول في القرن الثالث رجل يقال له: الحسين الحلاج، وهو صوفي أظهر التصوف وأبطن هذا القول، ولكنه كان يظهره أحياناً، وحفظت عنه كلمات شنيعة تدل على هذه المعتقدات، وحفظت أيضاً عن بعض أهل زمانه، فهذا القول مع شناعته يؤدي إلى هذه الأقوال الشنيعة، وقد بين الشارح ذلك على وجه الاختصار، فذكر من فروع قولهم أن فرعون صادق حينما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ؛ لأنه من جملة الرب، لكن أخطأ فرعون حيث خص نفسه، ولو قال: أنا وأنت وهذا وهذا كلنا الرب لكان مصيباً، فهو صادق في أنه من جملة الرب! وكذلك المشركون لما عبدوا هذا الصنم وهذا الوثن وهذا القبر فهم على صواب؛ لأنهم ما عبدوا إلا الله، ولكنهم أخطئوا لما خصصوا، ولو قالوا: إن الله في كل شيء وكل شيء من جملة الله لكانوا مصيبين، ولكنهم لما خصصوا أخطئوا. وعلى قولهم لا يكون هناك حلال وحرام؛ لأن الجميع شيء واحد، فلا فرق عندهم بين نكاح الأم والأخت والأجنبية، كل ذلك من عين واحدة، بل هو العين الواحدة، تعالى الله عن قولهم. وقد حفظت عن أكابرهم كلمات شنيعة يقشعر الجلد منها، فحفظ عن الحسين الحلاج أنه كان يقول: ما في الجبة إلا الله. يعني نفسه، وعن بعضهم أنه قال: سبحاني سبحاني ما أعظم شأني وحفظ عنه أنهم كانوا يمشون خلفه فالتفت، فلما رآهم يمشون خلفه قال لهم: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] تعالى الله عن قولهم! وكان بعض العلماء المتأخرين يذب عن الحلاج، ويدعي أنه من أهل العقيدة الصحيحة، وأنه موحد، ولما نقل له قوله في أبيات: سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب حتى بدا في خلقه ظاهراً في صورة الآكل والشارب قال: لعن الله من قال هذا. فقيل: إنه الحلاج. فظهر له بذلك كفره، وهذا القول المذكور من الكفر الصريح؛ فإن الناسوت الناس، واللاهوت هو الإله، يعني: أظهر ناسوته -أي: أظهر الناس- في صورة نفسه. ويقول بعضهم -وقيل: إنه الحلاج -: الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنّى يكلف تعالى الله عن قولهم، والذي أدى بهم إلى هذه الأقوال الشنيعة هو أنهم لما نفوا الصفات وجعلوا وجود الله وجوداً مطلقاً أدى بهم إلى أن يقولوا: إن ذات المخلوق حالة في ذات الخالق، وإنه عين وجود المخلوقات. تعالى الله عن ذلك! فعلى المسلم أن يعرف نفسه، وأن يعرف أنه مخلوق، وأن الرب سبحانه وتعالى فوق عرشه بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، ويستحضر أنه سبحانه هو العليم بكل شيء، لا تخفى عليه من عباده خافية، وإذا استحضر عظمته وعلمه بكل شيء وعلمه بما توسوس به النفوس وما تكنه الصدور أوجب ذلك أن يعظمه حق التعظيم، وأن يخافه حق الخوف، ومعرفة صفات الله تعالى توجب للعارف بها أن يخاف من الله حق الخوف، وأن يعبده حق العبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 توحيد الربوبية قال رحمه الله: [وأما الثاني فهو توحيد الربوبية، كالإقرار بأنه خالق كل شيء، وأنه ليس للعالم صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، وهذا التوحيد حق لا ريب فيه، وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام وطائفة من الصوفية، وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10]] . وتوحيد الربوبية يقرأه الأطفال في المدارس، وهو معرفة الله تعالى بأفعاله، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته. هذا هو توحيد الربوبية، ويكون بالنظر في هذه المخلوقات وفي أفعال الله تعالى، وذكروا أنه لما نزل قول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] سأل بعضهم فقال: ما هو الدليل على أن إلهنا إله واحد لا إله إلا هو؟ فنزلت الآية بعدها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164] يعني: تفكروا في هذه الأشياء لتكون آية لكم على أي شيء. فهي آية على أن الرب هو الإله الواحد، وكم في القرآن من آيات بمثل هذا، كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً} [يس:33] ، {وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم:20] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [الروم:21] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22] ، وفي السور المكية الكثير من ذلك، كقوله في سورة المرسلات: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً} [المرسلات:25] إلى آخره، ثم في السورة التي تليها: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6] إلى آخره، ثم في السورة التي تليها: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:27] إلى آخره، ثم في السورة التي تليها: {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً} [عبس:24-25] إلى آخره، فإن هذه آيات تدل على توحيد الربوبية الذي يقصد منه تثبيت توحيد الإلهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 اعتراف جميع الأمم بتوحيد الربوبية توحيد الربوبية يعترف به المشركون، ولكن هل يكفي؟ لا يكفي، لا بد من تحقيق ثمرته، وهذا التوحيد حجة عليهم في التوحيد الذي هو حق الله، يقال لهم: اعملوا لله ما دمتم أقررتم به. يقول تعالى: {قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:84-85] يعني: أفلا تعبدونه؟! {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:86-87] يعني: أفلا تتقون الشرك وتعبدون الله وحده؟! {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:88-89] كيف تصرفون عن عبادته؟ فأصبح توحيد الربوبية حجة عليهم. قال رحمه الله: [وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستيقناً به في الباطن، كما قال له موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102] ، وقال تعالى عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] ، ولهذا لما قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] على وجه الإنكار له تجاهل العارف قال له موسى: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:24-28] . وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهماً عن الماهية، وأن المسئول عنه لما لم تكن له ماهية عجز موسى عن الجواب. وهذا غلط، وإنما هذا استفهام إنكار وجحد كما دلت سائر آيات القرآن على أن فرعون كان جاحداً لله نافياً له لم يكن مثبتاً له طالباً للعلم بماهيته، فلهذا بين لهم موسى أنه معروف، وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بـ (ما هو) ، بل هو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل، بل معرفته مستقرة في الفطر أعظم من معرفة كل معروف] . نلاحظ من هذا الكلام أن جميع الأمم معترفون بتوحيد الربوبية، أي: أن الله هو الخالق الرازق المدبر الذي أوجد الكائنات، لكن قد اشتهر عن فرعون أنه ادعى الربوبية، حيث قال: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، والصحيح أنه كان معترفاً في الباطن بأن المخلوقات لها خالق؛ لأنه يعرف أنه كان معدوماً فوجد، ففرعون لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ثم خُلق، فيقال له: من ربهم قبل أن توجد أنت؟ ومن ربهم بعد أن تموت؟ فلا بد من أن فرعون معترف بوجود رب خالق، والدليل على ذلك هذه الآية، وهي قول موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الإسراء:102] ، فالله أيد موسى بتسع آيات، هي العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وتضليل الغمام، وما أشبهها، فلما أيده بها قال: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء} يعني: الآيات {إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الإسراء:102] ، فأفاد بأن فرعون عالم بذلك، وقال الله عن آل فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] ، فدل هذا على كونهم مستيقنين. وكذلك حكى الله عن ثمود قوله في قصتهم: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:38] يعني: على بصيرة مما جاءتهم به الرسل، ولكن جحدهم كان عناداً. ففرعون أظهر الإنكار، ولكنه كان في الباطن على يقين بما يقول موسى، ولكنه خاف أن يذهب عنه ملكه، ولهذا قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف:51-52] يعني: موسى {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] ، فهو أراد أن يخدع قومه بما هو فيه {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] ، وأما جوابه لما قال موسى: {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:104] {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] فهذا على وجه العناد، وبعض المتكلمين يقول: إن فرعون سأل عن الماهية فقال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] يعني: من أي شيء رب العالمين؟ وما ماهيته؟ والصحيح أن سؤاله إنما هو تعنت، لا أنه كان يسأل عن الماهية، فموسى عليه السلام ذكر له الأدلة على إثبات الرب وقدرته وسيطرته، والآيات تدل على ذلك، قال تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم:65] ، {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26] ، {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء:28] ، فاستدل عليه بهذه الأدلة الكونية التي لا يجحدها، كما استدل إبراهيم على النمرود بقوله: {رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] ، ثم قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] ، فهذه أدلة تدل على أن الرب هو الموجد لهذه الكائنات، وهي أدلة يعترف بها أولو البصائر. وقد ذكر الله عن المشركين أنهم يعبدون الله ويعبدون غيره في الرخاء، وأما في الشدة فإنهم لا يعبدون إلا الله، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء:67] ، فدل على أنهم في الرخاء يعبدون الله ويعبدون غيره، ولهذا قال تعالى في سورة الأنعام: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام:136] ، فدل على أنهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره، ولكن شركهم هذا أحبط أعمالهم فأصبحت باطلة، فلا يعتبر بما تقربوا به؛ لأن المطلوب منهم أن يكون الدين لله، وأن لا يصرف منه شيء لغير الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 تقرير توحيد الربوبية قال رحمه الله تعالى: [ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال: إن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال، فإن الثنوية من المجوس والمنوية القائلين بالأصلين النور والظلمة وأن العالم صدر عنهما متفقون على أن النور خير من الظلمة، وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة هل هي قديمة أو محدثة، فلم يثبتوا ربين متماثلين] . هذا تقرير لتوحيد الربوبية، يعني أن توحيد الربوبية هو الاعتراف بأن الله رب كل شيء، وهو الذي أقر به المشركون، كما ذكر الله ذلك عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] ، وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31] ، فإذا كانوا مشركين ومع ذلك يعترفون بهذا النوع -وهو أن الله هو الذي خلق ورزق، وهو الذي يدبر الأمر ويملك السمع والأبصار- فإن هذا لم ينفعهم ولم يدخلهم في الإسلام. يقول: ما عرفت أمة من الأمم يشركون في توحيد الربوبية إلا المجوس، ومع ذلك فليس شركهم شركاً ظاهراً، فهم يدعون أن العالم مخلوق من خالقين، يقولون: النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر. فالعالم عندهم صادر عن النور والظلمة، ولأجل ذلك هم يعبدون النار، فمعبودهم المقدس النار، يشعلونها ويطوفون بها ويصلون أمامها ويستقبلونها، ولأجل ذلك نهي المسلمون أن يستقبلوا النار في الصلاة حذراً من التشبه بالمجوس، ومع ذلك ما قالوا: إن النور والظلمة سواء. بل يقولون: إن الخيّر هو النور، وإن الظلمة شريرة لا يصدر منها خير. فهم لا يجعلونهما سواء، وهم مختلفون: هل النور والظلمة كلاهما قديم، أم القديم هو النور والظلمة حادثة؟ وهذا الكلام قد ذكره شيخ الإسلام في الرسالة التدمرية، أشار إلى هذا وبيّن أنهم مختلفون: هل النور والظلمة كلاهما قديم، أم القدم خاص بالنور والظلمة حادثة؟ وعلى القول -عندهم- بأنهما قديمان فإنهم لا يجعلونهما سواء، وهذا دليل على أنه ليس في الوجود أحد يشرك في توحيد الربوبية شركاً ظاهراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الرد على النصارى قال رحمه الله: [وأما النصارى القائلون بالتثليث فإنهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل متفقون على أن صانع العالم واحد، ويقولون: باسم الابن والأب وروح القدس إله واحد. وقولهم في التثليث متناقض في نفسه، وقولهم في الحلول أفسد منه، ولهذا كانوا مضطربين في فهمه وفي التعبير عنه لا يكاد واحد منهم يعبر عنه بمعنى معقول، ولا يكاد اثنان يتفقان على معنى واحد، فإنهم يقولون: هو واحد بالذات ثلاثة بالأقنوم. والأقانيم يفسرونها تارة بالخواص، وتارة بالصفات، وتارة بالأشخاص، وقد فطر الله العباد على فساد هذه الأقوال بعد التصور التام، وبالجملة فهم لا يقولون بإثبات خالقين متماثلين] هذا فيه رد على النصارى، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة:73] ، فالنصارى يجعلون الله ثالث ثلاثة، فيجعلون عيسى ابن الله، كما قال الله عنهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} [المائدة:17] ، {وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] يعني: منهم من يقول: إن الله هو المسيح -تعالى الله عن قولهم-. ومنهم من يقول: إنه ابن الله، وهذا أشهر وأكثر عندهم، ومنهم من يقول: إن الله ثالث ثلاثة. وهو قولهم: بالأب والابن وروح القدس، والله يخاطب عيسى يوم القيامة فيقول: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] ، وهذا دليل على أن المثلثة يقولون: إن الله إله، والمسيح إله، وأمه إله تعالى الله عن قولهم! فأنكر ذلك عيسى وقال: {سُبْحَانَكَ} [المائدة:116] ، وقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117] ، ومشهور في كتب النصارى أنهم يقولون بالأقانيم الثلاثة، وهم مختلفون في معنى الأقانيم، وكذلك هم مختلفون هل هي قديمة كلها أو بعضها حادث؟ ومشهور عند النصارى استعمال كلمة الأقنوم، ومنهم من يفسرها بالأرواح، ومنهم من يفسرها بالآلهة أو بالأشياء القديمة، والحاصل أنهم مضطربون فيها كما سمعنا، وقد ردّ عليهم الأئمة، ومن أراد تفصيل الرد عليهم فليقرأ كتاب شيخ الإسلام (الجواب الصحيح) الذي ضمنه الرد عليهم وفصّل في أجوبتهم، واستوفى ذلك رحمه الله، وكذلك غيره من العلماء حيث تتبعوا أدلتهم واستوفوا ما يدور حول ذلك من الشبه، وبينوا تناقضهم، ومع ذلك ما أُثر عنهم أنهم يقولون: إن العالم صادر من ثلاثة، بل هم يعترفون في نفس الأمر بأن العالم مخلوق من واحد قادر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 توحيد الربوبية يوافق الفطرة قال رحمه الله: [والمقصود هنا أنه ليس في الطوائف من يثبت للعالم صانعين متماثلين، مع أن كثيراً من أهل الكلام والنظر والفلسفة تعبوا في إثبات هذا المطلوب وتقريره، ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل، وزعم أنه يتلقى من السمع] . هذا بيان لما عليه الفلاسفة ونحوهم، فالاعتراف بالخالق سبحانه وتعالى اعتراف فطري، ولكن الفلاسفة يريدون أن يعبروا عما فطروا عليه تعبيراً مقنعاً، فلأجل ذلك اختلفت التعبيرات عندهم، وسيأتينا بعض تعبيراتهم التي يستدلون بها على أن العالم لم يصدر إلا من خالق واحد، وأكثرهم لما لم يقدر على التعبير زعموا أن هذا متلقىً من السمع -أي: من الشرع-، وأن الاعتراف بالخالق مأخوذ من الشرع، ولا شك أنه أمر فطري، ولو ترك كل واحد والفطرة التي فطر عليها لعرف أن له رباً وأنه مخلوق. ولأجل ذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) ، وقال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] ، ولكن مع ذلك هناك أدلة عقلية صريحة تبين للإنسان أنه مخلوق، وقد احتج عليهم سبحانه وتعالى بالعقل في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] فإذا عرفوا أنهم لم يخلقوا من غير شيء فلا بد لهم من خالق خلقهم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 شرح العقيدة الطحاوية [2] أول واجب على الإنسان الإقرار به وعلمه هو شهادة التوحيد، ويجب على المسلم أن يعرف معناها ومؤداها ولوازمها؛ إذ لا تصح منه إلا أن يأتي بها سليمة مما يشوبها من صور الشرك، ولا فلاح له بدونها، وعليها يترتب سائر العمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 الدليل العقلي على وجود الخالق سبحانه قال الشارح رحمه الله: [والمشهور عند أهل النظر إثباته بدليل التمانع، وهو أنه لو كان للعالم صانعان فعند اختلافهما -مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه، أو يريد أحدهما إحياءه والآخر إماتته- فإما أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما، والأول ممتنع؛ لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع؛ لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون وهو ممتنع، ويستلزم أيضاً عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلهاً، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر كان هذا هو الإله القادر والآخر عاجزاً لا يصلح للإلهية، وتمام الكلام على هذا الأصل معروف في موضعه] . أتى الشارح بهذا ليبين أن هذا هو الدليل عند أهل الكلام على أن الخالق واحد، ويسمى دليلاً عقلياً، وتسمى دلالة التمانع، فيقولون: لو كان للعالم صانعان متكافئان كلاهما خالق مستقل مكافئ للآخر فأراد أحدهما تسكين شيء وأراد الآخر تحريكه، أو أراد أحدهما إحياء شخص وأراد الآخر إماتته لاختلفا، فإذا كان العالم له خالقان فقد يختلفان، يقول هذا: سنحيي هذا. ويقول الآخر: سنميته. تعالى الله! فإذا أراد هذا إحياءه وأراد هذا إماتته واختلفا، فماذا يحصل؟ هل يمكن أن يكون هذا الشخص حياً ميتاً؟! لا يمكن. هل يمكن أن يكون متحركاً ساكناً في آن واحد؟! لا يمكن، فما يمكن أن يحصل مرادهما معاً؛ لأنه جمع بين الضدين، إذاً لا بد أن يحصل مراد واحد منهما، أو لا يحصل مراد أحد منهما، وكونه لا يحصل مراد كل منهما ممتنع أيضاً، فالجسم لا بد أن يكون إما متحركاً وإما ساكناً، إما حياً وإما ميتاً، فلا يمكن أن يكون خالياً من الحركة وخالياً من السكون، ولا يمكن أن يكون غير حي ولا ميت، إذاً لا بد أن يحصل مراد واحد منهما دون الآخر، فالذي يحصل مراده هو الإله، والذي لا يحصل مراده هو عاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، وهذا يسمى عندهم دليل التمانع، وقد دل على ذلك القرآن في قول الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] يعني: لو كان مع الله آلهة مساوية له لفسدت المخلوقات، وذلك لما يلزم من اختلاف الأهواء واختلاف الإرادات، فهذا ونحوه مما يدل عقلاً على أن العالم خالقه واحد وهو الله تعالى، وهو المتصرف في هذا الكون كما يشاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 توحيد الألوهية هو الذي دعت إليه الرسل قال رحمه الله: [وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن ودعت إليه الرسل عليهم السلام، وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له؛ فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد كما أخبر تعالى عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] ، {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:84-85]] . كثير من المتكلمين يدعّون أن التوحيد الذي دلت عليه هذه الآية والذي دل عليه دلالة التمانع هو الذي دعت إليه الرسل، وهذا خطأ، بل الرسل إنما دعوا إلى توحيد العبادة، وذلك لأن توحيد الربوبية فطري لم ينكره المشركون الأولون، بل جميع الأمم معترفون بتوحيد الربوبية، كما ذكرنا في الآيات السابقة، ومنها قول الله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:84-85] ، وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:61] ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63] ، فإذا كانوا معترفين بهذا النوع الذي هو توحيد الربوبية وأن الرب هو الخالق وحده فهذا يدل على أن الرسل إنما دعت إلى التوحيد القصدي الإرادي الذي هو توحيد الإلهية أو توحيد العبودية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 المشركون يقرون بتوحيد الربوبية وينكرون توحيد الألوهية قال رحمه الله: [ومثل هذا كثير في القرآن، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم، تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ويتخذونهم شفعاء ويتوسلون بهم إلى الله، وهذا كان أصل شرك العرب، قال تعالى حكاية عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] ، وقد ثبت في صحيح البخاري وكتب التفسير وقصص الأنبياء وغيرها عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، وأن هذه الأصنام بعينها صارت إلى قبائل العرب ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما قبيلة قبيلة] . معروف أن الرسل دعوا إلى توحيد العبادة الذي هو توحيد الطلب والقصد، وهو التوحيد الإرادي العملي الذي طلبه الله من عباده وأمرهم به، وضده الشرك الذي هو دعوة غير الله تعالى معه، والأمم السابقة متفقون -كما سمعنا- على أن الخالق لهذا العالم واحد هو الله، ومع ذلك يدعون آلهة غيره ويسمونها آلهة، كما حكى الله عن قوم إبراهيم أنهم قالوا: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71] ، وأنهم قالوا لما كسرها: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59] ، وقولهم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] ، وقولهم: {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:68] فسموها آلهة، ومعلوم أنهم يألهونها، أي: يحبونها ويعظمونها ويصرفون لها أنواع التأله، وهكذا فعل المشركون في العهد النبوي، فإن قصدهم إنما هو التقرب إليها. وأما غرضهم منها فقد ذكره الله تعالى في قوله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] هذه مقالة المشركين، وكذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] ، ورد عليهم كما حكى عن الرجل المؤمن بقوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23] ، فأخبر بأنهم إنما يريدون شفاعتهم، وأنهم لا يشفعون ولا تغني شفاعتهم شيئاً، وهذا هو قصد المشركين الأولين والمعاصرين سواء، وهو أنهم يريدون شفاعتهم، ويريدون التوسل بهم، ويزعمون أنهم لهم وجاهة ولهم صلاح، فلكونهم ذوي صلاح يشفعون لهم شفاعة تفيدهم إما في العاجل وإما في الآجل. وأول ما حدث هذا الشرك في قوم نوح، كما حكى الله عنهم بقوله: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا} [نوح:23] الخ، فروى البخاري عن ابن عباس قال: هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح. كانوا رجالاً من أهل العلم ومن أهل العبادة ومن أهل الفضل، فلما ماتوا أسف تلامذتهم عليهم، فجاءهم الشيطان وقال: صوروهم وانسبوا صورهم حتى تتذكروا عبادتهم أو تتذكروا علومهم فتعملوا بها، فصوروا تماثيل وسموها بأسمائهم، هذا ود، وهذا سواع، وهذا يغوث، وهذا يعوق، وهذا نسر، ولما ذهب أولئك الذين صوروهم ونشأ أولاد لهم جهال وصاروا يرون هذه الصور جاءهم الشيطان وقال: آباؤكم ما صوروهم إلا ليعظموهم؛ فإنهم من أهل الصلاح. فعند ذلك عظموهم، وزادوا من تعظيمهم شيئاً فشيئاً إلى أن صاروا يصرفون لهم حق الله، ثم جاء الطوفان وأغرق من على الأرض، ولكن بقيت صور أولئك مدفونة حتى العصر الجاهلي، وأول من أثارها عمرو بن لحي بن خندف الخزاعي، وهو الذي يقول عنه صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب وغير دين إبراهيم) ، فذكروا أن الشيطان تمثل له في صورة كاهن، وكلام الكهنة يكون مسجوعاً، فقال له: ائت جدة، تجد بها أصناماً معدة، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب. ففعل فأخبره بأسمائها، فتفرقت هذه الأصنام الخمسة في العرب، وصارت معبودة إلى العهد النبوي، وهي صور قديمة من عهد نوح احتفظ بها وبأمثالها وصارت تعبد إلى العهد النبوي، فهذا أول شرك وآخره، وهو الشرك بعبادة الصالحين، وبتسميتهم أولياء أو سادة أو أفاضل أو أشرافاً، وهذه التسمية أوجبت للناس أن يغلوا فيهم حتى صرفوا لهم خالص العبادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 أصل الشرك تعظيم القبور قال رحمه الله: [وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: (قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أمرني ألا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته) ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر مما فعلوا قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً. وفي الصحيحين أنه ذكر لرسول الله عليه الصلاة والسلام في مرض موته كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها فقال: (إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) ، وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) ] . هذه أحاديث تدل على أن أصل الشرك هو تعظيم القبور، سيما قبور الأولياء والسادة والصالحين، وبالطريق الأولى قبور الأنبياء والرسل، فالنبي عليه الصلاة والسلام عرف هذا، وعرف أنه أكبر سبب في حدوث الشرك في العالم، وأن قوم نوح لما مات أولئك الصالحون فعلوا ما يلي: أولاً: عكفوا على قبورهم. ثانياً: صوروا تماثيلهم. ثالثاً: طال عليهم الأمد فعبدوهم. وكذلك وقع هذا في النصارى، وكذلك في اليهود، وكذلك في الأمم الأخرى، فسبب الشرك فيهم هو عبادة الأولياء والصالحين والأنبياء ونحوهم. وفي هذه الأحاديث يقول صلى الله عليه وسلم: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) ، وكذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) تقول عائشة: يحذر مما صنعوا. أي: يحذر فعلهم. تقول: ولولا ذلك لأبرز قبره، أي: لجعل بارزاً، ولكن خشي أن يتخذ مسجداً. وكذلك في مرض موته ذكرت له أم سلمة وأم حبيبة كنيسة رأتاها في أرض الحبشة يقال لها: (مارية) ، وفيها صور، فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله) يخاطب أم سلمة أو أم حبيبة، فإنهم جمعوا بين الفتنتين: فتنة التماثيل، وفتنة القبور، فإذا مات فيهم الرجل الصالح صوروا صورته وهو (التمثال) ، ثم بعد ذلك بنوا على قبره، وقد يكون البناء على قبره يتقدم الصورة، فهم يبنون على قبره ويصورون صورته، فجمعوا بين فتنتين: فتنة الصور وفتنة القبور، وكلاهما من الأسباب الداعية إلى الشرك، وهذا هو الذي حصل في هذه الأمة، والنبي عليه الصلاة والسلام في آخر حياته قبل أن يموت بخمس حذر من ذلك على المنبر فقال: (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) ثم لما كان في سياق الموت اهتم بهذا الأمر، وكانت عليه قطيفة كلما تسجى بها واغتم كشفها، فأخذ يقول وهو في تلك الحال: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) كأنه يشير إلى أنكم لا تتخذوا قبري مسجداً كما فعل أولئك. وقد بين العلماء أن معنى اتخاذها مساجد هو تحري تلك الأماكن للصلاة عندها، فمجرد قصدها لأجل الصلاة عندها اتخاذ لها ولو لم يكن هناك بناء، ولو لم يبنوا عليها بنياناً مثل هذا المسجد، بل ما دام أنه يقصد هذه البقعة التي يزعم أن فيها قبر ولي أو قبر نبي أو قبر سيد أو قبر رجل صالح، ويفضل الصلاة عندها ويجلس عندها، ويطيل الجلوس، ويتبرك بتربتها فقد اتخذها مسجداً شاء أم أبى ما دام أنه يتحراها للصلاة ويفضل الصلاة عندها على الصلاة في بيوت الله تعالى، فهو ممن اتخذها مسجدا، سواء أقيم عليها بناء أو لم يقم عليها. ولما كانت القبور مظنة الفتنة حرص عليه الصلاة والسلام على أن لا يكون هناك ما يدعو إلى ذلك، فثبت أنه نهى أن ترفع القبور، وأن يبنى عليها، وأن تجصص، وأن يكتب عليها، وأن تسرج -يعني: تنور-؛ لأن هذه الأشياء تدفع الجهال إلى الاعتقاد فيها، فإذا رأوا هذا القبر على هذه الحال قالوا: هذا قبر ولي. هذا قبر سيد. هذا ممن يتبرك به. هذا ممن يرجى تأثيره ونفعه. فيقصدونه ويغلون فيه فيحصل الشرك، فنبينا عليه الصلاة والسلام حسم مادة الشرك، ومنع من الوسائل التي توقع فيه، وقد بعث علياً رضي الله عنه بقوله: (لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) يعني: سويته بالقبور الأخرى. وأمره بطمس الصور؛ لأن الصور أصل في عبادة غير الله، وأمره بتسوية القبور، أي: بتخفيض القبر المشرف الذي قد رفع على ما سواه من القبور حتى يسوى بغيره من القبور مخافة أن يعتقد فيه، فهذا دليل على أنه عليه الصلاة والسلام قد حرص كل الحرص على أن تكون أمته متمسكة بتوحيد الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 من الشرك عبادة الكواكب قال رحمه الله: [ومن أسباب الشرك عبادة الكواكب، واتخاذ الأصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها، وشرك قوم إبراهيم عليه السلام كان -فيما يقال- من هذا الباب، وكذلك الشرك بالملائكة والجن واتخاذ الأصنام لهم] . عبادة الكواكب أو الأفلاك كالشمس والقمر من جملة ما وقع فيه بعض الأمم، ولأجل ذلك نهى الله تعالى عن ذلك، وأخبر بضلال من يفعله، وحكى الله تعالى عن ملكة سبأ وقومها بقوله عن الهدهد: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24] ، {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} [النمل:25] يعني: صدهم الشيطان عن سجودهم لله الذي خلقهم {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل:25] ، فهذا دليل على أن هناك أمماً عبدوا الشمس، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن المشركين يسجدون لها، ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها فقال: (إن الشمس تطلع بين قرني شيطان وحينئذٍ يسجد لها المشركون) وهناك من شركهم بعبادة الكواكب. وقيل: إن قوم إبراهيم شركهم بعبادة الكواكب، كانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل، وقد حكى الله عنهم أنهم يعبدون أصناماً، كقولهم: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71] ، وكانت أصنامهم من حجارة أو من خشب، ولأجل ذلك قال لهم إبراهيم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء:75-77] وقال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء:57] {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} [الأنبياء:58] وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] يعني: خلقكم وخلق ما عملتم بأيديكم. فهذا دليل على أنهم كانوا يعبدون أصناماً منحوتة، ولكن مع ذلك كانوا يعبدون الكواكب، وقد قيل: إن من أدلة ذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76] على وجه المناظرة، وكذلك قال للقمر: هذا ربي. وقال للشمس (هذا ربي هذا أكبر) قيل: إن من أدلة ذلك أيضاً قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88-89] ، مما يدل على أنهم كانوا ينظرون أيضاً في النجوم. فعبادة الكواكب لا شك أنها شرك، وذلك لأن هذه الكواكب مخلوقة مسيرة، والله هو الذي يسيرها، وهو الذي سخرها، كما في قوله تعالى: {وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54] . والحاصل أن من جملة المعبودات عبادة الكواكب وبناء الهياكل لها، وكل ذلك مما نفاه الإسلام وحث المسلمين على أن تكون عبادتهم لله وحده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 شبهة المشركين في عبادتهم لغير الله قال رحمه الله: [وهؤلاء كانوا مقرين بالصانع وأنه ليس للعالم صانعان، ولكن اتخذوا هؤلاء شفعاء كما أخبر عنهم تعالى بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] ، {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]] . قد تقدم أن المشركين الأولين يعترفون بأن الخالق واحد وهو الله تعالى، حكى الله ذلك عن مشركي العرب في عدة آيات، ومنها قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:84-89] أي: هذا لله وحده، {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:89] ، وهذا يبين أنهم يعترفون بهذا، وأنه صار حجة عليهم، فاعترافهم بتوحيد الربوبية حجة عليهم في التوحيد الذي جحدوه وهو توحيد الإلهية {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:89] أي: كيف تصرفون عن عبادته وأنتم تعرفون أنه الذي يجير ولا يجار عليه، وأنه الذي بيده ملكوت كل شيء؟ وهو رب السماوات السبع، وهو رب العرش العظيم، وهو الذي له الأرض وله السماوات وله المخلوقات، ومع ذلك تعبدون غيره! أين عقولكم؟ فسئلوا لماذا تعبدون هذه المعبودات؟ فأخبر الله تعالى عنهم بأنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] أي: نريد أن يقربونا إليه. وكذلك في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] أي: ما نريد إلا شفاعتهم. هذه مقالتهم، وهي بعينها مقالة عباد القبور وعباد الأولياء ونحوهم الذين يقولون: إنهم أناس ذوو فضل ومنزلة، والله يقبل منهم ولا يقبل منا، فإذا تقربنا إليهم أدخلونا على الله، وقبلت أعمالنا بسببهم. ويضربون لذلك مثلاً بملوك الدنيا، فيقولون: إن ملوك الدنيا لا يوصل إليهم إلا بالشفعاء، فإذا أردت حاجة عندهم فإنك تتوسل بأحد الوزراء أو أحد الكتاب أو أحد الخدم حتى يدخلك عليهم ويشفع لك عندهم. وهذا قياس فاسد؛ فإن الملوك بشر لا يعرفون ما في الضمير، ولا يعرفون الصادق من الكاذب، فيحتاجون إلى أن يقبلوا شفاعة من يعرفونه، والرب سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى من يعرفه، فإنه يعلم ما في الضمائر، ويعلم ما توسوس به النفوس، وهو عليم بذات الصدور، فلا حاجة إلى أن يشفع عنده أحد، وإن كان في الآخرة يأذن في الشفاعة لبعض عباده ويقبل شفاعتهم تكريماً لهم، ولكن بإذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الطحاوية [3] من رحمة الله عز وجل بخلقه أن أودع في فطرهم معرفته والإيمان بوجوده، فكل مخلوق يعرف أن له خالقاً بالفطرة، وهذه الحقيقة لم ينكرها إلا شواذ الخلق مع يقينهم بها في الباطن، ولذا أقيمت الحجة على الخلق بها حين دعوا إلى توحيد العبادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 توحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية من جملة ما حذر منه نبينا صلى الله عليه وسلم الشرك في العبادة، ومن أسبابه اتخاذ القبور مساجد، وهناك كثير من الأدلة في نهيه عليه الصلاة السلام عن الشرك، وذمه للذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، وبيان ما آل إليه أمرهم بعد ذلك، وسيمر بنا -أيضاً- ما يحقق التوحيد، وأن توحيد الربوبية ينتج منه توحيد الإلهية. قال الشارح رحمه الله: [وكذلك كان حال الأمم السالفة المشركين الذين كذبوا الرسل، كما حكى الله تعالى عنهم في قصة صالح عليه السلام عن التسعة الرهط الذين (تقاسموا بالله) أي: تحالفوا بالله (لنبيتنه وأهله) ، فهؤلاء المفسدون المشركون تحالفوا بالله على قتل نبيهم وأهله، وهذا بين أنهم كانوا مؤمنين بالله إيمان المشركين. فعُلِم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الإلهية الذي يتضمن توحيد الربوبية، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:32-36] . وقال تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ولا يقال: إن معناه: يولد ساذجاً لا يعرف توحيداً ولا شركاً. كما قال بعضهم لما تلونا، ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) الحديث، وفي الحديث المتقدم ما يدل على ذلك حيث قال: (يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ولم يقل: ويسلمانه وفي رواية: (يولد على الملة) ، وفي أخرى: (على هذه الملة) ] . قصة قوم صالح تدل على أنهم ولو كذبوا صالحاً فإنهم كانوا يعرفون الله ويعترفون بالربوبية، ولهذا تقاسموا بالله وهم كفار مكذبون للنبي، ومع ذلك يتقاسمون بالله، وما تقاسموا بغير الله، فيعرف من هذا أن الكفار المشركين الذين كذبوا الرسل كانوا يعرفون أن الله هو ربهم، وأن الله هو الخالق. وهكذا الذين كذبوا نبينا صلى الله عليه وسلم كانوا معترفين بأن الله هو ربهم، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] ، ونحو ذلك من الآيات، فماذا جحدوا إذا كانوا يقرون بأن الله هو الخالق الرازق؟ جحدوا توحيد العبادة وهو حق الله، إنما عرفوا الله رباً ولكن ما عبدوه وحده، وما عظموه حق تعظيمه، بل أشركوا به وجعلوا معه آلهة أخرى، فكانوا بذلك مشركين، وكذلك كذبوا رسله الذين دعوهم إلى عبادته. وقوم نوح كانوا يعرفون ربهم، ولكن احتقروا نوحاً وكذبوه، وهكذا قوم هود وقوم صالح وقوم إبراهيم إلى آخر الأمم، وهم مشركو العرب، فقد كذبوا نبينا عليه الصلاة والسلام أول الأمر وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 معرفة الخالق سبحانه معرفة فطرية معرفة الله عز وجل معرفة فطرية فطر الخلق عليها، ودين الإسلام الذي اختاره الله ديناً له وأرسل به الرسل دين فطري، بمعنى أن القلوب مفطورة على استحسانه، وعلى أنه الدين الصحيح، ولو فكر كل عاقل في هذا الدين لعرف أنه أصح الأديان، وأن من دان بغيره فهو خاسر {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] ، وفي الآية الكريمة في سورة الروم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] يعني: فطرهم على معرفته وعلى استحقاقه لأن يعبد، ولكن أفسدت عليهم الشياطين تلك الفطرة، وأفسدتها عليهم البيئات والمجتمعات، وأفسدها عليهم الآباء والأجداد والأمهات والجدات، وأفسدها عليهم المربون والمعلمون والمنشئون، ولو تركوا وما تميل إليه فطرتهم لمالوا إلى الإسلام، ولعرفوا أنه الدين الحق، وإن كان لا بد من تنبيههم على تفاصيله، وهذا ما دل عليه الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة) يعني: على معرفة أنه مخلوق وأن له خالقاً، وأن الخالق هو الذي يستحق أن يعبد. وفي الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) (حنفاء) يعني: مستقيمين على الدين. ولكن سلطت عليهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وأخرجتهم عن الحنيفية، وحرمت عليهم الحلال وأحلت لهم الحرام، وأوقعتهم في الشرك والضلال. ومعلوم أن الإنسان بفطرته يفضل الدين الصحيح، وأن أصح الأديان هو هذا الدين، ولكن كثرة المنحرفين وكثرة النصارى وكثرة اليهود وكثرة المشركين وكثرة المبتدعين إنما هي بسبب الدعايات التي تصد عن الإسلام، ومعلوم أن الله سبحانه أوضح الحق، وأرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، ولكن هناك أعداء للحق، وهؤلاء الأعداء يحرصون على أن يميلوا بالناس إلى ما هم عليه، فالمشركون يحبون أن يكثر أمثالهم، وكذلك المبتدعون، كل أهل بدعة يحبون أن الناس يكونون معهم على بدعتهم، والأصل الذي يدفعهم إلى ذلك هو الشيطان، فالشيطان لما كان عدو الإنسان زين له البدع، وزين له الشرك، وزين له الكفر، ثم أمره بأن يدعو الناس إلى ما ينتحله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 الأدلة العقلية على معرفة الخالق قال رحمه الله: [وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه، منها: أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقاً، وتارة ما يكون باطلاً، وهو حساس متحرك بالإرادات، ولا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما، ونعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع، وأن يكذب ويتضرر مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع والإيمان به هو الحق أو نقيضه، والثاني فاسد قطعاً، فتعين الأول، فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به، وبعد ذلك إما أن يكون في فطرته محبته -وهو أنفع للعبد أولا-، والثاني فاسد قطعا، فوجب أن يكون في فطرته محبة ما ينفعه] . هذه أدلة على أن معرفة الخالق سبحانه معرفة فطرية يدركها الإنسان بفطرته، وهذا تقرير من تقارير المتكلمين ولكنه واضح، يقول: إن الإنسان لا بد أن يخطر بقلبه خواطر، وهذه الخواطر وهذه الإرادات قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة، ولا شك أنه متى فسر تلك الخواطر عرف ما يضره وما ينفعه، فمن ذلك أن يفكر في نفسه وفي الوجود الذي حوله، فيعترف حينئذٍ أنه مخلوق، وأن الوجود الذي حوله مخلوق، ويعترف بعد ذلك أن هذا المخلوق لا بد له من خالق متصرف، وأن التصرف للخالق وحده، ثم إذا اعترف بذلك انتفع بهذا الاعتراف، فكل عاقل يقول: إنه إذا خطر في قلبه هذه الخواطر فلا بد أن يفكر في نهايتها، فينظر هل هي حق أو باطل، وإذا كانت حقاً فإنه يؤثرها ولا يترك عليها ما يضادها، فكل عاقل يؤثر ما ينفعه ويترك ما يضره، فلو قيل لك مثلاً: اعترف بالبعث والجزاء في الآخرة ونحن نثيبك ونرفع منزلتك ونعطيك ونمكنك. أو: أظهر الإنكار ونحن نحبسك ونضربك ونؤدبك ونحرمك فالعقل يقول: لماذا لا أعترف، وأنا أعرف ما في الاعتراف؟ ومما يدعوه إلى الاعتراف: أولاً: أن البعث عليه أدلة. ثانياً: فيه منفعة. ثالثاً: التكذيب فيه مضرة. فكل عاقل يؤثر أن يعترف بالحق حتى يحصل له الانتفاع. قال رحمه الله: [ومنها: أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسه، وحينئذ لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إلى سبب معين للفطرة كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك] . وهذا أيضاً دليل عقلي، فمعلوم أن الله تعالى فطر العباد على معرفته {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] ، ولكن هذه الفطرة قد لا تكفي لتفاصيل الحقوق، فالإنسان مثلاً لو نشأ في بادية ولم يسمع بالدين ولم يعرف شيئاً عنه فإنه يعرف أنه مخلوق، وأن هذا الكون مدبر مسخر، لكن يخفى عليه أشياء من تفاصيل العبادة، فيقول -مثلاً-: أنا مخلوق ولي خالق، وخالقي له حقوق علي، ولكن ما هي؟ وكيف أؤدي هذه الحقوق؟ وما الذي يحبه حتى أفعله؟ وما الذي يكرهه حتى أتركه؟ وهذا يرجع فيه إلى ما جاءت به الرسل، فالرسل هم الذين بينوا للناس حقوق الله على العباد فأمروهم أن يفعلوها وما حرمه فأمروهم أن يتركوه، فهذا يُتلقى من الرسل، وإلا فالإنسان لو ترك وفطرته دون أن تغير لمال إلى الحق ولآثره، ولكن تفاصيل الحق تؤخذ عن الرسل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 حسن التصور ومعرفة فائدة أمر ما دافع إلى الإقدام عليه قال الشارح رحمه الله: [ومنها: أن يقال: من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك، وإلا فلو علم الجهال والبهائم وحضِّضا لم يقبلا، ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج، وتكون الذات كافية في ذلك، فإذا كان المقتضي قائماً في النفس وقدر عدم المعارض فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها ما يفسدها كانت مقرة بالصانع عابدة له] . صحيح أن مجرد التحريض لا يدفع الإنسان، فلو كان لك ولد وأنت تحرضه وتقول: يا ولدي! تعلم يا ولدي! اطلب العلم. يا ولدي! احفظ القرآن. وهو مع ذلك ليس له رغبة، بل نفسه مائلة عن هذا التعلم، فلو ضربته ولو أدبته ولو نصحته ولو علمته ما قبل إلا إذا أقبلت نفسه هوي ذلك وعرف فيه فائدة ومنفعة، وهذه المعرفة تتكون من التصور، وذلك لأن الإنسان له عقل، وعقله يهديه إلى تصور الأمر، فيتصور الشاب -مثلاً- أن الجهل مقت، فيقول: لماذا أبقى على الجهل وهو نقص ويتصور أن العلم شرف فيدفعه هذا التصور إلى التعلم، أما مجرد الضرب والترغيب والترهيب والتخويف ونحو ذلك إذا لم يكن هناك تصور وإقبال من النفس فإنه لا يفيد كما هو مشاهد. فالذي يريد الخير لابد أن يعرف فوائده من قبل؛ حتى تدفعه تلك المعرفة إلى طلبه، فالعبد إذا عرف -مثلاً- أنه مخلوق، وعرف أن المخلوق عليه حقوق، وعرف أن أداء تلك الحقوق سبب للسعادة، فإنه سيحرص على أداء تلك الحقوق حتى تحصل له السعادة والحياة الطيبة في الدنيا، والجنة في الآخرة. ولكن من أين يأخذ معرفة تلك الحقوق التي عليه؟ يأخذها من الشريعة، فيقول: الحقوق التي علي هي عبادة الله، دعاؤه وخوفه ورجاؤه والرغبة إليه وخشيته والخشوع له وترك التعلق بغيره وترك عبادة غيره بأي نوع من العبادة وطاعته وترك معصيته، وما أشبه ذلك. فالعاقل عليه أن يعلم أولاً الفائدة، أي: إذا أردت أن ترغّب ولدك في أمر فإن عليك أن تعلمه بفائدته حتى يقبل إليه، فأنت -مثلاً- إذا أخذت تعلمه حرفة من الحرف أو صنعة يتكسب بها كبناء وغراسة أو تجارة أو أي صنعة من الصنائع، فلابد أنك سوف تخبره بفوائدها، وستقول له: تعلم هذه الحرفة فإنها صنعة مفيدة، يحتاج إليها الناس، وتكتسب كذا وكذا، فإذا اقتنع اندفع وطلبها، فكذلك إذا قلت: أنت محتاج إلى العلم، والعلم فائدته كذا وكذا، واقتنع فإنه يندفع إلى العلم، وهكذا إذا قلت للإنسان: أنت محتاج إلى ربك، حتى يثيبك ويعطيك، وربك غني عنك، وحق الله عليك أن تعبده، وعبادته كذا وكذا. فإذا صدق واقتنع فإنه يندفع للعبادة. فإذاً ننصح كل إنسان أراد إقناع آخر أن يخبره بفائدة ذلك الأمر الذي يدفعه إليه حتى يرغب فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 ميل النفس إلى الصلاح بفطرتها عند انعدام العوامل الخارجية من مصلحات ومفسدات قال الشارح رحمه الله: [ومنها: أن يقال: إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج كانت الفطرة مقتضية للصلاح؛ لأن المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم والمانع منتف] . هذا قد يتصور في إنسان نشأ وحده في برية أو في بلدة أو بين أناس لا يعرف كلامهم ولا يعرفون كلامه، فينشأ وليس هناك أحد يعلمه الخير ولا أحد يعلمه الشر، لكن معه الفطرة، وهي أن الله فطره على الإسلام، فلابد من أن يكون معه دافع يدفعه إلى أن يعرف الكون، ويعرف ماذا يراد بهذا الكون، فإذا قدر أنه ليس هناك مفسد ولا مصلح فإن الفطرة ميالة إلى طلب المصلح، فيندفع إلى طلب الخير. أما إذا ولد المولود ونشأ في بلدة أهلها يعرفون الخير ولقنوه إياه، وقالوا: عبادة الله هي الأصلح، وأنت مخلوق لها -كما قال تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فإنه يعرف ذلك، ثم يتلقى العبادة. وكذلك لو ولد بين أناس مشركين، وقالوا له: التعلق بهؤلاء الصالحين ينفع، وهؤلاء مقربون عند الله، ونحن ندعوهم حتى يكونوا شفعاءنا عند الله، ونحو ذلك، فصدقهم وفعل كفعلهم وذلك لأنه ساذج لا يدري إلا بما علموه. كذلك إذا ولد ونشأ بين نصارى يقولون: المسيح هو الله أو ابن الله صدقهم واندفع إلى ما يقولونه، وهكذا، بخلاف ما إذا ولد ليس عنده من يعلمه لا بدعة ولا سنة، ولا إسلام ولا كفر، فإنه يبقى متحيراً ولكن فطرته تدفعه إلى معرفة الإسلام أو محبته وتفضيله على غيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 استخدام الأدلة العقلية للرد على من ينكرون وجود الخالق قال رحمه الله: [ويحكى عن أبي حنيفة رحمه الله أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية، فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها فترسي بنفسها، وتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد!! فقالوا: هذا محال، لا يمكن أبداً! فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟! وتحكى هذه الحكاية أيضاً عن غير أبي حنيفة] . هؤلاء قوم من الملاحدة عندهم شك في توحيد الربوبية وفي وجود الخالق سبحانه، فجاؤوا إلى أبي حنيفة العالم المشهور وأرادوا أن يمتحنوه، ولكنه امتحنهم قبل ذلك بهذا السؤال، ولا شك أنه شيء محسوس واقع، يقول: ما يصدق العاقل أن هناك سفينة تمشي بنفسها تحمّل نفسها من الذخائر وترسي في البلد المعين لا تخطئه، وتنزل حمولتها من نفسها، وترجع من حيث جاءت! فالسفينة خشبة وجماد ليس لها عقل ولا إدراك، فكيف يتصور أنها تسلك الطريق، وأنها ترسو في المكان المعد لها، وأنها تمتد إلى الأثاث والمتاع والأطعمة وتحملها، وأنها ترسي وتنزل المتاع عن ظهرها؟! لا يمكن تصور هذا. ومثلها أيضاً المراكب الجديدة كالسيارة -مثلاً-؛ فإنها لا تتحرك بنفسها، ولو قيل لك: إن هناك سيارة أو طائرة أو باخرة تتحرك بنفسها، وإنها تذهب إلى البلد الذي تريده ولا تخطئ طريقها، وإنها إذا وقفت في الأسواق حملت نفسها من الأرزاق ومن الأكسية والأمتعة ونحوها وجاءت إلى البلد المحتاج ونزلت من نفسها!! فهل يصدق بهذا عاقل؟ هذا محال. يقول: إذا كان هذا محالاً فإننا نشاهد هذا الكون مدبراً أتم تدبير، فهل يصدق عاقل أنه وجد بالصدفة من غير موجد؟ هذه الكواكب التي تطلع وتغرب في سير منتظم، لا يتقدم هذا عن وقته، ولا هذا عن وقته، وهذه الشمس وهذا القمر اللذان سيرهما في الشتاء له حد، وفي الصيف له حد، وهذه الرياح التي تثور أحياناً وتسكن أحياناً، وهذه البحار، وهذه الأنهار، وهذه الأشجار، وهذه المخلوقات المنبثة في البر وفي البحر، والحيوانات والجماد، هل يعقل أنها وجدت بالصدفة؟! لا يمكن، فإذا كان هذا لا يمكن فلابد لها من موجد، وكما أن السيارة لابد لها من محرك، فكذلك هذه الموجودات لابد لها من مسير وهو الخالق وحده الذي يقول: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:15-16] ، {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:22] ، هو الذي سخر ذلك، وهذه حجة عقلية تدمغ كل منكر وكل ملحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 الإقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي صاحبه إذا لم يحقق توحيد العبادة قال رحمه الله: [فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين، كما ذكره صاحب (منازل السائرين) وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه، كان مشركاً من جنس أمثاله من المشركين] . توحيد الربوبية هو الغاية عند أهل الكلام، وهو الذي يفنى فيه المتصوفون، أي: يجعلون أكبر مقصد وأكبر مطلب عندهم هو الاعتراف بأن الله موجود وبأنه خالق ورازق، وبأنه مدبر، هذا هو الغاية عندهم، ولكن ليس هو الغاية عند أهل الحق، بل الغاية والمطلب هو توحيد العبادة، الذي هو عبادة الله والقيام بحقه. فالمتصوفة يفنون في توحيد الربوبية، ومعنى كونهم يفنون فيه: أنهم يبالغون في تعلمه إلى أن يأتي عليهم شيء يسمونه الفناء، وهذا هو الغاية عندهم. والمتكلمون أيضاً كذلك، يجعلونه هو الغاية، حتى إنهم يقولون: معنى (لا إله إلا الله) : لا خالق إلا الله. وهذا ليس بصحيح؛ فإن المشركين يعرفون أنه لا خالق إلا الله، ولكن لم ينفعهم حين عبدوا غيره معه، فلابد أن يكون الاعتراف بأنه لا إله يعني: (لا معبود بحق إلا الله) ، وهذا هو توحيد العبادة الذي يعتبر الغاية عند أهل الحق. والمتكلمون يراد بهم أهل الكلام من المعتزلة ونحوهم، والمتصوفون يراد بهم الصوفية، والصوفية هم أهل العبادات السرية، فهم يبالغون في العبادات القلبية، ولكنهم يقعون في البدع، ومن جملة بدعهم أنهم ينعزلون عن المسلمين وعن العبادات ونحو ذلك، وأن أحدهم يبقى معتزلاً مدة طويلة حتى يحصل له حضور قلبه ومشاهداته، فيترك لذلك شهود الصلوات، ويقول: إني إذا ذهبت أصلي تفرق علي قلبي، فأنا الآن أفكر وأجمع همومي، وإذا قمت تفرقت هذه الهموم التي جمعتها. والصوفية موجودون بكثرة في كثير من البلاد، ولهم تمكن، وقد انخدع بهم خلق كثير، ومع ذلك فإن متقدميهم في القرن الثالث كانوا على علم وعلى عبادة إلا أنهم زهاد، وأما المحدثون فإنهم وقعوا في عقائد سيئة وبدع عملية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 الآيات المقررة لتوحيد الربوبية يقصد منها تقرير توحيد الألوهية قال رحمه الله: [والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه، وضرب الأمثال له، ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية، ويبين أنه لا خالق إلا الله، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد إلا الله، فيجعل الأول دليلاً على الثاني؛ إذ كانوا يسلمون في الأول وينازعون في الثاني، فيبين لهم سبحانه أنكم إذا كنتم تعلمون أنه لا خالق إلا الله وحده، وأنه هو الذي يأتي العباد بما ينفعهم ويدفع عنهم ما يضرهم لا شريك له في ذلك فلم تعبدون غيره وتجعلون معه آلهة أخرى؟ كقوله تعالى: {قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:59-60] يقول الله تعالى في آخر كل آية: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي: أإله مع الله فعل هذا؟ وهذا استفهام إنكار يتضمن نفي ذلك، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله، فاحتج عليهم بذلك، وليس المعنى أنه استفهام: هل مع الله إله؟ كما ظنه بعضهم؛ لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام، والقوم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى، كما قال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ} [الأنعام:19] ، وكانوا يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] ، لكنهم ما كانوا يقولون: إن معه إلها {جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} [النمل:61] ، بل هم مقرون بأن الله وحده فعل هذا، وهكذا سائر الآيات، وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] ، وكذلك قوله في سورة الأنعام: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام:46] ، وأمثال ذلك] . تقرير توحيد الربوبية في القرآن كثير، والقصد منه الإلزام لتوحيد الإلهية، فإن آية البقرة -وهي قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} [البقرة:21]- ذكر الله بها تقرير توحيد الربوبية بستة أدلة، وهي قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} [البقرة:22] خَلْقهم، وخَلْق آبائهم، وخَلْق الأرض، وخَلْق السماء، وإنزال المطر، وإنبات النبات، يقول: اعبدوا الله الذي فعل هذه الأشياء، فأنتم تعترفون بأنه الذي خلقكم، وأنه الذي خلق من قبلكم؛ لأنه خالق السماوات والأرض وأنه مرسل السحاب ومنزل المطر ومنبت النبات، فلماذا تعبدون غيره؟ فيحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على التوحيد الثاني، فما دام أنهم يقرون بتوحيد الربوبية فيلزمهم توحيد العبادة، وكذلك الآيات الأخرى في سورة النمل، قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60] ، {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} [النمل:61] ، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62] ، {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل:63] ، {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [النمل:64] فيقول: بعد كل آية: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:64] يعني: هل هناك أحد شارك الله في هذه الأشياء؟ فإذا كنتم تقرون بأن الله هو الذي أنشأها وحده فلماذا تعبدون غيره؟ لماذا تصرفون العبادة لغيره؟ ومعنى قوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} يعني: هل هناك أحد شريك لله في خلق هذه المخلوقات وهذه التصرفات؟ إذا كنتم تقرون بأنه ليس له شريك فلماذا جعلتم معه آلهة تعبدونها؟ فهم جعلوا معبودات وسموها آلهة وصرفوا لها العبادة، ولما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليقولوا: (لا إله إلا الله) ؛ أنكروا ذلك، وقد جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (أريد منكم كلمة تدين لكم بها العرب، وتؤدي لكم الجزية العجم، قولوا: لا إله إلا الله) ، فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص:5] ، وقالوا: {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص:6] والإله عندهم هو المألوه المعبود، أي: تألهه القلوب. فيحتج الله عليهم بالشيء الذي يعرفونه على الذي ينكرونه، إذ الذي ينكرونه هو العبادة، فيقولون: إن العبادة ليست لله وحده. بل يجعلونها لغيره أو له ولغيره، وأما الخلق والتدبير فإنه لله وحده، يقول تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31] ، فإذا كانوا يعترفون بهذا فإنه حجة عليهم في أن التوحيد المطلوب لا يستحقه إلا الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 وضوح الأدلة على توحيد الألوهية ناشئ عن شدة حاجة الناس إليه قال رحمه الله: [وإذا كان توحيد الربوبية الذي يجعله هؤلاء النظار ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد، داخلاً في التوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، فليعلم أن دلائله متعددة، كدلائل إثبات الصانع، ودلائل صدق الرسول؛ فإن العلم كلما كان الناس إليه أحوج؛ كانت أدلته أظهر رحمة من الله بخلقه] . يقول: توحيد الإلهية هو المطلوب، وتقدم أن كل رسول يبدأ دعوته بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] ؛ لأنه توحيد عملي وأفعال مشاهدة، وأما توحيد الربوبية فالغالب أنه اعتقادي وقد يكون خفياً، فإذا كانت الدعوة إلى التوحيد العملي فلابد أن الأدلة عليه واضحة. يقول: إن كل شيء حاجة الناس إليه شديدة، فالأدلة عليه واضحة، والأدلة على توحيد الإلهية هي أوضح الأدلة، وهي الأدلة الكونية، فالذي كوّن هذا الكون هو الذي يكُون أهلاً للعبادة، يقول ابن كثير لما فسر قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} [البقرة:22] يقول: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة، فالأدلة على توحيد العبادة واضحة وظاهرة، يعني أن توحيد الربوبية أقوى دليل وأقوى حجة على وجوب عبادة الله وحده، وظهورها من نواح: أولاً: أنه الخالق المالك المتصرف، فيكون هو المستحق للعبادة. ثانياً: أنه المنعم، ونعم الله على عباده لا تنقطع، فيستحق أن يعبد وحده. ثالثاً: أنه يثيب على هذه العبادة أعظم ثواب، ويعاقب على تركها أعظم عقاب، فيستحق العبادة لهذه الأمور، فالعاقل لا يخفى عليه هذا الدليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 طريقة القرآن في ضرب الأمثلة واضحة الدلالة على توحيد الألوهية قال رحمه الله: [والقرآن قد ضرب الله للناس فيه من كل مثل، وهي المقاييس العقلية المفيدة للمطالب الدينية، لكن القرآن يبين الحق في الحكم والدليل {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} [يونس:32] ، وما كان من المقدمات معلومة ضرورية متفقاً عليها استدل بها ولم يحتج إلى الاستدلال عليها. والطريقة الصحيحة في البيان أن تحذف، وهي طريقة القرآن، بخلاف ما يدعيه الجهال الذين يظنون أن القرآن ليس فيه طريقة برهانية، بخلاف ما قد يشتبه ويقع فيه نزاع فإنه يبينه ويدل عليه] . طريقة القرآن ضرب الأمثلة، وكثيراً ما تأتي الأمثلة على معبودات المشركين، كقوله تعالى: {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73] إلى آخرها، وقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} [الزمر:29] هذا أيضاً مثل لمن يعبد إلهاً واحداً ومن يعبد آلهة متفرقين، ومثل ذلك قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم:28] يقول: هل ترضى أن يكون مملوكك شريكاً لك في مالك وشريكاً لك في أهلك؟ إذا كنت لا ترضى فهذه الآلهة مملوكة لله، فكيف تكون شريكة له في العبادة؟! فالقرآن ضرب الأمثلة لأجل إقناع من يستمع ذلك، وطريقته هي إيضاح الحجج بهذه الأمثلة، بحيث يحذف المقدمات التي لا حاجة إليها اختصاراً ويقتصر على الشيء المهم، وبالجملة فكل من تأمل الأدلة اتضح له أن توحيد الإلهية أدلته واضحة الدلالة، فعليه أن يقتنع به ويقنع الخصم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 امتناع شرك الربوبية عند عموم الخلق إلا من شذ منهم قال رحمه الله: [ولما كان الشرك في الربوبية معلوم الامتناع عند الناس كلهم باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثم خالقاً خلق بعض العالم، كما يقوله الثنوية في الظلمة، وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان، وكما يقوله الفلاسفه الدهرية في حركة الأفلاك أو حركات النفوس أو الأجسام الطبيعية، فإن هؤلاء يثبتون أموراً محدثة بدون إحداث الله إياها، فهم مشركون في بعض الربوبية، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئاً من نفع أو ضر بدون أن يخلق الله ذلك] . يقول: إن الشرك في توحيد الربوبية قليل وجوده في الخلق، إلا أن هناك من يشرك شركاً جزئياً، مثل المجوس الذين أشركوا في توحيد الربوبية وجعلوا الخلق من اثنين من النور والظلمة، واعتبروا أن النور خلق الخير والظلمة خلقت الشر، ولم يجعلوهما سواء، بل النور خير والظلمة شريرة، وهم لا يعظمون إلا واحداً، ولهذا فهم يعبدون النار، ومثل بعض المعتزلة الذين يجعلون بعض المخلوقات من إيجاد الحيوانات، ويقولون في الأفعال: إن الإنسان يخلق أفعاله بدون قدرة الله؛ والمجوس يجعلون الوجود عن خالقين، والمعتزلة يجعلونه عن عدد، ولذلك سمي المعتزلة: مجوس هذه الأمة، ولو زعموا أنهم ينزهون الله تعالى عن الظلم؛ لأن عملهم نوع شرك في الربوبية، وإن كانوا لا يعبدون إلا الله، ولكن كونهم يسندون بعض الأفعال إلى غير الله ويقولون: إن الإنسان يخلق فعله، صدق أنهم مشركون نوع شرك في الربوبية. وعلى كل حال: فالأصل أن الأمم كلهم يعترفون بتوحيد الربوبية، إلا من شذ، كفرعون الذي كان ينكر ذلك ولكنه كان في باطن الأمر يعترف بأنه مخلوق وأن له خالق، ويوجد في هذه الأزمنة من يسمون بالشيوعيين، وقديماً كانوا يسمون بالدهريين، وهم في الحقيقة معاندون مكابرون، وإلا فلو أعملوا تفكيرهم، ولو حكموا أذهانهم لما بقوا على هذه العقيدة السيئة، ولكن مع المكابرة قلدوا من يقول بها ومن يذهب إليها، فالأصل أن جميع طبقات العالم المكلفين يعترفون بأن للعالم خالقاً، حتى الفلاسفة وإن كانوا ينقسمون إلى دهريين وإلهيين؛ جلهم على الاعتراف بالخالق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 شرح العقيدة الطحاوية [4] توحيد الله تعالى في ربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته هو أقل ما يلزم العبد وأول ما يجب عليه أن يحققه، وبغير ذلك لا يقبل الله تعالى منه صرفاً ولا عدلاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 الشرك في توحيد الربوبية شرك جزئي موضوعنا حول مقدمة الكتاب في تقرير التوحيد، ومعرفة وحدانية الله سبحانه وتعالى، وسبب تسمية هذا العلم بالتوحيد، وأهمية هذا النوع من العلم، والتوحيد الذي دعت إليه الرسل، والتوحيد الذي أقر به المشركون، والتوحيد الذي يقرره أهل الكلام والمتصوفة ويدورون حوله. ولا شك أن معرفة هذه الأنواع تكسب الإنسان رسوخاً في الإيمان؛ فإن من عرف هذه الأنواع امتلأ قلبه بالإيمان، ومتى امتلأ القلب بالإيمان وباليقين انبعثت الجوارح بالأعمال الصالحة وتورع المؤمن عن السيئات، هذه فائدة معرفة هذه العقيدة، أنها إذا رسخت في القلب صارت سبباً لاستكثار المؤمن صحيح العقيدة من الأعمال الصالحة وبعده عن السيئات، فاستحق بذلك ثواب الله. قال الشارح رحمه الله تعالى: [فلما كان الشرك في الربوبية معلوم الامتناع عند الناس كلهم باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثم خالقاً خلق بعض العالم كما يقوله الثنوية في الظلمة وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان، وكما يقوله الفلاسفه الدهرية في حركة الأفلاك أو حركات النفوس أو الأجسام الطبيعية، فإن هؤلاء يثبتون أموراً محدثة بدون إحداث الله إياها، فهم مشركون في بعض الربوبية، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئاً من نفع أو ضر بدون أن يخلق الله ذلك] . معنى هذا أن جميع الخلق يعترفون بتوحيد الربوبية، إلا بعض الأفراد أو بعض الطوائف، والذين ينكرونه إنما ذلك في الظاهر عناداً، كفرعون حيث قال: (أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، فهو في الباطن معترف بصدق موسى، كما في قوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الإسراء:102] أما بقية الأمم فإنهم يعترفون بأن للوجود خالقاً، وهذا هو توحيد الربوبية، وأن هذا الكون مفتقر إلى من أوجده، وهذا هو توحيد الربوبية، وأن الموجد واحد، لكن هناك أنواع من الشرك في الربوبية جزئيات. شرك المجوس الذين جعلوا الوجود صادراً عن اثنين، فجعلوا الخير من خلْق النور، وجعلوا الشرور من خلق الظلمة، أي: أنهم جعلوا خالقين: النور والظلمة، فهذا نوع من شركهم، ومع ذلك ما جعلوهما سواء، بل النور عندهم خير، والظلمة شريرة، وهذا شرك في الربوبية. وهناك شرك آخر عند المعتزلة وإن لم يكن صريحاً، وهو أنهم يزعمون أن العباد يخلقون أفعالهم، وأن الله لا يقدر على خلق أفعال العباد، ولأجل هذا يسمون (مجوس هذه الأمة) ، وهذا شرك منهم وإن كانوا يدعون أنه من باب تنزيه الله تعالى -في زعمهم- عن أن يخلق المعصية ويعاقب عليها، ولعله يأتينا إن شاء الله الرد عليهم في موضعه. وهناك بعض من المشركين من الفلاسفة ومن المتصوفة ونحوهم يشركون في أنواع من الربوبية، وأقوالهم في ذلك غريبة لا ينبغي أن يلتفت إليها. والحاصل أن جميع خلق الله -إلا النادر الشاذ- يعترفون بأن الخالق واحد وهو الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 انتظام العالم وإحكام خلقه دليل على وحدانية خالقه قال رحمه الله: [فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجودا في الناس بيَّن القرآن بطلانه، كما في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91] ، فتأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز الظاهر، فإن الإله الحق لابد أن يكون خالقاً فاعلاً يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه، فلابد من أحد ثلاثة أمور: أما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه. وإما أن يعلو بعضهم على بعض. وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحده هو الإله وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه. وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره من أدل دليل على أن مدبره إله واحد وملك واحد ورب واحد لا إله للخلق غيره، ولا رب لهم سواه، كما قد دل دليل التمانع على أن خالق العالم واحد لا رب غيره ولا إله سواه، فذلك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة والإلهية، فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان] . حين نتأمل الآيات التي جاءت في التدليل على توحيد الربوبية فإننا نجدها كثيرة، يقرر الله تعالى توحيد الربوبية، وذلك بذكر خلقه للمخلوقات، كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] ، وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} [الشورى:29] ، وكقوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان:10] إلى قوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] تقرير هذه الآيات للتوحيد يتبين منه أن هذا يراد به نتيجته، وهي أن من عرف أن الله تعالى واحداً في ربوبيته لم يعبد معه غيره، وقد ذكرنا أن ابن كثير قال عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] قال: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة. فمن ذلك قوله تعالى في سورة المؤمنون: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] فالله تعالى ما اتخذ من ولد؛ إذ لو كان له ولد - تعالى عن ذلك- لكان الولد يشارك أو يشابه أباه، والله منزه عن ذلك، (وما كان معه من إله) فلو كان معه إله لزاحمه في الخلق، وفي التدبير، وفي التصرف، وفي الملكية، وهذا معنى قوله: (إذاً لذهب كل إله بما خلق) . ومن المشاهد أن ملوك الدنيا يتنافسون، وكل منهم يحب أن يكون هو الأقوى وهو المسيطر، وقرأنا عن بعضهم أنه لما قتل قريباً له بسبب الملك قال: إن هذا من أحب الناس إلي ولكن الملك عقيم. يعني: لا أريد من يزاحمني في الملك. فإذا كان هذا في حق ملك من ملوك الدنيا فبطريق الأولى أن يقال: إن الله تعالى لا شريك له، فلو كان له شريك في الخلق والملك لزاحمه ولظهرت آثار هذه المزاحمة، وهو معنى قوله: (إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) يعني: لو كان معه آلهة لكان كل إله ينفصل عن الآخر بخلقه ويعتزل، ويحاول أن يكون له السيطرة، وأن يكون له العلو على الآخر، وأن يكون هو المتمكن. وإذا نظرنا فيما حولنا فإذا الأمر منتظم، وإذا هذا الخلق وهذا العالم يسير على هيئة وحالة واحدة لا يختل، ولا يقع فيه تغير، وهذا أكبر دليل على أن الذي خلقه ليس له شريك، وأنه ليس له مزاحم وليس معه إله آخر، وإلا لذهب كل خالق أو كل إله بخلقه وانفصل كما يحصل من ملوك الدنيا، فإن ملوك الدنيا -كما هو مشاهد- كل منهم ينفصل في مملكته -مع أنها ملكية مؤقتة- وكل يدبر مملكته خاصة، بل كل يحاول التغلب على الآخر، وهذا ونحوه دليل على أن الخالق واحد. وتسمى هذه الآية دليل تمانع، ودلالة التمانع يقول بها المتكلمون، فيستدلون على أن الخالق واحد بدلالة التمانع، فقالوا: لو كان للعالم خالقان متساويان فأراد أحدهما تحريك الجسم وأراد الآخر تسكينه، أو أراد أحدهما إحياءه وأراد الآخر إماتته فإما أن يحصل مراد واحد دون واحد، فيكون أحدهما قادراً والآخر عاجزاً، وإما أن يحصل مرادهما جميعاً وهو محال، وإما أن لا يحصل مراد واحد منهما أيضاً وهو محال، فإذا حصل مراد واحد منهما فهو القاهر الغالب، والذي لم يحصل مراده عاجز لا يصلح أن يكون إلهاً ولا خالقاً، وكذلك ما جاء في الآية، فلو كان معه إله لاستقل كل إله بما خلق (ولعلا بعضهم على بعض) ، فلما لم يحصل ذلك دل على أن الخالق واحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 إثبات توحيد الربوبية يلزم منه إثبات توحيد الألوهية قال رحمه الله: [فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه، فكذا تبطل إلهية اثنين، فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية] . يقول: إذا عرفنا توحيد الربوبية فإنه يلزم منه توحيد الإلهية، وقد ذكرنا أن بعض المشايخ يقولون في تقريرهم: اعرفوا الله بأفعاله ووحدوه بأفعالكم. وأفعال الله هي خلقه وتدبيره، فإنها هي الدلالة على معرفته، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك فقل: بآياته ومخلوقاته. فتعرف الله بأفعاله، (ووحدوه بأفعالكم) يعني: خصوه بعبادات، فهذه الآية: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91] والآيات الأخرى تقرر توحيد الربوبية، وإذا استقر توحيد الربوبية أصبح دليلاً على توحيد الإلهية، أي أن الإله الخالق الرازق المدبر المتصرف في هذا الكون الذي يجري هذه الأشياء كما هي ويحيي ويميت، والذي ابتدع هذا الكون من غير سابق خلق لا شك أنه الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، فيكون هذا دليلاً على توحيد العبادة. قال رحمه الله: [وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] ، وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره، وهو أنه لو كان للعالم صانعان إلخ، وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره، ولم يقل: أرباب. وأيضاً فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا] . هذه الآية في سورة الأنبياء {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] هي من أوضح الأدلة على توحيد العبادة، وفيها أنه إذا قدر أن فيهما آلهة إلا الله فإن كل إله أو كل خالق يدبر ما من شأنه أن يستطيعه، ويحرص على أن يتغلب على من إلى جانبه، فلا تنتظم هذه الأفلاك ولا هذه المخلوقات، بل يحصل فيها شيء من الخلل، ويحصل فيها شيء من الاضطراب، ومثل ذلك مشاهد، فإنه لو قدر أن هناك شريكين في أمر فكل منهما يحب أن يكون هو المسيطر وهو المتسلط، ولكان كل منهما يهمل الذي في جانب الآخر، فيقع الإهمال والاختلال، فلما رأينا الأمور منتظمة عرفنا أنه ليس فيهما آلهة إلا الله وحده. قال رحمه الله: [وأيضاً فإنه قال: (لفسدتا) ، وهذا فساد بعد الوجود، ولم يقل: لم يوجدا، ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلا واحداً، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن فساد السموات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة، ومن كون الإله الواحد غير الله، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره، فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله، فإن قيامه إنما هو بالعدل، وبه قامت السموات والأرض، وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك وأعدل العدل التوحيد] . الله تعالى يقول في هذه الآية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء:22] ، وقد استنبط المؤلف أن هذه الآية دليل على إثبات توحيد الإلهية وليس توحيد الربوبية، فهو لم يقل: لو كان فيهما أرباب، ولا ملوك، ولا ملّاك، ولا خالقون. بل قال: (آلهة) ، والإله هو المعبود المألوه كما سيأتي إن شاء الله. وأيضاً فإن الله قال: (لو كان فيهما) ولم يقل: لو كان في الوجود. وهذا دليل على أنه بعد إيجادهما، والله قال: (لفسدتا) ، ولم يقل: لم توجدا. فالآية تقرر توحيد الإلهية ولكنه متوقف على توحيد الربوبية. فيخبر تعالى بأن الإلهية لا تصلح إلا لإله واحد وهو الله، وأن من جعل معه آلهة أخرى فإنه قد ضل، وقد أخبر الله بأن المشركين يجعلون معه آلهة، كقوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ} [الأنعام:19] ، ولكن تلك الآلهة آلهة مخلوقة ضعيفة لا يصلح أن تتخذ آلهة، وهذا في شرك الأولين، وكذا في شرك الآخرين، وإن كانوا لا يعترفون بتسميتها آلهة. والحاصل أن الإلهية الحقة إنما هي للخالق وحده، وهذه الآية في توحيد الإلهية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ} [الأنبياء:22] ، ولكن توحيد الإلهية مسبوق بتوحيد الربوبية، ولا يعترف العبد بتوحيد الإلهية إلا بعدما يعترف بتوحيد الربوبية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 تضمن توحيد الألوهية لتوحيد الربوبية دون العكس قال رحمه الله: [وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس، فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزاً، والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191] ، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17] ، وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42]] . معنى كونه متضمناً لتوحيد الربوبية أنه لا يمكن أن يعترف بأن الإلهية الحقة لله تعالى وهو ينكر أن يكون هو رب العالمين، فمن اعترف بأن الله هو الإله الحق اعترف بأنه الخالق الرازق المدبر المتصرف، فتوحيد الربوبية في ضمن توحيد الإلهية دون العكس؛ إذ ليس كل من اعترف بتوحيد الربوبية يعترف بالإلهية، فهناك من يعترف بتوحيد الربوبية ويشرك في توحيد الإلهية. والحاصل أن هذه الآيات ونحوها تقرر توحيد الإلهية، ولكن عرفنا أنه مسبوق بتوحيد الربوبية ومتوقف عليه. وتوحيد الربوبية يعرف بالأدلة والآيات والفطرة كما تقدم، ولكن توحيد الإلهية هو الذي يحتاج إلى أدلة، ويحتاج إلى بيان، ويحتاج إلى تعليم، ولهذا جاءت الرسل بالتعليم لتوحيد الإلهية، بأن يقولوا للناس: وحدوا الله بالدعاء، ووحدوه بالرجاء، ووحدوه بالاستعانة به، ووحدوه بالخوف منه، ووحدوه بالخشية، ولا تستعينوا بغيره، ولا تستغيثوا بسواه. إلى آخر أنواع العبادة، هذا هو توحيد الإلهية الذي يحتاج إلى تفصيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 افتقار سائر المخلوقات إلى الله يمنع من اتخاذها آلهة من دونه قال رحمه الله: [وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42] ، وفيها للمتأخرين قولان: أحدهما: لاتخذوا سبيلاً إلى مغالبته. والثاني: -وهو الصحيح المنقول عن السلف كـ قتادة وغيره، وهو الذي ذكره ابن جرير ولم يذكر غيره-: لاتخذوا سبيلاً بالتقرب إليه كقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [المزمل:19] ، وذلك أنه قال: (لو كان معه آلهة) {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء:42] ، وهم لم يقولوا: إن العالم له صانعان. بل جعلوا معه آلهة اتخذوهم شفعاء وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] بخلاف الآية الأولى] . في تفسيره لهذه الآية {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42] رجح أن السبيل هنا القربى، يعني: لو قدر أن هناك آلهة سوى الله لكانت تلك الآلهة تتقرب إلى الله، وتتوسل إليه وتبتغي السبيل إلى رضاه، وإذا كان كذلك فإن هذا هو الأولى بمن يتخذ تلك الآلهة. وقد دل على ذلك أيضاً قول الله تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:56-57] يخبر بأن أولئك الذين تدعونهم -أيها المشركون! - خير منكم؛ فإنهم يدعون الله تعالى ويتوسلون إليه بالأعمال الصالحة. والحاصل أن الآية صريحة بأنه ليس هناك آلهة غير الله، فلو كان هناك آلهة إلا الله لكانت تلك الآلهة تتقرب إلى الله وتبتغي الوسيلة إليه وتعبده وتوحده. والصحيح أنها لا تصلح إذا كانت كذلك لأن تكون آلهة؛ إذ كيف يكون إلهاً من هو عبد لغيره؟ كيف يصلح أن يعبد من هو عابد لغيره؟ إذا كانت تعبد الله فما لك -أيها الإنسان- تعبدها؟ اعبد الذي هي تعبده وحده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 أنواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل قال رحمه الله: [ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد. فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر به عن نفسه، وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول (الحديد) و (طه) ، وآخر (الحشر) ، وأول (الم تنزيل السجدة) ، وأول (آل عمران) ، وسورة (الإخلاص) بكمالها، وغير ذلك. والثاني: وهو توحيد الطلب والقصد، مثل ما تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] وأول سورة (تنزيل الكتاب) وآخرها، وأول سورة (يونس) وأوسطها وآخرها، وأول سورة (الأعراف) وآخرها، وجملة سورة (لأنعام) ] . مشهور عند الطلاب حتى الأطفال منهم أن أنواع التوحيد ثلاثة: توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات. والشارح هنا ذكر أن التوحيد نوعان: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والقصد. وهذان النوعان يتضمنان الأقسام الثلاثة التي ذكرنا، فإن توحيد المعرفة هو توحيد الربوبية، وتوحيد الإثبات هو توحيد الصفات، وتوحيد الطلب والقصد هو توحيد العبادة أو الإلهية، هذه أقسام التوحيد. فتوحيد الربوبية هو توحيد المعرفة، أي: معرفة الله، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك فقل: بآياته ومخلوقاته التي يستدل بها على عظمة ذاته. وهذا النوع هو توحيد الذات أو إثبات الذات، ويسمى توحيد الربوبية. أما توحيد الإثبات فهو توحيد الصفات، وهو اعتقاد أن كل صفة لله تعالى فإنه منفرد بها، لا يشبه غيره في شيء من صفاته، فيقال -مثلاً-: صفاته الذاتية كوجهه ويده وسمعه وبصره لا تشبه صفات المخلوقين، نوحده بها ونقول: إنها لائقة به. وكذلك الصفات الفعلية، فيقال: إن الله يحب، ويرحم، ويغضب، ويرضى، ويكره، ويمقت، وإن الله استوى، ويجيء، وينزل كما أخبر، وهو في كل ذلك لا يشبهه أحد من خلقه، فهو منفرد بذلك وحده، هذا توحيد الصفات. وتوحيد الذات هو الاعتقاد أن الله واحد بذاته ليس معه شريك في الخلق. وتوحيد الإثبات هو اعتقاد أن الله واحد في صفاته لا يشبهه أحد من مخلوقاته في شيء من خصائص صفاته. وقد اجتهد السلف رحمهم الله في تقرير توحيد الصفات، وما ذاك إلا لأنهم ابتلوا في زمانهم بمن أنكره أو بمن غلا في إثباته, فقد أنكره قوم -وسموهم الجهمية والمعتزلة- حيث نفوا صفات الله تعالى ذاتية كانت أو فعلية، وغلا فيه قوم -وسموهم المشبهة- حيث زادوا في الإثبات حتى جعلوا صفاته كصفات خلقه، فاجتهد السلف رحمهم الله في إثبات ذلك، وقرروه أتم تقرير، وكتبهم بحمد الله موجودة ميسرة، وهي الكتب التي سموها (كتب السنة) ، أو (كتب التوحيد) ، أو (كتب الإيمان) ، أو (الاعتقاد) ، أو (الأسماء والصفات) ، أو ما أشبه ذلك من الأسماء، فإذا وجدت للسلف كتاباً باسم (كتاب السنة) فإنه يعني الصفات، أو وجدت كتاباً باسم (التوحيد) فإنه يعني توحيد الصفات، أو وجدت كتاباً باسم (الاعتقاد) فإنه يعني هذا الباب، أو وجدت كتاباً باسم (الأسماء والصفات) فإنه يعنى به هذا الأمر، أو وجدت كتاباً باسم (الإيمان) فإنه يعنى به هذا التوحيد. وأما توحيد الطلب والقصد فهو توحيد الإلهية، ومعنى الطلب: السؤال. والقصد: التوجه بالقلب إلى الله، فالسؤال يسمى طلباً، وهو من حق الله، والسائل هو الذي يقول -مثلاً-: أسألك رضاك. أسألك ثوابك. أسألك جنتك. أسألك عطاءك. هذا توحيد في الطلب، والتوحيد في القصد أن يكون قلبه متوجهاً إلى ربه. فهذا النوع يسمى التوحيد الطلبي، ويسمى التوحيد القصدي والتوحيد الإرادي؛ لأنه مراد من العباد، ويسمى التوحيد العملي؛ لأنه أعمال يعملونها، ويسمى توحيد الإلهية وتوحيد العبادة. أما الأول فيسمى التوحيد العلمي والتوحيد الخبري؛ لأنه يعتمد على الأخبار، ويسمى التوحيد الاعتقادي؛ لأنه عقيدة يعتقدها الإنسان، ويسمى توحيد الصفات أو توحيد الذات أو توحيد الربوبية، فهذه كلها أسماء لتوحيد واحد. فإذا قيل: ما هو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي؟ فقل: هو توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية. وإذا قيل: ما هو التوحيد الطلبي الإرادي القصدي العملي؟ فقل: هو توحيد العبادة. والأدلة على ذلك كثيرة، فإن القرآن قد وضح ذلك كثيراً، فسورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي، وهو توحيد الأسماء والصفات. وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] في التوحيد الطلبي القصدي الإرادي، وهو توحيد العبادة أو الإلهية، والسور الأخرى متضمنة لهذا ولهذا، فأول سورة الحديد في الأسماء والصفات، وكذلك آخر سورة الحشر، وكذا آيات كثيرة متفرقة في القرآن. وأول سورة الأعراف وآخرها وغيرها من السور في التوحيد العملي الذي هو توحيد الطلب والقصد. فإذا تأملنا هذه الآيات وجدناها تبين هذا النوع وتحث عليه وترغب فيه، فتدعو إلى معرفة توحيد الربوبية حتى يرسخ في القلب، ثم ينبعث معه أو منه توحيد العبادة حتى يكثر العبد من أنواع القربات والعبادات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 تضمن كل سور القرآن لنوعي التوحيد قال رحمه الله: [وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة في القرآن، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد. فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم، فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] توحيد {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] توحيد {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] توحيد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] توحيد {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الذين فارقوا التوحيد] . يقول: إن جميع القرآن يدور حول التوحيد، فالإخبار عن الله تعالى في قوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [الحشر:22] {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحشر:24] يعتبر توحيداً، لكنه توحيد الذات أو الربوبية. كذلك نقول في الأوامر، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] ، {اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [النساء:1] هذا توحيد، وهو توحيد عبادة؛ لأنه أمر بعبادة الله. كذلك ما في القرآن من الأحكام، كالعبادات والصلوات والقربات هذه مكملات التوحيد وثمرات التوحيد، فإن العبد إذا علم أن الله هو الواحد عبده، فأمثلة العبادة هي الصلوات والصدقات والقربات، كذلك ما في القرآن من محظورات، ومن النهي عن المحرمات، والنهي عن الفواحش والمنكرات، فهذه اجتنابها يكمل التوحيد وفعلها ينقص ثواب التوحيد، فإن المعاصي تنقص ثواب التوحيد، فينهى عنها حتى يكمل التوحيد. كما أن في القرآن قصصاً -كقصة نوح وقومه، وهود وقومه، وشعيب وقومه- يظهر فيها نجاة قوم لأجل التوحيد، وهلاك آخرين لأجل مخالفة التوحيد. وفي القرآن ذكر الجنة وثوابها والدعوة إليها، والجنة هي ثواب أهل التوحيد، وفيه ذكر النار والعذاب والنكال والغضب وما أشبه ذلك عقوبة لأهل الشرك المبتعدين عن التوحيد. والأمثلة التي ضربت في القرآن كلها لأجل تقرير التوحيد، مثل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} [الحج:73] يعني: لا تدعوا إلا إلهاً واحداً، فإن هذه المخلوقات التي تعبدونها لا تخلق ذباباً؛ لأنها هي في نفسها مخلوقة، وإلى جانب ذلك فهي أيضاً ضعيفة. فهذا في تقرير التوحيد. ومثل قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} [الزمر:29] فيه تقرير التوحيد، فإن السلم هو الخالص، يقول: الذي يعبد الله تعالى هو مثل من يملك عبداً واحداً، والذي يعبد هذا وهذا وهذا لا شك أنه مثل العبد الذي بين شركاء، كل منهم ينتزعه لنفسه، وكل منهم يقول: أريده في خدمتي، وهم مع ذلك متشاكسون بينهم شيء من البغضاء وشيء من الاختلاف والجدال والاضطراب، ولا شك أن كل هذه الأمثلة تقرير للتوحيد. فإذاً إن كانت الآيات قصصاً فهي في تقرير التوحيد، وإن كانت وعداً ووعيداً فهي في العقاب الذي يترتب على ترك التوحيد والثواب الذي يترتب على فعل التوحيد، وإن كانت أحكاماً وأوامر ونواهي وواجبات ومحرمات فهي من مكملات التوحيد أفعالاً أو صروفاً، وإن كانت أوامر بالعبادة ونحوها فهي أمثلة أنواع التوحيد، فأصبح القرآن دائراً على التوحيد، وذلك دليلٌ على أهميته. ولأجل ذلك صار التوحيد شرطاً في قبول العبادات، فلا تقبل الصلاة إلا بشرط الإسلام، ولا تقبل الطهارة إلا بشرط الإسلام وهو التوحيد أصلاً، وكذا لا تقبل الصدقات ولا القربات ولا الصيام ولا الحج وما أشبه ذلك إلا إذا تقدمها شرط واحد وهو التوحيد. والفاتحة -التي هي أكثر سورة نكررها في صلاتنا كل يوم- تفسيرها يدور حول التوحيد في أولها ووسطها وآخرها، وكذا بقية السور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 شرح العقيدة الطحاوية [5] شهد الله لنفسه بالوحدانية، وشهد له بذلك ملائكته وأولو العلم من خلقه، وهذه الشهادة تتضمن مراتب تؤدي إلى الأمر بعبادته وحده لا شريك، وأن ما سواه باطل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 شواهد التوحيد في الفاتحة وآية: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) مر بنا أن التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد، وأن كلاً من النوعين قد بينه الله تعالى في كتابه، وبينته الرسل عليهم السلام حتى قامت الحجة وانقطعت المعذرة، وأن كلاً من النوعين ضروري وشرط في قبول العبادات، فمن لم يحقق هذين النوعين من التوحيد لم تقبل منه عباداته، وهذا هو السبب في أهمية هذا التوحيد الذي هو توحيد العقيدة وتوحيد العمل، ونقرأ الآن بقية الكلام على هذه الأنواع: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] توحيد {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] توحيد {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] توحيد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] توحيد {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الذين فارقوا التوحيد. وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد والرد على جميع طوائف الضلال، فتضمنت أجلّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، من أجلّ شاهد بأجلّ مشهود به] . يقول: إن القرآن كله يدور حول تقرير التوحيد، كما تقدم أن الأوامر والنواهي في الأحكام تكميل للتوحيد أو أمر بالتوحيد، والقصص والوقائع فيها بيان حال أهل التوحيد ومن خالف التوحيد، فالله يذكر قصة المكذبين بالتوحيد وكيف أهلكهم، وقصة الرسل ومن نجا معهم؛ لأنهم من أهل التوحيد، وكذلك ذكر الثواب لأهل التوحيد، والعقاب لمن خالف التوحيد، فيقول: إن سورة الفاتحة تتضمن التوحيد، ففي كل آية منها توحيد. فالآية الأولى فيها الحمد، أي: أنه المستحق للحمد وحده، فهو توحيد، لأنه تخصيص للحمد بمن يستحقه. والآية الثانية فيها وصف الله تعالى بالرحمة وهذا توحيد الصفات، يعني أن من صفاته أنه المتوحد بصفة الرحمة. والآية الثالثة فيها الملك، أي هو وحده المالك فلا يملك أحد ملكه. والآية الرابعة فيها العبادة، أي: لا نعبد غيرك، فأنت المعبود وحدك وأنت المستعان به وحدك، وهذه هي حقيقة التوحيد، فـ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) توحيد العبادة (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) توحيد العمل، أو توحيد المعرفة. وكذلك سؤال الهداية، والهداية هي الدلالة على الصراط الذي هو صراط أهل التوحيد، والذين أنعم الله عليهم هم أهل التوحيد، والدعاء بأن يجنب الله السالك طريق الغاوين الذين خالفوا التوحيد، وهم أهل الغضب وأهل الضلال. فتضمنت سورة الفاتحة من أولها إلى آخرها تقرير التوحيد. وكذلك الآية التي في سورة آل عمران فإن الله ذكر أنه شهد بهذه الشهادة، يقول: تضمنت هذه الآية أجل شهادة، من أجل شاهد، بأجل مشهود به، فالشاهد هو الله والملائكة والعلماء {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18] فجعل أهل الشهادة هم هؤلاء الثلاثة، شهد لنفسه، وشهدت له ملائكته، وشهد له أهل العلم به من خلقه. وأولو العلم: هم الذين آتاهم الله معرفة بتوحيده، وهم الذين يخصونه بالتوحيد، أما المشركون فإنهم جهلة، وكل من أعطاه الله علماً بهذا النوع فهو من أهل العلم. فالشاهد هو الله وملائكته وأهل العلم من خلقه، والشهادة معناها الإقرار والاعتراف بالمشهود به، والمشهود به هو الإلهية، ولهذا كرر: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) مرتين، وأتبعها بأن الإسلام هو دين الحق، فهذه الآية في تقرير التوحيد. وقد ذكرنا أن ابن القيم رحمه الله تكلم على هذه الآية في آخر مدارج السالكين، وأن الشارح لخص كلامه ونقل منه ما يدل على أن الآية تضمنت معاني جديدة مفيدة إذا تأملها المسلم عرف كيفية التوحيد، وكيف شهد الله به لنفسه، وشهدت له به ملائكته، وشهد له به العلماء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 مراتب الشهادة قال رحمه الله تعالى: [وعبارات السلف في (شهد) تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار، وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها، فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه] . كلمة (شهد الله) قيل: معناها علم، وقيل: أخبر أو بيّن أو علّم خلقه، أو أمرهم وألزمهم به، والكلمة تحتمل ذلك كله، أي: علم بوحدانيته وهو أعلم بنفسه وبخلقه، وقيل: بين ذلك وأظهره، وقيل: أخبر به عباده وأعلمهم به، وقيل: أمر عباده وألزمهم بأن يوحدوه، وأن يخلصوا له العبادة، هذا هو حقيقة: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [آل عمران:18] . قال المؤلف رحمه الله: [فلها أربع مراتب: فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته. وثانيها: تكلمه بذلك، وإن لم يعلم به غيره، بل يتكلم بها مع نفسه ويتذكرها وينطق بها أو يكتبها. وثالثها: أن يعلم غيره بما يشهد به ويخبره به ويبينه له. ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به. فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع: علمه بذلك سبحانه، وتكلمه به، وإعلامه وإخباره لخلقه به، وأمرهم وإلزامهم به] . يقول: إن هذه الشهادة تضمنت هذه المراتب الأربع، تضمنت أن الله علم بذلك، وهو أعلم بنفسه، ثم بعد ذلك تكلم به، ثم بعد ذلك علّم به خلقه، ثم بعد ذلك أمرهم به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 مرتبة العلم قال رحمه الله: [فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة وإلا كان الشاهد شاهداً بما لا علم له به، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (على مثلها فاشهد) وأشار إلى الشمس. وأما مرتبة التكلم والخبر فقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] فجعل ذلك منهم شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم] . يتكلم على معاني هذه الأشياء، يقول: إن الإنسان لا يشهد إلا بما علم، قال تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81] ، فأنت لا تؤمر بالشهادة إلا بعدما تعلمها، وتعتقد معناها وتتحققها، فلا بد من هذا الأمر. ولا بد أن يكون العلم علم يقين لا علم شك وتردد، ولا بد أن يكون ذلك العلم قائماً على أدلة، فإن العلم الذي ليس له دليل قوي لا يؤمن أن يأتي دليل يبطله، ولا شك أن علم التوحيد قائم على أدلة قوية لا يمكن أن يأتي ما يبطل دلالتها. فهذه المرتبة الأولى، وهي: أن الشاهد يعلم ما يشهد به علم يقين، ويكون علمه ناشئاً عن أدلة، وتكون تلك الأدلة صريحة الدلالة ليس فيها شك ولا تردد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 مرتبة التكلم والإخبار كذلك المرتبة الثانية وهي مرتبة التكلم والإخبار، أنت إذا شهدت بالتوحيد واعتقدته بقلبك فلا تسكت على ما في نفسك، بل عليك أن تخبر بما تقوله وبما تعتقده، فتخبر الناس بأنك على يقين بهذا التوحيد، وأنك على عقيدة راسخة ومعرفة تامة لما تعتقده، من إلهية الله وحده ومن استحقاقه لصفات الكمال وللأسماء الحسنى والصفات العلا، فالتكلم يسمى شهادة. فإن هذه الآية في المشركين: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] هم ما قالوا: نشهد أن الملائكة بنات الله، وإنما تكلموا فيما بينهم، فلذلك قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19] يعني: تكلموا فيما بينهم وقالوا: الملائكة إناث الملائكة بنات الله، فجعل ذلك شهادة فقال: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] هذا سبب تسميتها شهادة؛ لأنهم تكلموا بها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 مرتبة الإعلام قال رحمه الله: [وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان: إعلام بالقول وإعلام بالفعل، وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر؛ تارة يعلمه به بقوله، وتارة بفعله، ولهذا كان من جعل داره مسجداً وفتح بابها وأبرزها بطريقها وأذن للناس بالدخول والصلاة فيها معلماً أنها وقف وإن لم يتلفظ به. وكذلك من وجد متقرباً إلى غيره بأنواع المسار يكون معلماً له ولغيره أنه يحبه وإن لم يتلفظ بقوله، وكذلك بالعكس. وكذلك شهادة الرب عز وجل وبيانه وإعلامه، يكون بقوله تارة وبفعله أخرى، فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، وأما بيانه وإعلامه بفعله فكما قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه: {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18] ، وقال آخر: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ومما يدل على أن الشهادة تكون بالفعل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة:17] فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلونه. والمقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه، ودلالتها إنما هي بخلقه وجعله] . هذه المرتبة الثالثة التي هي إعلام الغير، يقول: إن الله شهد لنفسه بالإلهية، ومن آثار الشهادة ومن تمامها أن أعلم غيره بأنه: (لا إله إلا هو) وهذا الإعلام ذكر أنه يكون بأمرين: إعلام بالفعل، وإعلام بالقول. إعلام الله لخلقه بالقول هو ما تضمنه كلامه الذي أوحاه إلى رسله، فإنه أرسل الرسل وأوحى إلى كل منهم بهذا التوحيد، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] . فهذا إعلام بالقول حيث أعلم كل نبي بواسطة الملائكة بهذا النوع الذي هو توحيد العبادة، وكذلك أنزل إلى كل نبي كتباً أو صحفاً، وضمن تلك الكتب كلامه الذي يتضمن توحيده وشرعه. وأما الإعلام بالفعل: فهو ما نصبه تعالى من الآيات والدلالات التي من تأملها عرف حقيقة التوحيد، وعرف الدين الحق، وعرف أن الله هو الواحد الأحد، فإنه سبحانه نصب الآيات، ولفت إليها الأنظار، فلأجل هذا يذكر عباده بالمخلوقات التي خلقها، فيخبرهم بخلقهم أنفسهم، وبخلق ما على الأرض من الدواب، ويخبرهم بخلق الأرض، واختلاف ما فيها من جبال ومن مهاد ومن بحار ومن أنهار ومن أشجار ومن ثمار وما أشبه ذلك، وهكذا يلفت أنظارهم إلى ما فوقهم من الرياح ومن السحب، ومن الأفلاك وما فيها من النجوم السيارة والثابتة وما أشبهها، كل ذلك من الآيات التي نصبها لعباده يعلمهم بها التوحيد، كأنه يقول: تعلموا من هذه الآيات دلالتها على أن الخالق لها هو الواحد الأحد، وهو المستحق بأن يعبد ويفرد. فشهد بالقول بقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] . وشهد بالفعل، بأن أعلم عباده بالفعل؛ فنصب الآيات والدلالات حتى يعلموا منها قدرته تعالى على كل شيء واستحقاقه لأن يؤله وحده، وأن لا يؤله معه غيره. يذكر الشارح أن الإعلام يكون بالقول وبالفعل حتى منا، فالواحد منا عليه أن يعلم الناس بما يعتقده، نحن نعتقد أن لا إله إلا الله، فنخبر بأنا نعتقد ذلك، وهذا الإخبار يقتضي الإعلام، فنقول: اعلموا بأنا نعتقد أن الله هو الإله الحق، فهذا إعلام بالقول. وأما الإعلام بالفعل فهو أفعال الإنسان، فأنت إذا رأيت المؤمن التقي الموحد يمد يديه إلى ربه يتضرع إليه، عرفت أنه يعبد إلهاً واحداً، وكذلك إذا رأيته يركع له ويسجد، يقوم له ويقعد، يخضع له ويتواضع، عرفت من ذلك أنه يعبد إلهاً واحداً، فأعلمك هذا العابد بقوله وأعلمك بفعله، فالإعلام يكون بالأمرين، بالقول وبالفعل. فمثلاً: الذي بنى هذا المسجد ما قال للناس: أيها الناس هذا وقف، بل لما بناه على هيئة المسجد وفتح أبوابه وشرع للناس ليجتمعوا فيه وليقيموا فيه الصلوات، وليحضر فيه الخطب والحلقات، كان ذلك إعلاماً بالفعل وإن لم يكن إعلاماً بالقول. فكذلك إذا أعلمك طالب العلم أو المسلم بفعله أنه يعبد الله وحده فإن ذلك كاف في الإعلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 مرتبة الأمر والإلزام قال رحمه الله: [وأما مرتبة الأمر بذلك والإلزام به، وأن مجرد الشهادة لا يستلزمه، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه؛ فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده به، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ، وقال الله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51] وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة:31] ، وقال تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء:22] ، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص:88] ، والقرآن كله شاهد بذلك] . ذكر المرتبة الرابعة، وهي مرتبة الأمر والإلزام، بعد أن ذكر مرتبة العلم، ثم مرتبة التكلم، ثم مرتبة الإخبار، ثم مرتبة الإلزام. فهذه المرتبة الرابعة التي هي مرتبة الأمر والإلزام بالمأمور به، وهو التوحيد، قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:18-19] هذه الشهادة قد لا يكون فيها أمر صريح فهو لم يقل: اشهدوا بما شهدت به، ولا قال: ألزمتكم أيها الناس بأن تشهدوا بما شهدت به، ولكن العاقل يتفكر إذا قرأ أو قيل له: إن الله قد شهد لنفسه بالوحدانية، وملائكته شهدوا له بذلك، والعلماء من خلقه شهدوا له بذلك، فيفكر ويقول: كيف لا أكون مع العلماء؟! إذا لم أكن مع العلماء كنت مع الجهال، ولا أرضى أن أكون بين الجاهلين، فعند ذلك يشهد بما شهدوا به، فكأن ذلك أمر، وكأنه يقول: شهدت بذلك أنا وملائكتي والعلماء من خلقي فافعلوا ذلك واشهدوا به يا جميع الخلق. هذا قد يؤخذ من هذه الشهادة، ولكن هناك أدلة صرحت بأمر الناس كلهم بهذه الشهادة، وبهذا التوحيد، مثل الآيات التي تقدمت، فالله تعالى يقول: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] هذا أمر وإلزام، وكذلك في آيات كثيرة كقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] ، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة:83] ، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة:31] ، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] فالأمر يقتضي الإلزام. إذا أمرنا الله بهذا فقد ألزمنا به، فيجب امتثاله، فإن أمر الله هو الحق، وضده هو الباطل، فمن لم يمتثل هذا المأمور فإنه خاسر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 بيان استلزام شهادة الله لنفسه بالإلهية للأمر بعبادته سبحانه من وجوه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 الوجه الأول في استلزام الشهادة للأمر بالعبادة قال رحمه الله: [ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك: أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو فقد أخبر وبين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله، وأن إلهية ما سواه باطلة، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلهاً، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهاً، وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلاً يستفتي رجلاً أو يستشهده أو يستطبه وهو ليس أهلا لذلك ويدع من هو أهل له، فتقول: هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب، المفتي فلان والشاهد فلان والطبيب فلان، فإن هذا أمر منه ونهي] . كأن الشارح يقول: إن كلمة: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) قد يؤخذ منها الأمر، ولكن كيف يؤخذ الأمر؟ إذا أخبر الله بهذا الخبر فقد أخبر بإلهيته الحقة، ونفى عن غيره الإلهية، فنفى أن يكون غيره صالحاً لأن يكون إلهاً، وإذا لم يصلح غيره للإلهية فكأنه يأمر عباده بأن يؤلهوه، فيقول: الإله الحق هو الله، فإذا كنتم تريدون نجاتكم فاتخذوه إلهاً، واتركوا إلهية ما سواه، هذا وجه أخذ الأمر من قوله: (شَهِدَ اللَّهُ) . كل من سمع ذلك يقول: هذه شهادة الله، وإذا شهد الله وملائكته والعلماء من خلقه بهذا الشيء فقد بطل ما عداه، وكل ما سوى هذا المشهود به فهو باطل، فلا يصح حينئذٍ أن يجعل معه آلهة، ولا أن يؤلِّه غيره، فمن ألَّه غيره فقد ضل سعيه في الحياة الدنيا وخسر عمله. وضرب مثلاً بما إذا سمعت إنساناً أو رأيت إنساناً يسأل إنساناً أن يعالجه، فقلت له: هذا ليس بطبيب، الطبيب فلان، فكأنك تقول: اذهب إليه واترك هذا فإنه ليس بطبيب. أو يستشهده يقول: اشهد معي، يعتقد أنه مقبول الشهادة، فإنك تقول: هذا ليس بشاهد ولكن الشاهد فلان، فكأنك تقول: اذهب إليه واستشهده فإنه الذي تقبل شهادته. وكذلك إذا رأيته يستفتي جاهلاً قلت: هذا ليس بمفت، المفتي فلان، كأنك تقول: اذهب إليه. فهذا الذي أنت تخاطبه يفهم بأنك تأمره بأن يذهب إلى ذلك الطبيب الشاهد المفتي، فكذلك إذا قال الله: الإلهية الحقة لله، كأنه يقول: فألهوه واتخذوه إلهاً، واتركوا إلهية ما سواه، هذا وجه الدلالة من الشهادة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 الوجه الثاني في استلزام الشهادة للأمر بالعبادة قال رحمه الله: [وأيضاً: فالآية دلت على أنه وحده المستحق للعبادة، فإذا أخبر أنه وحده المستحق للعبادة تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم. وأيضاً: فلفظ (الحكم) و (القضاء) يستعمل في الجملة الخبرية، ويقال للجملة الخبرية: قضية وحكم، وقد حكم فيها بكذا قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:151-154] ، فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكماً وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35-36] لكن هذا حكم لا إلزام معه] . وهذا أيضاً بيان أنه يؤخذ الحكم من هذا الأمر، فالأمر بالتوحيد هو الإلزام به، فإن الإنسان إذا سمع حكم الله تعالى فإنه يتبعه {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة:50] ، إذا عرف أن الله أخبر بهذا الشيء، وأنه أعلم خلقه بأنه الإله، فإنه يعرف أنه الإله الحق الذي يستحق أن يؤله، فكأنه يقول: إن الله يأمرنا بأن نتخذه إلهاً، ونترك التأله لغيره، هذا من جهة. ومن جهة ثانية يقول: إذا فسرنا (شهد) بحكم، وأخبر، فإن الخبر والحكم يقتضي الإلزام، ومعلوم أن الحكم هو: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، كما يقول ذلك الأصوليون، فإذا حكم الله لنفسه بالإلهية، وحكم لغيره بعدم الصلاحية للإلهية، فهذا حكم من الله، وحكم الله واجب الإتباع. والحكم قد يطلق كما سمعنا على كل قضية، فكل قضية قد تسمى حكما، تقول: هذه قضية فلان وحكم فيها فلان بكذا وكذا، كما في هذه الآيات، التي أخبر الله بها بأن هذا الأمر حكم منه. فعلى كل حال الآية صريحة في إبطال إلهية ما سوى الله تعالى، وإثبات الإلهية لله تعالى، والإثبات يستلزم الإلزام. قال رحمه الله: [والحكم والقضاء بأنه: لا إله إلا هو متضمن الإلزام، ولو كان المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها، ولم ينتفعوا بها، ولم تقم عليهم بها الحجة، بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها، لم ينتفع بها أحد، ولم تقم بها حجة. وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة: السمع والبصر والعقل] . يقول: إن مجرد الشهادة لا تتم إلا إذا كان معها إلزام، فالله تعالى عندما شهد كأنه ألزم، شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وهذه الشهادة تستلزم الأمر الذي ينتج منه الإيجاب، ومعلوم أن الشهادة لا ينتفع بها إلا إذا بينت؛ يقول: لو أن إنساناً عنده شهادة لك، وكتمها، ما حصل أنك تنتفع بها، فلا تنتفع بها إلا إذا بين وقال: لك عندي شهادة، فالله تعالى شهد لنفسه وبين هذه الشهادة بهذه الطرق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 بيان هذه الشهادة بالسمع قال رحمه الله تعالى: [أما السمع: فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرفنا إياه من صفات كماله كلها الوحدانية وغيرها، غاية البيان، لا كما يزعمه الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة ومعطلة بعض الصفات من دعوى احتمالات توقع في الحيرة، تنافي البيان الذي وصف الله به كتابه العزيز ورسوله الكريم، كما قال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:1-2] ، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1] ، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1] ، {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138] ، {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92] ، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44] وكذلك السنة تأتي مبينة أو مقررة لما دل عليه القرآن، لم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى إلى رأي فلان، ولا إلى ذوق فلان، ووجده في أصول ديننا؛ ولهذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطربين، بل قد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، فلا يحتاج في تكميله إلى أمر خارج عن الكتاب والسنة. وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو جعفر الطحاوي فيما يأتي من كلامه بقوله: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلِم في دينه إلا من سلّم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم) ] . يقول: إن الله تعالى لما شهد هذه الشهادة بينها، وبيانه عن طريق السمع وعن طريق البصر وعن طريق العقل، وعن طريق النظر، يعني بكل أنواع البيان، فلم يبق طريق إلا وبينه من جهته أتم بيان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 وضوح السمع وبيانه فمن طريق السمع: سماعنا آيات الله التي هي القرآن والكتب التي أنزلها على رسله، وهي في غاية الإيضاح والبيان، وهذا هو الذي دعاه إلى أن يستشهد بالآيات التي فيها ذكر البيان، فإن قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران:138] ، لا شك أنه يبين المهم الذي يحتاجون إليه، وأهم ما يحتاجون إليه معرفة الله بآياته وبمخلوقاته، ومعرفة حقه: وهو عبادته وحده وترك عبادة ما سواه، وطاعته كما بين على ألسنة رسله. وكذلك وصف القرآن في قوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1] يعني المبين الذي بين الله فيه، فهو مبين من أوجه: أولاً: أنه بين واضح. وثانياً: أنه مبيِّن مشتمل على بيان، وأي بيان أوضح من بيان كلام الله تعالى! وثالثاً: أن الله تعالى أمر رسوله بأن يوضحه، فالرسول صلى الله عليه وسلم بين معانيه بقوله وبفعله، امتثالاً لهذه الآيات التي سمعنا، وهي قول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتعلمون المعاني مع الألفاظ، يقول عبد بن حبيب السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها، يقول: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً. ولا شك أن هذا لإقامة الحجة، فما دام أن هذا القرآن قد بين للناس ما يحتاجون إليه، وبالأخص في أمر العقيدة والتوحيد، فإن الخلق واجب عليهم أن يقبلوا ذلك البيان وينتفعوا به ويعملوا به. وما ظهر لهم فإنهم يقبلوه، وما خفي عنهم من الأمور الغيبية فإنهم يسلمون له، ويتوقفون عن البحث في حقيقته، وهذا معنى قوله: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا) ، بل نتسلم ذلك على ما هو عليه. أولاً: أنه واضح من حيث إنه مفهوم؛ لأنه بلسان عربي مبين. ثانياً: أن ما فيه من الخفي قد بينه الرسول عليه الصلاة والسلام وتلقى ذلك عنه صحابته، وبينوا ذلك وشرحوه لتلامذتهم، ونقلت شروحهم وتفاسيرهم في كتب التفسير موضحة ظاهرة يجدها من طلبها، فما بقي لأحد حجة. فالحاصل أن التوحيد قد بين أتم بيان. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر:40] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 شرح العقيدة الطحاوية [6] الكون مليء بالآيات الدالة على وحدانية الله، وبينات الرسل وأحوالهم شواهد صدق على أن الله أرسلهم، وأسماء الله وصفاته من ألطف الأدلة على وحدانيته وصدق رسله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 فضل العلم وشرفه العلم في الأصل أفضل من الجهل، وكل يحب الانتماء والانتساب إلى العلم، ويهرب ويربأ بنفسه أن ينسب إلى الجهل، والعلوم تتفاوت في الأهمية، فأهم العلوم هو العلم الذي يفقه به العبد دينه، فيعرف كيف يعبد ربه؛ بل يعرف ربه ويعرف دينه، فهذا هو أشرف وأفضل العلوم. وطريق تعلمه وتحصيله سهل ويسير على من يسره الله عليه، وذلك لأن الله سبحانه لما أقام الحجة على عباده ببعثة الرسل وإنزال الكتب، تكفل بحفظ ذلك حتى لا يكون للمتأخر حجة كما لم تكن للمتقدم. فيسر الله حفظ ذلك العلم الذي هو ميراث الأنبياء، حتى وصل إلى المتأخرين كما هو عند المتقدمين، ولكن حيث كان هناك أعداء لهذا الدين ولهذا العلم، فإن أولئك الأعداء قد حرصوا على أن يشوهوا سمعة هذا العلم الصحيح، وأن يلبسوا على أهله، وأن يرموهم بالعيوب، ولكن الله سبحانه حفظ شريعته وقيض لأولئك من يدفع شبههم، ويبين ضلالهم وخطأهم، فقيض الله أهل السنة الذين ساروا على نهج الرسل، وساروا على نهج الصحابة، وعرفوا -حتى عند الأعداء- بأنهم السائرون على طريقة السلف، أو بأنهم المتمسكون بالسنة، والفضل ما شهدت به الأعداء. ولا شك أن من جملة العلوم التي حصل فيها شيء من الاشتباه والاختلاف هو علم العقيدة، الذي هو موضوعنا في هذه الدروس، ونأمل -إن شاء الله- أن قد فقهنا في أصل هذا العلم الذي هو علم الاعتقاد. وبلا شك أن أصله معرفة الله تعالى المعرفة التي ينتج منها عبادته، وأن يترك ويعرض عن عبادة ما سواه، فإذا عرف الإنسان أهمية هذا العلم استطاع بعد ذلك أن يعرف مفرداته، وتفاصيله، حيث إنها موجودة ميسرة في متناول الأيدي، وقد يسر الله لها من اعتنى بها، فما على المسلم الذي يريد العلم الصحيح إلا أن يتناولها بالتعلم والتفقه ليعبد ربه على بصيرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 دلالة النظر والتفكر على وحدانية الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما آياته العيانية الخلقية: فالنظر فيها والاستدلال بها يدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية، والعقل يجمع بين هذه وهذه فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة] . قد عرفنا أن أهم العلوم معرفة الله، ثم عبادته، ولكونها أهم من غيرها جاءت الشريعة ببيانها، فبينها الله عن طريق السمع وعن طريق البصر وعن طريق العقل. فأما البيان السمعي فهو ما بلغه الرسل من كلام الله، ومن كلام الأنبياء الذين بينوه، فإن بيان هذه العقيدة يأخذه الناس عن طريق السمع، وتسمى الآيات السمعية، فالقرآن والأحاديث أدلة سمعية منقولة عن عالم بعد عالم، إلى أن تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى الأنبياء قبله. أما الأدلة النظرية فهي الآيات التي ترى بالعين ويقال لها المخلوقات؛ وذلك لأن النظر فيها يكسب الناظر عبرة وعظة، ويكسب الناظر معرفة وبصيرة، ولأجل ذلك كثيراً ما يرشد الله العباد إلى النظر في الآيات والبراهين، كقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] وكقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف:109] ، وأشباه ذلك من الآيات كثيرة. النظر في هذه المخلوقات هو الدليل النظري والبصري، وكلما كان العاقل فاهماً ذكياً كان نظره أتم، وأما إذا نقصت العقلية فإن النظر يكون أنقص؛ وذلك لأن مجرد النظر بالعين لا يفيد، حتى يكون نظراً في القلب، فالعين توصل إلى القلب، فإذا لم يكن هناك قلب واع حي لم ينفع النظر بالعين. وقد يكون هناك من هو ضرير لا يبصر ولكن يعتبر بما يحسه، فيكون نظره بقلبه أقوى من نظر المبصرين، ويكون من المبصرين من يشاهد هذه الآيات والعجائب، ولكن قلوبهم في غي، وفي غفلة، وفي أغشية وفي أكنة قلوبهم غلف مقفل عليها والعياذ بالله، ولذلك قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] والحاصل أن الله سبحانه بين هذه الآيات والبراهين بياناً واضحاً عن طريق السمع للآيات السمعية، وعن طريق النظر للآيات البصرية ومن رزقه الله حياة قلب انتفع بما يسمع وبما يرى، ومن فقد ذلك فالعمى خير له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 من رحمة الله وإحسانه إقامة الحجج والبينات على صدقه وصدق رسله قال المؤلف رحمه الله: [فهو سبحانه لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر وإقامة الحجة، لم يبعث نبياً إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل:43-44] وقال تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [آل عمران:183] وقال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران:184] وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى:17] حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود، حتى قال له قومه: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود:53] ، ومع هذا فبينته من أوضح البينات لمن وفقه الله لتدبرها، وقد أشار إليها بقوله: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54-56] . فهذا من أعظم الآيات: أن رجلاً واحداً يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب، غير جزع ولا فزع ولا خوار، بل هو واثق بما قاله، جازم به، فأشهد الله أولاً على براءته من دينهم وما هم عليه إشهاد واثق به معتمد عليه، معلنٍ لقومه أنه وليه وناصره وغيرُ مسلِّط لهم عليه، ثم أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون عليها، ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتهم لها. ثم أكد ذلك عليهم بالاستهانة لهم واحتقارهم وازدرائهم، ولو يجتمعون كلهم على كيده وشفاء غيظهم منه، ثم يعاجلونه ولا يمهلونه، لم يقدروا على ذلك إلا ما كتبه الله عليه، ثم قرر دعوتهم أحسن تقرير، وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله القائم بنصره وتأييده، وأنه على صراط مستقيم، فلا يخذل من توكل عليه وأقر به، ولا يشمت به أعداءه. فأي آية وبرهان أحسن من آيات الأنبياء عليهم السلام وبراهينهم وأدلتهم؟! وهي شهادة من الله سبحانه لهم بينها لعباده غاية البيان] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 معجزات كل نبي تناسب أهل زمانه قطع الله المعذرة ببينات الرسل، قال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164] إلى قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] أي: أرسلنا أولئك الرسل لتنقطع الحجة وينقطع العذر، لئلا يقولوا: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} [المائدة:19] ، كما حكى الله ذلك عنهم وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [القصص:48] فالله سبحانه أرسل الرسل، وجعل معهم بينات ترجح جانبهم، وجعل لهم معجزات يظهر بها صدقهم. كل نبي فمعجزاته تناسبه وتعجز أهل زمنه، ومنهم من أخبرنا الله بمعجزاته، كما أخبر عن صالح أن من معجزاته تلك الناقة التي قال لهم عنها: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155] . وعن معجزات موسى أنها تسع آيات، منها: اليد، والعصا، وفلق البحر، والطوفان، والقمل، والضفادع، والدم، وما أشبهها من الآيات المعجزة لأهل زمانه. وعن معجزات عيسى: أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم. وعن معجزات داود، منها قوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:18-19] . ومعجزات سليمان: في قوله: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص:36-38] . وكذلك معجزات نبينا ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، ومنها هذا القرآن الذي تحدى به فصحاء العرب في زمانه فعجزوا عن معارضته، ومنها ما أجرى الله على يديه من الآيات التي منها إخباره بالأمور المغيبة، ومنها نصره وتأييده على أعدائه، ونحو ذلك من المعجزات. ولا شك أن هذه المعجزات يراد منها ظهور صدق أولئك الرسل، وذلك أن الله تعالى يحب أن يقطع العذر عن العاصي والمفرط، ويحب العذر إلى العباد، ولذلك ورد في حديث: (لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل) ، وقال في الحكمة من إرسالهم: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات:6] يعني إعذاراً وإنذارا، فهذا دليل على أنه سبحانه قطع الحجة على الناس بقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] . ومن تأمل آيات الرسل عرف صدقهم، ولكن إنما صد عنهم من أعمى الله بصيرته، ولأجل ذلك عاقب الله من كذبهم بأنواع من العقوبات، فأهلك قوم نوح بالغرق، ثم عاداً وهم قوم هود، فأرسل الله عليهم الريح، وقوم صالح وهم ثمود عاقبهم الله بالصيحة، وأشباه ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 عظم معجزة هود مع أنها أخفى معجزات الأنبياء ذكر الشارح أن قوم هود كأنهم أنكروا رسالته لما لم يأتهم بآية ومعجزة بينة، ولكن قرر الشارح آية هود ومعجزته التي أخذت من هذه الآيات في سورة هود، وهي قول الله تعالى حكاية عنهم: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود:53] يعني بآية معجزة، ثم ظنوا أنه إنما به جنون! فقالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54] يعني: أن آلهتنا تسلطت عليك فأصبتك بجنون. ولكنه رد عليهم هذا الرد المتزن الذي يدل على ثباته، فقرر أنه لا يخافهم ولو حصل اجتماعهم كلهم، حيث قال: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:55-56] وتقدم تفصيل الشارح وتفسيره لهذا، وأخذه من كونه فرداً يتحدى أمة من أقوى الأمم حتى إنهم قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] وقد وصفهم الله بالجبروت في قوله: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] . فهذا شخص واحد يتحداهم ويقول لهم: ائتوا بكل كيد، ائتوا بكل حيلة إن كنتم تستطيعون! ولكنكم لا تستطيعون؛ لأني معتمد على الله، متوكل على الله ربي وربكم، والذي يأخذ بنواصي جميع الدواب، فكل الدواب مسخرة مذللة بأمره، فهذا ونحوه دليل على أن الله قوى قلبه وثبته وذلك أعظم من بقية المعجزات. وبلا شك أن الله أيده بمعجزات أخرى لا ندري ما هي، لكن بهذا تقوم الحجة على العباد. إذاً: ما بقي لأحد على الله تعالى حجة بعد الرسل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 تصديق الله لعباده وأنبيائه حجة على من خالفهم قال رحمه الله: [ومن أسمائه تعالى (المؤمن) وهو في أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم، فإنه لا بد أن يري العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغه رسله حق، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] أي: القرآن، فإنه هو المتقدم في قوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [فصلت:52] ثم قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53] فشهد سبحانه لرسوله بقوله إن ما جاء به حق، ووعد أنه يري العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضا، ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك كله وأجل، وهو شهادته سبحانه بأنه على كل شيء شهيد، فإن من أسمائه الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه، بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له، عليم بتفاصيله. وهذا استدلال بأسمائه وصفاته، والأول استدلال بقوله وكلماته، واستدلاله بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته] . كل هذا تفصيل لبيان أنه سبحانه أقام الحجة وقطع المعذرة. وقوله: (ومن أسمائه المؤمن) قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:23] ، فهو الذي يصدق عباده، أي: رسله وعباده المؤمنين، فيصدق الرسل بما يظهر على أيديهم من المعجزات والبراهين، ويصدق المؤمنين بما يذكرهم به ويؤيدهم عند خصوماتهم للأعداء، أو عند قتالهم للكفار، فالنصر الذي يجريه على أيديهم هذا من التوفيق لهم، وكذلك الحجة التي يجريها على ألسنتهم من التوفيق لهم، يصدقهم حتى يعرف صدقهم، ويعرف ذلك من قصده الحق والصواب. وأما من زاغ عقله فإنه لا تغني عنه النذر: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] . كذلك من أسمائه تعالى (الشهيد) ، قال تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ:47] ، والشهيد: الشاهد، والشاهد مأخوذ من المشاهدة، وذلك لأنه تعالى شاهد على عباده ومن جملتهم رسله، وشهادته على رسله سبحانه أنه شهد بصدق ما جاءوا به، وذلك بما أجرى على أيديهم من الآيات والبراهين، وبذلك كله يعرف أنه ما بقي لأحد حجة بعد الرسل وبعد الكتب، فما بقي إلا المعاندون الذين يخالفون الحق عناداً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 بيان صحة الاستدلال بأسماء الله وصفاته على صحة رسالة أنبيائه قال المؤلف رحمه الله: [فإن قلت: كيف يستدل بأسمائه وصفاته، فإن الاستدلال بذلك لا يعهد في الاصطلاح؟ ف الجواب أن الله تعالى قد أودع في الفطرة التي لم تتنجس بالجحود والتعطيل، ولا بالتشبيه والتمثيل، أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسله، وما خفي عن الخلق من كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه. ومن كماله المقدس شهادته على كل شيء واطلاعه عليه، بحيث لا يغيب عنه ذرة في السماوات ولا في الأرض باطناً وظاهراً، ومن هذا شأنه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به، وأن يعبدوا غيره ويجعلوا معه إلهاً آخر؟! وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك ويؤيده، ويعلي شأنه، ويجيب دعوته، ويهلك عدوه، ويظهر على دينه من الآيات والبراهين ما يعجز عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر؟! ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء، وقدرته وحكمته وعزته، وكماله المقدس يأبى ذلك، ومن جوز ذلك فهو من أبعد الناس عن معرفته] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 تمكين الله لرسوله ونشر دينه وقهر أعدائه دليل على صحة الرسالة ذكر ابن القيم رحمه الله في بعض كتبه أنه لقي بعض النصارى الذين يكذبون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: أنتم أيها النصارى! قد طعنتم في حكمة الله، وطعنتم في قدرته، وطعنتم في علمه واطلاعه! فاستغرب ذلك النصراني من هذا الكلام! فقال: إن تكذيبكم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم طعن في الله، وذلك أننا وأنتم نشاهد أنه ادعى أنه نبي، وقامت على يديه هذه المعجزات وهذه الدلالات التي هي دلائل نبوة، فكيف يقيمها الله على يديه وهو كذاب؟! ثم نصره الله في مواطن كثيرة! فانتصر على الأعداء وهم كثيرون، والمسلمون قلة، فكيف ينصره على أولئك الأعداد وهو يكذب عليه ويقول عليه ما لم يقل؟! ثم مكن الله لدينه، وانتشر هذا الدين الذي هو في زعمكم دين باطل مكذوب! فهل يليق بحكمة الله أن يعلي هذا الدين وهو دين باطل، وأن يظهره وأن يمكن لأهله، وأن يسلطهم على الناس: يقتلون ويأسرون ويفتحون البلاد، ويدوخون العباد، وهم مع ذلك كذبة متبعون لنبي كذاب؟! لا شك أن هذا طعن في الله، فأنتم يا معشر النصارى قد طعنتم في ربكم من حيث لا تشعرون؛ حيث كذبتم هذا النبي الذي هو في زعمكم ليس بنبي. وطعنتم في حكمة الله، فإن الله حكيم يضع الأشياء في مواضعها، فكيف يليق بالله أن ينصره وأن يعلي سلطانه وأن يؤيده، وأن يظهر على يديه هذه المعجزات وهو يسمع كلامه الذي هو افتراء عليه وكذب! كيف ينصره ويمكن له في الأرض؟! وكيف يهدي قلوب الناس إلى اتباعه؟! وكيف يقبل بقلوبهم عليه؟! وكيف يظهر من صفاته ما يكون سبباً في تصديقه؟! ولا شك أن هذا شيء واقعي حقيقي، فإن الذين يكذبون برسالته عليه الصلاة والسلام، وهم يشاهدون أن دينه الحق قد انتشر وتمكن حتى غطى ثلثي المعمورة، وحتى دان به أكثر العباد، وشهدوا بحسنه وبملائمته، حتى الأعداء بمجرد ما يسمعون دعوته، ويعرفون شريعته وطريقته، تنطلق ألسنتهم بحسن ما جاء به، وتشهد بذلك عقولهم ويتبعونه دون تلكؤ ودون توقف، فإن هذا كله دليل على صحة هذا الدين، ودليل على قبول النفوس له، وأن الذين أنكروه إنما انتكست فطرهم ولم يعرفوا الحق مع قيام الأدلة الواضحة عليه. فعلى هذا يعتبر هذا التمكين من أكبر الآيات، وأكبر المعجزات التي تدل على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم، حيث مكن الله له وحقق قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} [النور:55] ، وصدق الله هذا الوعد، فمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وفتح لهم القلوب، وهيَّأ لهم الأسباب ويسر لهم العسير وظهر دين الله تعالى، وتحقق قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] وقوله تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32] ، {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف:8] فتمم الله نوره الذي هو هذه الشريعة، وأظهر هذا الدين على سائر الأديان، ولا شك أن ذلك من أكبر المعجزات. ولو لم يكن هناك من دلائل نبوته التي تدل على صدقه عليه الصلاة والسلام، وصحة ما جاء به إلا النصر والتمكين وفتح القلوب والبلاد له، وما أيده به من هذا التمكين حتى أقبلت قلوب الناس إليه، وكان أحدهم يصبح وهو عدو له، فإذا أسلم في أول النهار لم يأته الليل إلا والإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها؛ وذلك لما يشاهدونه في هذا الإسلام من سهولة ومحبة وصلاحية وانشراح صدر وفرح وانبساط، وقوة يقين، لا شك أن هذا من أكبر الآيات والمعجزات، ولو لم يكن هناك آيات أخرى لكان هذا كافياً لإثبات أن هذا الدين حق وأنه من عند الله سبحانه وتعالى، هذا ما قرره الشارح في هذا الموضع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 عدم نزول العقوبة بمحمد صلى الله عليه وسلم دليل على صدقه وكذب أعدائه قال رحمه الله: [والقرآن مملوء من هذه الطريق وهي: طريق الخواص، يستدلون بالله على أفعاله وما يليق به أن يفعل ولا يفعله قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44-47] وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى. ويُستدل أيضا بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك، كما في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23] وأضعاف ذلك في القرآن، وهذه الطريق قليل سالكها لا يهتدي إليها إلا الخواص، وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهده؛ لأنها أسهل تناولا وأوسع، والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض] . قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46] حق وصحيح، فإن كل من كذب على الله فإن الله ينتقم منه ولو بعد حين، فإن فرعون لما كذب وادعى الربوبية عاقبه الله مع كون مصر قد أطاعت له، حتى قال لهم: {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ولا يكاد يبين} [الزخرف:51-52] يعني: موسى. فماذا كانت عاقبته؟ انتقم الله منه وأغرقه وهم ينظرون. كذلك الكذابون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام لما ظنوا أن محمداً كاذب فقالوا: سوف ندعي مثلما ادعى، فتنبأ شخص يقال له: مسيلمة، فانخدع به بعض الجهلة من عشيرته، ولكن الله انتقم منه وسلط عليه المسلمين فقتل وضل أتباعه. وكذلك تنبأ آخر في اليمن، فما متّع إلا ثلاثة أشهر حتى انتقم الله منه وأهلكه، وهكذا كل من ظهر منه اعتداء، يعرف ذلك من قرأ التاريخ. فمن قرأ كتب التاريخ يجد أن هناك أناساً حاولوا التكبر والتجبر وحصل لهم شيء من الملك ومن القوة، فاستعملوا بطشهم وقوتهم، ثم أمهلوا مدة ولكن أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن الله ليمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته وقرأ قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] ) فكون هذا الإسلام باقياً، ومستمراً يزيد ويظهر، كلما ضعف في جهة مكن الله له في جهة أخرى، وأهله يحبونه ويقبلون عليه، ويتمسكون به، ويؤثرونه ولو قتلوا وعذبوا، دليل على أنه من الله تعالى، وأن ما يقولونه ويعتقدونه هو الدين الحق. وكون الله جل وعلا يعجل العقوبة للكذابين والمفترين ويأخذهم وينتقم منهم، دليل على أن الله لا يؤيد الكذابين ولا يمكنهم، كيف يمكنهم وهم يفترون عليه؟! كيف يمكن لهم في الأرض وهم كذابون يقولون عليه ويضلون عباده؟! هذا لا يليق بحكمة الله تعالى، فإن من أسمائه الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها. فيستدل المرء على صحة هذا الدين وهذه العقيدة وهذا التوحيد بآيات الله، وبمخلوقاته، وبأسمائه وبصفاته، يعني: بآثار تلك الأسماء، وآثار تلك الصفات، فإن من أسماء الله تعالى الحكيم، وهو الذي يضع الأشياء في مواضعها، ومن أسمائه تعالى العزيز، وهو الغالب لكل من خرج عن طاعته، ومن أسمائه أنه عزيز ذو انتقام، يعني: ينتقم ممن خالف أمره، ويأخذه أخذ عزيز مقتدر، كذلك من أسمائه العليم، وهو أنه لا يخفى عليه علم شيء في الأرض ولا في السماء. وهكذا يقال أيضاً في حكمته وفي خلقه وفي تدبيره وفيما قدره وقضاه في هذا الكون، لا شك أن هذا كله له آثار تدل على ما أعطاه الله تعالى لعباده من الفكر ومن العقل، الذي رزق ووفق به عباداً صالحين قبلوه وتقبلوه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 بطلان قول من قسم التوحيد إلى: توحيد عامة، وخاصة، وخاصة الخاصة قال رحمه الله: [فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره، فإنه الدليل والمدلول عليه، والشاهد والمشهود له، قال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51] الآيات. وإذا عرف أن توحيد الإلهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب، كما تقدمت إليه الإشارة، فلا يلتفت إلى قول من قسم التوحيد إلى ثلاثة أنواع: وجعل هذا النوع: توحيد العامة. والنوع الثاني: توحيد الخاصة، وهو الذي يثبت بالحقائق. والنوع الثالث: توحيد قائم بالقدم، وهو توحيد خاصة الخاصة] . يقول: إن القرآن الذي أنزله الله على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيه الكفاية لمن اعتبر، فإن المشركين لما طلبوا آيات {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} [العنكبوت:50] قال الله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت:51] أي: هذا الكتاب كاف عن جميع الآيات، لما فيه من الأخبار عن المتقدمين وعن المتأخرين، فمن نظر فيه واعتبر اكتفى بذلك. والقرآن قد بين حقيقة التوحيد الذي أرسلت به الرسل غاية البيان، وهو توحيد العبادة. والذين حكى عنهم المؤلف أنهم جعلوا هذا النوع توحيد العامة! هؤلاء هم غلاة الصوفية، أو أهل الوحدة، وجعلوا وراءه توحيدين: توحيد الخاصة، وتوحيد خاصة الخاصة. وكل ذلك لا دليل عليه، وإنما الأصل أن التوحيد الذي هو حق الله على عباده هو التوحيد الأصلي الذي أمر الناس بأن يدينوا به ويتعلموه ويعبدوا الله تعالى بموجبه، وسيأتي بيان الأدلة على أنواع التوحيد، وعلى بقية أنواع العقيدة إن شاء الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [7] لقد ضل كثير من الناس في التوحيد، فمن ذلك ضلال الصوفية في الفناء والاتحاد، ومن ذلك ضلال المشبهة بغلوهم في إثبات الصفات، والمعطلة الغالين في نفي الصفات، وأهل السنة وسط بين الغلاة والجفاة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 الأنبياء أكمل الناس توحيداً والصوفية مخالفون لهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 توضيح معنى توحيد الخاصة وخاصة الخاصة عند الصوفية مر بنا بيان شيء مما أوضحه الله تعالى من العلم الذي هو أهم العلوم، وأن الله بينه عن طريق السمع، وعن طريق البصر، وعن طريق العقل، فبينه بالآيات السمعية، وذلك بالقرآن والسنة التي تسمع وتتلى، وكذلك بالآيات النظرية وهي المخلوقات التي جعلها الله علامات ودلالات يعتبر بها أولو الألباب. وهكذا بينه عن طريق العقل، حيث أعطى الإنسان فكراً وعقلاً وذكاء يعقل به ما أمامه وما بين يديه، وبكل ذلك ينتج نتيجة وهي معرفة المرء نفسه ومعرفة ربه، ومعرفة ما خلق له وما أمر به، جملة وتفصيلاً. ونتيجة هذه المعرفة وثمرتها هي العبادة الخالصة لله وحده، وترك عبادة ما سواه، فهذه هي نتيجة هذه المعرفة ومدار كلمة الإخلاص التي هي كلمة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، فإن أول ما دعت إليه الرسل كلمة التوحيد، وهو ما جاءت به وما بلغته، وهو ما عليه جماهير الأمة، وهو ما تعلمه المسلمون قديماً وحديثاً، ولا عبرة بمن خالف في ذلك من الصوفية الذين جعلوا هذه الكلمة توحيد العامة. وذلك أنهم قسموا الناس إلى: عامة، وخاصة، وخاصة خاصة. وقالوا: إن كلمة (لا إله إلا الله) توحيد العامة، وكلمة (الله الله) توحيد الخاصة، وكلمة (هو هو) توحيد خاصة الخاصة، يعني خلاصة الخلاصة. فعند هؤلاء -قبحهم الله- أن الأنبياء والرسل والصحابة وعلماء الأمة كلهم من العامة الذين لا يعرفون ولا يفقهون، وعندهم أن الصوفية هم الخاصة، يدخل في ذلك أفرادهم وعلماؤهم، والواصلون منهم إلى الذروة هم خاصة الخاصة، فلأجل ذلك تجدهم في ذكرهم لا يزيدون على كلمة (هو هو) ، مع أنها لا تدل على معنى، وأما كلمة الإخلاص فإنها دالة على معنى فهمه المدعوون، فدلت على إخلاص العبادة لله والتبرؤ مما سواه، ولهذا تشتمل على ولاء وبراء، فإن قوله: (لا إله) براء، (إلا الله) ولاء، فتشتمل على اتصال وانفصال، فـ (لا إله) انفصال عن المألوهات، (إلا الله) اتصال بالإله وحده. فيقال: فيها نفي وإثبات، وفيها اتصال وانفصال، وفيها: ولاء وبراء، فلما كانت كذلك كانت جامعة لمعنى التوحيد الذي هو توحيد الرسل، ولكن كما هو معروف أنه لا بد من معرفة معناها، وذلك لأنه وجد من المتأخرين من يتكلم بها وهو لا يفهم مدلولها؛ فيجب على المسلم أن يفهم ما دلت عليه حتى يعبد الله تعالى بمقتضاها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 كمال توحيد الرسل وبيان أكملهم في ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن أكمل الناس توحيداً الأنبياء صلوات الله عليهم، والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولو العزم من الرسل أكملهم توحيدا، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين. وأكملهم توحيدا الخليلان: محمد وإبراهيم صلوات الله عليهما وسلامه، فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علما ومعرفة وحالا ودعوة للخلق وجهادا، فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل، ودعوا إليه، وجاهدوا الأمم عليه. ولهذا أمر سبحانه نبيه أن يقتدي بهم فيه، كما قال تعالى بعد ذكر مناظرة إبراهيم قومه في بطلان الشرك وصحة التوحيد، وذكر الأنبياء من ذريته: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] . فلا أكمل من توحيد من أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: (أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين) ، فملة إبراهيم التوحيد، ودين محمد صلى الله عليه وسلم ما جاء به من عند الله قولاً وعملاً واعتقاداً، وكلمة الإخلاص هي شهادة أن لا إله إلا الله، وفطرة الإسلام هي ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له، والاستسلام له عبودية وذلاً وانقياداً وإنابة] . إن أكمل التوحيد هو توحيد الأنبياء، وأكملهم الرسل، فإن الرسل هم الذين قاموا بالدعوة والجهاد، وكلفوا بالدعوة، وأكمل الرسل هم أولو العزم، وهم خمسة ذكرهم الله تعالى في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7] ، وقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [الشورى:13] ، هؤلاء هم أولو العزم الذين عناهم الله تعالى بقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ؛ وذلك لأنهم هم الذين صبروا وصابروا ولهم مكانة ومقام، فهم أفضل الرسل. وأفضل الخمسة الخليلان: إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، فالخليلان لهما مقام سام رفيع، وهما اللذان جاهدا في الله، ودعوا إلى التوحيد أتم دعوة، ولقيا في سبيل ذلك ما لقيا. ومعلوم أن الرسل كلهم دعوا إلى التوحيد، وقد أمر الله نبيه بأن يقتدي بهم كلهم، كما في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] ، أي: فاقتدِ بهديهم وبما جاءك عنهم وبما بلغك. ولا شك أن من هداهم التوحيد، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ، كل رسول يوحى إليه بهذا، فهذا من جملة هداهم الذي أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يهتدي به، وأمته تبع له، وكذلك هذا الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه يقول: (قولوا: أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص) إلى آخره، وذلك لأنه قول جامع؛ وذلك لأن فيه ذكر ملة إبراهيم، يعني: أن من جملة ما تمسكنا به ملة أبينا إبراهيم الذي أمرنا الله تعالى بأن نقتدي به، وملة الأنبياء الذين أُمِر نبينا بأن يقتدي بهم، فإذا تمسك المسلمون بذلك فإنهم إن شاء الله على طريق النجاة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 توحيد الصوفية يفضي إلى الفناء والاتحاد قال المؤلف رحمه الله: [فهذا توحيد خاصة الخاصة الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:130-131] . وكل من له حس سليم وعقل يميز به، لا يحتاج في الاستدلال إلى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم البتة، بل ربما يقع بسببها في شكوك وشبه يحصل له بها الحيرة والضلال والريبة، فإن التوحيد إنما ينفع إذا سلم قلب صاحبه من ذلك، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به. ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا أنه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة، ينتهي إلى الفناء الذي يشمّر إليه غالب الصوفية، وهو درب خطر يفضي إلى الاتحاد، انظر إلى ما أنشد شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى حيث يقول شعراً: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد وإن كان قائله رحمه الله لم يرد به الاتحاد، لكن ذكر لفظاً مجملاً محتملاً جذبه به الاتحادي إليه، وأقسم بالله جهد أيمانه أنه معه، ولو سلك الألفاظ الشرعية التي لا إجمال فيها كان أحق، مع أن المعنى الذي حام حوله لو كان مطلوباً منا لنبه الشارع عليه، ودعا الناس إليه وبينه، فإن على الرسول البلاغ المبين، فأين قال الرسول: هذا توحيد العامة، وهذا توحيد الخاصة، وهذا توحيد خاصة الخاصة؟! أو ما يقرب من هذا المعنى، أو أشار إليه؟] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 توحيد الصوفية ليس هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل نعرف أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل -حقاً- توحيد واحد ليس فيه فروع، وليس هناك توحيد خاصة وخاصة خاصة وعامة، بل الرسول دعا الناس كلهم إلى شيء واحد، وأمرهم بأن يتمسكوا به، وهو الإخلاص لله تعالى، بحيث يعبدونه ويتركون عبادة ما سواه بعد المعرفة، فأما هذا التقسيم الذي تدّعيه هذه الطوائف فإنه مبتدع، فالطائفة التي ادعت ذلك -وهم الصوفية- قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام: فجعلوا كلمة لا إله إلا الله، توحيد العامة. والخاصة كلمة: الله. وخاصة الخاصة كلمة: هو. من الذي سبقهم من الرسل إلى هذا التقسيم؟! لو كان حقاً لبينته الرسل لأممهم، فهذا يدل على أنهم لم يسبقوا إليه ولا دليل عليه. ومع كونه لا دليل عليه فإنه يئول بسالكيه إلى الهلاك المعنوي، بحيث يضل صاحبه ويتيه، ويؤدي به إلى الحيرة والريب. كثير من الذين خاضوا في هذا العلم أدى بهم ذلك إلى الشك وإلى الحيرة، ويأتينا إن شاء الله لذلك أمثلة في هذا الكتاب. كذلك يؤدي بهم إلى طريقة أخطر من ذلك وهي طريقة الاتحاد، وهو مذهب باطل، وقد أشار إليه الشارح فيما سبق وهو مذهب الذين يجعلون الخالق متحداً بالمخلوق! يقال لهم: ما الدليل على ذلك؟ ومن الذي سبقكم إلى ذلك؟ فلا يجدون دليلاً ولا سابقاً من أهل العلم. ويؤدي بهم أيضاً إلى طريق يسمونها الفناء، والفناء عندهم هو غاية المنازل، وأعلى المراتب، متى وصل إليها العارف -عندهم- وصل إلى حضيرة القدس! وهو الذي -في نظرهم- يهنأ بعبادته عن معبوده يهنأ بوجوده عن موجوده، بحيث يتلاشى عن نفسه ويفنى لخالقه كما يقولون، ولهم عبارات بشعة لا حاجة بنا إلى أن نعرفها، والجهل بها أولى؛ وذلك لأن تلك المعارف وتلك الشطحات التي وقعوا فيها سببها هذا الخوض، وهو الحصول على رتبة خاصة الخاصة. فذكر المؤلف أن هذا طريق خطر، وأنه لا يجوز سلوكه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 أبيات الهروي موهمة وإن كان معتقده سليما ً ذكر المؤلف تلك الأبيات التي أنشدها أبو إسماعيل الهروي في آخر كتابه الذي سماه منازل السائلين، والذي شرحه ابن القيم في كتابه الذي سماه: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، وذكر هذه الأبيات في أول مدارج السالكين، وحرص على أن يحملها محملاً حسنا، ولكن فيها شيء من الإجمال، وفيها شيء من الإيهام؛ لأن ظاهرها أن الناس كلهم لم يوحدوا الله، ولا يقدر على توحيد الله إلا الله، فقوله: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد ظاهره أن كل الناس حتى الأنبياء لم يكونوا موحدين وإنما الله الذي وحد نفسه، ولكن حملوه على أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف ذلك إلا بمعرفة من الله وتعريف منه، وحمله الاتحاديون على مذهبهم، واجتذبوا أبا إسماعيل رحمه الله إليهم، وأقسموا بالله جهد أيمانهم إنه لمنهم، وكلامه في الحقيقة موهم ولكن عقيدته سليمة وله مؤلفات تدل على أنه من أهل السنة، بينها العلماء في ترجمته. وعلى كل حال فطريقة الرسل وأتباعهم والأئمة والعلماء هي معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، وذكره بما ورد وبما أمر به وبما بلغته رسله، وبذلك يكون الإنسان من العارفين ومن الموحدين، دون أن يحتاج إلى معرفة الاصطلاحات الصوفية والشطحات، وتلك الكلمات التي ما أنزل الله بها من سلطان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 بيان أن مصطلح الفناء ونحوه غلو في الدين قال المؤلف رحمه الله: [هذه النقول والعقول حاضرة، فهذا كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه سنة الرسول، وهذا كلام خير القرون بعد الرسول، وسادات العارفين من الأئمة، هل جاء ذكر الفناء فيها، وهذا التقسيم عن أحد منهم؟ وإنما حصل هذا من زيادة الغلو في الدين المشبه لغلو الخوارج، بل لغلو النصارى في دينهم، وقد ذم الله تعالى الغلو في الدين ونهى عنه فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء:171] ، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77] وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تشددوا فيشدد الله عليكم، فإن من كان قبلكم شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) رواه أبو داود] . أولاً: ذكر أن هذه الاصطلاحات لم يأت بها كتاب ولا سنة، يعني كلماتهم الاصطلاحية التي يتغالون فيها، كتقسيم التوحيد إلى ثلاثة، وتقسيم الفناء أيضاً إلى ثلاثة، وما أشبه ذلك، فكلها ليس عليها دليل، وإنما هي اصطلاحات من عندهم. ثانياً: ذكر أن هذا بسبب الغلو والغلو هو الزيادة عن المطلوب أو على الوارد، والتشدد فيه، وقد حكى الله أن النصارى غلوا في عيسى حيث قالوا: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] أو ثالث ثلاثة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] أو ابن الله: {وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] هذا من الغلو الذي ذمهم الله به، وقد وقع الغلو في هذه الأمة في العبادات وفي غيرها، كما فعلت الخوارج، فإنهم غلوا حتى كفروا بالذنوب. ووقع الغلو في بعض الأشخاص كالرافضة حيث غلوا في أهل البيت، حتى اعتقدوا فيهم العصمة، وفضلوهم على كثير من الرسل، وأعطوهم شيئاً من حق الله. وقد ذم الله تعالى الغلو ونهى عنه كما في سورة النساء: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء:171] وفي سورة المائدة: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} [المائدة:77] الآية. وكذلك في الأحاديث؛ ففي هذا الحديث الذي ذكره النهي عن التشدد، وذم المتشددين فإن من المتشددين النصارى (فإن قوماً شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها) ، وكذلك جاء الذم بلفظ الغلو في قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) ، ذكر أنه أهلك من كان قبلنا، ودين الله تعالى وسط بين الغالي والجافي، والغالي هو الزائد، والجافي هو المقصر، ولعله يأتينا في الغلو ما هو أوسع من هذا البحث إن شاء الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 الرد على المشبهة والمعطلة بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ولاشيء مثله) اتفق أهل السنة على أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام الناس لفظاً مجملاً يراد به المعنى الصحيح، وهو ما نفاه القرآن ودل عليه العقل، من أن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد على الممثلة المشبهة، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد على النفاة المعطلة، فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق فهو المشبه المبطل المذموم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق فهو نظير النصارى في كفرهم. ويُراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات، فلا يقال: له قدرة، ولا علم، ولا حياة؛ لأن العبد موصوف بهذه الصفات! ولازم هذا القول أنه لا يقال له: حي، عليم، قدير؛ لأن العبد يسمى بهذه الأسماء، وكذا كلامه وسمعه وبصره وإرادته وغير ذلك] . في هذه العبارة وهذه الجملة رد على المشبهة الذين غلوا في الإثبات حتى شبهوا الخالق بالمخلوق، فهناك مشبهة للخالق بالمخلوق، وهناك مشبهة لأفعال الخالق بأفعال المخلوق، وهناك مشبهة للمخلوق بالخالق، والكل ضالون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 تشبيه الخالق بالمخلوق كفر الذين شبهوا المخلوق بالخالق: كالنصارى الذين شبهوا عيسى بالله فـ {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} [المائدة:17] أو قالوا: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] ومثلهم جميع الذين يعظمون المخلوقين ويعطونهم شيئاً من حق الله، فإن هؤلاء شبهوا المخلوق بالرب تعالى حيث رفعوا المخلوق وأعطوه ما لا يستحق، ومن هؤلاء أيضاً القبوريون، فإن القبوريين الذين غلوا في المخلوقين قد وصفوهم بصفات لا يستحقها إلا الخالق، ولا شك أن هؤلاء شبهوا المخلوق ورفعوا قدره حتى أعطوه شيئاً من خصائص الخالق سبحانه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 تشبيه أفعال الخالق بالمخلوق ضلال أما التشبيه في الأفعال: فهو أن تجعل أفعال الله كأفعال المخلوق، أو تجعل أفعال المخلوق كأفعال الخالق، وتفصيل ذلك والأمثلة عليه معروفة وتحتاج إلى توسع ليس هذا محله. ولكن يجب أن نعرف أن الله تعالى موصوف ببعض الأفعال وقد يوصف بها العبد، مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فالله تعالى أخبر بأنه استوى على العرش، والإنسان موصوف أيضاً بالاستواء، قال تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:13] وليس الاستواء كالاستواء. كذلك وصف الله تعالى نفسه بالمجيء في قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] وليس مجيء الله مثل مجيء الملائكة، بل مجيء الله يليق به، وكذلك وصف نفسه بالإتيان، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158] وليس إتيان الله كإتيان الملائكة والملائكة مخلوقون، فلهذا نقول إنها من الأفعال، ولا يجوز التشبيه فيها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 التشبيه في الصفات الذاتية ضلال وكذلك لا يجوز أيضاً التشبيه بالصفات الذاتية التي أثبتها الله لنفسه، فإذا أثبت الله لنفسه اليدين في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، نقول: لا كيدي المخلوقين، وإذا أثبت لنفسه الوجه في قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] ، وفي قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] ، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) وأشباه ذلك، فنقول: ليس كمثله شيء في ذلك، فأهل السنة يقولون: إنه وصف حقيقي، ولكن ليس مثل صفات المخلوقين وخصائصهم. هذا هو معنى التشبيه، ولكن سمعنا أن هناك من استعمل التشبيه وأراد به نفي الصفات، وهذه الطريقة سلكتها المعتزلة أتباع جهم بن صفوان ونحوه، وجعلوا النفي مطلقاً، ونفوا عن الله كل صفة وجدت في المخلوق، وزعموا أن إثباتها تشبيه، فصاروا يتعلقون بهذه الآية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ولا يتمونها، أو لا يعملون بآخرها، فإن في آخرها رداً عليهم في نفيهم للصفات، وقد روي أن كبيراً من كبرائهم يقال له: ابن أبي دؤاد قال لأحد الخلفاء: أريد أن تكتب على الكعبة قوله: (ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم) هرباً من إثبات السمع والبصر! فلا شك أن هؤلاء غلواً في النفي، ولازم قولهم أن كل صفة موجودة في أي مخلوق لا يجوز إثباتها للخالق، يعني نقول: يلزمكم أن تنفوا صفة الحياة، وأن تنفوا صفة الوجود، وصفة الذات، وما أشبه ذلك، وإذا قلتم: إن لله ذاتاً، قلنا: شبهتم، فالمخلوق له ذات، فإذا قالوا: لا تشبه ذواتنا، قلنا: لماذا لا تقولون: وسمعه لا يشبه سمع المخلوقين، وبصره لا يشبه بصر المخلوقين؟ وعلى كل حال فالآية دليل لأهل السنة، ولكن اتخذها المعتزلة دليلاً لهم ولم يعملوا بآخرها؛ لأن في آخرها رداً عليهم، يقول العلماء: قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد على المشبهة، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد على المعطلة، فهذا بعض آية فيه رد على طائفتين: طائفة غلت في النفي، وطائفة غلت في الإثبات. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد على الغلاة في الإثبات {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد على الغلاة في النفي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 الرد على المعطلة في غلوهم في نفي المشابهة بين الخالق والمخلوق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 ذكر بعض النصوص التي تذكر أسماء وصفات مشتركة بين الخالق والمخلوق قال المؤلف رحمه الله: [وهم يوافقون أهل السنة على أنه موجود، عليم، قدير، حي، والمخلوق يقال له: موجود، حي، عليم، قدير، ولا يقال: هذا تشبيه يجب نفيه، وهذا مما دل عليه الكتاب والسنة وصريح العقل، ولا يخالف فيه عاقل؛ فإن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى بعض عباده بها، وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى ببعضها صفات خلقه، وليس المسمى كالمسمي. فسمى نفسه: حياً عليماً قديراً رءوفاً رحيماً عزيزاً حكيماً سميعاً بصيراً ملكاً مؤمناً جباراً متكبراً، وقد سمى بعض عباده بهذه الأسماء فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام:95] {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28] {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101] {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2] {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف:79] {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا} [السجدة:18] {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] ومعلوم أنه لا يماثل الحي الحي ولا العليم العليم، ولا العزيز العزيز، وكذلك سائر الأسماء. وقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255] {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166] (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11] {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] وعن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به، قال: ويسمي حاجته) رواه البخاري. وفي حديث عمار بن ياسر الذي رواه النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك بغير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين) . فقد سمى الله ورسوله صفات الله: علماً وقدرة وقوة، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:54] {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة، ونظائر هذا كثيرة، وهذا لازم لجميع العقلاء] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 الرد على المعطلة النفاة أراد بهذا الرد على أولئك الذين كلما جاءتهم صفة لله موجودة في المخلوق نفوها عن الله تعالى وجعلوها مجازاً، أو تأولوها بتأويلات بعيدة، وزعموا أن إثباتها فيه شيء من التشبيه، فيقال: يلزمكم على هذا أن تفرقوا بين صفات المخلوقين، وأن تجمعوا بين صفاتهم وصفات الخالق، ويرد عليهم بهذه الآيات. وفيما تقدم من كلام المؤلف: أن الله سمى نفسه بعدة أسماء وسمى بها بعض خلقه، فمن أسمائه: العزيز، وسمى بعض خلقه بذلك بقوله: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] ومن أسمائه: الملك، وسمى به أيضاً بعض خلقه في قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50] {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف:79] ومن أسمائه: المؤمن، كما في سورة الحشر، وقد سمى به أيضاً بعض خلقه، وكثيراً ما يذكر المؤمن والمؤمنين والمؤمنات، ومن أسمائه الجبار المتكبر، وقد سمى به أيضاً بعض خلقه {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] . ومعلوم أنه ليس الاسم كالاسم، فليس الملك كالملك، وليس العزيز كالعزيز، وليس الجبار كالجبار، فملك الله ليس كملك المخلوق، وعزة الله ليست كعزة المخلوق، إذ عزة المخلوقين محدودة، وهكذا يقال في بقية الأسماء. فكذلك إذا سمى الله نفسه السميع البصير {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134] ، وسمى الإنسان بقوله: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2] ، عرف أنه ليس السمع كالسمع، وليس البصر كالبصر، وإن كان الاسم متحداً، فإن السمع هو: إدراك الأصوات، والبصر هو: إدراك المبصرات والمرئيات، ولكن بينهما تفاوت. هذا في الأسماء. وكذلك يقال في الصفات: إذا وصف الله نفسه بالعلم، ووصف به بعض خلقه، عرف أنه ليس العلم كالعلم، بل بينهما فرق، فعلم الله ليس كعلم المخلوق الذي هو حادث، والذي يعتريه نسيان وتغير، فالله وصف نفسه بالعلم وهو صفة ذاتية، فلا يعتريه جهل ولا تتغير معلوماته {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11] ووصف أيضاً بعض خلقه بالعلم: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] وليس العلم كالعلم. وكذلك القدرة كما في هذه الأحاديث في قوله: (بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق) وفي قوله: (إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي) وما أشبه ذلك، ولا شك أن هذا إثبات لهذه الصفة. فإذا أثبتها المسلم فإن عليه أن يعتقد أنه ليس معناها كالمعنى الذي يثبت للمخلوق، بل صفة المخلوق تليق به، وصفة الخالق تليق به، وبهذا إن شاء الله يصير المؤمن موحدا، فإذا أثبت الصفات ولم يعتقد فيها شيئاً من التشبيه، لامتناع التشابه بين صفات الخالق وصفات المخلوق، ولم ينفها عن الخالق، واعتقد أنها حقيقة لائقة بالخالق سبحانه، وأن صفات المخلوق يعتريها التغير والنقص، وليس كذلك صفات الخالق فلا يكون هذا مشبهاً. بل المشبه كما عرفنا هو الذي يبالغ فيقول: يد الله كأيدينا، وسمعه كأسماعنا، وذاته كذوات المخلوق؛ تعالى الله عن ذلك! وهؤلاء هم الذين رد الله عليهم بعدة آيات كما في قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] وفي قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] وفي قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22] ، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] وأشباه ذلك، فإن هذا رد على الذين جعلوا المخلوق كالخالق، أو الخالق كالمخلوق، تعالى الله عن قولهم! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 شرح العقيدة الطحاوية [8] يخالف في إثبات الصفات لله تعالى كثير من الفرق، وهم درجات في الإنكار، وقد رد عليهم أهل السنة، وألزموا من أثبت صفة بإثبات جميع الصفات، ومن أثبت الأسماء فقط بإثبات الصفات، بل ألزموا من أنكر الأسماء والصفات بإثباتها بناء على إثباته للذات، وليس هذا فحسب، فقد ألزموا الدهرية بإثبات خالق واجب الوجود له أسماء وصفات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 1 وسطية أهل السنة بين المشبهة والنفاة تقدم أن التوحيد قسمان: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الذات. وتوحيد الأسماء والصفات. يسمى الأول: توحيد الربوبية. ويسمى الثاني: توحيد الصفات. وتوحيد الطلب والقصد، وتوحيد الطلب والقصد هو توحيد العبادة. وتوحيد الذات أو الربوبية قد أقر به المشركون، وإنما أنكره بعض الدهرية الذين يخالفون المعقول والمنقول، وهم الذين يقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] . وأما توحيد الصفات فقد تقدم أيضاً تعريفه، وأنه إفراد الله تعالى بصفات الكمال، واعتقاد أنه موصوف بكمال الصفات، وأنه منزه عن صفات النقص، وأن صفاته الثابتة له لا يشبهه فيها غيره، فينبني هذا النوع على النفي والإثبات، فالنفي هو نفي مماثلة المخلوقات، والإثبات هو إثبات صفات الكمال. وسماه السلف توحيداً لكثرة من خالف فيه في زمانهم فقد كان الخلاف في إثبات الصفات شديداً، حيث دخل في الإسلام من أنكر حقيقة الصفات، ونفى صفات الكمال عن الرب سبحانه وتعالى، فاحتاج السلف أن يعتنوا بالأدلة التي تبين ثبوت تلك الصفات لله سبحانه، والأدلة التي تبين توحده، وعدم مشابهة المخلوقات للرب تعالى في خصائصه أو شيء من صفاته. ثم ذكرنا عن السلف أنهم مع الإثبات ينفون التشبيه، ولكن المبالغة في النفي قد صارت سمة للمعطلة، ولذلك يقول بعض السلف: إذا رأيت الإنسان يبالغ في نفي التشبيه فاتهمه أنه من نفاة الصفات، وذلك لأن كثيراً من النفاة يرددون أن الله لا شبيه له {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] لا يشبهه شيء لا يشبه الأنام، ويقصدون بذلك نفي الصفات كلها، ويدعون أن كل صفة وجدت في المخلوق لا يجوز إثباتها للخالق، وهذا في الحقيقة تعطيل، وإنما الواجب أن تثبت على ما يليق بالخالق تعالى، وينفى عنها مشابهة المخلوق، هذه هي طريقة أهل السنة. وقد قرأنا الآيات التي فيها أن الله وصف نفسه بصفات موجودة في المخلوق، وسمى نفسه بأسماء قد سمى بها بعض الخلق، وأنه لا يلزم التماثل، فنحن نقول: إن الله تعالى سميع بصير، والإنسان سميع بصير، ولكن ليس هذا كهذا، وهكذا يقال في بقية الأسماء والصفات كما تقدم، فنستحضر أن المبالغة في نفي الشبيه قد يتخذها النفاة ذريعة إلى نفي الصفات كما تقدم، وسيأتي الكلام على هذه الجملة وما بعدها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 إلزام المخالفين لأهل السنة بإثبات إله متصف بما وصف به نفسه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 إلزام من أثبت بعض الصفات بإثبات الصفات الأخرى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:54] {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] ، ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة، ونظائر هذا كثيرة. وهذا لازم لجميع العقلاء، فإن من نفي صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه، كالرضى والغضب والحب والبغض ونحو ذلك، وزعم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم! قيل له: فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر، مع أن ما تثبته له ليس مثل صفات المخلوقين، فقل فيما نفيته وأثبته الله ورسوله مثل قولك فيما أثبته، إذ لا فرق بينهما] . هنا يرد على بعض النفاة، وهم من يدعون بالأشاعرة، فإنهم يثبتون أن الله يسمع ويبصر ويتكلم ويقدر ويعلم ويريد، ويثبتون له الحياة، ومع ذلك ينفون الصفات الفعلية، فنفوا أن الله يحب أو يبغض أو يفرح، وكذلك ينفون أن لله سبحانه وجهاً أو يداً كما أثبت لنفسه، وهكذا بقية الصفات. فإذا طلب منهم سبب النفي قالوا: إن هذه موجودة في المخلوق، فالمخلوق يغضب ويرضى ويحب ويبغض، فلا يكون الرب مثله. قيل لهم: عجباً لكم! إذاً: أنتم تقولون إن الله يريد ويعلم ويسمع ويتكلم ويقدر، والمخلوقون كذلك، لهم إرادة وسمع وبصر وعلم وقدرة، فما الفرق بين ما أثبتم وما نفيتم؟! ولا يجدون سبيلاً إلى الفرق، فتنقطع بذلك حجتهم، حيث فرقوا بين ما جمع الله بينه، فأثبتوا الإرادة ونفوا المحبة، ولا فرق بينهما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 إلزام من أثبت الأسماء بإثبات الصفات قال رحمه الله: [فإن قال: أنا لا أثبت شيئا من الصفات! قيل له: فأنت تثبت له الأسماء الحسنى مثل: عليم حي قادر، والعبد يسمى بهذه الأسماء، وليس ما يثبت للرب من هذه الأسماء مماثلا لما يثبت للعبد، فقل في صفاته نظير قولك في مسمى أسمائه] . هذه طائفة أخرى من النفاة وهم المعتزلة الذين لا يثبتون شيئاً من الصفات، فلا يثبتون أن الله حي ولا سميع ولا بصير إلخ، تعالى الله عن قولهم، ولكنهم يثبتون الأسماء فيقولون: إن الله سميع بصير عليم قدير حي مريد ملك قدوس يثبتون هذه كأسماء، ولكنهم لا يجعلونها دالة على صفات. فيقال لهم: المخلوق أيضاً يسمى حياً، ويسمى قديراً، ويسمى عليماً، فقد أثبتم أسماء موجودة في المخلوق، فإذا أثبتم الأسماء لزمكم إثبات الصفات فلا فرق. ويقال لهم فيما نفوا مثل قولهم فيما أثبتوا، إذا قالوا: إننا نثبتها على أنها أسماء ينادى بها الرب تعالى، قلنا: المخلوق ينادى بها، فإذا كان لا يلزم التشبيه مع كونها ثابتة للمخلوق، فلماذا لا تثبتون الصفات وتجعلونها مناسبة للموصوف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 إلزام من أثبت الذات بإثبات الأسماء والصفات قال رحمه الله: [فإن قال: وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى، بل أقول هي مجاز، وهي أسماء لبعض مبتدعاته، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة! قيل له: فلا بد أن تعتقد أنه موجود وحق، قائم بنفسه، والجسم موجود قائم بنفسه، وليس هو مماثلا له] . هذا قول طائفة أخرى أشد من المعتزلة، وأضل منهم، وهم غلاة الباطنية والملاحدة وغلاة الفلاسفة، يقولون: إنا لا نثبت الأسماء ولا نثبت الصفات وهذه الأسماء التي يسمى بها الله ليست حقيقة، وإنما هي مجاز، وهي أسماء لبعض المخلوقات أو المخترعات. فيقال لهم: لا بد أنكم تثبتون أن الله موجود وقائم بنفسه، والمخلوق كذلك موجود وقائم بنفسه، فإذا أثبتم هذا الوصف الذي هو موصوف به المخلوق فقد وقعتم فيما فررتم منه، فإنكم فررتم من التشبيه ووقعتم فيه، فلا محيد لكم عن ذلك، فهذا يبين تناقض هؤلاء النفاة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 إلزام الدهرية بإثبات إله واجب الوجود قال رحمه الله: [فإن قال: أنا لا أثبت شيئا بل أنكر وجود الواجب. قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه، وإما قديم أزلي، وإما حادث كائن بعد أن لم يكن، وإما مخلوق مفتقر إلى خالق، وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق، وإما فقير إلى ما سواه. وإما غني عما سواه، وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، والحادث لا يكون إلا بقديم، والمخلوق لا يكون إلا بخالق، والفقير لا يكون إلا بغني عنه، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه، قديم أزلي خالق غني عما سواه، وما سواه بخلاف ذلك] . هذه حجة على الدهرية والشيوعية ونحوهم الذين ينكرون واجب الوجود، فيحتج عليهم بحجة عقلية، فيقال لهم: إن هذه الموجودات حادثة، والحادث لا بد له من محدث، وإذا قلنا: إن المحدث الذي أحدثه يفتقر إلى محدث آخر لزم التسلسل، فيقال: إذاً هناك محدث لها وهو الله تعالى. ويقال أيضاً: إن الموجودات قسمان: واجب الوجود، وممكن الوجود، وواجب الوجود هو الخالق، وممكن الوجود هو المخلوق؛ لأنه يمكن أن يوجد ولأنه يأتي عليه الفناء. وتنقسم أيضاً إلى قسمين: غني بنفسه لا يحتاج إلى غيره وهو الخالق، وفقير بالذات مفتقر إلى غيره وهو المخلوق، فالمخلوق مفتقر ووصف الفقر لازم له، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في قصيدة له: والفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي يقول: إن الفقر وصف ذاتي للمخلوقات، وأن الغنى الذاتي وصف للخالق تعالى، فالله غني بذاته، والمخلوق فقير بذاته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] . وإذا سألنا العاقل عن هذه الأشياء، اضطر إلى الاعتراف بأن هناك خالقاً غنياً قائماً بنفسه، قديماً أزلياً غير مسبوق بعدم، ولا يأتي عليه الفناء، وذلك أخذاً بعين الاعتبار من هذه الموجودات التي وجدت وتفنى، أن الموجود لا بد له من موجد، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] فإذا لم يكونوا خلقوا من غير شيء، تعين أنهم مخلوقون من شيء، وإذا لم يكونوا هم الخالقين تعين أن لهم خالقاً خلقهم، فليس الإنسان يخلق نفسه، وإلا لحرص على أن يكمل خلقه، وكذلك ليس هو يخلق ولده، وإلا لحرص على أن يكون ولده على أحسن ما يكون، فنحن نشاهد أن الإنسان يولد له ولد مشلول، ويولد له أولاد ناقصو الخلقة، ويولد له من هم ناقصو العقلية، وكذلك قد يولد له ذكور، أو إناث، أو إناث وذكور، وذلك دليل على أنه ليس هو الذي يختار، وليس هو الذي يقدر لنفسه، بل هناك من يخلق هذا الخلق ويقدره، وهو الخالق وحده، فعرف بذلك أن هذا الوجود مفتقر إلى موجد واجب الوجود. إذاً: ما دام أن هذا الوجود مفتقر إلى موجب، فيلزم أن يكون ذلك الموجد موصوفاً بصفات تناسبه لا تشبه صفات المخلوق، وإلا لأتى عليه ما يأتي على المخلوق من الفناء. إذاً: فهناك فرق كبير بين الخالق والمخلوق، فالخالق حي لا يموت، والمخلوق يموت، والخالق قديم غير مسبوق بعدم، والمخلوق مسبوق بعدم، يخلق ثم يفنى، كما هو مشاهد، والخالق غني بنفسه، والمخلوق فقير بالذات لا غنى له عن ربه طرفة عين. فهذا يحتج به على هؤلاء النفاة الذين ينكرون أن يكون للوجود موجد، ويسندون الأشياء إلى الطبائع، تعالى الله عن قولهم، والطبائع لا بد لها من طابع، فليس هناك معتمد يعتمدونه ويستندون إليه إلا عقول فاسدة، فلا يلتفت إلى ترهاتهم وأباطيلهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 وجود المخلوقات يدل بالضرورة على وجود خالقها قال رحمه الله: [وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن، والحادث لا يكون واجباً بنفسه، ولا قديماً أزلياً، ولا خالقاً لما سواه، ولا غنياً عما سواه، فثبت بالضرورة وجود موجودين: أحدهما واجب، والآخر ممكن، أحدهما قديم والآخر حادث، أحدهما غني والآخر فقير، أحدهما خالق والآخر مخلوق، وهما متفقان في كون كل منهما شيئاً موجوداً ثابتاً، ومن المعلوم أيضا أن أحدهما ليس مماثلا للآخر في حقيقته، إذ لو كان كذلك لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وأحدهما يجب قدمه وهو موجود بنفسه، والآخر لا يجب قدمه ولا هو موجود بنفسه، وأحدهما خالق والآخر ليس بخالق، وأحدهما غني عما سواه والآخر فقير. فلو تماثلا للزم أن يكون كل منهما واجب القدم ليس بواجب القدم، موجوداً بنفسه غير موجود بنفسه، خالقاً ليس بخالق، غنياً غير غني، فيلزم اجتماع الضدين على تقدير تماثلهما، فعلم أن تماثلهما منتف بصريح العقل، كما هو منتف بنصوص الشرع] . هذا تكميل للحجة العقلية في الرد على الشيوعيين والدهريين، فهو يقول: إننا نشاهد أن على الأرض هذا المخلوق، الذي هو الإنسان والحيوان والدواب والأشجار والنباتات ونحوها، ونعرف أنها كائنة حية، ونعرف أنها موجودة وأنها أشياء، ونعرف أنها حادثة مسبوقة بعدم، ونعرف أنه يأتي عليها الفناء والعدم، فتيبس الأشجار وتنقطع الثمار مثلاً، وتموت الدواب والحشرات ونحوها وتتوالد، ويموت الإنسان ويخلفه غيره وهكذا، فهذا الدليل يبين أنها حادثة، والحادث فقير، فلا بد أن يكون الذي أحدثه غني، والحادث عاجز، ولا بد أن يكون الذي أحدثه قادر كامل القدرة، والحادث مستجد ولا بد أن يكون الذي أحدثه قديم، فإذا كان كذلك فالذين ينكرون هذا الدليل العقلي قد أنكروا المحسوس. ونعرف الفرق الكبير بين الحادث والمحدث بين المخلوق والخالق بين الغني والفقير بين واجب الوجود وممكن الوجود أو جائز الوجود بين الموجود بنفسه وبين الموجود بغيره، ففرق كبير بين هذا وهذا، فبهذا الدليل العقلي يرد على هذه الطوائف. وأما الأدلة السمعية فإنها أشهر وأظهر، وكثيراً ما يحتج الله تعالى بالآيات الظاهرة على وجوده وعلى عظمة شأنه ونحو ذلك، وقد تقدم لنا شيء من الأدلة على ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 الاتفاق في التسمية بين ما للخالق والمخلوق لا يلزم منه المشابهة قال رحمه الله: [فعلم بهذه الأدلة اتفاقهما من وجه واختلافهما من وجه، فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلا قائلا بالباطل، ومن جعلهما متماثلين كان مشبهاً قائلاً بالباطل والله أعلم؛ وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه، فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك، والعبد أيضاً مختص بوجوده وعلمه وقدرته، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه] . أي: أن الخالق والمخلوق مشتركان في الأسماء، فالخالق شيء والمخلوق شيء، الخالق موجود والمخلوق موجود، الخالق ثابت والمخلوق ثابت، وكذلك في بعض الصفات، يقال مثلاً: الله حي، والإنسان حي، وما أشبه ذلك، لكن هذا الاتفاق لا يلزم منه التشابه، بل بينهما فرق كبير، إذا عرفنا دلالة العقل على وجود خالق قدير قديم أزلي قادر لا يعجزه شيء، ولا يخرج عن قدرته شيء، عرف بذلك أن المخلوق ينافي هذه الصفات، فهو محدث وفقير إلى آخر ما تقدم. فيثبت بذلك وجود الخالق، واتصافه بالصفات التي يتصف بها المخلوق، ولكن لا يلزم التشابه بين صفة الخالق وصفة المخلوق، كما لا يلزم التشابه بين الذاتين. قال رحمه الله: [وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة، فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه، وهذا موضع اضطرب فيه كثير من النظار، حيث توهموا أن الاتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب كالوجود الذي للعبد] . أي: وهذا خطأ، فإنه إذا اتفق اثنان في اسم لم يلزم أن يكون هذا كهذا، فإننا نسمي الشجر حياً، ونسمي الحيوان حياً، فالبعير حي والإنسان حي، والشجر حي، ولا يلزم أن يكون هذا كهذا، ويقال: موجود في هذه البلد جبال، فالجبال موجودة والحيوانات موجودة، فاتفقت في كلمة الوجود، ولا يلزم أن تكون الجبال كالحيوانات، بل بينها فرق، فما دام كذلك فلا يلزم إذا قلنا: الله حي والإنسان حي، أن يكون هناك تشابه بينهما، فليست هذه الحياة كهذه الحياة، ولا العلم كالعلم، ولا القدرة كالقدرة، وعرف بذلك ضلال هذه الطوائف في هذه التقديرات. قال رحمه الله: [وطائفة ظنت أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك اللفظي، وكابروا عقولهم؛ فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم، كما يقال: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، واللفظ المشترك كلفظ المشتري الواقع على المبتاع والكوكب، لا ينقسم معناه، ولكن يقال: لفظ المشتري يقال على كذا أو على كذا، وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في موضعه] . وهذه طوائف من المتكلمين يبالغون في مثل هذه الأشياء، ويرد عليهم فيقال مثلاً: إن هناك وجوداً في الأعيان ووجوداً في الأذهان، والمعنى الموجود في الأذهان هو ما يتخيله الإنسان بعقله، ولكن قد يتخيل وقد يصور بعقله أشياء غير حقيقية، فعرف بذلك أن الوجود في الأذهان لا يلزم منه التماثل، فإذا مثل الإنسان في ذهنه شيئاً أو تخيل أشياء لم يلزم أن تكون واقعية. وأما الذين قالوا إن الوجود لفظ مقول بالاشتراك اللفظي، فلا شك أن هؤلاء أيضاً أخطئوا، ومعلوم أن هناك كلمات تشترك فيها موجودات ولكن تختلف المسميات، فعندنا كلمة (المشتري) تقع على الذي يشتري منك سلعة، وتقع على الكوكب المشهور، فيقال: هذا الكوكب اسمه المشتري، ومعلوم أن هذا كوكب وهذا إنسان. وأما قولهم إن كلمة (موجود) مشتركة لفظاً، فهذا خطأ، فإن اللسان الذي تكلمت به العرب تدل على أن الموجود هو الذي له وجود في الأعيان ويدرك بالعين. ولا يقال للموجود في الذهن إنه موجود حيث إنه لا يدرك بالأعيان، فلا بد أن يكون الوجود مدركاً بالأعين لا مقدراً في الذهن، فظهر بذلك خطأ الذين يقولون إنه من باب الاشتراك اللفظي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 بيان خطأ النفاة في توهمهم أن الأسماء الكلية يكون مسماها ثابتاً في الأعيان قال رحمه الله: [وأصل الخطأ والغلط: توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية، يكون مسماها المطلق الكلي، هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وهذا المعين، وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً، بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها معيناً مختصاً به، فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به، فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق؟ ألا ترى أنك تقول: هذا هو ذاك، فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين] . إن الكلام على ما يتعلق بالوجود في الذهن وبالوجود في العين كلام يتعلق بالاحتجاج على الملاحدة ونحوهم، فهم يحتاجون إلى بسط في الكلام، وإلى إقناع لهم، لأجل ذلك نقل الشارح هذا الكلام من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره؛ ليبين أنهم يفرضون وجوداً في الذهن مخالفاً للوجود في العين، ثم يعتقدون أنه لو أطلق أنه موجود في العين لحصل بذلك تشابه، فلذلك نفوا الوجود في العين، وقدروا وجوداً في الذهن، وكل ذلك كلام لا طائل تحته، والمسلم على فطرته يعتقد أن كل صفة ثبتت للخالق فإنه لا يشبه فيها خلقه، وأن المخلوق بصفاته ناقص وحادث، وصفاته تناسبه، كما أن صفات الخالق تناسبه. قال رحمه الله: [وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى وزادوا فيه على الحق فضلوا، وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه، وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا، وأن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه. فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه؛ ولكن أساءوا في نفي المعاني الثابتة لله تعالى في نفس الأمر، والمشبهة أحسنوا في إثبات الصفات ولكن أساءوا بزيادة التشبيه] . أي: وكلا الطائفتين مخطئة ضالة، الذين غلوا في الإثبات حتى جعلوا صفات المخلوق كصفات الخالق، قالوا: لله يد كأيدينا، ووجه كوجوهنا، تعالى الله عن قولهم، نعم هم أحسنوا في إثبات الصفة ولكنهم أخطئوا في التشبيه. وأما النفاة فهم الذين غلوا في النفي، فقالوا: كل صفة موجودة في المخلوق لا يمكن أن تثبت للخالق فإن إثباتها يئول إلى التشبيه، والله تعالى ليس كمثله شيء، فأحسنوا في نفي التشبيه ولكنهم أساءوا حيث نفوا الصفات الثابتة الموجودة. والوسط أن يقال: صفات الخالق تليق به، وصفات المخلوق تليق به، وليست هذه كهذه، ويثبت ما أثبته الله لنفسه، وينفى ما نفاه عن نفسه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 المخاطب لا يفهم معاني الألفاظ إلا بعد معرفة عينها أو ما يناسب عينها قال رحمه الله: [واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها أو ما يناسب عينها، ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الألفاظ المفردة، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة، ينطق له باللفظ المفرد ويشار له إلى معناه إن كان مشهوداً بالإحساس الظاهر أو الباطن؛ فيقال له: لبن خبز أم أب سماء أرض شمس قمر ماء، ويشار له مع العبارة إلى كل مسمى من هذه المسميات، وإلا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي، كيف وآدم أبو البشر وأول ما علمه الله تعالى أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل] . معلوم أن هذه المسميات لا تفهم إلا بعد التفهيم، فلو قدم إنسان أعجمي إلى هذه البلاد، ولا يعرف ما نتكلم به، احتاج إلى مدة وزمان حتى يعرف المسميات، فيسمع كلمة (رجل) ، ولا يدري ما تدل عليه حتى يقال له: هذا هو الرجل، ويسمع كلمة (كرسي) ولا يدري ما هو حتى يقال: هذا هو الكرسي، يسمع كلمة (مسجد) ولا يدري ما هو حتى يقال له: هذا هو المسجد، وهذا هو السقف، وهذا هو الفراش، وهذا هو العمود، وهذه هي الألواح، فيأخذها بالتدريج، كالصبي عندما يلقن كلمة كلمة، فيقال له مثلاً: هذا هو الأب، وهذه هي الأم، وهذا هو الخبز، فإذا سمع كلمة الخبز فقد لا يفهم حتى يشار إليه، وهذا هو اللبن، وهذا هو اللحم، فيأخذها بالتدريج. فمعلوم أن هذه الأسماء لا بد أن تفهم بالتدريج، والله تعالى علّم آدم الأسماء كلها كما ورد في الحديث، اسم الإنسان، وأسماء الحيوانات والدواب والأدوات، والكواكب، والحشرات، والنباتات. هذا التعليم لا شك أنه لقنه تلقيناً، قيل له: هذا اسمه كذا، هذا اسمه كذا، فكذلك هذه الكلمات التي نتكلم بها في هذه اللغة، وكذلك الأعاجم، لا نعرف اصطلاحاتهم حتى يسموها لنا، فتؤخذ بالتعلم وبالتدريج، فإذا كان معلوماً أن هذه المسميات لها معان، فكلمة (الحب) قد لا نستطيع أن نعبر عن معناها ولكن فهمت باصطلاحنا، والأعاجم لا يدرون ما معناها، حتى يشار لهم. الله تعالى أثبت المحبة فنحن نفهمها ونقول: إن معناها كذا {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76] {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] ونحو ذلك، وكلمة العجب أثبتها الله بقوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد:5] فنحن نفهمها بلغتنا، ونترجمها باللغات الأخرى، ونعرف مدلولها ومعناها، وكذا كلمة الغضب، وكلمة الرضا، وكلمة البغض، وكلمة الرحمة، وما أشبه ذلك. هذه كلمات تدل على صفات، فلا بد أن العرب الذين نزلت عليهم يفهمون مدلولها، وإذا كان مدلولها واضحاً عندهم، عرف بذلك أنها مفهومة المعاني، وأنها دالة على صفات، وأن الذين قرئت عليهم فهموا مدلولها. فهؤلاء الذين أنكروها يقال لهم: أنكرتم شيئاً مفهوماً معقولاً في عقولكم وفي عقول من قبلكم، فأنكرتم الحس والعقل والشرع، فيعرف بذلك أن الألفاظ التي تأولوها أو أنكروها، أو قالوا إنها ذهنية، أو إنها مشتركة اشتراكاً لفظاً، أو إنها مجاز، أو ما أشبه ذلك، لا حجة لهم في ذلك، وذلك كتأويلهم للرحمة وللغضب وللرضا، لليد وللعلو وللنزول وللاستواء وما أشبه ذلك، مع أنها كلمات مفهومة عند الذين نطقوا بها، ومعلوم معناها عندهم كما يعرفون مسمى الخبز ومسمى اللبن ومسمى اللحم وما أشبه ذلك، فيعرفون هذه ويعرفون هذه، فما الذي جعلكم تتأولون الصفات وتتكلمون فيها، ولا تؤولون كلمة الخبز وكلمة اللحم وكلمة التمر وما أشبه ذلك، فالذين تكلموا بهذا يفهمونه كالذين تكلموا بهذا. فهذا يبين أن تأويلاتهم بعيدة عن العقل والفطرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [9] أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين، فخاطب الناس بلسانهم، وعلمهم بالتدريج، وكان مما خاطبهم به التعريف بالله بأسمائه وصفاته، وذلك بألفاظ يفهمون معانيها، ويفهمون أن المخلوق وإن اتصف بمسمياتها لكن الحقائق تختلف، ولذلك لم يتوهموا تشبيهاً، ولا فروا منه إلى النفي والتعطيل، بل أثبتوا كلمة التوحيد، وثبتوا على ما جاء في التنزيل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1 وضوح البلاغ وحرص المبلغ يقتضي وجوب الإيمان بأسماء الله وصفاته يعتقد المسلمون أن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، ويعتقدون أن توحيد الصفات متلقىً عن الشرع، مأخوذ عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره الله لحمل الرسالة لما فيه من الأهلية، فهو عليه الصلاة والسلام من أفصفح الخلق، وأنصحهم، يحب الخير لأمته، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} يعني: من جنسكم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فإذا كان حريصاً على هداية الأمة، وإذا كان يحب لهم النجاة، وإذا رزقه الله وأعطاه الفصاحة، والقدرة على البلاغ والبيان، فلا بد أنه قد بلغ، ولا بد أنه قد بين، ومن اعتقد أنه كتم ما أنزل إليه كفر، ومن اعتقد أنه لبس على الأمة وأوقعهم في الحيرة كفر، بل نعتقد أنه بلغ ولم يكتم، وأوضح وبين. وإذا رجعنا إلى بيانه وإلى ما بلغه وجدناه واضحاً. ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام ظهر في أناس يتكلمون باللغة العربية ويفهمون كلامه، وإذا كان كذلك فلا بد أنه خاطبهم بما يفهمون، فنرجع إلى لغتهم. ومعلوم أنه جاء بشيء لم يكونوا يعرفونه، فسماه بأسماء يفهمونها، فما كانوا يعرفون كلمة الإسلام، ولا كلمة الإيمان على مسماها الشرعي، ولا كانوا يعرفون الصلاة ولا الوضوء ولا الصوم على مسماها الشرعي، وكذلك لم يكونوا يعرفون مسمى النفاق، ولا مسمى الكفر، ولا الشرك، ولا الفسوق بمسماها الشرعي، لكن يعرفون الكلمات على معان أخرى، فاستعمل هذه المعاني التي تقارب ما يعرفونه. وإذا كان هذا في هذه الأمور المعتادة فإنه أيضاً تكلم معهم في الصفات، فإنهم يعرفون السمع وما يطلق عليه، وكذلك البصر، والقدرة، والقوة، والعلم، والكلام، فلابد أنه خاطبهم بالأشياء التي يفهمونها، وأنهم فهموا ما بلغهم به. على هذا: فإن الذين يتكلفون في صرف اللفظ عن ظاهره لا شك أنهم وقعوا في ضلال، ووقعوا في تخطئة النبي عليه الصلاة والسلام من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 2 بيان أن الشرع خاطب العرب بصفات الله وهم يفهمون معانيها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها، أو ما يناسب عينها، ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الألفاظ المفردة، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة، ينطق له باللفظ المفرد ويشار له إلى معناه إن كان مشهوداً بالإحساس الظاهر أو الباطن، فيقال له: لبن، خبز، أم، أب، سماء، أرض، شمس، قمر، ماء، ويشار له مع العبارة إلى كل مسمى من هذه المسميات، وإلا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي، كيف وآدم أبو البشر، وأول ما علمه الله تعالى أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل. فدلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وعنايته في قلبه، فلا يعرف باللفظ ابتداء ولكن لا يعرف المعنى بغير اللفظ، حتى يعلم أولاً أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعنى به، فإذا عرف ذلك ثم سمع اللفظ مرة ثانية، عرف المعنى المراد بلا إشارة إليه. وإن كانت الإشارة إلى ما يحس بالباطن مثل الجوع، والشبع، والري، والعطش، والحزن، والفرح، فإنه لا يعرف اسم ذلك حتى يجده من نفسه، فإذا وجده أشير له إليه، وعرف أن اسمه كذا، والإشارة تارة تكون إلى جوع نفسه أو عطش نفسه، مثل أن يراه أنه قد جاع فيقول له: جعت، أو: أنت جائع، فيسمع اللفظ ويعلم ما عينه بالإشارة أو ما يجري مجراها من القرائن التي تعين المراد، مثل نظر أمه إليه في حال جوعه، وإدراكه بنظرها أو نحوه أنها تعني جوعه، أو يسمعهم يعبرون بذلك عن جوع غيره] . أورد الشارح هذا الكلام ليبين أن الرسول عليه الصلاة والسلام خاطبهم بكلمات يفهمونها، وإلا لما سكتوا حتى يستفهموا، فإن الإنسان الذي لا يفهم الكلمة لابد أن يسأل عنها، فأنت مثلاً لو لقيت رجلاً أعجمياً، ثم إنك خاطبته بمثل هذه الكلمات ولم يفهم، فإنه يضيق صدره حتى تفهمه، فتقول له: هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، هذه -تشير إليها- اسمها شاة، وهذه اسمها بقرة، وهذا اسمها ناقة، وهذا جمل، وهذا حصان، فحينئذ يفهم. وهكذا أيضاً إذا عبرت له عن الأشياء العلوية، قلت مثلاً: هذه هي السماء، وهذه هي الأرض، وهذا اسمه جبل، وهذا اسمه واد، وهذه شجرة، وهذه نخلة، إلى أن يفهم. وهكذا أيضاً تعبر له عن المعاني التي قد لا يكون مشاراً إليها، ولا يكون لها أشخاص؛ مثل الجوع، والعطش، والخوف، والفرح، والحزن، والضحك، والبكاء، فإنه لا يفهمها إلا إذا أحس بها. فإذا كان الأمر كذلك فلاشك أنه عليه الصلاة والسلام عندما تكلم بالكلمات كانوا يفهمون معناها، فكانوا يفهمون أنه إذا أخبر بأن الله سميع بصير؛ أن معناه أنه يدرك الأصوات ويبصر المرئيات، وكذلك إذا أخبر بأنه متكلم، يفهمون أن الكلام هو ما يسمع وما يعبر به عن المعاني، ويفهمون أن العلم ضد الجهل، ويفهمون أن المحبة ضد الكراهية أو ضد البغض وهكذا. فإذا كانوا يفهمون ذلك وهي لغتهم فكيف يقال: إنها غير معلومة، وإن هذه الكلمات بمنزلة الكلمات الأعجمية التي يسمعها الإنسان ولا يدري ما معناها؟! فأنت لو سمعت كلاماً أعجمياً أو كلاماً لم تفهمه، قلت: كلمني فلان بكلام غير معروف، فلا تشهد له بالبيان، ونحن نشهد بأن الرسول عليه الصلاة والسلام بين، وأن القرآن بيان، قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران:138] ، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل:44] فنشهد بأنه بين للناس، وأن الناس فهموا عنه، ولو كان ما يقوله النفاة والمبتدعة من التكلف في طرح تلك الكلمات لما كان قد بين، هم لا يقولون إنه بين، بل يعتقدون أنه لبس، وحاشاه عليه الصلاة والسلام من التلبيس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 بيان انقسام المخاطبين في فهم الخطاب للتوصل إلى أن الصفات خطاب له معنى مفهوم قال رحمه الله: [إذا عرف ذلك، فالمخاطب المتكلم إذا أراد بيان معان، فلا يخلو: إما أن تكون مما أدركها المخاطب المستمع بإحساسه وشهوده، أو بمعقوله، وإما أن لا تكون كذلك. فإن كانت من القسمين الأولين لم يحتج إلى معرفة اللغة، بأن يكون قد عرف معاني الألفاظ المفردة، ومعنى التركيب، فإذا قيل له بعد ذلك: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8-9] ، أو قيل له: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] ونحو ذلك، فهم المخاطب بما أدركه بحسه. وإن كانت المعاني التي يراد تعريفه بها ليست مما أحسه وشهده بعينه، ولا بحيث صار له معقول كلي يتناولها حتى يفهم به المراد بتلك الألفاظ، بل هي مما لا يدركه بشيء من حواسه الباطنة والظاهرة، فلابد في تعريفه من طريق القياس، والتمثيل، والاعتبار بما بينه وبين معقولات الأمور التي شاهدها من التشابه والتناسب، وكلما كان التمثيل أقوى كان البيان أحسن، والفهم أكمل] . الرسل عليهم السلام بينوا للناس أشياء يشاهدونها، وبينوا أشياء لم يشاهدوها ولكن شاهدوا ما يشهد لها، فمثلاً: العبادات وضحوها، فقالوا: هذا اسمه وضوء، وهذه كيفيته، وهذه الصلاة، وهذه كيفيتها، هذا من جملة البيان. كذلك بلغوا أشياء لم نشاهدها، وعبروا عنها بعبارة نفهمها، فمثلاً: اليوم الآخر الذي هو يوم القيامة، ما شاهدناه، حيث إنه لم يقع بعد، ولكن ذكرت لنا أوصافه بكلمات مفردة وجمل نفهم المعنى منها، فأخبر بأن الناس يبعثون، وتعاد أرواحهم في أجسادهم، وهذا مفهوم معناه، وكذلك جمع الناس في يوم القيامة مفهوم معناه: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] وكذلك نصب الموازين والوزن للأعمال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] فالوزن معروف. وكذلك الإخبار بنشر الكتب: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً} [الإسراء:13] ، فنحن ما رأيناه ولكن نفهم معناه، وهذه الأمور التي أخبرنا بها ونحن لم نرها فهمنا معناها، حيث إن جنس هذه الكلمات معروف، فالوزن في الدنيا معروف، ولكن ليس الوزن في الدنيا كالوزن في الآخرة، بل بينهما فرق، إلا أن كلاً منهما فيه ميزان يرجح وينقص. وكذلك الصراط الذي أخبر بأن الناس يمشون عليه، فالصراط في الدنيا معروف؛ وهو الطريق الواسع، ولكن أخبر في الآخرة بأن هذا الصراط منصوب وأخبر بصفته، فنؤمن بذلك، ولكن نعتقد أنه ليس كالذي نعرفه في الدنيا. وهكذا أيضاً الكتب التي تنشر في الآخرة: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ} [الإسراء:13-14] كل يقرأ كتابه؛ الأمي وغير الأمي، معلوم أن هذا ليس ككتاب الدنيا الذي لا يقرؤه إلا القارئ، فعرف بذلك أنهم أخبروا بأشياء من الغيب مفهوم معناها، وإن لم تفهم كيفيتها. لذلك يعرف أن الإيمان بالأمور الغيبية لابد من فهم معناه، فلو أن الناس ما فهموا كلمة النار، وجهنم، وسقر، والسعير، ونار تلظى، ونار موقدة، ونار حامية، لما خافوا ولا بكوا، ولا حذروا ولا ابتعدوا عن المعاصي التي تدخلهم في هذه النار، ولكن فهموا أنها نار عذاب، وأنها عذاب وبيل، واعتقدوا صحة ما جاء فيها من الحميم والزقوم، والغساق، وما أشبهه. ولو أن الناس ما فهموا معنى (جنات النعيم) و (دار السلام) وما أشبهها، وما فيها من الحبور، وما فيها من القصور والأنهار والأشجار والثمار، لما عملوا لأجلها، فلابد أنهم فهموها. فإذاً: الذين آمنوا بالآخرة وآمنوا بالغيب، فهموا معنى ذلك، فيقاس على ذلك فهمهم لمدلول الصفات وإن لم يكن هناك تماثل حقيقي، ولهذا يقول ابن عباس: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء) يعني: أنها تتشابه في الأسماء، وتتشابه في المعنى العام، الله تعالى أخبر بأن في الجنة أنهاراً، ومع ذلك تجري في غير أخدود، هل يتصور أنها تجري في الدنيا على الأرض بغير أخدود؟! يعني: في غير حفر وسواق، هذا من آيات الله! وكذلك المنازل التي في الآخرة، أخبر في الحديث (بأنه يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها) فهذا دليل على أننا نعرف أنها قصور، وأنها مبنية، وأنها من لؤلؤ ومن زبرجد، ولكن ليست مثلما ندركه، فهذا دليل على أن أمور الآخرة نفهم معناها، ولكن كيفيتها لا ندركها، فيقال مثل ذلك أيضاً في الصفات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 طريقة إطلاق الألفاظ الشرعية على مسمياتها الحادثة المشاهدة قال رحمه الله: [فالرسول صلوات الله وسلامه عليه لما بين لنا أموراً لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها، أتى بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني، وجعلها أسماءً لها، فيكون بينها قدر مشترك، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والإيمان، والكفر. وكذلك لما أخبرنا بأمور تتعلق بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وهم لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها، أخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من القدر المشترك بين تلك المعاني الغيبية والمعاني الشهودية التي كانوا يعرفونها، وقرن بذلك من الإشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد، كتعليم الصبي، كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم] . فهمنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام استعمل معاني لم تكن معروفة عند العرب، ولكن عبر عنها بما يقاربها من كلمات يفهمون معناها، فما كانوا يعرفون أن الشرك هو عبادة غير الله معه، ولكن يعرفون أن الشرك اشتراك اثنين في شيء، فتسمية عبادة غير الله مع الله مثل اشتراك اثنين في شيء، فسماه شركاً لما فيه من الاشتراك. وكانوا يعرفون أن الكفر هو الستر والتغطية، فلما كان الكافر قد أنكر الإيمان وأنكر التوحيد وجحده وستره صدق عليه أنه كفر، فسماه الرسول بأمر الله كفراً. وما كانوا يعرفون أن الإيمان هو الدخول في هذه الشريعة وتقبلها، بل يعرفون أن الإيمان هو تصديق الإنسان بقلبه بشيء، فلما جاء بهذه الكلمة جعلها اسماً للتصديق الكلي بما جاء في هذا الشرع، فهذا تصديق وذاك تصديق، ولكن هذا بشيء وذاك بشيء. وكذلك ما كانوا يعرفون كلمة الإسلام إلا أنها الإذعان للشيء والاستسلام له، فاستعمل الإسلام في الإذعان للشرع والانقياد له، وما كانوا يعرفون أن الصلاة هي الركوع والسجود، فاستعملها في هذا؛ لأنهم كانوا يعرفون أن الصلاة هي الدعاء، وهذه فيها دعاء. وهكذا علمهم عليه السلام أسماء هذه الأشياء، ثم علمهم كيفيتها، فلما سئل عن الإسلام فسره بالأركان الخمسة، ولما سئل عن الإيمان وعن الإحسان فسرها. فإذا كان هذا تعليمه لأمته هذه الكلمات فيما يقاربها من اللغة التي يفهمونها، فهو بمنزلة المعلم، الذي يعلم تلاميذه ويبدأ معهم بصغار العلم قبل كباره، ويربيهم بذلك، والله تعالى قد أرشد إلى هذه الطريقة بقوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] فهكذا ينبغي أن يعرف ويعتقد أن الرسل بلغوا وبينوا للناس الأمور الغيبية والأمور الاصطلاحية الشرعية على حسب ما يفهمون، وأن أممهم فهموا منهم ذلك فهماً كاملاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 إخبار الرسول بالأمور الغيبية وطريقة التعليم فيها ترد على نفاة الصفات قال رحمه الله: [وأما ما يخبر به الرسول من الأمور الغائبة، فقد يكون مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم، كإخبارهم بأن الريح أهلكت عاداً، فإن عاداً من جنسهم والريح من جنس ريحهم وإن كانت أشد، وكذلك غرق فرعون في البحر، وكذا بقية الأخبار عن الأمم الماضية. ولهذا كان الإخبار بذلك فيه عبرة لنا، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] . وقد يكون الذي يخبر به الرسول مما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه، لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه، كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر، فلابد أن يعلموا معنًى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ، وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم. فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد، ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كاملة ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب، أشهدهم إياه، وأشار لهم إليه، وفعل فعلاً يكون حكاية له وشبهاً به، يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة] . سمعنا أن هذا من جملة ما بينه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم عن أمور لم يشاهدوها، فمن ذلك أمور قد سبقت ولكن يفهم معناها، فأخبر الله بأنه أغرق قوم نوح وأنجى نوحاً في السفينة، فنعرف أن قوم نوح بشر مثلنا، وأن السفينة مركب من المراكب يسبح في البحر، فأخبر بأنه نجى نوحاً ومن معه في السفينة، في قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:15] وفي قوله: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:27] هذا شيء مفهوم، سمعناه وفهمنا معناه. وكذلك إخباره بأنه أهلك عاداً بالريح، فعاد بشر مثلنا إلا أنهم أشد خلقاً، كما في قولهم: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] والريح من جنس الريح التي نعرفها إلا أنها أشد، وهكذا يقال في الأخبار عن الأمم السابقة، فمعناها مفهوم. وأما الأمور الغيبية التي هي من الأمور الأخروية فقد أخبر الله تعالى على لسان رسوله عن أمور غيبية من الأمور المستقبلة، ولكن نصدق بها ونفهم مدلولها الإجمالي وإن لم نفهم الكيفية. قد ضربنا مثلاً بالصراط وبالميزان، وكذلك الحوض في الآخرة، وهكذا حساب الله تعالى للخلق، وهكذا خلقتهم وكيفيتهم، وكذا ذكر الجنة والنار وما فيهما، فمعانيها مفهومة وإن لم يكن الذي نشاهده في الدنيا كالذي يحصل في الآخرة، بل بينهما تفاوت، فعرف بذلك أن الرسل بينوا للناس، وأن الناس فهموا المعنى العمومي الذي يحصل به إدراكهم وانتفاعهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 تقدير انتفاء المماثلة بين الخالق والمخلوق تغني عن إثبات الفارق عند ذكر الصفات قال رحمه الله: [فينبغي أن تعرف هذه الدرجات: أولها: إدراك الإنسان المعاني الحسية المشاهدة. وثانيها: عقله لمعانيها الكلية. وثالثها: تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية. فهذه المراتب الثلاث لابد منها في كل خطاب؛ فإذا أخبرنا عن الأمور الغائبة فلابد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة والاشتباه الذي بينهما، وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة، ثم إن كانت مثلها لم يحتج إلى ذكر الفارق، كما تقدم في قصص الأمم، وإن لم يكن مثلها بين ذلك بذكر الفارق، بأن يقال: ليس ذلك مثل هذا، ونحو ذلك. وإذا تقدر انتفاء المماثلة كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق، وانتفاء التساوي لا يمنع وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك، وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة، ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط] . يقول: لابد في معرفة المعاني من معرفة الألفاظ، فلو كنا لا نعرف كلمة (سمع) ما فهمنا قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] ، ولو كنا لا نعرف المعنى الذي تفسر به الكلمة، وهو أن السمع إدراك الأصوات، ما فهمنا أيضاً المعنى الذي دلت عليه الجملة، ولو كنا نسمع كلمة (سمع) ونفسرها ولكن لا ندري ما مدلولها، ما فهمناها ولا انتفعنا بالكلام. فيقال: أولاً: علينا أن نعرف أن المعاني واضحة تفهم بمجرد فهم اللغة، فيفهم المسلمون إذا قيل في أوصاف الله عز وجل إنه المهيمن، أنه رقيب على عباده، ويفهمون أنه يراهم إذ قال: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218-219] ، وإذا قرءوا قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:15-16] فهموا أن ذلك تخويف، وأنه لا يخفى عليه من أمورهم خافية، ولو كانوا لم يتصوروا هذا القرب وذلك لأنه من الأمور الغيبية، إنما القصد منه التخويف حتى يحذر الإنسان إذا عرف أنه عليه رقيب. فإذا عرفنا مدلول الكلمة وعرفنا كيف تفسر، فإننا ندرك ثبوت الصفة، ولكن لا نفهم التشبيه، فلا نفهم أن صفة المخلوق كصفة الخالق، فلا نقول: إن الله يسمع كسمعنا، ويبصر كبصرنا، وله يد كأيدينا، ما الذي سبب معرفتنا لهذا الفرق؟ و الجواب أن صفات المخلوق إذا أضيفت إليه تناسبه، وصفات الخالق إذا أضيفت إليه تناسبه، فالإضافة كافية في إثبات الفرق، فيكتفى بها ويقال: إذا كانت ذات الرب تعالى ليست كذوات المخلوقين، فكذلك صفاته ليست كصفاتهم، سواء الصفات الفعلية أو الصفات الذاتية، فيعتقد المسلمون أن هذا كاف في إثبات الفرق بين صفة وصفة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 مخالفة طريقة أهل البدع في باب الصفات لطريقة القرآن والسنة قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولاشيء يعجزه) . لكمال قدرته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45] ، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44] ، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] . (لا يؤده) أي: لا يكرثه ولا يثقله ولا يعجزه. فهذا النفي لثبوت كمال ضده، وكذلك كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده، كقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] ، لكمال عدله، {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سبأ:3] لكمال علمه. وقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] لكمال قدرته، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] لكمال حياته وقيوميته، {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103] لكمال جلاله وعظمته وكبريائه، وإلا فالنفي الصرف لا مدح فيه، ألا يرى أن قول الشاعر: قُبَيِّلة لا يغدرون بذمةٍ ولا يظلمون الناس حبة خردل لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده، وتصغيرهم بقوله: (قُبيلة) عُلم أن المراد عجزهم وضعفهم، لا كمال قدرتهم، وقول الآخر: لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا لما اقترن بنفي الشر عنهم ما يدل على ذمهم، عُلم أن المراد عجزهم وضعفهم أيضاً. ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلاً، والنفي مجملاً، عكس طريقة أهل الكلام المذموم، فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل، يقولون: ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم، ولا رائحة، ولا مَجَسَّة، ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين ولا شمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان ولا يجرى عليه زمان، ولا يجوز عليه المماسة ولا العزلة، ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار إلى آخر ما نقله أبو الحسن الأشعري رحمه الله عن المعتزلة. وفي هذه الجملة حق وباطل، ويظهر ذلك لمن يعرف الكتاب والسنة. وهذا النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه، فيه إساءة أدب، فإنك لو قلت للسلطان: أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجام ولا حائك، لأدبك على هذا الوصف وإن كنت صادقاً، وإنما تكون مادحاً إذا أجملت النفي، فقلت: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلم منهم وأشرف وأجل، فإذا أجملت في النفي، أجملت في الأدب] [والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية، هو سبيل أهل السنة والجماعة، والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الأسماء والصفات، ولا يتدبرون معانيها، ويجعلون ما ابتدعوه من المعاني والألفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده. وأما أهل الحق والسنة والإيمان فيجعلون ما قاله الله ورسوله هو الحق الذي يجب اعتقاده واعتماده، والذي قاله هؤلاء إما أن يعرضوا عنه إعراضاً جملياً، أو يبينوا حاله تفصيلاً، ويحكم عليه بالكتاب والسنة، لا يحكم به على الكتاب والسنة] . قال رحمه الله: [والمقصود أن غالب عقائدهم السلوب: ليس بكذا، ليس بكذا، وأما الإثبات فهو قليل؛ وهي: أنه عالم، قادر، حي. وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة، ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتة الصفات، فإن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي. ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال، فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، ليس كمثله شيء في صفاته، ولا في أسمائه، ولا في أفعاله، مما أخبرنا به من صفاته، وله صفات لم يطلع عليها أحد من خلقه، كما قال رسوله الصادق صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي) وسيأتي التنبيه على فساد طريقتهم في الصفات إن شاء الله تعالى] . أي أن هؤلاء النفاة ليس لهم دليل على هذا السلب: أن الله ليس بفوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا متحرك ولا ساكن إلى آخره، بماذا استدلوا؟ اعتمدوا على طرق الفلاسفة، والفلاسفة اعتمدوا في ذلك على طرق عقلية، ولكنها في الحقيقة خيالات تخيلوها، فهذه طريقتهم في النفي. وأما في الإثبات فلم يثبتوا إلا قليلاً، فالأشعرية أثبتوا سبع صفات وأثبتوا الأسماء، والمعتزلة أثبتوا الأسماء ولكن نفوا دلالتها على الصفات، فقالوا: إن الله سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، وجعلوها أسماء مجردة عن الصفات تعالى الله عن قولهم. ويرد عليهم بطريقة القرآن، فإن القرآن إذا نفى أتبع النفي بالإثبات، فإن قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] إثبات لكمال القدرة، وإثبات للإحاطة بكل شيء، مع أنه قد نفى أن يحيط الناس به، في قوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] فدل على أنه لكماله لا يستطيعون أن يطلعوا إلا على ما أطلعهم عليه، وكذلك جمع بين النفي والإثبات في الآية التي تقدمت، وهي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فجمع بين النفي والإثبات في بعض آية، ورد على الفئتين: الفئة التي غلت في الإثبات حتى شبهت صفاته بالمخلوقات، والفئة التي غلت في النفي حتى نفت عنه صفات الإثبات الكمالية. فهذه هي طريقة الرسل، وطريقة الكتاب والسنة، هذه هي التي تروي الغليل، وتشفي العليل، فمن سار على نهج أهل السنة في النفي والإثبات وعلى طريقة الرسل، فلا يخشى من الملام، ولا يرد عليه كلام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 النفي المتضمن إثبات كمال الضد طريقة شرعية في باب الصفات قال المؤلف رحمه الله: [وليس قول الشيخ رحمه الله تعالى: (ولا شيء يعجزه) ، من النفي المذموم، فإن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44] فنبه سبحانه وتعالى في آخر الآية على دليل انتفاء العجز، وهو كمال العلم والقدرة، فإن العجز إنما ينشأ إما من الضعف عن القيام بما يريده الفاعل، وإما من عدم علمه به، والله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة، وهو على كل شيء قدير، وقد علم ببدائه العقول والفطر كمال قدرته وعلمه، فانتفى العجز؛ لما بينه وبين القدرة من التضاد، ولأن العاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، تعالى الله عن ذكر ذلك علواً كبيراً] . يعني: أن قول الماتن: (ولا يعجزه شيء) نفي، ولكن هذا النفي دليل على إثبات، وهو إثبات كمال القدرة، فنفى العجز ليدل على أنه كامل القدرة، وكامل القوة، ولهذا جمع الله بين النفي والإثبات في هذه الآية من سورة فاطر؛ وهي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [فاطر:44] هذا نفي، ثم قال: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44] . فأثبت العلم والقدرة ليدل على أنه قدير حيث لا يعجزه شيء، فعرف أن هذا نفي موافق للنفي الذي في القرآن، وهو النفي الذي يتضمن إثباتاً، وعلل بأن العاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، وأنه يدخل في القدرة كل شيء، وإذا وصفنا الله تعالى بكمال القدرة فهو قادر على كل شيء، ولا يخرج عن قدرته شيء، لا من الأفعال ولا من الذوات، فيقدر على أن يجعل المؤمن كافراً والكافر مؤمناً، يقلب القلوب، ويحول بين المرء وقلبه. وكذلك ورد في الحديث قول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك) ، فدل على أن من جملة ما يملكه ويستطيعه ويقدر عليه الحيلولة بين الإنسان وبين قلبه، قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] . فهذه صفة من صفات الكمال، وهي إثبات كمال القدرة، وصفات الله وأسماؤه لا يحيط بها إلا هو، كما دل على ذلك الحديث الذي مضى؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه هذا الدعاء، وفيه قوله: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فدل على أنه استأثر بأسماء وبصفات لم يطلع عليها أحداً. والحاصل: أن صفات الله تعالى كلها صفات كمال، إذا أثبتناها فإننا نعتقد أنها صفات كمال، ومعلوم أن الذي يثبت هذه الصفات يعظم قدر ربه في قلبه، ومن عظم قدر ربه في قلبه لم يقدم على معصيته، وهذه هي فائدة قراءتنا لبعض الصفات. إذا عرف العبد أن الله مطلع على كل شيء لم يقدم على معصيته، وإذا عرف أنه عليم بكل شيء، لا تخفى عليه من أمره خافية، يعلم ما توسوس به النفس، وما يجول في القلب، وعرف كمال قدرته على أن يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، فإن ذلك يحمله على الاستكثار من الطاعات، والابتعاد عن المحرمات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 تقدير الخبر في كلمة التوحيد قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ولا إله غيره) : هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلها، كما تقدم ذكره، وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر، فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال، ولهذا -والله أعلم- لما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] قال بعده: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني: هب أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره! فقال تعالى: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] . وقد اعترض صاحب المنتخب على النحويين في تقدير الخبر في: لا إله إلا هو، فقالوا: تقديره: لا إله في الوجود إلا الله، فقال: يكون ذلك نفياً لوجود الإله، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى. وقد أجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ري الظمآن) فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب، فإن (إله) في موضع المبتدأ على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين فلابد من خبر المبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد، وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية فليس بشيء؛ لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين (لا ماهية) و (لا وجود) ، وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية عن الوجود، و (إلا الله) مرفوع بدل من (لا إله) لا يكون خبراً لـ (لا) ولا للمبتدأ، وذكر الدليل على ذلك. وليس المراد هنا ذكر الإعراب، بل المراد رفع الإشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة وهو فاسد، فإن قولهم (في الوجود) ليس تقييداً؛ لأن العدم ليس بشيء، قال الله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم:9] . ولا يقال: ليس قوله: (غيره) كقوله: (إلا الله) لأن غير تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد إلا، فيكون التقدير للخبر فيهما واحداً، فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا] . قوله: (ولا إله غيره) هذه كلمة الإخلاص، وهي كلمة (لا إله إلا الله) ، ففي دعاء الاستفتاح يقول: (سبحانك الله وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) ، وهو معنى: لا إله إلا أنت، أي: ليس هنا إله يصلح للإلهية غيرك، وهو معنى الاستثناء في قوله: إلا الله. وقد تكررت هذه الكلمة بهذا اللفظ (لا إله إلا الله) ، كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] وبلفظ: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [البقرة:163] كقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ} [الحشر:23] وبلفظ: (لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ) في دعاء ذي النون في قوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] ووردت من كلام الله، وفي قوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:13-14] وكله معناه واحد، وهو: نفي الإلهية عن غير الله. وأما الإعراب الذي ذكر عن النحويين أنهم قالوا: لا إله في الوجود إلا الله، فقد تعقبه العلماء وقالوا: إن هناك في الوجود من يسمى إلهاً، ولكن لا يصلح أن يكون إلهاً، فالصواب أن يقال: لا إله حق إلا الله، أو: لا إله بحق إلا الله؛ أي: لا أحد يستحق الإلهية إلا الله، فالتقدير (بحق) أولى؛ وذلك لكثرة من يسمى إلهاً مما تألهه القلوب، ويتخذه المشركون إلهاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 حب المشركين لآلهتهم وتعظيمها عبادة لها إن كلمة الإله اسم لمن تألهه القلوب وتحبه، ومعلوم أن المشركين يألهون معبوداتهم، سواء المعبودات القديمة كالأصنام المنحوتة على صور المخلوقات كود وسواع إلى آخره، أو الخياليات: كالذين يألهون بعض السادة، أو بعض الأولياء، كالذين يألهون عبد القادر الجيلاني أو أحمد البدوي أو الحسين، أو علياً، أو العيدروس، أو ابن علوان أو نحوهم، فإنهم يألهونهم، بمعنى أن قلوبهم تحبهم، وتقدسهم، وتعظمهم، وتوقرهم، ويكون في قلوبهم لهم قدر، ولهم مكانة، وهذا هو حقيقة التأله. أما المسلمون الموحدون فإنهم يألهون الله وحده، لا تأله قلوبهم غيره، فلا تحب سواه محبة العبادة، ولا تخاف من غيره، ولا تعظم إلا الله، ولا تخضع وتتواضع إلا له وهكذا. هذه صفة أولياء الله، فأولياء الله هم الموحودون، هم الذين اتخذوه إلهاً، وصدوا بقلوبهم عما سواه. ولما كانت كلمة التوحيد تتضمن الإخلاص؛ كانت أول دعوة الرسل، وتقدم في أول الكتاب أن أول ما بعث به الرسل هذه الكلمة، يقول نوح لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] أي: لا يستحق غيره أن يكون إلهاً، وكذلك قاله هود وصالح وشعيب وبقية الأنبياء الذين ذكر الله أنه أوحى إليهم بذلك، وإذا عرف المسلم معنى هذه الكلمة، صار في حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل. والمصيبة أن الذين يعبدون الأموات يقولون: لا إله إلا الله، ليلاً ونهاراًً، وسراً وجهاراً، لكن لا يعملون معناها، ولا يعرفون مضمونها، بل يقولونها ويخالفونها؛ لأنهم لم يفهموا معنى الإله، ولو عرفوا أن الإله هو الذي تألهه القلوب، فتحبه وتعظمه؛ لعلموا أنهم قد ألهوا هذه الأموات. إذا قلنا: معنى (لا إله إلا الله) : لا معبود بحق إلا الله، قلنا لهم: أنتم الآن قد عبدتم غير الله من هؤلاء الأموات، فالعبادة هي التذلل والخضوع، وقد تذللتم وخضعتم لهؤلاء الأموات، فأصبحتم قد دعوتم غير الله، فلا ينفعكم التهليل. فالحاصل: أن كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) أو (لا إله غيره) هي التي يجب أن ندعو إليها، وهي التي دعت إليها الرسل ومنهم نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث أقام عشر سنين بمكة يقول للناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وكانوا يعرفون معناها، ولما قال لعمه أبي طالب: (قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله) يعني: أحتج بها عند الله أنك مت على التوحيد، فهم أبو طالب وفهم الحاضرون أنها تتضمن البراءة من كل المألوهات، فذكروه الحجة الشيطانية، وهي: ملة أبيه عبد المطلب، فمات على قوله: هو على ملة عبد المطلب. ولما قال لهم في مجتمعهم: (قولوا لا إله إلا الله، كلمة تدين لكم بها العرب، وتدفع لكم الجزية بها العجم) قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص:5] ، وقالوا: {أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ ُ} [ص:6] فهذا دليل على أن كل من يألهونه -يعني: يحبونه- فإنه يسمى إلهاً، يعني: يحبونه محبة تعظيم وتوقير واحترام. وخفي هذا المعنى على القبوريين الذين عظموا القبور، فقيل لهم: تعظيمكم هذا هو التأله شئتم أم أبيتم، فقد اتخذتم الأموات آلهة، وكذلك أفعالكم؛ كحلفكم بالأموات، أو دعائهم أولئك الأموات، كقولكم: يا عيدروس! يا تاج! يا يوسف! وتعلق قلوبكم بهم هو تأله، قد اتخذتموهم آلهة شئتم أم أبيتم، وعبدتموهم وإن لم تسموا ذلك عبادة، فالعبرة بالحقائق لا بالأسماء، سموا أفعالكم: توسلاً، أو تودداً، أو تبركاً، أو تحبباً، أو استشفاعاً، أو تقرباً، فإن الحقائق لا تتغير بالتسميات. نحن نحث كل مسلم على أن يعرف معنى لا إله إلا الله، وأنها تدعو إلى أن يكون الله هو الإله المعبود بحق، وأن يعبده حق عبادته، وأن يصد المسلم بقلبه عن عبادة وتعظيم كل ما سواه، فبذلك يكون محققاً لهذا التوحيد، الذي هو توحيد الرسل، والذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [10] لما دخل علم الكلام على المسلمين أفسد على كثير منهم معتقداتهم في أسماء الله وصفاته وإرادته وقدره، فلم يفرقوا بين الإرادة الشرعية والقدرية، ولا أثبتوا له صفات الكمال. والناس في الأسماء والصفات أقسام، فمن مثبتها مع التشبيه وهم المشبهة، ومن معطلها أو بعضها وهم المعطلة، وأهل السنة هم وسط بين ذلك، فهم يثبتون الأسماء والصفات دون تشبيه ولا تعطيل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 1 معنى قوله: (قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء) قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء) . قال الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِر} [الحديد:3] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) ، فقول الشيخ: (قديم بلا ابتداء، دائم لا انتهاء) هو معنى اسمه: الأول والآخر. والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطر، فإن الموجودات لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته؛ قطعاً للتسلسل، فإنا نشاهد حدوث الحيوان، والنبات، والمعادن، وحوادث الجو، كالسحاب والمطر وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة، فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها، فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فعدمها ينفي وجوبها، ووجودها ينفي امتناعها. وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] ، يقول سبحانه: أحدثوا من غير محدث، أم هم أحدثوا أنفسهم؟ ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه، فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم، لا يكون موجوداً بنفسه، بل إن حصل ما يوجده وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه، وعدمه بدلاً عن وجوده، فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له. وإذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية، وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما لا يوجد عندهم مثله، قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:33] . ولا نقول: لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية، والأدلة النظرية، فإن الخفاء والظهور من الأمور النسبية، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره، ويظهر للإنسان الواحد في حال ما خفي عليه في حال أخرى. وأيضاً فالمقدمات وإن كانت خفية، فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها، وقد تفرح النفس بما علمته من البحث والنظر، ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة، ولا شك أن العلم بإثبات الصانع ووجوب وجوده أمر ضروري فطري، وإن كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه إلى الطرق النظرية] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 2 الأدلة العقلية والنقلية في إثبات الأولية والآخرية لله تعالى نعرف أن هذا الوصف وهو قوله: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء) وصف ثابت للإله، ولكن العبارة التي في القرآن والسنة أوضح، وهي قول الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3] ، وفسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) ، وفسره أيضاً في حديث عمران بقوله: (كان الله ولم يكن شيء قبله) . وهذا دليل على أن الله تعالى قديم ولم يسبق بعدم، وأنه دائم ولا يلحقه فناء، وأن المخلوقات حادثة معدومة ثم وجدت، ثم يأتي عليها العدم، ويستدل على هذا بحدوث الحوادث، فيقال: هذه الحوادث لا بد لها من محدث. وهذا قد يعتبر دليلاً عقلياً، ولكن قيدته الآيات كهذه الآية التي في سورة الطور، وهي قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] ، يقول: فإذا تحققوا أنهم لم يكونوا هم الذين خلقوا أنفسهم وتحقق أنهم لم يخلقوا من غير شيء، تعين أنهم خلقوا من شيء وأن لهم خالقاً خلقهم، ويستدل بهذا على الطبائعيين الدهريين، والذين يسمون في هذه الأزمنة بالشيوعيين الذين ينكرون الخالق، وقديماً كانوا يسمون بالطبائعيين، ومنهم الفلاسفة الطبائعيون، فهناك فلاسفة يقرون بالخالق ويسمون الفلاسفة الإلهيين. فهؤلاء جميعاً يحتج عليهم بالعقل فيقال: هذه الموجودات نشاهد أنها كانت معدومة ثم وجدت، فلا بد لها من موجد، نشاهد مثلاً: أن السماء ليس فيها سحاب ثم يتراكم فيها السحاب، فلا بد له من موجد، ونشاهد أن الأرض تكون يابسة ثم نشاهدها بعد ذلك تهتز خضراء وفيها أشجار وثمار، فلا بد لها من موجد، ونشاهد مثلاً أن الإنسان يكون صغيراً ثم نشاهده بعد ذلك قد حصل له أولاد وصاروا بجانبه، لقد كانوا معدومين ثم وجدوا، فلا بد لهم من موجد، وهكذا توالد الحيوانات والدواب ونحوها لا بد لها من موجد، فإن الإنسان ليس هو الذي يوجد نفسه، وليس هو الذي يخلق أولاده، ولو كان هو الذي يتصرف بنفسه لحرص على أن يكون خلقه أحسن من خلق غيره، ولو كان هو الذي يوجد ولده لحرص على أن يكون أولاده ذكوراً أو نحو ذلك، فتعين أن هناك خالقاً يتصرف في هذا الكون، فهو الذي يعطي ويمنع، يصل ويقطع، يخفض ويرفع، يسعد ويشقي، يفقر ويغني. فإذاً لا بد أن هذه الموجودات تنتهي إلى موجد، وذلك الموجد لا بد أن يكون غنياً بنفسه، وأن ما سواه فقير إليه، وهذا الوصف هو وصف الخالق تعالى، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15-17] ، أي: ليس ذلك شاقاً ولا صعباً على الله، بل هو سهل يسير: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 اعتقاد أهل السنة في أولية الله وأزليته يعتقد أهل السنة أن رب هذا الكون واحد، وأنه الذي يتصرف في الكون، وأنه قديم ليس له بداية وأنه دائم ليس له نهاية، وقد ذكر الله تعالى أن كلامه لا ينفد بقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] ، وما ذاك إلا أن كلام الله ليس له بداية ولا نهاية، فالبحر ولو كان معه سبعة أبحر تمده، وكانت الأشجار من أول الدنيا إلى آخرها أقلاماً، فكتب بتلك الأقلام بمداد هذه البحار، لنفدت البحار ولتكسرت الأقلام ولم ينفد كلام الله؛ وذلك لأنه لا بداية له ولا نهاية، ولا شك أن هذه من الحجج العقلية التي تقطع مخاصمة أولئك. وإذا عرف المسلمون أن لهم خالقاً خلقهم وخلق هذا الكون، عرفوا أنهم ما خلقوا عبثاً، فلا بد أن للخالق الذي خلقهم وأنعم عليهم حقاً عليهم، فيعرف العبيد حق الله عليهم وهو عبادته وحده لا شريك له، فيكون هذا دافعاً لهم إلى أن يقوموا بهذا الحق، ثم بعد ذلك يعلقون آمالهم راجين الثواب الذي رتب لهم على تلك العبادة. والحاصل أن كل عاقل إذا فكر في هذا الكون ورأى تواجده ورأى أنه حدث بعد أن كان معدوماً، عرف أنه قد كان معدوماً وأنه لا بد له من محدث، وذلك المحدث لو كان مفتقراً إلى محدث آخر لكان فقيراً، ثم قد يقال أيضاً: من الذي أحدث المحدث الأول، وإذا كان له محدث فمن الذي أحدث الذي قبله؟ فيلزم من ذلك التسلسل. فإذا قيل: إن المحدث واحد، وإنه غير مسبوق بعدم، وإنه الأول بلا بداية، انقطع التسلسل ولم يكن هناك تسلسل في الماضي ولا في المستقبل. وهذه حجة عقلية، ولكن تكفي عنها هذه الآية النقلية وما يشابهها من الآيات التي يحتج الله بها على عباده، ففي قدرته وكمال تصرفه في هذا الكون، وما فيه من الآيات عبرة وعظة، ولكن تلك العبرة والعظة إنما ينتفع بها أهل العقول. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 إدخال المتكلمين لفظ (القديم) في أسماء الله تعالى قال المؤلف رحمه الله: [وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى (القديم) ، وليس هو من الأسماء الحسنى، فإن القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم، كما قال تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] ، والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول قديم. وقال تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11] أي: متقدم في الزمان، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء:75-76] ، فالأقدم مبالغة في القديم، ومنه: القول القديم والجديد للشافعي رحمه الله تعالى. وقال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98] أي: يتقدمهم، ويستعمل منه الفعل لازماً ومتعدياً، كما يقال: أخذت ما قدم وما حدث، ويقال: هذا قَدُمَ هذا وهو يقدمه، ومنه سميت القدم قدما؛ لأنها تقدم بقية بدن الإنسان. وأما إدخال القديم في أسماء الله تعالى، فهو مشهور عند أكثر أهل الكلام، وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف، منهم ابن حزم. ولا ريب أنه إذا كان مستعملا في نفس التقدم، فإن ما تقدم على الحوادث كلها، فهو أحق بالتقدم من غيره، لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به. والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى، وجاء الشرع باسمه (الأول) ، وهو أحسن من القديم؛ لأنه يشعر بأن ما بعده آيل إليه وتابع له بخلاف القديم، والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 وصف المتكلمين لله بالقديم ومعناه عندهم مشهور في كلام المتكلمين وصف الله بأنه قديم، بل عندهم أن القديم أخص أوصاف الله، ويعنون بذلك أنه الذي لم يتقدمه شيء، ولذلك فهم ينفون الصفات، ويقولون: إن تعدد الصفات يلزم منه تعدد القدماء، يعني: أن القديم واحد وهو الله، فلا يكون هناك قدماء غيره، فلو قيل: إن لله صفات لكانت أيضاً موصوفة بالقدم، أي فيقال: الله قديم وسمعه قديم وبصره قديم ونحو ذلك. وقد أجاب أهل السنة عليهم بأجوبة منها: أولاً: أن لفظة القديم لا تدل على الأولية. ثانياً: أن نفي الصفات لاستلزامها تعدد القدماء لا يلزم هذا الاستلزام؛ وذلك لأن القديم ليس بلفظ شرعي ولا لغوي، ولأن الله تعالى واحد بذاته وبصفاته، وأن الصفات من جملة الذات، فلا يكون في إثباتها تعدد. وهاهو الشارح ينكر على هؤلاء الذين يقولون إن القديم من أسماء الله، ويذكر أن الاسم الصحيح الذي سمى الله به نفسه هو: {الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3] ، فأما القديم أو الأزلي فهي أسماء اصطلاحية، لا يلزم من الاصطلاح عليها ثبوتها. قصدهم بالقديم عدم تقدم شيء عليه، وقصدهم بالأزلي أو بالدائم عدم إتيان الفناء عليه، ولو أتوا على هذه الآية أو على هذين الاسمين في هذه الآية وهما قول الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) ، لكان ذلك كافياً، ولكان التفسير واضحاً، ولكانت الأسماء واقعة موقعها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 معنى كلمة (القديم) في لغة العرب يقول: إن كلمة القديم عند العرب لا تدل على تقدم الإنسان على غيره كله، وإنما تدل على تقدمه على جنسه، فإذا وجد له جنس جديد سمي الأول قديماً، ومنه قوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] ، فإن العراجين هي قنوان النخل، يعني: العذوق التي يكون فيها التمر، ومتى يكون قديماً؟ إذا حملت النخل مرة ثانية قيل للعراجين التي من العام الماضي: هذه عراجين قديمة. وكذلك قوله تعالى: {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء:76] ، يعني: أن آباءكم قد تقدموا عليكم، ومعلوم أن الآباء قبلهم أجداد وقبل الأجداد أجداد وهلم جراً، فسمي الآباء القريبون أقدمين، فدل على أن القديم لا يدل على السبق المطلق، وإنما يدل على سبق بعض الجنس. فالوصف بأن الله هو الأول أبلغ من الوصف بأنه القديم، وهذه الكلمة (الأول) تعطي معنى الأولية، و (الآخر) تعطي معنى الأزلية، يعني الأبدية والديمومة؛ وذلك لأن الله موصوف بأنه دائم أبدي وأزلي، لا يأتي عليه الفناء ولا التغير، وأنه هو كما وصف نفسه بأنه الحي الذي لا يموت: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) ، يعني: بعد موت الناس في هذه الحياة وفناء المخلوقات يبقى الله تعالى، كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] . فإذا كان هو الباقي فإنه أيضاً هو الذي يبعث العباد. وهو سبحانه لا يأتي عليه فناء أبداً، وذلك هو الأصل في الدوام، وهو الأصل في البقاء الذي هو وصف الله وحده. فيعتقد المسلمون أن ربهم سبحانه الذي خلق هذا الكون لم يسبق بعدم بل هو قديم، وأنه لا يأتي عليه الفناء بل هو دائم، ولكن يعبرون بالأول والآخر، فهما أوضح من القديم والدائم أو الأزلي أو نحو ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 معنى قوله: (لا يفنى ولا يبيد) قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (لا يفنى ولا يبيد) . إقرار بدوام بقائه سبحانه وتعالى، قال عز من قائل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] ، والفناء والبيد متقاربان في المعنى، والجمع بينهما في الذكر للتأكيد، وهو أيضا مقرر ومؤكد لقوله: (دائم بلا انتهاء) ] . أي: أن قوله: (لا يفنى ولا يبيد) مؤكد لقوله: (دائم بلا انتهاء) ، ودليله من القرآن قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، وقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] ، وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) ، مثل بالجن والإنس لأنهم الثقلان المكلفان. إذاً: كل شيء يفنى إلا وجه الله تعالى، وذلك دليل على الكمال، والذي يكون له الكمال يستحق أن يقدس وأن يعبد وحده، وأن يقوم عباده الذين هم خلقه وملكه بواجبهم نحوه، وذلك بالعبادة المستمرة له سبحانه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 معنى قوله: (ولا يكون إلا ما يريد) قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ولا يكون إلا ما يريد) . هذا رد لقول القدرية والمعتزلة، فإنهم زعموا أن الله أراد الإيمان من الناس كلهم، والكافر أراد الكفر، وقولهم فاسد مردود؛ لمخالفته الكتاب والسنة، والمعقول الصحيح، وهي مسألة القدر المشهورة، وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله تعالى. وسموا قدرية لإنكارهم القدر، وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر: (قدرية) أيضاً، والتسمية على الطائفة الأولى أغلب. أما أهل السنة فيقولون: إن الله وإن كان يريد المعاصي قدراً، فهو لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها، وهذا قول السلف قاطبة، فيقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال: والله لأفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث إذا لم يفعله، وإن كان واجباً أو مستحباً، ولو قال: إن أحب الله حنث، إذا كان واجباً أو مستحباً] . قوله: (ولا يكون إلا ما يريد) هذا مثل قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] يعني: أن ما أراده تعالى فإنه لا بد أن يحصل وما لم يرده فإنه لا يكون، والمراد هنا الإرادة الكونية؛ وذلك لأن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية. فالله تعالى قدر الكائنات فلا يحدث في الوجود شيء إلا بإرادته، وهذا أكثر ما تطلق الإرادة عليه. الإرادة الكونية: كما في قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125] ، (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) ، والآيات في هذه الإرادة كثيرة. فأهل السنة يعتقدون أنه لا يكون شيء في الوجود إلا بإرادته، ولو شاء لهدى الناس جميعاً، ولكن لا يتخذون ذلك حجة في المعصية كما تفعله طائفة الجبرية الذين يزعمون أنهم لا اختيار لهم، وأن العباد مجبورون على المعاصي وعلى الكفر، وليس لهم أي اختيار. ونقول: بل الإرادة الكاملة لله سبحانه فلا يُعصى قسراً ولا قهراً، ولا تكون إرادة الخلق أقوى من إرادة الله، ولكن قد منحهم سبحانه إرادة تناسبهم، وهي مغلوبة بقدرة الله، فللعباد قدرة على أفعالهم ولهم إرادة، ولكن إرادتهم وقدرتهم مسبوقة بإرادة الله تعالى وبقدرته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 أقسام القدرية وحكم كل قسم القدرية ينقسمون إلى قسمين: قدرية نفاة، وقدرية مجبرة، وكلاهما ضلال. النفاة: هم الذين نفوا قدرة الله، وقالوا: إن الله لا يقدر على أفعال العباد. والمجبرة: هم الذين يقولون: إن الله أجبر العباد على المعاصي وعلى الطاعات وقسرهم عليها، تعالى الله عن ذلك. وهدى الله أهل السنة فقالوا: إن الله على كل شيء قدير، ولكن منح العبد قدرة يكلف بها، فإذا اعتقدنا ذلك سلمنا من الاعتراضات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 أنواع الإرادة قال المؤلف رحمه الله: [والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية. فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضا. والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات، وهذا كقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] ، وقوله تعالى عن نوح عليه السلام: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] ، وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] . وأما الإرادة الدينية الشرعية الأمرية: فكقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26] ، وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:27-28] ، وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة:6] ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] . فهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله، أي: لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به. وأما الإرادة الكونية فهي الإرادة المذكورة في قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل، وبين إرادته من غيره أن يفعل، فإذا أراد الفاعل أن يفعل فعلاً، فهذه الإرادة المعلقة بفعله، وإذا أراد من غيره أن يفعل فعلاً، فهذه الإرادة لفعل الغير، وكلا النوعين معقول للناس، والأمر يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى. فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر، فقد يريد إعانة المأمور على ما أمر به، وقد لا يريد ذلك وإن كان مريداً منه فعله، وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله تعالى: هل هو مستلزم لإرادته أم لا؟ فهو سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله عليهم السلام بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم، ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله، فأراد سبحانه أن يخلق ذلك الفعل، ويجعله فاعلاً له، ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله، فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو مصلحة للعبد أو مفسدة، وهو سبحانه إذ أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان، كان قد بين لهم ما ينفعهم ويصلحهم إذا فعلوه، ولا يلزم إذا أمرهم أن يعينهم، بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة من حيث هو فعل له، فإنه يخلق ما يخلق لحكمة، ولا يلزم إذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور إذا فعله، أن يكون مصلحة للآمر إذا فعله هو، أو جعل المأمور فاعلاً له، فأين جهة الخلق من جهة الأمر؟! فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه مريداً النصيحة، ومبيناً لما ينفعه، وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل، إذ ليس كل ما كان مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه، بل قد تكون مصلحتي إرادة ما يضاده، فجهة أمره لغيره نصحاً غير جهة فعله لنفسه، وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين، فهو في حق الله أولى بالإمكان] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية هذا الكلام يوضح ما قلنا: من أن الإرادة قسمان: إرادة دينية شرعية أمرية، وإرادية كونية قدرية خلقية. والفرق بينهما: أن الإرادة الكونية لا بد من وجود المراد فيها، فكل شيء أراده الله كوناً وقدراً فلا بد من وجوده، ولكن قد يحبه وقد لا يحبه. والذي يريده شرعاً وديناً قد لا يوجد، فالطاعات والأعمال الصالحة أرادها الله ديناً وشرعاً من جميع الخلق، وأحبها منهم، ولكن قد تحصل من بعضهم وقد لا تحصل من البعض الآخر. فيقول: إن الله أراد من فرعون وأبي لهب أن يؤمنا؛ أراد ذلك ديناً وشرعاً وأمراً، ولكن ما أراد ذلك كوناً ولا قدراً ولا خلقاً، فلذلك لم يوجد منهما الإيمان والأعمال الصالحة. وأراد من الأنبياء وأتباعهم الإيمان ديناً وشرعاً، وأراده منهم كوناً وقدراً فوجد. فكل الأعمال الصالحة محبوبة عند الله، وإذا وقعت فإنها مرادة ديناً وشرعاً، ومرادة كوناً وقدراً، وكل الحوادث حتى المعاصي والكفر والمخالفات، فهي واقعة لإرادة الله الكونية القدرية الخلقية، ولكنها ليست محبوبة ولا مَرْضية ولو كان الله قد أرادها، قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] ، فأخبر بأنه لا يرضى الكفر ولكن يرضى الشكر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 ذكر الآيات الدالة على الفرق بين الإرادة الشرعية والقدرية ذكر الشارح الأدلة من الآيات على الفرق بين الإرادتين، فإن قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ} [الأنعام:125] ، هذه إرادة كونية، يعني: من قدر الله له كوناً أنه يهديه، فإنه يشرح صدره للإسلام، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام:125] ، أي: من قدر الله له أنه يضل ولا يهتدي، فإنه يجعل صدره ضيقاً حرجاً، فهذه إرادة كونية قدرية. ومثلها قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] ، وقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] ، وقوله: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] هذه إرادة كونية، يعني: إذا كان الله يريد كوناً وقدراً أن يغويكم فلا راد لما أراده، وهذا معنى قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. لكن إذا احتج بعض العصاة وقال: إن الله ما أراد هدايتي، فكيف أهتدي والله لم يرد؟ نقول له: اسأل الله الهداية حتى يستجيب لك وافعل السبب، فإن الله أعطاك قدرة وأعطاك استطاعة على الأسباب، وأقدرك على الأسباب المحسوسة، فافعلها حتى تكون أسباباً في حصول الإرادة ووجودها. وإذا قال بعض العصاة مثلاً: هكذا أراد الله مني هذه المعصية، نقول: أرادها كوناً ولم يردها شرعاً، الله تعالى أراد منك الإيمان شرعاً وأمرك به، بل أمر الناس كلهم أن يتقوا الله، وأن يؤمنوا به، وأحب ذلك منهم: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36] . وبلا شك أن الخير دائماً ينسب إلى الله تعالى، وأما الشرور فلا يجوز نسبتها إليه، كما حكى الله عن مؤمني الجن أنهم قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] ، فالإرادة هنا في هذه الآية إرادة شرعية، يعني: أراد الله بهم الخير إرادة شرعية، والإرادة في الأولى: {أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:10] إرادة كونية، وبهذا يحصل للمؤمن معرفة الفرق بين الإرادتين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 اجتماع الإرادة الشرعية والقدرية في إيمان المؤمن وعمله الصالح هو يقول: كل ما في الوجود من الحوادث فهو مراد كوناً وقدراً، ولكن قد لا يكون محبوباً، قد يكون محبوباً كالطاعات وقد يكون مكروهاً كالمعاصي، وكل الطاعات التي تحدث من أهلها فإنها مرادة ديناً وشرعاً، أرادها الله ديناً وشرعاً، فهي مرادة ومحبوبة. يعني: أن الله تعالى أراد الإيمان من الناس كلهم ديناً وشرعاً، ولكن تحقق ذلك في المؤمنين، فأصبح إيمان المؤمنين وأعمالهم الصالحة مجتمعاً فيها الإرادتان: الشرعية، والكونية القدرية، فإيمان المؤمنين وصلاتهم وعباداتهم مرادة كوناً وقدراً لوجودها، ومرادة ديناً وشرعاً للأمر بها ولمحبتها. ومع ذلك فإن على المسلم أن يسأل ربه الهداية، حتى ييسر له هذه الأسباب ويجعله من أهلها، فإذا قام بالأسباب وفعلها رُجي بذلك أن يكون ممن أراد الله تعالى هدايته كوناً وقدراً، ووفقه لذلك ديناً وشرعاً، ولا يبقى على حاله التي هو عليها ويقول: ما أراد الله هدايتي، ويستمر على الضلال والعياذ بالله، فإن الذين يحتجون بالقدر يحتجون به في أمر دون أمر، حيث إنهم لا يسلمون ذلك في الأمور الدنيوية بل تراهم مجدين ومجتهدين ومشمرين، بخلاف أمورهم الدينية فإنهم يحتجون بالقضاء وبالقدر، ويحتجون بأن الله ما أراد منهم كذا وكذا، فيقال لهم: الباب واحد، فإذا اجتهدتم في أمور الدنيا فاجتهدوا في أمور الدين، والله تعالى هو الموفق لمن أراد الخير والعمل الصالح. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 وجه إنكار القدرية لقدرة الله والرد عليهم قال المؤلف رحمه الله: [والقدرية تضرب مثلا بمن أمر غيره بأمره، فإنه لا بد أن يفعل ما يكون المأمور أقرب إلى فعله، كالبشر، والطلاقة، وتهيئة المساند، والمقاعد ونحو ذلك. فيقال لهم: هذا يكون على وجهين: أحدهما: أن تكون مصلحة الأمر تعود إلى الآمر، كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه، وأمر السيد عبده بما يصلح ملكه، وأمر الإنسان شريكه بما يصلح الأمر المشترك بينهما ونحو ذلك. الثاني: أن يكون الآمر يرى الإعانة للمأمور مصلحة له، كالأمر بالمعروف، وإذا أعان المأمور على البر والتقوى، فإنه قد علم أن الله يثيبه على إعانته على الطاعة، وأنه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. فأما إذا قدر أن الآمر إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور، لا لنفع يعود على الآمر من فعل المأمور كالناصح المشير، وقدر أنه إذا أعانه لم يكن ذلك مصلحة للآمر، وأن في حصول مصلحة المأمور مضرة على الآمر، مثل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال لموسى عليه السلام: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] ، فهذا مصلحته في أن يأمر موسى عليه السلام بالخروج، لا في أن يعينه على ذلك، إذ لو أعانه لضره قومه، ومثل هذا كثير. وإذا قيل: إن الله أمر العباد بما يصلحهم، لم يلزم من ذلك أن يعينهم على ما أمرهم به، لاسيما وعند القدرية لا يقدر أن يعين أحداً على ما به يصير فاعلاً، وإذا عللت أفعاله بالحكمة فهي ثابتة في نفس الأمر، وإن كنا نحن لا نعلمها، فلا يلزم إذا كان نفس الآمر له حكمة في الأمر أن يكون في الإعانة على فعل المأمور به حكمة، بل قد تكون الحكمة تقتضي أن لا يعينه على ذلك، فإنه إذا أمكن في المخلوق أن يكون مقتضى الحكمة والمصلحة أن يأمر بأمر لمصلحة المأمور، وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر أن لا يعينه على ذلك، فإمكان ذلك في حق الرب أولى وأحرى] . قد عرفنا أن المعتزلة ينكرون قدرة الله على أفعال العباد مع عموم قدرة الله، فيقولون: إن الله لا يقدر على أفعال العباد، فإذاً معنى خلقه لأفعال العباد عندهم تهيئة الأسباب، لا أنه يحرك جوارحهم أو يبعث فيهم البواعث التي تباشر الأفعال. وعقيدة المسلمين أن الله تعالى هو الخالق للعبد ولما يعمل، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ، ولكن قدرة الله عامة لكل شيء وتدخل فيها أفعال العباد، ومع ذلك فلا نجعل العبد آلة ليس له أية اختيار بل له قدرة وإرادة، وقدرة الله وإرادته غالبة على قدرة العبد وإرادته، وبحسب تلك القدرة التي مكنه الله بها وجعله فاعلاً بسببها يثاب ويعاقب، حيث بها يباشر العباد الأفعال خيراً وشراً، فيعصي العاصي ويطيع المطيع. فالعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر، والمصلي والصائم، أي: أنه تنسب إليه أفعاله؛ لأنه الذي باشرها وإن كانت مخلوقة لله تعالى في الأزل، فيقول الشارح: إن الآمر قد يعين المأمور وقد لا يعينه. فمثلاً إذا أمر الملك أحد وزرائه فإنه يهيئ له الأسباب؛ لأن له مصلحة بهذا الأمر، وهكذا أيضاً إذا أمر الملك أحد خدمه فإنه يعينه ويساعده، وإذا أمر الشريك شريكه بأمر فيه مصلحة لهما فإنه يساعده، وإذا أمر السيد عبده بأمر فإن ذلك الفعل فيه مصلحة له، فهي مثل هذا يساعد الآمر المأمور. وضرب أيضاً مثلاً لمن لا يحتاج أن يساعد، وهو إذا لم يكن فيه مصلحة، ومثل بذلك الرجل الذي نصح موسى بقوله: {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] أمره بالخروج وليس من مصلحته أن يساعده على الخروج؛ لأن في ذلك مضرة على الآمر؛ لأنه من قوم فرعون، فأراد أن يحذر موسى فقال: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} [القصص:20] ، هذا مثال. فيقال: الله سبحانه وتعالى قد تقتضي حكمته أن يعين المؤمن على الأوامر ويهيئ له الأسباب ويمكنها له، فيعمل الأعمال الصالحة، ويكون ذلك فضلاً منه ومنَّة، وقد تقتضي حكمته أن يخذل بعض العباد ويخلي بينهم وبين أهوائهم وأعدائهم ولا يعينهم ولا يحميهم، فيعصون ويقعون في الكفر أو في مقدمات الكفر، وذلك فتنة منه وعدل ليس بظالم لهذا ولا بجائر مع هذا، بل هكذا تقتضي حكمة الله. فلا اعتراض للمعتزلة والقدرية على أفعال الله، فإنه يفعل ما يشاء كما يشاء: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8] ، حكمة وعدلاً ونعمة وفضلاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 حكمة الله تعالى في إعانة العبد على ما أمره أو عدم إعانته قال المؤلف رحمه الله: [والمقصود أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه عليه، فالخالق أولى بإمكان ذلك في حقه مع حكمته، فمن أمره وأعانه على فعل المأمور كان ذلك المأمور به قد تعلق به خلقه وأمره نشأةً وخلقاً ومحبة، فكان مراداً بجهة الخلق ومراداً بجهة الأمر، ومن لم يعنه على فعل المأمور كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه؛ لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به، ولحصول الحكمة المقتضية لخلق ضده. وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر، فإن خلق المرض الذي يحصل به ذل العبد لربه، ودعاؤه، وتوبته، وتكفير خطاياه، ويرق به قلبه، ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان، يضاد خلق الصحة التي لا تحصل معها هذه المصالح، ولذلك كان خلق ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض، يضاد خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح وإن كانت مصلحته هو في أن يعدل. وتفصيل حكمة الله عز وجل في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر، والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة، مثلوا الله فيها يخلقه ولم يثبتوا حكمة تعود إليه] . يمثلون بهذا في أن حكمة الله تعالى قد تقتضي إعانة المأمور وقد تقتضي عدم إعانته، فالله تعالى أمر الجميع مؤمنهم وكافرهم بالتقوى في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1] ، ولكن من الناس من اتقى ومنهم من لم يتق الله، فالذين اتقوا الله هؤلاء قد أراد الله بهم الخير وهداهم وأعانهم، فله عليهم نعمة الإعانة ونعمة الفضل، والذين لم يتقوه هؤلاء قد خذلهم وخلى بينهم وبين أهوائهم ولم يعنهم، حكمة منه وعدلاً، فهذا خلق فيه الإيمان وهذا خلق فيه الكفر، بمعنى: مكنه منه وأقدره عليه. وله الحكمة في هذا وهذا؛ وذلك لأنه خلق ضدين مؤمناً وكافراً، وخلق دارين جنة وناراً، ولا بد لكل من الدارين من أهل يؤهلون لها، ولهذا يخبر تعالى بأنه لو شاء لهدى الناس جميعاً، ويخبر بأنه لو شاء لضلوا كلهم، فيقول تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف:33] ، يعني: لولا أن يكونوا كلهم على الكفر لجعلنا للكفار هذه الأشياء؛ فينخدع الناس بهم ويعتقدون أنهم خصوا بذلك لشرفهم ولأهليتهم فيكفرون مثلهم، وهو واقع كثيراً. وخلق تعالى المرض والصحة وله الحكمة في ذلك، ففي خلقه للمرض مصلحة، هذه المصلحة تكمن في أن المريض يشعر بالذل وبالضعف ويشعر بالحاجة، إذا مرض تذكر ضعفه وتذكر فاقته وحاجته، وتذكر مسكنته وتعلق قلبه بربه ودعاه واستكان إليه. وإذا كان دائماً في صحة ونعمة ورفاهية ونشاط وثروة وشهوات متتابعة؛ فإنه لا يأمن أن يأخذه الأشر والبطر والكبرياء والإعجاب بالنفس، ويكون منطلقاً إلى الكفر وإلى المعاصي كما هو الواقع، ولهذا يخبر تعالى بأنه لو وسع على الناس لتجبروا، قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لعباده لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:27] ، يعني: لتكبروا ولتجبروا، فبذلك نعرف أنه عندما خلق هؤلاء واختار أن يكونوا مؤمنين، وهؤلاء وجعلهم كافرين، فذلك كما أنه خلق المرض وخلق الصحة وله الحكمة في خلق الضدين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 عجز البشر عن معرفة كنه صفات الله وكنه ذاته سبحانه قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام) . قال الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] ، قال في الصحاح: توهمت الشيء: ظننته، وفهمت الشيء: علمته. فمراد الشيخ رحمه الله أنه لا ينتهي إليه وهم ولا يحيط به علم، قيل: الوهم ما يرجى كونه، أي: يظن أنه على صفة كذا، والفهم: هو ما يحصله العقل ويحيط به، والله تعالى لا يَعْلَمْ كيف هو إلا هو سبحانه وتعالى، وإنما نعرفه سبحانه بصفاته، وهو أنه أحد صمد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواًَ أحد، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] ، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:23-24]] . يعتقد المسلمون أن ربهم سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص، ويعتقدون أنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، وأنهم لا يستطيعون معرفة كيفيته ولا كنه صفاته ولا كنه ذاته، ويقولون: الله أعلم بكيفية صفاته وبكيفية أفعاله، فلا يجوز أن يسأل عنه بكيف. كما قال الإمام مالك لما سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم والكيف مجهول، يعني: كيفية استوائه سبحانه مجهولة لا يعلمها سواه، وهذا أيضاً يقال في سائر الصفات كصفة النزول والمجيء والعلو والغضب والرحمة والمحبة وما أشبهها. فالمسلمون يعتقدون ثبوت هذه الصفات، ولكن يعجزون عن إدراك كيفيتها، فكيفية ذات الله وكيفية صفاته لا يستطيع فهم أن يدركها ولا وهم أن يتخيلها، لو فكر الإنسان بفكره لما استطاع أن يصل إلى كيفية الخالق. وقد عجز العباد عن إدراك أقرب شيء إليهم وهي الأرواح التي تحيا بها الأجساد، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] . وقد أخبر الله أن ها هنا ملائكة ونحن نؤمن بهم وإن لم نرهم، ولا ندري مم خلقوا ولا كيفية خَلْقِهِم، خَلَقَهُم الله تعالى لعبادته ولكن ما تركيبهم؟ وما أعضاؤهم؟ وما أجسادهم؟ الله أعلم بذلك. وهكذا فقد أخبرنا الله تعالى بأن هناك شياطين، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم، ولكن لا ندري ما كيفية هذا الشيطان؟! ولا نعرف ما مثاله؟! ولا ما وزنه؟! ولا غير ذلك؟!. وأخبرنا تعالى بأن هناك جناً، وأن الجن ينفذون في الإنسان، وأنهم يدخلون في الأرض، وحُكيت عنهم الأقوال وسمعوا وشوهدوا، ومع ذلك لم ندر ماهيتهم؟! ولا ما كيفية خلقهم؟! وإذا عجزنا عن هؤلاء، فَعَجْزُ الإنسان عن كيفية وماهية الرب تعالى بطريق الأولى، فما عليه إلا أن يستسلم، ويعرف أن هذا الكون لا بد له من مكون، وأن المكون الذي كون هذه الكائنات أجرامها وأعلامها وعلويها وسفليها هو الواحد وحده، وهو الذي لا تبلغه الأفهام ولا تتوهمه الأوهام ولا تدركه العقول: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] ، ولا يوصف إلا بما وصف به نفسه على وجه الكمال، كما في الآيات التي سمعنا، فإن الله وصف نفسه بهذه الصفات، لِيُعْتَقَدَ أنه الإله الحق، وأنه رب الأرباب، وأنه الخالق البارئ المصور، وأنه الملك القدوس السلام، وأنه الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 عقيدة أهل السنة في الصفات بين المعطلة والمشبهة [قوله: (ولا يشبهه الأنام) . هذا رد لقول المشبهة الذين يشبهون الخالق بالمخلوق سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع، فمن كلام أبي حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر: لا يشبه شيئاً من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه، ثم قال بعد ذلك: وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا انتهى. وقال نعيم بن حماد: من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه. وقال إسحاق بن راهويه: من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم، وقال: علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة، بل هم المعطلة. وكذلك قال خلق كثير من أئمة السلف: علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة، فإنه ما من أحد من نفاة شيء من الأسماء والصفات إلا يسمي المثبت لها مشبهاً، فمن أنكر أسماء الله بالكلية من غالية الزنادقة القرامطة والفلاسفة، وقال: إن الله لا يقال له عالم ولا قادر، يزعم أن من سماه بذلك فهو مشبه؛ لأن الاشتراك في الاسم يوجب الاشتباه في معناه، ومن أثبت الاسم وقال هو مجاز كغالية الجهمية، يزعم أن من قال إن الله عالم حقيقة قادر حقيقة فهو مشبه، ومن أنكر الصفات وقال: إن الله ليس له علم ولا قدرة ولا كلام، ولا محبة ولا إرادة، قال لمن أثبت الصفات إنه مشبه، وإنه مجسم. ولهذا كُتُبُ نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم كلها مشحونة بتسمية مثبتة الصفات مشبهة ومجسمة، ويقولون في كتبهم: إن من جملة المجسمة قوماً يقال لهم المالكية، ينسبون إلى رجل يقال له مالك بن أنس، وقوماً يقال لهم الشافعية، ينسبون إلى رجل يقال له محمد بن إدريس. حتى الذين يفسرون القرآن منهم كـ عبد الجبار والزمخشري وغيرهما، يسمون كل من أثبت شيئا من الصفات وقال بالرؤية مشبهاً، وهذا الاستعمال قد غلب عند المتأخرين من غالب الطوائف] . من عقيدة أهل السنة أنهم إذا أثبتوا الصفات نفوا التشبيه، فيقولون: نثبت لله صفات ولكن لا تشبه صفات المخلوق، كما أنهم يثبتون لله أفعالاً ويقولون: لا تشبه أفعال العباد. فالصفات مثل صفة اليد والوجه يقولون: لله يد لا كأيدي المخلوقين، ولله وجه لا كوجه المخلوقين. وصفات الأفعال: يثبتون أن الله يحب ويكره ويسخط ويغضب ويرضى وما أشبه ذلك، ويقولون: إن هذه أفعال حقيقية، ولكن ليس غضبه سبحانه كغضب المخلوق ولا رضاه كرضا المخلوق، ويثبتون أن الله يسمع وأنه يبصر ويقولون: ليس سمعه سبحانه كسمع المخلوق ولا بصره كبصر المخلوق؛ وذلك لأنه يوجد فرق كبير بين ما يثبت للخالق وما يثبت للمخلوق، فسمع المخلوق مثلاً لا يدرك إلا الأصوات القريبة، وسمع الخالق يدرك القريب والبعيد، سمع المخلوق تشتبه عليه الأصوات، لو تكلم عندك خمسة في حين واحد لما فهمت ما يقوله واحد منهم، الخالق لا يشغله شأن عن شأن بل يسمع الكل، ولا تغلطه كثرة المسائل مع اختلاف اللغات. كذلك البصر فالمخلوق لا يخرق بصره الحيطان ونحوها ولا يبصر في الظلمات، والخالق تعالى يبصر كل شيء ولا يخفى عليه شيء، فيبصر النملة الصغيرة في حيالك الظُلَمْ، فأين هذا من هذا؟ كذلك سمعنا أن كثيراً من نفاة الصفات يسمون من أثبتها مشبهاً، مع أننا نصرح بنفي التشبيه، فيقولون: إنكم إذا قلتم إن الله على العرش فأنتم مشبهة، إذا قلتم إن الله ينزل كما يشاء فأنتم مشبهة، إذا أثبتم أن الله له سمع وله بصر فأنتم مشبهة. وهذا خطأ من القول، كيف يصير أهل السنة مشبهة مع نفيهم للتشبيه؟! لكن أولئك النفاة يظنون أن مجرد الإثبات تشبيه، يقولون: مجرد إثبات فعل يوجد للخالق وللمخلوق تشبيه، إذا قلت: إن الخالق يسمع والمخلوق يسمع فقد شبهت، وليس كذلك، بل هناك فرق بين السمعين. ويقولون: إذا قلت: إن لله يداً وللمخلوق يداً فقد شبهت، نقول: كلا ليس كذلك، بل هناك فرق بين اليدين، فكل له صفة تناسبه، وإلا فإنكم يا معتزلة إذا قلتم: إن للخالق ذاتاً، تصيرون مشبهين حسب عقيدتكم، وكذلك إذا قلتم: إن الخالق موجود والمخلوق موجود فكيف ترموننا بالتشبيه مع نفينا للتشبيه؟ هناك فرقة يقال لهم: الباطنية وغلاة القرامطة، هؤلاء ينفون الأسماء والصفات كلها، لا يثبتون لله أسماءً ولا صفات، فمن أثبتها عندهم يسمى مشبهاً. وهناك فرقة يثبتون الأسماء وينفون الصفات ولا يجعلون لله صفات تؤخذ من تلك الأفعال، فيقولون: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، تعالى الله عن قولهم. فيسمون من أثبت أن الله يسمع ويبصر مشبهاً، مع أن الذين يثبتونها يقولون: لا تشبه صفات المخلوق. وهناك من المعتزلة من ينفي الصفات فينفون القدرة والعلم والكلام وما أشبهها، وينفون أن الله تعالى يرى، ويزعمون أن من أثبت شيئاً من ذلك فإنه مشبه. ومنهم من المفسرين الزمخشري صاحب الكشاف -التفسير المطبوع- فإنه معتزلي ممن يقول بخلق القرآن، وممن يقول بأن الله لا يُرى في الآخرة، ولما كان أهل السنة يقولون: إن الله تعالى يرى بلا كيف، أو أنه ينزل بلا كيف، أو استوى على العرش بلا كيف، لم يوافقهم على ذلك وادعى أنهم مشبهة لهذا الفعل، وفي ذلك بيته المشهور الذي يقول فيه: قد شبهوه بخلقه فتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفة يعني تستروا بقولهم: بلا كيف وإلا فقد شبهوه، تعالى الله عن قوله. وأما عبد الجبار فهو من المعتزلة المتقدمين، وبلا شك أن مثل هؤلاء لا يلتفت إليهم، ولو انتشرت مع الأسف كتبهم ولو حققت ولو قدست ولو وزعت وبيعت في المكتبات الكبيرة والصغيرة فلا يغتر بها، فمثلاً الكتاب الكبير المسمى بالمغني، لهذا القاضي، الذي هو أكبر مؤلف للمعتزلة، مطبوع في نحو أربعة عشر مجلداً ومحقق ومعتنىً به، وهو مع ذلك يصب في هذا المذهب الباطل، وله كتاب مطبوع في مجلدين أيضاً اسمه: متشابه القرآن تتبع فيه آيات الصفات وحرفها وصرفها عن ظاهرها، وزعم أنه بذلك أجاب عما هو متشابه، وهو في الحقيقة خلط في هذا الكتاب، فلا يغتر بكتبه، وله كتاب في أصول المعتزلة وهو شرح الأصول الخمسة، وأشباه ذلك من كتبهم الموجودة المطبوعة، فلا يغتر بهم، وفي كتب أهل السنة غنية وكفاية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 نفي التشبيه غير مستلزم لنفي الصفات وإثبات الصفات غير مستلزم للتشبيه قال المؤلف رحمه الله: [ولكن المشهور من استعمال هذا اللفظ عند علماء السنة المشهورين، أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، ولا يصفون به كل من أثبت الصفات، بل مرادهم أنه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله، كما تقدم من كلام أبي حنيفة رحمه الله: أنه تعالى يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، وهذا معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فنفى المثل وأثبت الوصف. وسيأتي في كلام الشيخ إثبات الصفات، تنبيهاً على أنه ليس نفي التشبيه مستلزماً لنفي الصفات. ومما يوضح هذا: أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي يستوي أفراده، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها، ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية، لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بَعد التناهي الحيرة والاضطراب؛ لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها. ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] ، مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو للمحدث، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، -وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه- فالواجب القديم أولى به. وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق المربوب المدبر، فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، وهو أحق به منه، وأن كل نقص وعيب في نفسه، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال، إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات، والممكنات والمحدثات فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى. ومن أعجب العجب أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات والأسماء، ويقولون: واجب الوجود لا يكون كذا، ولا يكون كذا، ثم يقولون: أصل الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الإنساني، ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تخلقوا بأخلاق الله) ، فإذا كانوا ينفون الصفات، فبأي شيء يتخلق العبد على زعمهم؟! وكما أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته تعالى، لا يشبهه شيء من مخلوقاته، لكن المخالف في هذا النصارى والحلولية والاتحادية لعنهم الله تعالى. ونفي مشابهة شيء من مخلوقاته له، مستلزم لنفي مشابهته لشيء من مخلوقاته، فلذلك اكتفى الشيخ رحمه الله بقوله: (ولا يشبهه الأنام) والأنام: الناس، وقيل: الخلق كلهم، وقيل: كل ذي روح، وقيل: الثقلان، وظاهر قوله تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن:10] ، يشهد للأول أكثر من الباقي. والله أعلم] . يعني: أن مؤلف المتن ممن يقول بإثبات الصفات، ومن المعلوم أن من أثبت الصفة فإنه لا يقول بنفيها، مع كونه يصرح بنفي التشبيه، فـ الطحاوي الذي هو صاحب المتن يثبت صفات الأفعال كالكلام والعلم والقدرة وما أشبهها، وإذا كان يثبتها فقد صرح هنا بأنه ينفي مشابهة الخالق للمخلوق، وبذلك يعلم أنه لا تناقض بين إثبات الصفات ونفي التشبيه، فنحن أهل السنة نثبت أن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، وأن مرجعها إلى خبره عن نفسه وخبر رسله عنه، ونعتقد مع ذلك أنها تختص به ولا تشبه غيرها، كما أن صفات المخلوق تختص به ولا تشبه صفات الخالق. ويعتقد المسلمون أيضاً أن الله تعالى موصوف بكل كمال، كما في قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم:27] ، وهذا يسمونه قياس الأولى، وقياس الأولى: هو أن كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به؛ وذلك لأن المخلوق لم يكتسبه إلا من الخالق سبحانه، فصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كيف توجد في المخلوق ويخلو عنها الخالق؟! تعالى الله، هذا هو قياس الأولى. وأما قياس التمثيل وقياس الشمول الذي يستعمله القياسيون من أهل الكلام فلا يجوز استعماله، فلا يجوز مثلاً أن يقال: كل موصوف فإنه حادث، فصفات الخالق لا يقال: إنها حادثة، فهذا خطأ، بل الخالق بصفاته ليس بحادث، بل هو الأول بصفاته سواء كانت فعلية أو قولية أو ذاتيه. وسيأتي أن الطحاوي يصف الرب سبحانه وتعالى حيث يقول: (ليس منذ خلق الخلق استفاد اسم الخالق) ، أي: ولا بعد رزقهم استفاد اسم الرازق، والمعنى أنه موصوف بأنه الخالق قبل أن ينشئ الخلق، وموصوف بأنه الرازق قبل أن يوجد الخلق الذين يرزقهم، وهكذا أيضاً الصفات التي لها أثر في العباد نحو (التواب) هو موصوف بأنه التواب وإن لم يكن هناك من يتوب عليهم، وموصوف بأنه الرحمن قبل أن يوجد من يرحمهم وهكذا. صفات الله تعالى أولية أزلية ليست مسبوقة بعدم، وليست كصفات أي مخلوق، وكل كمال في المخلوق فإنما اكتسبه واستفاده من الخالق، فالله تعالى هو الذي أعطاه وهو الذي أيده وهو الذي سدده، وبالجملة لا يفهم كما تقول المتكلمة: إن إثبات الصفات تشبيه، بل يجتمع أن المسلم يصف الله بصفات الكمال ومع ذلك لا يكون مشبهاً، ولأجل ذلك جمع الله الرد على الطائفتين في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فإن قوله: (ليس كمثله شيء) رد على المشبهة، وقوله: (وهو السميع البصير) رد على المعطلة. فالمشبهة هم الذين غلوا وأثبتوا الصفات حتى جعلوها كصفات المخلوق، والمعطلة هم الذين غلوا في النفي حتى عطلوا الخالق عن صفاته، وهاتان الطائفتان قد كفرهم كثير من العلماء، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: لسنا نشبه ربنا بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان كلا ولا نخليه من أوصافه إن المعطل عابد البهتان يقول بعض السلف: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد المثبت يعبد إلهاً واحداً فرداً صمداً، وهذا معنى قول بعض السلف: أن من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 شرح العقيدة الطحاوية [11] يتميز الله تعالى بأسماء وصفات لا تطلق على المخلوق ولا يوصف بها؛ دلالة على عظمته وزيادة في إثبات استحقاقه للعبادة وحده دون غيره، فهو الخالق الرازق المحيي المميت الحي القيوم، الأول بلا ابتداء الآخر بلا انتهاء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 1 الكلام على صفة الحياة والقيومة وما يتعلق بهما يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (حي لا يموت، قيوم لا ينام) . قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، فنفي السنة والنوم دليل على كمال حياته وقيوميته، وقال تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:1-3] ، وقال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111] ، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58] ، وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:65] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام) الحديث. لما نفى الشيخ رحمه الله التشبيه أشار إلى ما تقع به التفرقة بينه وبين خلقه بما يتصف به تعالى دون خلقه، فمن ذلك: أنه حي لا يموت؛ لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تعالى دون خلقه، فإنهم يموتون. ومنه: أنه قيوم لا ينام، إذ هو مختص بعدم النوم والسنة دون خلقه، فإنهم ينامون، وفي ذلك إشارة إلى أن نفي التشبيه ليس المراد منه نفي الصفات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال؛ لكمال ذاته. فالحي بحياة باقية لا يشبه الحي بحياة زائلة، ولهذا كانت الحياة الدنيا متاعاً ولهواً ولعباً: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] ، فالحياة الدنيا كالمنام، والحياة الآخرة كاليقظة، ولا يقال: فهذه الحياة الآخرة كاملة، وهي للمخلوق؛ لأنا نقول: الحي الذي الحياة من صفات ذاته اللازمة لها، هو الذي وهب المخلوق تلك الحياة الدائمة، فهي دائمة بإدامة الله لها، لا أن الدوام وصف لازم لها لذاتها، بخلاف حياة الرب تعالى، وكذلك سائر صفاته، فصفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 2 إثبات صفتي الحياة والقيومية لله ونفي ضدهما هذه من الصفات الثبوتية، يعني: مما نثبت لله تعالى من الصفات صفة الحياة وصفة القيومية، كذلك ضدهما من الصفات السلبية، وهما: صفة الموت، وصفة النوم والسِنة، والسنة: هي النعاس أو مقدمات النوم، هذه صفات نقص، والرب سبحانه أثبت لنفسه صفات الكمال بقوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] ، ونفى عن نفسه صفات النقص بقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} [البقرة:255] أي: نعاس، {وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] النوم المعروف، ونفى الموت بقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] فنفى الموت ونفى السنة ونفى النوم؛ وذلك لأن النوم نقص يحتاجه الإنسان والدواب؛ لأن فيه شيئاً من إراحة البدن بعد التعب، والرب سبحانه وتعالى منزه عن التعب ومنزه عن اللغوب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 نفي اللغوب والتعب عن الله سبحانه وتعالى وقيل: إن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن خلق المخلوقات، فأخبرهم بأن الله خلق التربة يوم الأحد إلى أن انتهى من خلق المخلوقات يوم الجمعة، فقالوا: صدقت لو أكملت، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم أنهم يريدون بذلك ما هم يعتقدونه من أن الله أكمل المخلوقات يوم الجمعة واستراح يوم السبت. هكذا عندهم أن الله استراح يوم السبت، وكذبوا فإن الله تعالى لا يحتاج إلى إراحة، وأنزل الله رداً عليهم في سورة ق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] أي: من تعب، فهو سبحانه نفى عن نفسه هذا اللغوب الذي هو نقص وعيب، وهذا يدل على أن الله موصوف بكل كمال. وورد أيضاً: (أن نبي الله موسى سأل ربه، فقال: يا رب أتنام؟ فقال: يا موسى! خذ معك زجاجتين من ماء وقم بهما طوال الليل، فأخذهما فلما كان في أثناء الليل وهو قائم نعس فاضطربت يداه وضربت إحدى الزجاجتين الأخرى فانكسرتا، فقال الله: لو نمت لاختلت السموات والأرض كما فعلت هاتان الزجاجتان) أو كما في الأثر، ذكر ذلك ابن كثير في التاريخ وغيره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 الحكمة من تسمية الله نفسه بالقيوم الله سبحانه وتعالى قائم على هذه المخلوقات، ولأجل ذلك سمى نفسه بالقيوم، يعني: القائم على خلقه، ومعلوم أن القائم على خلقه هو الذي يراقبهم وهو الذي يرعاهم ويكلؤهم وهم نائمون، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] أي: الرحمن هو الذي يكلؤكم، يعني: يحفظكم ويراقبكم، فإذا كان كذلك فإنه الذي يرعى عباده، ولا يعتريه نوم ولا نقص ولا سنة ولا غير ذلك؛ لأنه الذي يمسك هذه المخلوقات، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} [الحج:65] ، إلى قوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65] أي: هو الذي يمسكها بقوته وبخلقه وبتمكينه، وقال تعالى: {يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] أي: هو الذي يمسكهما حتى لا يضطربا ولا يزولا، فإذا كان كذلك فإنه الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وقد حكم الله بالفناء على كل من سواه، فقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] ، هذا دليل الحياة التي لا يعتريها نقص ولا تغيير، وبلا شك أن النوم نقص، ولذلك يسمى: أخا الموت، النوم موتة صغرى، ولذلك قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] ، فذكر أنه يتوفاها في منامها، فالنوم شبه الموت، ولأجل ذلك نفاه عن نفسه ونفى أيضاً مقدماته؛ لقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} [البقرة:255] والسنة: هي النعاس أو النوم الخفيف. يعتقد المسلمون أن الله موصوف بصفات الكمال كالحياة الكاملة والقيومية الكاملة، وقد وافقت الأشاعرة على وصف الله تعالى بالحياة، ولكنهم رجعوا في إثباتها إلى العقل، يقولون: إنما أثبتناها لدلالة العقل عليها، وكأنهم لم يعتبروا دلالة الشرع الواضحة، دلالة النصوص من الآيات والأحاديث ونحوها. الحديث الذي مر بنا حديث مشهور وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، فابتدأ الحديث بنفي هذا النقص وهو النوم عن الله سبحانه وأنه لا ينبغي له أن ينام، هذه عقيدة المسلمين، وبلا شك أن الذي يعتقد أن ربه حي لا يموت وأنه قيوم لا ينام وأنه لا يعتريه تغير، هو الذي يكون قد قدر ربه في قلبه وعظمه على كل شيء؛ فيعبده حق العبادة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 معنى الحي القيوم وما يتضمنانه قال المؤلف رحمه الله: [واعلم أن هذين الاسمين -أعني: الحي القيوم- مذكوران في القرآن معاً في ثلاث سور كما تقدم، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم، فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه، ويدل القيوم على معنى الأزلية والأبدية ما لا يدل عليه لفظ القديم، ويدل أيضاً على كونه موجوداً بنفسه، وهو معنى كونه واجب الوجود، والقيوم أبلغ من القيام؛ لأن الواو أقوى من الألف، ويفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة، وهل يفيد إقامته لغيره وقيامه عليه؟ فيه قولان: أصحهما: أنه يفيد ذلك، وهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه؛ لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول ولا يأفل؛ فإن الآفل قد زال قطعاً، أي: لا يغيب ولا ينقص ولا يفنى ولا يعدم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال، موصوفاً بصفات الكمال. واقترانه بالحي يستلزم سائر صفات الكمال، ويدل على دوامها وبقائها، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً وأبداً، ولهذا كان قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] ، أعظم آية في القرآن كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما ترجع معانيها. فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها، استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة. وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 التوسل والدعاء بأسماء الله من مستلزمات الإيمان بها الماتن يقول: (حي لا يموت قيوم لا ينام) والشارح ابتدأ شرحه بأول آية الكرسي وهي قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، واستدل أيضاً بأول سورة آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1-2] ، وبالآية الثالثة في سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111] ، فالله عز وجل قرن هذين الاسمين في ثلاثة مواضع: في سورة البقرة في آية الكرسي، وفي أول سورة آل عمران، وفي سورة طه، ولما كان هذا شأنهما قال بعض العلماء: إنهما يتضمنان اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى. ولأجل ذلك يندب أن يكثر العبد من التوسل بأسماء الله إذا دعاه، وأن يكثر من التوسل بهذين الاسمين، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث: أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت) ، فأفاد بأن هذين الاسمين يدعى الرب سبحانه وتعالى بهما كما يدعى ببقية الأسماء الحسنى، التي قال الله عنها: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] أي: توسلوا بها في دعائه، فأنت مأمور أيها العبد عند الدعاء أن تتوسل بأسمائه سبحانه ومن جملتها: الحي القيوم، وبلا شك أن هذين الاسمين يتضمنان صفات الكمال، فإن الحي يتضمن إثبات الحياة، والحياة التي تثبتها لله تعالى هي أتم حياة وأكملها، وذلك بوصفها بأنها حياة مستقرة وأنها لا يعتريها نقص، فلا يعتريها النوم الذي هو أخو الموت، ولا يعتريها الموت كما في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ، ومن هذا الوصف يستحق الرب تعالى أن يكون هو الإله، ولأجل ذلك بدأ الآية بإثبات الإلهية: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] في آية الكرسي وفي أول سورة آل عمران، بدأ الآية بالإلهية، فكأنه يقول: الإلهية الحقة لا تصلح إلا لمن هو حي قيوم. الحياة والقيومية الكاملة هي التي استحقها الرب واستلزمت جميع صفات الكمال، ومعنى كونها تستلزم صفات الكمال: أن من أثبتها لزمه أن يثبت بقية الصفات التي هي صفات الكمال. فإن الحياة كلما كانت كاملة لزم أن يكون غيرها من الصفات تابعاً لها، وأما من نفى شيئاً من الصفات فإنه إنما أثبت حياة ناقصة، وقد وصف الله عز وجل نفسه بالسمع، والحياة تستلزم أن يكون سميعاً، وبالبصر، والحياة تستلزم أن يكون بصيراً، وبالكلام، والكلام لا بد أن يكون من حي، وكذلك بالقدرة وبالعلم وبالمشيئة والإرادة وما أشبه ذلك من الصفات التي يأتينا تفصيلها إن شاء الله تعالى. فعلى هذا فالمسلم عليه أن يلح في دعاء الله تعالى ويتوسل إليه بأسمائه، بعد أن يعتقد دلالة تلك الأسماء، فدلالة الحي على إثبات الحياة، ودلالة القيوم على إثبات القيومية التي هي القيام على خلقه بحيث يوصف بأنه القائم على خلقه المدبر لشئونهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 الكلام على صفتي الخلق والرزق وما يتعلق بهما قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (خالق بلا حاجة، رازق بلا مئونة) . قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56-58] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38] ، وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14] . وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) الحديث رواه مسلم، وقوله: بلا مئونة: بلا ثقل ولا كلفة] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 انفراد الله سبحانه بالخلق والرزق هذا من جملة ما وصف الله به نفسه وأخبر عن نفسه أنه الذي خلق الخلق ورزقهم، أي هو المنفرد بذلك وحده، فأما الخلق فليس له منازع، وأما الرزق فظاهر أنه الذي يسر أسباب الرزق، وأخبر بذلك ليعرفه العباد ويعبدوه وحده، فإذا علموا أنهم مخلوقون اعترفوا بأن لهم خالقاً، ذلك الخالق هو الله وحده، ما خلقهم لحاجته إليهم، ما خلقهم ليستكثر بهم من قلة، ولا ليتعزز بهم من ذلة، ولا ليستغني بهم من عيلة، ولا ليستأنس بهم من وحشة، بل هو الغني عنهم وهم الفقراء إليه، قال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38] ، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15-17] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 الحكمة من خلق الله للجن والإنس وقد أخبر الله بالحكمة من خلقه لهذا الخلق، وهو أنه خلقهم لعبادته وأمرهم بطاعته، خلقهم ليعرفوه ويعبدوه وأمرهم بأن يوحدوه ويطيعوه، وهو الغني عنهم، ولهذا قال: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:57] ، وقال تعالى في آية أخرى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14] ، فهو الغني وهم الفقراء. إذا عرف العباد بأنهم مخلوقون وأن لهم خالقاً، عرفوا بأن ذلك الخالق غني عنهم وأنهم فقراء إليه، عرفوا بأنهم مملوكون وأن لهم مالكاً، عرفوا بأنهم مدبرون وأن هناك من يدبرهم ويسخرهم ويتصرف فيهم كما يشاء، ذلك الخالق والمالك والرب والمتصرف هو الذي يستحق أن يعبدوه، ولأجل هذا خاطبهم بذلك وذكرهم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21] ، ابتدأ بنعمة الخلق بعدما أمرنا بأن نعبده، ومن أسباب أمره سبحانه بعبادته: أولاً: أنه خلقكم. ثانياً: أنه خلق من قبلكم. ثالثاً: أنه أنزل من السماء ماءً. رابعاً: أنه جعل لكم الأرض فراشاً. خامساً: أنه جعل السماء بناءً. سادساً: أنه أنبت النبات. كل ذلك من الأسباب التي هي منَّة ونعمة منه سبحانه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 حقيقة انفراد الله تعالى بالرزق وتيسير أسبابه أما قوله: (رازق) فمعلوم أنه الذي تفرد بالرزق وحده، وقد يقول قائل: بل العبد هو الذي يتكسب، والدواب هي التي تسعى في طلب الرزق، فإذاً كيف يكون ذلك رزقاً، ونحن نشاهد أن الإنسان هو الذي يكتسب الرزق؟! يقول هذا كثير من الناس، وأكثر من يقوله هم الملاحدة، حتى نقل لي بعض الإخوان عن بعض الملاحدة والعياذ بالله أنه لما قيل له: تذكر أن الله الذي يرزقك، فقال: كلا إنما ترزقني يميني والعياذ بالله، نسي أن الله حنن عليه أبويه في طفولته، نسي أن الله يسر له الرزق وهو في رحم أمه، حتى يأتيه الرزق من حيث لا يشعر. فالإنسان في بطن أمه يكون له باب واحد يأتيه الرزق منه، وهو حبل السرة الذي يتغذى من الدم، فمن الذي يسر ذلك له؟ هل للأبوين تصرف في هذا الجنين حتى يتم خلقه؟ ليس لهما تصرف، إذاً فالذي دبره على هذه الهيئة هو الذي يرزق. فلما خرج إلى هذه الدنيا من الذي فجر له هذين الثديين من صدر والدته، بهذا اللبن اللذيذ الذي يحصل به التغذي؟! من الذي ألهم هذا الطفل أن يمتص الثديين حتى يحصل على هذا اللبن الذي يتقوت به؟! عندما أخرجه الله إلى الدنيا فتح له بابين -وهما هذان الثديان- ليكون منهما رزقه وغذاؤه، لا يستطيع أن يحصل لنفسه هذا الرزق إلا أن ييسره الله له، من الذي حنن قلب أبويه عليه وجعل في قلوبهما الشفقة التامة إلى أن يحنوا عليه ويحدبا عليه ويحبا بقاءه ويسهرا ويتعبا في تحصيل راحته؟! لولا أن الله جعل ذلك في قلوبهما لما التفتا إليه ولما بقي على هذه الحياة مدة. بعدما فطم وترعرع من ذينيك الثديين، فتح الله له أربعة أبواب من الرزق: شرابان، وطعامان، فالشرابان: اللبن مأخوذ من الحيوان، والأشربة من الماء، والطعامان: اللحم طعام من الحيوانات التي سخرها الله للإنسان ليأكل من لحومها، وسائر الأطعمة مما تنبته الأرض، والله تعالى هو الذي يسر له ذلك. أولاً: باب واحد في بطن أمه. ثانياً: بابان بعدما خرج إلى الدنيا وكان رضيعاً. ثالثاً: أربعة أبواب بعدما فطم وأحس بالحاجة: طعامان، وشرابان. من الذي يسر أسباب الرزق؟ من الذي أنبت هذا النبات حتى أثمر وحتى أينع وأصبح صالحاً للقوت لو شاء الله تعالى لجعل الأرض حجراً لا تنبت، ولو شاء لجعل الأرض كلها ماءً لم يحصل بها هذا النبات ولا هذا الاستقرار، ولو شاء لجعل هذه الأرض سبخة لا ينبت فيها أي نبات أصلاً، بل لو أن الله جعل الأرض كلها ذهباً أو كلها فضة، هل يحصل الانتفاع بها وتنبت ويأكل الناس ودوابهم ويتقوتون بها؟ لا، ما تنفعهم. الله جعل الأرض رخوة صالحة للإنبات، فتبين بذلك أنه سبحانه هو الذي رزقنا، ولهذا يمتن علينا بأنه هو الذي رزقنا، ولسنا نحن الذي نرزق أنفسنا، ثم إذا كان الإنسان قد أعطي قوة حتى يتكسب ويجمع المال من هنا ومن هنا، فمن الذي أعطاه هذا العقل والفكر حتى يتسبب؟ ومن الذي أعطاه هذه الأدوات وهذه الآلات حتى يسير على قدميه وحتى يبطش بيديه وحتى يكتسب بهما؟ أليس هو الذي خلقه؟! إذاً فالله تعالى هو الخالق وهو الرازق، وإذا كان هو الخالق والرازق فهو الذي يستحق أن يعبد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 11 الكلام على الإماتة والبعث الجزء: 11 ¦ الصفحة: 12 حقيقة الموت ومآله يوم القيامة قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (مميت بلا مخافة باعث بلا مشقة) الموت صفة وجودية خلافاً للفلاسفة ومن وافقهم، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] ، والعدم لا يوصف بكونه مخلوقاً، وفي الحديث: (إنه يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار) ، وهو وإن كان عرضاً، فالله تعالى يقلبه عيناً، كما ورد في العمل الصالح: (أنه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح على أقبح صورة) ، وورد في القرآن: (أنه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون) الحديث، أي: قراءة القارئ، وورد في الأعمال: أنها توضع في الميزان، والأعيان هي التي تقبل الوزن دون الأعراض، وورد في سورة البقرة وآل عمران: (أنهما يوم القيامة يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف) ، وفي الصحيح: (أن أعمال العباد تصعد الى السماء) ، وسيأتي الكلام على البعث والنشور إن شاء الله تعالى] . يتكلم الشارح هنا على أن الموت مخلوق، رداً على الفلاسفة الذين يقولون: الموت أمر عدمي ليس له جرم، ويقولون: ليس هناك شيء مخلوق اسمه الموت، وكذبوا قول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ} [الملك:2] قوله: (خلق الموت) فيه دليل على أن هناك شيئاً اسمه الموت، وأنه شيء محسوس، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما يدل على أن هذا الموت شيء محسوس، وهو قوله عن يوم القيامة: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، جيء بالموت كأنه كبش فوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، ويقال لأهل النار: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت) . فيزداد أهل الجنة فرحاً، ويزداد أهل النار حزناً؛ وذلك لأن أهل الجنة أيقنوا بأنهم سيلقون حياة مستقرة ليس بعدها موت، وأن أهل النار كانوا يؤملون الموت، كانوا يرجون الموت ويقولون: العدم خير من هذا الوجود، ويقولون كما حكى الله عنهم: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] أي: بالموت، والله تعالى يقول: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 13 حقيقة تحويل الأعراض إلى أجرام والشاهد أنه أخبر في هذا الحديث بأن الموت شيء محسوس يرى ويعرف، يعلمون أنه هو الموت ولو كان عرضاً، فالله تعالى قادر أن يجعل العرض جسماً، ويجعل له جثة أو صورة كما في الأعمال التي هي أعراض، فقد أخبر في الأحاديث أن الله يجعلها أجساماً وأجراماً، وأنها توزن مع كونها أعراضاً. فمثلاً الصلاة ورد في الحديث: (أنه إذا صلى العبد فأحسن صلاته صعدت ولها نور فتفتح لها أبواب السماء وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا صلى وأساء في صلاته صعدت ولها ظلمة، فتغلق دونها أبواب السماء وتلعن صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، وتلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها) . في هذا بيان أن الأعراض يجعلها الله تعالى أجساماً، وكذلك الكلام قد يجعل الله تعالى له أجراماً، ولهذا في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض) ، ومعلوم أن كلمة (الحمد لله) ، ليس لها جرم، ولكن يجعل الله لها جرماً وجثة حتى تملأ الميزان، وكذلك التسبيح والتكبير ونحو ذلك، وإذا كانت الأعمال توزن ولو كانت أعراضاً، فكذلك الموت ولو كان عرضاً يجعل الله له جرماً حتى يرى، فهو الذي خلق الموت وخلق الحياة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 14 عقيدة أهل السنة في الصفات الفعلية لله تعالى قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزلياً، كذلك لا يزال عليها أبدياً) . أي: أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متصفاً بصفات الكمال: صفات الذات، وصفات الفعل، ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها؛ لأن صفاته سبحانه صفات كمال، وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده، ولا يرد على هذه صفات الفعل والصفات الاختيارية ونحوها، كالخلق والتصوير، والإحياء الإماتة، والقبض والبسط والطي، والاستواء، والإتيان والمجيء والنزول، والغضب والرضا، ونحو ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، وإن كنا لا ندرك كنهه وحقيقته التي هي تأويله، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، ولكن أصل معناه معلوم لنا، كما قال الإمام مالك رضي الله عنه، لما سئل عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2] ، كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. وإن كانت هذه الأحوال تحدث في وقت دون وقت كما في حديث الشفاعة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله) ؛ لأن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن، ألا ترى أن من تكلم اليوم وكان متكلماً بالأمس لا يقال: إنه حدث له الكلام، ولو كان غير متكلم لآفة كالصغر والخرس ثم تكلم يقال: حدث له الكلام، فالساكت لغير آفة يسمى: متكلماً بالقوة، بمعنى: أنه يتكلم إذا شاء، وفي حال تكلمه يسمى: متكلماً بالفعل، وكذلك الكاتب في حال الكتابة هو كاتب بالفعل، ولا يخرج عن كونه كاتباً في حال عدم مباشرته الكتابة. وحلول الحوادث بالرب تعالى المنفي في علم الكلام المذموم، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة، وفيه إجمال، فإن أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن، فهذا نفي صحيح، وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية من أنه لا يفعل ما يريد، ولا يتكلم بما شاء إذا شاء، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان كما يليق بجلاله وعظمته، فهذا نفي باطل] . في الكلام الأول ذكر الماتن رحمه الله: أن صفات الرب تعالى أزلية، وأنه موصوف بها في الأزل قبل أن تحدث الأفعال التي ظهرت بها، فيعتقد المسلمون أن الله سبحانه وتعالى قديم بصفاته، ويردون بذلك على النفاة الذين ينفون الصفات ويقولون: إنه إذا أثبتناها لزمنا تعدد القديم، وهذا اللازم باطل، فالله تعالى قديم بصفاته سواء الصفات الذاتية أو الصفات الفعلية، ليس منها شيء متجدد بعد أن لم يكن، فصفاته الذاتية التي أخبر عنها كوجهه ويده والعين وما أشبه ذلك، هذه قديمة لم يحدث منها شيء. أما صفات الفعل كالعلم والكلام والقدرة والإرادة والمحبة والبغض والكراهة وما أشبهها فهو موصوف بها أزلاً وإن لم تحدث أسبابها، يعني: وإن لم يحدث من يغضب عليه، فهو موصوف بأنه يغضب وبأنه يرضى قبل أن يوجد خلق يغضب عليه أو يرضى عنه، وهو موصوف بأنه يحب ويكره قبل أن يحدث الخلق الذين يحب منهم الصالحين ويكره أو يبغض غيرهم، وموصوف بأنه يعجب وبأنه يفرح وبأنه يضحك وبأنه يجيء وينزل وبأنه يستوي على العرش إلى غير ذلك من الصفات، فهو موصوف بذلك أزلاً قبل أن تحدث أسباب ذلك، هذه عقيدة أهل السنة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 15 عقيدة أهل السنة في تجدد الصفات الفعلية لله تعالى معلوم أن هذه الأفعال تسمى صفات فعلية، ومعلوم أنها تتجدد، ولأجل ذلك كانت عقيدة أهل السنة أن كلام الله قديم النوع متجدد الآحاد، يعني: أنه متكلم وأنه يتكلم بخلاف من يقول من المعتزلة ونحوهم: إن كلام الله قديم، ومعناه أنه لا يتكلم الآن، تعالى الله عن ذلك، وهكذا بقية الصفات فيقال: الله موصوف في الأزل بأنه يغضب ويرضى ولا يزال على ذلك حتى يوم القيامة، وقد أخبر الأنبياء بأنه يغضب وبأنه قد غضب، كما في حديث الشفاعة يقول آدم: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله) ، وكذلك يقول نوح وإبراهيم وموسى وعيسى إذا طلب منه الشفاعة، فيدل على أن الله موصوف بالغضب أزلاً وأنه يغضب إذا شاء. ومعلوم أن المعاصي التي رتبت عليها العقوبات تحدث فتحدث آثارها. فإذا كان الله تعالى يرضى عن المؤمن، فإذا وجد المؤمن وآمن وعمل صالحاً رضي الله عنه، وإذا كان يغضب على العاصي، فإذا وجد ذلك العاصي ووجدت منه معصية غضب الله عليه. فإذاً هذه الأفعال تتجدد، ولا يقال إنها أتت مرة ثم انقطعت، هكذا صفات الله الفعلية، كذلك صفة النزول لم تكن حدثت مرة ثم انقطعت، وكذلك صفة المجيء يوم القيامة فقد أخبر الله بأنه يجيء يوم القيامة كما في قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] ، {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام:158] يعني: يوم القيامة، فإذاً ذلك دليل على أن صفات الله التي هي أفعال أزلية وأبدية، وأنه لا يزال متصفاً بها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 16 الفوائد المستفادة من إثبات أسماء الله وصفاته ومعرفتها نستفيد من عقيدة إثبات أسماء الله تعالى وإثبات صفاته ومعرفة أسمائه التي سمى بها نفسه أو سماه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، يستفيد منها المسلم فوائد منها: أن يدعوه بها، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] . ومنها أن يعتقد مدلولها ويكون اعتقاده لمدلولها دافعاً له على الخوف والرجاء، وعلى أعلى أنواع العبادة، فإن من اعتقد أن الله تعالى لا إله غيره خصه بالإلهية، ومن اعتقد أنه حي لا ينام، قيوم لا يفنى ولا يبيد ولا يكون إلا ما يريد، وأنه أول وآخر أزلي لم يسبق بعدم وأنه لا يأتي عليه العدم، واعتقد أنه موصوف بصفات الكمال ومنزه عن صفات النقص؛ من اعتقد هذا الاعتقاد؛ عظم قدر ربه في قلبه، ومتى عظم الله بكونه الذي يحيي الموتى ويميت الأحياء، والذي لا تأخذه سنة ولا نوم، والذي هو الحي القيوم، والذي هو الأول والآخر، وهو الظاهر والباطن، والذي هو غني عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه؛ لا شك أن من عرف ربه بهذه الصفات فإنه يدعوه بها، وكذلك يعظمه بموجبها، هذه فائدة معرفة هذه الأسماء والصفات. وقد تقدم شرح (الحي القيوم) ، وكذا (الأول والآخر) ، وكذا (المحيي والمميت) ، وما أشبهها من أسماء الله، وكذلك من صفات النفي، كما في قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ، ولا يشبه الأنام، ولا يعجزه شيء، وما أشبهها. فالمسلم يعتقد ثبوت صفات الكمال، ويستفيد منها تعظيمه، وينتج من تعظيمه عبادته حق العبادة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 17 حكم إطلاق نفي حلول الحوادث ومعناها عند أهل السنة وغيرهم قال رحمه الله تعالى: [وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث، فيسلم السني للمتكلم ذلك، على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله، فإذا سلم له هذا النفي ألزمه نفي الصفات الاختيارية وصفات الفعل، وهو غير لازم له، وإنما أتي السني من تسليم هذا النفي المجمل، وإلا فلو استفسر واستفصل لم ينقطع معه. وكذا مسألة الصفة: هل هي زائدة على الذات أم لا؟ لفظها مجمل، وكذلك لفظ الغير فيه إجمال فقد يراد به ما ليس هو إياه، وقد يراد به ما جاز مفارقته له. ولهذا كان أئمة السنة رحمهم الله تعالى لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره، ولا أنه ليس غيره؛ لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو، إذ كان لفظ الغير فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل، فإن أريد به أن هناك ذاتاً مجردة قائمة بنفسها، منفصلة عن الصفات الزائدة عليها، فهذا غير صحيح، وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة، فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها، وإنما يفرض الذهن ذاتاً وصفة كلا وحده، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة فإن هذا محال، ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الموجود، وإن كان الذهن يفرض ذاتاً ووجوداً، يتصور هذا وحده، وهذا وحده، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج. وقد يقول بعضهم: الصفة لا عين الموصوف ولا غيره وهذا له معنى صحيح، وهو: أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة بل هي غيرها، وليست غير الموصوف، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد. فإذا قلت: أعوذ بالله، فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدسة الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه. وإذا قلت: أعوذ بعزة الله، فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى ولم أعذ بغير الله. وهذا المعنى يفهم من لفظ الذات، فإن (ذات) في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة، أي: ذات وجود، ذات قدرة، ذات عز، ذات علم، ذات كرم، إلى غير ذلك من الصفات، فذات كذا بمعنى: صاحبة كذا، تأنيث (ذو) هذا أصل معنى الكلمة. فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه، وإن كان الذهن قد يفرض ذاتا مجردة عن الصفات كما يفرض المحال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ، ولا يعوذ صلى الله عليه وسلم بغير الله، وكذا قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا) وقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات) ] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 18 شبهة نفي حلول الحوادث والرد عليها تكلم أولاً: على بعض الشبهات التي يروجها نفاة صفات الله تعالى، فمن شبهاتهم قولهم: إن الله منزه عن حلول الحوادث، فإذا سمع ذلك الجاهل اعتقد أنهم صادقون واعتقد أن الله لا يجوز أن تحل به الحوادث، فإذا سلم ذلك ووافق عليه قالوا: لا يجوز أن يوصف بالكلام الحادث، ولا أن يوصف بأنه يحدث له غضب، ولا رضا، ولا أن يحدث له كراهية أو سخط وما أشبه ذلك، فينفون الأفعال الاختيارية بحجة أنها حادثة والحادث لا يوصف به الرب، وعندهم أن الرب قديم لم يحدث منه شيء، ولا يجوز أن يوصف بصفة تحدث، وموافقتهم على هذه القاعدة خطأ. فإذا قالوا: القاعدة تنزيه الله عن حلول الحوادث، فيقال لهم: ماذا تريدون؟ إن أردتم أن الله لا يحدث له صفة لم تكن موجودة في الأزل فهذا صحيح، فإن الله تعالى يسمى خالقاً قبل وجود المخلوقين ورازقاً قبل أن يكون هناك من يرزقهم، وهو المحيي والمميت قبل أن يوجد الخلق الذين يحيي منهم من يشاء ويميت منهم من يشاء، يعني: أنه متصف بالفعل أزلاً وإن لم تكن المفعولات موجودة، فإن الذي يكون قادراً على الفعل يصح أن يوصف به ولو لم يزاوله، فإذا رأيت إنساناً ساكتاً صامتاً قلت: هذا الإنسان متكلم، أي أنه ليس أخرس، ولو كان في تلك الحال صامتاً، يعني أنه متكلم بالقوة، فكذلك يقال: الله يحيي ويميت، أي: أنه متصف بصفة القدرة على الإحياء والإماتة والخلق والرزق والتصرف والتدبير قبل أن توجد المخلوقات، ولكن بعد وجود هذه المخلوقات فإن الله تعالى يميت من يشاء ويحيي من يشاء، ويرزق هذا ويفقر هذا ويغني هذا، ويصح هذا ويسقم هذا، ويرفع هذا ويخفض هذا، وكل هذه صفات حادثة، فأصل الصفة موجود ليس بحادث ومفرداتها حادثة. كذلك نقول: الله تعالى متكلم في الأزل ويتكلم إذا شاء، ليس معناه أنه تكلم أزلاً ثم انقطع كلامه، بل كلام الله قديم النوع حادث الآحاد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 19 شبهة: أن صفات الله زائدة على ذاته والرد عليها ومن شبهاتهم قولهم: إن صفات الله زائدة على ذاته، وهذه شبهة باطلة، فليست صفاته زائدة على ذاته بل صفات الله من ذاته، وهو واحد بصفاته، ولا يلزم من إحداث الصفات تعدد القدماء كما يقولون، فليس هناك تعدد. وذلك أنهم يقولون: إن قولكم: ذات الرب قديمة وسمعه قديم وبصره قديم وعلمه قديم وقدرته قديمة، فأنتم لم تثبتوا واحداً بل أثبتم عدداً! وهذه شبهة باطلة، فإن الله تعالى واحد بصفاته، فليست الصفات خارجة عن الذات، ولا يتصور أن تكون هناك ذات مجردة عن جميع الصفات، ولو لم يكن إلا صفة الوجود فصفة الوجود ملازمة لكل موجود، فلا يمكن أن يُفْرَض شيء ليس له صفات، وهو مع ذلك له ذات، بل كل ذات يلزم أن يكون لها صفات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 20 شبهة: أن صفات الله غيره والرد عليها ومن شبهاتهم قولهم: إن صفات الله غيره، وهي أيضاً شبهة باطلة، فليست صفات الله تعالى غيره، بل صفاته من ذاته فنضرب مثلاً -ولله المثل الأعلى- المخلوق لا يقال: إن صفاته غيره، فإذا رأيت إنساناً فإنك لا تقول: جاء زيد ويداه ورجلاه ورأسه وبطنه وظهره وعيناه وأذناه، بل تقول: جاء زيد، وتدخل صفاته في ذاته وفي شخصه، فهو شيء واحد وشخص واحد بهذه الصفات، ولا يلزم من كونه ذا صفات أن يكون عدداً، فلا تقول: جاءني عشرة: عينان وأذنان ويدان ورجلان وشفتان، بل شخص واحد مسمى بهذا الاسم، فكذلك الله سبحانه وتعالى ليست صفاته زائدة على ذاته، بل صفاته من ذاته. فإذا اعتقد المسلم أن الله موصوف بهذه الصفات التي هي صفات الكمال اعتقد مدلولها، فإذا اعتقد أن الله يغضب حذر من أسباب الغضب، وإذا اعتقد أنه يرضى فعل أسباب الرضا، وإذا اعتقد أنه الذي يحيي ويميت عبده وعرف حقه، وإذا اعتقد أنه هو الذي يفقر ويغني وأنه الذي يمنع ويعطي عرف أن العبادة لا تصلح إلا له، وهكذا، فمعرفة هذه الصفات تزيد العبد بصيرة في دينه، وتحمله على التمسك بدينه، وعلى الإكثار من التقرب إلى الله تعالى بحقوقه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 21 الكلام على مسألة الاسم والمسمى قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك قولهم: الاسم عين المسمى أو غيره، وطالما غلط كثير من الناس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه، فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، أو (سمع الله لمن حمده) ونحو ذلك، فهذا المراد به المسمى نفسه، وإذا قلت: الله: اسم عربي، والرحمن: اسم عربي، والرحمن: من أسماء الله تعالى ونحو ذلك، فالاسم ها هنا هو المراد لا المسمى، ولا يقال غيره لما في لفظ الغير من الإجمال: فان أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد أن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه أسماء، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم، فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى. والشيخ رحمه الله أشار بقوله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه) إلى آخر كلامه إلى الرد على المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة، فإنهم قالوا: إنه تعالى صار قادراً على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليه، لكونه صار الفعل والكلام ممكناً بعد أن كان ممتنعاً، وأنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي. وعلى ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما فإنهم قالوا: إن الفعل صار ممكناً له بعد أن كان ممتنعاً منه. وأما الكلام عندهم فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة، بل هو شيء واحد لازم لذاته. وأصل هذا الكلام من الجهمية فإنهم قالوا: إن دوام الحوادث ممتنع، وإنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ، لامتناع حوادث لا أول لها، فيمتنع أن يكون الباري عز وجل لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئته، بل يمتنع أن يكون قادراً على ذلك، لأن القدرة على الممتنع ممتنعة. وهذا فاسد، فإنه يدل على امتناع حدوث العالم وهو حادث، والحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، وما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت فيه، فليس لإمكان الفعل وجوازه وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً صحيحاً، فيلزم أنه لم يزل الرب قادراً عليه، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها] . معنى ذلك: أن صاحب المتن لما ذكر قدم أسماء الله التي هي في الأصل تتضمن صفات كالرازق الذي يستلزم أن يكون هناك مرزوقون، والخالق الذي يستلزم أن يكون هناك مخلوقون، وكذلك المحيي والمميت الذي يلزم منهما أن يكون هناك خلق يحييهم ويميتهم، وكذلك اسم العليم يلزم أن يكون هناك ما يعلمه، وهكذا المعز والمذل والخافض والرافع والمعطي والمانع، لا شك أنها أسماء لها آثار في الخلق، فآثارها كونه يعطي هذا ويمنع هذا ويحرم هذا ويميت هذا ويحيي هذا ويعز هؤلاء ويذل هؤلاء ويخفض قوماً ويرفع آخرين. وهذه الصفات موصوف بها الرب تعالى في الأزل قبل أن يوجد الخلق، خلافاً لقول المعتزلة والجهمية والكلابية ونحوهم الذين يقولون: إنما حدثت بعد حدوث المخلوقات، وهذا خطأ، بل قولهم: بامتناع حوادث لا أول لها، الأولى بنا عدم الخوض في مثل ذلك، وأن نقول: الله أعلم بالمخلوقات التي خلقها أولاً، ومتى ابتدأ خلقه لها، لا نقول: إن المخلوقات ليس لها مبدأ، لكن نعلم أن ما سوى الرب تعالى حادث، والرب تعالى قديم أزلي أول، ونعلم أن حكمة الله تعالى في هذه الموجودات أنه أوجد هذا الكون بما فيه؛ ليعرف بذلك قدره ولتعرف بذلك أهليته للعبادة، وليعرف المسلمون بذلك أنهم مخلوقون لأداء حقوق ربهم سبحانه وتعالى الذي هذا خلقه وهذا تكوينه، قال تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] ، هكذا يجب أن يعتقد المسلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 22 مسألة تسلسل الحوادث الجزء: 11 ¦ الصفحة: 23 منع الجهمية من حوادث لا أول لها والرد عليهم قال المؤلف رحمه الله: [قالت الجهمية ومن وافقهم: نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له، لكن نقول: إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له؛ وذلك لأن الحوادث عندنا تمتنع أن تكون قديمة النوع بل يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه، فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له بخلاف جنس الحوادث. فيقال لهم: هب أنكم تقولون ذلك، لكن يقال: إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية، فإنه صار جنس الحدوث عندكم ممكناً بعد أن لم يكن ممكناً، وليس لهذا الإمكان وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان، وإلا لزم انقلاب الجنس من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث شيء] . شبهة أيضاً من شبهات المعتزلة أو الجهمية ونحوهم، ولا يحتاج المسلم إلى معرفة أصول الرد عليهم في قولهم بأن هذه حادثة في وقت كذا وكذا؛ وذلك لأنا لا نعلم وقت حدوث هذه المحدثات، ويمكن إذا قدرنا أنها حدثت مثلاً قبل مائة ألف سنة أن يقول قائل: يمكن أنها قبل مائتين، ويقول آخر: يمكن أنها قبل ألفين، ويقول آخر: قبل ذلك بألوف. فإذاً ليس هناك وقت يلزم العباد بأنه حدثت فيه هذه المحدثات، لكن نعرف أنها حادثة، فالله تعالى ذكر أنه خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] يعني: كان معدوماً، وخلق الجن بعد أن كانوا معدومين، وخلق الملائكة بعد أن كانوا عدماً، وهكذا أيضاً خلق السموات والأرض في ستة أيام بعد أن لم تكن موجودة، وهكذا سائر المخلوقات الله الذي ابتدأ خلقها، ولا شك أنه أوجد هذه الموجودات وبث هذه الدواب مثلاً على هذه الأرض، وخلق هذه الأنهار وهذه البحار والأشجار والثمار والآبار ونحو ذلك، هو الذي ابتدأها بعد أن لم تكن موجودة، ويمكن أنه خلق قبلها مخلوقات لا ندركها ولا نعلمها، فالله تعالى هو المنفرد بالخلق والتصرف، وإنما علينا أن نعتبر بما نرى، نعرف أن هذه الموجودات التي خلقت خلقت لنا للاعتبار، نأخذ منها دلالة وعبرة على أن خالقها هو خالق كل شيء، وأن الذي هو خالق كل شيء هو المستحق لأن يعبد وحده؛ فنعبده ونخلص العبادة له ولا نتجاوز ذلك، هذا هو الأولى بالمسلم. قال المؤلف رحمه الله: [ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث، أو جنس الحوادث، أو جنس الفعل، أو جنس الأحداث، أو ما أشبه هذا من العبارات من الامتناع إلى الإمكان، وهو مصير ذلك ممكناً جائزاً بعد أن كان ممتنعاً، من غير سبب تجدد، وهذا ممتنع في صريح العقل، وهو أيضاً انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي، فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة، وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين، فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب ممكناً، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكناً، وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا: لم يزل الحادث ممكناً، فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه، فإنه يعقل كون الحادث ممكناً، ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل، وأما كون الممتنع ممكناً فهو ممتنع في نفسه، فكيف إذا قيل: لم يزل إمكان هذا الممتنع؟! وهذا مبسوط في موضعه] . الممكن: هو الذي يتصور وجوده وحدوثه، الممتنع: هو ما لا يتصور العقل وجوده، أو ما لا يمكن أن يحدث، الممتنعات: هي المستحيلات. ومعلوم أن هذه المخلوقات كانت معدومة فوجدت لإمكان حدوثها، وأن هناك أشياء مستحيلة ولم تكن، وممتنعة ولم تحدث، مثل: الجمع بين الضدين، فلا يمكن مثلاً أن يكون المكان الضيق مظلماً ومنيراً في وقت واحد، فلا يجتمع فيه النور والظلمة لكونهما ضدين، ولا يجتمع في وجه إنسان كونه أبيض وأسود، ولا في ثوبه مثلاً أنه أحمر وأبيض؛ لأن اجتماع الضدين من الممتنعات، ومعلوم أن الله تعالى لا يعجزه شيء وأنه قادر على أن يجمع بين الضدين، وقادر على أن يخلق المستحيل، ولكن جرت العادة بامتناع هذا في التصور، وأخبر بأنه قد يوجد بعض الأشياء مثل الأمور الغيبية، كقوله تعالى: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74] ، كأن العاقل يقول: مستحيل أن يكون الشيء لا ميتاً ولا حياً، يقال: ليس بمستحيل بل يمكن في قدرة الله أن يكون ميتاً حياً في آن واحد، وإن كان المراد أنه لا يحيا حياة يستلذ بها في النار، ولا يموت موتاً يستريح منه، بل هو متألم يتمنى الموت ولا يحصل له؛ لهذا السبب نفيت عنه الحياة والموت، وعلى كل حال وصف الرب سبحانه بالأفعال عام في أنه على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء، وأنه قادر على أن يجمع بين المختلفات، وأن يوجد المتضادات، ولكن جرت العادة بأن هذا الممتنع لم يحدث ولم نره مع قدرته على أن يحدثه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 24 مذاهب الناس في تسلسل الحوادث [فالحاصل أن نوع الحوادث هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي أم لا، أو في المستقبل فقط، أو الماضي فقط؟ فيه ثلاثة أقوال معروفة لأهل النظر من المسلمين وغيرهم. أضعفها: قول من يقول: لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل كقول جهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف. وثانيها: قول من يقول: يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي، كقول كثير من أهل الكلام ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم. والثالث: قول من يقول: يمكن دوامها في الماضي والمستقبل كما يقوله أئمة الحديث، وهي من المسائل الكبار، ولم يقل أحد: يمكن دوامها في الماضي دون المستقبل. ولا شك أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون: إن كل ما سوى الله تعالى مخلوق كائن بعد أن لم يكن وهذا قول الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم. ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارناً لفاعله لم يزل ولا يزال معه ممتنع محال، ولما كان تسلسل الحوادث في المستقبل لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء؛ فإن الرب سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال، يفعل ما يشاء ويتكلم إذا يشاء، قال تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:40] ، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] ، وقال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:15-16] ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] ، وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109] . والمثبت إنما هو الكمال الممكن الوجود، وحينئذٍ فإذا كان النوع دائماً فالممكن والأكمل هو التقدم على كل فرد من الأفراد بحيث لا يكون في أجزاء العالم شيء يقارنه بوجه من الوجوه، وأما دوام الفعل فهو أيضاً من الكمال؛ فإن الفعل إذا كان صفة كمال فدوامه دوام كمال] . الأفعال التي ذكرها ودوامها في الماضي، أو دوامها في المستقبل، أو في الماضي والمستقبل هذه من الأمور الغيبية، ومعنى دوامها في الماضي أن الله تعالى قديم، وأنه لم يزل يخلق، لم يكن في زمن معطلاً عن الخلق، ولم يكن في زمن غير موجود خلْق يدبرهم ويتصرف فيهم، وكذلك في المستقبل، أي: أنه لا يزال موجوداً، وأنه بعدما يفنى هذا الخلق يحييهم مرة ثانية ويبقى متصرفاً فيهم، يعني: يعلم أحوالهم وما يصيرون إليه، ويعذب من يشاء ويرحم من يشاء، ويعطي ويمنع وتظهر آثار أفعاله على المخلوقات، فلا شك أن هذا ونحوه من جملة ما يعتقده المسلمون. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 25 التوقف عن القول بتسلسل الحوادث بالماضي ولكن قد ذهب بعض الفلاسفة إلى أن هذا الوجود لم يسبق بعدم، وأن هذا النوع الإنساني قديم ليس له بداية وليس له أول، وأنكروا أن يكون هناك بشر اسمه آدم خلق من تراب، وأنكروا أن يكون لهذا الخلق نهاية، وأن تكون هناك الساعة التي تقوم، وأن يكون هناك النفخ في الصور وما أشبه ذلك، واعتقدوا أن هذا النوع لم يزل، وأن جنس هذا المخلوق أزلي قديم، وأنه مستمر بلا نهاية، ولا شك أن هذا فيه إنكار من وجوه: أولاً: إنكار للأمور الغيبية التي أخبر الله تعالى بها. ثانياً: إنكار للجزاء على الأعمال التي أخبر الله بأنه يجازي عليها عباده في الآخرة. ثالثاً: إنكار لشرع الله عز وجل وأمره ونهيه وأحكامه التي حكم بها على العباد. وإنكار ذلك كله يخرج من الملة، والواجب على المسلم أن يكون معتقداً لما أخبر الله به من كونه هو الحي القيوم الذي لم يزل ولا يزال، ومن كونه هو المتصف بالخلق وبالتصرف وبالتدبير لشئون العباد، ويعتقد أيضاً أنه هو المتفرد بإيجادهم وحده ولم يكن هناك من أوجدهم غيره، وكونه يعتقد أن قبلهم خلقاً غيرهم، وقبل الخلق خلقاً، وقبل الأولين أولين، فهذا من الأمور الغيبية التي لم يطلعنا الله عليها. ونقول: الله أعلم بمن كان قبل ذلك وبأفعاله قبل ذلك، إلا أننا نعتقد أنه موصوف بهذه الصفات وإن لم تظهر آثارها، كما ذكر في المتن أنه ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بعد وجود من يرزقهم استفاد اسم الرازق، بل اسمه الخالق قبل أن يبدأ الخلق، واسمه الرازق قبل أن يوجد الخلق الذين يرزقهم؛ لأنه خالق بالقوة قبل أن يخلق وإن لم يكن خالقاً بالفعل. ونتوقف عن تسلسل الحوادث في الماضي، ونقول الأمر غيب، ولم يخبرنا الله تعالى بشيء من ذلك، وليس لنا التدخل في هذه الأمور؛ لأنها من الأمور التي لا يضر جهلها ولا يفيد علمها، وقد توقع في شيء من الحيرة ومن الاضطراب، والمسلم عليه أن يقتصر على ما فيه فائدة له في العقيدة، وأن يعتقد ما ينفعه وما يكون دافعاً له إلى معرفة ربه بأسمائه وبصفاته، وإلى التقرب إلى الله تعالى بموجب تلك الأسماء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 26 الأسئلة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 27 أصل ديانة المجوس وأخذ الجزية منهم السؤال هل ثبت أنه كان المجوس أصحاب كتاب ثم رفع عنهم، وهل ورد ذلك في السنة أو في التاريخ؟ وهل يؤخذ بهذا القول؟ ولماذا أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من مجوس هجر الجزية التي لا تؤخذ إلا من أصحاب كتاب؟ الجواب ورد ذلك في حديث عن علي أنه كان لهم كتاب، وأن أحد ملوكهم وجد يفجر بأمه أو ببعض محارمه، ثم إنهم لما أرادوا إقامة الحد عليه، احتج عليهم بأن آدم زوج أولاده بعضهم ببعض ذكورهم بإناثهم، وقال: نحن على شريعة آدم. فلما فعل ذلك رفع كتابهم، ولكن الحديث في ذلك عن علي لم يصح، أشار إليه الشافعي في مسنده والطيالسي كذلك، ولكن لم يثبت هذا الحديث. وأما كون الجزية أخذت منهم فتؤخذ منهم لكونهم دولة وأمة على شريعة أو على دين يدعون أنهم عليه أصلاً وإن لم يكن لهم كتاب سابق، ومع ذلك فقد ذهب بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية إلى جواز أخذ الجزية من كل المشركين، وأنه ليس خاصاً بأهل الكتاب، وما دام الأمر كذلك فإن المجوس من جملة المشركين الذين تؤخذ منهم كغيرهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 28 طمس الصور ومعناه السؤال ما معنى الطمس الوارد في حديث علي رضي الله عنه الذي تبرأ به الذمة؟ الجواب قوله: (لا تدع صورة إلا طمستها) المراد به طمس الوجه؛ لأن الوجه مجمع المحاسن، فإذا جعل على وجه الصورة ما تزول به خلقتها إذا كانت -مثلاً- منقوشة كفى ذلك، فإن كانت منحوتة فإنه لا بد من قطع رأسها أو ما لا يبقى معه حياة، فإذا كانت منحوتة -مثلاً- أو مصورة لها ظل ولها جرم فلا بد من قطع رأسها حتى تكون كهيئة الشجرة، وهكذا ورد ذلك، وإذا كانت في لباس فإنه يكتفى بقطعها، فإذا قطعت إلى ألا تبقى معها حياة اكتفي بذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 29 الرد بطريق العقل والسمع على وجود صانعين للعالم السؤال كيف نرد على أهل النظر الزاعمين أن للعالم صانعين، عن طريق العقل والنقل؟ الجواب أما عن طريق العقل فبدلالة السماع على العلة، وهي أنه لو كان للعالم إلهان أو ربان خالقان فأراد أحدهما تحريك شيء وأرد الآخر تسكينه فإما أن يحصل مرادهما وهو ممنوع، وإما أن لا يحصل مراد واحد منهما فيستلزم عجزهما، وإما أن يحصل مراد واحد، فالذي لم يحصل مراده عاجز لا يصلح أن يكون إلهاً ولا أن يكون خالقاً، فدل على أن الخالق واحد ليس معه من يزاحمه في هذا التصرف، فهذه الدلالة العقلية. وأما الدلالة السمعية فالآية الكريمة: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] ، ونحوها من الآيات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 30 حكم تخصيص القبر بالزيارة السؤال هل يجوز أن يزار قبر شخص بعينه مع زيارة القبور الأخرى، وما حكم تعيين قبر بعلامة أو بإشارة من أجل معرفة صاحب هذا القبر؟ الجواب زيارة القبور مشروعة لسببين: تذكر الآخرة، والدعاء للموتى. وتجوز مثلاً كل أسبوع أو كل شهر أو نحو ذلك، أو إذا أحس بقسوة قلبه فزارهم حتى يتعظ وحتى يلين قلبه أو نحو ذلك، ويجوز أن يخص قبر أبيه أو قبر أخيه أو قريبه أو نسيبه، فيجوز أن يزور ذلك القبر ثم يسلم على القبور جميعاً، ويجوز أن يعلم القبر بعلامات يعرف بها، فقد ثبت أنه عليه السلام لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجراً وقال: (أعرف به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي) ، فيجوز أن يجعل علامة كحجر أو لبنة أو خشبة أو نحو ذلك يتميز بها هذا القبر حتى يزوره ويعرفه، أما أن يكتب عليه فقد نهي أن يكتب عليه حتى ولو كتب اسمه، وكذلك نهي أن يرفع رفعاً زائداً عن غيره، فيجوز أن يجعل عليه علامة كحديدة أو قطعة بلاط أو ما أشبه ذلك لأجل التمييز فقط. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 31 توضيح قوله: (بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها) السؤال ذكر في كتاب العقيدة أن من أسباب الشرك عبادة الكواكب واتخاذ الأصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها، فما المقصود بقوله: (بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها) ؟ الجواب يقولون: إن هناك من يعبد الكواكب، والذين يعبدونها يبنون هياكل، والهيكل هو الصورة التي يظنونها على صورة نجم أو نوء من الأنواء، ثم ينظرون إلى حركة ذلك النجم فيسندون إليه بعض التأثير، فيقولون: من طبيعة هذا النجم الحرارة، أو: من طبيعته البرودة، أو: من طبيعته الرطوبة، أو: من طبيعته الجفاف واليبس، أو ما أشبه ذلك، فإذا مطروا مطراً قالوا: هذا صدق نجم أو نوء كذا وكذا فيجعلون المطر من طبيعته، وإذا أصابتهم رياح قالوا: أثارها النجم الفلاني أو النوء الفلاني، وإذا ثارت سحب نسبوها إلى الأنواء. فالطبائع هي إما شدة البرد، أو شدة الحر أو الجفاف واليبس وقلة الأمطار ونحوها، أو كثرة الأمطار، أو هبوب الرياح، أو إثارة السحب أو ما أشبه ذلك، فيزعمون أنها هي التي تثيرها هذه الكواكب ونحوها، ونسوا أن الله تعالى هو الذي يتصرف في الكون: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف:57] ، وهو الذي سخرها كما في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} [النحل:12] ، فإذا كانت كلها مسخرات فكيف يكون لها تأثير؟! وكيف يكون لها طبائع تلائمها؟! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 32 إطلاق لفظ (الصانع) على الله تعالى السؤال نجد أن الشارح ابن أبي العز رحمه الله يطلق كلمة الصانع على الخالق، فهل هذه تجوز في حق الله سبحانه وتعالى؟ الجواب هذه تجوز على وجه الصفة، فنعتقد أن الله هو الصانع بمعنى أنه المبدع الذي صنع الكون بذاته وأبدعه، فلذلك يكثر إطلاقها في الكتب، كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسير الآية التي ذكرنا، وهي قوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] ، وذكر ذلك أو أطلق ذلك شيخ الإسلام في عدة مواضع من الجزء الثاني من مجموع الفتاوى ونحو ذلك، فإطلاق الصانع معناه أنه وصف لله بأنه مبدع الكون. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 33 حكم الأموات قبل وصول الرسالة والأطفال يموتون قبل البلوغ السؤال أناس ماتوا بعد مجيء الإسلام ولكن قبل أن تصلهم الرسالة، فهل يعاملون معاملة الكافرين يوم القيامة أم لا؟ وما هو القول الفصل فيمن مات قبل البلوغ، هل يعامل معاملة أبويه أم يدخل الجنة مباشرة؟ الجواب السؤال الأول يدخل فيه أهل الفترات، فهؤلاء على الصحيح أنهم يمتحنون في الآخرة، أعني أهل الفترات الذين ما بلغتهم الرسالة أو كانوا في زمنها ولكنه ما وصل إليهم خبرها وتفاصيلها، وكذلك الذين في أطراف البلاد ولم تصل إليهم تفاصيل الشريعة، يقولون: يا ربنا! ما جاءتنا الشريعة ولا علمنا بتفاصيلها فبقينا على جهل! فيمتحنون في الآخرة، ويروى أن الله يخلق أمامهم شبه نار ويقول: ادخلوها، فمن علم الله أنه سعيد دخلها وكانت عليه برداً، ومن علم الله شقاوته امتنع، فيقول الله: عصيت أمري فكيف لو جاءتك رسلي؟ أدخلوه النار. وتجد الأدلة على ذلك في تفسير ابن كثير عند قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] ، حيث أورد مثل هذه الأحاديث. وأما الذي مات قبل البلوغ فإن كان من أولاد المشركين فحكمه حكم أهل الفترات، وإن كان من أولاد المسلمين فإنه من أهل الجنة؛ حيث إنه نشأ بين أبوين مسلمين وفطرته فطرة الإسلام، وهو على ما عليه آباؤه وأهله، فأولاد المسلمين يكونون أفراطاً لهم ويدخلون معهم الجنة ويرفعون إلى منازل آبائهم، والأدلة على أن أفراط المؤمنين يتقدمونهم كثيرة، وعلى رفع الأولاد حتى يكونوا مساوين للآباء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] ، يعني رفعنا الأولاد إلى مرتبة الآباء تكريماً لهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 34 معنى دلالة التضمن السؤال مر في كلام المصنف قول: فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الألوهية الذي يتضمن توحيد الربوبية. فهلا بينتم لنا دلالة التضمن؟ الجواب كون الشيء في ضمن غيره يسمى تضمناً، فنقول: إنه لا يمكن أن يعبد الله بتوحيد الإلهية إلا أن يعترف بأن الرب هو الخالق المتصرف، وهو توحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية في ضمن توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية كأنه الدافع إلى توحيد الإلهية، فالتضمن معناه الاشتمال عليه وكونه في ضمنه، يعني أن الأصل في التكليف أن الله أمرنا بتوحيد الإلهية، ولكن جعل توحيد الربوبية دليلاً عليه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 35 فطرة الطفل ومدى دلالتها له على الاستقامة السؤال الرأي فيمن قال: إنه من ترك طفلاً في مكان ليس فيه أحد فإنه لا يستدل على الطريق السليم عن طريق فطرته؛ لأنه إذا تركته شياطين الإنس لم تتركه شياطين الجن؟ الجواب قد يكون هذا، ولكن إذا لم يكن عنده من يدفعه دفعاً إلى البدع وإلى الشركيات فيوقفه عليها من الإنس لم يفعلها، ولكن على كل حال فالإنسان مسلط عليه في هذه الحياة أعداء من شياطين الإنس وشياطين الجن، وعليه أن يدفع شياطين الإنس بالمكافحة والدفع وشياطين الجن بالاستعاذة، ولكن الغالب والأصل أن الذي يكون في بلدة أو في ناحية ليس عنده من يضله أنه يبقى متحيراً ولكن فطرته باقية على الاستقامة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 36 قسم التوحيد الذي تدخل فيه شهادة التوحيد السؤال قول (أشهد أن لا إله إلا الله) من أي أنواع التوحيد؟ وأي توحيد يعصم الدم والمال؟ الجواب شهادة أن لا إله إلا الله هي توحيد الإلهية الذي هو الاعتقاد، وشهادة أن محمداً رسول الله هي مكملة لها وفيها الاتباع، فهي من توحيد الإلهية أو من توحيد العبادة، أي أن النطق بالشهادة بلفظ الإلهية من تكميل توحيد العبادة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 37 علم الله تعالى والنسخ في القرآن السؤال كيف نرد على من يقول: بما أن الله عز وجل يعلم الأمور، فكيف يكون هناك ناسخ ومنسوخ في القرآن والله يعلم ذلك كله؟ الجواب الله تعالى حكيم بأمره ونهيه، فينزل الحكم لمناسبة، فإذا زالت تلك المناسبة أبدله بغيره مما يناسب في وقت آخر غير الوقت الأول، فمثلاً أمرهم باستقبال بيت المقدس تأليفاً لليهود؛ لأنه قبلة الأنبياء من بني إسرائيل، ولما ظهر عنادهم أمرهم باستقبال الكعبة؛ لأنه لم يبق في ذلك مصلحة، فهذا الاستقبال في حال مناسبة وهذا الاستقبال في حالة مناسبة، وهكذا بقية الأحوال في الناسخ والمنسوخ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 38 حكم الصور في الستائر ونحوها السؤال ما حكم وجود الصور من الحيوانات والأطفال وغيرها في ستائر المنزل أو ملابس الأطفال أو السجاد، علماً بأن ذلك غير مقصود؟ الجواب ورد الأمر بهتكه لما دخل عليه الصلاة والسلام وقد سترت عائشة فرجة أو نافذة بقرام فيه تماثيل، فغضب لذلك وأمر بهتكه فشققته وجعلته وسادتين منبوذتين، فهذا دليل على أنها إذا كانت كالمنبوذ المستعمل الذي يعطى ويمتهن ويجلس عليه فذلك أخف، بخلاف ما إذا كانت منصوبة أمام الناظر كما في الستائر التي على الأبواب أو على النوافذ فإن هذا لا يجوز، وعلى كل حال فالأولى أنها لا تترك في الثياب ولا في السراويلات ولا في الفرش ولا في اللحف، ولكن إذا وجدت ولم يستطع تغييرها في اللحف والفرش ونحو ذلك من الأشياء المستعملة فهو أخف، وأما كونها في المنصوب الذي أمام الناظر فهذا لا يجوز بحال كما في هذه الأحاديث. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 39 تفسير قوله تعالى: (شهد الله) السؤال ما معنى قول الشارح: (وعبارات السلف في (شهد) تدور على الحكم) ، فما معنى (على الحكم) ؟ الجواب يقول: إن كثيراً من الصحابة فسروا قوله تعالى: (شهد الله) بـ (حَكم الله) ، وبعضهم فسر (شهد الله) بـ (أخبر الله) ، وبعضهم فسرها بـ (أعلم الله) ، وبعضهم فسرها بـ (أمر الله) ، فقال بعضهم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18] أمر أن لا إله إلا هو، وقيل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18] حكم أن لا إله إلا هو، وقيل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18] أخبر أن لا إله إلا هو، فهي تدور حول هذه الأشياء. فبعضهم فسر بكذا، وبعضهم فسر بكذا، والمعنى أن الآية تشهد لذلك كله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 40 الفرق بين الخبر والإخبار السؤال ما الفرق بين مرتبة التكلم والخبر وبين مرتبة الإعلام والإخبار؟ الجواب التكلم معناه أن يتكلم حتى يسمعه غيره، فبعد ما يعلم بقلبه يتكلم حتى يسمعه غيره، وأما الإخبار والإعلام فمعناه أن يعلم غيره بقوله: اعلموا أن الأمر كذا وكذا، فهنا أمر زائد على التكلم، وقد يتكلم ولا يقول: اعلموا. ثم بعد ذلك يعلم غيره، وهنا تكلم للتذكر أو للحفظ، وهنا إخبار للناس وإعلام لهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 41 توضيح قوله: (فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجملة الخبرية) السؤال قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجملة الخبرية) ، فما معنى ذلك؟ الجواب إذا فسر قوله: {شَهِدَ اللَّهُ} [آل عمران:18] بـ (حكم الله) ، و {شَهِدَ اللَّهُ} [آل عمران:18] بـ (قضى الله) ، فإنه في هذا جملة خبرية بمعنى أخبر الله بكذا، ويلزمكم أن تقبلوا خبره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 42 زيادة (ولا يرقون) في حديث التوكل وحكمها السؤال قرأنا في (كتاب التوحيد) للشيخ محمد بن عبد الوهاب في حديث السبعين أنهم: (لا يرقون) ، وقرأنا في (زاد المعاد) لـ ابن القيم أن الرسول صلى الله عليه وسلم رقى أحد أصحابه وقال بعض الأدعية، فهل فعله صلى الله عليه وسلم نسخ لما ورد في الحديث، أم أنه من الأفعال الخاصة به؟ الجواب أنا قرأت كتاب التوحيد ولم أجد فيه هذه الكلمة، وهي كلمة (لا يرقون) ، وهذا السائل إذا كان قد وجدها فيمكن أن هذه نسخة غير معتمدة، والرواية التي قرأناها في كتاب التوحيد فيها (لا يسترقون) ، في قوله صلى الله عليه وسلم: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون) ، وإذا كان في بعض النسخ (لا يرقون) فيمكن أنها أخذت من رواية ضعيفة؛ وذلك لأن الحديث موجود في الصحيحين في بعض رواياته: (لا يرقون ولا يسترقون) ، ولكن صحح العلماء أن كلمة: (لا يرقون) خطأ من بعض الرواة، وأن الصواب (لا يسترقون) . فكونك ترقي غيرك وتنفع غيرك لا مضرة عليك في ذلك وقد نفعت غيرك، وأما كونك تطلب من غيرك أن يرقيك فإن ذلك دليل على ضعف التوحيد، ودليل على أنك ما وثقت بالتوكل على الله، والراقي يجوز أن يرقي غيره، ولكن يكره له أن يطلب من يرقيه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 43 كيفية التقاء النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم السلام في السماء السؤال جاء في حديث الإسراء والمعراج أن الرسول صلى الله عليه وسلم لقي بعض الأنبياء والرسل كموسى وهارون ويوسف وإبراهيم وعيسى، فهل لقيهم حقيقة، أو أنهم مثلوا له لكونهم أمواتاً؟ وماذا عن عيسى هل هو مثلهم في هذا؟ الجواب لا شك أنهم مثلوا له، وأرواحهم -بلا شك- في السموات، ولكن قد ذكر في بعض الأحاديث أنهم قبروا في الأرض، وأخبر بقبر موسى، وأن موسى لما أتاه الموت سأل ربه أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلو كنت ثم لأريتكم قبره) ، وتواتر أيضاً أن قبر إبراهيم الخليل عليه السلام موجود في (سيناء) أو قريباً منها، فهم مقبورون في الأرض، ولكن أرواحهم -بغير شك- في السماء، ومثلت أجسادهم له وقيل: هذا فلان وهذا فلان. وأما عيسى فقد ذكر الله أنه رفعه ولم يذكر أنه دفن في الأرض، فلعل جسده في السماء، ولا يحسب ذلك من عمره، حيث ذكر في الأحاديث أنه سينزل حتى يتمم بقية عمره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 44 أطفال المسلمين وحكمهم في الآخرة السؤال ما الرأي في حديث عائشة رضي الله عنها عندما مات أحد أطفال جيرانها فقالت: هنيئاً لكم من طيور الجنة، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أنه من أهلها؟) ، فهل فيه تناقض مع ما قلته من أن أطفال المسلمين يدخلون الجنة؟ الجواب الحديث فيه أنه عليه الصلاة والسلام دعي للصلاة على طفل فقالت: (طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: وما يدريك! إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم) إلى آخره. فهو عليه الصلاة والسلام ينهى أن يجزم أحد لأحد بجنة أو نار، ويقول: إن العلم عند الله تعالى، فالله هو الذي يعلم مقادير الخلائق، وهو الذي يقدر آجالهم وهو الذي يعلم ما خلق له هذا، وماذا يكون عليه. واعتقادنا أن أولاد المسلمين مع آبائهم لأنهم تبع لهم، ولكن حكمنا على الآباء هو الذي نتوقف فيه، فالله أعلم ماذا عليه الآباء، وعلى كل حال فلا ينافي هذا الحكم بأن أولاد المؤمنين مع آبائهم وأنهم الذين يجتذبونهم، كما ورد في كثير من الأحاديث أن أباه ينتظره أو أنه ينتظر أباه وأن الأطفال يرجحون ميزان آبائهم ونحو ذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 45 الحلف والاستغاثة بغير الله تعالى السؤال إنسان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي ويصوم، ولكنه يحلف بغير الله، وقد يستغيث بغير الله إما بالشيوخ أو الأولياء والأنبياء، أينقض ذلك التوحيد ويدخله في الشرك الأكبر؟ الجواب الحلف بغير الله من أنواع الشرك ولكنه من الشرك الأصغر، ويرجع إلى نية الحالف، فإذا كان يعتقد أن ذلك المحلوف يستحق التعظيم الذي يبجل به حتى يعظم ويحلف به كما يحلف بالله فهذا أكبر، وإذا كان له نوع تعظيم فهو من الأصغر. أما الاستغاثة بغير الله فمعلوم أنها من الأكبر؛ وذلك لأن الاستغاثة دعاء من مكروب، فالدعاء من الإنسان إذا وقع في كرب وفي شدة يسمى استغاثة، والإنسان عندما يصيبه الكرب يلجأ إلى الرب تعالى، والمشركون إذا أصابهم الكرب في البحر لجئوا إليه، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] ، فإذا كان المشركون في لجة البحر لا يذكرون إلا ربهم، فالذي يذكر غير الله ويستغيث بغير الله في حالة الشدائد أكبر شركاً من المشركين الأولين الذين نزل فيهم القرآن والذين كفرهم الله تعالى وقاتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، فيسأل هذا المستغيث هل هو يقول: يا ولي الله! أغثني فأنا في ذمتك، ولا حول لي إلا أنت، ولا أحد ينجيني إلا أنت، وأنا معتمد عليك، يا ولي الله! أنجني مما أنا فيه، فمن الذي ينجيني؟ وإذا كان في البحر وتلاطمت به الأمواج أخذ يقول كقول الرافضة: يا علي أو: يا حسين نجنا! من الكرب. أو ما أشبه ذلك، أو يقول: يا عبد القادر يا جيلاني، أو: يا بدوي، أو ما أشبه ذلك، فلا شك أن هذا شرك أكبر، فهذا معنى الاستغاثة، فإذا كان هذا المسئول عنه يفعل مثل هذا فهو من الشرك الأكبر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 46 تفسير النظر والقصد بالنظر والشك السؤال أرجو شرح هذه العبارة شرحاً وافياً، وهي قول المؤلف: (ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك) ، فما المقصود بالنظر، والقصد إلى النظر، والشك؟ الجواب هذه تقدمت في أول الكتاب، وذكرنا أن أول واجب العمل، ولكن العمل مسبوق بالعلم، فالعلم هو الشهادة بيقين ومعرفة، فأول واجب على الإنسان أن يعلم ثم يعمل، وذهبت الصوفية وبعض المتكلمين إلى أن أول واجب عليه النظر، والنظر أن يبدأ بالنظر فيما بين يديه وفيما خلفه من المخلوقات، أن ينظر بنفسه وينظر في الذي بين يديه من السماء والأرض ونحو ذلك، ثم بعد ذلك يظهر بنتيجة من هذا النظر، وهذا قول باطل، بل أول واجب العلم مع العمل. وذهب بعضهم إلى أن أول واجب القصد إلى النظر، والقصد بمعنى نية النظر، أي: أن ينوي أن ينظر وينوي أنه سوف ينظر في هذه المخلوقات وفي دلالتها، وهذا أيضاً باطل، فالقصد يعني نية النظر، وليس بواجب، بل الواجب القبول والتقبل والعمل. وذهب آخرون إلى أن أول واجب الشك، فإذا عقل وكلف وتم عقله يشك، ثم بعد ذلك يتحير في أمره، ثم بعد ذلك يطلب ما يزيل به ذلك الشك، فيقول: أنا أشك وأنا في حيرة من أمري، ولكن بأي وسيلة أدفع هذا الشك؟ فيسأل وينظر ويستدل إلى أن يتبدل الشك باليقين، وهذه مقامات ومقالات صوفية لا يلتفت إليها، بل أول واجب هو ما ذكره من العلم والعمل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 47 معنى الآيات الأفقية والنفسية ومعنى اسم الله (المؤمن) السؤال نريد منكم توضيح هذه العبارة، (استدلاله بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته) ، وكذا في تفسير اسم الله (المؤمن) أنه: (المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم) ؟ الجواب معلوم أن الاستدلال بالآيات مما يثبت الدليل، والله تعالى قد نصب الآيات ليستدل بها العباد على معرفة ربهم، والآيات هنا يراد بها الآيات الكونية والآيات النفسية. فالآيات الكونية هي المخلوقات التي في الكون، يقول الله تعالى: انظروا في هذه الآيات لتعتبروا، انظروا في خلق السماء وارتفاعها، وانظروا في تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، وانظروا في هذه الأرض وما فيها من النبات وما فيها من الحيوانات، وانظروا في هذه البحار وما احتوت عليه، وما أشبه ذلك. فالنظر يعني الاعتبار ليكون دليلاً إلى اليقين فيقوي الإيمان. كذلك الآيات النفسية، الله تعالى يقول: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] يعني: في أنفسكم آيات. فإن الإنسان لو فكر في نفسه لزالت عنه الشكوك والتوهمات؛ فإن نفس الإنسان فيها أعظم عبرة وأعظم آية على أنه مخلوق مكون، فإذا فكر في أول أمره كيف كان نطفة ثم تقلبت به الأحوال إلى أن أصبح رجلاً سوياً، ثم ينظر إلى أن حواسه كاملة وحاجاته كاملة؛ فإن ذلك -بلا شك- مما يلفت نظره ويوضح له أمره أنه مخلوق وأن له خالقاً، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] . وأما الاستدلال بأنه سبحانه من أسمائه (المؤمن) الذي يصدق عباده، فهذا التصديق يكون في يوم القيامة أو في الدنيا، فيصدق عباده الرسل بما يقيم على أيديهم من الآيات والمعجزات، ويصدق عباده المؤمنين في الآخرة بأن يثيبهم ويظهر بذلك صدقهم ونصحهم لأممهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 48 معنى الخواص السؤال يقول الشارح: [والقرآن مملوء من هذه الطريق، وهي طريق الخواص يستدلون بالله على أفعاله وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله] ، فمن هم الخواص؟ الجواب هم العارفون بالله وبآياته، وهم الذين رزقهم الله معرفة ثاقبة يستدلون بآيات الله على قدرته، ويستدلون بأفعاله على كماله، فينظرون في هذه المخلوقات ويأخذون منها القدرة على أنه سبحانه متصف بأتم الصفات، وبأن له الصفات العلى وله الأسماء الحسنى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 49 حديث افتراق الأمة السؤال في حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، هل هذه الفرق تعد من المسلمين أو خارجة عن الإسلام؟ الجواب ظاهر الحديث أنهم ليسوا من المسلمين، وأنهم فرق خارجة عن الإسلام، ولو حسبنا بعضهم بأنهم مسلمون؛ لأنه قال: (كلها في النار إلا واحدة) ، فدل على أن تلك الفرق ضالة مخطئة، وأن الفرقة الناجية واحدة، ولكن مع ذلك فإن في تلك الفرق من هو معذور، وهذا إذا جعلنا الفرق متفرعة عن أمة الدعوة. وأما إذا جعلناها فرقاً لأمة الإجابة فإن الجميع يصيرون من المسلمين وتحت مشيئة الله تعالى ويكون هذا من أحاديث الوعيد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 50 أيهما أضر بالإسلام الجهمية أم الرافضة؟ السؤال أيهما أشد على الإسلام الجهمية أم الرافضة؟ الجواب لكل من الجهمية والرافضة ميزة تتميز بها عن الأخرى: فالجهمية ميزتها التي وقعت فيها أن الجهم بن صفوان ابتدع ثلاث بدع: بدعة التعطيل، وبدعة الجبر، وبدعة الإرجاء، فهو يقول بأن العباد مجبرون على الأفعال، وهو يقول بالإرجاء، فيغلب جانب الرجاء، وهو مع ذلك ينفي الصفات، فكانت الجهمية قد جمعت هذه البدع الثلاث، ولا شك أن هذا أشد كفراً من كفر الرافضة، ولكن من قرأ كتب الرافضة وجد أغلبهم جهمية، فيكونون قد جمعوا بين البدعتين، فأخذوا بدعة الجهمية وزادوا عليها بسب الصحابة وبتكفير الخلفاء الراشدين وبتضليل الصحابة وتخطئتهم، وزادوا أيضاً -أو زاد متأخروهم- بعبادة أهل البيت ودعائهم مع الله تعالى زيادة على الغلو، فالذين يجمعون هذا مع هذا لا شك أنهم أشد كفراً، أخذوا بدعة الجهمية وزادوا عليها هذه البدعة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 51 الاتفاق بين الخالق والمخلوق في الاسم والصفة ودلالته السؤال إذا اتفق اسم أو صفة للخالق مع المخلوق فهل نقول: إن الاتفاق في المسمى، والاختلاف في المعنى والمدلول؟ الجواب متفقان في الاسم ومتفقان في المعنى العام، ومختلفان في الكيفية والمدلول، فإذا قلنا مثلاً: إن الله يسمع وإن المخلوق يسمع فالسمع هو إدراك الأقوال، وهذا فيه اتفاق، وإذا قلنا: إن الله تعالى له سمع وللمخلوق سمع فمعلوم أن سمع الله ليس كسمع المخلوق بل بينهما تفاوت، فهما متفقان في الاسم، ومتفقان في المعنى العام، وأما الكيفية والصفة فإن بينهما تفاوتاً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 52 الإجمال في التشبيه السؤال ما معنى قول المؤلف رحمه الله: (ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام الناس لفظاً مجملاً يراد به المعنى الصحيح) ؟ الجواب يعني كلمة (التشبيه) ، فأهل السنة يريدون بها المعنى الصحيح، والمعتزلة يريدون بها نفي الصفات، فأهل السنة يريدون بكلمة (ليس لله شبيه) أن ننفي عن الله التشبيه، وصحيح قصدهم، فيقولون: إن الله لا يشبه شيئاً من مخلوقاته ولا تشبهه المخلوقات، وهذا معنىً صحيح، وتارة يراد به المعنى الباطل وهو نفي الصفات؛ فإن المعتزلة يقولون: ليس لله سمع، فمن أثبته فهو مشبه، وليس لله علم، فمن أثبته فهو مشبه، فإثبات السمع عندهم تشبيه، وإثبات القدرة عندهم تشبيه، وإثبات الحياة تشبيه، وإثبات الكلام تشبيه، فصار لفظ التشبيه لفظاً مجملاً، فتارة يراد به المعنى الصحيح، وتارة يراد به المعنى الباطل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 53 شرح العقيدة الطحاوية [12] من المسائل التي اشتد الخلاف فيها مسألة وجود حوادث لا أول لها، والإعراض عن الكلام في مثل هذه المسألة خير من الخوض فيها، ولكن تعرض لها العلماء لبيان ضلال الفلاسفة والملحدين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1 الكلام على مسألة حوادث لا أول لها قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:18-20] . نقرأ في هذه العقيدة التي كتبها هذا الإمام لبيان ما يجب أن يعتقده المسلم، وبيان الرد على بعض المبتدعة الذين أنكروا شيئاً من صفات الله تعالى أو أنكروا صفاته، وكذلك الرد على من أنكر القدر أو عموم قدرته، وسائر المبتدعين الذين أحدثوا بدعاً تتعلق بالعقيدة، والتي شرحها أو وفق لشرحها هذا العالم الذي تقيد بمذهب السلف واختار ما عليه أئمة العلم وعلماء المسلمين، وإن كان قد استطرد وذكر شيئاً من حجج أهل الكلام ومن شبهاتهم وما قصد إلا حكايتها ثم تعقيبها والرد عليها. ويمر بنا في هذا الشرح عبارات من عبارات أهل الكلام قد يصعب فهمها لأول مرة، ولكن معلوم أن القصد من إيرادها مناقشة المستدلين بها حيث إنهم يعتقدونها أدلةً واضحة وبراهين قوية وحججاً قاطعة على ما هم عليه من إنكار الأمور التي جاءت بها السنة ونطق بها الكتاب وتتابع عليها أئمة العلم واعترفوا بها وأقروا بها، فجاء أولئك المبتدعة وضللوا من اعتقدها وصاروا يبدعونهم، ويحتجون على بدعهم بأنواع من الشبهات. وذلك مثلما مر بنا من قولهم إنه لا تقوم به الحوادث، ويستدلون بذلك على أنه ليس له صفات، وأن صفات الفعل تحدث شيئاً فشيئاً. ومثله كلامهم في التسلسل في القدم، والتسلسل في الأزل وفي الأبد وما أشبه ذلك، والقصد منها مناقشة أدلتهم، وسيمر بنا في أثناء الكتاب كلام فيه الفائدة إن شاء الله وفيه المعرفة، وبالأخص فيما يتعلق بعموم معتقد أهل السنة، سواء في الأسماء والصفات، أو في القرآن وكلام الله عز وجل، أو في البعث والنشور، أو في الإيمان والأحكام، أو في الصحابة وما يقال فيهم، أو في الأمور الغيبية وما أشبهها. ويمر بنا -إن شاء الله- ما إذا اعتقده المسلم عرف نعمه الله عليه حيث وفقه لهذا المعتقد السليم الذي تؤيده السنة ودرج عليه السلف، والذي تقره العقول والفطر السليمة وإن أنكرته تلك الفطر الزائغة والقلوب المنحرفة، فلا عذر لمن أنكره واعتمد على العقل. وكان من جملة ما مر بنا أن الله سبحانه وتعالى قديم بصفاته، وأنه لم يحدث له صفة قد كانت معدومة ولا اسم قد كان معدوماً، وأنه سبحانه لم يكن معطلاً عن الأفعال، بل هو فاعل في كل وقت وحال، وأن أسماءه قد تسمى بها قبل أن توجد الموجودات وبعدما وجدت الموجودات، فهو له اسم (الخالق) قبل أن يوجد الخلق الذين خلقهم، ومن أسمائه (البارئ) قبل أن يوجد من برأهم، ومن أسمائه (الرازق أو الرزاق) قبل أن يوجد خلق يرزقهم، ومن أسمائه (الرحيم) قبل أن يخلق من يرحمهم، ولكن يعرف بذلك أنه سبحانه لم يزل يرحم ويعطي ويمنع ويخلق ما يشاء ويحيي ويميت، فأسماؤه قديمة وأفعاله قديمه، وكذلك سائر صفاته. والقصد من معرفة هذا كله أن يرغب الإنسان إليه ويدعوه بتلك الأسماء، فدعاؤه بتلك الأسماء كأن يدعوه باسم (الرزاق أو الرازق) ليرزقه، وباسم (الرحمن) ليرحمه، وباسم (العزيز) ليعزه أو لينتقم ممن عاداه؛ فإنه العزيز الذي لا يغالب، وهكذا بقية أسمائه، على أنه متى اعتقد مضمون تلك الأسماء وآثارها عظم قدر ربه في قلبه فعبده وحده وخافه ورجاه واعتمد عليه، واتخذه حسيباً ووكيلاً وأعرض بقلبه وقالبه عن غيره، فأصبح بذلك من الذين عرفوا ربهم حق المعرفة وعبدوه حق العبادة. فهذه من نتائج معرفة هذه المعتقدات التي تتعلق بالأسماء والصفات. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 2 حديث عمران بن حصين ودلالته [والقول بأن الحوادث لها أول، يلزم منه التعطيل قبل ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى لم يزل غير فاعل، ثم صار فاعلاً. ولا يلزم من ذلك قدم العالم، لأن كل ما سوى الله تعالى محدث ممكن الوجود، موجود بإيجاد الله تعالى له، ليس له من نفسه إلا العدم والفقر، والاحتياج وصف ذاتي لازم لكل ما سوى الله تعالى، والله تعالى واجب الوجود لذاته، غني لذاته، والغنى وصف ذاتي لازم له سبحانه وتعالى] . [وللناس قولان في هذا العالم: هل هو مخلوق من مادة أم لا؟ واختلفوا في أول هذا العالم ما هو؟ وقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] . وروى البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: (قال أهل اليمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر، فقال: كان الله ولم يكن شيء قبله، -وفي رواية: (ولم يكن شيء معه) وفي رواية: (غيره) - وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض) وفي لفظ: (ثم خلق السموات والأرض) ، فقوله: (كتب في الذكر) ، يعني: اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105] سمى ما يكتب في الذكر ذكراً، كما يسمى ما يكتب في الكتاب كتاباً. والناس في هذا الحديث على قولين، منهم من قال: إن المقصود إخباره بأن الله كان موجوداً وحده، ولم يزل كذلك دائماً، ثم ابتدأ إحداث جميع الحوادث، فجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان، وأن الله صار فاعلاً بعد أن لم يكن يفعل شيئاً من الأزل إلى حين ابتداء الفعل ولا كان الفعل ممكناً. والقول الثاني: المراد إخباره عن مبدأ خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام، ثم استوى على العرش، كما أخبر القرآن في غير موضع. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قدر الله تعالى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) . فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كان قبل خلقه بخمسين ألف سنة، وأن عرش الرب تعالى كان حينئذ على الماء] . [ودليل صحة هذا القول الثاني من وجوه: أحدها: أن قول أهل اليمن: (جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر) ، وهو إشارة إلى حاضر مشهود موجود، والأمر هنا بمعنى المأمور، أي: الذي كونه الله بأمره، وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم عن بدء هذا العالم الموجود، لا عن جنس المخلوقات، لأنهم لم يسألوه عنه، وقد أخبرهم عن خلق السموات والأرض حال كون عرشه على الماء، ولم يخبرهم عن خلق العرش، وهو مخلوق قبل خلق السموات والأرض. وأيضاً فإنه قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله) ، وقد روي (معه) ، وروي (غيره) ، والمجلس كان واحداً، فعلم أنه قال أحد الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى، ولفظ (القَبْل) ثبت عنه في غير هذا الحديث. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) الحديث. واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما في موضع آخر، ولهذا كان كثير من أهل الحديث إنما يرويه بلفظ (القَبْل) ، كـ الحميدي والبغوي وابن الأثير. وإذا كان كذلك لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث، ولا لأول مخلوق. وأيضاً فإنه قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله -أو (معه) أو (غيره) - وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء) . فأخبر عن هذه الثلاثة بالواو، و (خلق السموات والأرض) روي بالواو وبثم] . قال رحمه الله تعالى: [فظهر أن مقصوده إخباره إياهم ببدء خلق السماوات والأرض وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام، لا ابتداء خلق ما خلقه الله قبل ذلك، وذكر السماوات والأرض بما يدل على خلقهما، وذكر ما قبلهما بما يدل على كونه ووجوده، ولم يتعرض لابتداء خلقه له، وأيضا فإنه إذا كان الحديث قد ورد بهذا وهذا فلا يجزم بأحدهما إلا بدليل، فإذا رجح أحدهما فمن جزم بأن الرسول أراد المعنى الآخر فهو مخطئ قطعا، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة ما يدل على المعنى الآخر، فلا يجوز إثباته بما يظن أنه معنى الحديث، ولم يرد (كان الله ولا شيء معه) ، مجرداً، وإنما ورد على السياق المذكور، فلا يظن أن معناه الإخبار بتعطيل الرب تعالى دائما عن الفعل حتى خلق السماوات والأرض، وأيضا فقوله صلى الله عليه وسلم: (كان الله ولاشيء قبله أو معه أو غيره، وكان عرشه على الماء) ، لا يصح أن يكون المعنى أنه تعالى موجود وحده لا مخلوق معه أصلا؛ لأن قوله: (وكان عرشه على الماء) ، يرد ذلك؛ فإن هذه الجملة -وهي: (وكان عرشه على الماء) - إما حالية أو معطوفة، وعلى كلا التقديرين فهو مخلوق موجود في ذلك الوقت، فعلم أن المراد: ولم يكن شيء من هذا العالم المشهود] . يتكلم المصنف على أحاديث عمران بن حصين لما جاء أهل اليمن يسألون عن أول هذا الأمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء) ، أخبر في هذا أن الله تعالى هو الأول ولم يكن شيء قبله، وذلك تحقيق للأولية المذكورة في الآية: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3] ، فلم يكن شيء قبله، وهذا لا يدل على أنه تعالى كان معطلاً عن الأفعال لم يكن يخلق، بل يدل على أنه خالق، فإنه ذكر أن عرشه على الماء دليل على أنه قد خلق العرش، وأنه قد خلق الماء، وأنه قد خلق مخلوقات قد تكون موجودة وقد تكون معدومة، فلا بد أن يكون خالقاً، فالله تعالى لم يكن معطلاً عن الخلق، ويعتقد المسلمون أن الله تعالى قديم، وأنه قديم بأفعاله، وأنه الذي ليس قبله شيء، وأن من أعظم مخلوقاته العرش، وقد ورد في عظم العرش ما يدل على أنه أقدم وأعظم أو من أعظم المخلوقات، فقد ذكر الله سعة كرسيه في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، وقيل: إن الكرسي كالمرقاة بين يدي العرش، فالكرسي قد وسع السماوات والأرض مع عظم السماوات ومع عظم الأرض. وورد في بعض الآثار أن السماوات والأرض في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس، والترس: هو المجن الذي يلبس على الرأس وما عسى أن تغطي الدراهم السبعة، فالدرهم قطعة من الفضة صغيرة بقدر الظفر أو نحوه، فماذا تغطي من ذلك الترس؟ فالسماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي هذا مقدارها منه، والكرسي صغير أيضاً بالنسبة إلى العرش، كما ورد أن الكرسي نسبته إلى العرش كحلقه ملقاة بأرض فلاة، والحلقة: القطعة من الحديد ملتقية الطرفين. فإذا ألقيت حلقة في فلاة فماذا تشغل من تلك الفلاة؟ فالكرسي صغير بالنسبة إلى العرش، فهو كحلقة ملقاة بأرض فلاة، فهذا دليل على عظم هذا الكرسي ثم عظم هذا العرش، وإذا كان هذا عظمه فإنه مخلوق، فالعرش مخلوق ليس قديماً، بل هو مخلوق، وإذا كان هذا عظم هذا المخلوق فما ظنك بعظمة الخالق؟ والله تعالى قد ذكر أنه يقبض المخلوقات في قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، وذكر ابن عباس أن السماوات والأرض في كف الرحمن كحبة خردل في يد العبد. وماذا تشغل حبة الخردل في يد عبد؟ وكل ذلك دليل على عظمة الخالق، ولا شك أن من اعتقد عظمته وكبرياءه خافه وهابه وعبده حق العبادة، ولكن لا ينبغي الخوض في الأمور الغيبية التي ليس عليها دليل وبرهان، والتي يؤدي الخوض فيها إلى حيرة وإلى شك، وكثيراً ما يشتكي بعض النساء وبعض الرجال أنهم يلاقون حيرة ويلاقون شكاً وتأتيهم وساوس إذا بحثوا في مثل هذه الأمور، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عند ذلك بالاستعاذة من الشيطان وبالإيمان بالله، فإذا وقعت في قلب الإنسان هذه الأوهام وهذه التشكيكات فإنما عليه أن يقول: آمنت بالله، وأن يستعيذ بالله من الشيطان، وأن يقبل كل ما جاءه عن الله، وأن يتقبل ذلك كله، ويبعد عنه كل ما يجلب حيرة أو وهماً أو وسوسة أو نحو ذلك، فيقطعها ويجعل حديث نفسه وخوضه وخوضها في الشيء الذي ينفعه، ويؤمن بالإجمالات التي أخبر الله بها عنه حتى يكون بذلك مطمئن القلب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 اتصاف الله تعالى بالربوبية والخلق قبل وجود متعلقهما قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (له معنى الربوبية ولا مربوب ومعنى الخالق ولا مخلوق) . يعني أن الله تعالى موصوف بأنه الرب قبل أن يوجد مربوب وموصوف بأنه خالق قبل أن يوجد مخلوق، قال بعض المشايخ الشارحين: وإنما قال: له معنى الربوبية ومعنى الخالق دون الخالقية؛ لأن الخالق هو المخرج للشيء من العدم إلى الوجود لا غير، والرب يقتضي معاني كثيرة، وهي: الملك والحفظ والتدبير والتربية وتبليغ الشيء كماله بالتدريج، فلا جرم أتى بلفظ يشمل هذه المعاني وهي الربوبية. انتهى، وفيه نظر؛ لأن الخلق يكون بمعنى التقدير أيضاً] . هذا مثل ما سبق قبله أن الله تعالى من أسمائه (الخالق) قبل أن يوجد المخلوقون، ومن أسمائه (الرازق) قبل أن يوجد المرزوقون، فمن صفاته (الربوبية) قبل أن يوجد المربوبون ومن صفة أسمائه (الخالق) قبل أن يأتي أو يوجد المخلوقون، وله معنى ذلك. ولا شك أن الربوبية تقتضي أنه الرب بمعنى (المالك) ، وتقتضي أنه الرب بمعنى (المربي) الذي يربي خلقه بالنعم أو الذي يربيهم بالعلوم ويفتح عليهم المعارف، فالكل من حق الله تعالى أنه الرب، بمعنى المالك المنعم المتصرف المربي المتفضل على خلقه، وكذلك الخالق، فالخالق بمعنى المنشئ للخلق المبتدئ لهم على غير مثال سابق، وكل ذلك له وحده. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 اتصاف الله تعالى بإحياء الموتى وخلق الخلق قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم) . يعني أنه سبحانه وتعالى موصوف بأنه محيي الموتى قبل إحيائهم، فكذلك يوصف بأنه خالق قبل خلقهم، إلزاما للمعتزلة ومن قال بقولهم، كما حكينا عنهم فيما تقدم، وتقدم تقرير أنه تعالى لم يزل يفعل ما يشاء] . ويعتقد المسلم أن الله تعالى يفعل ما يشاء، فإن من صفاته أنه يحيي ويميت، فمن شاء أحياه ومن شاء أماته، ومن شاء رزقه، ومن شاء أفقره ومن شاء أغناه، يعطي من يشاء ويمنع، ويخفض من يشاء ويرفع، ويعز من يشاء ويذل، وهذه الأوصاف التي هي من صفاته هي أيضاً قديمة، بمعنى أنه موصوف بها أزلاً، أي: أن من أسمائه المحيي قبل أن يخلق الذين يحييهم، وكذلك المميت، وكذلك المعطي والمانع والخافض والرافع وما أشبه ذلك. والقصد من معرفة هذه الأسماء أن يعرف العبد أنها لله تعالى فيرغب إليه أن يعزه، ويعلم أن من أذله الله فلا معز له. ويرغب إليه أن يرفع قدره، ويعرف أن من خفضه الله فلا رافع له. ويرغب إليه بالهداية، ويعلم أن من يضلل الله فما له من هاد، وهكذا بقية الصفات. وذلك أن هناك فرقاً من المبتدعة كالمعتزلة الذين يعتقدون أنه لا يفعل إلا ما يقدر عليه، وأن العبد يفعل بغير قدرة الله -تعالى الله عن قولهم-، وأن العبد هو الذي يفعل باختياره وهو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه، ولا شك أن هذا فيه اعتراض على الله وحجر لصفته، وأنه لا يفعل أو لا يقدر إلا على ما يقدر عليه بدون بعض الأشياء التي لا يقدر عليها، فالله تعالى قد وصف نفسه بعموم القدرة في قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120] ، وسيأتينا هذا إن شاء الله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 عموم قدرته تعالى وضلال المعتزلة قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ذلك بأنه على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ) ] . قال الشارح: (ذلك) إشارة إلى ثبوت صفاته في الأزل قبل خلقه والكلام على (كل) وشمولها، وشمول (كل) في كل مقام بحسب ما يحتف به من القرائن يأتي في مسألة الكلام إن شاء الله تعالى. وقد حرفت المعتزلة المعنى المفهوم من قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] ، فقالوا: إنه قادر على كل ما هو مقدور له، وأما نفس أفعال العباد فلا يقدر عليها عندهم، وتنازعوا: هل يقدر على مثلها أم لا؟! ولو كان المعنى على ما قالوا لكان هذا بمنزلة أن يقال: هو عالم بكل ما يعلمه وخالق لكل ما يخلقه ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها، فسلبوا صفة كمال قدرته على كل شيء. وأما أهل السنة فعندهم أن الله على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وأما المحال لذاته مثل كون الشيء الواحد موجودا معدوما في حال واحدة فهذا لا حقيقة له ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئا باتفاق العقلاء، ومن هذا الباب خلق مثل نفسه وإعدام نفسه وأمثال ذلك من المحال. وهذا الأصل هو الإيمان بربوبيته العامة التامة؛ فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر على تلك الأشياء، ولا يؤمن بتمام ربوبيته وكمالها إلا من آمن بأنه على كل شيء قدير، وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن هل هو شيء أم لا؟ والتحقيق: أن المعدوم ليس بشيء في الخارج، ولكن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به، كقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] ، فيكون شيئا في العلم والذكر والكتاب لا في الخارج، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9] أي: لم تكن شيئا في الخارج وإن كان شيئا في علمه تعالى، وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]] . يعتقد المسلمون ما أخبر الله به عن نفسه من عموم قدرته أنه على كل شيء قدير، وكلمة (شيء) يدخل فيها ما هو موجود وما هو معلوم مما يقدره الله تعالى، وتدخل فيها أعمال العباد، فيدخل فيها عمل العبد مثل عباداته وطاعاته وحسناته، وكذا سيئاته وخطاياه كلها داخلة في عموم (كل) في قوله تعالى: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] ، فيدخل في ذلك كل الممكنات. أما غير الممكن المستحيل فإنه لا يدخل في هذا العموم، مثل كون الشيء معدوماً موجوداً في آن واحد، فهذا من المستحيل أن يوجد ويعدم في آن واحد، أو يكون الشخص حياً ميتاً في آن واحد، ومثل ما يورده بعض المتعنتين فيقولون: هل يقدر الله أن يخلق مثل نفسه؟ نقول: هذا محال، ولا ينبغي الخوض فيه، فهو من المحال؛ حيث إنه تعالى هو المنفرد الذي ليس له شريك وليس له شبيه ولا معين. والمعتزلة ينكرون هذا العموم (على كل شيء قدير) ، ويقولون: على ما يقدر عليه قدير. ولا شك أن هذا فيه تنقص؛ فإنه بمعنى: قدير على ما يقدر عليه، ولا شك أن هذا لا فائدة فيه. فقولهم: قدير على ما يقدر عليه، معناه أنه لا يقدر على كل شيء، وأن هناك أشياء لا يقدر عليها -تعالى الله عن قولهم- فيكون في هذا تنقص، فالآيات فيها العموم، فهو على كل شيء قدير عموماً لا يستثنى منه شيء مما يدخل في الإمكان. وأما كلامهم في المعدوم هل هو شيء أو ليس بشيء، فالمعدوم -على الصحيح- لا يقال له شيء حتى يوجد، ولكن الله تعالى عالم بما يوجد من المعدومات التي توجد، وقادر على إيجاده في الوقت الذي قدر إيجاده، وإلا فقد نفى أن يكون المعدوم شيئاً في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] ، وكذلك قوله تعالى مخاطباً لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9] يعني: لم تكن موجوداً، بل كنت معدوماً وقد خلقتك، فنفى أن يكون المعدوم شيئاً على الوجود، ولكن هو في علم الله شيء إذا قدر أنه سيوجد، فهو داخل في قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] . فالله تعالى أخبر بأنه إذا قال للشيء كن وهو معدوم كان، فسماه شيئاً مع كونه معدوماً؛ لأنه يوجد إذا قال الله له: (كن) ، وهذا معنى أن أمره تعالى بين الكاف والنون، فخلقه للمعدومات التي قدر أنها توجد بقول: (كن) ، وهكذا حقق المحققون أن المعدوم شيء في علم الله، وليس شيئاً في الوجود فيما يرى ولا فيما يشاهد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 التشبيه والتعطيل وموقف أهل السنة منهما قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد على المشبهة، وقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد على المعطلة، فهو سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال، وليس له فيها شبيه، فالمخلوق وإن كان يوصف بأنه سميع بصير فليس سمعه وبصره كسمع الرب وبصره، ولا يلزم من إثبات الصفة تشبيه؛ إذ صفات المخلوق كما يليق به وصفات الخالق كما يليق به، ولا تنف عن الله ما وصف به نفسه وما وصفه به أعرف الخلق بربه وما يجب له وما يمتنع عليه وأنصحهم لأمته وأفصحهم وأقدرهم على البيان؛ فإنك إن نفيت شيئا من ذلك كنت كافرا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا وصفته بما وصف به نفسه فلا تشبهه بخلقه فليس كمثله شيء، فإذا شبهته بخلقه كنت كافرا به، قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيها. وسيأتي في كلام الشيخ الطحاوي رحمه الله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) ] . بعض الآية الذي هو قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد على طائفتين متقابلتين: إحداهما غلت في الإثبات، وهم الممثلة المشبهة. والأخرى غلت في النفي وهم المعطلة النفاة. فرد الله على الأولى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] أي: لا تجعلوا لله مثلاً. فليس له مثل في صفاته ولا في ذاته ولا في أفعاله، لا في صفاته الفعلية ولا في صفاته الذاتية، أي: لا يشبهه شيء. وذلك لأن الذين غلوا في الإثبات وجعلوا يد الله كأيدينا وسمعه كأسماعنا. أو قالوا: إنه يسمع بكذا وبكذا. أو: إنه ينظر بكذا وما أشبه ذلك مما غلوا فيه إلى أن أثبتوا له خصائص المخلوقين لا شك أنهم قد وقعوا فيما هو كفر، ولهذا يقول نعيم: من شبه الله بخلقه فقد كفر. ويقول آخر: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد يعبد إلهاً واحداً فرداً صمداً, وهو الموحد الذي يثبت لله الصفات ويجعلها لله وحده لا يشبهه فيها شيء، وفي ذلك أيضاً يقول ابن القيم: لسنا نشبه ربنا بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان كلا ولا نخليه من أوصافه إن المعطل عابد البهتان والمعطل: هو الذي ينكر صفات الله، والذي ينفي أن الله متصف بصفات الكمال كالسمع والبصر والعلم المحبة والرحمة، وصفات الذات كاليد التي أثبتها لنفسه أو اليدين وكالعين والوجه وما أشبه ذلك من الصفات. ولا شك أن من نفى ذلك فقد عطل الله تعالى، وتعطيل الصفات يلزم منه تعطيل الذات، فكأنه لم يثبت إلهاً يعبد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الطحاوية [13] من عقائد أهل السنة والجماعة اعتقادهم أن الله تعالى قدر الأقدار وضرب الآجال، فكل ما يجري في الكون من خلق وإحياء وإماتة وأعمال العباد؛ كل ذلك بتقديره وبعلمه، ولم يخالف في ذلك إلا من أعمى الله بصيرته عن الهدى، فلم يوفق للتسليم بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 1 الكلام على الدعاء فيما سبق به القدر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 2 الكلام على آية: (وما يعمر من معمر) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم أن الدعاء يكون مشروعا نافعاً في بعض الأشياء دون بعض، وكذلك هو، ولهذا لا يجيب الله المعتدين في الدعاء، وكان الإمام أحمد رحمه الله يكره أن يدعى له بطول العمر، ويقول: هذا أمر قد فرغ منه. وأما قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] فقد قيل في الضمير المذكور في قوله تعالى: (مِنْ عُمُرِهِ) إنه بمنزلة قولهم: عندي درهم ونصفه، أي: ونصف درهم آخر فيكون المعنى: ولا ينقص من عمر معمر آخر، وقيل: الزيادة والنقصان في الصحف التي في أيدي الملائكة. وحمل قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:38-39] ، على أن المحو والإثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة. وأن قوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] اللوح المحفوظ، ويدل على هذا الوجه سياق الآية، وهو قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38] ، ثم قال: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39] أي: من ذلك الكتاب {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] أي: أصله وهو اللوح المحفوظ. وقيل: يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، والسياق أدل على هذا الوجه من الوجه الأول، وهو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38] ، فأخبر تعالى أن الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه بل من عند الله، ثم قال: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:38-39] أي: أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها ثم تنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل ويثبت ما يشاء، وفي الآية أقوال أخرى، والله أعلم بالصواب] . هذا يتعلق بعلم الله تعالى بالكائنات قبل وقوعها وبتحديدها وتقديرها، ومن ذلك أن الله تعالى حدد أجل كل إنسان وقدر عمره كما في هذه الآية، وهي قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] أي: الذي يعمر فيطول عمره هذا مكتوب، والذي ينقص من عمره فيموت وهو صغير أو وهو شاب أو وهو كهل لم يبلغ سن الشيخوخة أو الكبر، فذلك أيضاً مكتوب عمره ومحدد، وهو معنى الآيات التي فيها ذكر الآجال، كقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] أي: ساعة، وكقوله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11] أي: أجلها المحتوم المكتوب، فلا بد أن يكون موتها في الوقت الذي كتب الله. ولما قال المنافقون في غزوة أحد: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168]-يعنون إخوانهم- قال الله: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} [آل عمران:168] يعني: أنتم سوف تموتون فادفعوا الموت عن أنفسكم، وفي آية أخرى قال لهم: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] يعني: الله تعالى قد كتب القتل على هؤلاء الذين قتلوا، فلو تحصنوا في بيوتهم لجعل الله لهم أسباباً يبرزون بها ويخرجون حتى يأتيهم الأجل الذي كتب عليهم ولا بد. وهذا من حيث العموم، فيعتقد المسلمون أن الله سبحانه قدر الآجال وحددها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 سبق القدر لا ينافي جواز الدعاء بطول العمر ونحو ذلك واختلف في جواز الدعاء بطول العمر، كأن يقال: اللهم متعني بأولادي أو بأخي أو ما أشبه ذلك. وقد مر بنا الحديث الذي فيه إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أم حبيبة في قولها: (اللهم متعني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية. فأنكر عليها وقال: لقد سألت الله لآجال مضروبة، وأعمار محدودة، وأرزاق مقسومة) وأخبرها أنها لو سألت الله تعالى أن يعيذها من عذاب النار وعذاب القبر لكان خيراً. وذكر الشارح هنا أن الإمام أحمد كان يكره أن يدعى له بطول العمر، وقد اختلف في جواز ذلك، ولكن الصحيح أن ذلك جائز إن شاء الله، كما يدعى للإنسان بالجنة وبالمغفرة وبالرزق وبالحياة الطيبة وما أشبه ذلك، وكما يدعو الإنسان أيضاً لنفسه بهذه الأشياء، وقد سبق أن بينا أدلة ذلك، وأن هذا لا ينافي كونها مقدرة؛ فإن القدر عام لكل شيء حتى للجنة والنار، والله تعالى قد علم أهل الجنة ومع ذلك هم مأمورون بسؤالها. فلا يقال: لا تسأل الجنة لأنك إن كنت مكتوباً من أهلها فإنك ستصير من أهلها، بل يقال: سل الله الجنة، وقد أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (تسألونه الجنة وتستعيذون به من النار) ، وأقر ذلك الأعرابي الذي قال: (إنما أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار. فقال: حولها ندندن) يعني: أننا ندندن ونسأل ونكثر من السؤال في طلب الجنة والنجاة من النار. فإذا كان قد كتب على الإنسان مقعده من الجنة أو مقعده من النار، ولا ينافي ذلك أن يسأل الله الجنة؛ فكذلك قد كتب له رزقه الذي سوف يأتيه ولا ينافي ذلك أنه يطلبه ويعمل ويتكسب، وقد كتب له أيضاً ما سوف يكتسبه أو يحويه، ومع ذلك فهو مأمور بأن يسأل الله رزقاً واسعاً حلالاً، أو ما أشبه ذلك، ومأمور أيضاً بأن يسأل ربه حياة سعيدة وحياة طيبة ولو كان ذلك مكتوباً. والحاصل أن كتابة الأعمار، وكتابة الأرزاق والآجال، وكتابة السعادة والشقاوة، وكتابة كل شيء يأتي الإنسان؛ لا تنافي أن يسأل ولا تنافي أن يعمل. وهكذا أيضاً هو مأمور بالسؤال ومأمور بالعمل، ولكن مع كونه مكتوباً فقد يكون معلقاً على سبب، كأن يقول الله أو يكتب الله: إننا سنرزقه بسبب سؤاله، أو: نجعله من أهل الجنة بسبب كثرة إلحاحه بالدعاء، أو: نوسع عليه رزقه بسبب كثرة طلبه؛ فيكون هذا الدعاء سبباً أزلياً، فيقال: قد كتب الله أنه يسأل ويكون سؤاله من الأسباب التي يرزق بسببها ويسعد بسببها ويكتسب بسببها وما أشبه ذلك. وهذا كما يفعل في الأشياء الحسية، فإن الإنسان مأمور بأن يأكل وبأن يشرب وبأن يتزوج وبأن يكتسي وبأن يبني سكناً وما أشبه ذلك، وإن كان ذلك أيضاً مكتوباً له. فعلى كل حال كتابة الأشياء في الأزل وكتابة الأعمار في هذه الآية وغيرها لا تنافي أن يسأل الإنسان ربه وأن يدعوه، فالله تعالى قد أمر بدعائه، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وغير ذلك من الآيات، وكما أمر بالعمل فقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة:105] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 4 عموم علم الله بكل شيء ولو لم يكن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم) . يعلم سبحانه ما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون، كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] ، وإن كان يعلم أنهم لا يردون، ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا، وكما قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] ، وفي ذلك رد على الرافضة والقدرية الذين قالوا: إنه لا يعلم الشيء قبل أن يخلقه ويوجده، وهي من فروع مسألة القدر، وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله تعالى] . هذا من تمام الكلام على أن الله تعالى علم ما كان وما سوف يكون وعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، ولا شك أن علم الله تعالى واسع لما مضى ولما يأتي، فالأشياء التي لم تأت وهي سوف تأتي قد علمها سبحانه، بل قد كتبها، فعلم عدد المخلوقات وعلم أعمالهم ونحو ذلك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 المحو والإثبات لما كتب وقد ذكر في الحديث الصحيح أن الله تعالى يكتب أو يأمر الملك أن يكتب أعمال الإنسان وهو في الرحم، يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، وإن كانت هذه كتابة ثانية، مع أن ذلك مكتوب في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ، وهذا لا تتغير الكتابة الموجودة فيه. وأما ما في أيدي الملائكة من الصحف فإن الله تعالى يمحو منها ما يشاء ويثبت، وهذا معنى الآية، وهي قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] ، والمراد: بأم الكتاب اللوح المحفوظ، فاللوح المحفوظ لا يتغير شيء مما كتب فيه، وأما ما في الصحف التي مع الملائكة فإنهم يكتبون أعمال الإنسان وأقواله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] . وبما أنه قد يكون من تلك الأقوال ما لا ثواب فيه ولا عقاب، فيمكن أن هذا هو الذي يمحى، ويبقى ما فيه ثواب أو فيه عقاب، والجميع مكتوب في اللوح المحفوظ، وعلى كل حال فإن علم الله تعالى بالآجال وبالكائنات وبما سوف يحدث علم أزلي قديم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 ذكر أول من أنكر علم الله وطريقة إفحامهم وقد أنكر ذلك بعض المبتدعة، وكان أول من أنكره من القدرية معبد الجهمي وغيلان القدري وعمرو بن عبيد القدري وواصل بن عطاء القدري، وكل هؤلاء أدركوا زمن الصحابة أو آخر زمن الصحابة، ولكنهم -والعياذ بالله- تلقوا هذه البدع عن بعض النصارى أو نحوهم، فكان من عقيدتهم أن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وجودها، وأن الأمر أنف، أي: مستأنف. وسئل عنهم ابن عمر فأنكر عليهم إنكاراً شديداً، كما في الحديث الذي ذكره مسلم في أول صحيحه فقال: (إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني، والذي نفس ابن عمر بيده لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره) ، يعني: أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطئه لم يكن ليصيبه. وعلى هذه العقيدة أيضاً الرافضة ونحوهم، وغالب الرافضة معتزلة، فهم جمعوا بين بدعة الرفض التي هي تكفير الصحابة، وبدعة الاعتزال التي هي إنكار صفات الله، ومن أبرز الصفات صفة العلم، وهؤلاء الذين ينكرون أن الله يعلم الأشياء قبل وجودها هم الذين عناهم الإمام الشافعي رحمه الله بقوله: (ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا) يعني: إذا ابتليتم بأحدهم بمجادلته ومخاصمته ومناظرته فسلوهم عن صفة العلم لله، فإذا أقروا به خصموا، أي: يقال لهم: ما الفرق بين العلم الماضي وعلم المستقبل؟ فإنه إذا كان يعلم الماضي فهو يعلم المستقبل، وقولوا لهم أيضاً: هل تحدث هذه الكائنات بغير إرادته؟ فلا بد أن يقولوا: هو الذي يحدثها وهو الذي يوجدها، فيقال: كيف يوجدها وهو لا يعلم وقت وجودها؟ وناظروهم أيضاً بالأدلة كقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70] ، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] إلى آخر الآية، وأشباه ذلك، فإنهم بهذا سوف ينقطعون ولا يجدون حجة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 غاية خلق الخلق وإيجادهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته) . ذكر الشيخ رحمه الله الأمر والنهي بعد ذكره الخلق والقدر، إشارة إلى أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]] . أي: كما أن الله علم الأشياء قبل وجودها وقدرها وحددها وأرادها وشاءها فذلك لا ينافي الأمر والنهي، فهو الذي كلف العباد، ولا شك أنه ما كلفهم إلا وهم يقدرون، فلا يكلف من لا يقدر، دلت على ذلك الآيات: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] ، فالله تعالى أمرهم بأشياء أن يفعلوها ونهاهم عن فعل أشياء، ووعدهم على فعل المأمور وترك المنهي والمزجور بالسواء، وأنه توعدهم على المخالفة بالعقاب، ولا شك أنه ما أمرهم إلا وهم يستطيعون ويقدرون على مزاولة هذه الأشياء، وإلا فالعاجز لا يمكن أن يؤمر. وعلى قول الجبرية: يعتبر أمرهم أمر تعجيز، مثل الأوامر التي يخاطب بها أهل النار أو الكفار، كقوله: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران:119] هذا أمر تعجيز، وكقوله: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:16] . والصحيح أن أوامر الله تعالى في قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] ، وبقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56] أمر لمن يقدر على الامتثال، أما من لا يقدر فلا يمكن أن يؤمر، خلافاً للجبرية فإنهم يعتقدون أنه يجوز الأمر بشيء غير مقدور عليه وغير ممكن، بمنزلة من أمر الأعمى أن ينقط المصاحف أو يكتبها، ومعلوم أنه لا يبصر، فكذلك الأمر عندهم، حيث سلبوا الإنسان قدرته واختياره وجعلوا حركته غير اختيارية، ومثلوه بحركة الشجرة التي تحركها الرياح بدون اختيار، فلو كان الإنسان غير مستطيع لما كلفه الله؛ فإن الله لا يكلف إلا من هو قادر على ذلك، ولعله يأتي لهذا تكملة في الرد على الجبرية ونحوهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 الكلام على مشيئة الله ومشيئة العبد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 نفوذ مشيئة الله تعالى وتبعية مشيئة العبد لها قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن) . قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] ، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111] ، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112] . وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99] ، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] ، وقال تعالى حكاية عن نوح عليه الصلاة والسلام إذ قال لقومه: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] ، وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] ، إلى غير ذلك من الأدلة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وكيف يكون في ملكه ما لا يشاؤه! ومن أضل سبيلا وأكفر ممن يزعم أن الله شاء الإيمان من الكافر والكافر شاء الكفر فغلبت مشيئة الكافر مشيئة الله؟! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا] . هذا الكلام على المشيئة والإرادة، والإرادة هنا هي الإرادة الكونية القدرية التي بمعنى (المشيئة) ، يعتقد المسلمون أن مشيئة الله عامة لكل ما في الوجود، فلا يكون في الوجود إلا ما يريد، سواء من الطاعات والأعمال والمعاصي ونحوها، أو من المخلوقات والموجودات والحوادث ونحوها، فكلها حصلت بمشيئته وبإرادته الكونية، والجملة التي ذكرها الطحاوي وردت في حديث في جملة الأدعية: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) ، فقوله: (ما شاء الله كان) أي: ما أراده كوناً وقدراً فإنه سيوجد وسوف يحدث لأن الله أراده، وكل شيء أراده الله لا بد أن يكونه، وكذلك الله تعالى هو الذي يخلقه، وخلقه لهذه الأشياء أن يقول: (كن) فتكون، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، فمما يعتقده أهل السنة أن مشيئة الله تعالى عامة لكل ما في الوجود، سواء المخلوقات أو غيرها. وفي حديث للنبي صلى الله عليه وسلم سأله بعض أصحابه عن العزل -والعزل يكون في الجماع مخافة أن تحمل المرأة، فإذا وطئها أنزل خارج الفرج حتى لا تحبل- فقال: (ما عليكم ألا تفعلوا؛ فإنه ما من نسمة كائنة إلا الله خالقها) ، وفي بعض الأحاديث أن رجلاً استأذنه في العزل فقال: (لا تقدر أن ترده، لو أراد الله أن يخلقه لم تقدر أن ترده) ، يعني: أن ترد ما قدر الله أنه سيوجد، ثم جاءه ذلك الرجل بعد أيام وأخبره بأن الأمة التي يعزل عنها قد حملت مع كونه يعزل عنها، فذكر أن من أراد الله أن يخلق له مخلوقاً أو ولداً فلا بد أن يكون. فالله تعالى قدر ما يكون، وإن كان العزل سبباً من أسباب عدم الحمل فهو مكتوب عند الله أن هذا سيستعمل كذا وكذا من موانع الحمل ويحصل له كذا وكذا من الأولاد، وهذا سيقل أولاده وهذا سيكثرون، فكل ذلك مكتوب مقدر. وهكذا أيضاً بالنسبة للدواب لا يستنكر مثلاً كثرتها أو توالدها أو ما أشبه ذلك، فيقال: الله الذي قدرها وقدر عددها وخلقها، وعلم بوقت خلقها وبعددها وبأعمارها وبأعمالها وما أشبه ذلك. وهكذا أيضاً النبات ونحو ذلك، قدر الله عز وجل ما يكون منه وما يحصل، والأدلة على ذلك كثيرة، ومن ذلك الآيات التي ساقها الشارح، والآيات كثيرة فيما يتعلق بمشيئة الله تعالى وبقدرته وبإرادته، وببيان أن إرادة الإنسان مربوطة بإرادة الله، كما في الآيات الأول وهي قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:28-29] ، فقد يستدل بأول الآية المعتزلة في أن الإنسان حر في مشيئته، وأن له أن يشاء، ولكن تمام الآية رد لهذا الفهم ودليل لربط مشيئة الإنسان بمشيئة الله، ولهذا قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29] أي: لا تستطيعون شيئاً وتنفذونه ولو شئتموه وأردتموه إلا إذا كان الله قد شاءه وأراده وقدره وحدد وقته. فإذا لم يشأ الإنسان شيئاً فلا يحصل، وهذا معنى قول شيخ الإسلام في أبيات مشهورة: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن وهو معنى هذا الحديث، فما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لا يكون وإن شاء الناس، ومعنى قوله في الحديث: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 10 ذكر مذهب المعتزلة في المشيئة والرد عليه وأما استدلال المعتزلة ببعض الآيات التي فيها إطلاق مشيئة العبد فإنه مقيد بالآيات الأخرى، فهم يستدلون بمثل قوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر} [الكهف:29] ، ويقولون: إن الأمر مسند إليه إن شاء اختار كذا وإن شاء اختار كذا، فالأمر راجع إليه. فهذا الإطلاق مقيد بالآيات الأخرى، ومنها آية الأنعام: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125] ، فربط الله الهداية والإضلال بمشيئته وبإرادته، فدل على أنه هو الذي يملك ذلك، ودلت على ذلك الآيات الأخرى، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر:37] ، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33] يعني: من قدر الله أن سيهتدي لم يقدر الخلق أن يضلوه، ومن قدر ضلاله لم يستطيعوا أن يهدوه وإن كان لذلك أسباب جعلها الله تعالى مؤثرة ومفيدة، ولكنها أيضاً أسباب أزلية، فقد كتب الله أن الولاية الصالحة والتربية الصالحة، والنصيحة وما أشبه ذلك من أسباب الهداية تؤثر بإذن الله، ولكن تأثيرها مكتوب وأزلي، وإلا فالآية على عمومها. وهكذا في الحديث في خطبة الحاجة: (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) ، حكم بأن الأمر لا يقدر على التصرف فيه إلا الله تعالى وحده، فيعرف الإنسان أن المشيئة والإرادة أمرهما إلى الله تعالى، فهو الذي يتصرف في الكون وحده، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: يشكل على هذا قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] ، وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35] ، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:20] ، فقد ذمهم الله تعالى حيث جعلوا الشرك كائنا منهم بمشيئة الله، وكذلك ذم إبليس حيث أضاف الإغواء إلى الله تعالى إذ قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39] ، قيل: قد أجيب على هذا بأجوبة، من أحسنها: أنه أنكر عليهم ذلك؛ لأنهم احتجوا بمشيئته على رضاه ومحبته، وقالوا: لو كره ذلك وسخطه لما شاءه فجعلوا مشيئته دليل رضاه، فرد الله عليهم ذلك. أو أنه أنكر عليهم اعتقادهم أن مشيئة الله دليل على أمره به. أو أنه أنكر عليهم معارضة شرعه وأمره الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه بقضائه وقدره، فجعلوا المشيئة العامة دافعة للأمر، فلم يذكروا المشيئة على جهة التوحيد، وإنما ذكروها معارضين بها لأمره دافعين بها لشرعه كفعل الزنادقة والجهال إذا أمروا أو نهوا احتجوا بالقدر. وقد احتج سارق على عمر رضي الله عنه بالقدر فقال: (وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره) ، يشهد لذلك قوله تعالى في الآية: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس:39] ، فعلم أن مرادهم التكذيب، فهو من قبل الفعل من أين له أن الله لم يقدره؟ أطلع الغيب؟] الجزء: 13 ¦ الصفحة: 11 الكلام على محاجة آدم وموسى عليهما السلام قال المؤلف رحمه الله: [فإن قيل: فما يقولون في احتجاج آدم على موسى عليهما السلام بالقدر إذ قال له: أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاما؟ وشهد النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم حج موسى -أي: غلب عليه بالحجة-: قيل: نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نتلقاه بالرد والتكذيب لراويه كما فعلت القدرية، ولا بالتأويلات الباردة، بل الصحيح أن آدم لم يحتج بالقضاء والقدر على الذنب، وهو كان أعلم بربه وذنبه، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتج بالقدر؛ فإنه باطل، وموسى عليه السلام كان أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه وتاب الله عليه واجتباه وهداه. وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة لا على الخطيئة؛ فإن القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعائب، وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث، فما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا بالله ربا. وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب، قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55] ، وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120] . وأما قول إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] ، إنما ذم على احتجاجه بالقدر لا على اعترافه بالمقدر وإثباته له، ألم تسمع قول نوح عليه السلام: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:34] ، ولقد أحسن القائل: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن وعن وهب بن منبه قال: نظرت في القدر فتحيرت، ثم نظرت فيه فتحيرت، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم فيه] . هناك من يحتج بالقدر كالمشركين الأولين وأتباعهم من الجبرية ونحوهم، فالمشركون احتجوا بمثل قولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20] ، كأنهم يقولون: الله هو الذي شاء عبادتنا لهم، وكذلك قولهم: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] ، كأنهم يقولون: إذا شاء الله أغناهم، فكيف نغنيهم أو نطعمهم؟ ولا شك أن هذه حجة باطلة، ويجب على المسلم أن يعلم أن الله -وإن كان له المشيئة التامة- قد أعطى الإنسان مشيئة تناسبه فيكون بذلك ممتثلاً لأمر الله، وإن كانت مشيئة الله هي الأصل وهي الغالبة على مشيئة المخلوق، فالثواب والعقاب على المشيئة التي في وسعه وفي مقدرته. ولكن لا يقال: إن مشيئة الإنسان تغلب مشيئة الله، كما تقول المعتزلة: إذا شاء الإنسان شيئاً وأراد الله غيره غلبت إرادةُ الإنسان إرادة الله، فهذا معناه: أن الله يعصى قسراً، وأنه يكون في ملكه ما لا يريد، وهذا كله باطل وضلال، والإنسان عليه أن يؤمن بمشيئة الله تعالى وإرادته. كذلك احتجاج آدم بالقدر في قوله: (أتلومني على أمر قد كتبه الله علي) ، إنما لامه موسى على مصيبة حصلت، واحتج آدم عليه السلام بأن هذا مكتوب عليه، والاحتجاج على الأمر المكتوب على الإنسان قبل أن يوجد جائز؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قدر الأشياء قبل وجودها وحدد أزلها، فإذا علم الله تعالى آجال الأشياء وحددها، فلا بد من وجودها في الوقت الذي يحدده ويكونه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 12 الرد على المعتزلة في إيجابهم الأصلح على الله تعالى قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا) . هذا رد على المعتزلة في قولهم بوجوب فعل الأصلح للعبد على الله، وهي مسألة الهدى والضلال. قالت المعتزلة: الهدى من الله بيان طريق الصواب، والإضلال تسمية العبد ضالا، وحكمه تعالى على العبد بالضلال عند خلق العبد الضلال في نفسه. وهذا مبني على أصلهم الفاسد: أن أفعال العباد مخلوقة لهم. والدليل على ما قلناه قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ، ولو كان الهدى بيان الطريق لما صح هذا النفي عن نبيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بين الطريق لمن أحب وأبغض، وقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13] ، وقوله: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر:31] ، ولو كان الهدى من الله البيان -وهو عام في كل نفس- لما صح التقييد بالمشيئة. وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] ، وقوله تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39]] . المعنى: نؤمن بأن الله تعالى يهدي من يشاء فضلاً منه ونعمة، ويضل من يشاء عدلاً منه وحكمة، فقد أنعم على من هداه وخذل من أضله، ولم يكن ظالماً لهذا، بل ذلك عدله وحكمه وخلقه يتصرف في الخلق كما يشاء. وذكر الشارح أن هذا رد على المعتزلة الذين يقولون بوجوب فعل الأصلح على الله. والمعتزلة فرقة انتسبت إلى الإسلام ثم انتحلت نحلاً، فمنهم من يقول: إن الله لا يقدر على الهدى والإضلال، فالله لا يقدر أن يضل أحداً ولا أن يهدي أحداً، بل العباد هم الذين يختارون بأنفسهم، فالعبد هو الذي يضل نفسه أو يهدي نفسه لا قدرة لله عليه. وفي هذا تنقص لله سبحانه وتعالى، حيث جعلوا قدرة العبد أقوى من قدرة الله واختياره أقوى من اختيار ربه. وقد يقولون: إننا ننزه الله عن الظلم، ويقولون: إذا قدر على العبد فأضله فكيف يعاقبه؟ فلو عاقبة وهو الذي أضله لكان ظالماً له، فنحن ننزه الله عن الظلم ونصفه بالعدل. ويسمون هذا الأصل عدلاً، وهو أحد أصولهم الخمسة. و الجواب نعترف أن الهدى فضل والإضلال عدل، ونقول: إن الله تعالى ما ظلم أحداً من خلقه، وإنما هذا فضله يؤتيه من يشاء، فمنَّ على أهل الهداية ويسر لهم الأسباب وبينها لهم، وقذف في قلوبهم الرحمة وأعانهم حتى اختاروا الهدى وساروا على الصراط المستقيم، فاستحقوا بذلك الثواب وإن كان هو الذي تفضل عليهم أولاً وآخراً. فأولاً: تفضل عليهم بأن هداهم وسدد خطاهم وأقبل بقلوبهم على طاعته، وأمدهم بقوة منه وتأييد، وأعانهم على ذكره وشكره وحسن عبادته. وتفضل عليهم ثانياً بأن أهلهم للثواب الذي أعده لعباده المطيعين، فجعلهم من أهله وأدخلهم دار كرامته، وأعطاهم ما وعدهم من النعيم المقيم، فذلك فضله يؤتيه من يشاء. أما بالنسبة إلى الضُلال والكافرين فإنه ما ظلمهم، فقد بين لهم الحق وأوضحه لهم وأعطاهم قوة واستطاعة وقدرة يزاولون بها الأعمال، ولكنه حكم بعلمه في أنهم ليسوا أهلاً للقرب وليسوا أهلاً للهداية، فأضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم، وحال بينهم وبين أسباب الهداية حيث إنهم ليسوا أهلاً لذلك، فأصبحوا محرومين من الهداية، قال الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] . فالله تعالى بين لهم الأسباب ولكنهم استحبوا العمى على الهدى، والمراد بالعمى هنا عمى البصيرة، يعني أنهم أصروا على العمى الذي هو عمى البصيرة والبعد عن الاستنارة بالحق، فلم يقبلوا ما جاءهم عن ربهم، بل ابتعدوا عنه فصاروا بذلك محرومين، ولم يظلمهم ربهم سبحانه بل هذا فضله يؤتيه من يشاء وهذا عدله يحكم به على من يشاء، وهو في كلا الحالين حكيم عليم يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، فقد خلق هؤلاء وجعل في قلوبهم معرفة الحق وأهلهم لقبوله، وخلق هؤلاء وجعل فيهم إنكار الحق وأهلهم لرده، ولا خلاف أنه هو الذي أضلهم، أي: صرفهم عما لم يكونوا أهلاً له من الهداية. فأنت -أيها المهتدي- وأنت -أيها المؤمن- وأنت -أيها الموقن- قد أنعم الله عليك، فعليك أن تتمسك بهذه النعمة وبأسبابها، وعليك ثانياً أن تسأل ربك الثبات عليها وتحمده وتشكره على ما أعطاك وخولك، وعليك ثالثاً أن تجتهد في ثمرتها التي هي العمل بما أمرت به. وإذا رأيت القسم الثاني الذين صرفوا وحيل بينهم وبين الحق، فإن عليك شكر النعمة التي أنت فيها، ومعرفة أن هؤلاء محرومون ولو زعموا أنهم أهل معرفة وأن الصواب في جانبهم، فإنهم في الحقيقة مخذولون مصروفون عن صراط الله المستقيم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 13 الخلق يتقلبون بين فضل الله تعالى وعدله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله) . فإنهم كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] ، فمن هداه إلى الإيمان فبفضله وله الحمد، ومن أضله فبعدله وله الحمد، وسيأتي لهذا المعنى زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى؛ فإن الشيخ رحمه الله لم يجمع الكلام في القدر في مكان واحد بل فرقه، فأتيت به على ترتيبه] . قوله: (يتقلبون في مشيئته) يعني أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله تعالى شاء من هؤلاء الإيمان وأحبه، وشاء من هؤلاء المعصية والكفر وقدره ولم يحبه، فأعمال أهل الطاعة قد شاءها كوناً وقدراً، وأمر بها ديناً وشرعاً، وأحبها ورضيها ووعد عليها بالثواب. وأما معاصي الكفار وذنوبهم فإنه قد قدرها وشاءها كوناً وقدراً، ولو شاء الله ما عصي، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99] ، {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31] ، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13] ، فلو شاء الله تعالى لأقبل بقلوبهم ولهداهم إلى الحق، ولكنه تعالى قدر أن هؤلاء محرومون وشاء منهم ما شاءه، فكلهم يتقلبون في مشيئته وفي إرادته، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 14 علو الله تعالى عن الضد والند قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وهو متعال عن الأضداد والأنداد) . الضد: المخالف. والند: المثل. فهو سبحانه لا معارض له، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا مثل له، كما قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، ويشير الشيخ رحمه الله بنفي الضد والند إلى الرد على المعتزلة في زعمهم أن العبد يخلق فعله] . يعني أن المعتزلة جعلوا الإنسان ضداً لله أو نداً مع أنهم ما صرحوا بذلك، ولكنهم لما زعموا أن العبد يخلق فعله، وزعموا أن الله لا يخلق أفعال العباد، واعتقدوا أن الله يعصى قهراً -تعالى الله عن قولهم- فعند ذلك أصبحوا قد جعلوا أنفسهم بل جعلوا كل مخلوق ضداً لله ونداً له، ولأجل ذلك يسميهم الصحابة -كما في بعض الروايات- مجوس هذه الأمة. وورد في بعض الأحاديث مرفوعاً وموقوفاً: (إن مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر. إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تتبعوهم) من باب الإنكار الشديد عليهم، وإذا قلت: كيف جعلوا لله ضداً أو نداً؟ نقول: ما داموا قد جعلوا المخلوق مستقلاً بتصرفه وبفعله فقد جعلوه متصرفاً بهذا الكون، والتصرف في الحقيقة إنما هو للخالق سبحانه، وليس للمخلوق شيء من التصرف، أعني التصرف المطلق. وسبب تسميتهم مجوساً أن المجوس ادعوا أن الكون صادر عن اثنين، وأن للعالم خالقين: النور والظلمة. فالنور خالق الخير والظلمة خالقة الشر، فلما جعلوا العالم صادراً عن خالقين أشبههم المعتزلة حيث جعلوا العبد خالقاً لفعله، فجعلوا مع الله خَاَلِقِيِنَ ليس خَاَلِقَينِ فقط، بل جعلوا العالم صادراً عن عدد. فالحاصل أن هذه الجملة تصلح رداً على المشركين وتصلح رداً على القدرية، ففيها الرد على المشركين الذين يجعلون لله نداً وضداً، سواء نداً في الخلق والتكوين أو نداً في استحقاق العبادة، فالله تعالى متعالٍ عن الأمرين، فهو الخالق وحده، فليس معه ندٌ يخلق كخلقه، وهو المستحق للعبادة وليس معه من يستحقها مثله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 15 لا راد لقضاء الله ولا غالب لأمره قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره) . أي: لا يرد قضاء الله راد، ولا يعقب -أي: لا يؤخر- حكمه مؤخر، ولا يغلب أمره غالب، بل هو الله الواحد القهار] . يعني أنه هو المتصرف وحده بخلاف المخلوق فإن هناك من يتعقبه، فكثيراً ما يفعل الابن فعلاً ويتعقبه الوالد ويقول: هذا خطأ، لو قدمت كذا أو أخرت! وكثيراً ما يحكم الحاكم أو يقضي القاضي ثم يُرد قضاؤه ويتعقبه مَن فوقه وينكر عليه ويقول: حكمك خطأ. ولو كان قد اجتهد وبذل وسعه، بخلاف الرب سبحانه فإنه إذا قضى أمراً فإنه لا يرد، وإذا حكم بحكم فإنه لا ينقض، وإذا أمر بأمر فإنه لا يتعقب. ولأجل ذلك حكموا بكفر من يرد أحكام الله تعالى ويدعي أنها لا تلائم كل وقت وزمان ومكان، ويفضلون عليها القوانين الوضعية التي هي من وضع أذهان البشر الذين هم محل النقص والعيب، ويتعقبون أحكام الله بأنها إنما تناسب الوقت الذي نزلت فيه. ولا شك أن هذا كفر؛ حيث إن الحكم -أي: الذي صدر من الله تعالى- أنزله لعباده وأمر به أمراً عاماً، وكلف به الخلق قاصيهم ودانيهم أولهم وآخرهم، فهو المناسب لهم، فمن رده أو ادعى عدم مناسبته فقد تعقب حكم الله وقد تنقص أمره، فهو شبيه بمن يرد العبادات التي كلف بها العباد ويدعي أنها إنما قصد منها أمر خاص أو نحو ذلك، والكلام على هذا لعل له محلاً يأتينا إن شاء الله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 16 وجوب التسليم لأقدار الله وأحكامه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (آمنا بذلك كله وأيقنا أن كلا من عنده) . أما الإيمان فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى، والإيقان: الاستقرار. من يقن الماء في الحوض: إذا استقر. والتنوين في (كلا) بدل الإضافة، أي: كل كائن محدث من عند الله. أي: بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته وتكوينه، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى] . بعدما ذكر القضاء والقدر، وذكر الحكم والأمر والشرع، وذكر التنزه عن الضد والند وما أشبه ذلك مما تقدم من الأحكام ذكر أن هذا مما يجب الإيمان به واليقين، وكأنه يقول: لا يجوز الشك ولا التردد في شيء من ذلك؛ لأنه مبني على أصل قوي ودليل راسخ معتمد، فلا بد أن تؤمن بذلك كله وأن توقن بأنه من عند الله، أو تجزم وتصدق بكل ما صدق وبكل ما يأتي، وتتحقق أنه عقيدة وأنه يقين، وأن من شك فيه فقد ضل سواء السبيل، وتوقن وتجزم بصحته وأنه حق لا تردد فيه. هكذا ينبغي لكل مؤمن، ويعم ذلك كل ما جاء به الشرع، فمثلاً القرآن من أوله إلى آخره نؤمن به ونوقن به، والكلمتان إحداهما تقوي الأخرى: (آمنت، أيقنت) ، وهما متقاربتان. فاليقين هو عدم الشك، أي: أن لا يتطرق إليك تردد ولا شك في اعتقادك لذلك الأمر، والإيمان هو جزمك وتصديقك بذلك واعتقادك لصحته. فكل ما جاء عن الله تعالى في القرآن آمنا به وأيقنا به، وكل ما جاء وبلغه الرسول عليه الصلاة والسلام فإننا نؤمن به ونوقن به، وكذلك نوقن بكل ما جاءت به الرسل وبكل ما أخبروا به، وأنه حق ويقين على حقيقته، وأن من شك في شيء من ذلك أو تردد فيه فإنه ممن لم يؤمن بالله حق الإيمان، ولم يتقبل الشريعة كما أمر بأن يتقبلها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 17 شرح العقيدة الطحاوية [14] لا يتم إسلام العبد إلا بشهادته أن محمداً رسول الله مع شهادته أنه لا إله إلا الله، فالإيمان بالرسل -ومنهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم- واجب على كل إنسان، وقد أيدهم الله تعالى ببينات ومعجزات تشهد بصدقهم وصدق ما جاءوا به. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1 الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ً قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وإن محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى) . الاصطفاء والاجتباء والارتضاء متقارب المعنى، واعلم أن كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله تعالى، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه وأن الخروج عنها أكمل فهو أجهل الخلق وأضلهم، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] ، إلى غير ذلك من الآيات. وذكر الله نبيه صلى الله عليه وسلم باسم العبد في أشرف المقامات، فقال في ذكر الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] ، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19] ، وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] ، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] ، وبذلك استحق التقديم على الناس في الدنيا والآخرة، ولذلك يقول المسيح عليه السلام يوم القيامة إذا طلبوا منه الشفاعة بعد الأنبياء عليهم السلام: (اذهبوا إلى محمد عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) ، فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته لله تعالى] . الكلام هنا على الشهادة الثانية، وهي شهادة أن محمداً رسول الله، فبعد أن ذكر بعضاً مما يتعلق بالإيمان بالله تطرق إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الشهادتين قرينتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله لزمته الشهادة بأن محمداً رسول الله، وذلك لأن الله سبحانه شهد له بذلك وسماه رسولاً، فقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] ، وقال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ، وأمره أن يخبر بأنه أرسله في قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] . فإذا كان الله تعالى أخبر بأنه رسوله فمن كمال تصديق الله تصديق ما أخبر به من هذه الرسالة، وتصديق ما أخبر به من أنه مرسل من الله سبحانه وتعالى. كذلك إذا شهدنا لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه رسول وصادق واعتقدنا صدقه، لزم من تصديقه الشهادة بأن الله هو الإله الحق؛ لأن جل دعوته إلى (لا إله الا الله) ، فأكثر ما دعا إليه تحقيق (لا إله إلا الله) . فعرف بذلك أن الشهادتين متلازمتان وأن إحداهما مرتبطة بالأخرى، ولأجل ذلك اعتبرتا ركناً واحداً من أركان الإسلام الخمسة، وهو الركن الأساسي الذي تنبني عليه بقية الأركان، وهو شرط لها كلها، فلا يقبل ركن من الأربعة إلا بعد أن يتحقق الركن الأول وهو الشهادتان. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 2 شرف وصف العبودية للنبي صلى الله عليه وسلم وهنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث صفات: الصفة الأولى: الاجتباء. والثانية: الارتضاء. والثالثة: الاختيار. وقد وصفه أيضاً بالعبودية، وتكلم الشارح هنا على العبودية، ونحن نتكلم عليها توضيحاً لما قاله، وإن كان فيما ذكره كفاية، فنقول: وصف الله نبيه بالعبودية في هذه الآيات، كما في قوله في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] ، فما قال: على رسولنا. وفي مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] ، وفي مقام الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19] ، وفي مقام إنزال الكتاب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1] ، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] ، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] ، والآيات في ذلك كثيرة. وكذلك ذكر الشارح أيضاً أن عيسى وصفه بذلك، فإذا طلب من عيسى الشفاعة قال: (اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) ، ولم يقل: (رسول) ، وذلك لأن العبودية هي الصفة الأصلية للخلق. وكذلك وصف بها أيضاً الأنبياء قبله، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} [ص:17] ، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} [ص:41] ، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [ص:45] ، كلهم وصفهم بأنهم عبيد وعباد وواحدهم عبد. وكذلك حكى عن عيسى العبودية، وأنها أول ما تكلم به وهو في المهد، فقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30] ، وقال عنه في آخر سورة النساء: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء:172] أي: لا يأنف من العبودية، بل يراها صفة شرف، وكذلك الملائكة: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172] ، فالملائكة أيضاً لا يستنكف أحدهم أن يكون عبداً لله، بل هم قد وصفوا بذلك في قوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26-27] ، فأول ما وصفهم به أنهم عباد، يعني أنهم مملوكون لله. وقد وصف الله جميع الخلق بذلك في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 3 أقسام العبودية وقد ذكر العلماء أن العبودية لله تنقسم قسمين: عبودية عامة وعبودية خاصة. فالعبودية العامة يدخل فيها جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وهي المذكورة في هذه الآية: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] ، والعبودية هنا معناها أن كلهم خاضع لتصرف الرب سبحانه وكلهم مملوكون له، فإذاً هم عبيد لله سبحانه، وهو الذي يحكم فيهم ويعدل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ، {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] يقوله الله يوم القيامة. فالخلق عبيد لله بمعنى أنهم مملوكون، والله هو المالك لهم، فهم عبيده يتصرف فيهم، فهو الذي يميت من يشاء ويحيي من يشاء، ويمرض من يشاء ويشفي من يشاء، ويفقر هذا ويغني هذا، ويعز هذا ويذل هذا، ويمنع هذا ويعطي هذا، ويتصرف فيهم تصرف المالك في ملكه لا معقب له، فإذاً كلهم تحت تصرفه وتحت تقديره وفي قبضته، لا يخرج أحد منهم عن قبضته ولا يستقل بنفسه ولا بملكيته، بل إذا شاء الله انتزع ملكه من يده أو انتزع ما أعطاه له، فهذه عبودية عامة. وأما العبودية الخاصة فهي التي ذكرت في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حق الملائكة، وفي حق الأنبياء وغيرهم، وكذلك ذكرت في مواضع أخرى في حق أولياء الله كقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63] هؤلاء عبوديتهم خاصة. وذكروا في قول الله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] أن هذه عبودية خاصة، وهذه العبودية مقتضاها ومدارها الذل لله تعالى والخضوع، وذلك أن العبد العابد متى شعر بأنه عبد لله مملوك له، وأن ربه المالك له يتصرف فيه كما يشاء، وأنه لا يملك التصرف لنفسه، ومتى شعر بأنه مخلوق مربوب ليس هو الذي خلق نفسه، ومتى شعر بأن خالقه على كل شيء قدير، ومتى شعر بأن ربه صادق الوعد فيما وعده به، ومتى شعر بأن ربه سبحانه قد وعده على الطاعة بالجزاء الأوفر وتوعده على المعصية بالعقاب الأكبر، إذا شعر بذلك ونحوه خضع لربه وخشع له، إذ التعبد التذلل الخضوع. فأصل العبودية الذل، ومنه سمي العبد المملوك عبداً؛ لأنه ذليل لمالكه وسيده، فالخلق كلهم يجب أن يظهروا هذا التذلل طوعاً واختياراً، أن يظهروا الذل لربهم، والخضوع له، والتواضع بين يديه، والاستكانة له، وأن يعترفوا بذلك لربهم، وأنه هو المستحق لذلك وحده. وقد فسرت العبادة التي أمر بها العبد بأنها غاية الذل مع غاية الحب، وذكر ذلك ابن القيم في النونية بقوله: وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان فإذاً: العبد الحقيقي هو الذي يذل لربه ويخضع، وهو الذي يحب ربه غاية المحبة، وهو الذي يتعبد له غاية التعبد، والأنبياء كذلك، لاشك أنهم قاموا بهذا الوصف، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قام بهذا الوصف، واعتبر في حقه شرفاً، فإذاً ليس في كونه عبداً لله شيء من التنقص، بل العبودية لله غاية الشرف، والعبودية لله غاية العلم، والعبودية لله غاية الرفعة، والعبودية لله والرق له والذل له هي الأصل في الفضل وفي التمكين، فكذلك الأنبياء يعتزون بذلك؛ لأنهم يتعبدون لمالكهم، بل المالك الحقيقي التذلل له والرق له والانتماء إليه يعتبر شرفاً وفضلاً، كما قال ابن القيم على لسان العابد الذي يفتخر بالعبودية: إذا قيل هذا عبدهم ومحبهم تهلل بشراً ضاحكاً يتبسم يعني: يفتخر إذا نسب إلى أنه عبد للرب سبحانه وتعالى، وقد يفتخر أيضاً بعض المماليك بانتمائه إلى الرق لبعض الملوك، فيقول: أنا لي الفخر أن أكون عبداً للملك الفلاني أو مملوكاً له، فإذا كانوا يفتخرون بالرق وبالملكية لبعض من الخلق، فكيف لا تفتخر أيها الإنسان بالرق وبالملكية وبالعبودية لرب الأرباب ومسبب الأسباب، وخالق الكون سبحانه وتعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 4 طرق معرفة صدق النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 5 أحوال الأنبياء الدالة على صدقهم قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (وإن محمداً) بكسر الهمزة عطفاً على قوله: (إن الله واحد لا شريك له) ؛ لأن الكل معمول القول، أعني قوله: (نقول في توحيد الله) . والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات، لكن كثيراً منهم لا يعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات، وقرروا ذلك بطرق مضطربة، والتزم كثير منهم إنكار خرق العادات لغير الأنبياء، حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر ونحو ذلك. ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح، لكن الدليل غير محصور في المعجزات؛ فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما وتعرّف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟ وما أحسن ما قال حسان رضي الله عنه: لو لم يكن فيه آيات مبيِّنة كانت بديهته تأتيك بالخبر وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز؛ فإن الرسول لابد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور، ولابد أن يفعل أموراً، والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به وما يخبر عنه، وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة، والصادق ضده، بل كل شخصين ادعيا أمراً أحدهما صادق والآخر كاذب، لابد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدة؛ إذ الصدق مستلزم للبر، والكذب مستلزم للفجور، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) ] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 6 المعجزات والخوارق عرف المسلمون نبوة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وشهدوا له بالرسالة، والطريق إلى معرفته والتصديق له ما أيده الله تعالى به من المعجزات التي دلت على صدقه. ومعروف أنه بشر، وأنه واحد من الناس، ولكن معلوم أن الله سبحانه يصطفي رسلاً من خلقه فينزل عليهم الآيات البينات بواسطة الملك، ويوحي إليهم من شرعه ما يشاء. فإذاً الرسل الذين يرسلهم إلى خلقه ويؤيدهم بهذه المعجزات يعرف صدقهم لعدة أسباب: منها ما يأتون به من الآيات والمعجزات، كما حصل لكثير من الأنبياء، فإن كلاً من الأنبياء أتى بمعجزات دلت على صدقه. فموسى أيده الله بعصاه التي تنقلب إلى حية، وبيده التي تخرج بيضاء، وبالطوفان، وبما أرسله على آل فرعون في قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} [الأعراف:133] ، وبالغمام الذي ينزل ليظللهم، وبالحجر الذي يتفجر منه الأنهار، وبإنزال المنِّ والسلوى، وغير ذلك من المعجزات. وعيسى كذلك أخبر الله تعالى أنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، وأخبر بأنه ينبئهم بما يأكلونه وما يدخرونه في بيوتهم، فيخبرهم بأشياء يخفونها، وأيد هذا بكتابه الذي هو الإنجيل. ونبينا عليه الصلاة والسلام أيده الله تعالى بمعجزات، وقد استوفاها العلماء في كتب كثيرة تسمى (دلائل النبوة) من إخباره بمغيبات مما اعتمده من وحي الله سبحانه وتعالى، وكذلك ما يقع منه من بركة طعام وبركة شراب وبركة ماء، وما أشبه ذلك. وهكذا ما يخبر به من الأمور التي لم تقع فتقع كما أخبر، وذلك كله اعتمادٌ على وحي الله عز وجل. وهكذا ما وقع من المعجزات له، كحنين الجذع له، وتسبيح الحصى بين يديه، وسكون الجمل لما اضطرب وسكنه، وما أشبه ذلك. ولو لم يكن إلا تأييده بهذا القرآن الذي أنزله، وجعله معجزاً، وتحداهم أن يأتوا بمثله لكفى، والكلام على هذا يطول. ومما أيدهم الله تعالى به أيضاً أن جعل وجوههم دالة على صدقهم، كما في البيت: لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر فلو لم يؤيده الله بهذه المعجزات لكان وجهه وبشره وطلاقته دليلاً على صدقه، فقد كان مأموناً قبل الإسلام، وكانوا يسمونه بالصادق الأمين، وكان أيضاً حسن الملاطفة، لا يأتي شيئاً من الذي ينكر في الجاهلية وذلك لأن الله حماه واصطفاه واختاره، وكان أيضاً موثوقاً عندهم بكلامه، لا يقول إلا الصدق ولا يتكلم إلا بالصدق، كما شهد له بذلك أعداؤه، فإنه لما سأل هرقل أبا سفيان بقوله: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: لا. قال: إنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 7 الشريعة المحكمة ومما يدل على صدقه ما جاء به من هذه الشريعة التي إذا تأملها العاقل عرف أنها ليست من قبل نفسه، بل هي من حكيم حميد يضع الأشياء في مواضعها. فإنه لما أمر بهذه العبادات ونهى عن المحرمات، تأملها كل عاقل فعرف بذلك أنها صحيحة ملائمة للواقع؛ ولذلك روي أن بعض الأعراب لما أسلم ولامه بعض صحبه قال: إني تأملت ما جاء به محمد، فرأيته ما أمر بأمر فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به. بل العقل موافق لما جاء به، وكذلك الفطرة السليمة. فهذا مما ميز الله تعالى به أنبياءه: أنه أيدهم بما يدل على صدقهم، حتى يكون ذلك دليلاً على أنهم جاءوا بالشرع الشريف من الله عز وجل، وأنهم صادقون ليسوا بكاذبين، ولو كان أحد منهم كاذباً على الله تعالى، لفضحه ولأظهر كذبه، فلا يجوز ذلك على الله سبحانه، فالله تعالى يتنزه أن ينصر من يكذب عليه، فلو كان كاذباً فيما جاء به لما قواه الله، بل لخذله كما خذل الكذابين، فقد ظهر في زمانه كذابون، ولكن كانت عاقبتهم المحو والاندحار، ظهر في اليمن كذاب يقال له: الأسود العنسي الذي استولى على أكثر اليمن من نجران إلى صنعاء، ثم لما ظهر أنه كاذب قام عليه بعض حشمه فقتلوه. وكذلك مسيلمة الكذاب لما ادعى النبوة تبعه من اغتر به، ففضحه الله تعالى وسلط عليه من قتله. وشريعة الله التي أوحاها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم باقية إلى أن يأتي أمر الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 8 وضوح كذب الكهان ونحوهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:221-226] . فالكهان ونحوهم - وإن كانوا أحياناً يخبرون بشيء من الغيبيّات ويكون صدقاً - فمعهم من الكذب والفجور ما يبين أن الذي يخبرون به ليس عن مَلَك، وليسوا بأنبياء، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن صياد: (قد خبأت لك خبيئاً، وقال: هو الدُّخ. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك) يعني: إنما أنت كاهن. وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يأتيني صادق وكاذب) . وقال: (أرى عرشاً على الماء) ، وذلك هو عرش الشيطان. وبين أن الشعراء يتبعهم الغاوون، والغاوي: الذي يتبع هواه وشهوته، وإن كان ذلك مضراً له في العاقبة. فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله، علم علماً يقيناً أنه ليس بشاعر ولا كاهن، والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة، حتى في المدعي للصناعات والمقالات، كمن يدعي الفلاحة والنساجة والكتابة، أو علم النحو والطب والفقه وغير ذلك، والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لابد أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب؟! ولا ريب أن المحققين على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم الضروري، كما يعرف الرجل رضا الرجل وحبه وبغضه وفرحه وحزنه، وغير ذلك مما في نفسه بأمور تظهر على وجهه، قد لا يمكن التعبير عنها، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30] ، ثم قال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]] . هذا الكلام يتعلق برسالة نبينا عليه الصلاة والسلام، وكيف عرف أنه صادق، وذلك لأن المشركين رموه بالكذب، فمنهم من قال: ساحر كذاب، ومنهم من قال: كاهن، ومنهم من قال: شاعر. ورد الله عليهم، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا} [الطور:29-30] يعني: انتظروا {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:30] ، وأخبر بأنه ليس بشاعر فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] . وذم الشعراء في هذه الآية فقال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:224-227] ، فإن هذا تنزيه لنبيه أن يكون شاعراً أو يعلمه الشعر، وتنزيه لهذا القرآن أن يكون شعراً، ولهذا قال في آية أخرى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:41-42] ، وذلك لأنهم يقولون عنه: إنه من الكهنة. لما رأوا الكهنة وسجعهم وإخبارهم بأشياء من المغيبات، ادعوا بأنه كاهن، والكاهن في الأصل هو الذي يدعي علم الغيب، أو يخبر عن المغيبات، أو يخبر عمَّا في الضمير، أو يدل على مكان المسروق ومكان الضالة واللقطة، وذلك بتنزل الشياطين عليه؛ فإن الشياطين تختطف السمع وتسترقه من السماء وتوحيه إلى أوليائها الذين هم السحرة والكهنة، كما أخبرالله تعالى بذلك في قوله: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاَّ مَنْ خَطِف الْخَطْفَة} [الصافات:8-10] يعني: الكلمة يخطفها الشيطان من الملائكة فيستمعها، ثم يلقيها في أذن وليه الساحر أو الكاهن. أخبر الله تعالى في هذه الآية أن الشياطين تنزل؛ على أولئك الجهلة: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221-222] يعني: الكاهن، فـ (أفاك) أي: كذاب. و (أثيم) : أي: آثم. أي أنه من أهل الإثم الذي هو الزور والذنب العظيم. قال تعالى: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} ، والسمع: ما يختطفونه من الملائكة ويلقونه إليهم، {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:223] وقد وردفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في صفة أخذ الكاهن الكلمة من السماء: (فيلقيها إلى من تحته -يعني: الذي يخطفها- ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فيكذب معها مائة كذبة) ، فالكاهن يستمع الكلمة التي سمعت من السماء، ويضيف إليها كذباً، وهذا معنى قوله تعالى: {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:223] ، فعرف بذلك أن الله تعالى نزه نبيه عن أن يكون بمتهم كالذين تتنزل عليهم الشياطين، وإنما أنزل عليه الملك بهذا الوحي المتتابع المشتمل على الحكم والأحكام مما يدل على أنه من حكيم حميد، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] . وذكر أيضاً من الكهنة الذين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم شاب من اليهود اسمه ابن صياد، ورد في شأنه أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرها، حتى ظن بعض الصحابة أنه المسيح الدجال، واستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم في أن يقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يكن هو فلن تسلط عليه، وإن لا يكن هو فلا خير لك في قتله) فإن كان الدجال فلا تستطيع أن تقتله؛ لأنه قد قدر الله أنه يخرج، وأنه يحصل منه ما سوف يحصل، فلن تسلط عليه. أما إذا لم يكن هو فلا خير لك في قتله، ولكن القرائن دلت على أنه ليس هو الدجال، وإنما هو كاهن من الكهنة الذين تنزل عليهم الشياطين، وأخبر بأنه يرى عرشاً في الماء، وذلك هو عرش الشيطان، وأخبر بأنه يأتيه صادق وكاذب، يعني: يأتيه وسوسة من الشيطان أو وحي من الشيطان، فتارة يصدق وتارة يكذب. وذلك وحي الشيطان، والشياطين يوحون كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121] ، فهناك وحي شياطين تنزل به إلى أوليائها. ومما يدل على تكهنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله فقال: قد خبأت لك خبيئاًً. قال: هو الدخ. وكان قد خبأ له سورة الدخان، وفيها قوله تعالى: {فَارتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:10-11] إلى آخره، فقال: (اخسأ فلن تعدو قدرك) . فالحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزهه الله تعالى عن صفات هؤلاء وهؤلاء، وقد وصفه الله بصفات تدل على صدقه وصحة كلامه، وذلك لما يشتمل عليه كلامه من الانتظام ومن الإحكام، وكذلك موقع كلامه في القلوب؛ حيث إنه متى سمعه السامع أصغى إليه والتذ به، سواء كان من القرآن أو مما علمه الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 9 القرائن الدالة على التمييز بين الصادق والكاذب ولاشك أن الناس يفرقون بين صادق الدعوى وكاذبها، فالناس يعرفون كل من يدعي وينتحل أمراً من الأمور وهو ليس من أهله، وذلك ليس يخفى على الفطن، فكل من أعطاه الله تعالى فطنة فإنه يميز بين الصادق والكاذب، فلو كان كاذباً -وحاشاه من ذلك- لما خفي كذبه على جمهرة الصحابة، سيما عقلاؤهم الذين صحبوه مدة طويلة قبل الرسالة وبعدها، وعرفوا صدقه، والتذوا باتباعه، وحمدوا العاقبة لما آمنوا به، وتمنوا أنهم مع السابقين الأولين الذين سبقوا إلى تصديقه واتباعه، وتفانوا في نصرته، وبذلوا في سبيل نصرته أموالهم وأنفسهم، وهجروا بلادهم وأولادهم وأزواجهم وعشائرهم، فلما وصل الإيمان إلى قلوبهم وذاقوا حلاوة العلم والإيمان رخصت عندهم الدنيا بأسرها، وبذلوا في ذلك نفوسهم قتلاً في سبيل الله، ذلك كله دليل على أنهم عرفوا صدقه كما يعرفون أولادهم وأحفادهم. كذلك الكاذب في كل نحلة يعرف كذبه، فكل من انتحل شيئاً ليس له فإنه يظهر أمره ولا يخفى على فطناء الناس، وإذا عمل أي عمل وهو ليس من أهله وجرب ذلك وعرف منه، ابتعد عنه الناس وحذروا منه. ومثَّل الشارح بالأعمال التي في زمنه، كالخياطة والكتابة والخرازة وما أشبهها، فهذه حرف يدوية قد يتعلمها الإنسان في زمن يسير، ولكن قد يتسمى الإنسان بأنه من أهلها، ويظهر بالتجربة أنه ليس من أهلها، حتى قال بعضهم: فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت ثوبك بالمداد يعني: إنك لست من أهل هذه الصنعة ولو فعلت ما فعلت. وعرف بذلك أن كل من تعاطى شيئاً وهو ليس من أهله، فإن الناس يعرفون أنه كاذب ويظهر كذبه. وهذه الدعوى التي جاء بها الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى إلى خلقه لاشك أنها دعوى كبيرة، فلو كانوا كاذبين لما أيدهم الله بما يدل على صدقهم، ولظهر كذبهم وفضحهم الله تعالى على رءوس الأشهاد ونكَّل بهم. وساق الشارح هذه الآية، وهي قوله تعالى: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] ، وقد أخبر الله تعالى بأن نبيه يعرف بعض المتسترين بأوصافهم الظاهرة، كما في قوله: {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30] يعني: بأمارات تظهر على وجوههم يعرف بها من هو صادق ممن هو كاذب. فإذا كانت هذه الأعمال تعرف بالسيما أو بالأمارات الظاهرة، فلا شك أن أمارات النبوة تعرف لمن تأملها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 10 تفصيل الأحوال الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [وقد قيل: ما أسرَّ أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. فإذا كان صدق المخبر وكذبه يعلم بما يقترن من القرآئن، فكيف بدعوى المدعي أنه رسول الله؟ كيف يخفى صدق هذا من كذبه؟ وكيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة؟. ولهذا لما كانت خديجة رضي الله عنها تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه الصادق البار، قال لها لما جاءه الوحي: (إني قد خشيت على نفسي، فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) . فهو لم يخف من تعمد الكذب، فهو يعلم من نفسه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكذب، وإنما خاف أن يكون قد عرض له عارض سوء، وهو المقام الثاني، فذكرت خديجة ما ينفي هذا، وهو ما كان مجبولاً عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وقد علم من سنة الله أن من جبله على الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة فإنه لا يخزيه. وكذلك قال النجاشي لما استخبرهم عما يخبر به، واستقرأهم القرآن فقرءوا عليه: إن هذا والذي جاء به موسى -عليه الصلاة السلام- ليخرج من مشكاة واحدة. وكذلك ورقة بن نوفل لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رآه، وكان ورقة قد تنصر، وكان يكتب الإنجيل بالعربية، قالت له خديجة: أي عم اسمع من ابن أخيك ما يقول. فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال: هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى. وكذلك هرقل ملك الروم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام طلب من كان هناك من العرب، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى الشام، فسألهم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل أبا سفيان وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الإخبار، سألهم: هل كان من آبائه من ملك؟ فقالوا: لا. قال: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فقالوا: لا. وسألهم: أهو ذو نسب فيكم؟ فقالوا: نعم. وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقالوا: لا، ما جربنا عليه كذباً. وسألهم: هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه، وسألهم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكروا أنهم يزيدون، وسألهم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقالوا: لا. وسألهم: هل قاتلتموه؟ قالوا: نعم. وسألهم عن الحرب بينهم وبينه. فقالوا: يدال علينا مرة ونُدال عليه أخرى. وسألهم: هل يغدر؟ فذكروا أنه لا يغدر، وسألهم: بماذا يأمركم؟ فقالوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. وهذه أكثر من عشر مسائل، ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة فقال: سألتكم هل كان من آبائه من ملك؟ فقلتم: لا. قلت: لو كان من آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتكم: هل قال هذا القول فيكم أحد قبله؟ فقلتم: لا. فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله لقلت: رجل ائتم بقول قيل قبله، وسألتكم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلتم: لا. فقلت: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله تعالى، وسألتكم: أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم؟ فقلتم: ضعفاؤهم. وهم أتباع الرسل -يعني: في أول أمرهم-، ثم قال: وسألتكم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلتم: بل يزيدون. وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتكم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه. فقلتم: لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد. وهذا من أعظم علامات الصدق والحق، فإن الكذب والباطل لابد أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه ويمتنع عنه من لم يدخل فيه، والكذب لا يروج إلا قليلاً ثم ينكشف. وسألتكم: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم: إنها دول. وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها، قال: وسألتكم: هل يغدر؟ فقلتم: لا. وكذلك الرسل لا تغدر. وهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم، وأنهم لا يغدرون علم أن هذه علامات الرسل، وأن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء لينالوا درجة الشكر والصبر، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) . والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة، فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] ، وقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1-2] ، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول. قال: وسألتكم عما يأمر به فذكرتم أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، وهذه صفة نبي، وقد كنت أعلم أن نبياً يبعث، ولم أكن أظنه منكم، ولوددت أني أخلص إليه، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه، وإن يكن ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين. وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب، وهو حينئذٍ كافر من أشد الناس بغضاً وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو سفيان بن حرب: فقلت لأصحابي ونحن خروج: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة؛ إنه ليُعَظِّمه ملك بني الأصفر. وما زلت موقناً بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام وأنا كاره] . أرفق الشارح هذه القصص للاستدلال بها على صحة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هؤلاء العقلاء الذين معهم معرفة وعلم استدلوا بهذه القرائن على صدقه وعلى صحة رسالته. وذلك لأن الله تعالى أجرى العادة أن الكاذب يفضح ويظهر كذبه، فإذا أسر سريرة سيئة أظهرها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وعرف الناس ما يخفيه وما يضمره من كذب أو من حقد أو من نفاق أو نحو ذلك. ولهذا كان المنافقون الذين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى أمرهم بما يظهرونه من الكلمات السيئة التي فيها همز ولمز وعيب، فيعرفهم المؤمنون، فإذا عرفوا أن هذا يميل إلى المنافقين، ويجالسهم، ويتكلم معهم، ويلقاهم بوجه منبسط -ونحو ذلك- عرفوا أنه ليس بصادق الإيمان، ولو أنه يلاطف المؤمنين، ولو أنه يظهر لهم التصديق، كما ذكر الله ذلك عن المنافقين عموماً في قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] ، ولكن فضحهم الله تعالى وأظهر سرائرهم، وعرفهم المسلمون وهجروهم، وحذر الله تعالى نبيه منهم فقال: {فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] ، أما صادق الإيمان فإنه يظهر صدقه ويظهر تصديقه بأعماله التي يعملها، فمن صار صادقاً من الصحابة عرفوا تصديقه بأقواله وبأعماله وبمحافظته. وهكذا كل صادق فإن الله تعالى يؤيده ويظهر علامة صدقه. وإذا كان هذا في الأمور العادية وفي أغراض الناس واحداً واحداً، حيث يعرف الصادق منهم من الكاذب، فيفضح الله الكاذب على رءوس الأشهاد في الدنيا وفي الآخرة، وإذا كان الناس يعرفون الصادق بالتجربة والكاذب بالتجربة؛ فكيف لا يعرف الكاذب المتنبئ؟ فلو أظهر ما أظهره من التحريف ومن التبديل ومن الكذب ومن السحر ومن الشعوذة وما أشبه ذلك، كما يجري على أيدي الكهنة والمتنبئين ونحوهم، فإن ذلك لا يخفى على الفطن. وإذا جبل الله العبد على صفات حميدة عرف أنه لا يتقول على الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 11 شهادة خديجة رضي الله تعالى عنها والقصص التي أوردها فيها قصة خديجة، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأول زوجاته، وأم أولاده كلهم إلا إبراهيم الذي هو من مارية القبطية التي هي أم ولده، وخديجة هي أول من آمن به من النساء. ولما نزل عليه الوحي أول ما نزل وهو بغار حراء جاء إليها فزعاً وقال: (زملوني) فزملوه، أي: غطوه بغطاء حتى هدأ روعه. ثم أخبر خديجة الخبر، وقال لها: (لقد خشيت على نفسي) يعني: خشيت أن يكون نزل بي مس من الجن أو نحو ذلك. عند ذلك استدلت بصفات حميدة على أنه لا ينزل عليه هذا الأمر، ولا يسلط الله عليه شيئاً يفسد عليه عقله ويفسد عليه جسمه وعبادته، استدلت بالصفات التي جبله الله عليها، فقالت: (إنك لتصل الرحم) ، وصلة الرحم من الأقارب، تعتبر من الأمور التي يحمدها الله تعالى ويأمر بها. (وتقري الضيف) ، فالطارق إذا نزل به أضافه فأشبعه وأطعمه. (وتكسب المعدوم) والمعدوم الفقير ونحوه، تعني: تكتسب صداقته، أو تكسِّبه فتعطيه. (وتعين على نوائب الحق) ، ولاشك أن هذه الصفات مما جبله الله تعالى عليها، فمن كان فيه هذا الوصف لا يخزيه الله تعالى، هكذا استدلت خديجة رضي الله عنها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 12 شهادة ورقة بن نوفل والقصة الثانية مع ورقة بن نوفل، ذكروا أن ثلاثة من قريش أنكروا ما عليه قريش من الضلال، وذهبوا يطلبون ديناً أحسن من ذلك الدين، فكان منهم ورقة الذي اتصل بالنصارى، وتعلم دينهم وتعلم لغتهم وكتابتهم وتنصر، ثم رجع إلى قومه ومعه الإنجيل يترجمه إلى اللغة العربية، وينسخ منه ما شاء الله، وكان معه معرفة بالكتب الأولى وبما اشتملت عليه، وبصفات النبي صلى الله عليه وسلم التي اشتمل عليها الإنجيل وغيره، فلما جاءت إليه أمرته أن يسمع ما يقوله النبي عليه الصلاة والسلام، فقص عليه ما رأى، فعرف من كلامه أنه ليس بكاذب، وأن هذا الذي نزل عليه هو الملك الذي نزل على موسى. كيف عرف ذلك؟ عرفه بالأمارات التي قرأها في كتب أهل الكتاب، وعرف أيضاً صدقه فيما جاء عنه أنه ليس من أهل الكذب، وقال: (هذا الناموس الذي نزل على موسى، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال: أومخرجيَّ هم؟ قال: نعم. لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) . فآمن به وصدقه وشهد بأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى -يعني: وسائر الأنبياء-، وأخبر بأنه سيناله ما نال الأنبياء من الأذى في ذات الله تعالى. فهذا من أهل الكتاب شهد له بأنه جاء بما جاء به الأنبياء؛ لما عرف من الأمارات والدلالات على الصدق. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 13 شهادة النجاشي رحمه الله تعالى والقصة الثالثة مع النجاشي ملك الحبشة، وكان نصرانياً، وكان أيضاً معه معرفة بالكتب، ومعرفة بصفة الأنبياء وغيرهم، فلما جاءه المهاجرون ونزلوا بالحبشة هرباً من أذى قريش وأقاموا عنده، أحضرهم وسمع ما قالوه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقرءوا عليه بعضاً من القرآن فبكى وخشع وآمن، وأقسم بأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، وأخبر أن مقالته في عيسى هي المقالة الصحيحة، وأنه لم يتجاوز ما هو عليه مثقال هذه - وأشار إلى عود كان بيده ينكب به-، مما يدل على أنه صدقه وصحح رسالته. فعرف ذلك مع أنه ما رأى النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما سمع ما جاء به، وسمع القرآن الذي أنزل عليه، وسمع بعض صفاته، فاستدل بها على صدقه وصحة رسالته، وآمن به، وكان يهدي إليه ويكاتبه، وأصدق عنه أم حبيبة لما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت زوجها، وأرسلها إليه عليه الصلاة والسلام، كل ذلك دليل على أنه قام معه وأنه صدقه، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب لما سمع بموته، وذلك كله دليل على أنه كان من المصدقين بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم. عرف ذلك مع أنه ما رآه، ولو رآه لازداد يقيناً بصحة ما جاء به وبصدقه. فهذا دليل على أن الصادق يعرف الناس صدقه بأدنى ما يسمعون من خبره. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 14 شهادة هرقل ملك الروم وأما القصة الأخيرة فهي مع ملك الروم وهو هرقل، والروم في الشام، وموطنهم في ذلك الوقت دمشق الشام، وكانوا يدينون بالنصرانية، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً يدعوه إلى الإسلام، ويقول فيه: (أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) ، وكتب إليه آية من سورة آل عمران، هي قول الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] . فلما جاءه هذا الكتاب أرسل من يبحث عن أحد يعرف هذا الرجل الذي يدعي أنه نبي حتى يسأل عن أخلاقه وعن صفاته، فدل على أبي سفيان، وكان أبو سفيان قريباً للنبي صلى الله عليه وسلم في نسبه؛ لأنه من بني عبد مناف، وهو الجد الثالث من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فكلاهما يجتمع في عبد مناف، وهو أعرف به، وإن كان صده عن الدخول في أول الإسلام أول مرة الرئاسة والمنصب. سأله هرقل عن هذه الأسئلة، واستدل بجوابها على صحة ما جاء به. فالسؤال الأول عن نسبه، فأخبره أبو سفيان أنه ذو نسب، يعني أنه من أشرف الناس وليس من أطرافهم، ولا من أراذلهم. فالأنبياء يبعثون في وسط القبائل وفي أشرفها، لا يبعثون من أطراف القبائل وأراذلها، فاعترف بأنه ذو نسب، يعني: أن آباءه وأجداده لهم شرف ولهم منصب. ا­لسؤال الثاني: هل ملك أحد من آبائه؟ فلما أخبره بأنه لم يملك استدل على أنه لو كان أحد من آبائه قد ملك لكان طالباً ملك أبيه، فلما لم يكن كذلك عرف أنه ليس له غرض في ذلك. والسؤال الثالث: هل كان كذاباً قبل أن يقول ما قال؟ فلما أخبره بأنه لم يجربوا عليه كذباً، قال: كيف يدع الكذب على الناس ويكذب على الله؟! هذا مستحيل، إذاً ليس هو كذاباً. والسؤال الرابع: هل سبقه أحد إلى هذه المقالة؟ فلما أخبر بأنه ما سبق استدل بذلك على أنه صادق؛ لأنه لو قالها أحد قبله لكان مقتدياً به. وسأله عن أتباعه فأخبر بأنهم ضعفاء الناس؛ وذلك لأن الضعفاء هم أرق قلوباً، وهم عادة الذين يتقبلون الحق، وهم أتباع الرسل، كما أخبر الله عن نوح في قوله: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] يعني: أراذل الناس، {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود:27] ، ولكن في العاقبة وفي النهاية أسلم أشراف الناس واتبعوه. وسأله: هل يزيدون أم ينقصون؟ ولما أخبره أنهم يزيدون عرف أن زيادتهم دليل على صدق ما هم عليه، وأنهم يتبعونه لاقتناعهم بأن ما جاء به حق، فكل من تبين له الحق اتبعه. وسأله: هل يرتد أحد منهم؟ فلما أخبره بأنهم لا يرتدون، بل من دخل في الإسلام تمسك به ولم يرجع عنه أبداً، قال: هكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، فالإيمان الذي دخلوا فيه اطمأنت به قلوبهم، فلما اطمأنت به قلوبهم عرفوا صدقه وصحته فلم يسخطوه، بل تداعوا لنصرته. وسأله: هل قاتلتموه؟ فأخبر بأنهم قاتلوه، وأنه ينصر عليهم وينصرون عليه، وذلك من الابتلاء الذي يبتلي الله تعالى به أنبياءه ثم تكون العاقبة لهم. ويبتلي أيضاً أتباع أنبيائه كما في الآيات التي سردها الشارح، وقد علق الشارح على هذا تعليقاً حسناً، وذكر أن الله تعالى يبتلي الأنبياء ويبتلي الأولياء، ثم بعد ذلك يفرج عنهم ليظهر من يصدق ممن يكذب، كما قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] . فالابتلاء الذي يبتلي به عباده إنما يكون لإظهار صدقهم من كذبهم، ليتميز من يكون مؤمناً صادق الإيمان ممن هو دعي ليس بصادق الإيمان. وسأله: هل يغدر إذا عاهدوه؟ فأخبر بأنه لا يغدر. وقد كان عليه الصلاة والسلام حريصاً على أن يفي بالمواعيد، ولا يؤثر عنه غدر، وقد أمره الله تعالى إذا أحس أو خاف من قوم خيانة أن ينبذ إليهم عهدهم على سواء، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58] أي: عهدهم على سواء، وقل لهم: قد تبرأنا من العهد، ولا عهد بيننا وبينكم، فاستعدوا للحرب، ولا تأتهم بغتة وهم آمنون غافلون باقون على عهدهم وعلى مواثيقهم. وأما السؤال العاشر والأخير فإنه يتضمن شرعه الذي جاء به، فقد اعترف أبو سفيان بأنه يأمرهم بعبادة الله وحده، وهو التوحيد، وأنه ينهاهم عما يعبد آباؤهم من الأصنام، وهو الشرك بالله، وأنه يأمرهم بالأشياء التي يشهد العقل بسلامتها وبملاءمتها، ألا وهي الصدق في الحديث، وصلة الرحم، والصبر على الضراء والسراء ونحوها، والعفاف ونحوه، فهذه الخصال التي يأمر بها يشهد العقل بملاءمتها وحسنها. فالحاصل أن أبا سفيان لما أخبره بذلك عرف هرقل ملك الروم أنها صفات نبي، وصدَّق أبا سفيان في تلك الصفات، وصدقه أيضاً رفقاؤه ولم ينكروا عليه، وهي صفات صحيحة منقولة مشهورة متواترة عنه، فكان ذلك من الأدلة التي اتضح بها صدقه. فالحاصل أن صدق الأنبياء يعرف بالأمارات التي يتميزون بها، بحيث لا يخفى أمرهم على ذي عقل سليم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 15 الشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة تمام للشهادة لله تعالى بالوحدانية فابتدأ الشارح رحمه الله بالكلام على الشهادة الثانية، وهي شهادة أن محمداً رسول الله، وذلك لأنها أحد جزأي الركن الأول من أركان الإسلام والذي هو كالأساس لبقية الأركان، وهو ركن الشهادتين. ولا شك أن الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله متممة لشهادة أن لا إله إلا الله، وذلك لأنه الذي دل على ربه، والذي بلغ رسالة ربه، والذي عرف بحق الله على عباده، والذي جاء مرسلاً بهذه الشريعة، فالشهادة له بأنه رسول الله تعتبر مكملة لشهادة أن لا إله إلا الله. وقد فسرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الثلاثة الأصول بقوله: معنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. وشرح هذه الكلمات وإيضاحها يحتاج إلى تطويل، ولكنها بحمد الله ظاهرة لكل متأمل، ولما تكلم أيضاً عن الشهادة في تفسيره للتشهد -أي: شهادة أن محمداً عبده ورسوله- فسرها بقوله: عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، بل يطاع ويتبع، هذا تفسير من الشيخ رحمه الله. ولا شك أن هذه الرسالة التي جاء بها هي هذه الشريعة، وإذا كان رسولاً فإن الرسول معه رسالة، ورسالته هي الشريعة المحمدية والشريعة الدينية، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية:18] ، وهي هذا الدين الذي بينه وبلغه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 16 من لوازم الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 17 محبته صلى الله عليه وسلم وطاعته وقد ذكر العلماء للنبي صلى الله عليه وسلم حقوقاً على أمته، فمن تلك الحقوق محبته التي أمر الله بها في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24] يعني: لا تقدموا محبة شيء على محبة الله ورسوله ومحبة الجهاد في سبيله. وثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهنَّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) إلى آخره، بدأ بمحبة الله ورسوله وقدمهما على غيرهما، وثبت أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ونفسه ووالده والناس أجمعين) . ولاشك أن هذه المحبة لها علامات، ومن أظهر علاماتها الاتباع. وقد أخبر الله تعالى أن اليهود ادعوا المحبة بقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] فأنزل الله آية تسمى آية المحنة، هي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] ، امتحن الله من ادعى محبته بهذه الآية، فجعل لمحبة الله علامة ظاهرة، وهي اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعل لهذا الاتباع ثواباً، فقال: {يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] أي: هذا ثوابكم، فإذا اتبعتم النبي صلى الله عليه وسلم أحبكم الله وغفر لكم ذنوبكم. وقد ذكر الله عز وجل لاتباعه ثواباً آخر في قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] ، أمر بالإيمان به، ثم أمر باتباعه، ولذلك لا يكون صادقاً من لم يطعه، ولم يتبع سنته. وقد ذكر شيخ الإسلام أن الله تعالى أمر بطاعته وطاعة رسوله في أكثر من أربعين موضعاً، إما أن يصرح بالفعل كقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92] ، وإما أن يعطف بالواو كقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:132] ، وإما أن يقتصر على طاعة الرسول؛ لأنه لا يأمر إلا بأمر الله، كقوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56] في عدة مواضع، ولاشك أن طاعته تستلزم اتباعه، فالأمر بالاتباع والأمر بالطاعة من متممات المحبة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 18 الاقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم ويدخل في ذلك أيضاً الاقتداء والتأسِّي، دليله قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21] ، وكلاهما علامة على صدق الإيمان به؛ فإن الله تعالى كما أمر بالإيمان بالله أمر بالإيمان بالرسول، ورتب عليه أجراً، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28] ، فأمر بتقوى الله والإيمان بالرسول، وجعل الثواب: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد:28] ، وكفى بذلك ثواباً. وتقدم ذكر بعض الأدلة على ثبوت رسالة هذا النبي الكريم، فذكر الشارح قول خديجة لما أخبرها الخبر: (إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) . وذكر أيضاً قول ورقة بن نوفل لما قص عليه القصة: (هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني فيها حياً إذ يخرجك قومك، ثم قال: لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) . وهذا لأنه كان قد قرأ الكتب وعرف ما فيها من صفة الأنبياء. وذكر أيضاً شهادة ملك الحبشة النجاشي لما سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه فقال: هذا والذي جاء به موسى ليخرج من إليم -يعني: من الله- أو: من مشكاة واحدة، فشهد له بأنه جاء بما جاء به موسى وعيسى والأنبياء قبلهما. وذكر أيضاً قصة هرقل لما سأل أبا سفيان عن تلك الأسئلة التي استدل بها على أنه رسول من الله، وأنه صادق فيما جاء به، ولاشك أن هذه الشهادات تؤكد صحة ما جاء به، وأنه مرسل من الله تعالى. وتأتي بقية الأدلة على هذه الشهادة عقلاً ونقلاً الجزء: 14 ¦ الصفحة: 19 دلائل أخرى في إثبات نبوة الأنبياء الجزء: 14 ¦ الصفحة: 20 الأحوال والقرائن الدالة على صدقهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومما ينبغي أن يعرف أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور قد لا يستقل بعضها به، بل ما يحصل للإنسان من شبع وري وشكر وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها، ولكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر، وكذلك العلم بخبر من الأخبار؛ فإن خبر الواحد يحصل للقلب نوع ظن، ثم الآخر يقويه، إلى أن ينتهي إلى العلم، حتى يتزايد ويقوى، وكذلك الأدلة على الصدق والكذب ونحو ذلك. وأيضاً فإن الله سبحانه أبقى في العالم الآثار الدالة على ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة، كثبوت الطوفان، وإغراق فرعون وجنوده، ولما ذكر سبحانه قصص الأنبياء نبياً بعد نبي في سورة الشعراء كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده يقول في آخر كل قصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:67-68] . وبالجملة فالعلم بأنه كان في الأرض من يقول: إنه رسول الله، وأن أقواماً اتبعوهم، وأن أقواماً خالفوهم، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين، وجعل العاقبة لهم، وعاقب أعداءهم؛ هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها. ونقل أخبار هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الأمم من ملوك الفرس وعلماء الطب كـ بقراط وجالينوس وبطليموس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأتباعه] . يقول: بمجموع دلائل النبوة يقوى التصديق بنبوة ذلك النبي، فالله تعالى يؤيد الأنبياء بمعجزات بمجموعها يعرف به صدق كل واحد منهم، ولو لم يكن إلا معجزة واحدة لتوقف الناس أو بعضهم في الصدق، ولكن إذا تأيدت المعجزة بمعجزة أخرى ثم جاءت ثالثة ثم رابعة وهكذا، فمجموعها بلا شك يثير في النفس انتباهاً، ويكون سبباً في التصديق وقوة اليقين. ثم ضرب لذلك مثلاً؛ بأن الإنسان لا يتأثر بكلمة، ولكن يتأثر بكلمات، وكذلك لا يشبع من لقمة واحدة، ولكن مجموع اللقم يشبعه، لا يروى عادة من جرعة واحدة حتى تجتمع جرعات. وكذلك لا يصدق الإنسان في الأمور الكبيرة بخبر شخص واحد حتى يجتمع عنده أشخاص، فالخبر الأول يثير في النفس انتباهاً، والخبر الثاني يقوي ذلك الذي في النفس، ولا يزال يقوى إلى أن يصير كالشمس يقيناً، فهكذا معجزات الأنبياء بمجموعها يحصل اليقين والتصديق بأن ما جاءوا به من الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 21 بقاء الآيات الدالة على الأنبياء وأقوامهم وقد ذكر الله أنه أرسل رسلاً من قبلنا، وأبقى آيات تدل على صدقهم، فقال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138] يعني: أماكنهم وآثارهم. وقال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52] ، وقال في آية أخرى: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ} [القصص:58] يعني أنهم أهلكوا وبقيت آثارهم، فتلك دلالة على أنه هلك قبلنا أمم كذبت، وأرسل إليها رسل، ونزلت عليها العقوبة، ونجى الله الرسل ومن آمن بهم، وأهلك المكذبين، وذكر الله أن من أولهم نوحاً عليه السلام، وأنه أنجاه في السفينة، فقال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت:15] يعني: أبقينا تلك السفينة تذكيراً وعبرة للناس إلى يوم الدين، يتذكرون بها تلك السفينة التي نجى فيها من آمن، وغرق من لم يؤمن. ويذكر أنا نعلم يقيناً بأنه وجد في الأرض أنبياء جاءوا برسالات، فصدقهم من صدقهم ممن أراد الله هدايته، وكذبهم من كذبهم ممن كتب الله عليهم الشقاوة. فنجى الله الأنبياء ومن آمن بهم، وأهلك الله المكذبين وانتقم منهم، نعلم ذلك يقيناً، ولو لم يقصه الله علينا. فقص الله علينا قصة نوح وقصة هود وقصة إبراهيم وعاد وثمود وقوم شعيب وأصحاب الأيكة، وقصة فرعون، قص الله هذه القصص، وذكر الشارح أن الله تعالى أمر بالاعتبار بها، فبعد قصة موسى قال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) ، وهكذا بعد قصة إبراهيم وقصة نوح، إلى آخر القصص في سورة الشعراء يقول: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) يعني: لعبرة وموعظة. فالحاصل أنا نعلم يقيناً بأن الله تعالى أرسل رسلاً، وأن أولئك الرسل مرسلون من الله، وأنه تعالى أيدهم بالمعجزات التي أجراها على أيديهم، وأعجزت البشر، وأعجزت أهل زمانهم، وحاولوا أن يعارضوها كما حكى الله عن فرعون لما رأى تلك الآيات مع موسى فاعتبرها سحراً، فجاء بالسحرة الذين ألقوا حبالهم وعصيهم، فخيل إلى موسى أنها تسعى، ولكن لما ألقى عصاه التقمت ذلك كله، فعرف السحرة أن هذا ليس سحراً، وأنه من الله تعالى؛ فآمنوا واستجابوا لذلك، فعند ذلك بطش بهم وقال: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71] . فهؤلاء لما كانوا ذوي معرفة بالسحر وعرفوا أن هذا لا يشبهه آمنوا. فالحاصل أنا نعلم يقيناً أن أنبياء الله تعالى صادقون فيما بلغوه، وأنهم جاءوا بالشرائع الإلهية التي منها الشريعة المحمدية وأنها والشرائع التي قبلها كلها متفقة على أصل واحد، وهو العقيدة والتوحيد، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] أي: كل منهم جاء بهذه الرسالة، وإنما تنوعت الشرائع في الأوامر والنواهي. فإذاً المسلم يعتقد صحة الرسالة، وأن الرسل صادقون، وذلك ركن من أركان الإيمان. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 22 إخبارهم بما سيكون ووقوعه قال رحمه الله تعالى: [ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم علمنا يقيناً أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة: منها: أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم. ومنها: ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم، إذا عرف الوجه الذي حصل عليه كغرق فرعون وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم؛ عرف صدق الرسل. ومنها: أن من عرف ما جاء به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها، تبين له أنهم أعلم الخلق، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل، وأن فيما جاءوا به من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم، ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم برٍ يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق] . زيادة على المعجزات التي أجراها الله تعالى على أيديهم هذه الآيات التي ذكرها، إذا تأملها المتأمل صدق بأنها من الله، وصدق بأنهم جاءوا من عند الله، وأنهم مرسلون صادقون فيما بلغوه. فأخبروا بأن الله يهلك المكذبين وينجي المصدقين ووقع ما أخبروا به، فأهلك الله أعداءه وأنجى أولياءه، كما حكى الله تعالى ذلك. وأخبروا بأن الله ينصر أولياءه ويخذل أعداءه، كما في قوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] ، فوقع ما أخبروا به، وأخبروا بأمور مستقبلة لم تقع فوقعت ووافقت ما أخبروا به سواء بسواء، وذلك دليل صدقهم وصحة رسالتهم. وأخبروا بأن هذه الشرائع من الله، وبالتأمل عرف صدقهم، حيث تواتر عن الأنبياء ما يدل على اتفاق شريعتهم، فصدق المتأخر منهم من قبله ووافق ما جاء به، وأيد المتقدم من يأتي بعده. فحكى الله عن عيسى أنه قال: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ} [آل عمران:5] ، وحكى عنه أنه قال: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] . وهكذا الرسل يصدق الأول منهم من قبله، ويبشر بمن بعده، أو يأمر بأن يتبع. ولاشك أن ذلك كله مع اجتماعه دليل صدق وصحة ما جاءوا به من الرسالة، وأنها من الله تعالى. ونحن نعلم يقيناً أنه كان في الأرض رسل، وكان لهم أمم، وجاءوا بشرائع وبلغوها لأممهم، وصدقهم مصدقون وكذبهم مكذبون، وبقيت شرائعهم بعدهم، ونجى الله المؤمنين وأهلك المكذبين، نعلم ذلك بالتواتر زيادة على خبر الله تعالى. ونعلم صدقهم بهذه المعجزات التي أجراها الله تعالى على أيديهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 23 شرح العقيدة الطحاوية [15] بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وجعله خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد المرسلين وحجة الله على جميع العالمين، وفضله على جميع خلقه، وأوجب على كل من سمع به أن يتبعه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1 الرسول صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولذكر دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات وبسطها موضع آخر، وقد أفردها الناس بمصنفات كـ البيهقي وغيره. بل إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم طعن في الرب تبارك وتعالى، ونسبته إلى الظلم والسفه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- بل جحد للرب بالكلية وإنكار، وبيان ذلك أنه إذا كان محمد عندهم ليس بنبي صادق، بل ملك ظالم، فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم، ويفرض الفرائض، ويشرع الشرائع، وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم، ويغنم أموالهم وذراريهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض، وينسب ذلك كله إلى أمر الله له به ومحبته له، والرب تعالى يشاهده وهو يفعل بأهل الحق، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة، ومع ذلك كله يؤيده وينصره، ويعلي أمره، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر. وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته، ويهلك أعداءه، ويرفع له ذكره، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والافتراء والظلم؛ فإنه لا أظلم ممن كذب على الله، وأبطل شرائع أنبيائه، وبدلها وقتل أولياءه، واستمرت نصرته عليهم دائماً، والله تعالى يقره على ذلك، ولا يأخذ منه باليمين، ولا يقطع من الوتين. فيلزمهم أن يقولوا: لا صانع للعالم ولا مدبر، ولو كان له مدبر قدير حكيم لأخذ على يديه، ولقابله أعظم مقابلة، وجعله نكالاً للصالحين؛ إذ لا يليق بالملوك غير ذلك، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين؟ ولا ريب أن الله تعالى قد رفع له ذكره، وأظهر دعوته والشهادة له بالنبوة على رءوس الأشهاد في سائر البلاد، ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذابين قام في الوجود وظهرت له شوكة، ولكن لم يتم أمره ولم تطل مدته، بل سلط الله عليه رسله وأتباعهم فقطعوا دابره واستأصلوه، فهذه سنة الله التي قد خلت من قبل، حتى إن الكفار يعلمون ذلك، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:30-31] ، أفلا تراه يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقوَّل عليه بعض الأقاويل، فلابد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24] ، وهنا انتهى جواب الشرط، ثم أخبر خبراً جازماً غير معلق أنه يمحو الباطل ويحق الحق، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء} [الأنعام:91] ، فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره] . بدأ الشارح أولاً ببيان أن دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة، وقد أفردت بالتآليف، وذكر منها ابن كثير في تاريخه في آخر السيرة الشيء الكثير، وتتبعها الكثيرون، ومن أوسع من توسع فيها البيهقي في (دلائل النبوة) الذي هو مطبوع، وكذلك أبو نعيم له أيضاً كتاب (دلائل النبوة) ، وهكذا غيرهم، وبمجموعها وبأكثرها يعلم ويتيقن أنه صلى الله عليه وسلم صادق فيما جاء به، فكيف بمجموعها مع كثرتها. ثم إن الشارح ضرب مثلاً في أن المكذبين لنبينا صلى الله عليه وسلم كاليهود والنصارى، وكذلك سائر المكذبين، لا شك أنهم قد سبوا الله وتنقصوه غاية التنقص من حيث لا يشعرون، وذلك بأن منهم من يقول بأنه كذاب -قاتلهم الله- فكثير من اليهود يدعون أنه كذاب وأنه مفترٍ، وكذلك أيضاً كثير من النصارى ومن الوثنيين وغيرهم، وآخرون يقولون: إنه رسول إلى العرب فقط وليس برسول إلى غيرهم، فرسالته خاصة. فيقال لهؤلاء -كما قال الشارح رحمه الله-: أنتم قد تنقصتم الله غاية التنقص، وذلك لأنكم ادعيتم أنه كذاب، والله تعالى ينصره وهو مع ذلك يتصرف هذه التصرفات وهو كذاب في زعمكم، ومع ذلك يدعي أنه مرسل من الله فيحلل أشياء ويحرم أشياء، ويبطش بالناس، ويقتل ويأسر ويوثق وينتقم، ويسبي الذراري، ويقتل الآباء، ويحبس، ويفتح البلاد، ويدوخ العباد، ويجول في الأرض كما هو الواقع، وهو مع ذلك كذاب مفترٍ بزعمكم، والله يؤيده ويقويه وينصره ويمده بالمعجزات ويمده بالملائكة التي تقويه، ويجيب دعواته، وينتصر له وهو يعلم أنه كذاب وأنه مفترٍ، فهذا بلا شك تنقص لله تعالى، وحكمة الله تأبى إلا أن ينتقم ممن كفر كما انتقم من الذين كذبوا الرسل فيما سبق وأحل بهم أنواع العقوبات، وأنزل بهم أنواع المثلات. وقد ذكر الله تعالى أنه ينتقم منه لو كذب، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-46] يعني: أنه لو كان متقولاً وكاذباً لانتقمنا منه وبطشنا به بطشاً شديداً، وأمتناه وقطعنا دابره كما فعلنا ذلك بمن كذب وافترى، فإنه ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بعض المفترين والكذابين ولكن ما متعوا، ومنهم رجل تسمى بـ الأسود العنسي الذي تنبأ في اليمن، ولكن ما لبث إلا ثلاثة أشهر حتى قتل، ومنهم مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة في آخر العهد النبوي وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وبايعه أكثر من مائة ألف، ولما غزاهم الصحابة في نحو عشرة آلاف أو أقل لم يقفوا دونهم، بل سلط عليه من قتله، فقتله عبد أسود، ثم بعد ذلك اضمحلت دعوته ولم يبق لها أثر، فهذه سنة الله فيمن كذب وافترى عليه. لكن رسالة هذا النبي الكريم باقية مستمرة، وهي الآن في القرن الخامس عشر، وهي مع ذلك -والحمد لله- تزداد قوة وعلواً وظهوراً، وأتباعه الذين ينتمون وينتسبون إلى رسالته لهم التمكن ولهم القوة، فكلما حققوا السير على طريقته والتمسك بسنته يتحقق فيهم قول الله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40] ، وقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر:51] وقوله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139] وقوله تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] . وتحقق ذلك كله في أتباع هذا النبي الكريم، فدل ذلك يقيناً على أنه صادق مصدق شهدت برسالته العقول، وشهدت بصدقه القلوب، وعرف ذلك الخاص والعام، وأظهر الله دينه كما وعد بذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] ، فصدق الله هذا الوعد وأظهره على الدين كله حتى دخل دين الإسلام في أكثر المعمورة وفي أكثر بقاع الأرض، وبقي ظاهراً جلياً كلما تمسك أهله به أظهرهم الله تعالى وقواهم، ولا شك أن هذا دليل على أن هذه الشريعة من الله، وأن الذي جاء بها هو الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 2 الفرق بين النبوة والرسالة قال المؤلف رحمه الله: [وقد ذكروا فروقاً بين النبي والرسول، وأحسنها أن من نبأه الله بخبر السماء إن أمره أن يبلغ غيره فهو نبي رسول، وإن لم يأمره أن يبلغ غيره فهو نبي وليس رسولاً، فالرسول أخص من النبي، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها، فالنبوة جزء من الرسالة، إذاً الرسالة تتناول النبوة وغيرها، بخلاف الرسل فإنهم لا يتناولون الأنبياء وغيرهم، بل الأمر بالعكس، فالرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها. وإرسال الرسل من أعظم نعم الله على خلقه، وخصوصاً محمداً صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]] . ذكر أن هناك فرقاً بين الرسول والنبي، وقد عطف الله بعضهم على بعض في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52] ، وأكثرهم على أن الرسول هو الذي يكلف بالتبليغ، فإذا لم يكلف بالتبليغ ولم يلزم بذلك فهو نبي وليس برسول. فإذاً الرسالة أخص، والأنبياء أكثر من الرسل، ولذلك ورد في عددهم أنهم أكثر من مائة ألف نبي، وأن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً، وقد ذكر الله في القرآن عدداً منهم، قال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] ، ولا شك أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء ورسالته هي خاتمة الرسالات وشريعته هي آخر الشرائع. ولا شك أن إرسال الرسل إلى أهل الأرض نعمة من الله؛ وذلك ليبلغوهم شرع الله عندما يعظم الجهل ويتراكم على القلوب، وتطول الغفلة، ويطول زمن الفترة، ويقع الناس في المعاصي والكفر، ويحق عليهم العذاب، عند ذلك يرسل الله إليهم رسلاً، فيرسل إليهم ذلك الرسول يبين لهم ما وقعوا فيه من الجهالات، وما أخطئوا فيه من الأعمال، ويدعوهم إلى الرجوع إلى ربهم وإلى ترك البدع والضلالات والشركيات، وإلى اتباع الشريعة والطاعة لله ولرسله، فإذا أصروا وعاندوا أهلكهم، وإذا آمنوا نصرهم وأيدهم وقواهم. وقد ذكر الله أن رسالة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام من أعظم المنن على هذه الأمة وأكبر النعم في موضعين في القرآن: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:164] ، وفي الموضع الآخر: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2] ، فذكر أن ذلك منة من الله عليهم حيث أصبح سبباً في انتشالهم من الجهالات وإخراجهم من الظلمات إلى النور، كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد:9] . فإذاً هذه الرسالة نعمة من الله، وقبله كان الناس في جهالة لا يعرفون لماذا ولا بماذا أمروا، ولا بماذا كلفوا، فيعبدون الأوثان، ويشركون بالله، ويستحلون المحرمات، وليس عندهم إيمان بالبعث والجزاء والنشور، ولا معرفة لحلال ولا حرام، فهم جهلة في غاية الجهل، فلما جاءت هذه الشريعة أصبحوا عارفين حق المعرفة فيهم، وزالت عنهم تلك الأمور الجاهلية، وأصبحوا ذوي معرفة وذوي إيمان، وتلك منة الله على عباده، فما عليهم إلا أن يشكروا ربهم على ما أعطاهم الله ووهبهم. قال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] ، فبعدما أخبر بأنه أرسل هذا الرسول ليبين لهم ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة أمرهم بذكره وبشكره، ولا شك أن مظهره أن يطيعوا هذا الرسول وأن يتبعوه وأن يعملوا بشريعته، وفائدته ونتيجته هي أن ينصرهم الله تعالى ويؤيدهم ويقويهم، ويعزهم ويظهر دينهم على الدين كله ولو كره المشركون. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 3 ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (وإنه خاتم الأنبياء) . قال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أُحسن بنيانه، وتُرك منه موضع لبنة، فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنائه إلا موضع تلك اللبنة، لا يعيبون سواها، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل) أخرجاه في الصحيحين. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لي أسماءً: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي) . وفي صحيح مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي) الحديث. ولـ مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) ] . فمن صفاته عليه الصلاة والسلام أنه خاتم الأنبياء، ولأجل ذلك صارت شريعته خاتمة الشرائع، وكذلك حكم ببقائها إلى أن تقوم الساعة لا تنسخها شريعة، ولا يأتي بعده نبي. فهذه الأدلة تدل على أنه آخر الأنبياء، والأنبياء قبله كثير، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] ، وقال تعالى: {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} [الملك:9] والنذر هم الأنبياء أو الرسل أو المنذرون لهم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 4 صلاحية التشريع وعمومه دليل على ختم الرسالة ولما علم الله تعالى فضيلة هذه الشريعة وميزتها وملاءمتها لكل زمان ولكل مكان، وصلاحيتها لكل جيل ولكل قطر ولكل أهل موطن، وعدم منافاتها للمصالح العامة والخاصة جعلها الله شريعة عامة، فكان من ضمن رسالة هذا النبي الكريم أن أرسل إلى الناس عامة قاصيهم ودانيهم، وأن جعلت رسالته خاتمة للرسالات بحيث لا ينسخها بعده من يأتي، وقد ذكر أنه يأتي بعده ابن مريم في قوله عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم عليه السلام حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، ولكنه يحكم بهذه الشريعة) فأصبحت هذه الشريعة من شرفها ومن صلاحيتها أنها هي آخر الشرائع، وأصبح هذا النبي لشرفه وميزته آخر الأنبياء، فهكذا نعتقد. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 5 كذب مدعي النبوة بعده صلى الله عليه وسلم وكل من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كذاب مهما كان، وفي الحديث الذي سبق أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي بعده ثلاثون كذاباً كلهم يزعم أنه نبي، ولكن سماهم كذابين، وهو عليه السلام آخر الأنبياء وخاتم الرسل. وقد ذكر بعض العلماء أنه خرج من هؤلاء الثلاثين عدد كثير، فقيل: إنه خرج منهم سبعة وعشرون أو ثمانية وعشرون. يعني: ما بقي إلا واحد أو اثنان، أي أن آخرهم المسيح الدجال الكذاب. ومراده أن من هؤلاء الثلاثين من يأتي بشبهات ويصدقه بعض العوام، ويقع بسببه فتنة، ويغتر وينخدع به أناس، ويكون له أتباع ومن يؤيده وينتصر له، ومن آخر من خرج أو تنبأ في هذه القرون غلام أحمد القادياني الذي ادعى أنه نبي، وادعى أنه يأتيه الوحي في البلاد الشرقية في الهند، وقد عظمت الفتنة به وانتشر أتباعه وسموا بالقاديانية، ولا يزالون متمكنين إلى هذا اليوم، ولا يزال العلماء يضللونهم ويردون عليهم ويبدعونهم ويبينون ضلالاتهم وأكاذيبهم، ومع ذلك لا يزالون منتشرين، مع أن دعوى ذلك الذي ادعى لنفسه أنه يأتيه الوحي لا شك أنها دعوى باطلة يكذبها أدنى من يتأمل بعقل وبأدنى معرفة. وقبله وقبله ولكن قد يجد من يتتبع التاريخ عدداً كثيراً قد يزيدون على المئات يدعون أنهم يأتيهم الوحي وأنهم أنبياء، حتى في زماننا هذا في الوقت القريب قد جاء أكثر من عشرة كلهم يدعون ذلك، ولكن غالب ذلك عن نقص في العقل، وعن وسواس يجعل في الرأس يخلف فكرة الإنسان، وعن وساوس شيطانية يخيل بها إلى ذلك الإنسان المدعي هذه الدعوى ويزين له الشيطان، ولا ينخدع الناس به ولا يعملون بقوله. وقد وقع هذا في القرون المتقدمة كثيراً، فإخباره أنه يخرج في أمته ثلاثون كذاباً يدعون أنهم أنبياء المراد به من لهم شبهات، ومن لهم قوة يتمكنون بها ويتبعهم فئام من الناس، وليس المراد كل من ادعى أنه نبي، ولكن من انخدع به ومن اغتر بمقالته. وعلى كل حال فالأدلة واضحة بأن محمداً عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء والرسل، ولا عبرة بمن جاء بعده وادعى ذلك، كما ذكر أن رجلاً سمى نفسه (لا) ، وادعى أنه نبي، وقال: إن محمداً يقول: (لا نبي بعدي) ، يعني: الشخص الذي اسمه (لا) نبي بعدي، ويرد عليه بالآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] . وهكذا ذكروا في زمن قريب أن امرأة ادعت أنها نبية، وقالت: إن محمداً يقول: (لا نبي بعدي) ولم يقل: لا نبية بعدي. ولا شك أن الرسالة جاءت في الرجال، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف:109] ، ولم يبعث الله النبوة إلا في الرجال، والصحيح أن مريم ابنة عمران إنما هي صديقة كما قال تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75] لم تصل إلى درجة النبوة ولم ينزل عليها الوحي، والوحي الذي أنزل على أمها إنما هو وحي إلهام، وكذلك الوحي الذي أنزل على أم موسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص:7] هذا وحي إلهام. وعلى كل حال فنبوة محمد هي آخر النبوات، وشريعته هي آخر الشرائع، والمتمسك بها -إن شاء الله- على سبيل النجاة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 6 إمامته صلى الله عليه وسلم للأتقياء قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (وإمام الأتقياء) . الإمام الذي يؤتم به أي: يقتدون به. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث للاقتداء به؛ لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] ، وكل من اتبعه واقتدى به فهو من الأتقياء] . هذه من صفاته عليه الصلاة والسلام، لا شك أن الإمامة معناها: القدوة، فالإمام هو الذي يقتدى به، وقد وصف الله إبراهيم بالأمة في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] يعني: قدوة يقتدى به. وقد امتدح الله عباده الذين يقولون: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] ، وكذلك قد جعل الله إبراهيم كذلك في قوله: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] . وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إماماً فإنه يقتدى به، والاقتداء به يعم الاقتداء به وبكل ماجاء به، سواء في العادات أو في العبادات، فإن كان من العبادات ومن القربات فالعبد يفعلها على أنها طاعة يحتسب الأجر فيها، فالطاعات والعبادات هي ما جاء بها عن ربه بالحلال والحرام، وجاء بالطاعات والحسنات، فنفعلها على أنها من سنته، فنحافظ على الصلوات فرائضها ونوافلها؛ لأنها جاءت في شريعته، وكذلك على الطهارة سواء بالماء أو بالتراب أو نحو ذلك، فهذه من شريعته نتبعه ونقتدي به فيها، وكذلك سائر العبادات كالصيام والصدقة والحج والجهاد والدعوة إلى الله والذكر والقراءة وما أشبهها، فهذه تفعل على أنها من العبادة يتبع فيها شرع هذا النبي الكريم، وأما العادات فنفعلها إذا نقلت عنه عليه الصلاة والسلام على أنها أولى من غيرها وإن كان غيرها جائزاً، والمراد بالعادات: الأمور التي كانت معمولاً بها قبل الإسلام. ومعلوم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قبل الإسلام كان يأكل ويشرب ويلبس وينام ويتزوج، وكذلك كان يدخل ويخرج، ويركب وينزل، ويسافر ويرحل، ويقيل، فالعادات هي الأمور المعتادة، فهذه العادات إذا فعلها العبد اقتداء واتباعاً ومحبة فقد يثاب عليها وإن كانت مما قد تستدعيه النفس، كما أخبر عليه الصلاة والسلام بأن العبد إذا فعلها اقتداء واتباعاً بنية صادقة أثيب عليها، فيثاب على طلبه الرزق من أجل أن يعف نفسه، ولأجل أن يقوت من تحت يده، ويثاب على إعفافه لزوجته وإن كان ذلك من الأمور الطبيعية، ويثاب على نفقته على أهله؛ لقوله: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي وجه الله إلا أجرت عليها) ، وإذا فعل ذلك على أنه عادة فلا ثواب ولا عقاب. وعلى كل حال فكونه عليه الصلاة والسلام إماماً لأمته وبالأخص المتقين منهم، فهذا يعم كل ما جاء به من الشرع، ويكون أتباعه في ذلك لهم النصيب الأكبر على هذا الاتباع. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 7 سيادته صلى الله عليه وسلم المرسلين وفضله عليهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وسيد المرسلين) . قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع) رواه مسلم. وفي أول حديث الشفاعة: (أنا سيد الناس يوم القيامة) ، وروى مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) . فإن قيل: يشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على موسى؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشاً بجانب العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله) أخرجاه في الصحيحين، فكيف يجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ؟ فالجواب أن هذا كان له سبب؛ فإنه كان قد قال يهودي: لا والذي اصطفى موسى على البشر فلطمه مسلم وقال: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذموماً، بل نفس الجهاد إذا قاتل الرجل حمية وعصبية كان مذموماً؛ فإن الله حرم الفخر. وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:55] وقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253] فعلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر، أو على وجه الانتقاص بالمفضول، وعلى هذا يحمل أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوا بين الأنبياء) إن كان ثابتاً، فإن هذا قد روي في نفس حديث موسى وهو في البخاري وغيره. ولكن بعض الناس يقول: إن فيه علة؛ بخلاف حديث موسى فإنه صحيح لا علة فيه باتفاقهم، وقد أجاب بعضهم بجواب آخر، وهو أن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على موسى) ، وقوله: (لا تفضلوا بين الأنبياء) نهي عن التفضيل الخاص، أي: لا تفضل بعض الرسل على بعض بعينه، بخلاف قوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) فإنه تفضيل عام فلا يمنع منه، وهذا كما لو قيل: فلان أفضل أهل البلد لا يصعب على أفرادهم، بخلاف ما لو قيل لأحدهم: فلان أفضل منك. ثم إني رأيت الطحاوي رحمه الله قد أجاب بهذا الجواب في شرح معاني الآثار] . وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد ولد آدم، وسيد الناس يوم القيامة وسيد المرسلين، ويطلق السيد على الشريف، وعلى المطاع، وعلى كبير القوم، وعلى أفضلهم أو من له حرمة فيهم الذي إذا أشار عليهم أطاعوه، والذي يحترمونه ويقدرونه، ويعرفون له ميزته وشرفه وفضله، وقد ورد ما يدل على النهي عن هذا الإطراء، ووردت أحاديث تدل على الإباحة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 8 التوفيق بين إخباره صلى الله عليه وسلم عن فضله والنهي عن تفضيله وسبق قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: (أنا سيد الناس يوم القيامة) ، وكذلك قوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) يعني: لا أقول ذلك افتخاراً، وإنما هو من باب التحدث بنعم الله، عملاً بقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] ، وذكر السبب وهو أن الناس يوم القيامة يطلبون من يشفع لهم، فيأتون آدم ثم نوحاً ثم إبراهيم وموسى وعيسى يطلبون منهم الشفاعة فكلهم يعتذر، حتى يأتون إليه عليه الصلاة والسلام فيكون بذلك سيداً حيث شفع، ولا شك أن هذا السبب الذي هو الشرف والمنزلة تُوجب له فضلاً وشرفاً. وأما دليل النهي فما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قيل له: (أنت سيدنا، قال: السيد الله) ، وفي حديث وفد بني عامر عن عبد الله بن الشخير قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا سيدنا وابن سيدنا، فقال: السيد الله، فقالوا: أفضلنا فضلاً، وأعظمنا قولاً. قال: قولوا بقولكم أو ببعض قولكم) إلى آخره. ولعل الجمع بينهما أن نهيه عن قولهم: (سيد) هو مخافة أن يغلوا فيه؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية، فخاف أنه إذا أقرهم على هذه اللفظة أعطوه من خالص حق الله فمنعهم وقال: (السيد الله) ، وأمرهم بأن يقولوا: (عبد الله ورسوله) ، ولا يتكلموا بألفاظ فيها من الزيادة والغلو، هكذا أخذ بعض العلماء، وهو جواب مقارب، وهو أنه فيمن يخاف عليهم الغلو، ومع ذلك فإن أفضل ما يوصف به اللفظ الذي اختاره لنفسه، وهو العبودية مع الرسالة والنبوة، وصفه الله بالعبودية وبالرسالة وبالنبوة، فهذه الأوصاف التي وردت له في القرآن، فنقول: نبي الله، وعبد الله، ورسول الله، وهذا ولا يمنع أن نقول: سيدنا وسيد ولد آدم. وقد مر في كلام الشارح أنه قد يعتذر أحد ويقول: كيف يكون سيد المرسلين وأفضل النبيين، وهو عليه الصلاة والسلام قد اعترف بأن موسى أفضل منه، حيث قال: (لا تفضلوني على موسى) ؟ وأجاب الشارح كما سمعنا أن هذا في الرد على من يتعصب لشخص بعينه؛ فإن ذلك الأنصاري رضي الله عنه غار عندما سمع اليهودي يقول: والذي اصطفى موسى على البشر. فغار ولطم اليهودي، وقال: تقول هذا ومحمد بين أظهرنا؟ يعني أنه أشرف، وأنه الذي اصطفاه الله على البشر، فأمر بألا يفاضل بين الأنبياء، وأمر بألا يفضل على موسى من باب الاعتراف بفضل موسى، ومن باب التواضع منه عليه الصلاة والسلام، وإلا فقد عرف بأنه أفضل من غيره، ولو لم يكن من فضله إلا أنه الذي يشفع، والذي يبعثه الله مقاماً محموداً، والذي تقبل شفاعته فيقال له: (ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع) . وكذلك ذكر السبب، وهذا السبب قد يكون مبرراً ولكن لا يقصد الفضل، فكون الناس يصعقون يوم القيامة الصعقة المذكورة في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] فأخبر بأن الناس يصعقون وبأنه أول من يفيق ويرفع رأسه عليه الصلاة والسلام، لكن يجد موسى قد أفاق قبله وقد أخذ بقائمة العرش، فيقول: (لا أدري هل أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله، أم جوزي بصعقة الطور) ، وصعقة الطور في قوله تعالى: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:143] يعني: أن تلك الصعقة صارت حظه من الصعق، فلم يصعق لما صعقوا، أو هو ممن استثنى الله في قوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] يعني: أنه ممن لم يصعق، أو أنه أفاق قبله، وإذا كان ممن أفاق قبله كان له مزية، أما إذا جوزي أو كان ممن استثنى الله فلا يدل ذلك على ميزة أو على فضل على محمد عليه الصلاة والسلام. وبالجملة فمحمد عليه الصلاة والسلام أفضل الرسل، وأمته أفضل الأمم، بل وأكثرهم دخولاً الجنة، فالذين يدخلون من أمته الجنة أكثر من أمة موسى وغيره من الأنبياء. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 9 الكلام على المفاضلة بين محمد ويونس عليهما السلام قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفضلوني على يونس) وأن بعض الشيوخ قال: لا يفسر لهم هذا الحديث حتى يعطى مالاً جزيلاً، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله وهو في بطن الحوت، كقربي من الله ليلة المعراج، وعدوا هذا تفسيراً عظيماً. وهذا يدل على جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظاً ومعنى، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها، وإنما اللفظ الذي في الصحيح: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) ، وفي رواية: (من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب) ، وهذا اللفظ يدل على العموم، أي: لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه على يونس بن متى، وليس فيه نهي المسلمين أن يفضلوا محمداً على يونس؛ وذلك لأن الله تعالى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم، أي: فاعل ما يلام عليه. وقال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] . فقد يقع في نفس بعض الناس أنه أكمل من يونس، فلا يحتاج إلى هذا المقام؛ إذ لا يفعل ما يلام عليه، ومن ظن هذا فقد كذب، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال يونس: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] ، كما قال أول الأنبياء وآخرهم، فأولهم آدم قد قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] . وآخرهم وأفضلهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح حديث الاستفتاح من رواية علي بن أبي طالب وغيره بعد قوله: (وجهت وجهي) إلى آخره قال: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلا أنت) إلى آخر الحديث. وكذا قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16] ، وأيضاً فيونس صلى الله عليه وسلم لما قيل فيه: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48] فنُهي نبينا صلى الله عليه وسلم عن التشبه به، وأمره بالتشبه بأولي العزم؛ حيث قيل له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ، فقد يقول من يقول: أنا خير منه، وليس للأفضل أن يفتخر على من دونه، فكيف إذا لم يكن أفضل؛ فإن الله لا يحب كل مختال فخور. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد) ، فالله تعالى نهى أن يفخر على عموم المؤمنين، فكيف على نبي كريم؟! فلهذا قال: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) ، فهذا نهي عام لكل أحد أن يتفضل ويفتخر على يونس. وقوله: (من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب) فإنه لو قدر أنه كان أفضل فهذا الكلام يصير نقصاً، فيكون كاذباً، وهذا لا يقوله نبي كريم، بل هو تقدير مطلق، أي: من قال هذا فهو كاذب وإن كان لا يقوله نبي كما قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] ، وإن كان صلى الله عليه وسلم معصوماً من الشرك، لكن الوعد والوعيد لبيان مقادير الأعمال. وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد آدم لأنا لا يمكننا أن نعلم ذلك إلا بخبره؛ إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله، كما أخبرنا هو بفضائل الأنبياء قبله صلّى الله عليهم وسلم أجمعين، ولهذا أتبعه بقوله: (ولا فخر) كما جاء في رواية، وهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن مقام الذي أسري به إلى ربه وهو مقرب معظم مكرم كمقام الذي ألقي في بطن الحوت وهو مليم؟! وأين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب؟ فهذا في غاية التقريب، وهذا في غاية التأديب، فانظر إلى هذا الاستدلال؛ لأنه بهذا المعنى المحرف اللفظ لم يقله الرسول، وهل يقاوم هذا الدليل على نفي علو الله تعالى عن خلقه الأدلة الصحيحة الصريحة القطعية على علو الله تعالى على خلقه التي تزيد على ألف دليل، كما يأتي الإشارة إليها عند قول الشيخ رحمه الله: (محيط بكل شيء وفوقه) إن شاء الله تعالى] . في هذا الشرح الطويل رد على بعض علماء الأشاعرة، وهو الجويني، ذكروا أنه استدل بقوله في الحديث: (لا تفضلوني على يونس) استدل به على مسألة نفي العلو، أن الله ليس فوق عرشه وليس فوق عباده، وفسر ذلك بأن يونس في وسط البحر ومحمد فوق السموات السبع، وكلاهما بالنسبة إلى الله سواء، يعني: كلاهما في القرب منه سواء، فالذي في لجة البحر والذي فوق سبع سماوات كلاهما في القرب من الله سواء، استدل الجويني بهذا على أنه ليس الرب تعالى فوق العرش ولا فوق السموات، كقولهم: إن الله في كل مكان -تعالى الله عن قولهم-، ورد عليهم الشارح بما سبق، وبين أن هذه مقالة شنيعة من وجوه: أولاً: أن الحديث لم يثبت بهذا اللفظ: (لا تفضلوني على يونس بن متى) ، وإنما الذي ثبت قوله: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) . وسبب الحديث أنه قد يقول رجل: أنا خير من يونس، فيونس ذهب مغاضباً وظن ألن يُقدر عليه، ويونس نبذ بالعراء وهو مذموم، ويونس التقمه الحوت، فأنا خير منه إذا ما فعلت هذه الأفعال، فقد يقول ذلك بعض الناس، فنهاهم وقال: لا تقولوا؛ فإن يونس نبي من أنبياء الله أجرى الله على يديه هذه الآيات وهذه المعجزات؛ حيث إنه التقمه الحوت ولم يمت في بطن الحوت، ولبث في بطنه مدة ولم يمت، وكذلك أمر الله الحوت أن ينبذه على ساحل البحر، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، وأرسله إلى قومه وهم مائة ألف أو يزيدون فآمنوا، فله فضائل، ولو أنه قد اعترف بالظلم، نقول: هذا الظلم لا ينقصه، بل نبينا عليه السلام قد اعترف بالظلم، وكذلك أبوه آدم قد اعترف بقوله: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} [الأعراف:23] إلى آخره، فلا ينبغي أن يغتر بهذه اللفظة المنقولة عن هذا الرجل الذي هو الجويني، ذكروا أنه قال: في هذه الآية دليل على أن الله ليس فوق العرش في هذا الحديث، ولا أفسره حتى تجمعوا لي مالاً، فجمعوا له أموالاً وأعطوه إياها، فلما فسرها لهم هذا التفسير أعجبوا به غاية الإعجاب، وهو تفسير بعيد عن الصواب. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 10 الكلام على المحبة والخلة وثبوتهما لمحمد عليه السلام قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (وحبيب رب العالمين) . ثبت له صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المحبة وهي الخلة، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ، وقال: (ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن) ، والحديثان في الصحيح، وهما يبطلان قول من قال: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد، فإبراهيم خليل الله ومحمد حبيبه. وفي الصحيح أيضاً: (إني أبرأ إلى كل خليل من خلته) ، والمحبة قد ثبتت لغيره، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] ، وقال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] ، فبطل قول من خص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد، بل الخلة خاصة بهما، والمحبة عامة، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه الترمذي الذي فيه: (إن إبراهيم خليل الله، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر) لم يثبت. ] مشتهر عند غلاة الصوفية ونحوهم أن المحبة أعلى من الخلة، وأنها أعلى الصفات؛ ولأجل ذلك يبالغ أهل السلوك وأهل التصوف في وصف المحبة وفي آثار المحبة ونحو ذلك، ولهم فيها أقوال في تعريفاتها، وقد بحث معهم ابن القيم رحمه الله في بعض كتبه في تعريف المحبة، كما في كتابه الذي كتبه في المحبة واسمه (روضة المحبين) ، وكذلك في كتابه الذي سماه (مدارج السالكين) ، عند باب المحبة، وكذلك في كتاب (طريق الهجرتين وباب السعادتين) ، فإنه تكلم في هذه الكتب على المحبة ونقل عن أهل السلوك وأهل التعبد وأهل التصوف تعريفات لها حتى أوصلها إلى ثلاثين تعريفا، وانتهى إلى أن قال: إن المحبة كاسمها لا تحتاج إلى تعريف ولا تزيدها التعريفات إلا غموضاً، فالمحبة كلمة محبوبة لذيذة، وكلمة معروفة عند السامع لا تحتاج إلى تفكير. ولا شك أن صفة المحبة تثبت بين المؤمنين في حق الله على المؤمنين، وفي حقهم من الله لهم، ومن بعضهم لبعض، فثبت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) . وفي حقوق المسلم لأخيه: أن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، وكما في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، فهذه هي المحبة من المؤمن لأخيه، ولكن لها آثار، وذلك لأنك إذا أحببت أخاك كان من آثار ذلك أن توده وأن تقترب منه، وأن تدله على خير ما تعلمه وتحذره عن شر ما تعلمه، هذه آثار تلك المحبة، فمن كان صادقاً فإنها تظهر عليه آثارها. وأما محبة الله تعالى لعباده فهي المحبة المطلوبة، يقول في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ويده التي يمشي بها) وكذلك الآيات التي سبقت فيها إثبات أن الله يحب من هذه صفته، ومثلها كثير، كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} [الصف:4] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42] وأشباه ذلك كثير، فإذاً الله تعالى يحب عباده المؤمنين الذين هذه صفاتهم، وآثار محبته أنه يوفقهم ويسددهم، فكل المؤمنين يحبون الله تعالى. والرسول عليه الصلاة والسلام قد أخبر بأنه يحب أشخاصاً، ومن ذلك قوله في حق علي: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله) فأعطاها علياً. ولا شك أن المؤمنين كلهم يعرفون أنهم يحبون الله حباً شديداً، وأن سبب محبتهم له أنه أعطاهم وخولهم وأنعم عليهم وهداهم، وأنه هو ربهم ومالكهم وسيدهم والمتصرف فيهم، وأنه المستحق لأن يعبد ويصلى له ويسجد، وأنه الذي بيده الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وهو الذي يثيب ويعاقب، فكانت هذه الأسباب لمن يحب ربه، وقد تكلمنا على محبته فيما سبق وأن لها آثاراً، وأن البعض من الناس يقولون: إنهم يحبون الرسول ويحبون الله، وأن هناك آية تفضحهم تسمى آية المحنة، وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] ، وهكذا قول الشاعر: تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا عجيب في الفعال بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع فإذاً: ليست المحبة خاصة بالأنبياء، بل الله يحب المؤمنين والمتقين، ولا يحب محمداً أو نبياً من الأنبياء فحسب، بل يحب عباده كلهم إذا كانوا صالحين مصلحين محسنين مؤمنين تائبين قانتين مطيعين له متطهرين مقاتلين في سبيله، وغير ذلك من الصفات التي رتب المحبة عليها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 11 الخلة وموقعها من المحبة وأما الخلة فهي أعلى أنواع المحبة، يقول الشاعر: قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلاً فالخلة أعلى أنواع المحبة، وقد أثبتها الله تعالى لإبراهيم في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125] ، وثبت الحديث الذي سبق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ، فالخليلان هما محمد وإبراهيم حازا هذه المرتبة التي هي أعلى أنواع المحبة. وقد تطلق الخلة فيما بين الآدميين، فقد حكى الله عن قول بعض الكفار وهو في النار: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] يعني: أحبه محبة قوية. وكذلك أخبر عن أهل المحبة الدنيوية وسماهم أخلاء، قال تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] ، وعلى هذا فالخلة أعلى أنواع المحبة، وقد ثبتت من الله تعالى لإبراهيم ثم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فهما الخليلان. فمن يقول: إن محمداً حبيب الله، وإن إبراهيم خليل الله، وإن المحبة أعلى من الخلة فقد أخطأ، بل الخلة أعلى من المحبة فهي أعلى صفاتها، وإبراهيم ومحمد كلاهما خليل الله تبارك وتعالى، وبقية المؤمنين والمتقين أحباء الله تعالى الذين يحبهم ويحبونه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 12 مراتب المحبة وما يوصف الله تعالى به منها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمحبة مراتب: أولها: العلاقة، وهي تعلق القلب بالمحبوب. الثانية: الإرادة، وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له. الثالثة: الصبابة، وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه كانصباب الماء في الحدور. الرابعة: الغرام، وهي الحب اللازم للقلب، ومنه الغريم لملازمته، ومنه: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان:65] . الخامسة: المودة والود، وهي صفو المحبة وخالصها ولبها، قال تعالى: {سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] . السادسة: الشغف، وهي وصول المحبة إلى شغاف القلب. السابعة: العشق، وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه، ولكن لا يوصف به الرب تعالى ولا العبد في محبة ربه، وإن كان قد أطلقه بعضهم. واختلف في سبب المنع، فقيل: عدم التوقيف. وقيل غير ذلك، ولعل امتناع إطلاقه أن العشق محبة مع شهوة. الثامنة: التتيم. وهي بمعنى (التعبد) . التاسعة: التعبد. العاشرة: الخلة، وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه. وقيل في ترتيبها غير ذلك، وهذا الترتيب تقريب حسن لا يعرف حسنه إلا بالتأمل في معانيه. واعلم أن وصف الله تعالى بالمحبة والخلة هو كما يليق بجلال الله تعالى وعظمته كسائر صفاته تعالى، وإنما يوصف الله تعالى من هذه الأنواع بالإرادة والود والمحبة والخلة حسبما ورد النص. وقد اختلف في تحديد المحبة على أقوال نحو ثلاثين قولاً، ولا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء، وخفاء هذه الأشياء الواضحة لا تحتاج إلى تحديد كالماء والهواء والتراب والجوع والشبع ونحو ذلك] . هذا من جملة كلام أهل السلوك الذين يتكلمون في العبادات القلبية، وقد أشرنا إلى أن ابن القيم رحمه الله قد أشار إلى ذلك في كتبه، في (روضة المحبين) ، وفي (طريق الهجرتين) ، وفي (مدارج السالكين) ، وذكر تعريفات للمحبة، وذكر أيضاً ترتيبات المحبة أو أقسامها، وهي هذه الأقسام العشرة التي أولها العلاقة، ثم الصبابة، إلى آخرها التي هي الخلة، وجعل هو وغيره هذا الترتيب تقريبياً، ومنهم من قدم بعضها على بعض، ولا شك أنها أسماء لأنواع من المحبة، أي: أن منها ما يكثر استعماله ومنها ما لا يكثر، ومنها ما لا يجوز إطلاقه على الله تعالى كالعشق، والصحيح ما علله به من أنه محبة مع شهوة. والله تعالى يوصف بالمحبة وبالخلة وبالإرادة وبالمودة، يوصف بهذه الأربعة من العشرة، أما البقية فلم ترد، فلا يجوز أن تستعمل في حق الله تعالى، فالصبابة مثلاً والعلاقة والعشق وما أشبهها، هذه مستعملة اصطلاحياً في أنواع من المحبة. ولا شك أن المحبة أمر قلبي يجده الإنسان من قلبه، حيث يميل إلى المحبوب بعض الميل، ويعرض محبوبه على نفسه أو يواسيه بنفسه، ويكون له من الأثر ذلك الميل، وهناك بعض الأسباب التي استدعت ذلك، وقد تكون أسباباً ظاهرة كإحسان ونحو ذلك؛ فإن القلوب تألف وتحب من أحسن إليها، والله تعالى هو الذي أحسن إلى عباده، وهو الذي خولهم وأعطاهم، فإذا أحبوه كان سبب المحبة هو الإحسان، كما أنك تحب من أحسن إليك. وقد تكون المحبة لأسباب قاصرة غير متعدية، كأن تحب أي إنسان لصلاحه وإن لم ينلك منه نفع دنيوي، ولكن رأيته صالحاً وتقياً وزاهداً وورعاً وعابداً فأحببته لذلك، وجعلت محبتك له عبادة تؤمل الثواب عليها، حيث إنه يحب الله وأنت تحبه فتحب من يحبه. وهكذا محبتنا لربنا لا شك أن أعظم أسبابها كونه الذي يملك العباد، وهو الذي يتصرف فيهم، فهذه من أسباب محبتهم له، وأنه هو الذي وعد من أحبه وعبده بالثواب، ومن لم يفعل ذلك توعده بالعقاب، فكان هو أهل المحبة وأهل المودة التي تحبه القلوب وتوده، ويكون لها آثار كما سبقت الإشارة إليه، وأن الذي يحب الله تعالى يطيعه ويعبده، وتظهر آثار ذلك على البدن في كثرة عبادته، وفي نضرة خلقته، وفي تأثره بذلك من كثرة العبادة ونحوها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 13 حكم دعوى النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وكل دعوى النبوة بعده فغيّ وهوى) . لما ثبت أنه خاتم النبيين علم أن من ادعى بعده النبوة فهو كاذب، ولا يقال: فلو جاء المدعي للنبوة بالمعجزات الخارقة والبراهين الصادقة كيف يقال بتكذيبه؟ لأنا نقول: هذا لا يتصور أن يوجد، وهو من باب فرض المحال؛ لأن الله تعالى لما أخبر أنه خاتم النبيين فمن المحال أن يأتي مدّع يدّعي النبوة ولا تظهر أمارة كذبه في دعواه. والغي: ضد الرشاد، والهوى: عبارة عن شهوة النفس، أي أن تلك الدعوة بسبب هوى النفس لا عن دليل، فتكون باطلة] . قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، أي: آخرهم، وبذلك نعرف أن كل من ادعى أنه نبي فدعواه غي، أي: خطأ ضد الرشد، فدعواه خطأ وباطل وضلال وبعيدة عن الصواب والصدق، فمن ادعى أنه نبي فهو كاذب ولو موه على الناس ولو أتى بما يخرق العادة، ولو أتى بما يعجز الناس ظاهراً، ولو فعل ما يفعله السحرة والمشعوذون ونحوهم وادعى أنه ينزل عليه الوحي، فنقول: هذه التي تراها من الشياطين، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم، فالشياطين يوحي بعضهم إلى بعض، وقد تنزل إلى أوليائها، وقد تخدع العبد وتصور له أنها من الله وأن ما تجيء به حق وأنه نبي، فيخيل إليه أنه ينزل عليه الوحي كما ينزل على الأولياء. وقد وقع ذلك لمن تنزلت عليهم الشياطين، فروي أن رجلاً قال لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه! قال: (صدق، قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121] ) يعني أن الذي نزل عليه الشيطان، وهذا مع أنه صهره، إذ أخت المختار زوجة عبد الله، وهي صبية بنت أبي عبيد، فهذا مثال في أن الشياطين تنزل على بعض الناس، وتخدعهم بأنها وحي من الله، وأن ما تأتي به حق ونحو ذلك. وقد ذكرنا الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنه سيكون بعدي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي) ، وأن بعض العلماء ذكر أن الذي خرج منهم سبعة وعشرون، وأن من آخرهم الكذاب الذي خرج من بعض البلاد الهندية وسمى نفسه (غلام أحمد القادياني) ، وتبعه وصدقه واقتدى به خلق كثير، وادعى أنه نبي، وخلق كثير قبله وصلوا إلى هذا العدد، والبقية لابد أن يأتوا كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وآخرهم الدجال الكذاب الذي يدعي أنه رب، ويأتي بشعوذة خارقة يجريها الله تعالى على يديه فتنة، إلا من ثبته الله تعالى وعرفه بالحق. وعلى هذا نقول: لو أتى بما أتى به الدجال من كونه -مثلاً- يمر على القرية الهامدة الميتة فيصيح بأهلها فيتبعونه كيعاسيب النحل -والنحل لها يعسوب وهو كبيرها. فهذا من الفتنة، ومن الفتنة أيضاً كونه يقتل الرجل حتى يقطعه قطعتين ثم يقول له: قم، فيقوم حياً، ومع ذلك لا يزيده إلا بصيرة ومعرفة بأنه الدجال الكذاب. بهذا نعرف أنه قد يجري على يد بعض الكذابين شيء من الشعوذة وذلك من الشيطان، فالشيطان يموه على الأعين حتى يري بعض الناس أشياء شبه خارقة للعادة تشبه معجزات الأنبياء، كما يفعله بعض السحرة من كونه مثلاً قد يجر سيارة بشعرة من الشعر، أو يقف تحت السيارة ويحملها بيده أمام الناس والناس ينظرون، أو تمر السيارة على رأسه ولا تضره، ولا شك أن ذلك شعوذة على أعين الناظرين، ولا عبرة بمن أقر ذلك أو رآه، وقد حدث ذلك في عهد الصحابة، كما ذكروا أن ساحراً كان عند بعض ملوك بني أمية وكان يموه على الحاضرين، فيقطع رأس الإنسان ثم يعيده، فعمد بعض الصحابة إلى سيف احتضنه، فقرب من ذلك الساحر فلما وصل إليه ضربه بالسيف حتى قطع رأسه، وقال له: أحي نفسك إن كنت صادقاً. ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حد الساحر ضربه بالسيف) ، فهذا جزاؤه حيث موه على الأعين، ولم يقدر على ذلك الصحابي -وهو جندب بن عبد الله البجلي - لما استعاذ من الشيطان ولما تحصن بالله تعالى، فلم يرد عليه فعل ذلك المشعوذ ولم يكتشفه. فهذا مثال على أن ما يظهر على يدي بعضهم من الشعوذة ومن التمويه على الناس فهو من الشياطين التي تظهر أمام الناظرين في صور مختلفة حتى توهمهم بأشياء خارجة عن قدرة البشر ولا حقيقة لها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 14 عموم رسالته صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء) . أما كونه مبعوثاً إلى عامة الجن فقد قال تعالى حكاية عن قول الجن: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ} [الأحقاف:31] وكذا سورة الجن تدل على أنه أرسل إليهم أيضاً، قال مقاتل: لم يبعث الله رسولاً إلى الإنس والجن قبله. وهذا قولٌ بعيد، فقد قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] الآية. والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسول، كذا قال مجاهد وغيره من السلف والخلف. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر. وظاهر قوله تعالى حكاية عن الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] الآية تدل على أن موسى مرسل إليهم أيضاً. والله أعلم. وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم أنه زعم أن في الجن رسلاً، واحتجّ بهذه الآية الكريمة، وفي الاستدلال بها على ذلك نظر؛ لأنها محتملة وليست بصريحة، وهي - والله أعلم - كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] ، والمراد من أحدهما. وأما كونه مبعوثاً إلى كافة الورى، فقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:28] ، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] ، وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] أي: وأنذر من بلغه. وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء:79] ، وقال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2] ، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] ، وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران:20] . وقال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) أخرجاه في الصحيحين. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) رواه مسلم، وكونه صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الناس كافة معلوم من دين الإسلام بالضرورة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 15 بعثته إلى الجن وفي هذا أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الجن والإنس، ورسالته إلى الجن واضحة من الأدلة، وقد ثبت في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن وقرأ عليهم سورة الرحمن، فكان كل ما مر بهذه الآية: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قالوا: لا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد. هكذا ورد في الحديث. وكذلك ثبت في حديث ابن مسعود أنه أخبر بأنه صلى الله عليه وسلم ذهب ليلة إلى الجن، وسمع ابن مسعود كلامه معهم، وذكر أنهم سألوه طعاماً وسألوه علفاً لدوابهم، فقال لهم: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، وكل بعرة علف لدوابكم) ، ونهى عن الاستنجاء بهما، وروي أن الجن استمعوا إليه لما جاء من الطائف، فعجبوا من سماع ما أنزل إليه، ونزلت فيهم الآيات التي في آخر الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29] ، ونزلت فيهم أول سورة الجن التي أنزلت باسمهم. ولا شك أن كل ذلك دال على أنه صلى الله عليه وسلم بعث إليهم، والأنبياء الذين كانوا قبله كانوا يبعثون إليهم، وإنما في الجن نذر كما في الآية التي في الأحقاف، وهي قوله: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] ، فليس في الجن رسل، وإنما فيهم نذر يأخذون العلم ويأخذون الرسالة عن الرسل من الإنس فينبئون قومهم، وقد ذكر في سورة الجن أن فيهم أخياراً وأشراراً في قولهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن:11] ، وفي قولهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن:14-15] ، فهذا دليل على أنه فيهم شقياً وسعيداً، ومقرباً وبعيداً، وأن فيهم مؤمناً وغير مؤمن. ولا شك أن الرسالة التي بلغها النبي صلى الله عليه وسلم فيها أحكام تناسبهم، والله أعلم بما يناسبهم في صيامهم وصلاتهم، وغير ذلك من أحكامهم، وهكذا تناكحهم وغير ذلك، فلهم أحكام تخصهم، وهي واضحة فيما بينهم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 16 رسالته إلى الإنس وعمومها أما رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الإنس، فلا شك أنه مرسل إلى الإنس وأنه رسول إليهم، وأنه عام الرسالة وليس خاصاً إلى قومه قريش، ولا إلى العرب، ولا إلى أهل جزيرة من الجزر، بل عام لكل من على وجه الأرض ممن بلغته الدعوة من الإنس، دل على ذلك النصوص التي فيها خطاب الناس جميعاً، فإن قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ َ} [البقرة:21] فيه عام لكل إنسي، وكذلك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [النساء:1] ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] ، فالخطابات بـ (يا أيها الناس) تدل على أنه مأمور بأن يبلغ الناس كلهم ما أنزل إليه. وهكذا قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] ، يخاطب الناس كلهم ويقول: إني رسول الله إليكم جميعاً، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:28] أي: للناس كلهم، وكذلك الآيات التي سبقت في قوله تعالى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] ، وقوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] ، والعالمين: كل من على وجه الأرض من الخلق الذين لهم معرفة ولهم إدراك، وهم جنس بني آدم. والدليل على ذلك أيضاً فعله، فهو عليه الصلاة والسلام لم يخص رسالته بقومه ولا بالعرب ولا بأهل الجزيرة، فإذاً ليست رسالته خاصة بالعرب كما يقول علماء النصارى، فالنصارى لما رأوا مميزاته، ولما رأوا أنه انتصر وظهر دينه وتأيد وتمكن وعلا على الأديان كلها وحقق الله قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] بهتوا، فلم يجدوا بداً من تصديقه، ولكنهم قالوا: هو رسول وهو صادق، ولكن ليس رسولاً إلينا، بل هو رسول إلى العرب. و الجواب كذبتم، فلو كان رسولاً إلى العرب لما دعا غيرهم، فكيف يقول: إني رسول إلى الناس جميعاً وهو رسول إلى العرب، والرسول لا يكذب، ولا يرسل الله كذابا، فأنتم الآن كذبتموه وزعمتم أنه قال: إني رسول الله إلى الناس جميعاً، مع أنه ليس رسولاً إلا إلى العرب، فإذاً هو قد كذب، وإذا صدقتموه فصدقوه في كل شيء، فلا تؤمنون ببعض وتكفرون ببعض، ولا تصدقوه ببعض قوله دون بعض. ثم سبق أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث كتبه إلى ملوك زمانه، فبعث إلى النجاشي ملك الحبشة التي تعرف الآن بـ (أثيوبيا) ، وبعث إلى المقوقس ملك مصر ويمتد ملكه إلى بعض الدول الأفريقية ومع ذلك كانوا نصارى أيضاً، وبعث إلى ملك الروم الذي هو هرقل، وكان في دمشق الشام، ويملك الشام كله وما وراءه إلى بلاد تركيا وإلى ما وراءها، وبعث إلى ملك الفرس الذي هو كسرى، وكان الفرس آنذاك مجوساً، وكان يملك العراق وبلاد فارس كلها وما اتصل بها من وراء النهر، أي: البلاد الشرقية كلها، فبعث إليهم جميعاً يدعوهم إلى الإسلام، فدل على أنه مبعوث إلى كل الناس. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت إلى الأحمر والأسود) يعني: بعثت إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم، والأحاديث كثيرة، فعلى هذا تكون رسالته عامة؛ لأنه خاتم الأنبياء، وإذا كان خاتم الأنبياء لزم أن يكون مرسلاً إلى الناس كلهم؛ لأنه ليس بعده نبي، فلا يليق أن تهمل الأمم الأخرى والدول الأخرى النائية التي في أطراف البلاد التي لا يأتيها رسول ولا يكون مرسلاً إليها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وكافة الورى) في جر (كَافَّة) نظر؛ فإنهم قالوا: لم تستعمل (كافة) في كلام العرب إلا حالا، واختلفوا في إعرابها في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّة لِلنَّاسِ} [سبأ:28] على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها حال من (الكاف) في (أرسلناك) ، وهي اسم فاعل، والتاء فيها للمبالغة، أي: إلا كافاً للناس عن الباطل. وقيل: هي مصدر (كف) ، فهي بمعنى (كفاً) أي: إلا أن تكف الناس كفاً، ووقوع المصدر حالاً كثير. الثاني: أنها حال من (الناس) . واعترض بأن حال المجرور لا يتقدم عليه عند الجمهور، وأجيب بأنه قد جاء عن العرب كثيراً فوجب قبوله، وهو اختيار ابن مالك رحمه الله، أي: وما أرسلناك إلا للناس كافة. الثالث: أنها صفة لمصدر محذوف، أي: رسالة كافة. واعترض بما تقدم أنها لم تستعمل إلا حالاً. وقوله: (بالحق والهدى وبالنور والضياء) هذه أوصاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين والشرع المؤيد بالبراهين الباهرة من القرآن وسائر الأدلة، والضياء أكمل من النور، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} [يونس:5]] . كلامه على قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28] قد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (وبعثت إلى الناس كافة) والمراد عامة، فلا حاجة إلى كل تلك التقديرات، فـ (كافة) أي: عامة. أي: إلى كل الناس. وأما كلامه على وصف ما أرسل به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أرسل بالنور والهدى، فلا شك أن هذا وصف مطابق للشريعة التي جاء بها، وأنها مشتملة على الهدى، ومشتملة على الضياء وعلى النور وعلى البيان وعلى الحق، وذلك الوصف الذي جعلها صالحة لكل زمان ومكان، وصالحة لكل مخاطب ممن يعقل من المكلفين، فلا يصلح أن تكون الرسالة مؤقتة كما يقول بعض أهل هذا الزمان: إن الشرائع إنما تناسب البدائيين. أو: إنها إنما تناسب أهل محمد التي أنزلت عليهم، فلا تناسب أهل هذا الزمان الذين قد تطوروا وقد فهموا، وقد تعلموا كذا وكذا. وهذا كذب، بل شريعته عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يدخلها تغيير، ولا يمكن أن يكون فيها خلل، وهي تصلح لتطبيقها في هذا الزمان وفي الأزمنة التي قبله وفي الأزمنة التي بعده. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 17 شرح العقيدة الطحاوية [16] تشعب الناس في الكلام على القرآن وكلام الله تعالى، وقد أخذتهم أهواؤهم فذهبت بهم كل مذهب، ولم يسلم إلا من اعتصم بالكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، وقد بين العلماء تلك الاختلافات وما فيها من الباطل كما بينوا القول الحق بأدلته. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1 القرآن الكريم والاعتقادات فيه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله الله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر) . هذه قاعدة شريفة، وأصل كبير من أصول الدين ضل فيه طوائف كثيرة من الناس، وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه الله هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 2 مذاهب الفرق في القرآن الكريم وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال: أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معانٍ، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة. وثانيها: أنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه. وهذا قول المعتزلة. وثالثها: أنه معنى واحد قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كـ الأشعري وغيره. ورابعها: أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث. وخامسها: أنه حروف وأصوات، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، وهذا قول الكرامية وغيرهم. وسادسها: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته، وهذا يقوله صاحب المعتبر، ويميل إليه الرازي في المطالب العالية. وسابعها: أن كلامه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره، وهذا قول أبي منصور الماتريدي رحمه الله. وثامنها: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات. وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه. وتاسعها: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة. وقول الشيخ رحمه الله: (إن القرآن كلام الله) ، (إنّ) بكسر الهمزة عطف على قوله: (إنّ الله واحد لا شريك له) ، ثم قال: (وإن محمداً عبده المصطفى) ، وكسر همزة (إنّ) في هذه المواضع الثلاثة؛ لأنه معمول القول، أعني قوله في أول كلامه: (نقول في توحيد الله) ] . الكلام هنا على القرآن، وسبب ذلك أن مسألة القرآن من أقدم المسائل التي أنكرتها المبتدعة، أنكرت المبتدعة صفة الكلام، وكان أول من اشتهر بإنكار أن الله يتكلم هو الجعد شيخ الجهم، وقد قتله خالد القسري في يوم العيد، وجعله كالأضحية حيث قال: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً. فأنكر الجعد وكذا تلميذه الجهم أن يكون الله متكلماً، وأن يكون القرآن كلام الله، وادعى أن الكلام لا يحصل إلا من المخلوقين، وأن الكلام يحتاج إلى لهوات وإلى نفس وإلى شفتين وأسنان ولثة ونحو ذلك، فادعى أن هذا لا يتصور إلا من المخلوق، وأن الخالق لا يمكن أن يتكلم. فلما أنكر أن الله تعالى متكلم جيء بالقرآن، وقيل: هذا القرآن ماذا تقول فيه؟ أليس هو كلام الله كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] ، وكما سماه قولاً في قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] ، وكما ينسب القول إليه بقوله: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119] ، وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى} [آل عمران:55] وغير ذلك من النصوص التي فيها إثبات أن الله قال، وأنه يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأن الله كلم موسى تكليماً، وأن هذا القرآن كلام الله في قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وأن كلمات الله قديمة النوع حادثة الآحاد، وأنها لا نهاية لها، كما في قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] وكما في قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:115] . وغير ذلك من النصوص الكثيرة! فلما جيء بهذه النصوص تحير ماذا يقول، فلم يجد بداً من أن يقول: إن القرآن مخلوق خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات، يعني: كما خلق الإنسان، وكما خلق الأجرام، وكما خلق الكواكب، وكما خلق الحيوانات والنباتات، وأنكر أن يكون كلام الله تعالى، وسيأتي مناقشة قوله وذكر ما استدل به، وبيان ضعف تلك الأدلة. ولما تكلم الجعد ثم الجهم ثم تلميذ لهما أيضاً اسمه (بشر المريسي) ، ثم غيرهم من المبتدعة كانوا في أول الأمر ضعفاء مقهورين لا يلتفت إلى قولهم، ولا أحد ينخدع بهم، ولكن حدث في خلافة المأمون أنه قرب بعضهم، وأنه لما قرب بعضهم زينوا له مذهبهم، وبينوا له أنهم أولى بالصواب، وأن القرآن مخلوق، ودعوه إلى أن يمتحن الناس بذلك، فأطاعهم ووافقهم الخليفة المأمون، وحصلت بذلك فتن عظيمة وامتحن فيها أئمة الإسلام، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وهو الذي صمد أمام الفتنة وصبر وأوذي في ذات الله، ومات المأمون قبل أن يؤتى بالإمام أحمد، وتولى بعده أخوه المعتصم، وهو الذي تولى ضرب الإمام أحمد، فأمر بضربه بين يديه، وأطال حبسه، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي المعتصم، وتولى بعده ابنه الواثق فخفت الفتنة في زمنه، ولكن لم يزل على عقيدة أبويه فيما يظهر، ثم بعده تولى ولد الواثق ويقال له: (المتوكل) ، وهو الذي نصر السنة، وقرب أهلها، وأبعد المبتدعة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 3 الصحيح من أقوال الفرق في القرآن الكريم والحاصل أن مسألة القرآن والقول فيه قديمة، حدثت في أول القرن الثاني، ثم استفحلت في أول القرن الثالث وتمكنت، وكثر الخوض في مسألة القرآن وما هو، وكذلك في مسألة كلام الله وكيف يتكلم، وتشعبت المذاهب -كما ذكر الشارح- إلى تسعة أقوال كلها فيما يتعلق بالقرآن، والصواب منها هو القول التاسع الأخير الذي هو قول أهل السنة، وهو إثبات أن الله تعالى متكلم، ويتكلم إذا شاء، وأن كلامه قديم النوع حادث الآحاد، وأن كلامه يسمعه من يشاء من خلقه، كما أسمعه موسى لما ناداه، قال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:10] ، والنداء لابد أن يكون مسموعاً، وكما ناجاه في قوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم:52] ، ولابد أنه سمع مناجاة ربه. وهكذا كلم نبينا صلى الله عليه وسلم لما أسري به وأوحى منه إليه. إذاً يعتقد المسلمون بأن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، وأن هذا القرآن هو كلام الله حقاً حروفه ومعانيه، ليس كلامه الحروف دون المعاني، وليس المعاني دون الحروف، بل كلها كلام الله تعالى متى شاء، ويعتقدون بأنه لم يزل متكلماً، وما ذاك إلا أن الكلام صفة كمال، وتركها أو فقدها صفة نقص، ويلزم من فقدها أو نفيها نفي التشريع، فلو كان الله تعالى غير متكلم فمن أين يعرف أنه أمر أو نهى؟ ومن أين يعرف أنه يحب هذا ويبغض هذا؟ ومن يعرف أنه أنزل هذا أو لم ينزله؟ فإذاً لابد أنه متكلم، ويضطر كل عاقل إلى إثبات صفة الكلام لله تعالى؛ لأنه موصوف بصفات الكمال، ومنزه عن النقائص والعيوب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 4 أقوال شاذة مخالفة وما يلزم منها فأما قول غلاة الصابئة والفلاسفة ونحوهم: إنه ما يفيض من العقل الفياض، فالعقل الفياض عندهم كأنه عبارة عن الخالق، وما يفيض عنه: بمعنى: ما يقع في النفوس أو تتحرك به العقول. يسمى ذلك فيضاً من العقل الفياض، فعندهم -على هذا- أن كل شيء في الوجود من قول الله ومن كلامه، ولهذا طبق ذلك أهل الاتحاد؛ حيث يقول قائلهم: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وهذا من أمحل المحال وأبطل الباطل؛ لأنه يلزم منه أن يكون كلام الكفار كلام الله، وكلام الإلحاد وكلام الكفر والزندقة والنفاق ونحو ذلك عند هؤلاء كلام الله. وأما قول المعتزلة: إنه مخلوق، وإن الله خلقه كما خلق البشر وكما خلق حركات البشر، فهذا قول باطل ستأتي مناقشته. وأما قول ابن كلاب وكذلك الأشعرية ونحوهم: إنه معنى واحد قائم بنفسه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة إلى آخره، فهذا أيضاً قول باطل، وذلك لأنه يلزم منه أن يكون معنى التوراة هو معنى القرآن، ومعنى القرآن هو معنى الإنجيل ليس بينهما فرق، وهذا معلوم بطلانه، فإن في التوراة أحكاماً ومواعظ لم ترد في القرآن بلفظها، وكذلك في التوراة أشياء ليست في الإنجيل، وفي الإنجيل أشياء ليست في التوراة، وهذا دليل على بطلان قول الذين يدعون أنه معنى واحد قائم بذات الله تعالى. وأما الأقوال الأخرى كالذين يدعون أنه أزلي، فحروفه أصوات أزلية -أي: قديمة- فمقتضى ذلك أن الله لا يتكلم الآن، وأنه تكلم في وقت ثم انقطع من الكلام، تعالى الله عن ذلك وأشباهه من الأقوال. فالحاصل أنا نعتقد أن هذا القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وحي من الله، وتلاه المسلمون، وقرءوه وتعبدوا بتلاوته، وصدقوا بأنه قول الله ليس قول البشر. ونعتقد أن هذا كلام الله حقاً ليس كلام غيره، ويأتينا مناقشة أقوال المخالفين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 5 نقض أدلة المعتزلة على أن القرآن مخلوق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً) رد على المعتزلة وغيرهم؛ فإن المعتزلة تزعم أن القرآن لم يبدُ منه، كما تقدم حكاية قولهم، قالوا: وإضافته إليه إضافة تشريف، كبيت الله، وناقة الله، يحرفون الكلم عن مواضعه، وقولهم باطل؛ فإن المضاف إلى الله تعالى معانٍ وأعيان، فإضافة الأعيان إلى الله للتشريف، وهي مخلوقة له، كبيت الله، وناقة الله، بخلاف إضافة المعاني، كعلم الله، وقدرته، وعزته، وجلاله، وكبريائه، وكلامه، وحياته، وعلوه، وقهره؛ فإن هذا كله من صفاته، لا يمكن أن يكون شيء من ذلك مخلوقاً. والوصف بالتكلم من أوصاف الكمال، وضده من أوصاف النقص، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} [الأعراف:148] ، فكان عُبَّاد العجل مع كفرهم أعرف بالله من المعتزلة؛ فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم أيضاً. وقال تعالى عن العجل أيضاً: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه:89] ، فعلم أن نفي رجوع القول، ونفي التكليم نقصٌ يستدل به على عدم ألوهية العجل. وغاية شبهتهم أنهم يقولون: يلزم منه التشبيه والتجسيم! فيقال لهم: إذا قلنا إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم، ألا ترى أنه تعالى قال: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس:65] ، فنحن نؤمن أنها تكَلَّم، ولا نعلم كيف تتكلم، وكذا قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] ، وكذلك تسبيح الحصى والطعام وسلام الحجر كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من الرئة المعتمد على مقاطع الحروف. وإلى هذا أشار الشيخ رحمه الله بقوله: (منه بدا بلا كيفية قولاً) أي: ظهر منه ولا ندري كيفية تكلمه به، وأكد هذا المعنى بقوله: (قولاً) ، أتى بالمصدر المعرف للحقيقة، كما أكد الله تعالى التكليم بالمصدر المثبت للحقيقة النافي للمجاز في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 6 تحريف بعض المعتزلة للقرآن ليوافق معتقدهم ولقد قال بعضهم لـ أبي عمرو بن العلاء - أحد القراء السبعة -: أريد أن تقرأ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} [النساء:164] بنصب اسم الله، ليكون موسى هو المتكلم لا الله، فقال أبو عمرو: هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] فبهت المعتزلي!] . عرفنا أن صفة الكلام صفة شرف وصفة كمال، ونفيها صفة نقص، واستدل الشارح بقوله تعالى في حكاية قصة العجل الذي عبده أصحاب موسى، قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] ، وقال في موضع آخر: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه:89] ، وبخهم موسى وكذلك هارون، وقالوا: كيف تعبدون من لا يتكلم؟ وكيف تعبدون من لا يكلمكم؟ فلم يقولوا كما قالت المعتزلة، فلو كان الله تعالى لا يتكلم لقال قوم موسى لموسى: وربك أيضاً لا يتكلم. ولكنهم أعقل من المعتزلة، فعرف بذلك أن صفة الكلام صفة كمال وشرف، وأنها ثابتة لله تعالى عن طريق التواتر لكثرة الأدلة التي تبينها، والتي اتضحت دلالتها من تلك النصوص. وفي هذا أن المعتزلة الذين ادعوا أن الكلام مخلوق، وأنه كسائر المخلوقات خلقه كخلق الإنسان ونحوه، أنهم لم يعتبروا بالأدلة التي بين أيديهم، ولم ينظروا في هذه النصوص التي دلالتها واضحة. وقد سمعنا هذه القصة التي أوردها عن ذلك المعتزلي الذي جاء إلى أبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة من أهل العراق وقال له: اقرأ هذه الآية: (وكلم اللهَ موسى تكليماً) ، ليكون موسى هو المكلم ولا يكون الله متكلماً، ولكن أبا عمرو رحمه الله بين له أن ذلك لا يفيدك، فلو قرأت أنا أو أنت هذه الآية: (وكلم الله) ، لجاءتنا آية لا يمكن أن نحرفها وهي قول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ، فإنها صريحة بأن الرب تعالى هو المكلم، (وكلمه ربه) ، ولهذا بهت ذلك المعتزلي ولم يرد شيئاً. وقد اشتهر أن جمعاً من المعتزلة أولوا التكليم هنا بأنه التجريح، فقالوا: (كلم الله موسى تكليماً) يعني: جرحه، لأن الكلم: الجرح، كما في قوله: (ما من مكلوم يكلم-يعني: ما من مجروح يجرح-إلا وجاء يوم القيامة وكلمه يدمي) فادعوا أن قوله تعالى: (كلم الله موسى) يعني: جرحه بأظافير الحكمة، ولكن هذا قول باطل؛ فإن النصوص دالة على أنه هو الكلام المسموع؛ ولهذا أثبت الله أنه ناداه في قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:10] ، وقوله تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات:16] ، وناجاه فقال تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم:52] ، والمناجاة والنداء لا يكون إلا بنداء مسموع، فكيف يئولون ذلك ويحرفونه تحريفاً لفظياً أو معنوياً؟ كذلك ثبت أن الله تعالى خاطب موسى منه إليه، وذكر خطابه في آيات، كقوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43-46] ؛ فالله تعالى خاطبه وأسمعه ذلك الخطاب، فلابد أن يكون ذلك الخطاب بكلام مسموع، فلا يستطيع المعتزلة أن يحرفوا ذلك. فالحاصل أن تأويلاتهم وحرصهم على صرف الدلالات لا يفيدهم لكثرة الأدلة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 7 تكليم الله لأهل الجنة يبطل قول المعتزلة قال رحمه الله تعالى: [وكم في الكتاب والسنة من دليل على تكليم الله تعالى لأهل الجنة وغيرهم قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] ، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا أبصارهم فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة. وذلك قول الله تعالى: (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، وتبقى بركته ونوره عليهم في ديارهم) رواه ابن ماجة وغيره. ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام، وإثبات الرؤية، وإثبات العلو، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحداً، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَة وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران:77] ، فأهانهم بترك تكليمهم، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم وهو الصحيح؛ إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يقول لهم في النار: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] ، فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلاً، وقال البخاري في صحيحه: (باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة) ، وساق فيه عدة أحاديث، فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى وتكليمه لهم، فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به] . هذا أيضاً نوع من الأدلة، وهو ما حكاه الله تعالى من كلامه لأهل الجنة في عدة آيات، فيذكر الله تعالى أنه يخاطب أهل الجنة، فيقول: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] ، ويقول تعالى يخاطب عباده يوم القيامة: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] . كذلك يحكي الله بأنه إذا دخل أهل الجنة الجنة سمعوا كلام الله، وذلك معنى قول الله: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] ، والقول لابد أن يكون مسموعاً، فلابد أن أهل الجنة يسمعونه، ولا شك أن سماعهم لكلامه يعتبر نعمة ونعيماً، ولذة يلتذون بها، فيلتذون بسماع كلام ربهم كما يلتذون برؤية ربهم، ويتنعمون بذلك، ولكن أهل النار محرومون من الجميع، فحرموا من رؤية ربهم، كما في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، فصار حجابهم عذاباً لهم، وحرموا من سماع كلامه الذي هو كلام نعيم وكلام رحمة لهم، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ} [آل عمران:77] يعني: لا يكلمهم كلام رحمة وكلام نعمة، ففرق الله بين أهل الجنة وأهل النار بأن هؤلاء يكلمهم وهؤلاء لا يكلمهم، فدل على أن كلام الله تعالى حق وثابت، وأن تركه لكلام هؤلاء يعتبر عذاباً أليماً في حقهم. ولا شك أن الكلام اسم لكل ما يسمعه المكلم والمنادى، وأهل الجنة ينادون فيرفعون أنظارهم فيسمعون كلام الله منه إليهم. وكذلك موسى لما ناداه ربه سمع كلام الله تعالى، وكذلك ثبت أيضاً أن الصحابة قالوا: يا رسول الله! أربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] يعني: أسمعهم وأجيبهم إذا دعوني. ونزل أيضاً في موسى في خصائصه أن الله خصه بإسماعه كلامه في قوله تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] ، فأخبر بأن كلامه الحق الذي أسمعه موسى أنه من خصائص موسى دون غيره من أهل زمانه، وكل ذلك دلائل وشواهد ظاهرة في أن الله متكلم ويتكلم إذا شاء، وأن ذلك من صفات الكمال. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 8 نقض استدلال المعتزلة بآية (الله خالق كل شيء) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما استدلالهم بقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} [الرعد:16] والقرآن شيء فيكون داخلاً في عموم (كل) فيكون مخلوقاً، فمن أعجب العجب، وذلك أن أفعال العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالى، وإنما يخلقها العباد جميعها، ولا يخلقها الله، فأخرجوها من عموم (كل) وأدخلوا كلام الله في عمومها مع أنه صفة من صفاته به تكون الأشياء المخلوقة؛ إذ بأمره تكون المخلوقات، قال تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر} [الأعراف:54] ، ففرق بين الخلق والأمر، فلو كان الأمر مخلوقاً للزم أن يكون مخلوقاً بأمر آخر، والآخر بآخر إلى ما لا نهاية له، فيلزم التسلسل وهو باطل، وطرد باطلهم أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة، كالعلم والقدرة وغيرهما، وذلك صريح الكفر؛ فإن علمه شيء، وقدرته شيء، وحياته شيء، فيدخل ذلك في عموم (كل) ، فيكون مخلوقاً بعد أن لم يكن، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. وكيف يصح أن يكون متكلماً بكلام يقوم بغيره؟ ولو صح ذلك للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه، وكذلك أيضاً ما خلقه في الحيوانات، ولا يفرق حينئذ بين (نَطَق وأَنْطَق) وإنما قالت الجلود: {أَنطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21] ، ولم تقل: نطق الله. بل يلزم أن يكون متكلماً بكل كلام خلقه في غيره زوراً كان أو كذباً أو كفراً أو هذياناً! تعالى الله عن ذلك. وقد طرد ذلك الاتحادية فقال ابن عربي: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره لصح أن يقال للبصير أعمى وللأعمى بصير؛ لأن البصير قد قام وصف العمى بغيره والأعمى قد قام وصف البصر بغيره، ولصح أن يوصف الله تعالى بالصفات التي خلقها في غيره من الألوان والروائح والطعوم والطول والقصر ونحو ذلك] . نعرف من هذا أن هذه الآيات التي استدلوا بها واردة عليهم، استدلوا بهذه الآية وهي قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] ، فقالوا: القرآن شيء، فيكون داخلاً في عموم (كل) ، فيكون مخلوقاً. ورد عليهم الشارح بأن هذا من أعجب العجب! فأنتم تقولون: إن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، فتخرجون أفعال العباد عن أن تكون مخلوقة لله، لماذا لم تدخلوها في عموم (كل) {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] ، وتدخلون في ذلك صفة من صفاته وهو القرآن وهو كلام الله؟ فتدخلون صفته في كونها مخلوقة ولا تدخلون أفعالكم ولا حركاتكم في كونها مخلوقة لله! وهذا من العجب. ثم استدل بأنه يلزم من قولهم أن يوصف الله تعالى بالصفات التي قامت بالمخلوقات، وذلك لأنهم يقولون: خلقه في أفواه العباد. فهذا القرآن خلقه في أفواه العباد، أو خلقه ثم تكلم العباد به، فهو ليس كلامه ولكنه خلقه، ومع ذلك يضاف إليه. ولا شك أن هذا أيضاً قول باطل؛ لأنه يلزم منه أن يكون من تكلم بكلام يوصف به غير المتكلم، فالله تعالى -على زعمهم- ما تكلم، ولكن يقال: هو كلامه وإن لم يكن هو المتكلم به؛ حيث إن الكلام الذي قام بمخلوقاته يكون مضافاً إليه وإن لم يقم به، ويلزم على هذا أن يوصف الأعمى بأنه بصير؛ لأن البصر قد قام بغيره، والبصير يوصف بأنه أعمى؛ لأن العمى قد قام بغيره، وأن يوصف الله بصفات المخلوقات كلها، فيوصف المخلوق بأنه عاجز، وعلى هذا يقال: العجز لله؛ لأنه هو الذي خلقه، وكذلك يوصف المخلوق بأنه جاهل وبأنه مجنون مثلاً، وبالكفر، وبالفسوق، وبالزنا، وبالغصب، وبالإلحاد وما أشبه ذلك، فعلى منطوقهم تجوز إضافة هذه الأفعال كلها إلى الله تعالى، ويجوز -على قولهم- أن تكون الكلمات التي تجري في الخلق كلها من كلام الله حتى وإن كانت كفراً وزندقة وسباً وهجاء وكلاماً قذراً يتعلق بالأقذار والأوساخ ونحو ذلك. ولا شك أن الجلود تقشعر من هذه الأقوال ومن حكايتها، فعرف بذلك بطلان قولهم، فأصبح القول الصحيح هو أنه كلام الله تعالى، وأن ما قالوه وما اعتمدوه لا دلالة لهم في ذلك. فاعتقد -أيها المسلم- بأن هذا القرآن كلام الله حقاً تكلم به، منه بدأ وإليه يعود كما شاء، وإن لم نعرف كيفية تكلمه، وكيفية إنزاله وما يتعلق بذلك، بل نعرف ونتحقق أن الله متكلم بكلام يسمع، وأن من كلامه القرآن وسائر الكتب التي أنزلها على عباده، فإذا اعتقدنا بذلك قلنا بأن هذه الكتب التي أنزلها ضمنها شريعته وضمنها أمره ونهيه ونحو ذلك. والله تعالى فرق بين الخلق والأمر في قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ، فدل على أن الأمر ليس الخلق، فالأمر هو الكلام، والخلق إيجاد المخلوقات، والأمر هو الذي يخلقها به، يقول تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فالمخلوق يخلق بالكلام، بقوله: (كن) ، وهو أمره، فقوله: (كن) فعل أمر يخلق الله تعالى به المخلوقات، فـ (كن) ليست من مخلوقاته لكونها من كلام الله، وإنما المخلوق ما يحدثه بها، أي: ما يخلقه من المخلوقات بقوله: كن فيكون، هذا الصحيح. وكل تشعباتهم وتأويلاتهم بعيدة عن العقل وعن الفطرة التي فطر الله عليها العباد. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 9 نقض عبد العزيز المكي لأدلة المعتزلة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبمثل ذلك ألزم الإمام عبد العزيز المكي بشراً المريسي بين يدي المأمون بعد أن تكلم معه ملتزماً أن لا يخرج عن نص التنزيل، وألزمه الحجة، فقال بشر: يا أمير المؤمنين! ليدع مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال. قال عبد العزيز: تسألني أم أسألك؟ فقال بشر: (اسأل أنت) . وطمع فيَّ، فقلت له: يلزمك واحدة من ثلاث لابد منها: إما أن تقول: إن الله خلق القرآن - وهو عندي أنا كلامه في نفسه-، أو: خلقه قائماً بذاته ونفسه، أو خلقه في غيره؟ قال: أقول: خلقه كما خلق الأشياء كلها. وحاد عن الجواب، فقال المأمون: اشرح أنت هذه المسألة ودع بشراً فقد انقطع. فقال عبد العزيز: إن قال: خلق كلامه في نفسه فهذا محال؛ لأن الله لا يكون محلاً للحوادث المخلوقة، ولا يكون منه شيء مخلوقاً، وإن قال: خلقه في غيره؛ فيلزم في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره، فهو كلامه فهو محال أيضاً؛ لأنه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره هو كلام الله، وإن قال: خلقه قائماً بنفسه وذاته فهذا محال؛ لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد، ولا العلم إلا من عالم، ولا يعقل كلام قائم بنفسه يتكلم بذاته، فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقاً علم أنه صفة لله. هذا مختصر من كلام الإمام عبد العزيز في الحيدة] . هي رسالة مطبوعة اسمها (الحيدة) كتبها عبد العزيز الكناني، ذكر فيها أنه لما اشتهر عن بشر المريسي أنه يقول: إن القرآن كلام الله حاول أن يجادله، فذكر أنه لما صلى مرة الجمعة قدم ولده أمام الناس، فسأله بصوت رفيع وقال: يا بني! ما تقول في القرآن؟ فقال بصوت رفيع: القرآن كلام الله، فلما سمع قبض عليه؛ لأن ذلك في زمن فتنة قد افتتن بها خلق كثير، وقد انتشر القول بأن القرآن مخلوق، وقد هددوا وتوعدوا من يقول بأن القرآن كلام الله، عند ذلك أحضر بين يدي المأمون وهو أحد خلفاء بني العباس، وكان ممن دخله كلام المعتزلة وزينوا له حتى اعتقد ما يقولونه بأن القرآن مخلوق. فلما حضر بين يديه أمره بأن يحضر من يناظره، فأحضر بشراً المريسي وهو رأس المعتزلة أو رأس الجهمية في ذلك الزمان، فتناظرا بين يدي المأمون، فكلما أتى بحجة قوية حاد عنها ذلك المعتزلي الجهمي، فسمى رسالته بالحيدة. وفي هذه المقالة أنه ألزمه بإحدى ثلاث، قال له: إذا قلت بأن القرآن مخلوق فلابد من واحدة من ثلاث: إما أن تقول: إن الله خلق القرآن في ذاته، وإما أن تقول: خلقه في غيره. وإما أن تقول: إنه خلقه مستقلاً بنفسه. ولابد من واحدة، فحاد ولم يجب المريسي، ولم يستطع أن يتخلف، فشرحها الكناني رحمه الله وقال: إذا قلت: إن الله خلقه في ذاته، فهذا محال؛ لأنه يكون محلاً للحوادث، والله تعالى منزه عن أن يكون محلاً للحوادث، أي: أنه لم يحدث له صفة كانت مفقودة، بل هو قديم بصفاته كما تقدم في قول المؤلف: (رازق قبل خلق من يرزقه، خالق قبل وجود الخلق) ، فبطل أن يكون خلقه في ذاته. وإذا قلت: إنه خلقه مستقلاً -أي أنه مخلوق مستقل اسمه القرآن- فيلزم بذلك أن نشاهد ذلك المخلوق، فالمخلوقات لابد أنها تشاهد، وأيضاً لا بد أنه يأتي عليه التغير. وقد سمعت أيضاً حكاية أن أحد الذين امتحنوا في القرآن لما أحضروه مرة قالوا له: ماذا عندك؟ قال: رأيت رؤيا. رأيت أني قمت في الليل لأصلي، فلما كبرت قرأت الفاتحة وقرأت سورة: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ، وفي الركعة الثانية قرأت الفاتحة وأردت أن أقرأ سورة الإخلاص فلم أستطع ولم أقدر، فرفعت رأسي فإذا القرآن مسجى، فقلت: ما هذا؟ قالوا: القرآن ميت، فأنزلته أنا ومن ومعي وغسلناه وكفناه وصلينا عليه، فقالوا له: القرآن يموت؟! قال: نعم، أنتم تقولون: إن القرآن مخلوق، وكل مخلوق يموت، فخاصمهم بذلك وبين لهم أن هذه وإن كانت رؤيا فإنها رد عليكم، فإذا قلتم: إن القرآن مخلوق منفصل مستقل يرى فلابد أنه يأتي عليه التغير، فيمرض ويشفى، ويكبر ويصغر، ويزيد وينقص، وينطق بنفسه، فهو مخلوق مستقل، فمن الذي لمسه؟ ومن الذي شاهده؟ القرآن إنما هو هذا الكلام الذي نقرؤه، فهو عرض من الأعراض، وإذا نطقنا به فإنا لا نشاهد الكلمات التي نتكلم بها تخرج ويراها من يراها، فهو عرض تكلم الله تعالى به ليس بمخلوق. وإذا قلتم: إنه كلام خلقه الله في غيره، لزمكم أن كل ما يتكلم به الناس فهو كلام الله خلقه في غيره، يعني: خلقه في ألسنة الناس وخلقه في قلوبهم، فما ينطقون به فهو من كلام الله. وقد طرد ذلك كثير من الملاحدة الذين يقال لهم: (أهل الاتحاد) ، حتى قال بعضهم: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه فجعلوا كل ما ينطق به الناس كلام الله ولو كان كفراً، ولو كان هجاء، ولو كان شعراً، ولو كان سخرية أو ما أشبه ذلك، جعلوا كل ما تكلم به الناس من كلام الله تعالى، تعالى الله عن قولهم. فإذاً لما بطلت هذه الثلاثة ما بقي إلا أنه كلام الله ليس بمخلوق. قال المؤلف رحمه الله: [وعموم (كل) في كل موضع بحسبه، ويعرف ذلك بالقرائن، ألا ترى إلى قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] ومساكنهم شيء، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح، وذلك لأن المراد: تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة وما يستحق التدمير. وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام؛ إذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك غير محتاجة إلى ما يكمّل به أمر ملكها، ولهذا نظائر كثيرة. والمراد من قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] أي: كل مخلوق وكل موجود سوى الله فهو مخلوق فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتماً، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى، وصفاته ليست غيره؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة لا يتصور انفصال صفاته عنه، كما تقدم الإشارة إلى هذا المعنى عند قوله: (ما زال قديماً بصفاته قبل خلقه) ، بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم، فإذاً: كان قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) مخلوقاً لا يصح أن يكون دليلاً. وأما استدلالهم بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف:3] فما أفسده من استدلال! فإن (جعل) إذا كان بمعنى (خلق) يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] ، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:30-31] . وإذا تعدى إلى مفعولين لم يكن بمعنى (خلق) ، قال تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل:91] ، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَة} [البقرة:224] ، وقال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] ، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29] ، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الإسراء:39] ، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَة الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف:19] ونظائره كثيرة، فكذا قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:30]] . هذا دليل مما استدلوا به، وذكر نقضه، فالدليل الأول -كما تقدم- استدلوا بعموم (كل) في قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] ، قال بشر المريسي لـ عبد العزيز الكناني: إن قلت: إن كلام الله شيء خاصمناك؛ لأنه داخل في هذه الآية، وإن قلت: إنه ليس بشيء ضللت وكفرت، وذلك لأن المحسوسات كلها داخلة في كل شيء. ولكن بشراً لما قال ذلك اعتقد أنه قد غلب الكناني، وأنه ظهر عليه بالحجة، فقال له الكناني: ما أمرتك بأن تجيب على الآية، دعني أتولى الجواب، فقال: إن القرآن شيء لا كالأشياء، القرآن شيء ولكن ليس كالأشياء التي في هذه الآية، والجواب الثاني هو ما سمعنا من أن كلمة (كل) قد ترد عامة، ولكن تأتي عامة بحسب ما يراد منها لا أنها يدخل فيها كل الأشياء. واستدل الشارح بدليلين: أحدهما: قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] يحكي الله تعالى عن الريح التي أرسلها على عاد أنها تدمر كل شيء، ومع ذلك بقيت أشياء موجودة ما دمرتها، فدل على أن كلمة (كل شيء) يراد بها: كل شيء يقبل التدمير. والدليل الثاني: قوله تعالى في قصة بلقيس ملكة اليمن: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] ، ومعلوم أن هناك أشياء لم تؤت منها كالذي أوتي سليمان، فإنه أوتي ذلك الصرح، وأوتي الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر، وسخرت له الشياطين كل بناء وغواص، ومع ذلك ما أوتيت مثل ذلك، وهي في زمنه، ومع ذلك ملكها لم يتجاوز الجهة التي هي بها، فإذاً قوله تعالى: (أوتيت من كل شيء) عام، ولكنه مخصوص بما يؤتاه مثلها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 10 نداء الله لموسى ودلالاته قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَة الْمُبَارَكَة مِنَ الشَّجَرَة} [القصص:30] على أن الكلام خلقه الله تعالى في الشجرة فسمعه موسى منها، وعموا عما قبل هذه الكلمة وما بعدها؛ فإن الله تعالى قال: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَن} [القصص:30] ، والنداء هو الكلام من بعد، فسمع موسى عليه السلام النداء من حافة الوادي، ثم قال: {فِي الْبُقْعَة الْمُبَارَكَة مِنَ الشَّجَرَة} [القصص:30] أي أن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة. كما يقول: سمعت كلام زيد من البيت، فيكون (من البيت) لابتداء الغاية، لا أن البيت هو المتكلم، ولو كان الكلام مخلوقاً في الشجرة لكانت الشجرة هي القائلة: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30] ، وهل قال: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) غير رب العالمين؟ ولو كان هذا الكلام بدا من غير الله لكان قول فرعون {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] صدقاً؛ إذ كل من الكلامين عندهم مخلوق قد قاله غير الله، وقد فرقوا بين الكلامين على أصلهم أن ذلك كلام خلقه في الشجرة، وهذا كلام خلقه فرعون، فحرفوا وبدلوا واعتقدوا خالقاً غير الله، وسيأتي الكلام على مسألة أفعال العباد إن شاء الله تعالى] . مما استدلوا به -وهي شبهة داحضة- أن استدلوا بقوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ} [القصص:30] قالوا: إن موسى سمع الصوت من الشجرة، فالشجرة هي التي تكلمت، أو خلق الله الكلام في الشجرة. فلذلك قالوا: إن كلام الله مخلوق، وهذا قول بعيد، ويقول المؤلف: إنهم عموا عما بعد الآية وعما قبلها، فإن قوله تعالى: (نودي) النداء يكون بصوت مسموع، وهذا مما استدلوا به على أن الله تعالى متكلم؛ حيث أثبت لنفسه النداء في عدة آيات، قال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:10] وقال: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات:16] ، وقال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم:52] وقال: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22] ، وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62] ونحو ذلك، فالنداء من الله بكلام مسموع، فإذاً: قوله (نودي) ، يعني ناده ربه بكلام سمعه. وأما قوله تعالى: (في البقعة المباركة) يعني أنه نودي وهو في البقة المباركة التي ذكرها بقوله: {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12] ، هذه البقعة ذكر الله بها البركة فقال تعالى: {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12] ؟ ثم قال: (من الشجرة) سمع الصوت من جهة الشجرة لا أن الشجرة هي التي نطقت، وإنما سمع الصوت من جهتها، ورأى تلك النار التي قال عنها: {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} [طه:10] أي: رأى ضوءاً يشتعل عند تلك الشجرة فظن أنه نار، فذهب ليأتي بوقود لأهله لعلهم يصطلون، وكان ذلك في شدة برد، فقال: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7] ، فلما جاء إلى الشجرة سمع هذا النداء، وفي ذلك النداء قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى * وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:14-17] ، كل هذا تكلم الله به وسمعه، ولأجل ذلك يسمى موسى كليم الله، بمعنى أن الله كلمه وأسمعه كلامه، وليست هي الشجرة التي نطقت بذلك، وإنما سمع الصوت من جهة الشجرة، أي: جاء من تلك الجهة. كما يقول القائل: كلمني زيد من الدار، بمعنى أن الصوت خرج من الدار، لا أن الدار هي التي نطقت. فإذاً هذا دليل بعيد أن يتعلق به، وهذا من جملة أدلتهم الباطلة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 11 علاقة الأمينين بالقرآن الكريم قال المؤلف رحمه الله: [فإن قيل: فقد قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] وهذا يدل على أن الرسول أحدثه، إما جبرائيل أو محمد صلى الله عليه وسلم! قيل: ِذكْرُ الرسول معرَّف أنه مبلِّغ عن مرسله؛ لأنه لم يقل إنه قول ملك أو نبي، فعلم أنه بلغه عمن أرسله به، لا أنه أنشأ من جهة نفسه، وأيضاً: فالرسول في إحدى الآيتين جبرائيل، وفي الأخرى محمد، فإضافته إلى كل منهما تبين أن الإضافة للتبليغ؛ إذ لو أحدثه أحدهما امتنع أن يحدثه الآخر، وأيضاً فقوله: {رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:107] دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسل بتبليغه ولا ينقص منه، بل هو أمين على ما أرسل به يبلغه عن مرسله، وأيضاً فإن الله قد كفَّر من جعله قول البشر، ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر، فمن جعله قول محمد بمعنى أنه أنشأه فقد كفر، ولا فرق بين أن يقول: إنه قول بشر أو جني أو ملك، والكلام كلام من قاله مبتدئاً لا من قاله مبلغاً، ومن سمع قائلاً يقول: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل قال هذا شعر امرئ القيس، ومن سمعه يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) قال هذا كلام الرسول، وإن سمعه يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:2-5] قال: هذا كلام الله إن كان عنده خبر ذلك، وإلا قال: لا أدري مِن كلام مَن هذا؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لكذَّبه، ولهذا من سمع من غيره نظماً أو نثراً يقول له: هذا كلام مَن؟ أهذا كلامك أو كلام غيرك؟] . يقول: قد يعترض معترض بهذه الآية التي في سورة الحاقة وفي سورة التكوير، وهي قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:40-42] وفي الآية الأخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19-21] ، فالرسول هاهنا هو جبريل الذي بلغه عن الله، فمعنى قوله: (قول رسول) تبليغ رسول. ونأخذ من كلمة (رسول) أنه لم ينشئه، وأنه لم يقله من نفسه، وإنما بلغه حيث إنه مرسل. فالرسول هو الذي يحمل رسالة من غيره، فكل من حمل كلاماً أو حمل كتاباً فإنه يسمى رسولاً، تقول: أرسلت غلامي بكذا وكذا، أو: يأتيكم رسولي. أي: منتدبي. وأرسلت ابني إلى فلان. فالرسول بمعنى الذي يحمل رسالة، فهذا القرآن قول رسول، أي: قول جاء به رسول أرسل به، وذلك الرسول الذي ذكر في هذه الآيات هو جبريل عليه السلام، يبين ذلك قوله تعالى في سورة الشعراء: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193-194] فهكذا قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] ، وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19-21] ، فوصف بأنه أمين في الموضعين، فيؤخذ من ذلك أنه مأمون على ما أرسل به، لا يدخل فيه زيادة ولا أي نوع من التغيير، بل يبلغه كما هو دون أي تحريف أو تغيير. إذاً لا متعلق في هذه الآية، بل الآية واضحة بأنه بلغه عمن أرسله، والذي أرسله به هو الله تعالى. ثم يقول: الكلام إنما يضاف إلى من قاله لا إلى من بلغه، فهو كلام الله، والرسول الذي بلغه سواءٌ أكان جبريل أم محمداً إنما منه التبليغ، وقد ذكر الله ذلك في عدة آيات، كقوله تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] ، وقوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] ، وقوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] ، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ} [الأحزاب:39] ، فالتبليغ معناه إيصال ما بعث به إلى المرسل إليهم كما هو دون نقص أو تغيير. فإذاًَ هو بلغه، ونشهد بأنه بلغ ما أرسل به إلى هذه الأمة، وأن الأمة قد حفظته. ثم يقول: الكلام يضاف إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من بلغه. فنحن نقولك: كلام الله وتبليغ جبريل. أي: نزل به جبريل، وقرأه وعلمه للأمة محمد عليه الصلاة والسلام، فهو كلام الله ولا يضاف إلى من بلغه، ويستدل على ذلك بأن الكلام يضاف إلى من ابتدعه بقولنا إذا سمعنا من ينشد: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل هذا بيت في أول قصيدة من المعلقات، وهو لـ امرئ القيس. فإذا سمعناه نقول: هذا كلام امرئ القيس، ولا نقول: هذا كلامك أيها المتكلم. وإذا سمعناك تقول -مثلاً-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) هل نقول: هذا كلامك أيها المتكلم؟ نقول: هذا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام. ونعرف أنه أول من قال هذا، وإذا سمعنا من يقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2-3] ونحن نعرف أنه كلام الله قلنا: هذا كلام الله، ليس كلامك أيها المتكلم الذي أسمعتنا، إنما أنت مبلغ. فإذاً هو كلام الله وتبليغ رسل الله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 12 شرح العقيدة الطحاوية [17] القرآن كلام الله لفظاً ومعنى، وهو قديم النوع حادث الآحاد، اتفق على هذا السلف والأئمة، وتوافرت عليه أدلة الكتاب والسنة، ولكن خالف بعض المتأخرين من أتباع المذاهب متأثرين بغيرهم، فزعموه معنى واحداً وكلاماً نفسياً وزعموا أن الموجود عبارة عن كلام، وفي كلام الإمام الطحاوي ما يرد عليهم تصريحاً وتلويحاً. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 1 إثبات كلام الله والرد على المتأخرين المخالفين للسلف الجزء: 17 ¦ الصفحة: 2 اتفاق أهل السنة على أن كلام الله غير مخلوق واختلاف المتأخرين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبالجملة فأهل السنة كلهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف متفقون على أن كلام الله غير مخلوق، ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في أن كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات، أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، أو أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم. وقد يطلق بعض المعتزلة على القرآن أنه غير مخلوق، ومرادهم أنه غير مختلق مفترىً مكذوب، بل هو حق وصدق. ولا ريب أن هذا المعنى منتفٍ باتفاق المسلمين، والنزاع بين أهل القبلة إنما هو في كونه مخلوقاً خلقه الله، أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته، وأهل السنة إنما سألوا عن هذا، وإلا فكونه مكذوباً مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه، ولا شك أن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع معترفون بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما يزعمون أن عقلهم دلهم عليه، وإنما يزعمون أنهم تلقوا من الأئمة الشرائع. ولو ترك الناس على فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة لم يكن بينهم نزاع، ولكن ألقى الشيطان إلى بعض الناس أغلوطة من أغاليطه فرق بها بينهم {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176]] . قد تقدم عند سياق اختلاف الأمة في كلام الله أن هناك فرقة قالوا: كلام الله معنىً واحد قائم بذاته، وهذا قول الأشعرية والماتريدية، ولهذا قالوا: إنه معنىً واحد يعبر به بالعبرية فيصير توراة، وبالسريانية فيصير إنجيلاً، وبالعربية فيصير قرآناً، وهو معنىً واحد. وهذا قول باطل، ويقولون أيضاً: إن كلام الله تعالى هو المعنى لا اللفظ، ولهم أدلة ربما يأتي نقاش حولها. وهناك قول ثانٍ للمبتدعة أيضاً أن كلام الله حروف وأصوات تكلم بها بعد أن لم يكن متكلماً. وهذا أيضاً خطأ؛ فإن الله تعالى لم يزل موصوفاً بأنه متكلم ويتكلم إذا شاء. وقول أهل السنة: إن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، وإنه لم يزل متكلماً ويتكلم إذا شاء، وإن القرآن من كلامه، وإن الكلام صفة مدح ليس هو مخلوق، فليس كلام الله مخلوقاً كما أن صفاته ليست مخلوقة، فليس شيء من صفاته مخلوقاً، فعلمه وقدرته وإرادته وحلمه ورحمته وصفاته الذاتية سمعه وبصره كل ذلك منسوب إليه ومضاف إليه، وليس شيء من ذلك مخلوقاً. وهنا ذكر الشارح عن بعض المعتزلة أنهم قد يوافقون ويقولون: نحن نقول: القرآن غير مخلوق، ولا يقولون: القرآن كلام الله، بل يقولون: غير مخلوق، ولكن هذه العبارة يعبرون بها عن معنىً صحيح يوافق عليه كل أحد، وهو أنهم يعنون أنه غير مفترى ولا مختلق ولا مكذوب، أي: أن محمداً لم يكن اختلقه ولا افتراه، وهذا يتسترون به، وإلا فهم يعتقدون أنه كسائر المخلوقات خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات. فإذا عرفنا مثل هذه الأقوال بقي أن يعتقد كل مسلم بأن القرآن الذي أنزله الله تعالى هو كلامه، وأنه صفة كمال، وأنه معجز بذاته، وأنه ليس بمخلوق ولا شيء من صفات الله مخلوقة، ويعتقد أن أهل السنة مجمعون من عهد السلف والصحابة على أن القرآن كلام الله تكلم به، وأنه من جملة كلامه، وأنزله وحياً، وجعله معجزة لهذا النبي خالدة باقية ما شاء الله أن تبقى، ما دام يعمل به، وهو منزل غير مخلوق، منه بدأ قولاً وإليه يعود، أي: يرفع في آخر الزمان عندما يترك العمل به، هذا قول أهل السنة، ولا عبرة بالأقوال الشاذة المبتدعة التي خالفت هذا القول. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 3 كلام أبي حنيفة على كلام الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والذي يدل عليه كلام الطحاوي رحمه الله أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء، وأن نوع كلامه قديم، وكذلك ظاهر كلام الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى في الفقه الأكبر؛ فإنه قال: والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم وآله منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق وكتابتنا له مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة، والقرآن غير مخلوق. وما ذكره الله في القرآن حكاية عن موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعن فرعون وإبليس فإن ذلك كله كلام الله تعالى إخباراً عنهم، وكلام الله غير مخلوق، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم. وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويتكلم لا ككلامنا. انتهى. فقوله: ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو صفة له في الأزل يعلم منه أنه حين جاء كلمه، لا أنه لم يزل ولا يزال أزلاً وأبداً يقول: يا موسى؛ ويفهم ذلك من قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ، ففهم منه الرد على من يقول من أصحابه: إنه معنىً واحد قائم بالنص لا يتصور أن يسمع، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء، كما قال أبو منصور الماتريدي وغيره. وقوله: (الذي هو له صفة في الأزل) رد على من يقول: إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلماً] . نقل هنا كلام أبي حنيفة؛ لأن الشارح حنفي المذهب، والمصنف الذي هو الطحاوي حنفي أيضاً، والعقيدة مشهورة عند الحنفية، ولكن أكثر المتأخرين من الحنفية مالوا في باب الاعتقاد فيما يتعلق بالأسماء والصفات، وفيما يتعلق بالإيمان، وفيما يتعلق بالقرآن، وانحرفوا بسبب من قرءوا عليه من الأشاعرة ونحوهم، ولكن الشارح رحمه الله كان على عقيدة سلفية تلقاها عن مشايخه الذين اخلصوا له في التعليم فحسن اعتقاده، فاحتج على أهل ذلك المذهب بأقوال من يحترمونهم. فهذا الطحاوي رحمه الله حنفي، وكلامه واضح في أن الرب سبحانه وتعالى لم يزل متكلماً إذا شاء، وهذا أبو حنيفة صريح قوله في إثبات صفة الكلام لله سبحانه وتعالى، وفي الاستدلال على ذلك بأن الله كلم موسى، وأن موسى سمع كلام الله منه إليه، قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] ، وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ، وقال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] . وكذلك ناداه وناجاه: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] ، والنداء لا يكون إلا بكلام، والمناجاة التي هي كلام خفي بين اثنين لا تكون إلا بكلام، وكل ذلك استدل به أبو حنيفة على أن الله تعالى هو الذي تكلم بهذا القرآن، وأنه لم يزل متكلماً ويكلم من يشاء، واستدل أيضاً بأن ما في القرآن من حكاية كلام الأمم أو كلام الرسل أو غيرهم هو عين كلام الله. فنحن نقول: قال الله تعالى عن فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36-37] ، فهذا كلام الله حكاه عن فرعون. كذلك نقول: قال الله تعالى عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82-83] ، وقال تعالى عنه: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16] ، هذا كلام الله حكاه عن إبليس. وكلام إبليس، وكلام فرعون، وكلام قوم نوح لنوح في قولهم: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32] ، وكذلك بقية الأمم كلامهم مخلوق؛ لأن الإنسان بجميع حركاته مخلوق، فالإنسان بجسمه مخلوق، وحركاته مخلوقة لله الذي خلقه وخلق حركاته، وكلماته أيضاً مخلوقة، فالله الذي يحرك شفتيه ويحرك لسانه، فهو الذي أنطقه بذلك كما أنطق في الآخرة الجلود والأيدي والأرجل ونحو ذلك. فالإنسان بجميع ما ينسب إليه مخلوق، وأما الرب تعالى بجميع صفاته فإنه ليس بمخلوق، بل صفاته كلها مضافة إليه من ذاته، ولا يجوز القول بأن شيئاً من صفاته مخلوق، ولا أنه حادث بعد أن لم يكن. وقد تقدم أن صفاته قديمة، لكن يقال: إن كلامه قديم النوع حادث الآحاد، أي: أنه لم يزل متكلماً ويتكلم إذا شاء. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 4 قبول ما جاء في كلام المعتزلة من حق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبالجمة فكل ما تحتج به المعتزلة مما يدل على أنه كلام متعلق بمشيئته وقدرته، وأنه يتكلم إذا شاء وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، فهو حق يجب قبوله، وما يقوله من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وإنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف، فهو حق يجب قبوله والقول به، فيجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب والعدول عما يرده الشرع والعقل من قول كل منها. فإذا قالوا لنا فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به قلنا: هذا القول مجمل، ومن أنكر قبلكم قيام الحوادث -بهذا المعنى- به تعالى من الأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك، ونصوص الأئمة أيضاً مع صريح العقل] . يعني: أننا نقبل ما جاءوا به من الحق ونرد الباقي، فإذا قالوا: إن كلام الله تعالى صفة قائمة بذاته. قلنا: هذا صحيح، ولكن قولهم: إنه معنىً واحد، هذا لا نوافقهم عليه، وذلك لأن فيه ذكر الجنة وفيه ذكر النار، فعلى أنه معنىً واحد لا يكون بين آية الوعد والوعيد فرق، وكذلك فيه ذكر العذاب وفيه ذكر الرحمة، وإذا كان معنىً واحداً لم يكن بين هذه الآية وهذه الآية فرق. فإذاً لا يوافقون على قولهم: إنه معنىً واحد، ولكن يوافقون على أنه قائم بذاته، كما أن سائر الصفات قائمة بالموصوف، فلا تعقل صفة إلا وهي قائمة بالموصوف، فالبياض لابد أن يكون قائماً بشيء أبيض، ولا يوجد منفصلاً، ولا ينتزع البياض من الثوب ويقبض عليه ويقال: هذا البياض انتزع، وكذلك الحمرة -مثلاً- والسواد لابد أن تقوم بشيء يوصف بأنه أبيض أو أسود أو أحمر، فكذلك الصفات، فالسمع لابد أن يقوم بمن يسمع، والكلام لابد أن يقوم بمن يتكلم ولا يقوم بذاته. فإذاً الصفات نوافق في أنها قائمة بذاته، ولكن نرفض قولهم: إننا إذا قلنا إنه يتكلم وإنه يعلم ويقدر يكون ذلك سبباً لكون الحوادث تقوم به. وهذه أكبر شبهة يتشبثون بها، فيرمون أهل السنة بأنهم يقولون إن الحوادث تقوم بذات الله. على معتقدهم أن الله تعالى قائم بذاته وبأفعاله، وأنه لا يحدث منه شيء بعد أن لم يكن، وهذا خطأ، بل الله تعالى يحدث ما يشاء، فيسمع ما يحدث بعد أن لم يكن حادثاً، يسمع الأصوات التي حدثت بعد أن لم تحدث، ويرى الأشخاص الذين تجدد خلقهم بعد أن لم يكن متجدداً. والرؤية جنسها قديم وهي حادثة، فيقال: بصر الله تعالى وصفته بأنه يرى قديم، ولكن هذا الإبصار حادث، ولا يلزم قيام الحوادث بذات الله. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 5 اختلاف ما جاءت به الرسل عما عليه المبتدعة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا شك أن الرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه، بل الذي أفهموهم إياه أن الله نفسه هو الذي تكلم، والكلام قائم به لا بغيره، وأنه هو الذي تكلم به وقاله، كما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بوحي يتلى. ولو كان المراد من ذلك كله خلاف مفهومه لوجب بيانه؛ إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام، وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذراً من التشبيه فلا يثبتوا صفةً غيره؛ فإنهم إذا قالوا: يعلم لا كعلمنا، قلنا: ويتكلم لا كتكلمنا. وكذلك سائر الصفات، وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة، أو حي لا تقوم به الحياة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر) . فهل يقول عاقل: إنه صلى الله عليه وسلم عاذ بمخلوق؟! بل هذا كقوله: (أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك) ، وكقوله: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) ، وكقوله: (وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا) ، كل هذه من صفات الله تعالى، وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها، وإنما أشير إليها هنا إشارة] . يتكلم هنا على قولهم: إنكم تقولون: إن الحوادث تقوم بذات الله. وهذا تنقص لله؛ حيث جعلتم صفاته حادثة، أو جعلتم الحوادث تقوم به، وذلك لأن أخص الصفات عند المعتزلة هي صفة القدم، فهذه أخص ما يصفون الله بها، فيمتنعون عن إثبات شيء متجدد، فيقولون: إذا أثبتنا أن الله يتكلم الآن صار الكلام متجدداً، وصار قائماً بالذات، وإذا أثبتنا أنه يعلم صار هذا العلم جديداً بعد أن لم يكن موجوداً. فيرد عليهم بأنه لا تعقل صفة قائمة بذاتها، بل لابد أن تكون الصفة قائمة بالموصوف، فلا تقوم صفة بغير موصوف أبداً. ويوجد في هذه الأزمنة شيء قد يتعلقون به، ولكن لا تعلق لهم بذلك، وذلك في الأشرطة التي تحفظ الكلام أو تسجله، ومعلوم أنها لا تنطق بنفسها وإنما تحفظ كلاماً قد تكلم به إنسان فتعيده بلهجته، فيقال: هذا صوت فلان وهذا كلام فلان تكلم به وحفظ! فيقال: هذا الكلام قام بهذا الشريط بعد أن قام بالمتكلم، فالكلام صدر من متكلم ولم يكن الكلام صدر من غير متكلم. وكذلك الأشرطة الضوئية أو الأفلام التي تسجل الأشخاص والحركات إذا رئي فيها شخص قيل: هذا فلان وهذه حركته، ولا يقال: إن هذه الحركة قامت بنفسها. أو إنه ليس هناك متحرك؛ إذ لا تكون حركة إلا من متحرك، ولا يكون سمع إلا من سميع، ولا يكون قول إلا من قائل، فلهذا يعرف أن كلام الله ليس بمخلوق. ومن الأدلة على ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام استعاذ بكلام الله في قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما أجد وأحاذر) ، وكذلك قوله: (أعوذ بعزة الله) (أعوذ بعظمة الله) كل ذلك استعاذة بصفة من صفات الله، لا يلزم منه أنه استعاذ بمخلوق، فعرف بذلك أن هذه الصفات قائمة بالموصوف لا يمكن أن تنفصل بنفسها، ولا يمكن أن يوجد كلام إلا من متكلم قام به ذلك الكلام. ولا يقال: إن قولهم: تقوم به الحوادث فيه محذور، بل يقال: هو الذي يفعل هذه الأشياء وتحدث بعد أن لم تكن حادثة، ولكن هو عالم بذلك كله قبل أن يوجد، فهو عالم بما سيحدث، ولا يقال: حدث له علم تجدد، وهو أيضاً عالم بما تكلم به وسوف يتكلم، ولا يقال: حدث له كلام بمعنى أنه لم يكن يعلمه، بل هو عالم بكل شيء، فعرف بذلك أن هذا لا متمسك لهم فيه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 6 مخالفة متأخري الحنفية في كلام الله لما عليه السلف قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكثير من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد، والتعدد والتكثر والتجزؤ والتبعض حاصل في الدلالات لا في المدلول، وهذه العبارة مخلوقة، وسميت كلام الله لدلالتها عليه وتأديه بها، فإن عبر بالعربية فهو قرآن، وإن عبر بالعبرية فهو توراة، فاختلفت العبارات لا الكلام. قالوا: وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازاً. وهذا الكلام فاسد؛ فإن لازمه أن معنى قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] هو معنى قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] ، ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، ومعنى سورة الإخلاص هو معنى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ، وكلما تأمل الإنسان هذا القول تبين له فساده، وعلم أنه مخالف لكلام السلف] . المؤلف حنفي، ولكن هو ممن وفقه الله لأخذ العلم عن مشايخ اعتقدوا عقيدة سلفية فتلقى تلك العقيدة عنهم، وتأثر بشيخه عماد الدين بن كثير صحاب التفسير رحمه الله، وابن كثير تأثر بـ ابن تيمية حيث إنه قرأ عليه فصلحت عقيدته وأصلح غيره، ولهذا ينقل الشارح كثيراً عن ابن تيمية وعن تلميذه ابن القيم وإن لم يصرح بالنقل عنهما؛ وذلك لأنه لو نقل عنهما بالصراحة لنبذ كلامه لكون كثير من الحنفية لا يقبلونهما لأسباب. أولاً: لأنهما من الحنابلة. وثانياً: لأنهما في نظر أكثر المتأخرين قد ارتكبا خطأً كبيراً بإظهار هذه العقيدة التي ليس عليها أحد في زمانهما. فالشارح يحكي أن الحنفية يقولون بهذه المقالة التي ذكر، فاعتقادهم أن كلام الله معنىً واحد ليس متعدداً. ورد عليهم بأن هذا القول قول فاسد، حيث جعلوه معنىً واحداً إن عبر عنه بالعربية فهو القرآن أو بالعبرية فهو التوراة أو بالسريانية فهو الإنجيل كما يقولون، وإلا فهو معنىً واحد، فيرد عليهم بأن هذا فيه إبطال لما تضمنه القرآن، وعلى قولهم تكون آية الكرسي مثل آية الدين، وهل يقول هذا عاقل؟ وهل يقول عاقل إن سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1] كصورة الإخلاص {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، فهل المعنى الذي في هذه هو المعنى الذي في هذه؟ وكل عاقل يعرف أن هذه لها مدلول وهذه لها مدلول، وهكذا آية الرحمة غير آية العذاب، وآية ذكر الجنة غير آية ذكر النار، فالذي يتأمل هذه المقالة يعلم بعدها عن الصواب، ومع ذلك فقد قال بها جموع كثيرة، وجمع غفير انخدع بذلك واعتقد أنه هو القول الصواب، وتلقوه عن مشايخهم. وشبهتهم التي اعتمدوا عليها هو خوفهم من أن يقولوا: إن الله متكلم، واعتقادهم أن الكلام لا يصدر إلى من ذات، وأنه يحدث، وأن الله منزه عن أن تقوم به الحوادث، وقد عرفت بطلان هذه المقالة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 7 رد قول من يقول: إن القرآن عبارة عن كلام الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحق أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن من كلام الله حقيقة، وكلام الله تعالى لا يتناهى؛ فإنه لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء، ولا يزال كذلك، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109] ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27] ، ولو كان ما في المصحف عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله لما حرم على الجنب والمحدث مسه، ولو كان ما يقرؤه القارئ ليس كلام الله لما حرم على الجنب قراءته. بل كلام الله محفوظ في الصدور، مقروء بالألسن، مكتوب في المصاحف، كما قال أبو حنيفة في الفقه الأكبر، وهو الذي في هذه المواضع كلها حقيقة، وإذا قيل: المكتوب في المصحف كلام الله فهو منه معنى صحيح حقيقي، وإذا قيل: فيه خط فلان وكتابته فهم منه معنىً صحيح حقيقي، وإذا قيل: فيه مداد قد كتب به، فهم منه معنىً صحيح حقيقي، وإذا قيل: المداد في المصحف، كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قول القائل: فيه السماوات والأرض، وفيه محمد وعيسى ونحو ذلك، وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل: فيه كلام الله ومن لم يتنبه للفروق بين هذه المعاني ضل ولم يهتد للصواب] . ينبه على أن كتب الله تعالى متضمنة لكلامه، وكل كتاب منها محتو على معاني غير المعاني التي في الكتب الأخرى، فالتوراة فيها أحكام، والإنجيل فيه أحكام أخرى، ولهذا قال عيسى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50] ، فجاء بالتخفيف عن بني إسرائيل في أشياء قد حرمت في التوراة، وكذلك الزبور فيه مواعظ وفيه أذكار وفيه تنبيهات وفيه تذكير، وكذلك القرآن فيه أحكام -كما هو معروف- وفيه أوامر ونواه، وفيه قصص وأمثال ونحو ذلك. فإذاًَ كيف يقول عاقل: إن المعنى الذي في التوراة هو المعنى الذي في الإنجيل، وهو المعنى الذي في الزبور، وهو المعنى الذي في القرآن، وأن هذا عين هذا إلا أنها اختلفت العبارة، فهذا عربي وهذا عبري وهذا سرياني؟ ونقول: هذا من أبعد البعيد، ومن أمحل المحال. ثم ذكر أيضاً أن القرآن معروف أنه لا يمسه إلا المطهرون، وعلى قول هؤلاء الأشاعرة ونحوهم أنه عبارة، بمعنى أنه تعبير غير كلام الله، كأن الذي عبر به إما جبريل وإما محمدٌ أو غيرهما، فجعلوا كلام الله المعنى، وهما عبرا عنه بمنزلة المترجم الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة. وأنت إذا سمعت إنساناً ينقل الكلام من العربية إلى الأوروبية تقول: هذا تعبير فلان المترجم، فعلى قولهم: القرآن تعبير محمد أو تعبير جبريل لا أنه نفس كلام الله، فإنه إذا كان تعبيراً لغير الله لم يكن له حرمة، وعلى هذا يجوز أن يقرأه الجنب، ويجوز أن تقرأه الحائض، ويجوز أن يمس المصحف من هو محدث ولو حدثاً أكبر؛ لأنه ليس فيه كلام الله، إنما فيه عبارة أو حكاية أو ترجمة لكلام الله، وأما الحروف والألفاظ فليست هي كلام الله، إذاً لا يبقى له حرمة، وهذا خطأ. والمسلمون مجتمعون على أنهم يقولون: هذا كلام الله، وهذا المصحف فيه كلام الله. فقولهم: فيه كلام الله معناه أنه مكتوب فيه، وإذا قالوا: في هذا المصحف مداد فالمعنى حبر كتب به، مداد أسود، ومداد أحمر، فالمراد أن المداد مخلوق؛ لأنه كتب به، ولكن المكتوب هو كلام الله، وأما المداد الذي كتب به فهو مخلوق، ولهذا يقول القحطاني في نونيته: ومدادنا والرق مخلوقان. يعني: إن حبرنا والصحيفة مخلوقان، وأما الكلام فإنه ليس بمخلوق. ويقول الشارح: أنت تقول: في هذا القرآن السماوات والأرض والأمم. أي: أن ذلك مكتوب فيه، فموجود فيه ذكر السماوات، ولكن إذا قلت: فيه مداد وفيه حبر وفيه أوراق كان لك مقصد، وإذا قلت: في هذا المصحف السماوات والأرض والجنة والنار صدقت في أنها موجودة، أي: مكتوبة فيه، وإذا قلت: فيه كلام الله صدقت؛ لأنه مكتوب فيه كلام الله الذي كتب فيه. فالحاصل أن اعتقاد المسلمين أنه كلام الله ينفي ويبطل ما يقول هؤلاء المبتدعة من أن القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم عبارة أو حكاية عن كلام الله لا أنه عين كلام الله. وقد كتب شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في ذلك رسالة عندما استقدم بعض الأشاعرة للتدريس في هذه البلاد، وكأنهم أرادوا إظهار معتقدهم من أن القرآن حكاية أو عبارة عن كلام الله، فألف في ذلك رسالة طبعت ونشرت، وهي أيضاً موجودة في مجموع رسائله، قراءتها تبين منهج أهل السنة والرد على من يقول: إن القرآن حكاية أو عبارة عن كلام الله لا أنه نص أو غير كلام الله. بل نحن نقول: هو كلام الله حروفه ومعانيه، ليس كلامه الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 8 الفرق بين القراءة والمقروء في استعمال لفظ القرآن يبطل من جعل كلام الله معنى واحدا ً قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك الفرق بين القراءة التي هي فعل القارئ والمقروء الذي هو قول الباري، ومن لم يهتد له فهو ضال أيضاً، ولو أن إنساناً وجد في ورقة مكتوباً: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) من خط كاتب معروف لقال: هذا من كلام لبيد حقيقة، وهذا خط فلان حقيقة، وهذا (كل شيء) حقيقة، وهذا خبر حقيقة، ولا تشتبه هذه الحقيقة بالأخرى. والقرآن في الأصل مصدر، فتارة يذكر ويراد به القراءة، قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم) . وتارة يذكر ويراد به المقروء، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] ، وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) ، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على كل من المعنيين المذكورين. فالحقائق لها وجود عيني وذهني ولفظي، ولكن الأعيان تعلم ثم تذكر ثم تكتب، فكتابتها في المصحف هي المرتبة الرابعة، وأما الكلام فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة، بل هو الذي يكتب بلا واسطة ذهن ولا لسان] . معلوم أن هناك فرقاً بين القراءة والقارئ، أو بين القراءة والمقروء، فيكون عندنا قارئ وقراءة ومقروء، فالقارئ هو الإنسان الذي حرك شفتيه ولسانه، والقراءة هي الصوت الذي سمعناه، والمقروء هو الكلام الذي نطق به، فحركات لسانه وشفتيه مخلوقة، ولكن المقروء الذي قرأه ليس بمخلوق، ولهذا يقول العلماء إذا عرفوا ذلك: الصوت صوت القارئ والقول قول الباري. فالصوت الذي تسمعه تضيفه إلى القارئ فتقول: هذه قراءة بصوت القارئ فلان، ولكن اللفظ -الكلام- المقروء الذي قرأه تقول عنه: هذا كلام الله، وسمعت كلام الله بصوت القارئ فلان الذي قراءته وصوته حسن، وفيه خشوع وفيه تذلل. وتأتي القراءة بمعنى (المقروء) وتأتي كلمة (القرآن) بمعنى (القراءة) واستدل الشارح على ذلك بقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] ، فهنا المراد القراءة، وقراءة صلاة الفجر، أي: القراءة التي تقرأ في صلاة الفجر مشهودة تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، فعبر عن القراءة بالقرآن. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم) ، المراد القراءة، فهنا فسر أو عبر بالقرآن عن القراءة. وأحياناً تستعمل كلمة (القرآن) ويراد بها (المقروء) أي: الكلام الذي يقرأ وهو كلام الله، كما في الآيات الأخرى، كقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف:204] {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114] . وقوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16-17] . يعني: قراءته. فإذا عرفنا أنه حيثما قرئ وحيثما كتب فهو كلام الله نقول: إن كلام الله تعالى هو المعنى المكتوب في المصاحف المسموع بالآذان المقروء بالألسن. ونقول أيضاً: إن كل هذه التصرفات لا تخرجه عن كونه كلام الله. ونقول: إن المخلوق من ذلك هو ما للآدميين، فالأوراق مخلوقة، والمداد الذي يكتب به مخلوق، والأيدي التي كتبت أو الحروف التي يطبع بها مخلوقة، ولكن نفس الكلام غير مخلوق بل هو كلام الله تعالى، وكل ما يضاف إلى الله فليس بمخلوق. فالحاصل أنه كيفما كتب وكيفما قرئ لن يخرج عن كونه كلام الله تكلم به حقيقة، ويمثل لذلك بأن كل من سمع كلاماً نسبه إلى صاحبه ونسبه إلى من تكلم به، فإذا سمع شعراً من شعر لبيد -مثلاً- قال: هذا كلام لبيد. ولبيد أحد الشعراء المشهورين، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم كلمته هذه فقال: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل) ، فإذا رأيت ورقة مكتوباً فيها شطر هذا البيت قلت: هذا كلام لبيد حقيقة، وهذا خط فلان حقيقة، وهذا كلمة (كل شيء) فـ (كل شيء) موجودة في هذه الورقة حقيقة، والثلاث الحقائق لا تنافي بينها، حقيقة وحقيقة وحقيقة. فإذاً إذا سمعت في الإذاعة صوت قارئ من القراء قلت: هذا كلام الله حقيقة، وهذه إذاعة القرآن حقيقة، وهذه سورة القصص حقيقة، ولا تنافي بين هذه الحقائق، فكلام الله وقراءة فلان وإذاعة القرآن وما أشبه ذلك الجميع تقول فيه: إنه حقيقة، ولا تخالف بين الحقائق. فإذاً كيف يدعون أنه لا يمكن أن يكون القرآن يعبر به عن شيئين ما دمنا نعرف أنه يعبر به عن القراءة في قوله: (زينوا القرآن بأصواتكم) ، يعني: القراءة، ويعبر به عن المقروء لقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] ! وكلا التعبيرين لا ينافي الآخر؛ فكذلك بقية الحقائق. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 9 الفرق بين كون القرآن في زبر الأولين وفي كتاب مكنون قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والفرق بين قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] ، أو {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3] ، أو {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22] ، أو {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:78] واضح. فقوله عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] أي: ذكره ووصفه والإخبار عنه. كما أن محمداً مكتوب عندهم في القرآن، وأنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم لم ينزله على غيره أصلاً، ولهذا قال: (في الزبر) ولم يقل: في الصحف. ولا في الرق؛ لأن الزبر جمع زبور، والزبر هو الكتابة والجمع، فقوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] أي: مزبور الأولين، ففي نفس اللفظ واشتقاقه ما يبين المعنى المراد، ويبين كمال بيان القرآن وخلوصه من اللبس، وهذا مثل قوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ} [الأعراف:157] أي: ذكره. بخلاف قوله: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3] و {لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22] و {كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:78] ؛ لأن العامل في الظروف إما أن يكون من الأفعال العامة مثل: الكون والاستقرار والحصول ونحو ذلك، أو يقدر (مكتوب في كتاب) أو (في رق) . والكتاب تارة يذكر ويراد به محل الكتابة، وتارة يذكر ويراد به الكلام المكتوب، ويجب التفريق بين كتابة الكلام في الكتاب وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج فيه؛ فإن تلك إنما يكتب ذكرها، وكلما تدبر الإنسان هذا المعنى وضح له الفرق] . هذا وصفٌ القرآن بمثل هذه الأشياء، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] فما معنى كون القرآن في زبر الأولين؟ هل المعنى أنه أنزل على الأولين؟ ليس كذلك، فما أنزل إلا على نبينا صلى الله عليه وسلم، إذاً هو مذكور في زبر الأولين، والزبر هي الصحف واحدها زبور، أي: ذكر هذا القرآن ومدحه موجود في تلك الصحف التي أنزلت على الأنبياء السابقين، فهذا معنى كونه (في زبر الأولين) ، مثل أن تقول: محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، أي: مذكور في التوراة. وفي الإنجيل، أي: مذكور اسمه أو وصفه أو نبوته، كما قال تعالى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157] ، يعني: ذكره وصفته واسمه ونبوته وآياته ومعجزاته، فالذين قرءوا التوراة يعرفون وصفه، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] . فالقرآن في زبر الأولين معناه أنه مذكور فيها ذكره وليس نفس القرآن، ومحمد في كتب الأولين ذكره. أما قول الله تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22] ، {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:78] ، فهذا معناه: أن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ. وذلك لأن الرب سبحانه لما خلق الخلق أمر القلم فجرى بما هو كائن، وكتب الكلام الذي تكلم به في ذلك اللوح المحفوظ الذي يسمى (أم الكتاب) ويسمى (الإمام) {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] ، ويسمى (الكتاب المكنون) فالقرآن في الكتاب المكنون الذي هو اللوح المحفوظ، أي: مكتوب فيه سوره وآياته وحروفه وكلماته، وموجود في اللوح المحفوظ، وموجود في الكتاب المكنون الذي قال تعالى عنه: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] ، والذي هو تنزيل من رب العالمين، فلا فرق بين هذا وبين هذا. وليس كما يدعون أنه لم يكن موجوداً ثم خلق، أي: خلقه الله كما خلق الإنسان، وكما خلق سائر المخلوقات، ولو كان كذلك لما سماه تنزيلاً، والله قد أخبر بأنه منزل وبأنه تنزيل، ولم يذكر أنه مخلوق ولا أنه خلقه، ولو كان مخلوقاً لذكره في موضع واحد حتى يحمل عليه بقية الأماكن الذي فيها ذكر التنزيل. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 10 سماع كلام الله تعالى وتبليغه وما يفهم من ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحقيقة كلام الله تعالى الخارجية هي ما يسمع منه أو من المبلغ عنه، فإذا سمعه السامع علمه وحفظه، فكلام الله مسموع له معلوم محفوظ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلو، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم، وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه، والمجاز يصح نفيه، فلا يجوز أن يقال: ليس في المصحف كلام الله، ولا ما قرأ القارئ كلام الله. وقد قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وهو لا يسمع كلام الله من الله وإنما يسمعه من مبلغ عن الله، والآية تدل على فساد قول من قال: إن المسموع عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله، فإنه تعالى قال: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، ولم يقل: حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله. والأصل الحقيقة، ومن قال إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله أو حكاية كلام الله وليس فيها كلام الله، فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة، وكفى بذلك ضلالاً] . في هذا الكلام بيان أن كلام الله تعالى هو الحروف والمعاني وأن الله تكلم به حقيقة، ولكن بلغه رسوله، فكلم به الرسول الملكي، ونزل به الملك على الرسول البشري، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية نزول الوحي في قوله: (أحياناً يأتيني الملك في صورة رجل فيكلمني فأعي ما يقول) يعني أن من الوحي ما يكون نزوله عليه أن يتمثل له الملك في صورة رجل. ومعلوم أن كلام الله تعالى مسموع بالآذان، ولهذا قال تعالى في هذه الآية من سورة التوبة: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وقال تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] ، فصرح بأنه كلام الله. وفي آيات أخرى التصريح بذلك، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] ، فـ (الكتاب) يعني: الكتابة (إلا أماني) أي: تلاوة دون فهم، وعبر بذلك عن القراءة، ثم قال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] . والحاصل أن سماع كلام الله ممكن، ولكن هل المراد أنه يسمع كلام الله من الله؟ لا. بل المراد ممن يقرؤه عليه ويخبره بأنه كلام الله، إنما الذي سمع كلام الله وصرح بأنه سمعه موسى عليه السلام، كما قال تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] ، وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ، فأخبر الله بأن موسى سمع كلام الله منه إليه، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم لما أسري به كلمه الله منه إليه. فكل ذلك يفيد أن كلام الله تعالى مسموع، والمسموع هو هذا الصوت الذي نسمعه من القارئ، ومعلوم أننا لا نقول: إن الصوت هو صوت الله، تعالى الله، وإنما نقول: المتكلَم به هو كلام الله، والذي أسمعنا إياه هو هذا القارئ، فسمعنا كلام الله من هذا القارئ، فهذا الفرق في السماع بين القراءة والقارئ، بين المقروء والقارئ. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 11 رد الطحاوي على من زعم أن القرآن معنى واحد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكلام الطحاوي رحمه الله يرد قول من قال: إنه معنى واحد لا يتصور سماعه منه، وإن المسموع المنزل المقروء والمكتوب ليس كلام الله وإنما هو عبارة عنه، فإن الطحاوي رحمه الله يقول: (كلام الله منه بدأ) ، وكذلك قال غيره من السلف، ويقولون: منه بدأ وإليه يعود. وإنما قالوا: (منه بدأ) لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون: إنه خلق الكلام في محل فبدأ الكلام من ذلك المحل، فقال السلف: (منه بدأ) أي: هو المتكلم به فمنه بدأ لا من بعض المخلوقات، كما قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] ، {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] ، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] . ومعنى قولهم: (وإليه يعود) أنه يرفع من الصدور والمصاحف فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف، كما جاء ذلك في عدة آثار] . قولهم: (منه بدأ وإليه يعود) صريح في رد قول المعتزلة الذين ادعوا أنه خلقه، وأن الذي تكلم به البشر فلا يكون كلام الله، إنما يكون كلام ذلك الذي ابتدأ الكلام منه، وإذا كان مخلوقاً فمعناه أن الله تعالى خلقه في غيره، وإذا خلقه غيره كان ذلك الغير هو الذي ابتدأ منه، وهو أول من تكلم به. فإذاً السلف أصدق في قولهم في نص القرآن: إنه كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، أي: ابتدأ الكلام من الله تعالى فهو الذي تكلم به، ويقول العلماء أيضاً -بل والبلغاء- إن الكلام إنما يضاف إلى من قاله ابتداء لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، فالذي ابتدأ -مثلاً- رسالة وكتبها من إنشائه ثم أعطاها قارئاً يقرؤها يقال: هذه من كتابة أو من إنشاء زيد وسمعناها من عمرو، فالقارئ إنما بلغ، والمبتدئ بالكلام هو الذي أنشأ. فهكذا نقول: سمعنا كلام الله من قراءة فلان. وقد ورد في الأحاديث أن القرآن في آخر الزمان يرفع، وذلك عندما يقل العمل به، فعندما لا يبقى أحد يعمل به يرفع من الصدور وينسخ من المصاحف فتصبح المصاحف بيضاء ليس فيها شيء، وذلك علامة على انقضاء الدنيا وقرب زوالها، وذلك عندما يهان كلام الله ولا يبقى من يعمل به، وهذا معنى قولهم: (وإليه يعود) أي: يرد إليه سبحانه ويرفع من هذه الحياة، ولا شك أن رفعه مصيبة كبيرة، ولكن الذين يرفع من بين أيديهم لا يشعرون بالمصيبة، بل لا يهمهم، بل ربما يهينونه كما في بعض الدول، ففي بعض الدول هناك بعض الملاحدة والزنادقة والشيوعية والمنافقين يدوسون كلام الله بأحذيتهم -تعالى الله-، وعليهم ما يستحقونه من عقاب الله! فإذا انتشر هذا الكفر في الأرض وأطبق على البلاد كلها ولم يبق أحد يعرف حرمة كلام الله تعالى، عند ذلك يرفع هذا القرآن ولا يبقى منه حرف، وهذه منذرات أو أمارات على قرب انقضاء الحياة الدنيا، لكن نحن في هذه الحياة مازلنا نرى من يعظمه ويحترمه ويقرؤه ويتلوه، وإننا نؤمل خيراً إن شاء الله. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 12 معنى أن القرآن بدأ من الله بلا كيفية قولا ً قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (بلا كيفية) أي: لا تعرف كيفية تكلمه به (قولاً) ليس بالمجاز، (وأنزله على رسوله وحياً) أي: أنزله إليه على لسان الملك فسمعه الملك جبرائيل من الله، وسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم من الملك وقرأه على الناس، قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} [الإسراء:106] ، وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193-195] ، وفي ذلك إثبات صفة العلو لله تعالى] . يقول بعض العلماء: إنه تتبع ذكر القرآن فوجد ذكره في هذا المصحف في أكثر من خمسين موضعاً، وغالباً يذكر بلفظ الإنزال والتنزيل، ولم يذكر بلفظ (الخلق) وذكر بلفظ (الجعل) في قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] ، ولكن فسر الجعل بأنه التصيير، يعني: صيرناه عربياً، حيث إنه أنزل على قوم من العرب ليفهموه وليعلموه لمن بعدهم أو لغيرهم. فهذا القرآن ذكر بلفظ الإنزال كقوله تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2] ، {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2] ، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] ، {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام:114] ، {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، وكل ذلك دليل على أنه منزل من الله، واستدلوا بذلك أيضاً على صفة العلو؛ لأن النزول لا يكون إلا من فوق. فالقرآن منزل من الله تعالى، والله تعالى فوق سماواته كما يشاء والقرآن نزل منه، والذي نزل به هو الملك، والذي نزل عليه هو الرسول، وكذلك الرسل قبله أنزلت عليهم هذه الكتب التي هي مضمنة للشرائع التي شرعت لهم، فالتنزيل يدل على أنه نزل بعد أن كان تكلم الله تعالى به وكتبه في اللوح المحفوظ وأمر به الملك فأنزله على رسوله فأصبح متلواً مقروءاً مكتوباً، ولم يخرج بذلك كله عن كونه كلام الله سبحانه وتعالى. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 13 اختلاف إنزال القرآن عن إنزال المخلوقات المعبر به في القرآن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أورد على ذلك أن إنزال القرآن نظير إنزال المطر، وإنزاله الحديد، وإنزال ثمانية أزوج من الأنعام. والجواب أن إنزال القرآن فيه مذكور أنه إنزال من الله، قال تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1-2] ، وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] ، وقال تعالى: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2] ، وقال تعالى: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:3-5] ، وقال تعالى: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام:114] ، وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] . وإنزال المطر مقيد بأنه منزل من السماء، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] ، والسماء العلو. وقد جاء في مكان آخر أنه منزل من المزن، والمزن السحاب، وفي مكان آخر أنه منزل من المعصرات، وإنزال الحديد والأنعام مطلق، فكيف يشبه هذا الإنزال بهذا الإنزال؟ فالحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال وهي عالية على الأرض، وقد قيل: إنه كلما كان معدنه أعلى كان حديدة أجود، والأنعام تخلق بالتوالد المستلزم إنزال الذكور الماء من أصلابها إلى أرحام الإناث، ولهذا يقال: أنزل ولم ينزل. ثم الأجنة تنزل من بطون الأمهات إلى وجه الأرض، ومن المعلوم أن الأنعام تعلو فحولها إناثها عند الوطء، وينزل ماء الفحل من علو إلى رحم الأنثى، وتلقي ولدها عند الولادة من علو إلى سفل، وعلى هذا فيحتمل قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ} [الزمر:6] وجهين: أحدهما: أن تكون (من) لبيان الجنس. الثاني: أن تكون (من) لابتداء الغاية. وهذان الوجهان يحتملان في قوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} [الشورى:11] ،] . ذكر الشارح هذا الاعتراض على آيات التنزيل التي وصف الله بها القرآن، فالله تعالى كلما ذكر القرآن ذكره بلفظ الإنزال ولم يذكره بلفظ الخلق، فلم يقل: (خلقنا القرآن) ، وإنما يقول: (أنزلنا) ثم يزيد على ذلك أنه منزل من الله أو من عند الله، ولا شك أن هذا يدل على الاختصاص. وكلمة الإنزال تعرف العرب أن معناها لا يكون إلا من الأعلى، فإذا قيل: أنزله فالمعنى: جاء به من بعد أن كان رفيعاً. تقول: أنزلت الدلو في البئر أو نزلته إذا دليته من أعلى إلى أسفل، وتقول: نزل فلان من السطح ومن الجبل ومن ظهر المركوب الذي هو راكبه، أي: نزل منه بعد أن كان مرتفعاً. فلما كان الإنزال من العلو فالقرآن كذلك نازل من العلو، نازل من السماء، نازل من الله تعالى، منزل من ربك، فهذا حقيقة ما ذكر الله عن القرآن. وليس مثل إنزال المطر، فإنزال المطر مقيد بأنه من السماء، أو بأنه من المزن، أو بأنه من المعصرات ونحوها، وإن كان الله هو الذي أنشأه وخلقه فيها، وإنزال الحديد معناه خلقه وإيجاده ولكن أوجده في علو ثم نزل إلى سفل، فالمعادن والمناجم عادة تكون في جوف الأرض، فهي مخلوقة في الجبال ثم تذوب وتنزل إلى جوف الأرض أو نحو ذلك، وكذلك قد يعثر عليها وهي في رءوس الجبال فينزلونها من الجبال، ولا شك أن ذلك كله إنزال حقيقي، فهو إنزال، ولكن لم يقل: إنه من عند الله، فحصل بذلك الفرق الكبير بين إنزالها وإنزال القرآن. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 14 إثبات الطحاوي أن القرآن كلام الله حقيقة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً) الإشارة إلى ما ذكره من التكلم على الوجه المذكور وإنزاله، أي: هذا قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهم السلف الصالح، وأن هذا حق وصدق. وقوله: (وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية) رده على المعتزلة وغيرهم بهذا القول ظاهر، وفي قوله: (بالحقيقة) رد على من قال: إنه معنى واحد قام بذات الله لم يسمع منه، وإنما هو الكلام النفساني؛ لأنه لا يقال لمن قام به الكلام النفساني ولم يتكلم به: إن هذا كلام حقيقة، وإلا للزم أن يكون الأخرس متكلماً، ولزم ألا يكون الذي في المصحف عند الإطلاق هو القرآن ولا كلام الله، ولكن عبارة عنه ليست هي كلام الله. كما لو أشار أخرس إلى شخص بإشارة فهم بها مقصوده، فكتب ذلك الشخص عبارته على المعنى الذي أوحاه إليه ذلك الأخرس، فالمكتوب هو عبارة ذلك الشخص عند ذلك المعنى. وهذا المثل مطابق غاية المطابقة لما يقولونه، وإن كان الله تعالى لا يسميه أحد أخرس، لكن عندهم أن الملك فهم منه معنىً قائماً بنفسه لم يسمع منه حرفاً ولا صوتاً، بل فهم معنىً مجرداً ثم عبر عنه، فهو الذي أحدث نظم القرآن وتأليفه العربي، أو أن الله خلق في بعض الأجسام كالهواء الذي هو دون الملك هذه العبارة. ويقال لمن قال إنه معنى واحد: هل سمع موسى عليه السلام جميع المعنى أو بعضه؟ فإن قال: سمعه كله فقد زعم أنه سمع جميع كلام الله، وفساد هذا ظاهر، وإن قال بعضه فقد قال: يتبعض، وكذلك كل من كلمه الله أو أنزل إليه شيئاً من كلامه. ولما قال تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] ، ولما قال لهم: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] وأمثال ذلك، هل هذا جميع كلامه أو بعضه؟ فإن قال: إنه جميعه، فهذا مكابرة، وإن قال: بعضه، فقد اعترف بتعدده] . قوله في المتن: (وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة) ، أكده بقوله: (حقيقة) ليبين أن عقيدة أهل السنة أن القرآن كلام الله حقيقة حروفه ومعانيه ليس أحدهما فقط، وفي ذلك رد على طائفتين: الطائفة الأولى: الذين قالوا إنه مخلوق، وهم المعتزلة الذين ورثوا الجهمية؛ فإنهم قالوا: إنه خلقه كما خلق السماوات والأرض والإنسان والحركات ونحوها. الطائفة الثانية: الذين زعموا أن كلام الله هو المعنى ليس هو اللفظ، وعلى زعمهم لا يكون الله متكلماً، وإنما هذا الذي نقرؤه عبارة أو حكاية أو ترجمة لكلام الله، والذي عبر به هو الملك كأنه ألهمه إلهاماً، فالملك في زعمهم ألهم إلهاماً فعبر عما ألهم، وأنزل إلى الرسل ذلك المعنى، فهو الذي صاغ هذه العبارة، وعلى هذا نقول: إنه كلام الملك لأنه الذي صاغه، فهو كلام جبريل أو كلام الرسل، لا أنه كلام الله. ولا شك أن هذا فيه إبطال النصوص، كقوله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [البقرة:75] ، وقوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15] ، وقوله: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام:115] ، وقوله: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] ، وأشباه ذلك كثير. ولو كان كذلك لكان الله تعالى موصوفاً بأنه لا يتكلم -تعالى الله عن قولهم- ويلزم على ذلك أن يكون ناقصاً؛ لأن عدم القدرة على الكلام نقص في حق كل عاقل، فكل عاقل يرى أن الكلام ميزة وأن نفيه نقيصة، وهؤلاء قد وصفوا الرب تعالى بالنقيصة. ثم أجاب عليهم الشارح، فقال: أنتم تقولون: إن موسى سمع كلام الله، ولكنه لم يسمع إلا المعنى. فهل سمع جميع ما ينسب إلى الله من الكلام أو سمع بعضه؟ وإذا قلتم: سمع بعضه. فلابد أن يكون ذلك الذي سمعه سماعاً حقيقاً، لا أنه معنوي، ونقول بعد ذلك: إن الله تعالى كلم بعض خلقه، فقال تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف:22] ، وقال تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36] أخبر تعالى أنه كلم هؤلاء، ولا شك أن هذا صريح في أنه كلام مسموع، وأنه ليس هو كلام الله كله؛ لأن كلام الله تعالى لا يحصى، ودليله قول الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] ، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] . فكلام الله لا نهاية له، فلو قدر أن أشجار الأرض كلها من أول ما خلقت الدنيا إلى نهايتها كلها أقلام، والبحار مع سعتها ومعها سبعة أمثالها من البحار انقلبت حبراً يكتب به، فكتب بذلك الحبر وبتلك الأقلام لتكسرت الأقلام، ولنفدت البحار قبل أن يفنى كلام الله. هذا مفاد هذه الآيات، فإذاً كيف يقال: إن كلام الله له نهاية، وإنه هو المعنى فقط؟! هذا لا شك أنه تنقص للرب سبحانه وتعالى، وهكذا أيضاً وصفه بأنه لا يتكلم وأن الكلام إنما هو عبارة أو حكاية عنه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 15 شرح العقيدة الطحاوية [18] لا يخفى مذهب أهل السنة في كلام الله تعالى، لكن خالفهم فيه الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، فزعموا أن القرآن عبارة عن كلام الله، واستدلوا بأدلة باطلة، مما جرهم إلى القول بما يبعدهم عن الصواب ويلحقهم بالمبتدعة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 1 الرد على الأشاعرة في قولهم: إن كلام الله حديث نفس وإن القرآن عبارة عنه الجزء: 18 ¦ الصفحة: 2 مسمى الكلام عند الفرق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق أربعة أقوال: أحدها: أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً، كما يتناول لفظ الإنسان الروح والبدن معاً. وهذا قول السلف. الثاني: اسم اللفظ فقط، والمعنى ليس جزء مسماه، بل هو مدلول مسماه. وهذا قول جماعة من المعتزلة وغيرهم. الثالث: أنه اسم للمعنى فقط، وإطلاقه على اللفظ مجاز؛ لأنه دالٌ عليه. وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه. الرابع: أنه مشترك بين اللفظ والمعنى. وهذا قول بعض المتأخرين من الكلابية. ولهم قول يروى عن أبي الحسن أنه مجاز في كلام الله حقيقة في كلام الآدميين؛ لأن حروف الآدميين تقوم بهم، فلا يكون الكلام قائماً بغير المتكلم، بخلاف كلام الله فإنه لا يقوم عنده بالله، فيمتنع أن يكون كلامه، وهذا مبسوط في موضعه. وأما من قال إنه معنى واحد واستدل عليه بقول الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا فاستدلال فاسد، ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا: هذا خبر واحد. ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به، فكيف وهذا البيت قد قيل إنه موضوع منسوب إلى الأخطل وليس هو في ديوانه؟! وقيل: إنما قال: (إن البيان لفي الفؤاد) وهذا أقرب إلى الصحة. وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به، فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام، وزعموا أن عيسى عليه الصلاة السلام نفس كلمة الله، واتحد اللاهوت بالناسوت، أي: شيء من الإله بشيء من الناس، أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب؟ وأيضاً فمعناه غير صحيح؛ إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً لقيام الكلام بقلبه وإن لم ينطق به ولم يسمع منه، والكلام على ذلك مبسوط في موضعه، وإنما أشير إليه إشارة] . ذكر الشارح أن الفرق لها في مسمى الكلام عدة تعريفات: فمنهم من يقول: إن الكلام اسم للفظ وللمعنى جميعاً، اللفظ الذي هو الحروف، والمعنى الذي اشتملت عليه تلك الحروف وتلك الكلمات. والنحويون عندهم تعريف الكلام يقولون: إنه ما أفاد وصيغ بالألفاظ العربية وتركب من كلمتين فأكثر، فأما إذا كان من كلمة واحدة فلا يسمى كلاماً، وهكذا إذا لم يفد فلا يسمى كلاماً، وهكذا إذا كان مركباً ولكن ليس بالألفاظ العربية فلا يسمى كلاماً. وهناك من يقول: إن الكلام هو الحروف والكلمات التي ينطق بها، وأما المعاني التي اشتمل عليها فلا تدخل في مسمى الكلام. وهذا قول المعتزلة. وهناك قول ثالث بعكسه، وهو أن الكلام هو المعنى، وأما الحروف فإنما هي دالة عليه. وهناك قول رابع أنه مشترك بينهما. وعلى كل حال فهذه الأقوال كلها خطأ إلا القول الأول، وهو أن الكلام اسم للفظ وللمعنى جميعاً، لا يسمى كلاماً إلا إذا كان له معنى مفيد، وكان بالحروف التي يسمعها المتكلم، ولو كان الكلام مصوغاً بغير العربية سميناه كلاماً بلغة أهله، فهناك الأعاجم لهم عدة لغات، ونسمي لغاتهم كلاماً، فنقول: تكلم بلغته، ولا نفهم كلامه، ونقول له: فسر لنا كلامك، فنسميه كلاماً إذا فسره بلغة نفهمها. فعلى هذا يكون الكلام العربي اسماً لموصوف بالحروف وبالكلمات التي استعملتها العرب إذا كانت ذات معان مفهومة عند الذين وضعوا اللغة وعند الذين تكلموا عليها. فإذاً: القرآن كلمات وحروف، وجمل وآيات وسور، وكل جملة لها معنى مستقل، وقد تكون الآية فيها عدة جمل، كآية الكرسي، فقد اشتملت على عشر جمل: الجملة الأولى: قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [البقرة:255] فيها إثبات الإلهية. الجملة الثانية: قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] مشتملة على اسمين من أسماء الله مؤكدين لوصفه. الجملة الثالثة: قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] نفي لهذين النقصين، والسنة النعاس، والنوم معروف إلى آخر ما في الآية. ففيها عشر جمل كل جملة ذات معنى، فتسمى الجملة كلاماً، فيقال: هذه الجملة من كلام الله، ويقال كذلك في بقية القرآن: إنه مشتمل على كلمات وجمل ذات معانٍ، كل جملة دالة على معنى يفهمه من تعلمه وعرفه، ويترجم إلى لغة أخرى لمن لا يفهمه، وهذا القول هو الصحيح؛ فالكلام اسم للفظ والمعنى، وكلام الله اسم للحروف والكلمات مع المعاني التي دلت عليها تلك الكلمات. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 3 الرد على الأشاعرة في استدلالهم بشعر الأخطل وذهبت الأشاعرة إلى أن الكلام هو المعنى، وأنه معنى قائم بنفس الله تعالى، وأنه فهمه الملك مما أشير له إشارة، وجعلوا ما يقوم بالنفس هو الكلام، واستدلوا بهذا البيت الذي نسبوه إلى الأخطل، وهو قوله: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا وقد جعلوه عمدتهم، فتراهم دائماً يستدلون به في كتبهم، وهو استدلال فاسد. ويحتج عليهم بالأحاديث التي في الصحيحين، فيردونها ويقولون: هذا خبر واحد، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن. فيردونه، ويردون أحاديث النزول مع أنه رواها نحو عشرة من الصحابة، ويقولون: أخبار آحاد لا نقبلها ولو كانت في الصحيحين، ويردون أحاديث الاستواء والكتابة، كقوله: (إن الله كتب كتاباً فهو موضوع عنده على العرش: أن رحمتي سبقت غضبي) ، فيردون أحاديث الرحمة، ويردون أحاديث المحبة ونحو ذلك، ويقولون: إنها آحاد إنما تفيد الظن. فيقال لهم: عجباً لكم! تردون أحاديث الصحيحين وتحتجون بهذا البيت؟! وهذا البيت هل هو متواتر أو هو خبر واحد؟ لم يخرج عن كونه خبر واحد، بل ربما لا أصل له، وما نقل هذا البيت بإسناد صحيح ولا بإسناد ضعيف، وإنما تتناقلونه وتنسبونه إلى الأخطل، وقد قال ابن القيم في نونيته: ودليله في ذاك بيت قاله فيما يقال الأخطل النصراني هذا دليلهم فيما يقال، ويقول شيخ الإسلام في قصيدته اللامية: قبحٌ لمن نبذ الكتاب وراءه وإذا استدل يقول قال الأخطل إنما دليلهم هذا البيت الذي نسب إلى الأخطل، ثم بحث عنه المحققون في ديوان الأخطل فلم يجدوه، فدل على أنه مصنوع مكذوب، قاله من نسبه إلى الأخطل , ورواه بعضهم بلفظ: (إن البيان لفي الفؤاد) بمعنى أن القلب هو الذي يملك صاحبه أن يقدر على البيان، وهذا هو الأليق على تقدير ثبوت هذا البيت. ولو قدرنا أنه من كلام الأخطل فهل يكون كلام الأخطل حجة؟ فـ الأخطل نصراني ولو كان عربياً، وهو من نصارى العرب أصر على نصرانيته، وقد دعوه إلى الإسلام فامتنع أن يقبل الإسلام وبقي على نصرانيته، وقد وفد على عمر بن عبد العزيز وطلب أن يدخل عليه ليجيزه جائزة، فقال: أليس هو الذي يقول: ولست بقائد عيسي بكوراً إلى بطحاء مكة للنجاح ولست بقائم كالعير يدعو قبيل الصبح حي على الفلاح ولست بصائم رمضان طوعاً ولست بآكل لحم الأضاحي ولكني سأشربها شمولاً وأسجد عند منبلج الصباح هذه عقيدته، يتمدح بأنه سيشرب الخمر، ويسجد إذا طلعت الشمس أو غربت الشمس للشمس، ويتمدح بأنه لا يحج البيت، ويتمدح بأنه لا يأكل لحم الأضاحي، ويشبه المؤذن الذي يؤذن حي على الفلاح بأنه كالعير فيقول: ولست بقائم كالعير يدعو قبيل الصبح حي على الفلاح فهل يقبل مثل هذا؟ وهل يكون كلامه حجة؟ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 4 صلة شعر الأخطل بعقيدة النصارى ثم يحتج عليهم الشارح بأنه تكلم على عقيدة النصارى؛ وذلك لأن النصارى ضلوا في مسمى الكلام الذي نحن في تعريفه، فعندهم أن عيسى نفس كلمة الله، فيقولون: إنه نفس الكلمة، وإنه هو الكلمة. والصحيح أنه خلق بها لا أنه هي. يقولون: إن قوله: (كن) هو نفس الكلمة، فعيسى هو الكلمة، وهو (كن) في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] ، فهو خلقه وقال له: (كن) ، كما خلق آدم وقال له: (كن) ، وسمي كلمة الله في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ منه} [النساء:171] والكلمة التي ألقاها هي قوله: (كن) ، فـ (كن) كلام الله، خلق بها كما خلقت سائر المخلوقات بقول: (كن) {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] . فالنصارى ضلوا في هذا الباب، واعتقدوا أن عيسى نفس الكلمة، وإذا كان هذا شاعراً نصرانياً، فإنه تكلم بالبيت على عقيدة النصارى، فكيف نقلد النصارى فيما اعتقدوا؟ وهذا كله على تقدير أن البيت ثابت. ثم لسنا بحاجة إلى الاستدلال بأقوال النصارى، وكتاب الله وسنة نبيه وكلام العرب واضح في أنه يسمى المتكلم متكلماً، والذي لا يتكلم يسمى أخرس، ومعلوم أنه قد يقوم بقلب الأخرس كلام، وقد يشير إليه، وإذا أشار إليه فهم منه، فمعناه أن الأخرس الذي لا ينطق- وهو الأبكم- يسمى متكلماً على قول هؤلاء الأشاعرة، فعرف بذلك أنه لا دلالة لهم في ذلك، وأن القول الثابت والصحيح أن الكلام هو اللفظ والمعنى جميعاً، ليس هو المعنى الذي يستشهد له بهذا البيت. قال رحمه الله تعالى: [وهنا معنى عجيب، وهو أن هذا القول له شبه قوي بقول النصارى القائلين باللاهوت والناسوت؛ فإنهم يقولون: كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه، وأما النظم المسموع فمخلوق. فإفهام المعنى (القديم) بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى عليه الصلاة السلام، فانظر إلى هذا الشبه ما أعجبه] . اللاهوت عندهم الإله، والناسوت: الناس، والنصارى يدعون أن اللاهوت اتصل بالناسوت، فتكون منهما هذا الإنسان، وتبعهم على هذا الاعتقاد أيضاً ملاحدة يقال لهم: أهل الاتحاد وأهل الوحدة. فعندهم أن اللاهوت متصل بالناسوت ومتحد معه، وفي ذلك يقول حلاجهم: سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب حتى بدا في خلقه ظاهراً في صورة الآكل والشارب هذا معناه لعنه الله، ولا شك أن هذا أكفر الكفر، ولا شك أن الله تعالى هو الخالق وما سواه المخلوق، وأنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، فكلام النصارى في قولهم: إن عيسى هو عين الكلمة، وإن الكلمة جزء من ذات الرب سبحانه وتعالى شبيه بقول الاتحادية الذين يزعمون كزعم النصارى أن اللاهوت اتحد بالناسوت، وأصبح شيئاً واحداً، وأن من جملة ذلك عيسى، فإنه وجد من أنثى، ولكن بعد اتصال اللاهوت بالناسوت. وجلود المؤمنين تقشعر من أن يتصور هذا التصور، ولكن قلوب أولئك صدت عن معرفة الحق وزين لهم هذا الباطل والعياذ بالله. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 5 عدم بطلان الصلاة بحديث يرد قول الأشاعرة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويرد قول من قال بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس قوله صلى الله عليه وسلم: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) ، وقال: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة) ، واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته، واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام] . معلوم أن الكلام هو ما يسمع، فالساكت لا يقال إنه تكلم. فإذا جلست إلى إنسان وهو يحدث نفسه، هل تقول: إنه تكلم بكذا وكذا؟ فما دام أنه صامت ما نطق بكلمة فإنك لا تقول: إنه تكلم، ولو أنه منذ جلست يحدث نفسه. ثم مثل الشارح بقوله عليه السلام: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) ، وهذا حديث معاوية بن الحكم رضي الله تعالى عنه: (أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعطس رجل في الصلاة، قال: فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت وأنا في الصلاة: واثكل أمياه، ما لكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون أفخاذهم، ففهمت أنهم يسكتونني، فسكت، فلما خرجت دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو الذكر والدعاء وقراءة القرآن) ، فجعل هذا كلاماً يبطل الصلاة، ولكنه عذره بكونه جاهلاً لم يشعر بأن ما يقوله مبطل. والحديث الثاني: (إن مما أحدث الله ألا تتكلموا في الصلاة) يعني: مما تجدد به الوحي أن لا تتكلم في الصلاة، وكانوا أول ما فرضت يكلم أحدهم أخاه بحاجته، فلما نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام، فالكلام الذي يبطل الصلاة هو اللفظ الذي يسمع، والكلمات التي ينطق بها الإنسان وتخرج من بين شفتيه، ويسمعها من حوله. فلو أن إنساناً قال لآخر عمداً: أنصت، أو قم، أو تعال، أو نحو ذلك متعمداً وهو عالم أنه في صلاة بطلت صلاته، وإنما رخصوا في الكلام الذي من مصلحة الصلاة أو نحوها، أو من مكملاتها كأركان الصلاة، وكالتسبيح عندما ينوب الإمام شيء، أو ما أشبه ذلك. فالكلام الذي يسمع وهو من غير أركان الصلاة يبطل الصلاة، وهل تبطل بحديث النفس؟ الجواب لا تبطل. فمعلوم أنا لا نسلم غالباً -نستغفر الله- من حديث النفس، وأينا لا يحدث نفسه؟! كما روي أن ابن سعد قال لأبيه: يا أبت! أرأيت قول الله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5] أينا لا يسهو؟ أينا لا يحدث نفسه؟ فقال: ليس بذاك، إنما سهوا عن وقتها. يعني: يؤخرونها حتى يخرج وقتها؛ لأنه قال: (عن صلاتهم) ، ولم يقل: في صلاتهم، فالسهو في الصلاة وإن كان ينقص لكنه لا يبطلها، ولأجل ذلك يقع السهو كثيراً من المصلي، ولأجل ذلك شرع سجود السهو، علم الله أنه يحصل السهو فيزيد المرء في الصلاة بسبب اشتغال قلبه وبسبب حديث نفسه، وينقص منها، ويقدم أو يؤخر أو نحو ذلك؛ وذلك لأن قلبه قد يشتغل بشيء من حديثه أو من أموره الدنيوية، فيغفل عما هو مقبل عليه فيسهو، فحديث النفس لا يسمى كلاماً، ولو كان يسمى كلاماً لبطلت به الصلاة؛ لأنه عليه السلام قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) ، فعلم أن حديث النفس لا يسمى كلاماً. ولأجل ذلك يرد على هؤلاء الذين يقولون: إن الكلام هو ما يقوم بالنفس. بل نقول: ليس كذلك، إنما الكلام هو ما يسمع وما ينطق به المتكلم، هذا هو حقيقة الكلام، وأما غير ذلك فإنه يسمى وسوسة، أو حديث نفس، أو سهواً، أو ما أشبه ذلك. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 6 صحة اعتقاد أهل السنة في كلام الله فمن عقيدة أهل السنة أن القرآن كلام الله، وأن الكتب المنزلة على الأنبياء كلها كلام الله، وأن الله تعالى أقام بها الحجة على العباد، وأنه ضمنها شرائعه، وأنه أنزلها معجزة لأنبيائه، وأنها كلامه حقاً حروفاً ومعاني، هذه العقيدة الراسخة التي يعتقدها أهل السنة. ولا عبرة بمن أنكر كلام الله، أو أنكر صفة من صفاته الثابتة، سواءٌ أكانت صفة فعلية أم صفة ذاتية، وذلك لما قام عندهم من الشبهات التي شككوا بها على من انتحل تلك النحل واعتقد تلك العقائد الزائغة؛ حيث إن عقيدة أهل السنة مبنية على الأصل الذي هو النقل الصحيح والفطرة السليمة، وقد أيدوا ذلك بأن هذا القرآن أنزله الله معجزة لأنبيائه، وأنه ضمنه شرائعه، وأنه بعث به رسله وأمرهم بأن يبلغوا ما نزل إليهم، وجعل وظيفتهم البلاغ، فقال: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ} [الشورى:48] ، وقال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ} [المائدة:99] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] ولأجل ذلك سموا رسلاً؛ لأنهم بعثوا من ربهم، أرسلهم وجعل شرائعهم رسائل، فالشرائع التي جاءوا بها سماها رسائل حيث إنهم حملوها من ربهم. فالرسل هم الأنبياء، والرسائل هي الشرائع، والمرسل هو الله تعالى، والمتضمن لذلك هو القرآن الذي ضمن هذه الشريعة، فمن صدق به عرف أنه كلام الله الذي أرسل به رسله وقبله وعمل بما فيه، ومن شك فيه أو توقف فيه ولم يقبله حق القبول ويعمل به حق العمل فهو زائغ. وقد أثبت أهل السنة أن صفة الكلام صفة كمال، وأن نفيها نقص، وردوا على المعتزلة الذين قالوا: إن الله لا يتكلم أصلاً، وإن هذا القرآن مخلوق. وردوا أيضاً على من يقول: إن كلام الله هو المعنى دون اللفظ، وإن كلام الله نفسي. أي: من يجعلون القرآن حروفاً مخلوقة أو عبارة عن كلام الله، وأن الكلام هو المعنى دون اللفظ، وهذا يقوله الأشاعرة، وتقدم أنهم يستدلون ببيت الأخطل الذي يقول فيه: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا ورد عليهم الشارح بأن هذا بيت مختلق لا يصلح أن يكون دليلاً، لم يقله الأخطل وليس في ديوانه، وقيل إنه إنما قال: (إن البيان) ، ويتعجب الشارح من استدلالهم بهذا البيت الذي ليس له سند، ولا يروى بإسناد صحيح، مع أنهم يردون أحاديث الصحيحين، ويقولون: إنها أخبار آحاد، وهذا البيت أقل مرتبة من أخبار الآحاد. ويرد عليهم أيضاً أنه على تقدير ثبوته فإنه بيت لرجل نصراني، والنصارى لا يقبل كلامهم في هذا الباب؛ وذلك لأنهم ضلوا في مسمى الكلمة، فادعوا أن عيسى هو نفس الكلمة تعالى الله عن قولهم، فعلى تقدير ثبوته عن الأخطل فقد قاله على معتقده، فلا يصير دليلاً لأهل السنة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 7 حديث التجاوز عن حديث النفس يرد قول الأشاعرة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأيضاً: ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به) ، فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد: حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة؛ لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب] . هذا رد على الأشاعرة الذين يقولون: إن الكلام هو المعنى، أو: إن كلام الله هو ما يقوم بنفسه، وأما اللفظ فهو عبارة، وهم الذين استدلوا بالبيت السابق، حيث جعلوا الكلام هو ما يقوم بالقلب، وجعلوا اللسان دليلاً عليه. يقول: من الرد عليهم هذا الحديث؛ إذ يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) . وحديث النفس: هو الوساوس التي تخطر على القلب، فهذه مما عفا الله عنه، بل قد يكتبها حسنات، ففي الحديث: (إذا هم العبد بالحسنة ولم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإذا هم بسيئة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة قال الله تعالى: إنما تركها من جرائي) أي: من أجلي. فالهم الذي هو حديث النفس معفو عنه، فالعبد لا يؤاخذ على ما يهم به ولا على ما يحدث به نفسه، إنما يؤاخذ على ما يتكلم به، فإذا تكلم وسمع كلامه ترتب عليه الثواب والعقاب، وهذا يصدق حتى على الأمور الحكمية، فلو أن إنساناً حدث نفسه أن يطلق امرأته وعزم على ذلك بقلبه، ولكنه لم يتكلم بكلمة فيما يتعلق بذلك، وإنما كان ذلك حديث نفس، ثم بعد ذلك رجع لم تطلق زوجته بمجرد عزمه بقلبه، فلا تطلق إلا إذا تكلم بذلك أو كتب أو أشهد. فكذلك إذا حدث نفسه -مثلاً- بأنه سوف يزني، أو سوف يسرق، أو سوف يقتل فلاناً، أو سوف يشرب خمراً، أو يترك صلاة أو زكاة أو نحو ذلك، فحديث نفس طرأ عليه ولكنه ما فعله، فإن ذلك مما يعفى عنه، ولو كان حديث النفس يسمى كلاماً لما عفي عنه؛ فإن الله تعالى يؤاخذ على الكلام، وذلك لأنه عمل. فإذاً حديث القلب ووسواس النفس وما يجري فيها من الخطرات ليس كلاماً، ولا يؤاخذ به العبد. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 8 حديث دخول الناس النار بسبب حصائد ألسنتهم يرد قول الأشاعرة قال المؤلف رحمه الله: [وأيضاً في السنن أن معاذاً رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) ، فبين أن الكلام إنما هو باللسان، فلفظ القول والكلام وما تصرف منهما من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظاً ومعنى. ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع ثم انتشر، ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر؛ فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة، وعرفوا معناه كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك] . يعني أن لفظة الكلام معروفة لا تحتاج إلى أن يستشهد عليها، ولا أن يقال: إنها تؤخذ من قول الشاعر الأخطل أو نحوه، فإنها لفظة معروفة، ومعلوم أنه إذا قيل: تكلم فلان أنه نطق وقال وحرك لسانه وشفتيه، وظهر له صوت يفهمه من يعرف لغته، وكتب عليه ذلك الكلام إما في سجل حسناته أو في سجل سيئاته، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] أي: ما يتكلم من كلمة يتلفظ بها إلا وهناك ملكان يكتبانها: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17] ، ولم يذكر أنه يكتب ما خطر بالقلب، إنما يكتب ما تكلم به اللسان خيراً أو شراً. وهكذا أيضاً هذا الحديث الذي ذكر، لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال: بلى. فقال: كف عليك هذا، وأشار إلى لسانه، قال معاذ: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) ، فأخبر بأنهم إنما يعاقبون على ما تلفظوا به، لا على ما وسوست به النفس، ولا على ما تكلم به القلب. فإذاً الكلام والقول إذا قيل: قال، يقول، قل، تكلم، يتكلم، تكلم، كلاماً، متكلم، فالعرب تعرف أن المراد أنه يختص بالنطق الذي هو صياغة الكلام بالحروف العربية، كما أنهم يعرفون أن الرأس هو مجمع الحواس الذي هو أعلى الجسد، وأن اليد اسم للكف والذراع والعضد التي يحصل بها القبض والبطش، والرجل اسم للقدم والساق والركبة والفخذ التي يحصل عليها القيام والمسير ونحو ذلك، فلا يحتاج إلى أن يقال: ما هي اليد؟ فإذا قيل: ما هي اليد -والذي يسأل عربي- نقول: أما تعرف يدك؟ أما تعرف رأسك؟ أتحتاج كلمة الرأس إلى تفسير؟ فكذلك كلمة (الكلام) و (القول) لا تحتاج إلى تفسير، ولا تحتاج إلى أن يستشهد عليها بقول الأخطل أو بغيره، بل هو معنى يعرفه كل عربي نشأ في بلاد العرب، ويترجم إلى اللغات الأخرى بالكلام الذي يفهمه أهل تلك اللغة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 9 وقوع الأشاعرة في القول بخلق القرآن قال المؤلف رحمه الله: [ولا شك أن من قال: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى، وإن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق؛ فقد قال بخلق القرآن وهو لا يشعر؛ فإن الله تعالى يقول: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] . أفتراه سبحانه وتعالى يشير إلى ما في نفسه، أو إلى المتلو المسموع؟ ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع؛ إذ ما في ذات الله غير مشار إليه ولا منزل ولا متلو ولا مسموع، وقوله: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] أفتراه سبحانه يقول: (لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه) ؟ وما في نفس الله عز وجل لا حيلة إلى الوصول إليه ولا إلى الوقوف عليه] . قول الله تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] ، وقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34] ، وقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] وقوله تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] الإشارة هل هي إلى المعنى أو إلى اللفظ؟ لا شك أن الإشارة إلى هذه الكلمات والآيات الموجودة في المصاحف، فهو الذي يسمى سوراً وآيات وكلمات وحروفاً، ومجموعه هو القرآن، أشار الله إليه بقوله: {بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} [الإسراء:88] . هل الإعجاز بالنسبة إلى المعنى الذي في نفس الرب تعالى الذي قام به؟ إنه يستحيل أن يعلم أحد ما يقوم في نفس الرب سبحانه، وقد حكى الله عن نبيه عيسى أنه قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] . فإذاً: الذين يقولون إن كلام الله هو ما يقوم بنفسه، وإن هذا القرآن عبارة أو حكاية عنه، وليس هو عين كلام الله؛ لا شك أنهم قد جعلوا هذا القرآن مفترى ومخلوقاً، وجعلوا الإنسان قادراً على أن يأتي بمثله، فجعلوه إما من صياغة الملك، وإما من صياغة محمد صلى الله عليه وسلم، وحاشاه أن يكون منه ذلك، وحكى الله عنه أنه يقول: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ} [يونس:16] لبث فيهم قبله أربعين سنة، فكيف مع ذلك جاء به بعد هذه المدة وافتراه وقاله من قبل نفسه، ولو أنه أوحي إليه المعنى وقيل له وعليك صياغة اللفظ، وعليك صياغة الكلمات لكان ذلك من إنشائه لا من إنشاء الله سبحانه، فعلم بهذا أنه لما نزه نفسه عن أن يقول إنه كلامه، صدق عليه أن اللفظ والمعنى كله من كلام الله. وهذا هو الصحيح، والإشارة بقوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34] أي: على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، والإشارة إلى الحروف والمعاني، لا على ما يقوم بذات الرب أو بنفسه سبحانه وتعالى؛ فإن ذلك غير ممكن الاطلاع عليه ولا معرفته. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 10 إلزام الأشاعرة بأشد مما لزم المعتزلة قال المؤلف رحمه الله: [فإن قالوا: إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته، وهو المتلو المكتوب المسموع فأما أن يشير إلى ذاته فلا، فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق، بل هم في ذلك أكفر من المعتزلة، فإن حكاية الشيء مثله وشبهه، وهذا تصريح بأن صفات الله تعالى محكية، ولو كانت هذه التلاوة حكاية لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله، فأين عجزهم؟! ويكون التالي -في زعمهم- قد حكى بصوت وحرف ما ليس بصوت وحرف، وليس القرآن إلا سوراً مسورة، وآيات مسطرة، في صحف مطهرة، قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] ، وقال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49] ، وقال: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:13-14] ، ويكتب لمن قرأ بكل حرف عشر حسنات، قال صلى الله عليه وسلم: (أما إني لا أقول (الم) حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين. قال الشيخ حافظ الدين النسفي رحمه الله -في المنار-: إن القرآن اسم للنظم والمعنى. وكذا قال غيره من أهل الأصول، وما ينسب إلى أبي حنيفة رحمه الله أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه فقد رجع عنه وقال: لا تجوز القراءة مع القدرة بغير العربية. وقالوا: لو قرأ بغير العربية فإما أن يكون مجنوناً فيداوى، أو زنديقاً فيقتل؛ لأن الله تكلم به بهذه اللغة، والإعجاز حصل بنظمه ومعناه] . كل هذا رد على هؤلاء الذين يزعمون أن كلام الله هو المعنى دون الحروف، فيقول لهم: إذا كان كذلك؛ فإذاً ليس هو كلام الله، وإنما هو كلام من أنشأه ومن نظمه هذا النظم، وهذا الذي نظمه إما أنه في زعمكم الملك الذي أنزله، أي: أنه أخذ المعنى ونظمه بهذا النظم، وإما أنه الرسول، بمعنى أنه ألقي في قلبه وفي روعه المعاني فصاغ لها عبارات باللغة التي يحسنها، فعلى هذا لا يكون هذا القرآن كلام الله، وعلى هذا يجوز أن يقرأ بأي لغة، ويجوز أن يقرأ بالمعنى، ويترك اللفظ، ويكون الأجر على المعنى لا على الحروف، وهذا خلاف ما ورد، وذلك يتبين من وجوه. أولاً: الإعجاز الذي أعجز هذا البشر أن يأتوا بمثله ليس هو بالمعنى؛ فإن المعاني يقدرون على أن يصوغوها، فإذا فهمت -مثلاً- معاني آية الكرسي استطعت أن تصوغ لها معاني مثلها وأن تعبر عنها، كما حصل في التفاسير، فإن أهل التفاسير صاغوا معانيها بعباراتهم، فلو كان الإعجاز هو الإتيان بالمعنى لم يكن هناك إعجاز، أي أن التلاوة التي فيها أجر إنما هي تلاوة هذه الحروف، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من قرأ حرفاً من القرآن فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، فقد جعل هذه الحروف عين المتلو وعين كلام الله، وهي التي يكون عليها الأجر والحسنات، فلو كان المعنى هو المطلوب لأباح لنا أن نقرأ بالمعنى ونحصل على الأجر وعلى الحسنات. ثانياً: القرآن نزل بلغة العرب، فلا يجوز أن يتعبد به بغير لغتهم، وقد روي عن أبي حنيفة أنه أجاز الصلاة باللغة الفارسية، يعني: أن تترجم الفاتحة إلى اللغة الفارسية، ثم يقرأ بها في الصلاة، ولكن أبا حنيفة قال ذلك أولاً ثم رجع عنه، ولم يوافقه على مقالته أحد من الأئمة، بل كلهم قالوا: لا تجزئ الصلاة إلا بالحروف العربية. حتى قالوا: وكذلك في الخطب وفي الأذان وما أشبههما، لا تجوز إلا باللغة العربية، فمن صرفها إلى لغة أخرى لم يأت بالواجب، فإذا خطب بلغة أعجمية لم تجزئه خطبته، أو قرأ الفاتحة بلغة أعجمية لم تجزئه قراءته ولم تصح صلاته، أو قرأ التشهد بلغته التي ليست عربية لم يصح تشهده، أو أذن بغير اللغة العربية لم يصح أذانه، وهكذا سائر شرائع الإسلام. فلما كان ذلك دل على أن هذه الألفاظ العربية الموجودة في المصاحف مطلوبة منا، وعلى هذا يكون لها مزية، ولماذا حصلت لها هذه المزية؟ لأنها عين كلام الله، ولو كانت عبارة أو حكاية عنه لما كان لها ميزة عن عبارة سائر الناس، فإذا كان عبارة محمد، أو عبارة جبرائيل، أو عبارة صحابي آخر لم يكن له ميزة عما نعبر به نحن، أو عما يعبر به فلان؛ لأن الجميع كله من إنشاء الإنسان لا من كلام الله، لا أنه عين كلام الله، تعالى الله عن ذلك. فإذاً عرف بذلك أن هذا الكلام نفسه هو عين كلام الله حروفه ومعانيه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 11 من قال: إن القرآن عبارة عن كلام الله فقد قال إنه قول البشر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (ومن سمعه وقال: إنه كلام البشر فقد كفر) ، لا شك في تكفير من أنكر أن القرآن كلام الله، بل قال: إنه كلام محمد أو غيره من الخلق، ملكاً كان أو بشراً. وأما إذا أقر أنه كلام الله ثم أوَّل وحَرَّف فقد وافق قول من قال: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] في بعض ما به كفر، وأولئك الذين استزلهم الشيطان، وسيأتي الكلام عليه عند قول الشيخ: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله إن شاء الله تعالى] . صاحب المتن -وهو الطحاوي - عبارته هنا تقتضي تكفير من يقول إن هذا القرآن قول البشر. وما ذاك إلا أن الله كفر من قال ذلك، فقد حكى الله عن بعض المشركين قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:18-25] ، فالشاهد قوله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، فجعله أولاً سحراً يؤثر، ثم صرح بأنه قول البشر. فهؤلاء الذين يقولون: إنه إنشاء محمد قد أشبهوا هذا الكافر الذي قال: إنه سحر يؤثر، إنه قول البشر، وتوعده الله فقال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، وهذا وعيد شديد، وهو عام لكل من زعم أن هذا القرآن قول البشر لا أنه قول رب البشر، والذين يعتقدون أنه كلام الله يعرفون أن الله تعالى هو الذي تكلم بما شاء، وأنزله وحياً على نبيه، وأمر نبيه أن يبلغه إلى أمته باللفظ والمعنى، فعلى هذا يكون البشر جميعاً كلهم يقرءونه على أنه كلام الله، لا على أنه كلام لأحدهم. فالحاصل أن من ادعى أنه ليس هو عين كلام الله، وأن كلام الله هو المعاني دون الألفاظ ودون الحروف، فقد أبطل هذه النصوص وادعى أن كلام الله إنما هو المعنى. وهذه الطائفة هي طائفة الأشاعرة، وهم من أكثر الطوائف انتشاراً في القرون الوسطى؛ إما لأنهم تمكنوا وكثروا وصار الخلفاء يقربونهم، فصاروا يؤلفون وينصرون بذلك معتقدهم، واشتهر هذا القول وكثرت الكتابة فيه، وتستر الذين يقولون بقول الحق؛ لكونهم قلة وأذلاء فاستخفوا، ولم يستطيعوا أن يصرحوا بما يعتقدونه طوال أكثر القرون؛ في القرن الرابع والخامس والسادس وأغلب السابع، وفي آخر القرن الثامن ظهر من يقول بالحق ويصدع به، فقيض الله للأمة من انتصر انتصاراً شديداً لقول الحق، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن قرأ عليه، ومن انتفع به من تلاميذه وأهل زمانه إلى أن وصل الأمر إلى مؤلف هذا الشرح. فهؤلاء الذين في هذه القرون الكثيرة وكذلك من بعدهم لا شك أنهم ذوو منزلة، فلأجل ذلك توقف العلماء في الحكم عليهم، قالوا: هل نحكم على هؤلاء كلهم أنهم كفار؛ حيث إنهم يقولون: إن كلام الله هو المعنى، وليس كلام الله هو الحروف، ويقولون: إن كلام الله معنى قائم بنفسه. ففي زعمهم أن الكلام إنما يخطر ممن تقوم به الحوادث كما يدعون ذلك، فعند ذلك توقفوا وقالوا: نعذرهم باجتهادهم ونكل أمرهم إلى الله تعالى ولا نكفرهم، ولكن من قامت عليه الحجة وانقطع عذره، ومات مصراً على ذلك، نتبرأ منه وأمره إلى الله تعالى، ولا نصرح بكفره. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 12 إعجاز القرآن في اللفظ والمعنى دليل على أنه كلام الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا يشبه قول البشر) ، يعني: أنه أشرف وأفصح وأصدق، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] ، وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] ، وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود:13] ، وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38] ، فلما عجزوا -وهم فصحاء العرب مع شدة العداوة - عن الإتيان بسورة مثله، تبين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من عند الله. وإعجازه من جهة نظمه ومعناه لا من جهة أحدهما فقط، هذا مع أنه قرآن عربي غير ذي عوج بلسان عربي مبين، أي: باللغة العربية. فنفي المشابهة من حيث التكلم ومن حيث النظم والمعنى لا من حيث الكلمات والحروف، وإلى هذا وقعت الإشارة بالحروف المقطعة في أوائل السور، أي أنه في أسلوب كلامهم وبلغتهم التي يتخاطبون بها، ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن، كما في قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقَِّ} [آل عمران:1-3] الآية، {المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف:1-2] ، وقوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس:1] . وكذلك الباقي، ينبههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه بل خاطبكم بلسانكم. ولكن أهل المقالات الفاسدة يتذرعون بمثل هذا إلى نفي تكلم الله به وسماع جبرائيل منه، كما يتذرعون بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] إلى نفي الصفات، وفي الآية ما يرد عليهم قولهم، وهو قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، كما أن في قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38] ما يرد على من ينفي الحرف؛ فإنه قال: ((فأتوا بسورة)) ولم يقل: (فأتوا بحرف أو بكلمة) وأقصر سورة في القرآن ثلاث آيات، ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن أدنى ما يجزئ في الصلاة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة؛ لأنه لا يقع الإعجاز بدون ذلك. والله أعلم] . هذا رد على هؤلاء الذين يدعون أن هذا القرآن ليس هو كلام الله إنما كلام الله هو المعنى دون اللفظ، وقد عرفنا أن الإعجاز الذي تحدى الله به البشر هو المعنى واللفظ، ففي قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهَِ} [البقرة:23] ، وقوله تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] يراد بذلك: ائتوا بما يحصل به الإعجاز، وذلك بأقل سور القرآن كسورة الكوثر، وسورة الإخلاص، ولا شك أن هذه السور تتركب من كلمات وحروف، وأن هذه الحروف التي تركبت منها هي من جنس ما يتكلم به العرب، والعرب ينطقون بهذه الحروف، لا ينطقون إلا بثمانية وعشرين حرفاً، وهي التي في لغتهم، والحروف التي ينطق بها الأعاجم زائدة عليها لم يعتبروها، وقد سجلوا هذه الحروف، وكتبوا كل حرف وجعلوا له هيكلاً وصورة حتى ينطقوا بهذه الكلمات إذا جمعت الحروف بعضها إلى بعض، وإذا كان كذلك فإن أكثر الكلام هو ما جمع اللفظ والمعنى. وقد ذكر النحويون أن الكلام عبارة عما أفاد، وكان مشتملاً على بعض الحروف الهجائية، وكان ذا معنى مفيد، وكان مركباً من كلمتين فأكثر، وكانت الكلمات مما وضعته العرب، أي: مما تكلمت به، لا أنه بالكلمات الأعجمية، ولا بالحروف اللاتينية أو بالحروف الأردية أو غير ذلك من الكلمات التي لا تعرفها العرب، فلا شك أن هذه لا تسمى كلاماً. ففي كتاب العقيدة في آخر الكلام على القرآن وأنه كلام الله تعالى الرد على من زعم أنه مفترى، وأن من قال ذلك فإنه كافر، وهكذا من زعم أنه من إنشاء أي بشر. دليل ذلك قول الله تعالى حكاية عن بعض الكفار: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:24-25] ، فوعده الله فقال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] يعني: من قال بهذه المقالة فإنه يستحق أن يصلى بسقر، وهي من أسماء النار، ولا شك أن ذلك إنكار لأن يكون القرآن من كلام الله، وإنكار أن يكون معجزة لنبيه عليه الصلاة والسلام، وادعاء أنه من كلام محمد أو من كلام غيره من البشر. وقد حكى الله تعالى عن بعض الكفار أنهم قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] ادعوا أن الذي يتعلم منه إنسان بمكة كان أعجمياً، قال الله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] يعني: أن ذلك الذي يدعون أنه هو الذي علم محمداً هذا القرآن ليس فصيحاً بالعربية بل هو أعجمي، أما هذا القرآن فإنه كلام عربي فصيح واضح، ليس فيه شيء من العجمة ولا من اللكنة ولا من الوصمة أو العيب، بل هو كلام الله. وكذلك أيضاً حكى الله عنهم أنهم قالوا: {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة:110] ، وقالوا: إنه لقول شاعر، وقال بعضهم: بل هو قول كاهن. {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5] و (الأساطير) أي: الأكاذيب التي جمعها الأولون، والتي هي من كلام الأولين، ادعوا أن محمداً جمعها، وأن هناك من يأخذها منه فهي تملى عليه بكرة وعشياً، أي: أول النهار وآخره، فأخبر تعالى بأنه كلام الله حيث قال: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الفرقان:5] ، ثم قال: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:6] . وعلى كل حال فمهما قال الذين لفقوا هذه الأقاويل من الأولين والآخرين، فقد رد الله عليهم، وقد فضح أكاذيبهم، وما بقي إلا القول الحق وهو عقيدة كل مسلم أن يعتقد أن القرآن كلام الله، وأنه أنزله على أنبيائه، وأنه أرسل به رسله، فهو من جنس الكتب التي أنزل بها ملائكته على رسله، وجعلها معجزة لهم وآية لهم تدل على صدقهم، فآخر هذه الكتب هو هذا القرآن الذي من الله ببقائه على هذه الأمة، وجعله معجزة لهذا النبي الكريم، فعلينا أن نعتقد فيه أنه آية ودلالة ومعجزة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وأن نتلوه حق تلاوته، وأن نتدبره ونعمل بما فيه حتى نكون من الذين يؤمنون به ويتبعونه ويتلونه حق تلاوته. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 13 وسطية الإثبات بين طرفي التشبيه والنفي قال المؤلف رحمه الله الله تعالى: [قوله: (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، ومن أبصر هذا اعتبر، وعن مثل قول الكفار انزجر، وعلم أن الله بصفاته ليس كالبشر) . لما ذكر فيما تقدم أن القرآن كلام الله حقيقة منه بدا نبه بعد ذلك على أنه تعالى بصفاته ليس كالبشر، نفياً للتشبيه عقيب الإثبات. يعني: أنه تعالى وإن وصف بأنه متكلم لكن لا يوصف بمعنى من معاني البشر التي يكون الإنسان بها متكلماً؛ فإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وما أحسن المثل المضروب للمثبت للصفات من غير تشبيه ولا تعطيل باللبن الخالص السائغ للشاربين يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه، والمعطل يعبد عدماً، والمشبه يعبد صنماً، وسيأتي في كلام الشيخ: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) . وكذا قوله: (وهو بين التشبيه والتعطيل) . أي: دين الإسلام. ولا شك أن التعطيل شر من التشبيه لما سأذكره إن شاء الله تعالى، وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيهاً، بل صفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به، وقوله: (فمن أبصر هذا اعتبر) أي: من نظر بعين بصيرته فيما قاله من إثبات الوصف ونفي التشبيه ووعيد المشبه، اعتبر وانزجر عن مثل قول الكفار] . ذكر في هذا الكلام أن من الناس من غالى وجعل كلام الله ككلام البشر، ومنهم من جفا ونفى أن يكون لله كلام أصلاً، وادعى أن القرآن مخلوق. ومنهم من أثبت لله تعالى كلاماً ونفى أن يكون مثل كلام المخلوقين، وهذا القول الوسط، وهو قول أهل السنة، ويقال كذلك في سائر الصفات، وهو أن كل صفة نثبتها لله تعالى، فإنا نعتقد أنها على ما يليق به، وننزه الله عز وجل عن أن يكون شبيهاً بالمخلوقين في أي صفة، كما ننزهه عن أن تسلب عنه صفات الكمال، فسلب الصفات يسمى تعطيلاً، وإثباتها واعتقاد أنها مثل صفات المخلوقين يسمى تشبيهاً، وكلاهما طرفا نقيض، وكلاهما باطل لا يجوز القول به. والقول الوسط الذي هو قول أهل السنة اعتقاد أن صفات الله -سواءٌ كلام الله أو صفاته أو أفعاله -ثابتة وحق ويقين، وليست مماثلة لصفات المخلوقين، هكذا يجب أن نقول، ولأجل ذلك مثله كما ذكر باللبن الصافي الذي يخرج من فرث ودم، فجعل اللبن هو قول أهل السنة، والفرث والدم قول المعطلة والمشبهة. وذكر أن بعض السلف كانوا يقولون: الممثل يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد يعبد إلهاً واحداً فرداً صمداً. ويقول آخر: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن نفى عنه ما أثبته لنفسه فقد كفر، وليس في صفات الله تعالى تشبيه، بل فيها إثبات صفات تليق بجلاله ينزه فيها عن أن يكون مشابهاً لشيء من المخلوقات، هكذا ينبغي أن نعتقد في صفات ربنا سبحانه وتعالى. ولا شك أن كلا الطرفين يعتقده خلق، فطرف التشبيه يعتقده أناس، وطرف التعطيل عليه أمم، ولكن المعطلة أكثر؛ لما يروجونه من عقلياتهم التي يموهون بها في نفي الصفات، فلأجل ذلك يقول الشارح: (إن المعطلة أشد كفراً من المشبهة) ، وما ذاك إلا لكثرة ما ابتلي بهم الخلق، فلذلك يرجح كثير من الأئمة أن المعطل قد تنقص الله غاية التنقص، حتى سلب ربه سبحانه صفات الكمال وألحقه بالناقصات أو بالجمادات أو بالمعدومات أو بالمستحيلات الممتنعات، فمن لازم أقوالهم مثل هذا، فلذلك يقول ابن القيم في نونيته: لسنا نشبه ربنا بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان كلا ولا نخليه من أوصافه إن المعطل عابد البهتان يعني: كأنه لا يعبد شيئاً ولا يؤمن بشيء -تعالى الله عن قولهم-، ويأتي لذلك أيضاً زيادة بيان في الرد على الطائفتين. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 14 شرح العقيدة الطحاوية [19] إن ألذ نعيم ينعم به أهل الجنة في الجنة هو رؤيتهم ربهم تبارك وتعالى، وهذه الرؤية ثابتة بنصوص الكتاب والسنة، وهي مما يعتقده أهل السنة، وقد خالف في ذلك بعض الفرق كالمعتزلة، ونأوا عن الصواب ظانين أنهم ينزهون الله تعالى عن الجهة والحيز، وما علموا أن من حرم هذا النعيم فقد حرم خيراً كثيراً. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 1 رؤية الله تعالى يوم القيامة الجزء: 19 ¦ الصفحة: 2 رؤية أهل الجنة لله تعالى حق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا؛ فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه) . المخالف في الرؤية هم الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية، وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة، وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة. وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمَّر إليها المشمرون وتنافس المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون وعن بابه مردودون] . الكلام هنا على مسألة رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، والرؤية في الآخرة ثابتة عند أهل السنة، ثابتة في الجنة وفي الموقف أحياناً. وهذه الرؤية من تمام نعيم أهل الجنة، ومن تمام كرامتهم، ومن تمام إتحافهم والإنعام عليهم، وذلك أن يروا ربهم، وأن يتجلى لهم ربهم كما يشاء، وأن يكشف الحجاب بينه وبينهم، وأن ينظروا إليه كما يشاءون، وإذا نظروا إليه لم يلتفتوا إلى غيره حتى يحتجب عنهم، فيزدادون بهجة وسروراً، وتسفر وجوههم وتزداد نضرة وفرحاً. وقد أخبر العلماء والعباد والعارفون بأنه لولا يقينهم بأنهم سيرون ربهم تعالى لقتلوا أنفسهم، فلو عرفوا أنهم في الآخرة لا يتنعمون برؤيته لما قر لهم قرار، ولما سروا بذلك الموعد، لكن اطمأنوا إلى خبر ربهم والخبر عن نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام، وصدقوا بأنهم يوم القيامة وفي الجنة يتنعمون غاية التنعم برؤية الله سبحانه وتعالى، وذلك أنه في بعض الأحاديث يقول لهم: (اسألوني. فيقولون: نسألك رضاك. فيقول: رضائي أحلكم دار كرامتي، فيقول: سلوني. فيجتمعون على أن يقولوا: اكشف لنا الحجاب- أو: أرنا وجهك- فإذا تجلى ورأوه لم يلتفتوا إلى غيره) . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 3 المعتزلة والجهمية والخوارج ينكرون الرؤية ولا شك أن ذلك وارد في الأدلة الكثيرة، وفي النصوص الصحيحة الصريحة التي لا تحتاج إلى تقوية، والتي بلغت في كثرتها التواتر، ولكن أنكرها مع كثرتها من حرموا هذا النعيم، ومن صدوا بقلوبهم عن هذا الأمر العظيم، أولئك هم الجهمية والمعتزلة وأتباعهم من الخوارج والإمامية. والجهمية: أتباع الجهم بن صفوان. وهو أول من أنكر الصفات، ولما أنكر أن يكون الرب سبحانه وتعالى له صفات أنكر أن يرى، وقال: لا يمكن أن يرى إلا إذا كان في مقابلة أو كان في جهة. فادعى أن رؤيته مستحيلة وغير ممكنة. وتبعت المعتزلة الجهمية، والمعتزلة فرق كثيرة لا يزالون موجودين، ولهم مؤلفات ينكرون فيها الصفات، ومن جملة الصفات الرؤية، فينكرون أكبر نعيم وأكبر لذة لأهل الجنة، بل أهل الدنيا إذا تذكروها حداهم ما تذكروه إلى طلبها، وإلى التشمير في العبادة التي تؤهلهم لها، ولا شك أن الرؤية هي أجلّ نعيم يحصل لأهل الجنة. وتبعهم على ذلك الخوارج، يعني: من المتأخرين، أما الخوارج المتقدمون فلم يُنقل عنهم إنكار ذلك، وأما الخوارج المتأخرون فإنهم على هذا المعتقد، وهو إنكار الرؤية والقول بأن القرآن مخلوق. فهذه من عقائد المعتزلة التي وافقهم عليها بعض الخوارج، وقد اطلعت على كتاب لبعض المتأخرين سماه: (الحق الدامغ) أنكر فيه الصفات وركَّز على مسألة الرؤية، وتكلف في صرف الأدلة التي تدل عليها، وركَّز فيه أيضاً على مسألة القرآن وأنه مخلوق، وكذلك مسألة القدر، فأنكر قدرة الله على خلق أفعال العباد. فينبغي أن نأخذ حذرنا، وهذا المؤلف موجود في دولة عمان، وقد ضل بسببه خلق كثير، ولكن الحق واضح، ويبشرنا كثير من الذين ذهبوا إلى تلك الدولة أن كثيراً من الشباب الذين تفتحت معارفهم قد أنكروا معتقدات أسلافهم وآبائهم في مثل هذا، وأنهم رجعوا إلى عقيدة أهل السنة وإن لم يتمكنوا من الإصلاح. والذين هناك هم الإباضية -فرقة من الخوارج- لهم الدولة ولهم الصولة ولهم القوة، فهم من بقية الخوارج يعتقدون هذه العقيدة، وأكبر ما يعتقدونه وأشهره إنكارهم لهذه اللذة التي هي رؤية الله تعالى في الدار الآخرة. وعلى كل حال فإن مسألة الرؤية هي من أجل المسائل ومن أفضلها، اعتقدها أهل السنة وآمنوا بها، ولا عبرة بمن أنكرها من هؤلاء؛ فقد أخبر الله تعالى بأن من خلقه من يُحجب عنه في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، وهؤلاء منهم بغير شك، فإذا كانوا ينكرون أن يكون الله تعالى يُرى في الآخرة، فمعناه أنهم لا يريدون رؤية الله، وأنهم سيحجبون عن الله تعالى، ولا يحجب عنه إلَّا الكافرون، فقد حرموا أنفسهم هذه اللذة وأنكروها، فيكونون معاقبين بمثل ما اعتقدوه والعياذ بالله. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 4 بيان دلالة آية سورة القيامة على ثبوت الرؤية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر الشيخ رحمه الله من الأدلة قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وهي من أظهر الأدلة، وأما من أبى إلا تحريفها بما يسميه تأويلاً فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب أسهل من تأويلها على أرباب التأويل، ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلَّا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص، وهذا الذي أفسد الدنيا والدين. وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية! فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد! وكذا ما جرى في يوم الجمل، وصفِّين، ومقتل الحسين، والحَرَّة! وهل خرجت الخوارج واعتزلت المعتزلة ورفضت الروافض وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إلا بالتأويل الفاسد. وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية وتعديته بأداة (إلى) الصريحة في نظر العين وإخلاء الكلام من قرينةٍ تدل على خلاف حقيقته وموضوعه، صريح في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جلَّ جلاله] . أوضح ما استدل به أهل السنة هذه الآية التي في سورة {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، فالكلمة الأولى رُسمت بـ (الضاد) ، والمراد أنها وجوه مشرقة من النضارة التي هي البهاء والإشراق والسرور والابتهاج، يعني أنها منيرة. وقد ذكر الله تعالى أن وجوه أهل الخير هكذا، فقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] ، فتبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل الفرقة والابتداع. وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38-39] ، وهذه وجوه أهل السعادة أيضاً. فهكذا ذكر الله في هذه الآية أن هذه الوجوه ناضرة، يعني: بهية مشرقة مستنيرة مضيئة تغشاها الفرحة والسرور لأنها شعرت بالسعادة، ولأنها أيقنت بحسن العاقبة، ولأنها عرفت الفوز والظفر بالمطلوب، وعرفت أنها ستلقى الجزاء الذي وُعدت به، وهو الجزاء الأوفى الذي هو جزاء الحسنات بأضعافها. والقول الثاني: إن المعنى: لما نظرت إلى الله سبحانه أشرقت من آثار ذلك النظر، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] أي: مشرقة مضيئة بسبب رؤيتها لله سبحانه وتعالى. وقوله: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] : لا شك أن هذا يراد به الوجوه، فتلك الوجوه إلى ربها ناظرة، وهذه كتبت بـ (الظاء) أخت (الطاء) ، يعني أنها تنظر إلى ربها نَظَرَ عيان ونَظَرَ معاينة، ولم يقل: إلى نعمة ربها، ولم يقل: إلى ثواب ربها ناظرة. ولم يقل: إلى النعيم راضية. ولا: إلى الجنة ناظرة. بل قال: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] أي: تنظر إلى ربها. وفرق بين من يقرؤها ويُمِرُّها كما جاءت ومن يتكلف في تأويلها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 5 الرد على تأويل المعتزلة لآيات الرؤية وأحاديثها والمعتزلة الذين أنكروا الصفات تأولوها تأويلات بعيدة، فبعضهم يقول: إن الـ (إلى) هي النعمة يعني: آلاء ربها أو نعم ربها ناظرة. و (إلى) معروف أنه حرف جر، ولكن جعلوه اسماً مضافاً فقالوا: إلى ربها. أي: نعمة ربها، أو واهب الآلاء. ولا شك أن هذا تكلف بعيد. وهكذا قال بعضهم: (إلى ربها ناظرة) أي: إلى ثواب ربها. أو: إلى نعمة ربها. أو: إلى جزاء ربها. فجعلوا في الكلام مضمراً، وما الذي دلكم على أن في الكلام مضمراً أو كلاماً محذوفاً؟! و الجواب لا دلالة عليه. فلماذا تتركون الظاهر وتأتون بمضمر من قبل أنفسكم؟! وبعضهم قال: (ناظرة) أي: منتظرة. إلى ربها. أي: منتظرة ما يعطيها أو ما يهبها، مع أن هناك فرقاً بين (ناظرة) و (منتظرة) ! ومن أمثال هذه التأويلات تكلف يسمونه تأويلاً، وهو في الحقيقة تحريف وتغيير وتصحيف لكلام الله وصرف له عن ظاهره. نقول: إذا تكلفتم هذا النص بالتأويل أمكن غيركم وأمكنكم أن تتأولوا آيات المعاد، فأنتم الآن -يا معتزلة- تكلفتم في التأول في آيات الصفات وحرفتم ما وصلكم، ففتحتم الباب لغيركم، فالفلاسفة أنكروا المعاد الحقيقي الجسماني، وقالوا: ليس هناك رد للأرواح في الأجساد، وليس هناك إحياء للأموات. فقيل لهم: كيف تردون على هذه النصوص؟ فقالوا: نتأولها، وليس تأويلكم لآيات الصفات أصعب من تأويلنا لآيات المعاد! ثم جاءت فرقة أخرى من غلاة الفلاسفة وغلاة الصوفية فتأولوا نصوص الأحكام -الحلال والحرام والأوامر والنواهي- وصرفوها أيضاً عن ظاهرها وأبطلوها كل الإبطال، حتى قال بعضهم: المراد بالحج حج القلوب إلى علام الغيوب، أو قالوا مثلاً: الصلاة المراد بها اتصال القلب بالرب، واتصال القلب بالرب ليس معناه أن تجتمعوا في المساجد وتركعوا وتسجدوا، هذا ليس هو المراد منكم، فإذا صغت قلوبكم واتصلت بالملأ الأعلى فهذه هي الصلاة التي أمرتم بها. هكذا يقول الصوفية ونحوهم. نقول: إذاً بطَلَت بهذا التأويلِ الأحكامُ التي نُقلت بالفعل وبالقول الصريح بسببكم يا أشعرية ويا معتزلة لما تأولتم وفتحتم باب التأويل لآيات الصفات، فدخل من هذا الباب الفلاسفة والصوفية وأهل الوحدة وصاروا يتأولون. بل حصل بالتأويل أعظم الفتن؛ فإن الفتن التي وقعت في عهد الصحابة إنما هي بسبب التأويلات الباطلة، فقتل عثمان، وكذلك قتل الحسين، وكذلك الفتن التي حصلت ووقعت في صفِّين ووقعت في الجمل ووقعت في الحَرَّة بسبب التأويلات البعيدة عن الصواب. فلا تتأولوا النصوص، بل أجروها على ما يُفهم منها وفوضوا الكيفية، فإذا قصرت أنظاركم ومعرفتكم عن شيء فلتتوقف عن الكيفية، كيفية تلك الرؤية أو كيفية الصفة التي هي صفة ذات، وقولوا: الله أعلم بها، كما يقول مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول. فهكذا نقول: الكلام معلوم والكيف مجهول، الرؤية معلومة وكيفيتها مجهولة لنا، والله أعلم بكيفيتها. وإذا كان كذلك سلِمنا من أن نقع في هذا التحريف الذي سماه أهله تأويلاً، ترويجاً له حتى يُقبل عند السُّذَّج وقِصار الأفهام. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 6 الرد على المعتزلة في تأويل آية سورة القيامة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعديه بنفسه، فإن عُدِّي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار، كقوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] ، وإن عُدِّي بـ (في) فمعناه التفكر والاعتبار، كقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] ، وإن عُدِّي بـ (إلى) فمعناه المعاينة بالأبصار، كقوله تعالى: {انظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:99] ، فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر. وروي ابن مردويه بسنده إلى ابن عمر قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] قال: من البهاء والحسن. {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] قال: في وجه الله عزَّ وجلَّ) . عن الحسن قال: نظرت إلى ربها فنُضِّرت بنوره. وقال أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] قال: تنظر إلى وجه ربها عزَّ وجلَّ. وقال عكرمة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] قال: من النعيم {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] قال: تنظر إلى ربها نظراً. ثم حكى عن ابن عباس مثله. وهذا قول المفسرين من أهل السنة والحديث. وقال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] قال الطبري: قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ. وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] فالحسنى: الجنة. والزيادة هي النظر إلى وجهه الكريم. فسرها بذلك رسول الله والصحابة من بعده، كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه. فيقولون: وما هو؟! ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويُنجِنا من النار؟! فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة) . ورواه غيره بأسانيد متعددة وألفاظ أُخَر معناها أن الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل. وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم، روى ابن جرير ذلك عن جماعة، منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس رضي الله عنهم] . هنا ثلاث آيات من كتاب الله تعالى دالة على الرؤية أو مُفَسَّرة بها. فالآية الأولى هي آية سورة القيامة قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] . وسبق ذكر تفاسير الصحابة والتابعين أنهم قالوا: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] أي: إلى وجه ربها. أو: تنظر إلى ربها صرح بذلك عدد من الصحابة كما مر، والمعتزلة حرفوا النظر فجعلوه الانتظار، أو حرفوا كلمة (إلى) فجعلوها النعمة، أو أضمروا مضافاً، أي: إلى نعمة ربها أو إلى ثواب ربها. إن كلمة النظر تارةً تُعدَّى بنفسها، وتارةً تُعدَّى بحرف (في) وتارةً تُعدَّى بحرف (إلى) . فتعديتها بنفسها في قول الله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] فـ (انظرونا) هنا ليس معناه النظر بالعين، وإنما معناه: انتظروا. أي: أمهلونا حتى نقتبس من نوركم، لأنه عُدِّي بنفسه. وذكر تعديته بـ (في) في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] فالنظر هنا بمعنى الاعتبار، أي: ينظروا في الملكوت نَظَرَ اعتبار وتأمل ليستدلوا به على قدرة الخالق. فإذا عدي بـ (في) فلا تحتمل إلا النظر بالاعتبار، وأما هنا فإن النظر مُعدَّىً بـ (إلى) ، فهو مثل قوله تعالى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} [الأنعام:99] (انظروا) يعني: بأعينكم. (إلى ثمره) ، ولا تحتمل غير المعاينة؟! كذلك قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] يعني أنهم ينظرون إليها معاينةً. فكذلك قوله: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] لا يحتمل إلا أن النظر هو المعاينة. فتبيَّن بذلك صراحة الآية في دلالتها على النظر إلى الله سبحانه وتعالى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 7 دلالة آيتي المزيد على رؤية الله تعالى والآية الثانية في سورة (ق) قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] ، فالله تعالى أخبر بأن لهم فيها ما يشاءون، فكل شيء يشاءونه وتتمناه نفوسهم أو يخطر على بالهم يُحضر إليهم. ثم يقول بعد ذلك: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) ، هذا المزيد زائدٌ عن النعيم الذين بين أيديهم، ولا بد أن يكون هذا الزائد له خصوصية، لذلك فُسِّر المزيد بأنه النظر إلى وجه ربهم، يعني: نعمة زائدة على ما يستحقونه هي النظر إلى ربهم أثابهم الله وأعطاهم ذلك. هكذا فُسرت من قِبل السلف أن المزيد هو النظر إلى ربهم. الآية الثالثة في سورة يونس قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:25-26] ، ودار السلام هي: الجنة، يدعو إليها ويدعو إلى العمل الذي يدخلها، ثم إذا دخلوها فماذا يستحقون؟ قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:25-26] والحسنى هي الجنة التي فيها جميع أنواع الحُسن. وقوله: (وزيادة) : لا شك أن هذه الزيادة شيء زائد على الحسنى التي هي الجنة، لذلك فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها نظرهم إلى وجه ربهم في الحديث الذي رواه مسلم عن صهيب، ورواه أيضاً غيره، وكذلك فسرها أبو بكر وغيره من الصحابة، واستدلوا بأنه قال بعدها: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:26] ، يعني أنهم بنظرهم إلى الله لا يلحقهم ملل ولا يلحق وجوههم كدر ولا يلحقها ذلة ولا مهانة ولا غير ذلك. وعادة أنك لو نظرتَ -مثلاً- إلى الشمس في شدة وهجها فإن وجهك قد يعبس أو قد يتغير، وعينك قد تكل من قوة شعاعها وقوة نورها، وكذلك بعض الأنوار المشعة شديدة الإضاءة كالبرق ونحوه كما في قوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43] . والله تعالى قد أخبر بأنه نور فقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] . وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن حجابه النور. فهذا النظر إليه مع كثرة تلك الأنوار المشعة لا يرهق وجوه المؤمنين منه ذلة، بل تزداد وجوههم إشراقاً وتزداد بهجةً ونضارةً وسروراً، وما ذاك إلا أنهم يعدون ذلك غاية النعيم، ولذلك قال بعض العابدين: ولو أني استطعتُ غضضتُ طرفي فلا أنظر به حتى أراكا فمن شدة الشوق إلى الله تعالى يقول: لو استطعت لما نظرتُ إلى أي مخلوق حتى أنظر إليك -يا ربي- شوقاً إليك وارتياحاً إلى رؤيتي لربي. هكذا حالة العارفين المشتاقين إلى ربهم، أما الذين أنكروا هذه الرؤية فإنهم محرومون من هذا النعيم كله، محرومون من هذه الزيادة، أو قد اعتقدوا حرمان أنفسهم والعياد بالله. ومسألة الرؤية مسالةٌ كبيرة شريفة قد اهتم بها أهل السنة وقدموا الكلام فيها من وقت الإمام الشافعي وهم يجادلون فيها من أنكرها، ولا يزالون على ذلك. وقد كتب فيها ابن القيم رحمه الله في كتابه المسمى (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) الذي يتعلق بصفة الجنة، فإنه في باب من أبوابه سرد آيات الرؤية، فجعل باباً خاصاً للرؤية وسرد فيه الآيات، ثم سرد فيه الأحاديث التي رُويت في ذلك، والتي يمكن الاستدلال بها، وإذا كان فيها ضعف فإن بعضها يتقوى ببعض، والأكثر قوي من حيث السند، وأعرضَ عن الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، فمن قرأه عرف بذلك كثرة ما ورد فيها من الأدلة، وهكذا أيضاً أتبعه بالنقولات، ثم رد على من أنكر ذلك من المعتزلة وبيَّن ما أجابوا به وناقشهم فيما استدلوا به. وتبعه على ذلك حافظ بن أحمد الحكمي في كتابه الذي سماه (معارج القبول في شرح سلم الوصول) ، و (سلم الوصول) هذا منظومة نَظَمها من أول ما نظم وشرحها في هذا الكتاب الذي يقع في مجلدين، وأفاض في الشرح وتوسع، ولما أتى على الأدلة التي تدل على صفة الرؤية توسع أيضاً فيها. ونحيل إلى هذين الشرحين -لمن أراد أن يتوسع- كتاب ابن القيم وكتاب الحكمي، وغيرهما أيضاً من الكتب الكثيرة التي اعتنت بمسائل التوحيد والعقيدة ومن جملتها مسألة الرؤية ومناقشة ما فيها من الخلافات وبيان الحق لأهله. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 8 آية نفي الإدراك تدل على ثبوت الرؤية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] احتج الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة. ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي، قال الحاكم: حدثنا الأصم: حدثنا الربيع بن سليمان قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله عزَّ وجلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ؟ فقال الشافعي: لما أن حُجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا. وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] وبقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] فالآيتان دليل عليهم. أما الآية الأولى فالاستدلال منها على ثبوت رؤيته من وجوه: أحدها: أنه لا يُظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلمِ الناس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه، بل هو عندهم من أعظم المحال. الثاني: أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] . الثالث: أنه تعالى قال: (لن تراني) ، ولم يقل: إني لا أُرى. أو: لا تجوز رؤيتي. أو: لست بمرئي. والفرق بين الجوابين ظاهر، ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجلٌ طعاماً فقال: أطعمنيه فالجواب الصحيح: إنه لا يؤكل. أما إذا كان طعاماً صح أن يقال: إنك لن تأكله. وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيتَه في هذه الدار لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى، يوضحه. الوجه الرابع: وهو قوله تعالى: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، فأعمله أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خُلِق من ضعف. الخامس: أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقراً، وذلك ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقال: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، والكل عندهم سواء. السادس: قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف:143] ، فإذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته؟! ولكن الله أعْلَمَ موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار فالبشر أضعف. السابع: أن الله كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطِبَه كلامَه بغير واسطة فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه، وقد جمعوا بينهما. وأما دعواهم تأبيد النفي بـ (لن) وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة ففاسد؛ فإنها لو قُيِّدت بالتأبيد لا يدل على دوام النفي في الآخرة فكيف إذا أطلقت؟! قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة:95] مع قوله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] ، ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها، وقد جاء ذلك، قال تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80] . فثبت أن (لن) لا تقتضى المنفي المؤبد. قال الشيخ جمال الدين ابن مالك رحمه الله: ومن رأى النفي بـ (لن) مؤبداً فقوله ارددْ وسواه فاعضُدا] . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 9 دلالة آية المطففين على ثبوت الرؤية للمؤمنين الآية الأولى وهي قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] أوضح دليل على أن أهل الجنة ليسوا محجوبين عن ربهم، وذلك لأن هذا وعيد لأعداء الله للكفار ووعيد للفجار الذين قال الله في حقهم: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] ، فهؤلاء من وعيدهم أنهم عن ربهم يومئذ -أي: يوم القيامة وما بعده- محجوبون، وقد ذكر بعدهم الأبرار في قوله: {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] ، ولو كانوا لا يرون ربهم لكانوا أيضاً عن ربهم محجوبين، فلم يكن هناك فرق بين الأبرار والفجار. ولا شك أن حجب هؤلاء يعتبر عذاباً، فيعتبرون قد عذبوا بحجبهم عن ربهم والحيلولة بينهم وبين نعمة الرؤية ونعيمها، ولا شك أن رؤية المؤمنين وعدم حجبهم نعمة ومنة وكرامة يزدادون بها نعيماً وبهجة، أما لو كانوا لا يرون ربهم لم يكن هناك فرق بين الأبرار والفجار، بل كلهم عن ربهم محجوبون. فهذه آية استدل بها الشافعي ومن بعده من الأئمة على إثبات رؤية المؤمنين وحجب الكافرين. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 10 بيان دلالة قوله: (لن تراني) على ثبوت الرؤية والرد على المعتزلة وأما الآية الثانية التي استدل بها المعتزلة على إنكار الرؤية فهي في قصة موسى، ذكر الله أن موسى سأل الرؤية، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] ، فاستدلوا بقوله: (لن تراني) على أنك لا تراني أبداً في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا تأويل خاطئ، وذلك لأن الآية إنما نفت الرؤية في الدنيا، وذلك لأن الإنسان في الدنيا خلقته ضعيفة لا يستطيع أن يمثل أمام عظمة الرب سبحانه وتعالى؛ فإن خلقةً في هذه الدنيا على هذه الهيئة خلقة ضئيلة ضعيفة لا تثبت أمام تجلي ربنا ولا أمام أنواره وجلاله وكبريائه. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بشيء من ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه) إلى قوله: (حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) يعني أن الحجاب في الدنيا حجاب النور أو النار لو كشفه لأحرق ذلك الضياء وذلك النور ما انتهى إليه من الخلق، فإذا كان كذلك فجميع الخلق في هذه الدنيا مخلوقون من هذا اللحم والدم على هذه الخِلْقة، فخِلْقتهم ضعيفة لا يستطيعون أن يمثلوا أمام هذه العظمة. فهذا هو السبب في أن الله منع موسى الرؤية في الدنيا، ولكن هل يدل ذلك على أنه ممنوع من الرؤية في الآخرة؟ لا يدل على ذلك؛ لأن في الآخرة يعطي الله أولياءه من قوة الخلقة ومن عظمها ما يثبتون به أمام تلك الرؤية وأمام رؤية ربهم، فقد ورد أن كل من يدخل الجنة يوم القيامة على طول آدم، طوله ستون ذراعاً وعرضه سبعة أذرع، وإذا كانت هذه الزيادة في خِلقتهم في الطول والعرض فكذلك لا بد أنهم سيُزادون في قوة حواسهم وفي قوة أبصارهم وفي قوة أعضائهم حتى يتمكنوا من الثبوت أمام رؤيتهم لربهم، ولا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة، ولا ينالهم شيء من الضعف ولا مما ينالهم في الدنيا. هذا هو السبب في أن الله منع موسى من الرؤية في الدنيا، وكذلك كل أحد في الدنيا لا يستطيع أن يرى ذلك؛ لقوله في الحديث: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) ، هكذا ورد في حديث عنه صلى الله عليه وسلم، أثبت بأن أحداً لا يستطيع أن يمثل أمام عظمة ربه ولا يرى ربه حتى يموت، وذلك في حديث الدجال لما أخبر بأن الدجال يأتي ويقول: (أنا الرب، أنا الله) ، فأخبر بأنه كاذب، وأنه لا يمكن في الدنيا أن أحداً يرى ربه، إنما الرؤية في الآخرة. واستدل الشارح -كما سبق- بأن هذه الآية دليل على إثبات الرؤية على أهلها. ونقول: معلوم أن موسى نبي الله وكليمه الذي كلمه تكليماً، ومعلوم أنه اصطفاه، قال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] ، فاصطفاه واختاره وأخبر بأنه كلمه تكلمياً، فهو من خيار أولياء الله، ومن خيار أنبياء الله ورسله، وقد أرسله إلى فرعون، وأرسله إلى بني إسرائيل وقد كلمه تكليماً، وأنزل عليه التوراة وقربه نجياً، فهو أعرف بربه، وهو أعلم بما يستحيل على ربه، فكيف تكونون -يا معتزلة- أعلم من موسى؟! هل يقال: إنك -يا فلان ويا فلان المعتزلي أو الجهمي- أعلم من موسى؟! حاشا وكلا، فهل الذي هو أحد أولي العزم، والذي هو أحد رسل الله، والذي ذكره الله وأكثر من ذكره في كلامه يكون أجهل منك، وتكون أنت أعلم منه بما يستحيل على الله وبما يجوز على الله؟! هذا مما تحيله العقول، وهذا مما لا يجوز في شرع الله. كذلك ما أنكر أيضاً الله تعالى عليه حين قال: {أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] لم ينكر عليه ولم يوبخه، وقد أنكر على نوح لما سأل نجاة ولده لما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45] أنكر عليه وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] ، أنكر على نوح هذا السؤال، ولكن موسى لما سأل فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] ما أنكر عليه، بل قال: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف:143] ، فهل هذا دليل على أن هذا السؤال مستحيل؟ إنه ليس سؤال شيءٍ مستحيل. وقال تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، ولم يقل: إني لا أُرَى. أو: إني لا تجوز رؤيتي. أو: إني لستُ بمرئي بل قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، والمعنى: لا تراني في الدنيا، ولا تستطيع رؤيتي في الدنيا، والفرق بين العبارتين واضح، ومثَّل لذلك المؤلف -كما سبق- بما إذا كان مع إنسان حجر وظننتَه رغيفاً فقلتَ: أطعمني من هذا فقال: لن تطعمه، فإنك تقول: إنه قد حَرَمني من هذا الطعام أما إذا قال: ليس بمطعوم أو ليس بمأكول أو لا يصح أكله أو ليس مما يؤكل، فهمتَ بذلك أنه اعتذر وأنه ليس من المأكولات. فقوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] يبين أن الرؤية جائزة؛ ولكنك لا تقدر عليها في الدنيا. فهذا وجه قوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] . ثم قوله: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] علق رؤية موسى على استقرار الجبل، أليس استقرار الجبل ممكناً؟ إنه ممكنٌ أن يستقر الجبل، والله تعالى قادر على أن يثبت الجبل حتى يستقر إذا تجلى له الرب، والله تعالى قد علَّق رؤية موسى على استقرار الجبل، والمعلَّق على الممكن ممكن، فهذا دليل على إمكان الرؤية، وأن رؤية الله ليست بمستحيلة، فالتعليق على الممكن ممكن. أما قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف:143] ، فقد تجلى الله كما شاء للجبل، ولما تجلى للجبل -وهو جبل الطور وهو من أكبر الجبال- انساخ الجبل، وذلك مع كونه جماداً، ومع كونه ليس به حركة، انساخ الجبل واندكَّ وخسف في الأرض، ولم يثبت، فعند ذلك صعق موسى، فالله تعالى تجلى للجبل، وإذا جاز أن يتجلى للجبل ألا يجوز أن يتجلى لعباده في الدار الآخرة، وأن يكرمهم بهذا التجلي وينعِّمهم ويزيد في كرامتهم؟! بلى فالقادر والممكن تجليه للجبل لا يستحيل عليه أن يتجلى كما يشاء لعباده في دار كرامته. فعرفنا بذلك أن الآية دليل على إمكان الرؤية، ودليل على وقوعها، وأن الاستدلال بها على النفي استدلال عكسي، بل هي على الرؤية أدل منها على ضد الرؤية. أما قوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] فيقول: إن كلمة (لن) تدل على النفي المؤبد في الدنيا والآخرة، يعني: (لَنْ تَرَانِي) أبداً! و الجواب أن كلمة (لن) لا تدل على النفي المؤبد حتى ولو أُكِّدت بـ (أبداً) ، فالله تعالى يقول: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة:95] نفى أنهم يتمنون الموت، وقد ذكر أنهم يتمنونه في النار فيقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] ، فهم يتمنون الموت، والله يقول: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة:95] ، إذاً المراد في الدنيا، فدل على أن النفي في الدنيا لا يعم النفي في الآخرة، فالنفي في قوله: (لَنْ تَرَانِي) نفي في الدنيا، فلا يعم النفي في الآخرة. ولذلك يقول ابن مالك صاحب الألفية: ومن يرى النفي بـ (لن) مؤبداً فقوله اردد وسواه فاعضدا يعني: من يرى من النحاة أن النفي بلن يقتضي التأبيد فاردد قوله واعضد غيره من الأقوال، يعني: انصر القول الذي يرى أنها لا تقتضي النفي المؤبد. ويقولون: إن الرؤية مستحيلة. ويجاب عليهم بأنه لو كانت الرؤية محالة ما علقها على ممكن؛ فإن التعليق على شيء ممكن يدل على الإمكان، كما أن الله تعالى منزه عن الحاجة؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14] ، وقرأها بعضهم: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يَطْعَمُ} [الأنعام:14] ، وقال تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:57] ، فبين أنه سبحانه منزه عن الحاجة إلى الطعام والشراب ونحو ذلك، وذكر من نقص عيسى وأمه الحاجة إلى ذلك في قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] يعني أنهما يحتاجان ويأكلان الطعام فدل على أن الله تعالى منزه عن الحاجة إلى ذلك. فيقول الشارح: نحن والمعتزلة وغيرهم متفقون على أن الله ليس بحاجة إلى الأكل والشرب ونحو ذلك، وذلك من المستحيلات، فلا يمكن أن يُعَلَّق على شيء ممكن. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 11 الرد على المعتزلة في الاستدلال بقوله: (لا تدركه الأبصار) على نفي الرؤية قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأما الآية الثانية وهي قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ) . فالاستدلال بها على الرؤية من وجه حسن لطيف، وهو أن الله تعالى إنما ذكرها في سياق التمدُّح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يُمدح به. وإنما يُمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمراً وجودياً، كمدحه بنفي السِّنَة والنوم المتضمن كمال القيُّومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال الربوبية والألوهية وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه، ونفي الشفاعة عنده إلَّا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المِثْل المتضمن لكمال ذاته وصفاته. ولهذا لم يمتدح بعدمٍ محض لم يتضمن أمراً ثبوتياً؛ فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه، فإذاً المعنى أنه يُرَى ولا يُدرَك ولا يُحاط به، فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] يدل على كمال عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لكمال عظمته لا يُدرَك بحيث يحاط به؛ فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قال كلا} [الشعراء:61-62] ، فلم ينف موسى الرؤية، وإنما نفى الإدراك، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تعالى يُرَى ولا يُدرَك، كما يُعلَم ولا يُحاط به علماً، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية، كما ذُكرَت أقوالهم في تفسير الآية، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه] . أكبر ما يستدل به المعتزلة هذه الآية من سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:102-103] ؛ فإن هذه الآية اعتبروها أوضح الأدلة في أن الله لا يُرَى، قالوا: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] يعني: لا تراه الأبصار. وقد ذكر الشارح أن أهل السنة استدلوا بها على إثبات الرؤية لا على نفيها، وذلك لأن الإدراك هو الإحاطة، أي: لا تحيط به فإذا رأته الأبصار لا تحيط به، فالفرق بينهما واضح، فليست الرؤية هي الإدراك، فالإدراك شيء زائد على الرؤية. ولهذا روي أن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال للسائل: ألستَ ترى القمر؟ قال: بلى. قال: أكله -يعني: أتراه كله-؟ قال: لا. قال: فذلك الإدراك. يعني أنك ترى القمر ولكنك لا تراه كله، إنما ترى منه ما قابلك، فأنت -مثلاً- إذا رأيت جبلاً بعيداً رأيت منه ما قابلك ولم تره كله، فرؤيته كله أعلاه وأسفله والخفي منه والمقابل وغير المقابل يقال لها: الإدراك. فإدراك البصر معناه: رؤية المرئي كله وعدم خفاء شيء منه، والله تعالى لعظمته ولجلاله ولكبريائه إذا رأته الأبصار فلا تحيط به ولا ترى إلَّا ما يتجلى منه لها، وينظر إليهم وينظرون إليه، ولكن لا يحيطون بذاته، إنما يدركون منه ما تجلى، ففرق واضح بين الرؤية والإدراك. وقد أخبر الله تعالى عن قوم موسى أنه لا يُدرَكون فقال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء:61] يعني: قوم فرعون وقوم موسى {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] أخبر بأنهم يتراءون، هؤلاء يرون هؤلاء وهؤلاء يرون هؤلاء، فما معنى (مُدرَكون) ؟ أي: محاطون. أي: سوف يحيطون بنا ويلحقوننا ويحدقون بها، هذا معنى الإدراك، فنفى ذلك موسى وقال: (كَلَّا) أي: لا تخافوا فلن يدركوكم {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ، وقد وعده الله بأنهم لا يُدرَكون في قول تعالى: {لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} [طه:77] ، فلما وعده بأنهم لا يُدرَكون وثق بوعد ربه وأنه لا يدركهم شيء. فالحاصل أن هذه الآية دليل واضح على إثبات أن الله تعالى يُرَى، وذكرها في مجال التمدُّح، فالآية يتمدح بها الرب. وقد ذكرنا أن الله لا يتمدَّح إلا بما هو ثبوتي، ولا يتمدح بالنفي المحض، فكونه لا يُرَى ليس فيه مدح، فالنفي المحض عدم والعدم ليس بشيء، والمعدوم لا يُمدَح به، وإنما مدح الله تعالى نفسه بالنفي الذي تضمن ثبوتاً. وعلى كل حال يعتقد المسلم أن هذه الآية دليل على إثبات الرؤية لا على نفيها، ففيها أن الأبصار إذا نظرت إلى ربها لا تدركه أي: لا تحيط به، كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 12 الأحاديث الدالة على الرؤية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الدالة على الرؤية فمتواترة، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن. فمنها: حديث أبي هريرة أن ناساً قالوا: (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل تضارُّون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترونه كذلك) الحديث أخرجاه في الصحيحين بطوله. وحديث أبي سعيد الخدري أيضاً في الصحيحين نظيره. وحديث جرير بن عبد الله البجلي قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) الحديث أخرجاه في الصحيحين. وحديث صهيب المتقدم رواه مسلم وغيره. وحديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم تبارك وتعالى إلَّا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) أخرجاه في الصحيحين. ومن حديث عدي بن حاتم: (ولَيَلْقَينَّ اللهُ أحدَكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فيقول: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى يا رب. فيقول: ألم أعطِك مالاً وأُفْضِل عليك؟ فيقول: بلى يا رب) أخرجه البخاري في صحيحه. وقد روى أحاديثَ الرؤية نحوُ ثلاثين صحابياً، ومن أحاط بها معرفةً يقطع بأن الرسول قالها، ولولا أني التزمت الاختصار لسقتُ ما في الباب من الأحاديث] . هذا الدليل أو النوع الثاني من الأدلة السمعية وهو الدلالة من السنة، أي: من الأحاديث النبوية. ومعلوم أن السنة تفسر القرآن وتبيِّنه وتدل عليه وتعبر عنه، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقاً، وذلك أنه أعلم بربه، وأعلم بمن أرسله، فلا يصفه إلا بما هو حق وبما هو وحي ومطابق للحق. فإذا جاءتنا الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مشتملة على وصف أو شيء من صفات الله تقبلناها، وكيف لا نتقبلها وهي من معدن الرسالة من الرسول عليه الصلاة والسلام؟! فإنه الذي دل على ربه، والذي هدى الأمة إلى الله وبين لهم حقوقه عليهم، وكذلك بين لهم أنواع التوحيد، ومن جملة ما بينه لهم توحيد الأسماء والصفات، ومن جملة الصفات صفات الله سبحانه، ولا شك أن من أجلِّها كونه يُرَى وكونه يتجلى لعباده. والأحاديث كثيرة -كما ذكر- رواها نحو ثلاثين صحابياً، فثلاثون من الصحابة رووا إثبات الرؤية في جملة أحاديث أغلبها صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما فيه ضعف ينجبر بغيره ويتقوى ببقية الأحاديث، ومن أراد الاطلاع عليها يجدها مكتوبة في كتاب ابن القيم الذي سماه (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) الكتاب الذي جعله في الجنة وصفتها ونعيمها، فإنه جعل من جملة أبوابه باب الرؤية وأن المؤمنين يرون ربهم، ونقلها أيضاً كذلك الشيخ حافظ الحكمي في كتابه (معارج القبول في شرح سلم الوصول) ، وسردها أيضاً كما سردها ابن القيم، وإن كان اختصر منها بعض الأسانيد وبعض الألفاظ. وذكر أيضاً منها جملة كثيرة ابن القيم في كتابه الصواعق المرسلة، وذكرت أيضاً متفرقة في كتب الحديث وفي كتب التفسير واضحةً دلالتُها، ولكثرتها يُحكم بأنها متواترة، وإن لم تتواتر أفرادها فهي متواترة أعدادها، والمتواتر: هو ما نقله العدد الكثير الذين تحيل العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه، ويكون مستند انتهائهم الحس. أي: ما يُدرك بالحواس الخمس أو بأحدها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 13 حديث جرير رضي الله عنه وسرد الشارح بعضاً منها، وأوضحها حديث جرير، يقول صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر) وفي رواية: (كما ترون القمر ليلة البدر) ، والقمر ليلة البدر من أوضح ما يُرى، وفي بعض الروايات: (أنه نظر إلى القمر ليلة أربع عشرة وقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) أي: لا يلحقكم ضيم ولا ضرر. أو لا تتضامُّون ينضم بعضكم إلى بعض، بل ترونه بأماكنكم ولو كنتم على وجه الأرض، ولو كنتم في أقطار البلاد ترونه كما يشاء أحدكم. وفي بعض الروايات أنه قال: (فإن استطعتم ألَّا تُغْلَبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وصلاةٍ قبل غروبها فافعلوا) ، والمراد بهاتين الصلاتين الفجر والعصر، وخصهما بالمحافظة عليهما لأن الرؤية لخواص المؤمنين تكون بكرةً وعشياً، فقد ورد أن خواص المؤمنين في الجنة يرون ربهم في أول النهار وفي آخره، وأن عوامهم سيرونه في كل أسبوع في مثل يوم الجمعة، ويسمى يومُ الجمعة يومَ المزيد، حيث يزورون ربهم ويتجلى لهم، ويكون الذين يتقدمون إلى صلاة الجمعة هم أقرب وهم أولى بأن يقدَّموا، فيدل ذلك على فضل التقدم لصلاة الجمعة، وأن ذلك يكون أكثر ثواباً وأبقى وأقدم رؤية وأكثر نعيماً. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 14 حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما ومن الأدلة حديث أبي هريرة وأبي سعيد وهو حديث طويل في الصحيحين فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (هل تضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا. هل تضارُّون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترونه كذلك) أي: ترون ربكم ولا تضارُّون في رؤيته. يعني: لا تتوهمون ولا يكون هناك ريب ولا شك، بل ترونه عياناً رؤيةً واضحة، كما لا تتوهمون في رؤية الشمس ولا في رؤية القمر ليلة البدر. والحديث في سياقه طولٌ سيما حديث أبي سعيد ساقه مسلم بطوله في كتاب الإيمان الذي في أول الجزء الثالث، وبيَّن الرؤية في الموقف والرؤية في القيامة، وكذلك حديث أبي هريرة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 15 حديث أبي موسى رضي الله عنه كذلك أيضاً من الأحاديث حديث أبي موسى وهو حديث صحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلَّا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) ، وقد ذكر الله الجنتين الأوليين في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] ، وذكر الجنتين الأخريين بقوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] ، وزاد في هذا الحديث أنه ليس بينهم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء، وذلك دليل على أنه تعالى يكشف ذلك الرداء وذلك الحجاب ويتجلى لعباده متى شاء، فليس بينهم وبين النظر إليه إلا ذلك الرداء، وهذا دليل على أنه إذا شاء تجلى كما يشاء. كذلك أيضاً تقدم حديث صهيب الذي في صحيح مسلم في قوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الزيادة: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] أنها النظر إلى ربهم، وأنهم ما أُعطوا شيئاً ألذ عندهم من النظر إلى ربهم عندما يقول: سلوني. فيقولون: نسألك رضاك ثم يسألونه أن يتجلى فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئاً أفضل عندهم من النظر إلى ربهم، وهي الزيادة، أي: المذكورة في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] . وإذا عرفنا أن هذه الأحاديث وأمثالها صحيحة قد نطق بها النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاها أهل السنة بالقبول فليس لأولئك المعتزلة أن يردوها، ولكن اعتمدوا في ردهم على أنها أخبار آحادية، وكذبوا، فليست أخبار آحاد ما دام أنه تلقاها جمع غفير عن مثلهم، رواها جمع غفير من الصحابة ثم مثلهم من التابعين أو أضعافهم، وهكذا إلى أن دُوِّنت، فكيف تكون أخبار آحاد؟! ثم لو قدر أنها أخبار آحاد فإنها تفيد العلم ويُستدل بها على العقائد، وذلك لأنهم يعملون بها في الشرائع، فكذلك يلزمهم أن يعملوا بها في العقائد. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 16 سماع الأحاديث يورث اليقين برؤية الله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن أراد الوقوف عليها فليواظب سماع الأحاديث النبوية؛ فإن فيها مع إثبات الرؤية وأنه يكلم من شاء إذا شاء، وأنه يأتي لفصل القضاء يوم القيامة، وأنه فوق العالم، وأنه يناديهم بصوت يسمعه مَن بَعُد كما يسمعه مَن قَرُب، وأنه يتجلى لعباده، وأنه يضحك، إلى غير ذلك من الصفات التي سماعُها على الجهمية بمنزلة الصواعق، وكيف تُعلم أصول دين الإسلام من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يُفسر كتاب الله بغير ما فسره به رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم الذين نزل القرآن بلغتهم؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) وفي رواية: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) ، وسئل أبو بكر رضي الله عنه عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس:31] : ما الأبُّ؟ فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم!] . يعني أن الأحاديث التي وردت في الرؤية موجودة في كتب أهل السنة في المؤلفات التي ألفوها في بيان سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أرادها فليواظب على سماع تلك الأحاديث وتلك الكتب، فهي في صحيح البخاري في (كتاب التوحيد) وفي صحيح مسلم في (كتاب الإيمان) وفي سنن أبي داود في آخره (كتاب السنة) وهكذا في بقية كتب أهل السنة. ولا شك أن الذي يقرؤها يجد فيها وصف الله تعالى بأنه يتجلى لعباده، وبأنه يكشف الحجاب، وبأنهم ينظرون إلى وجهه، وفيها: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه من انتهى إليه بصره من خلقه) . وفيها سؤال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة) ، وأشباه ذلك. يقول الشارح: سماع هذه الأحاديث التي فيها أن الله يخاطب العباد، وأنه يتجلى لهم كما يشاء، وأنه يضحك إلى عباده، وأنه يكلمهم إلخ، سماعها على الجهمية والمعتزلة بمنزلة الصواعق، لذا كانوا يتمنون أنهم يحكّون آيات الاستواء من القرآن، فكذلك أحاديث الصفات يتمنون أنها لم ترد، ولأجل ذلك ينفِّرون من قراءة الكتب التي فيها هذه الأحاديث، وينهون عن جمعها في مكان واحد حتى لا تكون حجةً عليهم، أو حتى لا ينخدع بها تلامذتهم إذا رأوها مجتمعة وصعُب عليهم تأويلها والتكلف في ردها. ومع ذلك كله فإنهم لم يتوقفوا عن الخوض فيما ما لا علم لهم به، بل بالغوا في رد الأحاديث وفي رد الآيات، وتكلفوا في الكلام حولها بكلام لا يليق أن يقوله مسلم فضلاً عن عاقل. يقول الشارح: إن كلامهم هذا يعتبر من القول على الله بلا علم الذي هو أعظم من الشرك، ويعتبر من التخرص في القرآن، والتخرص في القرآن أيضاً ضلال لهذا الحديث الذي سبق: (من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار) . ومن هذا تأويلهم للآيات، وقولهم على الله بلا علم، وتكلفهم في رد الآيات، وقولهم في القرآن بالرأي، فيقولون في القرآن برأيهم، كقولهم: إن قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] معناه: منتظرةً للثواب أو معناه: منتظرةً إلى نعم ربها. وهذا قول على الله بلا علم، وهذا قول في القرآن بالرأي، فيكونون داخلين في هذا الحديث: (من قال في القرآن برأيه) . والصحابة رضي الله عنهم مع كونهم أعلم بالقرآن، وهم الذين شاهدوا نزوله، كانوا إذا لم يعلم أحدهم نفس الآية وتفسيرها توقف دون أن يفصح ولو كان عندهم علم، فهذا أبو بكر الذي هو الخليفة الأول للرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن هذه الآية: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس:31] : ما هو الأبُّ؟ يقول: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟! أتريدون أن أتجرأ وأقول في كلام الله بغير علم؟! هذا لا يليق. فهؤلاء الذين يتخبطون في القرآن ويتكلفون في رد الآيات يقول أحدهم: إن كلام موسى ليس سؤالاً في قوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] ، فلا يريد أن يرى ربه، وإنما يريد أن يوبخ قومه الذين قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153] ، أو قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] ، فهو يريد بذلك توبيخ قومه ومن قال هذا قبلكم يا معتزلة أو يا أتباع المعتزلة؟! هذا هو التخرص في كلام الله بغير علم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 17 إزالة شبهة التشبيه عن أحاديث الرؤية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيهاً لله، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه، وإلَّا فهل تعقل رؤيةٌ بلا مقابلة؟! ومن قال: يُرى لا في جهة فليراجع عقله، فإما أن يكون مكابراً لعقله وفي عقله شيء، وإلَّا فإذا قال: يُرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة. ولهذا ألزم المعتزلة مَن نفى العلو بالذات بنفي الرؤية وقالوا: كيف تعقل رؤية بلا مقابلة بغير جهة، وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا لا لامتناع الرؤية، فهذه الشمس إذا حدَّق الرائي البصر في شعاعها ضعُف عن رؤيتها، لا لامتناعٍ في ذات المرئي، بل لعجز الرائي، فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقوا رؤيته، ولهذا لما تجلى الله للجبل خر موسى صعقاً، فلما أفاق قال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين، بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملَك في صورته إلا من أيده الله، كما أيد نبينا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8] قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملَك في صورته، فلو أنزلنا عليهم ملكاً لجعلناه في صورة بشر، وحينئذ يشتبه عليهم هل هو بشر أو ملَك، ومن تمام نعمة الله علينا أن بعث فينا رسولاً منا. وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لَمَّا وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه، لكن قول من أثبت موجوداً يُرى لا في جهة أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يُرى ولا في جهة] . لا شك أن أقوال أولئك المعتزلة وكذلك غيرهم ممن نفى الرؤية أو أثبت رؤيةً غير حقيقية أنها أقوال مضطربة يردها كل عاقل. وقد عرفنا أن المعتزلة ينكرون الرؤية، وهم لا يزالون موجودين، ينكرون الرؤية أصلاً، وأن طائفة الأشاعرة يثبتون الرؤية، ولكن لا يثبتون العلو ولا يثبوت الجهة، وينفون أن يكون الله تعالى فوق العالم، وينفون أن يكون الله فوق عرشه وفوق سماواته بائناً من خلقه، فيقولون: إنه يُرى لا في جهة، هذا قول الأشعرية، وحقيقة قولهم أن الرؤية مكاشفات قلبية ليست بصرية، فالرؤية عندهم مكاشفات قلبية وأنوار تسطع للقلب، لا أنهم ينظرون بأعينهم وبأبصارهم إلى ربهم، ويقولون: إن هذا يستلزم الرؤية التي هي المقابلة. فرد عليهم الشارح ومن قبله بأن هذا قول باطل، وأن من قال: إن الله يُرى لا في جهة فليراجع عقله؛ لأن المرئي لا بد أن يكون في جهة، وإن لم تكن تلك الجهة تحصره فالله تعالى يتجلى لعباده من فوقهم، فينظرون إليه، ولكن لا يدل على أنه محصور في جانب أو في جهة أو في حيز -تعالى الله-، بل يرونه كما يشاء. هذا هو القول الصحيح. فقول هؤلاء المعتزلة ومثلهم الأشعرية الذين قالوا بهذه المقالة لا شك أن قولهم يستعبده العقل، وأنه قول على الله تعالى بلا علم. والواجب أن المسلم إذا جاءته الأدلة يقبلها ويتقبلها، ويعرف أحقيتها وصحتها، ويؤمن بأنها كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الله أخبر بنفسه، وأن رسله أعلم بما يجوز على ربهم، وقد أخبروا بذلك، فليس لأحد أن يرد بعض خبرهم ويقبل بعضه، فيكون من الذين قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] ، بل إذا قبل ما يتعلق بالأعمال يقبل ما يتعلق بالعقائد من الأمور الأخروية والأمور الغيبية؛ حتى يكون بذلك سليم الفطرة وصحيح المعتقد مؤمناً بما جاء عن الله على مراد الله، كما نقل عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: آمنتُ بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 18 شرح العقيدة الطحاوية [20] خاض كثير من أهل الإسلام في علم الكلام، فأخطئوا طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستفيدوا من ذلك سوى ضياع الأوقات وكثرة الأوهام، وقد رجع كثير منهم عن ذلك في آخر حياته وكان يحذر من الوقوع فيما وقع فيه، فأحسن الله خاتمتهم بحسن نياتهم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 1 التداوي بالقرآن لا بالفلسفة وكلام اليونان سبق الكلام حول النهي عن علم الكلام الذي اشتغل به المتكلمون، ومنه قول الشافعي رحمه الله: حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنعال، وأن يُطاف بهم في العشائر والقبائل، يقال: هذا جزاء من ترك كتاب الله وأقبل على الكلام. وذلك أيضاً قبل أن يشتهر علم الكلام، وقبل أن يتولد فيه ما تولَّد. وقد مرَّ بنا ما تكلم فيه بعض العلماء وبيَّنوا أضراره ومفاسده، وأنه مبني على الجدل، وأن أكثر ما فيه كلمات مولَّدة مفروضة لا أهمية لها ولا حقيقة لها، كلٌّ مِن أهلها يدلي بشبهة ثم ينقضها الثاني بمثلها أو بأقوى منها، وهكذا فلا تثبت لأنها حجة كلامية. وقد وضعوا في ذلك كتباً موسعة، ومن أوسعها كتابٌ للقاضي عبد الجبار المعتزلي اسمه (المغني) طُبع طبعةً جديدة في أربعة عشر مجلداً كله كلام وكله جدل، وكله توليدات لتلك الشبه التي هي شبه المعتزلة التي اعتمدوها في نفي الصفات، ووسعوا بها دائرة الكلام وشغلوا بها أوقات الناس وأضاعوا بها فراغهم، ونهايتهم عدم المعرفة، فلا يثبتون على حجة ثابتة مستمرة. فلذلك ينهى علماء الإسلام عن قراءة كتبهم، فـ ابن القيم عندما ذكر بعض كتبهم قال: فانظر ترى لكن نرى لك تركها حذراً عليك مصائد الشيطانِ يقول: نختار لك تركها، فكتبهم متهافتة، وكتب أهل الكلام ينقض بعضُها بعضاً، وإن أردت فانظر إليها، ولكنا ننصحك ألَّا تقرأها وألَّا تقرب منها حذراً عليك أن تتبع وأن يقع لقلبك شيء من الزيغ، أو تعلق بقلبك شبهة من تلك الشبهات، فيصعب عليك بعد ذلك التخلص منها. هذا خلاصة الكلام في النهي عن هذا الجدل عن تلك الخصومات التي يتنازع أهلها، فيثبت قومٌ شبهةً وينفيها آخرون ويبطلونها، بل الشخص الواحد يثبت شيئاً ثم ينتقض وينفيه، بل يعترضون عليه باعتراضات وبتوليدات يتضح منها أنه لا حقيقة لما يقولونه ولما يعتقدونه. ويأتينا بقية الكلام حول هذا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 2 ما ورد عن أهل الكلام يعرض على النص قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن المحال ألَّا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله ويحصل من كلام هؤلاء المتحيِّرين، بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقله، ويعرف برهانه ودليله إما العقلي وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهةً مجملة، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قُبِل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رُدَّ، وهذا مثل لفظ المركب والجسم والمتحيز والجوهر والجهة والحيز والعَرَض ونحو ذلك. إن هذه الألفاظ لم تأتِ في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريد أهل هذا الاصطلاح بل ولا في اللغة، بل هم يختصون بالتعبير بها عن معانٍ لم يعبر غيرهم عنها بها، فتُفَسَّر تلك المعاني بعبارات أخر، ويُنظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل. مثال ذلك في التركيب، فقد صار له معانٍ: أحدها: التركيب من متباينين فأكثر، ويسمى تركيب مزج، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء ونحو ذلك، وهذا المعنى منفي عن الله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من وصف الله تعالى بالعلو ونحوه من صفات الكمال أن يكون مركباً بهذا المعنى المذكور. الثاني: تركيب الجوار، كمصراعي الباب ونحو ذلك، ولا يلزم أيضاً من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب. الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة، وتسمى الجواهر المفردة. الرابع: التركيب من الهيولى والصورة، كالخاتم مثلاً هيولاه الفضة وصورته معروفة، وأهل الكلام قالوا: إن الجسم يكون مركباً من الجواهر المفردة، ولهم كلام في ذلك يطول ولا فائدة فيه، وهو أنه هل يمكن التركيب من جزئين، أو من أربعة، أو من ستة، أو من ثمانية، أو ستة عشر؟ وليس هذا التركيب لازماً لثبوت صفاته تعالى وعلوه على خلقه، والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء، وإنما قولهم مجرد دعوى، وهذا مبسوط في موضعه. الخامس: التركيب من الذات والصفات، هذا سمَّوه تركيباً لينفوا به صفات الرب تعالى، وهذا اصطلاح منهم لا يُعرف في اللغة ولا في استعمال الشارع، فلسنا نوافقهم على هذه التسمية ولا كرامة، ولئن سموا إثبات الصفات تركيباً فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ، سمُّوه بما شئتم، فلا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم، فلو اصطُلح على تسمية اللبن خمراً لم يحرم بهذه التسمية. السادس: التركيب من الماهية ووجودها، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران، وأما في الخارج هل يمكن ذات مجردة عن وجودها ووجودها مجرد عنها، هذا محال! فترى أهل الكلام يقولون: هل ذات الرب وجوده أم غير وجوده؟ ولهم في ذلك خبط كثير، وأمثلهم طريقةً رأي الوقف والشك في ذلك، وكم زال بالاستفسار والتفصيل كثير من الأضاليل والأباطيل] . قد علمنا أن الشرع الشريف كامل في جميع ما يحتاج إليه البشر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّن للأمة ما تحتاج إليه، وبالأخص ما يقولونه بألسنتهم وما يعتقدونه بقلوبهم في صفات ربهم، ولا يليق أنه علمهم الفروع وترك الأصول، بل الأصول أولى بالتعليم، فعلمهم الأصول التي هي العقائد ما يقولونه في ربهم بألسنتهم وما يعتقدونه بقلوبهم قبل أن يعلمهم الأوامر والنواهي ونحو ذلك، وذلك لأن العقيدة سبب الأعمال، والذي لا تكون معه عقيدة لا ينبعث جسمه بالعمل، فإذا رسخت العقيدة التي هي معرفة الرب سبحانه ومعرفة عظمته وكبريائه وجلاله في القلب أورثت أعمالاً، وأورثت الخوف منه ورجاءه ومحبته والخضوع والخشوع له والإخبات والإنابة والتوبة والرجوع إليه، وأورثت تعظيمه وتأليهه ودعاءه وعبادته. فإذا انتفت هذه المعرفة من القلب انتفت العبادة، ونحن نعرف أن الصحابة رضي الله عنهم وتابعيهم بإحسان أكثر الناس أعمالاً وأتمهم خشوعاً وأتمهم تذللاً، فما الذي حملهم على ذلك؟ أليس هو قوة المعرفة؟ أليس هو قوة العقيدة؟ أليست العقيدة رسخت في قلوبهم وهي معرفة ربهم؟ إذاً فنحن نحث المسلم على أن يقوي عقيدته، فنقول قوِّ عقيدتك، وتعلم ما ترسخ به عقيدتُك في قلبك، وقوِّ العقيدة التي هي معرفة الله ومعرفة عظمته ومعرفة جلاله وكبريائه، واحرص على ترسيخ هذه العقيدة في قلوب أولادك وفي قلوب إخوتك وفي قلوب المسلمين؛ فإنها متى رسخت أثمرت، وآتت أكلها وأثمرت العبادات الكثيرة التي هي فعل الصالحات وترك المحرمات. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 3 السلامة في اتباع طريقة الرسل عليهم السلام وأتباعهم ولو كان علم الكلام وتفاصيله من الشريعة ما أهملته الرسل، بل لعلمته الرسل لأممها، ونحن لم يُنقل لنا عن نبينا شيء من ذلك، ما نُقل عنه أنه خاض بأصحابه في هذا العلم الذي هو الجدل والخصومات والمنازعات ونحوها، ونعلم أنه ما تكلم فيها، بل كلامه في معرفة الله وفي عظمته وفي صفاته، وكلامه في أحكامه وأوامره ونواهيه وما إلى ذلك؛ هذا هو الذي بلغه لأمته، وبلغته أمته بعضها لبعض. يقول بعض السلف: أنا أحلف لو حُلِّفتُ أن أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة ماتوا ولم يتكلموا في لفظ التركيبب ولا الحيز ولا الجهة ولا الجوهر ولا العَرَض بالمعنى الذي أراده المتكلمون. وإذا لم يتكلم فيها هؤلاء الصحابة فلا خير فيها. وقد ثبت أن بعض المتكلمين وهو ابن أبي دؤاد الذي زين للخلفاء أن يمتحنوا الناس في علم الكلام، ومنه القول بخلق القرآن. جاءه أحد العلماء فقال له: أخبرنا عن هذا الذي تدعو الناس إليه، هل علمه نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو ما علموه؟ فإذا قلتَ ما علموه قلنا: كيف تعلم شيئاً ولا يعلمونه؟ أأنت أعلم من الرسول؟ أأنت أعلم من الخلفاء الراشدين؟ حاشا وكلا، لا تكون أعلم منهم. وإذا قلت: بل يعلمونه فهلَّا وسعك ما وسعهم، فهل دعوا إليه؟ وهل نشروه؟ وهل علَّموه الناس؟ وهل ألزموهم باعتقاده؟ وإذا لم يفعلوا فاتبعهم، ولا تنشره ولا تظهره، فإذا كان لك عقيدة فاكتمها في نفسك ولا تلزم غيرك بأن يعتقدها، فلماذا لا يسعك ما وسعهم؟ لا وسع الله على من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وصحابته والتابعين وأئمة الدين. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 4 مثال التركيب وبعده وسبق من أمثلة ما تكلم به المتكلمون كلامهم في التركيب وفي العَرَض وفي الجوهر وفي الحيز وفي الجهة وفي الأبعاض وفي الأعضاء ونحو ذلك، فيقولون: إن الله منزه عن التركيب، ومنزه عن الجسم، وعن الجوهر، وعن العَرَض، وعن البعض، وعن الجهة، وعن الحيز وما أشبه ذلك. فيقولون: ننزه الله تعالى عن ذلك، ثم يشرحون هذه الكلمات ويتوسعون فيها، وسبق ما نقله عنهم الشارح في معنى التركيب. ولا شك أن هذه الكلمة بدعية لم يتكلم بها السلف، واصطلاحاتهم هذه حيث جعلوا لها ستة معانٍ كما سمعنا، آخرها قولهم: التركيب هو التركيب من الصفات والذات، وأرادوا أن الله تعالى ليس له صفات، قيل: إذا إن الله ليس بمركب. وقد بين العلماء رحمهم الله أن إثبات الصفات لله إثبات وجود لا إثبات تحديد، كما أن إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تحديد، ولا إثبات تكييف، وذلك لعجز البشر وقصورهم عن أن يصلوا بمعارفهم إلى تحديد الصفات وإلى تكييفها، وقد ذكروا أن علم الصفات ملحق بعلم الذات يحذو حذوه ويسير على مثاله، فإذا كنا نثبت لله تعالى ذاتاً ولا نكيفها فهكذا نثبت له صفاتاً ولا نكيفها. وكثير من السلف يقولون في الصفات: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف. وفي الأثر المشهور عن مالك بن أنس رحمه الله قوله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. وفي أثر عن شيخه ربيعة قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول. يعني: لا تصله العقول، له كيفية ولكنها محجوبة عنا، فنؤمن به ونتوقف عن تلك الكيفية. وإذا سأل سائل وقال: ما كيفية الاستواء؟ قلنا: الكيف مجهول. فإثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تكييف ولا إثبات تمثيل. فهؤلاء الذين يقولون: إن الله تعالى غير مركب ثم يريدون بالتركيب التركيب من الصفات والذات يريدون بذلك نفي الصفات. فيقال لهم: أنتم تثبتون الذات، فهل لها كيفية؟ فإذا قالوا: لا يعلم كيفية الذات إلا الله. قلنا: كذلك الصفات لا يعلم كيفيتها إلا الله تعالى. فالحاصل: أن كلامهم في التركيب وأنه الأقسام الستة التي سبقت لا يحتاج إلى البحث فيه، بل هو من علم الكلام، إنما أورده الشارح ليبين تهافتهم، وليبين أنهم خاضوا في شيء لا فائدة فيه ولا حاصل له. وهذه التركيبات للأقسام الستة القصد منها هو القسم السادس كما سمعنا، وفي الأقسام الأولى من جملة ما ولَّدوه أن قالوا: التركيب من الأعضاء، والتركيب من الصورة والهيولي، ونحو ذلك، قالوا ذلك بالتتبُّع أو بعلم الكلام الذي ولَّدوه. فنقول: لا يجوز الخوض في مثل هذا، بل يقال: الله منزه عن النقائص وموصوف بصفات الكمال. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 5 سبب الضلال واعترافات أهل الكلام قال رحمه الله تعالى: [وسبب الضلال: الإعراض عن تدبر كلام الله وكلام رسوله، والاشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة، وإنما سمي هؤلاء أهل الكلام لأنهم لم يفيدوا علماً لم يكن معروفاً، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد، وهو ما يضربونه من القياس لإيضاح ما عُلِم بالحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله يُنتفع به في موضع آخر ومع من ينكر الحس، وكل من قال برأيه أو ذوقه أو سياسته مع وجود النص أو عارض النص بالمعقول فقد ضاهى إبليس حيث لم يسلم لأمر ربه، بل قل: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] . وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء:80] . وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] . وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا نبيه ويرضوا بحكمه ويسلموا تسليماً. قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، مُوَسوِساً تائهاً شاكَّاً زائغاً، لا مؤمناً مصدقاً ولا جاحداً مكذباً) . يتذبذب: يضطرب ويتردد، وهذه الحالة التي وصفها الشيخ رحمه الله حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة، وعند التعارض يتأول النص ويرده إلى الرأي والآراء المختلفة، أمره إلى الحيرة والضلال والشك، كما قال ابن رشد الحفيد -وهو من أعلم الناس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم- في كتابه تهافت التهافت: ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به؟! وكذلك الآمدي أفضل أهل زمانه واقفٌ في المسائل الكبار حائر، وكذلك الغزالي رحمه الله انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فمات و (البخاري) على صدره، وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذىً ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا فكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها رجالٌ فزالوا والجبال جبال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن. أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] . وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] . ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي] . أورد هذا الكلام ليبين أن هؤلاء نهايتهم الحيرة والتذبذب، وذلك لأنهم ليسوا على عقيدة راسخة، فكلامهم الذي يولدونه سبب الشك؛ لأنه لا يأتي ببرهان، بل بعضه يرد بعضاً، ويكذب بعضه بعضاً، فيأتي أحدهم بمسائل جدلية ويجمعها في مؤلفاته، ثم يأتي آخر أشد جدلاً منه فينقضها واحدة واحدة، فلا يبقى معه شيء، فيقول: كما أنك تولِّد كذا فأنا أولِّد مثله. وقد تعلمها كثير من العلماء ليردُّوا عليها، ومن جملة من عرفها وأتقنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه درس علومهم وإن لم يصرف فيها وقتاً، ولكن ما أعطيه من الذكاء ومن الفطنة ومن قوة الذاكرة كان سبباً في كونه يفهمها بمجرد ما يقرؤها، فناقش كتبهم ورد عليها رداً متقناً. وتجد في أول كتابه الرد على الشيعة الرافضة الذي سمي (منهاج السنة) ويكاد يكون ثلثه في مناقشة المتكلمين فيما يتعلق بالصفات وبنفيها ونحو ذلك. وهكذا كتابه الذي يسمى بالعقل والنقل أو يعرف بـ (درء تعارض العقل والنقل) مطبوع أيضاً في عشر مجلدات، وهو أيضاً مناقشة لهم في تلك الشبهات وبيان ما وقعوا فيه من التناقضات. وهكذا أيضاً كتابه الذي يسمى بـ (نقض التأسيس) و (التأسيس) كتاب لأحد المتكلمين، وهو للرازي صاحب هذه الأبيات، اسمه (تأسيس التقديس) رد عليه وإن لم يرد عليه كله، أو لم يوجد رده كله كاملاً وطبع الموجود منه، فناقشه كأنه درس كلامهم وتوغل فيه. وكل ذلك ليعرف المسلمون أنهم لا يثبتون على حالة، بل نهايتهم الحيرة ونهايتهم التذبذب، كما سبق عن أولئك منهم. فهذا ابن رشد -ويسمى الحفيد - له كتاب في الانتصار للفلاسفة، وذلك لأن الغزالي صنف كتاباً سماه (تهافت الفلاسفة) ولما صنفه رد عليه ابن رشد انتصاراً لهم، وسمى رده (تهافت التهافت) انتصاراً للفلاسفة ورداً على الغزالي. وقد سبق أن نقل الشارح بعض كلام الغزالي من كتابه إحياء علوم الدين. فالحاصل: أن الغزالي يبين أنهم ليسوا على عقيدة راسخة، بل إنهم متهافتون مضطربون متذبذبون، ولا عبرة بمن انتصر لهم من أضرابهم؛ فإن ابن رشد فيلسوف. فالحاصل أن هذا المؤلف لم يكن على عقيدة راسخة، بل ينقل عنهم أنهم متذبذبون، وأنهم مهما وصلوا إليه من المعرفة لا يثبتون أيضاً على طريقة. وثانيهم أبو الحسن الآمدي صاحب كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) من علماء المتكلمين، ولكن من الذين تكلموا في هذا العلم وتكلموا أيضاً في العلوم الأخرى كأصول الفقه، ومع ذلك فهو قد اعترف أنهم في الحيرة والشك والاضطراب. وثالثهم الغزالي صاحب الإحياء، يقولون: إن الإحياء من خير كتبه. وإن كان فيه شيء من البدع، فـ (إحياء علوم الدين) من أحكم كتبه، ولكنه لم يكن من المحدِّثين، فحشد فيه أحاديث موضوعة لا أصل لها، وإن كان جاء فيه بأفكار وبفوائد مهمة، وهو كان في أول أمره مشتغلاً بعلم الكلام ومشتغلاً بالجدل ومشتغلاً بعلم الفكر وما أشبه ذلك، ولأجل ذلك قدم في أول كتابه (المستصفى) مقدمة في المنطق، وفي آخر حياته ندم على أنه أضاع حياته في شيء لا فائدة فيه، فأقبل على الحديث وجعل يقرؤه فوافاه الأجل و (البخاري) على صدره، كأنه يقول: ندمتُ على إعراضي عن كتب الحديث فأنا الآن أشتغل بها في آخر حياتي. ولعله خُتم له بخاتمة حسنة. رابعهم: أبو عبد الله الرازي صاحب التفسير الكبير الذي هو أكبر التفاسير الموجودة لهذا العالم الكبير أبي عبد الله، ويسمى (فخر الدين الرازي) ، وصنف كتاباً له وسماه: (أقسام اللذات) وجاء فيه بهذه الأبيات، وكأنه ينتقد أكثر عمله، فحياته ذهبت في شيء لا فائدة فيه من علم الجدل. رُوي أنه مرةً كان يمشي في طريق وخلفه تلاميذ له أكثر من مائة أو مائتين، فمروا على عجوز فاستغربته وقالت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو عبد الله الرازي العالم الجليل يحفظ ألف دليل على وجود الله تعالى. قالت العجوز: أفي الله شك. عجوز على فطرتها تقول: هذا الذي حرص على جمع هذه الأدلة في قلبه شك، وفي قلبه توقف، فلا يحرص على تتبعها إلا من هو في حيرة أو في شك، فهو يقول في الأبيات التي سبق ذكرها: نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال فـ (إقدامهم) : تقدمهم. يعني: نهايته هذا الأمر. وسعيهم يعني: عملهم، أكثره ضلال. ثم يقول في أثنائها: ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا أي: ما استفدنا من جمعنا ومن تأليفاتنا إلا قال فلان، وقيل كذا، وقالوا كذا، فهذه فائدتنا. ثم يقول بعد هذه الأبيات: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية. يعني: طرق أهل الكلام ومناهج الفلاسفة. يقول عنها: فما تروي غليلاً -الغليل: الظمآن- ولا تشفي عليلاً يعني: مريضاً. ثم يقول: ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] . وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. فهذا كلامه في هذا الكتاب (أقسام اللذات) ، أليس ذلك دليلاً على أنه اعترف على نفسه وعلى بني جنسه أن سعيهم ضلال وأنهم في حيرة وأن عملهم تافه؟! إذاً نقول: هذه نهايتهم، أما أهل العقيدة الراسخة التي هي معرفة الله بصفاته وتفويض كيفيتها فهؤلاء -والحمد لله- لم يقعوا في شيء من هذا التزلزل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 6 قصص أخرى عن أهل الكلام قال رحمه الله تعالى: [وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: إنه لم يَرِد عن الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال: لَعَمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم وكذلك قال أبو المعالي الجويني -رحمه الله-: يا أصحابنا! لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفتُ أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به. وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـ ابن الجويني، وهأنذا أموت على عقيدة أمي أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور. وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي -وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي - لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوماً فقال: ما تعتقد؟ قال: ما يعتقده المسلمون. فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به -أو كما قال-؟ فقال: نعم. فقال: اشكر الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى أخضل لحيته. ولـ ابن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق: فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقضى عمري سافرَت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفر فلَحَى الله الأُلى زعموا أنك المعروف بالنظر كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر وقال الخونجي عند موته: ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجِّح ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئاً. وقال آخر: أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي منها شيء. ومن يصل إلى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق، كما قال أبو يوسف -رحمه الله-: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. وقال: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله، ولَأَن يُبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه -ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يبتلى بالكلام. انتهى وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيقر بما أقروا به، ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك التي كان يقطع بها ثم تبين له فسادها أو لم يتبين له صحتها، فيكونون في نهاياتهم -إذا سلموا من العذاب- بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب. والدواء النافع لمثل هذا المرض ما كان طبيب القلوب صلوات الله عليه وسلامه يقوله إذا قام من الليل يفتتح صلاته: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون! اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) خرَّجه مسلم. توسل صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبيته جبريل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه؛ إذ حياة القلب بالهداية، وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الثلاثة بالحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب، وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها، فالتوسل إلى الله سبحانه بربوبيته هذه الأرواح العظيمة المُوْكَلة بالحياة له تأثير عظيم في حصول المطلوب، والله المستعان] . ذكر أولاً بقية كلام هؤلاء الذين عُرف عنهم الحيرة، منهم الشهرستاني صاحب الملل والنحل. ومنهم: الجويني صاحب (الإرشاد) ، ويسمى (إمام الحرمين) له أيضاً مؤلفات، وكلامه في (الإرشاد) دليل على أنه متوغل في علم الكلام، وعرفنا ما تكلم به هنا. ومنهم هذا العالم المشهور الذي يسمى: (الخسروشاهي) الذي يحلف -كما ذكر الشارح- أنه لا يدري ما يعتقد، ويغبط العامة بعقيدتهم. هذه الكلمات المنقولة عنهم وكذلك عن غيرهم لا شك أنها دليل واضح على أن هذا النوع من علم الكلام نهايته الحيرة وأنهم لا يثبتون على طريقة، بل حجج هؤلاء ترد حجج هؤلاء. ذكر أحدهم -كما سبق- أنه يبيت الليلة من أولها إلى آخرها وهو يقابل حجة هؤلاء بحجة هؤلاء، ويصبح وما ترجح عنده منها واحدة، أي فائدة من العلم بها؟! وأي فائدة من معرفتها؟! إذاً أسلم الطرق البُعد عن هذه الطريقة التي هي علم الكلام، وهجر أهله والبُعد عنهم، بل عقوبتهم بما قال الشافعي رحمه الله. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 7 علاج القلوب عند الاختلاف والعلاج مثل ما في هذا الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في توسله بالله رب الموكلين من الملائكة بالحياة: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون! اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) . كأنك ترغب إلى الله وتقول: اختلفوا فهؤلاء يقولون، وهؤلاء يقولون، وأنا لا أدري مع من الحق، فإذا هديتني ووفقتني ودللتني على الصواب فإنني أنا المهتدي، وأنت الذي تهدي من تشاء وتضل من تشاء. إذا رغب العبد وتوسل بربوبيته تعالى هؤلاء الملائكة فإن الله تعالى يقبل دعاءه ويجيبه لما طلب، ويصرفه عن المحظورات وعن أضرارها وشرورها. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 8 لزوم الإيمان برؤية الله تعالى دون توهم أو تأويل قال المؤلف رحمه الله تعالى [قوله: (ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأوَّلها بفهم؛ إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ترك التأويل ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين، ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) . يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على المعتزلة ومن يقول بقولهم في نفي الرؤية، وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) الحديث، أدخل (كاف التشبيه) على (ما) المصدرية أو الموصولة بـ (ترون) التي تؤول مع صلتها إلى المصدر الذي هو الرؤية، فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي، وهذا بيِّن واضح في أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها ودفع الاحتمالات عنها، وماذا بعد هذا البيان وهذا الإيضاح؟! فإذا سلط التأويل على مثل هذا النص كيف يُستدل بنص من النصوص؟! وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه: إنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر؟! ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] ، ونحو ذلك مما استعمل فيه (رأى) التي من أفعال القلوب، ولا شك أن (ترى) تارةً تكون بصرية وتارةً قلبية وتارة تكون من رؤيا الحلم وغير ذلك، ولكن ما يخلو الكلام من قرينة تخلِّص أحد معانيه من الباقي وإلا لو أخلى المتكلمُ كلامَه من القرينة المخلِّصة لأحد المعاني لكان مجمَلاً مُلْغَزاً لا مبيَّناً موضَّحاً، وأي بيان وقرينة فوق قوله: (ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب) ؟! فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر أو برؤية القلب؟! وهل يخفى مثل هذا إلا على من أعمى الله قلبه؟! فإن قالوا: ألجأَنا إلى هذا التأويل حكمُ العقل بأن رؤيته تعالى مُحال لا يُتصور إمكانها، فالجواب أن هذه دعوى منكم، خالفكم فيها أكثر العقلاء، وليس في العقل ما يحيلها، بل لو عُرض على العقل موجودٌ قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحُكم بأن هذا محال وقوله: (لمن اعتبرها منهم بوهم) أي: توهم أن الله تعالى يرى على صفة كذا فيتوهم تشبيهاً، ثم بعد هذا التوهم إن أثبت ما توهمه من الوصف فهو مشبِّه، وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل ذلك التوهم فهو جاحد معطِّل، بل الواجب دفع ذلك الوهم وحده، ولا يعم بنفيه الحق والباطل، فينفيهما رداً على من أثبت الباطل، بل الواجب رد الباطل وإثبات الحق] . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 9 دلالة ألفاظ الكتاب توجب الإيمان بما دلت عليه الواجب علينا أن نقبل الصفة التي جاءتنا على ظاهرها، سيما إذا كانت صريحة بعيدة عن التوهمات، وأن نحملها على المحمل الذي يمكن أن تتحمله، وأن ننزه كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن الاحتمالات البعيدة التي فيها شيء من التكلف، وفيها صرف للفظ عن متبادرٍ منه وعما يفهمه المخاطَب لأول وهلة. وذلك أن كلام الله تعالى أفصح الكلام وأوضحه وأجلاه معنىً، وأقرب إلى أن يُفهم، ولا يحتاج إلى إيضاح زائد، وليس ككلام أهل الألغاز وأهل الإشارات القوية، وهكذا أيضاً كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه أفصح الخلق وأنصحهم، وإذا كان فصيحاً فلا بد أنه سيتكلم بما يعرفه ويفهمه المخاطَبون، وكذلك إذا كان أنصح الخلق وأحبهم لمعرفة الأمة وأحبهم لمنجاتها وأحبهم لإبعادها عن الأشياء الوهمية. فإذا كان كذلك فلا بد أنه يوضح لهم ولا يسوق لهم الكلام ملتبساً، ولا يتكلم بالكلام المُبهِم، حاشاه أن يتكلم بكلام يُفهم منه غير الذي أراد، والصحابة رضي الله عنهم تقبلوا كلامه وحملوه على ما هو عليه دون أن يسألوه ويناقشوه، ودون أن يفسروا كلامه بما لا يحتمله، حتى جاء الخلف المتأخرون الذين هم كما قال في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} [الأعراف:169] ، يعني أنهم قاموا مقامهم في وراثة الكتاب، ولكنهم لم يعملوا به، فهؤلاء الخلف الذين جاءوا بعد السلف هم الذين عملوا هذه الأعمال، وهي التأويلات البعيدة، التي تكلفوا فيها وصرفوها عما هو مقصود بها. فقد تقدم قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، والوجوه معروف أنها محل العيون، فالعينان مركبتان في الوجه، فإذا كان الوجه مقابلاً فإن العين تنظر. فالله قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] ، وقال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة:24] ، وفي سورة أخرى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2] ، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] . فجعل الوجوه علامة على الشقاء أو السعادة، كما في آية أخرى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] ، فالوجه هو الذي تكون فيه علامة الإشراق والسعادة، أو علامة الاسوداد والشقاوة. فإذاً قال الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وأيُّ كلام أفصح من هذا الذي يُفهم منه أن الوجوه تنظر إلى ربها؟! ثم جاء هؤلاء الخلف وسلطوا التأويل عليه وقالوا: إن المراد بالنظر هنا الانتظار، أو المراد نظر الثواب لا نظر الرب تعالى، فقالوا: (إلى ربها) يعني: إلى ثواب ربها. وما الدليل على هذا المقدر؟ وهل في الكلام محذوف؟ إن الله تعالى أعلى من أن يوهِم في كلامه أو يجعلَه خفياً ليس بجلي، فكيف يقال: ناظرة إلى ثواب الله أو إلى آلائه أو إلى نعمه؟! الجزء: 20 ¦ الصفحة: 10 وضوح كلام النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات وإذا عرفنا ذلك فإن كلام النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً فصيح، بعثه الله باللغة الفصحى، وهو أفصح من نطق بالضاد وأفصح العرب، وكلامه أيضاً في غاية الوضوح وفي غاية الفصاحة وفي غاية البيان. فمثلاً: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جرير: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر -أو كما ترون هذا القمر- لا تضامون في رؤيته) . ويقول في حديث آخر: (هل تضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر؟! هل تضارُّون في رؤية الشمس صحواً ليس دونها سحاب؟! فإنكم ترونه كذلك) ، أليس هذا واضحاً في أن المراد النظر والمعاينة بالعين؟ فجاء الخلف وسلطوا عليه التأويل وقالوا: المراد ألم تعلم، فالمراد العلم، فقوله: (فإنكم سترون ربكم) يعني: ستعلمون ربكم. هم يعلمونه في الدنيا، فكيف قالوا ستعلمون، وكأنهم ما علموا؟! إذ (السين) للاستقبال، ولو كان هذا مراده لقالوا: نحن نعلم ربنا، ونحن نعلم أنه ربنا. ولكنه قال: (سترون ربكم) يعني: يوم القيامة في الآخرة وفي الجنة. ثم لماذا قال: (كما ترون القمر) ؟! هل هم كانوا يرون القمر في تلك الساعة؟! وإذا كانوا يرونه هل يشكون في أن هذا هو القمر؟! وكيف يقاس على قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفيل:1] يعني: ألم تعلم؟! أو: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً} [إبراهيم:24] يعني: ألم تعلم؟! وكذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا} [المجادلة:8] ؟ وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} [المجادلة:7] ؟! وقوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} [الحشر:11] ؟! فالمراد هنا الرؤية العلمية، يعني: ألم ترَ بقلبك؟! فلا مناسبة بين هذه وبين قوله: (سترون ربكم) ، فهنا دخلت السين، يعني أنه في المستقبل، وهنا أكد بقوله: (كما ترون القمر ليلة البدر) ، (كما ترون هذا القمر لا تضامون) أي: لا تشكون في رؤيته. وبينهما فرق، فعرف بذلك أن هذه تأويلات بعيدة لا يحتاج إليها ولا يصدقها عاقل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 11 بعد تأويل أهل الكلام وأما قولهم: حملنا على ذلك أن الرؤية لله فيها تشبيه، فإذا قلنا إنه يُرى فإنه يكون مشابهاً لخلقه -تعالى الله عن قولهم- ف الجواب ما الذي أشعركم؟ فلو رأوه كلهم هل يلزم أن يكون مشابهاً لخلقه؟! حاشا وكلا؛ فالله سبحانه ليس كمثله شيء، ولا يلزم إذا رأوه أن يكون مماثلاً لشيء من مخلوقاته، بل هو كما يشاء، وقد أكد النبي عليه الصلاة والسلام هذه الرؤية وأخبر بأنها من أعلى نعيم أهل الجنة وأنها غاية مقصدهم ومرامهم، حتى يقول بعضهم: ولو أني استطعتُ غضضتُ طرفي فلم أنظر به حتى أراكا فعلى كل حال لا يُغتر ولا يُلتفت إلى تلك التأويلات، والمؤمن يتقبل هذه النصوص ثم يعرف الفائدة، والفائدة رسوخ عقيدته في قلبه وأنه مؤمن بالله وبما جاء عن الله، ويقينه أو تصديقه بأن المؤمنين يرون ربهم في دار كرامته، وبأن المؤمنين يتنعمون ويلتذون بهذه الرؤية، وأنها من جملة نعيمهم، وقبوله للأدلة التي دلت على ذلك وعدم تسليطه للتأويلات، وإعراضه عن تأويلات المتكلمين وعدم الإصغاء إلى أقوالهم، وإعراضه عن الأدلة العقلية التي ولَّدوها والتي زعموا أنها براهين وهي في الحقيقة شبهات وضلالات. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 12 البعد عن التأويل سبب للسلامة قال رحمه الله تعالى: [وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله تعالى بقوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) ، فإن هؤلاء المعتزلة يزعمون أنهم ينزهون الله بهذا النفي، وهل يكون التنزيه بنفي صفة الكمال؟! فإن نفي الرؤية ليس بصفة كمال؛ إذ المعدوم لا يُرى، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي له إدراكَ إحاطة كما في العلم؛ فإن نفي العلم به ليس بكمال، وإنما الكمال في إثبات العلم ونفي الإحاطة به علماً، فهو سبحانه لا يحاط به رؤيةً كما لا يحاط به علماً وقوله: (أو تأولها بفهم) أي: ادعى أنه فهم لها تأويلاً يخالف ظاهرها وما يفهمه كل عربي من معناها. فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل أنه (صرف اللفظ عن ظاهره) ، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص وقالوا: نحن نؤوِّل ما يخالف قولنا فسموا التحريف تأويلاً تزييناً له وزخرفةً ليُقبل. وقد ذم الله الذين زخرفوا الباطل، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] ، والعبرة للمعاني لا للألفاظ، فكم من باطل قد أقيم عليه دليل مزخرف عورض به دليل الحق، وكلامه هنا نظير قوله فيما تقدم: (لا ندخل في ذلك متأوِّلين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا) . ثم أكد هذا المعنى بقوله: (إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ترك التأويل ولزوم التسليم وعليه دين المسلمين) ، ومراده ترك التأويل الذي يسمونه تأويلاً وهو تحريف، ولكن الشيخ رحمه الله تعالى تأدب وجادل بالتي هي أحسن، كما أمر الله تعالى بقوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ، وليس مراده ترك كل ما يسمى تأويلاً، ولا ترك شيء من الظواهر لبعض الناس بدليل راجح من الكتاب والسنة، وإنما مراده ترك التأويلات الفاسدة المبتدعة المخالفة لمذهب السلف، التي يدل الكتاب والسنة على فسادها، وترك القول على الله بلا علم. فمن التأويلات الفاسدة تأويل أدلة الرؤية وأدلة العلو، وأنه لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً] . نعرف أن هؤلاء المعتزلة ونحوهم هم الذين توسعوا في هذا المجال وحملوا غيرهم على أن يتوسعوا، ولم يكن السلف رحمهم الله يتوسعون في هذا الكلام، بل يقبلونه على ما هو عليه، ولا ينقبون ولا يبحثون عن شيء من الإيرادات التي يوردها عليهم أهل التشبيه، فكان كلام السلف رحمهم الله قليلاً ولكن معناه كثير، وكانوا يقبلون النصوص ويعرفون معناها ويفهمونه ويعلمون ما قُصد منها، فيقرءون -مثلاً- الآيات التي في الصفات ويعلمون أنها صفات ثابتة، ولكن يعلمون أنها تخالف صفات المخلوق؛ لأن الله ليس كمثله شيء، ويعلمون أن من تلك الصفات صفة العلم وصفة الرؤية، وأنها حقيقية، ولكنها ليست كصفات المخلوقين في رؤيةِ بعضهم لبعض أو علمِ بعضهم ببعض، ويعلمون أن الله تعالى ما نفى عن نفسه إلا النقائص، فكل شيء فيه نقص فإنه قد نفاه. فمثلاً: يقول تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] أي: لا يماثله شيء. لأن المخلوق يأتي عليه الفناء والله ليس كذلك. ويقول تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] أي: لا أحد يستحق أن يسمى (الله) أو (الإله) أو نحو ذلك، وذلك لنقص المخلوقات التي تسمى بذلك. وقال تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] نفى ذلك عن نفسه لأنه نقص، فالنوم أخو الموت. وقد نفى الموت أيضاً عن نفسه فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ، فالموت نقص فنفاه عن نفسه. ونفى أيضاً عن نفسه عزوب شيء أو نسيانه فقال: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس:61] فقوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ} [يونس:61] يعني: ما يغيب عنه وما ينسى شيئاً؛ وذلك لأن النسيان نقص فنفاه عن نفسه. ونفى عن نفسه اللغوب فقال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] و (اللغوب) : التعب والسآمة والنصب، وذلك أيضاً نقص. فكل النقائص نزه الله نفسه عنها، وذلك لما يرد عليها من التغيير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 13 رؤية الله تعالى كمال له عز وجل ولم ينفِ عن نفسه الرؤية ولو كان نقصاً لنفى ذلك عن نفسه، وذلك لأن الرؤية كمال، فكونه يُرى صفة كمال، وعدمها صفة نقص، وذلك لأن المعدوم لا يُرى، فالذي لا يُرى معدوم، والمعدوم ليس بشيء، والذي ليس بشيء هو كاسمه ليس بشيء، فأثبت الله تعالى أنه يُرى، ولكن نفى عن نفسه إحاطة الأبصار به في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] يعني: إذا رأته فإنها لا تحيط به، فترى ما يبدو وما يتجلى منه ولا تحيط به، {وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، وقد تقدم أن الرؤية غير الإدراك، فالله ما نفى إلا الإدراك، والإدراك هو الإحاطة. وقد تقدم أن ابن عباس قيل له: أرأيت قول الله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ؟! فقال للسائل: ألستَ ترى القمر؟ قال: بلى. قال: أكُلَّه؟ قال: لا. قال: كذلك الإدراك. نحن نرى السماء، ولكن لا ندركها ولا ندري ما ماهيتها، ونحن نرى هذه الشمس وهذا القمر، ولكن لا ندرك ماهيته ولا من أي شيء هو، ونحن نرى هذا السحاب وهذه النجوم، ولكن تضعُف أبصارنا أن تحيط بها، وعن أن تعلم ماهيتها. فإذاً الرؤية شيء غير الإدراك، فالإدراك زائد على الرؤية. فمن تعظيم الله تعالى أنه يُرى ولا يُدرك. كذلك من تعظيم الله تعالى أن يُعلم ولا يُحاط به، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] . وقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] أي: لا يعلمون إلا ما أعلمَهم، وذلك لنقص المخلوقين وعظمة الخالق سبحانه وتعالى، فهم مهما علموا لا يعلمون تفاصيل ذات الله تعالى ولا ما هو عليه إلا ما أطلعهم عليه، فهذا هو بيان الفرق بين ما يقوله هؤلاء وما يقوله أهل السنة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 14 الواجب على أهل التأويل أما كونهم سلطوا على ذلك التأويل فقالوا -مثلاً- إن الرؤية تدل على إثبات تشبيه أو نحو ذلك فنحن نقول: لا حاجة لنا إلى تأويلكم، ولا حاجة بنا إلى هذا التأويل، بل انفوا عنها التشبيه وتَسلَمون. والتأويل اصطلحوا على أنه (صرف اللفظ عن ظاهره) ، فقالوا -مثلاً-: ظاهر قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] أن لله وجهاً، ولكن نصرفه فنقول: الوجه الذات، فنقول: كل شيء هالك إلا ذاته، فهذا أيضاً تأويل. ويقولون: ظاهر قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] أن لله يدين، وفي إثباتهما تشبيه، فنحن نفر من التشبيه، فلأجل ذلك نسلط عليهما التأويل، فنقول: المراد باليدين النعمة. أو: المراد باليدين القدرة وهذا بعيد، فالله تعالى قال: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) يعني: مبسوطتان بالعطاء، وقد أكد ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، بقوله: (يمين الله ملأى، لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟! فإنه لم يغِض ما في يمينه، وبيده الأخرى القسط يخفظ ويرفع) ، وقد أثبت الله تعالى لنفسه اليمين بقوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، فكيف تقولون: اليد القدرة؟! هذا من التأويل البعيد. وهكذا قولهم: إن كلام الله المعنى لا اللفظ. هذا أيضاً من التأويل. وهكذا قولهم: إن رحمة الله إرادة الإحسان. أو: غضبه إرادة الانتقام. كل ذلك يسمونه تأويلاً، فأهل السنة لا يدخلون في باب التأويل. والواجب عليهم أن يقتصروا على نفي التشبيه، وهذا معنى قول الطحاوي رحمه الله تعالى: (من لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) . وكان كثير من السلف إذا رأوا الإنسان يبالغ في النفي فيقول: ليس لله كذا وليس لله كذا اتهموه بأنه جهمي؛ لأن الذين يبالغون في النفي، فإنهم أقرب إلى أن يكونوا مشبِّهة من غيرهم، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه أن هؤلاء مشبِّهة، ولو ادعوا أنهم يهربون من التشبيه. وذلك أنه ارتسم في قلوبهم أن تلك الصفات دالة على التشبيه، فما فهموا من النصوص إلا التشبيه، فهذا أولاً. ثانياً: أنهم لما نفوا الصفات نفياً كلياً وقعوا في تشبيه آخر وهو التشبيه بالجمادات أو التشبيه بالمعدومات أو التشبيه بالمستحيلات، فأصبحوا بذلك مشبِّهين، مع أنهم يقولون: نهرب من التشبيه، فقيل لهم: أنتم مشبهة. فعلى كل حال: تأويلاتهم التي يتأولون بها النصوص يردها كل ذي عقل سليم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 15 معاني التأويل قال رحمه الله تعالى: [وقد صار لفظ التأويل مستعملاً في غير معناه الأصلي، فالتأويل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو الحقيقة التي يئول إليها الكلام. فتأويل الخبر هو عين المخبَر به، وتأويل الأمر نفس الفعل المأمور به، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم! اغفر لي، يتأول القرآن) . وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53] . ومنه تأويل الرؤيا وتأويل العمل كقوله: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100] ، وقوله: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:6] ، وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ، وقوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:78] إلى قوله: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:82] . فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل والعلم بما تعلق بالأمر والنهي منه؟! وأما ما كان خبراً كالإخبار عن الله واليوم الآخر فهذا قد لا يُعلم تأويلُه الذي هو حقيقته؛ إذ كانت لا تُعلم بمجرد الإخبار؛ فإن المخبَر إن لم يكن قد تصور المخبَر به أو ما يعرفه قبل ذلك لم يعرف حقيقته -التي هي تأويله- بمجرد الإخبار. وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى الذي قَصَد المخاطِب إفهام المخاطَب إياه، فما في القرآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها، وما أنزل آية إلا وهو يحب أن يُعلم ما عنى بها، وإن كان من تأويله ما لا يعلمه إلا الله. فهذا معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف، وسواء كان هذا التأويل موافقاً للظاهر أو مخالفاً له. والتأويل في كلام كثير من المفسرين كـ ابن جرير ونحوه يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه سواءً وافق ظاهره أو خالفه، وهذا اصطلاح معروف، وهذا التأويل كالتفسير يُحمد حقُّه ويُرَد باطلُه. وقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] فيها قراءتان: قراءة من يقف على قوله: (إلا الله) ، وقراءة من لا يقف عندها، وكلتا القراءتين حق. ويراد بالأولى: المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله. ويراد بالثانية: المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله. ولا يريد من وقف على قوله: (إلا الله) أن يكون التأويل بمعنى التفسير للمعنى؛ فإن لازم هذا أن يكون الله أنزل على رسوله كلاماً لا يعلم معناه جميعُ الأمة ولا الرسول، ويكون الراسخون في العلم لا حظَّ لهم في معرفة معناها سوى قولهم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] . وهذا القدر يقوله غير الراسخ في العلم من المؤمنين، والراسخون في العلم يجب امتيازهم على عوام المؤمنين في ذلك، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله. ولقد صدق رضي الله عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) رواه البخاري وغيره. ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لا يرد. قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقِفُه عند كل آية وأسأله عنها. وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن، ولم يقل عن آية: إنها من المتشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله] ذكر أن المبتدعة من المعتزلة ونحوهم يستعملون كلمة التأويل بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره، كما ذكرنا قريباً. كقولهم في {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] : استولى عليه، فهذا صرف اللفظ عن ظاهره. وقولهم في {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: في السماء علمه، أو: في السماء ملائكته، فهذا صرف للفظ عن ظاهره. وقولهم: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] أي: تصعد إلى ملائكته أو إلى علمه أو نحو ذلك. ولا شك أن هذا تأويل باطل ما أنزل الله عليه دلالة ولا أوضحه ولا أمر به، فهذا هو التأويل الذي هو مذموم، والذي يذمه السلف ويقولون: لا تتأولوا، أو لا تستمعوا إلى هذا التأويل ويراد به صرف اللفظ عن ظاهره، مع أن كلمة التأويل تأتي بمعنى التفسير، وكان ابن جرير رحمه الله في تفسيره يقول: (القول في تأويل قوله تعالى) ، ومراده: في تفسير الآية ويقول: (اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك) ، ويقول: (وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل) والمراد: أهل التفسير. أما في لغة القرآن فقد وردت كلمة (التأويل) ، وكذلك في لغة الصحابة، والمراد بها حقيقة الشيء وماهيته وما يئول إليه، وذلك مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف:53] فالمراد: حقيقته، أي: هل ينتظرون إلا أن يقع الأمر الذي أُخْبِروا به؟! وتأويله يعني وقوع ما فيه، فمثلاً: تأويل قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44] وقوع المناداة، من كون هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار وهؤلاء ينادون هؤلاء، إذا وقع ذلك فهذا هو التأويل، أي: وقوعه. فيقال مثلاً: هذا تأويل الآية التي أخبرنا بها، أي: حقيقة ما وقع. وكذلك مرجع الشيء يسمى تأويلاً، ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] يعني: أحسن حقيقةً وأحسن مظهراً ومرجِعاً. ومنه أيضاً تأويل الرؤيا، كما حكى الله عن يوسف أنه قال: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] ، ثم بعد أن جاء إخوتُه وأبواه ودخلوا عليه قال تعالى عنه: {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:99-100] يعني: هذه حقيقتها، فقد وقع ما تُؤَوَّلُ به. ولما دخل اثنان معه السجن قالا كما حكى الله تعالى عنهما: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف:36] أي: بحقيقته وما يئول إليه وما يقع. وفي نفس السورة يقول الله تعالى: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:6] يعني: حقائقها وما تئول إليه، يعني: ترجع إليه. فالتأويل الذي في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] المراد: ابتغاء معرفة وقوعه وكيفيته تصوُّره، وذلك غيب ولا يعلمه إلا الله، فإذا وقع علموه، ولا يقع إلا في يوم القيامة، فمثلاً: آيات الوزن كقوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8] ، وقوله: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:6] ، {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:8] قد يقولون: نريد تأويل هذا الميزان، وما مقداره؟ وما سعة الكفة؟ وكيف تميل؟ وكيف تَخِفُّ بهذا وتَثْقُل بهذا؟ فهذا تأويله لا يعلمه إلا الله، فنحن لا نعلم حقيقة ذلك الوزن، ولا نعلم كيف تكون الأعمال أعراضاً حتى توزن، فإنما يظهر إذا بدت. فإذا ظهرت الموازين ووزنت فيها الأعمال فعند ذلك نقول: هذا تأويل قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8] ، هذا تأويل قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ، هذا تأويله، أي: هذا هو حقيقته. وإذا تطايرت الصحف في الأيمان والشمائل نقول: هذا تأويل قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة:19] ، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة:25] أي: وقع ذلك فقبل ذلك لا ندري ما هو الكتاب، وكيف يكون الكتاب الذي هو كتاب كبير يحصي الأعمال كلها، كما في قوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] ، وكما في قوله: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] ، وكيف يقبض ذلك الكتاب باليد. فهذا ما لا يعلمه إلا الله، فإذا وقع وأخذت الكتب بالأيمان والشمائل فعند ذلك نقول: هذا تأويل تلك الآيات التي أخبر الله فيها بأنه سيقع كذا، وأن صورته وكيفيته كذا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 16 شرح العقيدة الطحاوية [21] الإيمان بالله تعالى كما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم نفياً وإثباتاً هو تمام الإيمان وكماله، ولا يتم ذلك إلا بالوقوف مع دلالات النصوص والبعد عن مقالات أهل الكلام. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 1 المتشابه في القرآن والمراد به قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول الأصحاب رحمهم الله في الأصول: إن المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور ويروى هذا عن ابن عباس، مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، فإن كان معناها معروفاً فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفاً وهي المتشابه كان ما سواها معلوم المعنى وهذا المطلوب. وأيضا فإن الله قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] ، وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادين. والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك، وهذا هو التأويل الذي يتنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية، فالتأويل الصحيح منه الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد، وهذا مبسوط في موضعه. وذكر في التبصرة أن نصير بن يحيى البلخي روى عن عمرو بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن محمد بن الحسن رحمهم الله أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره إلى التشبيه فقال: نمرها كما جاءت ونؤمن بها، ولا نقول: كيف وكيف. ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس: وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم وقيل: عليَّ نحت القوافي من أماكنها وما عليَّ إذا لم تفهم البقر فكيف يقال في قول الله الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث، وهو الكتاب الذي {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] . إن حقيقة قولهم أن ظاهر القرآن والحديث هو الكفر والضلال، وأنه ليس فيه بيان لما يصلح من الاعتقاد، ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه، هذا حقيقة قول المتأولين، والحق أن ما دل عليه القرآن فهو حق، وما كان باطلاً لم يدل عليه، والمنازعون يدعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه، فيقال لهم: هذا الباب الذي فتحتموه، وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة حقيقة، فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع المشركين والمبتدعين لا تقدرون على سده. فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي، فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ؟ فإن قلتم: ما دل القاطع العقلي على استحالته تأولناه وإلا أقررناه، قيل لكم: وبأي عقل نزن القاطع العقلي؟ فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع، ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد، ويزعم المعتزلي قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى، وعلى امتناع قيام علم أو كلام أو رحمة به تعالى، وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات أعظم من أن تنحصر في هذا المقام. ويلزم حينئذ محذوران عظيمان: أحدهما: أن لا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث قبل ذلك بحوثاً طويلة عريضة في إمكان ذلك بالعقل، وكل طائفة من المختلفين في الكتاب يدعون أن العقل يدل على ما ذهبوا إليه، فيئول الأمر إلى الحيرة. المحذور الثاني: أن القلوب تنحل عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول؛ إذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد، والتأويلات مضطربة، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد، وخاصةُ النبي هي الإنباء، والقرآن هو النبأ العظيم، ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للاعتضاد لا للاعتماد إن وافقت ما ادعوا أن العقل دل عليه، وإن خالفته أولوه، وهذا فتح باب الزندقة والانحلال، نسأل الله العافية] . قد تقدم أن الله ذكر في القرآن: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] ، ومعلوم أن المفسرين قد تكلموا على الآيات كلها، وعلى القرآن كله، ولم يسكتوا عن آية أو آيات فقالوا: هذه من المتشابه، إلا أن بعضهم لا يتكلمون على الحروف المقطعة التي في أوائل السور، وكثير منهم تكلموا عليها، وقالوا: يراد بهذا كذا وكذا، وإن اختلفت الآراء فيها. وما دام أن القرآن قد فسر كله فهذه الآيات المتشابهات يظهر أنها الكيفيات للأمور الغيبية، أعني الأشياء التي أخبر فيها عن أمور غيبية ولكنا لا نعلم كيفيتها، فإذا أخبر الله أن في الجنة أنهاراً تجري فإنا لا ندري ما كيفية تلك الأنهار كقوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15] إلى آخر الآية، وفي الحديث أنها: (تجري في غير أخدود) أي: تجري على وجه الأرض ومع ذلك لا تسيح، وهذا من علم الغيب الذي نقول: الله أعلم بكيفيته. وهكذا أيضاً الأشجار التي في الجنة، وكذلك الأشجار التي في النار، ذكر الله أن في النار شجرة الزقوم، فلا ندري ما كيفية تلك الشجرة، وكيف لا تحترق بالنار، وكل هذا نقول فيه: الله أعلم، فهو من المتشابه. فالكيفيات الغيبية هي التي يتوقف عنها، ويقال: الله أعلم بكيفيتها فهي من المتشابه. ويقال أيضاً كذلك في كيفيات صفات الله، فنحن لا ندري ما كيفيتها إلا أنَّ نتحقق معانيها، فنتحقق أن الله متكلم بكلام يسمع، ونتحقق أن الله يعلم الخفي والجلي ويسمع القريب والبعيد وهكذا، ولكن كيفية تلك الصفات نفوضها ونقول: الله أعلم بها. وهذا أقرب الأقوال في الآيات المتشابهات، أي: أنها كيفيات الأمور الغيبية. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 2 نقد التأويل أما التأويل الذي ذكروه، وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بدليل يقترن به، أو لقرينة تؤيد المرجوح وترجحه، فهذا اصطلاح جديد للمتأخرين، لم يكن عند السلف ولا يعرفون هذا، وهو في الحقيقة تحريف وتكلف، وفي الحقيقة إذا جمعنا الأدلة عرفنا أنه يصعب صرفها، سيما وقد اجتمعت الدلالة من كل من مفرداتها. بعد ذلك قد يقولون: إن ظاهر هذه النصوص يوهم التشبيه، فيوهم أن الله مثل خلقه، وإنا إذا أثبتنا الرؤية أو أثبتنا الكلام أو ما أشبه ذلك أثبتنا أنه مثل الخلق والله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، فيقولون: إن هذه النصوص أو هذه الأدلة يفهم منها التشبيه؛ هكذا قالوا. ونحن نقول: لا يفهم ذلك، وحاشا وكلا أن تكون صفات الله دالة على شيء باطل، أو تكون نصوص القرآن والحديث دالة على ما هو كفر، بل كلام الله أفصح الكلام، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم أوضح، وهو عليه الصلاة والسلام أنصح الخلق لأمته، وإذا اجتمعت فصاحته ونصحه، والبيان الذي أعطيه، وأضيف إلى ذلك أن كلام الله واضح الدلالة، فلا يجوز أن يقال: إن ظاهره غير مراد، أو: إن ظاهره يقتضي كفراً أو نحو ذلك. وكثيراً ما يقول المتكلمون: ظاهر النصوص غير مراد. ونقول: ما مرادكم بظاهرها؟ هل تريدون: أن ظاهرها ما يليق بالمخلوق؟ وأنا إذا قلنا -مثلاً-: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فالمعنى أن الله له عينان كعيني المخلوق؟! أو له يدان كأيدي المخلوق؟! فهذا ليس بمراد، ولكن أخطأتم في قولكم: إنه ظاهرها. ولا يمكن أن يفهم من نصوص الصفات ما هو ضلال، بل معروف أن صفات الله تعالى تليق به، وإذا كنتم تقولون: إن لله ذاتاً لا تشبه غيره فكذلك له صفات لا تشبه غيره، فإن القول في الصفات كالقول في الذات، يحذو حذوه ومثاله، وإذا كان الكلام واضحاً وفصيحاً فلا عبرة بمن خفي عليه وبمن لم يظهر له، كما قال القائل: عليَّ نحت القوافي من أماكنها وما عليَّ إذا لم تفهم البقر يقول هذا الشاعر: أنا عليَّ أن آتي بالكلام الفصيح، وأختار الكلام البليغ، ولكن إذا لم يفهموا فلست بملوم، فيقال: كذلك كلام الله واضح، وإذا لم تفهموا فالنقص في أذهانكم أنتم وليس النقص في كلام الله، فكلام الله سبحانه واضح، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام واضح وفصيح، ولكن ما أتيتم إلا من سوء أفهامكم ومن سوء تفكيركم، وإلا فلو أعطيتم الكلام حقه لقلتم بأنه لا يدل على محذور. وعلى كل حال معلوم أنهم ما خابوا في ذلك إلا لما ارتسم في أذهانهم وأفكارهم أن صفات الله كصفات المخلوق، وأن النصوص دالة على ما هو تشبيه، فعند ذلك أكثروا من البحث ومن التنقيب حتى وقعوا فيما وقعوا فيه مما هو تحريف. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 3 أمراض القلوب الناشئة من التشبيه والتعطيل قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) النفي والتشبيه مرضان من أمراض القلوب، فإن أمراض القلوب نوعان: مرض شبهة، ومرض شهوة. وكلاهما مذكور في القرآن، قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ، فهذا مرض الشهوة، وقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10] ، وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:125] ، فهذا مرض الشبهة وهو أردأ من مرض الشهوة؛ إذ مرض الشهوة يرجى له الشفاء بقضاء الشهوة، ومرض الشبهة لا شفاء له إن لم يتداركه الله برحمته. والشبهة التي في مسألة الصفات نفيها وتشبيهها، وشبهة النفي أردأ من شبهة التشبيه، فإن شبة النفي رد وتكذيب لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وشبهة التشبيه غلو ومجاوزة للحد فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وتشبيه الله بخلقه كفر؛ فإن الله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، ونفي الصفات كفر؛ فإن الله تعالى يقول: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، وهذا أحد نوعي التشبيه، فإن التشبيه نوعان: تشبيه الخالق بالمخلوق، وهذا الذي يتعب أهل الكلام في رده وإبطاله، وأهله في الناس أقل من النوع الثاني الذين هم أهل تشبيه المخلوق بالخالق، كعباد المسيح وعزير والشمس والقمر والأصنام والملائكة والنار والماء والعجل والقبور والجن وغير ذلك، وهؤلاء هم الذين أرسلت إليهم الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له] . قول الطحاوي: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) . يريد بالنفي نفي الصفات أو المبالغة في نفيها، ويريد بالتشبيه إثبات أن صفات الله كصفاتنا، فيكون بذلك مشبهاً، ومذهب الأئمة وأهل السنة وسط بين المذهبين، فإنهم يقولون: إن من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن نفى ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس في إثبات صفات الله تشبيه. ويقول بعضهم: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد -يعني: المثبت- يعبد إلهاً واحداً فرداً صمداً، وأخذ ذلك ابن القيم في النونية بقوله: لسنا نشبه ربنا بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان كلا ولا نخليه من أوصافه إن المعطل عابد البهتان فالذين شبهوا يقال فيهم: قد غلوا في الإثبات، فقالوا: لله يد كأيدينا، ولله وجه كوجوهنا، وما أشبه ذلك، فوقعوا في تشبيه الخالق بخلقه -تعالى الله- وهذا فيه أنهم عبدوا الأوثان والأصنام. أما الذين نفوا فإنهم في الحقيقة لم يثبتوا خالقاً، أي: الذين نفوا هذه الصفات ونفوا كل الصفات، فقالوا: الله تعالى لا يعلم، ولا يتكلم، ولا يسمع، ولا يرى، وليس له يد، وليس له وجه، وليس له كذا وكذا، آل بهم الأمر إلى أن صاروا يعبدون عدماً، ولا يثبتون خالقاً. ثم قد عرفنا أنهم لما جاءتهم هذه النصوص صارت مخالفة لما في أفكارهم، فسلطوا عليها التأويلات، وفتحوا باب التأويل لغيرهم ممن أنكروا حقيقة المعاد كالفلاسفة، وفتحوا باب التأويل للذين أنكروا الأحكام والأوامر والنواهي كغلاة الصوفية وكالباطنية ونحوهم، فأصبحوا في الحقيقة هم الذين جلبوا الشر وفتحوا بابه على الإسلام والمسلمين. فالذي يريد السلامة هو الذي يتوقى مرض التشبيه ومرض التعطيل، مرض النفي ومرض الإثبات الزائد الذي هو غلو في الإثبات، جعلهما الشارح كالأمراض، والمعروف أن المرض هو الذي ينهك الجسم حتى يلزم صاحبه الفراش، هذا هو المرض المعروف، ولكن هذا مرض الأبدان؛ لأن المرض نوعان: مرض قلب، ومرض بدن. فمرض البدن يعالج عند الأطباء وله أدوية، ففي الحديث: (ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء) ، ولكن المرض الشديد هو مرض القلب، ومرض القلب أيضاً نوعان: مرض الشبهة، ومرض الشهوة. ومرض الشهوة هو الشهوة إلى الزنا أو إلى المعاصي ونحوها، كما قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ، نهى الله المرأة أن ترقق كلامها، فإنه إذا سمعها الفاسق طمع في الاتصال بها، هذا مرض شهوة الزنا ونحوه. أما مرض الشبهة فهو أشد، فمرض الشهوة قد يزول بالعفة أو بالنكاح الحلال، أما مرض الشبهة فإنه الذي يتمكن في القلب، فهذان المرضان من أشد أمراض الشبهة، أعني مرض التشبيه، ومرض التعطيل. وذكر أن مرض التعطيل أشد، وذلك لأن المشبه غلا به الإثبات إلى أن وقع في أن الله كخلقه -تعالى الله عن ذلك- ولكن الذي يقول ذلك فئة قليلة، فالذين يذهبون إلى التشبيه قليلون بالنسبة إلى المعطلة فإنهم كثيرون. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 4 السلامة في البراءة من مرضي التشبيه والتعطيل وعلى كل حال فنحن نبرأ إلى الله ونحذر من كلا المرضين، فمرض التعطيل أشد لأن أهله أكثر، ولأن الدعايات إليه أكثر، وقد يتكرر كثير في كلام العلماء النهي عن التعطيل وعن التشبيه، فيقولون في آيات الصفات وأحاديثها: أمروها كما جاءت بلا كيف. ويقولون: نقبلها ونتقبلها من غير تحريف ولا تأويل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تكييف ولا تعطيل. فينفون عنها هذه الأشياء. وكذلك ينفون عنها الإلحاد الذي هو الميل بها عما قصد بها، فإن الله تعالى ذم فاعل ذلك، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] يعني: بالأسماء الحسنى، {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] يعني: اتركوهم وابتعدوا عنهم. والإلحاد في أسمائه إنكار حقائقها أو إنكار دلالاتها، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت:40] . فعلينا أن نتجنب هذه الأشياء، ومن أهمها الإلحاد في أسماء الله، والإلحاد في آياته، فإذا قرأنا القرآن وسمعنا الأحاديث وقلنا: نمرها كما جاءت وننزه ربنا عما لا يليق به، سلمنا من هذه الأمراض كلها إن شاء الله. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 5 تنزيه الله عن الشبيه والكفؤ قال رحمه الله تعالى: [قوله: (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية منعوت بنعوت الفردانية ليس في معناه أحد من البرية) . يشير الشيخ رحمه الله إلى أن تنزيه الرب تعالى هو وصفه كما وصف نفسه نفياً وإثباتاً، وكلام الشيخ هنا مأخوذ من معنى سورة الإخلاص، وقوله: موصوف بصفات الوحدانية مأخوذ من قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] . وقوله: (منعوت بنعوت الفردانية) من قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:2-3] . وقوله: (ليس في معناه أحد من البرية) من قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ، وهو أيضاً مؤكد لما تقدم من إثبات الصفات ونفي التشبيه. والوصف والنعت مترادفان، وقيل: متقاربان، فالوصف للذات والنعت للفعل، وكذلك الوحدانية والفردانية، وقيل في الفرق بينهما: إن الوحدانية للذات، والفردانية للصفات، فهو تعالى موحد في ذاته متفرد بصفاته، وهذا المعنى حق ولم ينازع فيه أحد، ولكن في اللفظ نوع تكرير، وللشيخ رحمه الله نظير هذا التكرير في مواضع من العقيدة، وهو بالخطب والأدعية أشبه منه بالعقائد، والتسجيع بالخطب أليق. و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، أكمل في التنزيه من قوله: (ليس في معناه أحد من البرية) ] . قصد الطحاوي رحمه الله بذلك الزيادة في التوضيح والإثبات؛ فإن قوله: (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية) يؤكد بذلك ما تقدم من إثبات الصفات ونفي التشبيه، فالله سبحانه وتعالى هو الواحد الأحد، موصوف بأنه هو الواحد، وقد ذكر ذلك في قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] ، وفي قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة:73] . فالوحدانية لا شك أنها خاصة به، فهو الواحد في صفاته، وهو الواحد في ذاته، ومعناه أنه لا يصلح أن يكون معه خالق غيره ولا معبود سواه. كذلك هذا دل عليه قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ؛ فإن الأحد يراد به المتوحد بجميع الخصائص، وكذلك قوله: (منعوت بنعوت الفردانية) دل عليه كونه لم يلد ولم يولد؛ فإن الله تعالى نزه نفسه عن الولد في عدة آيات رداً على من جعل لله ولداً، كالنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، واليهود في قولهم عزير ابن الله. وكفار العرب في جعلهم الملائكة بنات الله، رد الله عليهم ذلك وأنكر عليهم في قوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات:153] ، وفي قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 6 واجب المسلم مع ربه تعالى في صفاته فواجب المسلم أن ينزه ربه تعالى عن الصفات المحدثات، وعن صفات الخلق التي تختص بهم، وأن يعتقد أن لله سبحانه صفات الكمال التي يعرف منها أنه هو الواحد الأحد المنزه عن النقص وعن العيب، وأن صفاته تختص بذاته، وأنه منزه عما لا يليق به، فإذا عرف ذلك عرف بذلك أنه تم بذلك توحيده -إن شاء الله- وصلحت عقيدته، فصلاحها بهذين الأمرين: فالواجب إثبات ما يليق بالله، وتنزيهه عن مشابهة المخلوقين، سواءٌ في الذات أو في الصفات أو في الأفعال، فبذلك يرد على الطوائف المنحرفة الذين غلوا في الإثبات والذين زادوا في النفي. فمن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه، وهو سبحانه موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص، وقوله: (وليس في معناه أحد من البرية) أي: لا يشبهه أحد من مخلوقاته، هذه خلاصة العقيدة، ومن أقر بها عصمه الله تعالى من الأخطاء. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 7 مصطلحات أهل الكلام وكيفية التعامل معها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات) . أذكر بين يدي الكلام على عبارة الشيخ رحمه الله مقدمة، وهي أن للناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال، فطائفة تنفيها، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصل وهم المتبعون للسلف، فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا بين ما أثبت بها فهو ثابت، وما نفي بها فهو منفي؛ لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي، ولهذا كان النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً، ويذكرون عن مثبتها ما لا يقولون به، وبعض المثبتين لها يدخل فيها معنى باطلاً مخالفاً لقول السلف ولما دل عليه الكتاب والميزان، ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها. وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً، وإنما نحن متبعون لا مبتدعون، فالواجب أن ينظر في هذا الباب -أعني باب الصفات- فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه. والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني، وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان معنى صحيحاً قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد والحاجة، مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها ونحو ذلك. والشيخ رحمه الله تعالى أراد الرد بهذا الكلام على المشبهة كـ داود الجواربي وأمثاله القائلين إن الله جسم، وإنه جثة وأعضاء، وغير ذلك -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- فالمعنى الذي أراده الشيخ رحمه الله من النفي الذي ذكره هنا حق، ولكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقاً وباطلاً، فيحتاج إلى بيان ذلك، وهو أن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حداً، وأنهم لا يحدون شيئاً من صفاته] . الطريقة في هذا هي ما ذكر في باب الأسماء والصفات أن الرجوع إلى النقل، ولا دخل للعقل. والنقل: هو الكتاب والسنة، أي: النقل الصحيح؛ لأنه منقول لنا بنقل ثابت وليس فيه تشكيك، فنقتصر على النقل، وذلك لأن العقول لا تستطيع أن تتدخل في هذا الأمر، ولا أن تعرف حقائقه، ولا أن تفكر تفكيراً تتدخل فيه، فإذا قال المتكلمون: إن هذا الوصف لا يقره العقل أو لا يثبته، فالجواب أن نقول: ما للعقول ولأمر الغيب؟ هذا من أمر الغيب، والعقول محجوزة عن هذا الأمر. نقول بعد ذلك: إن الطحاوي الذي هو صاحب المتن رحمه الله عاش في أواخر عهد السلف، وبعدما أحدث كثيرٌ من المبتدعة، وبعدما انتشر أهل البدع وتمكنوا، فهناك مبتدعة المشبهة الذين بالغوا في الإثبات حتى شبهوا الخالق بالمخلوقين، ومنهم هذا الذي حكى عنه، وهو داود الجواربي. وطائفة أخرى هم المعطلة، ومنهم أكابر المعتزلة، كـ أبي الهذيل العلاف، وأبي علي الجبائي، وكذلك الجاحظ، وسائر المعتزلة بالغوا في النفي، فعطلوا الله تعالى عن صفات الكمال، واشتهرت أقوال هؤلاء وأقوال هؤلاء، إلا أن المعطلة أكثر من المشبهة؛ لأن النفوس تنفر من إثبات التشبيه، فلما كان كذلك ألف الطحاوي هذه الرسالة وقصد بذلك الرد على هؤلاء وهؤلاء، فأثبت فيها الصفات كما يليق بالله، ورد فيها على المشبهة الذين بالغوا في الإثبات، وتكلم بهذه الكلمات، وإن كان الأفضل تركها، أعني: الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات والجهات الست، فالأولى تركها؛ لأن المتكلمين الذين هم النفاة صاروا ينفون بها حقاً وباطلاً، فلما أدخلوا فيها حقاً كان الأولى أن ينفى الباطل بعبارة كريمة ليس فيها شيء من الشبهة. كذلك ذكر أن للناس في استعمالها ثلاثة أقوال: قول أنه لا يجوز إثباتها، وقول أنه لا يجوز نفيها، وقول بالتفصيل. ويمكن أن يكون هناك قول رابع، وهو التوقف عنها، فلا إثبات ولا نفي، فيقال: هذه من الأمور المبتدعة، فنحن لا نثبتها إطلاقاً ولا ننفيها، ولكن التفصيل أولى، وهو أن يقال: ماذا تريدون بالحدود؟ وماذا تريدون بالأعضاء والأدوات؟ وماذا تريدون بالجهات؟ ففي كلامكم هذا حق وباطل. فالحق الذي تنفونه عبروا عنه بعبارة كريمة، والباطل الذي تنفونه أيضاً عبروا عنه بعبارة كريمة حتى نوافقكم على نفي الباطل ونخالفكم في نفي الحق، ونتحقق أن الصواب مع من أثبت لا مع من نفى، أو نحو ذلك. قال: (تعالى عن الحدود) ، فنقول: الأولى عدم إطلاق هذه اللفظة، ولكن الذين أطلقوها لهم عذر، أي: الذين قالوا إنه يتعالى عن الحدود؛ لأن الحد له تفسيران كما سيأتي. وكذلك الغايات والأركان والأعضاء والأدوات إلى آخرها، فالأولى التوقف عن ذلك، فنقتصر على ما أثبته الله، حيث إننا نقول: إن الله تعالى بذاته فوق سماواته على عرشه عليٌّ على خلقه، وأنه سبحانه قريب من عباده يطلع عليهم ولا يخفى عليه منهم خافية، وأنه موصوف بصفات الكمال منزه عن النقائص، فإذا أثبتنا ذلك لم يدخل علينا أهل البدع بحجة، ولم يجدوا علينا قولاً أننا ممثلة أو نحو ذلك. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 8 بيان أن أهل السنة لا يحدون الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [قال أبو داود الطيالسي: كان سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون: كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر. وسيأتي في كلام الشيخ: (وقد أعجز عن الإحاطة خلقه) فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحده، لا أن المعنى أنه غير متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم، سئل عبد الله بن المبارك: بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على العرش بائن من خلقه. قيل: بحد؟ قال: بحد. انتهى. ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره، والله تعالى غير حال في خلقه ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه المقيم لما سواه، فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً؛ فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب، ونفي حقيقته. وأما الحد بمعنى: (العلم والقول) ، وهو أن يحده العباد فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السنة، قال أبو القاسم القشيري في رسالته: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي: سمعت منصور بن عبد الله: سمعت أبا الحسن العنبري: سمعت سهل بن عبد الله التستري، يقول وقد سئل عن ذات الله فقال: ذات الله موصوفة بالعلم غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقبى ظاهراً في ملكه وقدرته، قد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته، فالقلوب تعرفه، والعيون لا تدركه، ينظر إليه المؤمنون بالأبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية. ] . عرفنا أن الأولى ترك الخوض في ذكر الحد، ولكن السلف رحمهم الله قصدوا بالإثبات بيان أن الرب تعالى متميز عن خلقه، فإنه فوق سماواته، وعلى عرشه، وعلي على خلقه، وهذا معنى قولهم: بائن من خلقه. وقولهم: إنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، يردون بذلك على الحلولية الذين تقدم قولهم بأول الكتاب، فيقصدون بذلك الجواب الواضح بأن الرب سبحانه وتعالى بذاته فوق سماواته على عرشه، وأنه بائن من خلقه، ومعنى قولهم: (بحد) أي: بينه وبين الخلق حد وهو معنى البينونة، ويتوقفون عند هذا. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 9 إثبات صفة اليد ونحوها وبيان أنها ليست أعضاء ولا أدوات قال رحمه الله تعالى: [وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات فيتسلط بها النفاة على نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية، كاليد والوجه، قال أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر: له يد ووجه ونفس، كما ذكر تعالى في القرآن من ذكر اليد والوجه والنفس، فهو له صفة بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته ونعمته لأن فيه إبطال الصفة. انتهى. وهذا الذي قاله الإمام رضي الله عنه ثابت بالأدلة القاطعة، قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وقال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، وقال تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] ، وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] ، وقال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] ، وقال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة لما يأتي الناس آدم فيقولون له: (خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء) الحديث. ولا يصح تأويل من قال: إن المراد باليد القدرة، فإن قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، لا يصح أن يكون معناه: بقدرتي مع تثنية اليد، ولو صح ذلك لقال إبليس: وأنا أيضاً خلقتني بقدرتك فلا فضل له عليَّ بذلك، فإبليس مع كفره كان أعرف بربه من الجهمية. ولا دليل لهم في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] ؛ لأنه تعالى جمع الأيدي لما أضافها إلى ضمير الجمع ليتناسب الجمعان اللفظيان للدلالة على الملك والعظمة، ولم يقل: (أيدي) مضافاً إلى ضمير المفرد، ولا (يدينا) بتثنية اليد مضافة إلى ضمير الجمع، فلم يكن قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] نظير قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) . ولكن لا يقال لهذه الصفات: إنها أعضاء أو جوارح أو أدوات أو أركان، لأن الركن جزء الماهية، والله تعالى هو الأحد الصمد لا يتجزأ سبحانه وتعالى، والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية -تعالى الله عن ذلك- ومن هذا المعنى قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] . والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع، وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة، وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تعالى، فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فلذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً لئلا يثبت معنىً فاسد أو ينفى معنىً صحيح، وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل] . قوله: (تعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات) يقول: هذا النفي تسلط به النفاة على الصفات، فقالوا: نحن ننفي عن الله تعالى الأعضاء والأركان والأدوات، وهذا قول السلف ومنهم الإمام الطحاوي، فتسلطوا بذلك على نفي الصفات الثابتة بالأدلة، فنفوا صفة الوجه لله، ونفوا صفة النفس، ونفوا صفة اليد التي أثبتها، وصفة العين أو الأعين التي أثبتها، وغير ذلك من الصفات الواردة في القرآن والسنة نفوها بهذه الجملة، وقالوا: إنها أعضاء، وإنها أركان، وإنها أدوات. والشارح رحمه الله بين أن الصفات ثابتة عن السلف، أعني الصفات التي أثبتها الله تعالى، فأثبت الله لنفسه صفة اليد أو اليدين في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] ، {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] ، وكذلك قوله مخاطباً إبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، فأضاف الله تعالى لنفسه صفة اليدين، فدل على أنها صفة ثابتة وإن كانت لا تشبه صفة المخلوق، ولا يدي المخلوق، ويقال: الله أعلم بكيفيتها. ويستدل على إثبات صفة اليد بأن الله تعالى ذكرها في هذه الآيات، فذكرها مفردة في قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] ، وذكرها مثناة مضافة إلى ضمير المفرد كما في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وفي قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] . وذكرها بصيغة الجمع ولكن مضافة إلى ضمير الجمع في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس:71] ، فهنا ذكرها مضافة إلى ضمير الجمع (نا) الذي يؤتى به للتعظيم، فالله تعالى يذكر نفسه بضمير الجمع للدلالة على التعظيم، كما يقول أحد الملوك: نحن أمرنا بكذا، ونحن فعلنا كذا، وهو واحد لكن يريد بذلك التعظيم. فالله تعالى يعظم نفسه بضمير الجمع، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} [الكوثر:1] ، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} [الفتح:1] ، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] ، {نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزخرف:32] ، فكذلك قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] ، الضمير للجمع للدلالة على العظمة وأنه المستحق لأن يعظم، فهذا معنى ضمير الجمع هنا؛ لأنه قال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] جمع اليد وجمع الضمير كل ذلك لأجل العظمة. وأثبت النبي صلى الله عليه وسلم لربه صفة اليدين في قوله صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟! فإنه لم يغض ما في يمينه، وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع) ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (المقسطون عند الله يوم القيامة عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين مباركة) ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله السماوات بيمينه ويقبض الأرض بشماله -وفي رواية: بيده الأخرى- ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وقرأ قوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ) ، وقرأ أيضاً لما سئل عن ذلك قول الله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] . ولاشك أن هذه أدلة دالة على إثبات هذه الصفة، فيثبتها أهل السنة كما يليق بالله سبحانه وتعالى. وقد أورد ابن كثير رحمه الله أدلة كثيرة في إثبات صفة اليد عند تفسير قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر:67] . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 10 أدلة إثبات صفة الوجه والنفس أما صفة الوجه فذكرت في الآيات كثيراً، كقوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] ، وقوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:20] ، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، ونحوها من الآيات. وكذلك الحديث النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، وفي قوله: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) ، ونحو ذلك من الأدلة، فهذه أدلة واضحة من الكتاب والسنة على إثبات هذه الصفة. وكذلك صفة النفس، ذكر الله ذلك بقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] ، وقوله عن عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] ، وقوله في آيات كثيرة يذكر الله تعالى فيها إثبات هذه الصفة، فصفة النفس ذكرها الله تعالى وأثبتها وهو أعلم بنفسه، ورسوله أعلم بمرسله، فيقتصر على ما جاء في الكتاب والسنة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 11 السلامة في ترك مصطلحات أهل الكلام ثم اعتذر الشارح عن الطحاوي في استعماله لهذه الكلمات، وذكر أنه قصد حقاً، وأن هذه الصفات لا تسمى أركاناً ولا تسمى أدواتاً، ولا تسمى أعضاءً، واستدل بأن الأعضاء واحدها عضو وهو ما يتجزأ وما يمكن أن يتجزأ، والله منزه عن ذلك، وقرأ قول الله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] يعني: أقساماً وأجزاءً. وعلى كل حال كان الأولى أن لا تذكر هذه الأشياء؛ لأن فيها حقاً وباطلاً، فينفى بها حق وباطل؛ فإن النفاة الذين هم الجهمية ونحوهم نفوا بها جميع الصفات، وتسلطوا على ما ورد في النصوص فنفوه، وقالوا: إنه أعضاء، وإنه أركان، وإنه أدوات، فلما تسلطوا بها احتاج أهل السنة إلى أن يبينوا أن الصفات لا تدخل في هذا المعنى، فقالوا: الصفات لو أثبتناها لا يصدق عليها أنها أركان ولا أنها أدوات ولا أنها أعضاء ونحو ذلك. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 12 لفظ الجهة ودلالته قال رحمه الله تعالى: [وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقاً، والله تعالى لا يحصره شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى الله عن ذلك، وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح، فمعناه أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات، فهو فوق الجميع عال عليه. ونفاة لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة، وأنه كان قبل الجهات، وأن من قال: إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، أو أنه كان مستغنياً عن الجهة ثم صار فيها، وهذا الألفاظ ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات، سواءٌ سمى جهة أو لم يسم، وهذا حق، ولكن الجهة ليست أمراً وجودياً بل أمر اعتباري، ولا شك أن الجهات لا نهاية لها، وما لا يوجد فيها لا نهاية له، فليس بموجود] . هذا تفسير أو إيضاح لما ذكره الطحاوي من أنه (لا تحيط به الجهات الست كسائر المبتدعات) وقصد الطحاوي صحيح، وهو أن الرب سبحانه وتعالى لا يحيط به شيء من خلقه؛ لأن الجهات مخلوقة، فلا تحيط به جهة بمعنى (تحويه أو تحصره) وقد قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] ، وقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] ، فإذا كانوا لا يحيطون به علماً فكذلك المخلوقات لا تحيط به، أي: لا تحصره أو تحويه، تعالى الله؛ هذا هو قصده. والجهات الست معروفة، وهي الفوق والتحت واليمين واليسار والأمام والخلف، فمعنى أنها لا تحيط به، أي: لا يحصره جهة منها، بل هو أعظم من ذلك كما يشاء. ثم لا ينافي ذلك أن يوصف الله تعالى بأنه فوق عباده في جهة العلو، ولكن لا يلزم من ذلك حصر ولا إحاطة ولا غير ذلك، وقد دلت الأدلة الشرعية على وصف الرب سبحانه وتعالى بصفة العلو، وسيتكلم الشارح على ذلك بتوسع في أثناء الكتاب، ويذكر الأدلة الدالة على أنه تعالى فوق مخلوقاته كما يشاء، قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] ، وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] ، وكذلك غيرها من الأدلة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 13 استدراك على المصنف رحمه الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [وقول الشيخ رحمه الله تعالى: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات) هو حق باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، بل هو محيط بكل شيء وفوقه، وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ رحمه الله لما يأتي في كلامه أنه تعالى محيط بكل شيء وفوقه. فإذا جمع بين كلاميه وهو قوله: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات) وبين قوله: (محيط بكل شيء وفوقه) علم أن مراده أن الله تعالى لا يحويه شيء ولا يحيط به شيء كما يكون لغيره من المخلوقات، وأنه تعالى هو المحيط بكل شيء العالي على كل شيء. لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ مع ما فيه من الإجمال والاحتمال كان تركه أولى، وإلا تسلط عليه وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته، فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى. الثاني: أن قوله: (كسائر المبتدعات) يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي، وفي هذا نظر؛ فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي فممنوع؛ فإن العالم ليس في عالم آخر وإلا لزم التسلسل، وإن أراد أمراً عدمياً فليس كل مبتدع في العدم، بل منها ما هو داخل في غيره كالسماوات والأرض في الكرسي ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات كالعرش، فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعاً للتسلسل كما تقدم] . لاحظ الشارح على صاحب المتن هاتين الملاحظتين: الأولى: يقول: إن الأولى عدم استعمال هذه الألفاظ لما فيها من الإبهام، ولما فيها من العموم الذي تسلط به الأعداء أو المبتدعة على نفي ما هو حق؛ فإنهم تسلطوا بقوله: (لا تحويه الجهات الست) على نفي جهة العلو، وبنفي الأعضاء والأركان والأدوات على نفي صفات الكمال، وجعلوا هذا دليلاً لهم، مع أن هذا غير مراد للطحاوي رحمه الله، بل مراده حق كما بينه واعتذر عنه الشارح. الثانية: لاحظ أن قوله: (كسائر المبتدعات) يفهم منه أن المبتدعات -يعني: المخلوقات- تحويها جهة من الجهات، وهذا ليس بصحيح، فيقول: ليس كل الموجودات محوية حوتها جهة من الجهات، ومثل بالعالم وما أشبهه. وعلى كل حال فالاقتصار على السنة والاقتصار على ما ورد في الأدلة الشرعية هو الصحيح الواضح، وهو الذي ليس فيه توقع ولا شك، وفيه كفاية، فالاقتصار على الأدلة الصحيحة والسنة الصريحة فيه الكفاية والمقنع، وكذلك الاستدلال بعبارات السلف، فالسلف رحمهم الله يعبرون بعبارات واضحة، ففيها الكفاية عن التعبير بعبارات موهمة استعملها المتأخرون وأدخلوا فيها حقاً وباطلاً. قال رحمه الله تعالى: [ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بأن (سائر) بمعنى: (البقية) لا بمعنى: (الجميع) هذا أصل معناها، ومنه السؤر، وهو ما يبقيه الشارب في الإناء. فيكون مراده غالب المخلوقات لا جميعها؛ إذ السائر على (الغالب) أدل منه على (الجميع) ، فيكون المعنى أن الله تعالى غير محوي كما يكون أكثر المخلوقات محوياً، بل هو غير محوي بشيء -تعالى الله عن ذلك- ولا يظن بالشيخ رحمه الله تعالى أنه ممن يقول: إن الله ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين كما ظنه بعض الشارحين، بل مراده أن الله تعالى منزه عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته، أو أن يكون مفتقراً إلى شيء منها، العرش أو غيره، وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه نظر؛ فإن أضداده قد شنعوا عليه بأشياء أهون منه، فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به، وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وظاهر هذا الكلام يقتضي نفيه، ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة، فلذلك قلت: إن في ثبوته عن الإمام نظراً، وإن الأولى التوقف في إطلاقه؛ فإن الكلام بمثله خطر، بخلاف الكلام بما ورد عن الشارح كالاستواء والنزول ونحو ذلك، ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إلى سماء الدنيا كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم يكون العرش فوقه، ويكون محصوراً بين طبقتين من العالم، فقوله مخالف لإجماع السلف مخالف للكتاب والسنة] . لما كان بعض المنتميين إلى أبي حنيفة قد دخلهم شيء من التفسير في العقيدة نسبوا إليه أنه ممن يقول: إن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا لا شك أنه لا يقوله أبو حنيفة، بل أبو حنيفة قد أثبت الاستواء، وأثبت أن الله تعالى فوق عرشه، وأنه يدعى من أعلى، وأن العباد إذا دعوه رفعوا إليه أيديهم متضرعين إليه، واستدل بذلك كله على أن الله تعالى فوق عباده، ولم يقل هذه المقالة الشنيعة التي يستعملها النفاة. فعلى هذا لا يظن بأحد من أئمة الإسلام كـ أبي حنيفة ولا غيره من الأئمة المتبعين المقتدى بهم أنهم يدخلون في هذه الأمور المبتدعة التي فيها تعطيل الله تعالى ونفي في صفات كماله؛ وذلك لأن صفات الكمال ثابتة لله سبحانه وتعالى عقلاً ونقلاً، والصفات التي أثبتها كلها صفات كمال، والتي نفاها لأنها تشتمل على نقص فنفاها، ونفي النقص كمال، هذه هي طريقة أهل السنة، أنهم ينفون عن الله الصفات التي نفاها عن نفسه؛ لأن في نفيها إثباتاً لأضدادها، وذلك كله من صفات الكمال. ولا شك أن المسلم إذا اعتقد أن ربه تعالى قريب مجيب، واعتقد أنه عليم حكيم، واعتقد أنه سميع بصير، واستحضر ذلك في كل حالاته عظم قدر ربه في قلبه وأكثر من دعائه، وتعلق قلبه برجائه وخافه حق الخوف واستعد للقائه وعظمه غاية التعظيم، وهذا هو السر في تقرير أهل السنة لهذه الصفات حتى يعرف المسلمون صفات ربهم فيعبدوه حق عبادته. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 14 شرح العقيدة الطحاوية [22] قد تواترت الأدلة الشرعية والعقلية على علو الله تعالى على خلقه، فيجب الإيمان به دون النظر إلى اللوازم الباطلة. وأيضاً يجب الإيمان بالإسراء والمعراج، وهو من الغيب الذي ثبت للصديق منزلة الصديقية الإيمان به، فعلى المؤمن أن يثبت عقيدته ويصدق بكل ما صح به الدليل. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 1 دين الله تعالى أصله وثمرته نحمد الله على كل حال، ونعوذ به من حال أهل النار، ونحمد الله أن جعلنا مسلمين وأعاذنا من شر البدع والمبتدعين، ونحمد الله أن اختار لنا دين الإسلام ورضيه لنا ديناً، وأتم علينا نعمته وأكمل لنا الدين، ونحمد الله أن ثبتنا على دينه، نسأله سبحانه أن يثبتنا عليه إلى الممات. دين الإسلام الذي اختاره الله لهذه الأمة هو دينه الباقي، وهو دين الأنبياء كلهم أولهم وآخرهم، وأصله معرفة العبد ربه ودينه ونبيه، أصله الاعتراف بالله تعالى رباً وإلهاً ومدبراً، أصله التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، فبعد أن يعترف العبد بأنه سبحانه رب الأرباب ومسبب الأسباب لا إله غيره ولا رب سواه يعقد على ذلك قلبه عقداً محكماً، فيحمله هذا الاعتقاد على أن يبادر إلى الطاعة وأن يبتعد عن المعصية، ويحمله هذا الاعتقاد على أن يتفانى في خدمة ربه وفي عبادته، ويحمله هذا الاعتقاد على أن يرخص عنده كل شيء في سبيل رضا ربه سبحانه وتعالى. ويحمله هذا الاعتقاد على أن يهجر في ذات الله كل قريب وكل بعيد، وعلى أن يرضي الله بسخط الناس كائناً من كان، وعلى أن يلتمس رضا الله بجميع ما ينفق وبجميع ما يملك ولو طلب منه ربه أن يبذل نفسه وأن يبذل ماله لكان ذلك سهلاً رخيصاً عنده؛ ذلك لأنه يعلم أن رضا ربه فيه الفوز وفيه السعادة، وفيه تحصيل خيري الدنيا والآخرة. ولكن ذلك كله يتوقف على عقيدة القلب العقيدة السليمة الصحيحة التي هي معرفة الله تعالى بكامل صفاته، معرفته بما يستحقه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وإثبات الأسماء الحسنى والصفات العلى التي يستحق بها أن يعظم حق التعظيم، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، ويستحق أن يعبد حق عبادته ويطاع حق طاعته، وتلك العقيدة إذا رسخت في القلب وتمكنت منه فلن تزعزعها شبهة، ولن يزيلها مزيل مهما كانت العوائق ومهما كانت الظروف. ولاشك أن هذه العقيدة لما رسخت في قلوب الصحابة رضي الله عنهم رأينا لها الآثار، ونزل فيهم قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] . إلى آخر الآيات. ونتذكر أن كل من اعتقد هذه العقيدة وثبتت في قلبه ثبوتاً ورسخت رسوخ الجبال أنه يعرف بذلك بعمله، ويعرف بتفانيه بحيث لا تأخذه في الله لومة لائمة، ولو دعي إلى أن يخرج من ماله ونفسه لما توقف في ذلك، فهذه علامة الصدق وعلامة الصادق في هذه العقيدة. روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66] يقول: أنا من ذلك القليل، لو كتب الله علينا أن نقتل أنفسنا لفعلنا، أو أن نخرج من أموالنا وديارنا لخرجنا. وهكذا كل مؤمن، ولكن كل مؤمن صادق وكل مؤمن مصدق وكل مؤمن سليم الإيمان كامل الإيمان يؤمن بأن ما عند الله خير وأبقى، ويؤمن بأن ربه هو الذي أعطاه، وهو الذي يملكه، وهو الذي طلب منه سبحانه وتعالى هذا الطلب، فيهون عليه ذلك الطلب. إذاً فمعرفة العقيدة الإسلامية التي هي عقيدة المسلمين مهمة غاية الأهمية، وأصل هذه العقدية -كما قلنا- هو معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وهذا هو السبب في أن الرب سبحانه تعرف إلى عباده، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت:37] ، وأكبر مخلوقاته السماوات والأرض، بل ومن مخلوقاته خلقك بنفسك، خلق جنس الإنسان، وخلق الأرض وما بث فيها من دابة، ولا شك أن هذه من أكبر الآيات الدالة على أنه خالق وعلى كل شيء قدير، وإذا كان هو الخالق لهذا الخلق فإنه كما قال ابن كثير المستحق للعبادة. فيعرفه العباد ويصفونه بصفات الكمال، فيصفونه بأنه هو السميع الذي لا يحجب سمعه شيء، ولا تشتبه عليه الأصوات، وبأنه البصير الذي لا يستر بصره حجاب، وبأنه يرى عباده مهما كان ويرى كل شيء ولا تخفى عليه من عباده خافية، وبأنه العليم الذي يعلم كل ما دق وجل، وكل ما قدم وحدث، وكل كبيرة وصغيرة وبأنه الرحيم بعباده، وبأنه عزيز ذو انتقام، وبأنه صادق الوعد، وبأنه مالك الملك، وبأنه كامل الصفات له الصفات الكاملة التي أثنى بها على نفسه سبحانه ووصفه بها رسوله، فيصفونه بذلك. فيتعلمون هذه الصفات وأدلتها، وإذا عرفوا أدلتها لا شك أنها يكون لها تأثير في قلوبهم، وتأثيرها في قلوبهم بعد رسوخها بأن تنطق ألسنتهم بذكره، وتخشع قلوبهم لهيبته، وتشتغل أبدانهم كلها بطاعته سبحانه، ويعرفون ما يحبه فيتقربون إليه بكل محبوب، ويعرفون ما يكرهه ويبغضه فيبتعدون عنه غاية البعد، ويعرفون أسباب رضاه فيأتون بها، فذلك هو السبب في التركيز على علم العقيدة. إذاً فاهتم -أيها الأخ المسلم- بعلم العقيدة حتى ترسخها في قلبك وفي قلب كل مسلم، وتعرف بذلك صادق العقيدة من غيره الذي يعبد الله على شفا جرف. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 2 المعصية دليل على نقص قدر الرب في القلب واعلم أن كل من رأيته مقصراً في الطاعة، أو كل من رأيته مرتكباً لشيء من المعاصي، فإن ذلك لنقص قدر ربه في قلبه، فقدر الله تعالى وعظمة الرب في القلب لا شك أن لها تأثيرها، فإذا نقص قدرها في القلب ظهرت المعاصي، وظهر التقصير في الطاعات، وظهر ارتكاب شيء من المكروهات أو من المحرمات، فهذه علامة واضحة على كمال الإيمان وثبوته ورسوخه في القلب وعلى نقصه، وهذا هو السبب في تركيزنا على علم العقيدة في هذا الدرس، وكذلك غيرنا من الذين يهتمون به في هذه العقيدة الطحاوية، وفي غيرها من كتب العقائد، فليهتم المسلمون بأمر عقيدتهم، وليعرفوا فوائدها، وليتعبدوا ربهم بموجبها. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 3 إثبات صفة علو الله تعالى على خلقه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني: سمعت الأستاذ أبا منصور بن حمشاذ -بعد روايته حديث النزول- يقول: سئل أبو حنيفة فقال: ينزل بلا كيف. انتهى. وإنما توقف من توقف في نفي ذلك لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش، بل يقول: لا مباين ولا محايث، ولا داخل العالم ولا خارجه. فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء على العرش. ويقول بعضهم بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود، ونحو ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً. وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تعالى زيادة بيان عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: (محيط بكل شيء وفوقه) إن شاء الله تعالى] . من صفات الله سبحانه وتعالى أنه القاهر فوق عباده، قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18] ، وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] ، فيؤمن العباد بهذا القهر الذي مقتضاه الغلبة والإحاطة، والقهر: هو قوة الغلبة، بمعنى أنه غالب متصرف في العباد ليس لهم قدرة على التصرف في أنفسهم بدون اختيار الله وقضائه وتدبيره. ومن صفاته سبحانه أنه هو العلي بجميع أنواع العلو، علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، وكذلك فوقية القدر وفوقية القهر وفوقية الذات، ولا شك أن هذه الصفات قد دلت عليها الأدلة السمعية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي هي مرجع الإسلام في الاستدلال، فمرجع المسلمين في استدلالهم على صفات ربهم هذه النصوص الثابتة المنقولة عن نبيهم نقلاً ثابتاً متواتراً. ولاشك أن هذا الإثبات للفوقية بجميع أنواعها يستلزم أن يكون الرب سبحانه وتعالى بكل شيء عليم؛ فإنه إذا كان قاهراً لعباده وقادراً عليهم وعالماً بهم ومطلعاً عليهم، ويرى صغيرهم وكبيرهم وخفيهم وجليهم، كان ذلك دالاً على عظمته وعلى إحاطته. والمخلوقون حقيرون بالنسبة إلى عظمة ربهم، فالمخلوق الذي هو الإنسان جزء صغير من مخلوقات الله، والأرض التي نحن عليها والسماوات التي فوقنا ومحيطة بنا جزء صغير أيضاً من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، فإذا كانت الأرض قبضته، والسماوات مطويات بيمينه فما مقدار الإنسان؟! وما قدره في هذا الكون؟! قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما السماوات والأرض في كف الرحمن إلا كحبة خردل في يد أحدكم، وحبة الخردل هي أصغر ما يُتَصَوَّر من الحبوب، فالخردل شجر معروف وحبه صغير جداً، فيقول: إذا قبض أحدكم حبة خردل في كفه هل يحس بأنها تشغل مكاناً؟! كذلك السماوات السبع والأرضون السبع يقبضها الله وكأنها حبة خردل في يد أحدكم. فإذاً هذا دليل على العظمة، وأن علوه سبحانه وتعالى فوق عباده لا ينافي علمه، ولا ينافي اطلاعه، ولا ينافي علمه بعباده، ولا ينافي رؤيته لهم وقربه منهم وهيمنته عليهم ونظره إليهم وعلمه بأحوالهم وبأقوالهم وسماعه لأصواتهم، وما أشبه ذلك، ألا يكون العبد مستحضراً لذلك في كل حالاته حتى يعبد ربه غاية العبادة، وحتى يخافه غاية الخوف، إذاً فمن أصل عقيدة أهل السنة الاعتقاد بالفوقية لله، وأن ذلك لا ينافي علمه وقربه واطلاعه على عباده. كذلك عليه أن يعرف العقائد الفاسدة فيجتنبها، أو يركز على عقيدة السلف والأئمة وأهل السنة ويعرض عما سواها من عقائد المبتدعة، كوحدة الوجود والحلوليين ونحوهم من الفرق الضالة الذين أنكروا علو الله وقالوا: إنه لا فوق ولا تحت، ولا مباين ولا محايث. أو: إن وجوده هو وجود الكون، أو: إنه حال في المخلوقات بذاته -تعالى الله عما يقولون-، فكل أولئك لم يثبت الإيمان في قلوبهم ولم ترسخ معرفة الله وعقيدة الإسلام في أفئدتهم، فوسوس إليهم الشيطان أن ذات الله حالة فيكم أو في كل مكان، أو أن وجوده هو وجود الكون أو ما أشبه ذلك، يريدون بذلك أن يبرروا مذاهبهم، فعلى المسلم أن يعرف العقيدة السليمة وأن يعتقدها ويتعبد لله تعالى بموجبها. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 4 الإسراء والمعراج وما ورد فيهما قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] ، فصلى الله عليه في الآخرة والأولى. المعراج: مفعال من العروج. أي: الآلة التي يُعرج فيها أي: يصعد، وهو بمنزلة السلَّم، لكن لا نعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغيَّبات نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته. وقوله: (وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة) اختلف الناس في الإسراء: فقيل: كان الإسراء بروحه ولم يُفْقد جسده، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه. لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً، وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، فـ عائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا: كان مناماً، وإنما قالا: أسري بروحه ولم يُفْقد جسده. وفرقٌ ما بين الأمرين؛ إذ ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء وذُهِب به إلى مكة وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، فما أرادا أن الإسراء كان مناماً، وإنما أرادا أن الروح ذاتها أسري بها ففارقت الجسد ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه؛ فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت وقيل: كان الإسراء مرتين: مرة يقظةً ومرة مناماً، وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله: (ثم استيقظت) وبين سائر الروايات. وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين: مرة قبل الوحي ومرة بعده. ومنهم من قال: بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي ومرتين بعده. وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة للتوفيق، وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين، ذكره ابن عبد البر] . الجزء: 22 ¦ الصفحة: 5 إثبات الإسراء والمعراج من عقائد أهل السنة من عقائد أهل السنة الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم عرج به إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس في ليلة المعراج، وأن ذلك كان بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين أو نحوها، وكذلك من عقائدهم ثبوت الإسراء. وقد ذكر الله تعالى الإسراء، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلَاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] أخبر في الحديث أنه أسري به، يعني: ذُهب به من مكة إلى أن وصل إلى المسجد الأقصى الذي هو مسجد إيلياء، المسجد الأقصى الذي هو الآن معروف. هذا المسجد هو أحد المساجد الثلاثة، ويُعرف بالمسجد الأقصى، وهو قبلة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، وبعد الهجرة أيضاً ظل يستقبله ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، فلذلك يقال: إنه أولى القبلتين. ويقال: إنه مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) بمعنى أنه يجوز أن يسافر إليه لأجل فضل الصلاة فيه، فالصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة في غيره، والصلاة في المسجد النبوي تعدل ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام، والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف كما ورد ذلك في الأحاديث، فهذه الثلاثة هي التي يُشد إليها الرحال. فمسجد إيلياء يسمى مسجد بيت المقدس أو البيت المقدس الذي بناه سليمان عليه السلام، وقد قيل: إنه جدَّده. وقيل: إنه أول من بناه. والصحيح أنه بُني قديماً، ثبت في الحديث أنه عليه السلام سئل: (أي المساجد بُني أولاً؟ قال: المسجد الحرام. قيل: ثم ماذا؟ قال: المسجد الأقصى. قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً) ، فدل على أنه بُني قديماً؛ لأن المسجد الحرام بناه إبراهيم، وقيل: إن إبراهيم جدَّده، فعلى هذا يكون المسجد الأقصى قديماً. فالحاصل أنه عليه الصلاة والسلام أسري به ليلاً من المسجد الحرام، أي: من مكة إلى المسجد الأقصى، وأنه جُمع له الأنبياء هناك، وأنه أَمَّهم كما في بعض الروايات. فأنكرت كفار قريش لما أخبرهم بأنه أسري به وكذبوه وقالوا: إن المسافر إلى بيت المقدس يذهب شهراًَ ويرجع شهراً، وأنت تذهب في ليلة وترجع في ليلتك؟! هذا كذب وهذا محال! حتى إن بعض من كان قد أسلم رجع عن الإسلام، ولكن لما قيل لـ أبي بكر: إن صاحبك زعم أنه الليلة وصل إلى الشام ورجع! فقال: صدق، إني أصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه أن خبر السماء ينزل عليه صباحاً ومساءً، فكيف لا أصدقه إذا أسري به إلى المسجد الأقصى ثم رُجِع به؟! وفي بعض الأحاديث أنه أتاه جبريل ومعه دابة يقال لها البراق، هذه الدابة هي كما خلق الله، وكان البراق يضع حافره عند منتهى طرْفه، فخطوته الواحدة مد البصر، يضع حافره عند منتهى طرْفه، أي أن سيره أسرع من لمحة البصر، فقطع هذه المسافة في هذه اللحظات، ووصل إلى هناك ثم رجع، وهذا هو الإسراء. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 6 الإسراء والمعراج بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم والصحيح أنه أسري ببدنه وبروحه، وأن الإسراء كان يقظةً لا مناماً، وذلك لأن قريشاً أنكرت هذا الإسراء واستبعدته، ولم تكن تنكر المنامات، فلو قال: إن ذلك منام، أو إن ذلك أحلام أو رؤيا لصدقوه؛ لأن الإنسان يرى في منامه أنه قطع مسافات وأنه وصل إلى كذا وكذا وهو نائم على فراشه لم يفارقه، فيعترفون بذلك، ولكن لما أخبرهم بهذا كذبوه، فدل على أن الإسراء كان بجسده، وأنه ركب البراق حقيقةً وذهب ورجع، وأخبرهم بآيات وبدلالات، واستوصفوا منه بيت المقدس، واستوصفوا المسجد الأقصى، فعند ذلك وصفه لهم وصفاً دقيقاً، وفي بعض الروايات أن الله تعالى جلَّاه له لما التبس عليه بعض الأشياء، فكشفه له وصوره أمامه فصار يصفه وهم يسألونه فيقول: هذا مكان كذا وهذا مكان كذا، مع أنه لم يأته إلا تلك اللحظة أو تلك اللحظات، فاعترفوا بأن الوصف مطابق لما هو عليه في الحقيقة. فالإسراء كان يقظةًَ لا مناماً، بجسده وبروحه. وهناك من يقول: إن الإسراء بالروح فقط، أي أن روحه خرجت وفارقت جسده، وأن الجسد بقي ليس فيه روح، وأن الروح صارت لخفتها فوصلت إلى ذلك المكان، ولكن هذا قول من الأقوال قد استدلوا عليه بقول الله تعالى في سورة الإسراء: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:60] ، ولكن الرؤيا ليست مطلق الحلم، بل الرؤيا كل شيء يُرى ويراه الإنسان يسمى رؤيا، فرؤية الأشخاص، قد تسمى في اللغة رؤيا. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 7 الأدلة على المعراج أما المعراج فالمعراج هو الصعود إلى السماء، وقد دل عليه من القرآن آيات كريمات في أول سورة النجم، في قوله سبحانه وتعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:5-11] إلخ الآيات. فإن هذا دليل على أنه رفع جسده حتى كان قاب قوسين أو أدنى، والقوس معروف، وهو الآلة التي يُرمى بها، يعني أنه دنا من ربه فتدلى، يعني: هبط. فهذه الآيات ونحوها دلالتها على أنه رُفع وأنه أسري به وأنه رأى الملَك في قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:13-15] . وقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:17-18] . وقوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12] . كل ذلك كان في المعراج حين عُرِج به، والآيات فيها إجمال ذلك، والأحاديث فيها التفصيل لذلك كله، كما هو معروف في كتب الحديث. فالأحاديث التي في الإسراء في الصحيحين وفي غيرهما، وقد أورد ابن كثير في أول تفسير سورة الإسراء جملة كثيرة من أحاديث الإسراء والمعراج، وأفردها كثير من العلماء بالتأليف وتوسعوا فيها. فنقول: من العلماء من يقول إن الإسراء كان بالروح كما روي ذلك عن عائشة وغيرها أن الجسد لم يُفقد. ومنهم -وهو الصحيح- من يقول: إنه كان يقظة لا مناماً، وإنه بالجسد والروح معاً، وإن جسده عُرج به بحيث اخترق السبع السماوات سماءً سماءً، ووجد الأنبياء في السماء وسلم على من وجد منهم، وفُرضت عليه الصلوات، وكلمه الله منه إليه وخاطبه، وخفف عنه عشراً عشراً إلى أن استقرت خمس صلوات، فقال الله تعالى: (لا يُبَدَّل القول لدي، أمضيتُ فريضتي وخففت عن عبادي) يعني: عندما خففت الصلوات إلى خمس فرائض. كل ذلك كان ليلة الإسراء، فالذين قالوا: إن الإسراء تكرر هؤلاء كأنهم يريدون الجمع بين الروايات، ولكن الصحيح أن الإسراء والمعراج لم يتكرر، وإنما هو مرة واحدة، وفي ليلة واحدة، عُرج به من بيت المقدس إلى السماء ثم نزل في ليلته، وما ذلك على الله بعزيز. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 8 حديث الإسراء والمعراج قال رحمه الله تعالى: [قال الشيخ شمس الدين ابن القيم: يا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً! وكيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تُفرض عليهم الصلوات خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً، فيقول: (أمضيتُ فريضتي وخففت عن عبادي) ، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها إلى خمس؟! وقد غَلَّط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثم قال: (فقدَّم وأخَّر وزاد ونقص) ولم يسرد الحديث، فأجاد رحمه الله. انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله. وكان من حديث الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم أسري بجسده في اليقظة -على الصحيح- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى راكباً على البراق صحبةَ جبريل عليه السلام، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك البتة. (ثم عُرج به من بيت المقدس تلك الليلة إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففُتِح له، فرأى هناك آدم أبا البشر فسلم عليه فرحب به ورد عليه السلام وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم فلقيهما فسلم عليهما، فردا عليه السلام ورحبا به وأقرا بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف فسلم عليه، فرد عليه السلام ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج إلى السماء السادسة، فلقي فيها موسى فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم رُفع إلى سدرة المنتهى، ثم رُفع له البيت المعمور، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة. فرجع حتى مر على موسى فقال: بم أمرت؟ قال: بخمسين صلاة، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار أن نعم إن شئتَ، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه -هذا لفظ البخاري في صحيحه، وفي بعض الطرق- فوضع عنه عشراً، ثم نزل حتى مر بموسى فأخبره فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضَى وأسلم، فلما نفذ نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) ] : هكذا سرد الشارح مجمل حديث الإسراء والمعراج، وهذا على وجه الاختصار، ومن أراد التوسع فليراجعه في صحيح مسلم (باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي صحيح البخاري في آخره في كتاب التوحيد، وفي كتب أهل السنة. وقد ذكرنا أن ابن كثير في أول تفسير سورة الإسراء أورد أكثر الروايات وساقها بنصها كما هي، وملخصها ما ذكر من أنه صلى الله عليه وسلم أتاه الملَك وهو في مكة في بيت أم هانئ، وأتى به إلى المسجد، وفي بعض الروايات أنه غسل قلبه، وملأه حكمةً وإيماناً، غسله من ماء زمزم وملأه، ثم ركب معه على البراق الذي هو دابة الله أعلم بكيفيتها، يضع حافره عند منتهى طرفه، لسرعة سيره، فوصل إلى بيت المقدس في لحظات، ثم صلى بالأنبياء هناك، وبعد ذلك عُرج به إلى السماء. والعروج لا شك أنه الرُّقِي والصعود، ولا يُعلم كيفية ذلك، ولا شك أنه عُرج بجسده وروحه، إما على نفس الدابة التي هي البراق، وإما أن جبريل حمله فخرق هذا الجو الواسع في لحظات حتى أتى إلى باب السماء الدنيا، فاستفتح الباب فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً بك وبمن جاء معك، ففتح له، فوجد في السماوات أولئك الأنبياء في سماء بعد سماء، فوجد آدم في السماء الدنيا، فسلم عليه، وفي بعض الروايات أنه رآه وعنده أسْوِدَة عن يمينه وأسْوِدَة عن يساره، فإذا نظر إلى مَن عن يساره بكى، وإذا نظر إلى من عن يمينه ضحك، فالذي عن يمينه نَسَم أهل الجنة، والذي عن يساره نَسَم أهل النار، أي: أرواح تعرض عليه من أهل الجنة ومن أهل النار، وهي نَسَم بنيه. فقيل: إن هذا روحه أي: روح آدم تمثلت هناك، وكذلك أرواح الأنبياء الآخرين مُثِّلت هناك، ويمكن أن تكون جُعلت في أجساد تناسبها وتلائمها، والله أعلم بكيفية تلك الأجساد. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 9 لزوم الإيمان بالإسراء والمعراج دون اعتراض والحاصل أنه عليه الصلاة والسلام -كما أخبر الله- عُرج به حتى كان قاب قوسين أو أدنى، وأوحى الله تعالى إليه، ورفعه إلى مستوىً سمع فيه صريف الأقلام، ومر على البيت المعمور الذي في السماء السابعة، وأخبر بأنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملَك من تلك السماء، ثم لا يعودون إليه، وكل يوم يدخل فيه غيرهم، وذلك هو البيت الذي ذكره الله في قوله: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:4] . ثم فرضت عليه هذه الصلوات أولاً خمسين صلاة، وخففها الله حتى صارت خمساً، فقال الله: (أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي) ، ورجع في ليلته إلى الأرض وأصبح في مكة، وذلك يسير في قدرة الله سبحانه وتعالى. فيؤمن أهل السنة بذلك، ولو استنكر ذلك من استنكره من المبتدعة ونحوهم، وذلك أن من لا علم عنده، أو من لا يؤمن إلا بالمحسوسات ونحوها قد يستبعد ويقول: إن الإنسان على هذه الأرض، وإنه لا يمكن أن يعيش إذا فارقها، وإنه إنما يعيش بهذا الأكسجين الذي يعيش به. نقول: كيف لا يجوز أن يكون أهل السماء يعيشون كما يعيش أهل الأرض، وأن يكون عندهم مثلما يكون عند أهل الأرض، والله تعالى على كل شيء قدير؟ وعلى كل حال فالذين يستبعدون ذلك ويقولون: إنه مستحيل أن يفارق الإنسان هذه الأرض أو يرتفع إلى غيرها أو ما أشبه ذلك؛ كل ذلك تخبطات وتخرصات. وكذلك الذين استنكروه للبعد وقالوا: كيف يقطع هذه المسافات ونحوها؟! وقد سبق أن أبا بكر رضي الله عنه صدقه وقال: كيف لا أصدقه وهو يأتيه خبر السماء؟ ينزل عليه الملك في لحظات ويصعد في لحظات كطرف العين، فلماذا لا نصدقه؟ وما دمنا عرفنا أنه قد صدق في دعواه أنه مرسل من ربه فكذلك دعواه أنه بُعث وأنه جاء بهذه الشريعة، وهكذا أيضاً ما جاء به من هذا الإسراء والمعراج. لا شك أيضاً أن هذا يعتبر شرفاً، ويعتبر ميزةً له، ويعتبر فضيلةً من فضائله عليه الصلاة والسلام أنه عُرج به في الحياة، وأنه صعد إلى السماء السابعة، وأنه كلمه ربه منه إليه، وأنه وصل إلى مكان سمع فيه صريف الأقلام، وأن الله خاطبه منه إليه كما يشاء. فهذا من فضائله، ويذكر مع فضائله أنه جاوز السبع الطباق، أي: السبع السماوات، ورفعه الله فوقها. فهذا أدخلوه في العقيدة، وذلك لأنه من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم وميزته وخصائصه، مما يقد يكذِّب به مَن قَصُر علمُه عن معرفة المغيَّبات واقتصر على ما يظن أنه ظاهر، أو اقتصر على ما تدركه حواسه دون أن يؤمن بقدرة الله على كل شيء، ومن آمن بأن الله تعالى على كل شيء قدير لم يستبعد مثل هذا الحادث العظيم. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 10 رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه في المعراج قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلى الله عليه وسلم ربَّه عز وجل بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه، ولم يرَه بعين رأسه، وقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] ، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبريل، رآه مرتين على صورته التي خُلِق عليها. وأما قوله تعالى في سورة النجم: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:8] فهو غير الدنو والتدلِّي المذكورَين في قصة الإسراء؛ فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما؛ فإنه قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:5-8] ، فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلِّم الشديدِ القُوَى. وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريحٌ في أنه دنوُّ الرب تعالى وتدليه، وأما الذي في سورة النجم أنه {رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13-14] فهذا هو جبريل، رآه مرتين: مرةً في الأرض ومرةً عند سدرة المنتهى] . الجزء: 22 ¦ الصفحة: 11 الدليل على أن الإسراء كان بجسده صلى الله عليه وسلم وقال المؤلف: [ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلَاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1] ، والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق وهو الصحيح، فيكون الإسراء بهذا المجموع، ولا يمتنع ذلك عقلاً، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة وهو كفر. فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس أولاً؟ فالجواب -والله أعلم- أنه كان ذلك إظهاراً لصدق دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس، فنعته لهم وأخبرهم عن عِيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كان عروجه إلى السماء من مكة لما حصل ذلك؛ إذ لا يمكن إطْلاعهم على ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس فأخبرهم بنعته. وفي حديث المعراج دليل على ثبوت صفة العلو لله تعالى من وجوه لمن تدبره. وبالله التوفيق] . الجزء: 22 ¦ الصفحة: 12 تفسير آيات سورة النجم في المعراج هذه الآيات من سورة النجم، وهي قول الله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] المعلَّم هو النبي صلى الله عليه وسلم، والمعلِّم شديد القوى هو الملك، أي: جبريل عليه السلام. وقوله: (ذُو مِرَّةٍ) أي: ذو قوة. (فَاسْتَوَى) : الاستواء هنا: الارتفاع. (وَهُوَ بِالأُفُقِ) : أي ارتفع بالأفق الأعلى، والأفق: واحد الآفاق، وهي الجهات المتقابلة، فعلَّمه واستوى وارتفع {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} [النجم:7] . (ثُمَّ دَنَا) أي: قرُب منه، وذلك أيضاً بعدما عُرج به إلى السماء. {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:8] : التدلي والدنو هنا للملَك الذي هو جبريل، أي: قرب منه وتدلى. يعني: انحدر إليه ونزل إليه. {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8-9] القوس: هو الآلة التي يُرمى بها، كانوا يرمون به بالسهام قبل وجود الأسلحة. فيقول: إنه دنا منه وقرُب منه وهو يراه، حتى كان منه قدر قوسين أو أقرب من القوسين، هذا معنى {دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8-9] . وأما قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] فلا شك أن الوحي من الله تعالى، فهو الذي أوحى إلى عبده، وسواءٌ أكان العبد هو الملَك أم البشر فالوحي من الله إلى الملَك الذي هو جبريل، ومن الملك إلى البشر الذي هو محمد عليهما الصلاة والسلام، أوحى إليه الشيء الذي أوحى، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] . أما قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] فالرؤية هنا قلبية، أي: ما كذَّب الفؤاد بالرؤية التي رآها، وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كُشف له وأعطي مكاشفات وأنواراً وفتوحات فُتحت على قلبه فاستنار قلبه، فأصبح كأنه يرى ربه رأي عين وإن كان مع ذلك إنما رآه رؤية بالقلب. وهذا معنى قول السلف: إنه صلى الله عليه وسلم رآى ربه بقلبه. أي: بتلك الكشوفات والفتوحات والواردات التي ترد على قلبه مما يطمئن به ويقوى بذلك يقينه، فهذا دليل على أنه لم يَرَ ربه رؤيةً بصرية؛ لقوله في الحديث السابق لما قيل له: هل رأيت ربك؟ فقال: (نورٌ أنى أراه؟!) أي: دونه أنوار فكيف أراه؟! وفي رواية: (رأيت نوراً) ، فإذاً الرؤية هنا رؤية قلبية. {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} [النجم:11] ، وفي قراءة: {مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] أي: لم يكذِّب بما رآه من الكشوفات والإلهامات والواردات التي وردت عليه، {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] . وأما قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] فالرؤية هنا أيضاً للملك، أي: ولقد رأى جبريل عليه السلام نزله أخرى أي: مرةً أخرى. فهذه مرة رأى فيها جبريل عليه السلام وهو في السماء على الهيئة والصورة التي خلق عليها وقد سد الأفق، وله ستمائة جناح، والمرة الأولى ذُكرت في سورة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23] ، فرآه بالأفق الأعلى، ورآه بالأفق المبين، قد سد ما بين الأفقين، له ستمائة جناح ينزل منها من الدر والياقوت ما الله به عليم، كما ورد ذلك في حديث. فإذاًَ ثبت أن عائشة لما سئلت عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23] ، وقوله: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:6-13] ، فذكرت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر بأنه رأى جبريل عليه السلام مرتين في صورته التي خلق عليها، {نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13-14] ، رآه هذه المرة بالأفق الأعلى عند سدرة المنتهى، وهي سدرة عظيمة في الجنة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن (أوراقها مثل آذان الفيلة، وأن نبقها -يعني: حملها- مثل قلال هجر) ، والقِلال: جمع قلة، وهي أواني الفخار الكبيرة التي تُعمل للمياه ونحوها. هذه هي سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 13 لزوم الإيمان بمثل هذه الغيوب ففي هذه الآيات من هذه السورة الدليل على أنه صلى الله عليه وسلم عُرج به فرأى جبريل وهو بالأفق الأعلى، ودنا منه، وأن الله تعالى (أوحى إلى عبده) يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم (ما أوحى) من فرض الصلوات الخمس. فهذا مثال للإيمان بالغيب أو الأشياء التي لا تدركها الحواس أو يستغربها الإنسان إذا سمعها فيقول: بشر خُلق من الأرض، فكيف مع ذلك رُفع إلى السماء، وادعى أنه خرق السماوات سماءً فوق سماء، ثم نزل وهو على هيئته أو بحياته التي هو عليها، والإنسان خُلق من الأرض ولا يستطيع أن يفارقها؟ نقول: إن ذلك خلق الله وتقديره، وهو الذي يدبر الأشياء كما يشاء، فهو الذي خلق الإنسان وأعطاه الحياة على هذه الأرض، وأنزل عليها آدم وذريته وقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] ، وقال: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف:25] . فمعلوم أن الإنسان خلق من هذه الأرض، ولكن لا مانع من أن يُرفع إلى السماء إذا شاء الله تعالى ثم يهبط منها، ويكون مأواه ومماته على الأرض، ومنها يُبعث كما حصل له عليه الصلاة والسلام وللرسل من قبله. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 14 شرح العقيدة الطحاوية [23] الحوض أمر غيبي ذكر الله أنه في الآخرة يرده المؤمنون، ويذاد عنه الكافرون والمنافقون، وقد وردت صفاته وفضيلته في السنة مفصلة متواترة، فالإيمان به من عقائد أهل السنة، ومن أنكره فهو خليق بأن يذاد عنه. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 1 الحوض وما ورد فيه ووجوب الإيمان به قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته حق) . الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر، رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابياًَ، ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عماد الدين بن كثير تغمده الله برحمته في آخر تاريخه الكبير المسمى بـ (البداية والنهاية) ، فمنها ما رواه البخاري رحمه الله تعالى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن قدر حوضي كما بين أيلة إلى صنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء) . وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليَردن علي ناس من أصحابي الحوضَ حتى إذا عرفتهم اختُلجوا دوني فأقول: أصيحابي! فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك) رواه مسلم. وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: (أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاة فرفع رأسه متبسماً -إما قال لهم، وإما قالوا له-: لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه نزلت علي آنفاً سورة. فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] حتى ختمها، ثم قال: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يُختلج العبد منهم فأقول: يا رب إنه من أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) ، ورواه مسلم ولفظه: (هو نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، هو حوض ترِد عليه أمتي يوم القيامة) ، والباقي مثله. ومعنى ذلك أنه يشخب فيه ميزابان من ذلك الكوثر إلى الحوض، والحوض في العرصات قبل الصراط؛ لأنه يُختلج عنه ويُمنع منه أقوام قد ارتدوا على أعقابهم، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط. وروى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا فَرَطكم على الحوض) ، والفَرَط: الذي يسبق إلى الماء. وروى البخاري عن سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني فرطكم على الحوض، من مَرَّ علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليرِدن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم) ، قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا فقال: هكذا سمعتَ من سهل؟ فقلت: نعم، فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعتُه وهو يزيد فيها: (فأقول: إنهم من أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي) سحقاً أي: بُعداً] . هذا من الإيمان بالغيب أيضاً، وهو الإيمان بيوم القيامة وما يكون فيه، وقد أخبر الله تعالى بالبعث بعد الموت وبحشر الأجساد، وبإعادة الأرواح إلى أجسامها، وبجمع الناس كلهم ليوم لا ريب فيه. يقول تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] يعني: يقوم أولهم وآخرهم. ويقول تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49-50] . فالإيمان بالبعث بعد الموت ركن من أركان الإيمان بالله تعالى، ويؤمن العبد بما يكون في ذلك اليوم مما أخبر الله به، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وتفاصيل ذلك مذكورة في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومجملها وارد في كلام الله سبحانه وتعالى. فمن ذلك ذكر الحوض الذي ذكر، وقد ورد فيه أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر حيث زادت على رواية أربعين صحابياً، رووا ذكر الحوض عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواها أئمة السنة وعلماء الأمة في مؤلفاتهم بألفاظ متعددة، وطرق كثيرة وروايات مجموعُها يُقطع بأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فيُقبل خبره ولا يُلتفت إلى من أنكره. وقد ورد أيضاً دليل ذلك في القرآن في سورة الكوثر، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكوثر في هذا الحديث بأنه نهر في الجنة أعطاه الله نبيه صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وكذلك أخبر بأنه أعطي هذا الحوض في الأرض في يوم القيامة، وهو جزء أو فرع أو امتداد للكوثر الذي أعطيه في الجنة. والحوض عند العرب هو الإناء الذي يتخذ من الجلود تسقى به الإبل والغنم ونحوها، وعادةً يحملونه على ظهور الإبل، فإذا وردوا أو أقبلوا على المياه أرسلوا وارداً يصلح لهم الورد، ويسمى ذلك الوارد الذي يتقدمهم (الفَرَط) ، فيقولون: أنت فَرَطنا يا فلان. أي: أنت الذي تتقدم أمامنا إلى ذلك المورد وتصلح لنا الورد، فإذا وردوا بدوابهم إذا هو قد ملأ الحوض ماءً وقد ركب البكرة التي يُستقى عليها وقد انتزع من الماء بقدره، فيبدءون في سقي دوابهم إلى أن تنهل وتروى، فتشرب من ذلك الحوض. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 2 سعة الحوض وبعض أوصافه والحوض الذي أعطاه الله نبينا صلى الله عليه وسلم في الآخرة هو نهر ليس مصنوعاً من جلود ولا من أوانٍ، والله أعلم بما صُنع منه، ولكنه ممتد، وقد روي أنه (مسيرة شهر في شهر) يعني: طوله مسيرة شهر وعرضه مسيرة شهر بالسير المعروف في ذلك الزمان، وقُدِّر في بعض الروايات بأنه من صنعاء إلى أيلة، وصنعاء عاصمة اليمن، وأيلة مدينة في الشام، يعني: طوله من ذلك المكان إلى ذلك المكان، وفي بعض الروايات أنه (من صنعاء إلى عدن) ، وكلتاهما معروفتان في اليمن، ولعل ذلك باختلاف جهاته. وعلى كل حال فإنه على هذا حوضٌ واسع ممتلئ ماءً، وورد في هذه الروايات أنه يشخب فيه ميزابان من الجنة أو من الكوثر، أي: يصب فيه ميزابان من الجنة، وأن فيه آنية -الآنية الكئوس التي يُشرب بها- وآنيته عدد نجوم السماء في الكثرة، ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. يرد عليه المؤمنون، ويُذاد عنه المنافقون، وأخبر بأنه يرِد عليه أناس فيعرفهم، فإذا أقبلوا إليه وعرفهم اختلجوا دونه، وحيل بينه وبينهم، فيقول: أصحابي -يعني: ممن أسلموا معي وعرفتهم- فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. يعني أنهم إما من المرتدين، وإما من المنافقين، وإما من المتسمين بالإسلام وليسوا بمسلمين، أما المؤمن حقاً الذي ثبت على الإيمان سواءٌ من الصحابة أو ممن بعد الصحابة فإنه يرد على ذلك الحوض ويشرب منه شربة هنيئة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، وذلك لما جعل الله في ذلك الماء من الشفاء، ولما جعل فيه من اللذة، إذ كان ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل الذي هو غاية في الحلاوة وفي اللذة، وأن الشربة منه لا يعدلها شيء، فيؤمن العبد المؤمن بذلك. وورد في بعض الروايات أن لكل نبي حوضاً، ولكن نبينا صلى الله عليه وسلم أكثرهم وارداً، أي: أوسعهم حوضاً وأكثرهم وروداً. يعني: أمته المتبعون له أكثر من غيرهم من الأمم، وذلك لأن الذين صدقوه واتبعوه وحققوا اتباعه لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 3 مكان الحوض ووقت وروده والصحيح أن الحوض في عرصات القيامة قبل أن يعبروا الصراط، لكن ورد في بعض الروايات أنهم (إذا نزلوا من الصراط نزلوا ظمأى، فيرِدون عليه كورود الناس التي على حوضها) ، ولعله يمتد أيضاً إلى طرف الصراط، فلا مانع من أن يكون معظمه في عرصات القيامة وقبل أن يركبوا الصراط، ثم بعدما ينزلون من الصراط يجدون له طرفاً، ثم بعد ذلك يشربون منه ويدخلون الجنة كما أخبر الله تعالى. فيؤمن العباد بذلك وإن لم تدركه عقولهم، ويؤمنون بما أخبر به نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا من كرامة هذا النبي عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أنه يقف على الحوض وينظر من يرد عليه، وكذلك يكون معه ملائكة يأذنون في ورود بعض أمته، ويردُّون الذين ليسوا من الأمة حقاً. فالذي يُردُّ يبقى على ظمئه وعلى جهده وعلى ما يلاقيه من الشقاوة. والذين يردون يطمئنون بالشرب ويسعدون بذلك ويَعرفون أنهم من أهل السعادة ومن أهل الخير. ولا شك أيضاً أن أهله الذين يردون عليه هم أهل السنة والجماعة، أهل الاتباع لا أهل الابتداع، ولأجل ذلك يُرد المبتدعة والمرتدون الذين أحدثوا، (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) ، فالذي يرجو أن يكون من أصحاب الحوض المورود ويرجو أن ينهل منه عليه باتباع السنة، وعليه بالتصديق بما جاء عن نبي الأمة، وعليه بالعمل الصالح، وتحقيق التصديق الذي التزمه، فبذلك يكون من أهل السعادة إن شاء الله. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 4 أوصاف الحوض ومن يستحق وروده قال رحمه الله تعالى: [والذي يتلخص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض أنه حوض عظيم ومورد كريم، يُمد من شراب الجنة من نهر الكوثر الذي هو أشد بياضاً من اللبن وأبرد من الثلج وأحلى من العسل وأطيب ريحاً من المسك، وهو في غاية الاتساع عرضه وطوله سواء، كل زاوية من زواياه مسيرة شهر، وفي بعض الأحاديث أنه كلما شُرِب منه وهو في زيادة واتساع، وأنه ينبت في حالٍ من المسك، والرضراض من اللؤلؤ وقضبان الذهب، ويثمر ألوان الجواهر، فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء! وقد ورد في أحاديث أن لكل نبي حوضاً، وأن حوض نبينا صلى الله عليه وسلم أعظمها وأجلها وأكثرها وارداً، جعلنا الله منهم بفضله وكرمه. قال العلامة أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى في التذكرة: واختُلف في الميزان والحوض: أيهما يكون قبل الآخر؟ فقيل: الميزان، وقيل: الحوض. قال أبو الحسن القابسي: والصحيح أن الحوض قبل. قال القرطبي: والمعنى يقتضيه؛ فإن الناس يخرجون عطاشاً من قبورهم كما تقدم فيقدم قبل الميزان والصراط. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب كشف علم الآخرة: حكى بعض السلف من أهل التصنيف أن الحوض يورد بعد الصراط، وهو غلط من قائله. قال القرطبي: هو كما قال. ثم قال القرطبي: ولا يخطر ببالك أنه في هذه الأرض، بل في الأرض المبدلة، أرض بيضاء كالفضة، لم يُسفك فيها دم، ولم يُظلم على ظهرها أحد قط، تظهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء. انتهى. فقاتل الله المنكرين لوجود الحوض، وأخْلَق بهم أن يحال بينهم وبين وروده يوم العطش الأكبر!] . في هذا ملخص صفة الحوض المورود، فله أربع زوايا، أي: أنه مربع، وكل زاوية منه مسيرة شهر، ماؤه أشد بياضاً من اللبن- واللبن في غاية البياض- وأحلى من العسل الذي هو أشد الأشياء حلاوةً، وأطيب ريحاً من المسك، أي: أنه مع ذلك له رائحة عبقة طيبة. وذكر أيضاً أنه ينبت في جوانبه وفي رضراضه من النبات الذي يكون مبهجاً للنفوس من اللؤلؤ والمرجان وأنواع الجواهر ما الله تعالى به عليم، والله على كل شيء قدير، وأنه يرِده المؤمنون ويذاد عنه الكافرون والمكذبون والمنافقون، وأنه يكون قبل الميزان وقبل الصراط، وذلك لأن الناس عندما يُبعثون من قبورهم حفاةً عراة غرلاً بُهماً يكونون في تلك الحال شديدٌ عطشهم، فهم بلا شك بحاجة إلى ما يدفعون به ذلك العطش، فيرِدون لينهلوا من ذلك الحوض، حتى إذا رووا واطمأنوا عند ذلك يُفصل بينهم، فتنصب الموازين، وينصب الصراط، وتوزن الأعمال، وتتطاير الصحف، ويُعرف بذلك أهل السعادة من أهل الشقاوة حتى يفصل الله بينهم. والذين أنكروا هذه الأمور الواردة خليق بهم وحري أن يحال بينهم وبين وروده كما أنهم كذبوه، وكما أن الذين كذبوا برؤية الله تعالى حري أن يكونوا عن ربهم محجوبين. فالذين أنكروا الأمور التي أخبر الله بها أو أخبر بها رسوله، لا شك أنهم مكذبون، لم يصدقوا التصديق اللازم عليهم، ولم يأتوا بما يجب عليهم، إنما صدقوا بما يناسب أهواءهم، والواجب على المسلم أن يصدق بكل ما جاءه من الله تعالى، سواءٌ أدركه عقله أم لا، فيكون بذلك حقاً من الذين يؤمنون بالغيب، ومن الذين يصدقون الله تعالى ويصدقون رسله، ومن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 5 شرح العقيدة الطحاوية [24] من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل لهم أملاً في الشفاعة، وأعظم الخلق شفاعة هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد خصه الله بشفاعات كثيرة لأمته، وقد ثبتت الشفاعة في القرآن والسنة، فالإيمان بها واجب، والتسليم بها فرض على كل مؤمن. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 1 الشفاعة يوم القيامة الجزء: 24 ¦ الصفحة: 2 ذكر الشفاعة العظمى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والشفاعة التي ادخرها لهم حق كما روي في الأخبار) . الشفاعة أنواع، منها ما هو متفق عليه بين الأمة، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع. النوع الأول: الشفاعة الأولى، وهي العظمى الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. وفي الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أحاديث الشفاعة. منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فدُفع إليه منها الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟! ألا ترون ما قد بلغكم؟! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟! فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم فيأتون آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوتُ بها على قومي، نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -وذَكَرَ كذباته- نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى فيقولون: يا موسى! أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه -قال: هكذا هو- وكلمتَ الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -ولم يذكر ذنباً- اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فيأتوني فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فأقوم فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تُشَفَّع، فأقول: يا رب أمتي أمتي! يا رب! أمتي أمتي! يا رب أمتي أمتي! فيقال: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى) . أخرجاه في الصحيحين بمعناه، واللفظ للإمام أحمد] . هذا أيضاً من كرامات النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان بالشفاعة التي هي شفاعته لأهل الموقف في إراحتهم من الموقف، فيؤمن بذلك أهل السنة. وقد أنكرت ذلك الخوارج، وكذلك أنكرته المعتزلة، وقد غلا بعض المشركين وأثبت الشفاعة بدون إذن الله سبحانه وتعالى، وقول أهل السنة هو الوسط، وهو أنه يشفع وكذلك غيره، ولكن لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه، فالشفاعة عند الله تعالى في الآخرة بإذنه. وقد ورد في هذا الحديث أنه يقول: (اشفع تشفع) ، فلا يبدأ بالشفاعة أولاًَ حتى يأذن الله تعالى له بأن يشفع، وكذلك غيره من الأنبياء لا يشفعون، وكذلك الملائكة لا يشفعون إلا بعد إذن الله سبحانه وتعالى. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 3 إيراد الشارح للرواية التي فيها الشفاعة العظمى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى في أن يأتي الرب تعالى لفصل القضاء، كما ورد هذا في حديث الصور؛ فإنه المقصود في هذا المقام ومقتضى سياق أول الحديث، فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم، فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس، ويستريحوا من مقامهم، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه، فإذا وصلوا إلى المحز إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار. وكأن مقصود السلف -في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالِفة للأحاديث، وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور، ولولا خوف الإطالة لسقته بطوله؛ لكن من مضمونه: (أنهم يأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم يأتون رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له: الفحص، فيقول الله: ما شأنك -وهو أعلم-؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأقول: يا رب! وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك، فاقض بينهم، فيقول سبحانه وتعالى: شفَّعتك، أنا آتيكم فأقضي بينكم، قال: فأرجع فأقف مع الناس -ثم ذكر انشقاق السماوات وتنزُّل الملائكة بالغمام- ثم يجيء الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحونه بأنواع التسبيح. قال: فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يقول: إني أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع أقوالكم وأرى أعمالكم، فأنصتوا لي، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تُقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه إلى أن قال: فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة قالوا: من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة؟ فيقولون: مَن أحق بذلك من أبيكم؟ إنه خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قُبُلاً، فيأتون آدم فيُطلب ذلك إليه، وذكر نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمداً صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فآتي الجنة فآخذ بحلقة الباب، ثم أستفتح فيُفتح لي فأُحَيَّا ويُرَحَّب بي، فإذا دخلتُ الجنة فنظرت إلى ربي عز وجل خررتُ له ساجداً، فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثم يقول الله لي: ارفع يا محمد، واشفع تشفع، وسل تعطه، فإذا رفعتُ رأسي قال الله وهو أعلم: ما شأنك؟ فأقول: يا رب! وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله عز وجل: قد شفَّعتك وأذنت لهم في دخول الجنة) الحديث رواه الأئمة ابن جرير في تفسيره، والطبراني، وأبو يعلى الموصلي، والبيهقي وغيرهم] . الجزء: 24 ¦ الصفحة: 4 شرح حديث الشفاعة العظمى ذكر العلماء أن أكبر أنواع الشفاعات التي اختُص بها النبي صلى الله عليه وسلم هي الشفاعة في يوم القيامة لأجل إراحة الناس من طول الموقف، ولأجل فصل القضاء بينهم، وذلك لأن الموقف يوم القيامة قد ذُكر من طوله ومن هوله وما يكون فيه من الغم والكرب ومن العذاب والألم ما الله تعالى به عليم. فأما طوله فقد ذكر الله أنه {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] ، وفي آية أخرى أنه {مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ، ولعل ذلك لاختلاف تقديره عند الناس، أو في ظن الكثير من الناس، ولكنه لا يحس بطوله أهل التوحيد والعقيدة وأهل الأعمال الصالحة، وذلك لأنهم ينعمون في ذلك الموقف. كذلك من الهول الذي ينالهم في الموقف شدة الحر، كما روي أنها تدنو الشمس من رءوس الخلائق حتى يكون بينها وبينهم قدر ميل، ويُزاد في حرها، وأنهم يلجمهم العرق من شدة الحر، ومنهم من يبلغ العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يبلغ إلى ثدييه، ومنم من يلجمه العرق إلجاماً. كذلك أيضاً شدة الهول الذي يشاهدونه، فمن طول هذا الموقف وما هم فيه من الكرب يقول بعضهم لبعض: ألا تطلبون من يشفع لكم حتى يريحكم الله من هذا الموقف، وحتى تتخلصوا منه إما إلى جنة وإما إلى نار؟ فعند ذلك يطلبون من يشفع لهم، فذُكر في الحديث أنهم يأتون أولاًَ إلى أبيهم آدم وهو أبو البشر، فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته -أي: خصك بهذه الخصائص- ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! ألا ترى إلى ما قد أصابنا؟! اشفع لنا إلى ربك ليريحنا من طول الموقف. فيعتذر آدم فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلَّا ذنب أو خطيئة أبيكم؟! يعترف بأنه أخطأ وأنه هو الذي بسببه خرجتم من الجنة وقد كنتم من أهلها، فإنه لما أُسكن فيها وأخطأ تلك الخطيئة التي هي أكله من تلك الشجرة، أُخرج منها إلى دار الشقاء وهي الدنيا. وفي هذا تحذير من الأعمال السيئة التي تحرم من دخول الجنة، قال بعض السلف: أُخرج آدم من الجنة بذنب واحد، وأنتم تعملون الذنوب وتكثرون منها، وترجون أن تدخلوا معه الجنة! ويقول بعضهم: يا ناظراً يرنو بعينَي راقد ومشاهداً للأمر غير مشاهد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي دَرَج الجنان بها وفوز العابد أنسيت أن الله أخرج آدَماً منها إلى الدنيا بذنب واحد والحاصل أن أباهم آدم يعترف بخطيئته ويعتذر عن الشفاعة، ويقول: كيف أشفع وأنا مذنب؟ ثم يحيلهم إلى نبي الله نوح عليه السلام، فيأتون إليه ويقولون: يا نوح! أنت أول الرسل بُعث إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربك. ونوح عليه السلام له ميزة وفضيلة، ولكن لم يقبل أن يشفع لهم تواضعاً، وتعلل واعتذر بأنه قد دعا على قومه بقوله: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً} [نوح:26] ، فاعتذر بذلك، وإن كان ما دعا إلَّا على الكفار الذين يستحقون الغرق، فاستجاب الله دعوته فأغرق أهل الأرض إلَّا أهل السفينة. وبعد نوح يأتون إلى إبراهيم فيعتذر، ويأتون بعد إبراهيم إلى موسى، فيعتذر أيضاً، ثم إلى عيسى فيعتذر. ثم يأتون إلى النبي محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم، فعند ذلك يقول: (أنا لها) ، فإذا التزم أن يشفع سجد لربه، ثم إذا أذن له ربه تكلم بما يفتح الله عليه من المحامد ومن الثناء ما لا يحسنه الآن، يعني أن الله يلهمه من تمجيد ربه وتحميده والثناء عليه ما الله به عليم، فبعد ذلك يرغب إلى ربه أن يفصل بين العباد، وأن يريحهم من ذلك الموقف. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 5 ذكر ما يقع بعد فصل القضاء بعد ذلك يستجيب الله دعوته فيفصل بينهم، ويقول -كما في هذا الحديث-: (إني أنصتُ لكم منذ خلقتُ السماوات والأرض إلى هذا اليوم، فأنصتوا لي لأحكم بينكم) ، فعند ذلك تنصب الموازين، وتنشر الدواوين، ويأتي دور الحساب، ويحاسب الله كل أحد، وتتفرق الكتب وتتطاير الصحف بالأيمان وبالشمائل، فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذٌ كتابه بشماله، فيُسعد الله أقواماً ويُشقي أخرين، يسعد أهل الدين وأهل التقوى وأهل الصلاح، ويشقى أهل الفساد وأهل الكفر والعناد. بعد ذلك يكون ما أخبر الله به من كونه يميز هؤلاء من هؤلاء، فتُفَرَّق عليهم أنوار، فيمشون في أنوارهم فينطفئ نور المنافق ونور الكافر، ثم يتأخر فيُضرب بينهم بسور له باب، وذلك تمهيد وفصل بين أهل التقوى وأهل الشقاوة -والعياذ بالله- حتى يميز الله بينهم. ثم بعدما يتميزون ويركبون الصراط ويسلكونه وهو جسر على متن جهنم يمرون عليه بقدر أعمالهم، كما ذُكر في بعض الأحاديث أنه أحر من الجمر وأحد من السيف وأدق من الشعرة، وأنهم يسيرون عليه بأعمالهم، فمنهم من يمر عليه كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل والركاب، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، وعلى جنبتي الصراط كلاليب مثل شوك السعدان تخطف من أُمرت بخطفه، فناجٍ مُسَلَّم، ومخدوش، ومكردس في النار تختطفه تلك الكلاليب التي ذكر أنها مثل شوك السعدان إلا أنه لا يُعلم قدرها إلَّا الله تعالى. فإذ نجوا من الصراط وسلكوه وكانوا قد وُعدوا بأنهم يرِدون النار في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] قالوا: أين النار التي وعدنا الله بأنا سوف نردها؟ فيقال: إنكم مررتم عليها وهي خامدة. يعني: عندما مروا على الصراط وكان منصوباً على متن جهنم، وذلك لأنه إذا مر المؤمن لم يحس بلهبها، بل تقول: جُز يا مؤمن، فقد أطفأ نورُك لهبي. عند ذلك يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، ويُقتص من بعضهم لبعض مظالم كانت بينهم، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِن لهم بدخول الجنة، ولا يدخلونها أيضاً إلا بعد أن يستأذن لهم أو يشفع لهم نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذه من خصائصه ومن مميزاته. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 6 ذكر الشارع أنواعاً أخرى من الشفاعة قال رحمه الله: [النوع الثاني والثالث من الشفاعة شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة، وفي أقوام آخرين قد أُمِر بهم إلى النار ألَّا يدخلوها. النوع الرابع: شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم. وقد وافقت المعتزلة على هذه الشفاعة خاصة، وخالفوا فيما عداها من المقامات مع تواتر الأحاديث فيها. النوع الخامس: الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ويحسُن أن يُستشهد لهذا النوع بحديث عكاشة بن محصن حين دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، والحديث مُخَرَّج في الصحيحين. النوع السادس: الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه. ثم قال القرطبي في (التذكرة) بعد ذكر هذا النوع: فإن قيل: فقد قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] قيل له: لا تنفعه في الخروج من النار كما تنفع عصاة الموحدين الذين يُخرَجون منها ويُدخَلون الجنة. النوع السابع: شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة كما تقدم، وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أول شفيع في الجنة) ] . الجزء: 24 ¦ الصفحة: 7 تفصيل ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من الشفاعات الجزء: 24 ¦ الصفحة: 8 الشفاعة العظمى هذه من أنواع الشفاعات التي خُص بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تبع النوع الأول، أعني شفاعته لأهل الموقف أن يريحهم الله من طول الموقف، وأن ينزل الله ليفصل القضاء بينهم حتى يدخل هؤلاء دارهم وهؤلاء دارهم، فأشهرها هو النوع الأول. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 9 الشفاعة في قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم النوع الثاني: شفاعته في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم في أن يدخلهم الله الجنة. أي: قوم لهم طاعات ولهم معاصٍِ متساوية كأنه لم تترجح كفة هذه ولا كفة هذه، ولكن كتب الله على نفسه أن (رحمتي تغلب غضبي) ، فيتلافاهم برحمته، ويقبل فيهم شفاعة نبيه، فيدخلهم الجنة، مع أن لهم سيئات تساوي أو تقدر بقدر حسناتهم. وقد ورد في بعض الأحاديث أنه إذا حاسب الله العبد فإنه يُقتص من سيئاته لحسناته، فإذا بقي له حسنة واحدة؛ ضاعفها وأدخله بها الجنة، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40] يعني: يجعلها أضعافاً مضاعفةً حتى يستحق بها الثواب. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 10 الشفاعة فيمن استحق العذاب أما النوع الثالث من أنواع الشفاعة فهو شفاعته صلى الله عليه وسلم في قوم استحقوا النار أو أُمِر بهم إلى النار فيدخلون الجنة بعدما أُمِر بهم، وكأنهم من أهل التوحيد، ولكن معهم سيئات ومعهم ذنوب من الكبائر التي تُوُعِّد عليها بالعذاب أو التي تُوُعِّد عليها بنفي الإيمان، أو بعدم دخول الجنة، ولكن فضل الله تعالى ورحمته تعم عباده الذين يشملهم اسم الإيمان واسم التوحيد واسم الاستجابة، فيشفع لهم لكونهم من أمته، فيدخلون الجنة، فهذا نوع ثالث من أنواع الشفاعة. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 11 الشفاعة في دخول أهل الجنة الجنة أما النوع الرابع فهو الشفاعة لأهل الجنة في أن يدخلوها، عندما يقفون عند أبواب الجنة لا يدخلونها حتى يستفتح لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته، فيقول خازن الجنة: (بك أُمرت ألَّا أفتح لأحد قبلك) ، فهو يستأذن ويشفع إلى ربه في أن يفتح أبواب الجنة فيدخلها أهلها مع سعة أبواب الجنة، فقد ذُكر أن للجنة ثمانية أبواب، ولكن ما سعة الباب؟ ورد في الحديث: (ما بين مصراعي الباب مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام) من كثرة من يدخل من تلك الأبواب الثمانية، فالباب الواحد سعته مسيرة أربعين سنة، ليس أربعين يوماً ولا أربعين شهراً، بل أربعين سنة، ما مقدار ذلك؟ الله أعلم بمنتهاه، ومع ذلك يأتي عليه يوم -والله أعلم بمقدار ذلك اليوم- وهو كظيظ من الزحام من كثرة من يدخل منه، من هذه الأمة ومن غيرها. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 12 الشفاعة في دخول قوم الجنة بغير حساب أما النوع الخامس من الشفاعة فهو شفاعته صلى الله عليه وسلم لقوم أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ومنهم عكاشة بن محصن، لَمَّا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أهل الجنة من يدخلونها بغير حساب ولا عذاب، وهم سبعون ألفاً، لما قال الله له: (هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، قام عكاشة بن محصن فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم) يعني: كأنه شفع له أن يكون من الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ومنهم أيضاً غيره. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 13 الشفاعة في الجنة وهي التي أقر بها المعتزلة أما النوع السادس من أنواع الشفاعة فهو الشفاعة لقوم من أهل الجنة أن يُزاد في ثوابهم وقد دخلوا الجنة، ولكن مراتبهم نازلة، فيشفع لهم أن تُرفع مراتبهم وأن يُعطَوا أجراً وأن يُزاد لهم في الثواب وفي مضاعفة الجزاء. وهذا النوع من الشفاعة اعترفت به المعتزلة الذين أنكروا بقية الشفاعة، وذلك لأنهم إنما أنكروا شفاعة من يُخرج من النار أو من يستحق النار، أما أهل الجنة فأقروا بأنه يكون فيها شفاعة في رفع المنازل ونحوها. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 14 الشفاعة في تخفيف العذاب عن بعض من استحقه أما النوع السابع من الشفاعة، وهو آخر الشفاعات الخاصة به صلى الله عليه وسلم؛ فهو الشفاعة في قوم استحقوا النار ودخلوها بأن يُخفف عنهم من عذابها. ومن ذلك شفاعته لعمه أبي طالب أن يخفف الله عنه من العذاب، ذكر في الحديث أنه يستحق أن يكون في الدرك الأسفل من النار؛ لأنه عرف التوحيد ولكنه لم يقبله، وعرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يتبعه، ولكن بسبب نصرته للنبي صلى الله عليه وسلم وحياطته له، وبسبب أنه مكَّنه من أن يدعو إلى الله وقال له: اجهر بما تريد فأنا أنصرك، فنصره وآواه حتى بلغ الرسالة، ولم يتجرأ المشركون على النيل من النبي صلى الله عليه وسلم في حياة أبي طالب، فبسبب نصرته خُفِّف عنه العذاب، فأصبح في ضحضاح من نار. ولكن ليس ذلك بهيِّن، بل قد ذكر أن ذلك الضحاح يغلي منه دماغه، ويرى أنه لا أحد أشد منه عذاباً وهو أخفهم، وقد ورد: (أخف أهل النار من يكون له شراك من نار يغلي منه دماغه) ، والشراك: السير الذي تربط به النعل، فهو سير من النار في رجله، ومن شدة حرارته يحمى جسده كله، حتى إن دماغه يكون له غليان من شدة حره، وما يرى أن أحداً أشد عذاباً منه وإنه لأخفهم. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 15 سرد ما اختص به محمد صلى الله عليه وسلم من الشفاعات فنأخذ من هذه الأنواع ميزةً وفضيلةً لنبينا صلى الله عليه وسلم؛ حيث خُصَّ بأنه الذي يشفع هذه الأنواع من الشفاعات: الأولى: الشفاعة العظمى التي هي لإراحة الناس من الموقف. والشفاعة الثانية: التي هي في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلوا الجنة. والشفاعة الثالثة: التي هي في قوم استحقوا النار أو أُمِر بهم إلى النار ألَّا يدخلوها. والشفاعة الرابعة: التي هي في أهل الجنة أن يُفتح لهم وأن يدخلوها. والشفاعة الخامسة: التي هي في بعض أهل الجنة أن تُرفع مراتبهم، وأن يُزاد في ثوابهم. والشفاعة السادسة: التي هي في قوم أن يدخلوا الجنة بغير حساب. والسابعة: في بعض أهل النار أن يُخفف عنهم من عذابها. هذه أنواع من الشفاعة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم. وبقيت شفاعةٌ أو نوعٌ من الشفاعة ليس خاصاً به بل يشفع به الملائكة وغيرهم، وهو أعم أنواع الشفاعة. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 16 شرح العقيدة الطحاوية [25] انحرف كثير من الناس في باب الدعاء، فصاروا يدخلون فيه ما ليس بمشروع، ومن ذلك التوسل بالمخلوقين والاستشفاع بالصالحين والقسم على الله بهم، وقد بين العلماء السنة في الدعاء وحرموا التوسل الممنوع، وردوا على شبهات المخالفين. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 1 الكلام على الاستشفاع والتوسل الجزء: 25 ¦ الصفحة: 2 النهي عن الاستشفاع بالمخلوق في الدنيا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره في الدنيا إلى الله تعالى في الدعاء ففيه تفصيل؛ فإن الداعي تارةً يقول: بحق نبيك، أو بحق فلان، يقسم على الله بأحد من مخلوقاته، فهذا محذور من وجهين: أحدهما: أنه أقسم بغير الله. والثاني: اعتقاده أن لأحد على الله حقاً، ولا يجوز الحلف بغير الله، وليس لأحد على الله حق إلَّا ما أحقه على نفسه، كقوله تعالى: {وَكَانَ حَقَّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] ، وكذلك ما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ رضي الله عنه وهو رديفه: (يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه ألَّا يعذبهم) . فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق، لا أن العبد نفسه يستحق على الله شيئاً كما يكون للمخلوق على المخلوق؛ فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، وحقهم الواجب بوعده هو ألَّا يعذبهم، وترك تعذيبهم معنى لا يصلح أن يُقسم به ولا أن يُسأل بسببه ويُتَوسل به؛ لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً. وكذلك الحديث الذي في المسند من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الماشي إلى الصلاة: (أسألك بحق ممشاي هذا وبحق السائلين عليك) ، فهذا حق السائلين هو أوجبه على نفسه، فهو الذي أحق للسائلين أن يجيبهم وللعابدين أن يثيبهم، ولقد أحسن القائل: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عُذبوا فبعدله أو نعِّموا فبفضله وهو الكريم الواسع فإن قيل: فأي فرق بين قول الداعي: بحق السائلين عليك وبين قوله: بحق نبيك أو نحو ذلك؟ فالجواب أن معنى قوله: (بحق السائلين عليك) أنك وعدت السائلين بالإجابة وأنا من جملة السائلين، فأجب دعائي، بخلاف قوله: (بحق فلان) ؛ فإن فلاناً وإن كان له حق على الله بوعده الصادق فلا مناسبة بين ذلك وبين إجابة دعاء هذا السائل، فكأنه يقول: لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعائي وأي مناسبة في هذا؟! وأي ملازمة؟! وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء! وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعَاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] . وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أحد من الأئمة رضي الله عنهم، وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل التي يكتبها الجهال والطرقية، والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والاتباع، لا على الهوى والابتداع] . الجزء: 25 ¦ الصفحة: 3 لا يحق لأحد أن يحلف على الله ولا بغير الله هاهنا رد على الذين يسألون الله تعالى بحق المخلوقين، ويقولون: إن المخلوق إذا كان مقرباً عند الله فله منزلة، وله حق على الله، وله رفعة، فهو إذا سألناه بحق نبيه أو بحق الولي فلان يجيب دعاءنا، فيقول أحدهم: أسألك بحق نبيك أسألك بحق الولي فلان أسألك بحق عبدك فلان عليك. وهذا اعتداء في الدعاء، فالله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعَاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] ، والمعتدون في الدعاء هم الذين يدعون بإثم أو يدعون بذنب أو يدعون بشيء لم يُشرع لهم، ولا شك أن هذا لم يُنقل، فما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته أنهم سألوا بحق مخلوق، أو توسلوا بحق مخلوق، لا بحق فلان ولا بجاه فلان ولا بغير ذلك، فالمحذور فيه أنه حلف بحق مخلوق، والحلف بغير الله شرك، ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) ، فإذا قال: بحق فلان أو بالنبي أو بالولي أو بجاه فلان، أو بشرفي أو بحياتي أو بحياتك يا فلان، أو ما أشبه ذلك على وجه التأكيد؛ اعتُبر قد حلف بمخلوق، فيكون هذا تعظيماً لذلك المحلوف به، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، وقال: (لا تحلفوا بآبائكم ولا بالأصنام، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون) . فأمرنا أن نتجنب الحلف بالآباء كما كان المشركون يحلفون بآبائهم أو بأمهاتهم أو بأصنامهم في قولهم: واللات والعُزَّى، ونحو ذلك. وثبت أنه قال: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) ، كأنه أشرك فأُمر بأن يجدد التوحيد؛ ليبطل الاعتقاد بأن اللات والعزى معظمتان أو أنهما تستحقان التعظيم. فكذلك إذا حلف بالولي فلان، أو بـ علي، أو بـ حسن، أو بـ حسين، أو بـ عيدروس، أو بـ ابن علوان، أو بكذا وكذا؛ فإن هؤلاء مخلوقون لا يجوز الحلف بهم. كذلك أيضاً سؤال الله تعالى بحق المخلوقين أو بجاه المخلوقين، هذا أيضاً شرك، وذلك لأنه ليس لأحد حق على الله تعالى إلا ما أحقه على نفسه. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 4 حديث السؤال بجاه النبي مكذوب ويتكرر في كتب هؤلاء القبوريين وعلى ألْسُن دعاتهم حديث مكذوب، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم) . وهذا مكذوب لا أصل له، ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وحاشاه أن يأمرهم بأن يسألوا الله بجاهه وهو الذي يحب التواضع والذي يعرف أن ربه هو الذي يستحق التعظيم، ولما قال له رجل: ما شاء الله وشئتَ. قال: (أجعلتني لله نداً؟! قل ما شاء الله وحده) ، فكيف يقول: اسألوا الله بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم؟! فإذاً: الذين يقولون: أسألك بجاه نبيك، أو بحق نبيك، أو بحق الولي فلان، أو بجاه الولي فلان؛ هؤلاء قد أشركوا، لماذا؟ لأنهم عظَّموا هذا المخلوق وحلفوا به، وجعلوا له حقاً على الله، ومعلوم أن الله تعالى هو الذي يتفضل على العباد، وليس أحد يملك من الله شيئاً، وليس على الله حق لأي مخلوق، بل هو الذي له الحق عليهم. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 5 حق العباد على الله تفضل منه وتكرم لا واجب أما حديث معاذ الذي ذكر فالحق فيه حق تفضل وحق تكرم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) ، فحقٌّ علينا وعلى العباد كلهم لله تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. وحق العباد على الله ألَّا يعذب من لا يشرك به شيئاً، فهذا ليس حق وجوب، بل هو حق تفضل وحق تكرم، وذلك لأنه الذي وفقهم وأنعم عليهم، ثم هو وعدهم -وهو لا يخلف الميعاد- أن من وحده فإنه يثيبه وينعِّمه، وأنه لا يعذبه إذا مات على التوحيد الصحيح الصادق، فهذا حق تكرم. وإذا كان كذلك فليس خاصاً بنبي ولا بولي ولا بغيره، ويقال: إذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم حق على الله فأنت كذلك لك حق، فائت بسببه، أنت لك حق تكرم على الله فائت بسببه، وهو أن توحد الله ولا تشرك به شيئاً، ولا تلتفت بقلبك إلى أي مخلوق، ولا تتعلق بسيد ولا ولي ولا شفيع ولا غيرهم، وتعلق بربك حتى يرحمك وحتى ينعِّمك ولا يعذِّبك، فبذلك تكون من الذين استحقوا على الله حق تكرم. والبيت الذي ذكر يؤيد أن هذا حق تكرم، وهو قولهم: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عُذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع فيقول هذا الشاعر: إن العباد ليس لهم عليه حق -يعني: حق وجوب- وإن سعيهم وأعمالهم الصالحة لا تضيع، بل هي محفوظة يحصيها ثم يوفيهم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، فهذا حق تكرم. ولا يعذبهم ظلماً، إنما يعذبهم عدلاً لكونهم يستحقون العذاب. يعني: هو الذي تفضل عليهم وهداهم، فهدايته لهم نعمة، ولو أن الله تعالى عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهم يستحقون العذاب، ولا يكون ظالماً لهم، ولو أنه أنعم عليهم لكانت نعمته عليهم أفضل من أعمالهم. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 6 الرد على المستدلين بحديث: (أسألك بحق السائلين) فإذاً: يبقى علينا هذا الحديث الذي يكثر أن يستدل به القبوريون، وهو الحديث الذي رُوي عن أبي سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن أحدكم إذا خرج من بيته يقول: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا؛ فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي جميعاً؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) يقوله في طريقه إلى المسجد. والجواب أن هذا الحديث فيه ضعف، حيث إن في طريقه أو في إسناده عطية بن سعد العوفي، وهو ضعيف، ثم على تقدير صحته لا دلالة فيه، فليس معنى (حق السائلين) جاههم، فجاه الناس كلهم سواء، ولو كان كذلك لقال: أسألك بحق النبيين، أو: بحق الأولياء، أو: بحق، فلان أو فلان من الأولياء، كـ عبد القادر أو البدوي أو نحوهما، ولكن قال: بحق السائلين، وما هو حق السائلين؟ هو ما وعد الله من سأله بالثواب، فحق السائلين على الله أن يجيبهم، وحق العاملين أن يثيبهم، فهذا هو حقهم الذي يسألون الله به، فكأنك تقول: يا رب أسألك بما جعلته حقاً على نفسك لمن سألك أن تجيب فأنا من جملة السائلين فأجب سؤالي وأثبني على أعمالي، فلما كان هذا حق السائلين كلهم كنت أنت من السائلين. يقول: يا رب أنا من جملة السائلين، وقد جعلت للسائلين عليك حقاً بقولك: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، وبقولك: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ، فإذاً: أنا من السائلين، فأسألك بما جعلته حقاً على نفسك وبما وعدت السائلين أن تجيبهم. فهل في ذلك توسُّلٌ بالجاه؟! وهل في هذا توسل بحق مخلوق؟ ليس فيه توسلٌ في حق مخلوق. إذاً: فكيف يتعلق بهذا القبوريون الذين يدعون فلاناً وفلاناً ويقولون: إن هؤلاء من جملة الذين أمرنا بأن نتوسل بحقهم، وأن نسأل الله بحقهم. فلا يُغتر بمن يستدل بهذا الحديث على أنه دليل في جواز السؤال بحق الأموات أو بحق الأولياء أو غير ذلك، فليس فيه أي دليل، وقد أورد العلماء هذا الحديث في الرد على من استدل به من القبوريين، وفي الرد على المشركين الذين جعلوه طعناً على الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي يمنع من السؤال بحق المخلوق، وبجاه مخلوق أياً كان. فكل من دعا معه أحدا أشرك بالله ولو محمدا فيقولون: هذا دليل على أنه يجوز السؤال بحق المخلوق. فأين السؤال فيه بحق المخلوق؟ إنما فيه السؤال بما جعل الله، كأنه يقول: أنت وعدت السائلين أن تجيبهم فأنا من جملة السائلين فأجب سؤالي فلا دلالة فيه على شيء مما يتعلقون به. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 7 لا يجوز الإقسام بالمخلوق ولا التوسل به قال رحمه الله تعالى: [وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان فذلك محذور أيضاً؛ لأن الإقسام بالمخلوق على المخلوق لا يجوز، فكيف على الخالق؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) . ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم: يُكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام ونحو ذلك. حتى كره أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ولم يكرهه أبو يوسف رحمه الله لَمَّا بلغه الأثر فيه. وتارة يقول: بجاه فلان عندك، أو يقول: أتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك، ومراده: لأن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا، وهذا أيضاً محذور؛ فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم وهم يؤمِّنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره، فلما مات صلى الله عليه وسلم قال عمر رضي الله عنه لما خرجوا يستسقون: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) ، معناه: بدعائه هو ربه وشفاعته وسؤاله، ليس المراد أنا نقسم عليك به، أو نسألك بجاهه عندك؛ إذ لو كان ذلك مراداً لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس. وتارةً يقول: باتباعي لرسولك ومحبتي له وإيماني به وبسائر أنبيائك ورسلك وتصديقي لهم ونحو ذلك. فهذا من أحسن ما يكون من الدعاء والتوسل والاستشفاع. فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به فيه إجمال غلط بسببه من لم يفهم معناه، فإن أريد به التسبب به لكونه داعياً وشافعاً وهذا في حياته يكون، أو لكون الداعي محباً له مطيعاً لأمره مقتدياً به وذلك أهل للمحبة والطاعة والاقتداء، فيكون التوسل إما بدعاء الوسيلة وشفاعته، وإما بمحبة السائل واتباعه، أو يراد به الإقسام به والتوسل بذاته، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه] . قد ذكر العلماء الدليل على أنه لا يجوز الإقسام بمخلوق على الله تعالى، كما في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب: (باب ما جاء في الإقسام على الله) . الإقسام على الله معناه: إلزام الله تعالى بشيء، كأن يقول: أقسمت عليك يا رب أن تفعل كذا. ولا شك أن هذا جرأة كبيرة على الله، فكيف تلزم ربك بشيء، وكيف تقسم عليه بأن يفعل شيئاً وهو الذي يتصرف في العباد؟! وما ورد في ذلك إنما هو على وجه المثل، فالحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) ، هذا بيان أن هناك من هو متواضع لله تعالى لو قدر أنه طلب ربه وألح في طلبه لأجاب دعوته، ولكن ليس فيه أنكم تقسمون على الله، فتقول: أقسمت عليك أن تنزل المطر، أقسمت عليك أن تشفي المريض، أقسمت عليك أن تنبت النبات، هذا لا يجوز لما فيه من التصرف في الله ومن إلزام الرب سبحانه بما لا يملكه العبد، فالعبد لا يملك إلا الدعاء، فيسأل ربه ما يحبه، فيقول: يا رب! نحن الفقراء وأنت الغني فأنزل علينا غيثك، يا رب! نحن المذنبون وأنت العفو فاعفُ عنا، وما أشبه ذلك. فهذا المراد بالنهي عن الإقسام على الله. ومن أراد التوسع في الأدلة فليقرأ في الباب الذي في آخر كتاب التوحيد، وكذلك في شرحه: (فتح المجيد) و (تيسير العزيز الحميد) باب ما جاء في الإقسام على الله تعالى. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 8 أشياء يجوز التوسل بها أما سؤال الله تعالى بحق مخلوق فإن هذا أيضاً قد ذكرنا أنه لا يجوز، وأن المخلوق ليس له أن يتحكم على الله، ولكن قد يكون السائل أراد بذلك محبة ذلك العبد، فيكون سأل الله تعالى وتوسل إليه بعمل صالح، والتوسل إلى الله بالأعمال الصالحة من الأسباب لإجابة الدعاء ولقبوله. وقد ذكروا لذلك أمثلة، فمثلاً: إذا قلت: يا رب! أسألك بأني عبدك الذليل، أسألك بأني مصدق بوعدك ووعيدك، أسألك بما عملته لك من الصالحات، فهذه توسلات مباحة يُرجى بذلك قبول الدعاء بها، وكذلك إذا توسلت بمحبة أولياء الله، فإن ذلك فيه أيضاً وسيلة لإجابة الدعاء، كأن تقول: أسألك بأني أحبك وأحب نبيك وأحب عبادك الصالحين، أسألك بمحبتي لك ومحبتي لهم أن تجيب دعوتي، أو تقيل عثرتي، أو ما أشبه ذلك، أو تقول: أسألك بإيماني بك وتصديقي لنبيك واتباعي لشريعته، وإيماني بما جاء به وتصديقي بكتابك وعملي به، ونحو ذلك، تتوسل إلى الله تعالى بأعمال صالحة قد عملتها وأنت صادق فيها، فإن هذا فيه وسيلة إلى الله بأعمال خيرية، والله تعالى يجيب من هو أهل للإجابة إذا كان صادقاً فيما قاله بقلبه أو فيما قاله بلسانه. فالسؤال بحق فلان المخلوق لا يجوز كما تقدم. وأما السؤال بحبه، أو باتباعه، أو بالسير على نهجه، أو بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعمل من الأعمال الصالحة، فذلك أيضاً من الوسائل التي تكون مؤثرة في إجابة دعاء الداعي، فإذا توسل بها العبد رُجي إجابة دعوته، ولكن عليه مع ذلك أن يجتهد في الأدعية النبوية، وفي الأعمال الصالحة. والأدعية النبوية فيها كثير من ذكر الأعمال الصالحة، فمثلاً: إذا قلت: (اللهم أنت ربي لا إله إلَّا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) ، فتوسلت بأنك ملتزم بعهد الله وبوعده ما استطعت؛ فذلك من الأسباب، كذلك إذا قلت: أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يقربنا إلى حبك، كأنك تقول: أسألك أن ترزقني عملاً صالحاً أكون به محبوباً لك ومحباً لك. وما أشبه ذلك. فهذه أدعية نبوية وأدعية فيها توسل بأعمال صالحة ودعاء بالأعمال الصالحة أو بالتوفيق لها. ولم يرد عن السلف رحمهم الله أنهم قالوا: أسألك بحق فلان. أو: بحق عبد القادر. أو: بحق السيد البدوي. أو: بحق ابن عباس. أو ما أشبه ذلك. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 9 الكلام على توسل عمر بالعباس ويبقى ما ذكر من توسل عمر رضي الله عنه بـ العباس، وكثيراً ما يستدل به القبوريون فيقولون: كيف تعيبون علينا أن نتوسل بالصالحين وهذا عمر توسل بـ العباس؟! نقول: تأملوا قصة عمر حتى تعرفوا ما فعله وما تفعلونه، والفرق الكبير بين فعلكم وفعله! فقد كان العباس بن عبد المطلب كبيرَ السن تقياً زاهداً، قريبَ الصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم. فلأجل هذه الأسباب قدموه ليدعو، فقال عمر: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا) . يعني: نتوسل بدعائه، وهو حي بين أيديهم، فقدموه ليؤمنوا على دعائه ليسأل الله تعالى، فكأنهم يقولون: اللهم تقبل دعاءه فإنه من عبادك الصالحين. ويجوز في كل وقت إذا خرجنا نطلب المطر أن نختار أتقانا ونقدمه يدعو ونؤمِّن على دعائه، فإنه أولى وأقرب إلى إجابة دعائنا، ونقول: يا ربنا! هذا عبدك الصالح قدمناه، ونحن نؤمِّن على دعائه، نسألك أن تجيب دعوته لنا، نسألك أن ترحمنا بدعائه وبدعائنا. فهذا ليس فيه محذور، وأي توسل بغير الله فيه؟! وهؤلاء القبوريون يتوسلون بالأموات، ولو كان جائزاً لما عدل عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أبي بكر، وكيف يعدل عنهما وهما أفضل من العباس؟ فلما عدل عنهما إلى العباس دل على أنه استقر في علمه أنه لا يجوز التوسل بالأموات، ولا بالغائبين حتى ولو كانوا أنبياء، وحتى ولو كانوا أولياء، وحتى ولو كانوا شهداء أو صالحين. ومعلوم أن حمزة بن عبد المطلب أفضل من العباس وأقدم منه إسلاماً، وقتل شهيداً في سبيل الله وهو مقبور عندهم بالمدينة، فلماذا لم يذهبوا إلى قبره؟! ولماذا لم يتوسلوا به ويقولون: نتوسل إليك بـ حمزة بن عبد المطلب؟! ولماذا لم يأتوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: يا محمد استسقِ لنا؟! فإذاً لا دلالة في أنه يجوز الاستسقاء بالولي الميت أو الولي الغائب، بخلاف الحي السوي الفاضل الذي يدعو ويؤمِّنون على دعائه ويسألون ربهم أن يجيب دعاءهم معه، فهذا لا محذور فيه، وهذا هو الذي فعله العباس. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 10 الرد على شبهة القبوريين في حديث التوسل بالعباس وقد رأينا وقرأنا لكثير من القبوريين الذين يؤيدون دعاء المخلوق أو التوسل بالمخلوق الميت، كـ النبهاني -مثلاً- في كتابه الذي يسمى (شواهد الحق) ، وكذلك ابن علوي المالكي الموجود الآن، وغيره من الذين يغالون في دعاء الأموات أو يزينونه. يقولون: إن عمر عدل عن النبي صلى الله عليه وسلم مخافة أنهم إذا لم يُجابوا بدعائه وبتوسله يسوء ظنهم فيه، ويكذبونه ويدَّعون أنه لا يُستجاب دعاؤه، ويدَّعون أنه لا ينفع التوسل به، وما أشبه ذلك من التلفيقات. هكذا يعلل النبهاني ونحوه. نقول: إذا كان كذلك في عهد عمر فلماذا لا يكون هذا في عهدكم؟! لماذا تعدلون عن الأحياء إلى الأموات؟! ألا تخافون أنكم إذا عدلتم عنه، وإذا طلبتم النبي ولم يجبكم ولم يُستَجب دعاؤكم أن الناس -وكذلك العامة- يسيئون الظن بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إنه لا يُستجاب دعاؤه؟! إذا كان هذا محذوراً في عهد عمر فهو محذور في عهدكم. وعلى كل حال فلا يُغتر بما يلفقونه مما يستدلون به على أنه يجوز دعاء الأموات أو التوسل بهم أو الاستشفاع بهم، ويستدلون بمثل هذه، ولا دلالة فيها. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 11 التوسل بالأعمال الصالحة توسل مشروع قال رحمه الله تعالى: [وكذلك السؤال بالشيء قد يراد به التسبب به لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام به. ومن الأول: حديث الثلاثة الذين آوَوا إلى الغار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم فتوسلوا إلى الله بذكر أعمالهم الصالحة الخالصة، وكل واحد منهم يقول: فإن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون. فهؤلاء دعوا الله بصالح الأعمال؛ لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله ويتوجه به إليه ويسأله به؛ لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله. فالحاصل أن الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر؛ فإن الشفيع عند البشر كما أنه شافع للطالب شفعه في الطلب، بمعنى أنه صار به شفعاً فيه بعد أن كان وتراً، فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه وبشفاعته صار فاعلاً للمطلوب، فقد شفع الطالب والمطلوب منه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحد، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه، فلا شريك له بوجه، فسيد الشفعاء يوم القيامة إذا سجد وحمد الله تعالى فقال له الله: (ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسَل تعطَ، واشفع تشفَّع) فيُحَد له حداً، فيدخلهم الجنة، فالأمر كله لله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154] ، وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] ، وقال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] . فإذا كان لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن يشاء ولكن يكرم الشفيع بقبول شفاعته كما قال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء) . وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف! لا أملك لكم من الله من شيء، يا صفية عمة رسول الله! لا أملك لكِ من الله من شيء، يا عباس عم رسول الله! لا أملك لك من الله من شيء) . وفي الصحيح أيضاً: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو شاة لها يعار أو رقاع تخفق فيقول: أغثني أغثني! فأقول: قد أبلغتك، لا أملك لك من الله من شيء) . فإذا كان سيد الخلق وأفضل الشفعاء يقول لأخص الناس به: (لا أملك لكم من الله من شيء) فما الظن بغيره؟! وإذا دعاه الداعي وشفع عنده الشفيع فسمع الدعاء وقبل الشفاعة، لم يكن هذا هو المؤثر فيه كما يؤثر المخلوق في المخلوق؛ فإنه سبحانه وتعالى هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع، وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه، وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن الله خالق كل شيء] . الكلام الأول يتعلق بقول الإنسان: أسألك بكذا، فإذا كان الذي سألت به عملاً صالحاً فهو وسيلة والله تعالى قد أمر بها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] أي: اجعلوا بينكم وبينه وسيلة، والوسيلة ما يوصل إليه، وقد فُسِّرت بأنها الأعمال الصالحة يتوصل بها العبد إلى ثواب ربه وإلى جزيل وعظيم أجره. فإذا قلت مثلاً: أسألك يا رب بحق أعمالي أو بحق إيماني أو بحق تصديقي، فستجعل ذلك وسيلة تقربك إلى رضا الله، فهذا جائز. وإذا قلت مثلاً: أسألك بإيماني بنبيك، أو: بمحبتي لك، أو: بمحبتي لعبادك الصالحين، فأنت تتوسل بأعمالك الصالحة، فهذا توسل بأعمال صالحة عملتها تكون سبباً في فوزك وسعادتك. أما إذا توسلت بمخلوق بأن قلت: أسألك بحق عبدك، أو: بحق رسولك، أو: بحق آبائي أو أجدادي أو أسلافي، فهذا توسل بمخلوق. فالتوسل الذي أمر الله به في قوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] هو السؤال بالأعمال الصالحة. ومن هذا قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، فانحدرت صخرة فسدت باب الغار عليهم، فعرفوا أنه لا ينجيهم إلا التوسل بأعمالهم الصالحة ودعاء الله فتوسلوا. توسل أحدهم بكونه براً بوالديه، وقال بعد ذلك: (اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك -يعني: مخلصاً لك- فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج) . وتوسل الثاني بعفافه، بكونه تمكن من فعل الحرام ولكنه تركه خوفاً من الله، وذهب ما دفعه من المال، وقال بعد ذلك: (إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك أو ابتغاء مرضاتك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلاً) . وتوسل الثالث بأمانته، وبكونه مؤتَمناً على مال غيره بحيث لم يأخذ من أجرة ذلك الأجير شيئاً رغم أنه تصرف فيها، فدفعها إلى أهلها أو إلى صاحبها، وذلك دليل الأمانة، وقال: (إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون) . ففي هذا أجاب الله دعاءهم لما توسلوا، فهل قالوا: نسألك بحق أوليائك؟! وهل قالوا: نسألك بحق عبدك فلان؟! وبينهم عباد صالحون ورسل وأنبياء كموسى وعيسى وأيوب وهارون، فما سألوا الله إلَّا بحق أعمالهم. فيجوز أن تسأل الله بإيمانك وبتصديقك وما أشبه ذلك، هذا هو التوسل المطلوب أو التوسل المشروع، وأما التوسل بحق مخلوق أو بجاه مخلوق -ولو كان نبياً أو ولياً- فهو ممنوع، وهو من وسائل الشرك. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 12 الشفاعة كلها لله فلا تطلب من غيره والحاصل أن الشفاعة ملك لله كما عرفنا، وإذا كانت ملكاً لله فلا تُطلب من مخلوق، فلا تُطلب من النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، فنبينا صلى الله عليه وسلم هو سيد الشفعاء، ومع ذلك لا يشفع أولاً حتى يستأذن على ربه فيسجد ويطيل سجود، فيقال له: (ارفع رأسك، وقل تُسمع، وسل تعطَه، واشفع تشفع) . فيبدأ بحمد الله كما تقدم في حديث أنس، فيحمده بمحامد يفتحها الله تعالى عليه، فذلك لا شك أنه لأجل أن يمجد ربه، فيبدأ بتمجيد الله تعالى حتى يأذن له. ومرت بنا الأدلة التي تدل على أن الملك ملك الله، وأنه عليه الصلاة والسلام -مع ما خصه الله به- ليس له ملك وليس له تصرف، ومن ذلك الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] نزلت لما أنه صلى الله عليه وسلم شُج وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه فقال: (كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟!) فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] يعني: أن الأمر ليس لك، وإذا لم يكن له من الأمر شيء في الدنيا، فكذلك الأمر في الآخرة. وكذلك قوله تعالى في الآية الثانية رداً على المنافقين الذين يقولون: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154] قال الله: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154] ، فالأمر كله لله، ليس لمحمد ولا لـ حسن ولا لـ عيدروس ولا لغيرهم من المخلوقين، الأمر كله لله، وإذا كان لله فليُطلب ممن هو له. كذلك أيضاً الاستدلال بهذه الأحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يغني عن أقاربه شيئاً، يقول في هذا الحديث لـ عباس ولـ فاطمة ولـ صفية ولبني هاشم ولبني عبد مناف: أنقذوا أنفسكم من النار، لا أغني عنكم من الله شيئاً، لا أملك لكم من الله من شيء، يقول لابنته: (يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك من النار، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً) . إذا كان لا يغني عنهم من الله شيئاً، وإذا كان لا يملك لعمه ولا لعمته ولا لأعمامه ولا لأعمام أبيه أو أبناء أعمامه ولا لابنته من الله شيئاً، وأن الملك كله لله، فكيف يُطلب وكيف يُدعى؟! وإذا بطل هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بالـ عباس؟! وكيف بـ علي؟! وكيف بـ ابن عباس؟! وكيف بفلان وفلان ممن هم دونهم ودونهم بمراتب؟! فإذاً: الملك لله، وطلب الشفاعة من الله، وطلب الوسيلة وطلب الملك كله من الله، فإذا طلب العبد ربه عند ذلك أجاب الله تعالى دعوته. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 13 شرح العقيدة الطحاوية [26] لقد أخذ الله الميثاق على بني آدم وهم في ظهر أبيهم آدم، وركز فيهم الفطرة التي تبعث على الإقرار بالخالق، ثم أقام عليهم الحجة بالرسل، وقد تكلم العلماء كثيراً على النصوص الواردة في ذلك وفي تأويلها. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 1 الكلام على الميثاق المأخوذ على بني آدم المذكور في سورة الأعراف قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق) . قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] . يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلَّا هو، وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وإلى أصحاب الشمال، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم: فمنها ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان -يعني: عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قُبُلاًَ قال: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)) [الأعراف:172] إلى قوله: {الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173] ) . ورواه النسائي أيضاً وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه. وروى الإمام أحمد أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله! ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عزَّ وجلَّ إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار) . ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير وابن حبان في صحيحه. وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عينَي كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب! مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب! مَن هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داوُد. قال: رب! كم عمره؟ قال: ستون سنة. قال: أي رب! زده من عمري أربعين سنة. فلما انقضى عمر آدم جاء ملك الموت قال: أوَلم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أوَلم تعطها ابنك داوُد؟! قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته) ، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه. وروى الإمام أحمد أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال: فيقول: نعم. قال: فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي) وأخرجاه في الصحيحين أيضاً. وفي ذلك أحاديث أُخَر أيضاً كلها دالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه وميَّز بين أهل النار وأهل الجنة] . يؤمن أهل السنة بالميثاق الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية، وهي قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172-173] . فهذه الآية فيها أن الله أخذ من ظهور بني آدم ذريتهم. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 2 ذكر قول من قال بأن الذرية مأخوذة من ظهور بني آدم وقد اختُلف في المراد بالذرية المأخوذين هل هم مأخوذون من ظهر كل إنسان، أو كلهم من آدم؟ وظاهر الآية أنهم من ظهور بني آدم، فقد قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف:172] أي: من كل إنسان أخرج ذريته. ثم كلمهم وخاطبهم وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] ، ويكون هذا هو الفطرة التي فطر الله عليها الخلق، كما في قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] . وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، كما تنتج البَهِيْمَة بُهَيْمَةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟) ، فأخبر بأن الآدمي يولد على الفطرة، وإنما تتغير فطرته بسبب ما يتلقاه من أبويه أو من أقاربه أو من بيئته ومن ينشأ بينهم، وإلا فلو ترك كل أحد على فطرته لعرف ما خلق له، ولعرف أنَّ له رباً، ولعرف أنه مكلف ولبحث بعد ذلك عن التكاليف التي أُمر بها. ويؤيد هذا أن الفطرة هي الخلقة والابتداء، كما في قوله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلَاً} [فاطر:1] : و (فاطرها) : منشئها ومبدئها وموجدها، فالله تعالى هو الذي فطر الخلق، أي: ابتدأ خلقهم وأوجدهم على غير مثال سبق. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 3 فطرة الله تعالى في خلقه وما يصرفها فلما فطر الله الناس على الإسلام كانوا بذلك مستعدين لمعرفته ولمعرفة ما خلق له، ولكن صرفتهم الصوارف وصدتهم الصدود، واجتذبتهم الأهواء والأديان الباطلة التي تلقوها، هذا قول في هذه الآية. وصحيح أن الله تعالى جعل للإنسان عقلاً وفكراً، وبدون هذا العقل والفكر يسقط عنه التكليف، فإذا سقط عقله وإذا سلب تفكيره وإدراكه سقطت عنه التكاليف، وما دام أن معه فطرته ومعه عقليته فإنه مكلف، حتى ولو لم تأتِه الشريعة، حتى ولو لم يسمع بها، ولكن إذا نشأ عاقلاً عرف أنه ليس بمُهمل، وأن هذا الكون كله لا بد له من موجِد، وأن الذي أوجده لا بد له من حقوق على عباده، فيبحث بعد ذلك. ولما كانت الفطرة والعقليات لا يُمكن أن تفصل الحقوق التي لله سبحانه بعث الله الرسل وأنزل الكتب ليبينوا تلك الحقوق، فكأنه يقول: أنتم بفطركم وعقولكم تعرفون أنكم مخلوقون وأن لكم خالقاً وأن لخالقكم عليكم حقوقاً، ولكن هذه الحقوق نحن نبينها لكم ونفصلها لكم، فنقول: من حقوق الله كذا، ومن حقوقه كذا، ومما أمركم به كذا، ومما نهاكم عنه كذا، فامتثِلوا، وإذا امتثلتم فإن لكم الثواب على كذا، وإذا لم تمتثلوا بل خالفتم فإن عليكم العقاب. وهذه وظيفة الرسل، جاءوا مبينين لما في فطرة الإنسان من العلوم مفصلين لها. فهذا قولٌ من الأقوال في هذه الآية. وقد دلت الأدلة على أن الله سبحانه جعل للإنسان معرفة بها يدرك ما أمامه وما خلفه، ولكن تلك الأدلة تتغير بتغير ما يفسدها وما يمازجها، إما من العلوم وإما من الأعمال وإما من الأشخاص. فكثير من العلوم تصرف الفطرة، حتى يرى الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، وكثير من المجتمعات والمخالَطات تصرف الفطرة، فزملاؤه وأخلاؤه وإخوته ومعاشروه يفسدون عليه عقله ويفسدون عليه فطرته، وينكسون معرفته ويبقى لا يعرف إلا ما يألفه، فلا يعرف أن الخير خير ولا أن الشر شر، فيستحسن القبيح ويستقبح الحسن. وكثير من الشبهات التي يروجها أهلها تفسد الفطرة أيضاً، فينقلب فيها الحق باطلاً والباطل حقاً، ولو سلم الناس من هذه الأشياء لبقوا على فطرتهم. وعلى هذا فيقال: إن دين الإسلام هو دين الفطرة، هو الدين الذي تشهد العقول السليمة بحسنه وملاءمته، ولقد روي أن أعرابياً أسلم لأول ما دُعي وقال: إني رأيت هذا الدين ما أمر بشيء فقال العقل ليته نهى عنه! ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أمر به. وقد ذهب بعض المبتدعة إلى أن العقل له دخل في التحسين والتقبيح، وجعلوه مقدماً على الشرع، وهذا قول خطأ، ولو قيل بالتحسين والتقبيح العقليين، ولكن لا دخل للعقل فيما يخالف الشرع، إذا جاء الشرع وجاءت النصوص قدمت على ما تستحسنه العقول مهما كانت تلك العقول، فليس للعقل مدخل ما دام أن الشرع وُجِد ناصاً على حكم من الأحكام، فيقدم حكم الشرع على جميع العقول. ومع ذلك فإن العقول الصريحة لا يمكن أن تخالف النقول والأدلة الواضحة الصحيحة، وقد ألف في ذلك ابن تيمية كتاباً مشهوراً سماه: (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) فـ (صحيح المنقول) يعني الأحاديث والأدلة الصحيحة، و (صريح المعقول) هو العقول السليمة؛ يعني أن العقول السليمة لا تخالف النقول الصحيحة. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 4 ذكر قول من قال بأن الذرية مأخوذة من ظهر آدم أما القول الثاني -وهو ما ذكر في هذه الأحاديث- فهو قول من الأقوال في معنى الآية، وإن كانت الآية بينها وبينه نوع مخالفة، فهو ينص في هذه الأحاديث على أن الله لما أخرج آدم مسح ظهره واستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، والله تعالى قادر على كل شيء، ولا يُعجزه شيء، ولما استخرجهم عرضهم على آدم، فعرفهم وأخبره بأنهم ذريته، وأنهم سوف يُخلقون من صلبه وأصلاب أبنائه إلى يوم القيامة. وفي بعض الروايات أن الله استخرج أهل الخير وقال: (هؤلاء للجنة خلقتهم وبعمل أهل الجنة يعملون، وهؤلاء خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون) ، فميزهم وهم في صلب آدم، وبيَّن مَن هم السعداء ومَن هم الأشقياء، وعلم أهلَ الجنة مِن أهل النار، وعلم من يعمل لهذه ومن يعمل لهذه. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 5 علم الله بالسعداء والأشقياء لا يعني ترك العمل وأشكل ذلك على بعض الصحابة فقالوا: ما دام أن الله قد كتب علينا ونحن في صلب أبينا من هو من أهل الجنة أو من أهل النار فلماذا نعمل؟ لأنه لا نحصل إلا على ما كُتب لنا، فأجيبوا: بأنكم مكلفون ومأمورون بالعمل، مأمورون بأن تعملوا، والله تعالى هو الذي يوفق كل إنسان لما خلقه له ولما كتبه عليه قبل أن يخلقه، وقرأ -في رواية- قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] . فأهل الخير يُيَسرون لعمل يكونون به سعداء، وأهل الشر يخذلهم ويصرفهم فيعملون بعمل أهل الشر وأهل الشقاوة والعياذ بالله، ولكن مع ذلك كله فإنهم مأمورون ومنهيون، ومكلفون بأن يمتثلوا هذا الفعل، وبأن يتركوا هذا الفعل، ويعتبرون إذا فعلوا ذلك مطيعين، وإذا لم يفعلوه يعتبرون عصاة. وعلى كل حال لا يُستبعد أن الله سبحانه عندما خلق آدم أخرج ذريته كالذر لا يُحصي عددهم إلا الله، وكل من على وجه الأرض اليوم، وكل من على وجه الأرض فيما سبق، وكل من سيولد فيما بعد، كلهم قد علم الله تعالى عددهم، وقد علم أعمارهم، وقد كتب آجالهم، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحج:70] ، وكما في قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] ، وكما في قوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أول ما خلق القلم قال له: اكتب، وأن القلم كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فقوله: (ما هو كائن) يعني: كل موجود وكل من سوف يوجد، فإنه خلقهم وخلق أعمالهم وعرف آجالهم وعرف أزمنتهم، فهو على ذلك قدير، وعلى كل شيء قدير، لا يعجزه شيء ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة. فيؤمن الإنسان بالأمرين: يؤمن بأن الله خلق الخلق واستخرج ذرية آدم قبل أن يوجدهم، ويؤمن بأن كل إنسان رزق فطرةً وعقلاً بحيث يعرف الخير ويعرف الشر، وأن تلك الفطرة إما غَيَّرتها الأهواء والشهوات والمجتمعات، إما بقيت على حالتها وفطرتها، ولا يحمله ذلك على أن يعتمد على القضاء والقدر ويستسلم ويدع العمل، بل عليه أن يعمل، (فكل ميسر لما خلق له) . الجزء: 26 ¦ الصفحة: 6 الكلام على معنى الميثاق المأخوذ وعلى خلق الروح والجسد قال رحمه الله تعالى: [ومن هنا قال من قال: إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، وهذه الآثار لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقاً مستقراً ثابتاً، وغايتها أن تدل على أن بارئها وفاطرها سبحانه صوَّر النسَمة وقدَّر خلقها وأجلها وعملها، واستخرج تلك الصور من مادتها ثم أعادها إليها وقدَّر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا يدل على أنها خلقت خلقاً مستقراً واستمرت موجودةً ناطقةً كلها في موضع واحد ثم يرسل منها إلى الأبدان جملةً بعد جملة كما قاله ابن حزم، فهذا لا تدل الآثار عليه. نعم. الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولاً، فيجيء الخلق الخارجي مطابقاً للتقدير السابق، كشأنه سبحانه في جمع مخلوقاته، فإنه قدر لها أقداراً وآجالاً وصفاتٍ وهيئاتٍ، ثم أبرزها إلى الوجود مطابقةً لذلك التقدير السابق. فالآثار المروية في ذلك إنما تدل على القدر السابق، وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم، وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وأما الإشهاد عليهم هناك فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهما، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ومعنى قوله: (شَهِدْنَا) أي: قالوا: بلى، شهدنا أنك ربنا، وهذا قول ابن عباس وأبي بن كعب. وقال ابن عباس أيضاً: أشهد بعضَهم على بعض. وقيل: (شَهِدْنَا) من قول الملائكة، والوقف على قوله: ((بَلَى)) وهذا قول مجاهد والضحاك والسدي. وقال السدي أيضاً: هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم. والأول أظهر، وما عداه احتمال لا دليل عليه، وإنما يشهد ظاهر الآية للأول. واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، كـ الثعلبي والبغوي وغيرهما. ومنهم من لم يذكره، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركَّبها الله فيهم، كـ الزمخشري وغيره. ومنهم من ذكر القولين، كـ الواحدي والرازي والقرطبي وغيرهم، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة والثاني إلى المعتزلة] . في هذه الأحاديث أو في بعضها ما يُفهم أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد، وأن الذي خاطبها بقوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) هي الأرواح. ومن عقيدة أهل السنة أن الأرواح مخلوقة، فليست قديمة كما يقول الفلاسفة ونحوهم، بل هي مخلوقة خلقها الله بعد أن لم تكن، وذلك لأن الإنسان مركب من جسد وروح، والروح هي التي تحيا بها الأجساد، وإذا خرجت الروح مات الجسد، فهل الروح مخلوقة قبل الجسد أم مخلوقة مع الجسد؟ والصحيح أنها مخلوقة عندما خلق الله الجسد، فكلما خلق جسداً خلق له روحاً، وكلما مات ذلك الجسد بقيت روحه إما معذبة وإما منعمة إلى أن ترجع إليه في الآخرة. وربما يأتينا شيء يتعلق بخلق الأرواح. وعلى كل حال فالآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:172] هناك من يقول فيها: إن الله أخرجهم من آدم، وأخذ عليهم العهد، وأشهدهم على أنفسهم، وإنهم قالوا: بلى. ولعلك أن تقول: إننا لا نتذكر هذا الميثاق، ولا ندري ولا نعرف متى أُخرجنا، ولا ندري هل قيل لنا ذلك القول أم لا؟ فلذلك يقال: إن هذه هي الفطرة، وإن هذا الإشهاد هو ما فطروا عليه من المعرفة، وإن قولهم: (بَلَى شَهِدْنَا) يعني: شهدنا أن ربنا هو الذي خلقنا، فيكون ذلك خطاباً للأرواح قبل خلق الأجساد. ومن العلماء من قال: إن هذا وإن لم يتذكره كل إنسان، لكنه حق وواقع، وإن لم يكن هناك ذاكرة عند كل إنسان. ولعل القول الأول أن ذلك هو الفطرة التي فطروا عليها هو الأقرب. ومن المفسرين من اقتصر على مدلول الأحاديث، فجعل الآية مفسَّرة بالأحاديث، فمعناها: أخرجهم من آدم، وأشهدهم على أنفسهم، وردهم في صلب آدم، وأخرج منه أولاده، وأخرج من أولاده أحفاده -أي: أولادهم- وهكذا تسلسلت الولادة إلى ما شاء الله تعالى، إلى أن يحصل وجود من قدر الله خلقه إلى يوم القيامة. ومن العلماء المفسرين من اقتصر على ذكر الفطرة، وأن المراد بالإشهاد هنا هو ما قذف في قلوبهم من المعرفة ومن الفطرة التي فطر الناس عليها. ومنهم من ذكر القولين، والكل مجتهد، وكلٌّ اختار ما يناسبه. فالذين تخصصوا في النقول وفي الحكايات ونحوها اقتصروا على الميثاق الذي ورد في الأحاديث. والذي فسروا بالرأي أو فسروا بالاستنتاج ذكروا أيضاً الفطرة. والرواية التي فيها أن الله تعالى أشهدهم وأنهم قالوا: شهدنا وتكلموا، يقول الشارح عنها: إنها موقوفة ليست مرفوعة، ويمكن أنها مما نُقل من كتب بني إسرائيل التي لا تُصدَّق ولا تكذَّب، إنما تقبل إذا وافقت النقل الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما جاء في كتاب الله تعالى. فعلى هذا نحن نعتقد معنى الآية إجمالاً، وإذا ثبتت لنا الأحاديث اعتقدناها ووكلنا كيفيتها إلى الله سبحانه. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 7 آية أخذ الميثاق لا تدل على أخذ الذرية من ظهر آدم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول، أعني أن الأخذ كان من ظهر آدم، وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم، وإنما ذكر الأخذ من ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار، كما في حديث عمر رضي الله عنه، وفي بعضها الأخذ وإراءة آدم إياهم من غير قضاء ولا إشهاد، كما في حديث أبي هريرة. والذي فيه الإشهاد -على الصفة التي قالها أهل القول الأول- موقوف على ابن عباس وابن عمرو، وتكلم فيه أهل الحديث، ولم يخرِّجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك على الصحيحين، والحاكم معروف تساهله رحمه الله. والذي فيه القضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار دليل على مسألة القدر، وذلك شواهده كثيرة ولا نزاع فيه بين أهل السنة، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون. وأما الأول فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف، ولولا ما التزمته من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك، وما قيل من الكلام عليها، وما ذكر فيها من المعاني المعقولة ودلالة ألفاظ الآية الكريمة. قال القرطبي: وهذه الآية مشكلة، وقد تكلم العلماء في تأويلها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه. فقال قوم: معنى الآية أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض، قالوا: ومعنى {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172] دلهم بخلقه على توحيده؛ لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له رباً واحداً، {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172] أي: قال: فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم، كما قال تعالى في السماوات والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] ، ذهب إلى هذا القفال وأطنب. وقيل: إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها. ثم ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك. إلى آخر كلامه] . هذه أيضاً أقوال في معنى الآية: قولٌ: أن قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] معناه: كلما ولد مولود أخذ الله عليه العهد واستشهده بما فُطِر عليه ليعرف أن له رباً وأنه مربوب وأن عليه تكاليف، فكلما وُلد مولود أخذ عليه العهد، وذلك لأن الله قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف:172] ، وبنو آدم جمع، يعني: كل آدمي من البشر أخذ الله من ظهره، يعني: استخرج ما في ظهره من ولد ثم استنطقهم واستشهدهم، ويكون ذلك ما علموه أو ما أقام أمامهم من البينات والبراهين على أنه ربهم، وعلى أنهم مربوبون والمربوب له رب، وعلى أنهم مخلوقون والمخلوق له خالق. وأما القول بأنهم استُنْطِقوا لما أُخرجوا من آدم وشهدوا على أنفسهم و (قَالُوا بَلَى) لما قال الله لهم: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)) فهذا قول اعتُمد فيه على حديثين، ولكن الحديثين فيهما مقال. ويقول: إن حديث ابن عباس الذي تقدم وحديث عبد الله بن عمرو لم يخرجا في الصحيح، وإنما أخرجهما الحاكم والحاكم رحمه الله يتساهل في تخريج الأحاديث، فلا يعتمد تصحيحه إذا انفرد به. لذلك لعل الآية عامة في أنها أخذت العهود من بني آدم، وأن تلك العهود هي إما المعرفة التي ركبت في قلوبهم حيث يعرفون أنهم مخلوقون، وإما الفطرة التي فطر الناس عليها، يعني: جعل في فطرتهم ميلاً ومعرفةً، وهو ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) . الجزء: 26 ¦ الصفحة: 8 تضعيف الشارح للقول باستخراج الذرية من ظهر آدم وإشهادها قال رحمه الله تعالى: [وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول حديث أنس المخرَّج في الصحيحين الذي فيه: (قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي) ولكن قد روي من طريق أخرى: (قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيُرَد إلى النار) وليس فيه (في ظهر آدم) وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول. بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين: أحدهما: كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان، وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة. والثاني: أن الآية دلت على ذلك. والآية لا تدل عليه لوجوه: أحدها: أنه قال: (مِنْ بَنِي آدَمَ) ، ولم يقل: من آدم. الثاني: أنه قال: (مِنْ ظُهُورِهِمْ) ، ولم يقل: من ظهره، وهذا بدل بعض أو بدل اشتمال وهو أحسن. الثالث: أنه قال: (ذُرِّيَّتَهُمْ) ، ولم يقل: ذريته. الرابع: أنه قال: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) ، أي: جعلهم شاهدين على أنفسهم، ولا بد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار -كما تأتي الإشارة إلى ذلك- لا يذكر شهادة قبله. الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] . السادس: تذكيرهم بذلك لئلا يقولوا يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ، ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعاً ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم. السابع: قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:173] ، فذكر حكمتين في هذا الإشهاد: ألا يدعوا الغفلة، أو يدعوا التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره، ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة. الثامن: قوله: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173] أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم للرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل. التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] ، فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها وذكرتهم بها رسله بقولهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10] . العاشر: أنه جعل هذا آية، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها بحيث لا يتخلف عنها المدلول، وهذا شأن آيات الرب تعالى، فإنها أدلة معينة على مطلوب معين مستلزمة للعلم به، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:174] ، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، فما من مولود إلا يولد على الفطرة، لا يولد مولود على غير هذه الفطرة، هذا أمر مفروغ منه لا يتبدل ولا يتغير، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا. والله أعلم. وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات، ورجح القول الثاني وتكلم عليه ومال إليه] . ويمكن أن يجمع بينهما بأن الآية في ميثاق والأحاديث في ميثاق، فالآية يظهر أن المراد بها الميثاق الذي يأخذه على كل مولود يولد على الفطرة، وذلك الميثاق هو المعرفة التي فطر عليها، والأحاديث في خلق الأرواح أن الأرواح خلقت أولاً ثم أعيدت في صلب آدم وتكلمت، وأنها شهدت وإن لم تكن الأجساد موجودة. وبكل حال فإن هذه الآية تؤيد أن الميثاق الذي فيها غير الميثاق الذي في الأحاديث من هذه الوجوه العشرة التي ذكرها، فإن الله تعالى قال: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) لم يقل: من آدم، والأحاديث فيها أنهم أخرجوا من ظهر آدم، فدل على الفرق بين ما في الآية وما في الأحاديث. والآية فيها قوله: (مِنْ ظُهُورِهِمْ) والأحاديث فيها أنهم كلهم ذرية آدم. والآية فيها أنه (أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ) وهذا الإشهاد قد لا يتذكرونه لأنه هو الفطرة، فلو كان هو الإشهاد عند خلق الأرواح لم يكن حجة عليهم، فدل على أن المراد أنهم فطروا على الإسلام، وأنه لا مانع من أن الله سبحانه أخرج أرواحهم وأنفاسهم من صلب آدم، وعرضهم عليه، وجعل بين عيني كل إنسان وبيصاً، وأن منهم نبي الله داود وأنه وهبه من عمره أربعين إلى آخر ما تقدم. لا مانع من أن نؤمن بأن الله استخرج الأرواح قبل أن يخلق الأجساد، وأنه أخذ الميثاق على الأجساد، وأن الميثاق الذي أخذه على الأجساد في الآية هو المعرفة والفطرة التي فطروا عليها، فبذلك لا يحصل اختلاف بين الآية والحديث، فيعتقد المسلم أن الله فطر الناس على المعرفة وعلى الديانة: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] ، وأن تلك الفطرة تتغير بتغير البيئة: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، ويعتقد مع ذلك بناء على الأحاديث أن الله استخرج ذرية آدم وعلم أهل الجنة وعلم أهل النار وقال: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي، وذلك يبين سابق القدر لله تعالى، وسابق علمه بالأشياء قبل وجودها، والله تعالى بكل شيء عليم. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 9 الإقرار بالربوبية أمر فطري قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا شك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري، والشرك حادث طارئ والأبناء تقلدوه عن الآباء، فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن، يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع مقرين بأن الله ربكم لا شريك له، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:135] ، وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك؟ بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة، تقليداً لمن لا حجة معه. بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية؛ فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها وفيه مصلحة لكم، بخلاف الشرك فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 10 قيام الحجة في توحيد الربوبية بالفطرة والعقل فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو: دين التربيه والعادة، وهو لأجل مصلحة الدنيا، فإن الطفل لا بد له من كافل، وأحق الناس به أبواه، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه - على الصحيح - حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة، وحينئذ فعليه أن يتبع دين العلم والعقل، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح؛ فإن كان آباؤه مهتدين كيوسف الصديق مع آبائه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف:38] وقال ليعقوب بنوه: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:133] ، وإن كان الآباء مخالفين للرسل كان عليه أن يتبع الرسل كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8] الآية. فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه؛ فهذا اتبع هواه كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]] . يقول الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156] ، ويقول: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173] ، فمقالة المشركين لابد أن تكون إحدى هاتين المقالتين. والطائفتان هم اليهود والنصارى الذين أنزلت عليهم التوراة والإنجيل، والمشركون يقولون: أشرك آباؤنا واتبعناهم، فكأنهم يقولون: العذاب عليهم لا علينا. والجواب أولاً: أن الله فطركم على التوحيد وعلى معرفته، ورتب فيكم العقول بحيث تعرفون أن لكم خالقاً، وأن خالقكم له عليكم حقوق. وثانياً: إذا عرفتم أن هذا الدين الذي عليه آباؤكم -وهو الشرك- باطل، فلا بد أن تبحثوا عن الدين الصحيح وهو الذي خلقتكم له، ولكنكم لم تفعلوا، بل اتبعتم آباءكم وأطعتم كبراءكم، وكنتم بذلك مستحقين للعذاب، قال الله تعالى عن أهل النار: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ} [الأعراف:38] أي: قال الأبناء للآباء: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:38] أي: لا ينفعكم كونهم الذين أضلوكم، فكان يجب عليكم ألا تقبلوا هذا الضلال. ويقول تعالى في آية أخرى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:27-28] يعني: تضلوننا وتسعون في إضلالنا، إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات:33] مع أن الآباء هم السبب في ضلال الأبناء؛ ولأجل ذلك كان الواجب على الآباء أن يفكروا وألا يضلوا بعد أن أعطاهم الله فكراً وعقلاً، وعلى الأبناء أيضاً أن يستعملوا فطرتهم وعقلهم وألّا يقبلوا كل ضلالة أو كل بدعة. وقد حكى الله تعالى أنهم يوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض؛ فالمتبوع يتبرأ من التابع، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة:166-167] ، الأتباع هم الذين تبرأ منهم المتبوعون ولكن لا ينفعهم ذلك بعد أن أضلوهم. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 11 قيام الحجة على الإنسان بوجوب اتباع الرسل كما يرشد إليه العقل وعلى كل حال فحجة الله قائمة، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149] ؛ وذلك لأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ ولأنه فطر الناس على العبادة ولكن أضلتهم الأهواء وأضلتهم الشياطين، وأضلتهم المجتمعات ونحوها. ومعلوم أن العادة -كما قلنا- أن الابن ينشأ على دين أبويه، بل إنه يختم له باتباعه في دينه؛ لكن في الشرع يكون تبعاً لخير أبويه، إذا كان أحد الأبوين مسلماً والآخر كافراً، حكمنا أنه يتبع خير أبويه في الدين، ولكن يحكم عليهم ما حكم على آبائهم، (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن القوم يبيتون فيصاب الأطفال) ، فقال: هم منهم يعني: إذا بيتنا المشركين في بيوتهم وقتلنا أطفالاً دون أن نتعمد؛ فما الحكم؟ فقال: (هم منهم) . والمعنى: أننا نحكم بأنهم تبع لآبائهم، فما دام أن آباءهم يحاربوننا ويقاتلوننا ونقتلهم، فكذلك الأبناء يكونون تبعاً لهم؛ وذلك لأنهم غالباً ينشئون على نشأتهم كما حكى الله عن نوح بقوله: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27] أي: كلما ولد لهم أولاد نشئوا على ما نشأ عليه آباؤهم من الفجور ومن الكفر، ومع ذلك فإن الله تعالى قد يخرج من أصلاب الكفار من يعبد الله ويعرفه، وإذا أراد به خيراً أدخله في الدين أو أدخل الدين عليه. وعلى كل حال: فإن على الإنسان أن يحرص على أولاده، فيربيهم ويعلمهم، وعلى الولد أن ينظر فيما فيه والده وفيما عليه أهله؛ فإذا كان حقاً وصواباً قبله وعمل به، وإلّا سأل عن الحق واتبعه، ولم يعمل بالباطل ولو كان عليه أهله، أو مجتمعه، أو قبيلته، وأسرته، أو نحو ذلك. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 12 لا يعذر الإنسان في كفره باتباع آبائه وعليه أن ينظر بعقله قال المؤلف: [وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام، يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب وإن كان خطأ ليس هو فيه على بصيرة، بل هو من مسلمة الدار لا مسلمة الاختيار، وهذا إذا قيل له في قبره: من ربك؟ قال: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. فليتأمل اللبيب هذا المحل، ولينصح نفسه، وليقم لله، ولينظر من أي الفريقين هو؟ والله الموفق. فإن توحيد الربوبية لا يحتاج إلى دليل، فإنه مركوز في الفطر، وأقرب ما ينظر فيه المرء أمر نفسه لما كان نطفة، وقد خرج من بين الصلب والترائب -والترائب: عظام الصدر- ثم صارت تلك النطفة في قرار مكين في ظلمات ثلاث، وانقطع عنها تدبير الأبوين وسائر الخلائق، ولو كانت موضوعة على لوح أو طبق واجتمع حكماء العالم على أن يصوروا منها شيئاً لم يقدروا، ومحال توهم عمل الطبائع فيها لأنها موات عاجزة ولا توصف بحياة، ولن يتأتى من الموات فعل وتدبير. فإذا تفكر في ذلك، وانتقال هذه النطفة من حال إلى حال؛ علم بذلك توحيد الربوبية، فانتقل منه إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا علم بالعقل أن له رباً أوجده؛ كيف يليق به أن يعبد غيره؟ وكلما تفكر وتدبر ازداد يقيناً وتوحيداً، والله الموفق؛ لا رب غيره ولا إله سواه!] . الجزء: 26 ¦ الصفحة: 13 وجوب البحث عن الحق على كل عاقل ذكر أن الإنسان عادة ما يتبع ما عليه آباؤه ومجتمعه، ولكن لا يكون ذلك حجة له، ولا يكون معذوراً بذلك، فالذين قالوا: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173] يقال: لا نهلككم بفعلهم، بل كلٌ يعذب بذنبه؛ فآباؤكم عليهم ذنوب وأنتم عليكم ذنوب، وأبناؤكم عليهم ذنوبهم التي اقترفوها وعملوها، ولو كان السبب أو المضل هو الأول. وذلك لأن الله تعالى فطر العباد على معرفته، والواجب عليهم أن يتأملوا ما فطروا عليه، وأن يتعقلوا خلقه، وأن يتعقلوا هذا الكون الذي بين أيديهم، وأن يتفكروا في مخلوقات الله تعالى، ومنه يخرجون إلى نتيجة وهي توحيد الربوبية، وهو أن هذا الكون له رب خالق مدبر، وأنه لم يخلق عبثاً كما في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] يعني: مهملاً {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:37-40] . يعني: يتدبر الإنسان مبدأ أمره ومبدأ تكوينه، وهو أنه قد كان في صلب أبيه، ثم خرج واستقر في رحم أمه، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} [المرسلات:20-22] جعله الله في قرار مستقر لا تصل إليه الأيدي، ولا تعمل فيه الطبائع، ولا تقدر عليه الحيل. انقطعت عنه التدابير، فأخرجه الله بعد أن كوّنه بشراً سوياً كما في قوله تعالى: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف:37] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر:67] يعني: أطفالاً {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر:67] ، فهذا التدبير وهذا التنقل ليس للطبيعة فيه مجال، بل الترتيب والتربية هي خلق الله وتدبيره وتكوينه. فإذا عرف الإنسان هذا الكون وأنه لا بد له من مدبر وخالق ومتصرف، استقر بذلك توحيد الربوبية في عقله، وعرف أن له رباً، ثم بعد ذلك يتنقل من تفكير إلى تفكير فيقول: ما دام أن لهذا الكون رباً وخالقاً ومدبراً فإن لهذا الرب الخالق المدبر حقوقاً علينا! فما هي تلك الحقوق؟ هي أن نعبده وحده، وأن نقر به إلهاً، وأن نصرف له حقوقه التي فرضها علينا وبعد أن يسأل عن هذه الحقوق ويعرفها، فإذا عرف التزم بالتقرب بها، والتزم بأن يعبد الله بها، وأن يحرص على الاستسلام لله، وبذلك يكون من أهل السعادة. فكونه يقنع بما كان عليه آباؤه من الكفر والضلال والبدع والشرك والخرافات التي تمجها الأسماع وتنكرها الطباع ويقول: هكذا وجدت أبي! يقال: هذا خطأ! لماذا لم تسأل عن الحق؟ أترضى أن تكون مقلداً لا تدري ما الناس فيه؟! هؤلاء الذين يتبعون الناس ويتبعون ما هم عليه من خطأ؛ هم الذين إذا سئلوا في القبر: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ يقول أحدهم: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيعذبون في قبورهم على هذه المقالة، ولا ينفعهم أنهم سمعوا الناس وأنهم قلدوا الناس، بل الواجب على العاقل من حيث هو أن يستعمل عقله في معرفة خالقه ومدبره، وألّا يرضى بما الناس عليه دون أن يمحص تلك الأقوال والأعمال التي يعملها الناس، ودون أن يعرف الحق أو يبحث عنه؛ فإنه إذا بحث عن الحق عرفه، وإذا عرفه لزمه العمل به، وإذا لزمه العمل به وأداه كما ينبغي سعد وأصبح من أهل الخير. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 14 شرح العقيدة الطحاوية [27] لقد خلق الله الخلق، وعلم ما هم عاملون، وقدر ما يكون منهم، وقدر من يدخل الجنة ومن يدخل النار، وهذا دليل على كمال علم الله، ولا حجة للعصاة في ذلك، فكل ميسر لما خلق له. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 1 إثبات صفة العلم لله تعالى وتقديره لأعمال الخلائق قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه) . قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال:75] {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40] ؛ فالله تعالى موصوف بأنه بكل شيء عليم أزلاً وأبداً، لم يتقدم علمه بالأشياء جهالة {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس رأسه فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: ما من نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة. قال: فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. ثم قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له: أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] ، خرجاه في الصحيحين. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 2 عموم علم الله بكل شيء هنا: صفة من صفات الله تعالى وهي العلم العام، وفي هذا رد على طائفة من غلاة المعتزلة الذين يقولون: إن الله لا يعلم بالأشياء حتى تقع، ولم يعلم بها قبل أن يوجدها، يردون بذلك النصوص ويتنقصون الرب سبحانه وتعالى، وهؤلاء هم غلاة القدرية قديماً كـ معبد الجهني وغيره، يقولون: إن الأمر أنف يعني: أنه يستقبل ويستأنف ولا يعلم الشيء الذي قد مضى. من عقيدة أهل السنة أن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، فلا يعزب عن علمه شيء: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [يونس:61] يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم الخفي والجلي: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] ، ويعلم السر وأخفى من السر، والسر هو: ما يضمره الإنسان في نفسه ولا يبديه لأحد، وأخفى منه ما لم يخطر بباله إذا علم الله أنه سيخطر بباله، فيعلم الله أنه سيخطر له كذا وكذا مما لم يكن يظن أنه يخطر. والأدلة على صفة العلم وقدمه كثيرة مشهورة، وقد جمعها العلماء الذين كتبوا في الصفات واستوفوا ما ورد فيها من الآيات ومن الأحاديث، وإذا عرف المؤمن أن الله تعالى موصوف بالعلم، اعتقد دخول أعمال العباد، وهو أنه علم من هو سعيد ومن هو شقي، ومن هو فاجر ومن هو تقي، ومن هو مخلط ومن هو نقي، وعلم من هو فقير ومن هو غني، ومن هو من أهل الخير ومن هو من أهل الشر؛ كل ذلك قد أحاط الله به علماً، كما قال تعالى: في هذه الآيات {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:62] ، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40] ، فيدخل في (كل شيء) ما لم يكن مما سيكون كما علمه الله. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 3 كتابة الله ما علمه في اللوح المحفوظ كذلك بعد أن علمه الله تعالى فإنه قد أثبته وكتبه في الذكر -اللوح المحفوظ- فأول ما خلق الله تعالى القلم فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة مما سيوجد، وممن سيولد، ومن أعمال العباد ونحو ذلك، يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] يعني: علم ذلك وصفاته هو يسير على الله. ويقول تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] ، أي: من قبل أن نبرأ تلك المصيبة، بل من قبل أن نبرأ الخليقة كلهم، كتب ذلك في اللوح المحفوظ كما يشاء الله، وذلك يسير على الله، ليس فيه صعوبة؛ لأنه هو الذي يبدل الخلائق، وهو الذي يعلم أحوالهم ولا يخفى عليه شيء منهم. فإذاً: ما داموا خلقه وأنه هو الذي يتصرف فيهم؛ فهم لا يخرجون عما علمه فيهم، وقد علم من سيصير إلى الخير، ومن سيصير إلى الشر، ولكن كلفهم وأمرهم بالإيمان بذلك الغيب. وكذلك أعان هؤلاء وخذل هؤلاء، وله الحجة البالغة، وهدى من شاء وأضل من شاء وله الحجة البالغة على عباده، ولا يقول قائل: إن هذا يتخذ حجة للكافر بأن يقول: إذا كان الله كتب عليّ الشقاء فليس لي حيلة في أن أرد ما كتب الله؟ نقول: ومن أدراك بذلك؟ أنت مأمور بأن تفعل الأسباب، وقد يكون فعلك سبباً من الأسباب التي قدر الله بها أنك من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 4 أنواع التقدير ذكر العلماء أن القدر على أربعة أنواع: القدر العام يعني: العلم بالكائنات قبل وجودها، وكتابتها في اللوح المحفوظ. والثاني: العلم السنوي: وهو أن الله يكتب في ليلة القدر ما يكون في تلك السنة من الحوادث، وهذه كتابة جزئية، حيث يقدر في ليلة القدر ويكتب فيها ما يكون على وجه الأرض من تلك الليلة إلى مثلها من السنة القابلة، فهذا تقدير أو كتابة أو علم خاص، وهو السنوي. والثالث: تقدير عمري وهو أن المولود إذا علقت به أمه في الرحم، أرسل الله تعالى إليه الملك فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ يعني: هل يتم خلقه ويولد سوياً أو تسقطه الرحم وتقذفه منياً؟ فإذا قال الله: مخلقة، قال: يا رب! ذكر أم أنثى؟ فيكتب ذلك، ويسأل عن رزقه فيخبره الله بأن رزقه يكون بكذا وكذا، ويكتب أجله بأنه طويل الأجر أو قصير الأجل، يقدر الله ذلك كله له. وفي حديث ابن مسعود المشهور: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات؛ بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد) أي: يكتب ذلك كله وهو في رحم أمه، فالمؤمن الذي يؤمن بذلك يؤمن بسعة علم الله تعالى، ولكن لا يتخذ ذلك حجة في ترك العمل، بل يعمل فكل ميسر لما خلق له كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فمن كان سعيداً فإن الله يسهل له الأسباب التي يكون بها سعيداً وعليه أن يبذل السبب، وإن كان شقياً فإنه محروم ولو بذلت الأسباب. فهذا هو واسع علم الله، يعني: أن الله تعالى عليم بكل شيء وعلمه قد وسع الخلائق كلها. وفائدة الإيمان بالعلم المراقبة، وهو أنك إذا علمت أن الله عليم بما يجول في نفسك، وبما تهم به من طاعة أو معصية، وأنه يطلع على ضميرك، ويعلم ما في قلبك؛ حملك ذلك على ألا تعمل إلا خيراً، وعلى ألا تحدث نفسك إلا بخير، فبذلك تكون من أهل الخير. أما الإنسان الذي يتجاهل أو يظن أن الله لا يعلمه ولا يعلم أحواله؛ فإن هذا التجاهل أو الجهل هو الذي يوقعه في العصيان ويجرئه على المخالفات، فكأنه يعتقد أنه لا يراه ربه وأنه سيختفي. ذكر ابن أم عبد أن ثلاثة من قريش جلسوا في المسجد الحرام يقول: قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم، فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال أحدهم: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الثاني: إن كان يسمع إن جهرنا سمع إذا أخفينا، فأنزل الله تعالى قوله: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:22-23] ، فهؤلاء الذين ظنوا أن الله لا يعلم أعمالهم حصل لهم أنهم أكثروا من السيئات وتجرءوا على المحرمات، ووقعوا في الذنوب؛ فكان ذلك سبباً في شقائهم وإن كان ذلك مكتوباً عليهم في الأزل؛ لكن وقع منهم سبب وافق ما قدره الله عليهم. فعلى العبد إذا علم أن الله تعالى عليم بأحواله وبوساوسه وبخطرات قلبه وبأعماله؛ أن يحمله هذا الاعتقاد على أن يراقب ربه، وعلى ألا يخالفه طرفة عين. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 5 علم وكتابة مآل الإنسان من السعادة والشقاوة وهو في رحم أمه قال المؤلف: [وكل ميسر لما خلق له، و الأعمال بالخواتيم ، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله] . تقدم حديث علي رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم فيه: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وعن زهير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم: أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟ قال: لا. بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟ قال زهير: ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه فسألت ما قال؟ فقال: اعملوا فكل ميسر) رواه مسلم. وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة) خرجاه في الصحيحين، وزاد البخاري: (وإنما الأعمال بالخواتيم) . وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق -: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أم سعيد؛ فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) . والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وكذلك الآثار عن السلف، قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد: قد أكثر الناس من تخريج الآثار في هذا الباب، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه، وأهل السنة مجتمعون على الإيمان بهذه الآثار واعتقادها، وترك المجادلة فيها، وبالله العصمة والتوفيق] . الجزء: 27 ¦ الصفحة: 6 الأعمال بالخواتيم معناه أن الله تعالى علم السعيد والشقي، ولكن قد يعمل الإنسان بعمل أهل الخير ثم يرتد في آخر عمره، ويكون من أهل الشر، حيث إن الله كتب عليه الشقاوة، وبالعكس: قد يحيا الإنسان مع أهل الكفر ويمضي عمره كله على الكفر والضلال، ثم يأتيه الله قرب الموت فيموت وقد اهتدى، وقد ذكروا أن الأصيرم من الأنصار، كان على دين قومه المشركين، ولم يسلم إلا قبيل معركة أحد، فأسلم ودخل المعركة واستشهد مع من استشهد، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم من الشهداء ودعا له. هذا توفي هو ولم يصل لله ركعة، ولكنه أسلم إسلاماً يقينياً وجاهد في سبيل الله، وضده رجل كان يظهر أنه مسلم، ويجتهد في الأعمال، ولما حضر المعركة قاتل قتالاً شديداً حتى قتل ستة أو سبعة، فلما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه من أهل النار) ، فختم له بخاتمة سيئة، وهو أنه لما أحس بالألم قتل نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار) ، وبالعكس أيضاً، فالأعمال بالخواتيم، والإنسان عليه أن يسأل الله حسن الختام؛ وذلك لأنه إذا ختم له بخاتمة حسنة انتهت بها حياته كان من أهل السعادة، فإذا استمر على العمل السيئ حرم الخير، وختم له بعمل الشقاوة والعياذ بالله. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 7 ينبغي على الإنسان الحرص على حسن الختام فنعرف بذلك معنى: أن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، أو يعمل بعمل أهل الجنة حتى يقرب من الموت فيعمل بعمل أهل النار ويرتد ما بين عشية وضحاها، كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الفتن، فقال: (يصبح فيها الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً) يعني: أنه يكفر بين عشية وضحاها. فهذا يحث الإنسان على أن يتمسك بدينه، وأن يحرص على حسن الخاتمة، ويعرف أن الله تعالى يختم للإنسان بالعمل الذي قدره له والذي كتبه من أهله، ولكن له في ذلك سبب، وإذا أكثر من سؤال الله تعالى أجاب الله دعوته، وإن كان ذلك مكتوباً عليه قبل أن يخلقه. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 8 أهمية تعلم العقيدة بتفاصيلها والعقيدة ما يعقد عليه القلب، وإذا انعقد القلب على أمر فإنه لا يتخلى عنه، ولا شك أن من آثار الاعتقاد قوة العمل، فإذا اعتقد العبد أمراً فإنه يلازمه ويتمسك به، ويتشبث به بكل قواه، ويتفانى في العمل به، على ما يناله من أذى أو من تعذيب، ويبذل في تحقيق ما يعتقده كل غالٍ ورخيص ولو بذل نفسه، كما حصل للمؤمنين الذين بذلوا نفوسهم رخيصة في سبيل الله، وفي سبيل إعلاء كلمة الله، كل ذلك لأجل قوة العقيدة. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 9 الإيمان بالله ورسوله وما جاء به جملة وتفصيلا ً من العقيدة التي نحن نقرأ فيها الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله، ويدخل فيها الإيمان بأسماء الله تعالى وبصفاته، ويظهر على من اعتقدها أثرها، ويدخل فيها أيضاً الإيمان بوحدانية الله تعالى وتفرده، ويدخل في ذلك أيضاً الإيمان بقوته وبقهره وبجبروته وبخلقه وبتقديره وبقدرته على كل شيء، وآثار ذلك عبادته وحده وترك عبادة ما سواه. ويدخل في الشهادة الثانية -شهادة أن محمداً رسول الله- الإيمان بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وبأمانته، والإيمان بتبليغه للرسالة وبيانها، والإيمان بصحة ما جاء به وما بلغه، وكونه كله من عند ربه. ويدخل في ذلك وجوب طاعته، ووجوب محبته واتباعه والتأسي به والسير على نهجه، وتحكيمه والرضى بحكمه، وعدم الميل عن سنته، ومتى تحقق ذلك ظهر أنه من قوة العقيدة. ويدخل في ذلك الإيمان بفضائله وبمزاياه، وكان منها أنه عليه الصلاة والسلام سيد الخلق يوم القيامة، وأنه الشفيع المشفع، وأنه صاحب المقام المحمود والحوض المورود والشفاعة في الآخرة، وكل ذلك يستدعي ممن قاله واعتقده أن يتبعه بالعمل. ويدخل في ذلك: الإيمان بكل ما جاء العبد من الله تعالى وبلغته رسل الله تعالى. وبلا شك أن الرسل عليهم الصلاة والسلام -وخاتمهم وأفضلهم محمد عليه الصلاة والسلام- مكلفون من الله تعالى بتبليغ الرسالة، وأنهم بلغوا ما أرسلوا به، فأدوا الأمانة وبلغوا الرسالة ونصحوا لأممهم، فكل ما بلغوه وكل ما جاءوا به، فالعبد يلتزم به ويصدقه، سواءٌ كان مجملاً أو مفصلاً. التفصيل: جاءنا في كتابنا الذين أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فيه تفصيل أحوال الآخرة وما يكون بعد الموت، وما يكون في الدار الآخرة، فيؤمن العبد بذلك ويصدق بتفاصيله. والإجمال بالكتب السابقة، فنؤمن بها إيماناً مجملاً، فنصدق بأنها كلام الله، وبأنها من الله، وبأنها حق، وبأن الله كلف الأمم الذين نزلت عليهم بالعمل بتفاصيلها، ولكن نحن ما كلفنا بالعمل ولا بالعلم بتفاصيلها، وإنما نؤمن بها مجملة، وهي تدخل في الإيمان بكتب الله. وأدلة ذلك واضحة والحمد لله، فإذا آمن العبد بكل ذلك وبغيره من تفاصيل العقيدة، صدق عليه أنه من أهل العقيدة الراسخة الذين يعملون عن عقيدة، ويعملون عن يقين، ويعملون عن إيمان، ولا يردهم عن العمل شبهة ولا شك، ولا يعتريهم توقف ولا ريب. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 10 ظهور آثار العقيدة على العمل فإذا اعتقد العبد العقيدة التي هي متلقاة عن الله تعالى وعن رسله، ظهرت آثارها على أعماله. وإذا رأيت المبتدعة الذين يخالفون الأدلة، دل ذلك على ضعف عقيدتهم، وعلى تزعزها وكونها على شفا جرف هار، وأنها لم تكن راسخة في قلوبهم. وهكذا إذا رأيت الذين يتهاونون بالسيئات ويرتكبون المحرمات، ويتركون الطاعات الواجبة، فإن ذلك دليل على ضعف معتقدهم، بحيث إنها لم ترسخ العقيدة في قلوبهم، ولم يطمئنوا بالإيمان، ولو اطمئنوا به لما أقدموا على هذه المخالفات، ولو استحضروا عظمة ربهم وأنه يراهم ويعلم سرائرهم وضمائرهم، لما أقدموا على المعاصي وهم يعرفون أنها معاص. فإذاً: يتفقد الإنسان نفسه، ويتفقد بني جنسه، ويعرف بذلك سليم العقيدة وضعيف العقيدة، يعرف بذلك من هو قوي في الإيمان متمكن منه قد رسخ الإيمان في سويداء قلبه، فيقول: هذا من أهل العقيدة، عرفته بقوة إيمانه، وعرفته بآثار إيمانه، وعرفته بقوة تصديقه، وعرفته بالعمل، وعرفته بالبعد عن الحرام، وعرفته بالبعد عن المشتبهات. وهذا ضعيف العقيدة: عرفته بتساهله في الإيمان، عرفته بتساهله بالمعاصي، عرفته بتساهله في ترك الطاعات، وما أشبه ذلك. فهذه هي النتيجة والفائدة الصحيحة لعلم هذه العقيدة، وتفاصيلها التي فصلت في الطحاوية، وكذلك في غيرها من عقائد أهل السنة، فتفاصيلها لا شك أنها تزيد العبد قوة وإيماناً، سواء منها ما يتعلق بالعقود أو ما يتعلق بالمواثيق، أو ما يتعلق بدخول الأعمال في مسمى الإيمان، أو ما يتعلق بالقضاء والقدر، أو ما يتعلق بعلم الغيب، أعني: العلوم الغيبية السابقة واللاحقة، أو ما يتعلق بالإيمان بالبعث وبما بعد البعث، أو ما يتعلق بالقبر وفتنته ونعيمه وما أشبه ذلك، أو ما يتعلق بالإيمان بالجنة والنار والثواب والعقاب والوعد والوعيد، أو ما يتعلق بالإيمان بالله وبملائكته وبكتبه وبرسله وما أشبه ذلك، كل ذلك يعتبر تفاصيل لأصل هذه العقيدة، ولكن الأصل كما قلنا: الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبما جاء عن الله على مراد الله. وقد مضى الكلام حول المواثيق والعهود التي أخذها الله تعالى على عباده، بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:172] وعرفنا أن هذا إما أنه -كما ورد في الأحاديث- العهد الذي أخذه الله على بني آدم وهم في أصلاب آدم، أو أنه العهد الذي فطر الله عليه العباد وجبلهم عليه، وهذا هو الأقرب والأمثل، يبينه قول الله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] ، وقوله في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، فأخرجتهم عن دينهم) ، فكونهم حنفاء، أي: على الفطرة والحنيفية التي هي معرفة الله ومعرفة ما خلقوا له، فهذا هو الأقرب. ولكن نؤمن أيضاً بالحديث الذي فيه (أن الله تعالى استخرج ذرية آدم من ظهره، وعرف منهم من هو من أهل الجنة ومن هو من أهل النار، وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي!) ، فنؤمن بذلك وإن كنا لا نتذكر ذلك العهد، ولكن خبر الله أوثق. والأصل أن أدلة معرفة الله تعالى لو ترك عليها الإنسان لعرف أنه مخلوق، وأن له خالقاً، وأن خالقه له عليه حقوق، فيؤمن العباد بذلك من جملة الإيمان بالغيب، ومن جملة العقيدة التي يعتقدونها. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [28] القدر غيب لا يطلع عليه أحد من الخلق، وقد كتب الله تعالى ما سيعمله العبد، ولكن جعل له قدرة واختياراً يزاول بها ما أراد من خير أو شر، وهذا هو الذي يحاسب عليه. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 1 القدر سر الله تعالى في خلقه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه : {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين) . أصل القدر سر الله في خلقه، وهو كونه أوجد وأفنى، وأفقر وأغنى، وأمات وأحيا، وأضل وهدى، قال علي رضي الله عنه: (القدر سر الله فلا تكشفه) ، والنزاع بين الناس في مسألة القدر مشهور والذي عليه أهل السنة والجماعة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً ولا يرضاه ديناً. وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة: وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكنّ الكافر شاء الكفر؛ فروا إلى هذا لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه! ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار! فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه! فإنه يلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى فإن الله قد شاء الإيمان منه - على قولهم -والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! هذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل: روى اللالكائي من حديث بقية عن الأوزاعي حدثنا العلاء بن الحجاج عن محمد بن عبيد المكي: عن ابن عباس: (أن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر، فقال: دلوني عليه -وهو يومئذ أعمى- فقالوا له: ما تصنع به؟ فقال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطك ألياتهن مشركات، هذا أول شرك في الإسلام، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير، كما أخرجوه من أن يقدر الشر) . قوله: (وهذا أول شرك في الإسلام) إلى آخره من كلام ابن عباس وهذا يوافق قوله: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده) ] . الجزء: 28 ¦ الصفحة: 2 لا يسأل عما يفعل هذا يتعلق بالقضاء والقدر، ويذكر المؤلف أن القدر سر الله تعالى في كونه وفي أمره، ووجه كونه سراً لا يعلمه البشر أن الرب سبحانه له الحكمة في كونه هدى هذا وأضل هذا، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يجوز للعباد أن يسألوا عن الأسباب في أفعال الله تعالى، فلا يقال: لماذا حبس الله الخير؟ لماذا أنزل الله العذاب؟ لماذا خلق الله الأمراض؟ لماذا خلق الله الحشرات والأضرار؟ لماذا خلق الله السباع؟ لماذا سلط الله على المؤمنين الأمراض والعاهات والفقر؟ لماذا سلط عليهم الكفار؟ لماذا أفقر هذا وأغنى هذا؟! قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ، لكن مع ذلك نعرف أنه سبحانه حكيم يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، فلا يفعل شيئاً عبثاً: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون:115] وليس شيء من خلقه موجوداً إلا لحكمة، ولم يسلط عقوبة ولم يخلق مرضاً إلا لمصلحة ولحكمة، سواء علمنا تلك الحكمة أو حجبت عنا؛ لأن هذا مقتضى اسمه الحكيم، أي: ذي الحكمة التي هي غاية المصلحة، ولكن ليس لنا الاعتراض على تصرفه، فهو سبحانه يتصرف في خلقه كيف يشاء فيهدي هذا فضلاً منه، ويضل هذا عدلاً منه، ويغني ويفقر، ويميت ويحيي، ويسعد ويشقي، ويمنع ويعطي، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. وليس لنا أن نعترض على الله تعالى، بل نؤمن بذلك كله ونقول: لا نعلم الحكمة في ذلك ولا نعلم السر في ذلك، فالقدر سر الله في خلقه، هذا من ناحية خلقه الأشياء النافعة والضارة معاً. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 3 خلق الخير والشر دليل على كمال القدرة ولكن لا ينسب الشر إلى الله ولا شك أن خلق الخير والشر، وخلق النفع والضر المتضادين، دليل على كمال القدرة، فإننا إذا رأينا أنه فرق بين الأخوين: هذا غني وهذا فقير، هذا سليم وهذا مريض، هذا سعيد وهذا شقي، هذا مهتد وهذا ضال؛ فلا شك أن هذا يدل على كمال التصرف، وأنه تصرف في خلقه كيفما شاء، وذلك دليل كمال القدرة. فالظلمة ضدها النور، والليل ضده النهار، وكذلك المزدوجات كما في قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] يعني: ذكراً وأنثى، فهكذا أيضا المتضادات: الصحة والمرض ضدان، والخير والشر، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة، الله تعالى هو الذي خلقها وقدرها، ولكن نعرف أن كل ما صدر عن الله تعالى فإنه بالنسبة إلى إيجاده هو خير، ولذلك ورد في حديث الاستفتاح: (لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك) . معلوم أن الله يقدر الأمراض، وهو الذي قدر الفقر والمصائب، وهو الذي يقدر العاهات على العباد ونحوها، ولكن هل يقال: إنها شر بالنسبة إلى الله؟ ليست شراً، بل هي لحكمة ومحض مصلحة، فهذا معنى قوله: (والشر ليس إليك) . وإذا تتبعت القرآن والأدلة تجد أن كل ما فيه شر ينسب إلى الإنسان وإن كان الله هو الذي أوجده وكونه وقدره، حكى الله عن إبراهيم أنه قال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:79-80] لم يقل: وإذا أمرضني، مع أن الله تعالى هو الذي ينزل المرض ويقدره، ولكن لا يضاف إليه الشر المحض. وحكى الله عن مؤمني الجن أنهم قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] فالشر قالوا: أريد، والخير قالوا: (أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ) وذلك: حتى ينزه الله تعالى عن أن يصدر منه الشر المحض، وإن كان هو الذي قدر الشر، وخلقه وكونه، فإنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد، فيعتقد العبد أن صدورها من الله تعالى خير ومحض مصلحة، وليس فيها أية ضرر بالنسبة إلى الله، ولو كان فيها كراهية للعباد وضرر عليهم حسياً، لكن ما خلقها وقدرها إلا لحكمة ومصلحة، فهي خير، فلا يضاف الشر إلى الله تعالى؛ هذا هو قول أهل السنة. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 4 مذهب المعتزلة في أفعال العباد سمعنا أن طائفة المعتزلة أنكروا أن يكون الله تعالى يخلق أفعال العباد، وجعلوا العبد هو الذي يخلق فعله، وجعلوا العباد هم الذي يهدون أنفسهم، ويضلون أنفسهم، وكذبوا بالنصوص الواردة في مثل إضافة الأفعال إلى الله تعالى، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:37] وكقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23] ، {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر:37] . وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة: (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) ، أي: أن الله هو الذي هدى هذا وأقبل بقلبه إلى الخير، وأضل هذا وصرفه إلى الشر، وله المنة والنعمة على المهتدين، وهو العادل في صرف هؤلاء المعتدين الظالمين، ولكن ما عذبهم وهو ظالم لهم، ولو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أفضل من أعمالهم. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 5 الرد على المعتزلة في المشيئة فعلى هذا نقول: إن الله تعالى هو الذي خلق أفعال العباد، ولو شاء لما فعلوها، فلو شاء لما ضل هذا ولما اهتدى هذا، فهو الذي من على هذا وهداه، وهو الذي أضل هذا وصرفه، قال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125] . وقد حكى الله عن المشركين أنهم يتعلقون بعموم المشيئة، ولا متعلق لهم في ذلك، فإذا قال المشركون مثلا: ً {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148] ، {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] ، نقول: حقاً أن الله لو شاء ما أشركتم، ولكنه سبحانه خذلكم عدلاً منه، ولم يقدر لكم الهداية؛ لكن أعطاكم قوة وأعطاكم اختياراً، وأعطاكم ميلاً صرتم به مائلين إلى أفعال الشر وإلى الكفر وإلى المعاصي، فميلكم هذا واختياركم -وإن كان مسبوقاً بقضاء الله وقدره- هو الذي تستحقون عليه العقوبة. فلذلك يقول أهل السنة: إن الله تعالى تغلب قدرته قدرة العباد، ولكن أعطانا قوة وأعطانا قدرة وأعطانا استطاعة نتمكن بها من مزاولة الأعمال، وقدرة الله ومشيئته غالبة على قدرة العبادة ومشيئتهم وإرادتهم، ولأجل ذلك يقول الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] ، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام في الدعاء المأثور: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) . المعتزلة ما اتسعت نفوسهم لهذا، فقالوا: إن قدرة العبد غلبت قدرة الله، وعلى قولهم يكون في الوجود ما لا يريد، فإنه أراد من الناس كلهم أن يؤمنوا، ولكن غلبت قدرة هؤلاء الكفار قدرة الله، فاختاروا الكفر، فكان في الكون من يخلق مع الله؛ لأنهم خلقوا أفعال العباد مستقلين بها، دون أن يكون لله تصرف بها ولا قدرة عليها، فكانوا بذلك كالمستجير من الرمضاء بالنار، كأنهم يقولون: لو أنه خلق فيهم ذلك وعذبهم لكان ظالماً لهم، إذ كيف يعذبهم وهو الذي خلق فيهم الكفر وخلق فيهم المعاصي وأقدرهم عليها. نقول: أنتم فررتم من شيء ووقعتم في شر منه، حيث جعلتم الله مغلوباً على أمره، حيث قلتم: إنه يعصى قسراً، وإن قدرتهم تغلب قدرته؛ تعالى الله عن ذلك. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 6 المعتزلة مجوس هذه الأمة ولأجل ذلك الاعتقاد الذي هو قولهم: إن الله معه من يخلق، سموا مجوس هذه الأمة، لأن المجوس يجعلون الأمر صادراً عن خالقين: النور والظلمة، فالنور هو الذي يخلق الخير والظلمة هي التي تخلق الشر، والقدرية الذين ينكرون قدرة الله يجعلون العباد يخلقون أفعالهم مستقلين بها، ولا يجعلون لله قدرة على الهداية ولا على الإضلال. وبكل حال فعقيدة أهل السنة أن لله تعالى قدرة تغلب قدرة العباد، ولكن يثيب العباد ويعاقبهم على ما أوجد فيهم من القدرة والاستطاعة التي يتمكنون بها من مزاولة الأعمال، فثواب العباد وعقابه على طاعته، كما في قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران:182] ، {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] . فما دام أنهم أضيفت إليهم الأعمال، فلا بد أن لهم استطاعة ولهم قدرة يتمكنون بها من إيجاد الإيمان والكفر، وإيجاد الطاعات والمعاصي، ولكن كل ذلك مسبوق بقدرة الخالق تعالى وباختياره وبقهره، ولو شاء لما حصل ذلك الإثم. {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] ، فله الحجة على خلقه، فهو الذي يقدر على أن يعطي هذا الهداية منا منه وكرماً، ويخذل هذا. وهذا بحث واسع يتعلق بالقضاء والقدر، وقد أطال فيه العلماء حتى يبطلوا شبهة طائفتين: طائفة غلت في الإثبات، وطائفة غلت في النفي. فالذين غلوا في النفي نفوا قدرة الله، وهؤلاء يسمون قدرية، وهم نفاة القدر، وهم عموم المعتزلة. والذين غلوا في الإثبات يسمون المجبرة أو الجبرية، فإنهم غلوا في الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره وجعلوه كشجرة تحركها الرياح ليس له أي اختيار، وجعلوا تعذيبهم على المعاصي ظلماً من الله لهم، تعالى الله عن قولهم! وتوسط أهل السنة والجماعة وجعلوا للعبد قدرة وإرادة، والله خالقه وخالق قدرته وإرادته، وجعلوا العباد فاعلين حقيقة تضاف إليهم أعمالهم، فالعبد المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم تسند إليه هذه الأعمال، وإن كانت بقضاء الله وقدره وبخلقه وبإرداته، حيث لا يخرج شيء عن إرادة الله تعالى. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 7 قصتان لمجوسي وأعرابي مع المعتزلة قال المؤلف: [وروى عمر بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم! قال المجوسي: حتى يريد الله فقال القدري: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد! قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي! وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما!!. ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد فقال: يا هؤلاء! إن ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردها عليّ، فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت فارددها عليه! فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك! قال: ولم؟ قال: أخاف -كما أراد أن لا تسرق فسرقت- أن يريد ردها فلا ترد! وقال رجل لـ أبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال ثم عذبني؛ أيكون منصفاً؟ فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئا هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء. وأما الأدلة من الكتاب والسنة: فقد قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13] ، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] ، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] ، وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] ، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] . ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة والرضا، فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثم اختلفوا: فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية؛ فهي خارجة عن مشيئته وخلقه] . في هذه القصص التي سمعنا ما يبطل قول المعتزلة، ففي القصة الأولى مجوسي وقدري، والمجوس معلوم أنهم يجعلون الكون صادراً عن خالقين: خالق للخير وخالق للشر، وهذا المجوسي باق على مجوسيته، فهذا القدري دعاه إلى الإسلام، فقال المجوسي: لا أسلم حتى يريد الله أن أسلم، فقال ذلك القدري: الله يريد الإسلام منك، ولكن الشيطان هو الذي يريد منك الكفر، فتعجب ذلك المجوسي، وقال: هذا شيطان قوي، وقوة الشيطان غلبت قوة الله! فالله أراد أن أؤمن والشيطان أراد أن أكفر، فغلبت إرادة الشيطان إرادة الله. فخصم ذلك المعتزلي، ولو أنه قال: إن الله تعالى أراد كل شيء، فأراد منك الإيمان وأحبه منك، ولكن جعل لك قدرة وميلاً واستطاعة تزاول بها العمل، لكان ذلك أقرب أن يتقبل، فهذه لا شك أنها دالة على أن المعتزلة متذبذبين في شبهاتهم وفي حججهم. أما القصة الثانية فهي قصة صاحب البعير مع المعتزلي، وهذا من أول من أظهر الاعتزال، فأول من أظهر الاعتزال في عهد السلف هو واصل بن عطاء، وتبعه عمرو بن عبيد، فلما دعا الله ذلك المعتزلي بقوله: اللهم إنك لم ترد أن يسرق البعير فاردده، فطن الأعرابي وقال: الله أراد ألا يسرق فسرق، إذاً: لو أراد أن يرده لم يقدر، فلا حاجة لي بدعائك. الله تعالى هو الذي يريد كل شيء ولا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولكنه يقدر هذه الأشياء كما يشاء. وبكل حال فالأدلة واضحة الدلالة في أن مشيئة الله تعالى وقدرته عامة، وأنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد، فإن قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] ، أي: مشيئتكم التي تزاولون بها الأعمال مرتبطة بمشيئة الله. وقوله: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] ؛ فإضلاله لهؤلاء عدل منه، ولكنه معلوم أنه مكنهم من الأعمال، فزاولوا الأعمال السيئة من الكفر والذنوب، فعذبوا على تلك المزاولة التي صاروا بها كفاراً مقدمين للكفر ومقدمين للمعاصي، وهدى المؤمنين وأقبل بقلوبهم ومكنهم وأعطاهم قدرة يزاولون بها الطاعات والإيمان، فصاروا بذلك مؤمنين مطيعين، فعذب هؤلاء على معاصيهم وكفرهم وإن كان بقضاء وقدر، وأثيب هؤلاء على إيمانهم وطاعتهم وإن كان بقضاء وبقدر. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 8 شرح العقيدة الطحاوية [29] لقد ضل في باب القدر طائفتان وهما الجبرية والقدرية، ومنشأ ضلالهم من التسوية بين المشيئة الكونية والإرادة الشرعية، وقد نشأت لهم من ذلك تساؤلات وأوهام قد توصل بعضهم إلى الانحلال من التكاليف، وقد أجاب السلف عن تلك الشبهات ودمغوها بالكتاب والسنة. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 1 مراتب القدر من أركان الإيمان بالله: الإيمان بقضائه وقدره، فهو ركن من أركان الإيمان الستة، ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) ، وذكره الله تعالى بقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، وبقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] . الجزء: 29 ¦ الصفحة: 2 العلم والكتابة والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين: أولاً: العلم، وثانياً: الكتابة، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} ، هذا دليل على العلم، {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الأنعام:59] ، هذا دليل على الكتابة. كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) أي: أنه تعالى علم ما سوف يحدث من أول الدنيا إلى آخرها، وأثبت ذلك، وليس في ذلك صعوبة على الله، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] يعني: علمه وكتابته للأشياء قبل وقوعها يسير عليه ليس فيه صعوبة؛ لأنه هو الذي أوجد الكائنات، فلا يكون في الوجود إلا ما يريد، وحيث إنها تكون بإرادته سبحانه وتعالى، فإنها كذلك كائنة بعد خلقه وبعد إيجاده لها، فهو علمها قبل أن توجد وأثبتها في اللوح المحفوظ كما أخبر بذلك. وقد كان غلاة القدرية قديماً ينكرون هذا النوع ويقولون: إن الله لا يعلم بالأشياء حتى تقع، وبعضهم يقول: إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، بمعنى: أنه لا يعلم مفردات الأشياء وإن كان يعلم عموماتها، وقد ورد في حديث: (أن ثلاثة من أهل مكة اجتمعوا في مكان فقال بعضهم: أترون أن الله يسمع ما نقول، فقال الثاني: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا، وقال الثالث مستنكراً: إن كان يسمع جهرنا فإنه يسمع سرنا، فأنزل الله تعالى قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت:22-23]-يعني: أهلككم- {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23] ) فهكذا ظن هؤلاء الذين يظنون أن الله لا يعلم أعمالهم، أو أنه يخفى عليه شيء من أحوالهم، أو أنهم يكونون في مكان أو موضع لا يراهم ربهم أو نحو ذلك. وفائدة العبد إذا آمن بأن الله عالم بسره وعالم بنجواه، وعالم بأحواله، وعالم بما هو عامل، وإذا علم وآمن بأنه قد كتب أعماله قبل أن يوجده، وقد كتب ما هو كائن، ويعلم ما توسوس به نفسه، ويتحدث به قلبه؛ لا شك أن فائدة ذلك أنه يخاف الله حق الخوف، فإن من علم أن أعماله محصاة عليه، وعلم أنها مكتوبة لا تضيع؛ دقيقها وجليلها، كبيرها وصغيرها، وأنه سوف يحاسب عليها، وأنه سيوقف عليها كما في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] ؛ فإنه سيخاف الله. فهذه درجة من درجات القدر، وهي الإيمان بأن الله عالم بالأعمال وبالمخلوقات، وعالم بعددها، وكتب ذلك وأثبته قبل أن توجد المخلوقات بأسرها، وأنه لا يحدث إلا ما علم الله أنه سوف يحدث، في الوقت الذي قدر أنه يحدث فيه دون تقدم أو تأخر. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 3 الإرادة والخلق وأما الدرجة الثانية فهي الإيمان بإرادة الله تعالى وبخلقه، هذه الدرجة تتضمن أن الله أراد ما في الكون وخلقه. والإرادة عامة لا يكون شيء في الوجود خارجاً عنها، وهي الإرادة الكونية القدرية التي بمعنى المشيئة، فلهذا يقول المسلمون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلا يكون في الوجود حركة إلا بإرادة الله ومشيئته، ولا يكون لإنسان حول إلا بإذن الله، ولا يكون له قوة ولا قدرة ولا استطاعة على أمر من الأمور إلا بالله تعالى، فما شاءه كان وإن لم يشأ العباد، وما شاءه العباد لا يكون إذا لم يشأ الله كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أبيات له: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن فيؤمن العبد بأن ما شاء الله كان وإن لم يشأ الخلق، وما لم يشأ الله لم يكن وإن شاء الخلق، ومصداق ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعون بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) ، ومع ذلك فإنا إذا آمنّا بكتابة هذه المخلوقات وبإيجاد الله لها، لم يكن ذلك عذراً لنا في ترك الأعمال، بل يزيدنا ذلك نشاطاً في العمل وجداً واجتهاداً، وما ذاك إلا أننا خلقنا للعمل، وأعطينا من القوة ما نستطيع به مزاولة الأعمال. فهذا هو الجمع بين كون الله تعالى خالق ما في الوجود، وأنه يريد ما في الكون، وبين كونه أراد من العباد أفعالهم التي هي الطاعة والإيمان، أراد ذلك ديناً وشرعاً وأمرهم بما هم قادرون على امتثاله، وأعطاهم من القوة ما يزاولون به تلك الأعمال وما يصح أن تنسب إليهم، ويثابون عليها ويعاقبون عليها، فعلى هذا يجتمع إيمان أهل السنة بما ذكرنا، ويكون هذا من السر الذي لا يعلم كيفيته إلا الله، كما تقدم لنا أن القدر سر الله تعالى في خلقه. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 4 التسوية بين المشيئة والمحبة هي منشأ الضلال في القدر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة وبين: المحبة والرضا، فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثم اختلفوا: فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً. وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه. وقد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة، أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب فقد تقدم ذكر بعضها. وأما نصوص المحبة والرضا فقال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] ، وقال تعالى عقب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38] . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) ، وفي المسند: (إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) ، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) . فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، فالأول للصفة والثاني لأثرها المترتب عليها، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره؛ فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي هي بمشيئتك أيضاً، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك، فعياذي بك منك، فعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك. فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته] . الجزء: 29 ¦ الصفحة: 5 الفرق بين المشيئة والإرادة يقول: إن الذين ضلوا في هذا الباب سووا بين المشيئة والإرادة، والصحيح أن بينهما فرقاً: فإن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة شرعية وإرادة قدرية. فالإرادة القدرية هي بمعنى المشيئة، والإرادة الشرعية بمعنى المحبة، فالله تعالى أراد الطاعات شرعاً وأحبها، وأراد المعاصي كوناً وكرهها ولم يحبها، ولكنه قدرها وأرادها وشاءها، ولو لم يشأها لم تكن، ولكنه ما رضيها ولا أحبها، بل كرهها وتوعد عليها ولو كانت بمشيئته وبقدرته وبإرادته الكونية حتى لا يكون في الوجود ما لا يريد، وحتى لا يعصى ربنا قسراً عليه. فنعرف بذلك أن هناك فرقاً بين المشيئة والإرادة، أي: الإرادة الشرعية، فالإرادة الشرعية هي كونه تعالى يريد الطاعات، يعني: شرعها وأرادها وأحبها. وقد ذكر الله هذه الإرادة في مواضع كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، فهذه إرادة شرعية، وكذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} [النساء:26] {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28] ، فهذه الإرادات شرعية. نقول: إن الله تعالى أراد الطاعات شرعاً، فأراد من الخلق كلهم الإيمان شرعاً، وأراد منهم الطاعات، فأراد منهم أن يصلوا، وأراد منهم الصيام، والصدقات، والزكوات، والجهاد، والحج، والعمرة، والذكر، والقراءة، والبر والتقوى، أراد هذا منهم شرعاً، وأحب هذه الطاعات، وأراد منهم ترك المعاصي شرعاً، وكره منهم تلك المعاصي؛ فهذه إرادة شرعية وهي تستلزم المحبة للمراد. فإذا شرع الله شيئاً وأراده شرعاً فإنه يحبه ولو لم يكن، فيحب الإيمان من الخلق كلهم ولو لم يحصل إلا من بعضهم، ويحب الصلوات من الناس كلهم ولو أن بعضهم ما حصلت منه الصلاة، ويحب الصوم، ويحب الصدقات، ويحب الجهاد، ويحب التوبة، ويحب الاستغفار، ويحب الأذكار، ويحب التلاوة، يحب ذلك منهم وقد أراده شرعاً، ولكنه لم يحصل إلا من البعض وهم المسلمون المؤمنون. فهذه إرادة شرعية، وهي التي ذكرنا أن الله تعالى يحب ما يترتب عليها، ولكنها لا تستلزم وجود المراد، فقد يريد شرعاً أمراً ولكنه لا يحصل لكونه ما أراده قدراً، فمثلاً: أراد من الكفار الإيمان شرعاً ولم يرده قدراً، فلذلك لم يحصل، وأراد من العصاة أن يطيعوه ولكنه لم يرده قدراً ولم يشأه، فلذلك لم يحصل، هذا معنى الإرادة الشرعية. أما الإرادة الكونية: فهي التي لا بد أن يقع مرادها، وقد ذكرت في آيات كثيرة كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ} [الأنعام:125] {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام:125] ، فهذه إرادة كونية، أي: مكتوبة في الكون وفي الأزل، وهي القدرية، وهي التي يقع المراد بها، وإن لم يكن محبوباً، فليس كل ما يريده الله من هذه الكائنات يكون محبوباً، فلذلك نقول: إنه أراد المعاصي كوناً ولكنه لا يحبها، وأراد الكفر كوناً ولكنه لا يحبه ولم يرده شرعاً، ومع ذلك لو لم يشأه لما حصل، فإنه لا يكون في الوجود إلا ما يريد ولمّا لم يحبه ولم يأمر به شرعاً بل كرهه، كان مترتباً عليه العقاب! الجزء: 29 ¦ الصفحة: 6 القدرية والجبرية لا يثبتون إلا الإرادة الكونية هذا هو المراد بكونه سبحانه لا يكون في الوجود إلا ما يريد؛ ولكن غلا في هذه الإرادة قوم ونفاها قوم، وتقابل الطرفان والطائفتان، فطائفة جبرية جعلوا كل الموجودات مخلوقة لله ولم يجعلوا للإنسان أي تصرف، بل جعلوه مجبوراً ليس له أي اختيار، وقالوا: إن عقوبته على المعاصي ظلم، حيث إنه مقسور ومجبور عليها؛ فهذه الطائفة هم الجبرية. والطائفة الثانية التي قابلتهم: هم نفاة القدر أو نفاة قدرة الله، وهم الذي يقولون: ننزه الله عن الظلم فنقول: إنه لو خلق هذه المعاصي وعاقب عليها لكان ظالماً، فهذه الطائفة غلت في النفي فقالت: إن أعمال العباد ومعاصيهم وطاعاتهم ليست من خلق الله، بل من خلقهم ومن إيجادهم، وإن العباد هم الذي يوجدون أفعالهم، فهذه الطائفة غلت في النفي، وجعلت الإنسان يخلق فعله، ونفت أن يكون لله أي قدرة على أفعال العبد، وزعموا بذلك أنهم أهل العدل والتوحيد. وكلا الطائفتين ضال؛ فالطائفة الأولى جعلت القدر عذراً للعصاة، حيث إنهم يقولون: كيف يخلقنا ويخلق فينا المعاصي ثم يعاقبنا عليها؟ والطائفة الثانية: جعلت مع الله من يخلق، وجعلت كل إنسان خالقاً مستقلاً بأفعاله، وكذبت الأدلة التي تثبت أن الأمر بيد الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 7 مذهب أهل الحق في خلق أفعال العباد وتوسط أهل الحق وقالوا: إن الكائنات حاصلة بقدرة الله كلها طاعات ومعاصي، ولكن تنسب إلى العبد من حيث إن الله أعطى العبد قدرة يزاول بها الأعمال ويصح نسبتها إليه؛ ولأجل ذلك يقولون: إن العباد فاعلون حقيقة والله خالقهم وخالق أفعالهم، فالعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم؛ تنسب أعماله إليه وإن كانت بقضاء الله تعالى وبقدره، وبإرداته الكونية، وبمشيئته التي حصلت بإرادة الله، ولكنها تنسب إلى العبد. ولو سلبنا العبد هذه القدرة لبطلت الشريعة، وفي بطلان الشريعة بطلان الحكمة من إرسال الرسل ومن إنزال الكتب، ومن الأوامر والنواهي، ومن خلق الثواب والعقاب، والله تعالى منزه عن ذلك. فلو لم يكن للعباد قدرة على مزاولة أعمالهم لما أمروا؛ ولأجل ذلك تتوجه إليهم الإرشادات فيقول الله تعالى: {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [التوبة:105] ، فأخبر بأنهم لهم أعمال، ولو لم يكن لهم قدرة لما أمروا، ولكن الله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم، وقدرتهم مسبوقة بقدرة الله. أما أدلة الرضا فقد مر بنا الآيات والأحاديث في إثبات أن الله تعالى يرضى ويسخط، وللرضا والسخط أسباب ذكر في هذه الآيات بعضها، فتارة يثبته وتارة ينفيه، يقول الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] ، فأخبر بأنه لا يرضى الكفر، ومعناه أنه يكرهه، وأخبر بأنه يرضى بالشكر {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] ، وأضاف هنا الكفر إليهم؛ لأنه الذي صدر بأفعالهم وإن كانت مقدرة، والشكر إليه تشكره، وهكذا الحديث: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط ثلاثاً) ، فأثبت الرضا وأثبت السخط، وأثبت الكراهية: (وكره لكم ثلاثاً) ، أثبت أن هذه المعاصي يكرهها الله. ومعلوم أنه نهى العباد، وما نهاهم إلا ولهم قدرة على الانتهاء، وعلى أن ينزجروا ويتركوا الأعمال السيئة التي منها الكفر. والحاصل: أن من عقيدة أهل السنة إثبات أن الله يرضى ويسخط ويحب ويكره، وأن الأعمال التي يحبها قد أمر بها عباده، وما أمرهم إلا وهم قادرون، وأن الأعمال التي نهى عنها يسخطها ويكرهها، ولا ينهاهم إلا عن شيء يقدرون على فعله، فإن العاجز لا يُنهى عما يعجز عن فعله، فلا يقال مثلاً للإنسان: لا تحي الموتى؛ لأنه عاجز عن إحيائهم فلا ينهى عنه، ولا يقال له: لا تصعد إلى السماء؛ لأنه عاجز عن أن يصل إلى السماء، ولا يقال له مثلا: ً لا تخرق الأرض؛ لأنه عاجز عن أن يخرقها، بخلاف ما إذا قيل له: لا تقتل النفس التي حرم الله، فإنه في إمكانه أن يقتل، وكذلك: لا تزن أو لا تأكل الحرام فلا ينهى إلا عن شيء هو قادر على أن يفعله. وهكذا أيضاً الأفعال: لا يؤمر بشيء مستحيل، فلا يقال له مثلاً: رد أمس، ولا يقال له: اقلب الحجر ذهباً، فلا يؤمر بشيء لا يستطيعه، بخلاف ما يستطيعه، فيقال له مثلاً: احمل هذا الكرسي أو: انقل هذا المصحف من مكان إلى مكان، أو يقال له: قم واركع ركعتين، لأن هذه في استطاعته، فيؤمر بما يستطيع وينهى عما هو ممكن أن يفعل، ولا يؤمر بالمستحيل أن يفعله ولا ينهى عن الشيء الذي يستحيل فعله. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 8 حكمة الله في خلقه ومشيئته لما يكرهه ولا يرضاه قال المؤلف: [فإن قيل: كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكونه؟ وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟ قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقاً وتباينت طرقهم وأقوالهم، فاعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته، وما فيه من الخير فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد. والمراد لغيره قد لا يكون مقصوداً للمريد ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده؛ فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما. وهذا كالدواء الكريه إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه. بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف بمن لا يخفى عليه خافية، فهو سبحانه يكره الشيء، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره وكونه سبباً إلى أمر هو أحب إليه من فوته، من ذلك: أنه خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى تترتب على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها: منها: أنه تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذا الذات التي هي أخبث الذوات وشرها وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبرائيل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك خالق هذا وهذا! كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والداء والدواء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر. وذلك من أدل دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض، وجعلها محال تصرفه وتدبيره، فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته. ومنها: ظهور آثار أسمائه القهرية مثل: القهار، والمنتقم، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع الحساب، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذل؛ فإن هذه الأسماء والأفعال كمال لا بد من وجود متعلقها، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء] . الجزء: 29 ¦ الصفحة: 9 ابتلاء المؤمنين بمجاهدة الشرور وبغض أهلها نعم هذا الاعتراض كثيراً ما يردده العصاة ويقولون إذا نصحناهم عن المعصية: إن الله ما هدانا، إن الله قدر هذا علينا، لو أنه هدانا لما خرجنا عن الطاعة، نتوقف حتى يهدينا الله، فيستمرون في المعاصي ويحتجون بمثل هذه الحجج. ويقول بعضهم: كيف يقدر علينا أن نكفر أو نفسق أو نعصي، ثم مع ذلك يعاقبنا ويعذبنا، لو كان يعذب على ذلك ما قدره ولا أوجده ولا أراده كوناً وقدراً! فدائماً يحتجون بهذه الأمور المقدرة، ونقول: صحيح أن الله أرادها كوناً وأنه قدرها، وأنه لو شاء لما حصلت، ولكن لا يلزم من إرادته لبعضها أنه يحبها، فهو أراد الكفر كوناً وهو يكرهه ويكره أهله شرعاً، وأراد الطاعات وهو يحبها وإن لم تحصل من البعض، فالكائنات التي أرادها وقدرها وخلقها حتى ولو كانت كفراً ومعصية وبدعة ونحو ذلك، ولكن هذه الإرادة لغرض خفي، قد لا نتفطن له. وفي كلام الشارح أن المرادات إما أن تكون مرادة لنفسها وإما أن تكون مرادة لغيرها، فالإيمان، الطاعة، السنن، الصالحات، الحسنات، وسائر الطاعات مرادة لنفسها، أرادها الله من المؤمنين وحصلت لأنه يحبها، وأما المعاصي فإنه أرادها ولكن لغيرها ولم يردها لذاتها، وإنما أرادها لمصلحة قد تظهر وقد تخفى على البعض. وقد ذكر الشارح بعض الحكم في إيجاد هذه المخلوقات الشريرة، وكذلك في إيجاد المعاصي وإرادة المعاصي، وتقدير الكفر والبدع وفشوها وانتشارها وما أشبه ذلك، فمن ذلك أنه شاء هذه الأشياء كوناً وقدرها حتى يمتحن ويبتلي عباده المؤمنين بمجاهدتها وببغضها وببغض أهلها، وبمعرفة ما يجب عليهم نحوها، فلو كان الناس كلهم مؤمنين ما حصل بغض في الله، ولو كان الناس كلهم مؤمنين ما حصل جهاد في سبيل الله، ولو كان الناس كلهم مؤمنين ما حصل البراء، وهو أن نتبرأ من الكفار ونحوهم. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 10 إظهار كمال قدرة الله تعالى ثم أيضاً من حكمة الله في إيجاد هذا الكفر إظهار قدرة الله، فالله تعالى قد أظهر قدرته العامة ووجدت آثارها، فمن آثارها عقوبات العصاة وما أنزل بهم من المثلات، ولو كان الناس كلهم مؤمنين ما أغرق هؤلاء، ولا أهلك هؤلاء بصيحة، ولا أرسل على هؤلاء الريح العقيم، ولا أهلك هؤلاء بعذاب يوم الظلة، ولا كذا ولا كذا. فمن حكمة الله في إيجاد ذلك أن تعرف قدرة الله، حيث إنه ينتقم ممن عصاه ويعاقبه ويعجل له العذاب في الدنيا، ليكون ذلك دليلاً على العذاب في الآخرة، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لما كان في الآخرة إلا دار واحدة وهي الجنة، ولكنه تعالى قدر في الدنيا معاصي حتى يكون للدار الآخرة نصيب، فإنه خلق الجنة والنار، وهما صنوان، كما خلق في الدنيا الخير والشر، والإيمان والكفر، وكذلك سائر المتضادات، فجعل في الدنيا أضداداً وأزواجاً، وكل واحد مضاد للآخر، فمثلا الليل يقابله النهار، والنور تقابله الظلمة، والخير يقابله الشر، والذكر يقابله الأنثى، والبياض يقابله السواد مثلاً. كذلك الطاعة مع المعصية، والكفر مع الإيمان، والعقوبة مع الثواب، والوعد مع الوعيد، فخلق الضدين دليل على كمال القدرة، فإذا رأى العبد خلق المتضادات آمن بكمال قدرة القادر حيث خلق هذه الأشياء. ثم مع ذلك نحن نؤمن بأنه ما خلق شيئاً إلا وله فيه حكمة، ولا يجوز أن نعترض على الله بخلقه لشيء من مخلوقاته. سمعت أو قرأت حكاية أن إنساناً رأى دابة الخنفساء فقال: لماذا خلق الله هذه الخنفسة التي لا فائدة فيها، وليس لها خلق جميل أو نحو ذلك؟ فاعترض على الله في خلقها، فابتلي بقرحة خرجت فيه، ولم يوجد لها علاج إلا خنفساء أحرقت وذر عليها رمادها فبرأ، فعرف بذلك أن الله ما خلق شيئاً إلا وله حكمة في ذلك، فلا يجوز أن تقول: ليس الله من خلق السباع، ليس الله من خلق هذه الحيات، ولا هذه الهوام التي ليس فيها إلا مضرة على العباد. نقول: إنه خلقها لتعلم بذلك قدرته، ويعلم أنه قادر على خلق الأضداد، وليكون ذلك أيضاً آية من آياته: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد فهذه المخلوقات كبيرها وصغيرها دالة على كمال قدرته، إذا تأملها الإنسان عرف بذلك كمال قدرة القادر، مع أن مخلوقاته لا تحصى دواب البر من طيور ومن دواب تدب على الأرض لا يحصيها إلا الله تعالى، وفي خلقها عجائب من عجائب الله. دواب البحر مع كثرتها وتفاوتها وما أشبه ذلك؛ فيها عجائب من قدرة الله تعالى، فخلقها ليس عبثاً، حتى البعوضة والنملة والذرة ونحو ذلك من الدواب الصغيرة خلقها وله في ذلك حكمة , ولو كان على الناس مضرة من هذه السباع التي تأكل دوابهم، أو من هذه الحيات والهوام ونحوها، أو من هذا الذباب الذي يقع على طعامهم أو عليهم، أو من هذا البعوض الذي يقرصهم أو نحو ذلك، فإن الله تعالى حكيم. وأيضاً فإنه له الحكمة حتى فيما يجلبه من الأمراض ونحوها، فهذه الأمراض التي يسلطها على من يشاء لا يجوز أيضاً أن يعترض على الله بها، ولا يقال: ليس الله من خلق الحمى ولا من خلق المرض، بل الله له الحكمة في خلقه وفي أمره. وبكل حال: فإن هذه الأشياء مرادة، ولكن لأجل الحكمة ولأجل إظهار القدرة وكمالها. فيقال أيضاً: كذلك في الحكمة في خلق إبليس، والحكمة في خلق أعوان إبليس الذي هو مادة الشر ونحوه، والحكمة من خلق الكفار وانتشارهم، وكذلك في تقويتهم وإمدادهم بالقوات وبالذخائر ونحو ذلك، والحكمة مثلاً في تمكينهم من الأعمال التي عملوها، ومن تسليطهم أحياناً على المؤمنين؛ لا شك أن الله تعالى له الحكمة في ذلك، فلا يعترض على الله، بل يؤمن العبد بأنه هو القادر على كل شيء، وأن ذلك دليل على كمال قدرته وتمام تصرفه. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 11 ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة قال المؤلف: [ومنها: ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك. فلو قدر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب، وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر. ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت؛ فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة لله سبحانه وتعالى والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى وإيثار محاب الله تعالى، وعبودية التوبة والاستغفار، وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه، إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها] . يعني: من الحكمة في أنه أوجد المعاصي والطاعات، وأوجد في الدنيا عصاة ومطيعين، وأوجد أسباباً يتمكن بها البعض من مزاولة المعاصي أو تكون سبباً لانتشار بعضها، وبعضها تكون سبباً في الطاعات ونحوها، ويطول البحث فيها. فمثلاً: العصاة أسباب معاصيهم كثيرة، فمنها الشهوات التي تتزين لهم، ومنها الدنيا التي تبسط على كثير منهم فيتمادون في المعصية، ومنها الهوى الذي يميل بكثير منهم، ومنها دعاة الضلال الذين يدعون إلى الباطل ويزينونه، ومنها وساوس الشيطان التي هي سبب للضلال والكفران ونحو ذلك. كذلك أيضا أسباب الطاعة التي منها إرسال الرسل ودعاتهم، ومنها قراءة كتب الله، وما يكون بها من الاهتداء، ومنها دعوة المؤمنين إخوانهم إلى الله وترغيبهم في الخير وتعليمهم إياه، وذكر الطرق التي يتوصلون بها إلى الطاعات ونحو ذلك، فوجد في الحياة الدنيا طاعات ومعاص، ووجد فيها كفر وإيمان، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لما ظهرت آثار أسماء الله. فمن أسماء الله العزيز، الجبار، المنتقم، شديد العقاب، هذه الأسماء لو لم يكن هناك من يُعاقَب لم يظهر أثر اسم الله شديد العقاب، فلو كان الناس كلهم مطيعين ما حصل أنه ينتقم من العاصي ولا حصل أنه يعاقب الباغي، فهذه من أسماء الله الحسنى، والتي تدل على كماله، فمن حكمة الله في إيجاد المعاصي ظهور آثار هذه الأسماء. من أسماء الله: الرءوف، الرحيم، المعطي، المتفضل، ولو كان الناس كلهم على الإيمان الكامل ما حصل أنه رحم هؤلاء وعفا عن هؤلاء، وغفر لهؤلاء وتاب على هؤلاء؛ فإنه ليس هناك معاص ليتوب هذا منها، ولا يستغفر هذا منها فيغفر له، ونحو ذلك كما في الحديث: (من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) ، ولو كان الناس كلهم مطيعين ما حصلت آثار ذلك. كذلك أيضاً من أسمائه الحكيم، والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، فلو كان الناس كلهم مطيعين ما حصلت آثار الحكمة، فمن حكمته أنه يعاقب هذا عقوبة في موضعها، ومن حكمته أنه يثيب هذا، من حكمته أن يعطي هذا ويمنع هذا، ويرفع هذا ويخفض هذا، ويعز هذا ويذل هذا، ونحو ذلك، فلا بد أن تظهر آثار هذه الأسماء، فقدر الله وجود هذه المعاصي حتى تظهر آثار هذه الأسماء التي هي من أسماء الله تعالى الحسنى. هذا الكلام ونحوه استنبطه العلماء من وجود الطاعات والمعاصي، وكون الناس كلهم ليسوا على إيمان ولا على كفر، بل فيهم مؤمن وكافر، ومطيع وعاص، فقالوا: إن آثار هذه إنما ظهرت بوجود من يتوب الله عليهم بعد أن كانوا عصاة فالله هو التواب، ويقبل توبة عبده ويفرح بها. كذلك هؤلاء يستغفرون فيغفر لهم، والله تعالى غفور رحيم، وهؤلاء يرحمهم ويتجاوز عنهم، والله غفور رحيم، وغير ذلك من الحكم في أسماء الله تعالى. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 12 الشرور المرادة لله نظراً لما تفضي إليه من الحكمة هل تكون محبوبة له من هذا الوجه؟ قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟ فهذا سؤال فاسد! وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب. فإن قيل: فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم؛ فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟ قيل: هذا السؤال قالوا يرد على وجهين: أحدهما: من جهة الرب تعالى، وهل يكون محباً لها من جهة إفضائها إلى محبوبه وإن كان يبغضها لذاتها؟ والثاني: من جهة العبد وهو أنه هل يسوغ له الرضا بها من تلك الجهة أيضاً؟ فهذا سؤال له شأن. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 13 الشر يرجع إلى عدم الخير وهو من هذه الجهة شر لا من جهة وجوده المحض فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم، أعني: عدم الخير وأسبابه المفضية إليه، وهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه؛ مثاله: أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها، فإنها خلقت في الأصل متحركة، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه، وحركتها من حيث هي حركة خير، وإنما تكون شراً بالإضافة لا من حيث هي حركة. والشر كله ظلم، وهو وضع الشيء في غير محله، فلو وضع في موضعه لم يكن شراً، فعلم أن جهة الشر فيه نسبية إضافية، ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيراً في نفسها وإن كانت شراً بالنسبة إلى المحل الذي حلت به، لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له، فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه في موضعه. فإنه سبحانه لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات، فإن حكمته تأبى ذلك، فلا يمكن في جناب الحق تعالى أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه لا مصلحة في خلقه بوجه ما؛ هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شراً فتأمله! فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً. فإن قيل: لم تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة؟ قيل: هو من هذه الجهة ليس بشر، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير] . الجزء: 29 ¦ الصفحة: 14 كل ما أوجده الله فهو خير بالنسبة إليه تعالى هذا الاعتراض الذي يعترض به بعض غلاة القدرية على خلق الله تعالى للشرور وللأشرار، قد يعترض بذلك فيقال: لماذا خلق الله إبليس مع أنه كله شر؟! ولماذا خلق الله الكفرة والمشركين الذين ليس فيهم خير، بل هم شر وجودهم ضرر على المسلمين؟! ولماذا خلق الله أو أوجد هذه المعاصي والأسباب التي يستعان بها عليها؟ لماذا وجدت المسكرات مثلاً وما يتصل بها؟! ولماذا وجدت العاهرات والفاسقات؟! ولماذا وجد المفسدون الذي يعيثون في الأرض فساداً؟! ولماذا وجدت المعاصي؟! قد يعترضون ويقولون: هذا شر، فكيف أوجده الله وكيف أراده وكيف خلقه، مع أنه لا يحصل به إلا شر وضرر على الأمم الدينية، فيتضررون بوجود هؤلاء الكفار حيث إنهم يصدونهم عن الهدى، ويحاولون ردهم إلى الكفر وإخراجهم من ملة الإسلام، ويلقون عليهم الشبهات والشكوك، ويظهرون الفساد والمعاصي ونحو ذلك، فلماذا أوجدوا ولماذا خلقهم الله، ولماذا مكنهم الله؟! أليس في هذا إعانة على المعاصي؟ أليس في هذا تمكين للعصاة وتقوية لشأنهم؟ هذا خلاصة هذا الاعتراض على حكم الله سبحانه وتعالى. وقد تقدم أنه سبحانه خلق الجنة والنار، فمن حكمته أن جعل داراً للثواب وداراً للعقاب، فلا بد أن لهذه من يسكنها ولهذه من يدخلها، حكمة الله لا بد أن تتم لذلك، فلما كان كذلك لم يكن بد من أن يكون الخلق فريقين: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] . وتقدم أن من أسماء الله تعالى الذي سمى بها نفسه وامتدح بها، أسماء تدل على مثل هذه الأفعال، كاسمه المنتقم، واسمه الجبار، واسمه العزيز، وذي القوة المتين، وكذلك أسماؤه المزدوجة مثل: الخافض الرافع، المعز المذل، المعطي المانع، فلا بد أن تظهر مدلولات هذه الأسماء، ولا تظهر إلا إذا وجد من يذلهم الله ومن يمنعهم ومن يخفضهم. ولا بد أن يوجد من يقهرهم باسمه القهار، ومن يقدر على عقوبتهم بموجب اسمه القادر، ومن يرحمهم ويغفر لهم بموجب اسمه الغفور الرحيم، ولو كان الناس كلهم أتقياء بررة لم تظهر آثار أسمائه: الغفور الرحيم، وهكذا بقية أسماء الله سبحانه وتعالى. بعد ذلك الجواب عن هذا الاعتراض، والجواب أن نقول: كل ما أوجده الله وأراده فإنه خير بالنسبة إلى الله تعالى وإن كان شراً بالنسبة إلى العبد الذي صدر منه ذلك الشر، وذلك لأن الله تعالى ما أوجده إلا لمصلحة، وهي الاختبار والابتلاء للعباد، ولكي يظهر من يصبر ومن يجزع، ومن يطيع ومن يعصي، ويظهر من يمتثل ومن يأبى، ولكي يظهر من يكون صالحاً أو يكون فاسداً. هذا من اختبار الله لعباده، فهو سلط عليهم هؤلاء الأعداء، فسلط عليهم إبليس الرجيم حتى يكون منهم مقاومة وشدة تمسك رغم ما يلقيه من الدعوات إلى الفساد وإلى المعاصي، فيثابون ويزداد ثوابهم إذا تمسكوا، كذلك سلط عليهم الشهوات التي تدفعهم إلى المحرمات، وأظهرها أمامهم فتنة، فيثبت الله أولياءه ويخذل أعداءه، فالذي يستمسك بالدين ويصبر عليه هو الذي يعظم ثوابه، وهذا أيضاً يصدق على المصائب التي تحصل للعباد، وقد يكون حصولها للأتقياء أكثر من حصولها للفسقة ونحوهم، فالمصائب التي ذكرها الله تعالى بقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة:155] ، هذه قد يكون الابتلاء بها للمؤمنين أشد. الكفار قد يمتعون بالقوة ويمتعون بالأموال ونحو ذلك، كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا} [سبأ:35] ، فهذا الابتلاء الذي يبتلي الله تعالى به المؤمنين ليكون أعظم لأجرهم إذا صبروا واحتسبوا، فهكذا خلقه لهذه الشرور ليكون أعظم للأجر، فإذا عرف العبد أنه قد سلط عليه الأعداء فصبر عد مجاهداً غاية الجهاد، فهو يجاهد الشيطان الرجيم الذي يسول له ويوسوس له، وهو يجاهد النفس الأمارة بالسوء التي تتخيل له دائماً وتدفعه، وهو يجاهد الهوى الذي يعمي ويصم، وهو يجاهد الشهوات التي تتجلى له وتندفع نفسه إليها وتتزين له، ولكنه يمسك نفسه ويقمعها، فيعتبر بذلك مجاهداً غاية الجهاد. وهو يجاهد قرناء السوء وجلساء السوء الذين يدفعونه إلى الشرور ويدعونه إليه، هذا يدعوه إلى زنا، وهذا يدعوه إلى ربا، وهذا يدعوه إلى شرك، وهذا يدعوه إلى غش، وهذا يدعوه إلى تكاسل عن عبادة، وهذا يدعوه إلى شرب مسكر، وهذا يدعوه إلى كذا وإلى كذا، ولكنه يمسك زمام نفسه ويجاهد هؤلاء الدعاة، ويرد عليهم دعايتهم، فلو كان الناس كلهم مفطورين على الإسلام ما ظهر هذا الجهاد، زيادة على الجهاد الحسي الذي هو جهاد الكفار الذي أمر الله به وأكده وكرر ذكره بعدد من الآيات. لا شك أن الإنسان متى قاوم هذه المقاومة وصبر هذه المصابرة، فإنه يعد ناجحاً في هذا الابتلاء والاختبار، ويعد مثاباً غاية الثواب، فيجزل الله له الأجر على ذلك فهذا من حكمة الله! إذاً: فلا يعترض على الله ولا يقال: لماذا سلط الأشرار؟ ولماذا قواهم؟ ولماذا أعطاهم الدنيا، وأعطاهم النعم، وأعطاهم العدد والعدة ونحو ذلك؟ لا يعترض على الله بشيء من ذلك، كما لا يقال: لماذا خلق الله إبليس؟ ولماذا خلق الله هذه الشهوات المحرمة؟ ولماذا أوجد الله هذه المسكرات وهذه المخدرات وما أشبهها؟ لا يعترض على الله تعالى، لأنه أوجد ذلك ليظهر من يصبر ممن يجزع، وليظهر من يقوى على نفسه ومن لا يقوى، فيثاب هذا على مقاومته، ويعرف بذلك عدم صبر هؤلاء الذين لم يصبروا على قمع نفوسهم الأمارة بالسوء، فلله تعالى الحكمة في ذلك. فهو خير بالنسبة إلى خلق الله تعالى وإيجاده، وشر بالنسبة إلى فعل العبد، فالعبد مثلاً إذا زنا قيل: هذا الزنا شر، حيث إنه صدر منه، ولكن الله تعالى هو الذي قدر ذلك وأحدثه، فهو خير بالنسبة إلى إيجاد الله تعالى، حيث إنه اختبر العباد بذلك وجعل أسبابه ظاهرة. كذلك العبد إذا سكر مثلاً، والمرأة إذا تبرجت وتجملت وفعلت ما لا يحل لها فعله عند الأجانب، والرجل إذا تعاطى غشاً في معاملة أو غصباً أو سرقة أو اختلاساً أو ما أشبه ذلك. كذلك إذا سولت له نفسه ترك الصلوات أو تخلفاً عن جماعات أو ما أشبه ذلك من ترك الطاعات؛ فالله تعالى هو الذي قدر أسباب ذلك، ولكنه جعل ذلك اختباراً للعباد وابتلاءً لهم، ليظهر بذلك أهل طاعته الذين أراد الله بهم الخير فقويت نفوسهم وأعطاهم قوة، والذين خذلهم وخلى بينهم وبين نفوسهم، وقوى عليهم أعداءهم فلم يتمكنوا من مقاومة أولئك الأعداء، فأصبحوا من الخاسرين. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 15 إيضاح أن خلق الشرور ليس شراً بالنسبة إلى الله قال المؤلف: [فإن أردت مزيد إيضاح لذلك، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد والإعداد والإمداد، فإيجاد هذا خير وهو إلى الله، وكذلك إعداده وإمداده، فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل وإنما إليه ضده. فإن قيل: هلا أمده إذ أوجده؟ قيل: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده، فإيجاده خير والشر وقع من عدم إمداده. فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها؟ فهذا سؤال فاسد يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة! وهذا عين الجهل! بل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت، فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت إنما وقع لأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق وإلا فليس في الخلق من تفاوت، فإن اعتاص عليك هذا ولم تفهمه حق الفهم فراجع قول القائل: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع] . الجزء: 29 ¦ الصفحة: 16 الحكمة من تقدير الشر بخذلان المنافقين عن الخروج للجهاد قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: كيف يرضى لعبده شيئا ولا يعينه عليه؟ قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46] . فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله وهو طاعة، فلما كرهه منهم ثبطهم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي كانت تترتب على خروجهم مع رسوله، فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47] أي: فساداً وشرّاً، {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة:47] أي: سعوا بينكم بالفساد والشر، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] أي: قابلون منهم مستجيبون لهم، فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه. فاجعل هذا المثال أصلاً وقس عليه] . يكثر إيرادات هؤلاء المجبرة، وهم الذين يعذرون العبد على فعل المعاصي ويزعمون أن له عذراً في ذلك، حيث لم يكن له اختيار ولا قدرة على أية مزاولة، فيكثرون من إيراد مثل هذه الشبهات، فيقولون مثلاً: كيف يريد الله هذه المعاصي وهو يكرهها؟ فيقال: الله تعالى أرادها كوناً وكرهها شرعاً، ويقولون: كيف لا يسوي بين عباده ما دام أنه قد خلقهم كلهم لعبادته، فكيف لا يسوي بينهم فيهديهم جميعاً ويرشدهم؟ و الجواب أنه سبحانه خلقهم ومكنهم، ولكنه علم أن فيهم نفوساً شريرة تختار الشر فخذلها، ونفوساً خيرة تختار الخير فوثقها، فله الحكمة في توفيق هذا وفي خذلان هذا، وإن كان الجميع كلهم عبيده وتحت تصرفه، وهم الذين كلفوا جميعاً بعبادته وبالإنابة إليه. وضرب المؤلف مثلاً لما حكى الله تعالى عن المنافقين في سورة التوبة في قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:46-47] ، هؤلاء ممن كانوا أسلموا ولكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم، لا شك أن الله تعالى خذلهم وخلى بينهم وبين أهوائهم وشهواتهم، ولم يوفقهم لما وفق إليه صفوته وخيرته من خلقه من المهاجرين والأنصار الذين اصطفاهم والذين مكن لهم في دينهم. فهؤلاء المنافقون لما كان في غزوة تبوك تخلفوا عن القتال وتخلفوا عن الخروج، وأتوا بأعذار لا فائدة فيها وليست صادقة، بل حلفوا وهم كاذبون، كما في قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96] ، {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:95-96] . فأخبر تعالى بأنهم لم يريدوا الخروج أصلاً ولم يستعدوا له، ولو كانوا يريدون الخروج ويرغبون في الغزو لأعدوا العدة ولهيئوا أنفسهم، فهم قادرون على أن يخرجوا وعندهم استطاعه وتمكن ولكنهم لم يفعلوا، فلما لم يفعلوا دل على أنهم ما أرادوه ولا أعدوا له عدة، مع أن الله تعالى هو الذي خذلهم؛ لأنه علم أن في خروجهم مفسدة كبيرة حيث إنه لا يكون منهم إلا ضرر، فلذلك كره الله خروجهم وانبعاثهم فثبطهم، أي: سكنهم وصرف أنفسهم عن الخروج لمصلحة عظيمة؛ فإنهم لو خرجوا ما زادوا المسلمين إلا خبالاً، أي: ضعفاً وتخذيلاً وتثبيطاً عن القتال وعن العدو، (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) يعني: أوقعوا فيما بين المسلمين الفتن والتشكيكات ونحو ذلك، فكان هذا من حكمة الله في أن خذلهم ولم يبعث عزائمهم إلى القتال، وبذلك يعرف أنه تعالى حكيم يضع الأشياء في موضعها اللائقة بها. فعلى المسلم أن يرضى ويسلم بما جاءه من شرع الله تعالى وأمره ودينه، وأن يعترف بأنه ما خلق إلا ما فيه مصلحة، سواء كانت مخلوقات جوهرية أو عرضية، وسواء كانت أشخاصاً أو أعراضاً وأعمالاً، كل ذلك له فيه الحكمة، فهو الحكيم العليم. وعلى الإنسان أن يلح في سؤاله لربه، وأن يكثر من الدعاء، والله تعالى قد قدر له ما هو مقدر وجعل سبب ذلك هو كثرة الإلحاح في الدعاء، فيكون سبباً من أسباب تيسير اليسرى وتجنيب العسرى، وليس مغيراً لما في قدر الله تعالى. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 17 هل يحب العبد الشر ويرضى به من جهة أنه مراد لله واقع بمشيئته قال المؤلف: [وأما الوجه الثاني وهو الذي من جهة العبد: فهو أيضاً ممكن بل واقع، فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها من حيث هي فعل العبد، واقعة بكسبه وإرادته واختياره، ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإرادته وأمره الكوني، فيرضى بما من الله ويسخط ما هو منه؛ فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان. وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً، وقولهم يرجع إلى هذا القول؛ لأن إطلاقهم للكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته. وسر المسألة: أن الذي إلى الرب منها غير مكروه والذي إلى العبد مكروه. فإن قيل: ليس إلى العبد شيء منها، قيل: هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق، والقدري المنكر أقرب إلى التخلص منه من الجبري، وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين. فإن قيل: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير، ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة؟ قيل: هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على خلاف ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر، وقال: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته! وفي ذلك قيل: أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات! وهؤلاء أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كان موافقة القدر طاعة لكان إبليس من أعظم المطيعين له، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون كلهم مطيعين! وهذا غاية الجهل. لكن إذا شهد العبد عجز نفسه ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه، وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين؛ كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال البتة، فإن عليه حصناً حصيناً من: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي) ، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال. فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه استولى عليه حكم النفس، فهنالك نصبت عليه الشباك والأشراك، وأرسلت عليه الصيادون، فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر، فبقي بربه لا بنفسه] . الجزء: 29 ¦ الصفحة: 18 شبهة من يقول: إذا خالفت أمر الله فقد وافقت مراده كثيراً ما يحتجون بأن هذه المعاصي مرادة لله تعالى، فيقول أحدهم: أنا خالفت أمر الله ولكن وافقت إرادة الله، الله تعالى أراد مني هذا الفعل وهذه المعصية. ف الجواب أن هذه الإرادة إرادة كونية، وقد أراد منك إرادة شرعية أن تطيعه، فلا تحتج بالإرادة الكونية وتترك الإرادة الشرعية، الله تعالى أراد كل ما في الكون إرادة كونية ولكنه أراد الطاعات إرادة شرعية، وهذه الطاعات التي أرادها قد تقع وقد لا تقع، لأنه خلق كل الخلق للعبادة، فمنهم من عبد ومنهم من لم يعبد، فهذه إرادة شرعية. فالذي يقول: ليس للعبد أي اختيار، نقول له: هذه مقالة الجبرية الذين يزعمون أن العبد مسلوب الاختيار أصلاً، وأنه بمنزلة الشجرة التي تحركها الرياح، ففي ذلك إبطال شرع الله وإبطال أحكامه وقضائه وقدره، والواجب على المسلم أن يعترف بشرع الله وأن يدين له بالطاعة، وأن يسلم لقضائه وقدره، ولا يرد عليه شيئاً من أمره، فبذلك يصبح مستسلماً لأمره، فأما هؤلاء الذين يقولون: إن جميع حركاتنا ولو كانت معاصي، ولو كانت غير محبوبة لله؛ فهي طاعة حيث إنها وافقت مراد الله القدري، حتى قال قائلهم في هذا البيت الذي ذكره المؤلف: أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات فهذا عين المحادة لله لأنه لا شك أن الطاعات إنما تكون بالعبادات التي فرضها، فكونه يقول: أفعالي كلها طاعات، حتى ولو كانت فجوراً وزوراً، ولو كانت كذباً، ولو كانت معاصي وكفراً وشركاً، فكيف تكون طاعات وقد حرمها الله تعالى وسماها معاصي؟! فهذه معاص بالنسبة إلى صدورها من العبد، وهي مرادة لله كوناً وقدراً، حيث إنها وقعت بخلقه وتكوينه، فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن، فإذا علم العبد أولاً أن الله تعالى أراد جميع ما في الكون كوناً وقدراً، وما هو حادث، ولكنه أحب الطاعات وكره المحرمات، وأمر بالطاعات أمراً شرعياً، ونهى عن المحرمات نهياً شرعياً، وعلم أيضاً بأن مزاولة العبد لها باختيار منه لهذا الذي اختاره إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وأن الثواب والعقاب يترتب على هذا الاختيار وعلى هذا الفعل، وعلى الجد والاجتهاد في الطاعة، أو الجد والاجتهاد في المعصية، وهو الذي يكون عليه الثواب والعقاب، فمتى علم العبد واستسلم لذلك فهو من أهل الخير. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 19 على العبد أن يستحضر أنه مكلف مختار ولا شك أن من استحضر دائماً أنه مكلف، واستحضر أن الله تعالى يوفق العبد الذي يستحضر عظمة ربه، واستحضر دائماً أنه ليس بمهمل، بل خلق للعبادة ولم يخلق هملاً ولا سدى؛ من كان كذلك وفقه الله. وإذا استحضر أيضاً أن ربه لما كلفه ولما أمره ونهاه، كان في مرأى ومسمع من ربه لا تخفى عليه منه خافية، واستحضر أيضاً أنه في كل حالاته عنده الدافع الذي يدفعه إلى الخير، وهو قوة الإيمان وقوة هذا الاستحضار؛ لا شك أن من تمت معه هذه الاستحضارات فإنه لا يقدم على معصية، وكيف يقدم عليها وهو يستحضر عظمة الله تعالى وكأنه واقف بين يدي ربه؟ كيف يقدم عليها وهو يعلم أنه يترتب عليها عقوبة وإثم شديد؟ كيف يقدم عليها وهو يعلم أن ربه يكرهها؟ ولا شك أن العبد الذي يكثر من العبادات سواء كانت قلبية أو قولية أو بدنية، ثم يثق بالثواب عليها؛ أن ذلك يحجزه عن أن يأتي بضدها، ولا يجتمع أنه في آن واحد يطيع الله ويطيع الشيطان، ولا يجتمع أنه في آن واحد يعبد الله ويعبد الأصنام مثلاً، ولا يجتمع أنه في آن واحد يكون مستحضراً لعظمة الله تعالى وغافلاً عنه مقبلاً على هواه، بل متى تمت له هذه الاستحضارات عبد ربه وأكثر من عبادته وأقبل عليه إقبالاً كلياً، ومتى كان كذلك فإن ربه تعالى يسدد خطاه ويوفقه، ويحبب إليه العبادة ويحميه عن المعصية، كما في قوله في الحديث القدسي الذي سمعنا بعضه: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) ، وفي بعض الروايات: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي) . والمعنى: أن الله تعالى يحفظه ويحوطه ويحرسه، فتكون حركاته في إرادة الله وفي طاعة الله، وما ذاك إلا أن قلبه امتلأ بعظمة الله وامتلأ بالإيمان به، وامتلأ بحب الخير، وامتلأ بالأعمال الخيرية الصالحة والميل إليها، ولما امتلأ القلب ظهر آثار ذلك على السمع وعلى البصر وعلى اليد وعلى الرجل، فصار نظره كله بالله، وسمعه كله لله، ومشيه وحركاته كلها لله، فصار بالله ومن الله وفي الله، فهذا هو الذي لا يمكن أنه يقدم على معصية مع ما يقوم به من هذه الحال. فالعبد الذي يكون بهذه المثابة لا شك -أنه إن شاء الله- لا يقدم على معصية، وإنما يؤتى من نقص في ذلك، يعني من نقص في استحضاره بقلبه لهذه الأشياء، فإن العوائق التي تعوقه عن هذه الاستحضارات كثيرة، فالشهوات من زينة الحياة الدنيا ومتاعها، والشغل بها كثيراً، والانهماك في المحرمات؛ كل ذلك يجلب إلى قلبه شيئاً من الغفلة، فيوجب له بذلك صدوداً عن الخير، وإقبالاً على الشرور والفساد، نعوذ بالله من الخذلان. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 20 ما يرضى به من قضاء الله وما لا يرضى به قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله، فكيف ننكره ونكرهه؟ ! ف الجواب أن يقال أولاً: نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة، بل من المقضي ما يرضى به، ومنه ما يسخط ويمقت كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه، بل من القضاء ما يسخط كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم. ويقال ثانياً: هنا أمران: قضاء الله، وهو فعل قائم بذات الله تعالى، ومقضي: وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء كله خير وعدل وحكمة ويرضى به كله، والمقضي قسمان: منه ما يرضى به، ومنه ما لا يرضى به. ويقال ثالثاً: القضاء له وجهان: أحدهما: تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يرضى به. والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى: ما يرضى به وإلى ما لا يرضى به. مثال ذلك: قتل النفس له اعتباران: فمن حيث قدره الله وقضاه وكتبه وشاءه، وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره؛ نرضى به، ومن حيث صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره، وعصى الله بفعله؛ نسخطه ولا نرضى به. وقوله: (والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان إلى آخره) . التعمق: هو المبالغة في طلب الشيء، والمعنى: أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان الذريعة: الوسيلة، والذريعة والدرجة والسلم متقاربة المعنى، وكذلك الخذلان والحرمان والطغيان متقارب المعنى أيضا، لكن الخذلان في مقابلة النصر، والحرمان في مقابلة الظفر، والطغيان في مقابلة الاستقامة] . الجزء: 29 ¦ الصفحة: 21 نرضى بقضاء الله ولا يلزم الرضا بكل مقضي الكلام الأول يتعلق بالرضا بالقضاء والرضا بالمقضي، فنقول: يلزمنا أن نرضى بالقضاء، وأما المقضي الذي يقع بذلك القضاء فلا يلزمنا الرضا به، بل قد ننكره ونستبشعه، فمثل الشارح بقتل النفس ظلماً، نقول: هذا الذي قُتِل قد بلغ أجله الذي كتب له، ولم يقطع عليه أجله، فالله تعالى قضى وقدر وكتب أن عمره لا يزيد ولا ينقص، فالمقتول مات بأجله المحدد له، لأن الله تعالى يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ، ويقول تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] أي: لو تحصنتم في بيوتكم والله قد كتب على بعضكم القتل، لخرجوا إلى أن يصلوا المكان الذي قدر الله أنهم يموتون أو يقتلون فيه ولا بد. وقد ذكر الله تعالى أن الموت محتوم على الإنسان مهما تحصن، كما في قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَة} [النساء:78] ، يعني: ولو تحصنتم في أحصن الأماكن، فإنه يصل إليكم الموت الذي قدره الله لكم سواء بسبب ظاهر أو بسبب خفي. فمن حيث حصول الموت لهذه النفس نؤمن بأن هذا قضاء وقدر، وأنه مهما تحصن هذا المقتول فلن يحصل له التحصن أبداً مهما تحصن، ولا بد أن يحصل له ما قدر الله تعالى عليه، ولكن مع ذلك ننكر هذا الذنب على القاتل ونلومه عليه ونسخطه، والله تعالى أنكره عليه وتوعده على هذا القتل بوعيد شديد، وتوعده النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بأنه يستحق العقوبة، والله تعالى كتب القصاص في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] وفي قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] . فهذا دليل على أنه من حيث إنه قضاء وقدر نرضى به، ومن حيث صدوره من ذلك الظالم القاتل نسخطه وننكره، ونلوم القاتل، وهكذا بقية الحوادث التي تحدث في الدنيا، منها ما نرضاه ومنها ما نسخطه من حيث الظاهر، أما من حيث القضاء والقدر فجميعه مرضي لله سبحانه وتعالى مقضي له، ومرضي للعباد. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 22 الاحتجاج بالقدر لا يمنع من أخذ الحق فعلى كل حال يلزمنا الرضا بكل ما قضاه الله وقدره، ولا يلزمنا الرضا بكل مقضي ومخلوق ومقدر وجوده في العالم، بل نسخط المعاصي ولو كانت قضاء وقدراً، وننكر على من فعلها ونلومه، وإذا احتج بالقدر لم يمنعنا ذلك من أخذ الحق منه، كما ذكر أن عمر رضي الله عنه لما رفع إليه سارق وأمر بقطع يده فقال: هذا قدر الله، فقال: (سرقت بقدر الله ونقطع يدك بقدر الله) ، فهو بذلك يعرف أن هذا مأمور به، فنحن مأمورون بكذا وأنت فعلت كذا وكذا. ولما خرج عمر رضي الله عنه إلى الشام وأقبل على أذرعات الشام، ذكروا له أن الطاعون قد وقع في الشام، فشاور الصحابة هل يقدم الشام أو لا يقدم؟ فاختلفوا، فمنهم من قال: لا تذهب إلى الشام ومعك هؤلاء الذين هم صفوة الصحابة فتعرضهم للموت، ومنهم من قال: إن هذا شيء مكتوب فلا تفر بهم ولا ترجع، ولكنه عزم على الرجوع، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم. نفر من قدر الله إلى قدر الله. أي: نقول إن الله تعالى قدر لنا أن نرجع وما كتب لنا أن نذهب، فنحن إذا رجعنا ففي قدر الله أننا نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم ضرب مثلاً وقال: أرأيت لو كان لك إبل وذكر لك واديان: أحدهما مخصب والآخر مجدب، ثم إنك اخترت واحداً منهما، أليس بقدر الله؟ أي: لو دخلت الوادي المجدب المقحط الذي ليس فيه رعي، ثم قيل لك: إن هاهنا وادياً أخصب وشعباً مخضراً، وفيه أعشاب وفيه رعي؛ فذهبت إليه، أليس ذهابك إليه بقضاء الله وبقدره؟ الله تعالى هو الذي قدر لك أن تسلك هذا، ثم اختار لك أن تسلك هذا، فهكذا إذا رجعت من مكان مخوف، فليس ذلك هرباً من قضاء، بل الله هو الذي قدر عليك هذا القضاء والقدر، وقدر عليك أنك ترجع أو لا ترجع، وإذا كان الله تعالى قد كتب على الإنسان أنه يموت بسبب، فلا بد أن يصل إليه الموت في أي مكان. روي أن إنساناً وقع الطاعون في بلاده، فلما ذكر له ذلك ركب حماراً وتوجه إلى بلاد أخرى، وفي أثناء الطريق سمع هاتفاً يقول: لن يسبق الله على حماري قد يصبح الله أمام الساري فتوقف واستمع قليلاً ثم إنه نزل في ذلك المكان وأصابه الطاعون فمات، ولم يغنه فراره ولا هربه. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 23 الأخذ بالأسباب الله تعالى قد ذكر قوماً هربوا من الموت ثم إن الله أماتهم، في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:243] ألوف: جمع ألف، يعني: آلافاً مؤلفة، (حذر الموت) : ما أخرجهم إلا حذر الموت، ولكن هل سلموا؟ {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] ، أي: أن قدرة الله تعالى تأتي على كل شيء، فأماتهم الله ليريهم أن الخروج والهرب لا ينجيهم، ثم أحياهم بقدرته ليريهم كامل قدرته. وعلى كل حال نحن نقول: إن الإنسان مأمور بأن يتحصن وبأن يفعل الأسباب وبأن يأخذ حذره، ولكن ذلك لا يرد عنه ما قد كتب الله عليه من الآجال والأمراض والعاهات ونحو ذلك، وإنما هذه أسباب ظاهرة، ولا يجوز مع ذلك تركها. الله سبحانه أمر بأخذ الحذر في حالة صلاة الخوف، فلما أمر بصلاة الخوف أمر بأخذ الحذر، معلوم أن المسلمين قد يقول قائلهم: سوف نصلي جماعة والله تعالى يحرسنا ويحفظنا، ولكن الله تعالى أخبر بأن المشركين يتحينون الفرص ويحتالون في أن يجدوا غفلة من المؤمنين فيقتلونهم، فقال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:102] ، هكذا أخبر عنهم ثم أمرهم بأن يأخذوا الحذر في قوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102] ، {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] يعني في حالة صلاتهم للخوف، {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} [النساء:102] أي: ليكونوا حذرين. فكل ذلك دليل على أن فعل السبب لا يمنع في التوكل وأنه لا يرد ما قدر الله، مع أن فعل الأسباب مأمور به وتركها إلقاء باليد إلى التهلكة، وأن التعرض أو فعل الأسباب التي يحصل بها الموت عمداً يصير ذنباً كبيراً، ولهذا ورد الوعيد الشديد على من قتل نفسه بفعل ظاهر، كما في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من تحسى سماً فسمه في يده يتحساه في نار جهنم) تحساه، أي: التهمه، فمن التهم سماً فإنه يدخل جهنم ويجعل السم في يديه يتحساه دائماً في نار جهنم والعياذ بالله (ومن تردى من شاهق) يعني: رأس جبل حتى يموت (فهو يتردى في نار جهنم) والعياذ بالله، فهذا دليل على أنه إذا فعل سبباً يعوقه أو يصل إلى أنه يقتل به نفسه فإنه معرض لهذا الوعيد. ولو قال مثلاً: إن هذا مكتوب علي وإن هذا مقدر، نقول: الله تعالى هو الذي قدر كل شيء ولكنه نهاك عن شيء أنت تستطيعه، فنهاك أن تلقي بيدك إلى التهلكة ونهاك عن هذه المعاصي، ونهاك عن هذه المخالفات وأمرك بأضدادها، وما أمرك إلا بأمر أنت مستطيع له، ولو كان كل ذلك واقع بقضاء وبقدر. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 24 التحذير من الوسوسة والتشكك في القدر قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة) ] . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أوقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان!) رواه مسلم، الإشارة بقوله: (ذلك صريح الإيمان) إلى تعاظمهم أن يتكلموا به. ولـ مسلم أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة؟ فقال: تلك محض الإيمان) ، فهو بمعنى حديث أبي هريرة، فإن وسوسة النفس أو مدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان. هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ثم خلف من بعدهم خلف سودوا الأوراق بتلك الوساوس التي هي شكوك وشبه، بل سودوا القلوب وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ولذلك أطنب الشيخ رحمه الله في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم) ، وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب؛ قال: فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم، قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده) ورواه ابن ماجة أيضاً] . يقول: إن عندنا شيئين: الأمر الأول: ما يجول في النفس وما يحدث من الوساوس والأوهام، ولكن لا يخرجها الإنسان بل يزيلها أو يحرص على إزالتها، فهذه مما يعفى عنه. والأمر الثاني: ما ابتلي به المتكلمون من إظهار تلك الوساوس والتكلم بها وكتابتها وإشاعتها، وهذا مذموم. فكان في عهد الصحابة وكذلك في عهد التابعين وتلاميذهم، إذا خطرت في أنفسهم خطرات وشكوك لم يبدوها، بل استمروا على ما هم عليه من العقيدة، وآمنوا بالله وبما جاء عن الله سبحانه وتعالى، فلم تضرهم تلك الوساوس ولا تلك الهواجس ونحوها. كثيراً ما يحصل على قلب الإنسان وسوسة في أمور من الغيب؛ إما مثلاً في طبقات السماء وطبقات الأرض وكيفية العرش وذات الرب تعالى وصفاته، وكذلك أمور البعث وأمور البرزخ، قد يتوارد على نفسه شيء من التشكيكات في هذه، وكيف تتصور؟ وكيف يتحقق ما ذكر من وصفها في هذه النصوص؟ فإن في ذلك شيئاً من الاستبعاد ومن الاستغراب. فإذا تواردت هذه الشكوك على هذه النفوس، ولكن أحرقتها النفس المطمئنة ولم تلتفت إليها ولم يتكلم بها الإنسان، فإن ذلك مما يعفى عنه، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم صريح الإيمان، يعني: ما دمتم تقتصرون على هذه الوسوسة دون أن تتكلموا بها فإن ذلك معفو عنه، ثبت بالحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) ، فحديث النفس معفو عنه، أي عن الخواطر التي تخطر في القلب والتي تكون خواطر ووساوس وأوهاماً وتشكيكات ولكن يغلبها الإنسان بقوة إيمانه، وبما قام عنده من الأدلة الصريحة في صدق الرسل وما جاءوا به من الأمور الغيبية، فلم تؤثر فيه تلك الشكوك والأوهام ونحوها، بل اضمحلت تلك الوساوس ولم تضره. فعليك أن تؤمن بالحق الذي أنت عليه وتثق به، دون أن تلتفت إلى شيء من تلك الأوهام أو تتمادى معها، هكذا أخبر عليه الصلاة والسلام. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 25 شرح العقيدة الطحاوية [30] يصر القدرية على إنكار خلق الله لأفعال العباد، وهم بذلك يشابهون المجوس المشركين، وقد جاءت الآثار بذمهم والحث على هجرهم وزجرهم، وقد رد العلماء على شبهاتهم وبينوا لهم الصواب. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 1 الإيمان والإسلام والإحسان وضدها مسميات شرعية قد عرفنا أن من عقيدة المسلمين الإيمان، وأركانه ستة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأن الإيمان تدخل فيه الأعمال، فهي من مسمى الإيمان، ولأجل ذلك يقوى الإيمان ويضعف، ويزيد وينقص، فيزيد بسبب زيادة الأعمال وينقص بسبب نقص الأعمال، أو بسبب ارتكاب الذنوب، وذلك مما يحمل المسلم على أن يتعاهد إيمانه بالزيادة ويحذر من النقصان، لأنه إذا تغافل وصار ينقص إيمانه شيئاً فشيئاً لم يأمن أن يضعف، وإذا ضعف لم يكن زاجراً له عن اقتراف السيئات، ولم يكن دافعاً له إلى التكاثر من الحسنات. كذلك قد يصير ضعف الإيمان سبباً لأن يقوى ضده، وهو الكفر أو الذنب أو المعصية، فإنه كلما قوي الإيمان ضعفت دوافع الكفر والفسوق والمعاصي، وكلما ضعف الإيمان قويت أضداده، فيحرص المسلم على أن يجدد هذا الإيمان، وأن يكون مجداً مجتهداً في الحرص على تقوية إيمانه، وعلى البعد عن الأسباب التي تضعفه. وقد بين العلماء مسمى هذه الأشياء، وذلك لأنها مسميات شرعية، فالإيمان وإن كان أصله لغوياً ولكنه أصبح مسمى شرعياً، استعمله الشرع في الانقياد لأوامر الله تعالى واتباع ما جاء عنه، واستعمله في تكميل هذا الاتباع بامتثال الطاعات وترك المحرمات، فأصبح مسمى شرعياً. كذلك الإسلام مسمى شرعي وإن كان أصله في اللغة: أنه الإذعان والاستسلام، ولكنه أصبح اسماً شرعياً يراد به الدخول في هذا الدين والانتماء إليه والالتزام بتعاليمه، فهو مسمى شرعي بعد أن كان لغوياً. كذلك الإحسان مسمى شرعي، وقد بينه النبي عليه الصلاة والسلام ووصف أهله وقسمهم، فأصبح هذا الاسم مسمى شرعياً. فالإسلام والإيمان والإحسان، وكذلك أضدادها؛ مسميات شرعية؛ فالكفر مسمى شرعي وإن كان أصله في اللغة الستر التغطية والشرك مسمىً شرعي وإن كان أصله في اللغة: الاشتراك في شيئين أو التشريك بين اثنين. والنفاق مسمىً شرعي وإن كان له أصل في اللغة، ولكنه أصبح مستعملاً في هذا الاستعمال الشرعي. فهذه الأشياء جاءت الشرعية باستعمالها، فمنها ما هو مأمور به: كالإسلام والإيمان والإحسان والدين والاستقامة وما أشبهها، ومنها ما هو منهي عنه ومحذر منه: كالكفر والشرك والنفاق والسيئات والخطايا والذنوب وما أشبهها، فهذه مسميات شرعية، ودخولها في العقيدة من حيث إن على المسلم أن يعتقد تقبل ما جاءت به الشريعة قبولاً كلياً فيقول: هذا الإسلام تضمنته هذه الشريعة فأنا أدين بالإسلام، سواء فيما يتعلق بالعقائد أو ما يتعلق بالأعمال، فيدين لله تعالى به، ويعتقد أنه سفينة النجاة، وأنه سبيل الوصول إلى السلامة، فيعتقد صحته وسلامة من سار عليه، ويعتقد خطأ من ضل عنه وابتعد عنه، أو أخذ منه بعضاً دون بعض، فهذا وجه دخوله في العقيدة. أما أركان الإسلام فهي مشهورة، ولم يدخلوها في العقيدة ما عدا الركن الأساسي الذي هو الشهادتان، فإنهما أساس العقيدة وأساس التوحيد، بخلاف الأركان العملية كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبهها، فهذه من الأعمال فجعلوها من الفروع، ولكن هي في الحقيقة من العقيدة لأنها أسس للعقيدة، ولأن إنكارها إنكار لشيء معلوم من الدين بالضرورة، فيخرج المنكر له من الملة ويدخل في الكفر والعياذ بالله، وذلك لأنها لما كانت أدلتها واضحة، والمسلمون تلقوها بالقبول؛ لم يكن هناك مجال لإنكارها. ولو وجد من ينكرها، فإن أولئك الذين أنكروها قد خالفوا المعقول والمنقول، وكذلك الذين تأولوها كالفلاسفة وبعض الصوفية الذين قالوا إن الصلاة ليست هي هذه الأفعال، إنما المراد بها اتصال القلب بالرب، وفسروا الحج بأنه حج القلوب إلى علام الغيوب وأسقطوا بذلك هذه الأركان الظاهرة التي تعلمها المسلمون من نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولكن نفرة المسلمين من هذه الأقوال واستبشاعهم لها أوجب أنها لا تذكر في العقائد، فاقتصر أهل العقائد على أركان الإيمان الستة، وأصلها كما تقدم وتكرر أصلان: الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، فإذا اجتمع هذان تبعتهما بقية الأركان، ولكنهم فصلوا في كثير منها وأجملوا في بعض منها لقلة الخلاف، وإذا حققها المسلم أصبح من أهل العقيدة السليمة، وأصبح من أهل الاستقامة الذين هم على سبيل النجاة. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 2 الإيمان بعلم الله الأزلي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً، ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل، ولا مغير ولا محول، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه) . هذا بناء على ما تقدم من أن الله تعالى قد سبق علمه بالكائنات وأنه قدر مقاديرها قبل خلقها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء) ، فيعلم أن الله قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها على ما اقتضته حكمته البالغة فكانت كما علم، فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصور إلا من عالم قد سبق علمه على إيجادها، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] . وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالماً في الأزل، وقالوا: إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوا، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: (ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروا كفروا) . فالله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 3 لا منافاة بين قدرة العبد وسبق علم الله بما هو عامل وإذا قيل: فيلزم أن يكون العبد قادراً على تغيير علم الله، لأن الله علم أنه لا يفعل، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله؟ قيل: هذه مغلطة، وذلك أن مجرد مقدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه، بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع، ونحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر، وعلم الله مطابق للواقع، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم، بل أي شيء وقع كان هو المعلوم، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغير العلم، بل هو قادر على فعل لم يقع، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع لا أنه لا يقع. وإذا قيل: فما انعدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم. قيل: ليس الأمر كذلك، بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه، وهؤلاء فرضوا وقوعه مع العلم بعدم وقوعه، وهو فرض محال، وذلك بمنزلة من يقول: افرض وقوعه مع عدم وقوعه وهو جمع بين النقيضين. فإن قيل: فإذا كان وقوعه مع علم الرب بعدم وقوعه محالاً لم يكن مقدوراً. قيل: لفظ المحال مجمل، وهذا ليس محالا لعدم استطاعته له ولا لعجزه عنه ولا لامتناعه في نفسه، بل هو ممكن مقدور مستطاع، ولكن إذا وقع كان الله عالماً بأنه سيقع، وإذا لم يقع كان عالماً بأنه لا يقع، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالاً من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه، وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال. مما يلزم هؤلاء: أن لا يبقى أحد قادراً على شيء لا الرب ولا الخلق، فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه، وكذلك إذا علم من نفسه أنه لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله، فكذلك ما قدره من أفعال عباده، والله تعالى أعلم] . الكلام الأول يتعلق بعلم الله تعالى بالأشياء قبل وقوعها ويسمى هذا: التقدير العام، وهو أن الله تعالى علم أن الخلق عاملون بعلمه القديم الذي سبق كل شيء، علم أعمالهم وعلم عددهم وعلم عدد المخلوقات، وأحصى ذلك قبل أن يوجدوا، وخلق القلم وأمره أن يكتب، وجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة، هذا ما يؤمن به المسلمون. دليل ذلك من القرآن ظاهر مثل قول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] ، ومثل قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] ، ومثل قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] ، والآيات في هذا كثيرة تفيد سعة علم الله بالأشياء قبل وجودها. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 4 غلاة المعتزلة ينكرون علم الله في الأزل ذكر أن غلاة المعتزلة المتقدمين أنكروا هذا النوع وزعموا أن الله لا يعلم الأشياء حتى توجد، وقال بعضهم: إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، أي: يعلم عموم الأشياء ولا يعلم تفاصيلها، ومقتضى هذا أنه يعلم عدد الخلق ولكن لا يعلم تفاصيل أعمالهم، فإذا علم أن هذه القبيلة يبلغ عددها كذا وكذا، فلا يعلم أعمال هذا الإنسان حتى يعملها. وهذا يعتبر تنقصاً لعلم الله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282] ، {وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة:78] ، فيلزم التنقص إذا وصف بأنه لا يعلم الأشياء إلا بعد حدوثها. هؤلاء الذين أنكروا العلم السابق الأزلي هم الذين عناهم الإمام الشافعي في هذه الكلمة: (ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروا كفروا) ، يعني: هل تقرون بأن الله بكل شيء عليم؟ هل تقرون بأن الله عالم بكل شيء؛ لأن الله علام الغيوب، وأن الله يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون؟ هل تقرون بسعة علم الله تعالى؟ فإن أقروا خُصموا، فإن العلم بالتفاصيل داخل في ذلك، وإن جحدوا كفروا، وذلك لأنهم إذا جحدوا علم الله تعالى لزمهم أن يصفوه بالعجز وبالجهل، وبأنه يكون في الوجود ما لا يريد، فيلزم من ذلك التنقص، ولا شك أنه إنكار للأدلة، فيكونون بذلك كفاراً جاحدين لصفات الله تعالى. وقد أقر الأشعرية بوصف الله تعالى بأنه بكل شيء عليم، ولكنهم أنكروا بعض الصفات الفعلية، أما المعتزلة فأنكروا صفة العلم لله سبحانه وتعالى، ووصفوه بأنه لا يجهل؛ هكذا في معتقداتهم! الجزء: 30 ¦ الصفحة: 5 شبهات القدرية حول علم الله السابق بعد ذلك أخذوا يوردون شبهات ويقولون: إذا علم الله أن هذا الإنسان يعمل كذا وأنه يعمل كذا، فلا بد أن يكون قادراً على أن يرده أو غير قادر على أن يرده. فإذا كان قادراً على أن يرده فلم يرده، أصبح قد رضي بأفعاله التي هي المعاصي. وإذا لم يكن قادراً، أصبح موصوفاً بالعجز، وما أشبه ذلك من هذه التشكيكات التي يوردونها على أهل السنة الذين يصفون الله تعالى بالعلم القديم. وقد ذكر المؤلف جواب أهل السنة عن ذلك، فإن أهل السنة يقولون: إن كل ما وقع فإنه مراد، ولكن من ذلك ما هو مراد ومحبوب كالطاعات، ومنه ما هو مراد ومقدر كالمعاصي، فمن المراد المقدر ما علمه الله وقدره وقضاه على العبد، ولكنه كرهه شرعاً ولم يحبه، وتوعد عليه، والعبد عندما زاوله يوصف بأنه كافر أو عاص أو مجرم أو فاسق أو خاطئ أو مذنب، حيث ارتكب هذا وفعله بقدرة واختيار مستطاع له، فهو الذي يعاتب ويعاقب عليه، هذا هو معتقد أهل السنة في هذا، ولا يلزم من إرادته كوناً أن يحبه وأن يقدره وأن يريده شرعاً. والله تعالى كما تقدم قد أعطى العبد قدرة يستطيع بها مزاولة أعماله، فالعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أفعالهم ولهم إرادة، ولكن الله تعالى هو الذي خلقهم وخلق قدرتهم وإرادتهم ولو شاء لهداهم، ولكنه لحكمته البالغة أضل قوماً بعدله، وهدى قوماً بفضله، فله النعمة على من هداه، وله الحكمة على من أضله. وأعطى كلاً منهم من الاستطاعة ما يزاول به أعماله، وهذا قد تكرر معنا في الرد على هؤلاء الذين يطيلون الجدل في مثل علم الله تعالى وإرادته، فنحن إذا قلنا: إن جميع ما في الوجود مراد قدراً، وكل ما هو حادث فهو معلوم لله قبل أن توجد المخلوقات ومراد كوناً وقدراً؛ بحيث إن الله قدره وإنه لو شاء ما حصلت هذه الأشياء، فإنه سبحانه لقدرته لا يمكن أن توجد معصية قسراً عليه بدون رضاه أو بدون تقديره، ولكنه لحكمته جعل هؤلاء من أهل الذنوب وهؤلاء من أهل الحسنات لحكمة منه، ولا شك أن الذين اختاروا هذا والذين اختاروا هذا لهم نوع من هذا الاختيار ليستحقوا ثواباً أو عقاباً، وحكمة الله تعالى خفية لا يطلع عليها العباد. فهذه الدرجة التي ذكرنا وهذه المنزلة التي هي العلم السابق هو الذي لا يتغير، يعني يقال: ما كتبه الله في اللوح المحفوظ لا يمكن تغييره، يقول الله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] ، هذا في المصائب، ويقول: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] . ويقول علقمة في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، يعني: يستسلم لما أصابه بقضاء الله تعالى وبقدره، فيكون بذلك قد اتقى الله حق تقاته، وقد علم أن ما حدث فهو بأمر الله تعالى وبتقديره، وفعل ما يقدر عليه وما هو مأمور به، واستسلم لأمر الله تعالى. وقد تقدم لنا وتكرر أن إيماننا بالقضاء والقدر لا يستلزم أن نترك الأسباب والأفعال والأعمال التي نعملها، كما أننا لا نترك الأسباب الحسية في طلب المعاش؛ فكذلك في طلب الأجر الأخروي والحسنات الأخروية، فالعبد مأمور بأن يفعلها مع إيمانه بأنها مقدرة وأنها ستأتيه، ويؤمن بأن المصائب التي وقعت عليه لا بد منها، لقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] ، ولقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] ، وهذا في الذين قالوا: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:77] ، فتبين أن التحصن لا يدفع قدر الله تعالى الذي قدره. فعلى كل حال فإن الإيمان بسعة علم الله تعالى وواسع علمه بتفاصيل المخلوقات، لا ينافي فعل الأسباب وحدوث المسببات بعد أسبابها. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 6 الإيمان بالقدر وسبق علم الله من عقد الإيمان والاعتراف بربوبية الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38] ) . الإشارة إلى ما تقدم من الإيمان بالقدر وسبق علمه بالكائنات قبل خلقها، قال صلى الله عليه وسلم في جواب السائل عن الإيمان: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) ، وقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (يا عمر؛ أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) رواه مسلم] . الجزء: 30 ¦ الصفحة: 7 أحاديث ذم القدرية قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (والاعتراف بتوحيد الله وربوبيته) أي: لا يتم التوحيد والاعتراف بالربوبية إلا بالإيمان بصفاته تعالى، فإن من زعم خالقاً غير الله فقد أشرك، فكيف بمن يزعم أن كل أحد يخلق فعله؟! ولهذا كانت القدرية مجوس هذه الأمة، وأحاديثهم في السنن. روى أبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القدرية مجوس هذه الأمة؛ إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم) . وروى أبو داود أيضا عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال) . وروى أبو داود أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم) . وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من بني آدم ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية) ، لكن كل أحاديث القدرية المرفوعة ضعيفة وإنما يصح الموقوف منها. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده) ، وهذا لأن الإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله القديم وما أظهر من علمه بخطابه وكتابة مقادير الخلائق، وقد ضل في هذا الموضع خلائق من المشركين والصابئين والفلاسفة وغيرهم ممن ينكر علمه بالجزئيات أو بغير ذلك، فإن ذلك كله مما يدخل في التكذيب بالقدر] . الجزء: 30 ¦ الصفحة: 8 الإيمان بالصفات متوقف على الإيمان بالقدر ذكر أن الإيمان بالقدر من تمام الإيمان بصفات الله تعالى، وأنه واجب على الإنسان أن يؤمن بصفات الله، فيؤمن بأنه الخالق وحده، ويؤمن بأنه العليم والحكيم، وبأنه المدبر والمتصرف في الخلق، وذلك كله يتوقف على الإيمان بالقدر؛ لأن القدر إذا قلنا إنه يدخل فيه قدرة الله ويدخل فيه علم الله، فإنكار قدرة الله تعالى إنكار لصفاته ووصف له بالعجز سبحانه وتعالى، وبأنه يكون معه من يتصرف في الكون بدون رضاه، وذلك شرك. كذلك إنكار علم الله وصف له تعالى بالجهل، وذلك أيضاً غاية التنقص، فمن آمن بأن الله على كل شيء قدير، وبأن الله بكل شيء عليم، آمن بأنه عزيز حكيم، وبأنه هو الذي نظم الخلق وهو الذي يتصرف في الكون وحده، وهو الذي يعلم السعيد والشقي والفاجر والتقي، وهو الذي قدر المقادير وأوجدها، فيلزمه والحال هذه أن يعلم أن هذه المصائب التي تحدث تحدث بعلم الله، وأنها متى وقعت فليس منها مفر ولا محيد، ولأجل ذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالإيمان بهذا الأمر بقوله: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومره) ، وقال لـ ابن عباس في حديثه المشهور: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) ، يعني يبست الصحف مما كتب فيها، ورفعت الأقلام فلم يبق كتابة، بل الأمر قد فرغ منه وقد عرف أهل الجنة من أهل النار. فالإيمان بالقدر من تمام الإيمان بالله، والذين أنكروه صنفان: صنف أنكروا العلم وصنف أنكروا القدرة، فالذين أنكروا العلم هم الغلاة الذين يقولون: إن الله لا يعلم الأشياء حتى توجد أو إنه يعلم الكليات دون الجزئيات، وهم غلاة المعتزلة قديماً؛ منهم عمرو بن عبيد ومنهم غيلان القدري ومنهم معبد الجهني، فهؤلاء موصوفون بأنهم من غلاة القدرية. ثم جاء بعدهم المعتزلة الذين أخذوا منهم بعض الأشياء فأنكروا قدرة الله عموماً، ومنهم أبو الهذيل العلاف المعتزلي وأبو هاشم الجبائي ومنهم القاضي عبد الجبار الهمداني ومنهم الجاحظ المشهور وأشباههم، هؤلاء من المعتزلة الذين أنكروا قدرة الله، ولأجل ذلك قال الإمام أحمد رحمه الله: (القدر قدرة الله) ، يعني أن الإيمان بقدرة الله إيمان بالقدر. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 9 مشابهة القدرية للمجوس في إثبات خالق غير الله وعلى قول هؤلاء المعتزلة يكون هناك من يخلق مع الله، ولا يكون الله هو الذي يخلق وحده، وعقيدة المعتزلة أن كل إنسان يخلق فعله، وأن الله لا يقدر على أفعال العباد، وأنه لا يستطيع أن يهدي هذا ولا يضل هذا، وأن قدرة العبد تغلب قدرة الله، فإذا أراد العبد أن يعصي وأراد الله ألا يعصي غلبت قدرة العبد على قدرة الخالق تعالى، فهذا هو معتقدهم في أن العبد يخلق أفعاله دون أن يكون لله قدرة على رده. ويزعمون أن هذا هو العدل فيقولون: إنه لو خلق الأفعال في العبد ثم عذبه عليها لاعتبر ظالماً له، وهذا هو سبب غلوهم في القدر حتى جعلوا هنالك من يخلق مع الله تعالى، ولم يجعلوا الخلق والأمر لله، فخالفوا قول الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ، فالخلق لله وحده والأمر الذي هو الشرع لله وحده. ولأجل ذلك وردت هذه الأحاديث في أن: (القدرية مجوس هذه الأمة) ، وهذه الأحاديث مروية في السنن ولكن فيها مقال فلا يثبت رفعها، وإنما الصحيح أنها موقوفة، يعني: أنها من كلام الصحابة. ولا شك أن كلام الصحابة معتبر؛ وذلك لأنهم هم الذين شاهدوا نزول الوحي، وهم الذين نقلوا لنا الشرع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حذرونا من هؤلاء القدرية وقالوا: إنهم يجعلون مع الله من يخلق وإنهم مجوس هذه الأمة؛ لم يقولوا ذلك إلا عن توقيف، ولا بد أنهم عرفوا ذلك عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وعن طريق شريعته، هذا هو السبب في كون أقوالهم أصبحت معتبرة. ومعنى كونهم مجوس هذه الأمة أن المجوس كما تقدم في أول الكتاب -ويسمون الثانوية- يدعون أن الخلق صدر عن اثنين: النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر، فيدعون أن الخلق صادر عن خالقين. القدرية يقولون: الله هو الذي خلق الإنسان ولكن الإنسان يخلق أعماله وأفعاله، فيجعلون مع الله من يخلق ولا يجعلون الأفعال مخلوقة لله تعالى، ويخالفون قول الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ، وقد تقدم أنهم يخشون بذلك أن يحتج محتج بالقدر على المعاصي. يقول العلماء: إنهم لما اعتقدوا هذا الاعتقاد السيئ، وهو أن العبد هو المستقل بفعله، وأن الله ليس بقادر على أن يخلق أفعال العباد لا خيراً ولا شراً، خلى الشيطان بينهم وبين الأعمال فأصبحوا يتعبدون ويكثرون من التمسك، ويأتون بأنواع التنفلات والقربات، ويبتعدون عن المحرمات صغائرها وكبائرها، لأن من عقيدتهم أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، وأن الكبيرة توجب الخلود في النار، ويسمون ذلك إنفاذ الوعيد، فالوعيد الذي ورد في الشرع لا بد أن ينفذ، ومن توعده الله بأية عذاب فإنه يحكم بخلوده في النار. فأهل المعاصي عندهم مخلدون في النار لا يخرجون منها، ويستدلون بمثل قول الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] ، وبقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37] ، وبقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] ، وما علموا أن هذه الآيات في الكفار الذين حكم بأنهم مخلدون فيها، أما العصاة الذين أذنبوا ذنوباً فسيأتينا أنهم يخرجون من هذه بشفاعة الشافعين، وبرحمة أرحم الراحمين، وبكل حال فهؤلاء مجوس هذه الأمة، وهذا هو قولهم. وأما مخافتهم أن يحتج محتج بالقدر على فعل المعاصي، فقد ذكرنا أن من عقيدة أهل السنة: أن المعاصي إذا صدرت عن العبد نسبت إليه مباشرة ونسبت إلى الله تعالى تقديراً، ولما كانت تنسب إلى العبد مباشرة وإيجاداً استحق ذلك العبد أن يعاتب عليها وأن يعاقب، وكذلك الطاعات تنسب إلى العبد مباشرة وتنسب إلى الله خلقاً وتقديراً، وإذا كان كذلك فلا حجة للمجبرة على فعل الذنوب، ونعرف بذلك أن كلتا الطائفتين خاطئة: أعني القدرية الذين ينفون قدرة الله على أفعال العباد، والمجبرة الذين يعذرون العبد في الأفعال ويقولون إن تعذيبه على أفعاله ظلم، حيث إنه ليس له أية اختيار، فنقول: إن له اختياراً لكن اختياره مسبوق باختيار الله تعالى، وله قدرة ولكن قدرته مغلوبة بقدرة الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما قدرة الله على كل شيء فهو الذي يكذب به القدرية جملة، حيث جعلوه لم يخلق أفعال العباد فأخرجوها عن قدرته وخلقه، والقدر الذي لا ريب في دلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه، وأن الذي جحدوه هم القدرية المحضة بلا نزاع هو: ما قدره الله من مقادير العباد، وعامة ما يوجد من كلام الصحابة والأئمة في ذم القدرية يعنى به هؤلاء، كقول ابن عمر رضي الله عنهما لما قيل له يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف: (أخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء) ] . الجزء: 30 ¦ الصفحة: 10 الأصول التي يقتضيها الإيمان بالقدر المطابق للعلم قال المؤلف: [والقدر الذي هو التقدير المطابق للعلم يتضمن أصولاً عظيمة: أحدها: أنه عالم بالأمور المقدرة قبل كونها، فيثبت علمه القديم، وفي ذلك الرد على من ينكر علمه القديم. الثاني: أن التقدير يتضمن مقادير المخلوقات، ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها، فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، فالخلق يتضمن تقدير الشيء في نفسه بأن يجعل له قدراً، وتقديره قبل وجوده، فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته، كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعينة، خلافاً لمن أنكر ذلك وقال: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات! فالقدر يتضمن العلم القديم والعلم بالجزئيات. الثالث: أنه يتضمن أنه أخبر بذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخباراً مفصلاً، فيقتضي أنه يمكن أن يعلم العباد الأمور قبل وجودها علماً مفصلاً، فيدل ذلك بطريق التنبيه على أن الخالق أولى بهذا العلم، فإنه إذا كان يعلم عباده بذلك فكيف لا يعلمه هو؟! الرابع: أنه يتضمن أنه مختار لما يفعله محدث له بمشيئته وإرادته، ليس لازماً لذاته. الخامس: أنه يدل على حدوث هذا المقدور وأنه كان بعد أن لم يكن، فإنه يقدره ثم يخلقه] . الاستدلال بهذه الآيات على القدر: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، والقدر معناه: تحديد الشيء وتقدير مدته وتقدير زمانه، ومعناه: أن الله قدر الأعمال، أي: متى تحدث هذه الطاعة، ومتى تنتهي، وقدر الأعمار، فعمر الإنسان لا يزيد عما قدره الله وكتبه ولا ينقص، وقدر الوفيات وأسبابها وجعلها مكتوبة؛ بأن هذا الإنسان لا بد أن يموت بكذا وكذا، وليس له مفر مما كتبه الله عليه وما أشبه ذلك. وورد أيضاً: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: هي من قدر الله) أي: هي مكتوبة، يعني قدر الله أن هذا يصاب بمرض وأن المرض يعالج بكذا وكذا، فهو مقدر ومكتوب أن يزول المرض بهذا السبب، ولأجل ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتداوي في قوله: (تداووا عباد الله ولا تتداووا بالحرام، فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء) ، فتعاطي هذه الأسباب لا ينافي أن العبد مكتوب عليه ما هو فاعل، ولا يقول إنسان: أنا سوف أترك هذا الفعل ولا بد لي من حصول ما كتب لي! لأن ترك الأسباب كلياً نقص في العقل. لو رأيت إنساناً عزم على ترك الأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، وقال: إذا قدر الله أني أتغذى فسأتغذى بدون ذلك، وإذا كان الله قد قدر لي ذلك فلا حاجة إلى أن أطعم وإلى أن أشرب وإلى أن ألبس وإلى غير ذلك! نقول: هذا نقص في العقل؛ لأن هذه الأشياء جعلها الله أسباباً حسية وأمر بتعاطيها وأباحها، فلا يكون شبع إلا بواسطة الأكل، ولا ري إلا بواسطة الشرب، ولا ولد إلا بواسطة النكاح، وكذلك الأرزاق التي أمر بالاكتساب لها، فإنه أمر بفعل هذه الأسباب حتى يحصل من آثارها الرزق، ولو كان هو الذي قدرها وهو الذي يسرها، كما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63-64] ، فذكر أنهم يزرعون، أي: يغرسون الأشجار ويسقونها ويبذرون الحبوب وينبتونها، فأضاف إليهم الفعل، ولكن أخبر بأنه هو الذي جعل هذه الأرض قابلة لذلك حتى تصير منبتة ومثمرة ونحو ذلك، وهو الذي أوجد هذا الماء الذي به هذا الشراب، ولو شاء لغيره كما في قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة:70] يعني ملحاً أجاجاً لا يصلح للشرب ولا للسقي ولا لغير ذلك. فأصبح الإيمان بهذا القدر يقتضي أن نعلم بأن تفاصيل الأشياء معلومة وموجودة لله تعالى، ولكن لا تترك الأسباب الحسية، بل يفعلها الإنسان ويعلم أنها مقدرة من الله، وأنه هو الذي أمر بها ويسرها. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [31] التكذيب بالقدر والتشكيك في علم الله مرض من الأمراض الخبيثة التي تسيطر على القلب، فعلى المؤمن أن يتخذ أسباب الوقاية من ذلك، وإذا طرأ عليه مرض فعليه أن يعالجه بكتاب الله وسنة رسوله كما ذكر العلماء. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 1 أهل السنة في القدر وسط بين القدرية والجبرية لا نزال في أحد أركان الإيمان، وهو ركن الإيمان بالقضاء والقدر، وقد توسع فيه صاحب المتن وصاحب الشرح؛ وذلك لأن الخلاف فيه مع طائفتين مشهورتين: طائفة تغلو في الإثبات وطائفة تغلو في النفي، والذين يغلون في النفي طائفتان أيضاً، منهم من ينفي العلم ومنهم من ينفي القدرة، وكل هذه الطوائف مبتدعة ضلال. وقد هدى الله أهل السنة فتوسطوا في باب القدر بين الجبرية والقدرية، فالجبرية نفوا قدرة العبد وجعلوه مجبوراً ليس له أي اختيار، وجعلوه يعاقب على ما لم يفعل ويثاب على ما ليس له فيه اختيار، فجعلوا حركته كحركة الشجر الذي تحركه الرياح. وأما القدرية فإنهم نفوا قدرة الله عز وجل على أفعال العباد، ووصفوا ربهم تعالى بالعجز عن الهداية وعن التصرف في الخلق كما يريد، فلأجل ذلك كانوا -كما سبق- شبيهين بالمجوس، ووردت فيهم آثار وأحاديث -وإن لم يصح رفعها- تذكر أنهم مجوس هذه الأمة، وأنهم لخصلتهم هذه ينبغي مقاطعتهم، كما في تلك الأحاديث: (إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم) . فهذا يدل على أن على أهل السنة مقاطعتهم، ومعلوم أن عيادة المريض من حق المسلم على المسلم وكذلك أن يتبع جنازته إذا مات، ولكن قاطع الصحابة وتلامذتهم هؤلاء؛ وذلك لأنهم أتوا بأمر شنيع، وهو تعجيز الله عز وجل واتهامه بعدم القدرة، وتفضيل قدرة العباد على قدرته، ولو كانوا -في زعمهم- يريدون أن ينزهوا ربهم عن الظلم، أي: عن أن يخلق المعصية ثم يعاقب عليها! وقد ذكرنا أن أهل السنة وسط في باب القدر بين الجبرية والقدرية، وذلك لأنهم آمنوا بقدرة الله على كل شيء، ثم مع ذلك اعتقدوا أن العبد له قدرة مغلوبة بقدرة الله، وأن الله تعالى أعطى العباد قدرة يزاولون بها أعمالهم، فبتلك القدرة يفعلون الأعمال التي يثاب العبد عليها أو يعاقب ولو كانت مغلوبة بقدرة الله! فيقال: للعبد قدرة وله إرادة، وقدرة الله وإرادته غالبة على قدرة العبد وعلى إرادته، وتلك القدرة هي التي يستحق عليها أن يثاب على الطاعة ويعاقب على المعاصي، ولولا تلك القدرة لبطلت حكمة الله ولبطل شرع الله، وذلك لأن الله تعالى قد شرع الشرائع، وقد أرسل الرسل وأنزل الكتب وضمنها أوامر ونواهي، فلا بد أن يكون هذا الأمر والنهي موجهاً إلى من يستطيع مزاولته، وإذا آمنا بذلك آمنا بأن الله تعالى أقدر العباد على ما هم قادرون عليه وأعطاهم القدرة التي تناسبهم، فبها يثابون وبها يعاقبون. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 2 أمراض القلوب في باب القدر يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (فويل لمن ضاع له في القدر سقيماً -وفي نسخة: فويل لمن صار قلبه في القدر قلباً سقيماً- لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرّا كتيماً وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً) . القلب له حياة وموت ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] أي: كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان، فالقلب الصحيح الحي إذا عرض عليه الباطل والقبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر) ، وكذلك القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه] . الجزء: 31 ¦ الصفحة: 3 مرض القلب ناتج إما عن شهوة أو شبهة قال المؤلف رحمه الله: [ومرض القلب نوعان كما تقدم: مرض شهوة ومرض شبهة، وأردؤها مرض الشبهة، وأردأ الشبه ما كان من أمر القدر، وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته. وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته: وما لجرح بميت إيلام. وقد يشعر بمرضه ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فيؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس وليس له أنفع منه. وتارة يوطن نفسه على الصبر ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها، ولا سيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة وجعل يقول: أين ذهب الناس فلي أسوة بهم؟! وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم. فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول: {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]] . الجزء: 31 ¦ الصفحة: 4 الأمر بلزوم الجماعة هو لزوم الحق لا الكثرة قال المؤلف رحمه الله: [وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بـ أبي شامة -في كتاب الحوادث والبدع: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً، لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم. وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: (السنة - والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقي؛ الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك فكونوا) ] . الجزء: 31 ¦ الصفحة: 5 تفصيل أمراض القلوب الكلام يتعلق بمرض القلب وصحته، ومناسبته أن هؤلاء المبتدعة ما أتوا إلا من زيغ القلوب، وما صرفوا عن الحق إلى بسبب مرضها. ولا شك أن أسباب المرض كثيرة، ومنها تلقي الشبهات، فالله تعالى قد ذكر أن القلوب تمرض فقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10] . فذكر المؤلف أن مرض القلوب نوعان: مرض شهوة ومرض شبهة، وقد ذكر الله مرض الشهوة في قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ، هذا مرض الشهوة، وهو الذي يميل إلى الفواحش ويطمع في الأجنبية إذا خضعت بالقول، فلذلك قال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] ، ينهى نساء النبي عن هذا. وأما مرض الشبهة فهو أشد، وهو الذي يصد القلب عن الحق، ومتى صد القلب عنه ابتلي بالباطل، وقد ذكر الله للقلوب أنواعاً من الأمراض فمنها الطبع، قال تعالى حكاية عن اليهود: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا} [النساء:155] ، فالطبع عليها معناه: أنه ختم عليها بحيث لا يصل إليها الخير ولا تعرفه ولا تطمئن إليه، وهذا الطبع هو أشد الأمراض. كذلك مرض ثان وهو الختم، وهو بمعنى الطبع، قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] ، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23] ، ومعلوم أن الختم هو تغطية الشيء بحيث لا يصل إليه شيء، كما في الظروف المختومة التي لا تصل إليها الأيدي، فالقلب الذي قد ختم عليه لا يصل إليه الخير ولا ينتبه للمواعظ ولا يتذكر، وسبب ذلك هو الشبهات. وكذلك ذكر الله من أمراض القلوب: الزيغ، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] . والزيغ معناه: الانحراف والميل، ولا شك أن سببه الشبهات والتشكيكات التي تجعل الحق عنده باطلاً والباطل حقاً، فيميل عن الحق إلى الباطل وذلك هو الزيغ، وقد ذكر الله أيضاً أسبابه: فذكر من أسبابه أنهم زاغوا بأنفسهم فزادهم الله من ذلك: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] . وذكر أيضاً من أسبابه تتبع المتشابهات، فقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7] إلى قوله عن الراسخين: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8] ، فالزيغ: معناه الانحراف والميل عن الاستقامة، وسببه هذه المعاصي والمخالفات. وذكر الله أيضاً من أمراض القلوب: القسوة، التي هي قسوة معنوية، بحيث إن القلب لا يصل إليه الخير ولا يلين، قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] ، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16] . فعابهم بأنهم قست قلوبهم، وأبعد القلوب من الله تعالى القلب القاسي، وهو الذي لا يلين لموعظة ولا يتأثر بتذكير ولا يقبل ذكراً، ولا يتأثر بتخويف، وتأتيه الإرشادات والنصائح وهو يصد عن كل ذلك صدوداً، ولا يزيده ذلك الأمر إلا نفوراً، وما ذاك إلا أنه ممتلئ من الانحراف وممتلئ من الشبهات، ولم يبق فيه محل للمواعظ ولا محل للاعتبار ولا لقبول الحق، فكان بذلك قلباً قاسياً لا يلين، وشبه بحجارة أو أشد من الحجارة. وقد ذكر الله أيضاً من أمراض القلوب: الران، الذي ذكره بقوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] ، والران أو الرين: هو الغطاء الذي يحجب القلب عن الاعتبار ويحجبه عن التذكر ولا يصل إليه الخير، ولا شك أن سببه كثرة الذنوب؛ فكلما كثرت الذنوب صارت أغلفة على القلب؛ غلافاً فوق غلاف وغطاء فوق غطاء، إلى أن يشق اختراقها وتعسر تنقيتها وإزالتها! وأشد الأمراض كما ذكر بعض العلماء هو: الإقفال الذي ذكره الله بقوله: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ، ولا شك أن القفل هو ما يغلق به الباب ويوصد ولا يمكن فتحه إلا بمفتاحه الذي صنع له، فالقلب إذا كان قد أقفل ولم يكن له ما يفتح به، فإنه يبقى محجوباً ومحجوزاً لا يصل إليه خير. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 6 أسباب الوقاية من أمراض القلوب نقول: لا شك أن هذه الأمراض التي ذكرنا لها أسباب، وقد ورد من أسباب أمراض القلوب: الشبهات والشهوات والتشكيكات وما أشبهها، وكلما عظمت تلك الشكوك تراكمت على القلب فحصل الزيغ والانحراف والميل عن الاستقامة، وكلما لان القلب وقبل الحق فإنه يلين ويتأثر، كما ذكر الله تعالى ذلك عن أوليائه المؤمنين بقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] . والقلب اللين: هو الذي إذا سمع موعظة تأثر، ومن علامة تأثره أنه يقبل على الله ويعرض عما سواه، ومن علامة تأثره -أيضاً- أنه يحدث فيه خشوع وخوف، ويحدث فيه زيادة في الطاعات وانصراف عن الآثام والمحرمات؛ فهذه من علامة لين القلب. وكذلك أيضاً اطمئنانه إلى الخير، وقد ذكر الله ذلك في قوله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، فقلوب المؤمنين هي التي تطمئن بذكر الله وهي التي تلين لكلام الله، وأما قلوب الفسقة ونحوهم فإنها قاسية مقفلة لا يصل إليها الخير مهما تكلم الإنسان ومهما وعظ، كما وصفوا بأنهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] . وعلى كل حال: فأسباب ذلك في هؤلاء المبتدعة هي الشبهات، فعلى العبد أولاً أن يكثر الاستعاذة بالله عز وجل من زيغ القلب، لقوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8] ونحو ذلك من الأدعية، كذلك يتجنب تلك الشبهات التي تصل إلى القلب فتقسيه، كذلك يتجنب المعاصي التي لها تأثير أيضاً في القلوب ولها تأثير في إعراضها عن الحق وعدم تقبله. وبعد أن عرفنا أن الأسباب في قسوة القلب هو هذه الشبهات، نقول: إن هذه الشبهات كثيراً ما يثيرها أولئك المشبهون الذين زاغت قلوبهم؛ فهم يثيرونها حتى يزيغوا غيرهم، فعلى الإنسان أن يحذر من شبهاتهم. وشبهاتهم وتشكيكاتهم يشككون بها في قدرة الله عز وجل وفي آثار علمه ومعلوماته، ويشككون بها أيضاً في عذابه وفي ثوابه وما أشبه ذلك، فإذا عرف العبد أن هذه من تشكيكات الذين قست قلوبهم تجنبها حتى يبقى قلبه ليناً خاشعاً خاضعاً متواضعاً. معلوم أيضاً أن هذه المواعظ ونحوها لها أثار على عباد الله، وأن العبد إذا قبلها استقام على الخير واستمر عليه وقبله، وإذا أكثر من حضور مجالس الذكر ومجالس العلماء ومجالس العباد، وقبل مناصحاتهم وإرشاداتهم تأثر بذلك أيضاً ولان قلبه؛ زيادة على ما يحصل له من كثرة العبادات وكثرة المعلومات؛ فإن السبب في أن قسماً من الناس لا يتأثرون بخير ولا يقبلون إرشاداً ولا نصحاً ولا غير ذلك، أنهم عاشوا على البعد عن الخير وعدم تقبله. وقسم آخر إذا تكلم معهم إنسان بكلمة أو كلمتين لانت قلوبهم وخشعوا ودمعت أعينهم، وأقبلوا على الله وتابوا إليه وأنابوا؛ وسبب ذلك محبتهم للخير وإقبالهم عليه، فعلى العبد أن يكون من الذين يحبهم الله والذين يقبلونه ويقبلون كلامه. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 7 أعراض مرض القلب وعلاجه قال المؤلف رحمه الله: [وعلامة مرض القلب عدوله عن الأغذية النافعة الموافقة إلى الأغذية الضارة، وعدوله عن دوائه النافع إلى دوائه الضار، فهاهنا أربعة أشياء: غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، ودواء مهلك. فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي والقلب المريض بضد ذلك. وأنفع الأغذية غذاء الإيمان وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، فمن طلب الشفاء في غير الكتاب والسنة فهو من أجهل الجاهلين وأضل الضالين؛ فإن الله تعالى يقول: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44] ، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82] ، و (من) في قوله: (من القرآن) لبيان الجنس لا للتبعيض. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57] . فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق، وإيمان وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه لم يقاوم الداء أبداً، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه. وقوله: (لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرّاً كتيماً) أي: طلب بوهمه في البحث عن الغيب سرّاً مكتوماً، إذ القدر سر الله في خلقه، فهو يروم ببحثه الاطلاع على الغيب، وقد قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:26] إلى آخر السورة. وقوله: (وعاد بما قال فيه) أي: في القدر (أفاكاً) : كذاباً (أثيماً) أي: مأثوماً] . الجزء: 31 ¦ الصفحة: 8 علاج أمراض القلوب بكتاب الله وسنة رسوله ذكر أن القلوب تمرض وأن لها شفاء، وأنها بحاجة إلى علاج وبحاجة إلى غذاء، فالبدن إذا مرض احتاج إلى الدواء، وإذا جاع احتاج إلى الغذاء، وغذاء البدن الأكل والطعام، وعلاجه الأدوية والعقاقير وما أشبهها وهذا غذاء ودواء حسي، ولكن لا يفيد ذلك في مرض القلوب. فالقلوب لها غذاء هي بحاجة إليه أشد من حاجة الأبدان إلى غذائها، وهو غذاء معنوي؛ هذا الغذاء هو ما يستنبط من العلوم الشرعية، هذا الغذاء هو كلام الله وكلام رسوله والعمل به. فما دام القلب مستقيماً وما دام سليماً، فإنه بحاجة إلى أن يستمر معه هذا الغذاء، يستمر العبد على قراءة كلام الله وعلى تعلمه، وعلى تعلم السنة النبوية وعلى العمل بها، حتى يبقى قلبه سليماً ويبقى على العمل وعلى الفطرة والاستقامة. أما إذا أحس بمرض من الأمراض التي ذكرنا، فإن لديه العلاج النافع، وليس علاجه عند الأطباء وفي الصيدليات ونحوها، بل علاجه معنوي، وهو أن يتعاطى هذا الكتاب وأن يعالج به قلبه، فإذا كان المرض من الشبهات فإنه يزيلها بما يبطلها، فإذا ورد إلى القلب شبه التشكيك في المعاد وجد في القرآن علاجاً يزيل هذه الشبهة. وإذا مرض القلب بشبهة التشكيك مثلاً في الإيمان بالغيب وجد في القرآن علاجاً ودواءً لهذا المرض، وإذا مرض القلب بشبهة الشك في المعاد أو في المبدأ أو في أول الخلق أو في آخره، أو بشبهة الشك -مثلاً- في الأسماء والصفات، أو بشبه الشك في العبادات والمعاملات، أو بشبهة الشك في الأوامر والنواهي، أو ما أشبه ذلك؛ وجد علاج ذلك علاجاً كاملاً في كلام الله وكلام رسوله، ولكن ذلك يحتاج إلى قلب حي واع فطن، يحتاج إلى تأمل؛ فيقرأ كتاب الله عز وجل ويتتبع السنة النبوية، وعند ذلك يحيا قلبه بعد أن كان ميتاً، ويصح بعد أن كان مريضاً، ويزول ما فيه من الوهن، وتزول الأمراض الكثيرة التي ذكرنا، فيزول الإقفال، وتزول الأكنة، ويزول الختم، ويزول الطبع، وتزول القسوة، ويزول الرين إذا استعمل كتاب الله كعلاج ودواء لهذه الأمراض القلبية. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 9 الآيات التي تصف القرآن بأنه شفاء وقد توسع العلماء رحمهم الله في أمراض القلوب وفي بيان علاجها، وقد ذكر من ذلك جملة كثيرة ابن القيم رحمه الله في أول كتابه الذي سماه (إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان) ، وغيره من العلماء الذين تكلموا على أمراض القلوب وعلاجها، وذكروا أن علاجها بكتاب الله تعالى وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنه أيضاً هو غذاؤها، واستدلوا بالآيات التي تصف القرآن بأنه شفاء، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] ، والذي في الصدور هو الشكوك؛ فمن وقع في قلبه شك أو وقع في قلبه شيء من التردد أو ما أشبه ذلك، فليعالج قلبه بكتاب الله عز وجل، وبذلك يزول ذلك الشك ويزول ذلك المرض. كذلك قول الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82] ، فالمؤمنون هم الذين إذا قرءوا القرآن شفوا؛ سواء شفاء حسياً وهو إزالة الأمراض، أو شفاء معنوياً وهو تصفية القلوب وإزالة ما فيها من الصدأ، فإن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد وجلاؤه بكتاب الله وبسنة رسوله، وبالعمل بالشريعة، فبذلك يصفو القلب ويستنير ويصير نوره محرقاً لتلك الأمراض التي يأتي بها أولئك المشبهون. فعلى العبد أن يقبل على هذا العلاج النافع حتى يؤثر فيه، ولا يؤثر فيه إلا إذا كان صادق الرغبة في إقباله على الله، وصادقاً في محبته لكلام الله وكلام رسوله، ومصدقاً بما وصف به هذا القرآن من قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] ، وفي الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ للمؤمنين} [يونس:57] فوصف بأربع صفات، وكل واحدة منها لها أهميتها. كذلك قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44] . الجزء: 31 ¦ الصفحة: 10 القرآن علاج للأمراض الحسية والمعنوية المستعصية بشرط الإيمان وقد جرب كثير من العلماء هذه الآيات في أنها تشفي شفاءً حسياً الأمراض الحسية التي يبتلى بها بعض الناس، فقالوا: إن المسلم إذا استعمل هذه الآيات وعمل بها وعالج بها قلبه شفي، وكذلك إذا عالج بها بدنه شفي، فتزول الأمراض العارضة التي تعرض للإنسان ولا يستطيع علاجها الأطباء، كمرض الشياطين الذي هو مرض السحرة ونحوهم، والصرف والعقل. وكذلك مرض الجان والإصابات بالجنون وملامسات وملابسات الجان، لا يستطيعها أيضاً الأطباء ولا يعالجونها، ومرض الإصابات بالنظرة وبالعين ونحوها، لا يستطيعها أيضاً الأطباء؛ ولكن علاجها الصحيح هو القرآن الذي فيه هذا الشفاء الذي مدحه الله بهذه الآيات في قوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت:44] ، أي: غير المؤمنين، وذلك: أولاً: أنهم لا يعترفون بأنه كلام الله. ثانياً: أن أمراضهم مستعصية، وهم التي قست قلوبهم فهم لا يتأثرون به. ثالثاً: أن الله ما جعله إلا لأهل ذكره ولأهل عبادته شفاءً، أما غير المؤمنين فحرمهم من الانتفاع به. فهذا علاج حسي، فإذا أراد الإنسان أن ينتفع بالقرآن وأن تزول به أمراضه، فعليه أن يحقق الإيمان، وأن يحقق التصديق به، وأن يحقق العمل بالشريعة، وأن يصدق بأنه كلام الله الذي جعله شفاء، وأن يعمل منه بكل ما يستطيع من العمل، فبذلك إذا عالج به صدقاً نفعه واستفاد منه، هكذا ذكر كثير من المحققين من العلماء. كذلك أيضاً نقول: وجد أيضاً بالتجربة أن هناك أمراضاً مستعصية على الأطباء، كمرض السرطان ونحوه من الأمراض التي استعصت، ومع ذلك عولجت بكلام الله فشفاها الله، ولكن ما حصل الشفاء إلا لأناس، وذلك إذا اجتمع أمران: إيمان المريض وتصديقه بأن القرآن شفاء وكان أمله به، وكذلك إيمان الراقي وتصديقه بذلك واستعماله له، فاجتمع الأمران فحصل بذلك الشفاء. وعولج به الفسقة والعصاة وأهل الشبهات والمبتدعة ونحوهم، فلم يتأثروا لا في الأمراض الحسية ولا في الأمراض المعنوية، وذلك كله تحقيق لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44] . الجزء: 31 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [32] العرش أعظم المخلوقات، وهو غير الكرسي، وقد جاء وصفه في كثير من الآيات والأحاديث، وأهل السنة يؤمنون به كما جاءت به الأدلة، ولا يصغون إلى شبهات المبطلين. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 1 الكلام على العرش قال الشارح رحمه الله: [قوله: (والعرش والكرسي حق) . كما بين تعالى في كتابه، قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:15-16] ، {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15] ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان:59] ، في غير ما آية من القرآن: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] ، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:26] ، {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7] ، {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر:75] . وفي دعاء الكرب المروي في الصحيح: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم) . وروى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله فوق ذلك، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء) ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة. وروى أبو داود وغيره بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث الأطيط أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن عرشه على سماواته كهكذا، وقال بأصابعه مثل القبة) الحديث، وفي صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن) ، يروى: (وفوقه) بالنصب على الظرفية وبالرفع على الابتداء، أي: وسقفه. وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة وربما سموه: الفلك الأطلس والفلك التاسع! وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة كما قال صلى الله عليه وسلم: (فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟) ] . الجزء: 32 ¦ الصفحة: 2 عظمة العرش ابتدأ في الإيمان بالغيب، ومن جملة ما أخبر الله به من الأمور الغيبية: العرش والكرسي، فذكر الله العرش في هذه المواضع في القرآن، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث، وذكر الكرسي في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، وذكر الله تعالى أنه استوى على العرش في سبع آيات من القرآن: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان:59] . وقد أنكر حقيقة العرش بعض المبتدعة، فقال بعضهم: العرش: هو الملك، فقوله: (استوى على العرش) أي: استوى على الملك. وهذا باطل، بل العرش هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ولهذا ذكر الله عن ملكة سبأ هذا العرش في قوله تعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] ؛ وقوله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل:38] ؛ وقوله: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42] ، فدل أن العرش هو السرير الذي يجلس عليه الملك. أما العرش الذي خصه الله تعالى بالاستواء فهو من الأمور الغيبية لا يحيط بوصفه إلا الله عز وجل، ورد في بعض الآثار في تفسير قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، قال بعض الصحابة: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) ، الترس: هو المجن الذي يقي المقاتل به ضربات السلاح، والدراهم: واحدها درهم، قطعة من الفضة صغيرة كانوا يتعاملون بها، ماذا تشغل سبعة دراهم إذا جعلت في الترس؟ وماذا تغطي منه؟! لا شك أن هذا دليل على عظمة هذا الكرسي، فالسماوات السبع؟ والأرضون السبع من يحيط بها إلا الله عز وجل! كذلك ورد أيضاً أن الكرسي صغير بالنسبة إلى العرش، جاء في بعض الأحاديث: (الكرسي في العرش كحلقة ألقيت بأرض فلاة) ، الحلقة: هي الحديدة المتلاقية الطرفين، إذا ألقيت بأرض فلاة فماذا تشغل من تلك الأرض؟ هذا الكرسي الذي وسع السماوات والأرض هو بالنسبة إلى العرش كما ذكر، فإذا كانت هذه عظمة العرش فكيف بعظمة الخالق الذي هو رب العرش ورب كل شيء؟! وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كحبة خردل في يد أحدكم) ، والخردل حبه صغير في غاية الصغر؟! فكل هذا دليل على عظمة الله عز وجل، وأن هذه المخلوقات حقيرة بالنسبة لعظمته وجلاله وكبريائه، والعبد إذا استحضر عظمة الله فإنه يمتنع أن يقدم على معصيته، ويمتنع أن يغفل عن ذكره، ويحمله هذا الاستحضار على أن يعظم ربه غاية التعظيم، وأن يخافه غاية الخوف، وأن يجله ويبجله، وأن يصغر كل مخلوق عنده، فكل مخلوق -مهما كان قدره- يكون حقيراً وصغيراً بالنسبة إلى عظمة الخالق وجلاله وكبريائه. هذا هو السبب في كون الله تعالى وصف نفسه بالعظم، ووصف أيضاً العرش الذي خصه بالاستواء بالعظم في قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] ، وفي قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] ، وفي قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] . وذكر الله العرش في عدة آيات مما يدل على أنه عرش حقيقي تطوف به الملائكة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:7] ، وقال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر:75] ، وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15] أي: رب العرش، أي: مالكه وخالقه. فهذه الأدلة تدل على أنه ليس كما تقول المعتزلة: إن العرش هو الملك، بل العرش مخلوق قد خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات، ولكنه عظيم لا يحيط به إلا الله عز وجل، ولا يعلم قدره إلا الله، والمخلوقات كلها صغيرة وحقيرة بالنسبة إليه، والله تعالى أعلم بحقيقته، وإنما على المؤمن أن يؤمن بما أخبر الله به، وأن يفوض علم الغيب إلى الله. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 3 معنى العرش في اللغة قال الشارح رحمه الله تعالى: [والعرش في اللغة: عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] ، وليس هو فلكاً، ولا تفهم منه العرب كذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب؛ فهو: سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات، فمن شعر أمية بن أبي الصلت: مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء العالي الذي بهر النا س وسوى فوق السماء سريرا شرجعاً لا يناله بصر العين ترى حوله الملائك صورا الصور هنا: جمع أصور، وهو: المائل العنق لنظره إلى العلو، والشرجع: هو العالي المنيف، والسرير: هو العرش في اللغة. ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي عرض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طافٍ وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة. وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش: إن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) ورواه ابن أبي حاتم ولفظه: (مخفق الطير سبعمائة عام) . وأما من حرف كلام الله وجعل العرش عبارة عن الملك، كيف يصنع بقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] ، أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟! وكان ملكه على الماء! ويكون موسى عليه السلام آخذاً بقائمة من قوائم الملك؟! هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول؟ !] . الله تعالى قد أخبر بأنه خلق العرش وأنه رب العرش في قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] ، وفي قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] ، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] . والعرش في اللغة: هو سرير الملك، وقال الله عن بلقيس -وهي امرأة كانت ملكة في بلاد سبأ-: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] . كذلك أخبر تعالى عن عرشه العظيم بأخبار واضحة تدل على أنه مخلوق، وأنه محمول، وأن حوله الملائكة، فقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:7] ، فالذين يحملونه بعض من الملائكة، وقال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر:75] ، والحفوف بمعنى: الاستدارة حول العرش، وذلك دليل على أنه مخلوق وأنه محمول. وأخبر أنه: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15] أي: صاحب العرش، وأخبر بأنه في يوم القيامة يحمل، في قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] . وأخبر أيضاً بأنه استوى على العرش في سبعة مواضع من القرآن، في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، في سورة الأعراف وفي سورة يونس، وفي سورة طه، وفي سورة الفرقان، وفي سورة السجدة، وفي سورة الحديد، وأخبر في سورة هود بأن العرش على الماء بقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] أي: قبل أن يخلق السماوات كان عرشه على الماء. وسئل ابن عباس فقيل: (على أي شيء الماء؟ فقال: على متن الريح) ، فالله قادر على أن يجعل الماء على الريح، أو يجعله في هواء، فهو قادر على كل شيء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ) . ولما ذكر الله تعالى أنه استوى على العرش في آيات كثيرة، صعب تصديق ذلك على النفاة الذين ينفون علو الله تعالى واستواءه على عرشه، فقالوا: العرش: الملك، وقالوا في قوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: على الملك استوى! وهذا خطأ بعيد، كيف يكون للملك هذه الأوصاف؟ فإن الله ذكر أن العرش تحمله الملائكة؛ فهل الملائكة تحمل الملك؟! والله ذكر أن العرش على الماء: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] فكيف يكون الملك على الماء؟ لا شك أن هذا قول تنكره الطباع. العرب تعرف مسمى العرش، العرش في اللغة هو: السرير الذي يكون للملك، ذكر ذلك العرب في شعرهم، كما ذكر المؤلف الأبيات التي نقلت عن أمية بن أبي الصلت، وكان من شعراء العرب، فهو يقول: مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء العالي الذي بهر النا س وسوى فوق السماء سريرا شرجعاً لا يناله بصر العين ترى حوله الملائك صورا فوصفه بأنه سرير بالبناء الأعلى الذي بهر الناس، وسوى فوق السماء سريراً، فأطلق عليه أنه سرير كما هو في لغة العرب، وجعله في البناء الأعلى الذي هو السموات العلى، وأخبر بأنه فوق السموات. هذا الشعر قاله هذا الإنسان الذي هو عارف وعالم ببعض الأحكام، وقد أنشد بعض العرب شعره للنبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمرو بن الشريد أنه قال: (ردفت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم، فقال، هيه! فأنشدته بيتاً، فقال: هيه! ثم أنشدته بيتاً، فقال: هيه! حتى أنشدته مائة بيت، فقال: آمن شعره وكفر قلبه) أي: كما في أوصافه هذه حيث وصف الله تعالى بأنه الأعلى، وبأنه فوق السماء، وبأنه فوق العرش، وبأن العرش سرير كما في هذه الأبيات. كذلك أيضاً الأبيات التي نظمها عبد الله بن رواحة أحد شعراء الصحابة من الأنصار، لما وطئ أمة له بملك اليمين، فرأته زوجته فأنكرت عليه، فأنكر وقال: ما فعلت؟ وهي تعرف أن الذي عليه جنابة لا يقرأ القرآن، فقالت: إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن، فأنشد هذه الأبيات واعتقدت أنها من القرآن، يقول فيها: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طافٍ وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك، والشاهد منه ذكر العرش في قوله: وأن العرش فوق الماء طاف، والطافي: هو السابح الراكد فوق الماء. وقوله: وفوق العرش رب العالمينا، وقد أخذ ذلك من قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] ، والمراد أنه فوق الماء وفوق المخلوقات. وبكل حال فالعرش هو هذا السرير الذي لا يعلم قدره إلا الله. وقد ذكر العلماء: أن الكرسي غير العرش، وهو الذي قال الله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، فالكرسي قيل: إنه كالمرقاة بين يدي العرش، هذا الكرسي وسع السماوات والأرض، أي: اتسع للسماوات السبع وللأرضين السبع، وقد ذكرنا فيما مضى الحديث الذي فيه: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) الترس: هو المجن، والدراهم: هي قطع من الفضة صغيرة، ماذا تشغل السبعة الدراهم من هذا الترس؟! الترس قد يتسع لسبعمائة أو لألف أو أكثر من ألف، ثم هذا الكرسي صغير بين يدي العرش! ورد أيضاً في بعض الآثار: (الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة) ، الحلقة: هي القطعة من الحديد المتلاقية الطرفين، إذا ألقيت في أرض فلاة ماذا تشغل منها؟! هل تشغل ربعها أو عشرها أو عشر عشرها أو ربع عشر من أعشار عشرها؟! ما تشغل منها إلا جزءاً يسيراً، فهكذا نسبه الكرسي إلى العرش، وإذا كانت هذه عظمة العرش فكيف بعظمة رب العرش، الذي خلقه والذي خلق جميع الخلق؟! إذا عرف العباد عظمة هذه المخلوقات فإنهم يعظمون رب العرش. الملائكة الذين يحملون العرش ذكر الله عددهم في قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] . ولكن ماذا نقول في أولئك الملائكة الذين لا يعلم قدر وصفهم إلا الله؟ في هذا الحديث أخبر أن منهم ملكاً: (ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) ، وفي رواية: (مخفق الطير سبعمائة عام) متى تقدر هذه المسافة القليلة منه؟ فكيف ببقية جسده؟ هذا من حملة العرش، ومع ذلك لا يحملون العرش بقوتهم إنما يحملونه بذكر الله، جاء في الأثر أنهم يقولون: (كيف نحمل العرش وأنت رب العرش، وهذه عظمة العرش؟ فقال: (احملوه بالتسبيح) أو كما ورد، فلولا أن الله أعان الملائكة بالتسبيح لما حملوه، مع أن هذه عظمتهم وهذه صورهم وعظم خلقهم. وقد تقدم أن العرش سقف المخلوقات، وأنه سقف الفردوس، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن) ، فهذا دليل على أنه سقف المخلوقات وأنه محيط بالمخلوقات ولا يعلم قدره إلا الله، ومع ذلك فإن الرب تعالى مستغن عن العرش وما دونه، وهو تعالى محيط بخلقه وقريب منهم وعالم بأعمالهم لا تخفى عليه منهم خافية، ومع ذلك فإنه مطلع على الأعمال، وقادر على أن يثيب هذا ويعاقب هذا، وقادر على أن يسع خلقه رحمة وعلماً وحكمة وعزة وتصرفاً. ومعنى هذا أنه إذا كانت هذه عظمة المخلوقات فعظموا رب المخلوقات. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 4 العرش غير الكرسي قال الشارح رحمه الله: [وأما الكرسي فقال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، وقد قيل: هو العرش، والصحيح أنه غيره، نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، روى ابن أبي شيبة في كتابه صفة العرش والحاكم في مستدركه وقال: إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] أنه قال: (الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى) ، وقد روي مرفوعاً، والصواب أنه موقوف على ابن عباس. وقال السدي: السماوات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش. وقال ابن جرير: قال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض) . وقيل: كرسيه علمه، وينسب إلى ابن عباس، والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة كما تقدم، ومن قال غير ذلك فليس له دليل إلا مجرد الظن، والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم، كما قيل في العرش وإنما هو كما قال غير واحد من السلف: بين يدي العرش كالمرقاة إليه] . هذا الكلام على الكرسي الذي ذكر الله أنه وسع السماوات والأرض، وهو كالمرقاة بين يدي العرش أو أن الكرسي موضع القدمين، وبكل حال فهو مخلوق، وقد ذكر الله أنه وسع السماوات بأكملها: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، فإذا كان الكرسي قد وسع السماوات والأرض فكيف بالعرش؟ هذا هو القول الصحيح: وهو أن الكرسي مخلوق، وأنه غير العرش، وهناك قول بأن الكرسي هو العرش، والصحيح أنه غيره؛ هذا هو المشهور، فالكرسي مقدمة العرش أو مرقاة بين يديه. وهناك قول ثالث ولكنه ضعيف: وهو أن الكرسي هو العلم، (وسع كرسيه) أي: علمه، وهذا القول -وإن روي عن ابن عباس - فإنه لا يثبت عنه، والصحيح القول الأول عنه، ولعل هذا من أقوال بعض المبتدعة الذين يريدون أن يئولوا الأشياء بغير ظواهرها، فلما أولوا العرش بأنه الملك أولوا الكرسي بأنه العلم؛ حتى يبطلوا الصفات التي وردت في النصوص، والتي تتعلق بالعرش والكرسي، والتي الإيمان بها من الإيمان بالغيب. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 5 استغناء الله عن العرش وما دونه قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقة) . أما قوله: (وهو مستغن عن العرش وما دونه) فقال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] ، وإنما قال الشيخ رحمه الله هذا الكلام هنا؛ لأنه لما ذكر العرش والكرسي ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش؛ ليبين أن خلقه العرش لاستوائه عليه ليس لحاجته إليه، بل له في ذلك حكمة اقتضته، وكون العالي فوق السافل لا يلزم أن يكون السافل حاوياً للعالي محيطاً به حاملاً له، ولا أن يكون الأعلى مفتقراً إليه، فانظر إلى السماء كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها؟ فالرب تعالى أعظم شأناً وأجل من أن يلزم من علوه ذلك، بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حمله بقدرته للسافل، وفقر السافل، وغناه هو سبحانه عن السافل، وإحاطته عز وجل به، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته، وغناه عن العرش، وفقر العرش إليه، وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به، وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له، وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق. ونفاة العلو أهل التعطيل لو فصلوا بهذا التفصيل لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل، ولسلكوا خلف الدليل، ولكن فارقوا الدليل فضلوا عن سواء السبيل، والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم] . قوله: (إن الله مستغن عن العرش ومستغن عما دون العرش) يفيد أن العرش هو سقف المخلوقات، وأنه أعظمها فيما أخبرنا الله به، وأن هذه المخلوقات كلها حقيرة بالنسبة إلى هذا العرش، ومع ذلك فإن الرب الذي خلقه وخلق غيره مستغن عن العرش ومستغن عن غيره، ولا يحتاج إليه ليحمله، ولا إلى الملائكة لتحمله، بل هو بقدرته الذي يمسك المخلوقات، يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} [الحج:65] {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65] ، وأخبر بأنه: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} [لقمان:10] ، {خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك:3] ، سبعاً شداداً بناها فوق الأرض، ومع ذلك ثبتها فهي مستغنية عن عمد تعتمد عليه. المخلوق إذا رفع سقفاً فلا بد أن يثبته بعمد يعتمد عليها ذلك السقف، والله تعالى ذكر أن السماء سقف في قوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32] ، ومع ذلك ليس لها عمد، يقول تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان:10] أي: تشاهدونها، فهي مستغنية عن ذلك لكون الله تعالى هو الذي أمسكها بقوته، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] ، فمع كونه فوق العالم وفوق الخلق وعال على عباده، فإن جميع المخلوقات بحاجة إليه، وهو مستغن عنها، وعن العباد وطاعاتهم، وعن الملائكة وعبادتهم، وكذلك مستغن عن السماوات وعن العرش وعن الكرسي، هو غني عن ذلك، وكل شيء فقير إليه، بل هو الذي يمسكها وهو الذي يحملها وهو الذي يثبتها كما يشاء. فالنفاة توهموا في هذه المخلوقات أنه إذا كان الله فوقها فيلزم أن تكون هناك حاجة وضرورة إليها! و الجواب أن هذا خطأ، بل الله أخبر بأنه عال على هذه المخلوقات، ومع ذلك فإنه الغني عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فلا يحتاج إلى خلقه في شيء من خصائصهم، بل هو الغني وهم الفقراء إليه سبحانه وتعالى. فلا يغتر بما يقوله الذين يردون بعض النصوص، فيعتقدون أن في إثباتها لزوم حاجة أو نحو ذلك، أو يقولون -كما يذكر عن النفاة-: إن هذا يلزم منه حلول الحوادث في ذات الله تعالى، ونحو ذلك من الكلمات التي هي من توليدات المتكلمين. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 6 العرش فوق المخلوقات، والله مستو عليه محيط بكل شيء قال الشارح رحمه الله: [وأما قوله: (محيط بكل شيء وفوقه) وفي بعض النسخ: (محيط بكل شيء فوقه) بغير واو من قوله: (فوقه) ، والنسخة الأولى هي الصحيحة، ومعناها: أنه تعالى محيط بكل شيء وفوق كل شيء، ومعنى الثانية: أنه محيط بكل شيء فوق العرش، وهذا -والله أعلم- إما أن يكون أسقطها بعض النساخ سهواً ثم استنسخ بعض الناس من تلك النسخة، أو أن بعض المحرفين الضالين أسقطها قصداً للفساد، وإنكاراً لصفة الفوقية! وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات، وليس فوقه شيء من المخلوقات، فلا يبقى لقوله: محيط بكل شيء فوق العرش -والحالة هذه- معنى، إذ ليس فوق العرش من المخلوقات ما يحاط به، فتعين ثبوت الواو. ويكون المعنى: أنه سبحانه محيط بكل شيء، وفوق كل شيء. أما كونه محيطاً بكل شيء، فقال تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] ، {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54] ، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء:126] ، وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وإنما المراد: إحاطة عظمة وسعة وعلم وقدرة، وأنها بالنسبة إلى عظمته كالخردلة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما السماوات السبع، والأرضون السبع وما فيهن، وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم) ] . كل هذا يؤخذ منه عظمة الرب سبحانه وتعالى، وأنه محيط بكل شيء، والإحاطة هي العلم بها والاستيلاء عليها والتصرف فيها، فالله قد أحاط علماً بها كما في قوله: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} [النساء:126] بمعنى: أنه أحصاها وعلمها، واستولى عليها، وعلى جميع المخلوقات، فالله محيط بكل شيء، ومن جملة ذلك العباد، فالله محيط بهم، فهو محيط بعلومهم التي يعلمونها، فهو الذي فتحها عليهم، ومحيط بأعمالهم التي يعملونها لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، قال سبحانه: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، وكذلك الله محيط بالمخلوقات كلها سواء الجماد منها والمتحرك، والحيوان والنبات وغير ذلك، كله قد أحاط به، واستولى عليه، وتصرف فيه، فهو المستولي على خلقه. والفائدة من معرفة ذلك التعظيم، فإن العبد إذا تصور أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علماً عظّمه حق التعظيم، وعبده حق العبادة، وابتعد عما يسخطه، وعما نهى عنه، واستفاد من ذلك تعظيم شرعه والتصديق بخبره، وطلب الثواب الذي رتبه على العبادة، فكل ذلك من فوائد معرفة إحاطته بكل شيء من المخلوقات، وهذه عقيدة المسلمين؛ فلذلك أصبح أهل العقيدة السليمة هم الذين يعظمون حرمات الله وشرائعه، وأما الذين أنكروا علم الله أو أنكروا عظمته أو نحو ذلك فهم الذين وقعوا فيما وقعوا فيه من المخالفات والمعاصي والعقائد المنحرفة. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الطحاوية [33] من عقائد أهل السنة أن الله فوق مخلوقاته، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر، وقد بينها أهل العلم، وردوا على من أنكر هذه الصفة من المبتدعة. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 1 وجوب الإيمان بصفة العلو لله تعالى يجب على المسلم أن يدين بعظمة ربه، وأن يستحضر جلاله وكبرياءه، وأن يكون ذلك حاملاً له على تعظيمه، وعلى خوفه وإجلاله، وعلى الرغبة في ثوابه، والرهبة من عقابه، ويكون ذلك بمعرفة الأدلة على ذلك، فالأدلة على عظمة الله سبحانه تعظيم الله لنفسه، فقد ورد في الحديث: (لا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه) ، وورد أيضاً وصف الله بالكبرياء والعظمة، واختصاصه بذلك، كما في قوله في الحديث القدسي: (العظمة إزاري، والكبرياء ردائي) يعني: أن ذلك من خصائصه التي لا يجوز أن ينازعه فيها أحد، فإذا كان ذلك من خصائصه سبحانه فمنازعته ومشاقته في شيء مما هو خاص به يعتبر اعتراضاً على الله. ومعلوم أن الإنسان إذا وجب عليه أمر تعين أن يعرف الدليل عليه، فالله تعالى قد أقام الأدلة على عظمته وجلاله، وعلى استحقاقه للتبجيل والإعظام، ووصف نفسه بقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء:34] فيجب أن نعتقد أن أنواع العظمة لله، فهو المستحق للتعظيم وأنواع الكبرياء، وأنواع العلو لله وحده. قد يقول قائل: ما الفائدة التي أحصل عليها إذا وصلت إلى هذه العقيدة؟ و الجواب أن نقول: لا شك أنك متى قمت بهذا واعتقدته عقيدة صحيحة عظم قدر ربك في قلبك، فصعب عليك أن تعصيه، وعظم عليك أن تدين لغيره بالعظمة، وكذلك كبر عليك أن تترك طاعته، وعرفت أن له عليك حقوقاً كثيرة لابد أن تدين بها، ولابد أن تحرص على أدائها، وهذه من فوائد هذه المعرفة. وقد مر بنا أن من صفات الله تعالى الغنى، فهو غني ومستغنٍ عن العرش وما دونه، فهو الذي خلق الخلق وليس بحاجة إلى عبادة الخلق، وليس بحاجة إلى شيء من المخلوقات، بل هو الغني عنهم: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38] (وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:6] فإذا دان العبد لله بالغنى، علم أن هذا الغنى عام، وأن الله مستغنٍ عن العرش، ومستغنٍ عن السماوات، ومستغن عن الأرض، ومستغنٍ عن المخلوقات كلها، ومستغنٍ عن جميع ما في الكون، فهو الخالق وحده، وقد وصف الله نفسه بأنه استوى على العرش، وبأنه علا على خلقه، ولا يدل ذلك على حاجته إلى أي مخلوق. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 2 إحاطة الله بكل شيء لا تنافي فوقيته وعلوه من صفات الله أنه محيط بكل شيء وفوقه، والإحاطة بها هو الاستيلاء عليها، بمعنى: أنه محيط بالأشياء، وكلها تحت سيطرته وتصرفه، فلا شيء يتحرك إلا بإرادته، ولا يتصرف إلا بعلمه، وهو المتصرف فيها وحده، وهذا يدل على كماله وعظمته، فالذي يعتقد ذلك لا شك أنه يعظم قدر ربه في قلبه، ويصعب عليه أن يتخلف عن طاعته، أو يرتكب معصيته، أو يفعل إثماً أو جرماً، أو يبارز ربه بالعصيان؛ لأنه يستحضر عظمته وكبرياءه وجلاله وغناه عن خلقه، ثم يستحضر ضعف الخلق كلهم، وفقرهم وفاقتهم، وحاجتهم الشديدة إلى ربهم، فبعد ذلك يقول: ما أنا وما قدري حتى أظهر الغنى عن الله، وحتى أبارزه بالذنوب، وأعصي أمره وأرتكب نهيه؟! وهل أتحمل شيئاً من سخطه أو أصبر على شيء من عذابه؟ فيكون استحضاره ذلك زاجراً له عن اقتراف المآثم. ودليل إحاطته بكل شيء قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] ونفى ذلك عن المخلوقين بقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] ، وقال: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] ، وقال: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} [النساء:126] فالإحاطة: هي السيطرة والاستيلاء التام، والولاية الكاملة التي لا ينقصها شيء، وهي لله وحده، فهو محيط بالأشياء كلها علويها وسفليها، وعالم بها ومتصرف فيها، ولا يخفى عليه شيء من أمرها، وذلك لأنها مخلوقة، وهو الخالق وحده. قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ومن المعلوم -ولله المثل الأعلى- أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاطت قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها، فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف؟! فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد له إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته أو يدني إليه من يشاء من خلقه؟ فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره. وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى، فقال له أبو رزين: (كيف يسعنا -يا رسول الله - وهو واحد ونحن جميع؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله: هذا القمر آية من آيات الله، كلكم يراه مخلياً به، والله أكبر من ذلك) ، وإذا قد تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء، فهذا يزيل كل إشكال، ويبطل كل خيال. وأما كونه فوق المخلوقات، فقال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) [الأنعام:18] {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال المتقدم: (والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك كله) . وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على ما قال وضحك منه. وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله: شهدت بإذن الله أن محمداً رسول الذي فوق السماوات من عَلُ وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل من ربه متقبل وأن الذي عادى اليهود ابن مريم رسول أتى من عند ذي العرش مرسل وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم يجاهد في ذات الإله ويعدل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أشهد) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، وفي رواية: تغلب غضبي) رواه البخاري وغيره. وروى ابن ماجة عن جابر يرفعه قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا إليه رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه) . وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) [الحديد:3] بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) ] . الكلام الأول يتعلق بإحاطة الله بالمخلوقات، وقد تقدم الاستدلال على عظمة العرش والكرسي، وصغر المخلوقات بالنسبة إليهما، وأن السماوات السبع والأرضين السبع للكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس، وما الكرسي بالنسبة إلى العرش إلا كحلقة ألقيت في أرض فلاة، فماذا تشغل الحلقة من هذه الفلاة؟! وذكر ابن كثير أحاديث عند قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، وأن هذه السماوات والأرضين صغيرة بالنسبة إلى قبضة الرب عز وجل، فهي مطويات بيمينه، والأحاديث التي فسرت ذلك فيها الدلالة على أن الله يقبض المخلوقات كما يشاء، وقد ورد في الأحاديث أنه يقبض السماوات والأرض، وأنه يهزهن ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ذكر ذلك ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] . وكذلك نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما -وهو من أجل علماء الصحابة- أنه قال: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كحبة خردل في يد أحدكم) كمثل حبة خردل في يد العبد، وماذا تشغل حبة الخردل من اليد؟! معلوم أن الحبة صغيرة وحقيرة في القبضة، فقد يقبض ألفاً أو أكثر من ألف في كفه ولا يمتلئ الكف بذلك، فكيف بحبة واحدة؟ فهذه المخلوقات التي نشاهد عظمتها، ولا يعلم سعتها إلا الله تعالى، قد أخبرنا الله ورسوله بأنها سبع شداد، وأنها سبع طباق، وأن المسافات التي بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة سنة، ومتى تقطع هذه المسافة؟ وكل ذلك صغير بالنسبة إلى عظمة الرب تعالى!! فهذا ونحوه دليل على عظمته، ودليل على إحاطته بكل شيء. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 3 ذكر الأدلة على إثبات صفة الفوقية لله تعالى قول صاحب المتن: (محيط بكل شيء وفوقه) المراد: أننا نعتقد أن الله فوق كل شيء، قد ذكر الشارح أن في بعض النسخ: (محيط بكل شيء فوقه) ، بدون واو، والواو لا معنى لها هنا؛ لأن الله إحاطته ليست بما فوق العرش، بل بكل شيء، بالعرش وبما فوقه وبما تحته، ومعلوم أن العرش هو سقف المخلوقات، وهو أعلاها، وفوقه الرب سبحانه، وهو قريب من عباده. والأدلة على الفوقية كثيرة، فمنها ما هو صريح لا يحتمل التأويل، فالآية التي سمعنا في سورة النحل لا تحتمل التأويل: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] قيدت بـ (من) حتى لا يتأولها المتأول، وأما الآية الثانية في سورة الأنعام وهي قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] في موضعين، فهذه الآية قد يقال: إن المراد بالفوقية: فوقية الغلبة، وفوقية القهر، كما قال فرعون: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127] يعني: فوقية القهر، ولكن يؤخذ منها فوقية الذات، وفوقية الغلبة، فهي دالة على المعنيين؛ فتكون من الآيات الدالة على وصف الله تعالى بالفوقية، وهو العلو الذي يقتضي العظمة. أما الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: (والعرش فوق ذلك، والله فوق العرش) فالفوقية هنا صريحة، ومن ذلك قوله: (إن الله كتب كتاباً فهو مكتوب عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي) وهذا دليل واضح على أن الرب تعالى فوق العباد، وفوق العرش. كذلك الحديث الذي فيه تفسير الآية الكريمة من سورة الحديد: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] وهو الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر) فسر قوله تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) بأنه العالي الذي ليس فوقه شيء، فهو فوق المخلوقات، ومع ذلك هو قريب منها؛ ولذلك فسر الباطن بالقريب الذي ليس دونه شيء، فعلوه سبحانه وتعالى وفوقيته لا تنافي قربه ومعيته، فيستحضر المؤمن الوصفين معاً القرب والعلو. وذكر المؤلف شعر أمية وشعر عبد الله بن رواحة وشعر حسان، وكلها تذكر العلو والفوقية، فيقول ابن رواحة: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طافٍ وفوق العرش رب العالمينا فصرح بالفوقية وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا أيضاً في البيت الذي لـ حسان: شهدت بإذن الله أن محمداً رسول الذي فوق السماوات من عَلُ يعني: فوق السماوات وفوق العرش، ثم وصفه بأنه من علُ، فهذا دليل على أن الصحابة كلهم يدينون بهذه الفوقية، وأنهم قد تلقوها من نبيهم صلى الله عليه وسلم. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 4 الرد على منكري العلو أدلة الفوقية نوع من أنواع الأدلة على صفة العلو، وقد أوصلها بعضهم إلى واحد وعشرين نوعاً، وقد ذكر ذلك ابن القيم في نونيته، وابتدأها بالآيات التي تدل على الاستواء. وكل نوع تحته مفردات. ولما كانت مسألة العلو من المسائل الاعتقادية بالغ أئمة السلف في إثباتها، وكتبوا فيها الأدلة التي توضح قول السلف، وقول من سار على طريق السلف، فنجد في كتب المتقدمين من السلف أنهم أوفوها حقها، ككتاب التوحيد لـ ابن خزيمة الذي هو شجىً في حلوق الأشاعرة والمعتزلة ونحوهم، حتى قرأت لبعضهم أنه يسميه: كتاب الشرك، مع أنه استدل بآيات وأحاديث صحيحة رواها بالأسانيد، ولكن لما خالف معتقدهم أساءوا به وصاروا يحذرون منه. كذلك كتب السنة التي كتبها أئمة السلف كالإبانة، وكتاب التوحيد، وكتاب الإيمان، وكتاب السنة وغيرها من كتب السلف، فمنهم من رد على الجهمية، وسمى كل من خالف ذلك جهمياً، ومن السلف الذين كتبوا في ذلك ابن مندة وعثمان بن سعيد الدارمي وابن أبي عاصم، وكذلك القاضي أبو يعلى، والإمام الذهبي له كتاب العلو للعلي الغفار، وصفه بهذا الوصف، وكأنه لما رأى كثرة الذين دانوا بعقائد باطلة ممن سموا أنفسهم أشاعرة، أراد أن يفصح بما يعتقده ولو خالف مشايخه، ولو خالف زملاءه، ولو خالف المنتمين إلى مذهبه، لا يبالي بذلك ما دام أنه يعتمد الدليل، ويقول الحق. مسألة العلو لم ينكرها في المائة المتأخرة إلا أفراد قلة كالأشاعرة والمعتزلة والشيعة والخوارج والجبرية ونحوهم، كلهم ينكرون هذه الصفة، ولا عبرة بإنكار من أنكرها مادامت الأدلة واضحة صريحة في إثباتها، فلا يعتبر بمن أنكر الحق مع وضوحه. وأهل السنة يثبتونها على ما يليق بالله تعالى، ويذكرون الأدلة ويعتمدونها، ثم يجمعون بينها وبين آيات القرب وأدلة المعية ونحو ذلك، ولا يفهمون منها تجسيماً ولا تشبيهاً، ولا جهة ولا حصراً، ولا تحيزاً ولا غير ذلك، أما أولئك المنكرون فيقولون: إن هذه الكلمات تدل على حصر الخالق، وأنه متحيز، إلى غير ذلك، ولا عبرة بتلك الأقوال التي يموهون بها، وعلى المسلم أن يعتقد الحق ولو خالفه من خالفه. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 5 ذكر بعض الأدلة على إثبات صفة العلو قال الشارح رحمه الله: [والمراد بالظهور هنا: العلو، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] ، أي: يعلوه. فهذه الأسماء الأربعة متقابلة: اسمان منها لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته، واسمان لعلوه وقربه. وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس، ونهكت الأموال؛ فاستسق لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته، وقال بأصابعه مثل القبة عليه، وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب) . وفي قصة سعد بن معاذ يوم بني قريظة، لما حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات) وهو حديث صحيح، أخرجه الأموي في مغازيه، وأصله في الصحيحين. وروى البخاري عن زينب رضي الله عنها أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: (زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات) . وعن عمر رضي الله عنه: (أنه مر بعجوز فاستوقفته، فوقف معها يحدثها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين! حبست الناس بسبب هذه العجوز؟ فقال: ويلك! أتدري من هذه؟ امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة التي أنزل الله فيها. {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] ) أخرجه الدارمي. وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17] قال: (ولم يستطع أن يقول من فوقهم، لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم) . ومن سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر. ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم، لكان متصفاً بضد ذلك؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية: السفول، وهو مذموم على الإطلاق؛ لأنه مستقر إبليس وأتباعه وجنوده] . سرد المصنف رحمه الله هذه الأدلة التي تدل على الفوقية، فذكر حديث الأعرابي لما قال: (نستشفع بالله عليك) ، ولا شك أن هذا تنقص لله، فكأنه يقول: نجعل الله شافعاً عندك، وهل الله يشفع عند الخلق؟! هذا فيه شيء من التنقص، أما قوله: (نستشفع بك على الله) ، فهذا لم يستنكره، لأنه يقول: اشفع لنا إلى ربك، فأنكر عليه الأمر الثاني وهو الاستشفاع بالله؛ فشأن الله أعظم، وذاته أجل، ووصفه وجلاله وكبرياؤه أعظم من أن يكون شفيعاً عند أحد من خلقه، بل هو الذي يشفع إليه، ولا يشفع إلى أحد، بل لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، كما ذكر ذلك في القرآن: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] ولما أنكر عليه ذلك بين له عظمة الرب تعالى فقال: (أتدري ما الله؟) يعني: أنك ما عرفت قدر ربك، وما استحضرت عظمته، ولو استحضرت ذلك لما قلت هذه المقالة، شأن الله أعظم، وذكر أن الله تعالى فوق العرش، وأن العرش يئط به أطيط الرحل، وهذا من باب التمثيل يعني: أن الله تعالى فوق العرش، وأن العرش مع كبره وعظمته وإحاطته بهذه المخلوقات، فإنه يسمع له هذا الأطيط، فيقال: إن هذا من ثقل الرب تعالى، وقد ذكر الله أن العرش محمول، وأن حملة العرش ما حملوه بقوتهم وإنما حملوه بقوة ربهم، ومع ذلك فإن الرب تعالى غني عن العرش، وغني عن حملة العرش، ولكن ذلك كله من باب إظهار العظمة والكبرياء ونحو ذلك. ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم لـ سعد بن معاذ: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات) يعني: وافقت حكم الله، والله فوق سماواته. وكذلك قول زينب: (زوجني الله من فوق سبع سماوات) تريد قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] أي: أن الله تعالى هو الذي زوجها، فصرحت بالفوقية، وأن الله تعالى فوق سماواته. وبالجملة فهذه أمثلة من الأدلة التي تثبت صفة الفوقية لله سبحانه. فإذا قيل: إن هذه أدلة نقلية، والمخالفون لا يقبلون الأدلة النقلية التي في زعمهم أنها تخالف العقل، ويزعمون أنهم ما عرفوا صدق الرسل إلا بالعقول، فإذا جاء الرسل بما ينافي العقول لم يقبلوه، هكذا عللوا. و الجواب إن العقول التي ردت هذه النقول عقول فاسدة مضطربة، لا تصلح أن تكون ميزاناً لقبول شيء دون شيء، فعقولكم التي رددتم بها هذه النصوص، ورددتم بها هذه الصفات، وزعمتم أن هذا مستنكر ومستبشع على النفوس ولا تقبله العقول، نقول: هذه العقول كثيراً ما يكون فيها الاضطراب، وكثيراً ما تأتي بشبهات لا تثبت عند الحق، وكثيراً ما يبطل بعضهم شبهة الآخر التي يدلي بها، وكثيراً ما يبطل أحدهم دليله بنفسه، فيذكر دليلاً ثم يأتي بما يناقضه، وكذلك يأتي الآخر بدليل يناقض دليل شيخه ونحو ذلك، فكيف يعتمدون ذلك ويقولون: إنها أدلة عقلية؟! وقد ذكر لهم الشارح دليلاً عقلياً فقال: هب أنه ليس هناك دليل نقلي، أو هب أنكم تأولتم تلك النصوص، وقلتم مثلاً: الفوقية هنا: فوقية العظمة أو فوقية الغلبة، أو فوقية القهر، وأنها لا تدل على أن الله تعالى فوق المخلوقات، بل إنه ليس فوق العرش ولا فوق السماوات، وجميع الأماكن بالنسبة إليه سواء، وليس له مكان، تعالى الله عما يقولون! نقول لكم: العقول السليمة تشهد بإقرار الفوقية؛ لأن من لم يثبت الفوقية لزمه أن يثبت ضدها، فمن لم يوصف بالفوقية لابد أن يوصف بالسفل، وهذه صفة نقص، والله تعالى أحق أن يوصف بالفوقية، وقد ذكر أن السفل والتحتية أماكن الشياطين، وأن إبليس وجنوده هم الذين يوصفون بأنهم في السفل لا في الفوقية، وقد دان أهل السنة والمسلمون عموماً بوصف الله تعالى بالفوقية، وأقروا بذلك في عقولهم، ووافقوا على ذلك الأدلة الصريحة الصحيحة، وعلموا أن من لم يكن موصوفاً بالعلو فهو موصوف بالسفل، ومن لم يكن موصوفاً بالفوق فهو موصوف بالتحت، واستدلوا على ذلك بهذه النصوص، وأقروا على ذلك بعقولهم. ولا عبرة بمن خالفهم في ذلك ولو كثر عددهم، وقد قرأت لبعض هؤلاء المبتدعة لما نقل أثراً يخالف معتقده في تفسير قوله تعالى في سورة الشورى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [الشورى:5] فنقل عن ابن عباس أنه قال: (تتفطر السماوات من ثقل الرب) فكبرت هذه الكلمة عند هذا المبتدع، فقال: المراد: من هيبته. انظروا كيف صرف هذا الأثر عن ابن عباس وجعل المراد أنها تتفطر من هيبته؛ لأنه لا يدين بأن الله فوق السماوات، وأن السماوات تتفطر من ثقله، وكذلك العرش، ويكذب ما ذكر في الحديث من أن العرش يئط به ونحو ذلك. فعلى كل حال: يقال لهم: العقول السليمة تدل على أن من لم يتصف بالعلو اتصف بالسفل، ومن لم يتصف بالفوقية اتصف بالتحتية، فأنتم يلزمكم إذا نفيتم الفوق أن تثبتوا التحت، وذلك وصف نقص، وهذا لا يجوز. فأصبح العقل والنقل كلاهما متفقان على وصف الله تعالى بالفوقية وهي وصف كمال، وأصبحت عقلياتهم متهافتة كما وصفها شيخ الإسلام بالبيت الذي استشهد به: ججج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكلٌ كاسر مكسور شبهها بالزجاجتان إذا ضربت إحداهما بالأخرى تكسرت الزجاجتان، فهكذا شبه هؤلاء وشبه هؤلاء. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 6 الرد بالأدلة العقلية على نفاة صفة الفوقية قال الشارح رحمه الله: [فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها. قيل: لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه، غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج، ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو: إما داخل العالم، وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر من الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب، فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه، وأوضح وأبين. وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال، لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصاً، ولا يوجب محذوراً، ولا يخالف كتاباً، ولا سنة، ولا إجماعاً، فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً. فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله إلا بذلك؟ فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعاً؟!] . هذه مجادلة مع أصحاب البدع بالعقليات، ويستحسن عدم التوسع فيها؛ وذلك لأن التوسع فيها قد يؤدي إلى عدة مفاسد، منها: أولاً: فيه مضيعة للوقت. ثانياً: فيه إثارة لشبهات لا ينبغي الخوض فيها. ثالثاً: لا شك أنه يسبب التشويش على الإنسان والتفكر في أشياء لا يحتاج إلى التفكر فيها، وقد ورد في بعض الآثار: (تفكروا في المخلوق، ولا تفكروا في الخالق) يعني: انظروا في مخلوقات الله عز وجل فإنكم تأخذون منها عبرة على عظمة خالقها، وأما ذات الخالق وكيفية ذاته وصفاته فاصرفوا عنها الأفكار، واستحضروا بأذهانكم عظمته وكبرياءه، وجلاله وعلوه على خلقه، وتفرده بالملك، وتفرده بالتصرف، واستحقاقه للعبادة على خلقه، فإذا اعتقدتم ذلك كفيتم عن الخوض في الأشياء الباطلة. ومعلوم أن كلامهم في وصف الله تعالى يفيد أنه ليس له حقيقة ولا وجود إلا في الأذهان، فهم يقسمون الوجود إلى وجودين: وجود في الأذهان، ووجود في الأعيان، وهو الذي يمكن للعيان أن يصل إليه، وإذا تأملنا ما يقوله المعتزلة وما يقوله سلفهم -وهم الفلاسفة- من ذلك المحض الذي لا أتجرأ أن آتي به، إذا تأملناه وجدناه يقود إلى النفي المحض، وعدم الاعتراف بخالق مدبر متصرف في الخلق، فيقال لهم: إما أن تعترفوا بوجود رب خارج الأذهان -ليس مجرد وجود في الأذهان- أو لا تعترفوا، فإذا كنتم معترفين لزمكم لزوماً لا محيد لكم عنه أن تعترفوا بأنه ولابد فوق العباد أو تحت أو عن يمين أو عن يسار، وجهة الفوقية أشرف الجهات فاعتمدوها واعتقدوها، ولا يلزم منها محذور، ولا يقال: إنها تدل على حصر أو إنها تدل على تحيز أو على تجسيم، أو على غير ذلك من المحذورات التي يلتزمون بها. فالواجب أن ندين بذلك، ونترك الخوض فيما يقولونه مما هو في الحقيقة نفي محض، ولا فرق بين ما يقولونه ويعتقدونه وبين العدم المحض، الذي هو حقيقة المعدوم الذي لا مدح له ولا وجود له أصلاً فيمدح. هذا هو معتقد أهل السنة، وتلك هي أقوال الفلاسفة التي أخذها عنهم المعتزلة. ومن أقوالهم أن الله إنما يتصف بالسفل لو كان قابلاً للعلو، فإذا لم يكن قابلاً للعلو لم يلزم اتصافه بالسفل، ويقولون: إنه لا يقبل السمع ولا البصر، فلا يوصف بها، فهم يلتزمون نفي صفة السمع والبصر، وإذا قيل لهم: إذا نفيتم عنه السمع والبصر فقد لزمكم أن تشبهوه بفاقد السمع وهو الأصم، وفاقد البصر وهو الأعمى، فيقولون: هذا لو كان قابلاً، أما إذا لم يكن قابلاً فلا، ثم يقولون: الجدار مثلاً لا يقبل الاتصاف بهما، فلا يقال للجدار: حي ولا ميت؛ لأنه لا يقبلهما، ولا يقال للجدار: إنه أصم ولا سميع ولا أعمى ولا بصير؛ لأنه ليس بقابل لواحد منهما، وهذا ليس بصحيح بل هو قابل لهما، فيوصف بأنه جماد، ويوصف بأنه ميت لا حركة فيه، فهو يقبل ذلك، فهم يتمسكون بهذه الشبهة التي تلقوها من الفلاسفة، وهي شبهة باطلة ضالة. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 7 أنواع الأدلة الدالة على إثبات صفة العلو لله تعالى قال الشارح رحمه الله تعالى: [أحدها: التصريح بالفوقية مقروناً بأداة: (من) المعينة للفوقية بالذات: كقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] . الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة: كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] . الثالث: التصريح بالعروج إليه: نحو {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم) . الرابع: التصريح بالصعود إليه: كقوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر:10] . الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه: كقوله تعالى: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) [النساء:158] ، وقوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) [آل عمران:55] . السادس: التصريح بالعلو المطلق، الدال على جميع مراتب العلو، ذاتاً وقدراً وشرفاً، كقوله تعالى: (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة:255] (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سبأ:23] {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51] . السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه: كقوله تعالى: (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [غافر:2] (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الزمر:1] (تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [فصلت:2] (تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:42] (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) [النحل:102] {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:5] . الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) [الأعراف:206] (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ) [الأنبياء:19] ففرق بين (من له) عموماً وبين (من عنده) من مماليكه وعبيده خصوصاً. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: (أنه عنده فوق العرش) . التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين: إما أن تكون (في) بمعنى (على) ، وإما أن يراد بالسماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز الحمل على غيره. العاشر: التصريح بالاستواء مقروناً بأداة (على) مختصاً بالعرش، الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحباً في الأكثر لأداة: (ثم) الدالة على الترتيب والمهلة] . أنواع الأدلة على علو الله تعالى كثيرة، ويمكن أن تصل فروع بعضها وأفرادها إلى أكثر من مائة أو مائتين. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 8 ذكر الفوقية مقرونة بـ (من) النوع الأول من أنواع الفوقية: الفوقية المقرونة بـ (من) ، وقد ورد في قوله تعالى في سورة النحل: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] ، وهذا صريح في أن ربهم من فوقهم، فهذا دليل على العلو. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 9 ذكر العلو مجرداً عن (من) النوع الثاني: ذكر العلو مجرداً عن (من) ، وهو عام لأنواع الفوقية، كقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18] يعم ذلك أنه فوقهم بقهره، وفوقهم بذاته فوقية تليق بجلاله. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 10 التصريح بالعروج إليه النوع الثالث: التصريح بالعروج إليه، والعروج هو: الرقي. وقد ذكر في قوله تعالى في سورة السجدة: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] ، وفي قوله تعالى في سورة المعارج: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] ، ولا شك أن العروج يكون من أسفل إلى أعلى، وهذا دليل على أنه هو العلي الأعلى. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 11 التصريح بالصعود إليه النوع الرابع: التصريح بالصعود إليه، والصعود: هو الرقي -أيضاً- وقد ذكر في قوله تعالى في سورة فاطر: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] فدل على إثبات صفة العلو. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 12 التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه النوع الخامس: ذكر الرفع، ومعلوم أن الرفع يكون من مكان منخفض إلى مكان مرتفع، وقد ذكر في قوله تعالى: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، وذكر في قوله عن عيسى في سورة آل عمران: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] ، وفي سورة النساء: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] ، وقد كان عيسى في الأرض، فرفعه الله إليه إلى السماوات، فهذا دليل على صفة العلو. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 13 التصريح بالعلو المطلق النوع السادس: ذكر كلمة (العلو) وقد وردت بثلاث صيغ: وردت بصيغة (العلي) كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] ، وقوله {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51] ، وقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] . ووردت بصيغة (الأعلى) كقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وكقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:20] . ووردت بصيغة (كان) كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] ، ولا شك أن العلو يلتزم ثلاثة أنواع: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 14 التصريح بأنه تعالى في السماء النوع السابع: التصريح بذكر أنه في السماء في موضعين من سورة الملك: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16] ، وقوله: {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:17] . وأما في الأحاديث فكثير جداً، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟) وكقوله: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) ، وقوله للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. فقال: اعتقها فإنها مؤمنة) . وتفسر (في) هنا بتفسيرين: التفسير الأول: أن (في) بمعنى (على) ، (في السماء) يعني: على السماء، ولا يلزم أن تكون السماء تحيط به أو تحصره تعالى الله، فيكون معنى (في السماء) : على السماء، قال تعالى عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] أي: على جذوع النخل، وقال تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2] أي: على الأرض، فكذلك (في السماء) يعني: على السماء. التفسير الثاني: أن السماء اسم للعلو، وكل ما علا وارتفع فهو سماء، فيكون قوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: من في العلو. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 15 التصريح بالنزول من عند الله النوع الثامن من الأدلة: ذكر النزول من الله تعالى في عدة من المواضع، كقوله: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام:114] ، وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الزمر:1] والنزول معناه: الهبوط، فدل على أن الملائكة تنزل من عند الله، وكذلك الكتاب نزل من الله، فهذا يستدعي أن يكون النزول من أعلى، فدل على إثبات صفة العلو. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 16 التصريح باختصاص بعض المخلوقات أنها عنده النوع التاسع: تخصيص بعض المخلوقات بأنها عند الله، قال تعالى عن امرأة فرعون: {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] ، وقال تعالى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [فصلت:38] ، وقال تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب كتاباً، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) فالتصريح بأنها عنده دليل على صفة العلو، ولا شك أن الله أخبر بأن بعض المخلوقات أقرب إليه من بعض، والقرب قد يكون حسياً، وقد يكون معنوياً، وإن كان الجميع بالنسبة إلى قدرة الله وعظمته سوياً. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 17 ذكر الاستواء مقروناً بأداة (على) النوع العاشر: ذكر الاستواء، وقد ورد في سبعة مواضع: في سورة الأعراف: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، وكذا في سورة يونس، وفي سورة الرعد، وفي سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وفي سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:59] ، وفي سورة السجدة، وفي سورة الحديد، وكلها ذكر فيها لفظ (استوى) ، والعرب إذا ذكرت الاستواء متعدياً بـ (على) فإنها تقصد بذلك العلو. ودليل ذلك قوله تعالى في سفينة نوح: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] يعني: استقرت مرتفعة عليه، وقوله تعالى في الإبل: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:13] يعني: تركبوها مرتفعين على ظهورها، فهذا الاستواء بمعنى الارتفاع، وهكذا قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) ، وقد فسرها السلف رحمهم الله، وإن كانوا يفوضون حقيقتها وكيفيتها، كما ذكر عن مالك أنه قال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول) ، وصف الاستواء بأنه معلوم، أي: معروف من جهة اللغة، فالقرآن كلام عربي فصيح، نزل على قوم يعرفونه ويفهمونه، فهو معروف، ولكن الكيفية هي المجهولة والخفية، وهذا تفسير السلف رحمهم الله، والإمام مالك إمام دار الهجرة، وشيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأم سلمة رضي الله عنها إحدى أمهات المؤمنين، كلهم روي عنهم هذا التفسير. أما المعتزلة والنفاة فقد حرفوا هذه اللفظة، وجعلوها بمعنى: الاستيلاء. فقالوا: (استوى) أي: استولى. ورد عليهم بعض علماء أهل السنة فقالوا: الاستيلاء عام، وليس خاصاً، فالله مستول على جميع المخلوقات لا على العرش وحده، وإنما خص الله الاستواء بالعرش، وأنتم تجعلون الاستواء بمعنى الاستيلاء، ولا خصوصية للعرش بذلك، وبذلك يبطل تأويلهم، فعرفنا بذلك أن هذه الأنواع صريحة بأن الله سبحانه وتعالى فوق عباده كما أخبر في هذه الأنواع من الأدلة، وغيرها كثير. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 18 التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى قال الشارح رحمه الله: [الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى: كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً) ، والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة والفطرة، وهذا يجده من نفسه كل داع كما يأتي إن شاء الله تعالى. الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا: والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل. الثالث عشر: الإشارة إليه حساً إلى العلو: كما أشار إليه من هو أعلم بربه، وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر، لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله في اليوم الأعظم، في المكان الأعظم، قال لهم: (أنتم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع أصبعه الكريمة إلى السماء رافعاً لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء، قائلاً: اللهم اشهد) فكأنا نشاهد تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لما رفع أصبعه إليه: (اللهم اشهد) ، ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين، وأدى رسالة ربه كما أُمر، ونصح أمته غاية النصيحة، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين، وحذلقة المتحذلقين! والحمد لله رب العالمين. الرابع عشر: التصريح بلفظ: (الأين) : كقول أعلم الخلق به، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح، بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه: (أين الله؟) في غير موضع. الخامس عشر: شهادته صلى الله عليه وسلم لمن قال: إن ربه في السماء. بالإيمان. السادس عشر: إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء؛ ليطلع إلى إله موسى، فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السماوات، فقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36-37] ، فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني، ومن أثبته فهو موسوي محمدي. السابع عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج؛ بسبب تخفيف الصلاة، فيصعد إلى ربه ثم يعود إلى موسى عدة مرار. الثامن عشر: النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى من الكتاب والسنة، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، ولا يرونه إلا من فوقهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم) رواه الإمام أحمد في المسند وغيره من حديث جابر رضي الله عنه] . هذه -أيضاً- أنواع من الأدلة على علو الله وفوقيته، وكل نوع قد يكون تحته عدة أسرار، فمنها: النوع الحادي عشر: رفع الأيدي، وقد ورد في أكثر من ستين موضعاً أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا رفع يديه، وكذلك صرح بذلك في قوله: (إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً) . ولا شك أن الذي يرفع يديه إنما يرفعهما إلى الله؛ لأنه بذلك يستعطي ويستجدي ويسأل ويطلب، فلو لم يكن ربه فوقه لما رفع يديه، فهذا دليل على ذلك. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 19 الإشارة بالأصبع إلى الله النوع الثاني عشر: الإشارة بالإصبع إليه في التشهد وفي الخطب ونحو ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما خطب في حجة الوداع، وبلغهم وعلمهم، رفع إصبعه يشهد ربه، ويقول: (اللهم اشهد اللهم اشهد) يحرك إصبعه فيرفعها إلى السماء، ثم ينكبها مراراً، ولا شك أن ذلك استشهاد بربه الذي هو فوق العباد، ولا شك أن هذا من الأدلة الواضحة على مسألة العلو والفوقية. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 20 التصريح بلفظ (أين) النوع الثالث عشر: السؤال بكلمة (أين) : كما في قوله للجارية: (أين الله؟) ، وقاله في غير ما حديث، وذلك دليل على أنه سبحانه وتعالى فوق العباد، حيث اعترف من سأله بالفوقية. وكذلك أيضاً لما قالت الجارية: (في السماء) شهد لها بالإيمان، فأفاد أن أهل الإيمان هم الذين يعترفون بأن الرب تعالى فوقهم، وأنهم يعتقدون ذلك، وأن هذه فطرة الله. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 21 النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة لربهم من أنواع الأدلة على علو الله: رؤية المؤمنين لربهم في الجنة، ولا شك أنها من المسائل التي اعترف بها أهل السنة، ووافق عليها الأشاعرة، ونفتها المعتزلة، ولكن موافقة الأشاعرة حجة عليهم، وهم مع ذلك لا يؤمنون بها إيماناً حقيقياً؛ وذلك لأنهم ينكرون مسألة العلو، ولما أنكروا العلو وجاءتهم الأدلة بأن المؤمنين يرون ربهم لم يجدوا بداً من أن يقولوا بالرؤية اتباعاً للأئمة الذين ينتسبون إليهم، ومن جملتهم الأشعري الذي يقولون: إنهم على معتقده، ولكن فسروا الرؤية بالمكاشفات القلبية، أو بالرؤية القلبية، أو برؤية أنواره، أو ما أشبه ذلك، فلم يثبتوا رؤية حقيقية؛ وذلك لأنها ترد على مذهبهم في نفي صفة العلو، وقد تكاثرت الأدلة على إثبات الرؤية، وأن المؤمنين يرون ربهم، وهي معروفة مشهورة، وقد تقدم بعضها. وبكل حال: فالأدلة التي سمعنا وغيرها كثيرة، وهي دالة على أن الله تعالى موصوف بأنه فوق عباده، وبأنه هو العلي الأعلى، ومتى اعتقد المسلم هذا الاعتقاد -الذي هو علو الله تعالى وفوقيته- فإنه يستحضر دائماً أنه فوق عباده، وأنه مع ذلك يسمعهم ويراهم ويطلع عليهم، ويعلم مناجاتهم وأحوالهم؛ فبذلك يعرف كيف يطيعه، ويعرف أنه أهل التقوى وأهل المغفرة. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 22 شرح العقيدة الطحاوية [34] تأول أهل البدع استواء الله على عرشه بالاستيلاء، وقد بين العلماء فساد تأويلهم هذا، وردوا عليهم بردود نقلية وعقلية تبين بطلان ما ذهبوا إليه. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 1 الرد على من أنكر صفة العلو لله سبحانه قال الشارح رحمه الله تعالى: [ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية، ولهذا طرد الجهمية النفيين، وصدق أهل السنة بالأمرين معاً، وأقروا بهما، وصار من أثبت الرؤية ونفى العلو مذبذباً بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء! وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله! وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك! وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جداً، فمنه: ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بسنده إلى مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال: قد كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وعرشه فوق سبع سماوات. قلت: فإن قال: إنه على العرش، ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر. وزاد غيره: لأن الله في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى لا من أسفل. انتهى. ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم مخالفون له في كثير من اعتقاداته، وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم، وقصة أبي يوسف في استتابته لـ بشر المريسي لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش مشهورة، رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره. ومن تأول (فوق) بأنه خير من عباده وأفضل منهم، وأنه خير من العرش وأفضل منه كما يقال: الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم، فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة! فإن قول القائل ابتداءً: الله خير من عباده، وخير من عرشه. من جنس قوله: الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوأ من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار، والجبل أثقل من الحصى، ورسول الله أفضل من فلان اليهودي، والسماء فوق الأرض!! وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه! فكيف يليق بكلام الله الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً!! بل في ذلك تنقص كما قيل في المثل السائر: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا ولو قال قائل: الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك! لضحك منه العقلاء؛ للتفاوت الذي بينهما، فالتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم، بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك، بأن كان احتجاجاً على مبطل، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] ، وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59] ، و {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]] . يبين الشارح بهذا الرد على هؤلاء المتأولين لهذه الأدلة التي يقول المصنف: إنها لو بسطت أفرادها لبلغت ألف دليل، وهم يعجزون عن أن يجيبوا عنها دليلاً دليلاً، ولذلك سلكوا في التخلص منها مسالك رديئة، فقالوا: إن معنى قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] أي: خير من عباده، كما يقال مثلاً: هذا الطعام فوق هذا الطعام. يعني: خيراً منه، أو: هذه الشاة فوق هذا الشاة. يعني: أفضل منها، وما أشبه ذلك، فتأولوا قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} بمعنى: خير من عباده. ولا شك أن هذا من الكلام الذي لا فائدة فيه، ومثلها الأمثلة التي ذكرها الشارح، فلا شك أنه لا مناسبة بين الخالق والمخلوق حتى يقال: إن الله خير من عباده لأمور منها: أولاً: أنه سماهم (عباده) {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} فكيف يقال: وهو القاهر الذي هو خير منهم؟! ثانياً: ولله المثل الأعلى لا يقال في ملك يملك الكثير من البلاد: هذا الملك خير من هذا المملوك الذي هو عبد ذليل؛ لأنه لا مناسبة بينهما، لو قال ذلك أحد لاستحق التأديب، كيف يقال: إن هذا خير من هذا مع أنه لا مناسبة ولا مقاربة بينهما؟! فكذلك لا يقال: (فوق عباده) أي: خير من عباده. وكذلك بقية الكلام الذي سمعنا، لا شك أنه كلام بارد سامج، كقولهم: السماء فوقنا، والأرض تحتنا، والشمس حارة، أو الشمس أضوأ من السراج، لا مناسبة بينهما حتى يقال ذلك. وضرب المصنف المثل بهذا البيت: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا صحيح أن السيف أمضى من العصا، ولكن ينقص قدر السيف إذا قيل ذلك، فلا مناسبة بينهما، فالسيف له قدره، والعصا أنقص قدرة منه. وكذلك لو قال قائل: الجوهر -الذي هو من أنفس ما يدخر- خير من قشر البصل، أو من قشر السمك. هذا صحيح، ولكن من سمع هذا استهزأ بقائله، وقال: لا مناسبة بينهما؛ فبذلك يعرف أن هذا الكلام كلام رديء، وأنه لا مناسبة له. ويجب أن تفسر هذه الآيات بالمعاني التي تناسبها، فيقال في الفوقية: إنها فوقية القدر، وفوقية الذات، وفوقية القهر والغلبة. ويقال أيضاً في العلو: إن الله تعالى عالٍ بجميع أنواع العلو، ومن ذلك علو الذات. ويقال في بقية الأدلة مثل ذلك، وهذه الأدلة بأنواعها التي لو بسطت لبلغت أفرادها ألف دليل، فلو اجتمع منها عشرة فقط لصعب التخلص منها فكيف إذا اجتمع مائة دليل؟! فكيف إذا اجتمع ما يقرب من ألف دليل؟! كيف يجيبون عنها ويتخلصون منها؟!! إذاً: ليس لهم إلا أن يسلموا بهذه الصفة التي هي صفة العلو لله سبحانه وتعالى، ويؤمنون بأن الله هو العلي الأعلى، ويعترفون بصفاته التي منها: أنه قريب منهم، وأنه مطلع عليهم، وأن علوه وارتفاعه على خلقه لا يلزم منه غيبة ولا بعد، ولا خفاء شيء عليه كما أخبر بذلك في كتابه في قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس:61] يعني: وما يغيب عنه ويذهب عليه مثقال ذرة مما في السماوات ومما في الأرض، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7] أي: أنه تعالى ليس غائباً عن عباده، بل هو مطلع عليهم، سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ) فعند ذلك أمرهم أن يناجوا ربهم، وأن يسألوه سراً، ولما رفع الصحابة أصواتهم مرة بالتكبير، وكانوا في سفر، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) فأمرهم أن يدعوا ربهم سراً، وأن يناجوا ربهم، ويذكروه، ويستحضروا عظمته، فإنه يعلم سرهم ونجواهم، ومتى استشعر العبد هذه الصفة التي هي صفة الفوقية والقهر والغلبة، واستشعر صفة القرب والمناجاة ونحو ذلك؛ حمله ذلك على أن يعظم ربه، وأن يعبده حق عبادته. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 2 الأدلة العقلية على علو الله سبحانه قال الشارح رحمه الله تعالى: [وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر، وفوقية القدر، وفوقية الذات، ومن أثبت البعض ونفى البعض فقد تنقص. وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه، فإن قالوا: بل علو المكانة لا المكان، فالمكانة: تأنيث المكان، والمنزلة: تأنيث المنزل، فلفظ (المكانة والمنزلة) تستعمل في المكانات النفسانية والروحانية، كما يستعمل لفظ المكان والمنزل في الأمكنة الجسمانية، فإذا قيل: لك في قلوبنا منزلة، ومنزلة فلان في قلوبنا، وفي نفوسنا أعظم من منزلة فلان، كما جاء في الأثر: (إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله في قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه) ، فقوله: (منزلة الله في قلبه) : هو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته وتعظيمه وغير ذلك، فإذا عرف أن (المكانة والمنزلة) تأنيث المكان والمنزل، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى، وتابع له، فعلو المثل الذي يكون في الذهن يتبع علو الحقيقة، إذا كان مطابقاً كان حقاً، وإلا كان باطلاً. فإن قيل: المراد علوه في القلوب، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء. قيل: وكذلك هو، وهذا العلو مطابق لعلوه في نفسه على كل شيء، فإن لم يكن عالياً بنفسه على كل شيء كان علوه في القلوب غير مطابق، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى. وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع، ثابت بالعقل والفطرة، أما ثبوته بالعقل فمن وجوه: أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين، إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر، قائماً به كالصفات، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر. الثاني: أنه لما خلق العالم، فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجاً عن ذاته، والأول باطل. أما أولاً: فبالاتفاق، وأما ثانياً: فلأنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. والثاني: يقتضي كون العلم واقعاً خارج ذاته، فيكون منفصلاً، فتعينت المباينة؛ لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول. الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكلية؛ لأنه غير معقول، فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه، والأول باطل، فتعين الثاني، فلزمت المباينة] . العلو على ثلاثة أنواع: علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر. وكذلك الفوقية: فوقية القدر، وفوقية القهر، وفوقية الذات. وفوقية القدر مثل أن يقال: الذهب فوق الفضة. يعني: فوقها قدراً، هذه فوقية القدر، وفوقية القهر: كأن يقال: الأمير فوق الرعية. يعني: فوقية قهر، أي: قاهراً لهم. وفوقية الذات كأن يقال: الأمير فوق الكرسي. يعني: أنه فوقه بذاته، فنثبت لله تعالى الفوقية بأنواعها، والعلو بأنواعه، وإذا أثبتنا لله فوقية الذات فإننا نثبت مع ذلك قربه ومعيته ومراقبته لعباده، وكونه لا تخفى عليه خافية، بل هو قريب منهم كما أخبر عن نفسه بقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] . فالذين تأولوا أن قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] ، وقالوا: المراد: فوقية الغلبة، واستدلوا بكلمة (القهر) ، يرد عليهم بأن هذا نوع من أنواع الفوقية، وقد دل على النوع الثاني قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] فإن هذه الآية لا تحتمل أنها فوقية القهر، بل هي فوقية الذات. يعني: أنهم يخافون ربهم، وربهم فوقهم، ومع ذلك فهو مطلع عليهم وقريب منهم. كذلك (العلو) قد يستعمل بمعنى: الغلبة، كما حكى الله عن فرعون أنه قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، فأراد بالعلو هنا: الغالب. يعني: أنا الغالب، وأنا القاهر، وأنا المتصرف، وأنا المالك، فهذا نوع من أنواع العلو، فالله تعالى وصف نفسه بقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:20] ، فنقول: (الأعلى) علو غلبة، وعلو قهر، وعلو قدر وذات، فله أنواع العلو كلها، ولا يلزم من ذلك أن يكون محتاجاً إلى شيء من مخلوقاته، بل هو غني عن العرش وما دونه كما تقدم. وصفة العلو دل عليها العقل والفطرة، كما دل عليها النقل، فالنصوص التي وردت فيها أكثر من أن تحصر، وكلها دالة على صفة العلو، والفطرة والعقل تدل على صفة العلو عند كل عاقل، أما صفة الاستواء فدل عليها النقل، فدلت عليها النصوص والآيات الصريحة التي لا تحتمل التأويل، وقد ذكر العلماء في تفسير آيات الاستواء ما يدل على أنهم متفقون على دلالتها على العلو، حيث إنها عديت بـ (على) كما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فكلمة (على) تدل على الفوقية، أي: فوق العرش. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 3 معاني قوله تعالى: (ثم استوى على العرش) فسروا كلمة (استوى) بعشرة تفاسير: قال بعضهم: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] يعني: استقر عليه. وقال بعضهم: (استوى على العرش) : ارتفع عليه. وقال آخرون: (استوى) يعني: علا. وقال آخرون: (استوى) يعني: صعد. كما نظم ذلك ابن القيم في النونية بقوله لما ذكر أدلة الاستواء، وأنها سبع آيات فيها ثبوت الاستواء على العرش يقول: وكذلك اطردت بلا (لام) ولو كانت بمعنى (اللام) في الأذهان لأدت بها في موضع كي يحمل الباقي عليها وهو ذو إمكان اطردت في السبع الآيات بلفظ: (استوى) ، وما منها موضع واحد جاء بـ (اللام) استولى، فالسلف فسروها بأربعة تفاسير، وذكر ذلك بقوله: ولهم عبارات عليها أربع قد حررت للفارس الطعان وهي استقر وقد علا وكذلك ارتفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع وأبو عبيدة صاحب الشيباني يختار هذا القول في تفسيره أدرى من الجهمي بالقرآن وأبو عبيدة هو معمر بن المثنى من علماء اللغة فسر قوله: (استوى على العرش) أي: صعد، وكان من علماء اللغة، وذكروا أنه طرق عليه بعض أصحابه الباب، وكان في غرفة في أعلى بيته، فأطل عليهم من تحت وقال: استووا. أي: اصعدوا إلي. فدل على أن كلمة (استوى) تأتي بمعنى: صعد. وعلى كل حال: فالاستواء دل عليه النقل، ولا يخالف العقل، وكل الأدلة تؤيد العقل، وعرف بذلك أن الاستواء قد دل عليه السمع، وأن العلو قد دل عليه النقل والعقل وهو الفطرة. وأما تأويلات المتأولين بأن المراد: علو المكانة، أو علو المنزلة، وأن هذا مثل قولهم: فلان له مكانة في قلبي، أو له منزلة في نفسي، وفسروا العلو بعلو المكانة؛ فهذا خلاف الظاهر، وإذا قلنا: إن الله فوق عباده فلا يلزم أن يكون محتاجاً إلى شيء من مخلوقاته، بل هو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . يقول الشارح: كلمة (المكانة والمنزلة) تأنيث المكان والمنزل، وعلى هذا يكونون قد أثبتوا مكاناً ومنزلاً، وسواء كان ذلك المكان في قلوب العباد أو فوق العباد فلابد أنهم قد أثبتوه. وذكر الشارح أن العقل دل على انفصال الخالق عن المخلوق وتميزه عنه، وأنه لا يمكن أن يكون الخالق مختلطاً بالمخلوق، فإن ذلك يلزم منه أنه محل لحلول الحوادث. وأما قول الفلاسفة: أنه لا داخل العالم ولا خارجه، فهو قول بالنفي المحض، فالشيء الذي لا داخل العالم ولا خارجه هو المعدوم حقاً، فكأنهم لا يثبتون إلهاً تعالى الله عن قولهم، بخلاف أهل السنة الذين أثبتوا أنه فوق العالم، وأنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، وأنه خلق خلقه متميزين عنه، والجميع خلقه، وهو الذي ابتدأ خلقهم وأنشأهم وقال لأحدهم: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117] ، كما أخبر بذلك، فالخلق خلقه، والأمر أمره، والعباد عليهم أن يعبدوه وأن يصفوه بصفاته التي هي صفات الكمال. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 4 الرد العقلي على من أنكر صفة العلو قال الشارح رحمه الله: [وأما ثبوته بالفطرة، فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى. وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمذاني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان! فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؛ فإنه ما قال عارف قط: يا ألله! إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟! قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال: وبكى! وقال: حيرني الهمذاني حيرني الهمذاني! أراد الشيخ: أن هذا أمر فطر الله عليه عباده، ومن غير أن يتلقوه من المعلمين، يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو. وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته؛ لأنه أنكره جمهور العقلاء، فلو كان بديهياً لما كان مختلفاً فيه بين العقلاء، بل هو قضية وهمية خيالية. والجواب عن هذا الاعتراض مبسوط في موضعه، ولكن أشير إليه هنا إشارة مختصرة، وهو أن يقال: إن العقل إن قبل قولكم فهو لقولنا أقبل، وإن رد العقل قولنا فهو لقولكم أعظم رداً، فإن كان قولنا باطلاً في العقل، فقولكم أبطل، وإن كان قولكم حقاً مقبولاً في العقل، فقولنا أولى أن يكون مقبولاً في العقل، فإن دعوى الضرورة مشتركة. فإنا نقول: نعلم بالضرورة بطلان قولكم، وأنتم تقولون كذلك، فإذا قلتم: تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل، قابلناكم بنظير قولكم، وعامة فطر الناس -ليسوا منكم ولا منا- يوافقونا على هذا، فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً ترجحنا عليكم، وإن كان مردوداً غير مقبول بطل قولكم بالكلية، فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية، وبطلت عقلياتنا أيضاً، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم، فنحن مختصون بالسمع دونكم، والعقل مشترك بيننا وبينكم. فإن قلتم: أكثر العقلاء يقولون بقولنا. قيل: ليس الأمر كذلك، فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم ليس هو فوق العالم وليس فوق العالم شيء موجود، وأنه لا مباين للعالم ولا حال في العالم طائفة من النظار، وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام جهم بن صفوان وأتباعه] . سمعنا هذه الدلالة العقلية على إثبات صفة العلو، وذكروا أن صفة الاستواء دل عليها الكتاب والسنة، وأما صفة العلو فدل عليها الكتاب والسنة والفطرة: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] ، فالناس مفطورون وقلوبهم موجهة إلى السماء، لا يقدرون أن ينكروا ذلك، إذا دعا أحدهم ربه رفع رأسه، حتى ذكروا أن الدواب إذا أجدبت ترفع رءوسها إلى السماء، وهذا أيضاً دليل على أن هذه الفطرة فطرة عامة، الخلق المكلف وغيره قد فطر على الخوف والرغبة من الله تعالى وأنه فوقه، وهذا دليل فطري. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 5 الفطرة السليمة تدل على علو الله قصة أبي المعالي الجويني وأبي جعفر الهمذاني مشهورة، والجويني من علماء الشافعية، ولكنه من الأشاعرة الذين ينكرون صفة العلو، وإن كانوا يقرون بكثير من الصفات، لكن صفة العلو التزموا إنكارها، وحجته في إنكارها أن الله كان قبل أن يخلق العرش، وهو الآن على ما كان قبل خلق العرش، وهذه الحجة وهمية ليست بلازمة ولا مقنعة، صحيح أن الله تعالى كان قبل كل شيء، وأنه هو الذي خلق العرش وما دون العرش، وأنه مستغن عن العرش وما دونه، ولا يلزم من استوائه على العرش أنه محتاج إلى العرش أو غيره، فهو لما تكلم بهذا في هذا الجمع الكبير اعترض عليه الهمذاني بهذا الاعتراض، وقال: دعنا من هذا، نحن مضطرون إلى أن نرفع رغباتنا إلى السماء عند الدعاء، إذا دعا أحدنا ربه وجد من قلبه ميلاً إلى العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا فوق ولا تحت، هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا كيف ندفعها؟! ولما تكلم بهذا حير الجويني، ولم يجد بداً من أن يستسلم وقال: حيرني الهمذاني حيرني الهمذاني! فهذه فطرة الله التي فطر الخلق عليها، ولا يستطيعون إنكارها، لكن هؤلاء الذين أنكروها بعد أن كانوا مفطورين عليها إنما أنكروها عناداً، وإلا فلا شك أن قلوبهم تميل إلى أن الله فوق، ولكنهم لما تلقوا هذه العقيدة عن أكابرهم ومشايخهم لم يجدوا بداً من الاستسلام لها وعدم الاعتراض عليها، فهذا هو السبب في كونهم ينكرون ما هو ظاهر وما هو مشهور. وقولهم: لو كانت فطرية لاستوى الناس فيها وفي الإقرار بها، فإن الناس كلهم ذوو عقول. الجواب أنه قد أقر بها من بقي على فطرته، وأما من تغيرت فطرته فلا يلتفت إلى إنكاره، فهؤلاء المنكرون تغيرت فطرتهم؛ بسبب تأثير البيئة أو المجتمع أو التربية السيئة. فصار لهم حالتان: إما أنهم مقرون بقلوبهم، ومنكرون بألسنتهم ما في قلوبهم من الميل إلى الفوقية، وإما أنهم تغيرت فطرتهم فلم يبق في قلوبهم ذلك الميل الذي كانوا عليه عندما ولدوا، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الفطرة تتغير بالمجتمعات في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) يعني: أنه مولود على الفطرة التي هي معرفة ربه، ومعرفة خالقه، والإقرار بفوقيته، ولكن أبواه ومجتمعه ومعلموه ومدربوه ومدرسوه هم الذين يغيرون تلك الفطرة إلى ما يعتقدونه، حتى يصير يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو وثنياً أو مبتدعاً جهمياً أو غيره، فالله تعالى فطر الناس على هذه الفطرة، ولكن هؤلاء أنكروا بزعمهم، وادعوا أن عقولهم لا تدل على هذه الفطرة. والجواب: أن يقال: قد أقر بهذه الفطرة الخلق الكثير الذين بقوا على عقيدتهم، وأنتم على ما أنتم عليه من إنكارها، فنقابل إقرار هؤلاء وإقرار هؤلاء فننظر أيهما أرجح، فنجد أن هؤلاء المقرين في جانبهم النقل وهو الكتاب والسنة، فيجتمع العقل والنقل فيكون أرجح من الذين ليس معهم إلا العقل. جواب آخر وهو: أن عقول هؤلاء دائماً تتغير، وتختلف اختلافاً كثيراً، فتجد اثنين يتعلمان على معلم واحد ثم يختلفان، فهذا يقول: أنكر عقلي كذا. وهذا يقول: لم ينكره عقلي. ويبقى الواحد منهم برهة من الزمان قد تصل إلى أربعين سنة أو خمسين سنة وهو يقر ويعترف بهذا الأمر، ثم تغلب عليه بعض الأمور فتصرفه وينقلب ويقول: أنكره قلبي! بقيت أربعين أو خمسين سنة وقلبك مقر به، ثم بعد ذلك أنكره! قد يكون بالعكس أيضاً: يتربى عشرين أو ثلاثين سنة وهو منكر له؛ تقليداً لمجتمعه ولمدرسيه ومعلميه، ثم بعد ذلك يمن الله عليه ويرجع إلى العقل السليم فيوافق عليه، فإذاً: اختلاف عقولهم دليل على عدم اتزانها. وكذلك تفاوتهم وكون هذا يقر وهذا ينكر، أو هذا يقر زماناً ثم ينكر؛ دليل على أنها ليست معياراً، فالمعيار هو الشرع، وكذلك العقول السليمة. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 6 من أدلة علو الله: رفع الأيدي عند الدعاء إلى جهة السماء يقول الشارح رحمه الله: [واعترض على الدليل الفطري: أن ذلك إنما كان لكون السماء قبلة للدعاء، كما أن الكعبة قبلة للصلاة، ثم هو منقوض بوضع الجبهة على الأرض، مع أنه ليس في جهة الأرض. وأجيب عن هذا الاعتراض من وجوه: أحدها: أن قولكم: إن السماء قبلة الدعاء. لم يقله أحد من سلف الأمة، ولا أنزل الله به من سلطان، وهذا من الأمور الشرعية الدينية، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها. الثاني: أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فإنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن قال: إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة، أو إن له قبلتين؛ إحداهما: الكعبة، والأخرى السماء. فقد ابتدع في الدين، وخالف جماعة المسلمين. الثالث: أن القبلة: هي ما يستقبله العابد بوجهه، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء، والذكر، والذبح، وكما يوجه المحتضر والمدفون؛ ولذلك سميت (وجهة) ، والاستقبال خلاف الاستدبار، فالاستقبال بالوجه، والاستدبار بالدبر، فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فهذا لا يسمى قبلة، لا حقيقة ولا مجازاً، فلو كانت السماء قبلة الدعاء، لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، وهذا لم يشرع، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى قبلة، لا حقيقة ولا مجازاً، ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تتبع فيه الشرائع، ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقبل السماء بوجهه، بل نهوا عن ذلك، ومعلوم أن التوجه بالقلب، واللجأ والطلب الذي يجده الداعي من نفسه أمر فطري، يفعله المسلم والكافر، والعالم والجاهل، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله، مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كما تحولت القبلة من الصخرة إلى الكعبة. وأمر التوجه في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفطر، والمستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك، بخلاف الداعي، فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه، ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده. وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض! فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل له، لا بأن يميل إليه إذ هو تحته! هذا لا يخطر في قلب ساجد. لكن يحكى عن بشر المريسي أنه سمع وهو يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل!! تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً! وإن من أفضى به النفي إلى هذه الحال لحري أن يتزندق، إن لم يتداركه الله برحمته، وبعيد من مثله الصلاح، قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّة} [الأنعام:110] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] فمن لم يطلب الاهتداء من مظانه يعاقب بالحرمان، نسأل الله العفو والعافية. وقوله: (وقد أعجز عن الإحاطة خلقه) . أي: لا يحيطون به علماً ولا رؤية، ولا غير ذلك من وجوه الإحاطة، بل هو سبحانه محيط بكل شيء، ولا يحيط به شيء] . الجزء: 34 ¦ الصفحة: 7 بطلان القول بأن السماء قبلة الدعاء هذا اعتراض اعترض به النفاة، قالوا: تقولون: إن رفع الأيدي في الدعاء دليل على صفة العلو، وأن الإشارة بالإصبع في التشهد دليل على صفة العلو، فيقولون: نحن نجيب ونقول: إنما رفعت الأيدي إلى السماء؛ لأن السماء قبلة الدعاء، لا أن الله فوق السماء، ولا أن الله فوق العباد، كما أن الكعبة قبلة الصلاة كذلك السماء قبلة الدعاء، هذا اعتراضهم. واعترضوا أيضاً بالسجود، قالوا: السجود: وضع الجبهة على الأرض، وهذا دليل على أن الله ليس فوق العباد، وإلا لما وضعوا جباههم على الأرض. سمعنا الجواب، وهو واضح والحمد لله، وخلاصته: قولهم: إن قبلة الدعاء هي السماء. قول باطل، بل الصحيح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، من أراد أن يستجاب دعاؤه فليستقبل القبلة التي هي الكعبة، وليست السماء قبلة الدعاء، ولو كانت قبلة الدعاء لاستقبلها الداعي بوجهه، ولم يكتفِ برفع يديه، فرفع اليدين دليل على أنه يشعر بأن ربه فوقه، وأنه هو الذي يعطيه، والقبلة إنما هي ما يستقبل بالوجه، كما أن المصلي يستقبل الكعبة أو جهة الكعبة بوجهه. جواب آخر وهو: أن القبلة تقبل النسخ، فقبلة الصلاة بعد أن كانت إلى بيت المقدس نسخت إلى الكعبة، فإذا كانت القبلة تقبل النسخ دل على أن هذه أيضاً تقبل النسخ، ورفع الأبصار إلى السماء، وكذلك رفع الأيدي إلى السماء، وكذلك رفع القلوب إلى السماء؛ أمر فطري لا يمكن أن ينسخ، وليس كمثل قبلة الصلاة. ثم يذكر الشارح أنهم اعترضوا بقولهم: لو كان في السماء لما سجدوا بوجوههم على الأرض. و الجواب السجود على الأرض ليس لأن الله تحت العباد تعالى الله عن ذلك، وإنما السجود يشعر العبد في صلاته أنه متواضع لربه، فإن أعلى شيء في الإنسان وجهه، وهو أكرم أعضائه عليه، فإذا وضعه على الأرض تواضعاً وذلاً وخضوعاً دل ذلك على تعظيمه لربه، وحينئذ يرحمه ربه، ويغفر له ذنبه، حيث إنه تواضع هذا التواضع، وشعر من نفسه بالاستكانة وبالضعف وبالفقر والفاقة إلى ربه، ومن الأسباب التي شرعت السجدة لأجله أن يشعر العبد في صلاته بالعبودية، فإن مبنى الصلاة على العبودية والذل لله، فالقيام فيه ذل وتواضع، والركوع فيه انحناء وخضوع، والسجود فيه تعبد وذل وانكسار بين يدي ربه، وليس لأجل الاعتقاد أن الرب تعالى في جهة التحت، وإنما هذا عقيدة من انتكست فطرته، كما نقل الشارح رحمه الله عن بشر بن غياث المريسي، وهو من أكابر المعتزلة والجهمية أتباع الجهم بن صفوان الذين ينكرون الصفات، وينكرون أن القرآن كلام الله. هذه المقالة السيئة التي نقلت عنه تقشعر منها الجلود، وهذا دليل على أن زيغ القلوب والإصابة بالانتكاس من عقوبات الابتداع، لما طبع الله على قلوبهم، ووقعوا في هذا الابتداع صدق عليهم قول الله في هذه الآية التي سمعنا: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110] قلب الله أفئدتهم عندما لم يؤمنوا به، فلم يستفيدوا مما سمعوا، فتعالى الله عن قولهم وعن معتقداتهم السيئة. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 8 بداية ظهور المبتدعة منكري العلو الصحابة رضي الله عنهم كانوا على العقيدة السلفية، لم يرتد منهم أحد وينكر شيئاً منها، وحاشاهم من ذلك، ولكن حدث في آخر عهدهم بدع، وبعضها أهون من بعض، أهونها البدعة الأولى التي هي بدعة الخوارج، ثم تليها بدعة القدرية، وقد يكون لهم فيها عذر، وكل هذه حدثت في آخر القرن الأول، ولكن أشنعها وأبشعها هي البدعة التي حدثت في أوائل القرن الثاني: بدعة الجهمية. نشأت في خراسان ببلاد إيران، أول ما وجدت هذه البدعة في تلك الأماكن، فانتشرت انتشاراً خفياً، وفي آخر القرن الثاني تمكنت من بعض النفوس، وتمكنت جداً في أول القرن الثالث، وحصل ما حصل. وقد تكرر معنا أن من دعاتها، الجعد بن درهم الذي ضحى به خالد القسري يوم العيد، ومن دعاتها أيضاً الجهم بن صفوان، وهو الذي ينتسب إليه هذا المذهب، وقد قتله سلم بن أحوز رحمه الله لبدعته، وورثه بشر بن غياث المريسي، وهو مبتدع على طريقة الجهم، وتمكن من بعض الولاة فقربه، وقبل مقالته كثير من المخدوعين الذين رأوا زخرف قوله فصدقوه، حتى أهلكه الله. وقد ذكروا أنه لما دفن في مقبرة من مقابر العراق رئي بعض الأموات في المنام وعلى وجهه سفعة من النار أو لفحة منها، فقيل: ما هذا؟ فقال: دفن عندنا بشر المريسي، فنفحت جهنم أو التهبت على ذلك المكان، فنال: منها هذا اللهب والعياذ بالله! ثم ظهر في أواخر القرن الثاني وأول الثالث أحمد بن أبي دؤاد، وهو الذي زين للمأمون الفتنة والدعاء إلى القول بخلق القرآن، ونصر الله الحق وظهر، وخذل الله هذا العدو، بحيث إنه عوقب بإصابته بمرض الفالج في آخر عمره، وبقي ذليلاً مهيناً مهجوراً، لا يحترمه ولا يعظمه أحد، ولما مات لم يوجد من يحمله إلا ثلاثة رجال والرابع امرأة، وكل ذلك تحقير من الله تعالى لأهل الشر ولأهل الأهواء والبدع. أما أهل السنة فإنهم أعزاء، ولهم النصرة والتمكين، لكن مع الأسف بعد انقراض القرون الثلاثة المفضلة تمكن هذا المذهب، وصار أهل القرن الرابع لا يعرفون غيره إلا ما شاء الله، وبقي أهل السنة مستخفين في القرن الرابع وما بعده، إلى أن أظهر الله الحق على يدي شيخ الإسلام ابن تيمية ومن على طريقته، ولا يزال لله تعالى بقايا من أهل العلم ومن أهل الدين في كل زمان ينافحون ويكافحون عن الدين الحق، ويردون البدع، ويردون على أهلها، وبهم تقوم حجة الله على عباده. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 9 ما يترتب على اعتقاد العلو لله سبحانه وتعالى من جملة ما مر بنا في هذه العقيدة الكلام على صفة العلو والفوقية، وقد ذكر الشارح رحمه الله الأدلة على العلو، وأورد أنواعاً كثيرة من الأدلة العقلية ومن الأدلة النقلية الشرعية من الآيات والأحاديث، وهو لم يستوفِ الأدلة، ومن الكتب التي استوفت كتاب: العلو للعلي الغفار للإمام الذهبي، وكتب كثيرة استوفت هذه المقالة التي هي صفة العلو بأدلتها. والمسلم إذا اعتقد هذه الصفة، ودان لله تعالى بأنه هو العلي الأعلى، فإن الله تعالى سيتقبل عبادته، ويضاعف أجره، ومن نتيجة هذه العقيدة، أنه يحصل للذين يعتقدونها مخافة ربهم من فوقهم كما أخبر عن الملائكة بقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] ، فإن المؤمن إذا استشعر أن ربه من فوقه، وأنه مطلع عليه؛ فإنه يشعر من نفسه بالذل، ولربه بالعز والجلال، فيعظمه ويراقبه ويخافه، ويعبده حق عبادته، وهذا نتيجة اعتقاد هذه العقيدة. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 10 شرح العقيدة الطحاوية [35] أنكر الجهمية أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وأنه كلم موسى تكليماً، وقد رد عليهم أهل العلم، وبينوا حقيقة الخلة، وأنها أرفع درجة من المحبة. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 1 حقيقة الخلة والمحبة والفرق بينهما قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قوله: (ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم الله موسى تكليماً، إيماناً وتصديقاً وتسليماً) . قال الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125] ، وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] . الخلة: كمال المحبة، وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين؛ زعماً منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة! وكذلك أنكروا حقيقة التكليم كما تقدم، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية، فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط، خطب الناس يوم الأضحى فقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً. ثم نزل فذبحه. وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم، فجزاه الله عن الدين وأهله خيراً. وأخذ هذا المذهب عن الجعد الجهم بن صفوان، فأظهره وناظر عليه، وإليه أضيف قول (الجهمية) ، فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها، ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد، وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون، حتى امتحن أئمة الإسلام، ودعوهم إلى الموافقة لهم على ذلك. وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة، وهم ينكرون أن يكون إبراهيم خليلاً وموسى كليماً؛ لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب، كما قيل: قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً ولكن محبته وخلته كما يليق به تعالى كسائر صفاته، ويشهد لما دلت عليه الآية الكريمة ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله) ، يعني: نفسه. وفي رواية: (إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) ، وفي رواية: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ، فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلاً، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس به أبو بكر الصديق، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصاً، كقوله لـ معاذ: (والله إني لأحبك) ، وكذلك قوله للأنصار، وكان زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنه أسامة حبه، وأمثال ذلك. وقال له عمرو بن العاص: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) ، فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة، والمحبوب بها لكمالها يكون محبوباً لذاته، لا لشيء آخر، إذ المحبوب لغيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير، ومن كمالها لا تقبل الشركة ولا المزاحمة؛ لتخللها المحب، ففيها كمال التوحيد، وكمال الحب، ولذلك لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكان إبراهيم قد سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً، فوهب له إسماعيل، فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه، فغار الخليل على قلب خليله أن يكون فيه مكان لغيره، فامتحنه بذبحه، ليظهر سر الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده، فلما استسلم لأمر ربه، وعزم على فعله، فظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح الولد إيثاراً لمحبة خليله على محبته، نسخ الله ذلك عنه، وفداه بالذبح العظيم؛ لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم، وتوطين النفس على أعلى ما أُمر، فلما حصلت هذه المصلحة عاد الذبح نفسه مفسدة، فنسخ في حقه، وصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنة في أتباعه إلى يوم القيامة] . الجزء: 35 ¦ الصفحة: 2 معنى الخلة والخليل تكلم الشارح رحمه الله -كما سمعنا- على مسألة الخلة التي قال الله فيها: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125] ، وذكر أن الخلة أعلى أنواع المحبة، وأن الخليل في الأصل: هو المحبوب الذي تخللت محبته شغاف القلب، فالخليل: هو المحبوب الذي بلغت محبته النهاية، والأخلاء: هم الأحباب، قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] يعني: الذين كانوا متحابين محبة شديدة في الدنيا، إذا لم تكن تلك المحبة على التقوى صار بعضهم في الآخرة لبعض عدواً، ولو كانت تلك المحبة والخلة وثيقة وقوية. فالخلة تخلل المحبة شغاف القلب، قال الشاعر: قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً قوله: (مسلك الروح) يعني: دخلت فيما يدخل فيه الروح، الروح يسري في الجسد وفي العروق وفي الدماء وفي العظم وفي البشر وفي كل شيء ما عدا الشعر، فالروح يسري في كل الإنسان، يقول: إني أخاطب محبوبة كأنها تخللت ما تخلله الروح حتى وصلت إلى شغاف القلب، وبذا سمي الخليل خليلاً. ويقول الشاعر أيضاً: لكل اجتماع من خليلين فرقة وكل الذي دون الممات قليل فالخليل: هو المحبوب. وقال الله تعالى حكاية عن بعض الكفار في النار: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28] يعني: محبوباً. الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، يعني: محبوباً، والنبي صلى الله عليه وسلم له أخلاء محبوبون، ولكن المحبة القوية الخالصة كانت بينه وبين ربه، فربه تعالى قد اتخذه خليلاً، وهو قد أحب ربه تلك المحبة التي هذه نهايتها، وهذه غايتها، فبقي قلبه ممتلئاً بتلك المحبة التي هي الخلة، ليس فيه موضع لغيره، وهكذا يجب على كل مؤمن أن يكون قلبه ممتلئاً بمحبة ربه، المحبة التي لا ينازعها غير محبة المحبوب. الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، وأحبه هذا النوع من المحبة، وإبراهيم كذلك أحب ربه المحبة التامة التي هي أعلى أنواع المحبة، ولما وهبه الله ولده إسماعيل أحبه كما هو معلوم أن الولد محبوب في النفس، وأن النفس تميل إليه وتحبه محبة طبعية، محبة شفقة وحنان، فلما تعلق قلب إبراهيم بولده وأحبه غار الرب تعالى على خليله أن يكون في قلبه موضع لغير ربه، وأن يكون قلبه منشغلاً بربه، فهو يريد ألا يكون فيه أية محبة صادقة لغير الله تعالى، فعند ذلك امتحنه بذبح ولده، فلما استسلم لذلك، والتزم بأن يطيع ربه في هذه المحنة، وأن يذبح ولده؛ خرج ذلك الجزء الذي في قلب إبراهيم من المحبة لولده، وذلك الاشتراك الذي كان فيه من محبة الولد، وصفا قلب إبراهيم لربه، وعرف ربه من قلبه أنه ممتلئ بمحبة ربه، وأنه لا يقدم على محبته محبة مال ولا ولد ولا أخ ولا خليل ولا غير ذلك، فعند ذلك نسخ الله هذا الأمر كما سمعنا، وفداه الله بذبح عظيم. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 3 شبهة إنكار المحبة بين العبد وربه والرد عليها المحبة من أعلى صفات الله الفعلية، الله تعالى يحب عباده، ويتخذ من يشاء منهم خليلاً، فإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم هما الخليلان اللذان اتخذهما الله لهذه الخلة التي هي من خصائصهما، وأما بقية الخلق فإنهم يحبون الله تعالى والله تعالى يحب المؤمنين ويحب المتقين ويحب التوابين ويحب المتطهرين كما أخبر بذلك. فالمحبة عامة للمؤمنين، والخلة خاصة بالخليلين، وهي من الله تعالى. صفة الخلة وصفة المحبة عموماً، أنكرتها الجهمية من الجانبين، فقالوا: الله لا يُحِب ولا يُحَب، أنكروا أن المؤمنين يحبون ربهم، وأنكروا أن الله يحبهم، لماذا؟ يقولون: إن المحبة لا تكون إلا بين اثنين بينهما تجانس، فالإنسان يحب إنساناً لأنه إنسان؛ ولأن بينهما تجانساً، وليس بين الرب وبين الخلق تجانس، يقولون: الرب قديم، والإنسان حادث، فما دام أن بينهما هذا التفاوت فلا يمكن أن يكون بينهما هذه المحبة التي هي خاصة بالمتجانسين. هذه شبهة، ولا شك أنها شبهة باطلة، فالمؤمنون يجدون في قلوبهم المحبة، ويجدون من ربهم آثار هذه المحبة، فالله تعالى يحب عباده، ومن آثار هذه المحبة: أنه ينصرهم، ويكرمهم، ويؤيدهم، ويقويهم، ويعلي شأنهم، ويعلي كلمتهم، ويوفقهم، ويسدد خطاهم، أليس ذلك دليل من آثار المحبة؟ إذا رأيت إنساناً يكرم رجلاً، ويقدسه، ويقدمه، ويدخله بيته دائماً، ويزوره، ويستزيره، ويهدي له، ويقبل هديته، ويمدحه في المجالس، ألست تستدل على أنه يحبه؟ نعم، وتقول: هذا يحب فلاناً، وبينهما محبة. نحن نشهد آثار رحمة الله تعالى، نشهد أنه يوفق بعض عباده، وأنه ينصرهم ويؤيدهم، ويقويهم ويقوي عزائمهم، ويقوي قلوبهم، أليس ذلك من آثار المحبة؟ بلى؛ هذا دليل على أنه أحبهم حيث أظهرهم وقواهم ونصرهم وأيدهم، كما حصل لأولياء الله تعالى في كل مكان وزمان. إذاً: نستدل بآثار المحبة على وجودها، هذا لو لم ترد في الأدلة، فكيف والأدلة الشرعية كثيرة كقول الله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، اجتمعت المحبتان: ((يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)) ، وهذا رد على المعتزلة في الجهتين، هم يقولون: لا يحُب ولا يحِب، والآية أثبتت أنه يحبهم وأنهم يحبونه، ومن آثار محبته لهم: أنه ينصرهم ويؤيدهم ويقوي كلمتهم، وآثار محبتهم لربهم: أنهم يعبدونه، ويخلصون العبادة له، ويوحدونه ويطيعونه، ويطيعون أمره، ويعظمون شرعه، ويستعدون للقائه، ويعملون بشرائعه كلها، ويحذرون من أسباب غضبه، ويفعلون أسباب ثوابه، وهذا دليل على أنهم يحبونه. كذلك أيضاً محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم واجبة عليهم، وهي تابعة لمحبة الله تعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) . نحن نحب هذا النبي صلى الله عليه وسلم، والكثير يقولون: نحن نحبه، ونشهد أنه رسول الله، لكن لهذه المحبة علامات، فلابد أن تظهر في الذي يحبه علامات المحبة، ومن أبرزها طاعته واتباعه، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] . الجزء: 35 ¦ الصفحة: 4 تكليم الله لموسى وغيره ذكر الشارح أن الله تعالى كلم موسى تكليماً، وقد تقدم الكلام على القرآن، وأنه كلام الله، وأن الله تعالى متكلم، يتكلم إذا شاء، ومن كلامه القرآن، وكلامه لا يفنى، ولو كتب بكل أقلام الدنيا وكانت البحار مداداً لها؛ لفنيت الأقلام وتكسرت، ولفنيت مياه البحار قبل أن يفنى كلام الله. والله تعالى خص من عباده من كلمهم، ومنهم: موسى، قال الله تعالى يخاطب موسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] (اصطفيتك) يعني: اخترتك وفضلتك وميزتك بهذه الأشياء التي منها: أن الله كلمه، ومنها: أنه أرسله وجعله من المرسلين، وغير ذلك مما ميزه الله به. هذه الآية لا يستطيع المعتزلة أن يؤولوها: (اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي) . أما الآية التي استشهد بها الشارح، وهي قوله الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] ، ومثلها قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] ، فهذا صريح أيضاً في أن الله كلم موسى، ومعروف أن الكلام هو المسموع؛ لقوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] فهو كلام سمعه، ولكن المعتزلة لما أنكروا هذه الصفة تأولوها تأويلاً بعيداً، فيقولون: إن التكليم هنا: التجريح، (كلمه) أي: جرحه بأظافير الحكمة. وما أبعد هذا التأويل!! ونسوا أن الله تعالى أخبر بأنه اصطفاه بكلامه، وتكرر الآيات يمنع من صرفها إلى هذا التأويل البعيد، ونسوا أن التأويل لا يمكن إلا ببينة وبقرينة ترجح ما تأولوه، وحيث إنه ليس هناك قرينة فلا نقبل منهم هذا التأويل البعيد، وهذا تحريف. وقد ذكر أن رجلاً جاء إلى أبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة من قراء البصرة، وقال: أريد أن تقرأ هذه الآية هكذا: (وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا) يعني: أن موسى هو الذي كلم الله، وأن الله لم يكلم موسى، فجعل اسم (الله) مفعول به منصوب على أنه هو المكلم. ماذا قال أبو عمرو رحمه الله؟ قال: هب أني أو غيري قرأها هكذا، فكيف تفعل بقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ؟! فبهت ذلك المعتزلي، حيث إن تلك الآية لا تستطيع المعتزلة تأويلها ولا تحريفها، ويسمى هذا: تحريفاً لفظياً. والحاصل أن المعتزلة أنكروا هاتين الصفتين: صفة الخلة التي هي أعلى أنواع المحبة، وصفة الكلام من الله تعالى الذي هو صفة كمال، أنكروا هاتين الصفتين. وهذه المقالة -التي هي إنكار هذه الصفات- اشتهرت عن الجعد بن درهم كما ذكر الشارح، وهو الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط -قرية من قرى العراق- فقتله في يوم العيد وجعله أضحيته يوم العيد، بعد أن أفتى علماء زمانه بكفره، وأنه أصر على قوله وعناده ولم يرجع، ولم يقبل، فبعدما خطب رحمه الله نزل وذبحه. يقول ابن القيم رحمه الله في النونية: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان ما هي مقالته؟ إذ قال إبراهيمُ ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الدان المقالة التي أنكروها عليه أنه أنكر أن الله كلم موسى تكليماً، وأنكر اتخاذ الله إبراهيم خليلاً. هذه المقالة حفظت عن الجعد، وذكر ابن تيمية رحمه الله أن الجعد أخذها عن طالوت، وطالوت أخذها عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر المشهور، فصارت مأخوذة عن سحرة اليهود. والجهم أخذها عن الجعد ونشرها فنسبت إليه، أصبح يقال: جهمية. الجهم كلمة مستبشعة، قالوا: إنها مشتقة من جهنم، مما يدل على أن اسمه قريب من هذه الكلمة. وذكر الإمام أحمد رحمه الله أنه أخذ مقالته عن طائفة يقال لهم: السمنية. وعلى كل حال فأسانيد الجهمية تعود إلى السمنية وإلى سحرة اليهود وإلى أشبهاهم، فكيف يترك لها كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعقائد سلف المسلمين؟! الجزء: 35 ¦ الصفحة: 5 نبينا محمد عليه الصلاة والسلام شارك إبراهيم وموسى في منزلة الخلة والتكليم قال الشارح رحمه الله: [وكما أن منزلة الخلة الثابتة لإبراهيم صلوات الله عليه قد شاركه فيها نبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم، كذلك منزلة التكليم الثابتة لموسى صلوات الله عليه قد شاركه فيها نبينا صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في حديث الإسراء. وهنا سؤال مشهور؛ وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فكيف طلب له من الصلاة مثل ما لإبراهيم، مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه؟ وكيف الجمع بين هذين الأمرين المتنافيين؟ وقد أجاب عنه العلماء بأجوبة عديدة، يضيق هذا المكان عن بسطها. وأحسنها: أن آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طلب للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء، حصل لآل محمد ما يليق بهم؛ لأنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء، وفيهم إبراهيم لمحمد صلى الله عليهما وسلم، فيحصل له من المزية ما لم يحصل لغيره. وأحسن من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، بل هو أفضل آل إبراهيم، فيكون قولنا: كما صليت على آل إبراهيم. متناولاً للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، بل هو متناول لإبراهيم أيضاً، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33] ، فإبراهيم وعمران دخلا في آل إبراهيم وآل عمران، وكما في قوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:34] فإن لوطاً داخل في آل لوط، وكما في قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة:49] ، وقوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فإن فرعون داخل في آل فرعون، ولهذا -والله أعلم- أكثر روايات حديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إنما فيها: (كما صليت على آل إبراهيم) . وفي كثير منها: (كما صليت على إبراهيم) ، ولم يرد: (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) إلا في قليل من الروايات، وما ذلك إلا لأن في قوله: (كما صليت على إبراهيم) يدخل آله تبعاً. وفي قوله: (كما صليت على آل إبراهيم) هو داخل في آل إبراهيم] . سمعنا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أعطي مثل ما أعطي الأنبياء قبله، فلما اتخذ الله إبراهيم خليلاً اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً كما تقدم في قوله: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ من أمته خليلاً، مع أنه قد أحب كثيراً منهم، كقوله لـ معاذ: (إني أحبك) ، وكتسمية زيد: حب النبي صلى الله عليه وسلم، وأسامة حب النبي صلى الله عليه وسلم وابن حبه، ولكن لم يقل: إن هذا خليلي، بل قال: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن صاحبكم خليل الله) . وقد كلم الله موسى تكليماً، وحصل ذلك -أيضاً- لنبينا صلى الله عليه وسلم، كلمه الله لما أسري به، وأسمعه كلامه لما أمره بخمسين صلاة فرجع وقال: (يا رب! خفف عن أمتي. فقال: خففت عنك عشراً، وهكذا تردد إليه حتى صارت خمس صلوات، فقال الله: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) . ففي هذا أنه كلمه تكليماً، فعلى هذا يكون قد حصل للنبي صلى الله عليه وسلم الخلة التي لإبراهيم، وحصل له الكلام الذي لموسى، وكذلك بقية الفضائل التي لبقية الأنبياء. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 6 معنى قول: (كما صليت على آل إبراهيم) سمعنا الإشكال الذي يورده بعض العلماء لقوله في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على آل إبراهيم، أو كما صليت على إبراهيم، أو كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم) فيقولون: كيف يسأل للنبي عليه الصلاة والسلام مثلما حصل لإبراهيم، يعني: شبيهاً به، والمشبه دون المشبه به، فعلى هذا يكون الذي يحصل لمحمد من الصلاة أقل من الذي يحصل لإبراهيم؛ لأن المشبه دون المشبه به؟ هذا إشكال، كيف ذلك ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل؟ الجواب الصحيح أن يقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، بل هو أفضل آل إبراهيم، ولأجل ذلك يذكره الله بقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] ، ولما كان في الإسراء ولقيه في السماء السابعة قال: (مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح) لأنه من ذريته، فهو من آل إبراهيم، فإذا قلنا: (كما صليت على آل إبراهيم) . دخل في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم، وطلبنا لآل محمد كما حصل لآل إبراهيم، فلا يحصل هناك إشكال إن شاء الله. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 7 منبع العقيدة الإيمان بالغيب منبع العقيدة وأصلها هو الإيمان بالغيب، وأن ذلك ينحصر في الأركان الستة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الإيمان حيث قال: (الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) ، وذكرنا أن أصل ذلك كله هو الإيمان بالله، وأن من آمن بالله سبحانه إلهاً ورباً وخالقاً ومعبوداً التزم الإيمان بسائر كتبه، والتزم الإيمان بالعذاب والنعيم الذي وعد به، والتزم الإيمان بالأمر والنهي الذي شرعه، والتزم الإيمان بالقضاء والقدر الذي قدره وقضاه، والتزم الإيمان بالبعث والنشور الذي أخبر به، وآمن بالرسل، وآمن بالكتب، وآمن بالملائكة، وآمن بالغيب كله، آمن بما أخبر الله به، ونتج عن الإيمان بذلك العمل، أي: صدق بذلك تصديقاً جازماً، وعمل بما صدق به وبما هو قادم عليه. ويتوقف الإيمان بالله تعالى على معرفة الأدلة، قال في الأصول الثلاثة التي كان الأولون يقرئونها أبناءهم: إذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمته، وإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: عرفته بآياته ومخلوقاته. هذه أكبر العلامات وأكبر الأدلة: الآيات والمخلوقات، فمن عرف الله تعالى بآياته وعرفه بمخلوقاته آمن به، ومن آمن به آمن بخبره، وآمن بأمره ونهيه، وآمن بوعده ووعيده، وآمن بشرعه وبحكمه، وآمن بقضائه وبقدره، وآمن بكل ما أخبر به، ومتى آمن بذلك وصدق به تصديقاً جازماً ظهرت آثار ذلك على أعماله، فرأيته مسارعاً للأعمال، ورأيته مستكثراً من الصالحات، ورأيته مستعداً للقاء الله، ورأيته عاملاً بما أمر الله، ورأيته مبتعداً عما حرم الله، وإذا رأيته ليس كذلك فاعلم أن تصديقه ضعيف، واعلم أن إيمانه ضعيف، من رأيته يتجشم الكبائر، من رأيته يتساهل بالصغائر ويصر عليها، من رأيته يترك الأوامر ويتساهل بفعل الشرائع، فاعلم أن تصديقه ضعيف، واعلم أن إيمانه مشكوك فيه، فإن الإيمان الضعيف يظهر أثره بقلة الأعمال الصالحة، وباقتراف السيئات وترك المأمورات، والإيمان القوي يظهر أثره على الأعمال، فتجد المؤمن القوي مسارعاً إلى الخيرات مستكثراً منها، يعلم آثارها، ويعلم صلاحها، ويعلم النتيجة التي يجنيها من ورائها، ويعلم أن ثوابها عظيم، وأن أجرها لا يضيع عند الله، ويعلم أن في تركها الحسرة والندامة. فهذه العلامات التي تعرف بها المصدق من المكذب، تعرف بها الصادق من الكاذب، تعرف بها الإيمان من النفاق. ومر بنا أن من أركان الإيمان الإيمان بالملائكة، ويدخل في ذلك ما أخبر الله تعالى عنهم، مع أنا لم نرهم، ولكن نؤمن بهم كما أخبر الله، وذلك من الإيمان بالغيب. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 8 خصائص آل إبراهيم عليه السلام قال الشارح رحمه الله: [وكذلك لما جاء أبو أوفى رضي الله عنه بصدقته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم صل على آل أبي أوفى) . فعلى رواية من روى: (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) لا يدخل فيهم لإفراده بالذكر، ولما كان بيت إبراهيم عليه السلام أشرف بيوت العالم على الإطلاق، خصهم الله بخصائص: منها: أنه جعل فيه النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم نبي إلا من أهل بيته. ومنها: أنه سبحانه جعلهم أئمة يهدون بأمره إلى يوم القيامة، فكل من دخل الجنة من أولياء الله بعدهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوتهم. ومنها: أنه سبحانه اتخذ منهم الخليلين، كما تقدم ذكره. ومنها: أنه جعل صاحب هذا البيت إماماً للناس، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] . ومنها: أنه أجرى على يديه بناء بيته الذي جعله قياماً للناس ومثابة للناس وأمناً، وجعله قبلة لهم وحجاً، فكان ظهور هذا البيت من أهل هذا البيت الأكرمين. ومنها: أنه أمر عباده أن يصلوا على أهل البيت، إلى غير ذلك من الخصائص] . قد ذكرنا أن من أركان الإيمان: الإيمان بالأنبياء والرسل، وأن الأنبياء هم الذين أوحى الله إليهم، وأنزل عليهم شيئاً من شرعه، وأن منهم من كلفه الله بالتبليغ، وأمره بالدعوة، وجعل رسالته مؤكدة في أن يدعو إليها ويبلغها، وحذر من أرسل إليهم إذا لم يصدقوه أن يعذبهم، وأنزل عليه شريعة مستقلة، فهؤلاء هم رسل الله، نؤمن بهم، ومنهم أنبياء يوحي الله إليهم، ولكن لم يفردهم بشرائع خاصة، بل يحكمون بشرائع من قبلهم، ولكن ينزل عليهم الوحي، ويأمرهم الله فيه بأوامر تكون موافقة للأوامر التي أوحى بها إلى الأنبياء قبلهم، فهؤلاء أنبياء، وليسوا مكلفين بالدعوة العامة، ولم يعذب من كذبهم تعذيباً عاماً كالذين كذبوا المرسلين. ورد في الحديث: (أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، وأن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر) ، الله تعالى ذكر في القرآن نحو خمسة وعشرين نبياً أو رسولاً، والبقية لم يقصصهم علينا، قال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164] ، أفضل هؤلاء الأنبياء المرسلون منهم، وأفضل المرسلين خمسة وهم أولو العزم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وعليهم وسلم، وأفضل هؤلاء الخمسة الخليلان: إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما، وأفضلهما محمد، وهو خاتم الرسل، وأفضل الأنبياء، وسيد ولد آدم. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 9 فضائل إبراهيم عليه السلام استشكل بعض الناس أننا أمرنا بأن نصلي على محمد كما نصلي على إبراهيم، أو نطلب من الله صلاته على محمد كما صلى على آل إبراهيم، وكيف دعي له بمثل صلاته على إبراهيم، يقول العلماء: إن المشبَه دون المشبه به، فيكون إبراهيم على هذا أفضل من محمد والأمر بالعكس، وأجاب العلماء بأن محمداً صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، فهو واحد منهم، ولا شك أيضاً أن إبراهيم عليه السلام له ميزة وله فضائل أثنى الله عليه بها، ومدحه بها، فذكر أنه دعا الناس وهو صغير، وبكتهم ووبخهم وهو لا يزال في الفتوة، كما حكى الله عنهم: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60] وذلك عندما كسر أصنامهم وهو لم يزل فتى شاباً، وذلك دليل على أنه قام بالدعوة وهو شاب. وكذلك أيضاً وقعت له المعجزة الكبيرة، وهو أن الله تعالى جعل النار عليه برداً وسلاماً. كذلك وهب الله له على الكبر إسماعيل وإسحاق، ولما دعا بقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100] أجاب الله تعالى دعوته ووهب له الصالحين. كذلك أيضاً جعل الأنبياء بعده كلهم من ذريته، فأولاده أنبياء إسماعيل وإسحاق، وكذلك ابن ابنه يعقوب، وكذلك يوسف بن يعقوب، وهكذا ذرية يعقوب الذي هو إسرائيل عليه السلام، وكذا أيضاً من كان بعدهم من ذريتهم إلى أن كان نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، فالكل من ذرية إبراهيم، فهم من آل إبراهيم. ومن فضائله: أن الله تعالى جعل على يديه بناء البيت، أمره الله تعالى أن يبنيه بعدما اندرس واندثر، قال الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] مكانه يعني: موضعه، وقال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] فجعله الله تعالى على يديه، وأمره بأن يطهره بقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26] {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ} [البقرة:125] فهذه كلها من الخصائص والميزات، ولما كان بهذا الشرف لم يكن هناك استنكار في أن يصلى على محمد كما صلي على آل إبراهيم. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 10 شرح العقيدة الطحاوية [36] للفلاسفة والمعتزلة والرافضة أصول في العقائد يعتمدون عليها، ويعتقدون صحتها، وهي مخالفة للكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 1 حقيقة إيمان الفلاسفة بأركان الإيمان قال المصنف رحمه الله: [قوله: (ونؤمن بالملائكة والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين) . هذه الأمور من أركان الإيمان. قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] الآيات. وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَة وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] الآية. فجعل الله سبحانه وتعالى الإيمان هو الإيمان بهذه الجملة، وسمى من آمن بهذه الجملة مؤمنين، كما جعل الكافرين من كفر بهذه الجملة، بقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136] ، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته حديث جبريل وسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) . فهذه الأصول التي اتفقت عليها الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه، ولم يؤمن بها حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل. وأما أعداؤهم ومن سلك سبيلهم من الفلاسفة وأهل البدع، فهم متفاوتون في جحدها وإنكارها، وأعظم الناس لها إنكاراً الفلاسفة المسمون عند من يعظمهم بالحكماء، فإن من علم حقيقة قولهم علم أنهم لم يؤمنوا بالله ولا رسله ولا كتبه ولا ملائكته ولا باليوم الآخر، فإن مذهبهم أن الله سبحانه موجود لا ماهية له ولا حقيقة، فلا يعلم الجزئيات بأعيانها، وكل موجود في الخارج فهو جزئي، ولا يفعل عندهم بقدرته ومشيئته، وإنما العالم عندهم لازم له أزلاً وأبداً، وإن سموه مفعولاً له، فمصانعة ومصالحة للمسلمين في اللفظ، وليس عندهم بمفعول ولا مخلوق ولا مقدور عليه، وينفون عنه سمعه وبصره وسائر صفاته! فهذا إيمانهم بالله. وأما كتبه عندهم، فإنهم لا يصفونه بالكلام، فلا يكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشر زاكي النفس طاهر، متميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص: قوة الإدراك وسرعته، لينال من العلم أعظم ما يناله غيره، وقوة النفس، ليؤثر بها في هيولى العالم يقلب صورة إلى صورة، وقوة التخييل، ليخيل بها القوى العقلية في أشكال محسوسة، وهي الملائكة عندهم، وليس في الخارج ذات منفصلة تصعد وتنزل وتذهب وتجيء وترى وتخاطب الرسول، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان. وأما اليوم الآخر، فهم أشد الناس تكذيباً وإنكاراً له في الأعيان، وعندهم أن هذا العالم لا يخرب، ولا تنشق السماوات ولا تنفطر، ولا تنكدر النجوم، ولا تكور الشمس والقمر، ولا يقوم الناس من قبورهم ويبعثون إلى جنة ونار، كل هذا عندهم أمثال مضروبة لتفهيم العوام، لا حقيقة لها في الخارج كما يفهم منها أتباع الرسل، فهذا إيمان هذه الطائفة - الذليلة الحقيرة - بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وهذه هي أصول الدين الخمسة] . قد ذكرنا أن الإيمان له أركان ستة، وأنها ذكرت في القرآن، قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] هذه بعض أركان الإيمان، وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] وهذه أيضاً من أركان الإيمان، ولقد مدح الله المؤمنين بها، وقال تعالى في ذم الذين يكذبون بها في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} [النساء:137] والمراد بإيمانهم هو تصديقهم بشيء ثم تكذيبهم به، وإيمانهم بشيء آخر أو نحو ذلك، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:136] أمرنا أن نؤمن بالله، وأن نؤمن برسله، ونؤمن بالكتب المنزلة على الأنبياء قبلنا، وبالكتاب المنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام، وأخبر بسوء وعاقبة من كذب بهذه الأركان الخمسة. ولا شك أن الإيمان بها يستلزم اعتقادها واعتقاد صحتها، وإذا كنا نؤمن بالله تعالى، فمن أي شيء نأخذ صفات ربنا؟ نأخذها من كلامه ومن كلام رسوله، فنؤمن بما جاء في صفاته سبحانه من صفات الكمال، وننزهه عما نزه نفسه عنه من صفات النقص، هذا كمال الإيمان بالله تعالى. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 2 الإيمان بالله عند الفلاسفة الفلاسفة ونحوهم لم يؤمنوا بالله حقيقة، إنما يؤمنون بوجود مجرد ليس له وجود في الخارج، وإنما هو وجود في الذهن يرجع في الحقيقة إلى العدم، حيث وصفوه بصفات العدم، مما يجل عن أن يوصف به، هذا إيمانهم بالله وهم مع ذلك يسمون بالحكماء وبالعلماء، والفلسفة عندهم هي نوع من الحكمة، هي علم المعتقد الذي يدور على الأدلة، فهو عندهم علم له أهميته، هذا إيمانهم بالله تعالى، ويوجد هذا التفسير في مؤلفات أكابرهم كمؤلفات عالمهم الكبير المشهور بـ ابن سيناء، وعالم آخر يقال له: الفارابي، وعالم آخر منهم يقال له: الطوسي، وأشباههم، وهؤلاء علماء إسلاميون كما يقال لهم، وهم معظمون عند الكثير في هذه الأزمنة ومقدسون، وكتبهم لها ثمن رفيع، ولها منزلة عالية عند الكثير في هذه الأزمنة؛ وذلك لما فيها بزعمهم من الأفكار، ولما فيها من الابتكارات والاختراعات والعلوم العقلية كما يسمونها، فلذلك صارت محل تقدير عندهم، وكتب ابن سيناء تتعلق بالطب أو تتعلق بالكلام أو تتعلق بالعلوم التي يسمونها علوماً، أو تتعلق بالأحكام وغير ذلك، وكذلك كتب الفارابي. ولا شك أن هؤلاء وإن سموا فلاسفة إسلاميين فإنهم أبعد عن الصواب، وبالأخص في الإيمان بالغيب، فهم أبعد الناس عنه، فلا يغتر بمن يمدحهم ومن يثني عليهم ومن يزعم أنهم علماء إسلاميون أجلاء، وأن لهم منزلة رفيعة، ولهم مكانة عند المسلمين، لا يغتر أحد بذلك. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 3 الإيمان بالرسل عند الفلاسفة الرسل عند الفلاسفة لم ينزل عليهم الوحي، ولكن الرسل عندهم أناس أذكياء لهم فطنة استطاعوا بفطنتهم وبذكائهم أن يلبسوا على الناس وأن يقولوا: إنما أنزل علينا، وإننا مشرعون، وجاءنا الشرع، وإننا رسل من الله، ولم يكن هناك رسالة، ولم يكن هناك شرع، وإنما أرادوا أن يكون لهم أتباع، فصار لهم أتباع بهذه الفكرة، هذه عقيدتهم في الرسل، ويسمون ذلك: تخييلاً، ولا شك أنهم ما آمنوا بالرسل حقيقة الإيمان. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 4 الإيمان بالكتب عند الفلاسفة الفلاسفة لا يعتقدون أن لله تعالى كلاماً، ولا أن الله تعالى يتكلم، ولا أن له صفات حقيقة ما دام أنهم يجعلون وجوده وجود في الأذهان لا في الأعيان؛ فإذاً ليس لله كلام عندهم، وهذا القرآن ليس هو كلامه، وإنما هو إما من نظم البشر وإما من تركيب الملك أو نحو ذلك، فليس لله عندهم كتب منزلة متضمنة لشرع الله. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 5 الإيمان بالملائكة عند الفلاسفة الفلاسفة يؤمنون بأن هناك ملائكة ذات أرواح يصعدون وينزلون ويسمعون ويتكلمون ويحملون الوحي، لا يؤمنون بذلك. وعندهم أن الروح التي في الإنسان عبارة عن حياة عامة في هذا الكون، إذا اتصلت بالمخلوق حس بالحياة، وإذا انفصلت عنه انتقل إلى الوفاة، هذه حقيقة الروح عندهم. وعندهم أن الملائكة ليس لهم حقيقة وجود، وليس لهم أجنحة يصعدون بها وينزلون، فإذاً ليس للملائكة عندهم وجود. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 6 الإيمان باليوم الآخر عند الفلاسفة الفلاسفة لا يؤمنون باليوم الآخر، وعندهم أنه لا حقيقة للبعث، ولا حقيقة لانقضاء الدنيا، بل من معتقدهم أنه ليس هناك بعث ولا نشور، ولا حياة للأجساد، ولا جمع لها بعد أن تتفتت، ولا إعادة للأرواح إليها، وليس هناك جنة ولا نار يثاب بهذه ويعاقب بهذه، بل ليس عندهم مبدأ، والعالم هذا لم يزل موجوداً منذ القدم، ولم يسبق بعدم، ويكذبون بخلق آدم، ويقولون: ليس هناك شخص اسمه آدم خلق من تراب، بل هذا الخلق وهذا الوجود وهذه الأرض قديمة ما سبقت بعدم، هذه عقائد الفلاسفة، فهم كذبوا خبر الله تعالى، وكذبوا أخبار الرسل وكذبوا ما جاءت به، فخالفهم بذلك أهل السنة وأقروا بها على ما جاءت به، وأخذوا تفاصيلها عن الرسل الذين جاءوا بهذه الشرائع وقبلوها كما جاءت، وصاروا بذلك أحق باتباع الرسل. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 7 أصول الدين وأركانه عند المعتزلة قال الشارح رحمه الله: [وقد أبدلتها المعتزلة بأصولهم الخمسة التي هدموا بها كثيراً من الدين، فإنهم بنوا أصل دينهم على الجسم والعرض، الذي هو الموصوف والصفة عندهم، واحتجوا بالصفات -التي هي الأعراض- على حدوث الموصوف الذي هو الجسم، وتكلموا في التوحيد على هذا الأصل، فنفوا عن الله كل صفة، تشبيهاً بالصفات الموجودة في الموصوفات التي هي الأجسام، ثم تكلموا بعد ذلك في أفعاله التي هي القدر، وسموا ذلك: العدل. ثم تكلموا في النبوة والشرائع، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، وهي مسائل الأسماء والأحكام، التي هي المنزلة بين المنزلتين، ومسألة إنفاذ الوعيد. ثم تكلموا في إلزام الغير بذلك، الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضمنوه جواز الخروج على الأئمة بالقتال. فهذه أصولهم الخمسة، التي وضعوها بإزاء أصول الدين الخمسة التي بعث بها الرسول. والرافضة المتأخرون، جعلوا الأصول أربعة: التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة. وأصول أهل السنة تابعة لما جاء به الرسول. وأصل الدين: الإيمان بما جاء به الرسول، كما تقدم بيان ذلك، ولهذا كانت الآيتان من آخر سورة البقرة - لما تضمنتا هذا الأصل - لهما شأن عظيم ليس لغيرهما، ففي الصحيحين عن أبي مسعود عقبة بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (بينا جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته) ، وقال أبو طالب المكي: أركان الإيمان سبعة، يعني هذه الخمسة، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار. وهذا حق، والأدلة عليه ثابتة محكمة قطعية. وقد تقدمت الإشارة إلى دليل التوحيد والرسالة] . لما ذكر الشارح تأويلات الفلاسفة لأركان الإيمان الستة، ذكر بعد ذلك أركان الدين عند المعتزلة. المعتزلة يتسمون بأنهم مسلمون، ويدعون أن الحق بجانبهم، ولهم مؤلفات ولهم كتب على مذهبهم ومعتقدهم، وجدوا وكثروا في القرن الثالث، ولكن تمكنوا بقوة وسيطروا على أكثر الأمة في القرن الرابع وما بعده، وأصبح وجود أهل السنة قليلاً في تلك القرون. أركان الدين عندهم خمسة: يسمونها بأسماء حسنة: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما أحسنها من أسماء! ولكن محتوياتها وما تتضمنه وما تفسر به فيها الشر، فما المراد بهذه الأصول عندهم؟ الجزء: 36 ¦ الصفحة: 8 التوحيد عند المعتزلة التوحيد عند المعتزلة هو نفي الصفات، يقولون: إذا أثبتنا سمعاً وبصراً وقدرة وعلماً ورحمة ومحبة ويداً ووجهاً وعلواً ونزولاً، وما أشبه ذلك؛ لم نثبت واحداً بل أثبتنا عدداً فلا نكون موحدين، الموحد هو الذي يثبت واحداً، وهو الله، ولا يجعل له صفات، فإن الصفات تكون زائدة عن الذات عندهم. ويقولون: إن القدم لله وحده، ولو كانت الصفات قديمة لكان القدماء عدداً، وهذا من شبههم. و الجواب أن الصفة من الموصوف، ولا يلزم من إثباتها تعدد، فأنت تقول: جاءني رجل، وهو واحد، ولا تعدد فيه. ولا تقول: جاءني زيد ورجله ويده ورأسه وبطنه وظهره وروحه، ونفسه، ما تقول ذلك، هو رجل واحد، فما دام أن الصفة تابعة للموصوف، فلا يلزم من إثبات الصفات إثبات العدد، فبطلت بذلك شبهتهم في إنكارهم للصفات، وزعمهم أن إنكارها هو التوحيد. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 9 العدل عند المعتزلة العدل عند المعتزلة هو إنكار القدرة العامة، يقولون: إن الله لا يقدر على خلق أفعال العباد، كيف يخلقها ثم يعذب العصاة، ويثيب المطيعين، وهو الذي خلق حركات هؤلاء وحركات هؤلاء. وقد تقدم الكلام على القدر وذكرنا أن الله هو الذي خلق أفعال العباد، ولكنه سبحانه مع خلقه للعبد وعمله قد أعطى العباد قدرة خاصة، يتمكنون بها من مزاولة أعمالهم، وبها تنسب إليهم، فيقال: هذا هو المؤمن، وهذا هو الكافر، وهذا هو البر، وهذا هو الفاجر، وهذا هو المصلي، وهذا هو التارك للصلاة، وهذا هو المزكي، وهذا هو البخيل، تنسب لهم أعمالهم، ويثابون على حسنها، ويعاقبون على سيئها، وإن كانت مخلوقةً لله تعالى. أما المعتزلة فيقولون: إذا أثبتنا أن الله هو الذي خلقها فكيف يعذب عليها؟! بل ننفي خلقها ونقول: لم يخلقها الله، ولا يقدر الله على ذلك، وليس لله قدرة على أفعال العباد، وليس الله عندهم على كل شيء قدير، وقدرة العبد عندهم تغلب قدرة الله، تعالى الله عن قولهم، وعندهم أنه لا يقدر أن يهدي من يشاء، ولا يضل من يشاء، ولا يعطي من يشاء، ولا يمنع من يشاء، كل هذا عندهم يسمونه عدلاً، هذا معتقد باطل. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 10 المنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة الأصل الثالث عند المعتزلة هو: المنزلة بين المنزلتين، وماذا يريدون بذلك؟ يتعلق هذا بأسماء الأحكام والدين، عند أهل السنة أن المؤمن لا يخرج من الإيمان بالذنوب، ولا يدخل في الكفر، بل يقال للمذنب: مؤمن عاصٍ، ويقال له: فاسق، ويقال له: مؤمن بإيمانه، وفاسق بكبيرته، ولا نخرجه من الإيمان كلياً، ولا ندخله في الكفر، ولا نحكم عليه بالنار، ولا نستحل قتله ولا قتاله، ولا أخذ ماله، ولا سفك دمه؛ لأن معه الأصل الأصيل الذي هو الإيمان بالله وحده، ولو صدر منه ما صدر. أما المعتزلة فإنهم يخرجونه من الإيمان ولا يدخلونه في الكفر، يجعلونه في منزلة بينهما، فيقولون: ليس بمؤمن وليس بكافر، (ليس بمؤمن) بمعنى: أننا لا نعامله معاملة المؤمن حتى ولو كان يصلي ويزكي، ما دام أنه مثلاً يأكل الربا أو يزني أو يشرب الخمر أو يكذب وما أشبه ذلك، يخرجونه من الإيمان ولا يدخلونه في الكفر، يجعلونه في منزلة بينهما، لو أدخلوه في الكفر لاستحلوا سفك دمه، ولاستحلوا أخذ ماله، ولاستحلوا سبي نسائه، لكنهم لا يفعلون ذلك بل يجعلونه في منزلة بينهما، وهذه المنزلة مبتدعة، أهل السنة يقولون: إنه لا يخرج بذلك من الإيمان والله سبحانه وتعالى إذا شاء عفا عنه، وإذا شاء عذبه. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 11 إنفاذ الوعيد عند المعتزلة الأصل الرابع عند المعتزلة هو: إنفاذ الوعيد، وما أدراك ما إنفاذ الوعيد؟ الوعيد عندهم هو ما توعد الله به على الكبائر، يقولون: الله لا يخلف وعيده، ولابد أن تقع تلك العقوبات التي رتبت على تلك الذنوب والكبائر، فيخلدون أصحاب الكبائر في النار، ويكذبون بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ويقولون: صاحب الكبيرة مخلد في النار، وهذه الطريقة أخذوها من الخوارج، الخوارج امتازوا بأنهم يخرجونه من الإيمان وأنهم يستحلون دمه وماله وسبيه، وأما المعتزلة فإنهم يخرجونه من الإيمان ولا يدخلونه في الكفر، ولا يعاملونه في الدنيا معاملة الكفار، ولكن في الآخرة الخوارج والمعتزلة متفقون على أنه مخلد في النار لا يخرج منها. وعقيدة أهل السنة أنهم يجعلون أصحاب الكبائر تحت مشيئة الله، إذا شاء الله غفر لهم وأدخلهم الجنة، وإذا شاء أدخلهم النار بقدر سيئاتهم، ثم أخرجوا من النار بإيمانهم وبعقيدتهم وبتوحيدهم، يخرجون منها بعدما امتحشوا صاروا فحماً أو حمماً، ويلقون في نهر الحياة، وينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، وكل ذلك مذكور في الأحاديث النبوية الصحيحة. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 12 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة من أصول المعتزلة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويضمنون ذلك الخروج على الأئمة، فيقولون: إذا عصى إمام المسلمين العام وأصر على معصية حتى ولو كانت صغيرة لم نقره، بل نخرج عليه ونقاتله، ويسمون ذلك: أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر. وأهل السنة يقولون: لا نكفر الأئمة بذنب، ولا نخرج عن طاعتهم ما لم نر كفراً بواحاً، كما أمرنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، هذه أصول الإسلام وأركان الدين عند المعتزلة. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 13 أصول الدين وأركانه عند الرافضة الرافضة أصولهم أربعة: التوحيد والعدل -وهما كما تقدم عند المعتزلة- والإمامة -وهي أصل من أصولهم- والرسالة. أما الإمامة فهي عندهم من أقوى أركان دينهم، والذي لا يؤمن بالإمامة لأهل البيت لا يكون مؤمناً ولا مسلماً، ولا يقبل منه إسلام ولا دين ولا أعمال صالحة. ويجعلون الأئمة اثني عشر، وليس لهم أئمة إلى هذا اليوم؛ لأن الإمامة عندهم قد انقطعت منذ سنة مائتين وخمسين للهجرة، ليس لهم إمام، إمامهم الثاني عشر ينتظرونه إلى اليوم، ويسمونه: المهدي المنتظر الذي دخل سرداب سامراء، وفي كل ليلة يوقفون فرساً عند طرف ذلك السرداب في ذلك النهر، ويصيحون طوال ليلهم: اخرج يامولانا، اخرج يامولانا، ولا يجيبهم أحد طوال هذه القرون، هذا معتقدهم. الإمامة عندهم محصورة في الأئمة الاثني عشر من أهل البيت، يؤمنون بأنهم هم الأئمة، وأنه ليس للناس إمام، وأنه لا تصح الصلاة إلا خلف إمام معصوم، وأن صلاتهم خلفنا لا تقبل أبداً، وكذلك صلاتهم خلف غير المعصوم. وعلى كل حال فهي عقائد باطلة يعرف بطلانها بمجرد سماعها. أما أهل السنة فإنهم يؤمنون بأن واجب المسلمين طاعة ولاة أمورهم، والسمع لهم والطاعة، والصبر على ما يرى منهم من المخالفات أو من المعاصي، ما لم يروا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله تعالى برهان، وعند ذلك يخرجون عن طواعيتهم ولا يدخلون في الديانة لهم. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 14 فضل الآيتين من آخر سورة البقرة الإيمان بالملائكة والرسل ونحو ذلك مذكور في أواخر سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] هذه أربعة من أركان الإيمان ذكرها الله تعالى في هذه الآية. وهذه الآية في آخر سورة البقرة ورد فيها فضل، مع الآية التي بعدها، وفي الحديث (من قرأهما في ليلة كفتاه) ، يعني: أصبحت كافية له عن الأوراد، ومن سأل الله تعالى بها أعطاه؛ وذلك لأن الله تعالى أجاب الدعاء الذي ذكر فيها، إذا قال العبد: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله: قد فعلت، وإذا قال: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] قال الله: قد فعلت، وإذا قال: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] قال الله: قد فعلت، إذا كمل الآية إلى قوله: {فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] قال الله: قد فعلت، فيعتبر قراءة هاتين الآيتين تجديداً للإيمان، وختمت سورة البقرة بهذا الدعاء الذي ترجى إجابته إن شاء الله. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 15 شرح العقيدة الطحاوية [37] من المسائل التي تكلم عليها العلماء: مسألة التفضيل بين الملائكة والبشر، والمراد بالبشر الأنبياء وغيرهم من المؤمنين، وقد وردت أدلة كثيرة في هذه المسألة تدل على هذا وعلى هذا، وجمع بعض العلماء بأن الملائكة أفضل من البشر ابتداءً، وأن البشر أفضل منهم انتهاءً حينما يدخلون الجنة. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 1 الإيمان بالملائكة وما يتضمنه قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الملائكة فهم الموكلون بالسماوات والأرض، فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} [النازعات:5] {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} [الذاريات:4] وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع فيقولون: هي النجوم. وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها. ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته. ووكل بالموت ملائكة، ووكل بالسؤال في القبر ملائكة، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكل بالشمس والقمر ملائكة، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكل بالجنة وعمارتها وغراسها وعمل آلاتها ملائكة. فالملائكة أعظم جنود الله، ومنهم: المرسلات عرفاً، والناشرات نشراً، والفارقات فرقاً، والملقيات ذكراً. ومنهم: النازعات غرقاً، والناشطات نشطاً، والسابحات سبحاً، والسابقات سبقاً. ومنهم: الصافات صفاً، والزاجرات زجراً، والتاليات ذكراً. ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله: الفرق والطوائف والجماعات، التي مفردها: (فرقة) و (طائفة) و (جماعة) . ومنهم: ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش، وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله تعالى. ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:27-28] ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] فهم عباد مكرمون، منهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم، لا يتخطاه، وهو على عمل قد أمر به، لا يقصر عنه ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19-20]] . الجزء: 37 ¦ الصفحة: 2 حقيقة خلق الملائكة وذكر أسماء بعضهم في القرآن والسنة ذكرنا أن من أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة، الملائكة واحدهم ملَك، بفتح اللام، هذا النوع خلق من خلق الله، وهم أرواح لا نراهم، لا نشك بأنهم يتجسدون وأنهم يصعدون وينزلون، وأنهم يتصلون بالإنسان ويتكلمون، وأن الملك يتمثل إنساناً ويكلم النبي، وينزل عليه بالوحي. وقد سمى الله تعالى منهم في القرآن اثنين كما في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] سمى الله جبريل وميكال، وجِبريل قرئ جبرائيل وجبريل وجَبريل، يعني: بعدة قراءات، وهو مسمى واحد، وذكر الله ملك الموت في قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11] وسمي في بعض الروايات بعزرائيل، وسمي في الحديث أيضاً ملك رابع وهو: إسرافيل، وسمي ملك خامس وهو: مالك، كما في قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] ، وذكر الله في القرآن خزنة النار وخزنة الجنة كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الزمر:71] ، وفي الجنة: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر:73] ، وفي قوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك:8] الخزنة: هم الموكلون بها، فالملائكة خلق من خلق الله تعالى، لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، لما نزل قول الله تعالى في النار: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] قال المشركون: ما داموا تسعة عشر فنحن أكثر منهم؛ سنغلبهم، فأنزل الله قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً} [المدثر:31] إلى قوله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] أي: جنوده الذين هم الملائكة لا يعلم عددهم إلا هو، وورد في الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم أو ملك راكع أو ساجد) . الجزء: 37 ¦ الصفحة: 3 الأعمال التي أوكلت إلى الملائكة من قبل الله الملائكة خلق الله تعالى، وقد سمعنا في كلام الشارح بعضاً من صفاتهم وما وكلوا به، الموكلون بالقطر يعني: بالمطر وتصريفه والسحب وتصريفها، وكذلك الموكلون بحفظ بني آدم كما في قول الله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] وكذلك الموكلون بحفظ الأعمال كما في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، وفي قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:10-11] وكذلك الذين ينزلون بالوحي ذكروا في قوله تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:15-16] وصفهم بأنهم سفرة يعني: بأنهم وسطاء بين الله وبين رسله، وأنهم كرام، وأنهم بررة، وكذلك أقسم الله بهم في قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً} [الصافات:1] يعني: الملائكة الذين يصفون صفوفاً {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} [الصافات:2] الذين يزجرون السحب ونحوها، {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} [الصافات:3] الذين يتلون كلام الله ويذكرون الله تعالى به. وقوله: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} [المرسلات:1] ، هم الذين يرسلهم الله تعالى ليعرفوا عباده، والآيات التي بعدها، وقوله: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1] ، النازعات: هي التي تنزع أرواح الكفار نزعاً شديداً يعني: عند الموت، وهم ملائكة العذاب، والناشطات: هي التي تنشط أرواح المؤمنين عند الموت نشطاً، وهكذا في الآيات التي بعدها، لا شك أن هذه ألقاب تبين أنواعاً من الملائكة هذه أعمالهم، فنصدق بهم وإن لم نر الملائكة، ولكن نصدق أنهم خلق الله تعالى، كما أننا نصدق بالجن وبأنهم يدخلون في الإنس ويداخلونهم، وأنهم أرواح مستغنية عن أجساد تقوم بها، وإن لم نر الجن، وإن كذب بهم من كذب وقال: الجن لو كانوا موجودين لرأيناهم بالمجهر، نقول: إنهم لا يرون، فإنهم بمنزلة شعاع النور الذي يشع من هذه الأنوار ونحوها وليس لهم جرم، ولكن يخرقهم البصر، فليس لهم جسد حقيقي حتى ينعكس وحتى يكبره المكبر وحتى يراه البصر، فالملائكة والجن والشياطين أرواح ليس لهم أجساد تقوم بها، الإنسان مركب من روح وجسد، فإذا خرجت الروح بالموت فإننا لا نرى الروح تخرج وتفارق جسدها، بل يبقى الجسد ليس فيه هذه الروح التي تحركه، فإذا أراد الله تعالى إحياءه جمع الجسد مرة ثانية وأعاد إليه الروح فعاش وحيي، فنقول: إن الروح التي يحيا بها الجسد لا يعلم كيفيتها، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85] فالأرواح التي ليست لها أجساد تعيش وتتقلب وتذهب وتجيء وهي خفيفة الحركة كالملائكة وكالجن الذين ذكر الله تعالى أنهم يصلون إلى السماء كما في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن:8] فلا يستغرب أن تكون الملائكة يصعدون إلى السماء في طرفة عين، ويقطعون المسافات الطويلة في لحظة؛ وذلك لخفة أجسادهم؛ ولأن الله تعالى أعطاهم من القدرة على الصعود وعلى قطع المسافات ما لم يعطه الإنسان في أية حال، فعلى المسلم أن يصدق بمثل هذه الأمور وإن كان لم يدركها ببصره؛ وذلك لإخبار الله عنها وهو الصادق المصدوق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] . الجزء: 37 ¦ الصفحة: 4 صفات الملائكة في القرآن مر بنا أن من أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة، والإيمان بما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه حيث وصفهم بقوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26-27] ، وبقوله: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19-20] ، وبقوله: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] ، ونحو ذلك من الآيات التي مدحهم بها، وكذلك الإيمان بمن سمي منهم، والإيمان بأعمالهم التي أسندت إليهم، والإيمان بما نقل من أوصافهم وأخبارهم، وهذا يدخل في الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب يعم كل شيء غائب عنا، أخبرنا الله به خبراً يقينياً يلزمنا أن نصدق به كما وصف لنا، وليس لنا أن نتكلف أكثر من ذلك. معلوم أن الملائكة لا يمكننا رؤيتهم فهم أرواح مستغنية عن أجساد تقوم بها، والذي خلق الأجساد خلق الأرواح، ومعلوم أن لهم أجساماً خفيفة علوية نورانية حية متحركة تسمع وتعقل، وتمتثل، وتركع، وتسجد، وتأتمر بأمر الله، وتقطع المسافات الطويلة الشاسعة في زمن قصير، وكل ذلك بقدرة الله الذي أقدرهم على ذلك كله. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 5 المفاضلة بين البشر والملائكة قال المصنف رحمه الله: [ومنه: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] . قال الآخرون: هذا دليل الفضل لا الأفضلية، وإلا لزم تفضيله على محمد صلى الله عليه وسلم، فإن قلتم: هو من ذريته؟ فمن ذريته البر والفاجر، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم: (ابعث من ذريتك بعثاً إلى النار) ، (يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحداً إلى الجنة) . فما بال هذا التفضيل سرى إلى هذا الواحد من الألف فقط؟! ومنه: قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه: (ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم) . الحديث، فالشأن في ثبوته وإن صح عنه، فالشأن في ثبوته في نفسه، فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات. ومنه: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الملائكة قالت: يا ربنا، أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون، ونحن نسبح بحمدك، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة؟ قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان) أخرجه الطبراني، وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل عن عروة بن رويم أنه قال: أخبرني الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الملائكة قالوا) ، الحديث، وفيه: (وينامون ويستريحون، فقال الله تعالى: لا، فأعادوا القول ثلاث مرات، كل ذلك يقول: لا) . والشأن في ثبوتهما، فإن في سندهما مقالاً، وفي متنهما شيئاً، فكيف يظن بالملائكة الاعتراض على الله مرات عديدة؟ وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27] وهل يظن بهم أنهم متبرمون بأحوالهم، متشوفون إلى ما سواها من شهوات بني آدم؟ والنوم أخو الموت، فكيف يغبطونهم به؟ وكيف يظن بهم أنهم يغبطونهم باللهو، وهو من الباطل؟ قالوا: بل الأمر بالعكس، فإن إبليس إنما وسوس إلى آدم ودلاه بغرور، إذ أطمعه في أن يكون ملكاً بقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] ، فدل أن أفضلية الملك أمر معلوم مستقر في الفطرة، يشهد لذلك قوله تعالى حكاية عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند رؤية يوسف: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31] ،وقال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50] . قال الأولون: إن هذا إنما كان لما هو مركوز في النفس: أن الملائكة خلق جميل عظيم، مقتدر على الأفعال الهائلة، خصوصاً العرب، فإن الملائكة كانوا في نفوسهم من العظمة بحيث قالوا: إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33] . قال الآخرون: قد يذكر العالمون، ولا يقصد به العموم المطلق، بل في كل مكان بحسبه، كما في قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] ، {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ الْعَالَمِينَ} [الحجر:70] ، {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] . {وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]] . هذه بعض الأدلة التي يفاضلون بها بين الملائكة وبين صالحي البشر، فإن الآية وهي قوله في سورة (ص) مخاطباً لإبليس: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] فيها تفضيل آدم، وقد تقدم في أول الكلام أنهم فضلوا آدم حيث إنه سجد له الملائكة، قالوا: والمسجود له أفضل من الساجد، وأجيب بأن السجود امتثال لأمر الله تعالى لا أنه لسجودهم لآدم، وإنما هو تعظيم لله وطواعية له، فإبليس لما امتنع من السجود له اعتبر عاصياً لله ولم يعتبر عاصياً لآدم، ولكنه تكبر حيث قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء:61] أو قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فالله تعالى قال له: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] أي: لآدم الذي خلقت بيدي، وهذا تفضيل لآدم، ولكن ما يلزم أن يكون أفضل من الملائكة، ولو لزم لكان أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم، مع الإجماع أن محمداً أفضل البشر وهو خير البرية، وإذا قالوا: إن محمداً من ذرية آدم وإنما شرف بشرف أبيه، ف الجواب أنه قد أخبر أن من ذريته الصالح وغير الصالح، وإذا كان ذلك فلا يلزم في الآية تفضيل. وقوله تعالى للملائكة في الحديث: (لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت: له كن فكان) فهذا الحديث فيه ضعف، وفيه اعتراض الملائكة على الله تعالى وتمنيهم أن تكون لهم الآخرة ولبني آدم الدنيا، يأكلون فيها ويتمتعون وينامون وينكحون ويتصرفون، فهم يقولون: ما دام أنك جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة، فلا يظن بالملائكة أنهم يتمنون أعمال الدنيا، ولا يظن بهم أنهم يعترضون على الله مع طواعيتهم له، وامتثالهم لأمره، ومع أن الله وصفهم بأنهم لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، وبذلك يعلم بأن هذا لا يليق بمقام الملائكة. وأما ما استدل به من فضل الملائكة من قصة يوسف في قول النسوة: {مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31] فإنه يفهم منه أن الملك أفضل من البشر، ولكن لا يلزم ذلك، حيث إنه لما رأينه في تلك الحال وهو في غاية الجمال، كان مغروساً في فطرهم أن الملك له هيئة ليست كهيئة البشر. وكذلك ما حكى الله عن نوح أنه قال: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْراً} [هود:31] وما أشبه ذلك لا يدل أيضاً على أن الملك أفضل؛ وذلك لأن العرب كانوا يعتقدون أن للملائكة منزلة أرفع من منزلتهم؛ فلذلك كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، يعني: من قربهم منه، ولذلك أنكر الله تعالى عليهم بقوله: {أصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات:153] ، وبقوله: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ} [الطور:39] وما أشبه ذلك. وعلى كل حال: هذه الأدلة ونحوها ليست دليلاً واضحاً في تفضيل الملك ولا في تفضيل البشر، والصحيح أن التفاضل بينهم كالتفاضل بين البشر إنما هو بالأعمال والقربات. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 6 من أدلة التفضيل بين البشر وبين الملائكة قال الشارح رحمه الله: [ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] ، والبرية: مشتقة من البرء، بمعنى: الخلق، فثبت أن صالحي البشر خير الخلق. وقال الآخرون: إنما صاروا خير البرية؛ لكونهم آمنوا وعملوا الصالحات، والملائكة في هذا الوصف أكمل، فإنهم لا يسأمون ولا يفترون، فلا يلزم أن يكونوا خيراً من الملائكة، هذا على قراءة من قرأ (البريئة) ، بالهمز، وعلى قراءة من قرأ بالياء، إن قلنا: إنها مخففة من الهمزة، وإن قلنا: إنها نسبة إلى البري وهو التراب، كما قاله الفراء فيما نقله عنه الجوهري في الصحاح؛ يكون المعنى: أنهم خير من خلق من التراب، فلا عموم فيها -إذاً- لغير من خلق من التراب. قال الأولون: إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا، ووصلوا إلى غايتهم، وأقصى نهايتهم، وذلك إنما يكون إذا دخلوا الجنة، ونالوا الزلفى، وسكنوا الدرجات العلى، وحباهم الرحمن بمزيد قربه، وتجلى لهم ليستمتعوا بالنظر إلى وجهه الكريم. قال الآخرون: الشأن في أنهم هل صاروا إلى حالة يفوقون فيها الملائكة أو يساوونهم فيها؟ فإن كان قد ثبت أنهم يصيرون إلى حال يفوقون فيها الملائكة، سلم المدعى، وإلا فلا. ومما استدل به على تفضيل الملائكة على البشر: قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172] وقد ثبت من طريق اللغة أن مثل هذا الكلام يدل على أن المعطوف أفضل من المعطوف عليه، لأنه لا يجوز أن يقال: لن يستنكف الوزير أن يكون خادماً للملك، ولا الشرطي أو الحارس! وإنما يقال: لن يستنكف الشرطي أن يكون خادماً للملك ولا الوزير، ففي مثل هذا التركيب يترقى من الأدنى إلى الأعلى، فإذا ثبت تفضيلهم على عيسى عليه السلام ثبت في حق غيره، إذ لم يقل أحد إنهم أفضل من بعض الأنبياء دون بعض. أجاب الآخرون بأجوبة أحسنها أو من أحسنها: أنه لا نزاع في فضل قوة الملك وقدرته وشدته وعظم خلقه، وفي العبودية خضوع وذل وانقياد، وعيسى عليه السلام لا يستنكف عنها ولا من هو أقدر منه وأقوى وأعظم خلقاً، ولا يلزم من مثل هذا التركيب الأفضلية المطلقة من كل وجه. ومنه قوله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50] ، ومثل هذا يقال بمعنى: إني لو قلت ذلك، لادعيت فوق منزلتي، ولست ممن يدعي ذلك. أجاب الآخرون: إن الكفار كانوا قد قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] . فأمر أن يقول لهم: إني بشر مثلكم أحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من الاكتساب والأكل والشرب، لست من الملائكة الذين لم يجعل الله لهم حاجة إلى الطعام والشراب، فلا يلزم حينئذ الأفضلية المطلقة] . هذه الأدلة ساقها الشارح للاستدال في مسألة التفضيل بين البشر والملك، فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] هل المراد الإنس الذين هم البشر خير البرية أو الخلق المؤمنون من الملائكة ومن الإنس ومن الجن خير البرية؟ الصحيح أن الآية على عمومها، يدخل فيها الملائكة ويدخل فيها الجن المؤمنون، ويدخل فيها الإنس المؤمنون، فكل من آمن وعمل صالحاً من الإنس والجن والملائكة فهو من خير البرية أي: خير الخليقة، ويدخل في الخليقة جميع المخلوقات، يدخل فيها حتى الشياطين، ويدخل فيها الجماد، ويدخل فيها الحيوان، ويدخل فيها الأفلاك السائرة والأفلاك الثابتة ونحوها، كلها من البرية، البرء: الخلق، وعلى هذا الآية عامة في كل مؤمن عامل للصالحات من الملائكة والبشر فهو من خير البرية. روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا خير البرية! فقال النبي صلى الله عليه وسلم تواضعاً: ذاك إبراهيم) يعني: الخليل عليه السلام، قاله من باب التواضع لله تعالى وإلا فهو خير البرية، وكأنه لا يحب أن يكون هناك مفاضلة بين الأنبياء؛ حتى لا يكون في ذلك شيء من التنقص لبعض الأنبياء أو الازدراء والاحتقار لهم، أو تعصب أتباعهم أو نحو ذلك. وأما الآية الثانية التي استدل بها من فضل الملائكة وهي قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172] فالاستدلال بها حيث وصف الملائكة بالقرب، والملائكة كلهم مقربون؛ لأنهم عند الله كما أخبر بذلك في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] {فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] وعلى كل حال فالله وصف الملائكة بأنهم عنده، فالتقريب في حقهم تقريب ذاتي، هم مقربون إلى الله حساً ومقربون عند الله معنى، ولكن الصحيح أن كل من اتقى الله وآمن به فإنه من المقربين. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الطحاوية [38] تكفير المعين من أخطر المسائل التي يجب التورع فيها، وقد زل فيها الخوارج قديماً وحديثاً، ومن عقيدة أهل السنة عدم التكفير بالذنب ، ولا الحكم على المعين بنار ولا جنة. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 1 التكفير بالذنب قال المصنف رحمه الله: [قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) . أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين) يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب. واعلم رحمك الله وإيانا أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية. فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين. وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل كافراً مرتداً. والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال: (إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء) ، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] . ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب. ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله) . وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب، الذنوب العملية لا العلمية، وفيه إشكال، فإن الشارع لم يكتفِ من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع، إلا أن يُضمّن قوله: (يستحله) بمعنى: يعتقده أو نحو ذلك] . من عقيدة أهل السنة أنهم لا يكفرون مرتكب الكبيرة بالذنب، ولا يصل عندهم إلى حد الكفر، ولكن هناك بدع توصل إلى حد الكفر، بدع محدثات في الدين وكبيرات وعظائم من عظائم المحدثات توصل إلى الكفر، وأما مطلق الذنوب ولو كانت كبائر، ولو كان مصراً عليها، فإنه لا يكفر بها، فلا يكفر ما دام أنه يعترف أنها ذنوب وأنها محرمة، إذا أكل الربا وهو يعتقد أنه محرم، أو فعل الزنا وهو يعترف أنه ذنب وحرام، أو شرب الخمر مع اعترافه بتحريمها، وكذلك غيرها من الذنوب لا يصل إلى حد الكفر، إلا إذا اعتقد حلها فإنه يكفر بذلك، فإنه يكفر مستحل الذنب المحرم ولو لم يفعله. المخالف في هذا هم الخوارج الذين يجعلون الذنب كفراً، والعفو ذنباً، والمعتزلة الذين يجعلون أصحاب الكبائر غير مسلمين ولا مؤمنين ولا كافرين، يجعلونهم بمنزلة بين الكفر والإيمان، وهم أصحاب المنزلة بين المنزلتين، أما أهل السنة فإنهم لا يكفرون بالذنوب. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 2 الآثار الدالة على خطورة التكفير وردت أدلة في خطر التكفير منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه) يعني: رجع عليه التكفير، وهذا وعيد شديد. وكذلك: (ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني إسرائيل مر على صاحب له يعمل ذنباً فقال: والله لا يغفر الله لك، فقال الله تعالى: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك) ، يقول الراوي: (قال كلمة أحبطت دنياه وآخرته) . هذه تدل الآثار على خطر التكفير. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 3 إطلاق الكفر على ذنوب لا تخرج من الملة هناك ذنوب أطلق عليها كفر، ولكن يقول العلماء: إنه كفر دون كفر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) فإن الكفر هنا هو كفر أصغر لا يصل إلى الإخراج من الملة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) المراد هنا: كفران النعمة أو كفر دون كفر، وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة) يقولون: إنه كفر للنعمة لا أنه الكفر المبيح للدم والمال؛ لأن الطعن في النسب إنما هو عيب الإنسان والطعن في نسبه بأنه ليس ابن فلان أو ليس من آل فلان، وهو ذنب لا يصل إلى الكفر الذي يخرج من الملة، وكذلك النياحة على الميت لا توصل صاحبها إلى أن يخرج من الملة ويستباح دمه وماله. فعرف بذلك أنه كفر دون كفر، هذا محمل هذه الأحاديث. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 4 كفر تارك الصلاة ما حكم تارك الصلاة؟ بعض العلماء يحمل الأحاديث التي فيه على أنه كفر النعمة، ويوجد فيه حديثان: حديث عن جابر: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) وحديث بريدة: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) فهذا فيه إطلاق الكفر على تارك الصلاة. بعض العلماء يقول: إنه الكفر الأصغر، أي: كفر النعمة مثل الأحاديث الأخرى، والقول الثاني: أنه كفر يخرج من الملة، ودليله: قول عبد الله بن شقيق: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة) ، فنقل عن الصحابة أنهم يرون أن ترك الصلاة كفر، ولا يرون ذلك في بقية الشرائع. والصحيح أنه إذا تركها تهاوناً بها، وتمادى على هذا الترك واستمر عليه؛ فإنه يعتبر كفراً؛ وذلك لأنه وردت أحاديث تدل على ذلك منها حديث في البخاري: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) ، وأحاديث كثيرة تدل على أن من ترك الصلاة فقد برئت منه الذمة، ومعنى ذلك: أنه لا يكون مسلماً. وفيه أحاديث كثيرة مذكورة في الكتب المطولة، وهو يدل على خطر ترك الصلاة، وأنه حتى ولو كان الأعمال الأخرى لا توصل صاحبها إلى الكفر إلا إذا استحلها، لكن ترك الصلاة له أهميته وله منزلته، حيث ذهب الجماهير إلى أنه يكفر، وتوسع ابن القيم رحمه الله في هذه المسألة في كتابه الذي اسمه: كتاب الصلاة، فتكلم على أن تارك الصلاة يقتل، ثم تكلم على الخلاف: هل يقتل حداً أم يقتل كفراً؟ وذكر حجج الفريقين، حجج من يقول هذا وحجج من يقول هذا، ورجح أنه إذا أصر وعاند وتمادى وامتنع أنه يصير جاحداً فيحكم بكفره وردته. هذا نوع من التكفير. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 5 البدع المكفرة وغير المكفرة أكثر البدع لا يكفر بها كبدعة المرجئة وبدعة الخوارج وبدعة الجبرية والقدرية والأشعرية ونحوهم، فهذه البدع لا توصل إلى الكفر والبراءة من أصحابها، والأحاديث التي وردت في الخوارج: (أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) أحاديث وعيد، فقد تنطبق على بعضهم وقد لا تنطبق، والدليل على عدم التكفير: أن علياً رضي الله عنه سئل عنهم لما قاتلهم، فقالوا: أكفار هم؟ فقال: من الكفر فروا، قالوا: أمنافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً؛ فدل على أنه لم يكفرهم مع أنه قاتلهم؛ وذلك لأنهم يكفرون بالكبائر، فإذا كفرناهم صرنا مثلهم. هناك بدعتان مكفرتان: بدعة غلاة الجهمية، وبدعة غلاة الروافض. غلاة الجهمية: هم الذين غلوا في إنكار الصفات حتى صار حقيقة قولهم التعطيل. وأما غلاة الرافضة: فهم الذين طعنوا في القرآن وطعنوا في السنة، وطعنوا في حملة الشريعة -وهم الصحابة -وكفروهم، فهؤلاء لم يكن عندهم دين يعتقدونه، فأصبحوا بذلك قد أبطلوا الشريعة وكفروا أهلها؛ فيكونون هم أولى بالكفر، مادام أنهم طعنوا في القرآن وادعوا أنه محرف قد زيد فيه ونقص منه النقص الكثير، وكذلك لم يقبلوا السنة ولو ثبتت، ولو رواها الخلفاء الثلاثة وغيرهم لا يقبلونها، ويرمون الخلفاء بأنهم كفرة وخونة ونحو ذلك، فهؤلاء ليس عندهم شرع يتمسكون به، فيكونون بذلك على غير شريعة، هذا يقال في غلاتهم الذين وصلوا إلى هذا الحد، أما الذين لم يكفروا الصحابة ولم يكفروا الخلفاء فلا يوصل في حقهم إلى التكفير. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 6 عقيدة المرجئة في مرتكب الذنوب قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) إلى آخر كلامه، رد على المرجئة، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف، فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة، فلا يبقى معه شيء من الإيمان. لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، وهذه المنزلة بين المنزلتين، وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار! وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال، لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطىء وغيره، أو يقولون: يكفر كل مبتدع! وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة، فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك] . ذكر الشارح أن هناك طائفتين متقابلتين: المرجئة، والوعيدية، فالمرجئة يبيحون إكثار الإنسان من الذنوب، ويقولون: إن الذنوب لا تضر ولو أكثر صاحبها، ويتعلقون بنصوص الوعد التي فيها أن أهل التوحيد ناجون، وأنهم من أهل الجنة، وأنهم يخرجون من النار، وأنهم يشفع فيهم ولو لم يفعلوا خيراً ونحو ذلك، هؤلاء هم المرجئة، يقولون: لا تضر الذنوب، حتى قال قائلهم: فكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم يقولون: نتعلق بكرمه، وقد روي عن بعض الزهاد أنه قرأ قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] فقال: إذا قال لي ربي: ما غرك بربك الكريم؟ أقول: غرني كرمك! وهذا خطأ، والصواب أن يقال: إن الكريم لا ينبغي أن يقابل بالمعصية، إذا كان ربنا كريماً لا يجوز لنا أن نتجرأ على معصيته، ولا أن نتهاون بحقه، بل علينا أن نطيعه ونحذر من أسباب سخطه. فعلى كل حال المرجئة هم الذين يقولون: لا تضر الذنوب وأصحابها يدخلون الجنة ولا يعذب أحد من أهل الذنوب ولو كانت كبيرة. معلوم أنه قد وردت أحاديث فيها أنهم يعذبون وأنهم يحترقون، وأنهم يشفع فيهم، وأن الشافعين يعرفونهم بآثار السجود، وهذا دليل على أنهم يصلون ومع ذلك دخلوا النار، إلا أن النار لم تأكل آثار السجود، يعني: أعضاء السجود لا تأكلها النار، أما بقيتها فإنهم يحترقون كما ورد. فدخلوا النار وهم مسلمون؛ بسبب ذنوب اقترفوها. من عقيدة أهل السنة أن المعاصي التي دون الشرك قد يغفرها الله، وقد يعاقب عليها، وأما الشرك فإنه لابد أن يعاقب عليه، من عمل ما دون الشرك فقد يعفى عنه، ويغفر له ذنبه مهما كبر بمشيئة الله، وقد يدخله الله النار بسبب ما اقترفه من السيئات، ويكون ذلك تمحيصاً له من تلك السيئات، ودخوله في النار لأجل تمحيصه وإزالة ما فيه من الدرن، كالحديد الذي يدخل النار حتى يُصفى، حتى لا يبقى عليه شيء من الخبث، فهكذا هؤلاء الذين يدخلون النار من أهل الكبائر. هذه عقيدة المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل. وقياسهم ليس بصحيح، نحن نوافقهم على أن الشرك يحبط الأعمال، فالمشرك لو عمل أي عمل فأعماله حابطة؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] ونحو ذلك من الآيات. فقولهم: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، قياس خاطئ، نحن نقول: صحيح أنه لا تنفع الأعمال والحسنات مع الشرك؛ لقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] لأن الشرك أحبطها، وقد قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] ، وفي آية أخرى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39] ، وفي آية أخرى: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} [البقرة:264] صفاة صلبة عليها تراب وجاءها مطر شديد، لا يبقى على الصفاة شيء من التراب فهكذا أعمالهم ونفقاتهم لا تبقى، حيث إنه لا أساس لها ولا أصل. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 7 عقيدة الخوارج والمعتزلة في مرتكب الذنوب الطرف الثاني المقابل للمرجئة: الوعيدية، الوعيدية من المعتزلة ومن الخوارج، كلهم يقولون: إن من دخل النار فهو مخلد فيها، وإن أصحاب الكبائر يدخلونها ولا يخرجون منها، ويستدلون ببعض الآيات التي فيها عدم الخروج، مثل قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37] نقول: الآية في الذين يدخلونها من الكفار الذين حكم عليهم بالخلود، وكذلك قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] إنما هي في الكفار، أما المؤمنون الذين معهم أصل الإيمان وأصل التوحيد فقد دلت الأدلة على أنهم يخرجون بشفاعة الشافعين أو برحمة الله تعالى. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 8 عقيدة أهل السنة في مرتكب الذنوب قول أهل السنة وسط بين طرفين: طرف شددوا، وهم الخوارج والمعتزلة، وجعلوا المذنبين كفاراً ومخلدين في النار، سواء كفروه في الدنيا أو أخرجوه من الإيمان ولم يكفروه. وطرف غلا في فعل الذنوب، فأباح للمسلم أن يفعل الذنوب، وأن يفعل الفواحش، وقال: إنها لا تضر. وتوسط أهل السنة، وقالوا: لا نوصل العاصي إلى الكفر، ولا نخلده في النار، ولكن نخشى عليه من العذاب، ومن يطيق العذاب ولو ساعة! ومن يطيق دخول النار ولو قليلاً. وإذا كنا نخاف عليه أن يدخل النار حتى ولو ساعة، فعليه أن يهرب من هذا السجن ومن هذا العذاب، فإن ذلك يوجب عليه أن يخشى من أسباب دخول النار ويحذرها. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 9 حكم من قال بأن القرآن مخلوق قال الشارح رحمه الله: [والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه، وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ: وأهل الكبائر في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون. والمقصود هنا: أن البدع هي من هذا الجنس، فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً، لكن تأول تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً، وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط لمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة. ولا نقول: لا يكفر، بل العدل هو الوسط، وهو: أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة، المتضمنة نفي ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إثبات ما نفاه، أو الأمر بما نهى عنه، أو النهي عما أمر به، يقال فيها الحق، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال: من قالها فهو كافر، ونحو ذلك، كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى في الآخرة، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة، حتى اتفق رأيي ورأيه: أن من قال بخلق القرآن فهو كافر] . هذه تعتبر أمثلة من البدع، يعني: أن هناك بدعاً توصل إلى الكفر، وقد ذكرنا أن أهل السنة يكفرون غلاة الجهمية؛ وذلك لأن من قول الجهمية القول بأن القرآن مخلوق، والذي حملهم على هذا اعتقادهم أن الله تعالى لا يتكلم، فنفوا صفة الكلام عن الله، ومعلوم أن هذه الصفة صفة كمال، ونفيها يستلزم ضدها وهو النقص. ولا شك أن من نفى هذه الصفة فقد تنقص الخالق، وكذلك قد أبطل الشرائع، فلا جرم أن أهل السنة قالوا: إن من قال بخلق القرآن فإنه كافر. وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه أنه لما كان يناظر على القرآن ويقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، فقالوا له: القرآن من جملة الموجودات. فقال: القرآن من علم الله، وعلم الله صفة من صفاته. فقال له بعض أولئك الجدليين: أنا أقول: إن علم الله مخلوق. -تعالى الله عن ذلك! - فقال: قد كفرت بهذه الكلمة. الله تعالى هو الخالق، وصفاته من ذاته، وكلامه من صفاته، وعلمه من صفاته، وكلامه من علمه، ومن ادعى أن صفة من صفاته مخلوقة فقد جعل الرب تعالى محلاً للحوادث، فيكون بذلك متنقصاً لله تعالى أكبر التنقص، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 10 الحامل للمبتدعة على القول بخلق القرآن الذي حمل الجهمية على القول بخلق القرآن هو إنكارهم للصفات، ولما أنكروا الصفات أصبحوا معطلة، ولما عطلوا الله عن هذه الصفات وصفهم السلف بالكفر، وقد ذكرنا أن ابن القيم رحمه الله صرح بتكفيرهم عن جماهير العلماء، يقول في نونيته: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان واللالكائي الإمام حكاه عنـ هم بل حكاه قبله الطبراني خمسون في عشر، خمسون من العلماء، تضرب في عشرة فيكون خمسمائة عالم، وذكرنا أن اللالكائي نقل ذلك عن جمع كبير من العلماء أنهم كفروا من قال بخلق القرآن، ومن غلا في نفي الصفات، وكتابه مطبوع متداول -ويسمى (شرح أصول السنة) - في عدة مجلدات. اللالكائي إمام من أئمة أهل السنة، نقل بأسانيده هذه الأقوال عن سلف الأمة: أنهم كفروا من قال بخلق القرآن. وقد اشتهر أن أول من أظهر ذلك هو الجعد بن درهم، ولما نفى أن يكون الله تعالى متكلماً، وأن يكون القرآن كلامه، صرح بأن الله لم يكلم موسى تكليماً؛ فقتله أمير العراق في وقته خالد بن عبد الله القسري؛ لأنه خرج في العراق وأضل خلقاً كثيراً، فاشتكى علماء أهل السنة إلى الأمير القسري فقتله بعد صلاة عيد النحر، ومشهور أنه قال: (ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه) . يقول ابن القيم في نونيته: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الدان شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان القربان: هي الأضاحي، فجعله أضحية تقرب بذبحه إلى الله، فأقروه أهل السنة في زمانه، وهذا دليل على أن هذه المقالة كفرية؛ لأن مستلزماتها كثيرة. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 11 ما يلزم من نفي الكلام عن الله سبحانه الذين قالوا: إن الله غير متكلم، وكلامه مخلوق كسائر المخلوقات. نقول لهم: من أين عرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا كلام الله؟ ومن أين يعرفون أن الله أمر بهذا أو نهى عن هذا؟ ومن أين يعرف أن هذا شرعه وأن هذا أمره؟ إذا كان لا يتكلم فكيف يعرف ذلك؟! وكيف يكون الخلق إلا بالأمر؟! ما يكون هناك خلق إلا بأمر، الله تعالى ذكر أن المخلوقات تكون بأمره: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، فالخلق لابد أن يكون بالأمر، والأمر لابد أن يكون بالكلام، فمن عطل الكلام فقد عطل الخلق، وقد عطل الشرع، وقد افترى على الله، فمعناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ شيئاً ما أنزل إليه، أو ما تحقق أنه شرع الله؛ لأنه إذا كان لا يتكلم فمن أين عرفوا أن هذا كلامه، أو أن هذا شرعه، أو أن هذا دينه؟! يستلزم قولهم بشاعة شنيعة، فلا جرم أن أهل السنة حكموا بأنهم كفار إذا صرحوا بذلك وعاندوا عليه، هذا مثال من قال بأن علم الله أو أن كلام الله مخلوق، وعاند على ذلك، وقامت عليه الحجة، فإنه يكفر. وإطلاق هذه الكلمة، وتكرارها من هؤلاء الأئمة يقتضي أنهم يجعلونه كفراً مخرجاً من الملة، كفراً ناقلاً عن الإسلام مبيحاً للدم والمال، وهذا هو القول الصحيح في هذه المسألة. أما البدع الأخرى التي تقدمت فقد لا توصل إلى الكفر، وإن كانت مفسقة. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 12 حكم تكفير المعين قال الشارح رحمه الله: [وأما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يُشهد على معين أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت. ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب: باب النهي عن البغي، وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر، فوجده يوماً على ذنب، فقال له: أقصر. فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيباً؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة. فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار، قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده! لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته) ، وهو حديث حسن. ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، أويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله، كما غُفر للذي قال: (إذا مت فاسحقوني ثم ذروني، ثم غفر الله له لخشيته) ، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك. لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا؛ لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه. ثم إذا كان القول في نفسه كفراً قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا صار منافقاً زنديقاً، فلا يتصور أن يكفر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون منافقاً زنديقاً، وكتاب الله يبين ذلك، فإن الله صنف الخلق فيه ثلاثة أصناف: صنف: كفار من المشركين ومن أهل الكتاب، وهم الذين لا يقرون بالشهادتين. وصنف: المؤمنون باطناً وظاهراً. وصنف: أقروا به ظاهراً لا باطناً. وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة. وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر، وكان مقراً بالشهادتين، فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق. وهنا يظهر غلط الطرفين، فإنه من كفر كل من قال القول المبتدع في الباطن، يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله وإن كانوا مذنبين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه عن عمر: (أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه: عبد الله، وكان يلقب: حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتى به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله) وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين، وفيهم بعض مقالات الجهمية، أو المرجئة، أو القدرية، أو الشيعة، أو الخوارج، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة، بل بفرع منها؛ ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير، فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يُخطِّئون ولا يكفرون] . هذا يتعلق بتكفير المعين، وهو غير التكفير العام؛ وذلك لأن هناك فرقاً بين أن يقال: فلان كافر. وبين أن يقال: فلان يعمل عمل الكفار، أو يقال: هذا العمل كفر. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 13 موانع تكفير المعين الشهادة على معين بأنه كافر لا تجوز إذا كان من أهل القبلة ومن أهل الإسلام، من دخل في الإسلام وأعلن الدخول فيه ظاهراً لا يجوز أن يحكم عليه بعينه أنه كافر. مثلاً: لو عمل إنسان عمل أهل الكفر، أو عمل معاص قد أطلق عليها أنها كفر، لا نكفره ما دام أنه من أهل القبلة، حتى ولو قال بمثل تلك الأقوال التي ذكرنا أن السلف كفروا بها، لكنهم لا يكفرون المعين لأسباب منها: أنه قد يكون مقلداً، وإثمه على من قلده وأحسن الظن به، يحسن الظن ببعض المشاهير، فيظن أنه على صواب فيتبعه، فنحن لا نحكم بكفره ما دام أنه لم يكن عنده الدليل الذي قام عليه، وإذا لم نكفره فلا نقاتله حتى نقيم عليه الحجة ويصر على كفره. في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في القرن الثاني عشر خرج على أناس قد فشا فيهم الشرك، كتعظيم القبور، والذبح عندها، والتمسح بها، والتبرك بتربتها، ودعاء الأموات، ونحوه مما هو شرك، بل هو شرك الأولين، ولما دعا إلى ذلك لم يكفر إلا من عاند، فالجهلة وعوام الناس لم يكفرهم، وإنما يخطئهم، فإذا قامت الحجة عليهم وأصروا وعاندوا وتمادوا، وردوا الحق مع وضوحه، فهنالك يقاتلهم، ويكفر من قتل منهم، ويستبيح أموالهم ودماءهم؛ لأنهم أصبحوا كالمشركين الأولين الذين عبدوا غير الله، وأما قبل ذلك فلا يحكم بكفرهم. وهذا مخالف لما ينقله عنه أعداؤه، فأعداؤه قد كذبوا عليه رحمه الله، وقالوا عنه شناعات، وقد رُد عليهم بكتب مثل: الأسنة الحداد في الرد على شبهات علوي الحداد، وهو حضرمي غال في الكذب عليه، ادعى أنه إذا جاءه إنسان ليدخل في دينه يقول له: لا أقبل منك حتى تقر أنك كنت كافراً، وتشهد على أبويك اللذين ماتا أنهما ماتا كافرين، وتشهد على أن الناس كفار منذ ستمائة سنة، ومثل هذه الأكاذيب التي ذكرها علوي الحداد في كتاب له في الرد على محمد بن عبد الوهاب. وكذلك يوجد كتاب في الرد على آخر يقال له: بابصيل، وهو حضرمي أيضاً، جمع ترهات وأكاذيب مثل هذه الأشياء. فالحاصل أنه رحمه الله ما كان يكفر إلا من قامت عليه الحجة، ولا يقاتل إلا بعدما يبين لمن قاتلهم أن هذا شرك، فإذا بينه وأوضحه فعند ذلك ينذرهم ويقول: إن تبتم وإلا قاتلناكم؛ لأنكم أصبحتم من المشركين الذين يعملون عمل المشركين. فهذا دليل على أن أهل السنة لا يكفرون المعين حتى ولو كان عمله كفراً، إلا بعدما تقوم عليه الحجة. إذاً من الشبهات: التقليد وإحسان الظن بالعلماء الذين بين ظهراني أولئك الناس المقلدين لهم، بحيث لا يحكم بتكفيرهم حتى تقام عليهم الحجة ويصروا على الكفر. كذلك من الشبهات أيضاً: أنهم قد يجدون بعض الكتب المؤلفة فيما هم عليه، فلأجل ذلك يسيرون عليها، ويعتقدون أن ما فيها هو الصواب، ولا يقفون على ردودها، ولا يقفون على أدلة غيرها؛ فيسيرون عليها، فنعذرهم في ذلك حتى نبين لهم الخطأ الذي فيها، فإذا بينا لهم فأصروا، وكانت تلك الأعمال من الكفر، حينئذ كفرناهم وقاتلناهم، وإلا فلا. وهناك أعمال دون الكفر، وهي التي تعرض لها الشارح رحمه الله، وذكر أنها من جملة البدع التي لا توصل إلى الكفر، وإنما هي أمور اجتهادية، ولكنها خاطئة. فالأشاعرة عندهم بدع، وهي: إنكار بعض الصفات، والقول بأن كلام الله كلام نفسي، وأن هذا الموجود إنما هو المعنى لا الحروف، ونحو ذلك من بدعهم، ولكن لا نوصل ذلك إلى الكفر. كذلك المرجئة الذين غلبوا جانب الرجاء لا نقول: إنهم وصلوا إلى الكفر، ولكن نقول: إنهم وقعوا في بدعة مفسقة لا مكفرة. وعلى كل حال: فالتكفير خطره كبير، قد سمعنا هذه القصة التي أوردها الشارح رحمه الله، وهي قصة ذلك الشخص العابد الذي قال لصاحبه: والله لا يغفر الله لك. قال الله لذلك المذنب: ادخل الجنة برحمتي، وعذب ذلك الذي تألى عليه، يقول أبو هريرة: (قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته) ، وهذا يدل على أن التكفير ذنبه كبير وخطؤه عظيم؛ فلأجل ذلك على الإنسان أن يحفظ لسانه فلا يكفر المعين. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 14 حكم إطلاق الكفر على العمل تقدم تكفير المعين، أما العمل فيقال: هذا العمل كفر. فيقال مثلاً: القول بخلق القرآن كفر. ولا نقول مثلاً: فلان كافر؛ لأنه يقول بكذا؛ لأنا لا نعلم ما الخاتمة، يمكن أن يكون قد رجع عن قوله وقد تاب، أو كان متأولاً، أو ختم له بخاتمة حسنة، أو محيت عنه سيئاته؛ أو ما أشبه ذلك، ففرق بين أن يقال: هذا العمل كفر، أو هذا الشخص كافر؛ لأنه يعمل هذا العمل. الأعمال قد يطلق عليها الكفر، فيقال مثلاً: ترك الصلاة كفر ولكن ما نحكم على الإنسان أنه كافر بمجرد عمله، إلا إذا أصر على ذلك وعاند وقتل عليه، فإذا عاند وأصر وامتنع من أداء الصلاة حتى قتل، فعند ذلك يقول العلماء: إنه يعامل معاملة الكافر الخارج من الملة، بحيث لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين. وعلى كل حال: فالناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام مذكورة في أول سورة البقرة، فالخمس الآيات الأولى من سور البقرة في المؤمنين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3] إلى آخر الآية الخامسة والآيتان بعدها في الكافرين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة:6] إلى قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] . وثلاثة عشر آية بعدها في المنافقين، من قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة:8-9] إلى قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة:20] إلى آخر الآية، فهذه الآيات في المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، والعلماء يسمونهم زنادقة، فأمرهم خفي؛ لأننا لا نطلع على ما في قلوبهم؛ ولأجل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاملهم معاملة المسلمين؛ لأنهم يظهرون الإسلام، ولأنهم يظهرون محبة المسلمين. وعلى كل حال فتكفير المعين شيء، والحكم على العمل بأنه كفر شيء آخر، فرق بين هذا وهذا. هذه مسائل في التكفير، والإنسان عليه أن يتثبت في الحكم على المعين بالكفر، ولابد أن يعرف الدليل على أن العمل من أعمال الكفار. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 15 المسميات الشرعية في الدين وتعلقها بالعقيدة مما يتعلق بالعقيدة مسألة أحكام الإسلام والدين، أو مسألة أسماء الإيمان والأسماء الشرعية، فالشرع نقل بعض المسميات من مسمياتها اللغوية إلى مسميات شرعية، فبدل ما كان الإيمان مجرد التصديق في اللغة، أصبح الإيمان يدخل فيه أعمال الجوارح وأعمال القلوب، ولا يكون مؤمناً إلا من ظهرت آثار الإيمان على جوارحه، هذا قول أهل السنة. كذلك بدل ما كان الإسلام في اللغة هو الإذعان والانقياد، أصبح الإسلام يصدق على من أقام الشرائع والأركان الظاهرة ودان بها، هذا هو المسلم. وكذلك مسمى الإحسان، الأصل فيه: أنه إحسان العمل أياً كان ولو عملاً دنيوياً، فنقله الشارع إلى الإحسان في الأعمال الصالحة، الذي هو إتقانها بأن يستحضر حالة أدائها مَن يؤديها له. وكذلك يقال في مسمى التوحيد في اللغة: هو مشتق من الواحد، الذي هو العدد الفرد، فنقله الشارع إلى إفراد الله بالعبادة، أي: اعتقاد أن العبادة لله وحده، وأن الله وحده هو المتصف بصفات الكمال لا يشاركه فيها غيره، وأنه المتفرد بالملك والتصرف، هذا حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل. وهكذا يقال في التقوى، لها مسمى في اللغة ومسمى في الشرع، فالتقوى في اللغة: هي اتقاء الشرور والأضرار، وأما في الشرع: فهي اتقاء عذاب الله وغضبه بفعل الأوامر وترك النواهي. وكذلك مسمى البر الذي حث الله عليه، بدل ما كان بالإحسان إلى الإنسان، أصبح هو إحسان العمل كله، وتدخل فيه جميع الأعمال التي تدل على بر صاحبها وتصديقه. ويقال كذلك في المسائل التي هي ضدها، فمثلاً: الشرك، كانوا يطلقونه على اشتراك اثنين في عمل، أو اشتراك اثنين في مال، هذا هو الشرك قبل الإسلام، أما الشرع فجعله اسماً لإشراك العبد مع الله غيره، أن يجعل العبادة مشتركة بين الله وبين غيره، فيدعوه ويدعو غيره، ويعبده ويعبد غيره، ويتقيه ويتقي غيره، ويخافه ويخاف غيره، ويرجوه ويرجو غيره على حد سواء، يسمى هذا: شركاً؛ لأنه تشريك في العبادة بين الخالق والمخلوق، وهو الذي ورد فيه الوعيد. كذلك الكفر: العرب تعرف الكفر بأنه الستر، ستر الشيء، ولكن جاء الشرع وأطلقه على جحد الربوبية، أو جحد الإسلام، أو جحد الشريعة وإنكارها وسترها وتغطيتها تغطية معنوية، هذا مسمى الكفر. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 16 مذهب أهل السنة في مسألة التكفير والتفسيق والتبديع مسألة التكفير والتفسيق والتبديع قد تكلم فيها العلماء وأطالوا، وقرأنا بعضاً مما يتعلق بها. مذهب أهل السنة فيها كما سمعنا: أنا لا نكفر أهل القبلة بالذنوب ولو كانت كبائر؛ إلا إذا استحل الذنب فإنه يكفر، فإذا استحله كفر ولو لم يفعله، من قال: إن الخمر حلال. ولو لم يشربها؛ كفر؛ لأنه خالف نصاً، ومن قال: إن الربا حلال. كفر وإن لم يرابي؛ لأنه يخالف النصوص، ومن قال: الصلاة ليست فريضة. كفر، ولو لم يترك الصلاة، ومن قال: لم يوجب الله الحج، أو لا يجب الصوم، وأنكر ذلك، أو أنكر شرعية الجهاد، وقال: الجهاد تعرض للقتل، لا يمكن أن يشرعه الله، هذا ظلم، أو قتل للنفوس وإراقة لها، إذا أنكر ذلك ولو كان يجاهد نقول: إن هذا قد كفر بهذا الإنكار. أما إذا فعل ذنباً ولكنه لم يستحله فإنه لا يكفر، كما لو فعل الزنا وهو يعتقد أنه حرام، أو شرب الخمر، أو قتل نفساً وهو يعتقد أنه مذنب ومخطئ، فنقول: هذا مذنب، وهذا فعل كبيرة من الكبائر، ولكن لا تصل إلى حد الكفر الذي يبيح الدم والمال، بل لا يزال موصوفاً بأنه مذنب، وأنه قد وقع في ذنب، وإن كان ذلك الذنب يحتمل أن يعاقب عليه، ويحتمل أن يغفر. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 17 حكم المصر على الذنب ماذا نسمي المذنب المصر على الذنب؟ لا نسميه كافراً ولا نسميه مؤمناً كامل الإيمان، بل نسميه ناقص الإيمان، أو يطلق عليه اسم فاسق أو عاص، هذه عقيدة أهل السنة: أنه لا يصل إلى الكفر؛ لأن ذنبه دون الكفر، ولا يوصف بكمال الإيمان؛ لأنه قد نقص إيمانه بهذا الذنب. والذين كفروه انقسموا إلى طائفتين: طائفة أخرجته من الإسلام ولم تدخله في الكفر، وهم المعتزلة الذين قالوا بالمنزلة بين المنزلتين. وطائفة أخرجته من الإسلام وأدخلته في الكفر، واستحلت دمه وماله، وهم الخوارج. واتفق الفريقان على أنه مخلد في النار. وأهل السنة لا يخرجونه من الملة، ولكن يقولون: هو معرض للوعيد، وهو تحت مشيئة الله ما دام أن ذنبه دون الكفر ودون الشرك، ففي الآخرة هو تحت مشيئة الله: إن شاء غفر له وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه، هذه هي عقيدة أهل السنة. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 18 وجه تسمية الشارع لبعض الذنوب كفرا ً قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ولكن بقي هنا إشكال يرد على كلام الشيخ رحمه الله، وهو: أن الشارع قد سمى بعض الذنوب كفراً، قال الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] . وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) . متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) . و (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما) متفق عليهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقال صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) . وقال صلى الله عليه وسلم: (بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه. وقال صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد) وقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر) رواه الحاكم بهذا اللفظ. وقال صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت) . ونظائر ذلك كثيرة. و الجواب أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام. ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود في النار مع الكافرين، كما قالت المعتزلة، فإن قولهم باطل أيضاً، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] إلى أن قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] ، فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخاً لولي القصاص، والمراد: أخوة الدين؛ بلا ريب. وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] ، إلى أن قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] ، ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل، بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار) أخرجاه في الصحيحين. فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه. وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من ليس له درهم ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) رواه مسلم. وقد قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ، فدل ذلك على أنه في حال إساءته يعمل حسنات تمحو سيئاته، وهذا مبسوط موضعه] . الأحاديث التي تقدمت هي التي استدل بها الخوارج على مسألة التكفير بالذنوب، أخذوا بظاهرها، وأهل السنة قد أوردوها وأوردوا ما يبينها. فمثلاً: الإمام مسلم صاحب الصحيح في أول كتابه كتاب الإيمان سرد أحاديث كثيرة فيها التكفير بالذنوب، ثم سرد أحاديث بعدها فيها الرجاء، وفيها نفع الشفاعة لأهل التوحيد، وأن أهل التوحيد يخرجون من النار ولو عملوا ذنوباً، وأن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم تنال من لا يشرك بالله شيئاً، وأنهم ولو دخلوا النار بذنوب أذنبوها فإنهم لا يخلدون فيها، فهذا دليل على أن أحاديث الوعيد ليست دالة على الإخراج من الملة. ثم إن كثيراً من العلماء قالوا في أحاديث الوعيد: إنها تجرى على ظاهرها؛ ليكون ذلك أبلغ في الزجر، مع اعتقادنا أن أهل التوحيد الذين لم يشوبوه بشرك، ولم يبتدعوا بدعاً مكفرة؛ لا يخلدون في النار ولو دخلوها، وعلى هذا فنسكت عن تأويل هذه الأحاديث، أو نحملها على محامل كما ذكر الشارح، ونحرص على الجمع بينها. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 19 أمثلة لبعض الأدلة التي حملها العلماء على محامل غير الكفر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، هل كل من تقاتلوا لفتنة أو لخلافات سياسية يصيرون كفاراً؟ لا يكونون كذلك، فقد تقاتل الصحابة في عهد علي ومعاوية، ولم نحكم بكفر هؤلاء ولا هؤلاء، بل نقول: تلك فتن قدرها الله تعالى، وكل منهم له مقصد وله تأويل، ولم يكونوا كفاراً، وكل من قتل في هذه الفتنة تحت مشيئة الله. كذلك الذين تقاتلوا في وقعة الجمل لم يقل أحد بأنهم كفار، ما عدا المعتزلة ونحوهم، بل قتل فيها من الصحابة من قتل كـ الزبير وطلحة وغيرهما، ولا شك أنها فتن، ولا نقول: إنهم وصلوا إلى مرتبة الكفر -والعياذ بالله- بل ننزههم عن ذلك. إذاً: قوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) نجريه على ظاهره، ونعتقد أن القتال بنوع من التأويل لا يصل إلى الكفر، ونقول: لعله قصد الزجر والتحذير من قتال المسلمين بعضهم لبعض. وكذلك قوله: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) نقول: هذا من أحاديث الوعيد، أطلق عليه كفراً وإن لم يكن مخرجاً من الملة من باب الزجر، ومن باب التحذير عن قتل المسلم والاستهانة به. ومثل ذلك الآيات التي فيها وعيد شديد على بعض الذنوب، مثلاً: توعد الله على أكل الربا بقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} [البقرة:275] معلوم أنهم وإن دخلوها بذنوبهم فإنهم تحت مشيئة الله، وكذلك قال في القتل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] عقيدة أهل السنة: أنه مسلم لا يخرج من الملة، لكن هذا من باب الوعيد، وكثير منهم يقولون: ذلك جزاؤه إن جازاه. وكذلك قوله تعالى في الفرار من الزحف: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} [الأنفال:16] ، فهذا أيضاً نص فيه وعيد، فأهل السنة يقولون: هو وإن دخلها لا يخلد فيها أو قد يعفو الله عنه فلا يدخلها. وكذلك القذف، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:23-25] هذه الآيات من نصوص الوعيد أيضاً، مع أنها كلمة قد يكون فيها خطر وقد لا يكون، ومع ذلك توعد الله عليها بهذا الوعيد. وهكذا الوعيد في الأحاديث التي سمعنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) لا شك أن هذا أيضاً فيه تهديد وتخويف شديد على هذه الأعمال التي هي من كبائر الذنوب. وقوله: (وهو مؤمن) أي: ليس يفعلها وهو كامل الإيمان؛ فإن إيمانه يزجره عنها، ويحذره عن اقترافها، لكن هو ناقص الإيمان، وقال بعضهم: ينزع منه الإيمان، ويكون عليه كالظلة، ثم إذا انتهى رجع إليه، ولكن لا يرجع كاملاً. وهكذا حديث النفاق في قوله: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً: إذا حدث كذب) إلى آخره، لا نقول: إنها تخرج من الملة لمجرد كذبة أو خيانة، ولكنها من نصوص الوعيد. وقد أثبت الله عز وجل الإيمان بين المتقاتلين الذين يتقاتلون لضغائن وعداوات في الآيات التي سمعنا، يقول الله في القاتل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] سماه: أخاً مع كونه قاتلاً، وكذلك في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] سماهم: إخوة مع كونهم يتقاتلون، ولكنه قتال بغي، فالمخطئون منهم بغاة. ومعلوم أنهم لو كانوا كفاراً لحبطت أعمالهم، ولم يبق لهم حسنات، فإن الكفر يحبط الأعمال، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] إذا حبط عملك فلا تكتب لك حسنة، الكفار ما تكتب لهم حسنات، ولا يثبت لهم شيء من الأعمال الصالحة، بل أعمالهم تبطل، يقول الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] فلو كانوا كفاراً ما كان لهم حسنات، بل إما أن يجازوا بها في الدنيا كما في قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20] ، وإما أن يبطلها كفرهم وشركهم، يقول تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] ، ويقول تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة:217] حبطت أي: بطلت، ومثل الله تعالى أعمالهم بأنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يبقى منها شيء، فلو كانوا كفاراً ما بقي لهم أعمال صالحة، ولا حسنات يؤخذ منها للمظلومين. وقد سمعنا أنه يكون لهم حسنات في هذه الأحاديث، هذا الذي يأتي وقد قتل هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، وظلم هذا، وشتم هذا، فمع ذلك يؤخذ من حسناته، أليس ذلك دليل على أنها باقية؟ إذاً: فهو لم يصل إلى درجة الكفر. فهذا دليل على أن أعمالهم لا توصلهم إلى الإخراج من الملة، وعلى هذا ماذا نسميهم؟ نسميهم: عصاة، ونسميهم: فسقة، ونسميهم: أهل كبائر، ونسميهم: ناقصي الإيمان غير كاملي الإيمان، هكذا نسميهم. هذا قولنا في أهل المعاصي، أما الشرك والكفر فمعلوم أنه يصير كفراً مخرجاً من الملة، وأن الشرك لا يغفر حتى ولو كان صغيراً، ومن الشرك الأصغر: الحلف بغير الله، فقوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) المراد به: الشرك الأصغر؛ وذلك لأن الحلف بغير الله فيه إشراك بنوع تعظيم لذلك المخلوق، وتخصيصه بالحلف به حتى يكون شريكاً لله، والتعظيم حق الله، فالحالف قد عظم الذي حلف به، فمن حلف بالله فقد عظم الله، ومن حلف بالمخلوق فقد عظم المخلوق، فيكون تعظيمه شركاً، ولكنه من الأصغر، ولا يصل إلى الشرك الأكبر. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 20 شرح العقيدة الطحاوية [39] الحكم بغير ما أنزل الله أقسام ينبغي معرفتها، فقد ضل كثير من الناس بسبب عدم معرفة أقسام ذلك، وقد بين العلماء تلك الأقسام، وحذروا الناس من التسرع في الأحكام. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 1 البدع المكفرة البدع منها ما هو مكفر، ومنها ما لا يصل إلى حد الكفر. تواتر عن السلف رحمهم الله أنهم كفروا من قال بخلق القرآن، كفروهم من حيث العموم لا من حيث الأفراد، فهم ما يقولون: إن فلان بن فلان كافر؛ لأنه قال بخلق القرآن؛ فإن من أشهرهم خليفة من بني العباس المأمون، وهو أول من فتن الناس ودعاهم إلى القول بخلق القرآن، وفتن العلماء، ومع ذلك لم يكفره الإمام أحمد، بل كان يعذره بأنه متأول، وبأنه لبس عليه أولئك المبتدعة لما قربهم وأدناهم، فدخلت أفكارهم في قلبه، فشبه عليه. لكن المبتدعة الذين تمكنت هذه البدعة منهم لا نعذرهم، ولكن لا نحكم على فلان بأنه كافر لهذه البدعة، لكن من حيث العموم نقول: القول بخلق القرآن كفر. كذلك بدعة إنكار الصفات والغلو في إنكارها، وهي طريقة المعتزلة، هذه لا شك أنها كفر؛ وذلك لما فيها من التعطيل، حتى إن بعض العلماء جعلها أكبر من قول المشركين الذين يجعلون العبادة مشتركة بين الخالق والمخلوق، ولكن ما دام أنهم يتسمون بالإسلام فلا نطلق على أعيانهم بالكفر، كأن نقول مثلاً: أبو الهذيل العلاف كافر، أو أبو علي الجبائي كافر، لا، وإن كانا من غلاة المعتزلة، واشتهرا باعتناق هذا المذهب، وكتبا فيه، وأضلا خلقاً كثيراً، لكن نقول: أمرهما إلى الله، ولكن مقالتهما مقالة كفرية؛ لما فيها من مضادة للحق. كذلك نقول في المذاهب المعاصرة الجديدة: هذه لا شك أنها كفر، يعني من حيث معتقداتهم، فمثلاً: الدروز ليسوا بمسلمين حقاً، ولو ادعوا أنهم يدينون بالشهادتين ظاهراً أو نحو ذلك، لكن في الباطن ليسوا بمسلمين، مع وجودهم وكثرتهم في بعض البلاد؛ ولكن لا نقاتلهم، ولا نكفر أعيانهم حتى نقيم عليهم الحجج، نواجههم مواجهة شخصية، ونبين لهم، لكنهم في الحقيقة يخفون عقائدهم ويخفون مؤلفاتهم التي يعتنقونها. ويقال كذلك في الطائفة الجديدة الذين يسمون: بعثيين: لا شك أنا إذا بحثنا عن معتقداتهم ومبادئهم نجد أنها مبادئ كفر، وأنهم كافرون، وأن معتقدي هذه العقيدة ليسوا حقيقة بمسلمين؛ لأنهم علمانيون أو اشتراكيون أو ماركسيون أو دنيويون لا همة لهم بالآخرة ولا بمصالح الدين، ولا بالإقبال عليها، ولا بنصر الإسلام ولا غيره، كما يعرف ذلك من مؤلفاتهم، فمذهبهم مذهب كفر. كذلك يقال أيضاً في مذهب النصيريين والإسماعيليين وغلاة الشيعة الرافضة وأشباههم، من الذين يدعون أنهم من جملة المسلمين، ولكن لهم عقائد ودسائس خفية، لا شك أنها تخالف الإسلام وتخالف عقائد الإسلام، فيقاتلون إذا أقيمت عليهم الحجة، وحصلت معهم مواقف يتبين فيها أنهم عارفون بالحق ومعاندون ومخالفون له، وأبطلت شبهاتهم التي يتمسكون بها، فهذا ونحوه دليل على أنه يوجد هناك مكفرات، ولكن الحكم إنما هو للفعل لا للفاعل. ولأجل ذلك فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عندما خرج على أهل هذه البلاد، وجد أهلها يشركون بالغلو في الصالحين، ومع ذلك لم يكفرهم مبدئياً، ولكن بين أن فعلهم كفر، ولم يقاتلهم مبدئياً بل شرع في بيان أعمالهم وفي بيان كفرهم، ولما أصروا وعاندوا وجابهوا، وكتبوا رسائل في الرد عليه، وشبهوا على الناس مع اتضاح الحق كالشمس؛ أفتى عند ذلك بجواز قتالهم، وبأنهم -والحال هذه- كفار، حيث إنهم أباحوا عبادة غير الله، وشابهوا المشركين الأولين أو زادوا عليهم، كما بين ذلك في مؤلفاته رحمه الله، فما شرع في القتال إلا بعدما كتب الرسائل والكتب، وأرسلها إلى الطوائف الأخرى يبين لهم ويدعوهم، ويذكر لهم ما يدعوهم إليه، فهدى الله من هدى بواسطته، وأصر بعضهم على عناده، وشرع يلبس على الناس، فلما قامت عليهم الحجة عند ذلك أمر بالقتال. ولا شك أنهم كانوا يدعون أنهم مسلمون، ويقرءون القرآن، ويأتون بالشهادتين، ويصلون ويزكون ويصومون ويحجون؛ ولكن يشركون، وذلك بعمارة المشاهد، التي هي القبور، وتسمى الآن في العراق مشاهد، والواحد منهم مشهدي؛ وهم يحجون إلى تلك القبور، وعندهم معابد أعظم من الحرمين كالنجف وكربلاء، فهم يأتون إليها بخشوع وبإقبال ونحو ذلك. وهنا في نجد كان يوجد قبور كانت منصوبة ومرفوعة ويذبح عندها ويجلس عندها ويتحرى الصلاة عندها، ويطوفون بها، ويدعون أصحابها، ويهتفون بأسمائهم: يا زيد، يا يوسف، يا شمسان، يا فلان! فقال لهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب: أليس هذا هو الدعاء لغير الله؟ أليس الله يقول: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] ؟ فلم يجدوا بداً من أن يقتنعوا بكلامه، ولكن بعضهم فتنوا وزاغوا، وأصروا على شركهم، فحكم بكفرهم بعدما قامت عليهم الحجة، بل الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما قاتل قوماً إلا بعد أن دعاهم، ولما أرسل علياً رضي الله عنه لدعوة اليهود، وهم يهود، ومعلوم عنادهم، قال له: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) فالرسول عليه الصلاة والسلام قصده أن يدخل الناس في الإسلام، ليس قصده أن يقاتل، وليس قصده أن تكون له سيادة ومنصب وملك وسعة تصرف، أو أموال يقتنيها، ما كان هذا قصده، إنما قصده هداية الناس، وإقبالهم على الدين ودخولهم فيه. وهذا هو الذي يجب علينا بالنسبة إلى كل المبتدعة في زماننا، أن نحرص على دعوتهم، وبيان الحق لهم، وإظهار الأحكام الشرعية، وبيان مطابقتها للحقيقة، فإذا أصروا بعد ذلك وعاندوا فهنالك يقاتلون، إلا إذا كانوا معاهدين أو لهم ذمة، الذميون والمعاهدون والمستأمنون هؤلاء يؤمنون بقدر مدتهم؛ لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة:4] . وعلى كل حال هذه مسألة ذات أهمية، وهي: مسألة التكفير والتفسيق ونحوها، وعلينا أن نعرف الفرق بين أن نقول: هذا العمل كفر، وهذا الشخص كافر. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 2 من يحكم بكفره ودخوله النار متى نحكم على الإنسان بأنه كافر، وبأنه في النار؟ إذا عرفنا أنه مات على الكفر، وهو ممن قامت عليه الحجة، كالذين قتلوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم كفار، أو جاءت الأدلة بأنهم من الكفار، وهكذا من بعدهم، إذا عرفنا أن شخصاً ممن عاند الحق، وقاتل ضده، وعرفه المعرفة التامة، ورده الرد الشنيع، وضلل أهله، وعاند في قبوله، واستمر على ذلك، ومات ولم يتب ولم يرجع عن بدعته المكفرة أو عن كفره، فحينئذ ندعو عليه، ونستحل لعنه وشتمه، ونقول: إنه في النار. إذا تمت هذه الشروط. فأما من لم يتم ذلك فيه فنكل أمره إلى الله. مثال ذلك: أن أبا لهب توعده الله بقوله: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] ، وكذلك أبو جهل مات على الكفر وقتل عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه فرعون هذه الأمة) ، فمثل هؤلاء نتحقق أنهم في النار، ونحكم عليهم بذلك، وأشباههم ممن تحقق أنه مات على الكفر، وكذلك مسألة الإيمان كما سيتطرق إليها الشارح إن شاء الله. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 3 الأقوال المختلفة في أصحاب المعاصي قال الشارح رحمه الله: [والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لكن قالت الخوارج: نسميه كافراً. وقالت المعتزلة: نسميه فاسقاً. فالخلاف بينهم لفظي فقط. وأهل السنة أيضاً متفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب، كما وردت به النصوص، لا كما يقوله المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب، ولا ينفع مع الكفر طاعة! وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة تبين لك فساد القولين، ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى. ثم بعد هذا الاتفاق بين أهل السنة اختلفوا اختلافاً لفظياً، لا يترتب عليه فساد، وهو أنه هل يكون الكفر على مراتب، كفراً دون كفر؟ كما اختلفوا هل يكون الإيمان على مراتب، إيماناً دون إيمان؟ وهذا الاختلاف نشأ من اختلافهم في مسمى الإيمان: هل هو قول وعمل يزيد وينقص أم لا؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافراً نسميه كافراً، إذ من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ويسمي رسوله من تقدم ذكره كافراً، ولا نطلق عليهما اسم الكفر. ولكن من قال: إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، قال: هو كفر عملي لا اعتقادي، والكفر عنده على مراتب، كفر دون كفر، كالإيمان عنده. ومن قال: إن الإيمان هو التصديق، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان، والكفر هو الجحود، ولا يزيدان ولا ينقصان، قال: هو كفر مجازي غير حقيقي، إذ الكفر الحقيقي هو الذي ينقل عن الملة. وكذلك يقول في تسمية بعض الأعمال بالإيمان، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، إنها سميت إيماناً مجازاً؛ لتوقف صحتها على الإيمان؛ أو لدلالتها على الإيمان، إذ هي دالة على كون مؤديها مؤمناً؛ ولهذا يحكم بإسلام الكافر إذا صلى كصلاتنا، فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب، إذا كانوا مقرين باطناً وظاهراً بما جاء به الرسول، وما تواتر عنهم أنهم من أهل الوعيد. ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار، كالخوارج والمعتزلة، ولكن أردأ ما في ذلك التعصب على من يضادهم، وإلزامه لمن يخالف قوله بما لا يلزمه، والتشنيع عليه! وإذا كنا مأمورين بالعدل في مجادلة الكافرين، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن، فكيف لا يعدل بعضنا على بعض في مثل هذا الخلاف؟! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]] . الجزء: 39 ¦ الصفحة: 4 عقيدة أهل البدع في أصحاب المعاصي ذكرنا أن هناك طوائف في هذا الباب انحرفوا، فطائفة المعتزلة يقولون: إن أصحاب المعاصي خارجون من الإسلام، ولم يدخلوا في الكفر بحيث لا تستباح دماؤهم ولا قتالهم، ولكنهم يخلدون في النار. وطائفة الخوارج يقولون: أصحاب الكبائر كفار، يقاتلون، وتحل دماؤهم وأموالهم، وإذا ماتوا ماتوا كفاراً، يعاملون معاملة الكفار، لا يغسلون ولا يصلى عليهم، وهم في الآخرة يحكمون عليهم بالخلود في النار، هذا قول الخوارج، ويستدلون بالأحاديث التي تقدمت في الكفر كقوله: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية) ، أو: (اثنتان في الناس هما بهم كفر) وما أشبه ذلك. وطائفة المرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، وهذه طائفة تبيح للإنسان أن يكثر من المعاصي، وأنها لا تضره، ولو زنى، ولو سرق، ولو قتل، ولو شرب الخمر، ولو كذا وكذا، وذلك كله لا ينقص إيمانه، فإيمانه كامل، وحسناته كاملة، وهو من أهل الجنة، ولا تضره هذه الكبائر ولا هذه السيئات، فيبطلون الأحاديث التي فيها الوعيد، ونحو ذلك، وهؤلاء أيضاً مخطئون. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 5 عقيدة أهل السنة في أصحاب المعاصي القول الوسط هو قول أهل السنة حيث قالوا: إن أهل المعاصي يخاف عليهم الوعيد، يخاف عليهم النار ما دام أنهم قد سموا في بعض الأحاديث كفاراً، وسموا في أحاديث أخرى فساقاً، فلابد أن هذه المعاصي تضرهم، فإما أن تؤخرهم عن دخول الجنة، ولا شك أن ذلك ضرر، وإما أن يدخلوا بها النار، ولا شك أن ذلك ضرر أعظم؛ لأنهم قد يدخلون النار ويطول مكثهم فيها، وقد يدخلون النار ولا يطول مكثهم، وذلك على قدر أعمالهم، وأشباه ذلك، وهذا دليل على أن المعاصي لها تأثير على العاصي، فلأجل ذلك يخاف عليه إذا أصر عليها. ومعروف أن الشرع ما حذر من المعاصي وأكثر الذم لها إلا ولها تأثير في الإيمان، فعلى الإنسان أن يرجع إلى الأحاديث التي وردت في الحث على كثرة الطاعات، والتحذير من المعاصي، حتى ولو كانت صغيرة، ويحذر من الإصرار عليها، ويتذكر آثارها ومضارها، فسيكون ذلك زاجراً للمسلم عن أن يصر على كبيرة، أو عن أن يأتي ذنباً ولو مرة واحدة؛ مخافة أن يسبب له عذاباً عاجلاً أو آجلاً. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 6 سبب الخلاف في حكم أهل المعاصي ذكر الشارح أن هذه المسألة مبنية على قول من يقول: إن الإيمان يتفاوت، وإن هناك إيماناً كاملاً، وهناك إيماناً ناقصاً، وإن هناك كفراً دون كفر ونحو ذلك. وهذه الآيات التي في سورة المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] ، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] بعض السلف أطلق عليهم هذا الكفر والفسق والظلم؛ وذلك لأنهم عاندوا، وعرفوا أنه حكم مغاير لحكم الله، وشرعوا مع الله، وجعلوا شرعهم أحسن من شرع الله، وتنقصوا حكم الله، وادعوا أنه ليس بمناسب وليس بصالح، فلأجل ذلك حكم عليهم بالكفر والظلم والفسق. وآخرون قالوا: إذا فعل ذلك لهوى، ورأى أن الحكم الشرعي لا يناسب في بعض الأحيان، وأن الحكم بغيره قد يكون أنسب، فحكم بذلك متأولاً، فإنا لا نخرجه من الإسلام، بل نجعله دون هذا، فقالوا: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وهذا على طريقة من يجعل الكفر يتفاوت، ويجعله كفراً أكبر، وكفراً أصغر، وكفراً أوسط، وكذلك يجعلون الإيمان إيماناً كاملاً، وإيماناً متوسطاً، وإيماناً ناقصاً. ونحن نقول: نعم؛ الإيمان يتفاوت؛ ولأجل ذلك تنقصه المعاصي، وتزيده الطاعات. وأما الكفر فنقول: إن الكفر يبطل الأعمال كما ذكرنا أدلته، فلأجل ذلك الكافر ولو أدى أعمالاً في حياته لا تنفعه، إلا أننا إذا رأيناه يعمل الأعمال التي تختص بالإسلام عاملناه معاملة المسلم، فمن رأيناه مثلاً: يصلي، ويحافظ على الصلاة مع الجماعة؛ حكمنا بأنه مسلم؛ لأننا نحكم بالظاهر، ونكل أمر السرائر إلى الله تعالى، ولو كان في الباطن كافر فباطنه أمره إلى الله. لكن إذا رأيناه مع الصلاة يعبد غير الله مثلاً أو يشرك، أو يحكم بغير الشرع، ويفضل حكم غير الشرع على حكم الشرع عاملناه بما يستحقه. وبذلك يعرف أن باب تفاوت المؤمنين، وتفاوت الكفار يكون بحسب ما في القلوب من الإيمان أو من ضد الإيمان، وهذه مسألة لها أهميتها، يعرف الإنسان أن أهل الإيمان يتفاوتون، فإيمان قوي يحمل على كثرة الطاعات والعبادات، وإيمان ضعيف لا يزجر عن المحرمات ولا عن الآثام. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 7 واجب المسلم تجاه مسائل العقيدة ينبغي للمسلم أن يهتم بأمر دينه؛ حتى يسلك طريق النجاة، ولا شك أن مبنى دينه على أمور العقيدة، التي إذا ثبتت ورسخت انبنت عليها صحة الأعمال، وأثيب عليها، وإذا فسدت العقيدة انبنى عليها وترتب عليها فساد الفروع والأعمال. ولا شك أن من جملة العقيدة أسماء الإيمان والدين، وقد عرفنا جانباً كبيراً منها فيما يتعلق بالتكفير والتفسيق، وطريقة أهل السنة في ذلك، ومن خالفهم. وسبب الخلاف في ذلك: أنه جاءت أحاديث كثيرة فيها الحكم بالكفر على بعض الأعمال التي هي من المعاصي، وتسمى تلك النصوص نصوص الوعيد، أو أحاديث الوعيد، وطريقة أهل السنة فيها أنهم يجرونها على ظاهرها؛ ليكون أبلغ في الزجر، مع اعتقادهم أنها لا تخرج من الملة، وأن مرتكب الكبيرة ولو كان متوعداً بالكفر أو نحو ذلك، فإنه لا يصل إلى أن يستباح دمه وماله، وأن يحكم عليه بالخلود في النار، بل يقال: هذا من الذنوب التي جاء فيها هذا الوعيد، وأمرها إلى الله تعالى، وكل المعاصي التي دون الشرك فإنها تحت مشيئة الله، إن شاء غفر لصاحبها، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه. هذه طريقة أهل السنة. وقد مر بنا بعض أحاديث الوعيد التي فيها شيء من الغلظة والشدة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) فإن هذا فيه نفي الإيمان، فنحن لا نقول: إنه خرج من الإيمان كلياً، ولا أنه دخل في الكفر. المعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر. والخوارج يقولون: يخرج من الإيمان، ويدخل في الكفر. ونحن نقول: إنه لا يخرج من الإيمان، ولكنه تحت مشيئة الله، ونقول: إنه فاسق بهذا الذنب، ولا يصل إلى أن يستباح دمه وماله وعرضه، ولكن ذنبه غليظ. ومثله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت) ومعلوم أن هاتين المعصيتين لا يكفر بهما. ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) ، ومعلوم أن قتاله لا يصل إلى حد أنه يخرج من الملة. ومثله: قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) ، والأحاديث الكثيرة التي فيها: (ليس منا) كقوله: (من غشنا فليس منا) . وأحاديث البراءة كقوله: (من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة فإن محمداً بريء منه) وما أشبه ذلك مما فيه البراءة من هذا الفعل أو الفاعل. نقول: إن هذه جاءت للزجر عن هذه المعاصي، ومعلوم أنه جاءت أحاديث تدل على إخراج المسلمين الذين هم من أهل التوحيد من النار، إما بشفاعة الشافعين، وإما برحمة الله تعالى، فتلك الأحاديث تدل دلالة واضحة على أنه وإن عمل الكبائر ونحوها لا يصل إلى حد الكفر. وفي حديث أبي ذر لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه ذرة من إيمان -يعني: أن عنده أصل الإيمان- فقال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق) فيدل على أنه لا يصل إلى حد الكفر بمثل هذه الذنوب. ومع ذلك فإنه لا يجوز التساهل بهذه الذنوب؛ وذلك لأن التساهل بها والإدمان عليها يقسي القلب، ويصد عن الطاعة وفعل الحسنات، ويجرئ على كثرة السيئات، ويضعف الخوف من الله في القلب، وقد يسبب هذا الضعف ترك الواجبات، وارتكاب المحرمات، مما قد يكون سبباً في الطعن بالشريعة والعيب لها، والاعتراض على الله تعالى في تحريم هذا الشيء، أو إيجاب هذا الشيء، وذلك كفر؛ لأنه من الاعتراض على الله تعالى، ورد لأحكامه، والطعن في شيء من الشريعة بأنه غير مناسب، أو أنه جور أو نحو ذلك؛ تقوّل على الله، واعتراض عليه؛ فلأجل ذلك ينهى عن الإصرار على الذنوب حتى ولو كانت صغائر. ويكثر في الأحاديث الزجر عن صغائر الذنوب وعن كبائرها، وتكثر الأدلة على الوعيد الشديد على بعض الذنوب، ويستشهد العلماء بأدلة فيها الهلاك والردى والعذاب لمن فعل هذه الذنوب، ولمن أصر عليها، وإذا عرف المسلم ذلك لم يتهاون بها ولو كانت لا تصل إلى الكفر؛ مخافة أنها مع التساهل ومع الاستمرار عليها تقسي قلبه، وتصده عن ذكر الله وعن معرفة الله. والمسلم إذا تخلى عن السيئة حتى ولو صغيرة، وكرهها بقلبه، فبلا شك أنه سوف يحب الطاعات ويألفها، وتسهل عليه، ويحب الاستكثار منها، ولا شك أن الإقلاع عن السيئة والبعد عنها، وكثرة الحسنات، وكثرة الأعمال الصالحة مما يرفع الله تعالى به العبد درجات، ومما يقبل منه عبادته، ولا شك أن سبب ذلك معرفة عظم ثواب الله تعالى وأجره، حتى يكون بذلك مثابراً مكباً على الإكثار من الحسنات، وحتى يعرف عقاب الله وأليم عذابه على إصراره على الكبائر، ولو عذاب يوم أو عذاب ساعة أو نحو ذلك، فكيف بعذاب دهور متطاولة؟! كل ذلك مما يبعد الإنسان عن المعاصي، أي: معرفته بجزيل الثواب، ومعرفته بأليم العقاب. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 8 الحكم بغير ما أنزل الله، وأقسام أهله قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة، وقد يكون معصية: كبيرة أو صغيرة، ويكون كفراً: إما مجازياً، وإما كفراً أصغر، على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله؛ فهذا كفر أكبر. وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهذا عاص، ويسمى كافراً كفراً مجازياً، أو كفراً أصغر. وإن جهل حكم الله فيها، مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأ، فهذا مخطىء، له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور. وأراد الشيخ رحمه الله بقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) مخالفة المرجئة، وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن مظعون شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة:93] الآية، فلما ذكروا ذلك لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا. وقال عمر لـ قدامة: (أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر) . وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر، وكان تحريمها بعد وقعة أحد، قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله هذه الآية، وبين فيها أن من طعم الشيء الحرام في الحال التي لم يحرم فيها، فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين، كما كان من أمر استقبال بيت المقدس. ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك ندموا وعلموا أنهم أخطئوا وأيسوا من التوبة، فكتب عمر إلى قدامة يقول له: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:1-3] ما أدري أي ذنبيك أعظم؟ استحلالك المحرم أولاً أم يأسك من رحمة الله ثانياً؟ وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام] . سمعنا أولاً تفصيل القول في الحكم بغير ما أنزل الله، وأنه ينقسم أهله إلى ثلاثة أقسام: الجزء: 39 ¦ الصفحة: 9 الحاكمون بغير ما أنزل الله مع اعتقادهم أنه أحسن من حكم الله القسم الأول: أنهم كفار، وهم الذين يعرفون حكم الله وينتقدونه، ويقولون: إن الحكم الشرعي لا يناسبنا، أو إن الحكم الشرعي الذي في القرآن والسنة قديم، ولا يناسب هذا الزمان، فنحن نبتكر ونبتدع حكماً يناسب هذا الزمان؛ حتى يوافق الحال. فهؤلاء الذين يحكم أكثرهم بالقوانين الوضعية في هذا الزمان هم كفار والعياذ بالله، وذلك أنهم يعرفون الأحكام الشرعية المأخوذة من الوحيين، ولكن زهدوا فيها، ورموها خلف ظهورهم. من أين أخذوا قوانينهم التي يحكمون بها؟ أخذوها من الغربيين، أخذوها من محاكاة الأفكار الغربية، ومن زبالة الأذهان الغربية، ومما تلقوه عن الغربيين وعن اليونان وعن الكفرة والملاحدة، فهم قد جمعوا لهم هذه القوانين ووضعوها، وجعلوا التحاكم إليها. وكان من نتيجتها تعطيل الكثير من الحدود، وتغيير الكثير من الأحكام، فمنهم الذين لا يجعلون المال خاصاً، وهم الذين يسمون بالاشتراكيين ونحوهم، فهؤلاء طوائف كثيرة يتسمون بأنهم مسلمون، وينزعون الملكيات من أهلها، ويستبدون بها، ويتصرفون فيها، ويزعمون أن هذه اشتراكية، وكذبوا وإنما هي استبدادية، فهذا من جملة أحكامهم الجائرة. كذلك من نتيجة أحكامهم تغيير كثير من الفرائض والمواريث التي فرضها الله، فهم غيروا فيها وحرموا كثيراً، وأعطوا من لا ميراث لهم، ونحو ذلك، ويطول بنا التفصيل لو ذكرنا ذلك. كذلك من نتيجة أقوالهم تعطيل كثير من الحدود، فالقصاص عندهم لا يجوز، مع أن الله تعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] سواء في الطرف أو في النفس، يستبدلون بدله أخذ المال من القاتل، أو نحو ذلك حتى يترك، أو يستبدلون بدله السجن المؤبد، أو نحو ذلك. وكذلك تعطيل حد الزنا، حيث أباحوا الزنا إذا كان الزانيان متراضيين؛ لأن هذا شيء يملكانه، وقد بذلاه باختيارهما. وكذلك تعطيل حد الخمر، حيث إن الخمر عندهم أمر مباح ليس فيه أي بأس، وأنها جائزة، وأن الحكم بتحريمها حكم ظلم وجور، وانتقدوا الشرع في تحريمها، إلى غير ذلك من تفاصيل هذه الأحكام الوضعية. نقول: لا شك أن هذا كفر، حيث اعترضوا على الشرع وخطئوه، وادعوا أنه قد تغير، وأنه لا يناسب التطور -كما يقولون- فجعلوا حكمهم أحسن من حكم الله، والله يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] . هذه مقالة هؤلاء الذين يجعلون الحكم بغير ما أنزل الله على حسب أهوائهم، فيحكمون بما يلائمهم ويتركون حكم الله وهم يعرفونه، ويطعنون في حكم الشرع، لا شك أن هؤلاء كفار: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] . الجزء: 39 ¦ الصفحة: 10 الحاكمون بغير ما أنزل الله لهوى في نفوسهم القسم الثاني: الذين يحكمون به وهم يعرفون أنه حرام، ولكن يقولون: لعذر، أو لضرورة، أو نحو ذلك، فهؤلاء عصاة، إلا إذا كانوا مضطرين. كثير من المسلمين من الإخوان الصالحين يضطرون إلى السفر إلى بلاد تحكم بحكم الطاغوت الذي هو القوانين الوضعية، مع أن الذين يحكمون بها إما مسلمون وإما غير مسلمين، ويكون لأحدهم حق، وإذا كان له حق فماذا يفعل؟ يقول: هل أترك حقي يضيع أو أتحاكم إلى محاكمهم هذه التي هي قانونية، وأنا أعرف أني صاحب حق، وأنا أعرف أنهم يحكمون بحكم الطاغوت، ولكني مضطر إلى التحاكم إليهم؛ لعدم وجود حاكم شرعي، ولو تركت حقي لذهب علي، وهو قد لا يتساهل به؟ ففي هذه الحال هو معذور؛ حتى لا يضيع حقه، هو معذور إذا ترافع مع خصمه إلى أولئك الذين يحكمون بالقوانين، ومتى حكموا له أخذ حكمهم، وألزموه ضرورة؛ لأنه في بلادهم. والحاصل أن الذي يحكم بها وهو يعلم أنها محرمة، ولكن يدعي أنه مضطر إليه أو أنها ذنب، وأنه لا يناسب في هذا الوقت، أو لا يخلص له حقه في هذا المجال إلا بهذا، فهو معذور، ولكن هو مذنب، حيث إنه تعاطى الشيء الذي اضطره إلى ذلك، وأما إذا كانت ضرورة فلعله معذور. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 11 المجتهد المخطئ في الحكم القسم الثالث: الذي اجتهد في طلب إصابة الحق ولكنه لم يصبه، فحكم باجتهاده، فهذا معذور، وهو الذي له أجر على اجتهاده، ويغفر خطؤه. هذه أقسام من يحكم بغير ما أنزل الله. عرفنا أن منها ما هو معصية، ومنها ما هو كفر، ومنها ما هو عذر. سمعنا قصة قدامة بن مظعون في عهد عمر رضي الله عنه، كان قدامة وبعض المسلمين في الشام، والشام يكثر فيها صناعة الخمر، وكانوا في الشام وفي مصر يجلسون فيها يدعون إلى الله، ويعلمون من دخل في الإسلام، وكانوا يجالسون أولئك، فعند ذلك يرونهم يشربون الخمر، فـ قدامة واثنان معه شربوها، وتأولوا هذه الآية التي في سورة المائدة، لما ذكر الله تحريم الخمر: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90-91] ، ثم قال بعد ذلك: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93] فظنوا أن هذه باق حكمها فقالوا: نشربها ونتقي ونؤمن ونحسن ويغفر لنا، ولا يكون علينا حرج، فهذا تأويل منهم، فهم ظنوا أن شربها لا ينافي الإيمان فشربوها. ولما وصل الخبر إلى عمر -وكان رجلاً غيوراً- أمر أن يجلدوا حتى ولو كانوا من مشاهير المسلمين، فجلدوا حد الخمر، ولكن سأل الأمير هناك وهو أبو عبيدة فقال: إن وقعوا فيها عن معصية فعليهم الجلد، وإن أصروا واعتقدوا أنها حلال مباحة فعليهم القتل؛ وذلك لأنهم أباحوا ما حرم الله، مع التصريح بتحريمها في الآية، فمن أباح شيئاً حرمه الله حتى ولو لم يتناوله فقد خالف النصوص، فيحكم بردته، ولكنهم تعللوا بأنهم شبه عليهم، وظنوا أن في هذه الآية دليلاً. وقال عمر رضي الله عنه لـ قدامة: (أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات وأحسنت ما شربتها) ، فالإيمان والعمل الصالح والتقوى والإحسان زواجر تزجر عن هذه المنكرات، ثم بين لهم أن هذه الآية نزلت في الذين ماتوا وهم يشربونها قبل التحريم، الذين قتلوا في غزوة أحد أو بدر أو غيرها قبل أن تحرم الخمر نزل فيهم لما قال المسلمون: كيف بفلان مات وهي في بطنه؟ قتل شهيداً وهو يشربها، كيف حالتهم؟ فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93] يعني: فيما قد طعموا، لم يقل: فيما سوف يطعمون، أو فيما يأكلون أو يشربون، بل قال: ((فيما طعموا)) فدل على أن المراد: في الشيء الذي قد طعموه قبل التحريم. وحتى أنتم الذين نزل تحريمها وأنتم أحياء وكنتم تشربونها، ما قد طعمتموه قبل التحريم قد عفي عنه، فاستقبلوا وقتاً جديداً، وتوبوا إلى الله وأقلعوا عنها. فالحاصل أن عمر رضي الله عنه بين أنهم إن اعتقدوا أنها حلال فقد خالفوا النصوص، فهذا يعتبر ردة، وإن قالوا: بل هي حرام، ولكنا شربناها بتأويل، فهذه معصية لا تخرج من الملة، ولكن فيها حد الخمر الذي شرعه الله. وبهذا يعرف أن من استحل الحرام المعروف من الدين بالضرورة فإنه يكفر، حتى ولو لم يفعله، فمن قال: الزنا حلال إذا كان الزانيان متراضيين، ولا حرج فيه؛ لأنه شيء من الإنسان، وقد بذلت المرأة نفسها، وقد بذل الرجل نفسه، فلا حرج عليهما فيما فعلا ولا إثم! نقول: هذا قد كفر، ولو لم يزنِ هو؛ وذلك لأنه أحل حراماً. ومن قال مثلاً: الربا الذي ذكره الله في القرن مباح، ولا إثم فيه، كما حكى الله عن المشركين قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275] نقول: يكفر ولولم يأكل الربا، ولو لم يتعامل به، إذا أباحه واستحله، وجعله مثل البيع، وجعله يجوز بالتراضي، ما دام أن المتعاقدين متراضيان؛ ويعتبر بذلك مرتداً، ففرق بين من فعل المعصية وهو يعرف أنها معصية، ولم يستحلها، وبين من فعلها وهو مستحل لها، أو استحلها ولو لم يفعلها؛ فإنه يكفر. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 12 شرح العقيدة الطحاوية [40] الخوف والرجاء عبادتان قلبيتان عظيمتان، وقد ضل فيهما الخوارج والمعتزلة من جانب، والمرجئة من جانب آخر، وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 1 العقائد المختلفة في الخوف والرجاء قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم، ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم) . وعلى المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ رحمه الله في حق نفسه وفي حق غيره، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] ، وقال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] ، وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41] ، وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] ، وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150] ومدح أهل الخوف فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَة رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57-61] . وفي المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت (قلت: يا رسول الله! ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)) [المؤمنون:60] أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه) ، قال الحسن رضي الله عنه: عملوا -والله- بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً. انتهى. وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَة اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218] فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إتيانهم بهذه الطاعات! فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى] . الجزء: 40 ¦ الصفحة: 2 عقيدة أهل البدع في الخوف والرجاء الرجاء: هو تعلق القلب برحمة الله. والخوف: وجل القلب من عذاب الله. وهنا طائفتان منحرفتان: طائفة المرجئة غلبوا جانب الرجاء، وقالوا: لا تضر الذنوب، ومهما كثرت المعاصي فإنها لا تضر، ما دام أن الإنسان مؤمن، لا يضر عندهم ذنب. والطائفة الثانية غلبوا جانب الخوف، ويسمون: الوعيدية: وهم الخورج والمعتزلة الذين يخلدون أصحاب الكبائر في النار، ولا يجعلون لهم توبة، ويقولون: إنهم قد لا يوفقون للتوبة، وأنهم لا يخرجون من النار، فهؤلاء غلبوا جانب الخوف. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 3 عقيدة أهل السنة في الخوف والرجاء أهل السنة يأمرون بالجمع بين الخوف والرجاء، أي: أن على الإنسان أن يكون جامعاً بين الخوف والرجاء، فمن العلماء من يقول: عليك أن تسوي بينهما، وقرأت لبعضهم، أنه مثل المحبة والخوف والرجاء بطائرٍ، فقال: المحبة رأس الطائر، والخوف والرجاء جناحاه، فإذا قطع رأسه مات، وإذا قطع أحد جناحيه تحسر، وإذا كمل الجناحان والرأس تم الطيران، فهكذا تكون المحبة حاملة للإنسان على العبادات، الجناح الأول الذي هو الرجاء يحمله على البعد عن اليأس وعن القنوط، ويعلق قلبه برحمة ربه. والجناح الثاني الذي هو الخوف يحمله على البعد عن الآثام، مبعداً له عن المعاصي وعن الذنوب وعن الإصرار عليها. فإذا تذكر سعة رحمة الله ومغفرته وفضله وجوده وإحسانه، ومحبته للتائبين من عباده، ومغفرته للذنوب جميعاً برد قلبه، ورجا رحمة ربه. وإذا قرأ الآيات التي فيها الخوف والعقاب والألم والغضب والنار وشديد البطش ونحو ذلك فزع من المعاصي وابتعد عنها، وتاب وأقلع، وحذر من عقوبتها، فهو دائماً يقرأ هذه وهذه، ولعل هذا هو السبب في أن الله يقرن بين الخوف والرجاء في كثير من الآيات، مثل قول الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49-50] فالآية الأولى فيها الرحمة، حتى لا يغلب على العاصي اليأس، والآية الثانية فيها الخوف؛ حتى لا يغلب على قاسي القلب ونحوه التساهل بالمعاصي ونحوها، فخوفه يحمله على البعد عن السيئات، ورجاؤه يحمله على الإكثار من التوبة رجاء أن تقبل حسناته وأن تغفر سيئاته. ومثله: قول الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:6] قوله: ((لذو مغفرة للناس على ظلمهم)) هذه في الرحمة، فلا تيئس من الرحمة ولا تقنط منها، وقوله: ((لشديد العقاب)) في عدم التساهل بالمعصية؛ فإن الله شديد العقاب. ومثلها: الآية التي استشهد بها عمر رضي الله عنه لما بلغه أن قدامة بن مظعون قد يئس، وانقطع رجاؤه، وظن أنه ليس له توبة، فكتب إليه الآية التي في أول سورة غافر: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3] جمع الله بين الأمرين: المغفرة، والعقاب. فقال له عمر: (لا أدري أي ذنبيك أعظم: شربك للخمر أولاً، أو يأسك من روح الله) الله تعالى يقول: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] فأنت إذا يئست فقد بلغت هذه الرتبة، فالإنسان بين هاتين المرتبتين: بين اليأس، وبين الأمن، فلا يكون آيساً ولا يكون آمناً، الآمن: هو أن يكثر من الذنوب وكأنه آمن، والله تعالى يقول: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] . إذاً: المسلم يكون جامعاً بين الأمرين: بين الخوف، بحيث لا يعصي، وبين الأمن بحيث لا ييئس، الأمن الذي لا يوصله إلى التهاون بالمعاصي، يكون آمناً، ولكن ليس أمناً من مكر الله، ولكن آمنا بفضل الله، ويكون راجياً لرحمة الله. الذين يقعون في كبائر ومعاص من زنا ومن سرقة ومن قتل ومن فواحش، كثير منهم إذا نصحته يقول: أنا قد عملت كذا وكذا، وقد شربت الخمور، وقد تركت الصلوات مدة طويلة، وقد قسا قلبي، وقد فعلت وفعلت أنا لا تقبل توبتي، ولا تعمني الرحمة، أنا مقدم على العذاب، أنا من أهل النار كائن ما كان. فهذا من الذين قال الله فيهم: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] هذا هو القنوط، وهو قطع الرجاء، كأنه يقول: ما دمت فعلت الذنوب والكبائر فلا تعمني الرحمة، ولا يصلني العفو، ولا تبلغني رحمة الله، أنا مقدم على النار، أنا آيس من الرحمة ونحو ذلك، يقوله بلسانه والله أعلم بما في قلبه، ولعل السبب: أنه ألف المعاصي، وشب ونشأ عليها، وصعب عليه تركها، فلأجل ذلك اعتذر بهذا العذر الذي هو أفسد من الفعل. فهؤلاء لا شك أنهم قد وصلوا إلى هذه الرتبة الخطرة، وهي اليأس والقنوط، أو التساهل بالمعاصي، حتى اعتقدوا أنهم مقدمون على النار، جازمون بأنهم من أهل النار. وهناك طائفة أخرى تجدهم يكثرون من المعاصي، ويكبون عليها، وإذا نصحتهم تعلقوا بالرحمة، وقالوا: رحمة الله واسعة، الله يغفر الذنوب جميعاً، الله وسعت رحمته كل شيء، الله غفور رحيم، ويتعلقون بالرحمة، فهؤلاء آمنون، دخلوا في قول الله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] فتجد أحدهم يترك العبادات، ويقترف المحرمات، ويكثر من السيئات، ولا يهاب الإقدام عليها، ويتعلق بالرحمة، فمثل هذا على طريقة المرجئة، الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، ويقول أحدهم: فكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم لا شك أن مثل هذا قد أمن مكر الله، وتهاون بعقوبة الله، ونقول له: لا تأمن أن يأتيك الأجل وأنت على هذا التفريط، وأنت متساهل بحدود الله وبحقوقه، لا تأمن أن هذه المعاصي تطمس قلبك وتقسيه وتحول بينه وبين المعرفة، وتحول بينه وبين التلذذ بالطاعة؛ فتبقى طريداً شريداً والعياذ بالله! إذا أتاك الأجل وأنت على هذه الذنوب مصر عليها فماذا تكون حيلتك؟ هل لك استطاعة في الصبر على النار؟ هل تصبر على عذاب الله ولو لحظة؟ حتى نار الدنيا لو عذبت بها ماذا يكون صبرك في نار الدنيا؟ فكيف بنار الآخرة؟! تذكر أنه قد يعذبك حيث استهنت بحقوقه وبحدوده، وأقدمت على هذه المعاصي، وتهاونت بنظر الله عز وجل، وتهاونت بعقابه، فلا تأمن أن يعاقبك على هذا، ولو كنت موحداً ولو كنت مؤمناً ونحو ذلك، لا تتهاون بحدود الله ولا بعقابه. وعلى كل حال: فقد ظهر لنا ذم هاتين الطريقتين:- طريقة المرجئة: الذين يبيحون المعاصي ويكثرون منها ويحلونها، ويغلبون جانب الرجاء. وطريقة الخوارج والمعتزلة: الذين يكفرون بالذنوب، ويحرمون العاصي من المغفرة في الآخرة، ونحو ذلك. الطريقة الوسط بينهما: هي أن يكون المسلم خائفاً راجياً، كما جمع الله بينهما في هذه الآية التي في سورة الإسراء، وهي قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] (يرجون) (يخافون) فجمعوا بين رجاء الرحمة حتى تبرد قلوبهم عن اليأس، وخوف العذاب حتى لا يأمنوا من مكر الله، حتى يحملهم الرجاء على إحسان الظن بالله، ويحملهم الخوف على الحذر من سخط الله، وعن البعد عن معاصيه من صغائر وكبائر، ويحملهم على الأعمال الصالحة التي تقربهم إلى الله، هذا وجه الجمع بين الخوف والرجاء. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 4 عقيدة المسلم في الخوف والرجاء في حق نفسه وغيره من عقيدة المسلمين الخوف والرجاء؛ الخوف من عذاب الله، والرجاء برحمة الله، ونتيجة هذا أن الإنسان لا يأمن من عذاب الله ومن مكره، ولا ييئس من روح الله ولا يقنط من رحمته، بل يجمع بينهما، ويكون ذلك في نفسه وكذلك في غيره، ففي نفسه يخاف، يقول: إنني مذنب، وإنني مقصر، وأخاف على نفسي من عذاب الله، وأخاف من مقته، ولكن لا يحمله هذا الخوف على القنوط، بل يضيف إلى الخوف الرجاء. وقد ذكر العلماء أنه في حالة الصحة يغلب جانب الخوف؛ حتى يدفعه إلى استقلال أعماله فيستكثر ويتوب، وأما عند الاحتضار وفي حالة المرض فالأولى أن يغلب جانب الرجاء، ورد في حديث: (لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) رجاء أنه إذا مات وهو على تلك الحال أن يتغشاه الله برحمته، ويصدق عليه الحديث: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء) ، فإذا مات وهو على ذلك رجي له أن يعمه الله تعالى برحمته. هذا بالنسبة إلى الإنسان في نفسه، يكون خائفاً راجياً، يحمله الخوف على أن يحتقر أعماله، ويحمله الرجاء على أن يعلق قلبه بربه، وعلى ألا ينقطع رجاؤه، ولا يقنط من رحمته. كذلك في حق غيره، تخاف عليه وترجو له، فتقول: فلان توفي وهو على الإسلام، نخاف عليه من العذاب، ونرجو له الثواب، أو نرجو للمحسنين، ونخاف على المسيئين. فالمحسنون الذين يظهر من أعمالهم الصالحة أنهم من أهل الخير، ترجو لهم الثواب، وترجو لهم الجنة، وترجو لهم المغفرة، وتأمل أن يكونوا من أهل الخير، وأن يكونوا من أهل الطواعية، وأن يحظوا بالثواب. والمسيئون الذين ماتوا وهم على إساءة، أو باقون وهم على إساءتهم وعلى سيئاتهم، تقول: نخشى عليهم أن يقعوا في العذاب، أو أن يدركهم عذاب الله ونقمته. ذكر ذلك العلماء حتى في كتب الأحكام، في آخر الجنائز من كتب الفقهاء يقولون: نرجو للمحسنين الذين ماتوا وهم من أهل الإيمان والإحسان، نرجو لهم الخير، ولكن لا نجزم بأنهم من أهل الجنة، ولكن نرجو ونغلب جانب الرجاء، ونخاف على المسيئين الذين ماتوا وهو مصرون على بعض السيئات، أو من أهل الإساءة ومن أهل التقصير في الأعمال نخاف عليهم، ولكن لا نجزم لهم بالنار، ولا نجزم لهم بدخول العذاب، وإنما نخشى عليهم. وأما الذين قد ستروا أنفسهم، ولم يظهر لنا منهم هذا وهذا، ولكنهم في الظاهر مسلمون، ومن أهل السنة ومن أهل الخير، فهؤلاء لا يجوز أن نظن بهم ظناً سيئاً، بل يستحب أن يظن بهم الظن الحسن، يستحب أن يحسن الظن بالمسلم الذي ظاهره الإسلام، ولم يبدُ لنا منه ما يوجب سوء الظن، فنقول: نحسن الظن به، ونرجو له الخير في حياته وبعد مماته. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 5 الجمع بين الخوف والرجاء المسلم يجمع بين الخوف والرجاء، والأدلة على ذلك كثيرة، ومنها الأدلة التي فيها أن الإنسان دائماً يكون خائفاً راجياً، منها: أن الله كلما ذكر الجنة ذكر النار، كلما ذكر عذابه ذكر ثوابه، مثل قوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13-14] آيتان متتابعتان، ذكر النعيم حتى يرجو المسلم، ويدفعه الرجاء على الطلب، ثم ذكر بعده الجحيم حتى يخشى وحتى يخاف، ويدفعه الخوف على الابتعاد عن أسباب دخول الجحيم، وهكذا في الكثير من السور، كلما ذكر الله أهل الجنة ذكر أهل النار، أو بالعكس، مثل قوله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ:21] ، قال بعد ذلك: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ:31] ، ومثل قوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات:37-38] قال بعد ذلك: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] كثيراً ما يذكر الله تعالى ثواب هؤلاء، وعقاب هؤلاء؛ ليكون المؤمن خائفاً راجياً، سواء في نفسه، أو في بني جنسه. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 6 متعلقات الخوف الخوف يتعلق بالخوف من بطش الله وعذابه، إذا قيل: خفِ الله، ألا تخاف الله؟ قد تقول: كيف أخافه؟ فيقال: تخاف من أن يغضب، تخاف من أن يعاقب، تخاف من أن يبطش بك، فإنه شديد العقاب لمن عصاه، ولمن خرج عن طاعته. قد يتعلق الخوف بالعذاب، فيقال: أما تخاف العذاب؟ أما تخاف النار؟ أما تخاف عقاب الله؟ قد يتعلق الخوف بالأهوال، فيقال مثلاً: أما تخاف أهوال القيامة؟ أما تخاف هول المطلع؟ الكل بمعنى واحد، إذا قيل: خف الله، وخف النار، وخف هول المطلع، النتيجة واحدة، وهي: أن من خاف فإنه يهتم لما خاف منه، ويبتعد عنه. وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً للخوف بالخوف الحسي في الدنيا، في حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) وهذا قلنا: إنه مثل حسي، يعني: أن الخوف في الدنيا قد يكون خوفاً حسياً، مثلاً: إنسان سافر وحده على قدميه، وضرب طريقاً بعيداً، وهذا الطريق فيه مخاوف، فيه قطاع طريق، وفيه سباع، وفيه هوام، وهو وحده، وليس معه أسلحة يدفع بها هؤلاء القطاع، فماذا يفعل؟ لا شك أنه في حالة سيره يكون حذراً غاية الحذر، ولا شك أنه يسير في الوقت الذي يهدأ الناس فيه، ويغفلون فيه، يتحين الوقت الذي يكون قطاع الطريق فيه غافلين أو نائمين أو مشتغلين بحاجتهم، أو نحو ذلك، فلذلك قال: (من خاف أدلج -الدلجة: هي السير بالليل- ومن أدلج بلغ المنزل) . في القديم كان الإنسان يقطع المسافات الطويلة على الأرجل وعلى الرواحل في أيام، لكن مع وجود الخوف في الطريق فإنه يسير في الليل خمس ساعات أو عشر ساعات في غفلة الناس، وإذا جاء النهار كمن واختفى حتى يظلم الليل عليه، حتى لا يتعرض له أحد، يمضي عليه يومان أو ثلاثة أيام وإذا هو قد قطع هذه المسافة حتى يبلغ منزله الذي قصده (ومن أدلج بلغ المنزل) . كذلك أيضاً: من خاف من الله تعالى فإنه يهرب من أسباب عذابه، من خاف من النار هرب منها، من خاف من عذاب الله هرب من أسبابه، كما أن من رجا شيئاً طلبه. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 7 علامة الخوف والرجاء الرجاء الصادق له علامة، وهي: صدق الطلب وصدق المواصلة، فإذا قلت لإنسان: أما ترجو ربك؟ فيقول: أنا أرجوه، ألا ترجو رحمة الله؟ ألا ترجو ثوابه وجنته؟ فيقول: بلى، أنا راجٍ له. لابد أن تقول له: أين علامة الرجاء؟ علامة صدق الرجاء: هو الطلب، من رجا شيئاً طلبه، إذا كنت ترجو الجنة فلابد أن تبذل لها ثمناً، وثمنها هو الحسنات والأعمال الصالحة، فأما من يقول: أنا أرجو ثواب الله وأرجو رحمته وأرجو جنته، ولكنه لا يقدم لها ثمناً، فإنه لا تحصل له هذه الجنة، فهي غالية، ليست رخيصة، ولابد لها من ثمن. يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان كذلك نقول لمن يقول: إني أخاف النار، نقول له: أما تخاف النار؟ فإن قال: بلى؛ أخاف النار، نقول له: أين علامة الخوف؟ لابد للخوف من علامة، فعلامة ذلك: أن تهرب من أسباب دخولها، وهي السيئات، وتبتعد عنها، فإذا ابتعدت عن السيئات، وتركت المخالفات، ولازمت الطاعات حق الملازمة، يصدق عليك أنك من الخائفين حقاً، فإذا قلت: أنا خائف من العذاب، وأنت مع ذلك تكثر من الذنوب، وتكثر من السيئات، ولا تخاف من عاقبتها، فلست بصادق حينئذٍ. تذكر -عبد الله! - أن الجنة قد أخرج منها أبونا آدم بذنب واحد، قال بعض السلف: (آدم أخرج من الجنة بذنب واحد، وأنتم تعملون الذنوب وتكثرون منها، وترجون بها دخول الجنة!) . وقال في ذلك بعضهم: يا ناظراً يرنو بعيني راقد ومشاهد للأمر غير مشاهد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان بها وفوز العابد ونسيت أن الله أخرج آدم منها إلى الدنيا بذنب واحد لا شك أن الخوف قليل في قلوبنا، وكذلك الرجاء غير محقق في صدورنا، والله المستعان! الجزء: 40 ¦ الصفحة: 8 حقيقة الرجاء ومتعلقاته قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَة اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218] . فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إيمانهم بهذه الطاعات، فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى، وشرعه وقدرته وثوابه وكرامته. ولو أن رجلاً له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه، فأهملها ولم يحرثها ولم يبذرها، ورجا أنه يأتي من مغلها مثل ما يأتي من حرث وزرع وتعاهد الأرض؛ لعده الناس من أسفه السفهاء، وكذا لو رجا وحسن ظنه أن يجيئه ولد من غير جماع أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم وحرص تام وأمثال ذلك. فكذلك من حسن ظنه، وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلى، والنعيم المقيم من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. ومما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئاً، استلزم رجاؤه أموراً: أحدها: محبة ما يرجوه. الثاني: خوفه من فواته. الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان. وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك، فهو من باب الأماني، والرجاء شيء والأماني شيء آخر. فكل راج خائف، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، فالمشرك لا ترجى له المغفرة؛ لأن الله نفى عنه المغفرة، وما سواه من الذنوب في مشيئة الله، إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه. وفي معجم الطبراني: (الدواوين عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك بالله، ثم قرأ: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)) ، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو: مظالم العباد بعضهم بعضاً، وديوان لا يعبأ الله به، وهو: ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه) . وقد اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين الكبائر والصغائر، وستأتي الإشارة إلى ذلك عند قول الشيخ رحمه الله: (وأهل الكبائر من أمة محمد في النار لا يخلدون) , ولكن ثم أمر ينبغي التفطن له، وهو: أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره] . سمعنا أن الرجاء هو محبة الشيء وطلبه، وترك أضداده، أو ترك ما يعوق عنه. أما متعلق الرجاء، فإنه قد يتعلق بالله تعالى، وقد يتعلق بثوابه، وقد يتعلق ببعض خلقه، فيقال مثلاً: أنت ترجو ربك. ويقال: هذا يرجو رحمة الله. ويقال: هذا يرجو الجنة، رجاء الشيء محبته والأمل في أن يحصل له. سمعنا أنه لابد لمن رجا أن يعمل، وضرب الشارح لذلك أمثلة، قال: لو كان إنسان له أرض وأهملها، وقال: أنا أرجو أن يكون لها ثمرة، وأن يكون لها بذرة، مثل الذي حرث أرضه أو غرسها أو بنى فيها. فهل يكون هذا محقاً؟ يقول الشارح: لعده الناس سفيهاً، كيف ترجو ثمرتها وقد أهملتها؟! إذا كنت ترجو منها ثمراً، إذا كنت ترجو منها غلة فلابد أن تفعل السبب الذي تحصل منه الغلة، وهو الحرث والسقي والغرس والإصلاح أو البناء والحفر وما أشبه ذلك. والأمثلة الأخرى أيضاً واضحة، يقول: كيف يرجو الإنسان الولد وهو لم يتزوج؟! أو نقول في الأشياء المحسوسة: كيف يرجو الشبع وهو لم يتناول طعاماً، أو الري وهو لم يشرب شراباً يدفع به الظمأ، أو الرزق وهو لم يطلبه ويفعل أسبابه؟! فهكذا الذي يرجو السعادة لابد أن يفعل أسبابها، والذي يرجو الجنة يبذل ثمنها، والذي يرجو رحمة الله تعالى ويرجو ثوابه يعمل سبباً يحصل به على ما رجاه، هذا ما يتعلق بالرجاء. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 9 أسباب الخوف مؤلف المتن ذكر الخوف والرجاء، وأن الخوف على من فعل كبيرة، فنخاف على أهل الكبائر، نخاف عليهم إذا ماتوا وهم على كبائرهم، وكذلك يخاف الإنسان من عقاب الله، إذا كان قد فعل ذنباً، وهذا الخوف يحمله على ترك ذلك الذنب، سواء كان كبيراً أو صغيراً، ومعلوم أن الخوف هو الوجل والفزع الذي يحمله على أن يترك هذا الذنب ويتوب منه ويقلع عنه، ولا يعود إليه، فإذا كان كذلك فهو خوف صادق. والذنوب التي تسبب العذاب وتوجبه كالشرك، أو تسببه ولا توجبه وهي ما دون الشرك، والذي دون الشرك من الذنوب هي إما صغائر وإما كبائر، والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة؛ وذلك لأن من تهاون بذنب ولو كان صغيراً وأصر واستمر عليه، دل إصراره وتهاونه به على احتقاره للذنوب، ومن احتقر الذنوب أصبحت في نفسه عظيمة، وكونها تصبح عظيمة لا يبقى لها في قلبه قدر، فيتهاون بالذنوب، ويكثر من فعلها، وتتراكم عليه وتهلكه، كما ورد ذلك في الأحاديث. وأكبر الذنوب وأكبر الكبائر هو الشرك، وهو يوجب دخول النار؛ لأن الله ذكر أنه لا يغفره: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] ، وفي الحديث أن الشرك لا يغفر، فجعل الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر وهو الشرك، صاحبه لابد أن يدخل النار بقدر شركه إن كان أصغر، أو يخلد فيها إن كان أكبر، وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه، تقصيره في حقوق نفسه، هذا يغفره الله ولا يحاسب العبد عليه، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو مظالم العباد فيما بينهم، فالقصاص فيها لا محالة، إذا كان الإنسان عنده مظالم للخلق فلابد أن تستوفى هذه المظالم في الدار الآخرة. والشاهد منه ذكره أكبر الظلم وهو الكفر والشرك، فإن الله سمى الشرك ظلماً حيث قال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] ، وسمى الكفر ظلماً في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] ؛ وذلك لأن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالكافر وضع الإيمان في غير موضعه، والمشرك وضع العبادة في غير موضعها، فأصبح بذلك ظالماً، بل هو أعلى أنواع الظلم. نحن نخاف على المذنبين، ونرجو للمحسنين، ونخاف من عذاب الله، ونرجو ثوابه، فالمسلم يجمع بين الخوف والرجاء، فمن أسباب الخوف تذكر عظمة الله عز وجل وهيبته وكبريائه، وهو أهل أن يخاف حق الخوف، ومن أسباب الخوف: تذكر العذاب الدنيوي، وما أحل الله بالعصاة، وما وقع بهم من المثلات، وذلك يسبب أن يخاف العباد من عذاب الله العاجل، الذي أنزله بمن كفر به وعصاه وبغى وتكبر. ومن الأسباب الدافعة له أو الداعية إليه: تذكر عذاب الآخرة، وأن عذاب النار شديد، وأن هول المطلع شديد، وأن عذاب الله في الآخرة أشد وأبقى، وذلك يدفع الإنسان إلى أن يخاف أشد الخوف. وقد مدح الله الذين يخافونه ويخشونه فقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] يعني: الذين يخشونه حق خشيته هم العارفون به، العالمون بأمره ونهيه، والعالمون بعقوبته وشدة بطشه، وقد أمر الله بأن نخشاه دون غيره في قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44] والخشية: شدة الخوف. وكذلك أمرنا أن نخافه وألا نخاف غيره، وأخبرنا بأن الشيطان يخوفنا بأعدائنا، يقول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175] الشيطان يخوف بأوليائه، يعني: يعظم أولياءه في نفوس المؤمنين، ويوقع في نفوسهم أن الكفار أهل قوة وأهل نجدة وأهل عدد وأهل معرفة وأهل خبرة، وعندهم وعندهم فاخشوهم وخافوهم، فعند ذلك يضعف خوف الله في قلب العبد، ويعظم خوفه من الإنسان، ولا شك أن هذا هو أعلى مقصد للشيطان؛ فلذلك قال: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي: يخوفكم أولياءه، (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ) . والأسباب التي تدفع إلى الخوف كثيرة، نكتفي منها بهذه. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 10 أسباب الرجاء الأسباب التي تدفع إلى الرجاء: كون الإنسان يرجو رحمة الله، ويعلق قلبه بربه، ويثق بأنه سيعينه وينصره، وأنه سينجيه من كيد عدوه، ويثق بأنه سبحانه أهل أن يرحم عبده، وأن يتجاوز عن سيئاته. والأسباب في ذلك كثيرة، فمنها: تذكر واسع الرحمة؛ لأن من أسماء الله تعالى: الرحمن، الرحيم، وقد وصف نفسه بأنه أرحم الرحمين، ومقتضى هذه الرحمة أن يرحمهم وأن يعلق آمالهم برحمته، ولا ييئسوا من فضله ومن عطائه. ومن الأسباب التي تدفع العبد إلى أن يرجوه وحده: تذكر أنه سبحانه قد غفر للعباد المذنبين، وكفر عنهم السيئات، ومحا عنهم الزلات، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة، وهو واسع الفضل وواسع الرحمة، وقد خلق الرحمة مائة جزء، أنزل منها جزءاً يتراحم بها الخلق فيما بينهم، ويوم القيامة يكمل المائة فيرحم بها عباده، كل جزء منها طباق ما بين السماء والأرض. كذلك من الأسباب الدافعة للرجاء: أن يتذكر أن الله تعالى يغفر الذنوب لمن استغفره، ويفرح بتوبة التائب، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويقبل على عباده إذا أقبلوا إليه، وفي الحديث القدسي: (ومن تقرب إلى شبراً تقربت منه ذراعاً) وذلك كله دليل على أنه واسع الرحمة فيرجوه العباد. ومن الأسباب التي تدفع العبد إلى الرجاء: تذكره مضاعفة الله للحسنات، فإنه يضاعفها بأضعاف كثيرة، فالحسنة بعشرة أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بمثلها، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الله كتب على نفسه الرحمة، وأنه كتب كتاباً عنده على العرش: (إن رحمتي تغلب غضبي) . فهذه بعض الأسباب التي لأجلها يجمع العبد بين الخوف والرجاء، فرجاؤه يكون حاملاً له على تعلق قلبه بربه، وفعل الطاعات التي يستأهل بها لأن ينال واسع الرحمة والثواب، وخوفه يدفعه إلى الهرب عن المحرمات وعن المعاصي؛ حتى ينجو من أسباب العذاب، فإذا جمع بين الخوف والرجاء اعتدل أمره، وأصبح بذلك من المؤمنين، فلا أمن ولا يأس، الأمن: هو فعل المذنبين الذين يصرون على الذنوب ويأمنون، {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] ، واليأس: هو قطع الرجاء، {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] ، بل الأمر بينهما. قد ذكرنا أنه يستحب في حال الصحة تغليب الخوف؛ حتى يحتقر أعماله فيكثر من الحسنات، وفي حالة المرض يغلب جانب الرجاء؛ حتى يفد ويقدم على ربه وهو يحسن الظن به، وبذلك يعمل الحسنات ويهرب من السيئات) . الجزء: 40 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [41] للذنوب مكفرات كثيرة في الدنيا والبرزخ والآخرة، وقد ذكرها أهل العلم بأدلتها من الكتاب والسنة. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 1 مكفرات الذنوب قال الشارح رحمه الله: [وأيضاً: فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، فإن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب، عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة: السبب الأول: التوبة، قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ} [مريم:60] ، وقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة:160] وغيرها، والتوبة النصوح، وهي: الخالصة، لا يختص بها ذنب دون ذنب، ولكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة، حتى لو تاب من ذنب، وأصر على آخر لا تقبل؟ والصحيح أنها تقبل. وهل يجب الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها أم لابد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك، حتى لو أسلم وهو مصر على الزنا وشرب الخمر مثلاً هل لا يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر أم لابد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه، أو يتوب توبة عامة من كل ذنب؟ وهذا هو الأصح: أنه لابد من التوبة مع الإسلام، وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة، وليس شيء يكون سبباً لغفران جميع الذنوب إلا التوبة، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَة اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] ، وهذا لمن تاب، ولهذا قال: ((لا تقنطوا)) ، وقال بعدها: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:54] الآية. السبب الثاني: الاستغفار، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] ، ولكن الاستغفار تارة يذكر وحده، وتارة يقرن بالتوبة، فإن ذُكر وحده دخلت معه التوبة، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار، فالتوبة تتضمن الاستغفار، والاستغفار يتضمن التوبة، وكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى، فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله. ونظير هذا: الفقير والمسكين، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر، وإذا ذكرا معاً، كان لكل منهما معنى، قال تعالى: {فإِطْعَامُ عَشَرَة مَسَاكِينَ} [المائدة:89] ، {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة:4] ، {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لما أفرد شمل المقل والمعدم، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] كان المراد بأحدهما المقل، والآخر المعدم، على خلاف فيه. وكذلك: الإثم والعدوان، والبر والتقوى، والفسوق والعصيان، ويقرب من هذا المعنى: الكفر والنفاق، فإن الكفر أعم، فإذا ذكر الكفر شمل النفاق، وإن ذكرا معاً، كان لكل منهما معنى. وكذلك الإيمان والإسلام، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى] . الجزء: 41 ¦ الصفحة: 2 السبب الأول مما يمحو السيئات: التوبة لما ذكر الشارح أن الكفر والشرك أعظم الذنوب، وأنه لا يغفر، وذكر أيضاً الذنوب التي دونه، ذكر أن ذلك يغفر بأسباب، وهذه الأسباب أوصلها شيخ الإسلام إلى عشرة أسباب، وأغلبها خاصة بالمسلم، أما المشرك والكافر فلا يغفر له ولا ينفعه إلا السبب الأول وهو التوبة، فمن تاب من الكفر محي عنه الكفر، وإذا تاب من الشرك محي عنه ذنب الشرك، فالتوبة تجب ما قبلها، (والتائب من الذنب كمن لا ذنب له) ، وهذا السبب يعم جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، الكفر وما دون الكفر. إذا وفق الله العبد للتوبة وتاب فإسلامه يعتبر توبة، وندمه على كفره وعلى سيئاته يعتبر توبة، وعزمه وتصميمه على أنه لا يرجع إلى شيء من ذلك هو من شروط التوبة، وتركه للأعمال التي تاب منها يعتبر أيضاً من التوبة، وقد أطال العلماء الكلام على التوبة كما تكلم على ذلك ابن القيم رحمه الله في أول كتابه: المدارج، فإنه جعله الباب الثاني، وأطال فيها إطالة تستدعيها هذه التوبة. وهل يشترط لمن تاب أن يتوب من الذنوب كلها أو يصح أن يتوب من ذنب وهو يعمل ذنباً؟ مثلاً: إذا أسلم الكافر، ودخل في الإسلام، ونطق بالشهادتين، وأتى بالأركان الخمسة، ولكن قال: أنا لا أصبر عن الخمر، أو لا أصبر على الزنا، واستمر على هذا الذنب، فهل يقبل منه إسلامه أم لا يقبل؟ الصحيح: أنه يقبل منه، ويكون كسائر المذنبين، ما دام أنه يوجد في المسلمين ومن يزني، ولا يخرجه ذلك عن كونه مسلماً، وإن كان ينقص إسلامه أو ينقص إيمانه. كذلك لو أن إنساناً تاب من الزنا ولم يتب من السرقة، قبلت توبته من هذه وعوقب على هذه، وهكذا بقية الذنوب، يصح أن يتوب من ذنب وإن كان معه ذنب آخر، فيقبل عمله في هذا، ويعاقب على الذنب الثاني. أما أدلة التوبة والترغيب فيها فهي كثيرة في القرآن، وقد ورد الأمر بها، وورد الترغيب فيها، وورد الحث عليها، وورد قبولها، وأن الله يفرح بها، وما أشبه ذلك. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 3 السبب الثاني مما يمحو السيئات: الاستغفار الاستغفار مشتق من الغفر الذي هو الستر، غفر الشيء يعني: ستره، ومنه سمي المغفر الذي يلبسه المجاهد على رأسه يقيه من السلاح؛ لأنه يستر الرأس، فإذا قال العبد: أستغفر الله. معناه: أطلبه أن يستر ذنوبي ويمحو عني أثرها، إذا قال: اللهم اغفر لي. أي: امح عني السيئات، وكفرها عني، وأزل عني ما تلوثت به منها، هذا معنى: أستغفر الله، أي: أطلب المغفرة أو أطلب محو الذنب؛ وذلك أن الذنب يسبب للإنسان شيئاً من الأثر السيئ، كأنه يؤثر عليه أثراً معنوياً، ليس أثراً حسياً، فهو تلويث ووسخ وقذر وأذى، وإن كان نظيف الجسد ونظيف البدن ونظيف الثياب، لكنه قد تلبس بهذه الذنوب فأكسبته شيئاً من هذا الأذى، ومن هذا الوسخ والقذر، فهذا الاستغفار يمحوها، ويزيل أثر السيئات، فإذا قال: اغفر لي. أي: امح عني، واسترني من آثار هذه السيئات. ذكر الشارح أن الاستغفار مقارن للتوبة، لا يمكنه أن يكون تائباً إلا إذا كان مستغفراً، إذا قال: أستغفر الله. فمعناه: أطلبه أن يمحو عني ذنوبي، وإذا قال: رب! تب علي. فمعناه: اقبل مني توبتي. وكأن السائل راجع إلى الله بعد أن كان معرضاً، والمستغفر كأنه طالب من الله أن يزيل عنه أثر السيئات، فيكونان متلازمين، لا تكون توبة إلا ومعها استغفار، وذكر الشارح أنهما متقاربان، كل منهما يدخل في معنى الآخر، لو اشتغل إنسان بقوله: إني تائب إلى الله، رب تب علي، أنا تائب إليك، أتوب إلى الله، تبت إليك وأنا من المؤمنين، كفاه عن طلب الاستغفار، ولو قال إنسان مثلاً: رب اغفر لي، أسألك مغفرتك، أستغفر الله، غفرانك ربنا، وأكثر من طلب المغفرة، كفاه عن أن يقول: إني تائب. فالتوبة تقوم مقام الاستغفار، والاستغفار يقوم مقام التوبة، والجمع بينهما من باب التأكيد والتقوية؛ ولأجل ذلك كان صلى الله عليه وسلم يجمع بينهما، ثبت عن ابن عمر قال: (كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: رب! اغفر لي وتب علي؛ إنك أنت التواب الرحيم) قوله: (رب اغفر لي) هذا استغفار، وقوله: (وتب علي) هذا توبة، أتى بهما معاً، مع أن أحدهما بمعنى الآخر؛ ولكن من باب التقوية ومن باب المعاهدة. وكان عليه الصلاة والسلام يكثر من الاستغفار، مع أن الله قد غفر له وقال: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] وكان يعد الغفلة ذنباً فيتوب ويبادر، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه ليغان على قلبي -يعني: يغفل قلبي عن الذكر أحياناً- فأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) هذه توبة واستغفار من ترك الذكر، أو من الغفلة أحياناً، كيف بنا ونحن دائماً إلا ما شاء الله في غفلة، وفي سهو، وفي حديث نفس؟! أليس علينا أن نكثر من التوبة، وأن نكثر من الاستغفار؟ هذا هو الواجب. فهذان سببان عظيمان في حصول محو السيئات، وإزالة أثرها سواء كانت كبيرة أو صغيرة. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 4 السبب الثالث مما يمحو السيئات: الحسنات قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [السبب الثالث: الحسنات؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، فالويل لمن غلبت آحاده عشراته، وقال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ، وقال صلى الله عليه وسلم. (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) . السبب الرابع: المصائب الدنيوية، قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا غم ولا هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه) ، وفي المسند: (أنه لما نزل قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] قال أبو بكر: يا رسول الله، نزلت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: يا أبا بكر! ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به) . فالمصائب نفسها مكفرة، وبالصبر عليها يثاب العبد، وبالسخط يأثم، والصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه، ويكفر ذنبه بها، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله، والصبر والسخط من فعله، وإن كان الثواب والأجر قد يحصل بغير عمل من العبد، بل هدية من الغير، أو فضل من الله من غير سبب، قال تعالى: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40] ، فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم. وكثيراً ما يفهم من الأجر غفران الذنوب، وليس ذلك مدلوله، وإنما يكون من لازمه. السبب الخامس: عذاب القبر. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. السبب السادس: دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة وبعد الممات. السبب السابع: ما يهدى إليه بعد الموت من ثواب صدقة أو قراءة أو حج، ونحو ذلك، ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. السبب الثامن: أهوال يوم القيامة وشدائده. السبب التاسع: ما ثبت في الصحيحين: (أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة) . السبب العاشر: شفاعة الشافعين، كما تقدم عند ذكر الشفاعة وأقسامها. السبب الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة، كما قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، فإن كان ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه، فلابد من دخوله إلى الكير، ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه، فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، بل من قال: لا إله إلا الله، كما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه. وإذا كان الأمر كذلك امتنع القطع لأحد معين من الأمة، غير من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، ولكن نرجو للمحسنين، ونخاف عليهم] . هذه هي أسباب رحمة الله ومغفرته، ومحوه للسيئات، وإزالته لأثرها، تقدم السبب الأول وهو: التوبة النصوح، وأن التوبة تمحو الذنوب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. وتقدم السبب الثاني وهو: الاستغفار، الذي هو طلب محو الذنوب وإزالة أثرها، وورد الأمر به في القرآن وفي الأحاديث. وابتدأ بالسبب الثالث هنا، وهو: الحسنات والأعمال الصالحة التي تمحو السيئات، يقول الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ، وسمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) ، فالحسنات لا شك أنها تزيل أثر السيئات، ولو كثرت السيئات؛ وذلك لأن الحسنات يضاعفها الله أضعافاً كثيرة، وأما السيئات فلا تضاعف، وإن كانت قد تعظم بسبب من الأسباب. ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الحسنة تضاعف إلى عشر حسنات، يقول في الحديث: (إذا هم الإنسان بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هم بها وعملها كتبها الله عنده عشر حسنات، وإذا هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإذا هم بها وعملها كتبت سيئة واحدة -زاد في رواية:- أو محاها، ولا يهلك على الله إلا هالك) . أخبر بأنه إذا هم بحسنة ولكن عاقه عائق فلم يعملها أثابه الله بنيته، وكتب همه حسنة، وإذا هم بسيئة فلم يعملها، بل تركها خوفاً من الله كتبها الله حسنة كاملة، وإذا عمل الحسنة فله عشر حسنات، وإذا عمل السيئة فله سيئة واحدة، فويل لمن غلبت آحاده عشراته، الذي تكثر سيئاته وهي واحدة واحدة، ثم تغلب حسناته التي هي عشرات، هذا هالك، ولا يهلك على الله إلا هالك. فإذا كان الإنسان قد وقع في ذنوب، فإنه يؤمر بأن يكثر من الحسنات حتى تمحو أثر تلك السيئات، هذا سبب من أسباب تكفير السيئات. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 5 السبب الرابع مما يمحو السيئات: المصائب الواقعة للإنسان السبب الرابع: المصائب التي تصيب الإنسان في هذه الحياة، والأدلة على ذلك كثيرة، الله تعالى يسلط المصائب على الناس ليختبرهم، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] يعني: نبتليكم بالمصائب حتى نطهركم، وحتى نختبر من يصبر ومن يجزع. وردت أدلة كثيرة تدل على أن الحسنات تزداد بالمصائب، والسيئات تمحى بالمصائب، فإذا صبر العبد على المصيبة كتب له بها حسنات، ومحي عنه بها سيئات، المصائب تعم المصائب في النفس وفي المال وفي الأولاد وفي الأقارب ونحو ذلك، فإذا أصاب الإنسان خوف أو مرض أو جوع أو فقد مال أو فقد ولد أو موت قريب، وحزن على ذلك، وأصابته هذه المصيبة، ولكنه علم أنها من الله؛ أثابه الله. قال علقمة في قول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] : (هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم) . وقال صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء) قوله: (عظم الجزاء) يعني: كثرة الجزاء، وقوله: (مع عظم البلاء) يعني: مع كثرة الابتلاء، ثم قال: (وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) ، وفي الحديث: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة) . وسمعنا قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب العبد من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب، حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها من خطاياه) وهذا بشرط أن يعلم أنها من الله ويصبر. أما المصائب التي تصيب بعض الناس فيشتكي إلى الناس ويجزع ويصيح وينوح، فإن هذا يبطل أجره، ولهذا وردت الأدلة الكثيرة في بيان وجوب الصبر، والنهي عن الجزع. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 6 السبب الخامس مما يمحو السيئات: ما يهدى للميت بعد موته السبب الخامس: ما يهدى إلى الميت بعد موته، بعد موته يهدي إليه المسلمون يدعون له، يتصدق عنه أقاربه أو أحبابه وأصحابه، فيصل إليه ثواب ذلك، فإنهم أولاً يصلون عليه، ويدعون له، ويترحمون عليه، ويهدي له أهله حسنات، ويستغفرون له، ويتصدقون عنه، ويوقفون له أعمالاً جارية، وما أشبه ذلك، فتكون أسباباً في مغفرة الذنب. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 7 السبب السادس مما يمحو السيئات: عذاب القبر السبب السادس: عذاب القبر، قد يسلط الله عليه العذاب إذا كان عنده بقية ذنوب، فيكون ذلك سبباً في محوها، فتنة القبر، وعذاب القبر، وما فيه من الأهوال. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 8 السبب السابع مما يمحو السيئات: أهوال يوم القيامة السبب السابع: أهوال يوم القيامة، ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والشدائد والفزع الأكبر، وذلك أيضاً مما يكفر الله به الخطايا، ويمحو به الذنوب ونحوها. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 9 السبب الثامن مما يمحو السيئات: المقاصصة السبب الثامن: ورد في الحديث: (أن الناس إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص من بعضهم لبعض مظالم كانت بينهم) ، فهذا أيضاً مما تكفر به السيئات عن العبد ويزال عنه أثرها. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 10 السبب التاسع مما يمحو السيئات: شفاعة الشافعين السبب التاسع: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يشفع عباده الصالحين وأنبياءه في أهل السيئات، فيشفعون لهم، ويخرج الله من النار بشفاعتهم من قدر الله أنه تزيل عنه هذه الشفاعة أثر السيئات. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 11 السبب العاشر مما يمحو السيئات: رحمة الله وعفوه بعباده السبب العاشر: رحمة الله عز وجل، وعفوه عن عبده، فإنه ورد في الحديث أن الله يقول: (شفعت الأنبياء، وشفعت الملائكة، وشفع الصالحون، ولم يبق إلا رب العالمين، فيخرج الله قبضة من النار لم يعملوا خيراً قط -يعني: من أهل التوحيد- فيدخلهم الجنة) . وعلى كل حال هذه الأسباب وغيرها يغلب العبد فيها جانب الرجاء، بحيث يعلم أن هذه من الأسباب التي يدفع الله بها العذاب، ويكفر بها السيئات. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 12 السبب الحادي عشر مما يمحو السيئات: دخول النار بقدر الذنوب إذا لم تنفع هذه الأسباب، وبقي على العبد سيئات لم تكفر بهذه المكفرات كلها، فحينئذٍ لابد أن يدخل الكير حتى ينقى، فإن النار بمنزلة كير الحداد، الحداد إذا كان عنده حديدة فيها صدى، أو فيها مزيج تراب ونحوه ماذا يفعل بها؟ يدخلها النار حتى تذوب، فإذا ذابت تلك الحديدة طفا منها الحديد الخالص، أما التراب والصدى والخبث فإنه يرسب، ويتبين ما هو صالح وما ليس بصالح، قال الله تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد:17] يوقدون النار على الذهب حتى يذوب، ويخلص ما هو ذهب وما هو نحاس، يتميز هذا من هذا في كير الحداد، ويوقد على هذا الحديد حتى يتميز ما هو حديد خالص وما ليس بخالص من التراب ونحوه، فكذلك النار التي أعدها الله للعذاب، يدخلها هذا الذي بقيت عليه سيئات وبقيت عليه ذنوب لم تكفرها هذه المكفرات، فإذا هذب ونقي، ولم يبق فيه إلا ما هو خالص، عند ذلك أذن الله بإخراجه، بعدما يمحص؛ لأن دار النعيم وهي الجنة دار طيبة، لا يدخلها إلا الطيب، لا يجاور الله فيها إلا من هو طيب، فالذي عنده شيء من الخبث لابد أن ينقى. وعلى كل حال فعقيدة أهل السنة أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد وأهل الإيمان، وأما من ليسوا بمؤمنين فإنهم يلحقون بالكفار، ومعلوم أن الإيمان هو تحقيق الإيمان بالأركان الستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. الإيمان بهذه الأركان الستة هو الذي يحمل على الأعمال الصالحة، ولكن هذا الإيمان قد يكون ضعيفاً فيقع معه شيء من المعاصي والمخالفات، ويقع صاحبه في شيء من التقصير وترك بعض الطاعات، فتتراكم عليه الذنوب، فيحتاج إلى ما يمحوها وما يكفرها، وقد يكون ضعفه كثيراً فيكثر تناوله للسيئات، وقد يكون ضعف الإيمان قليلاً فلا تكثر منه السيئات، فيمحوها ربه بالمكفرات، وقد يكون الإيمان قوياً راسخاً أرسخ من الجبال، فلا يقدم العبد على شيء من السيئات ولا من المخالفات، ولا يترك شيئاً من الواجبات، فهذا هو السبب. أما من فقد الإيمان بهذه الأمور، وضعف إيمانه بالله، أو لم يؤمن بالله إلهاً ورباً، وإنما أنكر أن يكون الله إلهه وربه، أو عبد إلهاً غيره أو نحو ذلك، أو لم يؤمن باليوم الآخر، ولم يصدق بالبعث، بل أنكر الدار الآخرة، وأنكر الجزاء والجنة والنار، وجعل الدنيا هي الدار التي ليس بعدها دار، وما أشبه ذلك، وكذلك إذا أنكر الشرع الشريف، وأنكر كتاب الله أو كتبه المنزلة، أو أنكر رسالة الرسل وما جاءوا به، أو لم يؤمن برسالتهم وبما جاءوا به، أو رد شيئاً من شرعهم ولم يقبله؛ فمثل هذا لا يكون مؤمناً؛ وذلك لأنه لم يثبت الإيمان في قلبه، فلا تنفع طاعات فعلها، ولا قربات تقرب بها، حيث إنها لم تكن على أصل، ولم تكن على أساس. إذاً: فهذه المكفرات التي هي أحد عشر أو اثنا عشر في حق أهل الإيمان وأهل العقيدة وأهل التوحيد، الذين قد يضعف توحيدهم بسبب من الأسباب، فأما من ليسوا من أهل العقيدة ولا من أهل الإيمان، بل من أهل الكفر والنفاق والشرك والمخالفات والإنكار للدار الآخرة، أو الإنكار للجزاء والحساب، أو الإنكار للشرائع أو ما أشبه ذلك، فهؤلاء كفار لا تنفعهم أعمالهم، بل أعمالهم يحبطها الله كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، ولو أكثروا من الصدقات، ولو أكثروا من الحسنات وما أشبه ذلك، ما دام أنها ليست على أساس وأصل أصيل، وهو العقيدة الراسخة التي هي أركان الإيمان كما ذكرنا. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 13 شرح العقيدة الطحاوية [42] من عقائد أهل السنة أن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وقد خالف أهل السنة في هذا كثير من المبتدعة، وأيضاً خالفهم في هذا مرجئة الفقهاء، وقد رد أهل العلم عليهم بنصوص الكتاب والسنة، وبالنقول عن علماء سلف الأمة. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 1 خطر الأمن من عذاب الله واليأس من رحمته قال الشارح رحمه الله: [قوله: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الاسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة) . يجب أن يكون العبد خائفاً راجياً، فإن الخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط. والرجاء المحمود: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه، أو رجل أذنب ذنباً ثم تاب منه إلى الله، فهو راج لمغفرته، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218] . أما إذا كان الرجل متمادياً في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب. قال: أبو علي الروذباري رحمه الله: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير، وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا، صار الطائر في حد الموت. وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ} [الزمر:9] ، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16] ، فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله تعالى، فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه. وقال صاحب منازل السائرين رحمه الله: الرجاء أضعف منازل المريد. وفي كلامه نظر، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء) . وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) ، ولهذا قيل: إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه، بخلاف زمن الصحة، فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه. وقال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد. ولقد أحسن محمود الوراق في قوله: لو قد رأيت الصغير مَنْ عمل الخي ـر ثواباً عجبت من كبره أو قد رأيت الحقير من عمل الش ـر جزاءً أشفقت من حذره] . في هذا الكلام أن المسلم يجمع بين الخوف والرجاء، وأن هذه النصوص تدل على ذلك، فإن قوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57] جمع الله فيها بين الخوف والرجاء: يرجون، ويخافون. وكذلك قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16] جمع الله فيها بين الخوف والطمع، والطمع هنا هو الرجاء. ويظهر ذلك في قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] والحذر: هو الخوف، يعني يخاف عذاب الآخرة، ويرجو رحمة ربه ونحو ذلك من الأدلة التي تدل على أن المسلم يجمع بين الخوف والرجاء. وقد ذكرنا بعض الأسباب التي لأجلها يخاف المسلم، وبعض الأسباب التي لأجلها يرجو. وقد ذكر الله عز وجل عن عباده هذه الصفات ليرغب فيها، وكثيراً ما يأمر الله عباده بالخوف منه، كقوله تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51] (فارهبون) يعني: خافوا عذابي. وتارة يعلق الخوف ببعض مخلوقاته، كقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة:24] يعني: خافوا من النار وابتعدوا منها، والنار من الأسباب التي تحمل العبد على الخوف إذا تذكرها. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 2 الجمع بين الخوف والرجاء يجب على الإنسان أن يجمع بين الخوف والرجاء، فيجعل المحبة كرأس الطائر، والخوف والرجاء مثل الجناحين، فإذا كان الطائر قد استوى جناحاه، ورأسه موجود، ففيه حياة مستقرة، وطيرانه معتدل، وإذا قطع أحد جناحيه تعثر، وإذا قطع جناحاه فهو أقرب إلى الموت، وإذا قطع رأسه مات، فلابد أن هذه الخصال تجتمع في العبد وتستوي: المحبة، والخوف، والرجاء. المحبة: هي محبة الله لإنعامه على عبده، والخوف: خوفه من عذابه، والرجاء: تعلق قلبه بثوابه. فإذا عبد الله بالمحبة فقط دون أن يخافه فقد أخطأ كما يذكر ذلك عن بعض المتصوفة، وعن بعض غلاة الزهاد ونحوهم، أنهم يقولون: ما نعبد الله خوفاً من ناره، ولا رجاءً لجنته، ولكن نعبده محبة له، ويغالون في باب المحبة، وكأنهم أمنوا من العذاب، وكأنهم لم يكن لهم رغبة في الثواب، فهذه حال الصوفية، والحقيقة أن من يعبد الله بهذا فهو زنديق. من غلب جانب الخوف فإنه قد وقع في عقيدة الوعيدية الذين يغلبون جانب الوعيد، ومن هؤلاء الوعيدية الحرورية والمعتزلة، وسموا بذلك لأنهم يتمسكون بالأدلة التي فيها الوعيد فيحققونها؛ ولهذا يخلدون أصحاب الكبائر في النار كما تقدم مراراً. وأما من عبد الله مغلباً جانب الرجاء، فهذا يسمى مرجئاً، والمرجئة: هم الذين يتعلقون بالرحمة ولا يذكرون العذاب، فيرجون ولا يخافون عقابه، وهم على خطر. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 3 الرد على من غلب جانب الرجاء لابد من الجمع بين الخوف والرجاء؛ لأجل ألا يكون هناك خوف شديد فيئول إلى القنوط، ولا رجاء منفرد فيئول إلى الأمن؛ لأن الله ذم الأمن في قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] إذا رأيت -مثلاً- الذي يتمادى في العصيان، ويترك الطاعات، ويكثر من الذنوب، وقلت له: ألا تخاف الله؟! ألا تتقيه؟! ألا تخشاه؟! أين الخشية وأين الخوف وأين الرهبة من عذاب الله؟! فيتعلق بالرحمة ويقول: رحمة الله واسعة، الله أرحم الراحمين. ثم يتمادى في المعصية، تخوفه من عذاب الدنيا فيأمن، تخوفه من عذاب الآخرة فلا يخاف، فمن هذه حاله يُخاف عليه أن يكون من الذين أمنوا مكر الله أمنوا انتقامه أمنوا عذابه أمنوا بطشه الشديد أمنوا من أخذه لهم على غرة وغفلة، فيخاف عليهم أن يأتيهم أمر الله وهم على غرتهم وغفلتهم وسلوتهم؛ لأن سنة الله أنه ما أخذ قوماً إلا عند غرتهم، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن هذا إمهال وليس إهمالاً، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله يعطي العبد وهو مقيم على معاصيه فاعلم أنه استدراج) وهذا مذكور في قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] فهم يغترون بإمهال الله، ويغترون بنعمه، ويغترون بعطائه لهم، فيأتيهم أمر الله وهم غافلون، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] ) ، وهذا الإمهال والتأخير ليس هو لأجل أنهم ليسوا بمذنبين، ولكن الله يؤخرهم إلى أجل، يقول بعضهم: أيحسب الظالم في ظلمه أهمله القادر أم أمهله فهم ما أهملوا، بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً، لهم موعد لابد أن يأتي، وهذا في حق الذين يأمنون مكر الله، فيعملون السيئات ويكثرون منها، وهم آمنون مطمئنون، وكأنهم لم يعملوا سيئة. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 4 الرد على من غلب جانب الخوف هناك قسم آخر قد قطعوا رجاءهم، وقطعوا طمعهم في الرحمة، واستسلموا للعذاب في نظرهم، ولا ندري هل هم صادقون أم هم مستهزئون؟ فإنك إذا جئت إلى بعض من عاش على السيئات والكفريات وترك القربات، ونصحته قائلاً: تب إلى الله، وأقبل عليه، واترك ما أنت عليه من التمادي في الغفلة، واترك الذنوب، وأكثر من الحسنات. فإنه يمتنع ويقول: أنا قد أذنبت، وقد كفرت، وقد أسأت، وقد ارتكبت من الخطايا كذا وكذا شربت الخمور زنيت قتلت أكلت الحرام فعلت وفعلت، فلا تنالني الرحمة، ولا حيلة لي فيها، ولست من أهلها، بل أنا من أهل النار. هكذا ينقل عن بعضهم. ولعل هؤلاء من الذين يستهترون بمن ينصحهم، ويتهاونون بنظر الله عز وجل، أو ينكرون أن يكون هناك عذاب دنيوي وعذاب أخروي، فيقولون هذه المقالة لرد ذلك الذي ينصحهم، ولعدم قناعتهم بما يقوله. فنقول: لا شك أن هذا كفر أو يئول إلى الكفر، وذلك هو اليأس، قال تعالى: {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] ، هؤلاء قد يئسوا من الرحمة، وقطعوا رجاءهم، ووقعوا في القنوط، وقد قال تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] والقنوط هو: قطع الرجاء، فهم قد قطعوا رجاءهم كلياً من الرحمة، وكأنهم يقولون: لا تنالنا الرحمة، ولو كانت رحمة الله واسعة فذنوبنا أكبر من أن تنالها، وذنوبنا أكبر من أن تغفرها، قد كفرنا، وقد أسأنا، وقد أذنبنا، وقد ارتكبنا، وقد فعلنا وفعلنا، فذنوبنا كبيرة لا تصل إليها رحمة الله!! فيبقون على ما هم عليه من الكفر والضلال والفسوق والمعاصي، ويتمادون فيها، ويموتون وهم مصرون على ذلك، وكأنهم ممن يئسوا من الخير وقطعوا رجاءهم، فهؤلاء وقعوا في هذه المرتبة القبيحة التي هي اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله. وبكل حال: فإن المسلم ولو وقع فيما وقع فيه من المعاصي فإن الله تعالى يكفر عنه السيئات بالأسباب التي ذكرناها آنفاً، وإذا حقق العقيدة والتوحيد قبل الله عز وجل منه، وتاب عليه، ورحمه وهو أرحم الراحمين، أما إذا تمادى في عصيانه فقد أقدم على العذاب والعياذ بالله. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 5 من عقيدة أهل السنة الحكم على الإنسان بحسب ظاهره من عقيدة المسلمين أنهم يصفون إلإنسان بما يظهر منه، فإذا أظهر خيراً أحبوه، وإذا أظهر سوءاً أبغضوه، ومع ذلك فإنهم إنما يحكمون بالظاهر، وقد جاء عن عمر أنه قال: إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم بالظاهر، فمن أظهر لنا خيراً أحببناه وقربناه، ومن أظهر لنا سوءاً أبعدناه وأبغضناه، وليس لنا من أمره -أي: من باطن أمره- شيء، والله تعالى هو الذي يتولى السرائر. وبناءً على هذه القاعدة فإننا نحب المؤمنين الذين أظهروا لنا الخير ودانوا به، وأظهروا العمل الصالح وأظهروا السنة، وظهر لنا منهم أنهم من أهل الدين ومن أهل الصلاح، وعملوا لله بما يحبه الله وبما فرضه عليهم، فنحبهم، ونشهد لهم بالخير، سواء كانوا ممن أدركنا أو ممن سبقنا، فندعو لهم بالمغفرة والرحمة، كما وصف الله المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ، فوصفهم الله بأنهم يحبون من هاجر إليهم، ويحبون من سبقهم من المؤمنين، ويدعون لهم بالمغفرة والرحمة، ويدعون الله بأن ينزع من قلوبهم الغل والحقد والحسد والبغضاء والشنآن لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، فهذه صفة المؤمنين. وإذا كان كذلك فإنهم بضد ذلك في حق الفسقة والمشركين والمنافقين والمعاندين، فإذا رأوا أهل الفساد وأهل السوء وأهل المنكر أبغضوهم ومقتوهم، وعاملوهم بما يظهر منهم من السوء والفحش والكلام القبيح، وحذروا من فعلهم، ومقتوهم على هذا، ولو كانت قلوبهم نقية؛ فليس إليهم معرفة ما في القلوب. فأهل الفساد وأهل الشرور وأهل البدع إذا أظهروا بدعهم وأظهروا معاصيهم وأعلنوها؛ فإننا نبغضهم، ونمقتهم، ونحذرهم، ونحذر منهم، ويكون بغضنا لهم بغضاً في ذات الله، ولا نبغضهم لأجل أهوائنا، ولا لأجل مصالحنا، ولا لأجل أنهم تنقصونا أو عابونا أو ما أشبه ذلك، بل يكون الحامل لنا على بغضهم الغيرة لله، والغيرة على شريعته ودينه، والحماية لتعاليمه، ويكون من أثر هذا البغض وهذا المقت البعد عنهم، والحذر من شرهم ومن سوئهم، والتحذير من أن ينخدع أحد بدعاياتهم وبتضليلاتهم، وبمعاصيهم وفسوقهم الذي يدعون إليه والذي ينشرونه، والذي يظهرونه، ثم يزعمون أنهم على حق، وأن الصواب في جانبهم. وتقدم لنا أن من عقيدة أهل السنة أنهم يرجون النجاة لأهل الخير، ولا يجزمون لهم بالجنة، ويخافون على أهل الشر من العذاب، وإن لم يجزموا لهم بالنار، ولكن يكون من آثار معرفتهم أن هؤلاء من الصالحين، سواء أدركوهم أو سبقوهم، أنهم يحبونهم، ويحثون على مثل أعمالهم، وإن لم يشهدوا لهم بأنهم من أهل الجنة؛ لأنهم لا يعلمون ما في القلوب. كذلك من آثار معرفتهم لأهل المعاصي أنهم يحذرونهم ويحذرون منهم، وإن لم يشهدوا لهم بالنار، كما أنهم يخافون عليهم من عذاب الله، وإن لم يجزموا لهم بالعذاب، فهم إذا أنكروا عليهم ومقتوهم حذروا من شرهم، وحذروا من أفعالهم، وبينوا أخطاءهم، وقالوا: إنهم قد وقعوا في هذا الخطأ، فإياكم أن تساعدوهم على خطئهم، أو توافقوهم، أو تفعلوا كفعلهم؛ فينسب إليكم من الخطأ ما نسب إليهم أو ما وقعوا فيه. وهكذا طريقة أهل الخير: أنهم يحذرون من الشر ويحذِّرون منه. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 6 الحكم على أهل العصيان يتفاوت بتفاوت معاصيهم الشرور والمعاصي والفتن تتفاوت، فمنها ما قد يوصل إلى الكفر والردة والخروج من الإسلام، كالاستهزاء بشعائر الله، والاستهزاء بأوامره، والسخرية من أهل الدين والتنقص لهم، فإذا ظهر هذا من أناس فإننا نبرأ منهم، بل ونضللهم، ونخشى أن يكونوا قد وقعوا فيما يخرج من الملة؛ وذلك لأن الله قد ذكر السخرية من أعمال الكفار، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] أي: ضحك استهزاء، {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:30] . ويقول الله تعالى عنهم: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون:109-110] أي: تستهزئون بهم وتتنقصونهم، فجعل من أسباب عذابهم سخريتهم بأهل الدين. ومثل ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79] ، يستهزئون بهم ويتنقصونهم لضعف حالهم، فهذا دليل على أن الاستهزاء بالدين وبحملته يعتبر من دلائل الكفر. كذلك قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:211-212] أي: يستهزئون بالمؤمنين، (يسخرون منهم) أي: من أعمالهم ومن ديانتهم ومن عباداتهم أو ما أشبه ذلك، فتكون هذه السخرية من أسباب ردتهم وكفرهم. وقد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض المنافقين استهزئوا ببعض المؤمنين من أجلاء الصحابة، أولئك المنافقون الذين قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسنةً، ولا أجبن عند اللقاء! وهم يعنون بذلك الصحابة، حيث وصفوهم بأنهم شديدو الرغبة في الأكل فقط، ولكنهم عند القتال جبناء أذلاء، وأنهم لا يقولون إلا كذباً. وكذب من قال عليهم بهذا القول، بل هو المتصف بذلك، ولما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك وبخهم على ذلك، فجاءوا يعتذرون ويقولون: يا رسول الله! إنما كنا نتحدث حديث الركب لنقطع به الطريق، وهذا معنى قولهم: إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66] فجعل فعلهم هذا كفراً، حيث إنهم استهزئوا بالله وبآياته وبرسوله وبأصحاب رسوله، فكان ذلك ردة منهم، فإذا وصلت الحال بالمرء إلى هذا القدر فإنه يحكم بكفره والعياذ بالله. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 7 أهل السنة يرجون للمحسنين ويخافون على المذنبين نحن نرجو للمحسنين، ونخاف على المذنبين، وإذا وصلت الحال إلى أن ذلك الذنب وصل إلى درجة الكفر، فإننا نحكم بكفره صاحبه وردته، وأما إذا كان الذنب مما يحتمل أن يغفر، ويدخل تحت مشيئة الله فإن ذلك مما لا يكفر به صاحبه. والذنوب التي دون الشرك معرضة للأسباب التي تكون مكفرة لها، ومن هذه الأسباب: التوبة، والاستغفار، ودعاء المؤمنين له بالمغفرة، والمصائب الدنيوية، وشدة النزع عند الموت وما يصيبه جراء ذلك، وعذاب القبر، وشدة الفزع في الآخرة، والحزن الذي يناله في الموقف وشدة الألم، ومنها: تكفير الله عز وجل له بما يحصل له من المصائب، ومنها: شفاعة الشافعين، ومنها: ما يحصل من القصاص بين العباد على القنطرة، ومنها: أنه يدخل النار ويكفر عنه بقدر ما عمل، ثم بعد ذلك يخرج إذا كان من أهل التوحيد ومن أهل الصلاح. وقد سبق أن ذكرنا أن على المرء أن يجمع بين الخوف والرجاء، فيكون خائفاً راجياً، ولكن لا يبلغ به الرجاء إلى الأمن، بحيث يأمن مكر الله، {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] ، ولا يبلغ به خوفه إلى اليأس {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] بل يكون بينهما، وذكرنا أن العلماء يقولون: يفضل في حالة الصحة الخوف حتى يستقل أعماله، ويستكثر من الحسنات. وفي حالة الاحتضار يفضل الرجاء -أي: يغلب الرجاء- ليقدم على ربه وهو يحسن الظن به، وقد مر بنا في الحديث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) فيكون ذلك إن شاء الله من أسباب رحمة الله لعبده. فيتعين على الإنسان في نفسه أن يجمع بين الخوف والرجاء، ويتعين عليه مع غيره أن يخاف على المذنب، ويرجو للمحسن، فيجمع في ذلك بين الخوف والرجاء، من غير أن يصل به إلى الجزم واليقين. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 8 خروج العبد من الإيمان إذا جحد شيئاً من أركان الإيمان قال الشارح الإمام ابن أبي العز رحمنا الله تعالى وإياه: [قوله: (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه) يشير الشيخ إلى الرد على الخوارج والمعتزلة في قولهم بخروجه من الإيمان بارتكاب الكبيرة. وفيه تقرير لما قال أولاً: لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله. وتقدم الكلام على هذا المعنى] . قد تقدم أن الخوارج يكفرون بالذنب، ويقولون: إذا عمل الإنسان ذنباً وأصر عليه صار داخلاً في الكفر خارجاً من الإيمان، وأما المعتزلة فإنهم يخرجونه بالذنب من الإيمان، ولكن لا يدخلونه في الكفر، بل يجعلونه في منزلة بين الكفر والإيمان، والكل على خطأ، والصواب ما قاله الطحاوي من أنه لا يخرجه من الإيمان إلا الجحد بما أدخله فيه، فالذي أدخله في الإيمان هو الإيمان بالله، والإيمان بالبعث، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالرسل والكتب، فإذا جحد مثل هذه الأشياء خرج من الإيمان، وأما ما دام أنه يؤمن بالله، ويعمل بطاعته، ويؤمن بالرسل، ويدين باتباعهم، ويؤمن بالكتب ويعمل بها، ويؤمن باليوم الآخر ويستعد له، فإنه لم يخرج من الإيمان، ولو قصر في بعض الأوامر، ولو ارتكب بعض النواهي، ولو أذنب بعض الذنوب، فذلك لا يوصله إلى الكفر. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 9 تعريف الإيمان عند أهل القبلة قال الشارح رحمه الله: [قوله: (والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان. وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق. والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى) . اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيراً: فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين: إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله: أنه الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان. ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه. وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط! فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان، ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به! وقولهم ظاهر الفساد. وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي -أحد رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان: هو المعرفة بالقلب! وهذا القول أظهر فساداً مما قبله! فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102] ، وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14] ، وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً، فإنه قال: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36] ، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] ، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه! فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه! وبين هذه المذاهب مذاهب أخر بتفاصيل وقيود، أعرضت عن ذكرها اختصاراً، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة وغيره] . من هنا ابتدأ المصنف في الكلام على الإيمان، ويعرف هذا الفصل بأسماء الإيمان والدين، ومعلوم أن الشرع الشريف جاء إلى هذه الأمة وهم على جهل، ولكنهم يتكلمون بلغة فصحى عربية، فخاطبهم بلغتهم، وجاءهم بهذه الشريعة وشرع لها أسماء وعرفها، وأصبحت معروفة بأسمائها الشرعية، ولو كان لها أسماء لغوية، فعرفت هذه بأسماء الإيمان والدين، فيقال: تعريف الصلاة في اللغة: الدعاء، وتعريفها في الشرع: العبادة المشتملة على القيام والقعود والركوع والسجود، وتعريف الزكاة في اللغة: النماء أو الطهارة، وتعريفها في الشرع: القدر المخرج من المال الذي ينفق في وجوهه، وتعريف الصيام في اللغة: مجرد الإمساك، وفي الشرع: الإمساك بالنية عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتعريف الحج في اللغة: القصد إلى شيء معين، وفي الشرع: زيارة البيت الحرام في وقت مخصوص من إنسان مخصوص، وتعريف الجهاد في اللغة: بذل الجهد والوسع في الشيء الذي يكون فيه مشقة، وتعريفه في الشرع: قتال الكفار لأجل كفرهم، وكذلك يقال في تعريف المعروف، وفي تعريف المنكر، وفي تعريف الإسلام والإيمان والكفر والشرك والنفاق والفسوق وما أشبهها، فهذه كلها لها مسميات في اللغة ومسميات في الشرع معروفة، حيث نقل الشارع شيئاً من مسمياتها اللغوية فسمى بها هذه المسميات الشرعية، فأصبحت إذا أطلقت في الشرع لا تنصرف إلى المعنى اللغوي الذي نقلت إليه، فالكلام هنا على الإيمان، والإيمان له معنى واسم في اللغة، وله معنى واسم في الشرع، نقله الشرع إليه وأصبح إذا أطلق على أهله، قصد به المؤمنون الشرعيون، لا المؤمنون اللغويون. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 10 تعريف الإيمان لغة واصطلاحا ً الإيمان في اللغة: هو التصديق، ومن ذلك قول الله تعالى حكاية عن إخوة يوسف لما أخبروا أباهم بأن الذئب أكل أخاهم، فقالوا بعد ذلك: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] أي: بمصدق لنا، فالإيمان في اللغة: التصديق. لكن الشرع الشريف جعله أعم من التصديق، فأدخل فيه العقيدة، وأدخل فيه الأقوال، وأدخل فيه الأعمال، وعلى ذلك بنى الأئمة رحمهم الله هذه الأصول، فنجد أن المؤلفين من العلماء عملوا على ذلك، فالإمام البخاري في صحيحه جعل كتاب الإيمان في المقدمة بعد بدء الوحي، وأورد فيه الأدلة، فقال: باب: الصلاة من الإيمان، باب: أداء الخمس من الإيمان وهكذا عدد الأعمال الصالحة، وجعلها من الإيمان كأركان الدين كلها. وتجدون مسلماً رحمه الله بدأ كتابه بعد المقدمة بكتاب الإيمان، وأورد فيه الأحاديث الكثيرة التي تبين الإيمان، وتبين ما يدخل فيه. فالإيمان إذا أطلق فإنه هو المسمى الشرعي، فمن لم يكن على هذا فلا يقال له: مؤمن، ولا يثاب ثواب المؤمنين. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 11 الأحكام المترتبة على تحقق اسم الإيمان يترتب على التسمية بالمؤمن أحكام، منها: أن من آمن عصم نفسه من القتل، وأن من آمن أحرز الثواب واستحقه، وأن من آمن اعتقدناه من إخواننا من المؤمنين وعاملناه على أساس ذلك. ولابد من أجل تحقق هذه الأحكام أن يؤمن المرء الإيمان الشرعي، ليس الإيمان اللغوي؛ لأن الإيمان اللغوي خفي، وهو شيء في القلب، ونحن لا نشق عن القلوب، وإنما نعمل بما يظهر لنا، فإذا رأينا الإنسان يصلي ويصوم معنا، ويجاهد، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويترك المحرمات والمشتبهات، ويستكثر من الأعمال الصالحات؛ قلنا: هذا من أهل الإيمان وهكذا. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 12 تعريف جمهور أهل السنة للإيمان وما ينبني عليه الأقوال التي ذكرها الشارح في تعريف الإيمان منها ما هو صواب ومنها ما هو خطأ، فالصواب: هو القول الأول، الذي هو قول أهل الحديث، وقول أكثر الأئمة، فقد ذهب إليه الإمام مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وسفيان الثوري والأوزاعي وأئمة الحديث كـ البخاري ومسلم، وأهل السنن، وسائر المحدثين، وأكثر المتكلمين، وسلف الأمة، وهذا القول الصحيح هو: أن الإيمان يدخل فيه قول اللسان، وعقيدة الجنان، وعمل الأركان. فيقولون: هو قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان. والأركان هي: الجوارح، فالعينان لهما عمل، والأذنان لهما عمل، واليدان والرجلان والبطن والفرج كلها لها عمل، هذه هي عقيدة أهل السنة. ومن اعتقادهم -أيضاً- أنه يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، ويستدلون على ذلك بأدلة كثيرة سيأتينا بعضها، وأوضح هذه الأدلة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، أعلاها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ، فقوله: (بضع وستون أو بضع وسبعون) يعم خصال الخير كلها، فيقال: الصلاة من الإيمان، والصوم من الإيمان، والصدقة من الإيمان وفيما يتعلق بالكلام يقال: الذكر من الإيمان، والتسبيح من الإيمان، والقراءة من الإيمان، والجهاد من الإيمان، والأمر بالخير والدعوة إلى الله -وما أشبه ذلك- من الإيمان، ويقال في أعمال القلوب: الزهد في الدنيا خوفاً من المشتبهات من الإيمان، والرغبة في الآخرة من الإيمان، والحب في الله والبغض في الله من خصال الإيمان وما أشبهها. جاء في الحديث: (أعلاها: قول: لا إله إلا الله) فجعل هذه الكلمة من العقيدة، وهي كلمة التوحيد، وقال: (وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق) ، وهذا عمل بالأركان، كون الإنسان يميط الأذى عن الطريق ويوسع للمسلمين هذا من عمل البدن، وقال: (والحياء شعبة من الإيمان) والحياء عمل قلبي، فذكر القول: لا إله إلا الله، وذكر العمل: إماطة الأذى، وذكر الحياء الذي هو خلق قلبي، يحمل على ما يجمل ويزين، وينهى عن كل ما يدنس ويشين. إذاً: تدخل الأعمال كلها في مسمى الإيمان؛ ولأجل ذلك اهتم العلماء بشعب الإيمان، فصنف الإمام البيهقي كتاباً كبيراً سماه: شعب الإيمان -يعني: خصال الإيمان- وطوله، وأورد فيه الأحاديث الكثيرة بأسانيدها، واختصره بعض المؤلفين في مختصر مطبوع اسمه مختصر شعب الإيمان، وأوصله إلى تسع وسبعين أو ثمان وسبعين خصلة، وجعل منها الأعمال اليدوية والبدنية ونحوها، ومنها: إماطة الأذى عن الطريق وما أشبهها. فعرفنا بذلك أن هذا القول هو الأقوى، وعليه الأدلة. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 13 تعريف الحنفية للإيمان القول الذي ذكره الشارح عن أصحابه رحمهم الله هو الذي اشتهر عن الحنفية، وأبو حنيفة رحمه الله كان من المتقدمين، وكأنه لم يتوسع في الأدلة؛ ولأجل ذلك أخذ الإيمان على أنها كلمة لغوية، فجعل الإيمان هو التصديق بالقلب، وجعل القول علامة عليه، أو جعل القول منه، فالإيمان عند أبي حنيفة له ركنان: القول، والاعتقاد، ولم تكن الأعمال عنده من الإيمان، ولا شك أن هذا قول خاطئ، وفيه نقص كما سيأتي. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 14 تعريف الكرامية للإيمان هناك أقوال أخرى في الإيمان مرت الإشارة إليها، ولكنها أقوال باطلة، ومن هذه الأقوال: قول الماتريدية بأن الإيمان إنما هو العقيدة، وأن القول إنما هو من آثاره. وأما الكرامية فالإيمان عندهم هو القول. والكرامية هم أتباع محمد بن كرام، وكانوا في باب الإيمان بالصفات أقرب إلى أهل السنة، ولكن لهم قول في الإيمان غريب! وهو أن الإيمان هو القول، أي: هو الكلمة والتلفظ، ولازمه أن المنافقين عندهم مؤمنون؛ لأنهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، ومعنى هذا أنهم مؤمنون، حتى ولو كانوا إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم! والله تعالى قد أثبت أن المنافقين كافرون في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون:3] ، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء:137] هؤلاء هم المنافقون، فالمنافقون الذين يقولون بألسنتهم: آمنا؛ مؤمنون عند الكرامية! ولكن الكرامية يقولون: إنهم مع ذلك في النار؛ لأن الله توعدهم في قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] ، وبالآيات التي فيها الوعيد الشديد لهم، فهم يقولون: إنهم في النار، وقولهم: آمنا غير عاصم لهم عن العذاب، وبكل حال فقد جعلوهم مؤمنين، وهذا قول خاطئ. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 15 تعريف الجهمية للإيمان وما ينبني عليه قول الجهمية في الإيمان هو أبعد الأقوال، فهم يقولون: إن الإيمان هو المعرفة فقط، فمن عرف فهو مؤمن، وهذا القول يلزم منه أن كل من عرف ولو لم يتبع المعرفة بإيمان يصير مؤمناً كامل الإيمان عندهم، والله تعالى قد ذكر أن إبليس -وهو أكفر الكافرين- يعرف أن الله ربه، ويعرف أن هناك بعثاً، وأن هناك جزاءً، وأن هناك جنة وناراً، وقد خاطبه الله بقوله: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:18] ، فهو عارف، إذاً: فهو عند الجهمية مؤمن يستحق الوعد الذي وعد الله به المؤمنين! وكذلك فرعون قد أخبر الله أنه عارف، قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا} [النمل:14] يعني: آيات موسى، {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] ففرعون وقومه كانوا مستيقنين بها، وكذلك قول موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الإسراء:102] (علمت) أي: يا فرعون! ففرعون عندهم مؤمن كامل الإيمان، يستحق ما يستحقه أهل الإيمان الكامل. أيضاً: كثير من الكفار -على قولهم- كانوا مؤمنين، قال الله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] ، قيل: إنها نزلت في أبي طالب، فقد كان يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، وكان ينهى عن أذاه، لكن كان ينأى عن اتباعه، وقيل: نزلت في الكفار كلهم؛ لأنهم يعرفون صدقه، وكانوا يسمونه بالصادق الأمين، وبكل حال فإن أبا طالب -كما سمعنا- مصدق بأن محمداً رسول، وبأنه صادق، وقد ظهر تصديقه في هذه الأبيات: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً يقول: لولا أن يلومني زملائي وأصدقائي، ويقولون: إنك تركت دين آبائك، وجلبت على أبيك عبد المطلب وآبائك وأسلافك المسبة، لولا ذلك لسمحت به ولاتبعته، فهذا ونحوه دليل على أنه كان عارفاً، وهل نفعته هذه المعرفة؟ ما نفعته. إذاً: الإيمان على قولهم يعم هؤلاء، فهم مؤمنون عند الجهمية! فما هو الكفر عند الجهمية؟ يقولون: الكفر هو الجهل بالله. فيقال لهم: أنتم أجهل الناس بالله، حيث جعلتموه الوجود المحض، دون أن تجعلوا لله صفات أو تجعلوا له أسماء، فهم جحدوا أسماء الله وجحدوا صفاته، ولم يصفوه إلا بأنه موجود، قيل لهم: موجود قديم أو موجود كذا؟ فيقولون: موجود فقط، فلا شك أن هذا هو غاية الجهل، فقد شهدوا على أنفسهم بأنهم كافرون حيث جعلوا الكفر هو الجهل، وأي جهل أكبر من جهل هؤلاء الجهمية؟! الجزء: 42 ¦ الصفحة: 16 ترجيح الشارح أن الخلاف بين أهل السنة وأبي حنيفة في تعريف الإيمان خلاف لفظي قال الشارح رحمه الله: [وحاصل الكل يرجع إلى أن الإيمان: إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح، كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم الله كما تقدم، أو بالقلب واللسان دون الجوارح، كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، أو باللسان وحده، كما تقدم ذكره عن الكرامية. أو بالقلب وحده، وهو إما المعرفة كما قاله الجهم أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه الله. وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر. والخلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه؛ نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد. والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقاً. والاختلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بـ (القول) : التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل. لكن هذا المطلوب من العباد هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع] . الشارح رحمه الله حنفي المذهب، ومعلوم أنه أراد بتأليف هذا الكتاب تقريب الحنفية إلى مذهب أهل السنة، وذلك لأنه ولو كان حنفياً في الفروع فإنه سلفي في العقيدة، وقد تأثر بشيخه ابن كثير رحمه الله، ابن كثير كان شافعي المذهب، وقد تأثر ابن كثير بـ ابن تيمية وهو حنبلي في باب العقيدة، فكان شافعياً في الفروع، ولكنه في العقيدة على مذهب أهل السنة الذي تلقاه عن شيخه أبي العباس ابن تيمية رحمه الله. فأراد هذا الشارح رحمه الله بشرحه أن يقرب الحنفية إلى مذهب أهل السنة، وشرح هذه العقيدة على مذهب أهل السنة، وبين أن الطحاوي أراد بها قول أهل السنة، وأراد بها ما عليه سلف الأمة، حتى يرد على الذين تمذهبوا بمذاهب باطلة بعد السلف، فأنكروا الصفات، وأنكروا العلو، وأنكروا الرؤية لله حقيقة، وأنكروا الكلام لله حقيقة، وما أشبه ذلك، فتقدم أنه شرح هذه الأشياء وبين أن القرآن حروفاً ومعاني كلام الله، رداً على الأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله هو المعنى دون اللفظ، وكذلك في مسألة الرؤية: أن الرؤية تكون حقيقة بالبصر، وأنها ليست كما يقول الأشاعرة: مكاشفات ورؤية قلبية، وكذلك بقية المسائل، وكثير من الحنفية يقولون بأقوال الأشاعرة. وبقيت هذه المسألة، وهي: مسألة الإيمان، فقد عجز عن الجمع بين مذهب أهل السنة ومذهب الحنفية في باب الإيمان؛ وذلك لصراحة كلام الطحاوي في أن الأعمال ليست من الإيمان، حيث إن الطحاوي جعل الإيمان فقط هو التصديق والقول، وذلك صريح لا يحتمل أن يؤول، فلم يجد الشارح بداً من أن يجمع بينهما بأن الخلاف لفظي، حيث يقول: إذا كنا متفقين على أن من عمل السيئات لا يخرج من الإيمان، فإنا لا نجعل فعلها مدخلاً في الإيمان أو زيادة في الإيمان، ولا نجعل تركها مخرجاً من الإيمان، ويستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) . ومذهب أهل السنة في هذا الحديث أن نقول: ليس هو مؤمن كامل الإيمان، بل هو ناقص الإيمان، ونقول: هو عاص معه أصل الإيمان، ومعه بعض الأعمال المنافية له، فنسميه فاسقاً، ونسميه مؤمناً ناقص الإيمان، ولا نسميه كامل الإيمان، والحديث جاء على هذا، فما دام أننا اتفقنا على أن الأعمال من الإيمان فلماذا نجعل تركها نقصاً في الإيمان لا مخرجاً من الإيمان بالكلية؟ إذاً: لا دلالة في هذا الحديث على أن الأعمال ليست من الإيمان، بل الأعمال من الإيمان، والخلاف ليس لفظياً كما يقوله الشارح، بل الخلاف معنوي، لا شك أنه يترتب عليه معان كثيرة، يترتب عليه أن الفاسق ولو عمل ما عمل يسمى مؤمناً كامل الإيمان؛ وذلك لقول الطحاوي عفا الله عنه: إن أهله في أصله سواء. يعني: التفاوت بينهم إنما هو بالخشية والتقاة، وأما أصل الإيمان فإنهم يتساوون فيه، وعندهم أن إيمان جبرائيل وإسرافيل والملائكة مثل إيمان آحاد الناس، فالناس كلهم على حد سواء في الإيمان، لا تفاوت بينهم، وهذا خطأ، بل الناس متفاوتون في الإيمان. والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، والصحيح: أن الإيمان يزيد وينقص، وتأتينا أدلة واضحة في أن الإيمان يزيد وينقص. وبكل حال: فالأصل أن الإيمان الذي ذكرنا تدخل فيه الأعمال، فهي من الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم جعلها شعباً، فالشعب: هي القطع التي يتكون منها الشيء، فقوله: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) أي: أن الإيمان يتكون من هذه الشعب، فيقال: الصلاة شعبة من الإيمان، والزكاة والصدقات شعبة من الإيمان، والأذكار شعبة من الإيمان، وحسن الجوار شعبة من الإيمان، والصدق شعبة من الإيمان، وأشباه ذلك، ويقال -أيضاً-: إن للكفر شعباً كما أن للإيمان شعباً، والإيمان يتفاوت، وأهله متفاوتون، فالصحابة إيمانهم الذي في قلوبهم، وكذلك نتيجته التي هي أعمالهم التي عملوها؛ لا شك أنها أقوى وأكبر من إيمان من بعدهم، ومن إيمان الآخرين، فالله تعالى قد أخبر بأن هناك من يشمله اسم المؤمن ولو كان معه نقص، وذلك في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] يصدق عليه أنه يحرر رقبة من أهل الإيمان ولو كان عاصياً، ولو كان مذنباً، ولكن الإيمان الذي مدح الله أهله ووصفهم بالنجاة في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] من هم؟ لابد أن يكون لهم صفات معينة، فلو قال: (قد أفلح المؤمنون) واقتصر على هذه الآية لكان المؤمنون هم المصدقون، ولكن الله بين صفاتهم، فقال: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:2-3] إذاً هذا من الإيمان، {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:4-5] إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:8-9] هذه كلها من الإيمان، وجعلها الله تعالى فروعاً، فإذا كانت هذه صفات المؤمنين فإذاً هذه من الإيمان. وكذلك -أيضاً- يقول الله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58] فالإيمان الذي يكون معه أن أهله يسجدون ويسبحون، وتتجافى جنوبهم عن المضاجع، ويدعون ربهم خوفاً وطمعاً؛ هو الإيمان الصادق، وهذه كلها صفات المؤمن، فلا يكون المؤمن صادقاً إلا إذا اجتمعت فيه هذه الخصال ونحوها، فعرفنا بذلك أن الإيمان لابد فيه من هذه الأصول، لابد فيه من الأصل الصحيح الصادق الذي هو العمل، والدافع إلى العمل الذي هو التصديق القوي الذي يظهر بالعمل، ويظهر بالكلام، فإذا اجتمع العمل بالأركان والنطق والعقيدة الصادقة كمل الإيمان، وإلا فالإيمان ناقص. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 17 شرح العقيدة الطحاوية [43] من عقيدة أهل السنة أن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وزعم مرجئة الفقهاء وبعض المبتدعة أنه لا يزيد ولا ينقص، وقد رد عليهم العلماء وبينوا فساد قولهم. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 1 مجمل عقيدة أهل السنة في أسماء الإيمان والدين والأقوال المخالفة لهم مما تكلم به العلماء في العقيدة: أسماء الإيمان والدين، فعند أهل السنة والأئمة وجماهير السلف أن الإيمان والدين هو قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وأن الأعمال من مسمى الإيمان، هذه عقيدة أهل السنة. وعند أكثر الحنفية: أنه الاعتقاد بالجنان، والإقرار باللسان، ولم يجعلوا الأعمال من مسمى الإيمان، وهذا هو الذي ذكره الطحاوي بناءً على أنه معتقد الحنفية. وذهبت الماتريدية إلى أنه الاعتقاد بالجنان فقط، ولا تدخل فيه الأعمال ولا الأقوال. وذهبت الكرامية إلى أنه مجرد الإقرار باللسان فقط، وإن لم يكن هناك اعتقاد بالجنان، فعلى قولهم فإن المنافقين مؤمنون؛ لأنهم يقرون باللسان، وهم يقولون: المنافقون مؤمنون، ولكنهم مستحقون للوعيد الذي توعدهم الله به ولو كانوا مؤمنين. وذهب الجهم بن صفوان وأتباعه إلى أن الإيمان هو مجرد المعرفة، فعندهم - على هذا الاصطلاح- أن إبليس من المؤمنين، وأن فرعون من المؤمنين، وكذلك الكفار الذين عرفوا صدق النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين، كما حكى الله عنهم بقوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] ، وكما سمعنا في نظم أبي طالب أنه كان يعرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يتبعه، فعندهم يكون مؤمناً، وكذلك اليهود يكونون عندهم مؤمنين لقوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] . هذه ملخص الأقوال في مسمى الإيمان، والأصل هو قول أهل السنة، وهو أنه يجمع بين الثلاثة: القلب، واللسان، والأركان. وهو الذي ذكره البخاري في أول كتاب الإيمان من صحيحه، يقول: وهو قول وفعل، وهو إنما نص على القول والفعل، وعلى الزيادة والنقصان، ولم يذكر الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد لا خلاف فيه، فلأجل ذلك خصص ووضح أن القول والفعل من الإيمان، ثم أخذ يذكر الأبواب في ذلك، ويقول: باب: الصلاة من الإيمان. باب: رد السلام من الإيمان. باب: أداء الخمس من الإيمان. باب: الصدقة من الإيمان وهكذا. وقد أقره على ذلك الذين شرحوا صحيحه من أهل السنة، مثل: ابن كثير الذي شرح أول صحيح البخاري وأقره، وكذلك ابن رجب شرح أول صحيح البخاري وأقره، وأتى عليه بالأدلة، وهكذا الذين شرحوه من أهل السنة، أما الذين شرحوه من غيرهم فإنهم قد وقعوا في بعض التأويلات، مثل: صاحب عمدة القاري، وهو العيني، فإنه حنفي؛ لأجل ذلك أخذ يتأول هذه الأبواب، ويحاول أن تكون على مذهب الحنفية، وشارح الطحاوية الذي نقرأ له حنفي -أيضاً-، وهو علي بن أبي العز، ولكنه تتلمذ على ابن كثير، فتأثر به في باب العقيدة، فلأجل ذلك فإنه في باب الأسماء والصفات التزم بمذهب أهل السنة، ولما أتى على هذا الموضع -وكان كلام الطحاوي فيه مخالفاً لمذهب أهل السنة بناء على مذهب الحنفية- لم يستطع أن يجمع بينه وبين قول أهل السنة جمعاً ظاهراً، فحاول أن يجعل الخلاف لفظياً، يعني: أننا إذا جعلنا الإيمان -أصلاً- هو الاعتقاد الجازم، كانت الأعمال من ثمرات هذا الاعتقاد؛ لأن الذي يعمل إنما يحمله على العمل الاعتقاد الجازم، وهذا صحيح؛ إذ إن الإنسان إذا رسخت العقيدة في قلبه انبعثت جوارحه بالأعمال، وأكثر من الصالحات والحسنات والقربات، وإذا ضعفت العقيدة التي في قلبه ضعفت الأعمال عنده، والدوافع التي تدفعه إلى الأعمال الخيرية. ولكن لابد أن نقول: إن هذه الأعمال التي يعملها تسمى إيماناً، وأن الإيمان يزيد ويقوى، وأن كل واحد من هذه الأعمال يوصف بأنه إيمان، فتوصف الصلاة بأنها إيمان، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] نزلت هذه الآية لما صرفت القبلة إلى الكعبة، فقال بعض الصحابة: فما بال صلاتنا إلى بيت المقدس قبل أن تصرف؟ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: صلاتكم الأولى قبل التعديل لن تضيع، فسمى الصلاة إيماناً. وقد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأعمال كلها من الإيمان في قوله: (الإيمان بضع وستون -أو بضع وسبعون- شعبة؛ أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ، والشعب: هي القطع من الشيء التي إذا تفرقت ضعف، وإذا اجتمعت كمل واستقام، فمعناه: أن هذه الشعب متى اجتمعت في قلب المؤمن وفي عمله أصبح مؤمناً كامل الإيمان، وإذا نقص واحدة نقص إيمانه، وهكذا فإذا ذهبت كلها ذهب الإيمان كله من قلبه. وفي هذا الحديث جعل النبي صلى الله عليه وسلم كلمة التوحيد من الإيمان، وهي نطق باللسان، وجعل إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، وهي عمل بالأركان، وجعل الحياء من الإيمان، وهو اعتقاد بالجنان، فدخل بذلك كل ما يشبه هذه الأشياء، هذا معتقد أهل السنة. أما معتقد الحنفية فالإيمان عندهم: هو الاعتقاد والقول، وبعضهم جعل الخلاف بينهم وبين أهل السنة لفظياً، والصحيح أنه معنوي؛ وذلك لأن الإنسان إذا لم يعتقد أن الأعمال من مسمى الإيمان ضعف حرصه على الأعمال، ولم يبالِ بالسيئات؛ لاعتقاده أنها لا تنقص الإيمان، وأن الحسنات لا تجلب الإيمان، وأنها ليست من الإيمان؛ فيضعف بذلك حرصه واجتهاده، فلأجل ذلك اهتم أهل السنة بمن يعتقد هذا الاعتقاد، وقربوهم، وقد ذكر عن البخاري أنه قال: رويت في هذا الكتاب عن مائتين وسبعين عالماً، كلهم يقول: الأعمال من مسمى الإيمان. يعني: أنه اختار مشايخه الذين روى عنهم في الصحيح -لا في خارج الصحيح- والذين بلغ عددهم إلى مائتين وسبعين أو نحو ذلك، وكانوا كلهم على هذه العقيدة، يعني: لم يروِ في صحيحه عن الذين يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان، مع كثرتهم في زمانه، وهذا دليل على اهتمام السلف بعقيدتهم، وتحريهم في أخذها، ومعرفتهم بمن هو أهل لأن يروى عنه ومن ليس أهلاً لذلك. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 2 عدم تحقق الإيمان بالقول بدون العمل قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ورسوله، مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام!! وهذا غلو منه؛ فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده. ولهذا -والله أعلم- قال الشيخ رحمه الله: وأهله في أصله سواء. يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه، بل تفاوت درجات نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيها إلا الله تعالى، فمن الناس من نور لا إله إلا الله في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، وآخر كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف. ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علماً وعملاً، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته، بحيث إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذه حال الصادق في توحيده، فسماء إيمانه قد حرس بالرجوم من كل سارق. ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله) ، وقوله: (لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله) ، وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود، ونحو ذلك] . القول بأن الأعمال ليست من الإيمان يحتج أهله بأنهم إذا حققوا الاعتقاد نتجت عنه الأعمال وأثمرت، وقد يستدلون بعطف الأعمال على الإيمان في مثل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227] . و الجواب أن المراد بالإيمان هنا: أصله، والمراد بالأعمال: نتيجته وثمرته، أو المراد أكثروا من الأعمال الصالحة، وبكل حال فالأعمال لابد أنها داخلة في الإيمان؛ وذلك لأن الإيمان -الذي هو قوة اليقين وقوة التصديق- له علامات وله آثار وله ثمار، ومن أرفعها وأعلاها: ظهورها على بدن صاحبها. فنقول على هذا: كلها إيمان، فإذا رأيناه يغض بصره عن الإثم وعن العورات، قلنا: هذا هو الإيمان، وإذا رأيناه يصون سمعه عما لا يحل؛ قلنا: هذا هو الإيمان، وإذا رأيناه يحفظ لسانه عن الكلام القبيح والسيئ، أو سمعناه يتلفظ بالذكر وبالدعاء وبالنصح وبالتعليم؛ قلنا: هذا هو الإيمان، يعني: ظهر الإيمان عليه، وإذا رأينا زهده وورعه، وتقلله من المشتبهات، وبعده عن الآثام، قلنا: هذا هو الإيمان، أو هذا هو المؤمن، وأشباه ذلك. وأما الأدلة التي وردت في نجاة أهل التوحيد -أهل كلمة الإخلاص- كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) ، وقوله: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه على الله) وأخبر عن شفاعته في يوم القيامة أنها تنال من قال: (لا إله إلا الله) خالصاً من قلبه، وأشباه ذلك، هذه الأحاديث تمسك بها أهل الإرجاء -الذين غلبوا جانب الرجاء- فقالوا: إنه يكفي أن يقول: لا إله إلا الله، ويكفي أن ينوي الإخلاص، ولا يشترط أن يعمل، ولا يشترط أن يكف عن السيئات، حيث لم يشترط ذلك في هذه الأحاديث. ولكن هذا القول خاطئ، والصواب: أن من قالها فإنه لابد أن يعمل بموجبها؛ فإن لا إله إلا الله قد قيدت بالقيود الثقال، ولها شروط سبعة ذكرت في قول الشاعر: علم يقين وإخلاص وصدقك مع محبة وانقياد والقبول لها وبعضهم زاد شرطاً ثامناً، ونظمه بقوله: وزيد ثامنها الكفران منك بما سوى الإله من الأنداد قد ألِهَ فما دام أن هذه الشهادة قد قيدت بهذه القيود فلابد أن يتبعها العمل، وإلا فلا يكون القول صادقاً، وعرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخبر بنجاة أهل هذه الكلمة، فإنما أراد أهلها الذين تقع في قلوبهم موقعاً ينتج عنه أثر ونتيجة، وهذا الأثر هو العمل، فإذا قالوا: لا إله إلا الله، أي: لا معبود إلا الله؛ عبدوه بكل أنواع العبادة، فذلك هو التأله، وتركوا معصيته، وذلك -أيضاً- من التأله، وأعرضوا عما سواه، وذلك -أيضاً- من التأله له وترك التأله لغيره، فأما إذا لم يعبدوه فلا يصدق عليهم أنهم اتخذوه إلهاً، وكذلك إذا لم يؤدوا حقوق عبادته كلها لم يصدق عليهم أنهم اتخذوه إلهاً. وأما الذين قالوا: إن هذه الأحاديث في كلمة (لا إله إلا الله) محمولة على أول الأمر، فيقول بعض العلماء: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) -ونحو ذلك- محمول على من دخل في الإسلام لأول مرة، فإنه يكف عنه، ولكن بعد ذلك ينظر في حاله: فإن استمر في العمل بمعنى لا إله إلا الله يكف عنه كفاً تاماً، وإن لم يستمر في العمل بها، ولم يؤدِ حقوقها؛ فحينئذ يعود إلى ما كان عليه، فيقاتل عليها؛ لأنه قالها ولم يعمل بها. وهناك من حمل قوله: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه) ، أو (حرم الله على النار من قال: لا إله إلا الله) على أن المراد نار الكفار، يعني: التي يخلدون فيها. يعني: أنه وإن دخل النار فإنه لا يخلد فيها، أو لا يدخل نار الكفار، وهذا خلاف ما في الأحاديث المطلقة. فإذاً: نحمل أحاديث الرجاء -التي فيها النجاة لأهل لا إله إلا الله- على أن المراد: من قالها صادقاً من قلبه، وانطلقت جوارحه بالعمل بمقتضاها، فأنت إذا دعوت إنساناً إلى لا إله إلا الله، فنطق بها، وقال: أقول: لا إله إلا الله، وأقول: إن محمداً رسول الله. فطالبه بعد ذلك بمعناها، قائلاً له: ما معنى الإله؟ أليس الإله هو المألوه أو المعبود؟ نطالبك بأن تعبده، وأنت أقررت بأنه المستحق للعبادة، فأين العبادة؟ من العبادة أركان الإسلام من العبادة واجبات الإسلام من العبادة مكملات الإسلام من العبادة ترك المحرمات في الإسلام، طالبه بمعنى ذلك، وقل: هذا هو التأله، إن أتيت بذلك فأنت صادق، وإلا فأنت منافق؛ لأن الذي يقولها ثم لا يعمل بها شبيه بالمنافقين؛ فإن المنافقين يقولونها ليحموا بذلك أموالهم وأبدانهم، أما المؤمنون فإنهم يقولونها ويطبقونها. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 3 تفاوت قوة الإيمان بتفاوت قوة الاعتقاد وكثرة الأعمال قال الشارح رحمه الله: [والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب. وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها، ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار. وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان، التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته -وهو في تلك الحال- أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت! وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان، حيث نزعت موقها وسقت الكلب من الركية؛ فغفر لها. وهكذا العقل أيضاً، فإنه يقبل التفاضل، وأهله في أصله سواء، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين، وبعضهم أعقل من بعض. وكذلك الإيجاب والتحريم، فيكون إيجاب دون إيجاب، وتحريم دون تحريم، هذا هو الصحيح، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب] . عرفنا أن كلمة (لا إله إلا الله) لابد أن يعمل بها، وأن الذين يقولونها ولا يعملون بها هم المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار؛ وذلك لأنهم أخلوا بشرطها؛ وهو: العمل والتطبيق، أو أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فلم تنفعهم هذه الكلمة إلا نفعاً دنيوياً، وذلك بأن حقنوا بها دماءهم، وأحرزوا بها أموالهم، فلما أظهروا أمام الناس أنهم مؤمنون -والله مطلع على ما في قلوبهم- لم تنفعهم هذه الكلمة التي ما صدرت عن اعتقاد، ولم يعملوا بها حق العمل. إذاً: أهل الإيمان حقاً هم الذين يقولونها ويعملون بمقتضاها، وتصدر عن قلوبهم، وتطمئن قلوبهم بمدلولها، ويعرفون معناها. وهم -بلا شك- متفاوتون في هذه القوة، وذلك بحسب كثرة الأدلة، وبحسب كثرة الأعمال، فكلما كثرت الأعمال الصالحة قوي الإيمان في القلب؛ ولأجل هذا نقول: إن الأعمال من مسمى الإيمان، وإنها تزيد الإيمان، وإن السيئات تنقص الإيمان، وكذلك ترك الصالحات ينقص الإيمان. وإذا كان الإيمان يتفاوت، فإن قدره في القلب يتفاوت، والإيمان الذي على الأبدان يتفاوت، وقد مثل الشارح الإيمان الذي في القلب بالبصر الذي في العين، وقال: الناس يتفاوتون في الإبصار، فبالرغم من أنهم كلهم مبصرون؛ إلا أن بعضهم أقوى بصراً من بعض، فبعضهم يرى الشخص من بعيد -من مسيرة ثلاثة أو أربعه أميال- فيعرف شخصه، وبعضهم لا يعرفه ولو كان بينه وبينه خمسة أمتار أو نحوها، وبعضهم يقرأ الخط الدقيق بدون نظارة ونحوها، وبعضهم لا يقرؤه إلا إذا كان كبيراً، كما هو مشاهد. واختلاف الناس في البصر يماثله اختلافهم في العقل، إذ يتفاوت الناس فيه، فمنهم من يكون فطناً ذكياً، ومنهم من يكون في غاية البلادة والغباوة، ومنهم من يكون بين ذلك. وإذا كان التفاوت حاصلاً في هذين الأمرين، وهما من خلق الله تعالى وتدبيره، فنقول: كذلك الإيمان الذي في القلب يقوى في حق أهل الإيمان القوي الذين تكاثرت الأدلة عليهم فرسخ بها الإيمان في قلوبهم، وآخرون ضعف الإيمان في قلوبهم بقلة الأدلة أو بعدم تأملها، لأجل ذلك فإن البعض من أهل الإيمان إذا جاءته شبهة أو دعاه داع إلى الضلال أو إلى الردة ترك الإسلام، وترك الصلوات، وترك الأعمال، وما ذاك إلا لضعف الإيمان الذي في قلبه؛ وضعف الأدلة التي بنى عليها هذا الإيمان، وبعضهم يكون الإيمان في قلبه أرسى من الجبال، لا تزعزعه الشبهات ولا التشكيكات، ولا الإيرادات التي يوردها عليه دعاة الضلال، فلو أتوه بكل دليل عندهم، ولو ألقوا عليه كل شبهة؛ فإن إيمان قلبه يحرق تلك الشبهات ويزيلها؛ وذلك لأن قلبه مستنير، وقد مثل الشارح الإيمان بالنور، فإن القلب إذا كان فيه إيمان فإن فيه نوراً، وأنتم تعرفون تفاوت الأنوار، فمنهم من يكون النور الذي في قلبه كنور الشمس الذي يضيء على الدنيا، ومنهم من يكون كنور القمر، ومنهم من يكون كالسرج القوية، ومنهم من يكون كالشمعة الضعيفة أو ما أشبهها، وقوة النور تتوقف على المواد التي تمد ذلك النور، فكذلك النور في القلب ما الذي يمده؟ لا شك أن الذي يمده الأدلة من آيات الله تعالى، ومن مخلوقاته، ومن أحكامه وشرائعه، ومن المعجزات التي جرت على أيدي رسله وعلى أيدي أوليائه، تواردت على ذلك القلب، فتمكنت ورسخت فيه، فصار لا حيلة لأحد في تضعيفها ولا إزالتها. فإذا رأيت إنساناً إيمانه ضعيف فإنك تجده قليل الأعمال، كثيراً ما يترك الصلوات أو يتكاسل عنها، ويرتكب بعض المنهيات ونحو ذلك، كيف السبيل إلى إنقاذه؟ السبيل إلى ذلك أن تحثه على ما يقوي إيمانه، بأن تكرر عليه الأدلة والآيات والبراهين التي تصل إلى قلبه، وتكرر عليه ما يبطل الشبهات التي امتلأ بها قلبه، فإن لم تقدر على ذلك فأرشده إلى ما يقرؤه أو ما يسمعه من النشرات، أو من الكتب والمؤلفات التي تحتوي على براهين وآيات ودلالات واضحات، وبذلك يقوى الإيمان في قلبه، وتزول تلك الأسباب التي تضعفه، فعند ذلك ينبعث بدنه وأعضاؤه وجوارحه بالأعمال الصالحات، فلا ينظر إلا نظر إيمان، ولا يسمع إلا سماع إيمان، ولا يتكلم إلا كلام إيمان، ولا يهم بقلبه إلا بما هو إيمان، ولا يمشي إلا إلى إيمان، ولا يعمل بيديه إلا ما هو إيمان، ولا ينفق ماله إلا فيما هو إيمان وهكذا. فهذا ونحوه من ثمرات الإيمان الذي هو أصل في القلب، ثم بعد ذلك ينبعث على الجوارح. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 4 الأدلة العقلية والنقلية على زيادة الإيمان قال الشارح رحمه الله: [وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل: فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجب على من بلغه خبره، كما في حق النجاشي وأمثاله. وأما الزيادة بالعمل والتصديق المستلزم لعمل القلب والجوارح: فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المخبر كالمعاين) ، وموسى عليه السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبَر -وإن جزم بصدق المخبِر- قد لا يتصور المخبَر به نفسه كما يتصوره إذا عاينه، كما قال إبراهيم الخليل -صلوات الله على نبينا محمد وعليه-: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] . وأيضاً: فمن وجب عليه الحج والزكاة -مثلاً- يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره الإيمان به إلا مجملاً، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل. وكذلك الرجل أول ما يسلم، إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان] . من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الإيمان -الذي في القلب، والذي في اللسان، وعلى الجوارح- يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] ، كيف زادهم إيماناً؟ أي: تصديقاً بخبر الله، وعملاً بآثار ذلك التصديق، فالله أخبرهم بأنه ينصرهم، وبأنه لا يخذلهم، فلما جاءهم هذا الخبر ما زادهم إلا تصديقاً بالله تعالى وبخبر الله، فدل ذلك على أن الإيمان يزيد، وكل ما هو قابل للزيادة فهو قابل للنقص. وقال تعالى في سورة الأنفال: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] فسمعاها أو قراءتها تزيدهم إيماناً يعني: أنهم يعملون بها، ويصدقون بها، ويعرفون مدلولها، فيكون ذلك زيادة في أعمالهم. وقال تعالى في سورة الفتح: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، السكينة التي أنزلها في قلوبهم: الطمأنينة إلى خبر الله وخبر رسوله، والثقة بأنه ينصر من نصره، كما في الآيات الأخرى، فهذه الثقة زادتهم إيماناً؛ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، فدل على أنهم كانوا مؤمنين، وأن هذه السكينة زادتهم إيماناً إلى إيمانهم، ولا شك أنها زيادة محسوسة بحيث زادت أعمالهم، وكثرت حسناتهم، وقلت سيئاتهم، فيكون ذلك من أسباب زيادة الحق والإيمان. هذه بعض الأدلة على زيادة الإيمان، والشارح يقول: إن الزيادة هي زيادة الأعمال، يعني: أن الذي عمل بالشريعة أول ما نزلت عمل بأعمال قليلة، ولما زادت الشرائع زادت أعماله، ومعلوم أن الذين أسلموا بمكة في أول الإسلام ما فرضت عليهم الطهارة ولا الصلاة ولا الصوم ولا الصدقة ولا الجهاد، وما فرض عليهم من أركان الإسلام إلا الشهادتان، حيث بقوا عشر سنين قبل أن تفرض عليهم الصلاة، أما الذين أسلموا في سنة ثمان من الهجرة فقد أسلموا بعد أن تمت شرائع الإسلام، فصاروا يصلون ويزكون ويصومون ويجاهدون ويحجون ويعلمون ويعملون ويتعلمون القرآن ويقرءونه، فأعمالهم أكثر من أعمال الأولين الذين اقتصروا على التوحيد وعلى الإخلاص، فهذا دليل على تفاوت الإيمان بكثرة الأعمال، وهذه وجهة لبعض العلماء في زيادة الإيمان: أن المراد بها: زيادة الأعمال وكثرتها. ومثل الشارح بمن بلغته الشريعة فآمن بها، ولم تبلغه تفاصيلها كالنجاشي ملك الحبشة، فإنه لما أسلم لم تبلغه تفاصيل الشريعة من أركان الإسلام والمحرمات في الدين، وكذلك ما سمع من القرآن إلا بعضه، ولم يعمل به كله، فإيمانه بحسب ما وصل إليه من الأركان ومن الأحكام، فهو أقل نسبياً من الذين حضروا التنزيل فآمنوا به مفصلاً، وعملوا به عملاً كاملاً، فهؤلاء أكثر عملاً، فهم أقوى إيماناً وأزيد، هكذا فسر بعض العلماء الزيادة بكثرة الأعمال. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 5 التصديق الذي في القلب يتفاوت التصديق الذي في القلب يتفاوت، فقد عرفنا خبر صاحب البطاقة الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يدعى وله تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، مكتوب فيها سيئاته، لا يدرك أعلاه البصر؛ فيعترف بذلك كله، ثم يخرج له بطاقة صغيرة مكتوب فيها الشهادتان، فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة، فتطيش السجلات وتثقل البطاقة؛ لماذا؟ لأن هذه الشهادة صدرت من صميم قلبه، صدرت وهو موقن بها يقيناً صادقاً وإيماناً قوياً، فلما قالها بهذه النية وبهذه العقيدة محت جميع ما سبقها، وكفرت السيئات كلها، وأحرقتها إحراقاً مزيلاً لأثرها، فلم يبق لها جرم تزن به، فكانت هذه الشهادة هي التي ثقلت بتلك الأعمال. واستدل الشارح بقصة الرجل من بني إسرائيل الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً، ثم سأل: هل له من توبة؟ فأفتاه عابد بأنه لا توبة له، فقتله وتمم به المائة، ثم سأل بعد ذلك فدله العالم على قرية بها أناس صالحون، فجاء إليها مهاجراً فاراً بدينه، فأدركه الموت وهو في الطريق، فلما أدركه الموت كان من محبته لتلك القرية أن أخذ ينأى بصدره ويقرب إليها، فكان فعله هذا دليلاً على قوة إيمانه وقوة تصديقه؛ مما جعله يلحق بأهل تلك القرية وتقبل توبته، فهذا دليل على أن الإيمان إذا كان قوياً في القلب ظهرت آثاره وظهرت علاماته. واستدل -أيضاً- بقصة امرأة بغي -يعني: زانية- كانت تكثر من الزنا، ثم إنها تابت، ولما رأت كلباً يلهث على ركية يكاد يموت عطشاً، نزعت موقها -يعن: خفها- وملأته ماءً وسقت ذلك الكلب، فشكر الله لها فغفر لها، وذلك دليل على أن رحمتها بهذه البهيمة ورجاءها من الله المغفرة هو الذي حملها على ذلك، فتعلق قلبها بربها أنه الذي يثيبها على هذا العمل، فكان هذا العمل الصادق الخالص نابعاً من إيمان قوي وتصديق ثابت، فأصبح مكفراً لهذه السيئات التي سبقت. وبكل حال: فالأعمال التي تكون على البدن، إذا كان البدن عاملاً بها زاد الإيمان الذي في القلب، وزاد الإيمان الذي هو من مسمى الإيمان، فإن تكلم بكلمة من الخير زاد إيمانه، وإن تكلم بكلمة شر أو سوء نقص إيمانه، وإذا أنفق لله تعالى درهماً أو ديناراً أو شيئاً يبتغي به وجه الله زاد إيمانه، وإن أنفقه فيما يسخط الله من لهو وباطل وكفر وضلال نقص إيمانه، وإن مشى خطوات إلى ذكر وإلى مسجد وإلى علم وإلى عبادة من العبادات زاد إيمانه، وإن مشى خطوة أو خطوات إلى لهو وباطل ولعب ومعصية من المعاصي وما أشبهها فمشيه هذا ينقص إيمانه. ومعلوم أن الصلوات تزيد الإيمان، وأن أكل الحرام ينقص الإيمان، وأن النكاح الحلال بالنية يزيد الإيمان، والنكاح الحرام ينقص الإيمان، وكذلك الكسب الحلال والنفقة منه يزيد الإيمان، والكسب الحرام والنفقة منه ينقص الإيمان، ويقال كذلك في الكلام السيئ والكلام الحسن: فالذكر بأنواعه والدعاء والأمر بالخير وتعلم العلم وتعليمه يزيد به الإيمان، وتعلم الباطل والسوء والكلام السيئ والسباب والشتائم ونحوها ينقص الإيمان وهكذا. فعلى المسلم أن يتفقد نفسه ويتفقد أعماله، ويحرص على أن يكون في زيادة لا في نقصان. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 6 الفرق بين لفظ (التصديق) و (الإيمان) فيما يتعلق بخبر الغيب والشهادة لا يستعمل بدل كلمة الإيمان التصديق، والدليل عليه قوله تعالى في سورة العنكبوت: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] ، مع أن التصديق يتعدى بـ (الباء) ، فيقال: صدقت به، ولا يقال: صدقت له. وأنت حين تتكلم عن شخص تقول: صدقت فلاناً، وصدقت بخبره، ولا تقول: صدقت له، فكذلك قوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ} [يونس:83] (آمن لموسى) ولم يقل: فما آمن به؛ لأن المراد: اتبعوه وعملوا بما جاء به، فهذا دليل على أن الإيمان أصبح مغايراً للتصديق، وليس مرادفاً له، فعرف بذلك أن الاستدلال بأن الإيمان في اللغة: هو التصديق، لا يصلح دليلاً على أن الأعمال ليست من مسمى الإيمان. قال الشارح رحمه الله: [فالحاصل أنه لا يقال: قد آمنته، ولا صدقت له. إنما يقال: آمنت له، كما يقال: أقررت له، فكان تفسيره بـ (أقررت) ، أقرب من تفسيره بـ (صدقت) ، مع الفرق بينهما؛ لأن الفرق بينهما ثابت في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب، يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال له: كذبت. فمن قال: السماء فوقنا. قيل له: صدقت. وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب، فيقال لمن قال: طلعت الشمس: صدقناه، ولا يقال: آمنا له، فإن فيه أصل معنى الأمن والائتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب، فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبِر، ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ (آمن له) إلا في هذا النوع. ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق، وإنما يقابل بالكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق، ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك؛ لكان كفراً أعظم، فعلم أن الإيمان ليس التصديق فقط، ولا الكفر هو التكذيب فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب، فكذلك الإيمان، يكون تصديقاً وموافقة وانقياداً، ولا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان. ولو سلم الترادف فالتصديق يكون بالأفعال أيضاً، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العينان تزنيان، وزناهما النظر، والأذن تزني، وزناها السمع -إلى أن قال:- والفرج يصدق ذلك ويكذبه) . وقال الحسن البصري رحمه الله: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في الصدور وصدقته الأعمال) . ولو كان تصديقاً فهو تصديق مخصوص كما في الصلاة ونحوها كما قد تقدم، وليس هذا نقلاً للفظ ولا تغييراً له، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص، وصفه وبينه. فالتصديق -الذي هو الإيمان- أدنى أحواله أن يكون نوعاً من التصديق العام، فلا يكون مطابقاً له في العموم والخصوص، من غير تغير اللسان ولا قلبه، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق. ولأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح، فإن هذه من لوازم الإيمان التام، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم. ونقول: إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة، وتخرج عنه أخرى، أو إن اللفظ باق على معناه في اللغة، لكن الشارع زاد فيه أحكاماً، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية، مجاز لغوي، أو أن يكون قد نقله الشارع، وهذه أقوال لمن سلك هذا الطريق] . كل هذا من البيان والإيضاح للفرق بين التصديق والإيمان، وأنهما ليسا مترادفين من كل جهة، ولو كانا مترادفين في اللغة فإنهما غير مترادفين في الشرع، فمعلوم أن التصديق ضده التكذيب، يقال: صادق أو كاذب، ويقال: صدقته أو كذبته، فالتصديق ضده التكذيب. أما الإيمان فليس ضده التكذيب، بل ضده الكفر، فيقال: آمن أو كفر، مؤمن وكافر، فأصبح له ضد غير التصديق، فدل على أنه ليس هو التصديق من كل جهة، والذين قالوا: الإيمان والتصديق معناهما واحد، يقال لهم: قد دلت اللغة على التفريق بينهما كما في الأمثلة التي ذكرها الشارح، فإذا قال: طلعت الشمس. قيل: صدقت، أو كذبت. ولا يقال: آمنت به، ولا آمنا بخبره، بل يقال: صدقناه، وأصبح الإيمان اسماً للإيمان بالشيء الغائب؛ لأن الله أخبر بذلك في قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] أي: يجزمون به ويعتقدونه وإن كان غائباً لم يروه إلى آخر ما ذكره الشارح. وبكل حال: فالإيمان في الأصل وفي اللغة: هو التصديق، ولكن نقله الشارع من اللغة، وجعله مسمى شرعياً، فأصبحت الأعمال من مسمى الإيمان، فمن آمن باللسان، وصرح بسب الدين، وبسب الله، وبسب الرسل، وبكلمات الكفر -ونحو ذلك- وهو مع ذلك يدعي أو يزعم أنه من أهل الإيمان، وأن قلبه مؤمن؛ لم نصدقه في ذلك، بل عاملناه بما يقول؛ وذلك لأنا نعمل بالظاهر، كما روي (أنه صلى الله عليه وسلم استأذنه رجل في قتل بعض المنافقين، فقال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: يشهد، ولا شهادة له. قال: أليس يشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: يشهد، ولا شهادة له. قال: أليس يصلي؟ قال: يصلي، ولا صلاة له. قال: أولئك الذين نهيت عن قتلهم) يعني: أنه أمر بأن يعمل بالظاهر. ولما استأذنه خالد بن الوليد أن يقتل ذا الخويصرة الذي قال: (اعدل يا محمد! فقال: ألا نقتله؟ قال: لعله يصلي. فقال: وكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) يعني: أننا إنما نعامله بما يظهر منه، فلأجل ذلك إذا قال بعضهم: إن قلبي ممتلئ إيماناً، إن قلبي مؤمن. قلنا له: صدق هذا الإيمان بعلامة عليه وهو العمل، فإنه من مكملاته، فإذا لم تعمل، بل خالفت ما تقوله بما تعمله كذبناك، ولم نقبل قولك، فلو كنت صادقاً لعملت، كيف تزعم أنك تحب الله وتحب الرسول وتحب الشريعة والإسلام، ومع ذلك لا تأتي بعلامة على هذه المحبة؟! تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا عجيب في الفعال بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع والأثر الذي روي عن الحسن مشهور، وهو أنه قال: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال) ، فنفى أن يكون بالتحلي، يعني: الحلة الظاهرة كاللباس أو الهيئة أو الشعور أو المظهر أو المقال أو السكنى فيما بين المسلمين أو نحو ذلك، وكذلك التمني، يعني: الألفاظ، يقول: أنا مؤمن، أنا من أهل الإيمان، ويمدح بذلك نفسه، ليس ذلك هو حقيقة الإيمان، الإيمان في الحقيقة هو ما امتلأ به القلب، ثم ظهرت آثاره على الأعمال، أي: صدقته الجوارح بأعمالها. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 7 من استكمل خصال الإيمان استكمل إيمانه الإيمان الذي يكون في القلب، ويكون في البدن، هما ملازمان، وكذلك الذي يكون باللسان، والذي يكون بالأركان هما متلازمان، وكلاهما من خصال الإيمان، فمن استكملها استكمل الإيمان، كما ذكر ذلك البخاري عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: (إن للإيمان شروطاً وخصالاً وخصائص، من استكملها استكمل الإيمان، ومن أخل بها نقص منه الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص) ، هذا كلام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. ولا شك أنه أخذ ذلك عن الصحابة، فهو عرف أن الإيمان لا يكفي فيه الانتماء والتسمي، فله شروط، وله مكملات، وله آثار، وله أعمال، فلابد أن المؤمن يأتي بها ويستكملها؛ حتى يكتب بذلك مؤمناً حقاً. فهكذا يكون المؤمنون الذين لا يفرقون بين الله ورسله، ولا يردون شيئاً من شريعته، هؤلاء هم المؤمنون حقاً. وقد عرفنا أن عقيدة أهل السنة أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأنه لا يكون مؤمناً إذا لم يعمل؛ وذلك لأن الإيمان الذي في القلب تظهر آثاره على الأعمال، فالأعمال إيمان كما أن الاعتقاد إيمان، وكما أن الأذكار اللسانية إيمان، وكما أن النفقات في وجوه الخير إيمان، وكما أن الأعمال الخيرية كلها وخصال الخير وخصال الدين كلها من الإيمان، فالكفر له شعب، والإيمان له شعب، فيقال: إن السباب والشتم واللعن من خصال الكفر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) ، فجعل الأعمال المحرمة كفر، وقال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة) ، فجعلها كفراً، أي: من خصال الكفر، فخصال الكفر تسمى كفراً، وخصال الإيمان تسمى إيماناً. والعبد يحرص على أن يجمع خصال الخير كلها حتى يكون مؤمناً حقاً: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4] ، من الذين يزهد في هذا الثواب كله؟! فالمؤمن يحرص على أن يكون مؤمناً حقاً حتى يحصل له هذا الثواب. كذلك الذين زعموا أن الأعمال ليست من الإيمان، وجعلوا الإيمان مقتصراً على العقيدة وعلى الكلام -كما هو مذهب الأحناف- لا شك أن قولهم فيه خلل، وقد ذكرنا فيما سبق أنهم لما اعتقدوا هذه العقيدة ضعف قدر الإيمان الذي في قلوبهم، فصاروا يكتفون بما في القلب وبما في اللسان، ولا يعدون الأعمال من مسمى الإيمان، فيضعف تنافسهم في الخيرات، ولا يبالي أحدهم بما ارتكب من السيئات والخطيئات، فيقعون في الذنوب ولا يشعرون، أو يظنون أنها لا تنافي إيمانهم، أو أنها لا تنقص ثوابهم، وكذلك يزهدون في الأعمال الخيرية من الحسنات والقربات وسائر الطاعات، ويظنون أنها لا يكون لها تأثير في إيمانهم ولا في قرباتهم ولا في أعمالهم، فكان ذلك سبباً في نقص تنافسهم في الخيرات. أما أهل السنة فإنهم لما عرفوا أن الأعمال من الإيمان صاروا يتنافسون في كثرة الخصال الخيرية، وصاروا يعملون الأعمال الدينية، وصاروا يكثرون من الحسنات، ويتقون السيئات والمخالفات، فصاروا بذلك في أعلى المراتب، وقد مر بنا كثير من أقوالهم التي يتعللون بها، ولكنها لا تصلح مستنداً. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 8 شرح العقيدة الطحاوية [44] الأدلة على زيادة الإيمان أكثر من أن تحصى من القرآن والسنة، وقد استدل المخالفون لهذه العقيدة بأدلة متشابهة، وقد بين العلماء فساد استدلالهم بها. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 1 خلاف أهل السنة والحنفية في زيادة الإيمان ونقصانه قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جداً؛ منها: قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] ، وقال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76] ، وقال تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] ، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] . وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها: إن الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به؟ فهل في قول الناس: (قد جمعوا لكم فاخشوهم) زيادة مشروع؟! وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟! وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم الحديبية ليزدادوا طمأنينة ويقيناً، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} [آل عمران:167] . وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124-125]] . الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وهذه الجملة (يزيد وينقص) محل خلاف بين أهل السنة وبين الحنفية وكذلك غيرهم من المبتدعة، فإنهم كالمرجئة والجهمية لا يرون الأعمال من مسمى الإيمان، ولا يرون زيادة الإيمان ولا نقصه، ويعتقدون أن أهله في أصله سواء، وأن تفاضلهم إنما هو بالدرجات في الآخرة، أو بالأعمال، وإلا فالأعمال عندهم زائدة عن الإيمان، ويرون أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، هكذا قالوا. وأهل السنة يرون أن الإيمان يزيد وينقص، وقد ذكرنا فيما سبق أن على الإنسان أن يحرص على زيادة إيمانه، وأن الكلمة الطيبة تزيد إيمانه، والكلمة الخبيثة تنقص إيمانه، والدرهم الذي ينفقه في سبيل الله وفي وجوه الخير يزيد به إيمانه، وإذا أنفقه في المعاصي نقص إيمانه، والخطوات التي يسيرها إلى الخير وإلى أماكن الخير كالمساجد ونحوها تزيد إيمانه، وإذا خطا إلى اللهو وإلى اللعب وإلى الباطل نقص بذلك إيمانه وهكذا بقية الأعمال. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 2 توضيح أدلة زيادة الإيمان ونقصه الآيات التي ذكر المؤلف فيها دلالة واضحة على أن الإيمان يزيد وينقص، حيث أثبت الله فيها الزيادة، وكل شيء يقبل الزيادة فهو يقبل النقصان، ففي سورة آل عمران قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173] ، لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه بعد وقعة أحد يريد اللحاق بالمشركين، جاءهم نعيم بن مسعود أو رجل من خزاعة وقال: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. يعني: أن المشركين قد جمعوا لكم، ويريدون أن يرجعوا إليكم ويقتلوا من بقي منكم، فاخشوهم، وهذه المقالة ليس فيها زيادة أعمال، ولا فيها زيادة تشريع، ولا فيها زيادة حكم، فكيف زادتهم إيماناً؟ {قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] وقوي إيمانهم بها، وكثر عملهم، وصمدوا فيما جاءوا له، وتوجهوا في طلب المشركين، جادين في اللحاق بهم، مع ما أصابهم من القرح كما قال الله تعالى بعد أن ذكر الشهداء: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران:171-172] أي: المصيبة التي نزلت بهم وأصيبوا بها في أحد {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:172-173] . كذلك الآيات التي في آخر سورة التوبة: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:124-125] ، كيف زادتهم إيماناً؟ عملوا بما فيها، هذه السورة أو هذه الآيات طبقوها وعملوا بما فيها، وكذلك اعتقدوا مدلولها؛ فزاد إيمانهم، فهذا دليل واضح على أن الإيمان يزيد وينقص. كذلك قوله تعالى في سورة محمد: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] ، والهدى لا شك أنه زيادة إيمان وطمأنينة. كذلك قوله تعالى في سورة الفتح: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} [الفتح:4] ، لما رجعوا من غزوة الحديبية أنزل الله عليهم الطمأنينة، وأنزل في قلوبهم السكينة، فزاد إيمانهم، وكثرت أعمالهم، فهذه أدلة واضحة على أن الإيمان يزيد، ولا شك أنه إذا كان يقبل الزيادة فإنه يقبل النقصان؛ فلذلك قال أهل السنة: إنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وإذا عرف المسلم ذلك حرص على ما يزيد إيمانه ويقويه ويثبته ويرسخه، وهو إيمانه بما أخبر الله به، وكذلك تتبعه لآيات الله، ونظره في مخلوقاته، مما يرسخ الإيمان في قلبه ويقويه، كذلك يكثر عمله وتطبيقه لما جاءه في هذه الشريعة، وذلك كله مما يزيد به إيمانه. وإذا عرفت ما يزيد فإن ضد ذلك ما ينقص، فاعرف الأشياء التي يزيد بها إيمانك فاعمل بها، واعرف ضدها من المعاصي التي تنقص إيمانك، فابتعد عنها. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 3 ضعف الأحاديث التي تدل على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص قال الشارح رحمه الله: [وأما ما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية فقال: حدثنا محمد بن الفضل وأبو القاسم الساباذي قالا: حدثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضل بن العابد قال: حدثنا يحيى بن عيسى قال: حدثنا أبو مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة قال: (جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: لا؛ الإيمان مكمل في القلب، زيادته كفر، ونقصانه شرك) ؛ فقد سئل شيخنا عماد الدين ابن كثير رحمه الله عن هذا الحديث فأجاب: بأن الإسناد من أبي ليث إلى أبي مطيع مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة. وأما أبو مطيع فهو: الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي، ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعمرو بن علي الفلاس والبخاري وأبو داود والنسائي وأبو حاتم الرازي وأبو حاتم محمد بن حبان البستي والعقيلي وابن عدي والدارقطني وغيرهم. وأما أبو المهزم -الراوي عن أبي هريرة - فقد تصحف على الكتاب، واسمه: يزيد بن سفيان، فقد ضعفه أيضاً غير واحد، وتركه شعبة بن الحجاج، وقال النسائي: متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع، حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً!] . هذا الحديث باطل، وضعه بعض الوضاعين، ورجال إسناده كلهم إما مجهول، وإما كذاب، وإما ضعيف، فلا يلتفت إليه، وليس بدليل. ثم هو مصادم للنصوص، فإذا كان الآيات تدل على الزيادة فكيف يأتي الحديث بأنه لا زيادة؟! إذا كان الله يقول: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] ، {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} [الفتح:4] ، {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76] ، {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173] ، كيف مع ذلك يأتي هذا الحديث ويكون من قول النبي صلى الله عليه وسلم؟! الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخالف كتاب ربه، ولا يأتي إلا بما أوحي إليه، وقد أوحي إليه أن الشريعة فيها أعمال، وأن أعمالها إذا عمل بها العباد زاد بذلك إيمانهم، فلا يقول قائل: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، معتمداً على هذا الحديث الضعيف أو المكذوب. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 4 أدلة أخرى من الحديث وكلام الصحابة تدل على نقص الإيمان قال الشارح رحمه الله: [وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) . والمراد: نفي الكمال، ونظائره كثيرة، وحديث شعب الإيمان، وحديث الشفاعة، وأنه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فكيف يقال بعد هذا: إن إيمان أهل السماوات والأرض سواء، وإنما التفاضل بينهم بمعان أخر غير الإيمان؟! وكلام الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى كثير أيضاً: منه قول أبي الدرداء رضي الله عنه: (من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص) . وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه: (هلموا نزدد إيماناً، فيذكرون الله تعالى عز وجل) . وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: (اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً) . وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرجل: (اجلس بنا نؤمن ساعة) . ومثله عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه. وصح عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: (ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم) ، ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه. وفي هذا المقدار كفاية، وبالله التوفيق] . هذه أدلة واضحة تدل على تفاوت أهل الإيمان في إيمانهم، لا كما يقول المبتدعة: إن الناس سواء في الإيمان، وإنهم لا يتفاوتون إلا بمعان أخرى. والنبي صلى الله عليه وسلم ينفي الإيمان عمن فعل بعض المعاصي، ويفسره العلماء بأن المراد: نفي كماله، إذا قال مثلاً: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) هل يقال: إن من لم يأمن جاره بوائقه كَفَر؟ لا؛ بل نقول: إيمانه ناقص. إذا قال مثلاً: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) هل نقول: إذا لم يحب لأخيه ما يحبه لنفسه فهو كافر؟ لا؛ ولكن نقول: إنه لم يؤمن الإيمان الكامل؛ وذلك لأن الإيمان يتفاوت أهله فيه، فيكون منهم من هو كامل الإيمان، ومنهم من هو ناقص الإيمان، فهذا كمال، وهو استيفاء هذه الخصال ونحوها. وكذلك الأحاديث التي فيها حث النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يفعل خصالاً، كقوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ، المعنى: أن هذه من خصال المؤمن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، فيدل على أن من لم يفعلها فإنه ناقص إيمانه بالله وباليوم الآخر. وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم) معلوم أنها تؤمن، ولكن سفرها يكون نقصاً في إيمانها، لا أنه نفي للإيمان كله. وقوله: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج) ، معلوم أنه لا يخاطب إلا من هي مؤمنة، ولكن إذا أحدت على أبيها -مثلاً- أكثر من ثلاث، لم تخرج بذلك عن الإيمان بالله واليوم الآخر، ولكن يكون هذا نقصاً في الإيمان. ويقال كذلك في الخصال التي ذكر فيها الإيمان. ولا شك أن هذا دليل على أنه أهله يتفاوتون، فمن استكمل هذه الخصال وابتعد عن الآثام فهو كامل الإيمان، وإلا فهو ناقص بحسب الأعمال التي أخل بها، أو المعاصي التي ارتكبها. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 5 تفاوت الإيمان في القلب أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان الذي في القلب يتفاوت في حق من يدخل النار في قوله: (إن الله يقول لملائكته ولرسله: أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله، ومن كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان، ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال درهم، ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال برة، ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال أدنى أدنى ذرة من إيمان) . وأخبر في حديث آخر أن الإيمان في قلوب أصحابه أثقل من الجبال يعني: أرسى من الجبال. أليس كل هذا يدل على أن الإيمان الذي في القلب يتفاوت؟! لا شك أنه كلما كان الإيمان أقوى كانت آثاره أكبر، وكانت الأعمال التي تنتج منه أكثر نتيجة وأكثر عملاً، فإن الإيمان إذا كان مثل الجبل كثرت الأعمال، ودفع البدن إلى الأعمال، وإذا كان ضعيفاً قلت الأعمال الخيرية، وتكثر السيئات أو تقل بحسب قوة الإيمان الذي في القلب، وبحسب ضعفه، وتكون هذه الأعمال علامة على ما في القلب، فتكون إيماناً. كذلك -أيضاً- ثبت أن السلف رحمهم الله كانوا يسمون الأعمال إيماناً، كما في هذه الآثار عن بعض الصحابة، ومنها: أن عمر ومعاذاً وابن رواحة كانوا يقولون: اجلس بنا نؤمن ساعة أو يقولون: نزدد إيماناً أو: هلم فلنزد إيماننا أو: هلم فلنعمل أعمالاً يقوى بها إيماننا ويزيد إيماننا، كيف يزيد؟ يقولون مثلاً: إذا ذكرنا الله، وحمدناه وشكرناه، وأطعناه وعبدناه، زاد بذلك إيماننا، كلما عملنا عمل بر وعملاً صالحاً زاد بذلك نصيبنا من الإيمان، وكثر الإيمان الذي عملناه، فكثرته يحصل بها ثقل الموازين، ويحصل بها خفة الحساب في الآخرة، ويحصل بها السعادة، ويحصل بها إعطاء الكتاب باليمين، ويحصل بها -أيضاً- التمكين من الورود على الحوض، وسرعة المسير على الصراط عندما ينصب، ثم دخول الجنة بسلام كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام. وذكر البخاري عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه كتب إلى بعض عماله: (أن للإيمان شرائط ومكملات وأموراً من فعلها فقد استكمل الإيمان، ومن تركها فقد أخل أو نقص إيمانه، يقول عمر بن عبد العزيز: فإن أعش فسأبينها لكم، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص) ، ولا شك أنه لا يخبر بأن للإيمان مكملات، وله شرائط، وله نتائج، وله ثمرات؛ إلا وقد أخذ ذلك عن الصحابة، فإنه تلميذ الصحابة، والصحابة أخذوا ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وعن كتاب ربهم، فعرفنا بذلك أن الإيمان لابد أن يستكمل حتى يزيد في أصحابه، وحتى تكون نتيجته السعادة الأبدية. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 6 وجه اقتران الإيمان بالعمل الصالح قال الشارح رحمه الله: [وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة، فلا يكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان، فلا شك أن الإيمان تارة يذكر مطلقاً عن العمل وعن الإسلام، وتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام، فالمطلق مستلزم للأعمال، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] ، وقال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:81] . وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث، (لا تؤمنوا حتى تحابوا) ، (من غشنا فليس منا) ، (من حمل علينا السلاح فليس منا) ، وما أبعد قول من قال: إن معنى قوله: (فليس منا) أي: فليس مثلنا! فليت شعري فمن لم يغش يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه!. أما إذا عطف عليه العمل الصالح، فاعلم أن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع الاشتراك في الحكم الذي ذكر لهما، والمغايرة على مراتب: أعلاها: أن يكونا متباينين، ليس أحدهما هو الآخر، ولا جزءاً منه، ولا بينهما تلازم، كقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] ، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [آل عمران:3] ، وهذا هو الغالب. ويليه: أن يكون بينهما تلازم، كقوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42] ، وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92] . الثالث: عطف بعض الشيء عليه، كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] ، وكقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98] ، وكقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ} [الأحزاب:7] . وفي مثل هذا وجهان: أحدهما: أن يكون داخلاً في الأول، فيكون مذكوراً مرتين. والثاني: أن عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلاً فيه هنا، وإن كان داخلاً فيه منفرداً، كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين ونحوهما، تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران. الرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين، كقوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3] وقد جاء في الشعر العطف لاختلاف اللفظ فقط، كقوله: فألفى قولها كذباً وميناً. ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] ، والكلام على ذلك معروف في موضعه] . الجزء: 44 ¦ الصفحة: 7 الجواب عن استدلال الحنفية بعطف العمل على الإيمان في قولهم بأن العمل ليس من الإيمان هذا جواب عما استدل به الحنفية من عطف العمل على الإيمان، فيقولون في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227] : لو كانت الأعمال من الإيمان ما عطفت عليه، فعطفها عليه يقتضي أنها ليست من الإيمان، بل هي غيره، فالإيمان عندهم هو ما في القلب، والأعمال شيء زائد على الإيمان. هكذا قرروا هذا الدليل. ومر بنا جواب الشارح، وكذلك أجاب غيره، حيث ذكر أن الإيمان تارة يكون مستقلاً، يعني غير معطوف عليه بشيء، وتارة يعطف عليه، فمثلاً قوله تعالى في سورة الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] ، هذا تفسير للمؤمنين بأنهم أهل هذه الخصال، ومثله قوله تعالى في سورة السجدة: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة:15] ، فهذا دليل على أن هؤلاء هم المؤمنون، ويكون من إيمانهم هذا السجود والتسبيح ونحوه. وكذلك قال في سورة الحجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] ، فهذا تفسير الإيمان، وأشباه ذلك كثير، يذكر الله فيها الإيمان، ويذكر أن الأعمال داخلة فيه، فمثل هذا يبين الإيمان الحقيقي، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إلخ، أي: هؤلاء هم المؤمنون، ويقول بعدها: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4] . إذاً: هذا معنى من المعاني يكون فيه الإيمان مستقلاً غير معطوف على شيء. أما إذا عطفت عليه بعض الأعمال فذكر الشارح أن العطف له عدة حالات، فتارة يقتضي العطف التغاير، أي: أن الثاني غير الأول، وهذا هو الكثير فيما إذا عطف بعضها على بعض، مثل قوله: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [البقرة:277] ، فإن الزكاة غير الصلاة، فهي عطفت عليها للمغايرة. كذلك من أنواع العطف: العطف لأجل التنويع، مثل قوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] ، هل هناك فرق بين الخلق والجعل في هذه الآية؟ لا، فالعطف هنا للتنويع لا للتغاير. كذلك من أنواع العطف: أن الشيء قد يعطف على بعضه، فيذكر مجملاً، ثم يذكر بعض التفصيل فيه، ومن الآيات التي في هذا -وهي كثيرة- قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98] فـ (جبريل وميكال) داخلان في الملائكة، فلماذا عطفا؟ للتنويع، أو لبيان السبب. ومثله قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب:7] من النبيين كلهم، {وَمِنْكَ} [الأحزاب:7] أليس محمد صلى الله عليه وسلم (من النبيين؟!) {وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7] لم خص هؤلاء؟ هذا عطف بيان، وليس عطف تنويع. ومن العطف -أيضاً-: الآية التي ذكرت في سورة المائدة، وهي قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] الشرعة والمنهاج واحد، فالعطف هنا للترادف، وذكر -أيضاً- قول الشاعر: فألفى قولها كذباً وميناً. الكذب والمين واحد، فالعطف هنا عطف بيان أو عطف إيضاح. إذاً: فقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227] العطف هنا عطف بيان، لا أنه عطف مغايرة، فبذلك يعرف أنه ليس في هذه الآيات ما يدل على أن الأعمال ليست من مسمى الإيمان. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 8 شرح العقيدة الطحاوية [45] العمل يدخل في مسمى الإيمان، فهو شطر منه، وقد اختلف الناس في مسمى الإيمان، وفي التفريق بينه وبين الإسلام، وقد بين أهل السنة الحق في ذلك كله معتمدين على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 1 بيان أن الأعمال من الإيمان وأنه يزيد وينقص مر بنا في العقيدة زيادة الإيمان ونقصانه، ودليل ذلك من الكتاب والسنة، وأنه قول أهل السنة والجماعة، والأدلة على ذلك، وفائدة الإيمان بزيادة الإيمان ونقصانه، وفائدة اعتقاد ذلك، والنقص والخلل الحاصل في إيمان من أنكر ذلك. من اعتقد أن الأعمال من مسمى الإيمان فإنه يحرص على استكثار الأعمال الصالحة، ومن اعتقد أن الإيمان يزيد بالطاعة حرص على الاستكثار من أنواع الطاعات، ومن عرف أن إيمانه ينقص بالمعاصي ابتعد عن كل المعاصي حتى لا ينقص بها إيمانه؛ وذلك لأنه يحس أو يستحضر أنه كلما نقص إيمانه بسبب معصية ضعف يقينه، ونقص حظه من الآخرة ومن الأجر، فهو يبتعد عن هذه الآثام التي تكون سبباً في نقص الإيمان. لا شك أن الإيمان إذا كان يقبل الزيادة فإنه يقبل النقصان، وقد ذكرنا بعض الأدلة التي تدل على زيادة الإيمان، والأمثلة التي تكون سبباً في زيادة الإيمان وفي نقصه، وأن الإنسان إذا استحضر أنه بالكلمة الطيبة يزيد إيمانه، وبالكلمة الخبيثة ينقص إيمانه، وبالنفقة في وجوه الخير يزيد إيمانه، وبالنفقة لغير الله ينقص إيمانه، وبسماع كلام الله وبسماع الخير ونحوه يزيد إيمانه، وبسماع اللغو واللهو والإثم ونحو ذلك ينقص إيمانه، وبالخطوات التي يخطوها إلى عبادة أو إلى مكان عبادة يزداد إيمانه، وبالخطوات التي يخطوها إلى إثم أو محرم ينقص إيمانه؛ من استحضر مثل هذا في جميع أعماله فإنه ولابد سيكون منتبهاً في كل لحظة، وفي كل عمل، إذا أراد أن يتكلم لم يقدم على الكلام إلا بعد أن يتحقق أنه خير، وأنه زيادة في إيمانه، وأنه يكتب له به حسنات، فيقدم عليه، وإذا أراد أن يتوجه إلى طريق وإلى مسير تفكَّر: هل له فيه خير؟ وهل هو إيمان أو كفر؟ وهل هو من شعب الإيمان أو من شعب الكفر؟ فلا يقدم إلا بعدما يتحقق أنه عمل بر وخير وهكذا في بقية الأحوال. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 2 الرد على شبهة القائلين بأن العمل ليس من الإيمان قد يقول قائل: كيف تكون الأعمال من الإيمان وهي تعطف عليه كما في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227] فإنه يفهم منه: أن الأعمال زائدة على الإيمان؟ الجواب أن هذا العطف من عطف البيان، وعطف البيان مشهور عند العرب، فيعطف على أنه بيان لما قبله وإيضاح له وتقوية له، كأنه يؤكد أنهم متى آمنوا فإنه يزيد إيمانهم بهذه الأعمال الصالحة فيكثِّرونها، والله تعالى كثيراً ما يذكر الأعمال الصالحة ويفصل فيها، فمثلاً سورة (قد أفلح المؤمنون) ذكر الله فيها عشر صفات، أولها: الخشوع في الصلاة، وآخرها: المحافظة على الصلاة، وإذا تأملنا هذه الصفات التي أولها الإيمان وجدناها كلها متفرعة من الإيمان، وصفهم بأنهم مؤمنون، وكأنه قيل: وما هي أعمالهم؟ فقال: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] إلى آخرها، فهذا بيان بأنهم مؤمنون حقاً، وأنهم يدفعهم إيمانهم إلى فعل هذه الأشياء، فمن استكملها فهو منهم، ومن أخل بشيء منها فقد أخل بالإيمان أو قد نقص إيمانه. وبهذا يعرف أن الإيمان يتفاوت أهله فيه، فيزيد بعضهم على بعض، فالذين يصلون ولكنهم لا يخشعون في صلاتهم أنقص إيماناً من الخاشعين في صلاتهم، والذين يصلون ولكن لا يحافظون على الصلاة جماعة، بل يتكاسلون عن الجماعة أحياناً أنقص من الذين يحافظون عليها، وكذلك الذين يعرضون عن اللغو كلياً وعن مجالس اللغو، كما قال الله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] أي: مبتعدون؛ أكمل من الذين لا يعرضون عنه، بل يجلسون مع أهله أو يسمعون لغوهم أو نحو ذلك، فدل على أن أهل الإيمان يتفاوتون وإن كانوا كلهم مؤمنين، ولكن من استكمل هذه الصفات فقد استكمل الإيمان، ومن أخل بشيء منها فقد نقص إيمانه، والنقص قد يأتي على الآخر، وقد يبقى معه بعض الشيء. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 3 اعتقاد ازدياد الإيمان ونقصه سبب للاستكثار من الطاعات اعتقاد الإنسان زيادة إيمانه بالطاعات سبب لاستكثاره من الطاعات، واعتقاده نقص إيمانه بالمعاصي سبب لاجتنابه المعاصي، فلك أن تذكر العاصي وتقول له: يا أخي! بصفتك مؤمناً تذكر أن أعمالك هذه تنقص إيمانك! أعمالك هذه التي أنت تستمر فيها حتى ولو كانت من صغائر الذنوب. إذا كنت في كل يوم -مثلاً- تجدد حلق لحيتك، أو تطيل ثيابك تكبراً وإعجاباً بنفسك، أو تتعاطى هذا الدخان وتشمه دائماً وتشربه، وتتهاون به، أو تسمع غناء وتزعم أنك ترفه عن نفسك وتتسلى، وأنت مصر على ذلك، ففي كل يوم ينقص جزء من إيمانك، وفي كل يوم تقدح في إيمانك وتقطع منه قطعة، وتجمع شعباً من شعب الكفر، ويزيد حظك من المعاصي وحظك من الكفر، أفلا تكون منتبهاً خائفاً أن هذا النقص وتواليه يضعف إيمانك، حتى لا يبقى منه إلا القليل، فما دمت في زمن الإمهال، فإن عليك أن تحرص كل الحرص على الأعمال التي يقوى بها إيمانك، ويضعف بها حظك من الكفر ومن المعاصي! وكذلك -أيضاً- تشجع أهل الطاعة، وتحثهم على الاستكثار منها، وتبشرهم بأنهم بكل خطوة يخطونها إلى المسجد يزيد إيمانهم، وبكل ركعة يركعونها من النوافل يزيد إيمانهم، وبكل آية يقرءونها يزيد إيمانهم، وبكل تهليلة وتكبيرة وتسبيحة، وبكل استغفار وبكل دعوة يدعون بها يزيد حظهم من الإيمان، ويقوى في قلوبهم، وكذلك تقوى أبدانهم بالإيمان، ويكثر نصيبهم من الأجر الذي رتب على الإيمان. إذاً: اعتقادنا أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فيه هذه الفوائد، والذين جعلوا الإيمان شيئاً واحداً، وأن الناس في أصله سواء، فاتتهم هذه الفوائد، فصاروا يعتمدون على أن إيمانهم كامل لا يتزعزع ولا يتغير ولا ينقص، فلا يبالون بالنقص من الحسنات، ولا يبالون بالاقتراف للسيئات، فيقعون في المعاصي، ويتهاونون بها، ويدعون أنها لا تضر، ولا تنقص إيمانهم؛ لأنها ليست من الأعمال، والإيمان إنما هو عمل القلب، وهذه إنما هي أعمال اللسان أو أعمال البدن. ويسبب هذا الاعتقاد السيء تهوينهم على أنفسهم أمر الذنوب، وتهوينهم على غيرهم الوقوع في المعاصي، فيقعون فيما حذر الله تعالى منه وهم لا يشعرون. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 4 أدلة دخول العمل في مسمى الإيمان قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] والكلام على ذلك معروف في موضعه. فإذا كان العطف في الكلام يكون على هذه الوجوه، نظرنا في كلام الشارع: كيف ورد فيه الإيمان فوجدناه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر، والتقوى، والدين، ودين الإسلام. ذكر في أسباب النزول أنهم سألوا عن الإيمان؟ فأنزل الله هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177] قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ والملائي قالا: حدثنا المسعودي عن القاسم قال: جاء رجل إلى أبي ذر رضي الله عنه فسأله عن الإيمان؟ فقرأ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:177] إلى آخر الآية، فقال الرجل: ليس عن هذا سألتك، فقال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ عليه الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلت لي، فلما أبى أن يرضى، قال: إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنه سرته ورجا ثوابها، وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها) وكذلك أجاب جماعة من السلف بهذا الجواب. وفي الصحيح قوله لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم) ، ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في مواضع أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان] . قد ذكرنا أن هذا الموضوع يسمى (أسماء الإيمان والدين) أو (أسماء الأحكام) ، وعرفنا أن هذه المسميات كانت مستعملة في اللغة، ولكن لها معان معروفة عندهم؛ لكن ليست هي المعاني الشرعية، فلأجل ذلك نقلها الشرع إلى هذه المسميات الخاصة. وقد ذكرنا أنهم يقولون مثلاً: الإيمان في اللغة كذا، وفي الشرع كذا، الإسلام لغة كذا وكذا، وفي الشرع كذا وكذا، التوحيد في اللغة كذا، والتوحيد في الشرع كذا، البر في اللغة كذا وكذا، والبر في لغة الشارع وفي لسان الشارع يراد به كذا وكذا، مثلاً: التقوى في اللغة مشتقة من التوقي، وهو الحذر من المخوف، وأما في لسان الشرع فهي توقي عذاب الله، وأن يجعل بينه وبين سخط الله وقاية وحاجزاً منيعاً، وذلك يكون بامتثال كل ما أمر، وتجنب كل ما نهى وزجر. وهكذا بقية التعاريف. أيضاً نقل أضدادها إلى مسميات شرعية، فالشرك له مسمى في اللغة ومسمى في الشرع، والفسوق له مسمى في اللغة ومسمى في الشرع، والذنوب لها مسمى في اللغة ومسمى في الشرع، والكفر له مسمى في اللغة ومسمى في الشرع وما أشبه ذلك. وهكذا -أيضاً- أسماء الأحكام: فالصلاة لغة كذا، وشرعاً كذا، والطهارة لغة كذا وكذا، وشرعاً كذا وكذا، والصوم والحج والجهاد والعمرة والزكاة وما أشبهها لها مسميات. فنقول: إن الإيمان أصله في اللغة التصديق، وشرعاً: التصديق الجازم بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، مع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأداء الخمس من الغنيمة، كما في الحديث، هذه أقوال وأعمال، أقوال لسانية وأعمال بدنية أو مالية، وكلها جعلها من الإيمان؛ ولكن لابد معها من الإيمان الذي هو العقيدة، لابد أن يكون القلب قد عقد عليها، وإلا فلا تنفع، فإن الأعمال بدون إيمان القلب لا تفيد، فبذلك يعرف أن الشرع أضاف إليها إضافات أصبحت من مسمياتها، حيث فسر الإيمان بهذه الأعمال. وقد ثبت في الصحيح أنه فسر بها الإسلام، فإنه لما سئل عن الإسلام فسره بالأعمال الظاهرة، وهي أركانه الخمسة، وفسر الإيمان بأعمال القلب، وهو الإيمان بالغيبيات وأركانه الستة، ومراده: أن هذا أصله التصديق بالأمور الغيبية وهي هذه الأركان، ومع ذلك لابد أن يكون له مكملات ومتممات، وهي بقية الأعمال البدنية. فيقال: البر في اللغة: الصدق، والبار: الصادق، وقد قالوا: البر هو طاعة الوالد، كما يقال: أوصيك ببر الوالدين يعني: طاعتهما، فالبر لغة: طاعة الأبوين، أو الصدق في الحديث، ولكن الشرع جعله اسماً لكل الأعمال الخيرية، حتى أعمال القلب، فأدخل فيه أركان الإيمان، في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] ، فهذه خمسة من أركان الإيمان، وذكر السادس وهو القدر في موضع آخر، وجعلها أساساً للبر، ثم ذكر أعمالاً مالية، وجعلها داخلة في البر في قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة:177] يعني: هذا عمل مالي، وهو: إعطاء المال لهؤلاء، فجعله من البر. ثم قال: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة:177] ، فهذه أربعة من الأعمال البدنية. ثم قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] فأخبر بأنهم الذين صدقوا؛ لما قالوا: آمنا، فظهر إيمانهم على أبدانهم وعلى أموالهم، فهم قد صدقوا، وهم -أيضاً- أهل التقوى الذين توقوا أسباب الهلاك، وجعلوا بينهم وبين النار وقاية وحاجزاً منيعاً، فأصبحوا بذلك مستحقين لاسم التقوى. وهكذا يقال في سائر المسميات الشرعية، وهو: أن الله تعالى شرع لعباده هذه الأشياء، وسميت بهذه المسميات، وأريد بها هذه المعاني التي تدخل فيها، ورتب عليها الأجر والثواب، فرتب الله على البر الثواب: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:13] ، ورتب على التقوى الجنة في قوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] أي: هيئت للمتقين، كما رتب ذلك على الإيمان في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:25] ، أجر غير ممنون على إيمانهم وعملهم الصالح، فمن صدق بذلك كله وعمله فهو المصدق، وهو المتبع لهذه الشريعة، ومن نقص حظه من ذلك نقص حظه من الأجر. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 5 الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان قال الشارح رحمه الله: [وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق؛ للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود. وفي المسند عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب) ، وفي هذا الحديث دليل على المغايرة بين الإسلام والإيمان، ويؤيده قوله في حديث سؤالات جبريل في معنى الإسلام والإيمان، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم دينكم) ، فجعل الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان، فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة؛ لكن هو درجات ثلاث: فمسلم، ثم مؤمن، ثم محسن. والمراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام قطعاً، كما أنه أريد بالإحسان ما ذكر مع الإيمان والإسلام، لا أن الإحسان يكون مجرداً عن الإيمان، هذا محال، وهذا كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] ، والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه فإنه معرض للوعيد، وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع التصديق بالقلب، لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن، فإنه معرض للوعيد. وأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أهله، والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أهله من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين، وهذا كالرسالة والنبوة، فالنبوة داخلة في الرسالة، والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها، فكل رسول نبي، ولا ينعكس] . هذا كلام يتعلق بالإسلام والإيمان والإحسان، فإنه صلى الله عليه وسلم لما سئل في حديث وفد عبد القيس فسر الإيمان بالأعمال والأقوال؛ لأنه ما أمرهم إلا بالإيمان، ولكن في حديث جبريل المشهور سئل عن الإسلام والإيمان والإحسان، ففسر كل واحد بتفسير، ولكن الثاني لابد أنه داخل في الأول، والثالث لابد أنه مستلزم للأولين قبله، ففسر الإيمان بالأعمال الباطنة، والإسلام فسره بالأركان الخمسة: بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج؛ لأن هذه يظهر من صاحبها إذعان. وأصل الإسلام: هو الإذعان والانقياد، ومنه قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83] يعني: أذعنوا وانقادوا واستسلموا، غير مستعصين ولا متشردين، قويهم وضعيفهم، حيوانهم وإنسانهم، مؤمنهم وكافرهم كلهم أذعنوا، فالإسلام في الأصل: هو الإذعان، والأركان الخمسة دليل واضح على أنهم قد أعلنوا دخولهم في الإسلام، فمن رأيناه يتلفظ بالشهادتين ويحافظ على الصلوات، ويخرج زكاة ماله، ويصوم معنا، ويحج معنا؛ حكمنا بأنه مسلم، ويدخل مع المسلمين، ويدين لله تعالى ظاهراً، وإن لم نفتش ما في قلبه، فنعامله معاملة المسلمين، ولا نتكلف البحث عن باطنه ما دام أنه يفعل هذه الأعمال الظاهرة. هذه تسمى المرتبة الأولى، وهي المرتبة الواسعة. المرتبة الثانية: الإيمان، وفسره هاهنا بالعقيدة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر، الإيمان بهذه الستة يعني: الاعتقاد بصحتها، والاعتقاد بأحقيتها. الإيمان بأن الله هو رب الأرباب وإله العالمين، والمعبود وحده المستحق لذلك دون ما سواه. والإيمان بالملائكة لأنهم رسل من خلق الله مسخرون لعبادته. والإيمان بالكتب بأنها كلام الله وفيها شرعه. والإيمان بالرسل بأنهم رسل ووسائط بين الله وبين عباده. والإيمان باليوم الآخر بالتصديق بالبعث بعد الموت وبالجزاء الذي فيه. والإيمان بقدرة الله وبما قدره وقضاه على عباده. هذه أمور عقدية، ومعلوم أنها إذا صحت ورسخت في القلب فلابد أن تظهر آثارها على البدن، فلابد أن ينطق بما يعتقد، ولابد أن يفعل ما يقول، ولابد أن يظهر عليه الفعل والترك الذي هو من آثار هذه العقيدة، فلأجل ذلك يقولون: لابد مع الستة من الخمسة، أي: أن الستة التي هي العقيدة وهي أركان الإيمان، لا تنفع إلا إذا كانت معها الخمسة، فمن قال: أنا آمنت بالله، وآمنت بكتبه، وبرسله، وبملائكته، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر، ثم رأيناه لا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج، ولا يعبد الله وحده، بل يجعل معه آلهة أخرى؛ قلنا: كذبت، لو كنت صادقاً في إيمانك ويقينك لما خالفت ذلك بأعمالك، فالأعمال التي نراها ظاهرة هي في الحقيقة ترجمة لما تقوله ولما تعتقده. فإذاً: لابد مع أركان الإيمان من أركان الإسلام؛ حتى يكون الإيمان صحيحاً. كذلك يقال في الإحسان، فسره بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) . قسم العلماء هذا التفسير إلى قسمين؛ الأول: عين المشاهدة، والثاني: عين المراقبة. عين المشاهدة: أن تعبد الله كأنك تراه أي: تشاهده. وعين المراقبة: أن تستحضر أنه يراك، أي: يراقبك. فمن استحضر أنه يرى ربه اجتهد في الدعاء، واجتهد في العبادة وحسنها وكملها، ومن لم يصل يقينه وقلبه إلى هذا الاستحضار، فإنه يستحضر أن ربه مطلع عليه يعلم نبرات لسانه وفلتاته، ويعلم حديث قلبه وما توسوس به نفسه؛ فيكون من آثار هذا الإيمان أن يحسن العمل إذا استحضر أنه بمرأى وبمسمع من ربه، وأنه لا تخفى عليه منه خافية، وأن الله مطلع عليه، ويكون ذلك حاملاً له على إتقان العمل وإحسانه، فإنه -ولله المثل الأعلى- لو كان إنسان موظفاً تحت إدارة قوية المراقبة، تجعل هناك من يراقب هؤلاء الموظفين دائماً، ويشددون عليهم في الحضور وفي العمل، وقد يراقبونهم وهم لا يشعرون، ولا يبصرونهم، فلا شك أن الموظفين يجدون في العمل ويجتهدون فيه؛ مخافة أن يبعدوا منه، أو يحرموا من استحقاقهم. أما إذا كانوا مهملين، لا ينظر إليهم رئيسهم، ولا يفتش عليهم، ولا يراقبهم، وليس هناك في قلوبهم دوافع الإيمان، ولا مخافة من الله، ولا أمانة؛ فإنهم يهملون الأعمال، ويقطعون وقتهم في اللهو واللعب، وفي القيل والقال، ولا يخلصون في العمل، ولا يجدون فيه. فهذا مثل محسوس يشاهد عياناً، فنقول: كذلك الإنسان إذا كان يعمل وهو يستحضر أن الله يراه حرص على إتقان العمل، وإذا غاب عنه هذا الاستحضار فإنه يتساهل تساهلاً كثيراً في عمله. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 6 وجه العموم والخصوص بين الإسلام والإيمان والإحسان مراتب الدين ثلاث؛ المرتبة العليا: هي الإحسان، والمرتبة الوسطى: هي الإيمان، والمرتبة الدنيا: هي الإسلام، فأهل الإسلام أكثر من أهل الإيمان؛ لأنهم يوجد فيهم من هو مسلم ظاهراً وليس بمسلم باطناً، يصلون وقلوبهم لم تطمئن بالإيمان. وأهل الإيمان أقل من أهل الإسلام؛ لأنهم خلاصتهم وصفوتهم. وأهل الإحسان هم خلاصة الخلاصة، وصفوة الصفوة، بمعنى: أنهم أهل الإيمان القوي الذين بلغت بهم القوة إلى أنهم يتقنون كل عمل، فإذا صلوا أتقنوا الصلاة ولم يغفلوا فيها ولم يحدثوا أنفسهم، وإذا دخل وقت نافلة لم يضيعوها إلا بعمل ما يحبون وما يريدون، وهكذا بقية أعمالهم، وكذلك يحملهم استحضارهم لربهم على ألا يعصوه طرفة عين، فيكون ذلك كله سبباً لإتقانهم العمل. فلذلك يقال: إن الإسلام أعم من جهة أهله -أي أن أهله أكثر من أهل الإيمان- وأخص من جهة وصفه، حيث إنه إنما يدخل فيه أهل الأعمال الظاهرة، فالمسلمون أعمالهم أقل من أعمال المؤمنين، ولكنهم أكثر عدداً، فيدخل فيهم المؤمنون ويدخل فيهم المسلمون الذين ليسوا بمؤمنين، هذا معنى كونه أعم من جهة أهله، وأخص من جهة وصفه، يعني: أعمال المسلمين أقل من أعمال أهل الإيمان. كذلك يقال: أهل الإيمان أكثر أعمالاً؛ لأنهم آمنوا بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والقدر، وصلوا وصاموا، وحجوا واجتهدوا، وتشهدوا وذكروا الله، وأما أهل الإسلام فهم أقل أعمالاً، وصفهم إنما هو: الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج، يعني: الأعمال الظاهرة، فهم أقل أعمالاً، هذا معنى كونه أقل من جهة وصفه، وأكثر من جهة أهله. كذلك نقول: أهل الإحسان أقل من أهل الإيمان، فأهل الإيمان أكثر من أهل الإحسان، يعني: أكثر من جهة أهله، وأقل من جهة وصفه -من الإحسان-؛ وذلك لأن أهل الإحسان جمعوا الخصال الثلاث فأصبحوا مؤمنين مسلمين محسنين، فهم جمعوا بين الإتقان للعمل، وبين العبادة لله كأنهم يرونه، وبين مراقبته، وبين الإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر، والصلاة، والصوم، والحج، جمعوا الأعمال كلها، وتركوا السيئات وابتعدوا عن الآثام، فهم أكثر من جهة الوصف، ولكنهم أقل من أهل الإيمان. فأهل الإحسان أقل من أهل الإيمان، وأهل الإيمان أقل من أهل الإسلام، ولكن أهل الإسلام أقل أعمالاً من أهل الإيمان، وأهل الإيمان أقل أعمالاً من أهل الإحسان، هذا معنى كونهم أقل من كذا وأكثر من كذا. ومثل الشارح ذلك بالنبوة والرسالة، بمعنى أن الأنبياء أكثر من الرسل، ولكن هم أقل مسئولية، وأقل عملاً من الرسل، فإن الرسل عليهم أعمال ليست على الأنبياء، ولكن الرسل أقل عدداً، فليس كل نبي رسولاً، فالرسالة أقل من جهة أهلها، وأكثر من جهة وصفها، فإن النبي هو الذي أوحي إليه، وهو الذي أمر بالتبليغ، وهو الذي دعا، وهو الذي كُذِّب، وهو الذي عودي وأوذي، فهو أكثر عملاً، والرسل أقل عدداً من الأنبياء، فالأنبياء أكثر من جهة الأهل، وأقل من جهة الوصف، يعني من جهة الأعمال، فهذا تمثيل بالنبوة وبالرسالة، وكذلك أهل الإيمان وأهل الإحسان وأهل الإسلام. فإذا عرفنا أن هذه كلها من الأعمال الشرعية فالإنسان يحرص على أن يجمع بينها كلها، فيحرص على أن يأتي بالأعمال الظاهرة -وهي أركان الإسلام-، ويحقق الأعمال الباطنة -وهي أركان الإيمان-، ويحرص -أيضاً- على الأعمال الغيبية حتى يكون من أهل مرتبة الإحسان، فيجمع بين المراتب كلها. ومعلوم -أيضاً- أن المسلم إذا تسمى بأنه مسلم، ودخل في الإسلام؛ أصبح ملزماً بأمور يعتقدها، تسمى عقائد، وأصبح ملزماً بأعمال يعملها، وبأقوال يقولها، وكلها داخلة في الدين، ولأجل ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء كلها من الدين في قوله: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) ، فجعل الإسلام والإيمان والإحسان كله من الدين الذي بعث الله به هذا، وسماه دين الإسلام في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] . الجزء: 45 ¦ الصفحة: 7 اختلاف الناس في مسمى الإسلام قال الشارح رحمه الله تعالى: [فمن حقق هذا كله فقد حقق الدين الذي جاءت به الرسل، ومن نقص شيئاً نقص بحسبه. وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال: فطائفة جعلت الإسلام هو الكلمة. وطائفة أجابوا بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإسلام والإيمان، حيث فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة. وطائفة جعلوا الإسلام مرادفاً للإيمان، وجعلوا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة) -الحديث- شعائر الإسلام. والأصل عدم التقدير، مع أنهم قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب. ثم قالوا: الإسلام والإيمان شيء واحد، فيكون الإسلام هو التصديق! وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة، وإنما هو الانقياد والطاعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت) ، وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بينهما أن نجيب بغير ما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع، وهذا هو الواجب، وهل يكون مسلماً ولا يقال له: مؤمن؟ تقدم الكلام عليه] . كلمة (الإسلام) كلمة شرعية، ولها معنى في اللغة، ومعنى الإسلام في الشرع قريب من معناه في اللغة، وعرفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بداية الأصول بقوله: الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، فهذا تفسير للإسلام بما يقرب من معناه اللغوي الذي هو: الإذعان والانقياد. وأما تفسيره في الشرع فلا أوضح من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم له بالأركان الخمسة؛ وذلك لأنها أدل دليل على إذعانه وانقياده والتزامه، فإن من التزم هذه الأركان انقاد لربه ولم يستعصِ، وفعلها منقاداً ظاهراً كأنه يقاد من زمام إلى هذه الأعمال كما يقاد البعير المذلل، فلا يستعصي ولا ينفر، فإن البعير إذا كان ذلولاً -يعني: قد ذلل وقد عسف وقد انقاد- فإنه يأتي صاحبه بأدنى إشارة، فينساق إذا ساقه، وينقاد إذا قاده. فهذا مثال للمسلم، ينقاد إلى أمر الله، ويذعن لأمره، ويتذلل له، بخلاف الكافر الذي إذا أمره الله استعصى، وأظهر الشقاق، وعاند، وامتنع، وشدد في الامتناع، فهو مثل الجمل الشرود الذي كلما قرب منه صاحبه نفر منه وابتعد، ولا يستطيع أن يأتيه إلا بقوة، وقد يتمانع على صاحبه ولا يمكنه من ركوبه، ولا من قيادته، ولا من غير ذلك، فهذا سبب تسمية من دخل في هذا الدين مسلماً، يعني: مستسلماً في الظاهر. من الناس من يقول: إن الإسلام هو مجرد الكلمة، أي: (أسلمنا) يعني: انقدنا ظاهراً، ولأجل ذلك أنكر الله على من ادعى الإيمان وهو ليس بمؤمن، قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، وعلى هذا فيفسر الإيمان بالكلمة التي هي قوله: (أسلمنا) ، ولكن التفسير الواضح هو أن يفسر بمن التزم بالأركان الخمسة، فيقال: هذا مسلم أي: ملتزم، والله أعلم بحقيقة باطنه. أما إذا ذكر الإسلام والإيمان معاً فإن الإسلام يفسر بالأركان الخمسة لأنها ظاهرة، والإيمان يفسر بأعمال القلب. لكن إذا اقتصر على الإيمان، فقيل: هذا مؤمن، أو: هؤلاء أهل الأيمان؛ فلابد أن يكونوا مسلمين، ولابد أن يكونوا قائمين بالأركان الخمسة، وأن يكونوا قائمين ومعتقدين للأركان الستة التي هي العقيدة، فعلى هذا: من كان مؤمناً فهو مسلم. أما إذا اقتصر على الإسلام فهل يدخل فيه الإيمان أم لا يدخل؟ من العلماء من يقول: إن اسم (المسلم) عند الإطلاق يعم المؤمن، والملتزم لابد أن يكون ملتزماً بالرسالة وبكل ما جاء فيها، دليله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه) ، فاشترط الكفر بما يعبد من دون الله. وثبت -أيضاً- قوله صلى الله عليه وسلم في وصف الكفار: (أنهم لا ينجون حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به) ، فجعل ذلك -أيضاً- شرطاً لعصمتهم ولقبولهم، وبذلك يعرف أنهما متلازمان، كل مسلم يلزم أن يكون مؤمناً، وكل مؤمن يستلزم الإسلام. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 8 إطلاق الإسلام على ما يشمل الإيمان مسألة مسمى الإيمان والإسلام، وما يتفرع عن هذه الأسماء، بحث العلماء وأفاضوا في هذا البحث، ومن خلال بحثهم يتبين حثهم على أن يكون المسلم المؤمن عاملاً بمقتضى هذا الاسم، فإنه إذا تسمى بأنه مسلم لم يكفِ مجرد التسمي حتى يظهر عليه أثر هذا الاسم، فلم يكتف بمجرد الانتساب حتى يظهر عليه أثر هذا الاسم، فلأجل ذلك جعلوا الاسم يشمل ما في القلب، ويشمل ما على اللسان، ويشمل ما على الأركان؛ ليصدق بذلك مسمى الإيمان؛ وذلك لأنه لو كان الإيمان هو مجرد ما يكون في القلب لما كان هناك فرق بين الناس، بل كل يقول: أنا مؤمن، ثم بعد ذلك يعمل ما يشاء! فإذا عرفنا أن الإيمان له آثار، وله مكملات؛ عرفنا بذلك من هو صادق ومن هو كاذب، فحقائق الأشياء تظهر بعلامات، فحقيقة الإيمان علامته العمل، كما أن حقيقة الإسلام علامته العمل، فمن ادعى أنه مؤمن فلابد أن يعمل، فإن العمل من تمام الإيمان، كما أن من ادعى أنه يحب الله فلابد أن يطيعه، لابد أن تظهر عليه آثار هذه المحبة، أما أنه يحب الله ولكنه لا يطيعه؛ بل يعصيه، فليس بصادق، كما روي عن بعض السلف أنه قال: من ادعى محبة الله ولم يوافقه فدعواه باطلة. والموافقة: هي الطاعة، أي: تمام الطواعية بالأعمال الصالحة، هذه هي حقيقة الموافقة، أي: موافقة ما أمر الله، وذلك لأن المحب لابد أن يتأثر بمحبوبه، ولابد أن يظهر عليه آثار هذا الحب. ولأجل ذلك ورد في الأحاديث الحث على محبة الله تعالى، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيان أثرهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) ، وهذه الثلاث كلها متلازمة، وكلها من آثار محبة الله، فإن من أحب الله وأحب رسوله، وقدم محبتهما على غيرهما؛ أطاع الله ورسوله. كذلك من آثار محبة الله ومحبة رسوله: أن يحب أولياء الله، من كانوا وأينما كانوا، ولو كانوا أباعد أجانب. كذلك من آثار محبة الله: أن يبغض معاصي الله، وأن يبغض العصاة الذين يبغضهم الله. كذلك من آثار محبة الله: أن يكره الكفر الذي يبعده عن ربه، وأن يؤثر الإيمان والطاعة التي تقربه إلى ربه. فهذا مثال في أن العمل تابع للإيمان، وأثر من آثاره، ولازم من لوازمه، وكذلك لازم من لوازم الإسلام، ولأجل ذلك روي عن الحسن رحمه الله أنه قال: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكنه ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال) ، فجعل الأعمال أثراً من آثار الإيمان الذي يكون في القلب. وبكل حال: من ظهرت عليه الأعمال الصالحة فهو المؤمن، ومن ادعى أنه مؤمن ولم تظهر عليه آثار الأعمال الصالحة فليس بمؤمن، ولو كان باطنه حسناً، فإننا لا نعمل إلا بالظاهر، أما الذي في الباطن والذي في القلب فلا يحاسب عليه إلا الرب، أما نحن فلنا أن نعتبر الإنسان بما يظهر لنا، فمن أظهر لنا خيراً وعمل بر شهدنا له بالإيمان، وشهدنا له بالصلاح. ومن أظهر لنا فسوقاً وعصياناً ومخالفات وسيئات أبغضناه، وشهدنا له بالفسوق وبالمعصية، ومقتناه ولو كان باطنه حسناً؛ لأن الله تعالى هو الذي يحاسب على ما في القلب، فهو علام الغيوب، هكذا يجب علينا. وبكل حال: قد عرفنا أن الأعمال من مسمى الإيمان، وأنه لا يتم الإيمان إلا بالأعمال، وأن الإنسان عليه أن يحقق إيمانه بأعماله التي يعملها، سواء كانت أقوالاً يتلفظ بها كالأذكار والأدعية والتلاوة ونحوها، أو أعمالاً يعملها بيديه أياً كانت؛ كجهاد في سبيل الله، ونفقة في وجوه الخير وما أشبه ذلك، أو أعمالاً قلبية، كحب من يحبه الله، وبغض أعداء الله وما أشبه ذلك، أو بجميع جوارحه، فإذا كان كذلك سمينا هذه الأعمال كلها من الإيمان، وسمينا أصحابها مؤمنين، سواء كانوا مؤمنين كاملي الإيمان أو لا، وبذلك يعرف أن الإيمان يتفاوت أهله فيه بحسب الأعمال. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 9 التلازم بين الإسلام والإيمان قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وكذلك هل يستلزم الإسلام الإيمان؟ فيه النزاع المذكور، وإنما وعد الله بالجنة في القرآن وبالنجاة من النار باسم الإيمان، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] ، وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21] . وأما اسم الإسلام مجرداً فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه، وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه، وبه بعث النبيين، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] . فالحاصل: أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حالة إفراد أحدهما عن الآخر، فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى، فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد. كذلك الإسلام والإيمان، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه، ولا يخلو المسلم من إيمان به صح إسلامه، ونظائر ذلك في كلام الله ورسوله وفي كلام الناس كثيرة -أعني في الإفراد والاقتران- منها: لفظ الكفر والنفاق، فالكفر إذا ذكر مفرداً في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5] ، ونظائره كثيرة. وإذا قرن بينهما كان الكافر من أظهر كفره، والمنافق من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه. وكذلك لفظ البر والتقوى، ولفظ الإثم والعدوان، ولفظ التوبة والاستغفار، ولفظ الفقير والمسكين وأمثال ذلك] . الجزء: 45 ¦ الصفحة: 10 استلزام الإسلام للإيمان والعكس هذا الكلام في الفرق بين الإسلام والإيمان، ولا شك أنهما مسميان شرعيان، وقد ذكرنا أن لهما مسمى في اللغة؛ وأن الإسلام في اللغة: الإذعان والاستسلام، والإسلام في الشرع: هو هذا الدين الذي هو الشرائع؛ قبولها والعمل بها، وأركانه خمسة كما هو معروف. والإيمان في اللغة: مجرد التصديق، والإيمان في الشرع تدخل فيه الأعمال. والكفر في اللغة: هو الستر والجحد والإنكار، والكفر في استعمال الشرع: هو الكفر بالله، يعني جحد دين الله وإنكاره. والنفاق في اللغة: مشتق من الإخفاء؛ لأنه شيء خفي، والنفاق في الاصطلاح الشرعي: هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر وهكذا بقية المسميات. فعلى هذا نقول: إن الإسلام والإيمان كلاهما مسميان شرعيان، وكلاهما مطلوبان ومفروضان على العباد، ولابد على العبد أن يعرف مسماهما، وأن يدين لله تعالى بهما، فيدين لله بأنه هو الإله الحق، وأنه هو الذي فرض عبادته على الخلق، ويدين للرسول عليه الصلاة والسلام بأنه مرسل من ربه، وأنه يحمل هذه الرسالة التي هي الشريعة، ويدين لله بالعبادات، ومن جملتها بقية أركان الإسلام، فيؤدي الصلوات، ويخرج الزكاة، ويصوم، ويحج، ويجاهد، ويعمل بالأعمال الشرعية التي أوجبها الله، فبذلك يكون مسلماً ظاهراً، وكذلك يصحح عقيدته، فيعتقد ويجزم بأن الله تعالى موصوف بصفات الكمال ومنزه عن صفات النقص، وبأنه لا تصلح الإلهية إلا له وحده، وبأنه خالق الكون ومدبر الأمور، وكذلك يؤمن بأمور الغيب التي تقدم تفصيلها، وإن لم يرها، فبذلك يصير جامعاً بين الإسلام والإيمان. هذا مجمل القول في الإسلام والإيمان. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 11 اجتماع الإسلام والإيمان وافتراقهما يقول العلماء: إذا جمع بين الإسلام والإيمان، فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بأعمال القلب، ولا شك أنهما متلازمان، وكل من اتصف بواحد منهما دون الآخر لم يكفِ، فالذي يقول: أنا مؤمن إيماناً خفياً لا يكفيه، إلا أن يأتي بالأعمال الظاهرة التي هي أركان الإسلام، والذي يأتي بالأركان الظاهرة علانية، ولكن قلبه فاسد، لا تنفعه هذه الأركان ولو صلى ولو صام وحج وزكى؛ ما دام أنه من غير عقيدة، ولأجل ذلك كثيراً ما يجمع الله بينهما، مما يدل على أن الوصف لابد أن يأتي عليهما، قال الله تعالى في سورة الذاريات: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] ، فوصفهم بأنهم من المؤمنين، ثم وصفهم بأنهم من المسلمين، فدل على أنهم جمعوا بين الأمرين: بين الإسلام والإيمان، ولكن لا يكفي الإيمان عن الإسلام، ولا يكفي الإسلام عن الإيمان، وإن كان أحدهما إذا أفرد دخل فيه الآخر. وقد كذب الله الأعراب الذين قالوا: آمنا، وهم ليسوا بمؤمنين حقيقة في قوله تعالى في سورة الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، فأخبر بأنهم قالوا: آمنا، وهم ليسوا بمؤمنين حقيقة، حيث إن قلوبهم لا يزال فيها ريب وشك، ولا يزال عندهم توقف وتردد في صحة ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي تصديقه بالأمور الغيبية؛ فلأجل ذلك قال: ((وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)) أي: لم يصل إلى قلوبكم، فأنتم أسلمتم ظاهراً، والإيمان الذي منبعه القلب لم يصل إلى قلوبكم حقيقة. وثبت في الصحيح (أن سعد بن أبي وقاص كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقسم قسماً وترك واحداً من أهل المجلس، فقال: ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمناً؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً) يعني: الأولى أن تقول: مسلم، ولا تحكم له بالإيمان، فإن الإيمان يجمع بين الباطن والظاهر، وأنت لا تعرف منه إلا الظاهر. هكذا يفسر الإسلام والإيمان إذا اجتمعا، فيفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، ويفسر الإيمان بأعمال القلب. وضرب له الشارح أمثلة فقال: الإسلام والإيمان متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، مثل الشهادتين، فالشهادتان متلازمتان من شهد بإحداهما لزمته الأخرى، بل هي مكملة لها؛ لأنا نقول: من أين عرفت أنه لا إله إلا الله، وعرفت بأن الله هو الإله الحق، وأنه لا تصلح الألوهية إلا له؟! أليس ذلك بواسطة الرسالة؟! إذاً: فيلزمك تصديق الرسول، والشهادة له بأنه مرسل من ربه. وإذا صدقت الرسول عليه السلام في أنه رسول، وأنه مبعوث من ربه، فما هي الرسالة التي بلغها؟ أليس أول شيء بدأ به هو التوحيد بأن يقال: لا إله إلا الله؟ فالرسول عليه الصلاة والسلام بدأ يدعو الناس إلى عبادة الله وترك عبادة ما سواه، وهذا هو أعظم الرسالة التي بلغها، فالشهادتان متلازمتان، فمن شهد أن لا إله إلا الله ألزم بأن يأتي بالشهادة الثانية وهي الشهادة بالرسالة، ومن شهد أن محمداً رسول الله لزمه قبول رسالته التي أهمها قول لا إله إلا الله، فعرفنا بذلك أنهما متلازمتان. فكذلك الإسلام والإيمان متلازمان، فمن أسلم في الظاهر قلنا له: لابد أن يكون إسلامك نابعاً عن قلب، ومن آمن في الباطن، وحقق الإيمان الذي في قلبه، قلنا: لابد أن يكون الذي في قلبك له أثر وله علامات، تظهر على سمعك وعلى بصرك، وعلى يديك وعلى لسانك وعلى رجليك، وعلى مالك وعلى حالك، فإذا أظهرت ذلك فأنت مؤمن، وإذا لم تظهره فلست بمؤمن. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 12 اجتماع الكفر والشرك والنفاق والعصيان وافتراقهما ذكر الشارح أن كثيراً من الأمور تقترن، ويفسر أحدهما بكذا والآخر بكذا، مثل: الكفر والنفاق. والكفر من الأمور الشرعية التي بينها الشرع واستعملها، والنفاق من الأمور الشرعية التي بينها الشرع، وإن كان له مسمى في اللغة. كذلك -أيضاً- الكفر والشرك متلازمان، فإن كل من كفر وصف بأنه مشرك، وكل من أشرك وصف بأنه كافر؛ لأن الشرك مشتق من الشركة -أي: الاشتراك- كأنه جعل عبادته مشتركة بين الخالق والمخلوق، ولا شك أن هذا يعم كل من حكم بكفره؛ وذلك لأنه أطاع غير الله، ولو لم يطع إلا الشيطان الذي نهاه عن عبادة الله، أو أمره بأن يعبد المخلوق، أو أمره بأن يجحد الرسالة أو نحو ذلك، فيكون قد عبد الشيطان، ولأجل ذلك يقول العلماء: إن كل من عبد غير الله فعبادته منصبة على الشياطين. ولذلك لما نزل قول الله تعالى في آخر سورة الأنبياء: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] قال المشركون: كيف تزعم أن ما نعبده حصب لجهنم، ونحن نعبد الملائكة، فهل الملائكة حصب لجهنم؟! والنصارى يعبدون المسيح، فهل المسيح حصب لجهنم؟! واليهود يعبدون عزيراً، فهل عزير -وهو عبد صالح- من حصب جهنم؟! لكن لم يعبدوها حقيقة، وإنما عبادتهم تنصب على الشياطين) ، فالشياطين هي التي دعتهم إلى عبادتها فأطاعوها، فأصبحوا عابدين للشياطين، وإلا فالملائكة بريئة منهم كما حكى الله عنهم في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40-41] يعني: جن الشياطين. فالحاصل: أن الشرك والكفر متلازمان، فكل من أشرك قيل: هذا كافر مشرك، وكل من كفر بالله أو بنعمة الله قيل: هذا مشرك كافر، يعني يصدق عليه الوصفان ويتلازمان. وكذلك -أيضاً- المنافق موصوف بأنه منافق، وبأنه كافر، ودليل ذلك قول الله تعالى في سورة المنافقون: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون:3] فسماهم المنافقين في قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون:1] ، وفي الآية بعدها وصفهم بأنهم قد آمنوا ثم كفروا، فدل على أن كل من نافق فهو كافر، ولو كان يظهر للناس أنه معهم؛ لأنه كما وصف الله المنافقين بقوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:14] أي: رؤساؤهم الذين يدعونهم إلى النفاق، {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] فهذا دليل على أنهم في الباطن مع الكفار. فهذا دليل على أن هذه الأعمال متلازمة، لا يتم الإيمان إلا بها، الإسلام والإيمان والتوحيد واليقين، ورد في بعض الأحاديث: (الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله) ، وغيرها من المسميات الشرعية، وكذلك أسماء الكفر متلازمة، مثل الفسوق والعصيان والشرك والكفر والنفاق وما أشبهها، إذا وصف واحد بوصف منها انطبقت عليه الأوصاف، فيقال: هذا فاسق وكافر وضال وعاص ومشرك ومنافق ونحو ذلك، تنطبق عليه، وإن كان النفاق يختص بمن أخفى كفره، ولا يعم من أظهر كفره، لكنه في الحقيقة كثيراً ما ينطبق عليه أنه منافق ولو كان مظهراً لكفره غالباً. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 13 الكلام على آية الحجرات في الفرق بين الإسلام والإيمان قال الشارح رحمه الله تعالى: [ويشهد للفرق بين الإسلام والإيمان قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] إلى آخر السورة، وقد اعترض على هذا بأن معنى الآية: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) : انقدنا بظواهرنا، فهم منافقون في الحقيقة، وهذا أحد قولي المفسرين في هذه الآية الكريمة. وأجيب بالقول الآخر، ورجح، وهو: أنهم ليسوا بمؤمنين كاملي الإيمان، لا أنهم منافقون، كما نفى الإيمان عن القاتل والزاني والسارق ومن لا أمانة له، ويؤيد هذا سياق الآية، فإن السورة من أولها إلى هنا في النهي عن المعاصي، وأحكام بعض العصاة، ونحو ذلك، وليس فيها ذكر المنافقين. ثم قال بعد ذلك: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14] ، ولو كانوا منافقين ما نفعتهم الطاعة. ثم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] يعني -والله أعلم- أن المؤمنين الكاملي الإيمان هم هؤلاء، لا أنتم، بل أنتم منتف عنكم الإيمان الكامل. يؤيد هذا: أنه أمرهم -أو أذن لهم- أن يقولوا: أسلمنا، والمنافق لا يقال له ذلك، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام كما نفى عنهم الإيمان، ونهاهم أن يمنوا بإسلامهم، فأثبت لهم إسلاماً، ونهاهم أن يمنوا به على رسوله، ولو لم يكن إسلاماً صحيحاً لقال: لم تسلموا، بل أنتم كاذبون كما كذبهم في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] . والله أعلم بالصواب] . هذه الآية في سورة الحجرات {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] يعني: أن المؤمنين حقاً هم الذين اتصفوا بهذه الصفات: أولاً: التصديق الجازم بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء عنه على مراده. ثانياً: نفي الريب، والبعد عن الريب الذي هو الشك: (ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) أي: لم يداخل قلوبهم شك ولا توقف، بل هم على يقين جازم بما هم عليه، دون أن يشكوا في شيء من أمر البعث أو الحشر أو الجزاء أو نحو ذلك. ثالثاً: العمل، وهو قوله: (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، فهذا من أمثلة العمل، يعني: أنهم جمعوا بين الإيمان الذي هو العقيدة وعدم الريب والعمل، فيكون ذلك هو حقيقة الإيمان، هؤلاء هم المؤمنون حقاً، إنما المؤمنون من كان على هذا الوصف. والحاصل: أن الله نفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام بقوله: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) ، وأخبر بأن الإيمان لم يصل إلى قلوبهم، ولكن آمنوا إيماناً ظاهراً، ولا شك أن هؤلاء الأعراب من بوادي المسلمين، دخلوا في الإسلام، ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم، ولأجل ذلك ارتد الكثير منهم لما مات النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنهم لم يتمكنوا ولم يتوغلوا في الإسلام، فهؤلاء مسلمون، ولكن لم يكونوا على يقين، ولم تصل إليهم الأدلة اليقينة. هناك من يقول: إنهم منافقون. والصواب: أنهم ليسوا من المنافقين الذين وصفهم الله بقوله: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141] ، ووصفهم بقوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143] ، بل هؤلاء أسلموا ظاهراً وانقادوا؛ ولكن لم تطمئن قلوبهم، ولعل إسلامهم كان بالغلبة لما أنهم غلبوا، أو لعل إسلامهم كان بالظهور، لما رأوا الإسلام يعلو ويظهر آمنوا كتجربة وكنظر، يقولون: ندخل في هذا الإسلام، ثم بعد ذلك نختبره وننظر، فإن كان له الرفعة والمنعة والنصرة والقوة والتمكين اطمأننا فيه، وكذلك إن وجدنا منه سعة ووجدنا منه ثروة وغنى وراحة ومحبة لمطلب أو توسعة علينا، قبلناه وتأثرنا به، وإن وجدنا غير ذلك رددناه ورجعنا على ما كنا عليه. فدخلوا عن تجربة لا عن يقين، فليسوا مثل الصحابة الذين دخلوا عن يقين. وما أكثر الذين هذه حالتهم! ولكن إذا منَّ الله على العبد فدخل الإسلام، ثم بعد ذلك يسر له من يشرح له تعاليم الإسلام والإيمان، ويبين له الأدلة اليقينية؛ فإنه عند ذلك يقتنع، وينشرح بذلك صدره، ويعرف ويستيقن بأن الإسلام هو الدين الحق، وأنه هو الدين الصواب، فعند ذلك تظهر عليه آثار الإسلام، وهي الأعمال الصالحة. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 14 انتفاء دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان قال الشارح رحمه الله: [وينتفي بعد هذا التقدير والتفصيل دعوى الترادف، وتشنيع من ألزم بأن الإسلام لو كان هو الأمور الظاهرة لكان ينبغي ألا يقابل بذلك، ولا يقبل إيمان المخلص وهذا ظاهر الفساد، فإنه قد تقدم تنظير الإيمان والإسلام بالشهادتين وغيرهما، وأن حالة الاقتران غير حالة الانفراد. فانظر إلى كلمة الشهادة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) الحديث، فلو قالوا: لا إله إلا الله، وأنكروا الرسالة؛ ما كانوا يستحقون العصمة، بل لابد أن يقولوا: لا إله إلا الله. قائمين بحقها، ولا يكون قائماً بلا إله إلا الله حق القيام إلا من صدق بالرسالة، وكذا من شهد أن محمداً رسول الله، لا يكون قائماً بهذه الشهادة حق القيام إلا من صدق هذا الرسول في كل ما جاء به. فتضمنت التوحيد. وإذا ضممت شهادة أن لا إله إلا الله إلى شهادة أن محمداً رسول الله كان المراد من شهادة (أن لا إله إلا الله) إثبات التوحيد، ومن شهادة (أن محمداً رسول الله) إثبات الرسالة. كذلك الإسلام والإيمان: إذا قرن أحدهما بالآخر، كما في قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت) ؛ كان المراد من أحدهما غير المراد من الآخر، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب) ، وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه، وكما في الفقير والمسكين ونظائره، فإن لفظي الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فهل يقال في قوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] أنه يعطى المقل دون المعدم أو بالعكس؟ وكذا في قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] . ويندفع أيضاً تشنيع من قال: ما حكم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن في الدنيا والآخرة؟ فمن يثبت لأحدهما حكماً ليس بثابت للآخر ظهر بطلان قوله! ويقال له في مقابلة تشنيعه: أنت تقول: المسلم هو المؤمن، والله تعالى يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فجعلهما غيرين، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لك عن فلان! والله إني لأراه مؤمناً؟ قال: أو مسلماً، قالها ثلاثاً) ، فأثبت له الإسلام وتوقف في اسم الإيمان، فمن قال: هما سواء. كان مخالفاً، والواجب رد موارد النزاع إلى الله ورسوله. وقد يتراءى في بعض النصوص معارضة، ولا معارضة بحمد الله تعالى، ولكن الشأن في التوفيق، وبالله التوفيق] . هذا الكلام يتعلق بالجمع بين الإسلام والإيمان في بعض المواضع، كالآيات التي سمعنا، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] ؛ هل هذه الصفات يكتفى بواحدة منها؟ لا يكتفى، بل هي متلازمة، فإن من أسلم لزمه الإيمان، ومن آمن لزمه القنوت، ومن قنت لزمه الصبر، ومن صبر لزمه الصيام إلى آخرها، فهي صفات مترابطة، وكلها من صفات أهل الإيمان، ولكن عطف بعضها على بعض من باب كثرة الأعمال، يعني أنهم متصفون بها كلها، وأنها كلها أعمال صالحة، فكل منها له معنى، وله تفسير. فالقنوت يفسر بأنه: دوام الطاعة. وهذا من لوازم الإسلام والإيمان، والصدق يفسر بأنه مطابقة القول للعمل، أو مطابقة العمل للقول. يعني: أن يصدق قوله عمله، وهذا من لوازم الإسلام والإيمان، فالذي يسلم ويؤمن ولكنه لا يصدق لا يقبل منه، ولأجل ذلك جعل الصدق من شروط (لا إله إلا الله) في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله. صادقاً من قلبه دخل الجنة) ، فلابد من الصدق، فلذلك وصفهم الله بقوله: ((والصادقين والصادقات)) ، ولابد من الصبر؛ فإن الذي يسلم ويؤمن يؤمر بالأعمال، فإذا أمر بالأعمال فلابد أن يصبر على الطاعات ولو كان فيها مشقة، ويصبر عن المحرمات ولو نازعته نفسه إليها، فإذا لم يصبر انثلم إيمانه، وانخرمت أوصافه الدينية، فلابد أن يكون متصفاً بهذه الأعمال كلها. فالحاصل: أن العطف في هذه الآية لمجرد كثرة الصفات، لا للتغاير، وإلا فواحدة منها تستلزم البواقي، فالإسلام الحقيقي يستلزم الإيمان والقنوت والصدق والصبر والصيام إلى آخرها، فتكون كلها من تمامه. وكذلك بقية الآيات التي سمعنا، فإن قول الله تعالى في وصف المؤمنين: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] دليل على أنهم جمعوا بين الوصفين. فنقول: لا شك أن الشهادتين كل منهما مستلزمة للأخرى، شهادة أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله، أول ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله. يقول في الأحاديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) ، وأكثر الأحاديث لم يذكر فيها الشهادة الثانية، ولكنها مستلزمة لها، وفي بعض الروايات: (ويؤمنوا بي وبما جئت به) ، وهذا هو التصديق بالرسالة، فمن قال: لا إله إلا الله. ولكنه لم يأتِ بالشهادة الثانية لم تنفعه، فهما متلازمتان، وكذلك من قال: أنا مسلم. ولم يأتِ بصفة الإيمان؛ لم ينفعه، فلابد أن يأتي بصفة الإيمان حقاً حتى يصدق عليه أنه جمع بين الوصفين -الإسلام والإيمان- الحقيقيين. وكذلك بقية الأدلة تدل على أنه لابد لكل من أتى بصفة أن يأتي ببقية الصفات، وإلا فليس بصادق. فهذه الأوصاف التي وصف الله بها عباده لا شك أن كلها أسماء لمسمى واحد، وهو حقيقة هذا الدين الذي يدينون به، فإن الله سماه دين الإسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] ، والدين هو ما يدان به، يعني: ما يدين به العبد ويتقرب به، فمن أسمائه أنه دين، ولكن من فروعه هذه العبادات التي تسمى فروعاً، وتسمى شعباً للإيمان، وتسمى أركاناً للإيمان، وأركاناً للإسلام، وتسمى مراتب للدين، رتبة الإسلام ثم رتبة الإيمان ثم رتبة الإحسان، وتسمى أركاناً ودعائم يتكون منها ويتقوم منها. والمسلم عليه أن يأتي بهذه الأركان كلها، ومبدؤها -كما هو معروف- الإتيان بالشهادتين، ويتفرع عن الشهادتين قبول الرسالة، فإن من أتى بـ (لا إله إلا الله) لزمته جميع أنواع العبودية، لأنك إذا قلت: لا إله إلا الله. قلنا: الله هو الإله، فهو المعبود، وهو المحمود، وهو المدعو، وهو الذي يشكر، وهو الذي يذكر، وهو الذي يتقرب إليه، وهو الذي يطاع، وهو الذي يوحد. وإذا قلت: إن محمداً رسول الله، أو: عبد الله ورسوله. قلنا: إذا قلت ذلك فيلزمك أن تؤمن به، وأن تصدقه، وأن تتبعه، وأن تحبه، وأن تتأسى به وتقتدي به، وأن تقدم سنته على غيرها، ونحو ذلك، ويلزمك أن تعتقد صحة رسالته، وأن تقبل كل ما بلغه، فكل ذلك من تمام قولك: إنه رسول الله. فإن وظيفة الرسول أنه يطيعه المرسل إليهم. هذا معنى تلازم الشهادتين، وتلازم وصف الإيمان والإسلام. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 15 نفي الاحتجاج بآية الذاريات على ترادف الإيمان والإسلام قال الشارح رحمه الله: [وأما الاحتجاج بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] على ترادف الإسلام والإيمان، فلا حجة فيه؛ لأن البيت المخرج كانوا متصفين بالإسلام والإيمان، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما. والظاهر: أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وإنما هي من الأصحاب، فإن غالبها ساقط لا يرتضيه أبو حنيفة! وقد حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد، وأن حماد بن زيد لما روى له حديث: (أي الإسلام أفضل؟) إلى آخره، قال له: ألا تراه يقول: (أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان) ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه يا أبا حنيفة؟ قال: بم أجيبه، وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!] . قد سبق كلام طويل يتعلق بالإيمان والإسلام، وما يدخل في الإسلام، وما يدخل في الإيمان، والمسألة قديمة، حدث فيها خلاف بين المرجئة وبين أهل السنة، فذهب المرجئة إلى أن الإيمان هو تصديق القلب، وجعلوا الأعمال ليست من مسمى الإيمان، وذهب أهل السنة إلى أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأن الإيمان له شعب وله فروع، كلها تسمى إيماناً، فتسمى الصلاة إيماناً أو شعبة من الإيمان، والشهادتان إيمان أو بعض من أصل الإيمان، والزكاة من الإيمان، والصدقة من الإيمان، والأذكار والأدعية إيمان وهكذا. وسبق -أيضاً- الخلاف: هل الإسلام غير الإيمان؟ وهل هما متغايران أم مترادفان؟ فذهب بعضهم إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد. والمحققون على أن الإسلام أوسع من الإيمان، وأن الإنسان قد يصير مسلماً ولا يصل إلى درجة الإيمان، فعلى هذا يكون الإيمان أخص من الإسلام. والذين سووا بينهما احتجوا على أن الإسلام والإيمان شيء واحد بهذه الآيات التي في سورة الذاريات، وهي قوله تعالى في قصة قوم لوط: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] ، والكلام من الملائكة الذين يخاطبون إبراهيم عليه السلام بأنهم سوف يخرجون أهل الإيمان، فوصفوا أهل ذلك البيت -وهم لوط وأهل بيته- بأنهم مسلمون وبأنهم مؤمنون؛ فقيل: لأن الإيمان والإسلام مترادفان. والصحيح أن الآية لا تدل على أن الإسلام هو الإيمان، وذلك لأن أهل بيت لوط كانوا متصفين بالإسلام وبالإيمان، فالإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان هو العقيدة الراسخة، كما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام في حديث جبريل بأركانه الخمسة، وفسر الإيمان بأركانه الستة، فجعل الإسلام أعمالاً: الشهادتين، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم. وجعل الإيمان عقيدة، وهو: التصديق بالله، وبالملائكة، وبالرسل، وبالكتب، وبالبعث بعد الموت، وبالقضاء والقدر، جعل هذا هو الإيمان، فأفاد أن الإيمان أصلاً هو ما يقوم بالقلب من هذا التصديق، ولكن لا شك أن التصديق إذا كان راسخاً في العقل متمكناً في القلب نتجت عنه الأعمال، فأصبحت الأعمال هي الدلالة على أن هناك تصديقاً صادقاً، فلذلك دخلت العبادات في اسم الإيمان، فهذا أوضح الأدلة في أن الإسلام أوسع من الإيمان. قد ذكرنا أن من العلماء من جعل الإسلام والإيمان والإحسان درجات، فمثلاً: درجة الأرضية الواسعة هي الإسلام، والدرجة الثانية: هي الإيمان، كأن المؤمنين خلاصة من المسلمين، انتقوا وخلصوا حتى صعدوا إلى الدرجة الثانية أو المرتبة الثانية، ثم خلصت من المؤمنين خلاصة الخلاصة وصفوة الصفوة، وجعلوا في المرتبة الثالثة، وسموا بالمحسنين أو بأهل الإحسان، كما في حديث جبريل أنه قسم المراتب ثلاثاً: الإسلام، والإيمان والإحسان، فأوسعهم أهل الإسلام، ثم بعد ذلك خلاصتهم أهل الإيمان، ثم بعده خلاصة الخلاصة أهل الإحسان، وهم أقل. فيقال في أولئك الخلاصة: أنتم مسلمون ومؤمنون ومحسنون، أسلمتم أولاً، ثم آمنتم بعد ذلك، ثم أحسنتم ووصلتم إلى الرتبة العالية. ويقال لأهل الإيمان: آمنتم بعدما أسلمتم. ويقال لأهل الإسلام: أسلمتم فقط، لم تصلوا إلى الإيمان. فعلى هذا فالإنسان الكامل هو الذي وصل إلى مرتبة الإحسان، أسلم ثم آمن ثم أحسن، وقد تقدم تفسير الإحسان بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، فكذلك يقال: الإيمان الحقيقي هو الذي تنتج عنه الأعمال، أما تصديق لا تنتج عنه أعمال فليس بإيمان. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 16 الشبه الواردة عن الحنفية لإخراج الأعمال عن الإيمان ليست منقولة عن الإمام أبي حنيفة هذه الحجج التي أوردها الشارح على أنها أدلة للحنفية في التفريق بين الإسلام والإيمان، ويجعلون الإيمان مجرد التصديق، ويجعلون أعمال الإسلام ليست داخلة في الإيمان؛ يقول الشارح: إن هذه الأدلة ضعيفة، وإنها لا يمكن أن تصدر من أبي حنيفة مع جلالته ومع معرفته ومع قوة فهمه، لكونها منهارة ضعيفة. واستدل على أن أبا حنيفة متى احتج عليه بالحديث توقف عن رده، كما احتج عليه حماد بن زيد -وهو من علماء الحديث- في التفرقة بين المسلمين والتفاوت بينهم، بقوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (ما أفضل الإسلام؟ فقال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله) ، فجعل الإيمان زائداً عن مسمى الإسلام، فدل على أن المسلمين يتفاوتون، فإذا كان المسلم ممن تمكن الإسلام في قلبه وصل إلى مرتبة الإيمان، وهي: قوة العقيدة مع الانبعاث على العمل، فـ أبو حنيفة لما احتج عليه بهذا الحديث الذي فيه تفاضل أهل الإسلام، وأنه صلى الله عليه وسلم جعلهم متفاضلين، وجعل أفضل أعمال الإسلام هو الإيمان؛ أقر ذلك أبو حنيفة ولم يرد الحديث، مع أن أصحابه يتشوفون إلى رد ذلك الدليل، ولكنه سلم له، فيستدل على أن هذه الاحتجاجات الضعيفة ليست من أبي حنيفة، وإنما هي من أصحابه الذين يتعصبون لمذهبه. وهذه الآية يحتجون بها على تغاير الإسلام والإيمان، قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] ، كأنه أخبر بأنه أخرج من كان فيها من المؤمنين، فلم يجد فيها إلا بيتاً واحداً من المسلمين، وهم لوط وأهل بيته، فلوط عليه السلام وأهل بيته لا شك أنهم جمعوا بين الوصفين: بين الإيمان والإسلام، ولهذا استثنى الله امرأته وقال: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف:83] ، {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:171] . إذاً: لا منافاة بين هذا الدليل وتلك الأدلة، بل هو دليل واضح على أن الإسلام يستلزم الإيمان، فلا يتم الإيمان إلا بأركان الإسلام، ولا يتم الإسلام إلا بأركان الإيمان، ومن أتى بواحد منهما دون الآخر لم يقبل منه، فمن أتى بالأعمال الظاهرة، ولم تكن عن يقين وعن عقيدة وعن تصديق بقلبه لم يكن مؤمناً، ولم ينفعه الإسلام، ومن اعتقد اعتقاداً جازماً، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وصدق بخبر الله، وصدق بالبعث بعد الموت، ثم لم يعمل ولم يصلِ ولم يصم ولم يحج، ولم يؤد زكاة ماله، ولم يأت بواجباته، ولم يحرم الحرام ولم يحل الحلال؛ فليس بمؤمن، ولو ادعى أنه مطمئن قلبه بالإيمان، هذا مقتضى هذه الآيات. هذه هي الشبه التي يدلي بها الحنفية، ويدعون أنهم ينصرون بذلك مذهب أبي حنيفة في أن الأعمال ليست من مسمى الإيمان، وأن الإسلام مغاير للإيمان، حيث يذهبون إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، ويخرجون الأعمال من مسمى الإيمان. والصحيح مذهب الجمهور: أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأن هذه الشبهات التي يستدلون بها، ويدعون أنها أدلة لـ أبي حنيفة لم تكن منقولة عن أبي حنيفة نفسه، فهو رحمه الله من أجلاء السلف ومن أجلاء التابعين، ولم يكن ليدلي بهذه الشبهات، ولا يشكك بها في هذه العقيدة، فإن عقيدته سليمة صحيحة، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، ولكن لما اشتهر عن الحنفية أنهم يخرجون الأعمال من مسمى الإيمان أخذوا يجمعون ما يستطيعونه من الشبهات وما يسمونه بالأدلة، فأوردوها كنصرة لمذهبهم، والصحيح: أنه لا دلالة فيها كما ذكرنا، بل الأدلة واضحة في أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وثمرة من ثمراته. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 17 شرح العقيدة الطحاوية [46] الاستثناء في الإيمان بقول: أنا مؤمن إن شاء الله، من المسائل التي كثر فيها الخلاف، والراجح فيها هو التفصيل، فيجوز باعتبار ولا يجوز باعتبار، كما بين ذلك أهل السنة. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 1 أهمية دراسة العقيدة اجتمعنا في هذا المسجد المبارك لنستمع ونقرأ ما يتعلق بأصل ديننا، الأصل الأصيل الذي هو المعتقد، وما يتفرع عن ذلك المعتقد؛ وذلك أنه متى تأسست الأصول انبنت عليها الفروع، وإذا خربت الأصول سقطت الفروع، فالأصل لهذا الدين هو العقيدة، والفروع هي العبادات، فإذا كانت العقيدة راسخة في القلب نبعت عنها الأعمال، فأنتجت أعمالاً صالحة، وحصل من آثار تلك العقيدة الراسخة امتثال الأوامر، وترك الزواجر، والتصديق بالأخبار، والعمل الصالح، والعلم النافع، وكل ذلك من نتائج هذا الأصل الأصيل، ومن فروع هذه العقيدة. وبنظرنا في سير سلفنا الصالح نرى أنه لما كانت العقيدة متمكنة في قلوبهم أكثروا من الأعمال الصالحة، وصدقوا بما أخبر الله، واندفعوا في تحقيق تلك الأوامر، وأفنوا في ذلك أموالهم وأنفسهم وبلادهم، وهانت عليهم كلها في سبيل تحقيق عقيدتهم، وترك ما كان عليه آباؤهم وأسلافهم. لما عرفوا صحة الرسالة، وعرفوا صحة التوحيد، وعرفوا حقيقة الإيمان بالبعث، وعرفوا ثواب الله تعالى في الآخرة، وعرفوا صدق ما وعد الله تعالى به لهم؛ هانت عليهم بلادهم فتركوها، وهانت عليهم أموالهم، وسهلت عليهم عشائرهم وأزواجهم وأقاربهم، كل ذلك أصبح هيناً عليهم في سبيل تمكنهم من علمهم، وتمكنهم من العمل الذي أمروا به. كذلك لما رسخت العقيدة في قلوبهم صدقوا بوعد الله الذي وعدهم أن ينصرهم، وأن يقويهم، وأن يمكن لهم في الأرض، وأن يستخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم، وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمناً، فلما صدقوا هذا ورسخ وتمكن في قلوبهم، عند ذلك قاتلوا في سبيل الله وقتلوا، وكذلك هاجروا وهجروا كل قريب وبعيد، كل ذلك لأجل تصديقهم بخبر ربهم، وتصديقهم بوعده ووعيده، وطلبهم ما وعد الله لهم من الثواب الجزيل في الآخرة. والذي حملهم على أن يقاتلوا الأعداء مع كثرتهم، ويصبروا حتى نصرهم الله، تصديقهم بوعد الله، حيث تمكن ذلك من قلوبهم، فقابلوا أعداد الكفار وعددهم، وقابلوا جيوشهم الهائلة المتراكمة، واثقين بأن الله لا يخلف وعده. لا شك أن ذلك لأجل تمكن العقيدة في قلوبهم، وهكذا أتباعهم من بعدهم، فمن تأمل سيرة العلماء الذين بلغتهم السنة الصحيحة فتقبلوها، وجاءتهم الشريعة فصدقوها، وعلموا صحة ما جاء في هذه الرسالة، فآمنوا به إيماناً صحيحاً، لا يعتريه شك ولا ريب، فلما خالفهم من خالفهم، ولما أنكر عليهم بعض المبتدعة الذين زاغوا وضلوا، وحاولوا أن يردوهم عما هم عليه من المعتقد؛ امتنعوا أشد الامتناع، وأصروا على ما هم عليه، وأبوا إلا أن يدينوا بما يعرفونه وبما يعتقدونه، ولو خالفتهم فئام الناس، ولو هددوهم؛ كما حصل للأئمة. ما الذي حملهم على الصبر على السجون؟ ما الذي حملهم أن يصبروا على الأذى؟ ما الذي حملهم أن يصبروا على الضرب وعلى الجلد كما حصل للإمام أحمد وابن تيمية وغيرهما؟ لا شك أنه ما رسخ في قلوبهم من تلك العقيدة التي نالوها من هذه الشريعة، فوثقوا بخبر الله سبحانه وتعالى، وصدقوا ما جاء عنه، وعلموا أن النصر لهم، وأن العاقبة الحميدة لهم، وأن مآل الانتصار والظهور لمن كان على الحق، ولو ناوأهم من ناوأهم، وخالفهم من خالفهم. لا شك أن هذا كله من آثار صدق تلك العقيدة، ومن آثار قوة إيمانهم وتصديقهم. نقول: إن الواجب علينا أن نكون مثلهم، نحن تلقينا العقيدة مثلما تلقوها، هم تلقوها عن مشايخهم، وهكذا عن آبائهم وأسلافهم، ولما تلقوها عرفوا أنها صحيحة ثابتة، فتركزت تلك العقيدة على الإيمان بالله، والإيمان بخبر الله، والإيمان بوعده ووعيده، والإيمان بكتبه ورسله، والإيمان بأمره ونهيه، والإيمان بقدره وشرعه، آمنوا بذلك، يعني: صدقوا به غاية التصديق، وقوي في أنفسهم، وقامت عليه الدلالات والبراهين، ولم يخطر ببالهم شك ولا ريب ولا توقف ولا شبهة تعتريهم، بل متى ألقيت عليهم شبهة أو شك في البعث، أو في النشور، أو في الجزاء، أو في الحساب، أو في الأمر والنهي؛ احترقت تلك الشبهة قبل أن تتمكن في قلوبهم؛ وذلك لقوة البراهين التي تضعف عندها تلك الشبه. فنحن بحاجة إلى أن نعرف تلك البراهين والأدلة التي قامت عليها هذه العقيدة، بحاجة إلى أن ندرسها، ونعرف كيفية دلالتها، ودلالتها وإن كانت واضحة، ولكن تحتاج إلى قلوب فارغة من أضدادها. إذاً: نحن بحاجة إلى أن نفرغ قلوبنا لها، تأتي إلينا وقلوبنا فارغة من الشبهات، فارغة من الشواغل، فارغة من الأضداد، فارغة من الضلالات والبدع، فإذا كان كذلك فإن العقيدة الراسية ترسخ فيها، ولا تتزعزع مهما اعتراها. أما إذا تلقت تلك القلوب الفارغة بدعاً وضلالات وشركيات وخرافات في حالة فراغها، ولم تصغ إلا لها، ثم عرضت عليها بعد ذلك الأدلة الصحيحة، أو البراهين الساطعة، فإن تلك القلوب لا تجد لها مكاناً، فتبقى تلك القلوب مقفلة لا يدخلها الحق؛ لأنها امتلأت بالضلال فلم يجد الحق إليها سبيلاً، امتلأت القلوب الفاسدة بالبدع، فلم تجد السنة فيها مكاناً، امتلأت بالخرافات، وامتلأت بالمحدثات، وامتلأت بالشبهات، فلم يجد الدليل إليها وصولاً، فلا حيلة فيها إلا أن يشاء الله. نحن نعجب من أهل البدع، وتمكن البدع في نفوسهم، وتمسكهم بها مع أنها تمجها النفوس، تمجها العقول، تنكرها الطباع والفطر، ومع ذلك يتمسكون بها غاية التمسك، ويعضون عليها بالنواجذ، ولو أتيتهم بكل آية ما أقلعوا عنها إلا أن يشاء الله، تأملوا -مثلاً- في الشيعة والرافضة الذين نشئوا على عقيدة زائغة، تأملوا كيف أنهم يبقون على هذه العقيدة، ويلقنون عليها أولادهم منذ الطفولة، ثم يحاول المحاولون في أن يقلعوا عنها، ويبينوا لهم السنة، ويبينوا لهم الدليل، ولكن يدخل الكلام من أذن ويخرج من الأخرى دون أن يصل إلى القلوب، بل قلوبهم ليس فيها مكان للتقبل. كذلك الكثير من المبتدعة من أشعرية، من معتزلة، من جبرية، من مكارمة وغيرهم، لما امتلأت قلوبهم في الطفولة وفي الصغر بهذه الشبهات لم يجد الحق إليها سبيلاً. ونحث المسلم أن يلقن أولاده في طفولتهم معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام، ومعرفة الحساب والجزاء، ومعرفة الأسماء والصفات، ومعرفة ما أمر به، وما نهي عنه؛ حتى يرسخ ذلك في قلبه ويحبه ويألفه، فإذا لقن غيره من الخرافات ودعي إليها لم يتقبل ذلك، بل نفر منها غاية النفرة، بخلاف ما إذا بقي جاهلاً لا يعرف شيئاً، أو لقن في صغره عقيدة زائغة، فإنه لا يقبل العقيدة الصحيحة، فهكذا فلنكن، وهكذا فلنتمكن من عقيدتنا، وهكذا فلتظهر آثارها. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 2 الاستثناء في الإيمان قال المصنف رحمه الله: [ومن ثمرات هذا الاختلاف: مسألة الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول -أي: الرجل-: أنا مؤمن إن شاء الله. والناس فيه على ثلاثة أقوال؛ طرفان ووسط: منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار، وهذا أصح الأقوال. أما من يوجبه فلهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به. قالوا: والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان، كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم. وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً، فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد، وليس هذا قول السلف، ولا كان يقول بهذا من يستثني من السلف في إيمانه، وهو فاسد، فإن الله تعالى قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] ، فأخبر أنه يحبهم إن اتبعوا الرسول، فاتباع الرسول شرط المحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة. ثم صار إلى هذا القول طائفة غلوا فيه، حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، يقول: صليت إن شاء الله! ونحو ذلك، يعني: القبول. ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء، فيقول أحدهم: هذا ثوب إن شاء الله! هذا حبل إن شاء الله! فإذا قيل لهم: هذا لا شك فيه؟ يقولون: نعم، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره!! المأخذ الثاني: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن -بهذا الاعتبار- فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين، القائمين بجميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله المقربين، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخره كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ويحتجون بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه بقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] . وقال صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) وقال أيضاً: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله) ونظائر هذا] . الجزء: 46 ¦ الصفحة: 3 القول بوجوب الاستثناء في الإيمان هذه مسألة يتكلمون عليها في هذا الموضع، وهي مسألة الاستثناء في الإيمان، بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله، أنا مسلم إن شاء الله، فمن العلماء من يوجبه، ومنهم من يحرم الاستثناء، ومنهم من يجوزه ولا يوجبه، أو يوجبه في حال دون حال. سمعنا أن أتباع ابن كرام ومن يقرب من الأشاعرة يوجبون الاستثناء، فيوجبون أن يقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله. ثم تجاوزوا ذلك فصاروا يستثنون في الأشياء الظاهرة، فإذا صلى أحدهم قال: صليت إن شاء الله. وإذا دخل أو خرج قال: دخلت أو خرجت إن شاء الله. حتى يقول: هذا ثوب إن شاء الله، هذا قلم أو كتاب إن شاء الله؛ مع أنه لا يشك فيه! هؤلاء لهم مأخذ، يقولون: السبب أنا لا ندري ما الخاتمة وما هي العاقبة، فإن الإنسان إنما يكون مؤمناً إذا مات على الإيمان، ونحن لا ندري، ربما يحصل من أحدنا غير ما كان عليه، فلذلك يستثنون. يقولون: لأن الله أعلم بالخواتيم، وهو أعلم بما نحن نموت عليه. صحيح أن الله تعالى أعلم بالخاتمة، وأعلم بالعاقبة، وأعلم بما يموت عليه الإنسان، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن الإنسان يكون مكتوباً عند الله من أهل النار، وهو أكثر وقته يعمل بعمل أهل الجنة، في قوله: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، ويعمل بعمل أهل النار فيدخلها) ، فهو طوال حياته يعمل بأعمال أهل الجنة، ومع أهل الجنة، ثم يرتد في آخر حياته، ويختم له بعمل أهل النار، فيدخل النار. ومن الحكايات المشهورة التي ذكرها كثير من المؤرخين: أن رجلاً كان مؤذناً من صالحي عباد الله، محافظاً على الصلاة، ومحافظاً على الأذان، ومحافظاً على الأعمال الصالحة، فصعد مرة إلى المئذنة ليؤذن، فلفت نظره ابنة أحد جيران المسجد، وقد أسفرت، فتعلق قلبه بها، فترك الأذان ونزل وطرق باب أهلها وقال: أريدك. فقالت: لماذا؟ فقال: أتزوجك. قالت: أنا نصرانية، وأنت مسلم! فعند ذلك قال: سوف أترك ديني وأدخل في دينك، وأتنصر. فتنصر، ولما تنصر وعقد له عليها مات قبل أن يدخل بها، فختم له بعمل أهل النار!! هذا مثال، والأمثلة كثيرة. فيقولون: إن العاقبة خفية علينا، فالاستثناء إنما هو بالنظر إلى العاقبة. و الجواب أننا نقول لكم: لا نسألكم عن العاقبة، إنما نسألكم عن الحال الذي أنتم فيه، وما قام الآن بقلوبكم، أما العواقب فأمرها إلى الله تعالى. فعلى هذا إذا سألك إنسان: ما دينك؟ فلا تقل: ديني الإسلام إن شاء الله؛ إلا على وجه التبرك، بل تجزم وتقول: نعم، أنا مسلم من أهل الإسلام، وفي بلاد الإسلام، وديني الإسلام، وأعتقد ما يعتقده المسلمون، دون أن أستثني ودون أن أتردد ودون أن أتوقف، والعاقبة للمتقين، وأمر الخاتمة إلى الله تعالى. وصحيح -أيضاً- أن الإنسان إنما يجازى بما مات عليه، فإن كانت حياته حياة كفر، ثم ختم له بالإسلام والإيمان فهو محبوب عند الله، وإن كانت حياته حياة إيمان، ولكن ختم له بكفر، فهو مبغوض عند الله طوال حياته، فإذا علم الله أن هذا الإنسان يموت كافراً فإن الله يبغضه حتى ولو كان يجاهد، ولو كان يصلي، ولو كان يتهجد، ولو كان يقرأ طوال حياته، ولو كانت يتدبر آيات الله، ولو كان يعظ وينصح، فهو مبغوض ممقوت عند الله منذ خلق، وإذا علم الله أن إنساناً يموت على الخير، ويموت على الدين، ويموت على الإسلام، ولكن أكثر حياته يشرك بالله ويكفر به، ويعصي، ويزني، ويرابي، ويقتل المسلمين ويقاتلهم، ويشن عليهم الغارات، ويشجع من يقاتلهم، ويحث على رد الإسلام والرد عليه، ومع ذلك يؤمل أنه يهتدي، والله يعلم أنه يختم له بخاتمة حسنة، يقولون: هو ما زال محبوباً عند الله، وإن كانت أعماله كفرية أو بدعية أو نحو ذلك. وبكل حال: هذا قول الذين يوجبون الاستثناء. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 4 القول بجواز الاستثناء في الإيمان وعدم وجوبه الذين يجوزون الاستثناء ولا يوجبونه، أو يجوزونه في بعض الحالات، يعرفون بأنهم الذين يستثنون من غير شك ومن غير توقف، هؤلاء يقولون: إن الله تعالى قد ذكر الاستثناء للتبرك، وذكر الاستثناء في الأمور التي لا يشك فيها، فروى صلى الله عليه وسلم عن سليمان نبي الله أنه لم يستثنِ، فحرم ما طلبه أو ما أمله، وذلك لما قال: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة، كل امرأة تلد غلاماً يقاتل في سبيل الله. فقيل له: قل: إن شاء الله. فلم يقل. فقال صلى الله عليه وسلم: لو قال: إن شاء الله لقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعون) ، وما ولدت منهن إلا واحدة نصف إنسان؛ لأنه لم يقل: إن شاء الله. وكذلك ذكروا أنه صلى الله عليه وسلم جاءته قريش وقالوا له: أخبرنا عن أمور نسألك عنها: أخبرنا عن فتية في سالف الزمان، وكان لهم حديث عجيب -يعنون أصحاب الكهف- وأخبرنا عن رجل طواف، طاف مشارق الأرض ومغاربها -يعنون ذا القرنين - وأخبرنا عن الروح. فقال: سأخبركم عنها غداً. ولم يقل: إن شاء الله. فعاتبه الله، وقال له: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24] فتأخر عنه الوحي خمسة عشر يوماً لأنه لم يقل: إن شاء الله، فدل على أن الاستثناء يحصل به تحقيق المطلب. وكذلك عاتب الله أصحاب الجنة الذين ذكروا في سورة القلم، فقال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17-18] جزموا بقولهم: والله! لنصرمنها في الصباح، ولم يقولوا: إن شاء الله، لم يستثنوا؛ فكانت العاقبة أن حرموا منها: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:19] حريق أو رياح، {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:20] جزاء لهم لأنهم لم يقولوا: إن شاء الله، وجزاء لهم لما توعدوا ألا يدخلها عليهم مسكين. وبكل حال: فالاستثناء جائز إذا لم يكن عن شك، يقول إنسان: أنا مؤمن إن شاء الله. ولا يقصد بذلك الشك والتوقف، ويقول: أنا سوف أصلي إن شاء الله -ولو كان جازماً- وسوف أصوم إن شاء الله -ولو كان جازماً- ولو لم يكن بذلك متردداً، ولا شاكاً فيما هو جازم عليه. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 5 القول بتحريم الاستثناء في الإيمان قال المصنف رحمه الله: [وأما من يحرمه: فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً، فيقول: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، فقولي: أنا مؤمن، كقولي: أنا مسلم، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه. وسموا الذين يستثنون في إيمانهم: الشكاكة. وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] بأنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه، وقيل: لتدخلن جميعكم أو بعضكم؛ لأنه علم أن بعضهم يموت. وفي كلا الجوابين نظر: فإنهم وقعوا فيما فروا منه، فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين، مع علمه بذلك، فلا شك في الدخول ولا في الأمن، ولا في دخول الجميع أو البعض، فإن الله قد علم من يدخل فلا شك فيه أيضاً، فكان قول: إن شاء الله. هنا تحقيقاً للدخول، كما يقول الرجل فيما عزم على شيء أن يفعله لا محالة: والله لأفعلن كذا إن شاء الله. لا يقولها لشك في إرادته وعزمه، ولكن إنما لا يحنث الحالف في مثل هذه اليمين؛ لأنه لا يجزم بحصول مراده. وأجيب بجواب آخر لا بأس به، وهو: أنه قال ذلك تعليماً لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن مستقبل. وفي كون هذا المعنى مراداً من النص نظر، فإنه ما سيق الكلام له، إلا أن يكون مراداً من إشارة النص. وأجاب الزمخشري بجوابين آخرين باطلين، وهما: أن يكون الملك قد قاله فأثبت قرآناً أو أن الرسول قاله! فعند هذا المسكين يكون من القرآن ما هو غير كلام الله! فيدخل في وعيد من قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] نسأل الله العافية!] . هؤلاء هم الذين يمنعون الاستثناء أصلاً، ويسمون من يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. شاكاً، ويسمون المستثنين شكاكاً، يقولون: أنت تشك في نفسك، وتشك في إيمانك، كيف تشك وأنت جازم بأنك من أهل الإسلام، وبأنك من أهل الإيمان؟! أنت تعرف أنك تتشهد الشهادتين، قد نطقت بالشهادتين، ومعلوم أن من نطق بالشهادتين دخل في الإسلام، فإذا دخل في الإسلام فليس شاكاً فيه. فكذلك -أيضاً- إذا دخل في الإيمان لم يكن شاكاً فيه، فيمنعون الاستثناء، ويحرمون أن يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله. بل يقول أحدهم: أنا مؤمن حقاً. كما يقول: أنا مسلم حقاً. لا شك أن الاستثناء في الإيمان يرجع إلى الخاتمة كما تقدم، ويرجع إلى الكمال، والقول الوسط هو المختار: وهو أن الإنسان إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله. كان قصده بذلك العاقبة، وكان قصده الكمال، يعني: أن الله يوفقني لأن أكمل أعمال الإيمان، وآتي بكل ما أمرت به، وبكل ما هو من الإيمان، وهذا علمه عند الله، فإذا شاء الله وفقني لذلك، هذا هو القول الوسط. أما الذين حرموا الاستثناء فإنهم يجزمون أو يقولون: إن الإنسان قد آمن يقيناً، فلم يكن في شك ولم يكن عنده تردد، هؤلاء يدعون أن الإيمان هو الكلمة، ويقولون: إن من قال: آمنت بالله. فقد كمل إيمانه، فلا حاجة إلى أن يستثني. وسمعنا جوابهم عن الآية، وهي قوله تعالى في سورة الفتح: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] ، فيقولون: الاستثناء إنما هو للأمن. يعني: أن الدخول محقق، ولكن الأمن فيه تردد. وهذا خطأ؛ لأن الله تعالى أخبر بالأمن كما أخبر بالدخول، وخبر الله محقق، فليس فيه تردد! إذاً: وقعوا فيما فروا فيه، فأجاب بعضهم بأن قوله: ((إن شاء الله)) راجع إلى دخولهم كلهم، حيث علم الله أن بعضهم يموت قبل الدخول. والجواب أيضاً: أن المراد أن الله تعالى أخبر بالدخول، وليس المراد دخول الذين خوطبوا بهذه الآية كلهم، بل المراد جنس الدخول، فإنه قد انضم إليهم غيرهم، وإن كان قد مات بعضهم. وأما جواب الزمخشري أن كلمة (إن شاء الله) ليست من كلام الله، وإنما هي من كلام جبريل أو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا قول بعيد، يلزم منه أن في القرآن ما ليس من كلام الله تعالى، والزمخشري ولو كان لغوياً لكنه معتزلي، دخل في الاعتزال وتمكن منه، فبنى ذلك على مذهبه الباطل. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 6 شرح العقيدة الطحاوية [47] الإيمان يشتمل على أفعال وتروك، وهو بضع وسبعون شعبة، ومن الإيمان تقديم قول رسول الله عليه الصلاة والسلام على قول كل أحد كائناً من كان، وعدم التحايل في رد السنة بدعوى مخالفة العقل، أو بدعوى أن الحديث آحاد، أو غير ذلك من طرق المبتدعة. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 1 اشتمال الإيمان على الأفعال والتروك مما يتعلق بالأمور الاعتقادية مسألة الإيمان بالله تعالى وما يلحق به، ولا شك أن الإيمان هو السمة والصفة التي تميز بها أتباع الرسل، ولأجل ذلك يدعو الله تعالى من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه بهذا الاسم، فيناديهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] ، ولم يرد: يا أيها الذين أسلموا، ولا: يا أيها الذين صدقوا، ولا: يا أيها الذين اتبعوا. بل تتابعت الآيات التي فيها الأوامر بهذا السياق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) . ولاشك أن هذا الوصف ميزة لمن اتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل بسنته، وصدقه حق تصديقه، ووطن نفسه على العمل بما جاء به. ولأجل ذلك يوجه الله الأوامر لهؤلاء تارة بالأعمال وتارة بالاعتقادات، فمن الأعمال قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] وما أشبه ذلك. ومن العقائد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] ، فهذا أمر بالاعتقاد، والمعنى: صدقوا بذلك كله، ومعلوم أن من صدق بالكتب المنزلة وبالكتاب الذي بين أيدينا؛ ظهرت عليه آثار هذا التصديق بالاتباع والعمل، وأما من لم يتبعه ولم يعمل به؛ فإنه لا يصدق عليه أنه مؤمن، فلابد أن يكون للإيمان آثار وعلامات على من ادعى تصديقه. وقد تكلم العلماء على هذا المسمى، وجعلوا هذا النوع تحت عنوان (أسماء الإيمان والدين) ، وجعلوا هذه المسميات لها حقائق، واعتقدوها مسميات شرعية، نقلها الشرع من المسميات اللغوية إلى مسميات شرعية، فيقال -مثلاً-: الإيمان في اللغة التصديق، والإيمان في الشرع قول وعمل واعتقاد، كما يقال: الإسلام في اللغة الإذعان، والإسلام في الشرع الاتباع والعمل. فالشرع نقل هذه المسميات إلى مسميات شرعية، فأصبحت بذلك ذات معانٍ مقصودة للشارع؛ ولأجل ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عاماً للأعمال، وعاماً للاعتقادات، وعاماً للأقوال. وفي الحديث أن شعب الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، ذكر منها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث شعب في نفس الحديث: شعبة قولية، وشعبة اعتقادية، وشعبة عملية. فالشعبة القولية أن: تقول: لا إله إلا الله. والشعبة الاعتقادية: الحياء من الإيمان. والشعبة العملية: إماطة الأذى عن الطريق. ومعنى ذلك: أن الإيمان يستوعب الأعمال كلها، ويستوعب الأقوال كلها، ويستوعب الاعتقادات كلها، فكلها داخلة في اسم الإيمان. ولأجل ذلك يتفاوت الناس في الإيمان، فيكون هذا ناقص الإيمان، وهذا متوسط الإيمان، وهذا كامل الإيمان، وهذا قدحت السيئات في إيمانه، وهذا قد استوفى خصال الإيمان وما أشبه ذلك، ونتج من ذلك أن الأعمال الصالحة من مسمى الإيمان، فيقال: الصلاة من الإيمان، والصدقة من الإيمان، والصوم من الإيمان، يعني: أنها أبعاض وأجزاء من هذا الإيمان الذين سمى الله به عباده. فلا يكون الإنسان كامل الإيمان إلا إذا كمل هذه الشعب، وأتى بها كما ينبغي، سواء كانت أفعالاً أو تروكاً، يعني: أن الأعمال من الإيمان، والتروك من الإيمان، وكيف تكون التروك من الإيمان؟ نقول: لا شك أنها إذا تركت خوفاً من الله تعالى كان الدافع على تركها هو قوة اليقين، ولأجل ذلك يعد تركها من الخصال العظيمة، وفي الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وعد منهم رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله) ؛ فما هو العمل الذي عمله حتى استحق أن يكون من أهل الظلال؟ هو أنه ترك الشهوة الجنسية التي في النفس منها دوافع، ومع ذلك لا يخاف محذوراً، فتركه هذا من أعظم الأفعال، يعني: أن هذا الترك مع قوة الدافع أعظم من كثير من الأعمال. وللعلماء خلاف: أيهما أفضل: ترك المحرمات أو فعل الطاعات؟ فمثلاً: إذا كان هناك إنسان له شهوة قوية تدفعه إلى فعل فاحشة الزنا ونحوه، ولكنه أمسك نفسه، وعصمها، وحفظها، وقادها بزمامها إلى الطاعات، وترك هذا الحرام مع قوة الدوافع إليه، أليس هذا قد جاهد نفسه؟ لا شك أن نفسه تدفعه دفعاً قوياً، ولكنه يقوى على قمعها، ويقوى على ردها، فهو دائماً في جهاد مع نفسه، فهذا يعتبر من أفضل القربات. كذلك إنسان أمامه المشروبات المحرمة كالخمور والمسكرات وما أشبهها، وهو يعرف أنها لذيذة الطعم، وأن النفس تشتهيها، ولكن عرف أنها محرمة، وأن فيها عقوبة؛ فرد نفسه، واجتهد في قمعها، وأمسك بزمامها، وحمى نفسه عن هذه المحرمات؛ فهو في نفسه مجاهد، مجتهد في قمع هذه الشهوة، تدفعه نفسه ولكنه يردها، ماذا تكون حالته؟ لا شك أنه في جهاد، قد يكون جهاد نفسه وقمعها مساوياً لجهاد الكفار، الذي هو بذل المال وبذل النفس في قتال أعداء الله تعالى. عندنا فعل يكون عبادة: كقتال الكفار، وكالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكالصلاة والصدقة والصوم والحج والعمرة وما أشبه ذلك. وعندنا ترك يكون عبادة: كترك الشهوات مع الدوافع إليها، فيثاب على ترك الزنا مع وجود الدوافع، وعلى ترك الخمور مع وجود الشهوات، وعلى ترك الأكل الحرام مع تيسره وسهولة تناوله، وعلى ترك المعاملات الربوية، وعلى ترك الغش مع وجود الدوافع له، وعلى ترك الجدال بغير حق، وعلى ترك السباب مع وجود من يسبه، وما أشبه ذلك. فيثاب الإنسان على التروك كما يثاب على الطاعات والقربات، والكل داخل في مسمى الإيمان. وبهذا نعرف أن الإيمان يستوعب خصال الطاعة، والخصال الخيرية كلها، ويستوعب ترك المحرمات، وكل ذلك داخل في مسمى الإيمان، فمن استكمله استكمل الإيمان، ومن نقص منه شيئاً نقص حظه من الإيمان. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 2 جواز الاستثناء في الإيمان إذا لم يكن للشك قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما من يجوز الاستثناء وتركه فهو أسعد بالدليل من الفريقين، وخير الأمور أوسطها، فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء، وهذا مما لا خلاف فيه. وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2-4] ، وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] ؛ فالاستثناء حينئذ جائز، وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة، وكذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله، لا شكاً في إيمانه، وهذا القول في القوة كما ترى] . من مسائل الإيمان: مسألة الاستثناء، أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ هل يجوز أو لا يجوز؟ فمنعه قوم، وقالوا: لا يجوز أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأن في ذلك توقفاً. وسموا من يستثني شاكاً، يقولون: أتشك في أنك مصدق؟! أتشك في أنك من أهل الدين؟! أتشك في أنك من أهل هذا الإسلام؟! هؤلاء منعوا الاستثناء. وأوجبه آخرون وقالوا: لا يجوز الجزم، فلا يجوز لأحد أن يقول: أنا مؤمن، أو أنا مؤمن حقاً؛ وذلك لأنه ربما ينقصه شيء من الإيمان، وربما يكون من غير أهل الإيمان في العاقبة، فأوجبوا الاستثناء، فصاروا يقولون: أنا مؤمن إن شاء الله. وتقدم أن منهم من يستثني حتى في الأشياء الحقيقية، فيقول بعضهم: هذا رجل إن شاء الله، أو: هذا بيت إن شاء الله، أو: هذا مالي إن شاء الله. وهؤلاء فيهم تشدد. والصحيح القول الوسط: أنه يجوز الاستثناء ويجوز تركه، فإن كان الذي يستثني شاكاً ومتردداً فلا يجوز الاستثناء على وجه الشك ولا على وجه التردد، وإن كان الذي يستثني إنما يستثني لأنه لم يصل إلى درجة الكمال جاز الاستثناء، ومعلوم أننا لم نصل إلى درجة كمال الإيمان، كمال الإيمان استيفاء بضع وسبعين شعبة، من الذي يستكملها على التمام؟! إذاً: فلنا أن نستثني؛ لعدم وثوقنا باستيفاء هذه الشعب كلها، لأنه لابد أن يكون عندي خلل، وعندي نقص في خصلة من الخصال، إما لم أكملها، وإما لم أعملها، وإما لم آت بها على الكمال أو ما أشبه ذلك، فإذاً: أنا أستثني حيث إن إيماني لم يصل إلى درجة الكمال، فأقول: أنا مؤمن إذا شاء الله، أو: إلا ما شاء الله، أو: إن شاء الله. كذلك معلوم أن من خصال المؤمنين ما يكون جامعاً لأفضل الخصال، والإنسان لا يثق بأنه وصل إلى ذلك، قال الله تعالى في سورة الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] ؛ قليل منا من يوجل قلبه عند ذكر الله إلا ما شاء الله، {إ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] يعني: يزدادوا أعمالاً، ونحن كل يوم نسمع آيات الله، ومع ذلك قليل منا من يزداد عملاً، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] قليل من يكون متوكلاً على الله حق التوكل، {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3] يعني: يتمونها تماماً كاملاً، فمثل هؤلاء قليل وجودهم، فلأجل ذلك إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله. يعني: أرجو أن أكون من أهل هذه الصفات؛ فلا بأس. وكذلك الآيات التي سمعنا في سورة الحجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] ، هذه -أيضاً- خصال قد يتعذر في الكثير استيفاؤها، وبذلك نعرف أن الاستثناء يعود إلى الكمال، يعني: أنا مؤمن ولكن لا أجزم بكمال إيماني، بل أرجو أن أكون من أهل هذه الخصال، ولكني لم أتحقق وصولي إليها، فيكون الاستثناء نظراً إلى الكمال، أو يكون الاستثناء نظراً إلى عاقبة الإنسان التي يموت عليها، فالله أعلم بها، فهو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. أي: أرجو أن أكون مؤمناً وأن أستمر على هذا الإيمان حتى يأتيني أجلي، فإذا استثنى بهذا الاعتبار جاز الاستثناء. هذا هو القول الوسط، لا أنه شك وتردد في تصديقه، ولا أنه جزم ببلوغه الرتبة العالية، وخير الأمور أوسطها. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 3 قبول ما صح عن الرسول من الشرع والبيان قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق) . يشير الشيخ رحمه الله بذلك إلى الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والرافضة، القائلين بأن الأخبار قسمان: متواتر، وآحاد، والمتواتر وإن كان قطعي السند لكنه غير قطعي الدلالة، فإن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، وبهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات. قالوا: والآحاد لا تفيد العلم، ولا يحتج بها من جهة طريقها، ولا من جهة متنها. فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية سموها قواطع عقلية وبراهين يقينية، وهي في التحقيق {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:39-40] . ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي، وعزلوا لأجلها النصوص؛ فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص، ولم يظفروا بقضايا العقول الصحيحة المؤيدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية، ولو حكموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح، الموافق للفطرة السليمة. بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته، وما ظنه معقولاً، فما وافقه قال: إنه محكم، وقبله واحتج به! وما خالفه قال: إنه متشابه، ثم رده، وسمى رده تفويضاً أو حرفه، وسمى تحريفه تأويلاً! فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم] . الجزء: 47 ¦ الصفحة: 4 موقف المؤمن من الأدلة السمعية أكمل الشارح الكلام على أسماء الإيمان والدين، وابتدأ المتن في إجمال قول أهل السنة في الأدلة، معلوم أن الأدلة عقلية ونقلية، الأدلة العقلية: هي ما دلت عليه الفطرة، وما تشهد بسلامته وملاءمته العقول المستقيمة والفطر السليمة، ولا شك أن الإسلام هو دين الفطرة، يقول الله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] ، ولا شك أن دين الإسلام موافق لما دلت عليه العقول السليمة، وغير مخالف لها. أما النوع الثاني: فهو الأدلة السمعية النقلية، ويراد بها: الكتاب والسنة، فإنهما نقول منقولة نقلها كابر عن كابر، وهي أدلة سمعية، سمعها هذا عن شيخه، والشيخ عن شيخه إلى أن اتصلت بالرسول صلى الله عليه وسلم، وتناقلوها، فأنت -مثلاً- علمك أستاذك القرآن والسنة، وشيخك علمه شيخه، وهكذا شيخ شيخك تعلم من شيخه، إلى أن اتصلت السلسلة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام جاء إليه الوحي من الله تعالى، ولا شك أن وحي الله إلى أنبيائه لا يتطرق إليه شك، ولا يكون فيه توقف في صحته؛ فإذاً: هي أدلة سمعية يقينية متلقاة عن الشرع الشريف. فماذا يجب علينا نحوها؟ يجب علينا أن نؤمن بها، وأن نعمل بها، وأن نتقبلها، ولا نتوقف في قبول شيء منها، فنعمل بها في العقائد كما نعمل بها في الأحكام، ونعتبر بها، ونمتثل ما فيها، وإذا سمعنا آيات الوعيد خفنا، وإذا سمعنا آيات الوعد رجونا، وإذا سمعنا القصص تفكرنا، وإذا رأينا الأمثال اعتبرنا، وإذا جاءتنا الأحكام عملنا، وإذا جاءتنا الأخبار صدقنا، هذه وظيفة المسلم، وهذا عمله، عمل المؤمن أنه يتقبلها؛ لماذا؟ لأنه جاءك الوحي من الله بواسطة الرسول، وعقولنا قاصرة لا تصل إلى معرفة ما يحبه الله وما يكرهه، ولا تحيط بما في الملأ الأعلى، ولا بما في الدار الآخرة، وكل ذلك يتوقف على النقل، ويتوقف على السمع الذي طريقه الاتباع. فنقول: إن من واجب المسلمين أن يقدموا قول الله وقول رسوله على قول كل أحد، وأن يعملوا بهذه الأدلة وبهذه النصوص، ويقدموها على العقول، وعلى أقوال المشايخ، وعلى أقوال فلان وفلان؛ حتى يكونوا بذلك متبعين حق الاتباع. قد أمر الله تعالى المؤمنين بالاتباع في قوله: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] ، وفي قوله: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] ، متى يكون الإنسان متبعاً للرسول عليه الصلاة والسلام؟ إذا عمل بما جاء به، وهل العمل بما جاء به يختص بالأفعال أو يعم العقائد؟ لا شك أنه يعم العقائد، فيجب على المسلم أن يتلقى العقيدة من كتاب الله، فترسخ في قلبه، وإذا رسخت وتمكنت في قلبه كان من آثارها أن تنبعث جوارحه لتعمل، وإلا فليس بمصدق، وليس بمتبع، وليس بمؤمن حقاً. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 5 موقف المبتدعة من الأدلة السمعية ذكر الشارح رحمه الله أن المخالفين سدوا على أنفسهم باب السمع، فالأدلة من القرآن والأدلة من السنة لما كانت مخالفة لعقولهم لم يقبلوها، الأدلة من القرآن قطعية الدلالة قطعية الثبوت، فلا يترددون في أن هذا القرآن هو كلام الله المنزل، ولا يترددون في أنه نقل نقلاً متواتراً، نقلته الأمة في شرق الأرض وفي غربها، يقرؤه هؤلاء لهؤلاء، لا يترددون في صحته ولا في ثبوته. ولكن فيه نصوص تخالف معتقداتهم، وفيه أدلة قطعية الثبوت تخالف ما ذهبوا إليه؛ فالمعتزلة والأشعرية والجهمية والجبرية والشيعة وما أشبههم؛ لهم عقائد منحرفة، من أين أخذوا عقائدهم؟ من عقولهم، فحكموا عقولهم وجعلوها هي المرجع! قرأت لبعضهم يقول: ما علمنا صدق الرسل إلا بعقولنا، فإذا جاء عن الرسل شيء يخالف ما في عقولنا رددناه. نقول: عجباً لكم! ما دامت قد أيقنت عقولكم بصدقهم، فما عليكم إلا أن تتقبلوا كل ما جاء عنهم، فأما أن تشهد عقولكم بصدقهم، ثم تقولون: نأخذ من أقوالهم ما يوافق عقولنا، ونرد ما يخالف عقولنا، فما كنتم بمصدقين ولا بصادقين في الاتباع. كذلك هم يقولون: الآيات القرآنية ثابتة يقينية قطعية الثبوت؛ ولكن ليست بقطعية الدلالة، فدلالتها غير واضحة. فأخذوا يسلطون عليها التحريف، وسموا هذا التحريف تأويلاً، وبالأخص فيما يتعلق بالصفات وبالأسماء، سلطوا عليها التأويل، وهو في الحقيقة تحريف. مثلاً: الأشعرية أولوا كثيراً من آيات الصفات: كآيات المحبة، وآيات الرحمة، وآيات الغضب والرضا. وكذلك الصفات الذاتية: أولوا صفة الوجه، وصفة اليدين. وأولوا الصفات الفعلية: كصفة العلو، وصفة الاستواء. ما كذبوها لكن أولوا أدلتها، ثم أثبتوا بعض الصفات: كصفة الكلام، مع أن قولهم في الكلام غير واضح كما تقدم، وأثبتوا الرؤية في الآخرة ولكن لم يثبتوها كما ينبغي، وأثبتوا صفة الإرادة وصفة السمع والبصر إلى آخرها. فجاءت الجهمية والمعتزلة وقالوا: نحن نفعل كما فعلتم، أنتم أولتم آيات المحبة والرحمة والغضب والرضا، لماذا خصصتم هذه بالتأويل؟! نحن كذلك نتأول آيات القدرة، وآيات العلم، وآيات السمع والبصر، وآيات الكلام، وآيات الحياة وما أشبهها، فقدرتكم على التأويل ليست أقل من قدرتنا ولا نحن أضعف منكم، فدخلوا من باب التأويل، فسدوا على أنفسهم أخذ الأدلة من القرآن. قالوا: إن الآيات قطعية الثبوت، ولكنها ليست قطعية الدلالة، بل هي محتملة للتأويل، فأولوها وحرفوها، فصاروا لا يستدلون بآيات القرآن على هذا النوع. جاءتهم السنة، والأحاديث النبوية المنقولة بالأسانيد الصحيحة، فقالوا: نقسمها قسمين: متواتر، وآحاد. فأما المتواتر: فنجعله كالقرآن قطعي الثبوت، ولكنه ظني الدلالة، فدلالته ضعيفة وغير واضحة، فنسلط عليه التأويلات التي سلطناها على الآيات فنستريح منه. أما القسم الثاني: الذي هو الأحاديث الآحادية، ويسمونها أخبار الآحاد، فهذه يردونها كلها، ولا يقبلونها في العقائد، ويقولون: إنها ظنية الثبوت، مع كونها ظنية الدلالة، وإذا كانت قطعية الدلالة فإنها ظنية الثبوت، فلا تفيد إلا الظن، والظن أكذب الحديث، فلا نقبلها، لأن الله قد نهانا عن الظن في قوله: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ، وفي قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23] ، {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:28] فالأحاديث ولو كانت في البخاري وفي مسلم، وفي السنن، وفي المسانيد، ولو رواها من رواها؛ فهي ظنية، لا تفيد إلا الظن؛ فسدوا على أنفسهم هذا الباب. ناقشهم العلماء كـ ابن القيم رحمه الله، وبين أن قولهم هذا خطأ، وأن الواجب قبولها، وأنها قطعية الثبوت، ولو كانت آحاداً، فهي تفيد اليقين، والناس يضطرون إلى العمل بها، فكما يعملون بها في الفروع فكذلك يعتقدونها في الأصول، وكما يعملون بها في الواقع فكذلك يصدقونها في الواقع، والكلام عليها طويل. قد ناقش أدلتهم العلماء، وأول من أثار الكلام فيها الإمام الشافعي في رسالته التي تعرف بـ (الرسالة في أصول الفقه) ، وكذلك الإمام البخاري في آخر صحيحه قال: كتاب أخبار الآحاد. وبين أدلتها والعمل بها في الفروع وفي الأصول. وتكلم عليها ابن القيم في كتابه (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) ، وكسر ما يتعلق به الجهمية من رد هذه الأخبار، وبين أنها تفيد العلم القطعي، وأنها ليست ظنية الثبوت كما يقولون، وعلى هذا تصير دلالتها واضحة، ولو ردها من ردها منهم. فمثلاً: أحاديث الشفاعة متكاثرة متواترة، وإن كانت أفرادها آحاداً، ولكن مجيئها من طرق وعن عدد من الصحابة يثبتها ويوضحها، ولم تقبل ذلك المعتزلة الذين ينكرون شفاعة الشافعين، وكذلك الخوارج الذين ينكرون شفاعة الشافعين وإخراج العصاة من النار، فيقال لهم: أحاديث الشفاعة قطعية؛ لكثرتها، ولكنهم يردونها. مثلاً: أحاديث رؤية المؤمنين لربهم في الجنة، مروية عن عدد كبير من الصحابة بروايات قوية ثابتة، ليس فيها توقف، وليس فيها تردد، فهي متواترة في المعنى، وإن لم تكن متواترة في اللفظ، ومع ذلك يردونها، ويقولون: إنها لا تزال آحاداً ولم تخرج عن خبر الواحد. والحاصل: أن عقيدة أهل السنة أن الدلالة السمعية هي الأصل وهي المرجع، فكما أننا صدقنا بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا نكون متبعين له حق الاتباع إلا إذا تقبلنا كل ما بلّغه من الشريعة، فهو الذي بلغ القرآن فنعمل به في الأصول والفروع، وهو الذي علمنا، وبين لنا القرآن بفعله وبقوله، فلابد أن نعتقد ذلك، وهو الذي أخبرنا عن الأولين، وهو الذي أخبرنا عن الآخرين، وهو الذي أخبرنا عن الدنيا، وهو الذي أخبرنا عما يكون في الآخرة، وكل ذلك من شريعته وسنته، ولا نكون مصدقين له إلا إذا صدقناه بكل دقيق وجليل. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 6 طريقة أهل السنة في التعامل مع النص قال المصنف رحمه الله تعالى: [وطريق أهل السنة: ألا يعدلوا عن النص الصحيح، ولا يعارضوا بمعقول ولا قول فلان، كما أشار إليه الشيخ رحمه الله، وكما قال البخاري رحمه الله: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي رحمه الله، فأتاه رجل فسأله عن مسألة، فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت؟! فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة! تراني في بيعة! ترى على وسطي زناراً؟! أقول لك: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: ما تقول أنت؟! ونظائر ذلك في كلام السلف كثير، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَة مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] . وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملاً به وتصديقاً له، يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة، وهو أحد قسمي المتواتر، ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع، كخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات) ، وخبر ابن عمر رضي الله عنهما: (نهى عن بيع الولاء وهبته) ، وخبر أبي هريرة: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) ، وكقوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وأمثال ذلك، وهو نظير خبر الذي أتى مسجد قباء، وأخبر أن القبلة تحولت إلى الكعبة، فاستداروا إليها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل رسله آحاداً، ويرسل كتبه مع الآحاد، ولم يكن المرسل إليهم يقولون: لا نقبله؛ لأنه خبر واحد! وقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] ، فلابد أن يحفظ الله حججه وبيناته على خلقه؛ لئلا تبطل حججه وبيناته] . هذا بيان أدلة حجية أخبار الآحاد، يقول: إن الله تعالى فرض على الأمة قبول ما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبول الشريعة التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم، ووصف المؤمنين بأنهم يقدمون ذلك على قول كل أحد في مثل هذه الآيات، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] يعني: إذا جاءنا قضاء الله وقضاء رسوله فلا نقدم عليه أهواءنا، ولا نجعله محل تردد، ولا نقول: نعرضه على عقولنا، ولا نقول: نختار عليه قول مشايخنا فلان أو فلان، بل نجعله هو الأصل، وهو المقدم على قول كل أحد صغيراً كان أو كبيراً، وذلك هو وصف كل مؤمن، وهكذا -أيضاً- عمل أئمة الإسلام؛ كانوا يقدمون قول النبي صلى الله عليه وسلم على اجتهاداتهم وعلى آرائهم، فهذا أبو حنيفة يقول: إذا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي الحائط، وإذا جاء عن الصحابة فاضربوا بقولي الحائط، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال؛ وذلك لأنه من علماء التابعين. وهذا الإمام مالك رحمه الله يقول: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر. يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإمام مالك جعل على نفسه أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرد منه شيء، أما قول غيره فإنه محل للقبول وللرد؛ وذلك لأنه محل اجتهاد، وأما قول الرجال فإنها تدور على قدر الأدلة في النقد. والثابت عن الإمام الشافعي في ذلك أكثر وأكثر كما في هذه القصة، جاء رجال إلى الإمام الشافعي، وسأله عن مسألة، والإمام الشافعي يحفظ فيها حديثاً ثابتاً، فيقول: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، وذلك السائل كأنه ما قنع، فقال: ما تقول أنت يا شافعي؟ فغضب الإمام الشافعي أشد الغضب، وقال له هذه المقالة: سبحان الله! أتراني في بيعة! أتراني في كنيسة! أترى على وسطي زناراً؟! أقول: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، وتقول: ماذا تقول أنت؟! يعني: أنني إذا عرفت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل يكون لي اختيار؟! هل يكون لي رأي مع رأي الرسول عليه الصلاة والسلام؟! حاشا الشافعي وحاشا غيره من الأئمة أن يكون لهم أي اختيار. كذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ثبت عنه أنه قال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان الثوري - والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] ، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. سفيان بن سعيد الثوري إمام من الأئمة وعالم من علماء العراق، مشهور بالعلم، ومع ذلك له آراء قد تكون مخالفة للدليل، فيقول: إن هؤلاء الذين يأخذون رأي سفيان، ويتركون الأحاديث مع معرفتهم بصحتها، حري أن تنطبق عليهم هذه الآية، وهي قوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) . الجزء: 47 ¦ الصفحة: 7 من الأدلة الدالة على قبول خبر الآحاد أخبار الآحاد لا شك أنها متى ثبتت فإنها تفيد اليقين، وتفيد العلم، وضرب الشارح لذلك أمثلة، وذكر على ذلك أدلة، منها: أن أهل قباء كانوا يصلون إلى القبلة التي كانوا عليها، إلى جهة بيت المقدس، فجاءهم رجل واحد وهم في نفس الصلاة، وقال لهم: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها) ، فصدقوه وهو واحد، وهم على قبلة متحققين لها، فاستداروا من الشمال إلى الجنوب نحو الكعبة، وعملوا بقوله وهو واحد، فلا شك أن هذا دليل على أن خبر الواحد الصادق المتثبت يعمل به ويقدم ويصدق. رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد، ومع ذلك صدقوه وقبلوا ما جاء به، والرسل الذين يرسلهم الله تعالى غالباً أنهم أفراد، أرسل الله نوحاً وحده، وأرسل هوداً وأرسل صالحاً وأرسل شعيباً وأرسل لوطاً وأرسل موسى وهارون، ولا شك أن هذا دليل على أن خبر الواحد يقبل ويفيد العلم. كذلك نبينا صلى الله عليه وسلم كان يرسل الدعاة أفراداً، فأرسل معاذاً -مثلاً- إلى اليمن داعية إلى الله، وكذلك أرسل أبا موسى، وأرسل علياً، وأرسل عماراً، وأرسل سلمان، كل منهم إلى جهة، أرسلهم للدعوة. كذلك -أيضاً- كان يرسل جباة الزكاة أفراداً، يأتي الفرد الواحد إلى أهل الإبل أو الغنم، ويقول: أعطوني زكاتكم، أنا مرسل من النبي صلى الله عليه وسلم. فلا يقولون له: أنت واحد. بل يقولون: خذ زكاة أموالنا. فيقبلون خبره. الحاصل: أن الأدلة متنوعة، وإنما هذه نماذج مما ذكر منها. وبذلك يعرف أن الحق قبول خبر الواحد إذا كان ثابتاً ويقيناً، وأن الناس يعملون بذلك، فما دام كذلك فلا مجال لرد ثلث السنة أو ثلثيها بهذه الشبهة، ومع ذلك فالذين ردوها ما ردوا إلا قسماً خاصاً وهو ما يتعلق بالعقائد، وأما ما يتعلق بالأعمال فإنهم رأوا الناس يعملون به، وقالوا: إن الناس يعملون بخبر الآحاد فهو يفيد العمل ولا يفيد العلم. وهذا في الحقيقة تناقض، ومعلوم أن كتب السنة قد تلقتها الأمة بالقبول وعملوا بها، فصحيح البخاري تلقته الأمة بالقبول، واعتقدوا ما فيه، وصاروا يعملون به ويطبقونه، ولم يقولوا: إنه أخبار آحاد. وكذلك صحيح مسلم، وكذلك الكتب التي تعتمد الصحة تلقتها الأمة بالقبول بدون توقف، فكانوا يعملون بما فيها؛ لأنها ثابتة، وأسانيدها قوية، ليس فيها كذاب، وليس فيها من يشك في صدقه، وبذلك يعرف أن الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم محل القبول، لا يجوز ردها، حتى ولو خالفت ما في العقول، حتى ولو خالفت ما في فطر الناس أو في أفكارهم، تقدم على قول كل قائل، وعلى عقل كل عاقل، سيما وعقول أولئك الذين ردوا السنة أو ردوا الآيات عقول مضطربة، عقول مختلفة، وشبهاتهم التي يشبهون بها لا شك أنها مضطربة أيما اضطراب، ويحصل فيها التناقض. فيشاهد أن الواحد منهم يبقى -مثلاً- ثلاثين سنة وهو يقول: إن هذه الصفة ينكرها العقل، ثم بعد ثلاثين سنة، وبعدما يكون نضج عقله، يرجع ويقرها! سبحان الله! ثلاثين سنة من زمانك ومن عمرك وأنت تنكرها، ثم بعد ذلك أقررت بها، هل تغير عقلك؟! هل تبدل عقلك؟! فهذا دليل على أن عقولهم ليست ميزاناً. وكذلك نجد مجموعة -مائة أو ألفاً- من العلماء في هذا البلد ينكرون هذه الصفة، ويقولون: العقل ينكرها، ونجد في البلد الثاني ألفاً أو ألوفاً يقرون بها، ويقولون: العقول تثبتها، فإذاً: كيف تكون هذه العقول مختلفة؟ هؤلاء يقولون: نثبت، وهؤلاء يقولون: ننفي، هؤلاء يقولون: لا يقر بها العقل، وهؤلاء يقولون: بل يثبتها ويوجبها! إذاً: فهذه العقول تضطرب؛ فهي عقول غير متزنة. فأدلتهم وشبهاتهم هذه لا عبرة بها، وقد شبهها بعض العلماء بالزجاج الذي يضرب بعضه بعضاً فيتكسر، إذا ضربت الزجاجتين إحداهما بالأخرى بقوة هل يبقى منهما شيء؟ كلاهما تتكسر، فهكذا أدلة هؤلاء مع هؤلاء تضرب هذا بهذا فيتكسر الدليلان، أما أدلة أهل السنة من الكتاب والسنة فإنها ثابتة، لا يعتريها شيء من التغير. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 8 شرح العقيدة الطحاوية [48] فضح الله من كذب على رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، وبين حاله للناس، فقد سخر الله لسنة نبيه من يقوم بها، ويعرف صحيحها من سقيمها، وهم أهل الحديث رحمهم الله تعالى. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 1 اعتماد أهل السنة في العقائد على الكتاب والسنة ومخالفة غيرهم لهم فقد عرفنا أن معتقد أهل السنة والجماعة الاعتماد على كتاب الله عز وجل، وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الإيمان بالغيب، والإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، والإيمان بما أخبر الله به مما بعد الموت، فيرجعون في ذلك إلى هذه الأدلة؛ لقطعهم بصحتها وثبوتها، ولقطعهم بصراحتها ومعرفة مدلولها. معلوم أن الله تعالى خاطب العرب بما يفهمون، وأنزل عليهم القرآن بلسان عربي مبين، وهم فصحاء يفهمون المراد، ويعقلون المعاني، ويسمعون وينظرون، ومعلوم أنهم تقبلوا تلك النصوص التي جاءتهم بها الرسل، وأنهم وثقوا بأن معناها مراد، وأنها ليست ألفاظاً جوفاء، بل هي ألفاظ لها معانٍ، وعرفوا أنه مطلوب منهم فهمها، وتعقل معناها؛ ذلك لأن الله تعالى يأمر بتعقل هذا الكتاب، يقول الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82] ، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68] ، {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29] ، والتدبر: هو التعقل. ولو كانت لا معاني لها، أو لا يجوز اعتقاد معناها، وإنما يتعبد بألفاظها، لما أمرنا بالتدبر، ولما أمرنا بالتفهم. وقد ثبت -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أمته ما يخفى عليهم بقوله وبفعله، فكان يبين لهم المعاني التي اشتملت عليها الآيات من الأمور الغيبية ونحوها، وكان يخبرهم بما ورد في القرآن، فيخبرهم بشرح أمور الآخرة، وبشرح أسماء الله وصفاته، ويخبرهم بما يطلب منهم، وبما يعفى عنهم. ومعلوم -أيضاً- أن الصحابة رضي الله عنهم عرب فصحاء، ذوو فهم ومعرفة، ولو كانوا لم يفهموا ما قال لهم لما نقلوه بلفظه، ولما شرحوا معانيه، ولما اعتقدوا مدلولاته. وأيضاً: لو كانوا أمروا أن يعرفوا منه غير المتبادر لبينوا لتلامذتهم، ولقالوا لهم: لا تعتقدوا ظواهر النصوص، فإنها ظواهر ظنية، لا تفيد اليقين. فلما لم يقولوا ذلك عرف بأنهم فهموا أنه مطلوب منهم تعقلها واعتقاد مدلولها. فهذا هو مذهب أهل السنة: يقرءون الآيات، ويفهمون معانيها، ويسمعون الأحاديث، ويفهمون معانيها، سواء كانت تتعلق بالآخرة، أو كانت تتعلق بالأسماء والصفات، أو كانت تتعلق بعلم الغيب، أو بالإيمان بالكتاب والبعث والنشور أو ما أشبه ذلك، كل ذلك يعرفونه ويعتقدون مدلوله. إذا قرءوا ما يتعلق بالبعث اعتقدوا حقيقة أنه سيحصل البعث والنشور والجزاء والعذاب والثواب. إذا قرءوا ما يتعلق بصفات الله اعتقدوا أن هذه النصوص دالة على علو الله وارتفاعه فوق خلقه، ودالة على قربه واطلاعه على خلقه، ودالة على علمه بكل شيء، ودالة على سمعه وبصره وقدرته التامة، ودالة على مراقبته لخلقه في كل أعمالهم وأحوالهم. وإذا قرءوا ما يتعلق بعموم قدرة الله اعتقدوا أن الله قادر عليهم، وأنه خالق كل شيء، وأنه المتصرف في الخلق، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، هذه مدلولات النصوص يعتقدونها كما هي. والدليل على ذلك: أنهم نقلوا ذلك، وكتبوه في مؤلفاتهم، ومن جملة ذلك ما كتبه صاحب هذا المتن الذي هو الطحاوي، وقبله الأئمة، فكتب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله رسائل تتعلق بالعقيدة، وكتب ابنه عبد الله بن أحمد رسالة في السنة، وكتب -أيضاً- زميله ابن أبي شيبة رسالة تتعلق بالإيمان، وهي رسائل موجودة مَنَّ الله بحفظها حتى وصلت إلينا، ولم تتغير. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 2 المبتدعة قسموا الآيات والأحاديث أقساماً لكي يخالفوها المخالفون لأهل السنة لم يعملوا بهذه النصوص، ولم يعملوا بالآيات، ولم يعملوا بالأحاديث، فعلى أي شيء اعتمدوا في المعتقد؟ اعتمدوا على عقولهم فحكموها، وجعلوها هي الدليل، فقبلوا ما وافقت عقولهم عليه، وردوا ما أنكرته عقولهم، وزعموا أن العقل هو الدليل الأساسي، وقالوا: ما عرفنا صدق الرسل إلا بالعقول، فإذا جاء عن الرسل ما يخالف العقول وجب اطراحه. وقد تقدم أنهم قالوا في الآيات: إنها تنقسم إلى قسمين، وكذلك الأحاديث. قسموا الآيات إلى قسمين: فقسم قالوا: إنه ظاهر الثبوت، ولكنه ظني الدلالة فلا يقبلونه؛ لاحتماله بزعمهم التأويل، ولأجل ذلك سلطوا التأويل على تلك النصوص. والقسم الثاني: جعلوه ظاهراً، ولكن لا يلزم أيضاً قبوله ولو كان ظاهر الدلالة، لأنه محتمل للتأويل. أما السنة فجعلوها قسمين: متواتراً، وآحاداً. فقالوا: إن المتواتر قطعي الثبوت، ولكنه ليس قطعي الدلالة لاحتمال أنه ذو معان كثيرة، فسلطوا عليه التأويل. أما الآحاد فجعلوه ظني الثبوت، وما دام أنه ظني الثبوت فلا يدخل في المعتقد، ويقولون: إن العقيدة لا تبنى إلا على اليقين، والآحاد ظنية. ومعنى هذا: اطراح الأحاديث كلها إلا أفراداً قليلة، فالأحاديث المتواترة قليلة، والبقية كلها آحاد، فيقولون: الآحاد لا تقبل في المعتقد. وقد تقدم تعقب الشارح لذلك. لا شك أن أكثر الأحاديث التي وردت في صحيح البخاري وفي مسلم، وكذلك في كتب أهل السنة؛ أنها في اصطلاحهم آحاد؛ وهي ما يرويها واحد أو اثنان أو ثلاثة، ولم تبلغ حد التواتر، وإذا كانت كذلك فإنها ظنية الثبوت فلا تفيد يقيناً، فقالوا مثلاً: الأحاديث التي في إثبات النظر إلى الله تعالى ورؤيته في الآخرة كلها ظنية-آحاد- فلا نعتقدها، والأحاديث التي في علو الله على عرشه، وعلوه فوق سمواته كلها ظنية، فلا نقبلها لكونها آحاداً، والأحاديث التي في نزوله لفصل القضاء، وفي نزوله إلى السماء الدنيا ونحو ذلك، كلها آحاد، فلا يقبلونها، والأحاديث التي في صفة الفعل لا يقبلونها أيضاً. إذاً: ماذا بقي؟ ما بقي إلا أحاديث قليلة في الشفاعة وفي الحوض وما أشبهها، جعلوها متواترة، وقبلها بعضهم، والبعض لم يقبلها، وقال: إنها وإن كانت قطعية الثبوت لكنها محتملة للتأويل. وقد رد عليهم الشارح رحمه الله فقال: إن الأمة لم يزالوا يعملون بالآحاد، وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل رسله آحاداً، فيعمل بقولهم، فيرسل الداعية إلى اليمن مثلاً وهو واحد، ويكلف الذين أرسل إليهم أن يقبلوا منه، ويرسل المبلغين آحاداً، ويرسل كتبه مع آحاد ويقبل منهم، ويرسل أيضاً الجباة الذين يجمعون الصدقات آحاداً، فيقبل منهم، ولا شك أن ذلك كله دليل على أنهم عرفوا صدق أولئك الذين جاءوا بهم. فما دام كذلك: فإن هذه الأخبار التي رويت في الصحيحين نقلها عدل عن عدل، ضابط عن ضابط، ثقة عن ثقة، إذا دونت في الكتب أليست قطعية الثبوت؟ هي قطعية، فلماذا لا نعمل بها؟ لماذا لا نطبقها؟ لماذا لا ندخلها في الاعتقاد كما أدخلناها في العمل؟ ما الفرق بين العمل والاعتقاد؟ لا فرق بينهما. فإذاً: واجب على الأمة أن يعملوا بهذا وهذا، في الاعتقاد وفي العمل. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 3 دفاع أهل السنة عن الحديث قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته، وبين حاله للناس. قال سفيان بن عيينة: ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث. وقال عبد الله بن المبارك: لو هم رجل في السحر أن يكذب في الحديث، لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب. وخبر الواحد وإن كان يحتمل الصدق والكذب، ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلاً بالحديث، والبحث عن سيرة الرواة؛ ليقف على أحوالهم وأقوالهم، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك. وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم، فهم يزك الإسلام، وعصابة الإيمان، وهم نقاد الأخبار، وصيارفة الأحاديث. فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم، وعرف حالهم، وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم؛ ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه. ومن له عقل ومعرفة يعلم أن أهل الحديث لهم من العلم بأحوال نبيهم وسيرته وأخباره ما ليس لغيرهم به شعور، فضلاً أن يكون معلوماً لهم أو مظنوناً، كما أن النحاة عندهم من أخبار سيبويه والخليل وأقوالهما ما ليس عند غيرهم، وعند الأطباء من كلام بقراط وجالينوس ما ليس عند غيرهم، وكل ذي صنعة هو أخبر بها من غيره، فلو سألت البقال عن أمر العطر، أو العطار عن البز، ونحو ذلك، لعد ذلك جهلاً كبيراً] . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 4 خبرة أهل الحديث بالحديث الأحاديث التي رواها الثقات وكتبت في أمهات الكتب قد تأكد العلماء من صحتها. وإذا قيل: إن هناك أحاديث موضوعة، وأحاديث مكذوبة قد رويت وقد كتبت، وقد ألفت فيها الكتب، فما دام أن الأحاديث وجد فيها مكذوب، ووجد فيها موضوع، ووجد فيها ضعيف ومضطرب ومعلوم وشاذ وكذا وكذا فكيف تعتمدون هذه الأحاديث وتجعلونها دليلاً، وتعتقدونها في المعتقد، والعقيدة لا تعتمد إلا على اليقين؟ و الجواب قد أجاب الشارح رحمه الله وبيَّن أن الأحاديث قد يسر الله لها من يحررها وينقحها، ويبين صحيحها من سقيمها، هؤلاء العلماء هم علماء الحديث الذين رزقهم الله علماً ثاقباً، ورزقهم الله فهماً وقوة يدركون بها ما هو حديث وما ليس بحديث، ولأجل ذلك شبههم بالنقاد، وشبههم بالصيارفة، والصيرفي: الذي حرفته أن يصرف الذهب والفضة، ويبيع هذا بهذا، فحرفته منذ نشأ أن يعرف الدرهم الذي فيه غش، والدينار الذي فيه غش، والجنيه المغشوش الذي فيه زيف، والحلي الصافي، والحلي المغشوش المخلوط؛ لأن هذه حرفته وصنعته، فكذلك أهل الحديث، هذه حرفتهم وهذه صنعتهم، منذ أن نشئوا وهم يتتبعون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت معهم ملكة يدركون بها ما هو صحيح وما هو ضعيف، لدرجة أن أحدهم لمجرد سماعه أول الحديث يقول: هذا ضعيف، هذا مكذوب، وبمجرد سماع الإسناد يعرفون من هو مقبول الحديث ومن ليس بمقبول، هؤلاء هم الذين يسرهم الله تعالى لحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 5 تبيين أهل الحديث للأحاديث الضعيفة حكي أن المهدي العباسي قبض على زنديق وعرف أنه من المنافقين، وعزم على قتله، فقال ذلك الزنديق: هب أني قتلت، كيف تفعل بأربعة آلاف حديث قد كذبتها وبثثتها في الناس؟! فقال المهدي: تعيش لها نقادها، أي: جهابذة المحدثين ونقاد الحديث يزيفونها ويخرجونها من جملة الأحاديث، إذا سمعوا عشرة أحاديث من شخص واحد وفيها حديث موضوع قالوا: امحوا هذا، اضربوا هذا الحديث، هذا ليس بصحيح، فهذه صنعتهم، وهذه حرفتهم، تخصصوا بها وصار معهم ملكة ليست مع غيرهم، وعندهم معرفة بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم وبسنته، وبما ثبت عنه، وبما يقوله، إذا جاءهم الحديث مخالفاً للأحاديث الصحيحة عرفوا أنه مكذوب، وقالوا: سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا تتضارب، وإذا جاءهم الحديث ولفظه مستبشع قالوا: هذا مكذوب؛ لأنهم مع كثرة سماعهم لألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم يدركون اللفظ الركيك المضطرب المتقطع المتضارب، يقولون: ينزه أفصح الخلق عن أن يتكلم بمثل هذا، فيحكمون بأنه مكذوب. وهكذا أيضاً يدركونه إذا رأوا فيه مبالغة كبيرة، كذكر ثواب كبير على عمل قليل، أو ذكر عقاب كثير على سيئة صغيرة أو نحو ذلك، فيدركون أن هذه المبالغة لا ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغ، وأشباه ذلك. وبكل حال: قد بينوا الأحاديث الموضوعة، وبينوا من وضعها، والأسباب التي حملت عليها، وجعلوا ذلك صنعتهم. روي أن رجلاً جاء إلى أبي حاتم الرازي رحمه الله وكان من المتخصصين بالأحاديث، فقال له: كيف تدرك الحديث الموضوع والحديث الصحيح بمجرد ما تسمعه؟ فقال: هذه صنعتنا، ولكن إذا كنت شاكاً في ذلك فاسألني، وأقول لك: اعرض علي مائة حديث أبين لك مثلاً عشرة منها أنها مكذوبة، ثم اذهب واعرضها على أبي زرعة ويبين لك العشرة نفسها، واعرضها مثلاً على النسائي ويبين لك العشرة نفسها، واعرضها على الإمام أحمد ويبين لك العشرة نفسها، ففعل ذلك، فعرض عليه مائة حديث، فكان فيها -مثلاً- عشرة فيها علة، فقال: هذا علته كذا، وهذا علته كذا، ثم عرضها على غيره فتوافقوا؛ هؤلاء مثلاً عشرة من نقاد الأحاديث اتفقوا على سماع هذه المائة واتفقوا على الحديث المعلول، وأن علته كذا وعلته كذا، مع أن بعضهم لم يخبر بعضاً، وإنما ذلك صنعتهم، فهذه حرفة أئمة الحديث ومعلوم أن ذلك هو ديدنهم وعملهم. مثل الشارح بأن كل من اهتم بعلم من العلوم فإنه يبحث عن أهله وأصله، فمثلاً: الذين حرفتهم علم النحو يتتبعون أخبار النحاة والمجتهدين من الصدر الأول مثل: سيبويه أبي بشر المشهور بعلم النحو، الخليل بن أحمد الفراهيدي، والمشتغلون -مثلاً- بعلم الطب يعكفون على كتب الأطباء المتقدمين كـ بقراط وجالينوس، وكانوا أطباء متقدمين قبل الإسلام، ومؤلفاتهم وكتبهم في الطب موجودة يعتمدها الذين جاءوا بعدهم. وهكذا كل إنسان وصنعته وحرفته، فالبقال ليس مثل العطار، البقال صنعته أن يبيع البقول والمعلبات ونحوها، والعطار يبيع الأطياب وصنعته معرفة الطيب المخلوط، والطيب الخالص، وكذا وكذا، كل أحد وصنعته، فهذه صنعة المحدثين سخرهم الله لتنقية الأحاديث حتى يتميز الحديث الذي ليس فيه طعن من الأحاديث المطعونة. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 6 تبيين أهل الحديث للضعفاء والمتروكين عندما تقرأ الأحاديث التي في أمهات الكتب يقولون: هذا الحديث صححه فلان، أو هذا الحديث ضعيف الإسناد، أو هذا حديث فيه اضطراب، أو هذا حديث مدرج، أو هذا حديث منقطع، أو معضل، أو مضطرب المتن، أو مرسل، أو نحو ذلك؛ لأنهم أرادوا أن يبينوا للأمة، ما دام أن هذه الأحاديث كتبت وستعرض على الأفراد، فلابد أن يعرف الفرد الحديث الذي يعمل به والذي لا يعمل به، فأصبحت السنة والحمد لله محفوظة. فإذاً: لماذا تردونها أيها المعتزلة والمتكلمون؟ لماذا تقولون: إن السنة قد دخلها الكذب؟ نقول: صحيح أنه دخلها الكذب، ولكن تميزت الأحاديث المكذوبة من الأحاديث الثابتة الصحيحة، ولأجل ذلك فضح الله الكذابين، سمعنا أن الأئمة يقولون: ما هم أحد بكذب إلا فضحه الله على رءوس الأشهاد. هناك أناس دخلوا في الإسلام وهم زنادقة، وصاروا يكذبون أحاديث ويفشونها، وهناك أناس يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم حسبة أو انتصاراًَ لمذهب، أو نحو ذلك، ولكنهم افتضحوا، وألفت فيهم المؤلفات، تجدون كتباً مذكور فيها تراجم الضعفاء والمتروكين والمجروحين ومن ضعفه المحدثون، عندنا مثلاً كتاب اسمه الكامل لـ ابن عدي في نحو ثمانية مجلدات، كله في أسماء الرجال الضعفاء، يذكر أحاديثهم أو بعضها ويمثل بالأحاديث الضعيفة، وعندنا أيضاً كتاب للعقيلي في أربعة مجلدات اسمه أيضاً: الضعفاء، وهكذا كتاب في ثلاثة أجزاء لـ ابن حبان اسمه: المجروحون، لا شك أن اهتمام العلماء بهم يبين أنهم من جملة من لا يقبل حديثهم إذا تفردوا به. فعرف بذلك أن السنة والحمد لله محفوظة، فلماذا لا تفرقون بينها وبين غيرها؟ لماذا تردون السنة مع ثبوتها؟ الجزء: 48 ¦ الصفحة: 7 اعتماد المعطلة لآية: (ليس كمثله شيء) في النفي قال الشارح رحمه الله: [ولكن النفاة قد جعلوا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] مستنداً لهم في رد الأحاديث الصحيحة، فكلما جاءهم حديث يخالف قواعدهم وآراءهم، وما وضعته خواطرهم وأفكارهم ردوه بـ: (ليس كمثله شيء) تلبيساً منهم وتدليساً على من هو أعمى قلباً منهم، وتحريفاً لمعنى الآية عن مواضعه. ففهموا من أخبار الصفات ما لم يرده الله ولا رسوله، ولا فهمه أحد من أئمة الإسلام، أنه يقتضي إثباتها التمثيل بما للمخلوقين! ثم استدلوا على بطلان ذلك بـ (ليس كمثله شيء) تحريفاً للنصين!! ويصنفون الكتب، ويقولون: هذا أصول دين الإسلام الذي أمر الله به وجاء من عنده، ويقرءون كثيراً من القرآن ويفوضون معناه إلى الله تعالى، من غير تدبر لمعناه الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنه معناه الذي أراده الله. وقد ذم الله تعالى أهل الكتاب الأول على هذه الصفات الثلاث، وقص علينا ذلك من خبرهم لنعتبر وننزجر عن مثل طريقتهم، فقال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75] إلى أن قال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة:78] والأماني: التلاوة المجردة، ثم قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] . فذمهم على نسبة ما كتبوه إلى الله، وعلى اكتسابهم بذلك، فكلا الوصفين ذميم: أن ينسب إلى الله ما ليس من عنده، وأن يأخذ بذلك عوضاً من الدنيا مالاً أو رياسة. نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل بمنه وكرمه] . السنة والحمد لله محفوظة مصونة قد يسر الله لها من يميزها، ويبين صحيحها من سقيمها، والسنة متى ثبتت فليس لأحد ردها، وكذلك كتاب الله تعالى ثابت وصريح الدلالة، وليس لنا أن نرده ولا أن نرد السنة اعتماداً على العقول، واعتماداً على الأقيسة الباطلة ونحوها. وقد ذكرنا أن هؤلاء المبتدعة اعتمدوا عقولهم وجعلوها هي المقياس، فما وافقها أثبتوه، وما خالفها نفوه، ثم انقسموا إلى ثلاثة أقسام: قسم يحرفون الكلم عن مواضعه. وقسم يفوضون الألفاظ والكلمات، ويقولون: لا نعرف معناها. وقسم يولدون شيئاً من قبل أنفسهم، كلاماً أو عبارات لا أصل لها ويجعلونها معتمدة، وكل الأقسام قد ذمها الله تعالى. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 8 تحريف نصوص الصفات وتسميته تأويلا ً من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه: الذين يؤولون النصوص، ويسلطون عليها التفسيرات البعيدة التي لا تمت إليها بصلة، ولا شك أن هذا مثل تحريف اليهود؛ وهو إما تحريف لفظي وإما تحريف معنوي: فالتحريف اللفظي: قولهم: إن كلمة استوى بمعنى: استولى، زادوا فيها لاماً، وقد حكى الله أن اليهود لما قيل لهم: حطة، غيروا الكلمة، فلم يقولوا: حطة، بل قالوا: حنطة، فزادوا فيها نوناً، فزيادة اليهود مثل زيادة الجهميين للام في استوى، يقول ابن القيم رحمه الله: نون اليهود ولام جهمي هما في وحي رب العرش زائدتان يعني: كما زاد هؤلاء نوناً فكذلك زاد هؤلاء لاماً، فهذا هو التحريف. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 9 بدعة التفويض في الصفات من أهل الأهواء من يسمون المفوضة، إذا سمعوا النصوص قالوا: لا نعرف معناها، ولكن نرد ظاهرها ولا نفسرها، فيردون مدلولها ويقولون: لا نثبت لله السمع، ولا نثبت لله النزول، ولا نثبت لله الاستواء، ولا نثبت له العلو، ولا نثبت له القدرة؛ لأن العقل ينكر ذلك، يقولون: ولا نفسر قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120] ، ولا نفسر قوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، ولا نفسر قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] ، ولا نفسر قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:255] ، بل نفوض ذلك ونسكت عن معناه! هؤلاء يعتمدون على قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، فكلما جاءتهم آيات وأحاديث فيها إثبات صفات قالوا: إذا أثبتنا السمع فإن المخلوق يسمع، فنكون قد شبهنا، والله ليس كمثله شيء، وإذا أثبتنا العلم فالإنسان له علم، فنكون قد شبهنا، فـ (ليس كمثله شيء) ، وهكذا كل صفة يردونها اعتماداً على هذه الآية. ولكن كثيراً منهم يسكتون عن التأويل ويفوضون، فهؤلاء المفوضة النفاة الذين جمعوا بين الأمرين، وادعوا أن أحداً لا يعرف مدلولها ولا المراد بها. قد ذكرنا أن الصحابة فهموا معانيها وأنهم فسروها، وذكرنا أنها كلام عربي بلسان فصيح، يعرفه من سمعه ومن خوطب به. وذكرنا أن الله تعالى لا يخاطب الأمة بكلام أعجمي، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44] أينزل على العرب كتاب أعجمي؟ إذاً: فهو عربي، والعرب يفهمون معانيه، فكيف يكون فيه معان لا يدرى ما مدلولها؟ وإنما يطلب منهم تفويض أمرها إلى الله، لا شك أن هذا بعيد عن الصواب. كذلك القسم الذين جعلوا عمدتهم ما أثبته لهم رؤساؤهم ومشايخهم وعلماؤهم فجعلوه عمدة. نقول: لا شك أن أولئك المشايخ الذين اعتمدتموهم ليسوا بمعصومين، ثم نقول: على أي شيء اعتمد مشايخكم وعلماؤكم الذين قلدتموهم؟ اعتمدوا على أدلة عقلية، وجعلوا النصوص ظواهر لفظية، إذا جاءتهم الآيات قالوا: آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ظواهر لفظية لا تفيد معنى، ولا يعتمد على ظاهرها، وإنما المطلوب منا أن نتلوها للتبرك، ونقرؤها لمجرد البركة، أما أن نعتقد معناها فلا، هذا يقولونه في الأمور الغيبية، وفي الأمور الأخروية ولكن في باب الأحكام، يقولون: إنها تفيد العلم، وإنه يعمل بها. فيقال لهم: قد فرقتم بين متماثلين، تعملون بآيات الصلاة والصيام، ولا تعملون بآيات الأسماء والصفات، ولا تعملون مثلاً بآيات الآخرة وما أخبر الله فيها، بل تردون مثل قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] وقوله: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] وأشباه ذلك، فتقبلون بعضاً وتردون بعضاً، فقد شابهتم اليهود الذين قال الله عنهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:85] يعني: أن يخزيهم في الدنيا، وأن يفضحهم في الآخرة. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 10 صحيح المنقول لا يخالف صريح المعقول عمدة أهل السنة والجماعة على النصوص، وإذا فكرنا فيها وجدناها موافقة للعقول، ولا يمكن أن يكون هناك نص صحيح ثابت، ومع ذلك يخالف العقل الصريح الذي سلم من الشبهة. ولأجل ذلك جمع العلماء -ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - بين النصوص الصحيحة الثابتة وبين صراحة العقل، فألف ابن تيمية رحمه الله كتاباً في ذلك اسمه: موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، صحيح المنقول يعني: الأحاديث المنقولة الصحيحة، لصريح المعقول، وسمي في الطبعة الأخيرة: درء تعارض العقل والنقل، يعني: دفع التعارض بين العقل والنقل، فالعقل الفطرة، والنقل الأحاديث الثابتة الصحيحة، فبين أن كل الآيات الصريحة لا تخالف العقول الصريحة، ولكن أولئك الذين اعتمدوا عقولهم لا شك أنهم ممن خربت عقولهم، وخربت فطرهم، لماذا؟ لأن الانحراف والزيغ -والعياذ بالله- هو الذي سبب لهم هذا الانحراف والبعد عن الصواب، فصارت قلوبهم مضطربة. وقد مر بنا في هذا الكتاب أن نهاية أولئك المتكلمين ونحوهم الحيرة، نقل الشارح عن بعضهم قوله: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال ويقول الآخر: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذين نهوا عنه، والآن إن لم يتداركني الله برحمته، وإلا فالويل لـ ابن الجويني، وها أنا أموت على عقيدة أمي. فدل على أن عقولهم مضطربة، ما استفادوا فائدة معتمدة، يقول شاعرهم: ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا قيل وقالوا هذا بحثهم، فإذا كانت هذه غايتهم فكيف مع ذلك تعتمد عقولهم، ويركن إلى أن تلك العقول ترد بها الآيات والأحاديث. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 11 منة الله على أهل الجزيرة العربية بالعقيدة السلفية الحمد لله الذي حفظ هذه البلاد، ورزقها علماء مخلصين، هم أئمة الدعوة، ساروا على مذهب السلف الذي كان عليه الصحابة والتابعون والقرون المفضلة، فأحيوا هذا المذهب، واستجلبوا أدلته، فأصبحوا على هذا المعتقد. كثير من البلاد ومن الدول لا يزالون على معتقد الأشعرية وعلى معتقد المعتزلة ونحوهم، ولا يزالون يحيون تراثهم ويحققون كتبهم وينشرونها، ويفتخرون أنهم جددوا تلك المذاهب، فيكونون على هذه العقيدة الزائغة مع وضوح الأدلة في زيغها. ومن هذه الكتب التي حققت كتب القاضي عبد الجبار وهو من رؤساء المعتزلة، وكتب رجل من أهل النحو يقال له: ابن جني معتزلي أيضاً، وكتب الزمخشري المفسر اللغوي وهو معتزلي أيضاً، وأشباههم، يحققونها، ويقدمون لها مقدمات، ويمدحونها، ويثنون على أربابها، وهم يعرفون اضطرابها، ولو كانوا في زمن قديم لم تصل إليهم كتب أهل السنة لأصبحوا معذورين، ولكن في هذه الأزمنة طبعت كتب أهل السنة وانتشرت، وتجددت مرة بعد مرة، وأصبح الحق واضحاً في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكتب تلميذه ابن القيم وأتباعهما، وكتب أئمة الدعوة، وكتب أئمة السلف، كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وتلامذته وأهل قرنه، حتى لو لم يكونوا من تلامذة الحنابلة فمؤلفاتهم موجودة والحمد لله، ولكنها غصص في حلوق أولئك المعتزلة، كلما طبع كتاب حرصوا أن يردوا عليه، ولكن لا ينفعهم إنكارهم ولا ينفعهم ردهم، فهنيئاً لأهل هذه الجزيرة، هنيئاً لهم أن نشئوا على هذه العقيدة، والحمد لله. أهل السنة والجماعة بنوا عقيدتهم على الشريعة الإسلامية التي أسست على كتاب الله تعالى، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفوا أن ما جاءت به هذه الشريعة فكله من الدين، وكله مما كلف به المسلمون. وعرفوا أيضاً أن الشريعة سواء في العقائد أو في الأعمال مبنية على الحكم والمصالح، فليس فيها أمر إلا وفيه مصلحة، وليس فيها شيء نهي عنه إلا وفي تركه مصلحة، فهي مؤسسة على تحقيق المصالح وتكميلها، ونفي المفاسد وتقليلها، هكذا بنيت هذه الشريعة. ولا شك أنهم في طريقتهم يؤمنون بالنصوص كما هي دون أن يتوقفوا في شيء من مدلولاتها، وقد نقل عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله. وهذا هو الرضا والتسليم، وهذا هو التقبل للشريعة بما جاءت به دون أن يتردد في شيء، ودون أن ينكر شيئاً، ودون أن يحكم فيه العقل، ودون أن يعرضه على فكر، بل يقبله كما هو، وإذا لم يدركه عقله فوض كيفيته إلى عالمه سبحانه وتعالى. ولا شك أن من أهم ذلك: أمر الإيمان بالغيب؛ وذلك لأن الشريعة مبنية على الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب: أن يؤمن ويصدق العبد بكل ما أخبر به من الأمور التي لم يرها، ويعتقد صحتها وثبوتها، ويؤمن بما جاء من صفاتها، ويفوض كيفيتها إلى خالقها وإلى الذي أخبر بها وهو الله تعالى، فلأجل ذلك يصلح أن يقال: إن أهل السنة هم الذين حققوا الإيمان بالغيب وتركوا التدخل بالعقول في الأمور الغيبية، وضد ذلك أهل البدع الذين عرضوا أمور الشريعة -سيما الأمور الغيبية- على عقولهم، فرأوا أن ما أدركته عقولهم فهو المناسب والمقبول، وما أنكرته عقولهم الزائغة فإنه مردود ولو اتفق عليه الكتاب والسنة ولو سار عليه سلف الأمة، فقد ردوا النصوص وردوا على الأئمة وأنكروا على السلف، وابتدعوا بدعاً عمدتهم فيها عقولهم الزائفة، فلا التفات إلى مثل هؤلاء. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 12 غلط المبتدعة في الاستدلال بالنصوص المبتدعة يتمسكون ببعض النصوص ويتركون بعضها، فيؤمنون بالمتشابه أو بالمجمل، ويجعلون مثل قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] مرجعاً لهم، ولا يعتبرون بآخر الآية الذي فيه رد عليهم، فإن هذه الآية فيها رد على طائفتين: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) رد على الممثلة والمشبهة الذين يجعلون لله مثلاً {وهو السميع البصير} [الشورى:11] رد على المعطلة الذين أنكروا صفات الله؛ ومنها: السمع والبصر، فرد على الطائفتين ببعض آية، ولأجل ذلك كان هؤلاء المبتدعة والمعتزلة يسوءهم ما يقرءون في النصوص من إثبات الصفات، وقد مر بنا في هذا الكتاب أن أحدهم وهو ابن أبي دؤاد الذي تمكن من المأمون وأضله، طلب منه أن يكتب على كسوة الكعبة: (ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم) أراد أن يغير الآية؛ لأن فيها ذكر السمع والبصر، وهو لا يؤمن بإثبات ذلك صفة لله. فدل على أنهم يأخذون ما يناسبهم ويتركون ما لا يناسبهم، بل يسلطون على ذلك بعض التأويلات، يزعمون أن العقل هو الذي عرفت به الشرائع وأدركت به صحة النبوات، فإذا جاءت الشرائع والنبوات بما يخالف ذلك العقل لم يقبل، هكذا عللوا. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 13 أهل الأهواء يزنون النصوص بعقولهم المضطربة المبتدعة جعلوا عقولهم ميزاناً وهي مضطربة، فإن بعضهم ينكر صفة ويبقى على إنكارها عشرين سنة أو ثلاثين، ثم بعد ذلك يرجع فيقر بها، فيقال: هل نبت لك عقل جديد حيث أقررت بها بعد الإنكار وادعائك أن العقل هو الميزان في الأول والآخر؟ وكذلك بالعكس، يقر بعضهم بالصفات ثم في الأخير ينكرها، وهو شخص واحد، وكذلك التفاوت بينهم كبير، قد يكون اثنان تلميذين لشيخ واحد، أحدهما يقول: إن العقل يثبت الرؤية-مثلاً- والآخر ينكرها، وهذا أيضاً يقول: إن العقل يثبت العلو، والآخر يقول: إن العقل ينكر العلو. وهما أخوان، فيعرف بذلك أن العقول ليست ميزاناً للشريعة، وإنما الميزان هو الكتاب والسنة. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 14 أهل الأهواء يؤولون ما ليس بصريح ويردون ما هو صريح المبتدعة يقولون: إن النصوص من القرآن صحيحة ولكن ليست صريحة، أي: محتملة للتأويل، فلأجل ذلك نعتمد على التأويل، ويحزنهم إذا رأوا آيات العلو مجموعة في موضع، وكذلك إذا رأوا آيات الاستواء مجموعة في موضع، وكذلك إذا رأوا آيات إثبات السمع، أو البصر، أو إثبات الرؤية أو نحو ذلك؛ لأنه يشق عليهم تأويلها إذا كانت مجتمعة، ولكن إذا فسروا فإنهم يفسرونها متفرقة، ويتأولونها، ويحملونها على محامل بعيدة. كذلك يقولون: الأحاديث إما صحيحة وليست صريحة, فيسلطون عليها التأويل، أو صريحة ولكنها لا تفيد إلا الظن، وهي التي يسمونها: أخبار الآحاد، فلا يجعلونها حجة إلا في الأعمال لا في العقائد، فيبطلون بذلك شريعة الله. وأهل السنة يقبلونها كما هي، ويصفون الله تعالى بموجبها، ويتوقفون عن كنه الصفة وكيفيتها، وذلك هو العلم الذي استأثر الله تعالى بعلمه. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 15 اختلاف قوة الإيمان في القلوب قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ويشير الشيخ رحمه الله بقوله: (من الشرع والبيان) ، إلى أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم نوعان: شرع ابتدائي، وبيان لما شرعه الله في كتابه العزيز، وجميع ذلك حق واجب الاتباع. وقوله: (وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالحقيقة ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى) . وفي بعض النسخ: (بالخشية والتقى) بدل قوله: (بالحقيقة) . ففي العبارة الأولى يشير إلى أن الكل مشتركون في أصل التصديق، ولكن التصديق يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت -كما تقدم تنظيره- بقوة البصر وضعفه. وفي العبارة الأخرى يشير إلى أن التفاوت بين المؤمنين بأعمال القلوب، وأما التصديق فلا تفاوت فيه، والمعنى الأول أظهر قوة، والله أعلم بالصواب] . قد ذكرنا أن الإيمان الذي في القلب يتفاوت بقوته أو بضعفه، وكذلك يتفاوت التصديق بقوة الأدلة وكثرتها، أو بضعفها وقلتها، وإذا تفاوت الذي في القلب تفاوتت الآثار؛ وذلك لأن ما في القلب يؤثر على البدن، فإذا كان الإنسان قوي الاعتقاد قوي التصديق، وقلبه مطمئن بالإيمان، مصدق لما سمعه من الآثار، فلا شك أن تصديق القلب يقع أثره، فترى لسانه دائماً يلهج بذلك الشيء الذي اعترف به، وترى أيضاً قلبه مطمئناً بذلك، وترى أيضاً بدنه مشتغلاً بذلك، وإذا كان التصديق ضعيفاً لم تر له أثراً على الإنسان، ولا على البدن إلا قليلاً، وإذا كان هناك تكذيب لشيء من الشريعة رأيت آثار ذلك التكذيب. فالحاصل: أن آثار التصديق القوي هي الطاعات، وآثار التكذيب هي المعاصي، وآثار التوقف هي قلة الأعمال، فآثار ضعف التصديق هو ضعف النتيجة، فنتيجة التصديق القوي كثرة الأعمال الصالحة، والاستعداد للموت ولما بعد الموت، وكذلك الإكثار من الحسنات، وعمل أنواع القربات، والبعد عن السيئات وأنواع الخطايا، ولا شك أن ذلك كله أثر من آثار قوة الإيمان في القلب، ومع ذلك فإن الأعمال التي على البدن هي في الحقيقة من الإيمان كما تقدم، فلأجل ذلك كان المؤمن هو الذي يصدق ويعمل، والذي لا يصدق ولا يعمل فهو كافر، والذي يصدق ولا يعمل فليس بمؤمن، أو إيمانه ضعيف، فلابد أن يجمع الإيمان الذي في القلب بين ثباته وقوته، وبين ظهور آثاره. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 16 شرح العقيدة الطحاوية [49] الولاية مرتبة إيمانية عظيمة، فمن كان ولياً لله انتصر الله له، وهي درجات، فأكمل الناس ولاية أكملهم إيماناً وتقوى، وقد انحرف في الولاية بعض الصوفية، فجعلوا الولي خيراً من الرسول، بل زعموا الولاية لغير الأتقياء. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 1 المؤمنون كلهم أولياء الرحمن قال المؤلف: [قوله: (والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن) . قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] . الولي: من الولاية بفتح الواو، التي هي ضد العداوة. وقد قرأ حمزة: (ما لكم من ولايتهم من شيء) بكسر الواو، والباقون بفتحها. فقيل: هما لغتان. وقيل: بالفتح النصرة، وبالكسر: الإمارة. قال الزجاج: وجاز الكسر؛ لأن في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل، وكل ما كان كذلك مكسور، مثل: الخياطة ونحوها. فالمؤمنون أولياء الله، والله تعالى وليهم، قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257] ، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] إلى آخر السورة. وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55-56] فهذه النصوص كلها ثبت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأنهم أولياء الله، وأن الله وليهم ومولاهم. فالله يتولى عباده المؤمنين، فيحبهم ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، ومن عادى له ولياً فقد بارزه بالمحاربة. وهذه الولاية من رحمته وإحسانه، ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجة إليه، قال الله تعالى: {وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:111] ، فالله تعالى ليس له ولي من الذل، بل لله العزة جميعاً، خلاف الملوك وغيرهم ممن يتولاه لذله وحاجته إلى ولي ينصره] . الجزء: 49 ¦ الصفحة: 2 أولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون يتلكم هنا على الولي الذي يكثر ذكره في اصطلاحات الصوفية ونحوهم، وفي اصطلاحات القبوريين الذين يغلون في بعض الأشخاص ويسمونهم أولياء، ويدعون أن محبتهم تستدعي تعظيمهم بما يصل إلى إعطائهم شيئاً من حق الله تعالى، فلأجل ذلك تكلم هنا على الولي وعلى الولاية. فأولاً: كلمة الولي مشتقة من الولاية التي هي النصرة، فقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] يعني: بعضهم أنصار بعض؛ أي: بعضهم ينصر بعضاً، وبعضهم يؤيد ويقوي بعضاً، فكل منهم ولي للآخر، فالولي معناه: الناصر الذي ينصره ويتولاه ويؤيده ويقويه، هذا معنى كون المؤمنين بعضهم أولياء بعض، فإذا قيل: المؤمنون أولياء الله، فالمعنى أن الله تعالى يؤيدهم وينصرهم ويقويهم، وهم أيضاً ينصرون دين الله ويجاهدون في سبيله، ويبلغون شريعته، ويذبون عن الشريعة وعن الإسلام، يذبون عنها اعتداء المعتدين وشبهات المشبهين فكانوا بذلك أولياء لله تعالى، والله تعالى وليهم. فإذاً: ولي الله هو كل تقي مؤمن، قال الله تعال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] ، فهذا وصف أولياء الله، فكل مؤمن تقي فهو من أولياء الله، فما بين الإنسان وبين أن يكون ولياً إلا أن يحقق الإيمان ويحقق التقوى، فيصبح من أولياء الله. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 3 غلو الصوفية في الأولياء أما الصوفية ونحوهم فادعوا أن هناك أولياء، وأن أولئك الأولياء قد ارتقوا رتبة ارتفعوا بها عن رتبة الأنبياء ورتبة الرسل، وأصبحوا مقربين عند الله، وأصبحوا يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي ينزل على الأنبياء، ويقول قائلهم: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي فجعلوا الولي هو الأعلى، وجعلوا دونه النبي، وجعلوا الرسول أنزل الرتب، فهذا غلو منهم، حيث جعلوا الولي أرفع من النبي وأرفع من الرسول، ولا شك أن الولي هو الذي يتولى الله تعالى، يقول تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] ، فمن كان الله تعالى وليه، ومن تولى الله تعالى ونصر دين الله فهو من حزب الله وهو من الغالبين، ومن كان مؤمناً فهو من أولياء الله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ} [البقرة:257] . وقد كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رسالة مطبوعة منتشرة اسمها: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فرق فيها بين من يدعي الولاية وليس من أهلها، وبين من يكون من أولياء الشيطان ويدعي أنه من أولياء الرحمن؛ وذلك لأن كثيراً من أولئك الذين يزعم الصوفية أنهم أولياء، هم في الحقيقة شياطين، أو أولياء للشياطين؛ وذلك لأنهم يتظاهرون للعوام بأمور الله بريء منها، فيفعلون المنكرات، ويفعلون الفواحش ويأكلون الحرام، ويدعون أنهم قد أبيح لهم ذلك، ويدعون أنهم قد سقطت عنهم التكاليف، وقد رفعت عنهم الأوامر والنواهي، وقد أبيح لهم أن يفعلوا ما يشاءون، فلا ينكر عليهم في زعم الذين يقدسونهم ويعظمونهم! الجزء: 49 ¦ الصفحة: 4 انحراف بعض الصوفية باستحلال الحرام يحكي لنا بعض الإخوان عن الموجودين في بعض البلاد العربية أنهم يأتيهم الإنسان الذي أصيبت امرأته مثلاً بخبال أو بجنون أو نحو ذلك، فيتركها تبيت عند هذا الولي، ويقول: إنه ولي ليس بمخوف عليها منه، ولكن ينقلون عن كثير من النساء أن هذا الولي يخلو بها وأنه يفعل معها الفاحشة الكبرى، وهو مع ذلك ولي كما يقولون، فلماذا؟ لأنهم في نظر العوام قد رفعت عنهم التكاليف، وقد أبيح لهم أن يفعلوا ما يريدون، فلا ينكر عليهم إذا زنى أحدهم، أو أخذ المال بغير حقه، أو انتهب أو قتل أو ترك الصلاة، أو فعل الفواحش والمنكرات، أو ما أشبه ذلك. ويدعون أنهم قد وصلوا إلى حضرة القدس، وأنهم قد بلغوا الرتبة العالية، وقد سقطت عنهم التكاليف والأوامر؛ هذه صفات الولي عندهم. ذكر لي بعض المشايخ أن هذا السيد البدوي الذي يعبد ويعظم في مصر وقبره من أشهر القبور، عرف عنه أنه دخل المسجد مرة والناس في صلاة الجمعة، فبال فيه قائماً والناس ينظرون، وخرج ولم يصل، فتبعوه وقالوا: هذا مجذوب، هذا قلبه عند ربه، وبعد ذلك صار يظهر لهم مثل هذه الأمور، وصار يعظم عندهم إلى أن مات فغلوا فيه، واعتقدوا فيه الشيء العظيم الذي لو قرأ أحدنا سيرته التي كتبت عنه، لرأى فضائح وفجائع تحزن كل ذي قلب سليم، وكم وكم من أمثال هؤلاء الذين إذا وصل أحدهم إلى تلك الرتبة، زعموا أنه مباح له أن يفعل ما يشاء حتى ولو مشى عرياناً، ولو سلب، ولو قتل ونحو ذلك. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 5 تلاعب الشيطان بالصوفية وانحلالهم من التكاليف في القصيدة البائية للأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني التي يقول فيها: كقوم عراة في ذرى مصر ما ترى على عورة منهم هناك ثياب يعدونهم في مصرهم من خيارهم دعاؤهم فيما يرون مجاب يذكر أن في زمنه قوماً في مصر يمشون عراة ويمشون بدون ثياب، وأهل ذلك الزمان يقدسونهم ويتمسحون بهم، ويتبركون بهم، ويدعون أن دعوتهم مجابة؛ لأنهم قد وصلوا إلى الله، فهم في زعمهم يأخذون من اللوح المحفوظ، وليسوا بحاجة إلى أن يرجعوا إلى القرآن ولا إلى السنة. عجباً لهؤلاء كيف اعتقدوا هذه العقيدة! هل هناك رتبة أفضل من رتبة الرسل؟ رسل الله وأنبياؤه الذين بلغوا شرائعه، والذين نزل عليهم الوحي هم صفوة الله تعالى من خلقه، فهل سقطت عنهم التكاليف؟ نبينا صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الرسل وأفضلهم، كان يقوم الليل حتى تفطرت قدماه، فلماذا لم تسقط عنه التكاليف التي سقطت عن هؤلاء الأولياء؟ ألم يتورع عن أكل تمرة وجدها في الطريق مخافة أن تكون من الصدقة، لماذا هؤلاء يأكلون أموال الناس؟ بل يستحلون دماءهم، ويزعمون أنهم قد رفع عنهم الحرج وأبيح لهم ما لم يبح لغيرهم؟ لا شك أن هذا من تلاعب الشيطان بهم، ثم بأتباعهم. وبكل حال نقول: إن الولاية التي يلهج بها هؤلاء ليست خاصة بهذا دون هذا، بل كل أحد يستطيع أن يكون من أولياء الله إذا حقق الإيمان وحقق التقوى. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 6 ولاية الله تنال بالإيمان والتقوى يقول بعض الإخوان: إنكم معشر الوهابيين لا تقيمون للأولياء وزناً، الأولياء عندكم لا تقدسونهم ولا تعرفون قدرهم. قال له ذلك الأخ: ومن هم الأولياء؟. قال: الله يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] . فقال: اقرأ ما بعدها؛ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] ألا تكون منهم؟ ألا تحقق الإيمان وتحقق التقوى ثم تكون ولياً، ما بينك وبين أن تكون ولياً إلا أن تؤمن الإيمان الصحيح وتتقي الله تعالى، وبذلك تكون منهم، فلماذا تحرم نفسك وتتعلق بهم وتقدسهم وتعظمهم، وتعتقد فيهم، وتغلو في قبورهم وتفعل فيها ما لا يفعل إلا في بيوت الله تعالى وما لا يصلح إلا لله سبحانه وتعالى؟ ولماذا تعتقد فيهم أنهم يعلمون الغيب، وأنهم يطلعون على الكون، وأنهم يبلغون الأمور، وأنهم يديرون الأفلاك وأنهم أقطاب الأرض، وأنهم عمدها وأسسها، وأن الأرض ثبتت بثباتهم، وأنه لولا هؤلاء الأولياء لماجت الأرض واضطربت وخسفت بنا؟ فنقول: لا شك أن هذا من تلاعب الشيطان بهم، وإلا فولاية الله عز وجل تصلح لكل مؤمن: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257] ، فعلى المؤمن أن يحرص على تحقيق الإيمان وتحقيق التقوى ليكون من أولياء الله تعالى، وعليه أيضاً أن يتولى الله ويتولى رسوله، ويتولى إخوته المؤمنين، بمعنى أن يحبهم وينصرهم، ولذلك ذكر الله تعالى أن المؤمنين يتولى بعضهم بعضاً: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] . عقد الله الولاية بين المؤمنين كما عقد بين المهاجرين والأنصار في الآية التي سمعنا؛ وهي قوله تعالى في آخر سورة الأنفال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا} [الأنفال:72] . (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا) هؤلاء المهاجرون، (وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا) هؤلاء هم الأنصار. ثم قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] ، فالكفار بعضهم يتولى بعضاً، بمعنى: ينصر بعضهم بعضاً ويؤيده (والمؤمنون بعضهم أولياء بعض) يعني: أنهم يتناصرون فيما بينهم، وكذلك هم جميعاً أولياء الله، فكل من كان مؤمناً فهو من أولياء الله تعالى. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 7 اعتقاد الصوفية حاجة الله إلى الولي ثم قد يفهم من إطلاقات الصوفية ونحوهم أن الولي ولي الله، وأن الله تعالى بحاجة إلى هؤلاء الأولياء، وهذا اعتقاد خاطئ، فالله تعالى غني عن الأولياء جميعاً، وغني عن الخلق كلهم، وليس بحاجة إلى عبادتهم، ولا إلى ولايتهم، وإنما كان المؤمنون أولياء الله بمعنى أنهم لما أحبوا الله، ولما أطاعوه وعبدوه؛ تولاهم الله، بمعنى: نصرهم وأيدهم وقواهم، فأصبحوا هم أولياء الله، ووصف الله نفسه بأنه وليهم، فهكذا يكون المؤمن ولياً من أولياء الله، والله تعالى ولي الذين آمنوا. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 8 تفاوت المؤمنين في الولاية قال المؤلف: [والولاية أيضاً نظير الإيمان، فيكون مراد الشيخ أن أهلها في أصلها سواء، وتكون كاملة وناقصة؛ فالكاملة تكون للمؤمنين المتقين، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة} [يونس:62-64] . فـ (الذين آمنوا وكانوا يتقون) منصوب على أنه صفة أولياء الله، أو بدل منه، أو بإضمار: أمدح، أو مرفوع بإضمار (هم) ، أو خبر ثان لـ (إن) ، وأجيز فيه الجر بدلاً من ضمير (عليهم) . وعلى هذه الوجوه كلها فالولاية لمن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وهم أهل الوعد المذكور في الآيات الثلاث، وهي عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابه ومساخطه، ليست بكثرة صوم ولا صلاة، ولا تملق ولا رياضة. وقيل: الذين آمنوا: مبتدأ، والخبر: لهم البشرى، وهو بعيد؛ لقطع الجملة عما قبلها، وانتثار نظم الآية. ويجتمع في المؤمن ولاية من وجه، وعداوة من وجه، كما قد يكون فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، وإن كان في هذا الأصل نزاع لفظي بين أهل السنة، ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع، كما تقدم في الإيمان. ولكن موافقة الشارع في اللفظ والمعنى أولى من موافقته في المعنى وحده، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] وقال تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] الآية، وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وأنهم ليسوا منافقين على أصح القولين. وقال صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر) وفي رواية (وإذا اؤتمن خان) بدل: (وإذا وعد أخلف) أخرجاه في الصحيحين، وحديث: شعب الإيمان تقدم. وقوله: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) ، فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلد في النار، وإن كان معه كثير من النفاق، فهو يعذب في النار على قدر ما معه من ذلك، ثم يخرج من النار. فالطاعات من شعب الإيمان، والمعاصي من شعب الكفر، وإن كان رأس شعب الكفر الجحود، ورأس شعب الإيمان التصديق. وأما ما يروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي لله، لا هم يدرون به، ولا هو يدري بنفسه) ، فلا أصل له، وهو كلام باطل، فإن الجماعة قد يكونون كفاراً، وقد يكونون فساقاً يموتون على الفسق] . الجزء: 49 ¦ الصفحة: 9 أكمل الناس ولاية أكملهم إيمانا ً يتكلم هنا على الولاية وأنها الإيمان، وقد تقدم أن أهل الإيمان يتفاوتون في إيمانهم، وأيضاً يتفاوتون في صفة الولاية، فأولياء الله تعالى يتفاوتون في هذه الأوصاف، كما أن المؤمنين من عباد الله يتفاوتون في آثار الإيمان. إذا عرفنا أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن الحسنات والطاعات من شعب الإيمان، والمعاصي والمخالفات من شعب الكفر؛ أي: أن للإيمان شعباً وللكفر شعباً، وأن الإنسان قد يجتمع فيه خصال كثيرة من خصال الإيمان ويفقد بعضها فيكون مؤمناً ناقص الإيمان، وقد يكون فيه خصلة من خصال الكفر ولا يحكم بكفره؛ فيكون بذلك جامعاً بين كونه ولياً لله من جهة، وعدواً له من جهة، يحبه الله تعالى على ما فيه من الإيمان ومن الأعمال الصالحة، ويبغضه على ما فيه من المعاصي ونحوها، والحكم للصفة التي تغلب، ويكون أيضاً مثاباً ومعاقباً، ولأجل ذلك فإن الله تعالى يدخل كثيراً من العصاة النار ثم يخرجهم من النار بعد أن يمحصوا ويزال عنهم آثار تلك المعاصي، فأولئك محبوبون من جهة؛ وهي كونهم من المصدقين الذين أتوا بالشهادتين، ومبغضون من جهة؛ وهي كونهم قد أصروا على كثير من المعاصي واقترفوا كثيراً من الذنوب، وعملوا أنواعاً من السيئات، فأصبحوا بذلك قد جمعوا بين الأمرين؛ بين اقتراف السيئات وبين عمل الحسنات. لكن الحكم لما هو الأصل، فيقال: إذا كان الأصل أنه ممن شهد الشهادتين وآمن بالله عز وجل، وآمن برسله، ولكن كان إيمانه الذي في قلبه ضعيفاً لم يحمله على كل العبادات والإتيان بها، ولم يزجره عن كل المعاصي والمخالفات، فإنه يقال: هو مؤمن، ولكن يعاقبه الله بهذه المعاصي التي اقترفها، أو يعفو الله عنه. كذلك الكافر، قد يعمل حسنات، وقد يفعل قربات، ولكن العبرة بما عليه قلبه، فإذا كان كافراً يعتقد أن لله شركاء في العبادة، ويجعل أنواعاً من العبادات لغير الله، ولكنه مع ذلك قد يصلي، وقد يتصدق، ويقرأ، وقد يحب الخير، وقد يجاهد المشركين، ولكنه مع ذلك يدعو غير الله، فنقول: هذا مشرك، ولا ينفعه عمله هذا الذي عمله؛ لأنه حبطت أعماله وقرباته وحسناته وبطل أجرها وثوابها، فلا يستحق عليها شيئاً. وبكل حال نقول: إن على المؤمن أن يحرص على تكميل إيمانه حتى يكون من أولياء الله عز وجل الذين آمنوا وكانوا يتقون، كما جمع الله تعالى في وصفهم بين هذين: (الذين آمنوا وكانوا يتقون) ، فآمنوا إيماناً تظهر عليهم آثاره وهي الصالحات، وتصديقاً قوياً وتقوى يتركون بها الآثام والجرائم وأنواع المحرمات، وكبائر الإثم وصغائره. فإذا كمل الإيمان ولو حصل معه شيء من السيئات ونحوها، واتقى الله عز وجل، أصبح من أولياء الله، وثوابه الذي يحصل له ثواب عاجل وثواب آجل، فالثواب الذي في الدنيا هو أن الله تعالى يحب أولياءه ويتولاهم: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257] ، وإذا أحبهم الله وفقهم للطاعات وحماهم عن المعاصي والآثام. أما الثواب في الآخرة فهو الثواب الأعظم، وقد ذكر الله بعض الثواب أو نوعاً منه بقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] فجعلهم من أهل الأمن، والأمن هو أن يكونوا آمنين في الآخرة، لا يخافون ولا يحزنون، ولذلك قال في هذه الآية: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] أي: هم آمنون، (وهم مهتدون) أي: على طريق سوي، فنعتقد بذلك أن لله أولياء، وأنهم ليسوا -كما يزعم المتصوفة والغلاة ونحوهم- خواص من الناس قد قطعوا المسافات، وأنهم سقطت عنهم التكاليف، وأنهم وأنهم، بل كل من آمن إيماناً صحيحاً واتقى الله تعالى حصل على ولاية الله، وأما من قصر في ذلك فإن معه نوعاً من الولاية ولكنها ولاية ناقصة. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 10 الولاية التامة والولاية الناقصة الولاية قسمان: ولاية تامة، وولاية ناقصة. فالمسلم يحرص على أن يكون من أولياء الله، ولا يقول: أولياء الله هم أهل الدرجات الرفيعة وأهل المنازل العالية، والذين عرفوا الله المعرفة التامة ونحو ذلك، وكذلك الذين يسمونهم أقطاباً وأوتاداً، وعاملين أو واصلين أو نحو ذلك، بل كل من آمن إيماناً صحيحاً واتقى الله فهو من أولياء الله، وما عليك إلا أن تحقق هذه الآية لتصبح من أولياء الله. ولا شك أن الأسباب التي تقوى بها هذه الأصول موجودة بحمد الله، فالإيمان بالله هو أصل وأساس هذه الأصول وهذه الأركان، وهو مبني على السماع، وهو ما بلغته الرسل، فإذا سمع العقل تلك الأدلة ورأى دلالتها، أيقن بأنها حق وأنها دالة على قدرة قادر، وكذلك إذا فكر فيما ترمي إليه، فإن تلك الأدلة فيها الالتفات أو الاستدلال بالآثار، وبالآيات، وبالبراهين، ولأجل ذلك يقيم الله الحجة بهذه الأدلة على المشركين والجاهلين ونحوهم، فيذكر لهم الآيات الكونية، ويتلو عليهم الآيات القرآنية، وكلها بلا شك تكون سبباً لترسيخ تلك العقيدة التي هي الإيمان بالله. فإن العاقل إذا نظر فيما بين يديه من الأفلاك، وهذه المخلوقات العلوية والسفلية، علم أنها لم تخلق عبثاً، وأن الذي خلقها لا يتركها هملاً، وكذلك إذا نظر في نفسه، ونظر في مبدئه ومنتهاه، علم أيضاً أنه لم يخلق عبثاً، وأنه لابد أن يؤمر وينهى، ولابد أن يكون له رب مالك متصرف، وأن الذي خلقه استعبده؛ وفرض عليه أن يعبده، وأن يحمده، وأن يذكره وأن يشكره، وأنه لابد وأن يثيبه على العبادة أو يعاقبه على المعصية، هكذا تدل المؤمن العاقل فطرته على هذه الأمور، فكيف وقد أرشدته الأدلة، وقامت عليه البراهين، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب تبين للناس هذه الأشياء التي هي أساس العقيدة، فلأجل ذلك لما آمن بذلك من آمن، وعرفوا الله حق المعرفة، وثبت الإيمان في أفئدتهم، وأشربته قلوبهم، ونبتت عليه لحومهم، صار مندمجاً في دمهم ولحمهم. أما الظالمون لأنفسهم، فهم الذين يفعلون المكروهات ويتركون المستحبات ويفعلون المباحات، وقد يتركون بعض الواجبات وقد يفعلون بعض المحرمات، فلأجل ذلك وصفوا بالظلم. والكل منهم تحت مشيئة الله، إلا أن الله تعالى وعدهم بالجنة، وأخبر بدعائهم بقوله عنهم: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34] الحزن: يعني: الخوف، وذلك هو المذكور في هذه الآية، {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] . فعلى كل حال: صفات أهل الإيمان موجودة في مثل هذه الآيات، والذي يحب أن يكون منهم عليه أن يطبقها ويعمل بها ليُحشَر معهم. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 11 الغني الشاكر والفقير الصابر وأيهما أفضل؟ قال الشارح رحمه الله تعالى [قوله: (وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن) أراد: أكرم المؤمنين هو الأطوع لله والأتبع للقرآن، وهو الأتقى، والأتقى هو الأكرم، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض، إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب) . وبهذا الدليل يظهر ضعف تنازعهم في مسألة: الفقير الصابر والغني الشاكر، وترجيح أحدهما على الآخر، وأن التحقيق أن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى، وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق، فالمسألة فاسدة في نفسها، فإن التفضل عند الله بالتقوى وحقائق الإيمان، لا بفقر ولا غنى، ولهذا -والله أعلم- قال عمر رضي الله عنه: الغنى والفقر مطيتان لا أبالي أيهما ركبت. والفقر والغنى ابتلاء من الله تعالى لعبده كما قال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:15] ، فإن استوى الفقير الصابر والغني الشاكر في التقوى استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما فيها فهو الأفضل عند الله، فإن الفقر والغنى لا يوزنان، وإنما يوزن الصبر والشكر. ومنهم من أحال المسألة من وجه آخر: وهو أن الإيمان نصف صبر ونصف شكر، فكل منهما لا بد له من صبر وشكر، وإنما أخذ الناس فرعاً من الصبر وفرعاً من الشكر، وأخذوا في الترجيح فجردوا غنياً منفقاً متصدقاً باذلاً ماله في وجوه القرب، شاكراً لله عليه، وفقيراً متفرغاً لطاعة الله ولأداء العبادات صابراً على فقره، وحينئذ يقال: إن أكملهما أطوعهما وأتبعهما، فإن تساويا تساوت درجتهما، والله أعلم. ولو صح التجريد لصح أن يقال: أيما أفضل معافىً شاكر، أو مريض صابر، أو مطاع شاكر أو مهان صابر، أو آمن شاكر أو خائف صابر؟ ونحو ذلك] . الجزء: 49 ¦ الصفحة: 12 تفاضل الناس عند الله إنما هو بالتقوى عرفنا أن تفاضل الناس بالتقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، لا بالحسب ولا بالنسب ولا بأصل الآباء والأجداد، ولا بالرتب ولا بالأموال ولا بالمناصب، إنما تفاضلهم عند الله تعالى بالأعمال الصالحة، فالله تعالى يقول في هذه الآية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] بعدما ذكر القبائل والشعوب في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ} [الحجرات:13] ، يعني: كل بني آدم تفرعوا من ذكر وأنثى؛ لكن جعلهم الله شعوباً وقبائل لمصلحة وهي: لا لتفاخروا، بل ليُعرَف أن هذا فلان من القبيلة الفلانية، وبعدما ذكر أن الحكمة في ذلك هي التعارف، ذكر أن هذا الفخر لا يجوز، وإنما الفخر بالتقوى فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] . وقد وردت أدلة في النهي عن الافتخار بالأسلاف، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لينتهينَّ أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب) . وفي حديث آخر: (إن الله أذهب عنكم عُبَّية الجاهلية وفخرها بالآباء) ، فجعل الفخر بالتقوى، وجعل الإنسان إنما يكرم وإنما يرتفع منصبه ومنزلته عند الله تعالى إذا حقق التقوى، ولذلك يقول بعضهم: ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم فإذاً: الفخر إنما هو بطاعة الله وبالتقرب إليه، وتمايُز الناس وتفاوتهم إنما يكون بحسب الإيمان، وبحسب آثار الإيمان، فأفضلهم أكملهم إيماناً وأكملهم أعمالاً وأكملهم وأحسنهم أقوالاً وأحوالاً، وأبعدهم عن الآثام، وأبعدهم عن أنواع الإجرام، هذا هو أكملهم عند الله وأكرمهم، وأرقاهم منزلة، فأما منصب وجاه ومال وحسب ونسب ومسكن وولد؛ فكل ذلك لا يُغني عن صاحبه، كما ذكر الله عن الكافر في قوله: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28-29] ، أي: هلكت عني سلاطيني وحسبي ونسبي وقبيلتي وأسرتي وأنصاري وأعواني، وتخلوا عني. فإذاً: ما على الإنسان إلا أن يحقق الإيمان ويحقق التقوى؛ ليصبح بذلك أفخر الناس وأشرفهم، والفخر والشرف إنما يكون بما عند الله، ولا يضره لو كان ضعيفاً مهيناً لا يُؤبَه له، ولا يُنظَر إليه، ويُدفَع عن الأبواب، ولا يُقدَّم في المجالس، ولا يُحترَم ولا يُكرَم؛ فإنه إذا كان عند الله عزيزاً، كريماً، شريفاً، فلا يضره كونه عند الناس وضيعاً. تكلم الشارح كما تقدم على ما اشتهر في كتب الأدب، وهي مسألة التفضيل بين الصابر والشاكر، حين يكون الصبر مع الفقر، والشكر مع الغنى، وقد تكلم فيهما العلماء، فتكلم فيهما ابن القيم رحمه الله وأطال في ذلك في كتابه (هبة الصابرين وذخيرة الشاكرين) ، وهو كتاب عظيم ومفيد نوصي باقتنائه وبقراءته، تكلم فيه على الصبر، وعلى أنواع الصبر، وعلى الشكر، وعلى فوائده، وأطال في ذلك، وأطال أيضاً على هذه المسألة، وهي: مسألة التفاضل بين الغني الشاكر والفقير الصابر. الفقير هو: الذي زُوِيَت عنه الدنيا، ولا يؤتى منها إلا قدر ما يسد رمقه، وأما الغني: فهو الذي فُتحت عليه الدنيا، وأوتي من أنواع زهرتها. فالفقير صبر واحتسب وزهد وقنع بما آتاه ربه. والغني شكر، فأعطى حقوق هذا المال وصرفه في وجوه البر، وأنفقه في الخيرات وفي المسرات، وأعطى المستضعفين، وصرفه في الجهاد في سبيل الله، ونفع به المحتاجين ونحوهم. فأيهما أفضل: ذلك الفقير الذي اقتصر على نفسه وصبر واحتسب، أو هذا الغني الذي أنفق في وجوه الخير؟ اختلف العلماء في ذلك. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 13 التفضيل لا يعود إلى ذات الغنى والفقر وإنما إلى ما خصهما من تقوى فإذا نظرنا في الأدلة التي يُستدل بها من حيث النقل: الآيات والأحاديث، وجدناها كلها تفضل الفقير، وتحث على التقلل من طلب الدنيا، وتحث على الزهد فيها، وتضرب لها الأمثال، وقد أورد ابن القيم جملة كثيرة من ذلك، مع أنه ذكر أنه اقتصر على البعض ولم يستوفها، ولو استوفاها لزادت على ما ذكره أضعافاً كثيرة. وأما الأدلة العقلية فإنها تفضل الشاكر الذي رزقه الله مالاً. ومعلومٌ أن المال لا يحصل إلا بتسبُّب وبتعب وبكدح وبكد وبطلب، وأن هذا الطلب يحتاج إلى وقت وزمان، فلأجل ذلك كان الفقير متفرغاً للعبادة منقطعاً لها، وأما الغني فلا بد أن تكون له أوقات يقضيها في طلب المال، ويقضيها في تنميته، وفي تصريفه، وفي حساباته ونحو ذلك، فيكون جل وقته أو أكثره فيما يتعلق بأمور حياته الدنيا، ويكون وقته الذي يقضيه للعبادة أقل بأضعاف من الوقت الذي يقضيه الفقراء في العبادات ونحوها، فلأجل ذلك مال بعضهم إلى تفضيل الفقير. وسمعنا هذا القول الذي اختاره الشارح، وهو أن أكثرهما تقوىً أكثرهما عبادة أكثرهما أعمالاً صالحةً، فإذا وفق الله الغني وأكثر من الصالحات وصار لا تلهيه أمواله ولا أولاده عن ذكر الله، فإنه يفضل غيره، كما وصف الله الأغنياء بقوله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37] . فإذاً: لا بد أن تكون لهم تجارة ولهم بيع ولهم تنمية أموال؛ ولكن إذا جاء وقت العبادة تخلوا عن الدنيا وعن متاعها كله، وأقبلوا على العبادة، وإذا جاءت أوقات المنافسات والخيرات سارعوا إليها. فإذاً: هؤلاء قد جمعوا بين الأمرين: جمعوا بين أنهم كانوا أهل تقوى وأهل إيمان وأهل أعمال صالحة وحسنات وخيرات كثيرة، وبين أن لهم أعمالاً متعدية بحيث إنهم وصلوا الأرحام، وأنفقوا في سبيل الله، وجهَّزوا الغزاة مثلاً، وأقاموا المشروعات الخيرية، ونشروا العلم، وبنوا بيوت الله، وأقاموا فيها الأماكن التي يُتَعَلَّم فيها ويُقْرأ، فكانوا بذلك نافعين لأنفسهم ونافعين لغيرهم، فكانوا بذلك أفضل. ومما يدل على ذلك ما ورد في الصحيح أن فقراء المهاجرين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -أهل الدثور يعني: أهل الأموال- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق فقال: ألا أدلكم على عمل إذا فعلتموه سبقتم من قبلكم ولم يدرككم من بعدكم إلا من عمل مثلكم؟ قولوا: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، بعد كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، فذهبوا وقالوها، ثم إن الأغنياء نُقِل إليهم ذلك ففعلوا، فقال الفقراء: يا رسول الله! سمع إخواننا أهل الأموال بما قلنا فقالوا مثلنا، فقال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) . فغبط الأغنياء الذين ما شغلهم مالهم عن عبادتهم ولا عن أذكارهم ولا عن أعمالهم. وبكل حال فالشكر والصبر كلاهما من الأعمال القلبية، ويُرى آثارها على الأعمال البدنية، وأما الأعمال الصالحة فإنها زيادة على ذلك، أعني أن التقوى والإيمان والصلاح وكثرة الخيرات وكثرة الحسنات ناتجة مما في القلب، وأما الشكر والصبر فهما من الصفات الظاهرة حتى يمكن أن يُحكم بتساويهما. ويمكن أن يقال: ما قيل في الشاكر والصابر يقال في أمثالهما، فيقال مثلاً: المبتلى والمعافى كذلك، إنسان ابتُلي ولكنه احتسب، وآخر عوفي ولكنه شكر، فهما سواء، وكذلك مثلاً: إنسان أُعطي فشكر ربه، وآخر مُنع فحمد ربه. وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خُيِّر بين أن تكون له جبال مكة ذهباً وبين أن يجوع يوماً ويشبع يوماً، فاختار أن يجوع يوماً ويشبع يوماً، وقال: إذا جُعتُ تضرعتُ إليك وذكرتك، وإذا شبعتُ حمدتُك وشكرتك) ، فجعل الله ذلك مرتبة أفضل من أن تكون له الدنيا. وقد ذكر الله تعالى أنه أعطى من قبله من الأنبياء من الدنيا ومع ذلك لم ينقصهم من مرتبتهم عنده، كما أعطى سليمان، قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] إلى قوله: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:39] ؛ لكن رتبة نبينا صلى الله عليه وسلم وصبره على ما أوتي وتقلله ودعاؤه بقوله: (اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً) ، أفضل من رتبة سليمان، مع أن سليمان شاكر لربه كما حكى الله عنه أنه قال لما أتي بعرش بلقيس: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40] . الجزء: 49 ¦ الصفحة: 14 شرح العقيدة الطحاوية [50] للإيمان ثمار عظيمة، من أعظمها أنه يدعو إلى العمل الصالح، والتقوى، ويعصم صاحبه من الفتن، ويؤهله لاستحقاق رحمة الله. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 1 أركان الإيمان قال الشارح رحمه الله: [قوله: (والإيمان هو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى) . تقدم أن هذه الخصال هي أصول الدين، وبها أجاب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور المتفق على صحته حين (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة رجل أعرابي، وسأله عن الإسلام فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. وسأله عن الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. وسأله عن الإحسان؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) . وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه (كان يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الإخلاص: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وتارة بآيتي الإيمان والإسلام: التي في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:136] الآية، والتي في آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] الآية. وفسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس المتفق على صحته حيث قال لهم: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في غير موضع أنه لا بد من إيمان القلب، فعُلِم أن هذه مع إيمان القلب: هو الإيمان، وقد تقدم الكلام على هذا. ] ذكر الطحاوي خصال الإيمان أو أركان الإيمان، وقد تقدم بعضها. وقد تقدم أيضاً اختياره أن الأعمال ليست من مسمى الإيمان، وأن الإيمان هو: القول باللسان والاعتقاد بالجنان، أو هو: التصديق الجازم دون تردد. وتقدم أن القول الصحيح: كون الأعمال من مسمى الإيمان، فإن الصلاة من الإيمان، والصدقات من الإيمان، والصوم والحج والجهاد ونحوها من الإيمان، وكذلك البر والصلة والصدق والوفاء والأمانة ونحوها من خصال الإيمان، وكذلك ترك المحرمات خوفاً من الله تعالى من الإيمان أو من آثار الإيمان. أركان الإيمان الستة تعتبر هي العقيدة، وتعتبر هي الأسس والأصول، فإذا ثبتت ورسخت في القلب فإن ثمرتها الأعمال الصالحة. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 2 ثمرة الإيمان ثمرة الإيمان بالله سبحانه وتعالى: أن يعبده المؤمن، وأن يخافه ويرجوه، وأن يعتمد عليه، ويقبل إليه بقلبه وقالبه ويتوب إليه، وأن يصدق بخبره، وأن يستعد للقائه. ولا شك أن الأدلة التي قامت على الإيمان بالله تعالى سمعية وعقلية، ولا شك أيضاً أن من حقق الإيمان بالله تعالى، وصدق بأنه هو الإله الحق، وهو الرب، فإنه يصدق بوجوب عبادته، ويصدق بالإيمان بما أخبر به، ويصدق بالبعث بعد الموت، وبالجزاء في الآخرة، ويصدق بالرسل الذين بلغوا رسالات ربهم، ويصدق بالكتب التي أنزلها وضمَّنها شرائعه، ويصدق بالقضاء والقدر، وأنه من تمام قدرة الله على العباد وعلى كل شيء، ويصدق بالأمور الغيبية التي أخبر الله تعالى بها، ولو لم يرها؛ لأنه أخبر بها الصادق المصدوق، أخبر بها الله أو أخبرت بها رسله، فيصدق بذلك، ولا شك أن من صدق تصديقاً جازماً فإنه ولا بد سيعمل وسيظهر أثر هذا التصديق على جوارحه، وعلى لسانه، وعلى سمعه، وعلى بصره، وعلى يديه، وعلى رجليه، وعلى حاله وماله، وعلى مآله وعلى بدنه، يظهر أثر ذلك جلياً لا خفاء فيه. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبريل بالأعمال الباطنة، والإسلام بالأعمال الظاهرة، وقد تقدم الكلام على الإسلام والإيمان والإحسان، وتبين لنا أنها مراتب، وأن أعلاها مرتبة الإحسان، ثم بعدها مرتبة الإيمان، وأوسعها مرتبة الإسلام، وتقدم أمثلة لذلك. وكل من دخل في الإسلام وعمل بالأعمال الظاهرة، عومل بمعاملة المسلمين، ولكن قد يكون إيمانه ضعيفاً لا يرتقي به إلى المرتبة الثانية، وكل من وصل إلى الإيمان وآمن بالأمور الغيبية وعمل بموجبها، فقد يكون تصديقه متوسطاً لا يصل به إلى المرتبة الثالثة التي هي الإحسان. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بالأعمال الظاهرة في حديث جبريل، وجعل الأعمال الظاهرة أيضاً هي الإيمان في حديث وفد عبد القيس فقال لهم: (أتدرون ما الإيمان بالله؟! شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) فجعل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والشهادتين من الإيمان، وكذلك أداء الخُمُس ألحقه بالزكاة، فجعل ذلك من الإيمان. وبوَّب البخاري رحمه الله على هذه الخَمْس بأنها من الإيمان، حيث يقول: أداء الزكاة من الإيمان، بابٌ: أداء الخمس من الإيمان، يعني: من الأعمال التي فعلها يكون متمماً للإيمان. وقد ذكر الشارح فيما سبق حديث شعب الإيمان، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق) فجعل هذه البضع والستين كلها من خصال الإيمان، أي: من أجزائه، أو من ثمراته، ولا شك أن المؤمنين يتفاوتون، وفي بعض الأحاديث: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) فجعل حسن الخلق -مع أنه جبلة وطبيعة؛ ولكن يثاب العبد عليه- سبباً لكمال الإيمان، وقوته، وتمكُّنه. وبكل حال فما على المسلم إلا أن يحرص على تحقيق الإسلام والإيمان والعمل به، ثم بعد ذلك يتفقد أعماله هل عمل بالأعمال التي يتصف بها المسلمون المؤمنون؟ فإذا وجد في نفسه نقصاً، حرص على تكميل ذلك النقص؛ ليحوز الرتبة العالية. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 3 سر قراءة سورتي الإخلاص وآيتي الإسلام والإيمان في سنة الفجر كان النبي صلى الله عليه وسلم في سنة الفجر يقرأ سورتي الإخلاص؛ وذلك لأن سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فيها توحيد الذات والصفات، وأما سورة الكافرون ففيها توحيد العبادة، فتوحيد الله تعالى بأفعاله تضمنته سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وتوحيد الله تعالى بأفعالنا تضمنته سورة الكافرون أي: أن تكون أفعالنا لله وحده، طاعتنا ودعاؤنا وتوكلنا وخوفنا ورجاؤنا. إذاً: فكونه يقرأ هاتين السورتين في سنة الفجر التي يستقبل بها النهار، كأنه يعاهد ربه أنني في أول هذا النهار أعبدك يا رب وأخصك بالعبادة، وأعتقد وحدانيتك وأنزهك عن صفات النقص. وأما قراءته للآيتين من سورتي البقرة وآل عمران فتلك الآيتان يشتملان على خصال الإيمان وخصال الإسلام. فالإيمان ذُكر في آية البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136] فجمعت الآية خصال الإيمان، يعني: آمنا بالرسل وآمنا بما أنزل إليهم؛ ولكن الإيمان يتبعه العمل، ولذلك ختمها بقوله: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) . وآما آية آل عمران ففيها التوحيد، يخاطب الله بها أهل الكتاب في قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] وهي كلمة التوحيد {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] فختمها بالإسلام وأكد فيها التوحيد. فكأن الإنسان إذا قرأهما في أول النهار يعاهد ربه على أنه مؤمن وأنه موحد. ولقد تكرر معنا أن عقيدة المسلمين تنبني على أصول الإيمان التي بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور لما سئل عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) . الجزء: 50 ¦ الصفحة: 4 ثمرة الإيمان بالرسل واليوم الآخر ما يتفرع عن أركان الإيمان الستة من الإيمان بأمور الغيب ونحو ذلك هو معتقد المسلمين، ولا شك أن دليلهم فيها هو الرسالات التي بلَّغتها إليهم رسل الله، فلما عرفوا الرسل، وعرفوا ما جاءوا به وصحته، وعرفوا أدلة رسالاتهم والمعجزات التي أيدهم الله بها؛ آمنوا برسل الله، ولما آمنوا برسل الله أولِهم وآخرِهم آمنوا برسالاتهم التي يحملونها، والتي بلَّغوها إلى أممهم، وكان من جملة تلك الرسالات: الإيمان بالغيب؛ حيث إن الرسل صادقون، ويلزم تصديقهم فيما بلَّغوه، وكان من جملة ما بلَّغوه أن أخبروا الناس بأنهم عبيد لله وأن الله هو ربهم، وأخبروا الناس بأنهم متعبَّدون، يعني: مأمورون ومنهيون، وأخبروا بأن الخلق مثابون أو معاقبون، وأن هناك داراً أخرى غير هذه الدار، يلاقون فيها جزاء أعمالهم، يلاقون فيها الثواب أو العقاب، على ما عملوه وما قدموه في هذه الحياة الدنيا. فصدق المؤمنون بذلك كله، ولما صدقوا به ظهرت عليهم آثاره، فعند ذلك استعدوا لذلك اليوم، واستعدوا للقاء الله عزَّ وجلَّ بالأعمال الصالحة التي يعرفون أنها سبيل النجاة، وأنها زادهم في الآخرة، وحَذِروا من الأعمال التي توبقهم والتي تكون سبباً للعذاب. فهؤلاء المؤمنون هم أهل العقول هم أهل الذكاء هم أهل الفطنة هم الذين لم تقصُر أنظارهم عند الحياة الدنيا، ولا عند شهواتها وملذاتها، ولم يقصُروا أفكارهم على شهوات البطون أو الفروج، ولا على ما تميل إليه النفوس، بل سمت هممهم، وعلت عزائمهم، وتنافسوا في الأعمال الخيرية، واستعدوا للدار الآخرة، وجعلوا دار الدنيا دار ممر وليست بدار مقر، وعبروها ولم يعمروها، وجعلوا عمارتهم ومنافساتهم للآخرة التي هي دار البقاء، وهذا من ثمرة إيمانهم باليوم الآخر. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 5 ثمرة الإيمان بالقدر وما يترتب عليه من جملة ما أخبرت به الرسل: الإيمان بقضاء الله وقدره خيره وشره، وحلوه ومره، كله من الله. والإيمان بالقدر يدخل فيه الإيمان بعلم الله، بحيث يعتقد المسلم أن الله تعالى عالم بالأشياء قبل أن تقع، عالم بما يكون في الوجود، وما كان، وما لم يكن لو كان كيف يكون. ودليل هذا الإيمان أن الرب سبحانه وتعالى هو الذي يُحْدِث ما يَحْدُث في هذا الكون، فلا يُحْدِثه إلا وقد علمه، وعلم وقته وزمانه الذي يحصل فيه، وقد علم كيفية حصوله، فعلم عدد الخلق والتراب، وأبصر فلم يستر بصره حجاب، وسمع جهر القول وخفي الخطاب، وعلم ما سوف يحدث علم أعمال الخلق، وعلم عددهم، وعلم من يولد ومن لا يولد له، وعلم عمل كل مولود وما يُختم له قبل أن يوجد، كل ذلك يعلمه الله سبحانه وتعالى. فالله بكل شيء عليم، يعلم السر والنجوى، ويعلم ما يدور في الصدور {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119] ، ويعلم ما تكنُّه الأنفس وما توسوس به الصدور، فإذا علم المسلم بذلك فإنه يحاسب عليه إذا شاء، يقول الله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] ، وهو يحمل الإنسان على ألَّا يحدث نفسه إلَّا بالخير، وألَّا يهم إلَّا بالطاعة، وألَّا يتكلم إلَّا بما فيه مصلحة، وأن يبتعد عن العقائد السيئة، وعن الوساوس والأوهام والتوهُّمات، وكذلك عن الهمم السيئة، وبذلك يكون مؤمناً بالله تعالى. كذلك يدخل في الإيمان بالقدر: قدرة الله، فإن الرب سبحانه قادر لا يعجزه شيء، ولا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولا يخرج مخلوق عن قدرته، ولا يعجزه أي مخلوق، فهو يعامل من يشاء بدون أن يرده أحد، وينتقم ممن يشاء بدون أن يحتجب عنه محتجب، وينتصر ممن عصاه، وينتقم منه وهو عزيز ذو انتقام، ويُحِل بمن يشاء المثلات، ويُنْزِل بهم العقوبات، ويرسل عليهم النكبات إذا شاء، ويوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء. فإذا اعتقد المسلم ذلك اعتقد أن التصرف في الكون له وحده. كذلك أيضاً يؤمن بما أصابه وما وقع له، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، إذا أصابك شيء فاعلم أنه ليس منه مفر ولا محيد، فلا تقل: يا ليتني تقدمت أو تأخرت حتى أسلم من هذه المصيبة، بل تعلم أنها مكتوبة عليك لا مفر منها، وإن كان الرب سبحانه قد أمرك بأخذ الحذر. فإذا علمت أن هذه قدرة الله، فعليك أيضاً أن تعلم بأن قدرة الله التي لا يخرج عنها شيء تدخل فيها الطاعات والمعاصي، فهو الذي قدَّر الطاعات وهو الذي قدَّر المعاصي كما يشاء، {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] ؛ ولكنه سبحانه أمر ونهى. فالذين علم الله فيهم الخير امتثلوا ما أمرهم الله به، والذين علم فيهم السوء تركوا ما أُمروا به، فهؤلاء العاصون لهم العقاب، وإن كان الله هو الذي خذلهم بحكمته وعدله، وهؤلاء الذين أطاعوا لهم الثواب، وإن كان هو الذي وفقهم برحمته وفضله. كذلك أيضاً ينبغي أن نعرف أن الخير كله من الله، وأنه لا يُنسب إليه الشر بوجه من الوجوه، ومذكورٌ في تلبية الحاج أنه يقول: لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، نحن عبادك الوافدون إليك، الراغبون فيما لديك. فيقولون: الشر ليس إليك. ومعلوم أن الله تعالى هو الذي قدر الخير والشر؛ ولكن صدوره من الله تعالى ليس شراً، بل هو خير لهم، وإنما يكون شراً بنسبته إلى العبد، فإذا قدر الله على هذا الكفر، وعلى هذا القتل، وعلى هذا الزنا، وعلى هذا الإسكار، وعلى هذا السرقة، ونحو ذلك؛ فهي شر بالنسبة إلى العبد، وخير بالنسبة إلى تقدير الله تعالى، فإنه هو الذي قدرها، وقدرها حتى يُعلم أنه على كل شيء قدير، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 6 شرح العقيدة الطحاوية [51] في اللغة أسماء خصصها الشرع وجعل لها مدلولات اصطلاحية قد تختلف باختلاف موردها، ومن ذلك مسميات الإيمان والإسلام والكفر والفسوق والعصيان والنفاق، وغيرها. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 1 تفسير الإسلام والإيمان قال الشارح رحمه الله تعالى: [والكتاب والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق، وهذا أكثر من معنى الصلاة والزكاة، فإن تلك إنما فسرتها السنة، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] الآية، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] الآية، وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فنفي الإيمان حتى توجد هذه الغاية، دل على أن هذه الغاية فرض على الناس، فمن تركها كان من أهل الوعيد، ولم يكن قد أتى بالإيمان الواجب الذي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب. ولا يقال: إن بين تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبريل، وتفسيره إياه في حديث وفد عبد القيس معارضة؛ لأنه فسر الإيمان في حديث جبريل بعد تفسير الإسلام، فكان المعنى أنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، مع الأعمال التي ذكرها في تفسير الإسلام، كما أن الإحسان متضمن للإيمان الذي قدم تفسيره قبل ذكره، بخلاف حديث وفد عبد القيس؛ لأنه فسره ابتداءً، لم يتقدم قبله تفسير الإسلام، ولكن هذا الجواب لا يتأتى على ما ذكره الشيخ رحمه الله من تفسير الإيمان، فحديث وفد عبد القيس مشكل عليه. ومما يسأل عنه: أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من الخصال الخمس التي أجاب بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المذكور، فلم قال: إن الإسلام هذه الخصال الخمس؟ وقد أجاب بعض الناس: بأن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده] . الإسلام فسر بالأعمال الظاهرة التي هي الأركان الخمسة، والإيمان فسر بالأركان الستة التي هي العقائد، وعلى هذا فإذا اجتمع الإسلام والإيمان فسر الإيمان بالأعمال العقدية الغيبية، وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة. وسبب التسمية: أن الإسلام يستدعي الاستسلام الذي هو الإذعان، فالذي يقيم الصلاة مذعن ظاهراً، والذي يؤدي الحج مذعن ظاهراً، وكذا الذي يصوم ويزكي ويتشهد مذعن وخاضع ومتواضع. وأما الأمور العقدية القلبية فهذه خفية، تستدعي أدلة قوية، ثم بعد ذلك ترتكز في النفس، وتكون آثارها الأعمال الصالحة، وقد مر بنا أنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه وفد عبد القيس قال لهم: (آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا من الغنيمة الخمس) ، فأمرهم بأركان الإسلام وفسر بها الإيمان؛ وذلك لأنه لم يفسر لهم الإسلام، فجعل الإيمان هو الأعمال الظاهرة، فإذا اقتصر على الإيمان دخلت فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا اقتصر على الإسلام دخلت فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالظاهرة والإيمان بالباطنة. الله تعالى ذكر الإيمان وأدخل فيه الأعمال الظاهرة، فجعل الجهاد -وهو من الأعمال الظاهرة- من خصال الإيمان. كذلك قال في آية سورة النساء: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] فجعل تحكيم الشريعة وتحكيم النبي صلى الله عليه وسلم العلامة الواضحة للإيمان، فمن لم يجعل الرسول هو الحكم فليس بمؤمن، فهذا دليل على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وإذا اقتصر على الإيمان دخلت فيه الأعمال الظاهرة والباطنة؛ وذلك لأنها نتيجته وثمرته. أما الإسلام فيفسر بالإعمال الظاهرة؛ لأنها علاماته، ومعلوم أن الأعمال الظاهرة ليست هي الخمس فقط، ولكن هذه الخمس هي دعائمها وأسسها وأصولها، وإذا حافظ عليها المسلم حافظ على غيرها، فالأركان الخمسة الظاهرة: الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج، هذه أسس الإسلام وعموده ودعائمه وأركانه التي يتكون منها، والتي يقوم عليها، ولكن هناك خصال أخرى تعتبر مكملات، فلأجل ذلك إذا أتى بهذه الأركان احتاج إلى مكملات. وقد ذكرنا أنهم ضربوا مثلاً للإسلام بالبناء، قال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) ، فمثله بالبناء، وأنتم تعرفون أن البناء لابد أن يكون له زوايا، فجعل الأركان هذه هي الزوايا التي يتكون منها، وهي الحيطان الأربعة المتقابلة، وهذه تعتبر أركانه لا يتم إلا بها، فهذا المكان لا يتم إلا إذا تكاملت زواياه المتقابلة، ولكن دون ذلك يحتاج إلى تكملة بقية الخصال التي هي إما أفعال وإما أقوال وهي بمنزلة المكملات. فلو بنيت حيطان المسجد فقط دون إتمام بقية المسجد لقلنا: إنه يحتاج إلى تكملة: يحتاج إلى أبواب، ويحتاج إلى نوافذ، ويحتاج إلى إنارة، ويحتاج إلى تهوية، ويحتاج إلى فرش، ويحتاج إلى سرج، ويحتاج إلى مرافق ومتكئات وما أشبه ذلك، فكذلك الإسلام بحاجة إلى الجهاد، وبحاجة إلى الأعمال الصالحة، وبحاجة إلى ترك المنكرات كلها: ترك القتل، وترك الزنا، وترك الشرك، وترك السرقة، وترك الفساد بأنواعه وما أشبه ذلك، وكذلك يحتاج إلى بر الوالدين، وإحسان الجوار، وصلة الأرحام، وبذل السلام، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، واتباع الجنائز وما أشبه ذلك، ولا شك أن هذه من خصال الإيمان. فالذي يأتي بالأركان الخمسة، يطلب منه تكميل ذلك بأن تستدعي الخمسة غيرها، فيقال له: ائت بالبقية حتى تكون بذلك قد كملت الإسلام. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 2 الإسلام ليس منحصراً في الأركان الخمسة وإنما هي دعائمه قال الشارح رحمه الله: [والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقاً، الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان، ويجب على كل من كان قادراً عليه ليعبد الله مخلصاً له الدين، وهذه هي الخمس، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب مصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل إما أن يكون فرضاً على الكفاية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يتبع ذلك: من إمارة وحكم وفتيا وإقراء وتحديث وغير ذلك، وإما أن يجب بسبب حق الآدمي، فيختص به من وجب له وعليه، وقد يسقط بإسقاطه من قضاء الديون ورد الأمانات والغصوب، والإنصاف من المظالم: من الدماء والأموال والأعراض، وحقوق الزوجة والأولاد وصلة الأرحام، ونحو ذلك، فإن الواجب من ذلك على زيد غير الواجب على عمرو، بخلاف صوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة، فإن الزكاة وإن كانت حقاً مالياً فإنها واجبة لله، والأصناف الثمانية مصارفها، ولهذا وجبت فيها النية، ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه، ولم تطلب من الكفار، وحقوق العباد لا يشترط لها النية، ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته، ويطالب بها الكفار. وما يجب حقاً لله تعالى كالكفارات هو بسبب من العبد، وفيها معنى العقوبة، ولهذا كان التكليف شرطاً في الزكاة، فلا تجب على الصغير والمجنون عند أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى، على ما عرف في موضعه] . يجيب الشارح هنا عن سؤال مقدر تقديره: لماذا اقتصر في الإسلام على الأركان الخمسة ولم يذكر بقية الخصال؟ أي أنه لم يقل: الإسلام أن تجاهد في سبيل الله، وأن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، وأن تصل رحمك، وأن تبر والديك، وأن تحسن إلى جيرانك، وأن تحب المسلمين، وأن تسلم على من سلم عليك، وأن تعود المرضى، وأن تتبع جنائز الموتى ونحو ذلك، لماذا لم يذكر هذه الخصال في الإسلام؟ ولماذا لم يذكر المتروكات؟ لماذا لم يقل: إن من الإسلام أن تترك الزنا، وأن تترك القتل، وأن تترك الشرك، وأن تترك السرقة، وأن تترك الغيبة والنميمة، وأن تترك الخيانة والإثم، وأن تترك السباب والفحشاء وما أشبه ذلك؟ فلماذا لم يذكر هذه الأشياء في الإسلام؟! نقول: لا شك أن هذه من خصال الإسلام سواء كانت أفعالاً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحب في الله والبغض في الله، والولاء له والبراء له، وما أشبه ذلك أو كانت من التروك، كترك المنكرات والمعاصي ونحوها، لا شك أنها من خصال الإسلام، ولكن يجاب عنها بما أجاب به الشارح، فالأركان الخمسة تستدعي غيرها، ولا شك أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإذا حافظ العبد عليها فإنها تحبب إليه الأعمال الخيرية، فتراه يحب النفقة في سبيل الله، وتراه يحب الخير، ويحب أهل الخير، وتراه يتعلم العلم ويعلمه، وتراه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبر والديه، ويبذل السلام للعالم، ويأمر بما يصلح المسلمين، ويفشيه فيما بينهم، وتراه يصل الرحم ويحسن الجوار، ويحسن إلى المماليك وما أشبه ذلك، وتراه يبتعد عن المنكرات؛ لأن صلاته تنهاه، فتراه يحفظ لسانه، ويحفظ عينيه عن النظر للحرام، ويحفظ أذنيه عن سماع الملاهي وما أشبه ذلك، ويحفظ يديه عن البطش بالآثام ونحو ذلك، ويحفظ قدميه عن المشي بهما إلى ما حرم الله، لماذا؟ لأن صلاته أمرته بالخير ونهته عن الشر، فالصلاة سبب من الأسباب جعلته يحب الخير ويكثر منه. وهناك أيضاً جواب ثاني وهو: أن هذه الخصال قد لا تجب على كل فرد، بخلاف الصلاة فإنها واجبة على كل فرد، والزكاة على كل فرد توافرت فيه شروطها، والصوم على كل فرد، والحج على كل فرد مستطيع، أما الجهاد فإنه على القادر، وهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وكذلك الأمور التي تتعلق بالغير، فمثلاً بذل السلام فرض كفاية، فلو سلم واحد من عشرة كفى، وإذا رد واحد من العشرة كفى، وكذلك الخصال الخيرية لا تجب على كل أحد، فقد لا يجب على كل أحد أن يبر أو يصل، أو ما أشبه ذلك، فوجوبها إنما هو على الشخص الذي اتصف بتلك الصفات، فهذا جواب. ومن الأجوبة أيضاً: أن هناك أعمالاً لا تجب على الإنسان بإيجاب الشرع، وإنما تجب عليه بإيجاب نفسه، كالكفارات والنذور التي أوجبها على نفسه، مثلاً: إذا أوجب على نفسه أضحية، أو أوجب على نفسه صدقة، اعتبر هذا مما أوجبه على نفسه ولم يوجبه عليه الشرع، إنما الشرع سن له الصدقة، وسن له الأضحية، وسن له أنواع البر المتعدية، أما كفارات النذور، وكفارات الأيمان وما أشبهها، فهذه لا تجب على كل فرد، إنما تجب على من أوجبها على نفسه، أو أتى بالسبب الذي أوجبه على نفسه. إذاً: الناذر هو الذي أوجب على نفسه كفارة يمين إذا لم يفِ بنذره، والحالف هو الذي أوجب على نفسه كفارة إن حنث، والمظاهر هو الذي أوجب الكفارة على نفسه، وهكذا كفارة القتل، وهكذا كفارة الوطء في نهار رمضان وما أشبه ذلك، لا شك أن هذه إنما أوجبها الإنسان على نفسه. وبكل حال فإن الأشياء التي يكلف بها الإنسان إما أن تكون من الخصال الخيرية التي ليست واجبة ولكنها مشروعة وفيها أجر كالأذكار، والأدعية، وقراءة القرآن، والاعتكاف في المساجد، والإتيان بالنوافل قبل الصلوات وبعدها، وأنواع التطوعات، وكذلك أنواع الصدقات البعيدة عن الواجب الذي هو الزكاة، وما أشبه ذلك؛ فهذه خصال خيرية يحبها الشرع، وحبه لها يظهر أنها طاعة، فإذا علم أنها طاعة وأن الله يحبها أكثر منها. وأما التروك والمحرمات فإن الذي يتركها هو الذي يعرف عاقبتها، ويعرف الآثام التي تترتب عليها، فإذا علم العبد أن الله تعالى يعاقبه على الشرك ويعاقبه على القتل وعلى الزنا وعلى المسكرات والمخدرات ونحوها، ويعاقبه على القذف وعلى السباب والشتم واللعن والغيبة والنميمة ونحو ذلك، ويعاقبه على أكل الحرام كأكل الربا وأخذ الرشا والمعاملات المحرمة وما أشبه ذلك، ويعاقبه على سماع الغناء واللهو وما أشبه ذلك؛ تركها، وهذه أيضاً ليست من الضروريات، فليس كل أحد يتعامل بالمعاملات المحرمة، وليس كل واحد مضطراً إلى أن يغتاب وأن ينم ويسب ويكذب، وليس كل واحد مضطراً إلى أن يرى الصور والملاهي، وينظر إلى العورات وما أشبه ذلك، وليس كل واحد مضطراً إلى أن يسمع الغناء واللهو والباطل والكلام السيئ وما أشبه ذلك، فليست من الضروريات. فإذاً: لما كان فيها مفاسد، وليس فيها مصالح، والإسلام مشتمل على النهي عنها، وعلى الزجر والعقوبة عليها؛ وجب على المسلم أن يتركها، فإذا أسلم العبد وعرف أن هذه الخصال التي هي أركان الإسلام هي السبب في أنه مسلم، عرف أن الإسلام لا يجتمع هو وضده، وأن الإسلام ينهى عن الآثام؛ فاجتنب الآثام كلياً، واستكثر من الطاعات كلياً، وبذلك يتم إسلامه وإيمانه. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 3 الإيمان بالقدر خيره وشره قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى) . تقدم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام (وتؤمن بالقدر خيره وشره) ، وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] ، وقال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء:78] ، وقوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] الآية. فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] وبين قوله: {فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] ؟ قيل: قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] : الخصب والجدب والنصر والهزيمة كلها من عند الله، وقوله: {فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك، كما قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك) والمراد بالحسنة هنا النعمة، وبالسيئة البلية، في أصح الأقوال، وقد قيل: الحسنة الطاعة، والسيئة المعصية، وقيل: الحسنة ما أصابه يوم بدر، والسيئة ما أصابه يوم أحد، والقول الأول شامل لمعنى القول الثالث، والمعنى الثاني ليس مراداً دون الأول قطعاً، ولكن لا منافاة بين أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسك، مع أن الجميع مقدر، فإن المعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى، فتكون من سيئات الجزاء، مع أنها من سيئات العمل، والحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، كما دل على ذلك الكتاب والسنة] . الجزء: 51 ¦ الصفحة: 4 الحسنة والسيئة من الله المصائب والحسنات والسيئات كلها مقدرة من الله، فالله تعالى يقول: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] الحسنة والسيئة كلها مكتوبة ومقدرة من الله، لو شاء الله ما حصلت هذه العقوبات ونحوها، ولا حصلت هذه الآفات وما أشبهها، فهي من الله خلقاً وتكويناً وقضاءً وقدراً. الحسنة هنا تدخل فيها الأعمال الصالحة، فما عملت من أعمال صالحة فالله هو الذي أقدرك عليها، وتدخل فيها الخيرات الحسية، فما أصابك من نعمة، وما أصابك من صحة ومن ثروة ومن خصب ومن أمن ورخاء، وما أصابك من نعمة مال أو ولد أو فرح أو بشر وسرور، ما أصابك من هذا كله فهو من الله، وقد جعل الله تعالى ذلك ثواباً على الأعمال والحسنات التي يعملها العبد، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل:41] أي: لنعطينهم في الدنيا حسنة؛ وذلك لأنهم أتوا بالأسباب التي هي الإيمان والأعمال الصالحة، إما الحسنة التي هي خيرات أخروية أو خيرات دنيوية فهي من الله، وهي أيضاً جزاء له على عمله، فأنت أيها المؤمن التقي والعبد الصالح إذا أصلحت عملك جازاك الله تعالى بحسنات في الدنيا، وبحسنة في الآخرة، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) ، فالحسنة في الدنيا: الصحة والنعمة والرفاهية والنصر والتمكين والخيرات المحبوبة في النفوس، والحسنة في الآخرة هي الجنة. فما أصابك من حسنة فمن الله، هو الذي أنعم بها عليك، وهو الذي تفضل بها عليك، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، ما أصابك من هم أو من غم، ما أصابك من جوع أو من عري، ما أصابك من مرض أو من حزن، ما أصابك من خوف أو قلق واضطراب وفقر وفاقة، أو من مرض وموت وفراق حبيب وما أشبه ذلك، فاعلم أنه عقوبة على سيئة اقترفتها، أو أنه محنة لك واختبار، فإذا كان عندك شيء من النقص أو من الضعف في إيمانك فسبب هذه السيئة التي أصبت بها صادر عن نفسك، ولهذا قال الله تعالى للصحابة في غزوة أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] من عند أنفسكم أي: بسبب فعلكم سلط عليكم هذا العدو، فهو من عند أنفسكم، أي: عملتم عملاً حصل به هذا التسليط. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 5 الواجب على المسلم إذا أصابته حسنة أو سيئة لا شك أن الإنسان إذا ابتلي بالحسنة فعليه أن يشكر، وإذا ابتلي بالسيئة فعليه أن يصبر، فإذا أصابته النعمة والرخاء والثروة والغناء وكثرة المال والولد والصحة والرفاهية والخيرات التي تسره وتجلب له الحياة السعيدة فلا يعتقد أن هذا لكرامته، بل يعتقد أنه ابتلاء من الله له، إما أنه جزاء على أعمال عملها، وثواب لحسنات عملها، فيكون قد عجلت له حسناته، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخافون إذا وسعت عليهم الدنيا ويقولون: نخشى أن تكون طيباتنا عجلت لنا. والخيرات والرفاهية التي فيها الناس الآن قد تكون حسناتهم وأعمالهم الصالحة عجلت لهم، ولا يبقى لهم في الآخرة ثواب، ويمكن أن تكون هذه الحسنات والنعم والرخاء التي أعطيها الناس في هذه الأزمنة جزاء على أعمالهم الصالحة، مع ادخار الأجر لهم، فالله تعالى يثيب الصالحين والمؤمنين بثواب في الدنيا، ولا ينقص ثوابهم في الآخرة، فيجمع لهم بين الحسنتين: حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، ويمكن أن تكون هذه الخيرات، وهذه النعم التي أصابها الناس في هذه الأزمنة، وهذه التوسعة والرفاهية والنعم ابتلاء، فإن الله تعالى يبتلي بالخير كما يبتلي بالشر، فيبتلي بالحسنات ويبتلي بالسيئات، فالابتلاء بالحسنات لأجل أن يظهر من العبد هل يشكر أم يكفر، كما حكى الله تعالى عن سليمان أنه قال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] . فهذه النعم التي فتحت علينا من فضل الله علينا ليبتلينا هل نشكر أم نكفر، فإذا عرفنا أنها من الله شكرنا، وإذا عرفنا أنها بحاجة إلى شكر استعملناها فيما يحبه الله تعالى، وبذلك تثبت، وبذلك نكون من الشاكرين لها، فهذا هو الابتلاء بالخيرات. أما الذين انخدعوا بها، واعتقدوا أن ذلك دليل على كرامتهم، فإنهم هم المحرومون، هم الذين تعجلوا ثواب أعمالهم في الدنيا، واعتقدوا أن ما فتح عليهم وما أمدهم الله به دليل على كرامتهم، وعلى فضلهم، وعلى شرفهم، وعلى رفعة منزلتهم ونحو ذلك، وقد وقع هذا للأولين، فحكى الله عن قارون أنه قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] أي: أوتيته على شرف، أوتيته على منزلة رفيعة، أو أوتيته لأني محبوب ومحظوظ عند الله، ولهذا {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] هؤلاء هم الذين نظرتهم دنيوية، ولم يعلموا أن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا من يحب. فإذا عرف العبد أن الابتلاء بالخيرات ليس دليلاً على الكرامة، بل إما أنه لحسنات عملها فيثاب عليها في الدنيا ولا يبقى له في الآخرة شيء، وإما أنه لأجل أن يختبر هل يشكر أم يكفر، وإما أنه تعجيل أو توسعة عليه في الدنيا، ولا ينقص أجره في الآخرة، فإذا شكر الله تعالى علم كيف يقابل الحسنات الدنيوية. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 6 أسباب المصائب والابتلاءات إذا أصاب الإنسان سيئة دنيوية، مصيبة أو بلاء أو مرض أو فقر أو فاقة أو موت قريب، أو حزن أو خوف، أو تشريد وتفريق، أونهب وسلب، أو تسليط أعداء، أو ما أشبه ذلك، فما سبب ذلك؟ لا شك أنه يدخل في هذه الأمور: إما أن يكون ذلك تكفيراً للسيئات، فالمؤمن يبتلى، فإذا كانت عنده سيئات سلط الله عليه المرض، وسلط الله عليه الخوف ونحو ذلك، كما في الحديث: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء) ، وفي الحديث أيضاً: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) ، هذا سبب. السبب الثاني: أن هذه المصائب والآفات التي تصيب الإنسان قد تكون تمحيصاً وتكفيراً للسيئات التي اقترفها، وذلك لأنه قد لا يأتي بحسنات تمحوها، فيسلط الله عليه الأمراض. السبب الثالث: أنه ابتلاء وامتحان ليظهر من يصبر وممن يجزع، قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] ، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] ، {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:186] . إذاً: هذه المصائب هي بسبب الناس، سيئات اقترفوها، أو أعمال قصروا فيها، أو نحو ذلك، فالسبب منهم، والله تعالى قد يبتليهم بهذه الأشياء حتى يختبر قوة إيمانهم وصبرهم، وحتى يرفع درجات الصابرين، وحتى يكفر عنهم بعض سيئاتهم، أو يكون هذا الابتلاء اختباراً ليظهر من يشكر ممن يجزع. فهذا ما ورد في معنى قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] . الجزء: 51 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الطحاوية [52] تنقسم الذنوب إلى كبائر وصغائر، وقد بين العلماء ضابط الكبيرة، والفرق بينهما وبين الصغائر، وحذروا من التهاون بالصغائر، وبين أحكامها وما يترتب عليها. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 1 الموحدون لا يخلدون في النار وإن دخلوها من عقيدة أهل السنة: أنهم لا يخلدون العصاة في النار، وإن دخلوها فإنهم يخرجون منهم، والمراد الذين ماتوا وهم مصرون على بعض الذنوب الكبيرة التي ورد فيها وعيد، وأما الخوارج فتمسكوا بأحاديث وبنصوص فيها وعيد شديد لمن عمل ذنباً أو كبيرة، فأخرجوهم من دائرة الإسلام وأدخلوهم في الكفر، واستحلوا دماءهم وأموالهم بمجرد ارتكاب الذنب. أما المعتزلة فأخرجوهم من الإسلام ولم يدخلوهم في الكفر، وجعلوهم في منزلة بين الكفر والإيمان، وحكموا بخلودهم في النار بموجب النصوص التي فيها وعيد. وأهل السنة قالوا: إنهم تحت مشيئة الله إن شاء غفر لهم ذنوبهم وأدخلهم الجنة من أول وهلة، وإن شاء أدخلهم النار تطهيراً لهم لما اقترفوه من الذنوب، ما يمحصون ويهذبون وينقون يخرجون من النار ويدخلون الجنة، فمنهم من يكون بقاؤه في النار ألوفاً من السنين، ومنهم من لا يبقى فيها إلا قليلاً، على قدر ذنوبهم أو بدعهم، ومآلهم إلى الجنة، ولو بعد مدة؛ وذلك لأنهم من أهل الإيمان، ومن أهل التوحيد، ومن أهل التصديق، وإن كان معهم شيء من الذنوب التي اقترفوها. فكيف نحمل النصوص التي فيها الوعيد بعدم دخول الجنة لبعض العصاة؟ وردت أحاديث كثيرة وآيات ظاهرة الدلالة في أن العصاة في النار، سواء يخلدون فيها أو يدخلونها، أو يحرمون الجنة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام) ، ومثل قوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) ، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) ، ومثل قوله: (إن من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً بريء منه) ، ومثل الآيات قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] ، وكقوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16] ، ومثل قوله في آكل الربا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275] يعني: من عاد إلى التعامل بالربا، فتوعدهم بأنهم من أصحاب النار بمجرد أكلهم الربا، والربا إنما هو من الكبائر لا من الكفر والشرك، وكذلك الوعيد في قتل النفس، قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء:93] . تمسك بهذه النصوص الوعيدية من القدرية والخوارج، وجعلوها نصاً في أن العاصي المصر على المعصية لا يخرج من النار، بل يدخل فيها ويخلد، وتمسكوا بالآيات التي فيها عدم الخروج من النار كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37] ، وكقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] ، وكقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:167] هذا ما تمسك به الوعيدية. وأهل السنة يقولون: هذه النصوص فيها وعيد شديد، فنجريها على ظاهرها ليكون أبلغ في الزجر، لتكون زاجرة عن المعاصي، وذلك لأن التهاون بالمعاصي يعتبر ذنباً أكبر من فعلها، فلأجل ذلك لا نتأولها حتى تكون زاجرة، بل نؤيدها ونؤكدها ونستدل بالأخبار الأخرى، وبالأحاديث الكثيرة التي فيها الوعيد الشديد على الذنوب، والتي فيها إهلاك الله تعالى لمن أذنب أي ذنب، أو لمن ارتكب أي منكر، ولو تتبعنا ذلك لوجدنا فيه أحاديث كثيرة تدل عليه، ومن أراد أن يتوسع فيها فليقرأ الأحاديث التي ذكرها ابن القيم في كتابه الذي سماه: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، حيث أورد في أوله أحاديث كثيرة وأدلة كثيرة تدل على أن الله تعالى يعاقب على الذنوب، ولو لم تصل إلى الكفر، وأنه بسبب الذنوب أهلك أقواماً. فاستدل مثلاً بما روي في بعض الآثار: أن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: (أني مهلك من قومك ستين ألفاً من شرارهم وأربعين ألفاً من خيارهم، قال: يا رب! هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يجالسوهم ويؤانسوهم) ، فعاقب الأخيار في الدنيا بالهلاك، ولم يكن لهم ذنب إلا مجالسة الأشرار ومؤاكلتهم، ولم يذكر ذنب الأشرار هل وصل إلى الكفر أو أنه من المعاصي، وإذا كان من المعاصي فهو دليل واضح على أن العصاة متوعدون بالهلاك في الدنيا، وبالعذاب أو الوعيد في الآخرة. وروي أن ربنا سبحانه أمر جبريل أن يخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب! فيهم عبدك فلان، لم يعصك طرفة عين، فقال: به فابدأ وأسمعني صوته، فإنه لم يتمعر وجهه فيَّ قط، فأمر بإهلاكه، مع أنه لم يذكر له ذنباً إلا أنه لا يغار لله، ولا يتمعر وجهه في ذات الله، وذلك دليل على أن هذا ذنب. فإقرار العصاة، وعدم الغضب لذات الله، ذنب، ولو لم يعمل الذنب، ولكنه لما لم يغضب لغضب الله استحق أن ينزل عليه من الوعيد والعذاب ما نزل على المعذبين، وهذا يدل على أن أهل المعاصي على خطر في الدنيا وعلى خطر في الآخرة. ولو لم يكن إلا أثر ذلك الغضب عليهم في الآخرة، لو لم يكن للعصاة عقوبة إلا أنهم إذا غضب الله عليهم انتقم منهم في الدنيا بأي انتقام، ولو لم يصل ذنبهم إلى الكفر؛ فحري بهم أن يتوبوا. وكذلك من آثار غضب الرب عليهم أن يدخلهم دار العذاب، وهي النار، ولو لم يدخلوها إلا ساعة لاحترقوا، فكيف بما روي أنهم يمكثون فيها عشرات السنين وربما مئات السنين أو ألوف السنين وهم يعذبون فيها، على قدر ذنوبهم كباراً وصغاراً، ولا شك أن هذا عذاب شديد لو اقتصر على عذابهم ساعة لكان أولى بهم ألا يقترفوا ذنباً، وألا يصروا على معصية أياً كانت تلك المعصية. ولما جاءت هذه الأحاديث وهذه الآثار في وعيدهم كان من عقيدة أهل السنة: أنا نخاف على العصاة، فنقول للعصاة: إنا نخاف عليكم، لا نأمن عليك أيها العاصي نقمة الله، لا نأمن عليك عذابه، لا تأمن أيها العاصي أن يأخذك الله على غرة وغفلة، لا تأمن أن يعذبك أي عذاب، حتى ولو كان عذاباً تظنه هيناً، روي عن بعض السلف أنه قال: (لو توعدني الله إذا عصيته أن يحبسني في الحمام لكان ذلك وعيداً شديداً) أي: يستحق أن أهرب من المعصية حتى لا أحبس في الحمام، فكيف بالحبس في النار التي تلتهب وتشتد على أهلها، {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:12-14] ، {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] فإذا كان هذا وعيد بهذا العذاب الذي هو عذاب النار؛ فلا شك أنه يحمل المؤمن المصدق على الهرب من أسباب العذاب، حتى ولو كان يرجو في النهاية أن يخرج من النار وأن يدخل الجنة. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 2 مآل أهل التوحيد إلى الجنة لا يعني الأمن وعدم الخوف من عقيدة أهل السنة أن كل من كان من أهل التوحيد ومن أهل الإيمان فإن مآله إلى دخول الجنة ولو عذب في النار ما عذب، ولكن نخاف عليه ونحوفه، فقد وردت الأدلة الكثيرة في نجاة أهل التوحيد، فآمن أهل السنة بذلك، وصدقوا بأحاديث الشفاعة، والتي منها قوله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي لأمتي شفاعة يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئاً) ، وقال في حديث عتبان: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) ، وأشباه ذلك من الأحاديث، وكذلك أحاديث الإخراج من النار، وفيها أن الله يقول للشافعين وللملائكة: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه أدنى أدنى حبة خردل من إيمان، ثم يقول الله تعالى: لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله) . فيخرج من النار أهل لا إله إلا الله؛ وذلك لأنهم كانوا موحدين لم يشركوا بالله لا في الاعتقاد ولا في الأعمال، وكانوا ممن قال: لا إله إلا الله مخلصين من قلوبهم، وكانوا على إيمان راسخ في قلوبهم، ولكن لضعف ذلك الدافع نزعتهم النفس إلى فعل شيء من الذنوب، فأصروا ولم يستغفروا حتى أتتهم آجالهم، وهم مؤمنون مصدقون، ولكن قد يدخلون النار بسبب ما اقترفوه من الذنوب، ثم بعد ذلك يخرجهم الله إذا شاء بفضله ورحمته. إذاً: نحن نخاف على العصاة، ولا نأمن عليهم، نقول للعاصي: إنك على خطر، إذا رأيت العاصي المصر على المعصية المتمادي في معصيته فعليك أن تحذره، وتقول: إنك على خطرين: خطر عقوبة في الدنيا بأن يعاجلك الله وينتقم منك، وخطر عقوبة في الآخرة بأن يدخلك في النار وهي دار عذابه، ولو كان مآلك ونهايتك بتوحيدك واعتقادك أن تخرج منها، ولكن لا تأمن العذاب، ولا تستطيع أن تصبر عليه، فالنار التي توعد الله بها شديدة الوقود والالتهاب، وحرها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم، وشراب أهلها المهل والصديد، ولباسهم القطران والحديد، وعذابهم أبداً في مزيد، فكيف تصبر عليها؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله! إن كانت لكافية، فقال: فضلت عليها نار جهنم بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها) ، إذا كانت النار تضاعف سبعين ضعفاً فمن يطيق الصبر عليها؟! الله تعالى قد ذكر أنواع العذاب فيها حتى ذكر الحميم، وذكر الزقوم، وذكر المهل والصديد الذي هو شرابهم، وقال: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97] ، وقال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء:56] ، وقال في شرابهم: {يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] ، وقال أيضاً: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] ، فهذا يحصل لكل من دخل النار، ولا شك أنه يخيف المؤمن، فالمؤمن المصدق يخاف أن يدخل في هذا العذاب ولو وقتاً يسيراً. إذاً: نحن نخاف على العصاة، ولا نأمن عليهم عقاب الله، ونقول لهم: لا تأمنوا مكر الله {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] ، ولو تعلقتم وتشبثتم بالأدلة التي فيها الوعد، والتي فيها إخراج العصاة من النار، والتي فيها تحريم أهل التوحيد على النار، لكن لا تأمنوا من النار ولو وقتاً يسيراً، فتوبوا إلى ربكم وأصلحوا أعمالكم، فهذا هو الجمع بين هذه الأحاديث. أهل السنة تمسكوا بأحاديث الشفاعة التي فيها إخراج أهل التوحيد من النار، وقالوا: ربما يمكثون فيها عشرات السنين أو مئاتها أو ألوفها، وأهل الوعيد تمسكوا بالأدلة التي فيها دخول النار والوعيد بالنار على بعض المعاصي، والجمع بينهما أنه لا مانع من أن يدخلوا النار، ثم بعد ذلك يخرجون منها برحمة أرحم الراحمين، وبشفاعة الشافعين، ولا مانع أن يطلق الخلود على الدوام الطويل، أو على المكث الطويل، ولا مانع أن يطلق حرمان الجنة، أو حرمان دخولها على حرمان الدخول لأول مرة أو نحو ذلك، والله هو الحكيم في أمره، وكلام الله وكلام رسوله لا يمكن أن ينقض بعضه بعضاً، بل كله حق، فمتى أمكن الجمع قلنا به واعتقدنا صحته، وإذا لم يمكن وكلنا أمره إلى الله. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 3 الكبائر والصغائر قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما ذكر عز وجل في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء:48] وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته، اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به) . فقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون) رد لقول الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار، لكن الخوارج تقول بتكفيرهم والمعتزلة بخروجهم عن الإيمان لا بدخولهم في الكفر بل لهم منزلة بين منزلتين كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) . وقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) تخصيصه أمة محمد يفهم منه أن أهل الكبائر من أمة غير محمد صلى الله عليه وسلم قبل نسخ تلك الشرائع به حكمهم مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد وفي ذلك نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) ولم يخص أمته بذلك بل ذكر الإيمان مطلقاً، فتأمله وليس في بعض النسخ ذكر الأمة] . وقوله: (في النار) معمول لقوله: (لا يخلدون) ، وإنما قدمه لأجل السجعة، لا أن يكون (في النار) خبر لقوله: (وأهل الكبائر) كما ظنه بعض الشارحين. واختلف العلماء في الكبائر على أقوال: فقيل: سبعة، وقيل: سبعة عشر، وقيل: ما اتفقت الشرائع على تحريمه، وقيل: ما يسد باب المعرفة بالله، وقيل: ذهاب الأموال والأبدان، وقيل: سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها، وقيل: لا تعلم أصلاً أو أنها أخفيت كليلة القدر، وقيل: إنها إلى السبعين أقرب، وقيل: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، وقيل: إنها ما يترتب عليه حد، أو توعد عليها بالنار، أو اللعنة أو الغضب، وهذا أمثل الأقوال. واختلفت عبارات السلف في تعريف الصغائر، فمنهم من قال: الصغيرة ما دون الحدين: حد الدنيا وحد الآخرة، ومنهم من قال: كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار، ومنهم من قال: الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا، ولا وعيد في الآخرة، والمراد بالوعيد: الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب، فإن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا، أعني: المقدرة، فالتعزير في الدنيا نظير الوعيد بغير النار أو اللعنة أو الغضب. وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره، فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة كالشرك والقتل والزنا والسحر وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ونحو ذلك كالفرار من الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا، وعقوق الوالدين واليمين الغموس، وشهادة الزور وأمثال ذلك. وترجيح هذا القول من وجوه: أحدها: أنه هو المأثور عن السلف كـ ابن عباس وابن عيينة وابن حنبل وغيرهم. الثاني: أن الله تعالى قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] ، فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أُوعد بغضب الله ولعنته وناره، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر. الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب، فهو حد متلقى من خطاب الشارع. الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، بخلاف تلك الأقوال، فإن من قال: سبعة، أو سبعة عشر، أو إلى السبعين أقرب، مجرد دعوى، ومن قال: ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه، يقتضي أن شرب الخمر، والفرار من الزحف، والتزوج ببعض المحارم، والمحرم بالرضاعة والصهرية ونحو ذلك ليس من الكبائر! وأن الحبة من مال اليتيم، والسرقة لها، والكذبة الواحدة الخفيفة ونحو ذلك من الكبائر، وهذا فاسد. ومن قال: ما سد باب المعرفة بالله، أو ذهاب الأموال والأبدان، يقتضي أن شرب الخمر، وأكل الخنزير، والميتة، والدم، وقذف المحصنات، ليس من الكبائر! وهذا فاسد. ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر، وهذا فاسد؛ لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر. ومن قال: إنها لا تعلم أصلاً، أو إنها مبهمة، فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها، فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره، والله أعلم] . الجزء: 52 ¦ الصفحة: 4 انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هذا الكلام يتعلق بالكبائر؛ لأن الكلام حولها في قول صاحب المتن: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون) ، يعني: ونعتقد أن أهل الكبائر إذا دخلوا النار فإنهم لا يخلدون، بل يمكثون فيها بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون، ولما ذكر أن هذا قولنا في أهل الكبائر، احتيج إلى معرفة الكبيرة ما هي؛ وذلك لأن الله تعالى قسم الذنوب إلى قسمين: كبائر وسيئات، فقال تعالى في سورة النساء: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] فجعل هناك كبائر وهناك سيئات، ولا شك أن الكبائر سيئات ولكنها كبيرة، والسيئات التي دونها تسمى صغائر، وقال تعالى في سورة النجم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} [النجم:32] فقسمها إلى كبائر وإلى لمم، واللمم هو مقدمات الذنوب، وقد ثبت عن ابن عباس قال: ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما اللمس، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واللسان يزني وزناه النطق، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ، فجعل التصديق أو التكذيب بالفعل الذي هو الزنا بالفرج، وجعل هذه مقدمات، وهي اللمم؛ وذلك لأن تحريمها من باب سد الذرائع، لأنها من باب الوسائل، فالأصل هو الزنا الذي حرمت هذه الأشياء لأجله. ولاشك أن الزنا من الكبائر فقد توعد الله عليه بقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] ، وقرنه بالشرك والقتل فقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68] فجعل هذه الأشياء مما يتوعد عليه بالآثام وبالعذاب. وبذلك نعرف أن الذنوب قسمان: كبائر وصغائر، فإذا قلت: ما حد الكبيرة، حتى نتجنبها؛ فتغفر لنا الصغيرة؟ نقول: إن الكبائر هي الذنوب الفاحشة التي سميت فاحشة، والتي توعد عليها، إما بحد في الدنيا، وإما بعذاب في الآخرة، فمثلاً: الشرك والقتل والزنا والربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات؛ هذه قد توعد عليها بعذاب في الآخرة. ومثلاً: السرقة والقذف والسكر، هذه قد جعل فيها حد في الدنيا، وهو الجلد، أو نحو ذلك، فإذا سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب) ، وقوله: (النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب) ، نعد النياحة من الكبائر، وكذلك إذا أطلق على الذنب أنه كفر كقوله: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية) ، أو (اثنتان في الناس هما بهم كفر) ، أو: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) ، وأشباه ذلك، فهذه كلها من الكبائر. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 5 خلاف العلماء في تعيين الكبائر وتعدادها ثبتت بعض الأحاديث التي فيها عد الكبائر كقوله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات) ، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور، وشهادة الزور) ، وهذه جعلها من أكبر الكبائر، وسميت اليمين الغموس بهذا لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، فاليمين الكاذبة ورد فيها وعيد شديد. ولعلكم قد قرأتم الكتب التي ألفت في ذلك، فقد ألف فيها الإمام الذهبي كتابه المشهور: كتاب الكبائر، وأوصلها إلى سبعين كبيرة، جمع فيها ما وقف عليه، وإن كان قد أدخل بعضها في بعض، وجاء بعده ابن حجر الهيتمي وألف كتاباً كبيراً سماه: الزواجر عن اقتراف الكبائر، وأوصلها إلى أربعمائة، بتفصيل في بعضها، وهذا دليل على أنهما كثيرة، ويمكن أن توجد في هذه الأزمنة ذنوب لم تكن مشهورة من قبل، فتضاف إلى هذا العدد، وبذلك يعرف أن الكبائر كثيرة، وأنها لا تحصر في سبع ولا في سبعين، كما روي عن ابن عباس أنه قال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع، وفي رواية: إلى السبعمائة، أي: أنها قد تصل إلى سبعمائة. وقد يقال أيضاً: ضابط الكبيرة أنها ما أصر صاحبه على الذنب، ولو كان ذنباً صغيراً، ولذلك قالوا: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار. ولعل ذلك تفسير لما ورد في قصة الرجل الذي كلما أذنب ذنباً تاب إلى الله، واعترف به، وطلب من ربه أن يغفره، فغفره الله له وقال: (علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي) ، فجعل الاستغفار بعدها سبباً لمحو الذنب، فنقول: إن الإصرار على الذنب ولو كان صغيراً يصيره كبيراً؛ وذلك لأنه يدل على التهاون بذلك الذنب، وبما ورد فيه من الوعيد، وتهاون بنظر الله إليه، وتهاون بما جاء في تحريمه، فأصر عليه واستمر عليه، فإذا أصر على شيء يسير ولو كان -مثلاً- أكلاً يسيراً من الحرام، ولكنه استمر عليه فإنه يصبح كبيراً، وإذا أصر على كذب ولو يسيراً، كل يوم أو كل أسبوع يكذب كذبة أو كذبتين اعتبر هذا ذنباً كبيراً، وإذا أصر على النظر إلى النساء المتبرجات، واستمر على ذلك اعتبر استمراره كبيرة من الكبائر، وإذا أصر على السباب والشتم واللعن، أو أصر على سماع المحرم من الغناء ونحوه، أو أصر على النظر في الصور الفاتنة، واستمر على ذلك؛ اعتبر هذا الإصرار ذنباً يضاف إلى ما ورد فيه من الوعيد، واعتبر كبيرة من الكبائر. وأما التعريفات التي تقدمت فكلها تقريبية، فكل يعرف الكبيرة بما يظهر له، ولا شك أن الذنوب تسد باب المعرفة، كما تقدم في بعض التعاريف، وإن كان هذا التعريف ليس بواضح، وكذلك التعريفات الأخر، التي فيها: أن الكبائر: ما توعد عليه بوعيد أو بعذاب أو بنفي إيمان، أو ما فيه حد في الدنيا أو عقوبة في الآخرة، والذين قالوا: إن الكبائر لا تعلم ولا يعرفون معناها، وأنها قد أخفيت كما أخفيت ليلة القدر في ليالي رمضان ونحو ذلك، نقول: لا شك أن الله ما أمر باجتنابها إلا وهي معروفة، ولا شك أنه ورد في بعض الذنوب ما يعين أنها من الكبائر، كما ذكرنا في السبع الموبقات وفي أكبر الكبائر التي في حديث أبي بكرة، وفي غير ذلك. وإذا عرف العبد أن هذه من الكبائر، وأن الإصرار عليها سبب للوعيد الذي رتب عليها، فإنه يجتنبها حتى يسلم له دينه، وحتى يستحق الوعد من الله تعالى بتطهير الخطايا؛ وذلك أن اجتناب الكبائر سبب لمحو الصغائر. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 6 إياكم ومحقرات الذنوب الصغائر قد تكثر على الإنسان، فإن كان مصراً عليها، ومكثرا ًمنها، لم يأمن أن تهلكه، تجتمع عليه من كل جهة فتهلكه، وإن كانت متفرقة ويسيرة من غير إصرار فإن الله تعالى يغفرها بالأعمال الصالحة، والحديث الذي ورد في التحذير من الكبائر يفهم منه أنه في المصر عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه) ، ثم ضرب لها مثلاً بقوم نزلوا في فلاة، فحضر جميع القوم، فجعل هذا يأتي بعود، وهذا يأتي بعود حتى جمعوا حطباً كثيراً، فأوقدوا فيه ناراً، فأنضجوا خبزتهم، يعني: أن الذنوب الصغيرة: كلمة، ونظرة، وسمعة، وبطشة، وأكلة، ونحو ذلك، فإذا كانت كثيرة اجتمعت على الإنسان وأحدقت به وأهلكته، كما أن القوم إذا اجتمعوا وهم كثير وجاء هذا بعود وهذا بعرق مع أن الأرض صحراء ليس فيها حطب، فلكثرتهم يجمعون ما يوقدون به حتى ينضجوا طعامهم، فهذا يبين أن الإنسان لا يأمن من الإصرار على الذنوب الصغيرة حتى لا تهلكه وتوقعه في العذاب، أو تؤهله بأن يكون من أهل الوعيد، ومن أهل العذاب الشديد والعياذ بالله. وبلا شك فإن التهاون بها والإكثار منها يدل على عدم الاهتمام بتحريم الله وبنهيه، أما الذي يحذرها ويتركها خوفاً من الله؛ لأن الله نهى عنها وحرمها، فهو الذي يستحضر عظمة الله، ونهيه وتحذيره. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 7 فضل التوبة وشروطها قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (وإن لم يكونوا تائبين) ؛ لأن التوبة لا خلاف أنها تمحو الذنوب، وإنما الخلاف في غير التائب، وقوله: (بعد أن لقوا الله تعالى عارفين) ، لو قال: (مؤمنين) بدل قوله: (عارفين) كان أولى؛ لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر، وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم، وقوله مردود باطل كما تقدم، فإن إبليس عارف بربه {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36] {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82-83] ، وكذلك فرعون وأكثر الكافرين قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] ، {قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:84-85] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى، وكأن الشيخ رحمه الله أراد المعرفة الكاملة المستلزمة للاهتداء التي يشير إليها أهل الطريقة، وحاشا أولئك أن يكونوا من أهل الكبائر، بل هم سادة الناس وخاصتهم] لا خلاف أن التوبة تمحو الذنب ولو كان من الكبائر، ولو كان من الشرك، فالكلام ليس في التائب، أما أهل التوبة فلا وعيد عليهم، بل الله تعالى يقبل توبتهم، ويغفر ذنوبهم، ويدخلهم دار كرامته، ويكفر عنهم بسبب توبتهم ما وقعوا فيه من كفر ومن كبائر ومن صغائر ومن ترك أوامر، يمحو ذلك كله بسبب التوبة، وهذه التوبة لابد أن تكون نصوحاً، وهي التي أمر الله بها، {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] ؛ وذلك لأن هناك من يتوب توبة لا تزجره عن المعاصي، وتسمى توبة الكاذبين، فلا تكون مفيدة له، ولا ماحية لما وقع منه، ولا لما فعله من الخطايا، ولا لما تركه من الطاعات، فلابد أن تكون التوبة نصوحاً. وتعرفون أن للتوبة شروطاً لابد منها، وذكر العلماء منها ثلاثة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى، والعزم على ألا يعود إلى الذنب. أما الذي يتوب بلسانه ويقول: أنا تائب، أو تبت إلى الله، ومع ذلك هو مصر على الذنب، حتى ولو كان صغيراً، ومتهاوناً به، فهذا لا توبة له؛ لأنه يتوب بلسانه، ويعمل الذنب بلسانه أيضاً، يقول بلسانه: تبت إلى الله، ثم يستعمل لسانه في الشتم أو في اللعن أو في القذف، أو نحو ذلك، أو يستعمل بصره في المحرم، بأن ينظر إلى الحرام، أو يقول بلسانه ويأكل الحرام، وهو مستمر على ذلك، فلا توبة له، وكذلك الذي يتمدح بمعاصيه، مع أنه قد تركها، فيتمدح بأنه قد زنى بكذا وكذا، ويتمدح بأنه قد قتل فلاناً وفلاناً، ويرى ذلك منحة، ويتمدح بأنه قد خدع فلاناً، وأخذ ماله، أو سرق كذا وكذا، ويتمدح بأنه قد شرب كذا وكذا خمراً وما أشبه ذلك، فكل ذلك لا تقبل معه التوبة. وهكذا الذي يتوب توبة مؤقتة! بأن يعزم على أنه بعد حين سيعاود الذنب إذا قدر عليه، ومن أمثال هؤلاء: الذين يسافرون لأجل الزنا إلى كثير من البلاد الإباحية، فإذا جاءوا قالوا: تبنا، ولكنهم عازمون على أن يرجعوا إلى تلك البلاد مرة أخرى؛ ليعودوا إلى ما فعلوه. وهكذا من ترك الذنب في وقت من الأوقات، كالذين يتركون الخمر في رمضان أو الدخان أو نحو ذلك، ثم يعزمون على العودة إليه بعد إفطارهم، لا شك أن هؤلاء لا تقبل توبتهم. والحاصل أن التوبة النصوح تمحو السيئات وتمحو الكبائر، وتمحو الشرك، وأكبر الشرك التثليث الذي ذكره الله عن النصارى، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:73-74] ، فدعاهم إلى التوبة مع كونهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة. وكذلك دعا الذين يشركون في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ} [الفرقان:68-70] فاستثنى من هؤلاء التائب فإنه تقبل توبته، وقد ذكر الله أنه يبدل سيئاته حسنات. والمراد أن التوبة الصادقة تكون سبباً لمحو الذنوب كلها كبائرها وصغائرها، أما ما يتعلق بأهل الكبائر الذين لم يتوبوا، فقد عرفنا أنهم تحت مشيئة الله، إذا شاء الله عاقبهم وعذبهم بقدر ذنوبهم، وإذا شاء غفر لهم ومحا عنهم ما وقعوا فيه من السيئات، ومعلوم أنا لا نأمن أن ينتقم الله منهم في الدنيا، وأن يغضب عليهم في الآخرة، فيعذبهم على هذه الذنوب التي اقترفوها، ومعلوم أيضاً أن عذاب الله شديد، وأن العذاب في النار لا يقدر عليه أحد، قال الله في عذاب النار: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:16] ومن يطيق الصبر على ذلك العذاب الشديد؟! فإذا عرف المؤمن أنه باقتراف هذه السيئات متوعد بهذا الوعيد الشديد؛ زجره ذلك وحمله على أن يتوب إلى الله تعالى، ويقلع عن السيئات. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 8 شرح العقيدة الطحاوية [53] من عقيدة أهل السنة الصلاة خلف كل بر وفاجر، وللصلاة خلف المبتدع أحكام بين أهل العلم رحمهم الله اختلافها باختلاف البدعة والمبتدع، كما تدل على ذلك النصوص الشرعية. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 1 مجمل اعتقاد أهل السنة في مسألة التكفير عقيدة أهل السنة والجماعة تخالف عقائد المبتدعة، ومبنى هذه العقيدة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى الجماعة التي هي اجتماع كلمتهم على الحق، واجتماعهم على إمامهم، وعلى متبوعهم، وبذلك سموا أهل السنة، وسموا أهل الجماعة، فالجماعة في الأصل هم: الذين كانوا مجتمعين على الحق في الزمن الماضي، ويراد بهم السلف الصالح، ولا شك أنهم كانوا مجتمعين، وغيرهم كانوا متفرقين، ولأجل ذلك فسرت الآية التي في سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] بأنه تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف، فدل على أن أهل السنة مجتمعون ومتآلفون، وأن أهل البدع مفترقون ومتخالفون، ومخالفون للحق وللصواب. ومن عقيدة أهل السنة أنهم لا يكفرون بالذنوب، ولا يخرجون المذنب من الإسلام، وخالفهم في ذلك كثير من المبتدعة، فكفروا بمجرد اقتراف الذنوب، وأخرجوا أهل الكبائر من الإسلام، ولا شك أن ذلك فيه اعتداء على حرمات المسلمين، بحيث إنهم كفروا المسلمين واستحلوا دماءهم وأموالهم، والمراد بالذنوب هنا: الذنوب التي دون الكفر، وتسمى كبائر الذنوب، فإنها لا يبلغ أصحابها أن يحكم بكفرهم، فلا نكفر من قاتل المسلمين إذا كان متأولاً، ولا نكفر البغاة الذين يثورون على الأئمة، ولا نكفر قطاع الطريق، ولا نكفر من فعل جريمة الزنا أو جريمة السرقة أو القذف أو شرب الخمر أو شرب الدخان أو ما أشبه ذلك، لا نكفر هؤلاء، وكذلك من ارتكب بقية المحرمات. ولكن الذي يكفر هو الذي يستحل الحرام، ويرد النصوص الصريحة، ويعتمد على هواه، فمثل هذا -ولو لم يفعلها- يعتبر كافراً؛ لأن من استحل الحرام الصريح الذي دليله كالشمس يعتبر قد رد على الله تعالى شريعته، ورد على الرسول صلى الله عليه وسلم سنته. وهناك ذنوب يوجد خلاف في التكفير بها، مثل ترك الصلاة والإصرار على تركها، والتهاون بها؛ وذلك لورود الأدلة التي تنص على كفر من ترك الصلاة، ولا شك أن الكفر الذي ورد فيمن ترك الصلاة من الكفر الذي سمي به الكفار، وإن كان بعضهم قد تأول ذلك، وبكل حال فهذه طريقة أهل السنة والجماعة. كذلك أيضاً من طريقتهم أنه إذا مات أحد العصاة ونحوهم لا يتركون الصلاة عليه، وقد تترك الصلاة على بعضهم للزجر، يتركها الإمام ونحوه، كمن قتل نفسه فلا يصلي عليه الإمام، وكذلك من غل لا يصلي عليه الإمام، ويصلي عليه بقية الجماعة، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على المرأة التي رجمت بعد أن اعترفت بالزنا، وأخبر بأن اعترافها يعتبر توبة. وأباح الصلاة على العصاة، وقال: (صلوا على من قال: لا إله إلا الله، وصلوا خلف من قال: لا إله إلا الله) ، فهذه طريقة أهل السنة في عدم التكفير. وأما المعتزلة فإنهم يكفرون بمثل هذه الذنوب، ويخرجون المسلم بها من الإسلام، وإن لم يدخلوه في الكفر، بل يجعلوه بين الإسلام والكفر، وطريقة الخوارج: أنهم يخرجونه من الإسلام ويدخلونه في الكفر، والفرق بينهما أن الخوارج يستحلون دمه، ويسبون امرأته وابنته، ويستحلون ماله، ويستحلون قتله. أما أهل السنة فإنهم يقولون: إن المؤمنين من هذه الأمة لا يخلدون في النار، وإن دخلوها، فإنهم بعدما تكفر عنهم سيئاتهم يخرجون منها، هذه عقيدة أهل السنة، وإن خالفهم في ذلك من خالفهم فلا عبرة بمخالفتهم. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 2 الحق يعرف بدليله لا بقائله أهل السنة هم المتمسكون بكتاب الله تعالى وبأحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنهم الأئمة الأربعة، ومنهم الهداة الذين هدى الله تعالى بهم خلقاً كثيراً في صدر هذا الإسلام، وإن كانوا يقلون في بعض الأزمنة، ويكثر المبتدعة، ففي زماننا قد يكون المتمسكون بالسنة حقاً قلة في البلاد، ويصدق على هذا الزمان أنه زمان الغربة، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس) ، وفي رواية: (الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي) ، وفي بعض الروايات: (الذين يفرون بدينهم من الفتن) ، فإذا وقعت الفتن والاختلافات والبدع في بلاد هربوا ونجوا بدينهم، وفي رواية: (النزاع من القبائل) ، يكون من الأسرة واحد أو اثنان، من القبيلة عشرة أو خمسة، من البلدة عشرة أو عشرون، والبقية مخالفون لهم، أو ينتقدونهم، فهؤلاء هم الغرباء، فطوبى للغرباء. ولكن لا يضر الحق قلة أهله، فالعبرة بالمتمسكين بالحق، والعبرة بالأدلة، وليس العبرة بكثرة الهالكين، وذلك لكثرة الأسباب التي تحرف الناس وتصرفهم عن الحق؛ لكثرة الفتن، ولكثرة المغريات، ولكثرة الدعايات المضللة. إذاً: لا عجب -مع كثرة هذه المغريات- من كثرة الهالكين، كما قال بعض السلف: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا! يعني: مع كثرة الفتن، ومع كثرة الدعايات والمضللات يستغرب أن هذا الإنسان يمن الله عليه بالهداية، ويوفقه للتمسك بالشريعة، ويعض عليها بالنواجذ، مع كثرة من يخذله ويؤنبه ويوبخه ويرميه بالرجعية، ويرميه بالتقهقر والتأخر، ويرميه بالتزمت والتشدد والغلو، وما أشبه ذلك، ولكن إذا رزقه الله إخلاصاً، وتمسك بالحق، وصمد عليه؛ فلا يضره ذلك، وسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً. أهل السنة في كل زمان يرميهم أهل البدع بالشذوذ، ويرمونهم بالتغفيل، ويرمونهم بالأسماء التي ينكرون بها، فيقولون لهم: مشبهة، ومجسمة، وحشوية، ونوابت، وغثاء، وغُثُر، ونحو ذلك من الأسماء التي ابتدعوها وما أنزل الله بها من سلطان، ولا تنطبق عليهم، وإنما تنطبق على أعدائهم، فلا تضرهم هذه الألقاب. إذاً: لا عبرة بمن خالفهم، إنما العبرة بمن وافق الحق وتمسك به، فالحق حق ولو قل المتمسكون به، والباطل باطل ولو كثر المعتنقون له، إنما العبرة بالدليل، ولا شك أن حجة الله تعالى قوية، وأن من احتج بالدليل الواضح فإنه غالب ولو صمد أمامه الناس، وقد مضت لنا أدلة عقلية وأدلة نقلية تبين صحة ما عليه أهل الحق. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 3 حكم الصلاة خلف المبتدع والفاسق قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم) . قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا خلف كل بر وفاجر) رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الدارقطني قال: مكحول لم يلق أبا هريرة، وفي إسناده معاوية بن صالح متكلم فيه، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وخرج له الدارقطني أيضاً وأبو داود عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم بر وفاجر، وإن عمل بالكبائر، والجهاد واجب عليكم مع كل أمير بر وفاجر، وإن عمل الكبائر) وفي صحيح البخاري: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي وكذا أنس بن مالك وكان الحجاج فاسقاً ظالماً، وفي صحيحه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يصلون لكم؛ فإن أصابوا فلكم ولهم وأن أخطأوا فلكم وعليهم، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا خلف من قال لا إله إلا الله، وصلوا على من مات من أهل لا إله إلا الله) أخرجه الدارقطني من طرق وضعفها. اعلم رحمك الله وإيانا: أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقا باتفاق الأئمة وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ولا أن يمتحنه فيقول: ماذا تعتقد؟! بل يصلي خلف المستور الحال. ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته أو فاسق ظاهر الفسق، وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه، كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحج بعرفة، ونحو ذلك، فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند أكثر العلماء، والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون، كما كان عبد الله بن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف، وكذلك أنس رضي الله عنه كما تقدم، وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان يشرب الخمر، حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعاً، ثم قال: أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة. وفي الصحيح أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما حصر صلى بالناس شخص، فسأل سائل عثمان: إنك إمام عامة، وهذا الذي صلى بالناس إمام فتنة؟ فقال: يا ابن أخي! إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم. والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب. ومن ذلك: أن من أظهر بدعة وفجوراً لا يرتب إماماً للمسلمين، فإنه يستحق التعزيز حتى يتوب، فإن أمكن هجره حتى يتوب كان حسناً، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثَّر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل، أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه، فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية ولم تفت المأموم جمعة ولا جماعة، وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة، فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم. وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاةُ الأمور، ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، فهنا لا يترك الصلاة خلفه، بل الصلاة خلفه أفضل، فإذا أمكن الإنسان ألا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب عليه ذلك، لكن إذا ولاه غيره، ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشر أعظم ضرراً من ضرر ما أظهر من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما، فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، فتفويت الجمع والجماعات أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجوراً، فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة. وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر، فهذا أولى من فعلها خلف الفاجر، وحينئذ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر، فهو موضع اجتهاد العلماء: منهم من قال: يعيد، ومنهم من قال: لا يعيد، وموضع بسط ذلك في كتب الفروع. وأما الإمام إذا نسي أو أخطأ، ولم يعلم المأموم بحاله فلا إعادة على المأموم، للحديث المتقدم، وقد صلى عمر رضي الله عنه وغيره وهو جنب ناسياً للجنابة، فأعاد الصلاة ولم يأمر المأمومين بالإعادة. ولو علم أن إمامه بعد فراغه كان على غير طهارة أعاد عند أبي حنيفة، خلافاً لـ مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه، وكذلك لو فعل الإمام ما لا يسوغ عند المأموم، وفيه تفاصيل موضعها كتب الفروع. ولو علم أن إمامه يصلي على غير وضوء فليس له أن يصلي خلفه؛ لأنه لاعب وليس بمصل] . الجزء: 53 ¦ الصفحة: 4 الأولوية في الإمامة تكون للأقرأ هذا الكلام يتعلق بالصلاة خلف الولاة وخلف الأئمة، وبلا شك أن إمام المسلمين الذي يصلي بهم، والذي يؤمهم في الصلوات الجامعة، كالجماعة والأعياد ونحوها، يجب أن يكون أهلاً، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة) ، وفي رواية: (فأكبرهم سناً) ، وقد جعل العلماء ترتيب الأئمة على هذا الحديث، وذكروا أن الأقرأ إذا كان عالماً بفقه الصلاة فإنه يقدم على غيره، بشرط معرفته بأحكام الصلاة، ثم بعده إذا استوى اثنان أو أكثر في العلم والفقه قدم من هو أوسع علماً بالسنة، يعني: بالأحاديث النبوية، وصحيحها وما يتصل بها، ثم إذا استووا في ذلك مع غيرهم قدم من هو أقدم علماً وأقدم هجرة، ثم بعد ذلك يقدم أكبرهم سناً، ثم بعد ذلك يقدم أتقاهم وأخشاهم لله سبحانه وتعالى وأورعهم. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 5 وجوب الصلاة خلف الولاة وإن كانوا فساقا ً معلوم أن ولاة الأمور سابقاً كانوا هم الذين يخطبون بالناس، وكانوا هم الذين يصلون بهم الجمع والأعياد، فكان الخليفة أو أمير البلاد هو الذي يتولى الإمامة، وقد يكون فيه بعض من النقص، وبعض من الخلل، ولكنهم لما تولوا بالقوة، ولما كانت لهم سيطرة وسلطة وولاية؛ كانت طاعتهم واجبة؛ لما في مخالفهم ومعصيتهم من المفاسد الكثيرة، فإن معصية ولاة الأمور، ومخالفتهم، وترك الصلاة خلفهم، وتضليلهم، وترك طاعتهم؛ يسبب الشقاق، ويسبب الفتن، ويسبب الظلم والحبس والضرب والقتل، وتفريق الكلمة، وإساءة الظن، وما أشبه ذلك، فجاءت الشريعة بالسمع والطاعة لولاة الأمور، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم وغيره: (اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) ، وما ذاك إلا لأن في الطواعية وفي الانقياد لهم جمعاً لكلمة المسلمين، وعدم تفريق لهم. فإذا كان الوالي هو الذي يتولى الإمامة، ويتولى الخطبة، ويتولى الصلاة، ويتولى قيادة الجهاد، ويتولى إمامة الحجاج في عرفة وفي غيرها من المواقف، فإنهم يصلون خلفه، ولا يتركون الصلاة خلفه، وهذا فيما فإذا لم يوجد غيره، إذا كان المسلمون لا يصلون إلا في مسجد واحد، وإمام هذا المسجد هو هذا الأمير، وكان فيه شيء من النقص أو الخلل في دينه، من ارتكاب ذنب، أو إصرار على معصية، أو ترك لشيء من الطاعات أو نحو ذلك، فالصلاة خلفه أفضل من أن تصلي وحدك أو تترك الجمعة أو تترك الجماعة أو تترك العيد أو ما أشبه ذلك، هذا هو الواجب على المسلم. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 6 صلاة الصحابة خلف الولاة والظلمة والفسقة الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون خلف الولاة الظلمة: كـ الحجاج، فقد كان ابن عمر وأنس وغيرهما يصلون خلفه، وهو مشهور بإراقة الدماء، ولم يشتهر عنه إلا أن في سيفه رهقاً، فكان كثير القتل في المسلمين، بمجرد التهمة وبمجرد الظن، ولذلك اعتبروه فاسقاً، وإن لم يكن فاسقاً في الاعتقاد، وإن لم يكن مخلاً بالعبادات، ولم يذكر عنه شيء من اقتراف المحرمات، بل كان شديداً على العصاة، فكان يقيم الحدود، ويجلد الزاني وشارب الخمر، وينهى عن سماع الغناء وما أشبه ذلك، وما نقم عنه إلا أن في سيفه رهقاً، فقد قتل عدداً كثيراً من المسلمين، وإن كان قتلهم متأولاً، وبكل حال فقد جعلوه من العصاة، وحكموا عليه بأنه عاص، ومع ذلك كان يؤم الناس في عرفة، ويصلي خلفه بعض الصحابة كـ عبد الله بن عمر بن الخطاب، ويصلي بالناس بالكوفة في العراق، ويصلي خلفه أنس بن مالك. وكذلك في عهد عبد الله بن مسعود كان الوالي على الكوفة من قبل عثمان الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان متهاوناً بشيء من المحرمات، ومن ذلك أنه كان يشرب الخمر، فصلى بهم مرة وهو سكران، حتى صلى بهم الصبح أربعاً، والتفت إليهم وقال: أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة، ومع ذلك ما تركوا الصلاة خلفهم؛ لأنهم إذا تركوها صلوا فرادى، ولا شك أن هذا من ترك السنة، ومن ترك الجماعة، فالصلاة مع الجماعة خير ولو كان ذلك الإمام الذي فرض نفسه فيه شيء من الخلل والنقص. ولا ينقص ذلك صلاة المصلي. وكما تقدم أن الصلاة من أحسن أعمالهم، فإذا صلوا وأحسنوا فصلاتهم صحيحة، إذا أقاموا ركوعها وسجودها وخشوعها وقراءتها، وجميع ما يشترط فيها، فهي عمل صالح مبرور، فليس لنا أن نترك الصلاة لأجل فسقهم، ما دام أنهم يقيمون الصلاة كما ينبغي، وبإظهارهم للصلاة يحكم بأنهم مسلمون، فإن من صلى حكم بأنه مسلم، وعومل معاملة المسلمين، ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض الولاة وبعض الأمراء يستحلون الدماء، ويفعلون ويفعلون، قيل: (يا رسول الله! أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا، أو ما أقاموا فيكم الصلاة) أي: ما داموا يصلون، ويقيمون الصلاة، فالصلاة من أحسن الأعمال، فلا تخرجوا عليهم، ولا تقاتلوهم ولا تقتلوهم. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 7 الصلاة خلف المبتدع وتفاصيلها إذا لم يكن هناك ولاة يصلون بالناس كما في هذه الأزمنة، فإنه يختار للإمامة الأكفأ والأورع، ويعزل عنها المبتدع والعاصي المتظاهر بمعصية، فإذا عرف بأن هذا الشخص يتظاهر بمعصية، أو يفعل ذنباً من الذنوب، فلا يجوز أن يعين إماماً راتباً، بل إذا علم الناس منه هذا الذنب فإن عليهم أن يؤخروه، ويسعوا في خلعه وإبعاده. أما لو لم يقدروا فالصلاة خلفه صحيحة إذا أتمها، ولكن إذا وجد من هو أحسن منه فليصلى خلف الحسن، فإذا رأيت أن إمام ذلك المسجد يستحل سماع الغناء، أو يحلق لحيته، أو يسكر، أو يدخن، أو يسبل ثوبه، يصلي مسبلاً، أو يؤوي بعض الفسقة والأشرار، ويستضيفهم ويؤيدهم، أو يتأخر عن بعض الصلوات، أو يتركها تركاً، أو ما أشبه ذلك، وتعلم ذلك منه، وتجد إماماً في مسجد آخر -ولو بعيداً- تقياً ورعاً، محافظاً على العبادة، متنزهاً عن الآثام، فلا شك أن الصلاة خلف ذلك التقي، وذلك الورع، أولى من صلاتك خلف هذا العاصي. أما لو كان ترك الصلاة خلف ذلك الإمام يسبب ارتداعه فإن ذلك يلزم. فلو أن الإمام شيعي، أو قبوري، أو عاصٍ مظهر للمعصية، أو معتزلي مخالف للعقيدة، أو يعتقد مذهب المتصوفة، أو ما أشبه ذلك، ومع ذلك دعوناه وبينا له، فأصر على معتقده، وصار إماماً يصلي في هذا المسجد، فكوننا نصلي خلفه فيه إقرار لهذه البدعة أو تقوية لها، ولكن علينا أن نسعى في إزالته، ونسعى في إبعاده وفصله، وإن لم نقدر، وكان في ترك الصلاة خلفه تنفير للناس منه؛ تركنا الصلاة خلفه، وذهبنا إلى المساجد الأخرى، سيما إذا ترك الصلاة خلفه الذين لهم كلمة مسموعة، فهذا يسبب ارتداعه، ويسبب توبته، ورجوعه عما يعتقده، فيقول: قد ترك هؤلاء الصلاة خلفي، ولا شك أنهم عرفوا أن ما أفعله خطأ، فيرجع إلى نفسه ويتوب، سواء كان الذنب الذي فيه بدعة أو معصية، فيرجع عن بدعته التي هي -مثلاً- تعظيم القبور، أو سب الصحابة كما يفعله الرافضة، أو اعتقاد تفضيل بعض الصحابة على الخلفاء، أو ما أشبه ذلك، أو كان على مذهب المتصوفة الذين يدعون أن الولي أفضل من الأنبياء، أو أن أولياءهم يستطيعون أن يأخذوا من الملأ الأعلى، أو ما أشبه ذلك من عقائد الصوفية الباطلة، أو كان عاصياً معصية ظاهرة: يحلق لحيته، أو يشرب الدخان، فإذا ترك الناس الصلاة خلفه ارتدع وفكر، وعلم أنه مخطئ، وأنهم ما تركوا الصلاة خلفه إلا وقد أنكروه، وأن الصواب معهم، وأنهم مجموعة كبيرة، ولا يمكن أن يكون هو المصيب وهم المخطئون مع كثرتهم، ففي ذلك فائدة، فنقول: تترك الصلاة خلفه، هذا إذا وجد غيره، فأما إذا لم يوجد إلا هو فإن الصلاة خلفه مجزئة، وهي أفضل من الصلاة على الانفراد كما ذكرنا. وبكل حال فالصلاة خلف الولاة إذا لم يوجد غيرهم لازمة، ولا يجوز الانفراد عنهم، والصلاة خلف العصاة كذلك، إذا لم يوجد غيرهم. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 8 الإمامة العارضة يتسامح فيها ما لا يتسامح مع الإمامة الراتبة قد تدخل بعض المساجد وتجد الصلاة الأولى قد صليت، وتجد جماعة أخرى قد قدموا واحداً أنت تعرف أنه يدخن، أو تراه مسبلاً، أو تراه حليقاً، وتعرف منه مالا يعرف هؤلاء الذين يصلون خلفه، فماذا تفعل؟ نقول: صل خلفه ولا تصل وحدك؛ وذلك لأنه في هذه الحال صلاته عارضة، وليست مستمرة، وإنما إمامته إمامة عارضة، بخلاف ما إذا كان راتباً، أما إذا رتب في مسجد من عرف بالفسق وبالفجور، وبسماع الأغاني، وبالنظر إلى الصور، وبمغازلة النساء، وبالتساهل مع نسائه بإباحة السفور لهن أو نحو ذلك، فإذا عرف منه ذلك فلا يجوز إقراره في إمامة المسلمين؛ لأن في ذلك إظهاراً لمنكره، وتمكيناً له، فإن كونه يتولى الإمامة فيه شيء من تشجيعه وتقديمه ورفع معنويته، ورفع مستواه، وفي ذلك رفع للباطل على الحق، فعلى جماعة المسجد أن يسعوا جميعاً في عزلة عن الإمامة وعن الخطابة، ويسعوا في تولية من هو أهل، وعلى المسئولين بعد أن يتأكدوا من صحة ما رمي به وما وصف به، أن لا يقروه على هذه الإمامة، فإقراره فيه تقوية للمنكر، وإظهار لأهل المنكر، وعزله فيه إذلال وإهانة للعصاة، ودفع لهم عن التظاهر بالمعاصي. وبكل حال معلوم أن صلاة الجماعة من واجبات الإسلام، وأن المسلمين مأمورون بأن يجتمعوا في مساجدهم، ويقدموا واحدا ًمنهم، ويصلوا خلفه، يركعوا بركوعه، ويتبعوه في السجود، وفي الرفع، وفي الخفض، وفي الحركات كما هو معلوم في كتب الفروع، ولكن لابد أن يكون الإمام قدوة حسنة؛ وذلك لأنه سمي إماماً، والإمام هو القدوة الذي يؤتم به، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، حتى من جهة ترك المعاصي، ومن جهة صحة العقائد. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 9 حكم الصلاة وراء الإمام المحدث أشار الشارح إلى مسائل فروعية، وذكر أن الكلام عليها واسع، ومحله في كتب الفروع، وهو صحيح، فمثلاً: من صلى بالناس محدثاً -حدثاً أكبر أو أصغر-، وصلى الناس خلفه وهم لا يعرفون حدثه، فما الحكم؟ هذه مسألة فروعية، ففرقوا بين ما إذا كان علم بالحدث وهو في نفس الصلاة فاستمر فيها، فإنهم يعيدون، وما إذا لم يتذكر إلا بعد ما انصرف فإنهم لا يعيدون، واستدل بقصة عمر، فإنه صلى مرة الصبح بالجماعة، ثم رأى على ثوبه أثر احتلام، فاغتسل وأعاد الصلاة، ولم يأمرهم بالإعادة، هذا هو القول المشهور. وقد روي عن علي أنه أمرهم بالإعادة، فإنه مرة صلى بالجماعة محدثاً في الكوفة، ولما كان بعد ثلاثة أيام تذكر أنه صلى بهم ذلك الوقت وهو محدث، فأمر منادياً ينادي في الأسواق: من صلى مع أمير المؤمنين في اليوم الفلاني الصلاة الفلانية فليعد تلك الصلاة، ولعل ذلك من باب الاجتهاد من علي رضي الله عنه، وهذه مسألة فروعية. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 10 إذا ترك الإمام بعض واجبات الصلاة اجتهادا ً من المسائل الفروعية التي ذكرها الشارح: إذا ترك الإمام شيئاً يعتقد المأموم أنه واجب، والإمام يعتقد أنه ليس بواجب، ففي هذه الحال الصلاة صحيحة، صلاة الإمام صحيحة، وصلاة المأموم صحيحة أيضاً. وقد كان هناك اختلاف بين الشافعي ومالك، فـ الشافعي رضي الله عنه يرى الجهر بالبسملة، بل يراها واجبة، ومالك لا يرى البسملة من الفاتحة، فقيل للشافعي: هل نصلي خلف من يتبع الإمام مالك؟ فقال: ألست أصلي خلف مالك؟ مالك هو شيخه، ومع ذلك كان يصلي خلفه، وهو لا يقرأ البسملة، والشافعي يرى وجوب الجهر بالبسملة. وكذلك رفع اليدين عند الركوع، وعند الرفع من الركوع لا يراه الحنفية، والشافعية ونحوهم يرونه من السنن المؤكدة، فإذا تركه الإمام الحنفي، وصلى خلفه شافعي أو حنبلي فصلاته صحيحة، ولا خلاف في ذلك؛ لأنه صلى خلف إمام مجتهد، رأى أن ذلك من جملة صلاته. وهكذا التأمين في الصلاة، بعض الأئمة يرونه بدعة كالحنفية، حتى إنهم يبطلون الصلاة خلفه، وإذا صلى حنفي خلف شافعي وأمَّن في الصلاة لم تبطل صلاته؛ لأنه مجتهد، ولكل مجتهد نصيب، وهذه المسائل تفريعها والخلاف فيها مذكور في كتب الأحكام. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 11 المطاعون في مواضع الاجتهاد قال الشارح رحمه الله: [وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر وإمام الصلاة والحاكم وأمير الحرب وعامل الصدقة يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف، ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية، ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض، والصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض. يروى عن أبي يوسف أنه لما حج مع هارون الرشيد فاحتجم الخليفة وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ، وصلى بالناس، فقيل لـ أبي يوسف: أصليت خلفه؟ قال: سبحان الله! أمير المؤمنين، يريد بذلك أن ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل أهل البدع. وحديث أبي هريرة الذي رواه البخاري أن رسول الله قال: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) ، نص صحيح صريح في أن الإمام إذا أخطأ فخطؤه عليه لا على المأموم، والمجتهد غايته أنه أخطأ بترك واجب اعتقد أنه ليس واجباً، أو فعل محظور اعتقد أنه ليس محظوراً، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالف هذا الحديث الصريح الصحيح بعد أن يبلغه، وهو حجة على من يطلق من الحنفية والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأموم وجوبه لم يصح اقتداؤه به، فإن الاجتماع والائتلاف مما يجب رعايته وترك الخلاف المفضي إلى الفساد] . قد وردت أدلة في طاعة ولاة الأمور مذكورة في كتب العقائد وكتب الأحكام، وكل يطاع حسب ولايته، وكل له ولاية تخصه، فهناك الخليفة الذي تحت ولايته جميع المسلمين، في شرق الأرض وغربها، كما كان الخلفاء الراشدون، وكذلك خلفاء بني أمية وبني عباس كانت خلافتهم عامة لجميع البلاد الإسلامية، فطاعتهم فيما أمروا به إذا لم يكن معصية تعتبر من طاعة الله، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) ، فهذه ولاية عامة. وهناك ولاية أخص منها، مثل: ولاية أمير الحجاج، وولاية أمير المجاهدين، فإنهم مأمورون بأن يؤمروا عليهم أحدهم، بل كل من سافر سفراً ولو قصيراً وكانوا جماعة، عليهم أن يؤمروا، كما في بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لثلاثة يسافرون إلا أمروا واحدا ًمنهم) ، أو كما ورد في الأحاديث، فهذا الأمير الذي يؤمرونه عليهم أن يطيعوه ما لم يأمر بمعصية، أما إذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة، وقد اشتهر حديث عبد الله بن حذافة لما أمره صلى الله عليه وسلم على سرية، وأمر الصحابة الذين معه أن يطيعوه، فسار بهم أياماً، ولما كانوا مرة في مكان نازلين، كأنه غضب على بعضهم، فأمرهم أن يوقدوا ناراً، وقال لهم: ادخلوها، أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني، فهم بعضهم أن يدخلها! ثم قالوا: ما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خوفاً من النار، فما زالوا يتحاججون حتى طفئت النار وسكن غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف) ، فأمرهم بطاعته، ولكن بين في هذا الحديث أن الطاعة إنما تكون فيما كان معروفاً، فأما مثل هذا فلا طاعة. وثبت أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ، فإذا أمر الوالي بمعصية فلا سمع ولا طاعة، أما إذا أمر بطاعة أو أمر بما فيه مصلحة، أو أمر بما هو اجتهاد فإن أتباعه والذين تحته يطيعونه ولا يخرجون عن طاعته، هذه هي وظيفة أتباعه، وسواء كانت إمارة في بلد، أو على جيش، أو سرية، أو على غزو، أو على حجاج، أو عامل زكاة يذهب لجمع الزكاة ونحوها، كل هؤلاء لهم ولاية بحسبهم. وكذلك من جعل رئيساً أو مديراً لمؤسسة من المؤسسات، أو دائرة من الدوائر الحكومية أو نحو ذلك، وجعل تحته من يخدمه أو من يعمل، وكانوا تحت ولايته، فإن عليهم أن يقدروا ما يأمرهم به، بشرط ألا يأمرهم بمعصية تخالف نصاً صريحاً، فهذه وظيفة هؤلاء أنهم ينفذون، ولكن بكل حال طاعتهم تكون بقدر المصلحة التي يؤمرون بها، ومعلوم أن ولايتهم إنما هي خاصة في محيطهم، وأما إذا كان الإنسان خارجاً عن ولايتهم، كما إذا انتهى من شغله معهم، أو كان في بيته أو في سوقه فليس لهم ولاية عليه. ومعلوم أن أمير الجيش أو أمير البلد أو أمير الدائرة ونحوها بشر، وليس بمعصوم، وليست أقواله كلها صريحة في أنها واقعية، بل كثيراً ما يفعل الشيء ويكون عن اجتهاد، فعلى أتباعه ووزرائه وزملائه أن يشيروا عليه بما يرون فيه المصلحة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه، ويقبل إشاراتهم ويقبل اقتراحاتهم، ولذلك أمثلة: لما غزا غزوة بدر ونزل منزلاً قرب بدر، قال له بعض أصحابة: هذا المنزل يا رسول الله أنزلك الله إياه أم هو الرأي والمكيدة؟ قال: (بل هو الرأي والمكيدة، فقال: إن هذا غير مناسب، وإن المناسب أن ننزل في المكان الفلاني، فنكون قد حلنا فيه بين القوم وبين المياه، فقبل رأيه) . وهذا دليل على أنه إذا أشار عليه بعض أبتاعه برأي أو بنظر فعليه قبول ذلك إذا كانت فيه مصلحة. وكذلك لما جاء الأحزاب وأحدقوا بالمدينة، وكانوا من قريش وغطفان، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصالح غطفان بثلث الثمار، فاستشار أهل المدينة، فقالوا: إن كان هذا وحياً من الله فسمعاً وطاعة، وإن كان باجتهاد فلا نعطيهم إلا حد السيف، فقبل إشارتهم وقبل رأيهم، وهذا دليل على أن أتباع الوالي قد يشيرون عليه وينظرون له نظرة مناسبة. فعلى كل حال نقول: لا شك أن الولاة ليسوا بمعصومين، وأن أتباعهم مأمورون بأن يرشدوهم ويدلوهم على المصالح، وعلى ما فيه الخير لهم، وللمجتمع، ولكن إذا اختير للإدارة أو للولاية المتأهل والفاضل الذي تجتمع فيه الصفات التي تؤهله لهذا المنصب فليس لأحد الاعتراض عليه، إلا على وجه النظر، أو على وجه الإشارة. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 12 شرح العقيدة الطحاوية [54] تجب طاعة ولاة الأمر بالمعروف، وتجب مناصحتهم، ولا يجوز تكفيرهم إلا أن نرى كفراً بواحاً، والحكم على الناس إنما يكون بالظاهر. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 1 وجوب طاعة الله ورسوله مبنى عقيدة الإسلام على كتاب الله وسنة نبيه، وعلى طاعة الله وطاعة رسوله، وقد وردت الأدلة في تأكيد الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية في آيات كثيرة، مثل قول الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [النساء:13] إلى قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [النساء:14] ، ومثل قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} [المائدة:92] ، {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] ، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1] في عدة آيات. وأخبر تعالى بأن طاعة الرسول طاعة لله، قال تعالى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن طاعة الله تعالى سبب لدخول الجنة، وكذلك معصيته سبب لدخول النار، وأن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام تعتبر العلامة لطاعة الرب تعالى، قال عليه الصلاة السلام: (كل الناس يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) . الجزء: 54 ¦ الصفحة: 2 طاعة ولاة الأمر بالمعروف من طاعة الله ورسوله من طاعة الله تعالى وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام: طاعة أولي الأمر، الذين ذكرهم الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني) ، وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بطاعة ولاة الأمر، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، يقودكم بكتاب الله) ، وفي حديث أبي ذر: (اسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك) . وقد ذكر العلماء أن من عقيدة أهل السنة والجماعة: طاعة ولاة الأمور، الذين لهم الولاية والسيطرة على البلاد والعباد، وطاعتهم تعتبر جمعاً لكلمة المسلمين، وتعتبر قمعاً للمفسدين، ودفعاً للظالمين؛ لأن بولايتهم يثبت الحق ويظهر، وإذا لم يكن هناك ولاة صار الضعيف نهباً للقوي، ولم تثبت الكلمة، ولم يثبت الأمن، وحصلت الزعازع والفتن، وحصلت المخاوف، وحصل القتال وكثرت الفوضى، فلأجل ذلك شرعت طاعة ولاة الأمور. ويشترط في طاعتهم: ألا تكون في معصية الله، ولا تخالف شيئاً من شرع الله، فلذلك ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ، وقال: (إنما الطاعة في المعروف) ، وإذا كان اجتماع المسلمين على أميرهم أو على واليهم فيه مصلحة فإن من تمام مصلحتهم، ومن تمام طمأنينتهم وحياتهم وسعادتهم ألا ينزعوا يداً من طاعة، وألا يفارقوا جماعة المسلمين، وألا ينبذوا إليهم أمرهم، وألا ينقضوا بيعتهم؛ فبذلك تثبت البلاد وتطمئن، ويأمن العباد على أنفسهم وعلى أموالهم، وبذلك يؤخذ الحق للمظلوم من الظالم، ويؤخذ على يد الظالم، ويُقهر على الحق، ويقصر عليه، ويضرب على يد الظالم بيد من حديد؛ فتأمن البلاد كلها، ويذهب عنها الخوف والفتن والزعازع، هذا هو السبب الذي لأجله أمرنا بطاعة ولاة أمورنا. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 3 وجوب مناصحة ولاة الأمر يجب علينا جميعاً أن نناصح من ولاه الله أمرنا، فإن هذا من تمام العقيدة، كان النبي صلى الله عليه وسلم من جملة ما يأخذه على أصحابه في البيعة قوله: (وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم) ، وهذه المناصحة تتمثل في أن نكون ناصحين لهم. والناصح هو الخالص، والنصح مشتق من قولهم: نصح العسل، إذا خلصه وصفاه، والمعنى: ألا يكون في قلبه غل ولا حقد على مسلم، وأن يبدي لكل مسلم كبير أو صغير النصيحة، ويدله على الخير الذي يحبه لنفسه، وبالأخص ولاة الأمور، فينصح لهم، وليست النصيحة مقتصرة على أن تحبهم وأن تخلص لهم المودة، وأن تصفي لهم قلبك، بحيث لا يكون في قلبك حقد ولا غل، بل إن النصيحة تتمثل أيضاً بالتحذير من الشرور، والدلالة على الخيرات، والإرشاد عند الهفوات، والتحذير من الزلات ونحوها. ولا شك أن ولاة الأمور ومن دونهم ممن لهم ولاية بشر، والبشر عرضة للخطأ، وإذا كانوا عرضة للخطأ، والإنسان ليس بمعصوم، وإذا أخطأ ينتظر من إخوته، وممن تحته وممن فوقه وممن هو أكبر منه وأصغر؛ أن يرشدوه وأن يدلوه ويهدوه إلى الحق، فإذا اجتمعوا عليه وبينوا له، وقالوا له: إن الصواب كذا وكذا؛ رجع إليه، وفرح بأن يكون من رعيته، وممن تحت يده من يدله ومن يعينه، ويكون ذلك رداً له إلى الحق، وخيراً للأمة وللولاة. أما إذا ترك الولاة وما هم عليه من الخطأ، حتى ظنوا أن ما هم فيه هو الصواب، ولم يرشدهم من حولهم من وزير أو أمير أو أخ أو صديق أو عالم أو جاهل؛ ولم يبينوا لهم ما يعلمونه من حق، فإنها تعظم بذلك المصيبة. ولا شك أن كل عاقل من ولاة الأمور، وكل ناصح وكل محب تقي مؤمن يفرح ويسر إذا أبديت له النصيحة، وإذا أظهرت له الزلة التي زل فيها، والكلمة التي أخطأ فيها؛ فيرجع إلى الصواب، ويعود إلى طلب الحق، وهذه هي السمة والصفة التي يجب أن يكون عليها كل أحد من صغير أو كبير من مأمور أو أمير، فإذا كانت الأمة كذلك، يحبون لولاتهم ما يحبون لأنفسهم، وينصحون لهم، ويطيعونهم، ويرشدونهم، ويهدونهم إلى الصواب، وينبهونهم على الأخطاء، فعند ذلك تجتمع كلمة الأمة، وعند ذلك يظهر الحق ويقوى أهله، هذا هو الواجب في حق ولاة الأمور: السمع والطاعة ممن تحت أيديهم. أما عامة الأمة فواجب علينا أيضاً أن ننصح لهم، وذلك لأنهم من جملة إخواننا، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم النصيحة لهم بعد النصيحة للولاة في قوله: (ولأئمة المسلمين وعامتهم) ، فأمر بأن ننصح للعامة، والنصيحة للعامة تتمثل في إرشادهم إلى الخير، وتحذيرهم من الشر، ودلالتهم عليه، وتعليم جاهلهم، وإرشاد ضالهم، وتنبيه غافلهم، وأمرهم بالخير، وحثهم عليه، ونهيهم عن الشر، وتحذيرهم منه، وما أشبه ذلك. ولا شك أنهم إذا كانوا عقلاء، وإذا كانوا أتقياء: فرحوا بهذه النصيحة وقبلوها، وسروا بمن نصحهم، وشجعوه، والتزموا بأن يؤدوا هذه النصيحة إلى أبنائهم، وإلى إخوانهم، وإلى أحفادهم، فعند ذلك تنتشر الشريعة والعمل بها، وتظهر كلمة الله التي وعد بإظهارها، ويظهر دين الله على الدين كله. وقد مر بنا أن من عقيدة المسلمين: أنهم يدينون بالطاعة لولاة أمورهم، وأنهم يصلون على أهل التوحيد الذين يقولون: لا إله إلا الله، وأنهم لا ينزعون يداً من طاعة، فإذا اتصفوا بذلك كله سكنت أمورهم، واطمأنوا في حياتهم، وعملوا بشريعتهم، وإذا عرفوا ذلك عرفوا أن عقيدة الإسلام جاءت بكل ما فيه الخير، وبما فيه الأمن والاستقرار. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 4 الصلاة على من مات من المسلمين براً أو فاجراً قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (والصلاة على من مات منهم) أي: ونرى الصلاة على من مات من الأبرار والفجار، وإن كان يستثنى من هذا العموم البغاة وقطاع الطريق، وكذا قاتل نفسه خلافاً لـ أبي يوسف، لا الشهيد خلافاً لـ مالك والشافعي رحمهما الله على ما عرف في موضعه، لكن الشيخ إنما ساق هذا؛ لبيان أنا لا نترك الصلاة على من مات من أهل البدع والفجور لا للعموم الكلي، ولكن المظهرون للإسلام قسمان: إما مؤمن وإما منافق، فمن علم نفاقه لم تجز الصلاة عليه والاستغفار له، ومن لم يعلم ذلك منه صلي عليه، فإذا علم شخص نفاق شخص لم يصل هو عليه، وصلى عليه من لم يعلم نفاقه، وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة؛ لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين، وقد نهى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين، وأخبر أنه لا يغفر لهم باستغفاره، وعلل ذلك بكفرهم بالله ورسوله، فمن كان مؤمناً بالله ورسوله لم ينه عن الصلاة عليه، ولو كان له من الذنوب الاعتقادية البدعية أو العملية الفجورية ما له، بل قد أمره الله تعالى بالاستغفار للمؤمنين فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] فأمره سبحانه بالتوحيد والاستغفار لنفسه، وللمؤمنين والمؤمنات، فالتوحيد أصل الدين، والاستغفار له وللمؤمنين كماله، فالدعاء لهم بالمغفرة والرحمة وسائر الخيرات، إما واجب وإما مستحب. وهو على نوعين: عام وخاص، أما العام فظاهر كما في هذه الآية، وأما الدعاء الخاص فالصلاة على الميت، فما من مؤمن يموت إلا وقد أمر المؤمنون أن يصلوا عليه صلاة الجنازة، وهم مأمورون في صلاتهم عليه أن يدعوا له، كما روى أبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) ] . يقول: إننا مأمورون بأن نحسن الظن بالمسلمين، ولا نحكم على مسلم يتظاهر بالإسلام أنه مرتد وكافر، إذا كان ظاهره أنه من أهل الإسلام، ولو كان باطنه خفياً، فنصلي عليه بعد موته، وهذا معنى الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (صلوا على من قال: لا إله إلا الله) ، فإن المراد على أهل لا إله إلا الله، ولا شك أن أهل لا إله إلا الله هم أهل التوحيد، وهم أهل الإسلام، وهم أهل العلم وأهل العمل، وهم الذين يعملون بلا إله إلا الله، فيفعلون ما توجبه لا إله إلا الله، ويتركون ما تحرمه هذه الكلمة من المحرمات، فإذا كانوا متمسكين بذلك في الظاهر فإننا لا نكفرهم، ونصلي عليهم، ولو وقعت منهم هفوات، ولو صدرت منهم زلات، ولو كان مذنبين، ولو رأينا منهم بعض الذنوب الظاهرة لم نحكم بكفرهم ولم نحكم بخروجهم من الإسلام؛ لأن من عقيدة أهل السنة -كما تقدم مراراً- أنهم لا يكفرون بالذنوب، ولو كانت ما كانت، ما لم تصل إلى الشرك، إلا ما ورد التكفير به كترك الصلاة يعني: الاستمرار على تركها، فقد ورد أنه كفر. وأما بقية الأعمال فإذا أطلق على بعضها لفظ الكفر فإنه يراد به الكفر العملي، كقوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة) ، فالطعن في النسب: كون الإنسان يعير نسبك ويقدح فيه، أو يقول: لست من قبيلة فلان، ولست ابن فلان، ونحو ذلك، هذا أطلق عليه أنه كفر، ولكنه عملي. والنياحة: هي الصياح على الميت، أطلق عليه أنه كفر، ولكنه يراد به الكفر العملي، وكذلك قتال المسلمين أطلق عليه أنه كفر، وهو كفر عملي، وكل هذه لا توجب أن نتبرأ من هذا الإنسان، ولا أن نترك الصلاة عليه، بل هو أولى أن يصلى عليه. فالمذنب الذي وقعت منه ذنوب وارتكب بعض السيئات يصلى عليه، ولا تترك الصلاة عليه، ولو كان قد زنى، ولو سرق، ولو أكل الربا أو أكل مال اليتيم، أو تولى عن الزحف، أو ما أشبه ذلك، ما عدا الذنوب التي توقعه في الكفر، وهي المكفرات المشهورة، التي إذا فعلها حكم بردته، كمسبة الله، فالذي يسب الله أو يسب الرسول عليه الصلاة والسلام أو ينتقص دين الإسلام أو نحو ذلك، فإن هذا يعتبر ردة وخروجاً من الإسلام. وبكل حال فالمعاصي التي دون الشرك ودون الكفر يصلى على أهلها. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 5 من علم نفاقه لا يصلى عليه المنافقون الذين يضمرون الكفر ويظهرون للناس أنهم مؤمنون، لا ندري ما في بواطنهم، فنصلي عليهم عملاً بالظاهر، فهم يصلون معنا، ويجاهدون معنا، ويصومون ويفطرون مع المسلمين، فإذا كانوا يضمرون الكفر في نفس الأمر فأمرهم بينهم وبين الله. لكن إن اطلع على نفاق حقيقي بأن نجم النفاق من هذا الإنسان وظهر منه ما يدل على نفاقه وإضماره الكفر، وأنه ما أسلم ولا عمل هذه الأعمال إلا تستراً؛ فإنه والحال هذه يحكم بكفره، ولا يصلى عليه، قال الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] نهاه الله أن يصلي على المنافقين الذين يعلم نفاقهم، والذين أطلعه الله عليهم؛ لأنه قد أطلعه على بعضهم، وبعضهم لم يعلمهم كما قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم أعيانهم، وإنما الله تعالى هو الذي يعلم أعيانهم فأطلعه على بعضهم، فالذين أطلعه على بعضهم نهاه أن يصلي عليهم، وأطلع عليه الصلاة والسلام حذيفة بن اليمان على بعض المنافقين الذين هموا بما لم ينالوا، فسماهم وأسرهم إلى حذيفة، فكان حذيفة يسمى صاحب السر، وكان إذا قدمت جنازة مشكوك فيها لم يصل عليها عمر حتى يرى حذيفة يصلي عليها، فيعلم أنه ليس من المنافقين. فإذا عرف أن هذا منافق، يؤذي الله ورسوله، ويؤذي المؤمنين، ويسب الإسلام -وإن كان يتظاهر أنه مع المسلمين- فلا يصلى عليه والحال هذه، بل إذا اطلع على حاله وزندقته فإنه يقتل؛ لأن ذلك ردة منه وتبديل للدين، فإنه (من بدل دينه فاقتلوه) . وكذلك أيضاً لا يصلى على أهل البدع الذين يظهرون بدعهم، مثل الرافضة الذين يظهرون للناس أنهم يحبون الإسلام، وأنهم يحبون القرآن وما أشبه ذلك، ولكنهم في الحقيقة يضمرون بغض الله وبغض رسوله، أو يضمرون بغض الصحابة الذين حملوا كتاب الله، ويعتقدون أنهم حرفوا كتاب الله وكذبوا على رسوله، ويبغضون أهل السنة، فمثل هؤلاء أعداء لله، ويعتبرون منافقين؛ لأنهم في الحقيقة يضمرون الكفر أو يضمرون البغض، ويعملون بما يسمونه التقية التي هي نوع من النفاق، وأشباههم من الملاحدة الذين يشك في عقيدتهم، فتترك الصلاة عليهم زجراً عن أفعالهم وعن معتقداتهم. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 6 ترك الصلاة على بعض المسلمين من بعض الأعيان لبعض الأسباب بعض الأشخاص تترك الصلاة عليهم لبعض الأسباب، فمثلاً: من قتل نفسه لا يصلي عليه الإمام الكبير أو العالم الكبير زجراً عن هذا الفعل، ولا يمنع ذلك أن يصلي عليه عامة الناس. وكذلك تترك الصلاة على الشهداء؛ وذلك لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فلم يصل النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء المعركة، إما لعدم حاجتهم إلى ذلك، وإما لأنهم والحال هذه يعتبرون من الأتقياء، ويعتبرون من أهل الخير، وإما تخفيفاً لكثرتهم؛ لأنهم قد يكونون عدداً كبيراً. وبكل حال فالأصل أننا نصلي على أهل لا إله إلا الله، وأن الصلاة عليهم تنفعهم؛ وذلك لأن الميت قد انقطع عمله، فهو في حاجة إلى أن يدعو له إخوته المسلمون؛ ولهذا يدعون له بالمغفرة وبالرحمة ونحو ذلك. في حديث عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة، يقول عوف: فحفظت من دعائه قوله: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله من الذنوب بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيرا ًمن داره، وأهلاً خيراً من أهله) ، يقول عوف: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت لمكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له. ولعل هذا الدعاء لأجل أن يتم لأمته هذه الأدعية ويعلمهم، ولم يخصص للصحابة دعاء، بل أمرهم بأن يدعو بما تيسر؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) أي: ادعوا له بما تحفظون وبما تيسر من هذا ومن غيره، ادعوا له بخير الدنيا وخير الآخرة، وأقصد بخير الدنيا: نعيم البرزخ ونعيم القبر، وخير الآخرة، يعني: ما بعد الموت، من الجنة وما قبلها، ادعوا له بذلك، وادعوا له بالمغفرة. وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار للمؤمنين في قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] ، وحكى الله تعالى عن بعض أنبيائه هذا الاستغفار، فحكى عن إبراهيم أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:40-41] فلم يقتصر على والديه وعلى ذريته، بل دعا للمؤمنين يوم يقوم الحساب، وحكى عن نوح عليه السلام أنه قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] فدعا للمؤمنين والمؤمنات عموماً فيدخل في ذلك الأولون والآخرون. إذاً: نحن مأمورون بأن ندعو للمؤمنين، والصلاة عليهم تنفعهم، والصلاة عليهم بعد موتهم فيها دعاء لهم، واستغفار لهم، وزيادة في أعمالهم، فيحرص المسلم على أن يصلى على الميت، وينبغي الحرص على كثرة عدد المصلين؛ لأنه ربما يكون فيهم مجاب الدعوة، وربما يكون في الكثير من هو أتقى وأنقى، وأفضل معتقداً، فيجيب الله تعالى دعوته، ومع كثرتهم أيضاً يقبل الله دعوتهم، فقد ورد في الحديث: (ما من مسلم يقوم عليه مائة رجل، لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعوا فيه) ، أو كما قال في الحديث، فهذا حث على أن يصلى على المسلم، حتى ولو لم يصدر منه شيء من الذنوب، ويستغفر له، ويطلب له من الله المغفرة والزلفى. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 7 مسألة الشهادة بالجنة والنار للمعين قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً) . يريد: أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة: إنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، كالعشرة رضي الله عنهم، وإن كنا نقول: إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من يشاء الله إدخاله النار، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين، ولكنا نقف في الشخص المعين، فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم؛ لأن حقيقة باطنه وما مات عليه لا نحيط به، لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيئ. وللسلف في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال: أحدها: ألا يشهد لأحد إلا للأنبياء، وهذا ينقل عن محمد ابن الحنفية والأوزاعي. الثاني: أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص، وهذا قول كثير من العلماء وأهل الحديث. الثالث: أنه يشهد بالجنة لهؤلاء، ولمن شهد له المؤمنون كما في الصحيحين: (أنه مر بجنازة فأثنوا عليها بخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ومر بأخرى فأثني عليها بشر، فقال: وجبت -وفي رواية كرر: (وجبت) ثلاث مرات- فقال عمر: يا رسول الله! ما وجبت؟ فقال رسول الله: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (توشكون أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن، والثناء السيئ) ، فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار] . أول الكلام يتعلق بمن يشهد له بالجنة ومن يشهد له بالنار، وهل يجوز ذلك أم لا؟ نقول: قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم شهد لبعض أصحابه بالجنة كالعشرة، في قوله صلى الله عليه وسلم: (النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة) ، إلى آخر العشرة، فالعشرة مشهود لهم بالجنة، وهم الخلفاء الأربعة، والستة الباقون من العشرة هم الذين جمعهم الناظم بقوله: سعيد وسعد وابن عوف وطلحة وعامر فهر والزبير الممدح هؤلاء شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وختم لهم بأعمال صالحة، ولم ينقل عنهم ما يكون سبباً لمخالفة ما شهد به النبي صلى الله عليه وسلم. وممن شهد لهم بالجنة ثابت بن قيس بن شماس، لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخبره أنه من أهل الجنة) ، يقول الراوي: فكان يمشي بيننا وهو من أهل الجنة. وكذلك بلال: فقد قال له: (إني أسمع دف نعليك في الجنة) ، وغيره من الذين شهد لهم بذلك. وقد ثبت أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأرجو ألا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) ، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وفي هذا شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل أحد منهم النار، كما أنهم من أهل الجنة؛ لأن من لم يدخل النار دخل الجنة ولابد. وكذلك أهل بدر الذين عددهم ثلاثمائة وبضعة عشر، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، فمثل هؤلاء إذا كان الله قد غفر لهم فإن ذلك دليل على أنهم من أهل الجنة. وبقية الصحابة رضي الله عنهم يرجى لهم الخير، ولسبقهم ولأعمالهم الصالحة قد أنزل الله فيهم آيات تدل على سبقهم وعلى فضلهم، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100] هؤلاء المهاجرون الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، والأنصار الذين أسلموا بالمدينة {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] يعني: الذين أسلموا متأخرين من الصحابة، يقول تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [التوبة:100] فهذه تزكية من الله تعالى لهم، وشهادة لهم بأنه أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، فهذا أيضاً دليل على أن المهاجرين والأنصار والذين أسلموا بعدهم ونصروهم يرجى لهم الخير. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 8 تحقيق التوحيد يحرم دخول النار وردت أحاديث في تغليب الرجاء، وأن أهل التوحيد لا يدخلون النار، مثل حديث عتبان بن مالك (أنه صلى الله عليه وسلم ذكر عنده رجل يقال له: مالك بن الدخشم، فقال بعض الحاضرين: ذاك منافق، فقال: وما يدرك أنه منافق؟ أليس قد قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله؟! فقالوا: إنا نرى وده وميله إلى المنافقين، فقال: إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) ، وكذلك من حقق التوحيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) . فهذه تزكية من الله، وهذه شهادة من الرسول عليه الصلاة والسلام، بأن من أتى بهذه الشهادة حقيقة، وشهد بالجنة والنار، وشهد بالبعث بعد الموت، وشهد بما أخبر الله تعالى به، وكان بتلك الشهادة عن يقين وعن عقيدة راسخة صادقة؛ أثمرت تلك الشهادة العمل، وأثمرت شهادة أن لا إله إلا الله طاعة الله وعبادته، وأثمرت شهادة أن محمداً رسول الله اتباعه وتعظيم سنته، والسير على نهجه، وأثمرت شهادة أن الجنة حق: طلبها، والعمل لها، وكذلك أثمرت شهادة أن النار حق: الهرب منها، والبعد عن الأسباب التي توقع فيها. وبلا شك فإن العمل الصالح يسبب لصاحبه دخول الجنة، والأحاديث كثيرة معروفة في أن الأعمال الصالحة قد رتب عليها دخول الجنة. وهناك أحاديث كثيرة بينت أن هناك أعمالاً رتب على بعضها دخول النار، ولكن يظهر أن ذلك الدخول لأجل ذلك الذنب، ثم بعد التمحيص من ذلك الذنب الذي لم يصل بصاحبه إلى الشرك، وإلى الحكم بخلوده في النار، فإنه يعذب بقدر ذنبه، ثم يخرج من النار، وعليه تحمل أحاديث الشفاعة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنه يشفع في أهل لا إله إلا الله، وأنه سوف يخرج من النار أهل الإيمان بالله، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود، وحبسه القرآن، وهم الكفرة والملاحدة والمشركون ونحوهم. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 9 الحكم العام فيمن يستحق الجنة ومن يستحق النار نحن نحكم حكماً عاماً ونقول: أهل التوحيد، وأهل الإسلام، وأهل الإخلاص، وأهل العمل، هؤلاء نرجو لهم الجنة، والله تعالى لا يخيب رجاء المؤمنين؛ وأهل الكفر، وأهل الشرك، وأهل الزندقة والنفاق، هؤلاء نعلم أن الله توعدهم بالنار، أما أهل الكبائر فنخاف عليهم من عذاب الله، وكذلك نرجو لهم رحمة الله، نرجو أن الله تعالى يرحمهم، فهو واسع الرحمة، ولكن نخاف أن يعذبهم، وعذاب الله شديد؛ لأنه سبحانه قد توعد بالعذاب على دون ذلك، ووعد بالثواب على أعمال قليلة. إذاً: نرجو لهؤلاء دون أن نجزم بأنهم من أهل الجنة، وإذا كانت عندهم كبائر فنخاف عليهم دون أن نجزم لهم بالنار، فلا نجزم لهؤلاء بجنة ولا نار، ولكن نخاف على المذنب، ونرجو للمحسن، هذه من عقائد أهل السنة. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 10 الحكم على الناس إنما يكون بالظاهر لا بالظن قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى) . لأنا قد أمرنا بالحكم بالظاهر، ونهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ، وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36]] . وهذا يقتضي أننا لا نتخبط بجهل، ونقول في المسلم بغير يقين؛ وذلك لأن المسلمين لهم ظواهر وبواطن، والحكم للمسلم على الظاهر، والمعاملة له على الظاهر، فمن أظهر لنا خيراً فإننا نحسن الظن به، ومن أظهر شراً فإننا نسيء الظن به. روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أيها الناس! إن أناس كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم بالظاهر، فمن أظهر لنا خيراً أحببناه وقربناه، وإن أضمر لنا سوءاً! ومن أظهر لنا شراً أبغضناه وعاديناه ولو كان قلبه سليماً! أو كما قال رضي الله عنه، فجعل الحكم على مجرد ما يظهره الإنسان. ومما يدل على ذلك أيضاً حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار أن أنصارياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فساره يستأذنه أن يقتل رجلاً من المنافقين، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ فقال الأنصاري: يشهد ولا شهادة له، فقال: أليس يشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: يشهد ولا شهادة له، فقال: أليس يصلي؟ قال: يصلي ولا صلاة له، قال: أولئك الذين نهيت عن قتلهم) ، يعني: أنه أمر بمعاملتهم بالظاهر، ما دام يعلن الشهادة، وما دام يقيم الصلاة إقامة ظاهرة، فليس لنا أن ننقب عن قلبه، لماذا؟ لأنا لا ندري ما يكنه. وفي قصة ذي الخويصرة الذي أنكر على النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأمر، ثم ولى فقال خالد بن الوليد: (ألا أقتله يا رسول الله؟ فقال: لا، لعله يصلي، فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم) ، يعني: إنما نأخذهم بما يظهر لنا، أما ما في قلوبهم فهذا أمره إلى الله عز وجل. ولما قتل أسامة بن زيد رضي الله عنه رجلاً من المشركين بعد ما قال: لا إله إلا الله؛ أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟! فقال: يا رسول الله! إنما قالها خوف السلاح، إنما قالها مستعيذاً من القتل -يعني: أنه ما قالها إلا لما رأى السلاح قد وصله، ولم يكن ذلك عن يقين منه- فقال عليه الصلاة والسلام: فهلا شققت عن بطنه حتى تعلم هل قالها أم لا) يعني: أنك لا تدري ما في قلبه، فخذه بما ظهر لك، ففي هذه الأدلة ونحوها أن المعاملة تكون بالظاهر، سواء كان الظاهر خيراً أو شراً. فالذين نراهم يظهرون الأعمال الخيرية نحبهم ونكل أمرهم إلى الله تعالى، والذين يظهرون الأعمال السيئة نبغضهم ونكل أمر قلوبهم إلى الله تعالى. وكثيراً ما تنكر على بعض الذين يظهرون المعصية: الذي تراه يحلق لحيته، أو تراه يشرب الدخان، أو تراه يسبل ثوبه، أو تراه يتكاسل عن الصلوات ونحوها، أو تسمعه يقذف ويسب، أو نحو ذلك، فتنكر عليه، فيعتذر ويقول: العمل على ما في القلوب، قلبي طاهر، وإذا كان قلبي نقياً فلا عبرة بما أفعله، ولا عبرة بهذه المظاهر، هكذا يعتذر، هل هذا صحيح؟ ليس بصحيح، وكما أن العبرة بالباطن فإن الحكم للظاهر، ونقول: نحن لا ندري ما في باطنك، فباطنك خفي، إنما نعاملك بظاهرك، فهذا الذي أظهرته لنا -وهو عملك بهذه المعاصي وإعلانها- دليل على التهاون بأمر الله، ودليل على تهاونك بعقوبة الله، وتهاونك بنظر الله، ودليل على أن في قلبك محبة لهذه المعاصي، وأما كون قلبك نقياً، وكونك مؤمناً ونحو ذلك، فهذا ليس إلينا، بل إلى الله عز وجل. وأما إذا أظهر لنا الإنسان التقى والورع، ورأيناه يحافظ على العبادات، ولم نسمع منه شيئا ًمن الكلام الذي يقدح بعبادته أو ديانته فإننا نحبه، وليس لنا أن نتتبع أسراره، ولا أن نبحث عن خفاياه، ولا أن نظن به الظنون السيئة التي حذرنا الله منها، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] أي: لا تجسسوا على إخوانكم، لا تقولوا: فلان يمكن أنه منافق، لا ندري ما إيمانه، إذاً: نتجسس عليه ونتحسس، ونستمع إلى كلامه بخفيه وسريه! فليس لنا ذلك، فما دام أنا لم نره أظهر سوءاً، فإنا نعامله بما أظهر، ولا نقول: إن باطنه خبيث، وإنه يسر كذا وكذا، ليس لنا ذلك، وكذلك لا نتكلم فيه قدحاً بغير علم، فندخل في مخالفة الآية التي في سورة الإسراء، وهي قول الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] يعني: لا تتبع ما ليس لك به علم فتتكلم بسوء، أو تستمع إلى شيء، أو تنظر إلى عورة ليس لك النظر إليها، أو تظن ظناً سيئاً {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36] أي: كنت مسئولاً عن هذه الأشياء، فلا تسمع إلى حديث قوم وهم لا يحبون أن تسمع له، وتقول: لعلي أسمع منهم ما يدل على بغضهم وعلى حقدهم على الإسلام! نقول: ليس لك ذلك، أما إذا أظهروا ذلك علناً، فإن لك أن تشهد به، وهذا هو منهج الصحابة رضي الله عنهم، فإن الذين عرف نفاقهم ما عرف إلا لما أعلنوه، كما في حديث عوف بن مالك أنه سمع بعض المنافقين يقول: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء: أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، فعند ذلك قال له: كذبت ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد القرآن قد سبقه، وأن الله تعالى أطلع نبيه على هذه المقالة، فإذا ظهر من الإنسان كلام يدل على سخرية، ويدل على بغض وحقد على المسلمين، ويدل على سوء طوية، وعلى تهمته ببغض الإسلام وببغض المسلمين؛ فحينئذٍ لا يترك على هذا، بل يقام عليه الحد، ويؤخذ حق الله تعالى منه، أما إذا كان أمره خفياً فليس لنا ذلك، وقد يقال: إن هذا قد يكون سبباً في كثرة المنكرات، نقول: ما دامت المنكرات خفية فلسنا مسئولين عنها، لكن إذا رأينا علامات ظاهرة، كأن يعرف أن هناك بيوت دعارة يتوافد إليها أناس مشكوك فيهم فإن لنا أن نتحفظ. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [55] يجب الاجتماع على الحق، وتحرم الفرقة، والمسائل الاجتهادية لا يضلل فيها المخالف، ولا يعقد الولاء والبراء عليها، ما دام لها في النصوص محمل سائغ. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 1 وجوب الاجتماع على الحق وحرمة التفرق قال المصنف رحمه الله: [قوله: (ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة) . السنة: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم والجماعة: جماعة المسلمين وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين فاتباعهم هدى وخلافهم ضلال، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] وقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] ، وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] ، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159] . وثبت في السنن الحديث الذي صححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) ] . يحث دين الإسلام على التمسك بالسنة، ويحث على الاجتماع على العقيدة السلفية، وينهى عن التفرق والتعادي والتقاطع، ويأمر بالتمسك بالصراط المستقيم، والأدلة على ذلك واضحة ظاهرة، ومنها قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] فأمر بالاتباع، وأمر بالتمسك بالصراط المستقيم، وهو الذي أمرنا الله تعالى بأن ندعو به في صلاتنا بقولنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، وهو الطريق الذي سارت عليه الأمة الإسلامية، ونهجه أهل السنة، يأمر الله تعالى بالسير عليه، وبالتمسك به غاية التمسك، ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك به أشد ما يكون، وبالعض عليه بالنواجذ، التي هي أقاصي الأسنان، ولا شك أن ذلك كله دليل على أهمية السير على هذا الصراط السوي. وينهى الإسلام عن التفرق والاختلاف؛ وذلك لأن في الاختلاف عداوة، فمتى اختلفت وجهة المسلمين فكانت طائفة تذهب إلى هذا، وطائفة تذهب إلى ذاك، وهذه تضلل الأخرى، وهذه تبدع هذه، ولم يكونوا مجتمعين على الحق، ولم يحصل بينهم التعاون على البر والتقوى؛ خيف عليهم أن يتسلط عليهم عدوهم، ويتغلب عليهم، فلا يقاومونه لاختلاف وجهاتهم، ولاختلاف أنظارهم. والله تعالى قد نهى عن التفرق في مواضع كثيرة من كتابه، يقول الله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] ، ويقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ، وينهى أيضاً عن الاختلاف كما في قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران:105] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] ، (شيعاً) يعني: أحزاباً، الشيع هو أن كلاً يذهب إلى رأي يتشيع له، يعني: يتعصب له. وبكل حال فإذا عرفنا أن الإسلام يأمر بالاجتماع، فهذا الاجتماع لابد أن يكون على السنة، وأن يكون على الصراط السوي وعلى الطريق المستقيم، أما إذا كان المجتمعون قد اجتمعوا على ضلالة، اجتمعوا على بدعة، فإن اجتماعهم لا قيمة له؛ وذلك لأنهم تركوا الحق جانباً، وأعرضوا عن صراط الله الذي أمر بالتمسك به وبسؤاله، وهو الذي سارت عليه الأمة الإسلامية، وهو صراط المنعم عليهم الذين قال الله فيهم: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] . وكثيراً ما تأتي الأدلة في الحث على الجماعة، وكثيراً ما نسمع الخطباء يحثون على الجماعة، ويقولون: عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، أو فإن يد الله على الجماعة، والمراد بالجماعة هنا: جماعة الإسلام، الذين يجتمعون على قول صحيح سليم، ليس فيه خطأ ولا خلل، هؤلاء هم الجماعة، وجاءت الأحاديث تقول: (عليكم بالجماعة، (إياكم والفرقة) ، (اجتمعوا على الحق ولا تفرقوا) ، (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) ففيها حث المسلمين على أن يسيروا جميعاً، وأن الذي يشذ منهم فإنه إلى الهلاك، وتخطفه الشياطين، فيصير من نصيبها، كما أن الغنم إذا كانت مجتمعة فإن الراعي يراقبها ويرعاها، فإذا انفردت واحدة منها، وكانت بعيدة، وغفل عنها، جاء السبع فأكلها، فكذلك جماعة المسلمين. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 2 الحق يستمد قوته من دليله ولا تضره كثرة مخالفيه أهل البدع جماعات كثيرة، وقد تكون لهم قوة وكثرة واجتماعات، وقد يتفوقون في بعض الأحيان على أهل السنة، وقد يزيدون عليهم عدداً أو عدة أو قوة، ولكن هل يقال: إنهم على الجماعة؟ هل يقال: إنهم أهل الجماعة؟ هل يقال: إنهم أهل السنة؟! ليس كذلك، بل هم أهل فرقة، وهم أهل بدعة، وهم أهل ضلالة، ولو كثر عددهم، ولو كثرت جماعاتهم، ولو حصلت لهم قوة معنوية، أو قوة حسية، فإنهم ليسوا من أهل الجماعة، وليسوا من أهل السنة، فأهل السنة والجماعة هم من كان على مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويقلون ويكثرون، وأحياناً يمكن الله لهم، فيرجع ضالهم، ويرشد غاويهم، فيكثرون على الحق، ويتمسكون به، ويسيرون عليه، وأحياناً يكثر أعداؤهم فيضلون الخلق، ويشتتون الجماعات، ويقل المتمسكون بالسنة، ويصيرون أفراداً، فلا يعرفون، وربما يستخفون بمذهبهم، ويكنونه ولا يجهرون به، ومن جهر به أوذي وطرد واضطهد وسجن وشرد وهرب، وهو مع ذلك على السنة، وعلى العقيدة وعلى التوحيد، وعلى الدين الإسلامي، وعلى الصراط المستقيم، ولكن إذا قويت البدع وقويت المنكرات في بعض البلاد تسلط أهلها على أهل الحق واستضعفوهم، وساموهم سوء العذاب، ولكن النصر والتمكين لهم، والعاقبة للتقوى، إذا صبروا واحتسبوا، وما أصابهم في ذات الله وفي دينه كان رفعاً لدرجاتهم، وإعظاماً لأجرهم. يحصل في هذه الأزمنة اضطهاد كثير لأهل الحق، وإذلال لهم، واتهام لهم بالثورات وبالانقلابات على الدولة، وأنهم يريدون السلطة، وكذلك مطاردتهم في الأسواق وغيرها، وكل من رؤي متمسكاً بالسنة وعاملاً بها اتهم بالاتهامات البعيدة، وأدخل السجون وضرب، وفرضت عليه الضرائب التي تثقل كاهله وما أشبه ذلك، كما هو موجود في كثير من الدول التي تنتمي إلى الإسلام، وهذا لا يدل على أن هؤلاء ليسوا على الحق، بل هم على حق، وإذا صبروا كان ذلك أعظم أجراً، ولا يدل على أن تلك الأمم والشعوب والدول التي أظهرت خلاف الحق، وانتهجت الباطل؛ على حق وصواب، فالعبرة لسيت بالكثرة، إنما العبرة بالإصابة، العبرة في الحق لمن كان مصيباً للحق ومتمسكاً به، هذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 3 أهل الحق هم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني: الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة) ، وفي رواية: (قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) ، فبين صلى الله عليه وسلم أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين، إلا أهل السنة والجماعة. وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى، عند قول الشيخ: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً) . ] . هذه أدلة على أن أهل الحق هم المتمسكون بالسنة النبوية، وهم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والصحابة رضي الله عنهم ما خاضوا في علم الكلام الذي خاض فيه المتكلفون المتكلمون، وكذلك كانوا يكرهون الاختلاف حتى في الفروع، بل إذا اختلفت عليهم الأدلة قالوا: آمنا بها وفوضنا ما لم نعلم، وعملنا بما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم وكان في عهده. وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى أصحابه عن الاختلاف، خرج عليهم مرة وقد اختلفوا في القدر، فكأنه فقئ في وجهه حب الرمان، يعني: احمر وجهه من الغضب، فقال: (يا عباد الله! أبهذا أمرتم أم بهذا كلفتم؟ أتضربون كتاب الله بعضه ببعض؟! ما عرفتم منه فاعملوا به، وما لم تعرفوا فكلوا أمره إلى عالمه) . هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفت علينا الأدلة أن نأخذ بما هو الأنسب والأظهر، وندع الاختلاف. وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بوقوع الاختلاف في هذه الأمة، ففي هذا الحديث الذي تقدم أخبر بأن أمته ستتفرق بهم الأهواء إلى ثنتين وسبعين فرقة، وكل طائفة تزعم أن الحق في جانبها، وكل طائفة تضلل غيرها وتبرر موقفها. وهذه الاختلافات اختلافات اعتقادية، يضلل من خالف فيها، وليست اختلافات في الفروع وفي المسائل الاجتهادية التي طريقها الاجتهاد، فإن هذه لا يضلل فيها، ولهذا خالف بعض الأئمة مشايخهم دون أن يضللوهم، فالإمام مالك رحمه الله كان إماماً متبعاً، وقد خالف أبا حنيفة في أشياء، والإمام الشافعي قرأ على مالك وأخذ عنه علمه، وقد خالفه في أشياء من الفروع، وكذلك أحمد خالف الأئمة الذين قبله في أشياء، ولكن ليس هذا ضلالاً، وليست هذه المذاهب من الفرق الضالة التي حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنها في النار إلا واحدة، إنما تلك هي البدع المضلة التي تتعلق بالعقيدة، ولا شك أن أمور العقيدة أدلتها يقينية، أدلتها قطعية، ولا يستدل عليها بالأدلة الظنية التي يتطرق إليها احتمال الثبوت أو عدمه، وإنما يستدل عليها بأمور قطعية الدلالة لا لبس فيها ولا خفاء، ولكن عميت الأعين وصمت الآذان، فإن أولئك المبتدعة يرون الحق أبلجاً، ويرون الصراط مستقيماً، فتأتيهم بالأدلة، وتوضحها لهم، ولكن هم صم ولو سمعوا، بكم ولو نطقوا، عمي ولو نظروا، بهت بما شهدوا، عموا عن الحق، وعن سماعه صموا، وعن قوله خرسوا، وهذا حرمان من الله، وإلا فالطريق واضح؛ ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأهواء الثنتين والسبعين، وأمر بالتمسك بالجماعة، وقال: (كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة) ، وفي رواية: (هم ما أنا عليه اليوم وأصحابي) . الجزء: 55 ¦ الصفحة: 4 عمق علم الصحابة وعدم تكلفهم يوجب الاهتداء بهديهم الصحابة رضي الله عنهم لم يتكلموا في الجوهر والعرض، ولم يتكلموا في الأعراض والأبعاض والأعضاء وما أشبه ذلك مما ابتلي به المتكلمون، ولم يتكلموا في المحدثات التي امتلأت بها كتب هؤلاء المتكلمين، وإنما تقبلوا ما جاءتهم به السنة، وما ثبت في الأحاديث، وما نص عليه القرآن، وتقبلوا ذلك كله، واستسلموا له، كما شهد لهم ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الأثر: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات) ، ابن مسعود من الصدر الأول، مات سنة اثنين وثلاثين بعد النبي صلى الله عليه وسلم بنحو إحدى وعشرين سنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مات سنة إحدى عشرة، وابن مسعود مات سنة ثنتين وثلاثين، ومع ذلك يحث على طريقة الصحابة، ويريد بالصحابة: السابقين الأولين، كالخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان لأنهم في زمانه، وكذلك من مات من السابقين ممن مات قبله، كـ عبد الرحمن بن عوف وأبي ذر، والعباس بن عبد المطلب، ونحوهم، ولا شك أن هؤلاء هم الصحابة الذين قصدهم في قوله هذا: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) ومن كان عالماً لا يؤمن عليه أن يضل، ولا يؤمن عليه أن يفتتن بالدنيا، أو يفتتن بالشبهات وبالدعايات المضللة، يقول: (أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً) ما أبلغه من وصف! البر: هو الصدق والإخلاص، يعني: أن قلوبهم خالصة مخلصة، وعلمهم عميق؛ لأنه علم نبوي، ولم يكونوا يتكلفون. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لما جاءه رجل وقال: إن فلاناً يزعم أنه يكون قبل القيامة دخان يأخذ بمشام الناس، فعجب لذلك! حيث استدل بقوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] فقال: إن الله تعالى قال لنبيكم: {وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] ، وإن هذا من التكلف؛ لأن هذا فسر الآية بما يراه أو بما يظنه من أن الدخان المذكور فيها يكون قرب الساعة، وبكل حال فهو ينكر على من يتكلف في تفسير الآيات بمثل هذه الاحتمالات. فإذا نظرنا فيما روي عن الصحابة رضي الله عنهم، لم نجد في علمهم شيئاً من التكلف، بل وجدناهم يأخذون الأدلة على ظاهرها، ويفوضونها أو يعتقدون ما دلت عليه. وقد حدث الضلال في آخر عهدهم من بعض المنكرين لبعض الأمور الغيبية، كما روي أن رجلاً انتفض عند ابن عباس لما قرأ آية في الصفات استنكاراً لها، فقال ابن عباس: ما فرق هؤلاء؟! يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه! أما الأثر المروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله!) ، فإنه دليل على أنه قد وجد في عهده من يتحدث بأشياء قد تستغرب، وقد يستنكرها بعض الجهلة، فلأجل ذلك نهى أن يحدثوا بالأشياء التي فيها شيء من الغرابة، وأمرهم أن يتحدثوا بالأشياء المعلومة كالأحكام، أي: اشغلوا أوقاتكم بالأحكام، وبأمور الطاعة، وبنوافل العبادات، وإياكم أن تشتغلوا بالأشياء التي فيها غرابة، ويستنكرها العامة وينكرونها، وإذا أنكروها وهي قطعية هلكوا، حيث إنهم كذّبوا الله ورسوله، فهذه طريقة وسيرة السلف الذين هم الصحابة ومن سار على نهجهم. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 5 أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة) . وهذا من كمال الإيمان وتمام العبودية، فإن العبادة تتضمن كمال المحبة ونهايتها، وكمال الذل ونهايته، فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره، فغير الله يحب في الله لا مع الله، فإن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضائه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق لمحبوبه في كل حال، والله تعالى يحب المحسنين، ويحب المتقين، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ونحن نحب من أحبه الله، والله لا يحب الخائنين، ولا يحب المفسدين، ولا يحب المستكبرين، ونحن لا نحبهم أيضاً، ونبغضهم موافقه له سبحانه وتعالى. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا الله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) . فالمحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه، وولايته وعداوته، ومن المعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة، فلابد أن يبغض أعداءه، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] . والحب والبغض بحسب ما فيهم من خصال الخير والشر، فإن العبد يجتمع فيه سبب الولاية وسبب العداوة، والحب والبغض، فيكون محبوباً من وجه ومبغوضاً من وجه، والحكم للغالب، وكذلك حكم العبد عند الله، فإن الله قد يحب الشيء من وجه ويكرهه من وجه آخر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه) ، فبين أنه يتردد؛ لا أن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه وتعالى يحب ما يحب عبده المؤمن، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه، كما قال: (وأنا أكره مساءته) ، وهو سبحانه قضى بالموت، فهو يريد كونه، فسمى ذلك تردداً، ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك، إذ هو يفضي إلى ما هو أحب منه] . الجزء: 55 ¦ الصفحة: 6 وجوب حب الله وحب ما يحبه الله واجب على المسلم أن يحب الله تعالى، وأن يحب ما يحبه الله، وأن يحب من يحبه الله، فيحب الله تعالى من كل قلبه؛ لأنه ربه، والمنعم عليه، ويحب ما يحبه الله من الأعمال التي تكون سبباً لرضاه، ويحب الذين يحبهم الله من أوليائه وأصفيائه وعباده الصالحين، وإذا كان كذلك فإنه يحضى بمحبة الله تعالى له، أما كونه يحب الله ورسوله فإن لذلك أسباباً، كيف لا يحب ربه الذي هو خالقه ومالكه؟! كيف لا يحب ربه الذي أنعم عليه وتفضل عليه؟! كيف لا يحب ربه الذي رزقه وخوله وأعطاه ما يتمناه؟! كيف لا يحب ربه الذي يتصرف فيه كما يشاء؟! كيف لا يحبه وقد هداه للإسلام ونور بصيرته؟! الجزء: 55 ¦ الصفحة: 7 وجوب حب النبي صلى الله عليه وسلم يجب على المسلم أن يحب النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن الله تعالى أنقذه على يديه، أنقذ جميع الخلق، وأنقذ هذه الأمة على يدي هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فلأجل ذلك يجب أن يحبوه، وأن يقدموا محبته على كل شيء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) ، وقال له عمر: (والله إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: والله إنك لأحب إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر) ولا شك أنه عليه الصلاة والسلام أهل لأن يحبه المؤمنون الذين أنقذهم الله بواسطة دعوته، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وأنقذهم به من الغواية، وبصرهم بواسطته إلى طريقة الهداية والحق، فلذلك يقدمون محبته على كل شيء. وفي هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) ، أخبر بهذا؛ لأن هذه الثلاث لابد منها حتى يجد بها المسلم حلاوة الإيمان، بدأها: بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، يعني: من النفس ومن المال ومن الأهل والوالد، ومن القريب والبعيد، ومن كل شيء حتى من نفسه، ومعلوم أنه إذا حصلت له هذه المحبة تبعها غيرها، فإذا أحب الله تعالى، وأحب رسوله صلى الله عليه وسلم تبعتها الخصلتان الباقيتان، تبعها محبة ما يحبه الله، وتبعها كراهة ما يكرهه الله، فالثلاث متلازمة مترابطة. والخصلة الثانية: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، معلوم أن من أحب الله أحب ما يحبه الله، بل العادة أن إنساناً إذا أحبك أحب كل من تحبه، فأنت مثلاً إذا أحببت زيداً، أحببت من يحبه زيداً؛ وذلك لأنك وثقت به، وصار له قدر في قلبك، وصارت له منزلة، فصرت توقره وتحبه، فإذا رأيته يؤثر عملاً آثرت ذلك العمل معه، وإذا رأيته يجتنب شيئاً اجتنبته؛ لأنك تثق به وتعرف أنه لا يفعل إلا ما هو خير، ولا يتجنب إلا ما فيه ضرر، فكيف بما يكرهه الله تعالى؟! لا شك أنك تكرهه، كيف بما يُحرّمه ويبغضه؟! لا شك أنك تبغضه، كيف بمن يحبهم الله تعالى من الأشخاص؟! لا شك أنك تحبهم. وقد تقول: لكن الله تعالى قد ذكر أن المؤمنين يحبون المنافقين ظاهراً، في قوله تعالى في سورة آل عمران: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران:119] فهؤلاء الصحابة الذين يحبون الله ويحبون الرسول، ويؤثرونه على أنفسهم، ويفدونه بأرواحهم، كيف يحبون المنافقين؟! الجواب لأنهم يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، ويخفون عقيدتهم، فيبطنون ما هم عليه من الضلال والبغضاء، الذي هو بغض الله، وبغض رسوله، وبغض الصحابة، وبغض المؤمنين، ولا يبدون ذلك، إنما يظهرون أنهم من أولياء الله، وأنهم من أحبابه، فلأجل ذلك وثق بهم المؤمنون فصاروا يحبونهم، يعني: تحبونهم؛ لأنهم يحبون الله ظاهراً، تحبونهم؛ لأنه يظهرون لكم محبة الرسول، وأنتم تحبون الرسول، ومحب المحبوب محبوب، ولكن هم لا يحبونكم؛ لأنكم تحبون الرسول، وهم يبغضونه، ومحب المبغوض مبغوض، فلما صرتم على يقين وعلى عقيدة من محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم على الضد من ذلك يبغضونه، وأبغضوكم؛ لأنكم تحبون مبغوضهم. إذاً: عليك أن تحب من يحبه الله، وتبغض من يبغضه الله، وتظهر عليك آثار هذه المحبة، ولا شك أن لها آثاراً، ومن آثارها: الولاء والبراء العطاء والمنع التقريب والإبعاد، فمن أحببته أعطيته، ومن أبغضته حرمته، ومن أحببته قربته، ومن أبغضته أبعدته، وابتعدت عنه، ومن أحببته واليته، ومن أبغضته عاديته. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 8 لا يجوز موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب الذين يحبهم الله يجب أن تحبهم بقلبك، وتواليهم، وتعطيهم، وتقربهم، وتمدحهم، وتقتدي بهم، وتثني عليهم؛ لأن الله تعالى يحبهم، والذين يبغضهم الله تبغضهم، وتعاديهم، وتقاطعهم، وتبتعد عنهم، وتحذر منهم، وتذمهم، وتحذر من سيرتهم، وسنتهم، وعادتهم التي أصبحوا بها مبغضين لله، مبغوضين عند الله، ولو كانوا ما كانوا. من الخصال التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مما يجب للمسلم على المسلم، في قوله: إنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم هذه الثلاث المسائل: وذكر الثالثة منها: أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، واستدل بالآية التي في آخر المجادلة: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] لا تجد المؤمنين حقاً يوادون المحادين لله ورسوله أبداً، لا تجدهم يوادونهم، بل لابد أن يعادوهم ويقاطعوهم وينبذوا لهم قوس العداوة، ولو كانوا أقرب قريب، ولهذا قال: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] يعني: أقاربهم الخاصين بهم، وما ذلك إلا أنهم لما أحبوا الله أبغضوا من يبغضه الله، فالذين عادوا الله، ولو كانوا أقارب عاداهم أولياء الله، ومقتوهم، وابتعدوا عنهم، وقطعوا الاتصال بهم. أما أولياء الله فإنهم يحبونهم، ولو كانوا بعيدين في النسب، فصار بعضهم يؤثر أخاه المسلم على نفسه، ولو كان من فارس أو من الروم أو من البربر أو من الحبش أو نحو ذلك، فمثلاً: من الصحابة: بلال حبشي من الحبشة، وصهيب رومي من الروم، وسلمان فارسي من فارس، ولكن جمعت بينهم أخوة الإسلام ومحبة الله، فصاروا أخوة في ذات الله تعالى، يحب بعضهم بعضاً، ويؤثر بعضهم بعضاً، فهكذا تكون آثار هذه المحبة. فلما أحب الله الصالحين، وأنت تحب الله أحببتهم، ولما أبغض الكافرين، وأنت تبغض ما يبغضه الله أبغضتهم، وكذلك الأعمال، فإن الله تعالى يبغض كثيرا ًمن الأعمال، يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ، {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] ، {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] ، {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل:23] ، إذا كان الله لا يحب هؤلاء فلا تحبهم، بل أبغضهم، انظر من يحبه الله؟ الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، ويحب أهل هذه الخصال، ويحب الأعمال الصالحة، ويحب من عباده أن يأتوها، فالذي يدعي المحبة لابد أن تظهر عليه آثارها وعلاماتها الواضحة. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 9 العلامة الدالة على صدق محبة الله ذكروا أن اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه -وكذبوا فليسوا أحباءه- أنزل الله آية تسمى آية الامتحان أو آية المحنة في سورة آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] فامتحنهم الله بهذه الآية، فإذا كنتم صادقين في أنكم تحبون الله فلابد من علامة، والعلامة الواضحة هي أنكم تتبعون هذا الرسول الكريم، فإن هذه علامة صدق من يدعي محبة الله. روي عن بعض السلف رحمه الله أنه قال: من ادعى محبة الله ولم يوافقه فدعواه كاذبة؛ لأن الذي يحب الله يوافقه في أوامره ونواهيه، ويفعل ما يحبه الله من الطاعات، ويكره ما يكرهه الله من المحرمات والمعاصي، وكذلك أيضاً يحب أولياء الله ويبغض أعداء الله، وبذلك يكون صادقاً في هذه المحبة، وإذا لم يكن كذلك فليس بصادق، والذي يتظاهر بالمعصية ومع ذلك يدعي أنه يحب الله ليس بصادق، يقول بعض الشعراء: تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا عجيب في الفعال بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع فعلامة المحبة طاعة المحبوب. محبة الله تعالى واجبة، وعلاماتها ظاهرة، وهي: طاعته، وحب العبادات التي يحبها، وحب العباد الذين يحبهم، وكذلك موافقته، وكذلك بغض المعاصي التي حرمها ومقتها وأبغضها، ومعاداة العصاة والكفرة الذين أبغضهم وكرههم ومقتهم، فمن كان كذلك فإنه من أحباب الله الذين وعدهم الله تعالى بالثواب العظيم، جاء في الحديث القدسي يقول الرب تعالى: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته) ، هكذا ورد في هذا الحديث، ومعنى كون الله تعالى إذا أحبه يقول: (كنت سمعه إلخ) أي: أنه لا يسمع إلا ما يحبه الله، ولا يبصر إلا ما يحبه الله، ولا يمد يده ويبطش إلا في طاعة الله، ولا يحرك قدمه ماشياً إلا فيما أمر الله به وأحبه. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 10 شرح العقيدة الطحاوية [56] ذكر أهل العلم مسألة المسح على الخفين في كتب العقائد لأن إنكارها صار شعاراً لبعض أهل البدع، كما ذكروا فيها وجوب غسل القدمين في الوضوء لكون الرافضة لا يغسلون أقدامهم عند الوضوء. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 1 وجوب تحقيق الأخوة والاجتماع بين المسلمين تقدم لدينا ما يتعلق بحث الإسلام وتحريضه على الاجتماع ونهيه عن الافتراق، وحثه على الائتلاف وتحذيره من الاختلاف، وذلك أن المسلمين كلما كانوا مجتمعين، وكلما كانت كلمتهم واحدة؛ كان نفوذ كلمتهم أقوى من غيرهم ممن خالفهم، وكلما تفرقت كلمتهم وتشتت أهواؤهم، واختلفت آراؤهم، ضعفت معنويتهم، وقوي عليهم أعداؤهم، فلأجل ذلك جاء الإسلام يحث على الاجتماع، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] فأمر بالاجتماع، ونهى عن التفرق، والتفرق يعم تفرق الأبدان وتفرق الأهواء والآراء والمذاهب والشيع والفرق والأحزاب، يعم ذلك كله، ويقول تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] (تَفَرَّقُوا) أي: تفرقت كلمتهم، (وَاخْتَلَفُوا) أي: اختلفت آراؤهم، واختلفت أهواؤهم، وقد امتن الله تعالى على المؤمنين بأن جمعهم على كلمة التوحيد، وألف بين قلوبهم، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:62-63] أي: جمع بينهم، ورزقهم المحبة والألفة، بحيث إن بعضهم يؤثر أخاه المسلم على نفسه، وعلى ولده، وعلى أحبابه وأحفاده وأنسابه وأقربائه، وذلك لما في قلبه من الود والرحمة للمسلمين عموماً. ولا شك أن هذه الأوصاف كلما تأكدت وقويت وثبتت كان المسلم مؤثراً لإخوته، ومقدماً لهم، ومحباً لهم غاية الحب، ومقدماً لمصالحهم، وإذا كانوا مجتمعةً كلمتُهم، ومتآلفين على كلمة التقوى؛ نتج من ذلك تعاونهم على البر والتقوى، وتعاونهم على تنفيذ كلمة الله، وعلى إظهار شعائر دينه، وكلما كانوا كذلك ضعف أعداؤهم وتخاذلوا وتفرقوا، وحصل النصر والتمكين للمؤمنين، والتفرق والانهيار للكافرين، وهذه سنة الله. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 2 خطورة الاختلاف والتفرق اختلاف الكلمات واختلاف الآراء والأهواء سبب للتعصب، فيتعصب كل لرأيه، ولمذهبه، ولهواه، وهذا يحدث في أهل البدع، فإن هذه الطائفة إذا كانت تنتحل بدعة وتهواها وتفضلها فإنها لا تقبل ممن خالفها، بل ترى أن من خالفها على باطل وعلى ضلال، ونشاهد -مثلاً- الذين يسمون أنفسهم شيعة وهم الروافض، نشاهدهم يتآلفون فيما بينهم، ويحب بعضهم بعضاً، ويقدم بعضهم بعضاً ربما على نفسه، كما حكى لي أحد أهل السنة في هذا المسجد أنهم جماعة من أهل السنة نحو المائة أو المائتين، وحولهم من الرافضة أكثر من عشرين ألفاً، فهؤلاء الرافضة تأتيهم الإمدادات ويأتيهم العون من الشيعة في العراق وإيران والمملكة، ويشجعونهم. والواجب أن أهل السنة يشجعون أهل السينة ويثبتونهم ويواسونهم، ويعطونهم ويمكنونهم؛ لأنه تجمع بينهم الأخوة الدينية التي هي أخوة الإسلام، فإذا كان أهل الباطل يجتمعون ويتناصرون على مذهبهم، الذي هو في الحقيقة باطل، ولكنه عمي عليهم، وزين لهم أنه حق، فما بال الذين هم على الحق وعلى الصراط؟! قرأت في بعض الكتب أن المسلمين في أول القرن الثاني، لما كانوا في خراسان مجتمعين من جهات متعددة، فإذا لم يغزو ولم يذهبوا إلى قتال أعدائهم وقع الاختلاف بينهم، وأخذوا يتفاخرون، وكل يتعصب لقبيلته، وكل يتعصب لمذهبه، وكل يتعصب لأميره ولشيخه، ويحصل بينهم تشتت واختلاف أهواء، وربما حصل بينهم تقاتل أو تناوش أو ما أشبه ذلك، فجاءهم أمير ناصح مخلص، وجمع كلمتهم، ووحد وجهتهم إلى قتال أعدائهم، وتوجهوا كلهم نحو الأعداء؛ عند ذلك زالت العداوة والبغضاء التي كانت بينهم، وصاروا إخوة متآخين متوجهين إلى العدو الذي هو أكبر الأعداء، العدو في الدين، فكانت هذه الفعلة التي يفعلها أولئك القادة -من جمعهم على التوحيد- أعظم نصيحة حتى يقاتلوا أعداءهم. فنحن نحث المسلمين أن تجتمع قوتهم وتتوجه نحو أعدائهم، سواء الأعداء الكفار أو الأعداء المبتدعون، أو نحوهم. وننهاهم عن التمادي في اختلاف الآراء والأهواء، وقد مر بنا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مرة على أصحابه وهم يتنازعون في القدر وقد اختلفوا، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، يعني: من شدة الغضب، فقال: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، أبهذا أمرتم؟! أم بهذا كلفتم؟! ما عرفتم فقولوا به، وما لم تعرفوا فكلوا أمره إلى عالمه) ، فنهى عن اختلاف الكلمة في مسألة القدر. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 3 مقومات الوحدة والتآلف بين المسلمين الإسلام جاء بجمع الكلمة والحث على الجماعة، فحثهم على الألفة فيما بينهم، والأسباب التي بها يتآلفون، ويتعارفون، ويتآخون كثيرة منها: أولاً: يتعارفون لأنهم مسلمون، ويتحابون لأجل الإسلام. ثانياً: يتعارفون ويتآلفون؛ لأن قصدهم وهدفهم واحد، وهو أن كلاً منهم يطلب الأجر الأخروي، ويطلب النصر من الله تعالى على الأعداء. ثالثاً: أن كلاً منهم يدين بدين واحد فيجمعهم هذا الدين، فإذا دانوا بدين واحد فإن عليهم أن يتحابوا في ذات الله تعالى، ويزيلوا الأسباب التي توقع بينهم العداوة والبغضاء، وبذلك يتآلفون ويتحابون فيما بينهم. وكما أنهم مأمورون على اختلاف طبقاتهم وجنسياتهم أن يتحابوا وأن يجتمعوا ولو تفرقت بلادهم، ولو تناءت أماكنهم، فإنهم أيضاً مأمورون بمقاطعة أعدائهم، وبمباينتهم، وبغضهم، والابتعاد عنهم، وإذلالهم، سواء كانوا مبتدعة أو كفرة أو مشركين، فإنهم إذا رأوا منهم الغلظة والشدة والبغضاء والكراهية ذلوا وهانوا، وهانت عليهم أنفسهم، وعرفوا عزة الإسلام ورفعته وتمكنه وعزة أهله؛ فأذعنوا له وانقادوا إما طوعاً وإما كرهاً، وهذه الأمور مجربة في الأزمنة المتقدمة والقرون الماضية، فإن المسلمين كلما اجتمعوا وأظهروا لأعدائهم المقت والاحتقار ذل الأعداء وقوي الأولياء، وارتفعت كلمة الله، وانخفضت كلمة المشركين. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 4 خطورة القول على الله بغير علم قال الشارح رحمنا الله وإياه: [قوله: (ونقول: الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه) تقدم في كلام الشيخ رحمه الله تعالى أنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد ما اشتبه عليه إلى عالمه، ومن تكلم بغير علم فإنما يتبع هواه، وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ} [القصص:50] ، وقال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:3-4] ، وقال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] . وقد أمر الله نبيه أن يرد علم ما لم يعلم إليه، فقال تعالى: {قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:26] ، {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف:22] ، وقد قال صلى عليه وسلم لما سئل عن أطفال المشركين: (الله أعلم بما كانوا عاملين) . وقال عمر رضي الله عنه: (اتهموا الرأي في الدين، فلو رأيتني يوم أبي جندل، فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول الله برأيي، فأجتهد ولا آلو، وذلك يوم أبي جندل والكتاب يُكتب، وقال اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، قال: اكتب: باسمك اللهم، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب وأبيت، فقال: (يا عمر! تراني قد رضيت وتأبى؟!) وقال أيضاً رضي الله عنه: (السنة ما سنه الله ورسوله، ولا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة) . وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إن قلت في آية من كتاب الله برأيي، أو بما لا أعلم) . وذكر الحسن بن علي الحلواني حدثنا عارم حدثنا حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة عن ابن سيرين قال: لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر رضي الله عنه، وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلاً، ولا في السنة أثراً، فاجتهد برأيه، ثم قال: هذا رأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني وأستغفر الله] . هذه مسألة جديدة، وهي: مسألة الفتيا بغير علم، والجرأة على الفتيا، والقول في الشرع بغير علم ذنب كبير، وقد روي عن بعض السلف، وروي مرفوعاً: (أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار) يعني: الفتيا بغير علم؛ وذلك لأن الذي يتكلم ويقول في الشرع وفي الدين برأيه وبهواه وبما يستحسنه، ينصب نفسه مشرعاً، وكأنه نائب عن الله، ومزاحم للرب تعالى في شرعه، يقول: أحل الله كذا، وحرم كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وليس عنده مستند، وإنما يعتمد على ما يستحسنه، وما يراه في هواه ملائماً لواقعه، أو نحو ذلك، فلا جرم أن كان هذا ذنباً كبيراً، حتى قال بعضهم: القول على الله بلا علم أكبر من الشرك، واستدلوا بهذه الآية التي في سورة الأعراف، والتي حرم الله فيها خمسة أشياء، فبدأ بالأسهل ثم الذي فوقه إلى أن أتى إلى أعلاها وأشدها تحريماً، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ َ} [الأعراف:33] فهذا التحريم الأول، ثم جاء بعده ما هو أشد منه: {وَالإِثْمَ} [الأعراف:33] فالإثم أشد من الفواحش، ثم جاء بعد الإثم ما هو أشد منه تحريماً فقال: {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:33] والبغي: الاستطالة على الناس بغير حق، فهو أكبر من الإثم، ثم جاء بعد البغي أكبر منه: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [الأعراف:33] ، ثم جاء بعد الشرك أكبر منه: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] فجعل القول على الله أكبر الخمسة التي حرمت في هذه الآية؛ وذلك لأن الذي يقول على الله كأنه رفع نفسه فوق الأنبياء، ورفع نفسه فوق العلماء، وجعل نفسه مشرعاً يحلل ويحرم ويقول على الله ما ليس له به علم. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 5 منهج السلف في الإفتاء كان العلماء الجهابذة الذين بلغوا الذروة في المعرفة، وكانوا على جانب من الورع، يسأل كثير منهم فيتوقفون في المسألة إذا لم يكن فيها دليل صريح واضح، يردها هذا إلى هذا إلى أن يتولى الفتيا والقول فيها أحدهم، فيكتفي به عن نفسه. وكان الإمام أحمد رحمه الله كثيراً ما يتلو الآية التي في سورة النحل وهي قول الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116] الذين يقولون: هذا حلال بأهوائهم، وهذا حرام بأهوائهم، بدون دليل، يقول: إن هذا من الافتراء والكذب على الله تعالى، والقول عليه بغير علم، والآيات التي تقدمت كلها تدل على النهي عن أن يقول الإنسان على الله بغير علم. ذكروا أن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة الذي كانت تضرب إليه آباط الإبل، وكان هو المرجع في زمانه، سأله مرة قوم عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع مسائل، وتوقف عن ست وثلاثين مسألة! فقالوا له: أتتوقف وتقول: لا أدري وأنت مالك بن أنس؟! فقال: نعم، لا أدري، لا أدري، قولوا: مالك بن أنس لا يدري، قولوا: مالك يقول: لا أدري. وكان كثير من العلماء يحثون على التوقف عن المسائل، فيقولون: من أخطأ (لا أدري) أصيبت مقاتله، أي: أنه إذا صار يفتي ولا يتوقف، ويستحيي أن يقول: لا أدري، فإنه قد تصاب مقاتله، بأن يزل مرة هنا، ومرة في هذه المسألة، ويحاسبه الله تعالى على أقواله بغير علم، فيقع في الهلاك والعياذ بالله، فالذي عنده علم بالمسألة، وعنده يقين بحكمها، ودليل عليها، وسئل عنها، لا يجوز له السكوت، ولا يجوز له التوقف، بل يقول بموجب علمه بالدليل، ولا يكتم العلم لقوله صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من النار) ، أما إذا سئل وهو لا يعلم، وليس عنده خبرة بهذه المسألة، فلا يجوز له الإقدام عليها، بل يحيله إلى من هو أعلم منه، وإلى من عنده علم بتفصيل هذه المسائل ونحوها. ولقد اعتنى علماء الإسلام بهذه المسائل التي يمكن أن تقع، اعتنوا بها غاية الاعتناء، واجتهدوا في بيانها، وفي إيضاحها أتم الاجتهاد، والحقوا كل مسألة بنظيرها، فلم يبق لأحد قول، فأنت إذا سئلت عن مسألة فارجع إليها في كتب أهل العلم، وقل: هذه المسألة أفتى فيها العالم الفلاني بكذا، والشيخ الفلاني بكذا، ويوجد بيانها في الكتاب الفلاني، وتورع أنت أن تستحسن فيها أو تقول فيها، يقول بعضهم: وقل إذا أعياك ذاك الأمر ما لي بما تسأل عنه خبر فذاك شطر العلم فاعلمنه واحذر هديت أن تزيغ عنه يقولون: إن كلمة (الله أعلم) شطر العلم، كأن الذي تعلم مسائل كثيرة، وقرأ العلوم المتنوعة، قرأ في التفاسير، وقرأ في كتب الحديث، وقرأ في كتب الآداب والأحكام، وقرأ في كتب العقائد، وحصّل منها معلومات، يقال له: أنت لم تحصل إلا على علم قليل يسير، ولذلك يقول بعضهم: وليس كل العلم قد حويته أجل ولا العشر ولو أحصيته ولو أحصيته ما حصلت إلا على العشر أو أقل من عشر العلوم، فالعلوم واسعة، وما ظفرت منها إلا بنزر يسير، فعليك أن تقتصر على ما تعلمه وتتحققه وتتيقنه. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 6 إذا اجتهد العالم فأخطأ فله أجر هناك مسائل فيها مجال للاجتهاد، ولأجل ذلك اختلفت فيها آراء العلماء، واختلفت فيها المذاهب، فذهب فيها الصحابي الفلاني إلى كذا، والصحابي الآخر إلى كذا، وذهب فيها الإمام أبو حنيفة إلى كذا، والإمام مالك إلى كذا، والشافعي إلى كذا، هذه المسائل فيها مجال للاجتهاد والاختلاف، وقد حصلت بسبب اختلاف الأفهام، واختلاف الآراء، وسعة المعلومات أو قلتها، فهذا هو السبب، ونحن نعذر الذين خالفوا الدليل، وأفتوا بخلافه، نعذرهم ونقول: هذا ما وصل إليه اجتهادهم، فهم قالوا عن اجتهاد، وقد اضطروا إلى القول فيها، وإلى الحكم بما يلزم السائل، وكانت واقعة لابد من الفتيا فيها، فاجتهدوا، ولو خالفوا الدليل فهم معذورون بهذا الاجتهاد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عذر المجتهد في قوله: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) يعني: على اجتهاده يعني: أنه معذور ومغفور له ذلك الخطأ، ومع ذلك يحصل له هذا الأجر. ولكن ليس ذلك لكل أحد، فالذي لم يتأهل للاجتهاد، ولم يصل إلى رتبة المعرفة، ولم يكن من أهل الإتقان، ولم يعرف مراجع المسائل، ولا تفاصيل الأدلة، ولا وجوه الاستدلال، ولا ثبوت الأدلة أو عدم ثبوتها، ولا يعرف الجمع بين مختلفها، ولا يعرف متقدمها ومتأخرها، ولا يفرق بين خاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها وما أشبه ذلك؛ فهذا لا يفتي إلا بالشيء الذي قد اتضح عنده حكمه كالشمس، أما الباقي فعليه أن يتوقف حتى لا تنطبق عليه هذه الآيات التي استدل بها الشارح رحمه الله، وكذلك الآيات التي أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم برد العلم إلى الله، مثل قوله: {قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26] ، فنحن نقول: الله أعلم، ونقول كما قالت الملائكة: {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32] . والله تعالى يذم الذين يجادلون في آيات الله بغير علم، فدل على أنهم إذا كان عندهم علم وجادلوا فإنهم يجادلون مجادلة حسنة، وأما الذين يجادلون بغير علم فإنهم مذمومون: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:3-4] يعني: أنه في هذه المجادلة قد اتبع الشيطان. وبكل حال فالعلوم والحمد لله مدونة وموجودة وميسرة، والعلماء هم الذين يعرفون مراجعها، ويعرفون الراجح منها والمرجوح، ومن كان معه أهلية، وأخذ العلم من مظانه؛ فله أن يقول به، ولا يتبع غيره ممن لم يتمكن؛ ومن لم يكن عنده أهلية رجع إلى أهل العلم، وقال بما قالوا به، أو بما وصلت إليه أفهامهم واجتهاداتهم. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 7 مسألة المسح على الخفين قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر، كما جاء في الأثر) . تواترت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين، وبغسل الرجلين، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة، فيقال لهم: الذين نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء قولاً وفعلاً، والذين تعلموا الوضوء منه وتوضئوا على عهده وهو يراهم ويقرهم، ونقلوه إلى من بعدهم، أكثر عدداً من الذين نقلوا لفظ هذه الآية، فإن جميع المسلمين كانوا يتوضئون على عهده، ولم يتعلموا الوضوء إلا منه، فإن هذا العمل لم يكن معهوداً عندهم في الجاهلية، وهم قد رأوه يتوضأ ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى، ونقلوا عنه ذكر غسل الرجلين فيما شاء الله من الحديث، حتى نقلوا عنه من غير وجه في كتب الصحيح وغيرها أنه قال: (ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار) ، مع أن الفرض إذا كان مسح ظاهر القدم، كان غسل الجميع كلفة لا تدعو إليها الطباع، كما تدعو الطباع إلى طلب الرياسة والمال، فلو جاز الطعن في تواتر صفة الوضوء، لكان في نقل لفظ آية الوضوء أقرب إلى الجواز] . الجزء: 56 ¦ الصفحة: 8 سبب ذكر مسألة المسح على الخفين في كتب العقائد هذه مسألة فروعية، ومع ذلك ذكرت في العقائد، وهي مسألة المسح على الخفين، يذكرها الفقهاء في أبواب الطهارة، يقولون: باب المسح على الخفين، ويذكرون أحكام ذلك، والناس يسمعون ذلك ويفهمونه ويعرفونه، فهي من المسائل الفروعية، مثل: باب التيمم، ومثل باب الغسل من الجنابة وموجباته، ومثل: إزالة النجاسة وخصال الفطرة، وما أشبه ذلك. فلماذا ذكرت في كتب العقائد كهذا الكتاب وهي مسألة فرعية تتعلق بالطهارة؟ الجواب لأن الخلاف فيها مع المخالفين في العقيدة، فالذين خالفوا فيها خالفوا في أكثر العقائد، وردوا السنة الصحيحة الصريحة في كثير من الأحكام الثابتة، وطعنوا في الذين يفعلونها، وخالفوا الأدلة. الذين خالفوا في هذه السنة هم الرافضة الذين يسمون أنفسهم شيعة، يقولون: إنهم شيعة علي، يعني: أعوان علياً، مع أن علي رضي الله عنه بريء منهم ومن مشايعتهم، وهم في الحقيقة ما شايعوه ولا نصروه، بل خذلوه وخذلوا أولاده، ولم يكن منهم نصر له ولا معاونة له ولا لأهله في زمن من الأزمان، ولكن زين لهم الشيطان أعمالهم فسموا أنفسهم شيعة علي، وأهل السنة يسمونهم رافضة؛ وذلك لأنهم رفضوا الحق، يعني: تركوا السنة وهم يعرفونها، سواء أوائلهم وأواخرهم، ولكنهم عاندوا في تركه ورفضه، فصدق عليهم اسم الرفض. وقولهم في هذه المسألة قول باطل؛ وذلك لأنهم خالفوا المسلمين في أمرين: في غسل الرجلين، وفي المسح على الخفين، فهم لا يرون غسل الرجلين، فإذا كانت الرجل بارزة لا يرون غسلها، بل يمسحون الرجل كما يمسحون الرأس، هذا مذهبهم، فإنهم قد خالفوا السنة الصريحة في غسل القدمين إذا كانتا مكشوفتين، وخالفوا السنة الصريحة في مسح الخفين إذا كانا على القدمين، فخالفوا مرتين؛ فلأجل ذلك أنكر عليهم السلف، وأساءوا بهم الظن، وحذروهم وحذروا منهم، روي عن ابن المبارك رحمه الله أنه كان يقول: إذا رأيت الرجل يسأل عن حكم المسح على الخفين أسأت به الظن، يعني: اتهمته في معتقده، خوفاً أن يكون من هؤلاء الشيعة؛ وذلك لأنه لم يكن أحد من أهل السنة المتمسكين بها يشك في حكم المسح على الخفين وفي جوازه؛ لأنه متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نقله عنه جمع عن جمع، وأعداد عن أعداد، وتلقاه المسلمون وتقبلوه، فروي في المسح أكثر من أربعين حديثاً. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 9 تواتر أحاديث المسح على الخفين يقول الإمام أحمد رحمه الله: ليس في نفسي من المسح على الخفين شيء، فيه أربعون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من الأحاديث الصحيحة التي لا توقف فيها ولا ارتياب. وهناك أحاديث كثيرة قد يكون فيها مقال، ولكن يستدل بها أيضاً، وقد أوصلها بعضهم إلى ستة وخمسين حديثاً كما في نصب الراية، قال الحسن البصري رحمه الله -وهو أحد كبار التابعين-: حدثني سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين وأمر به، فما دام أنها سنة ثابتة متواترة مشهورة ليس فيها اختلاف، وليس في ثبوتها تردد، فكيف -مع ذلك- ينكرها هؤلاء الرافضة؟! لا شك أن سبب إنكارهم هو أن الذين قالوا بها من أهل السنة، وهم يردون على أهل السنة، ولا يقبلون شيئاً مما جاء به السنيون، وهذا موجود إلى الآن، حدثني أحد المدرسين في الأحساء، في مدرسة متوسطة فيها من أولاد الشيعة وأولاد أهل السنة، يقول: ألقيت عليهم اختباراً شهرياً، وهو ما يسمى: بأعمال السنة، ولما ألقيته اخترت مسائل في المسح على الخفين، فكانت أجوبتهم على ما في الكتب، ولكن في النهاية قال له أحدهم: اعلم أيها المدرس أني أجبتك على ما في الكتاب، وإلا فأنا لا أقول بهذا، ولا أعتقده، ولا أصدقه، ولو قلتم ما قلتم يا أهل السنة، فلن نذهب إلى مذهبكم ولا نقبل منكم! مع أنه طالب لا يزال في المتوسطة! ويتلقى العلوم عن مدرسين من أهل السنة! ولكن لما كان الذين يلقنونهم عقيدتهم على تلك العقيدة، لم يتقبلوا حتى هذه المسألة الفرعية، التي هي من فروع المسائل؛ وذلك لأن الذين نقلوها من الصحابة الذين يطعن فيهم الرافضة، فالرافضة لا يقبلون كلام أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا طلحة والزبير، ولا عبد الرحمن بن عوف، ولا أبي عبيدة، ولا غيرهم من أكابر الصحابة، ولا رواية أبي هريرة ولا عائشة ولا حفصة، لا يقبلون رواية أولئك؛ لأنهم يعتقدون أنهم كفار! فردوا هذا كلياً، ولم يقبلوا أحاديث المسح على الخفين أصلاً. هذا قولهم في المسح على الخفين، أما أهل السنة فيقولون: هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي علمنا الشريعة، وتلقينا عنه علومها، تلقينا عنه الصلاة وكيفيتها وعددها، ولم يكن ذلك مبيناً في القرآن، من الذي أخبرنا أن صلاة الظهر أربعاً إلا الرسول صلى الله عليه وسلم؟ من الذي أخبرنا أن صلاة الفجر ركعتان، وصلاة المغرب ثلاث ركعات؟ من الذي أخبرنا أن في كل ركعة سجدتان، وأن في كل سجدة دعاء كذا وكذا؟ لا شك أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي علمنا صفة الصلاة، وعلمنا الطهارة وكيفيتها، وكيفية الغسل وموجباته وما أشبه ذلك. وما دام أنه الذي علمنا ذلك فهو الذي علمنا سنة المسح على الخفين، ونقلها عنه صحابته الذين نثق بهم، والذين نعرف أنهم صحبوه مدة طويلة، وأنهم أخذوا عنه العلوم الشرعية، فنقلوا عنه العلوم الشرعية الفرعية والأصولية نقلاً تاماً، وتثبتوا في نقلها، فلا يتهمون بكذب، ولا يتهمون بنقص ولا زيادة ولا خيانة، فما داموا كذلك فكيف تتوجه إليهم التهم؟ فنحن نقبل هذه السنة كما قبلنا بقية السنن، فما الفرق؟! إذا كنا قبلنا ما نقلوه في العقيدة فكذلك نقبل ما نقلوه في الأحكام، وما نقلوه في الفروع، فهي سنة ثابتة متواترة لا شك فيها عند أهل السنة. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 10 مسألة غسل القدمين في الوضوء الرافضة لا يغسلون القدمين في الوضوء ولو كانتا مكشوفتين، بل يكتفون بمسحهما، ويستدلون بقراءة الجر: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم) وأهل السنة يحملون الجر على أنه للمجاورة، ويستدلون بقراءة النصب {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6] يعني: واغسلوا أرجلكم. أهل السنة يرون غسل القدمين، وأنها تغسل كما تغسل اليدين إلى المرفقين، ويستدلون بالسنة؛ وذلك لأنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ غسل قدميه، ولم ينقل عنه أنه مسحهما وهما ظاهرتان، ولم ينقل عنه المسح إلا على الخفين، أما إذا لم تكن في الخفين فإنه يغسلهما، هذا هو الذي تواتر عنه، وقد رواه عنه الأعداد الكثيرة من الصحابة، ورواه عن الصحابة التابعون، وتلقته الأمة بالقبول قولاً وعملاً، واشتهر ذلك وانتشر فيما بين المسلمين، وجاءت الرافضة فأنكروا ذلك، وقالوا: نقتصر على المسح! وسبب ذلك أنهم لا يقبلون -كما قلنا- أحاديث الصحابة؛ لأنهم في زعمهم كفار ارتدوا بعد الرسول صلى الله عليه وسلم! هذه عقيدهم قاتلهم الله، فهم يكفرون الصحابة! إذاً: أهل السنة عملوا بالسنة المتواترة في المسح على الخفين، وفي غسل القدمين إذا لم يكن عليهما خفان، وخالفهم الرافضة في ذلك. وبكل حال هذه مسألة فرعية ليست من المسائل الاعتقادية؛ وذلك لأن العقائد إنما تكون في الأمور التي هي من الأمور الغيبية وما أشبه ذلك، كأمور الآخرة ونحوها، وأما مسائل الفروع كالصلاة والطهارة وما أشبهها فإنها تسمى فروعاً، ومع ذلك قد تدخل في الأصول، إذا كانت أدلتها قطعية يقينية، مثل أدلة المسح على الخفين فإنها قطعية، فقد ثبت فيها أربعون حديثاً، ووصلت إلى ستة وخمسين بما فيها من الروايات المنقطعة التي وصلت من طرق أخرى، والضعيفة التي جبرت بالتواتر، أو نحو ذلك، فأصبح الدليل يقينياً وليس ظنياً، ثم إن الذين عملوا به واتبعوه من الصحابة هم الذين نقلوا لنا كتاب الله، ونقلوا لنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 11 الأدلة على وجوب غسل القدمين قال الشارح رحمه الله تعالى: [واذا قالوا: لفظ الآية ثبت بالتواتر الذي لا يمكن فيه الكذب ولا الخطأ، فثبوت التواتر في نقل الوضوء عنه أولى وأكمل، ولفظ الآية لا يخالف ما تواتر من السنة، فإن المسح كما يطلق ويراد به الإصابة، كذلك يطلق ويراد به الإسالة، كما تقول العرب: تمسحت للصلاة، وفي الآية ما يدل على أنه لم يرد بمسح الرجلين المسح الذي هو قسيم الغسل، بل المسح الذي الغسل قسم منه، فإنه قال: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ولم يقل: إلى الكعاب، كما قال: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] فدل على أنه ليس في كل رجل كعب واحد، كما في كل يد مرفق واحد، بل في كل رجل كعبان، فيكون تعالى قد أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين، وهذا هو الغسل، فإن من يمسح المسح الخاص يجعل المسح لظهور القدمين، وجعل الكعبين في الآية غاية يرد قولهم، فدعواهم أن الفرض مسح الرجلين إلى الكعبين اللذين هما مجتمع الساق والقدم عند معقد الشراك؛ مردود بالكتاب والسنة، وفي الآية قراءتان مشهورتان: النصب والخفض، وتوجيه إعرابهما مبسوط في موضعه، وقراءة النصب نص في وجوب الغسل؛ لأن العطف على المحل إنما يكون إذا كان المعنى واحداً، كقوله: فلسنا بالجبال ولا الحديد. وليس معنى: مسحت برأسي ورجلي هو معنى مسحت رأسي ورجلي، بل ذكر الباء يفيد معنى زائداً على مجرد المسح، وهو إلصاق شيء من الماء بالرأس، فتعين العطف على قوله: (وأيديكم) فالسنة المتواترة تقضي على ما يفهمه بعض الناس من ظاهر القرآن، فإن الرسول بين للناس لفظ القرآن ومعناه، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي وصلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا معناها. وفي ذكر المسح في الرجلين تنبيه على قلة الصب في الرجلين، فإن السرف يعتاد فيهما كثيراً، والمسألة معروفة، والكلام عليها في كتب الفروع] . هذا يتعلق بغسل القدمين، والإنكار على من يمسح القدمين كالرافضة، فهم يستدلون بقراءة الخفض: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ} [المائدة:6] . و الجواب أننا أيضاً نستدل بقراءة النصب: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) فالقراءتان تفسر إحداهما الأخرى، هذا من جهة. ومن جهة ثانية: أن المسح يطلق على الغسل، فيسمى الغسل مسحاً، تقول العرب: تمسحت للصلاة، يعني: غسلت أعضائي غسلاً خفيفاً، فالأمر بقوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) أي: اغسلوها غسلاً خفيفاً، قيل: إن سبب ذلك: أن القدمين مظنة الإسراف؛ لأنهما قد يحتاجان إلى كثرة صب الماء فيهما، فلأجل ذلك نهي عن الإسراف في صب الماء، فأمر بالغسل الخفيف الذي هو شبيه المسح. ودليل ثالث: وهو أن الله حدد موضع الغسل ونهايته في اليدين وفي الرجلين، ففي اليد قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ، ومعلوم أن التحديد يدل على أنه مغسول، فتغسل اليد إلى المرفق، ثم قال: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] فدل على أنها تغسل إلى الكعبين، حيث ذكر النهاية، ولم يذكر ذلك في الرأس، بل قال: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) ولم يقل: إلى القفا، ولا إلى العنق، ولا إلى الأذن، بل أطلق بقوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) ، فالمسح لم يذكر له تحديداً، والغسل ذكر له تحديداً بقوله: (إلى الكعبين) ، والكعبان: هما العظمان الناتئان في ظاهر القدم، وفي كل رجل كعبان، والرافضة يقولون: إن الكعب هو العظم الذي في المفصل، وهو كعب واحد، يعني: يقولون: إن في كل رجل كعب واحد وهو العظم الذي في المفصل، الذي بين القدم وبين الساق، ولو كان كذلك لقال: إلى الكعاب، كما قال: إلى المرافق، وبكل حال فتفصيل هذه المسألة -كما ذكر الشارح- في كتب الفروع، فلا نطيل فيها، والمسألة ظاهرة جلية والحمد لله. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 12 شرح العقيدة الطحاوية [57] من الفرق التي تخالف أهل السنة فرقة الرافضة، فهم ينكرون السنة ويطعنون في نقلتها، حتى ردوا ما هو متواتر كمسح الخفين، وخالفوا في الإمامة فاشترطوا عصمة الإمام وحصروا الإمامة في اثني عشر رجلاً من آل البيت، لم يتولوا على المسلمين ولا حصل بهم الاستصلاح المزعوم. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 1 مجمل القول في مسألة الولاء والبراء وآثارها كان من جملة ما مر بنا من أمور العقيدة: مسألة المحبة والبغض، والولاء والبراء، وهو أن أهل السنة يحبون أهل الإيمان وأهل التقوى، ويبغضون أهل الكفر والعناد، يحبون أهل الطاعات، ويبغضون أهل المعاصي، وينتج من آثار هذا: الولاء لمن يحبونه، والبغضاء والمعاداة لمن يبغضونه، ويكون الولاء والبراء هو آثار الطاعات وآثار المعاصي. ولا شك أن هذه سمة وصفة مدح الله بها أولياءه، ومدح بها صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم لما ألف الله بينهم، وجمعهم على الإيمان وعلى تقوى الله تعالى؛ تآلفوا فيما بينهم، وصار بعضهم يحب بعضاً ويألف بعضهم بعضاً، ويوالي بعضهم بعضاً، ويقرب بعضهم بعضاً، بل وصفهم الله تعالى بقوله: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] ، وهل هناك وصف أكبر من هذا الوصف؟! (يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) يقدمون إخوتهم في ذات الله تعالى على مصالحهم الدنيوية، ويقدمونهم على شهواتهم الدنيوية، فيؤثر أحدهم أخاه بالطعام ويبيت جائعاً! ويؤثره بالشراب ويبيت ضمآن، ويؤثره بالكسوة الجميلة، ويؤثره بالمكان المريح، ويؤثره بالمركب اللين، وذلك من باب المحبة التي رسخت في قلوبهم، فهم لما أحبوا الله تعالى أحبوا أولياءه، وأحبوا من يحبه، ومحب المحبوب محبوب، هكذا وصفهم الله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] مع تباعدهم في الأرحام، وتباعدهم في الأنساب، وتباعدهم في البلاد، ولكن جمعهم وصف الإيمان، فتآلفت قلوبهم، ولو كانوا قبل ذلك متعادين ومتقاتلين ومتناحرين، فقبل الإسلام كان بعضهم ينهب بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً، وذلك لأنه لم يوجد إيمان يؤلف بينهم، ولم يوجد إيمان يجمع بينهم. فلما مَنَّ الله عليهم بهذا الإيمان تآلفوا وتقاربوا، وتآخوا، وهذا من الله تعالى لا من خلقه، ولهذا امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بجمعهم عليه فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:62-63] ، فتأليف القلوب هو اجتماعها وتحابها وتوادها، ولو كانوا متباينة أنسابهم، فبعضهم من الحبشة كـ بلال، وبعضهم من الروم كـ صهيب، وبعضهم من الفرس كـ سلمان، وبعضهم من العرب، وبعضهم من العجم، ولكن جمعهم الوصف الوحيد الذي هو الإيمان بالله تعالى، فلنا بهم قدوة، فعلى كل المسلمين في كل زمان وفي كل مكان أن يتآلفوا فيما بينهم، ويتوادوا ويتحابوا. ومن آثار التواد لأجل الإيمان: البغض لأجل الكفر والنفاق، وذلك لأن الكفر والإيمان ضدان لا يجتمعان، فلا يجتمع أن تحب الله وتحب أعداءه، فإذا أحببت الله أحببت أولياءه أهل طاعته، وإذا أحببت أولياءه فلابد أن تبغض أعداءه، ولابد أن تبغض من يبغضهم الله، وتقاطعهم وتعاديهم، وتبتعد عنهم كل الابتعاد، وذلك لأن ربك الذي أنعم عليك يبغضهم، وأنت تبغضهم لأجل ذلك، ومبغض المبغوض عند المحبوب مبغوض، الذين يبغضهم محبوبك لابد وأن تبغضهم. وهذا ما جرى للصحابة ومن بعدهم، فإن الله تعالى مدحهم فقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] لا تجدهم يوادون أهل المحادة، لا تجدهم إلا يباعدونهم ويبغضونهم، وتجدهم قد مقتوهم وحقروا شأنهم، وكرهوا مجالستهم، وقطعوا الصلة بهم، ونفروا ونفَّروا منهم، وأذلوهم وحرصوا على إهانتهم بكل ما يستطيعون، وإذا استطاعوا أن يقاتلوهم قاتلوهم ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم أو عشيرتهم، ضرب الله مثلاً بهؤلاء الذين هم أقرب الأقارب، فإذا كان الله تعالى يبغضهم لأجل كفرهم، ولأجل معصيتهم، ولأجل خروجهم عن الاستقامة، فإن المؤمن يبغضهم، ولو كانوا أقارب، لأجل الخروج عن طاعة الله. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 2 مجمل القول في مسألتي المسح على الخفين وغسل القدمين وكذلك مرت بنا مسألة فرعية، وذكرنا أنها أدخلت في الأصول لأجل أن الخلاف فيها مع المخالفين في الأصول، وهي مسألة المسح على الخفين، وذلك لأن الرافضة أنكروا المسح على الخفين، وصاروا يمسحون على القدمين مكشوفتين، فتركوا سنة وارتكبوا بدعة. ولما كانوا مخالفين في العقيدة، مخالفين في محبة الصحابة رضي الله عنهم بل يبغضونهم! وبينما يغلون في بعض الصحابة ويعبدونهم، فقد ترتب على ذلك المخالفة في المسح على الخفين، فذكرت في العقائد. والرافضة كانوا مخالفين لنا في هذه السنة التي هي جواز المسح على الخفين، فكانوا لا يرون ذلك ولا يعتقدونه، وأضافوا إلى ذلك بدعة، وهي أنهم يمسحون على القدمين المكشوفتين! فهم لا يقبلون السنة، ولا يعملون بالأحاديث الصحيحة التي في البخاري ومسلم، بل لا يعترفون بـ البخاري ومسلم، ولا بأكثر الأسانيد التي ذكرت في هذه الكتب. فلما كان الأمر كذلك لم يقبلوا هذه السنة، مع أنها سنة مأثورة متواترة راوها عن النبي صلى الله عليه وسلم جمع غفير، ورواها عن الصحابة أكثر وأكثر، واشتهرت في عهد التابعين وأتباع التابعين، وعمل بها أهل السنة في كل الأمصار وفي كل البلاد، وعلى اختلاف الطبقات، وانفردت الرافضة بأن أنكرت هذه السنة رغم شهرتها، فلأجل ذلك صار الذين ينكرونها محل سوء ظن، وكما أن ابن المبارك يقول: إن الرجل ليسألني عن حكم المسح على الخفين فأسيء به الظن، يعني: أتهمه بأنه على مذهب الرافضة، وهذا هو المعمول به: أنه لاينكرها إلا هؤلاء الرافضة، فلا التفات إليهم. أما أحكام المسح على الخفين فمذكورة في كتب الأحكام. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 3 الجهاد والحج ماضيان وإن جار الأئمة الجزء: 57 ¦ الصفحة: 4 الرد على الرافضة في خرافة الإمام المنتظر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين، برهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما) . يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الرافضة، حيث قالوا: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضى من آل محمد صلى الله عليه وسلم، وينادي مناد من السماء: اتبعوه! وبطلان هذا القول أظهر من أن يستدل عليه بدليل، وهم شرطوا في الإمام أن يكون معصوماً، اشتراطاً بغير دليل، بل في صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلت: يا رسول الله! أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعته) ، وقد تقدم بعض نظائر هذا الحديث في الإمامة، ولم يقل: إن الإمام يجب أن يكون معصوماً. والرافضة أخسر الناس صفقة في هذه المسألة؛ لأنهم جعلوا الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم! الذي لم ينفعهم في دين ولا دنيا! فإنهم يدعون أنه الإمام المنتظر، محمد بن الحسن العسكري الذي دخل السرداب في زعمهم سنة ستين ومائتين أو قريباً من ذلك بسامراء، وقد يقيمون هناك دابة، إما بغلة وإما فرساً ليركبها إذا خرج! ويقيمون هناك في أوقات عينوها لمن ينادي عليه بالخروج: يا مولانا اخرج! يا مولانا اخرج! ويشهرون السلاح ولا أحد هناك يقاتلهم! إلى غير ذلك من الأمور التي يضحك عليهم فيها العقلاء! وقوله: (مع أولي الأمر برهم وفاجرهم) ؛ لأن الحج والجهاد فرضان يتعلقان بالسفر، فلابد من سائس يسوس الناس فيهما، ويقاوم العدو، وهذا المعنى كما يحصل بالإمام البر يحصل بالإمام الفاجر] . الجزء: 57 ¦ الصفحة: 5 وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر ما أقاموا الصلاة هذا يتعلق بالإمامة، وهي الولاية العامة، وذلك لأن أهل السنة يرون السمع والطاعة للأئمة، وقد تقدم الاستدلال على ذلك في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (اسمع وأطع وإن جلد ظهرك وأخذ مالك) ، وقوله: (عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، يقودكم بكتاب الله) . وفي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم) ، يعني: تدعون لهم ويدعون لكم، عبر بالصلاة عن الدعاء (وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم) ، يعني: تدعون عليهم (ويلعنونكم، قال: قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم؟) يعني: نخالفهم وننبذ إليهم الطاعة، (قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) ، أي: ما داموا يقيمون فيكم الصلاة، ويبنون المساجد، ويعينون الأئمة والمؤذنين، ويرفع صوت الأذان في كل وقت، ويجتمع المصلون ويؤدون الصلاة جماعة؛ وذلك لأن الصلاة هي شعار الإسلام، وشعار المؤمنين. فهذه الأدلة ونحوها تدل على وجوب السمع والطاعة للأئمة، ولو كان فيهم شيء من النقص، أو حصل فيهم شيء من الخلل والمعصية؛ وذلك لأن الاجتماع على الأئمة فيه مصلحة للأمة؛ لأن ترك الاجتماع والتفرق والفوضى والاختلاف سبب للنهب والسلب، والضرب والقتل، فيكون الضعيف نهبة للقوي، وليس هناك من يأخذ له حقه، ولا تكون هناك إقامة حدود، ولا انتصار لمظلوم إلا بهذه الولاية. فهذا هو السبب في أنه أمر بالسمع والطاعة لولاة الأمور، بل حرص على أن يكون في كل طائفة أمير يرجعون إليه، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج ثلاثة في سفر أو برية فليؤمِّروا أحدهم) ، أو كما قال، وذلك حتى يرجعوا إليه ويستشيروه، كل ذلك حث للأمة على أن يسمعوا ويطيعوا لولاة أمورهم. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 6 الإمارة في الحج وقد تقدم شرح حقوق الأئمة وما يجب لهم، ولكن ذكر هنا أن الجهاد والحج ماضيان مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، كما وردت بذلك السنة، وكما عمل بذلك السلف الصالح، فكانوا يحجون ويكون أمير الحج أحد الولاة، وقد يكون سفيهاً، وقد يكون معه شيء من النقص والتقصير، وقد يؤخر الصلاة عن وقتها، وقد يستمع شيئاً من اللهو وغناء القينات ونحو ذلك، وقد يتعاطى شيئاً من الأشربة المكروهة كالنبيذ ونحوه، ولكن مصحلة جمعه لهؤلاء الحجاج وحمايته لهم عن قطاع الطريق مصلحة كبيرة لا يستهان بها. كانوا في الأزمنة المتقدمة من عهد الخلفاء إلى عهد قريب، أعني: قبل خمسين أو ستين سنة لابد أن يكون للحج أمير، فكل أهل جهة يحج بهم أمير يتأمر عليهم، وإذا وصلوا إلى مكة تأمر على الجميع واحد يرجعون إليه، فأهل العراق يحجون مع أمير خاص بهم، يحميهم عن قطاع الطريق إلى أن يصلوا إلى مكة، وكذلك أهل الشام وأهل مصر وأهل اليمن وأهل خراسان وأهل البحرين، وأهل عمان وأهل المناطق النائية، فكان يجتمع أهل كل جهة مئات وألوف ويسيرون جميعاً، ولا يتفرقون مخافة قطاع الطريق، فإذا وصل هؤلاء وهؤلاء إلى مكة كان الأمير واحداً، هو الذي يؤذن فيهم بوقت الوقوف في عرفة، ويؤذن فيهم بوقت الانصراف من عرفة، ويؤذن فيهم بوقت رمي الجمار، وكذلك بوقت الخروج من مزدلفة، وهكذا، ويسيرون إذا سار، وينزلون إذا نزل، ويقتدون به، ويقيم لهم الأحكام ويعلمهم المناسك. وفي حديث عن ابن عمر أنه سئل: متى نرمي الجمار؟ فقال: إذا رمى إمامك، يعني: انتظر حتى يرمي ذلك الإمام، فإذا رمى فإن ذلك وقت الرمي، فدل على أنهم لا يبدءون برمي الجمار إلا إذا رمى أئمتهم، هكذا كانوا. وفي هذه الأزمنة لما أمنت البلاد، وتقاربت الطرق وسفلتت، وقطع دابر قطاع الطريق ونكبوا، ولم يبق هناك من يعترضهم، إلا من لا يؤبه لهم، وصارت الطرق آمنة، أصبح الناس يحجون أفراداً، وجاءت هذه الناقلات الجديدة: الحافلات والسيارات والطائرت والبواخر ونحوها، فسهلت للناس الطرق، فأصبح لا حاجة إلى استصحاب الأمير، ولا أن يجتمعوا كلهم، فهذا هو السبب في التساهل في أمر الولاية، حتى في المناسك أصحبوا يعرفون المناسك، ويعرفون أماكنها، وقد حددت وحدد أوقاتها، وما أشبه ذلك، فلم يكن هناك ضرورة إلى إقامة أمير في الحج. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 7 ضرورة الإمارة في الجهاد وضرورة طاعة الأمير وإن كان مقصرا ً أما بالنسبة للجهاد فمعلوم أنه يستدعي أميراً ذا حنكة ومعرفة بطرق السير، وكذلك بأوقات القتال وبمناسباته، فلأجل ذلك ما كانوا يغزون إلا ومعهم أمير قد جَرب وقد جُرب، وقد عرف الطرق وعرف القتال، وقد صارت له فطنة وتجربة قوية، فكانت كل سرية وكل جيش يخرج للغزو -السرية: ما دون الثلاثمائة، والجيش ما فوق ذلك- فلا يخرج إلا ومعه أمير، فيرفق بضعيفهم، ويزجر متخلفهم، وينتظر منقطعهم، هذا لما كان السير في ذلك الوقت على الرواحل التي كان سيرها بطيئاً، وكانوا يحتاجون إلى أن يتأنوا في سيرهم، فكانوا لابد يؤمروا واحداً عليهم، ثم هو الذي يحدد لهم وقت القتال، وكذلك يعين لهم الأماكن التي يقيمون فيها، ويقسمهم أقساماً، ويجعل ميمنة وميسرة، وقلباً، ويؤجج فيهم بالحملة على القتال عندما يأذن لهم، وينصب لهم الرايات والأعلام. لم يكن بد من أن يكون ذلك الأمير ذا تجربة، وقد يكون عند الأمير شيء من الخلل، أو معه نقص أو عيب، أو يقترف شيئاً من المعاصي، أو يترك شيئاً من الطاعات، ولكن لا يكون ذلك العمل الذي يعمله كفراً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم فيه من الله برهان) ، يعني: فلا تسمعوا ولا تطيعوا ولا تقاتلوا معهم والحال هذه، فأمر بأن يقاتل مع هؤلاء ولو كانوا ذوي معصية أو خلل أو نقص، وبكل حال فقد أمرنا بأن نجاهد معهم، ونصبر عليهم. وفي هذه الأزمنة قد يقال: إنها تغيرت الأحوال، ولكن مع ذلك لابد لكل غزو أو لكل مرابطين من رئيس يرأسهم، يمتثلون إرشاداته وأوامره، ويقفون إذا أوقفهم ويرابطون، ولا ينصرف أحد منهم إلا بعدما يأذن له، فهذه الأمور لابد من اعتبارها. في هذه الأزمنة قد يقال: خفت تلك الأمور التي كانت قديماً؛ وذلك لأن الأسلحة تغيرت عما كانت عليه، فقد كان القتال قديماً مواجهة بالسيف وبالرمح، وبالنبال والسهام وما أشبهها، وأما الآن فالأسلحة قد يكتفى بإرسالها من بعيد، كالصواريخ والقنابل وما أشبهها، ولكن بكل حال لا نزال بحاجة إلى أمير يطاع في مثل هذه الأمور، هذا هو السر في الأمر بطاعة الولاة، وفي الأمر بالحج معهم والغزو معهم، ولو كان معهم شيء من الخلل، أو شيء من النقص. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 8 حصر الرافضة للإمامة في اثني عشر إماما ً يقول الشارح: إن المؤلف أتى بهذا الكلام رداً على الرافضة، وذكر أن الرافضة يعتقدون أنه لا يجاهد أحد إلا مع إمام معصوم، ولا يحج إلا مع إمام معصوم، وهم لا يزالون على هذه العقيدة إلى يومنا هذا، لدرجة أنهم لا يصلون خلفنا؛ لأنهم يرون أن الصلاة لا تصح إلا خلف معصوم، أو خلف من يتمسك بعقيدة ذلك المعصوم! معلوم أن الرافضة اعتمدوا أن أئمتهم الذين يرجعون إليهم من أهل البيت، وهم اثنا عشر، وقد انقطعوا، وأولهم الإمام علي، وفي نظرهم أنه هو الإمام الذي له الإمامة، وأن خلافة أبي بكر باطلة! لأنه مغتصب للخلافة! وكذلك خلافة عمر وعثمان، ويدعون أنهم أخذوا ما لا يستحقونه، ويسبونهم ويدعون أنهم ظلمة! وكذلك يخونون الصحابة الذين بايعوهم وأقروهم هذه المدة، مع أن من بينهم علياً وأبناء علي رضي الله عنه، فهذا معتقدهم. ثم يجعلون بعد علي الحسن، ثم بعد الحسن الحسين، ثم علي بن الحسين وهو زين العابدين، ثم محمد الباقر، ثم جعفر الصادق، ثم علي الرضا إلى آخرهم وهو محمد بن الحسن العسكري. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 9 السرداب ومهدي الرافضة لما أن الحسن العسكري لم يكن له أولاد وكان عندهم أن الإمامة في ذرية علي، كل واحد منهم يخلفه ولده، فلم يكن للحسن العسكري ولد، فلما توفي ولم يكن له ولد أوحى إليهم الشيطان وقال: لا يمكن أن ينقطع الأمر، وأن لا يكون لهم أولاد يخلفونهم، فإذاً: الثاني عشر من أئمتهم هو محمد بن الحسن العسكري، أين هو؟! دخل سرداب سامراء ولابد أن يخرج! يدعون أنه دخل وهو طفل عندما ولد، أو بعد ما ترعرع، وأنه لا يزال في ذلك السرداب، وأنهم ينتظرونه من سنة مائتين وستين أو نحوها، وهم ليس لهم إمام، مع أنهم يقولون: لا تصلح الدنيا إلا بإمام، ولابد أن يكون ذلك الإمام معصوماً، وأن الإمامة لا تخرج عن ذرية علي، ثم ذرية الحسين، ثم ذرية زين العابدين، ثم ذرية الصادق والباقر والرضا ونحوهم إلى الحسن، فلابد أن يكون للحسن ولد يخلفه. وأهل العلم والمؤرخون يقولون: إن الحسن العسكري لم يخلِّف وإنه مات وليس له ولد، لكن هؤلاء لما كانت العقيدة راسخة عندهم وأن نسله لا ينقطع جاءهم الشيطان وقال: إن له ولداً، ولكنه دخل هذا السرداب، ثم لابد أن يخرج فانتظروه، فصاروا ينتظرونه. والآن له نحو ألف ومائة وخمسين سنة، وهم لا يزالون ينتظرونه! وكانوا في تلك المدة القديم يُجلسون واحداً ينتظره، ويصيح: اخرج يا مولانا! اخرج يا مولانا! وليس عنده أحد، وقد جعلوا عند طرف السرداب فرساً، وجعلوا عليها سرجاً، وجعلوا مع الحراس الذين يحرسونها سيوفاً حتى يحمونه إذا خرج! ويدعون أنه سوف يخرج ويركب الفرس، ويذهب إلى مكانهم، ويقتل أعداءهم كما يزعمون، وينتصر لهم ممن خالفهم، ولا يزالون منذ ألف ومائة وخمسين سنة وهم على هذه الطريقة إلى اليوم! قبل خمسة أشهر أو نحوها جاءنا بعض الإخوان ومعه أوراق أخذها من الشيعة الذين أسروا في حرب الخليج، وأودعوا في السجون، فوجدوا معهم أوراقاً كلها غلو ومبالغة في التشيع، وإذا بواحدة من الأوراق فيها ذكر الأئمة الاثني عشر: الإمام علي، والإمام الحسن، والإمام الحسين، إلى أن قال: والإمام محمد بن الحسن العسكري عجل الله بخروجه، فلا يزالون يُؤمِّلون أنه سوف يخرج، ولا يزالون ينتظرونه! وفي وقت الشارح -في القرن الثامن- يذكر أنهم يجعلون عند السرداب فرساً، والآن لا أدري هل استبدلوا بالفرس سيارة أو لا يزالون ينتظرونه كما كانوا! الله أعلم. ولا شك أن هذا غاية الحمق وغاية الضلال، ولما ذكر ابن القيم رحمه الله في آخر كتاب: المنار المنيف حالتهم، وأن محمد بن الحسن العسكري هو منتظرهم، وأنهم لا يزالون ينتظرونه أنشد قول الشاعر: ما آن للسرداب أن يلد الذي حملتموه بزعمكم ما آنا فعلى عقولكم العفاء فإنكم ثلثتم العنقاء والغيلانا أي: هذا السرداب الذي تحرسونه ما آن له أن يلد ولدكم؟! ما آن أن يخرج هذا الولد الذي جعلتموه حاملاً به؟! ولابد للحامل أن تلد، فمتى يلد هذا السرداب؟! ومتى يخرج هذا الولد الذي جعلتموه حاملاً به؟! ولا شك أن هذا هو غاية السفه، وغاية الضلالة. يشترطون أن يكون للدنيا إمام معصوم، ويزعمون أن الدنيا لا تخلو من إمام معصوم، وأن ذلك الإمام هو الذي يدبر أمور الناس، إمامكم يا معشر الرافضة لم ينفعكم منذ ألف ومائة وخمسين سنة. ولما استولى عليهم -قريباً- الخميني الذي سموه: آية الله الخميني قالوا له: ننتظر أن يخرج المنتظر الذي هو المهدي المنتظر يعني: العسكري، يقولون: إنه قال: نحن نخلفه حتى يخرج، نحن نعمل وندبر الأمور، فخدعهم بذلك، وادعوا أنه خليفة عن المهدي المنتظر، فصاروا يعظمونه ويطيعونه ويقدسونه تقديساً يخرج عن المعتاد، كما ذكر لنا كثير ممن صحبهم، أنه عندهم كأنه رسول، بل قد يشرع لهم ويأمرهم بأوامر لا يأمر بها إلا الرسل، أو من يتلقى عن الرسل. وبكل حال فقد خالفوا في هذا الأمر، وهو أنهم لا يطيعون للأئمة، ولأجل هذا فإنهم في كل زمان لا يثبتون خلف أئمة الزمان، بل كثيراً ما يخرجون عن الطاعة، وينبذونها ويقاتلون الأئمة والخلفاء، ويفعلون ذلك كثيراً، إلى أن جاء هذا الوقت الذي تفرقت فيه الولايات، واستقلت كل دولة في جانبها وفي جهتها، فصار كل من تولى بلداً سموه رئيساً وسيداً وزعيماً، وصار يتصرف فيمن تولى عليه من رافضة أو من غيرهم. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 10 شرح العقيدة الطحاوية [58] يجب الإيمان بالملائكة، وللإيمان بهم ثمرات كثيرة، لاسيما الإيمان بالملائكة الحفظة، وذلك أن المرء يراقب الله وينتهي عن الإثم إذا استشعر من معه من ملائكة الله. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 1 الإيمان بالملائكة وما وكلوا به من أعمال قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين) . قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12] ، وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17-18] . وقال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ، وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] . وقال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] ، وقال تعالى: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} [يونس:21] . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين كانوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وفارقناهم وهم يصلون) ، وفي الحديث الآخر: (إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم) ، وجاء في التفسير: اثنان عن اليمين وعن الشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه واحد من ورائه وواحد أمامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل بدلاً حافظان وكاتبان. وقال عكرمة عن ابن عباس: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه] . الجزء: 58 ¦ الصفحة: 2 الإيمان بالملائكة من الإيمان بالغيب نؤمن بالكرام الكاتبين وبالملائكة الحافظين كما أخبرنا الله، وإن كنا لا نراهم، فالإيمان بهم من أمر الغيب؛ وذلك لأن الله تعالى أخبر عن أشياء غيبية فنحن نصدق بها ونقبلها، ويكون لتصديقنا آثار. فالملائكة مخلوقون كما أخبرنا الله، وإن كنا لا نراهم، يجلس أحدهم أو يقوم أحدهم أمامنا أو خلفنا أو عن جانبينا فلا نراه، كما أخبرنا أيضاً بأن الشياطين يكونون معنا ولا نراهم، بل أخبر بأن الشيطان يلابس الإنسان، ويجري منه مجرى الدم، ويوسوس في صدور الناس. فالإيمان بالملائكة من الإيمان بالغيب الذي مدح الله أهله بقوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2-3] ، وذلك لأنه إيمان بشيء خفي، ولكن العمدة فيه خبر الله تعالى، وخبر الله صدق وحق، وكذلك خبر الرسل فنؤمن بما أخبروا به ونتقبله، وإن كان ذلك خلاف ما نألفه ونعرفه، وإن أنكر ذلك من أنكره، فلا نلتفت إلى إنكار من أنكر. فالذين أنكروا وجود الشياطين أو أنكروا وجود الملائكة، أو أنكروا الأرواح، أو أنكروا وجود الجن، أو نحو ذلك؛ هؤلاء بلا شك لم يتسع فهمهم للأمور الغيبية، ولا للأخبار السماوية، ولا للقدرة الإلهية، فلأجل ذلك لم يتجاوزوا ما يدركونه بالحس، فلا يؤمنون إلا بما أدركوه بالإحساس، فهؤلاء إيمانهم ناقص. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 3 وظيفة الملائكة الكرام الكاتبين والحاصل أن الكلام على الملائكة الكرام الكاتبين، قال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:10-11] حافظين: يحفظونكم، وكاتبين: يكتبون أعمالكم. وكذلك قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:16-18] ، الرقيب والعتيد: هما الملكان اللذان يكتبان الحسنات والسيئات، أحدهما عن اليمين يكتب الحسنات، والثاني عن الشمال يكتب السيئات، وذكروا أن الذي على اليمين أمير على الذي على الشمال، فإذا عمل سيئة قال له: لا تكتبها رجاء أن يتوب ويستغفر، فإذا استمر عليها كتبت سيئة، وإذا عمل الحسنة كتبها صاحب اليمين عشر حسنات، كما ورد ذلك في الحديث وفي القرآن. فهؤلاء هم الحفظة للأعمال وللأقوال، يكتبون كل ما يتكلم به، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} [ق:18] فما من لفظة يُتلفظ بها إلا وتكتب في سجل هؤلاء الملائكة كتابة الله أعلم بها، قد تكون بالأحرف، وقد تكون بغيرها، فلهم قدرة على الكتابة ولو كانت ما كانت. وكذلك يكتبون كل الأعمال، ولذلك وصفهم بقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:12] ، أي: كل ما تفعلونه وكل ما يخطر ببال أحدكم، أو يدور في خياله فإنه مكتوب. وكيف يكتبون أعمال القلب؟ يطلعهم الله على أعمال القلوب، فالأعمال التي تكنها القلوب يثاب عليها العبد أو يعاقب، فيثاب مثلاً على النصيحة، ويعاقب على الحسد والغل والغش، وهو من الأعمال القلبية، ويثاب على الإيمان الذي هو التصديق الجازم، ويعاقب على النفاق الذي هو الشك والريب، وهي من أعمال القلوب، فلابد أن الملائكة تكتبها لقوله: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:12] ، فهؤلاء هم الكتبة، ويسمون أيضاً: الحفظة للأعمال. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 4 وظيفة الملائكة الحافظين وهناك ملائكة يحفظون العبد عن الأخطار والأضرار التي يتعرض لها، حتى يأتي الأمر الذي قدره الله فيخلون بينه وبينه، وهم المذكورون في سورة الرعد في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] أي: يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء الأمر الذي قدره الله فإنهم يخلون بينه وبينه، أما الأمور التي لم يقدرها الله عليه فإنهم يدفعون عنه الشرور، ويدفعون عنه الأضرار، ويدفعون عنه الاعتداءات التي ما كتبها الله تعالى، فهم أربعة: ملكان عن اليمين وعن الشمال يحفظون أعماله، وملكان أمامه وخلفه يحفظون جسده مما لم يكتب عليه، فيبيت بين أربعة، ويظل بين أربعة، فيوكل بكل إنسان ثمانية: أربعة بالليل وأربعة بالنهار، وهؤلاء هم الذين يتعاقبون. وفي الحديث الذي تقدم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون) ، فهذا من حفظ الله تعالى لأعمال عباده، فالله تعالى قادر على أن يحفظ كل أعمال العباد بدون وكيل وبدون كتابة، ولكنه أراد بذلك قيام الحجة على العبد حتى لا يقول: إني ظلمت، أو إني ما عملت كذا وكذا، بل يجد ما عمله كله مدوناً، فينشر له سجل بأعماله: حسناته وسيئاته، ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14] . الجزء: 58 ¦ الصفحة: 5 كل إنسان وكل به قرين من الجن وقرين من الملائكة قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [وروى مسلم والإمام أحمد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي، ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير) ، الرواية بفتح الميم من (فأسلمَ) ، ومن رواه (فأسلمُ) برفع الميم فقد حرف لفظه، ومعنى فأسلم أي: فاستسلم وانقاد لي في أصح القولين؛ ولهذا قال: (فلا يأمرني إلا بخير) ، ومن قال: إن الشيطان صار مؤمناً فقد حرف معناه فإن الشيطان لا يكون مؤمناً. ومعنى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] قيل: حفظهم لهم من أمر الله، أي: الله أمرهم بذلك، يشهد لهذا قراءة من قرأ: (يحفظونه بأمر الله) . وقد ثبت بالنصوص المذكورة أن الملائكة تكتب القول والفعل، وكذلك النية؛ لأنها فعل القلب، فدخلت في عموم {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:12] ، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها عليه سيئة، وإذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشراً) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قالت الملائكة: ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به، قال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرائي) ، خرجاهما في الصحيحين واللفظ لـ مسلم] . الحديث الذي بدأ به الشارح فيه بيان أن الإنسان موكل به ملائكة يأمرونه بالخير، وهناك شياطين يأمرون الناس بالشر، يسمى هذا قرين وهذا قرين، الجني الذي هو الشيطان قرين سوء، والملك قرين خير، ورد في بعض الأحاديث: (إن للشيطان بقلب الإنسان لمة، وللملك لمة، فلمة الشيطان إيعاد بالشر، ولمة الملك إيعاد بالخير) ، أو كما في الحديث. إبليس من أهل النار، ومن المعذبين بالنار، وهو مخلوق من النار، والشياطين خلقوا من النار، فأقدم على العذاب، وأقدم على اللعنة، وأقسم أن يغوي جنس الإنسان، وأن يحرص على أن يخرجهم من الإيمان، أقسم بذلك وقال: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} [النساء:119-120] . فهذا الشيطان عدو للإنسان، ليس من جنس بني آدم أحد إلا وقد وكل به أو سلط عليه شيطان، ووكل به ملك، فالملك يأمره بالخير، والشيطان يأمره بالشر. الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أنت يا رسول الله مثلنا يعني: هل وكل بك ملك وشيطان؟ قال: نعم، ولكن الشيطان الذي وكل بالنبي صلى الله عليه وسلم أعانه عليه، فقال: (أعانني الله عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير) ، وليس معناه: أنه أصبح مسلماً، بل المراد أنه أذعن واستسلم، ولم يعد يأمر إلا بالخير؛ وذلك لأن الله تعالى عصم نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يتسلط عليه الشيطان، فأعانه عليه، كما أن الله تعالى سخر الشياطين لسليمان أحد أنبياء الله تعالى، وذللهم له، فصاروا يعملون عنده، يقول تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص:37-38] سخرهم الله لسليمان، وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فذلل الله له ذلك الشيطان فلم يعد يأمره إلا بخير، أما جنس بني آدم فكل إنسان لابد أن يتسلط عليه هذا الشيطان ويوسوس له، فإذا رزقه الله الإيمان، ورزقه قوة اليقين، فإن تلك الوساوس التي يوسوس بها لا تبقى في قلبه، ولا يصدق بها، بل ينكرها ويدفعها، وهذا حقيقة المؤمن الصحيح الإيمان، ثم يعوضه الله أن الملك الذي هو قرينه يثبته، ويذكره، وينشطه، ويدفعه ويدعوه إلى الخير، ويحثه عليه، فيقوى الجانب الإيماني، وإذا قوي الجانب الإيماني عزم على الأعمال الصالحة، وترك الأعمال السيئة، فهذا هو المؤمن القوي، أما الذي إيمانه ضعيف فإن الشيطان يتقوى عليه، وتتمكن وسوسته من قلبه، وتصده عن الهدى، وتوقعه في الردى، ولا يطيع نصح الناصحين، ولا ينيب إلى لمة الملك، ولا يلتفت إليها، فيبقى بعيداً عن الخير، مقبلاً على الشر، فهكذا كل إنسان إما أن يكون إيمانه ضعيفاً فيقوى عليه قرين السوء وهو الشيطان، وإما أن يكون إيمانه قوياً فيقوى عليه قرين الخير وهو الملك. والقوة والضعف ليست بالقوة البدنية، ولكنها القوة الإيمانية، القوة قوة الإيمان، كون الإيمان راسخاً في القلب، إذا جاءته وساوس الشيطان اضمحلت، وإذا جاءته تثبيتات الملك تمكنت وقويت، فهذا هو السبب في انقسام الناس إلى من يكون عدواً لله ومن يكون ولياً لله، من يكون ولياً للشيطان ومن يكون ولياً للرحمن، فأولياء الرحمن هم الذين أطاعوا الله تعالى، وأطاعوا رسله، وصارت الملائكة الذين معهم يرشدونهم إلى الخير، فيتبعونهم، وأولياء الشياطين هم الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 6 الإيمان بالملائكة الحفظة الإنسان معه ملك، ومعه شيطان، والمراد بالملك: جنس الملائكة، فيكون الإنسان معه ملائكة يدعونه إلى الخير ويحثونه عليه، وملائكة يحفظونه، وملائكة يكتبون أعماله. الملائكة الذين يحفظونه هم الذين يقول الله فيهم: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] وفسرها بعض المفسرين بقوله: يحفظونه بأمر الله، أي: يحفظونه بأمر الله امتثالاً لأمر الله تعالى، فإذا جاء القدر الذي قدر الله عليه خلوا بينه وبينه. ثم هؤلاء الملائكة الذين هم الحفظة يكتبون السيئات والحسنات، وسمعنا الحديث المشهور في الصحيح، الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن من كرم الله وفضله الواسع على عباده، أن الذي يهم بحسنة ولا يعملها يكتبها الله حسنة، والذي يهم بها ويعملها يكتبها عشراً، والذي يهم بسيئة ولا يعملها يكتبها الله حسنة، وإذا هم بالسيئة وعملها كتبها الله سيئة واحدة بدون مضاعفة، وإذا رزقه الله توبة منها محيت عنه لتوبته، وإذا أصر عليها وعمل سيئة إلى جانب سيئة وإلى جانب سيئات أخرى تكاثرت عليه، وتراكمت عليه، وأصبح مثقلاً بالسيئات، ولكن قد أخبر الله تعالى بأنه يمحوها بالتوبة ويمحوها بالحسنات، فقال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) يعني: متى وقعت في سيئة فأتبعها بحسنة، إما حسنة التوبة وإما حسنة العمل الصالح وإما غير ذلك. وقد تكلم العلماء على هذا الحديث، وبينوا المراد منه، وأطالوا الكلام في ذلك، وملخص ما ذكروا أن الذي يهم بحسنة ثم يتركها عجزاً أو تعباً أو نحو ذلك يكتبها الله له حسنة وإن لم يعملها، هم مثلاً بأن يتصدق على مسكين، ولكن لم يجد في ذلك الوقت شيئاً، وفاتت حاجته، يكتب الله له كأنه تصدق، يكتبها له حسنة، هم مثلاً أن يقوم في آخر الليل للصلاة، ولكن غلبه النوم، أو الكسل، أو التعب، ولم يتيسر له القيام، يكتب الله له كأنه قام، ويكتب له بذلك حسنة، فإذا يسر الله له فتصدق أو صلى أو صام، أو جاهد، أو ذكر الله، أو قرأ فإن الحسنة بعشر أمثالها، فضلاً منه سبحانه، فيكتب الدرهم بعشرة دارهم، وتكتب الركعة بعشر ركعات، والمراد بهذا في الأوقات العادية، وقد تضاعف أضعافاً أخرى في أوقات أخرى، هذا بالنسبة للحسنات، أما بالنسبة للسيئات فإذا هم بالسيئة ولكن تذكر أنها سيئة، وتذكر عقوبتها، وتذكر الإثم، وتذكر آثارها على قلبه، وآثارها على سيرته، وآثارها في دنياه وآخرته، فعند ذلك تركها من جراء الله، يقول في الحديث: (إنما تركها من جرائي) ، فهذا يكتب له حسنة، ما عمل سيئة، ولا عمل حسنة، ولكنه هم بسيئة ثم تذكر فخاف الله تعالى فتركها، يكتب له بهذا الترك حسنة، يقول الله: (إنما تركها من جرائي) . أما إذا غلبته نفسه وعمل تلك السيئة كتبها الله بمثلها، والسيئات تتراكم، سيئات النظر، وسيئات السمع، وسيئات الكلام، وسيئات الأكل والشرب، وسيئات المكاسب، لا شك أنها تتراكم، وبكل حال فإذا عملها كتبها الله بمثلها حتى يتوب منها. أما إذا تركها عجزاً، فبلا شك أنه يأثم على نيته، فلو مثلاً هم بزنا، وبذل الأسباب، وجاء إلى المكان الذي هو معد للزنا أو نحو ذلك، وحاول فتح الأبواب، وحاول الصعود مع السلالم أو مع الحيطان، ولكنه لم يجد منفذاً، أو عثر عليه الحرس، وقبضوا عليه وطردوه؛ فمثل هذا يجازى على فعله؛ وذلك لأنه ما تركها خوفاً من الله، وإنما تركها عجزاً، وكذلك لو هم بسرقة ولكنه ما قدر، حاول أن يكسر الأبواب، حاول أن يفتح الأقفال ولكنه ما قدر على ذلك، فهذا تكتب عليه سيئة، وكذلك لو هم بحسنة ولكن دعته نفسه إلى تركها تهاوناً ليس عجزاً، فمثل هذا أيضاً قد لا يثاب على تركه للحسنة، ولا يكتب له حسنة، وفي بعض الروايات: (لم يكتب عليه شيء) . إذاً: الحديث هذا مخصوص بما إذا ترك السيئة خوفاً من الله، وترك الحسنة عجزاً عنها أو لعدم توافر أسبابها، وإلا فقد يجازى بما نوى. وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلماً -يعني: علماً دينياً- فهو يعمل في ماله بعلمه) ، يصل الرحم، ويتصدق على ابن السبيل، وينفق في الجهاد، وينفق في وجوه الخير، ويبني المساجد والمدارس، وينشر العلم، قال: (يعمل بعلمه في ماله، فهذا بأفضل المنازل) يعني: بأرقاها، نفعه علمه في تصريف ماله. قال: (ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمله) ، أعطاه الله العلم فيتمنى أن يكون له مال حتى يصل الأرحام، وحتى يعطي الأقارب، وحتى يتصدق على الفقراء والمساكين، وحتى يعطي أبناء السبيل، وحتى يجهز الغزاة، وحتى ينفق في وجوه البر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فهو بنيته وقصده، وهما في الأجر سواء) . قال: (ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً) ، حرمه الله من العلم، ورزقه الله أموالاً، فهو ينفقها في المعاصي، ينفقها في كل معصية، ينفقها في قطيعة الرحم، وينفقها في القتل، وينفقها في الملاهي، وينفقها في المعاصي بأنواعها: في الزنا وفي الغناء وفي كذا وكذا، ينفقها فيما يبعده من الله؛ لأنه ما عنده علم، ولا عنده معرفة بمآل هذا المال، ولا بما يكسب فيه الأجر، فهذا بأخبث المنازل. قال: (رجل لم يؤته الله مالاً، ولم يؤته علماً) ، ولكن يتمنى أن يكون له مال مثل ذلك الجاحد، (يقول: لو كان لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمله) ، يعني: لقطعت الطريق، ولسافرت إلى المعاصي، ولصرفته في الأغاني وفي آلات اللهو، ولفعلت وفعلت، يتمنى؛ لأنه ما عنده علم، وما عنده مال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فهما في الوزر سواء) ، فأخذنا من هذا أن من نوى الشر وإن لم يعمله وحرص عليه فإنه يجازى على نيته، فليس كل من نوى الشر وتركه يثاب، إنما يثاب إذا تركه لله وخوفاً من الله. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الطحاوية [59] يجب الإيمان بملك الموت الموكل بقبض الأرواح، والأرواح من مخلوقات الله، ولا يعلم حقيقتها إلا الله، وقد تكلم العلماء على كثير من المسائل المتعلقة بالروح مستضيئين بالأدلة من الكتاب والسنة. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 1 الإيمان بملك الموت قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين) . قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11] ، ولا تعارض هذه الآية قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] ، وقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42] ؛ لأن ملك الموت يتولى قبضها واستخراجها، ثم يأخذها منه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، يتولونها بعده، كل ذلك بإذن الله وقضائه وقدره وحكمه، فصحت إضافة التوفي إلى كل بحسبه] . هذا أيضاً من عقيدة أهل السنة، وهو داخل في الإيمان بالملائكة، الإيمان بملك الموت الذي وكله الله تعالى بقبض الأرواح، وقد ذكره الله تعالى في هذه الآية في سورة السجدة: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11] ، وقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الذي يقبض الأرواح ملك واحد، وقد تقول: كيف يقبض أرواح العالم في شرق الأرض وفي غربها وهو واحد؟ نقول: لا ينافي ذلك قدرة الله تعالى التي أقدره عليها، ويمكن أن ملك الموت معه أعوان يقبضون تلك الأرواح. ونقول: لا شك أن الإنسان مركب من جسد وروح، جسد وهو هذا اللحم والعظم ونحوه، وروح وهي التي تسري في هذا الجسد حتى يعيش وحتى يتحرك، فما دامت هذه الروح في هذا الجسد فإنه قابل للحركة، وإذا خرجت هذه الروح من هذا الجسد بقي ميتاً جثة لا حركة به، فهذه الروح هي التي بها الحياة، وهي التي تقبض عند الموت، وفي حديث البراء في قبض الأرواح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا نزلت عليه ملائكة بيض الوجوه، فيجلسون منه مد البصر، ومعهم أكفان من الجنة، وحنوط من الجنة، ويأتيه ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان، فتسل روحه من جسده كما تسل الشعرة من العجين) ، فأخبر بأن الروح هي التي تخرج، وأنه يخاطبها، وأنها تنزع من جسده أو تنشط منه، وفسر بذلك قول الله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:1-2] فقالوا: النازعات الملائكة التي تنزع أرواح الكفار نزعاً شديداً، والناشطات الملائكة التي تأخذ أرواح المؤمنين برفق؛ ولذلك سماه نشطاً، يعني: أنها تنشطه نشطاً ولا يحس بألم، وبكل حال الملائكة يقبضون الأرواح ويصعدون بها إلى الله تعالى إن كانت أرواح المؤمنين، أما أرواح الكفار فلا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة، بل تذهب أرواحهم إلى حيث شاء الله. وقد تكلم العلماء على حقيقة الروح وأطالوا فيه، وقد يأتي بعض الكلام على حقيقة الروح، والحاصل أننا نؤمن بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] فأثبت أن هناك رسلاً عدداً يتوفونه، وأخبر في آية أخرى أن ملك الموت واحد: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11] ، وإذا قيل: إنه ملك واحد فيمكن أن يكون اسم الموت الذي هو خروج الروح من الجسد هو الذي ورد في الأحاديث أنه يذبح يوم القيامة، يقول في الحديث: (يجاء بالموت في صورة كبش، فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، ويقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت) ، فالذي يفنى أو يذبح هو حقيقة الموت، ليس هو الملك، إنما هو الموت الذي هو خروج الروح من الجسد. نحن نشاهد الأموات عندما تخرج أرواحهم، ولكن لا نشاهد الملائكة الذين يقبضونها، ولكن نؤمن بذلك، نؤمن بأن الملائكة يحضرون وإن كنا لا نراهم؛ ولذلك قال الله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ * فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:81-83] يعني: خرجت الروح إلى الحلقوم الذي هو أسفل الحلق، {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:84-85] يعني: الملائكة أقرب إليه منكم، ولكنكم لا تبصرونهم {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:86-87] يعني: إذا كنتم تقولون: إنكم غير مبعوثين فردوا هذه الروح إلى هذا الجسد، فردوا روح هذا الذي مات وخرجت روحه، استردوها وردوها في جسده إن كنتم صادقين. وأخبر الله تعالى أيضاً أن الملائكة يحضرون عند الميت في قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93] يخاطبون أرواح الكفار عند إخراجها بهذا. إذاً: من عقيدة أهل السنة أنهم يؤمنون بملك الموت وبأعوان ملك الموت الذين يقبضون الأرواح، وبأن الروح التي تخرج هي التي يقبضها الملك أو الملائكة، وهي التي تبقى بعد الموت، وأما الجسد فإنه يفنى، والروح التي تخرج هي التي تعذب في البرزخ أو تنعم، فإذا آمن الإنسان بذلك لم يستغرب ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن في القبر عذاباً ونعيماً، مع أننا نشاهد أن الأموات يفنون، وتأكلهم الأرض، ولكن مع ذلك أرواحهم باقية، أرواحهم هي التي تتألم أو تتعذب كما أن أرواحهم هي التي تقبض، وهي التي ورد في الحديث أنها تجعل في أكفان من الجنة، أو تجعل في أكفان من النار على حسب ما ورد في السنة. فبهذا يؤمن كل مسلم اعتماداً على النصوص، ولا منافاة بين الآية: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11] أنه واحد وقوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام:61] ، وقول الملائكة: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ} [الأنعام:93] ، فالمعنى: أن الملك واحد ومعه أعوان، فهو يقبض وهم يقبضون، وهم يجعلون الأرواح في تلك الأكفان، ويصعدون بها إلى آخر ما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 2 حقيقة الروح قال الشارح رحمه الله: [وقد اختلف في حقيقة النفس ما هي؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه أو جسم ساكن له مودع فيه، أو جوهر مجرد؟ وهل هي الروح أو غيرها؟ وهل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة أم هي ثلاثة أنفس؟ وهل تموت الروح أو الموت للبدن وحده؟ وهذه المسائل تحتمل مجلداً، ولكن أشير إلى الكلام عليها مختصراً إن شاء الله تعالى. فقيل: الروح قديمة، وقد أجمعت الرسل على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة، وهذا معلوم بالضرورة من دينهم أن العالم محدث، ومضى على هذا الصحابة والتابعون، حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في الكتاب والسنة، فزعم أنها قديمة، واحتج بأنها من أمر الله، وأمره غير مخلوق، وبأن الله أضافها إليه بقوله: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] ، وبقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعه وبصره ويده، وتوقف آخرون، واتفق أهل السنة والجماعة أنها مخلوقة، وممن نقل الإجماع على ذلك محمد بن نصر المروزي وابن قتيبة وغيرهما، ومن الأدلة على أن الروح مخلوقة قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه ما، ولا يدخل في ذلك صفات الله تعالى فإنها داخلة في مسمى اسمه، فالله تعالى هو الإله الموصوف بصفات الكمال، فعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وجميع صفاته داخل في مسمى اسمه، فهو سبحانه بذاته وصفاته الخالق وما سواه مخلوق، ومعلوم قطعاً أن الروح ليست هي الله ولا صفة من صفاته، وإنما هي من مصنوعاته، ومنها قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] ، وقوله تعالى لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم:9] ، والإنسان اسم لروحه وجسده، والخطاب لزكريا لروحه وبدنه. والروح توصف بالوفاة والقبض، والإمساك والإرسال، وهذا شأن المخلوق المحدث. وأما احتجاجهم بقوله: (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فليس المراد هنا بالأمر الطلب، بل المراد به المأمور، والمصدر يذكر ويراد به اسم المفعول، وهذا معلوم مشهور] . كلمتا الروح والنفس الصحيح أنهما مترادفتان، الروح هي النفس، وقد اختلف في حقيقة الروح ما هي، إذا مات الميت وخرجت روحه لا نبصرها، مع أننا متيقنون أنها خرجت، وكذلك الملائكة أرواح ينزلون ويقبضونها ونحن لا نراهم؛ لأنهم أرواح، كذلك الشياطين أرواح شريرة، يقول تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] نحن لا نرى الشياطين، مع أن الشيطان يدخل في الإنسان ويجري منه مجرى الدم، ويوسوس في صدره ولا نراه، لكنه ينخنس إذا ذكر الله، ولهذا سماه الله: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] . وأقرب مثال الجن، فهم أرواح، وإذا سلط الله الجني على الإنسي فإنه يلابسه حتى يغلب على جسده، ويصير كأنه هو روحه، فهل نحن نرى هذا الجني إذا أتى أو إذا خرج؟ لا نراه، نسمعه إذا تكلم وهو ملابس لذلك الإنسي، ينطق ويتكلم، ويخرج عندما يعذب مثلاً، ولا نراه إذا جاء ليدخل، ولا نراه إذا خرج. إذاً: هو روح بلا جسد، ولعله يأتينا كلام في حقيقة الروح وماهيتها. هل الروح مخلوقة أو غير مخلوقة؟ بعض الفلاسفة يقول: إنها غير مخلوقة وإنها قديمة، والفلاسفة هم الذين يقولون: إن هذا الإنسان ليس له مبدأ، ينكرون أن الله خلق آدم من تراب، ويقولون: إن هذا الإنسان قديم، وإن الأرض قديمة ولم يسبقها عدم، وينكرون أيضاً الحشر والمعاد، فيقولون: ليس هناك حشر، وليس هناك نشر، وليس هناك قيامة، ولا جنة ولا نار، إنما جنس البشر يتوالد ويبقى على الأرض دائماً وأبداً، كما أنه عليها منذ القدم، فكذلك يبقى عليها أبداً، هؤلاء الفلاسفة ينكرون خلق الروح، ويقولون: إن الروح غير مخلوقة وليست محدثة، بل هي باقية وقديمة وليس لها مبدأ، ويستدلون بهذه الآية في سورة الإسراء: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] والسؤال إنما هو عن الماهية، ما هي الروح؟ ولما كانت حقيقتها لا ترى ولا توصف أجابهم الله بأنها من أمره، وأنكم لا تعلمونها ولا يمكن أن تتصوروها؛ ولذلك قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85] ، فليس المراد أنها صفة من صفاته، بل المراد أنها من أمره، أي: مخلوقة بأمره، وكذلك إضافتها إلى الله في قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] ليس المراد أن الروح صفة من صفات الله، أو أنها من ذات الله، بل المراد من الأرواح التي خلقتها، وكذلك وصف الله عيسى بقوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] أي: روح من الأرواح التي خلقها، وليس المراد أنه من ذات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. فبكل حال نعرف أن هذه الروح التي بين جنبي الإنسان مخلوقة كسائر المخلوقات، ولكن لا تدرك كيفيتها ولا ماهيتها. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 3 قوله تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85] قيل: إن هذه الآية نزلت لما أرسلت قريش إلى يهود المدينة من يسألهم عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء أولئك الرسل إلى اليهود، فقال اليهود: سلوه عن ثلاثة أشياء، سلوه عن فتية خرجوا من بلادهم فإن لهم أمراً عجيباً، يعنون أصحاب الكهف، وسلوه عن رجل طوّاف طاف بالمشرق والمغرب، يعنون ذا القرنين، وسلوه عن الروح، فأنزل الله هذه الآية جواباً لسؤالهم. وقيل: إن اليهود الذين بالمدينة مر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوكأ على عسيب، ومعه ابن مسعود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقالوا: ما هي الروح يا محمد؟! فوقف قليلاً، يقول ابن مسعود: فاتكأ على عسيبه وعلمت أنه يوحى إليه، فقال بعد قليل: ( {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85] ) ، فأجابهم الله تعالى بأن الروح غير معلومة لكم، ولا يمكنكم إدراكها ولا معرفة ماهيتها، وذلك دليل على عظمة الله وعجيب قدرته، حيث نوع المخلوقات، فجعل منها ما يرى، ومنها ما لا يرى، وجعل منها أجراماً، وجعل منها أرواحاً، وجعل منها جماداً، وجعل منها متحركاً حياً متقلباً، فهذا بلا شك دليل على كمال قدرة الله عز وجل، وأنه على كل شيء قدير، ودليل على قصر علم الإنسان، فقد قصر باعه في العلوم، فلا يطلع على المغيبات، ولا يصل بفكره ولا بأمره ولا ببحثه إلى الأمور التي أخفاها الله عليه، وعلى هذا ليس له أن يتدخل في أمور الغيب، وليس له أن يتخرص فيها. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 4 الجهل بكيفية الروح المخلوقة دليل على الجهل بكيفية صفات الخالق سبحانه استدل العلماء بأمر الروح على أن الإنسان لا يستطيع أن يتدخل في أمر صفات الرب سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن الذين تدخلوا في صفات الله، وقالوا: كيف يتصف بأنه ينزل ويصعد؟ وكيف يتصف بأنه يجيء ويحكم وينزل لفصل القضاء؟ وكيف يتصف بأنه استوى على العرش واستقر عليه؟ وكيف يتصف بأنه حي وبأنه سميع بصير متكلم بكلام مسموع ونحو ذلك؟ كيف يتصف بذلك؟ هذا مما يخالف الخيال! هذا مما يخالف الفكر، هذا مما يخالف العقول، وأخذوا يخوضون في مثل هذا خوضاً زائداً، فيقول لهم شيخ الإسلام وغيره: أنتم قد عجزتم عن إدراك الروح التي بين جنوبكم، كل منكم مكون من جسد وروح، هذه الروح التي تدخل وتخرج، هذه الروح التي يحيا بها البدن ويموت بخروجها، هل أدركتم ماهيتها؟ هل قدرتم على معرفتها؟ هل علمتم من أي شيء هي؟ هل هي جسم أم هي عرض، أم هي جوهر، أم هي صافية، أم هي كدرة؟ ما هي ما هيتها؟ ومن أي شيء هي؟ وإذا خرجت أين تذهب؟ وأين تكون؟ كذلك أيضاً الأرواح الأخرى التي تتحققونها وتوقنون بها كيف لا ترونها؟ إذا عجزتم عن إدراك ماهيتها فأنتم عن إدراك كنه صفات الرب بطريق الأولى تعجزوا. أنتم تتحققون أن هناك نوعاً من المكلفين وهم الجن الذي خلقهم الله من نار السموم كما أخبر الله، نتحقق أنهم موجودون معنا، وأنهم ينطقون ويتكلمون، وأنهم يقدرون على أن يتشكلوا بأشكال متعددة، يتشكلون بأشكال الحيوانات، وبأشكال الجمادات، ويتصورون بصورة إنسان، وبصورة سبع، وبصورة كلب، وبصورة حشرة، وبصورة هامة ونحو ذلك، كما هو مشاهد، وكذلك أيضاً يلابسون الإنس، يدخلون في جسد الإنسي، ويلابسونه، ولا يشعر أحد بهم، ولا يراهم ولا نراهم، من أي شيء مادتهم؟ من أي شيء أجسامهم؟ لا ندري. إذاً: نقول: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85] ، فنحن حجبنا وعجزنا عن إدراك ماهية هذه الأرواح التي هي أقرب شيء إلينا، والتي نشاهد أن الميت تخرج روحه ومع ذلك لا نراها، كما قال الله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا} [الواقعة:83-87] هل تستطيعون أن ترجعوها إذا خرجت؟ فإذا عجز الإنسان عن إدراك هذه الروح التي هي أقرب شيء إليه فكيف يخوض في خالقه؟ وكيف يخوض في صفات الباري عز وجل؟ الأولى له أن يسلم بذلك، وأن يرد علمها إلى عالمها. كذلك أيضاً: لا يخوض في أمر المخلوقات التي لم يرها، لا يقول مثلاً: ما هي كيفية خلق الملائكة؟ ومن أي شيء أجسامهم؟ وكيف تركيب أعضائهم؟ وكيف يسجدون وعلى أي أعضاء؟ وهل لهم يدان ورجلان كما لنا لأن الله قد ذكر أن لهم أجنحة؟ وهل لهم وجوه كوجوهنا؟ وكيف ينطقون ويتكلمون؟ الله أعلم، لا علم لنا إلا أنهم مخلوقون، وأنهم أرواح تستغني عن أجساد ظاهرة، بحيث ينزلون ولا نراهم كما أخبر الله بأنهم ينزلون في الأرض في ليلة القدر كما في قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر:4] إذا تنزلوا نحن لا نراهم، وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم باجتماعهم في صلاة العصر وصلاة الفجر بقوله: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر) ، هل نحن نراهم؟ لا نراهم، هم عالم ونحن عالم، حتى الشياطين الذين سلطهم الله على نوع الإنسان، وقد أخبر الله أن الشيطان يصل من الإنسان إلى قلبه، يقول الله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:5] وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، يعني: ينفذ فيه ويسري في عروقه كما تسري روحه، يصل إلى جميع جسده ولا يرده شيء، إلا إذا استعاذ العبد بالله، ولجأ إليه؛ فإن الشيطان ينخنس، ولذلك سمي (بالوسواس الخناس) . ونحن مع ذلك لا نراهم، إذاً: هم عالم ونحن عالم، فليس لنا أن ننكرهم، ولا أن نجحدهم؛ لأن الله قد أخبر بهم، وخبر الله حق، وأخبر بأنهم يروننا في قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] يعني: إن الشياطين يرونكم هم وقبيلهم، يعني: وأمثالهم كالجن ونحوهم، يرونكم دون أن ترونهم، فما دام أننا متحققون بوجود أرواح لا نراها، وبأن هناك أرواحاً مخلوقة كالجن والشياطين والملائكة؛ فنعرف بذلك قصر علمنا عن إدراك كنهها، وعن معرفة تركيبها. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 5 اختلاف العلماء في تعريف الروح سمعنا في كلام شارح الطحاوية أن العلماء تكلموا في الروح، وأطالوا القول فيها، وعرفوها بتعريفات مضطربة مختلفة، وكان من جملة من عرفها تعريفاً مناسباً ابن القيم رحمه الله في كتابه الذي سماه: كتاب الروح، وهو كتاب مطبوع مشهور تكلم فيه على الأرواح، وعذاب القبر ونعيمه، وتكلم فيه على حقيقة الروح، وما ورد من صفاتها، وبين الرد على الذين أنكروها ووصفوها بصفات غريبة، وعرفها بأنها جسم خفيف شفاف علوي نوراني حي متحرك، يسري في جسد الإنسان كما يسري الدهن في الورد، وكما تسري النار في الفحم، فما دام هذا الجسد قابلاً لتلك الإفاضات منه فإنه يبقى فيها، وإذا تغيرت ماهية هذا الجسم وبقي لا يصلح لفيضاناتها عليه؛ أذن الله بفراق الروح لهذا الجسم، فبقي جسم الإنسان جماداً لا حركة فيه، وذلك هو الموت، فإذا خرجت الروح بقي الجسد جثة هامدة. ولا حاجة إلى كثرة الخوض وإطالة الكلام فيها، مع أن الله تعالى قد حجب أنظار العباد عنها، وفوض أمرها إلى الله. كتاب الجلالين مؤلفه رجلان أحدهما جلال الدين المحلي، وهو الذي ألف آخره، من سورة الكهف إلى آخره، وجلال الدين السيوطي وهو الذي ألف أوله، من البقرة إلى سورة الإسراء، فـ المحلي لما أتى على قوله تعالى في سورة ص: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:72] عرف الروح بأنها جسم حي متحرك، وبأن لها حياة وتقلباً، ولكن السيوطي لما أتى على قوله في سورة الحجر: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:28-29] لم يذكر هذه الجملة التي هي تفسير الروح؛ لأنه أتى على هذه الآية وهي قوله تعالى: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] فتوقف عن تفسيرها. فالأولى التوقف، والذين خاضوا فيها من العلماء وأطالوا القول فيها عذرهم أنهم يريدون بذلك إقناع أولئك الكافرين أو الكاذبين الذين صاروا يعرفونها بتعريفات بعيدة عن الواقع، فما حمل ابن القيم رحمه الله على الإطالة في تعريفاتها وفي صفاتها إلا أنه يناقش أقواماً ينكرون وجودها، أو ينكرون انفصالها، أو ينكرون تميزها، لهم أقوال عجيبة كما حكاها عنهم في ذلك الكتاب كالفلاسفة ونحوهم الذين يسمونها مثلاً: النفس الناطقة مثلاً، أو يزعمون أنها هذا الكون كله، أو هذا الهواء، أو النَفَس، أو ما أشبه ذلك مما لا أصل له، والأولى أننا نكل علمها وعلم الغيب كله إلى الله تعالى. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 6 الفرق بين النفس والروح قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وأما اختلاف الناس في مسمى النفس والروح هل هما متغايران أو مسماهما واحد، فالتحقيق أن النفس تطلق على أمور، وكذلك الروح، فيتحد مدلولهما تارة ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالب ما تسمى نفساً إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها، وتطلق على الدم ففي الحديث: (ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه) ، والنفس العين يقال: أصابت فلاناً نفس أي: عين، والنفس الذات كقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] ، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] ونحو ذلك. وأما الروح فلا تطلق على البدن لا بانفراده، ولا مع النفس، وتطلق الروح على القرآن وعلى جبرائيل، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] ، وقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] ، وتطلق الروح على الهواء المتردد في بدن الإنسان أيضاً. وأما ما يؤيد الله به أولياءه فهي روح أخرى، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22] ، وكذلك القوى التي في البدن فإنها تسمى أرواحاً، فيقال: الروح الباصرة، والروح السامعة، والروح الشامة، ويطلق الروح على أخص من هذا كله وهو قوة المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته، وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذا الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فللعلم روح، وللإحسان روح، وللمحبة روح، وللتوكل روح، وللصدق روح. والناس متفاوتون في هذه الأرواح، فمن الناس من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانياً، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضياً بهيمياً، فقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس: مطمئنة ولوامة وأمارة، قالوا: وإن منهم من تغلب عليه هذه، ومنهم من تغلب عليه هذه كما قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27] ، وكقوله تعالى: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2] ، وكقوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53]] . تكلم الشارح على تعريف النفس والروح بهذا الكلام الذي سمعنا؛ وذلك لأن هناك خلافاً هل الروح النفس أو الروح غير النفس؟ وذلك لأن كلمة النفس قد تطلق على بعض الأشياء، كما في هذه التعريفات التي سمعنا، فتطلق على الدم، فالدم يسمى نفساً كما في الحديث: (ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه) يعني: كالذباب والبعوض والجراد والفراش، فكل ما لا نفس له سائلة إذا مات في الماء فإنه لا ينجسه؛ لأنه ليس له نفس، يعني: ليس له دم إذا ذبح. كذلك تطلق النفس على ذات الإنسان كما في قوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] يعني: على ذواتكم، وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] يعني: لا تقتلوا ذواتكم، فذات الإنسان هي نفسه، وقد يكثر استعمال النفس في مثل هذه المعاني وغيرها. إذاً: النفس في الأصل هي ماهية الشيء وذاته، وأما الإنسان الذي كلفه الله تعالى فقد ناداه بنداء الإنسان: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] والإنسان هو هذا الجنس من بني آدم، ومعلوم أنه مركب من جسد وروح، وهذا النَفَس الذي يدخل ويخرج، ويجتذب هذا الهواء يسمى نفساً، وهو ملازم للإنسان، ونفسه يعني: ذاته توصف بصفات كما سمعنا، توصف بأنها نفس لوامة، وأنها نفس أمارة بالسوء، وأنها نفس مطمئنة، ومن العلماء من يقول: إن للإنسان ثلاثة أنفس: نفس لوامة، ونفس أمارة، ونفس مطمئنة، والصحيح أنها نفس واحدة، تارة يغلب عليها الاطمئنان فتوصف بأنها نفس مطمئنة، فيقال: إن هذا الإنسان نفسه مطمئنة، وتارة يغلب عليها وصف اللوم، يفعل الشيء ويلوم نفسه عليه، فيقال: هذا الإنسان نفسه لوامة، وتارة يغلب عليه السوء والأمر بالسوء، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] فهي نفس واحدة تتصف بهذه الصفة تارة، وبهذه تارة، وهذه تارة، ولا تكون ثلاثة أنفس، وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء. فما دامت الروح في الجسد فإنها تسمى نفساً وتسمى روحاً، فإذا خرجت الروح من الجسد فإنها لا تسمى نفساً غالباً، وإن كانت قد تسمى بذلك في مثل قول الله تعالى في سورة الأنعام: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ} [الأنعام:93] ، يعني: أخرجوا أرواحكم، فإذا خرجت فإنها تقبضها الملائكة وتكفنها، وكذلك قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] فسماها هاهنا نفساً، فما دامت في الجسد فإنها تسمى نفساً، الله يتوفاها يعني: يقبضها، وبعد قبضها يغلب عليها اسم الروح، وكذلك في النوم نفس النائم تخرج، ولكنها لا تخرج خروجاً كلياً، بل يبقى أثرها على البدن؛ ولهذا ذكروا أنه إذا نام الإنسان فإن روحه تخرج، وتصعد إلى السماء، وترى كذا وكذا من الرؤى ونحو ذلك، وفي حديث الدعاء عند النوم، قال صلى الله عليه وسلم: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) ، فأفاد بأن النفس قد تمسك، يعني: إذا قبضت في النوم فقد لا ترجع إلى صاحبها إذا أراد الله، وقد ترجع، فهو يقول: إن أمسكت نفسي ولم تردها علي فارحمها، وإن أرسلتها ورددتها علي فاحفظها، يعني: تطبيقاً للآية {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42] ، يمسكها ولا يردها، ويمسك الأخرى التي لم يقض عليها الموت إلى أجل مسمى، إلى الأجل الذي حدد الله خروج هذه الروح من هذه الجسد. أما كلمة الروح فسمعنا أنها في الأصل مادة الحياة، كل شيء تحصل به الحياة فإنه يسمى روحاً، فالله تعالى سمى القرآن روحاً {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] ، لماذا سمي القرآن روحاً؟ لأن به الحياة المعنوية، حياة القلوب، الحياة المعنوية هي حياة صحيحة والناس لا يشعرون بها، أو لا يهتمون بها؛ وذلك لأن القرآن إذا تأثرت به القلوب فإنه روح لها وحياة لها أعظم حياة، وأعظم منفعة لها؛ فلذلك سماه الله روحاً، فكما أن الأبدان تحيا بالأرواح فكذلك القلوب تحتاج إلى أرواح معنوية، وهو هذا القرآن وما فسر به وما يتبعه من السنة، وكذلك سمى الله جبريل عليه السلام روحاً في قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193-194] الروح الأمين هو جبريل عليه السلام، وهو الذي نزل به؛ وذلك لأن الملائكة كلهم أرواح، فجبريل من جملتهم، ولا ينافي ذلك أنهم يصعدون وينزلون، وأن لهم أجنحة وأن لهم أجساداً معنوية لا نراها، فهم أرواح وجبريل من جملتهم، ولكن لجبريل خصوصية بهذه التسمية، حتى قال بعضهم في قول الله تعالى في آخر سورة (عم) : {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً} [النبأ:38] إن الروح هو جبريل، وقيل: إن المراد بالروح هنا الأرواح، يعني: يوم تقوم الأرواح، سواء كانت أرواح الملائكة أو أرواح بني آدم أو أرواح الجن أو أرواح الشياطين، تقوم الأرواح، وتقوم الملائكة صفوفاً، وبهذا أيضاً فسرت الروح التي في سورة القدر: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر:4] قيل: إن الروح التي تتنزل فيها هي أرواح بني آدم أو أرواح الملائكة تتنزل في تلك الليلة. لكل شيء روح تحيا به تلك الماهية، فالقرآن يسمى روحاً، والإسلام له روح، والإيمان له روح، وكذلك التوكل له روح، والعبادة لها روح، والاستعانة لها روح، وكذلك المحبة والخوف والرجاء وسائر أنواع العبادات لها روح، يعني: لها حقيقة معنوية تتأكد فيها أو تؤكد وتصير بها مؤكدة نافعة، فإذا عرف بأن الروح هو الذي تحصل به الحياة، فكلمة الروح سميت بذلك لأن فيها حياة البدن، ولأنها حية، وقد رجح العلماء المحققون أن الأرواح بعد خروجها من الأجساد باقية كما يقول بعضهم: وأن أرواح الورى لم تعدم مع كونها مخلوقة فاستفهم فهذه حقيقتها، فأرواح بني آدم ما عدمت بعد خروجها من أجسادهم، مع اعتقادنا أنها مخلوقة مكونة بعد أن كانت معدومة، أوجدها الله وكونها، وقد تقدم الخلاف في وقت خلقها، متى خلقت؟ وأن الراجح أنها تخلق مع خلق الإنسان، وتبقى بعد موته. وعلى كل حال فأمر هذه الأرواح وحقائقها يختلف باختلاف الإنسان، وقوة معنويته وضعف معنويته. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 7 هل تموت الروح أم لا؟ قال الشارح رحمه الله: [والتحقيق أنها نفس واحدة لها صفات، فهي أمارة بالسوء، فإذا عارضها الإيمان صارت لوامة تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها وتلوم بين الفعل والترك، فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن) ، مع قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث. واختلف الناس هل تموت الروح أم لا؟ فقالت طائفة: تموت؛ لأنها نفس، وكل نفس ذائقة الموت، وقد قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] ، وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] ، قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت. وقال آخرون: لا تموت الأرواح فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان، قالوا: وقد دل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها. والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وتلك الموتة هي مفارقة الروح للجسد، وأما قول أهل النار {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11] ، وقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28] فالمراد أنهم كانوا أمواتاً وهم نطف في أصلاب آبائهم، وفي أرحام أمهاتهم، ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم ثم يحييهم يوم النشور، وليس في ذلك إماتة أرواحهم قبل يوم القيامة، وإلا كانت ثلاث موتات. وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها، فإن الناس يصعقون يوم القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، وليس ذلك بموت، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى، وكذلك صعق موسى عليه السلام لم يكن موتاً، والذي يدل عليه أن نفخة الصعق -والله أعلم- موت كل من لم يذق الموت قبلها من الخلائق، وأما من ذاق الموت أو لم يكتب عليه الموت من الحور والولدان وغيرهم فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية، والله أعلم. ] الكلام الأول يتعلق بالأنفس وتعددها، وذكرنا أن الراجح أن النفس واحدة تغلب عليها صفات الإيمان فتسمى نفساً مطمئنة، وتغلب عليها المعاصي فتسمى نفساً لوامة، وتغلب عليها صفة الكفر والبدع فتسمى نفساً أمارة بالسوء، وهي نفس واحدة، هذا هو الصواب. أما الكلام الثاني فيتعلق بموت الأرواح، هل الأرواح تموت؟ قال بعضهم: إنها تموت، وهي إذا خرجت من الأجساد فإنها تحس إذا صعدت إلى السماء، ويخرج منها ريح طيبة أو ريح خبيثة، وتتألم أو تتنعم، فهي لا تزال حية في هذا العالم في البرزخ بعد فراق هذا الجسد، وأما الجسد فإنه يفنى ويصير تراباً، كما قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه:55] . وبعضهم يقول: إن الأرواح بعد خروجها تبقى مدة ثم تموت، فإنه لابد أن يأتي عليها الموت الذي كتبه الله على كل شيء؛ لأنها أنفس، وكل نفس ذائقة الموت، ولابد من فنائها لقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] هذا دليل من قال: إنها تفنى وتموت، وقاسوها على الملائكة، لأن الملائكة لابد أن يموتوا، وكذلك الجن معروف أيضاً أنهم يموتون، مع كونهم أرواحاً، فلابد أن يكون موتهم شيئاً يحسون به، ويحصل بذلك عدم الحياة لهم، فإذا كان الجن يموتون، والملائكة يموتون، فالأرواح التي هي أرواح الإنسان كيف لا تموت؟ هذا قول بعض العلماء. والقول الثاني: أنها بعد خروجها لا تموت، بل تبقى إما منعمة وإما معذبة، وهو ما تدل عليه أحاديث عذاب القبر، وموتها هو مفارقتها لهذا الجسد، فإنها كانت عامرة لهذا الجسد، وكانت منعمة فيه، فنزعت منه، وخرجت منه، كما في أحاديث عذاب القبر أن الملك يجلس عند رأسه فيقول: (اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب -أي: الذي كنت تعمرينه- اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان) ، ويقول عند روح الكافر: (اخرجي أيتها الروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث -أي: الذي كنت تعمرينه- اخرجي إلى غضب من الله وسخط) ، فهذا دليل على أن خروجها هو الذي يسمى الموت، خروجها ومفارقتها لهذا الجسد هو موتها حقاً، وهو الموت الذي كتب الله عليها، فإذا خرجت فإنها ماتت، وإن كانت بعد ذلك تبقى حية، وتبقى متحركة ومتنعمة أو متلذذة أو متألمة. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 8 معنى قوله تعالى: (كل من عليها فان) قول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] ، و {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] ، و {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] المراد بها أنها يأتي عليها الموت الذي هذا صفته، فقد أتى على الروح الموت، وهو مفارقتها للجسد. عند بعض الفلاسفة أن الروح قديمة ليست مخلوقة، وعبر عن ذلك شاعرهم ابن سيناء في قصيدته التي يقول في أولها: هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تقلب وتفجع وصلت على كره فلما وصلت ألفت مرافقة الخراب البلقع وصفها بأنها هبطت من المحل الأرفع من السماء، وشبهها بالورقاء، والورقاء نوع من الطيور تسمى الورق، فذكر أنها وصلت إلى هذا الجسد مكرهة، ولكن بعدما وصلت تمكنت وألفت مرافقته، مع كونه خراباً بدونها، لكن لا يسلم لهم أنها قديمة، بل هي مخلوقة مكونة بعد أن كانت معدومة، فإن الله تعالى هو خالق كل شيء، فأما فناؤها فيحصل بمفارقتها لهذا الجسد، والله تعالى أخبر بأن كل شيء هالك إلا وجهه، فهلاكها معناه خروجها من أجسادها، فهذا موت، وبعضهم يقول: إن قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] المراد كل ما خلق للفناء، وأما ما خلق للبقاء فإنه لا يفنى، ويقول: ما خلق الله الجنة وما فيها من الحور ونحوها إلا للبقاء فلا تفنى، ولا يأتي عليها الموت؛ لأنها خلقت للبقاء، ومنهم من يقول: الحور التي في الجنة تفنى، ثم بعد ذلك تحيا. وأما الصعق الذي ذكره الله في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] وكذلك الفزع المذكور في قوله: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87] فزع أولاً، ثم صعق ثانياً، فهذا الصعق إن كان على الأحياء فإنه موت، يعني: أن الناس يموتون في ذلك اليوم، إذا نفخ في الصور ماتوا كلهم، وعبر بالصعق عن الموت، والمراد الناس الذين تدركهم الساعة وهم أحياء، ينفخ في الصور فيموتون موتة واحدة، ثم بعد ذلك ينفخ فيه أخرى، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بين النفختين أربعون، قيل: إنه أراد أربعون سنة. وهذا الصعق موت في حق الأحياء، وأما الأرواح فإنه ليس موت في حقها، وإذا صعقت لا يلزم أن تموت، وقيل: إن الأرواح هي من المستثنى في قوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] ، فالذين يشاء الله عدم صعقهم مثل الأرواح ومثل حور الجنة، وكل ما خلق للبقاء. وبكل حال نؤمن بأن هذا الكون الذي نحن فيه هو الذي يفنى، وأن هناك مخلوقات خلقت للبقاء كالأرواح، فالله هو الذي خلقها وقدر لها مقاديرها، فإذا حصل النفخ في الصور فإنها لا يأتي عليها هذا الفناء والفزع، والصعق يأتي على غيرها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صعق يوم القيامة بعد البعث، وأن الناس يصعقون يوم القيامة، وكأنه صعق لفزع يأتيهم، يقول: (فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟) ، صعقة الطور هي المذكورة في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:143] فدل على أن هناك صعقة يوم القيامة، وهذا الصعق ليس بموت وإنما هو غشية تحصل من هذا الفزع، ثم يحصل بعدها إفاقة، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم أول من يفيق، فيجد موسى قد أفاق قبله أو لم يصعق جزاء له على صعقته يوم الطور. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 9 معنى قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) تكلم الشارح على قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11] والصحيح أن هاتين الموتتين والحياتين في الدنيا وفي الآخرة، الموتة الأولى هي الموت في الأرحام وفي الأصلاب، فإنه في حالة كونه في الرحم شبه ميت، ليس به حركة الحي حتى ينفخ فيه الروح بعد الشهر الرابع. الموتة الثانية خروجه من هذه الدنيا، فهاتان موتتان. والحياة الأولى خروجه إلى هذه الدنيا من الرحم فإنها حياة مشاهدة، والحياة الثانية حياته بعد النفخ في الصور يوم القيامة الحياة الباقية. فهاتان الموتتان موتة في الرحم وموتة في الدنيا، والحياتان حياة في الدنيا وحياة في الآخرة، وهي المفصلة في قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً} [البقرة:28] يعني: في الأرحام، {فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة:28] يعني: في الدنيا، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة:28] يعني: في البرزخ {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28] أي: للآخرة. وقد نصب الله الأدلة على الأمور الغيبية والأمور الأخروية، وأمر العباد بأن يتفكروا وينظروا فيما بين أيديهم وفيما خلفهم، ولا شك أن من نظر في ذلك اعتبر وتذكر واتعظ، إذا نظر -مثلاً- إلى خلق الإنسان، ومبدأ أمره، عرف أن الذي خلقه قادر على أن يعيده، وليس بدأ الخلق أهون من إعادته، نظر إلى الأفلاك العلوية والسفلية فأخذ منها آية دل الله عليها بقوله: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] ، خلق السماوات مع علوها ومع عظمها وخلق الأرض مع اتساعها أكبر من خلق الناس. والآيات التي أمر الله عباده أن يتعظوا بها وينظروا فيها كثيرة، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم:20] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [الروم:21] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:22] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:23] ، {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} [الرعد:12] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:25] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم:46] ولا شك أن هذه الآيات عبرة لمن اعتبر، وعظة لمن اتعظ؛ فلأجل ذلك أصبح اليوم الآخر يقيناً عند أهل الإيمان؛ لأنها قامت عليه البراهين بعدما كان المشركون ينكرونه ويقولون: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الصافات:16-17] يستنكرون ذلك، فأقام الله عليهم الحجة، وبين لهم الأدلة. ومعلوم أن الإنسان يتكون من جسد وروح، فبعد الموت تخرج هذه الروح من جسده، ويبقى الجسد ليس به حركة، فيفنى الجسد ويكون تراباً، ولكن قدرة الله أعلى من كل شيء، فهو قادر سبحانه على أن يوصل إليه الألم أو النعيم ولو كان تراباً أو رماداً، الله قادر على كل شيء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. أما روحه التي كانت تعمر جسده فقد مر بنا أن الروح لا تعدم، وأنها باقية، وأنها في هذا البرزخ بين الدنيا والآخرة إما في نعيم وإما في عذاب، وإن كنا بعقولنا لا ندرك ماهيتها، ولا ندري أين مستقرها، بل نتحقق بأن الروح إذا خرجت من البدن لا تنعدم كما ينعدم البدن، بل تبقى، والدليل على بقائها الأحاديث التي فيها أنها تقبض، وأنه يعرج بها، وأنها ترى من يقبضها، ونحو ذلك، فهي إذاً: باقية في هذه المدة بين الدنيا والآخرة، ويوم القيامة يأمر الله الأرض فتجمع ما فيها من رفات الأموات، وتتجمع عظامهم حتى تتكامل، ويكسوها الله لحماً، ثم بعد أن يعيدها يرسل إليها أرواحها، وقد وقع مثل ذلك في الدنيا، فحكى الله قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فاستبعد إعادتها وقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:259] كأنه استبعد أن تحيا وقد فنيت، فأراه الله الآية في نفسه، فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وكان معه حمار، وكان معه سلة طعام وفاكهة، فلما بعثه ونفخ فيه الروح بعد مائة سنة، أراه الله كيف يحيي الموتى، فقيل له: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم، فقال الله: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259] أي: لم يتغير، {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} [البقرة:259] ، وكان حماره قد فني وأصبح تراباً، {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ} [البقرة:259] يقولون: إنه أخذ ينظر إلى عظام الحمار كيف تجتمع ثم يلتئم بعضها ببعض، أولاً التأمت العظام، ثم اكتست لحماً، ثم نبت عليها جلدها، ثم نفخ فيه الروح، فقام الحمار ونهق كما ينهق إذا كان حياً! فأراه الله الآية في نفسه، وفيما كان معه، وذلك بلا شك آية وعبرة تدل أن الله قادر على أن يحيي الموتى {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] ، فإذا أيقن الإنسان بذلك فإن يقينه يحمله على أن يستعد لما بعد الموت. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 10 شرح العقيدة الطحاوية [60] من عقيدة أهل السنة الإيمان بعذاب القبر، وقد دلت عليه كثير من الأدلة من القرآن والسنة، وقد رد أهل العلم على شبه من ينكره من أهل الأهواء والبدع. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 1 الإيمان بعذاب القبر وفتنته قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، سؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم. والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران) . قال تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45-46] ، وقال تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الطور:45-47] ، وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ وهو أظهر؛ لأن كثيراً منهم مات ولم يعذب في الدنيا، أو المراد أعم من ذلك. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله كأن على رءوسنا الطير، ولما يلحد له، فقال: (أعوذ بالله من عذاب القبر ثلاث مرات، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه الملائكة كأن على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: يا أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. قال: فيصعدون بها فلا يمرون بها -يعني: على ملأ من الملائكة- إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها الى السماء، فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: ما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي؛ فافرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة. قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: يا رب! أقم الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي. قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] . قال: فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي، فافرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب! لا تقم الساعة) رواه الإمام أحمد وأبو داود، وروى النسائي وابن ماجة أوله، ورواه الحاكم وأبو عوانة الإسفرائيني في صحيحيهما وابن حبان، وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث، وله شواهد من الصحيح، فذكر البخاري رحمه الله عن سعيد عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم، فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقول له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً) ، قال قتادة: وروي لنا أنه يفسح له في قبره وذكر الحديث. وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرىء من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، فدعا بجريدة رطبة فشقها نصفين، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) . وفي صحيح أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قبر أحدكم أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر وللآخر النكير) ، وذكر الحديث إلخ] . الجزء: 60 ¦ الصفحة: 2 الأدلة على عذاب القبر الإيمان بالبرزخ وما يكون فيه ثبت تفصيلاً بالسنة، وثبتت أدلته من القرآن، وقد روي أن امرأة من اليهود دخلت على عائشة، فكان من جملة ما قالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فأنكرت عائشة أن يكون في القبر عذاب، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم سألته، فقال: (نعم، إن القبر فيه عذاب وفيه نعيم) أو كما قال. وقد استدل الشارح على عذاب البرزخ بآيات، وابتدأ بقوله تعالى في قصة آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، في بعض الحكايات أن أناساً رأوا في المنام أو في اليقظة أن طيوراً تذهب أول النهار وهي بيض إلى وراء البحر، وترجع في آخر النهار وهي سود، فقيل له: إن هذه أرواح آل فرعون في أول النهار تعرض على النار فتحترق، ثم ترجع فتعود كما كانت، ثم ترجع في آخر النهار فتحترق، يعرضون على النار فيحترقون فتسود ألوانهم، هذا عذاب البرزخ، يعرضون على النار غدواً أول النهار، وعشياً آخر النهار. فإذا كان هذا في حق آل فرعون فكذلك كل كافر، وكل خارج من الإسلام، وكل مبتدع؛ يثبت له هذا العذاب الذي ثبت لآل فرعون. الآية الثانية في آخر سورة الطور، وهي قوله تعالى بعدما ذكر يومهم الذي فيه يصعقون، وهو يوم القيامة، قال: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} [الطور:47] (عذاباً دون ذلك) يعني: قبل ذلك، فسر هذا العذاب بأنه عذاب القبر، وقيل: إنه عذاب في الدنيا، ورجح الشارح أنه عذاب القبر؛ وذلك لأن كثيراً منهم مات ولم يعذب في الدنيا، فدل على أنه لابد أن يأتيه عذاب قبل عذاب يوم القيامة، ولا يكون إلا عذابه في البرزخ. وقد استدل أيضاً بقوله تعالى في سورة السجدة: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى} [السجدة:20-21] ففسر العذاب الأدنى بأنه عذاب البرزخ، فإن عذاب القبر قبل العذاب الأخروي. واستدل أيضاً عليه بقوله تعالى في سورة التوبة لما ذكر المنافقين: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101] المرتان قيل: مرة في الدنيا ومرة في البرزخ، أو مرتين في البرزخ، يعني: عذاب على الأرواح وعذاب على الأبدان، فهذه أدلة تدل على إثبات عذاب القبر من القرآن. وقد تكلم العلماء على القبور وما يكون فيها، فكتب المتقدمون كتباً كثيرة كـ ابن أبي الدنيا له كتاب مطبوع فيمن شوهد يعذب في قبره، وكذلك ابن القيم في كتابه المسمى بكتاب الروح، تكلم فيه على عذاب القبر، وذكر الأدلة عليه، وذكر أنواعه، كذلك تلميذه ابن رجب في كتابه الذي يسمى: (أهوال القبور وأحوال الموتى إلى النشور) تكلم فيه على عذاب القبر وأنواعه، وتوسع في ذلك، وذكروا أمثلة وأدلة على ذلك. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 3 شرح حديث البراء الطويل في عذاب القبر وردت أحاديث كثيرة تدل على إثبات عذاب القبر، وذكر الشارح بعضها كما سمعنا، وذكر ابن كثير في التفسير عند قوله تعالى في سورة إبراهيم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] أنها نزلت في عذاب القبر، وقد أورد عندها أحاديث كثيرة طويلة وقصيرة فيها ذكر ما يعرض على الميت في قبره وما يناله من العذاب، ومنها هذا الحديث الطويل الذي سمعناه، فنتأمل في هذا الحديث، ونأخذ منه عبرة. يشترك المؤمن والكافر في أن ملك الموت يجلس عند رأس كل واحد منهما، إلا أنه يقول للمؤمن: اخرجي أيتها الروح الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان، ويقول للكافر: اخرجي أيتها الروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى سخط من الله وغضب. أما روح المؤمن فإنه يسلها كما تسل الشعرة من العجين، أو تسيل روحه كما تسيل القطرة من فم السقاء، وأما روح الكافر فتتفرق في جسده فينتزعها بقوة كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، والسفود هو الذي له أطراف من حديد محددة، إذا أدخل في الصوف المبلول لا يخرج إلا بعد ما يتقطع الصوف، وبعدما يتقطع ما علق به، وأنت إذا أردت أن تخرج شوكة من وسط صوف أو قطن ما تخرج إلا بعد أن يتقطع الذي حولها، فروح الكافر تتفرق في جسده، وينتزعها الملك بقوة فتتقطع العروق، وتتقطع الشرايين، فلا تخرج إلا بقوة، وهذا دليل على أن هذا أول عذاب. وبعدما تخرج الروح تأخذها الملائكة، فملائكة المؤمن كأن وجوههم الشمس، وملائكة الكافر سود الوجوه، ومع ملائكة المؤمن أكفان من الجنة، وحنوط من الجنة، والحنوط هي الأطياب التي يطيب بها الميت، فالميت يطيب بدنه بأنواع من الطيب، وروحه كذلك تطيبها الملائكة بحنوط من الجنة، وياسمين من الجنة، وأكفان من الجنة، وأما الكافر فإن روحه تجعل في تلك المسوح، وهو الخشن من ثياب الصوف الذي في غاية الخشونة، هذا الفرق بينهما. بعدما يُصعد بها يخرج من المؤمن كأطيب ريح مسك وجدت على وجه الأرض، ويخرج من الكافر كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، مع أنها روح، ولكن هذه لها رائحة طيبة، وهذه لها رائحة خبيثة. وكذلك المؤمن يسمونه بأحسن أسمائه في الدنيا، والكافر بأقبح أسمائه في الدنيا، والمؤمن يستفتح له فتفتح له أبواب السماء، ويشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء الثانية، وهكذا حتى تصل روحه إلى السماء السابعة، فعند ذلك يقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتصعد روحه وتصل إلى السماء السابعة، ويكتب كتابه في عليين كما في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] مشتق من العلو. وأما الكافر فيقول: اكتبوا كتابه في سجين، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] سجين قيل: إنه مشتق من السجن، يعني: كأن أرواحهم مسجونة في أسفل الأرض السابعة، فيكون هذا مستقر أرواحهم، ومحل كتابهم، وروح الكافر لا تفتح لها السماء، {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] الجمل هو زوج الناقة، وسم الخياط هو ثقب الإبرة، فالإبرة التي يخاط بها لها ثقب يدخل فيه السلك الذي يخاط به، فكيف يتصور أن الجمل يدخل من ثقب الإبرة التي يخاط بها؟ والمعنى: أنهم لا يدخلون الجنة حتماً؛ لأنه لا يتصور دخول الجمل في سم الخياط. كذلك روح الكافر تطرح من السماء طرحاً إلى الأرض، واستدل عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] في مكان بعيد، فتطرح روحه طرحاً. وكل منهما تعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان يقال لهما: منكر ونكير كما سمعنا، ويسألانه عن ثلاث مسائل: عن ربه ونبيه ودينه، فيثبت الله المؤمن وينطقه بالصواب، ولو كان أمياً، ولو كان لا يقرأ، ولكن عقيدته التي مات عليها يبقى عليه أثرها، فينطقه الله بأن يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، أما الكافر فكما سمعنا ولو كان قارئاً، ولو كان عالماً، ولو كان فاهماً، يزيغه الله ويضله، فلا يدري بالجواب، فيقول: هاه هاه! لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، وفي بعض الروايات: (يضرب بمرزبة من حديد) ، والمرزبة هي حديدة كبيرة لها رأس كبير، يضرب بها، يقول في بعض الروايات: (لو ضرب بها جبل لكان تراباً) ، وماذا يتحمل هذا الإنسان الذي يضرب بهذه المرزبة؟! ولكن لأن الله ما أراد إفناءه لم يفن، فيتألم بذلك وإن كنا لا نشعر بذلك، ولا تدركه أفهامنا. ثم إذا سئل المؤمن وأجاب بالجواب الصحيح يقول الله: صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وريحانها، وينظر إلى منزله من الجنة، وفي بعض الروايات: (يفتح له بابان: باب إلى النار ويقال: هذا المنزل الذي أعاذك الله منه، وباب إلى الجنة ويقال: هذا منزلك الذي أبدلك الله به -فينظر إليهما ويراهما جميعاً، ويتمنى أن تقوم الساعة- فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، فيفسح له في قبره مد بصره) ، ويكون القبر عليه روضة من رياض الجنة، وإن كنا لا ندرك ذلك. وأما الكافر والعياذ بالله فيقول الله: كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، فيكون عليه حفرة من حفر النار، وإن كنا لا ندرك ذلك؛ لأنه في عالم ونحن في عالم. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 4 الرد على من ينكر عذاب القبر وردت الأدلة التي تثبت عذاب القبر مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا وضع الرجل في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيجلسانه) ، إلى آخر الأحاديث التي سمعنا. فإذا قال قائل: أين العذاب ونحن قد نحفر القبر بعد يومين أو بعد أيام ونجده كما هو لم يتغير؟ ويقول بعضهم: إنا نضع على صدره الزئبق الذي هو خفيف الحركة، ومع ذلك نجده على حاله لم يتغير عن موضعه، فكيف يكون العذاب مع هذا؟ ف الجواب أنكم في عالم وهم في عالم، والعالم الذي هم فيه هو عالم الأرواح، ولا شك أن الروح هي التي يكون عليها الحساب، وعليها العذاب، وهي التي تتألم وتتنعم، ونحن لا نشعر بذلك، ولا تدركه أفهامنا، والذي في الدنيا لا يشعر بما يكون بعد الموت؛ فلأجل ذلك يقول في الحديث: (إنه يصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق) لو أسمعنا الله ما يكون من أهل القبور لما استقر الناس في الدنيا، ولما تهنوا بمأكل ولا بمشرب، ولما عمرت هذه الدنيا بأهلها؛ لأنهم إذا كانوا يسمعون عذاب هؤلاء وصياحهم وعويلهم، ويعلمون أنهم سيصيرون إلى مثل ذلك، تنكدت عليهم الحياة، وتكدر عليهم صفوها، وتكدرت عليهم معيشتها؛ فلأجل ذلك لما أراد الله عمارة هذه الدنيا حجب عنهم الأمور الأخروية، التي أولها ما بعد الموت، حجبها عنهم فلا يسمعون شيئا ًمما فيها، ولا يعلمون حقيقته، ولكن قد يطلع الله أفرادا ًعلى شيء من ذلك، ومن أراد أمثلة لذلك فيرجع إلى الكتب التي ذكرنا، مثل كتب ابن أبي الدنيا فله رسائل في ذلك، وكتاب أهوال القبور لـ ابن رجب، وكتاب الروح، فقد ذكروا عن أناس أنهم أطلعوا على بعض الأمور الأخروية، ومنها ما هو أحلام ومرائي، ومنها ما هو رأي عين، وفي بعض الحكايات أن بعضهم رؤي في المنام وعلى وجهه سفعة من سواد، فقيل له: ما هذا السواد في وجهك؟ فقال: دفن عندنا بشر المريسي فزفرت جهنم زفرة، فنال جميع أهل القبور منها هذه السفعة من السواد! ومعلوم أن المقبورين قد يكون أحدهما سعيداً والآخر شقياً، ويدفنان في قبر واحد، ويكون هذا قبره روضة من رياض الجنة، وهذا حفرة من حفر النار، وهما ملتصقان، ولا يتألم هذا بعذاب هذا، ولا يتنعم هذا بنعيم هذا، والله قادر على كل شيء؛ لأنه يقدر على إيصال كلٍ ما يستحقه، ولا يستبعد في قدرة الله أمثال هذه الأمور. وأما الحكايات الدنيوية فذكروا منها أشياء كثيرة، ذكروا أن فلاناً لما دفنوه، وسووا عليه لبنه، سقطت قلنسوة واحد منهم، فخفض رأسه ليأخذها، فرأى القبر قد مد وقد وسع في نظر عينه، ولم يره غيره! وهذه بشرى. وكذلك يحكى عن كثير من الذين يشهد لهم بالخير أنه يخرج من قبورهم رائحة المسك، وأنه يشم منهم قبل أن يدفنوا روائح طيبة على الأبدان، فكيف بالأرواح؟! ولا شك أن الله سبحانه أخبر على لسان رسله بهذه الأمور، وأظهر منها علامات لتكون شاهداً ودليلاً للأمة على مثل هذه الأمور التي لم يروها. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 5 إطلاع الله نبيه على عذاب بعض أهل القبور أطلع الله نبيه على ما لم يطلع عليه غيره، ففي بعض الأحاديث أنه كان صلى الله عليه وسلم راكباً على حمار فأقبل على خمسة قبور، فحادت الأتان التي كان راكبها، فنزل وسأل: (لمن هذه القبور؟) فأخبر بأنهم من المشركين، فأخبر بأن الأتان -التي هي أنثى الحمر- لما سمعت عذابهم أو أحست بما هم فيه من العذاب حادت، فأطلعه الله على ذلك، ولم يطلع عليه غيره، ولا يلزم أن يكون ذلك مطرداً، يعني: ليس كل من ركب حمار ومر على قبر أن ينتبه له ذلك الحمار أو نحوه، والدواب قد يكون لها سماع وانتباه لشيء لا نسمع به، ولكن قد لا يظهر عليها أثر ذلك السماع، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الدواب في صباح كل يوم جمعة تصيخ قرب الصباح إلى طلوع الشمس تخشى أن يكون ذلك هو يوم القيامة، يقول في الحديث في فضل يوم الجمعة: (وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة حتى تطلع الشمس مخافة أن تقوم الساعة) ، ونحن لا نشعر بهذه الإصاخة التي فيها، ولا هذا الوجل، ولا هذا الخوف، وكذلك أيضاً لا نشعر بما يحصل لها من الخوف أو من السماع المفزع أو نحو ذلك، وأما الرسل فالله تعالى يطلعهم على بعض الأمور الغيبية، ومن ذلك أن الله أطلع نبيه على هذين القبرين اللذين يعذبان، وما يعذبان في كبير، وقد مر الحديث، وفيه: (أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، فدعا بجريدة فشقها نصفين، وغرز في كل قبر واحدة وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) ، وهذا من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام، فالله تعالى هو الذي يطلعه على ما يشاء، ولا يجوز لغيره أن يغرز جريدة أو عصاً رطبة على أي قبر، ولا يمكن أن يقاس على الجريدة التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم غيرها. وقد ذكر عن بعض العلماء أنهم استحبوا أن يغرس على كل قبر جريدة، وكلما يبست نزعوها وغرسوا أخرى، وهذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم مع كل أحد، ولم يفعله الصحابة، ولا نقل عن الأئمة، فلا يجوز، ولا يكون له وجه من الدلالة، ولكن علينا أن نعمل الأعمال الصالحة التي تنجي من عذاب القبر، وعلينا أن ننصح المسلمين ألا يعملوا عملاً يدخلهم في العذاب، أو يؤهلهم إلى العذاب، ونحثهم على الأعمال الصالحة التي يستحقون بها نعيم البرزخ، وينجيهم الله بها من عذاب النار، وعذاب القبر. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 6 الدعاء للميت بالنجاة من عذاب القبر يستحب في الصلاة على الجنازة أن يدعى للميت بالنجاة من عذاب القبر، يقال في آخر الدعاء له، بعدما يدعى له بالمغفرة، وأن تكفر عنه خطاياه: اللهم افسح له في قبره، ونور له فيه. وهذا مما يرجى إجابته، فيفسح له في قبره، ويقال أيضاً: اللهم أنجه من عذاب القبر وعذاب النار. هكذا يستحب أن يدعى للميت، ويدعى كذلك لكل المسلمين أن ينجيهم الله من عذاب القبر، ومن فتنة القبر، ومن فتنة ما بعد الموت. وإجماع المسلمين على الدعاء بذلك، حتى أوجبه بعضهم في آخر الصلاة، دليل على أنهم يوقنون بذلك، ويدل على وجوده قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) ، فجعل من جملتها عذاب القبر، فدل على أنه عقيدة راسخة عند المسلمين، وهي أن القبر فيه عذاب، ولو لم يقبر الميت، قد يقال: إن هناك أمماً لا يدفنون أمواتهم، بل يحرقونهم كما هو معروف، وهناك من يموت في صحراء ولا يدفن، بل تأكله الطيور، وتتقطعه السباع، ولا يبقى له جثة تدفن أبداً! فنقول: يأتيه عذابه أو نعيمه ولو كان رماداً، ولو كان تراباً، فقدرة الله تأتي على كل شيء، يعذب أو ينعم أياً كانت حياته وحالته، لكن الأصل شرعية الدفن للأموات، فالإسلام شرع التدافن، يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] أي: فشرع أن يقبر، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع) كأنه يقول: إنهم لو سمعوا ما يسمعه من المعذبين في القبر لخشي أنهم لا يتدافنون، فيقولون: لا حاجة إلى الدفن، لا ندفنه إذا كان يعذب في قبره، لكن شرع الله التدافن، وقدر أن يصل العذاب أو النعيم إلى كل أحد سواء دفن أو لم يدفن. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الطحاوية [61] اختلف العلماء في مستقر الأرواح بعد الموت، والراجح أنها تتفاوت في مستقرها بعد الموت تفاوتاً كبيراً بحسب منازلها، وقد دل على هذا نصوص كثيرة من الكتاب والسنة. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 1 الأرواح من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله، وبما أخبرت به رسل الله، فالإيمان بالرسل داخل في الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر داخل في الإيمان بالله؛ لأنه خبر الله، الله هو الذي أرسل الرسل، فمن آمن بالله آمن برسله، والله أخبر باليوم الآخر فمن آمن بالله آمن بخبره، واليوم الآخر يراد به ما بعد الموت، كلما يكون بعد الموت فهو من اليوم الآخر؛ ولذلك يقولون: من مات فقد قامت قيامته، فأول الآخرة وأول مراحلها خروج الروح، وبعدها يبدأ الإنسان في الجزاء، قبل خروج الروح هو في العمل، وبعدها يدخل في الجزاء، ويلقى جزاءه من حين تخرج الروح حيث يلقى مقدمات الجزاء على الأعمال إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وقد عرفنا ما يحصل لروح المؤمن ولروح الكافر عند خروجها، وإن كنا لا نراها، وكذلك ما يحصل من عذاب القبر ونعيمه، ومن سؤال منكر ونكير، فذلك كله داخل في الإيمان باليوم الآخر، وإذا آمن العبد بما بعد الموت فإن من آثار الإيمان الاستعداد، وهو أن يعمل لما بعد الموت كما في الحديث: (الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت) والكيس: هو الحازم الفطن، الذي دان نفسه يعني: حاسبها وعمل لما بعد الموت، فإن ما قبل الموت قد ضمنه الله لمن عمل عملاً صالحاً، بل لكل الخلق، وإنما الذي لم يضمن هو ما بعد الموت، فليجتهد العبد حتى إذا قامت قيامته وجد جزاءه أحوج ما يكون إليه. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 2 مستقر الأرواح بعد الموت قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وقد اختلف في مستقر الأرواح ما بين الموت إلى قيام الساعة، فقيل: أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار، وقيل: إن أرواح المؤمنين بفناء الجنة على بابها يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها، وقيل: على أفنية قبورهم، وقال مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت، وقالت طائفة: بل أرواح المؤمنين عند الله عز وجل، ولم يزيدوا على ذلك، وقيل: إن أرواح المؤمنين بالجابية بدمشق، وأرواح الكافرين ببرهوت بئر بحضرموت، وقال كعب: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس، وقيل: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكافرين ببئر برهوت، وقيل: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله، وقال ابن حزم وغيره: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها، وقال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم، وعن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض الجنة، تأتي ربها كل يوم تسلم عليه، وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض، وهذا قول من يقول: إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه، وقولهم مخالف للكتاب والسنة. وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها، فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الروح، وهذا قول التناسخية منكري المعاد، وهو قول خارج عن أهل الإسلام كلهم، ويضيق هذا المختصر عن بسط أدلة هذه الأقوال والكلام عليها، ويتلخص من أدلتها أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت، فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم، ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا كلهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه، كما في المسند عن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلاً جاء إلى النبي فقال: (يا رسول الله! ما لي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة، فلما ولى قال: إلا الدين، سارني به جبرائيل آنفاً) . ومن الأرواح من يكون محبوساً على باب الجنة، كما في الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة) ، ومنهم من يكون محبوساً في قبره، ومنهم من يكون في الأرض، ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة، كل ذلك تشهد له السنة، والله أعلم] . الأرواح باقية بعد الموت، والفناء يكون على الأجساد، فإذا عرفنا أن الأرواح باقية فأين تكون هذه الأرواح؟ سمعنا هذه الأقوال الكثيرة في مستقر الأرواح، وهذه الأقوال الغالب أنها مبنية على الظن، وقد يكون بعضها له دليل، ولكن يظهر أن الأرواح تتفاوت بحسب الأعمال، والله تعالى قد ذكر بعض هذه الأقوال أو أشار إليها، وكذلك الأحاديث، فقد ثبت في الحديث الصحيح: (أرواح الشهداء في جوف طير خضر تعلق من شجر الجنة) ، ومعناه: أن أرواحهم تكون في الجنة، وثبت في القرآن أن أرواح آل فرعون تعرض على النار: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر:46] وعلى هذا فأرواح آل فرعون في النار تعرض عليها غدواً وعشياً. وورد في القرآن قول الله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] و {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] وسجين فسر بأنه في الأرض السابعة، وعليون فوق السماء السابعة، ومعنى أن كتابهم في عليين أي: كتاب أعمالهم وقيل: وأرواحهم كذلك، وقد مر بنا في حديث البراء الطويل أن الله يقول: (اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وردوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم) ، ويقول في الكافر: (اكتبوا كتاب عبدي في سجين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم) ، وذكر فيه أن روح الكافر تطرح طرحاً، وقرأ قول الله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] فدل على أنه يطرح من السماء، ويتألم بذلك الطرح. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 3 الروح لا تدركها الأبصار في الدنيا الروح بعد خروجها من الجسد ليست مرئية، لا يراها البشر، ولا تدركها الأبصار كما لا يرون الشياطين ولا يرون الجن، فكذلك لا يرون أرواح الموتى عند خروجها، فأما مستقرها فلم يرد نص صريح في أنها تستقر في مكان كذا وكذا، فالذين قالوا: إنها تنعدم العدم المحض فهؤلاء ينكرون عذاب القبر، وينكرون نعيمه، وينكرون تألم الروح، وينكرون إعادتها في الجسد؛ لأنها إذا عدمت كما عدم البدن ما بقي لها حياة، ولا بقي لها تألم ولا عذاب، ولا صار القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار كما تقدم، فهذا قول باطل، وهو قول من يقول: إنها تنعدم. وكذلك القول الذي هو أبشع منه -وهو قول الفلاسفة- أنها تكون في أجساد تلائمها، فروح الكافر إذا مات جعلت في كافر آخر، وروح المؤمن إذا مات جعلت في مؤمن آخر جديد، إذا مات هذا وولد هذا أخذت روح هذا ونفخت في هذا، ويسمى هؤلاء أهل التناسخ أو التناسخيين؛ وذلك لأنهم يقولون: نسخت روح هذا وجعلت في هذا. وينكرون أيضاً بعث الأجساد، وهذه عقيدة الفلاسفة، يقولون: الأجساد لا تعود، وكذلك ينكرون بدء الخلق، ويقولون: الخلق ليس له مبدأ. وينكرون أيضاً فناء الدنيا، ويقولون: هذه الدنيا مستمرة وليس لها نهاية، بل تستمر هكذا إلى غير نهاية، وينكرون الحشر والجزاء في الآخرة ويوم القيامة والنفخ في الصور وما أشبه ذلك، هؤلاء هم التناسخيون والفلاسفة. أما الذين يقولون: هذه في الجنة وهذه في النار، أو يقولون: إن أرواح المؤمنين على أبواب الجنة، وأرواح الكافرين على أبواب النار، أو يقولون مثلاً: إن أرواح المؤمنين على أفنية قبورهم، وكذلك أرواح الكافرين، أو يقولون: إنها في داخل القبور، أو يقولون مثلاً: إن أرواح المؤمنين في بئر زمزم، وإن أرواح الكافرين في بئر برهوت، وهي بئر منتنة كما يذكر بعضهم، وهي في بلاد حضرموت؛ كل هذه أقوال ظنية ليس لها دليل قطعي، ونحن تحققنا أن الأرواح تخرج من الأبدان، وأن أرواح المؤمنين منعمة، وأرواح الكافرين معذبة، وأما مقرها فلا علم لنا به. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 4 كيفية تعارف الأرواح إذا خرجت الأرواح وهي باقية، فكيف مع ذلك تتعارف؟ ورد في الحديث: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) ، فهي أرواح ومع ذلك يلقى بعضها بعضاً، فكيف يعرف هؤلاء أن هذه روح فلان؟ لابد أنهم يعرفون الروح بميزة تتميز بها، حتى ولو كانت روحاً، والأجساد فيها علامة ظاهرة يتميز بها الناس، في صورته في طوله في قصره في شعره في وجهه في بياضه في سواده، والروح لابد أن لها هناك ميزة يعرفونه بها ويميزونه، فالصحيح أنها باقية، وأنها تتعارف، وتتآلف، وأنهم يلقى بعضهم بعضاً، جاء في بعض الأحاديث: (إذا مات الميت وخرجت روحه تلقاه الأموات الذين سبقوه، وقالوا: ما فعل فلان؟ فإذا قال: إنه قد جاءكم، يعني: قد مات، قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم وبئست المربية) ، إذا كان مات ولم يأتهم عرفوا أنه بعد موته شقي، وأنه ذهب به إلى دار غير دارهم، فدل على أن أرواح المؤمنين تجتمع، ويأتي بعضهم بعضاً، ويعرف بعضهم بعضاً، ويتفقد بعضهم بعضاً، ويفرحون بمن مات وجاءهم، وصار معهم في أرواح المؤمنين، ويحزنون إذا مات أحد ولم يأتهم، ويعرفون أنه ذهب به إلى غير موضعهم ومحلهم، وهو الهاوية التي هي دار العذاب، فكل ذلك دليل على أنهم يتلاقون، وأما مقرهم فالله أعلم هل هو في السماء أم في الأرض أم على أفنية القبور أو في الجنة أو في النار أو في بئر برهوت أو في بئر زمزم أو أي مكان؟ كل ذلك ليس عليه دليل يقيني، والذي تحقق بقاؤهم وتلاقيهم. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 5 أرواح الشهداء قال الشارح رحمه الله: [وأما الحياة التي اختص بها الشهيد وامتاز بها عن غيره في قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] ، وقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] ، فهي أن الله تعالى جعل أرواحهم في أجواف طير خضر كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما أصيب إخوانكم -يعني: يوم أحد- جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مدللة في ظل العرش) ، الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود، وبمعناه في حديث ابن مسعود رواه مسلم. فإنهم لما بذلوا أبدانهم لله عز وجل حتى أتلفها أعداؤه فيه، أعاضهم منها في البرزخ أبداناً خيراً منها، تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون تنعمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من تنعم الأرواح المجردة عنها؛ ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير، وتأمل لفظ الحديثين: ففي الموطأ أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله قال: (إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) ، فقوله: (نسمة المؤمن) تعم الشهيد وغيره، ثم خص الشهيد بأن قال: (هي في جوف طير خضر) ، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير فتدخل في عموم الحديث الآخر بهذا الاعتبار، فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم، وإن كان الميت على فراشه أعلى درجة من كثير منهم، فله نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه، والله أعلم. وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء كما روي في السنن، وأما الشهداء فقد شوهد منهم -بعد مدد من دفنه- كما هو لم يتغير، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة والله أعلم، وكأنه -والله أعلم- كلما كانت الشهادة أكمل، والشهيد أفضل، كان بقاء جسده أطول] . البحث الذي تقدم هو على الأرواح عموماً، وهذا الكلام على أرواح الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، فقد أخبر الله بحياتهم فقال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169-171] ، وكونهم أحياء هي حياة برزخية، ومعلوم أنهم أموات، أي: أن أرواحهم قد خرجت من أبدانهم، ومعلوم أن أبدانهم بقيت لا إحساس فيها ولا حياة فيها كحياة أهل الدنيا، ومعلوم أنهم ليسوا كحياتهم قبل أن يموتوا أو يقتلوا، فلا يحتاجون إلى أكل، ولا شرب، ولا تخل، ولا تنقل، فهي حياة برزخية، وقد فارقوا الدنيا، وقسمت أموالهم على الورثة، وحلت نساؤهم لغيرهم. فحياتهم -كما ذكر الله- عند ربهم، فهم أحياء عند ربهم، وهذه العندية تفيد مزية، وتفيد فضيلة، فهم عند ربهم يرزقون، ولو كانوا في الجنة فهم عند ربهم، ولو كانوا في قبورهم فأرواحهم عند ربهم، وأخبر بأنهم يرزقون، والرزق قد يكون حسياً، وقد يكون معنوياً، فإذا كان حسياً فمعناه أنهم يحتاجون إلى ما يحتاج إليه أهل الدنيا من الأكل والشرب، ولكن معلوم أن ذلك ليس للأجساد، وإنما هو للأرواح، ففي هذه الأحاديث أن أرواحهم نقلت إلى أجساد طير خضر تعلق في شجر الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة في الجنة، ومعلوم أن الطير تشاهد بالعين؛ ولهذا وصفها بأنها خضر، فكأن روح الشهيد أدخلت في هذا الطير، فأصبح حياً يطير ويتقلب ويدخل الجنة، ويعلق في شجرها يعني: يأكل، ويأوي إلى قناديل، والقناديل هي السرج التي فيها أنوار معلقة في الجنة، فهذه هي أرواحهم، وذكر الله أنهم يستبشرون بأصحابهم الذين يأتونهم، كلما جاءهم شهيد فرحوا به، يستبشرون بمن جاءهم من الأحياء، ويستبشرون أيضاً بنعمة الله التي أنعم عليهم. لا شك أن الشهداء لهم هذه المزية، وهي أن أرواحهم باقية، وأنها في أجساد، وأنها تتنعم، أما أرواح غيرهم فلم يذكر أنها في أجساد، بل تكون بدون جسد، أرواحهم كأرواح الشياطين وأرواح الجن ليس لها أجساد تقوم بها. كذلك أيضاً معلوم أن أبدانهم تدفن في الأرض، وقد يكون بعضها لا يستطاع دفنه، فإن كثيراً من الوقائع التي وقعت بين المسلمين والمشركين يقتل فيها مثلاً خمسون ألفاً، أو مائة ألف، ويصعب أن يدفنوا، فيبقون على الأرض، إما أن تطول مدتهم وهم باقون على الأرض وإما ألا تطول مدتهم، وبلا شك أنهم يفنون بالعيان، تأكلهم الأرض وتأكلهم الطيور، وما أشبه ذلك، أما الذين يدفنون فقد ورد ما يدل على أنهم يبقون مدة، فذكر جابر رضي الله عنه أن أباه لما قتل في أحد دفن هو ورجل آخر في قبر واحد، يقول: فلم تطب نفسي أن أتركه ومعه غيره، فحفرت قبراً مستقلاً، وذلك بعد ستة أشهر أو نحوها، يقول: فاستخرجته فإذا هو كما هو، لم يتغير بعد ستة أشهر إلا شعرات في قفاه قد أكلتها الأرض، تغير الشعر فقط، أما بدنه فإنه متصلب وباقٍ لم تأكله الأرض، هذا والد جابر بن عبد الله. وذكر لنا قبل سنوات، أن بعض الإخوان ذكروا أنهم حفروا في بعض الأماكن فعثروا على جثة أحد الإخوان الذين قتلوا في سنة سبع وثلاثين في الوقعة التي تسمى تربة وإذا هو لم تأكله الأرض. أي: بعد أكثر من خمسين أو ستين سنة لم تأكله الأرض، ولا يزال بدنه باقياً. وذكر لنا أيضاً عن القتلى الذين قتلوا في أفغانستان أن كثيراً منهم نبشوا بعد أيام، ووجدوا لم تأكلهم الأرض، ويذكرون أنهم يجدون القتلى من الشيوعيين ورائحتهم نتنة، بعد اليوم الثاني لا يستطيع أحد أن يقربهم، والقتلى من المسلمين الشهداء يدفنون بعد خمسة أيام ولا يحس برائحتهم، بل يكون منهم رائحة المسك، فهذا دليل على هذه الحياة، وأن الحياة يصل أثرها إلى البدن: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] ؛ ولأجل ذلك قال الله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] ، فحياتهم ولو كانت حياة برزخية، ولو كانت حياة على الأرواح، لكن يصل أثرها إلى الأجساد، ولو أنها فنيت بعد مدة، ولو تمزقت وصارت أشلاء، لكن لابد أن أثر هذه الحياة ونعيمها ينال البدن كما ينال الروح، وهذه من كرامة الله لأوليائه الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله، لما رخصت عندهم هذه الحياة، وآثروا الحياة الآخرة على الحياة الدنيا، وقدموا رضا الله تعالى على شهوات نفوسهم؛ عجل لهم الثواب عاجلاً، فيرى أثره في الدنيا، يراه أهل الدنيا، ولعل في ذلك ما يحمل أهل الدنيا على المنافسة، وعلى بذل المهج في سبيل الله، وعلى بذل كل شيء فيه إعزاز دين الله ونصره، فهذا معنى الحياة التي وصف الله بها الشهداء من عباده، وقد سماهم شهداء في قوله تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] ، والشهداء هم الذين يقتلون في سبيل الله، سموا بذلك، قيل: لأنهم يشاهدون الآخرة كرأي العين، وقيل: لأنهم شهداء على الأمة كقوله تعالى: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78] هذا بالنسبة لأرواح الشهداء. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 6 أرواح الأنبياء الأنبياء أعلى مقاماً من الشهداء؛ وذلك لأن الله ميزهم بميزة، وخصهم بكرامة، وهي اختصاصهم بالنبوة، وبالوحي، وبالرسالة، وبالفضيلة التي فضلهم بها على غيرهم، ومعلوم أنهم يموتون كما قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ، وإذا كانوا يموتون ولابد بمعنى أنهم يخرجون من هذه الدنيا إلى الآخرة، فإن لهم حياة أكمل من حياة الشهداء، ولكنها حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء، فأجسادهم لا تبلى، بل تبقى في القبور ولا تأكلها الأرض، ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن من خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا من الصلاة علي فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: يا رسول الله! كيف تعرض عليك وقد أرمت -أي: بليت-؟ فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) ، فأجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض ولا تبلى، ولو أنهم دفنوا في الأرض، ولو لم تعرف أماكنهم. ومن العلماء من يقول: إنهم يرفعون؛ ولذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في السماء، فرأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية، ورأى يوسف في السماء الثالثة، ورأى إدريس في السماء الرابعة، ورأى هارون في السماء الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، ولكن الصحيح أن الذي رآه أرواحهم، وأنها مثلت في أجساد حتى رأوه وعرفوه وسلموا عليه، وقالوا: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، أما أجسادهم فيمكن أنها رفعت، ويمكن أنها دفنت في الأرض، وهو المتبادر. وبكل حال فلا شك أنهم أكمل من الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، وبلا شك أن بعض الشهداء قد يكون عليه شيء من الذنوب التي لا تكفرها الشهادة، كما في الحديث أن رجلاً قال: (يا رسول الله! هل تكفر الشهادة ما علي من الذنوب؟ قال: نعم، ثم قال: إلا الدين، أسره إلي جبريل) ، أو قال: (أرأيت إن قتلت في سبيل الله هل يغفر لي؟ قال: نعم، ثم قال: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أيغفر الله لي؟ فقال: نعم إلا الدين) ، فهذا دليل على أن الذي عنده شيء من حقوق الآدميين لا تغفر له، بل لابد فيها من المحاقة والمقاصة في الآخرة، فإذا لم يوف له أولياؤه في الدنيا فإنها تؤخذ من أعماله في الآخرة، وأما خطاياه التي بينه وبين ربه فإن القتل في سبيل الله يمحوها كلها، ولا يبقى عليه ذنب. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الطحاوية [62] الجزء: 62 ¦ الصفحة: 1 حقيقة الخلاف بين أبي حنيفة وأهل السنة في مسمى الإيمان السؤال نرجو من فضيلتكم زيادة الإيضاح: كيف يكون الخلاف بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة خلافاً معنوياً وليس خلافاً صورياً كما قال الشارح رحمه الله، مع أن الجميع متفقون على أن فاقد الإيمان كافر، وفاقد العمل فاسق؟ الجواب هذه المسألة سيشرحها ويوضحها الشارح فيما بعد، ويذكر الأدلة التي يستدل بها الحنفية، والراجح أن النزاع معنوي لا لفظي، ويوضح أنه ليس بلفظي أن الذين يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان؛ يتوسعون في فعل الذنوب، ويسهلون المعاصي، ويكثر فيهم اقتراف السيئات، ويقولون: ما دامت ليست من الإيمان، وما دام أن الإيمان كامل بدون هذه الحسنات، وبدون هذه القربات، فما لنا ولها؟ فلا حاجة إلى أن نتنفل، ولا حاجة إلى أن نتصدق، ولا حاجة إلى أن نتوقى المآثم والمحرمات؛ لأنها لا تنقص الإيمان، فيكثر التساهل منهم في مثل هذا، وهذا ناتج عن هذا القول، وهو القول بأن الأعمال ليست من مسمى الإيمان. أما إذا جعلناها من مسمى الإيمان فإننا نقول: إنها كلها يكون لها تأثير في الإيمان، فإذا صلى ركعتين نافلة زاد إيمانه، وإذا تصدق بصدقة ولو قليلة زاد إيمانه وانضم إليه هذا العمل، وإذا تكلم بكلمة خير زاد إيمانه، وإذا أمر بمعروف أو نهى عن منكر زاد إيمانه، وإذا خطا خطوات لله تعالى في عمل صالح زاد بذلك إيمانه، وما أشبه ذلك. كما أنه ينقص إيمانه إذا فعل ضد ذلك، إذا نطق بكلام سيء نقص إيمانه، وإذا مشى إلى ملاهي أو مآثم نقص إيمانه، وإذا أنفق في سبيل الشيطان نفقة سيئة كان ذلك نقصاً في إيمانه، وهكذا. فهذا هو التفاوت بين من يقول: إن الأعمال ليست من الإيمان، ولا حرج عليه إذا عصى وإذا أذنب، وإيمانه كامل، وهذه المعاصي لا يكون لها تأثير في الإيمان، ولا يكون لها تأثير في نقصه، ولا غير ذلك، فالإيمان موجود، والإيمان كامل، والأعمال زائدة عليه، وإن كان الناس يتفاوتون في الثواب والعقاب؛ فيفتح للناس باب التساهل في ترك الطاعات، وفي فعل شيء من المآثم، هذا هو النتيجة، أما إذا قلنا: إن الأعمال من مسمى الإيمان، وإنها داخلة فيه؛ فإن الإنسان يحرص على ما يكمل إيمانه، ويبتعد عما ينقص إيمانه. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 2 التعامل مع من يقول: الإيمان في القلب، ويترك العمل السؤال إنا نرى في زماننا هذا، وبين معارفنا مذهب جهم بن صفوان، حيث إذا أمرنا أحداً بالمعروف، ونهيناه عن المنكر الذي هو واقع فيه قال لك: إن الإيمان بالقلب، أو قال: المهم أن تكون النية صالحة، فكيف نتعامل مع هؤلاء جزاكم الله خيراً؟ الجواب عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. فجعل الذي في القلب يظهر على الأعمال، فنحن نقول لهذا: أثبت لنا أنك مؤمن، هل تريد أن نشق عن قلبك حتى نرى أنه أبيض أو أسود؟ نحن إنما نعاملك بالظاهر، فظاهرك أنك فاسق، وظاهرك أنك عاصي، وظاهرك أنك طريد شريد، ونحن نبغضك على ما يظهر منك، ونحن نمقتك وإن كان قلبك ما كان، فنحن ما نعاملك إلا بما يظهر لنا، ولا يصح أن نحسن الظن بكل أحد يقول: أنا مؤمن؛ فإن الناس لا يوثق بأقوالهم. وبكل حال هؤلاء الذين يتمادون في العصيان، ويتركون العبادات والطاعات، ويدعون أن إيمانهم كامل، وأن الإيمان يكفي فيه المعرفة في القلب الذي هو مذهب جهم؛ فسقة سيما إذا تظاهروا بالعصيان، فلا نصدقهم، بل نعاقبهم بالعقوبة التي تردعهم وتردع أمثالهم. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 3 متى يغلب الرجاء على الخوف أو العكس؟ السؤال هل يكون رجاء الإنسان حال المصائب أغلب من خوفه دائماً أم أن ذلك مخصوص بالمرض الذي يتيقن أنه سيموت بعده؟ الجواب في حالة المرض يغلب جانب الرجاء سواء رجي زوال ذلك المرض أو لم يرج، يعني: يحسن الظن بربه، ويقبل على ربه وهو واثق بأن الله تعالى واسع الرحمة وكثير العطاء، وأنه عفو يحب العفو، ويحب المغفرة، وأنه أهل التقوى وأهل المغفرة، فكل من أصيب بمصيبة أو مرض أو نحو ذلك؛ عليه أن يحسن الظن بربه، ويرجو رحمة ربه، ومع ذلك يكون خائفاً وجلاً لا يزول الخوف عن قلبه، يكون خائفاً ويكون راجياً، ولكن يغلب الرجاء؛ لأنه في هذه الحال قد لا يحسن بعض الأعمال، ويأتي من الأعمال ما يفسدها، فيلعج بالدعاء، ويكثر من الذكر، وينوي النية الصادقة أنه إذا شفي أكثر من الحسنات والقربات، وما أشبه ذلك، ويثاب على هذه النية. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 4 حكم من يستهزئ بمن استقام على الدين السؤال ما حكم من يستهزئ بمن التزم بدين الله، ويصفه بالنفاق؟ وهل يجب مقاطعته وهجره بعد دعوته إلى الدين؟ الجواب الاستهزاء قد يصل إلى الكفر، فإذا استهزأ بإنسان لأجل دينه فإن هذا الاستهزاء يوقعه -والعياذ بالله- في الخروج من الملة، فيقع في الكفر الصريح، وما ذاك إلا لأنه تنقص الدين، وما تنقص هذا الشخص، وهذا إذا تنقصه لأجل الدين، مثل أن يقول له بعد أن أقام الصلاة: هل نفعتك صلاتك؟ أو إذا أمرته بإعفاء اللحية قال: ماذا أفادتكم هذه اللحى؟ ماذا فعلت لكم؟ أنتم منافقون، ما وفرتم هذه اللحى إلا نفاقاً أو إرهاباً أو لشيء تبطنونه أو ما أشبه ذلك، فلاشك أنه تنقص هذه الشعائر الإسلامية، وهكذا بقية الأعمال، مثلاً استهزأ بالزهاد أو استهزأ بالعباد، أو بالمصلين، أو بالصائمين، أو ما أشبه ذلك؛ لأجل عباداتهم، فلا شك أن هذا ردة؛ لأنه تنقص أهل الشرع لأجل الشرع، فكأنه تنقص الشرع، ومن تنقص الشريعة فقد ارتد عن الدين والعياذ بالله. أما إذا كان تنقصه لذلك الشخص بعينه؛ لأنه يتهمه بشيء، مثلاً يقول: فلان وإن تطوع فإني لا أثق بتطوعه ولا بمظهره، يتهم ذلك، ويظهر منه أو على فلتات لسانه أنه لا يتهم من كان مثل ذلك، ما اتهم المصلين كلهم، ولا استهزأ بأهل اللحى كلهم، ولا بأهل اللباس القصير كلهم، إنما استهزأ بإنسان معين، فهذا قد لا يصل إلى هذا الحد، لكن اتهامه ذنب عليه أن يتوب منه. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 5 حكم الصدقة عن الميت السؤال بعض الناس إذا تصدق بصدقة قال: بركة نازلة، وهدية واصلة، من روحي إلى روح النبي محمد، وإلى روح أمواتنا أجمعين، فما الجائز في مثل هذا وفقكم الله؟ الجواب لا حاجة إلى هذه المقالة، ويكفيه النية، والأولى أنه يجعلها لنفسه أو يتصدق بها عن أمواته، أو عن أموات المسلمين، وأما قوله: إلى روح النبي صلى الله عليه وسلم فلا أرى ذلك؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم له مثل أعمال أمته، وإن لم يهدوا له مثلها، ولم يكن السلف يهدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال شيئاً؛ لأنه هو الذي أرشد الأمة ودلهم، فله مثل أعمالهم (من دعا إلى هدى كان مثل أجور من اتبعه) ، أما المسلمون فلا بأس أن تتصدق عنهم، أو تدعو لهم، سواء كانوا أقارب أو أباعد لا بأس بذلك، أما هذه المقالة فلا، لكن لو قلت مثلاً: اللهم اجعل ثوابها لي ولأمواتي أو للمسلمين فلا بأس بذلك. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 6 دعاء: اللهم استرني بسترك الجميل الذي سترت به نفسك السؤال ورد هذا الدعاء على ألسنة بعض الناس، وهو: اللهم استرني بسترك الجميل الذي سترت به نفسك فلا عين تراك، هل هذا صحيح يدعى به، أفيدونا أثابكم الله؟ الجواب ما ورد هذا الدعاء، قوله: الذي سترت به نفسك فلا يراك أحد. هذا خاص بالله، وهو أنه لا يرى في الدنيا، وأنه دون الأنوار كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، فلا ينبغي أن يشرك الرب سبحانه وتعالى في هذا النور أحد أو في هذا الستر، فله أن يدعو أن يستر الله عورته، وأن يؤمن روعته، كما ورد ذلك في حديث: (اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي) ، فأما سترك الجميل الذي سترت به نفسك فلا يراك أحد. فلم يرد مثل هذا. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 7 كثرة عمل السابقين من المؤمنين السؤال ذكرتم أن السابقين من المؤمنين كانت أعمالهم أقل من أعمال الذين أسلموا بعد الهجرة، مع أن الله عز وجل قد مدح السابقين في الإيمان، وقدمهم على من أسلم بعد ذلك، فكيف نوفق بين هذا وبين معتقد أهل السنة أن أكثر المؤمنين عملاً أكملهم وأقواهم إيماناً جزاكم الله خيراً؟ الجواب الذين أسلموا في أول الأمر هم أكثر أعمالاً، حيث إنهم عملوا مثلاً ثلاثاً وعشرين سنة، يعني: منذ أن أسلموا إلى الوفاة، والذين أسلموا أخيراً ما عملوا قبل الوفاة إلا سنتين، فأيهما أكثر؟ لا شك أن الذين عملوا مدة طويلة أكثر، فهذا وجه من أوجه تفضيل السابقين الأولين. ووجه ثاني: أن الأولين السابقين الذين أسلموا قبل الشرائع أسلموا في حالة قلة وذلة، وتحملوا المشاق والتعب، وهم الذين أوذوا في الله، وضربوا وحبسوا، وألقوا في الشمس، وألقيت عليهم الحجارة، وأوذوا بالجوع وبالجهد، وتحملوا ذلك، وهذا لا شك أنه زيادة في أعمالهم. وهم الذين هاجروا في الله وتركوا أموالهم وأولادهم وبلادهم، وعشائرهم وأقوامهم، وتحملوا مشاق الهجرة، وسافروا مثلاً إلى الحبشة، ولا شك أن ذلك أشق عملاً، وكل ما كان العمل شاقاً كان الأجر أكبر، فهذا وجه تفضيلهم. وأيضاً: هم الذين أسلموا من أول وهلة، أسلموا لأول دعوة، وذلك دليل على قبول قلوبهم، وقبول نفوسهم للإيمان، حيث لم يتلعثموا ولم يترددوا في قبول الإسلام، فدل على صفاء قلوبهم ونقائها مما يكدرها. وبكل حال فلا شك أن السابقين الذين سبقوا بالإيمان أقوى إيماناً، ولكن المتأخرون الذين أسلموا في سنة ثمان لما أسلموا كانت الأعمال قد كملت، فكان الصيام موجوداً، وكان الحج موجوداً قد فرض، وكان الجهاد قد فرض، وكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد شرع، وكان القرآن قد نزل كله إلا القليل، فهم كلفوا بأن يعملوا به دفعة واحدة، بخلاف الأولين فإنهم إنما كلفوا بالموجود منه، ما أنزل قبل الهجرة إلا القرآن المكي، وما فرضت الصلاة مثلاً إلا قبل الهجرة، وكذلك التوحيد ونحوه، وما حرمت الخمر في ذلك الوقت ونحو ذلك، فبكل حال هؤلاء عملوا بما أمروا به، فلهم أجر كامل، وهؤلاء عملوا بما أمروا به -أي: بعدما أسلموا في آخر الأمر- فلهم أجرهم. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 8 مرتكب الكبيرة فاسق ناقص الإيمان السؤال هل صاحب الكبيرة ناقص الإيمان؟ الجواب مذهب أهل السنة أن العاصي الذي يرتكب كبيرة يسمى فاسقاً، ويسمونه مؤمناً بإيمانه وفاسقاً بكبيرته، ويقولون: إن الإيمان في حقه موجود ولكنه شبه مفقود، حيث لا ترى عليه أثره، ويحملون على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) يعني: أنه ناقص الإيمان، أو أن الإيمان ينزع عنه في حالة الزنا مثلاً أو السرقة أو شرب الخمر، ثم لا يعود إليه كاملاً، بل يعود إليه وقد اختل ونقص، وبكل حال فأهل السنة يعتقدون أن معه أصل الإيمان الذي هو يقينه وتصديقه بأنه مسلم وبأنه من أهل الشريعة ومن أهل القبلة، ولكن لضعف إيمانه وقع في هذه المعاصي. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 9 شعب الإيمان السؤال هل يستطيع المسلم أن يستكمل الإيمان مطلقاً، حيث وشعبه قد حصرت في قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) ، الحديث؟ الجواب قد اختلف العلماء في تلك الشعب لما عدوها، وكأنهم بسبب هذا الاختلاف لم يتفقوا على تحديد؛ فلأجل ذلك قال بعضهم: إن الحصر في سبعين أو ببضع وستين ليس مقصوداً به العدد، بل المراد به الكثرة، فإنه صلى الله عليه وسلم كثيرا ًما يذكر السبعة والسبعين والسبعمائة للكثرة لا للحصر؛ وذلك لأن كثيراً من العلماء أخذوا يبوبون الأبواب التي تدخل في الإيمان ووجدوها أكثر من السبعين، وقد تصل إلى المائة والمئات، فدل على أن هذه تعتبر أصول، ومن العلماء من قال: إن البضع والسبعين يراد بها الجوامع، فمثلاً: إماطة الأذى عن الطريق شعبة من الإيمان، ولكن ليس خاصاً بإماطة الحجر أو القذاة أو القذر، بل يدخل في ذلك إزالة كل مرض وإيصال كل نفع، وله أمثلة كثيرة، فدل ذلك على أن خصال الخير كثيرة، وأن الإنسان قل أن يحيط بها. وبكل حال يوصف بأنه كامل الإيمان إذا عمل بكل أنواع الشريعة، وعمل بدقيقها وجليلها، ولم يقترف ما ينقصها، ولا ما يخل بها. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 10 مذهب الكرامية السؤال هل البخاري يكفر الكرامية والكلابية والأشاعرة؟ الجواب هذا الخلاف ما حدث إلا بعده، ابن كرام ما حدث إلى بعد البخاري، وكذلك ابن كلاب والأشاعرة ونحوهم، ففي زمن البخاري لم يكن هناك من يخالف في مثل هذا إلا الجهمية، والجهمية لم يعتبرهم من أهل السنة، إنما عرَّف أهل السنة بأنهم أهل القبلة، وكأنه لم يعتبر الجهمية من المسلمين؛ وذلك لقوة مخالفتهم للأصول، حيث اجتمع فيهم شر الخصال، وأبعدها، وأفضعها، فإنهم أشركوا بجحد الصفات، وغلو بالإرجاء، وغلوا بالجبر، وغلطوا في مسمى الإيمان بزعمهم أنه المعرفة، فاجتمعت فيهم خصال الشر كله، فلم يعتبر خلافهم، وأما من سواهم فلم يوجد إلا بعده. والحنفية في زمانه يعترفون بالإقرار، ويجعلون الإيمان هو الإقرار باللسان والاعتقاد بالجنان، والماتريدية يوافقونهم على الإقرار، وإن كانوا يخرجون القول من الإيمان، والكرامية يجعلونه الإقرار باللسان فقط، ومحمد بن كرام كان في آخر القرن الثالث، وتوفي البخاري في وسط القرن الثالث في سنة ست وخمسين ومائتين، قبل أن يشتهر ابن كرام أو قبل أن يقول بهذا القول. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 11 أسباب تقوية الإيمان السؤال إذا كان الإنسان ضعيف الإيمان، فنرجو من فضيلتكم أن ترشدنا إلى بعض الكتب المبسطة التي تقوي الإيمان في القلب؟ الجواب عليكم بكتاب الله فإن فيه الأدلة الواضحة التي أقام الله بها الحجج والبراهين، وقد كنا نتعرض في الدرس لأمثلة من ذلك، ولا شك أن كتاب الله تعالى أوضح كتاب أقام الأدلة على الإيمان وما يقوي الإيمان، فمثلاً في سورة البقرة أول أمر أمر الله به هو العبادة، وأقام عليه ستة أدلة في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21] هذا دليل، {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] دليل ثاني {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً} [البقرة:22] دليل ثالث، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22] دليل رابع، {وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة:22] دليل خامس، {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} [البقرة:22] دليل سادس، ففي هذه الآية ستة أدلة، وتأملوا أيضاً شرحها في تفسير ابن كثير، فقد ذكر عليها كثيراً من الإيضاحات. وذكرنا في درس مضى أن المشركين لما نزل قوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] قالوا: ما الدليل؟ فنزلت الآية التي بعدها وفيها بضعة أدلة وهي قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164] ففيها عدة دلالات، وهذه أدلة واضحة. وتجد كثيراً من السور متوالية وفيها عدد من الأدلة، فمثلاً في سورة المرسلات: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً} [المرسلات:25] إلخ، وفي التي بعدها: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} [النبأ:6-7] إلخ، وفي التي بعدها: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات:27-28] إلخ، وفي التي بعدها قوله: {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً} [عبس:24-26] إلخ، آيات وبراهين واضحة، وهي كثيرة مثل قوله في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ} [الروم:23] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:23] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ} [الروم:23] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ} [الروم:46] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الروم:25] إلخ، فهذه آيات فيها: براهين ودلالات، فتأملوا شرحها فإن فيها ما يقنع كل شاك أو كل متحير. والعلماء بينوا أدلة واضحة على ذلك، وتجد كلاماً جيداً لـ ابن القيم في كتابه: مفتاح دار السعادة، أحيل من في قلبه شيء من الضعف أن يقرأ ما ذكره، حيث توسع رحمه الله في ذكر الأدلة، بقوله في فصول: تأمل كذا، ثم تأمل كذا، فيما يتعلق بخلق الإنسان، وفيما يتعلق بخلق الحيوان، وفيما يتعلق بالأفلاك، وفيما يتعلق بالمخلوقات علويها وسفليها، آيات عجيبة تدل على ما وهبه الله تعالى من الفطنة، وتدل على عجائب خلق الله تعالى. وله أيضاً كلام على خلق الإنسان، الإنسان أقرب شيء إليه هو نفسه، عندما أتى على تفسير قول الله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20-21] في سورة الذاريات في كتابه الذي سماه: أقسام القرآن، وهو مطبوع مشتهر، فتكلم على الآيات التي في الأرض، وبين عجائب ما فيها، ثم تكلم على الآيات التي في الإنسان، من خلق الإنسان وعجيب تركيبه، ذكر في ذلك نحو ثلث الكتاب، مع أنه تكلم فيه على آيات كثيرة، وذكر فيه تفاصيل الإنسان وكأنه وافق الذين يشرِّحون الآن، وأهل التشريح الآن يتعجبون من تركيب هذا العرق، ومن تركيب هذه العين، وما فيها، وهو ما أدرك ذلك بعينه ولكن رزقه الله فهماً، فتكلم على هذه التفاصيل بكلام عجيب، فهذا مثال. والمتأخرون الآن قد ذكروا أدلة في بعض الكتب التي تؤلف للمناهج في العقائد، فيتكلمون على هذا ليقطعوا بذلك دابر الذين يشكون في التوحيد أو في وجود الخالق أو نحو ذلك، ويقيمون على ذلك أدلة، وهي كتب مناهج طبعت في بعض المدارس، فلو قرءوها لوجدوا فيها أدلة وبراهين، مع أنها تدرس في داخل المملكة وفي خارجها. وكذلك أيضاً كثير من المؤلفين في هذا العهد أطلعهم الله تعالى على ما أطلعهم عليه من الدراسات الفلكية ونحوها، وألفوا في ذلك كتباً وفيها مقنع، أطباء تخصصهم إما في طب الإنسان أو الحيوان، وكذلك الدكاترة الذين تخصصوا في الأفلاك أو نحوها ألفوا كتباً كثيرة، فالمتأخرون والمتقدمون كتبوا في هذا ما فيه مقنع وفيه كفاية. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 12 حكم الصلاة خلف الأشعري السؤال ما حكم الصلاة خلف رجل يقول: أنا أشعري المعتقد، وقد بين له مذهب أهل السنة واعترف بخطأ ما هو عليه، لكنه لم يرجع عن معتقده، مع العلم أنه لا يوجد في البلد من هو أحسن منه؟ الجواب لا بأس أن يصلى خلفه ولو كان على هذا المعتقد، وقد خف معتقدهم في هذه الأزمنة إلا فيما يتعلق ببعض الصفات، وبكل حال إذا لم يكن في البلد أحسن منه فيصلى خلفه لعموم الأدلة في تقديم من هو أقرأ، ومن هو أفقه، ومعلوم أن المبتدعة الأولين كان فيهم أئمة وخطباء وقضاة، تولوا القضاء وتولوا الإمامة مدة، وصلى خلفهم كثير من العلماء من أهل السنة، مع أنهم ينتحلون مذهب الأشعرية، في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية كان أكثر أهل دمشق أشاعرة، ولا شك أنه كان يصلي خلفهم كثيراً، وكذلك مصر كان أكثرهم أشاعرة، بل جلهم إلا الأفراد، ومع ذلك كان يصلي خلفهم للعذر. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 13 حكم الصلاة والصوم عن الميت الذي كان متهاوناً بهما السؤال امرأة توفي لها ابن يبلغ من العمر ثمان وعشرين عاماً، وكان يتهاون في الصلاة والصوم، فهل يصح لي وأنا أمه أن أصوم عنه وأصلي؟ وإن كان لا يصلي ولا يصوم بالكلية فهل أقضي عنه ذلك؟ الجواب إذا كان يقر بالإسلام، ويفعل شعائر الإسلام الظاهرة، فقد يكون تهاونه من باب التساهل، ومن باب التسويف والتأجيل، يعني: في نظره أنه سوف يتوب فيما بعد، فيجوز عند بعض العلماء الاستغفار له، والحج عنه، والصدقة عنه، والدعاء له وما أشبه ذلك. وذهب بعض العلماء إلى أنه لا ينفعه ذلك، ما دام أنه كان لا يؤدي الصلاة طوال حياته ولا الصيام، ففي هذه الحال لا ينفعه ذلك. ولكن إذا كان كما ذكرت أنه مجرد تهاون لا أنه ترك مستمر دائم فلعله ينفعه أن تدعو له، وأن تتصدق عنه، وأن تحج أو تعتمر عنه، أما الصلاة والصوم فهما عمل بدني، فلا حاجة لأن تصلي عنه وتصوم عنه، بل تكتفي بالدعاء له والاستغفار والترحم عليه، وما أشبه ذلك، والله تعالى يرحم من يشاء. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 14 حكم قضاء الصلوات الفائتة قبل التوبة السؤال لقد هداني الله سبحانه وتعالى بعد أن تمت لي ثلاثون عاماً، ولم أكن قبلها أصلي ولا أصوم، فهل يلزمني القضاء؟ الجواب لا يلزم، ولكن عليك أن تكثر من النوافل في بقية حياتك، فالذي مضى لا يلزم قضاؤه؛ وذلك للمشقة، يشق عليك أن تقضي صلاة خمس عشرة سنة، وكذلك صيامها، ولكن عليك أن تكثر من نوافل العبادة، فتصلي بالليل تهجداً، وتصلي في الضحى ما تيسر، وتحافظ على النوافل والرواتب، وتصلي مثلاً قبل الظهر أربعاً، وبعدها أربعاً، وقبل العصر أربعاً، وقبل المغرب ركعتين، وبعدها ركعتين أو أربع، وقبل العشاء ركعتين أو أربع وبعدها ركعتين أو أربع، وكذلك أيضاً تصلي ذوات الأسباب، وتكثر من نوافل العبادات كالحج والذكر وقراءة القرآن والاستغفار والدعاء والابتهال إلى الله تعالى، وغيرها من الأعمال الصالحة، وتحمي نفسك عن المحرمات والآثام، وبذلك إن شاء الله يمحو الله عنك ما سلف من التفريط والإهمال. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 15 الرد على من يطعن في تاريخ المسلمين السؤال هذا سائل إما أن يكون جاهلاً بأحكام الإسلام أو إنسان طمع في الدنيا وزهد في الجنة، وتذرع بالإسلام ظاهراً، ويصدق عليه النفاق، يقول: لو استعرضنا تاريخ المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين نجد أنه يغلب عليه الظلم والفساد والطغيان، بل إن الخلفاء الراشدين ماتوا قتلاً، ومعنى ذلك أن الإسلام لم يصلح التابعين له، وكذلك انتشار الإسلام في العصور الحديثة تجد أن حال المسلمين كحال سابقيهم في العصور السابقة، أسوأ دول العالم، حتى إن عمر بن عبد العزيز الذي غلب عليه العدل في خلافته قتل، ما هو الخلل؟ هل هو في المنهج أم في الإنسان؟ وقال كذلك في سؤال آخر: المتأمل لتاريخ المسلمين يجد أنه عصر فتن وقتل وحروب من بعد الخلفاء الراشدين إلى عصرنا الحاضر، والواقع يشهد بذلك. والسؤال: هل هناك خطأ في منهج الإسلام فيكون الخلل في الفقه الإسلامي أم الخطأ في فهم علماء الشريعة للإسلام! فنرجو من فضيلتكم الرد عليه بارك الله فيكم؟ الجواب نقول: الخطأ في فهمك أيها السائل، فهمك بعيد عن الواقع؛ وذلك لأنك -والله أعلم- لم تقرأ التاريخ كما هو، ولم تتتبع أحوال الإسلام ولا أحوال المسلمين، ويظهر أنك انخدعت بدعايات المضللين، أوأنك قرأت في كتب أعداء الدين، أو أنك نشأت في بلاد يظهر فيها عداء الإسلام، وإظهار الضغائن أو إضمارها للإسلام والمسلمين، ولو نشأت بين مسلمين وعرفت أخبار المسلمين، وكذلك تتبعت أحكام المسلمين، وعرفت أهدافها، وكذلك قرأت تاريخ السابقين الأولين؛ لما خطر ذلك بقلبك، ولما وجهت بهذا السؤال الذي يدل على حيرة في نفسك، أو يدل على ضغينة وحقد وبغض للإسلام والمسلمين والعياذ بالله. نعود فنقول: كلنا -غالباً- قرأنا أو سمعنا تاريخ الخلفاء الراشدين، وكذلك تاريخ الصحابة وسيرهم وأحوالهم، فهل هذا السائل قرأ سيرهم كما ينبغي؟ أليس فيها الفتوحات؟ متى حصلت هذه الانتشارات للإسلام؟! امتد الإسلام في عهدهم، وحصلت الانتصارات التي ليس لها مثيل في عهد الخلفاء الراشدين، وامتدت الفتوحات والظفر للإسلام والمسلمين، أين هذا السائل عن تتبع تلك الوقائع وتلك الغزوات التي أيد الله بها الإسلام وقوى بها المسلمين؟! هذا لا يظهر أنه قرأه ولا خطر بباله. كذلك أيضاً لا شك أنه لو قرأ سيرة الخلفاء وزهدهم وورعهم وتقشفهم واهتمامهم بالدين، واهتماهم بالعبادة، واهتمامهم بأمر الأمة، وحرصهم على رعايتها، وعلى مصالحها؛ لما خطرت بقلبه هذه الخطرات السيئة، وكذلك لم يقرأ تراجم علماء الأمة من صدر هذه الأمة من التابعين وتابع تابعيهم، الذين فيهم علماء حملوا العلم، وذبوا عنه كل ما هو دخيل عليه، هذا السائل لم يقرأ تراجمهم، ولم يعلم فيهم من النفع، وما لهم من المقامات النافعة، والأماكن التي نصروا فيها الإسلام، ونشروا فيها العلم، ونشروا فيها الدين، وكذلك قيامهم بالعبادات، وزهدهم وورعهم، وتقشفهم مما يدل على رغبتهم في الآخرة، وعدم ميلهم إلى الدنيا، ولا إلى حظوظها؛ كل هذا لم يلتفت إليه السائل. أما كونه ادعى أنههم ماتوا قتلاً فليس في ذلك نقص عليهم، ولا شك أنهم قتلوا وذلك كرامة لهم، أما أبو بكر فمات على فراشه، وقد قيل: إنه سقي سماً، ولا يستنكر أن يكون بعض أهل الحقد وأهل النفاق دس إليه السم، وتلك كرامة له حتى يموت شهيداً، وهكذا عمر قتله أبو لؤلؤة المجوسي، ثم قتل عثمان، بسبب خلافات بين الأمة، حصل أن بعضاً من الأعراب وجدوا على عثمان بعض الوجد، فثاروا عليه وقتلوه، ثم حصلت الفتنة بين أهل الشام وأهل العراق، تقاتلوا فيها لأجل الانتصار لـ عثمان أو لأجل تثبيت الملك وتثبيت الولاية، وتلك دماء صان الله عنها أيدينا فنصون عنها ألسنتنا. ثم بعد ذلك استتب الأمن، وانتشر الإسلام، وتمادت الفتوحات في ذلك الزمان، واستمر المسلمون يفتحون البلاد شرقاً وغرباً، فكيف يقال بعد ذلك: إن المتأمل للتاريخ يرى فيه ما ذكره هذا السائل؟! وعلى كل حال: نبرأ إلى الله من هذا الاعتقاد، ونسأله ألا يجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، وأن يغفر لنا خطايانا. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 16 أسباب الإحسان السؤال ما هي الأسباب التي تعين على بلوغ درجة الإحسان؟ الجواب مرتبة الإحسان أعلى المراتب، والأسباب التي تعين عليها هي تقوية الإيمان بالأدلة، وذلك بأن يؤمن بالأدلة التي تقوي إيمانه بالله، وبملائكته، وبالبعث بعد الموت، وبالآخرة وبما فيها، وبالثواب والعقاب، وبعظمة ربه وجلاله وكبريائه، وما أشبه ذلك، فإذا قوي الإيمان بذلك، فإنه والحال هذه يبقى قلبه مستنيراً، فإذا دخل في عبادة فكأنه ينظر إلى ربه، وإذا خلا بنفسه استحضر أن ربه ينظر إليه، فيبقى في كل حالة لا يغفل عن ربه في وقت من الأوقات. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 17 معنى: لا إسلام لمن لا إيمان له السؤال إذا كان الإسلام والإيمان كمثل الشهادتين من شهد بإحداهما لزمته الأخرى، ومن أسلم لا يقبل منه إلا إذا أتى بالإيمان، فلا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، ولكن قال تعالى: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] فهنا أثبت الله سبحانه للأعراب الإسلام مع أنه سبحانه نفى عنهم الإيمان، فكيف نقول: إنه لا إسلام لمن لا إيمان له؟ الجواب صحيح أن الله نفى عنهم الإيمان بقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، ولكن معلوم أنهم كانوا مبتدئين، ولابد أنهم سوف يتلقون تعاليم الإسلام والإيمان شيئاً فشيئاً، وسوف يسمعون الآيات والأدلة شيئاً فشيئاً إلى أن يقوى الإيمان في قلوبهم، وإلى أن يعرفوا ظواهر الأدلة، فعند ذلك يوصفون بالإيمان كما وصفوا بالإسلام، فهم في مبدأ أمرهم قالوا: آمنا، وهم إنما أسلموا ظاهراً، ولم يقم عندهم من الأدلة ما تقر به قلوبهم وتطمئن به إلى صحة ما جاء به الرسول، ولكن لا يزالون يتلقون الأدلة شيئاً فشيئاً إلى أن يصلوا إلى مرتبة الإيمان. ومعلوم أن هناك من دخل في الإسلام عن اطمئنان، وكانوا مطمئنين به وموقنين به، فهؤلاء من حين دخلوا وهم مصدقون ومسلمون ومؤمنون، وهناك من دخل فيه ظاهراً، ولكنه أراد أن ينظر في عاقبته، فيكون مفكراً وناظراً، فهؤلاء مسلمون، ولعله يقوى الإيمان في قلوبهم، وهناك من دخل في الإسلام ظاهراً ولم يكن في قلوبهم محل للإيمان وهم المنافقون. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 18 متى يسمى الشخص مؤمناً؟ السؤال هل هناك درجة ومنزلة ممكن أن يعرف بها الشخص نفسه بأنه مؤمن؟ ومتى يتم إطلاق الإيمان على المسلم حتى يميز بينهما؟ الجواب كان كثير من المرجئة يلزمون من دخل في الإسلام والإيمان أن يجزم بذلك في نفسه، وينكرون على من استثنى في إسلامه بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله، ويسمونهم: شُكاكاً، إذا قال أحد: أنا مؤمن إن شاء الله قالوا: أنت شاك، أنت تشك في إيمانك، ولكن للإسلام والإيمان علامات، فأنت مثلاً إذا رأيت قلبك مطمئناً بالإيمان، ورأيته منشرحاً إلى هذه الأكان، وصدقت بما أخبر الله به عن الدار الآخرة، وأيقنت بأنه لابد من بعث وحساب وجزاء على الأعمال، وآمنت بالغيب إيماناً يقينياً، آمنت بالملائكة ولم ترهم، وبالرسل ولم ترهم، وآمنت بأن هذه الكتب المنزلة من السماء هي كلام الله حقيقة، وإن لم يكن لك إسناد متصل إلى الملك الذي نزل بها، وإن لم تر الملك الذي نزل بها، وآمنت مثلاً بأن الله على كل شيء قدير، وأن قدرته تدخل فيها أعمال العباد ونحوه؛ آمنت بهذه الأركان كلها وصدقت بها، فلماذا لا تقول: أنا مؤمن؟ واستثناؤك حينئذٍ لأجل العاقبة؛ لأنك لا تدري هل تبقى على هذا الوصف أم يعتريك ما يعتريك؛ فلذلك تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وتجزم بأنك مؤمن، وتطمئن نفسك بالإيمان، وتبصر نفسك بأنك مستحق لما يستحقه أهل الإيمان الذين وصفوا بتلك الصفات التي ذكروا بها باسم الإيمان، فعند ذلك لا مانع من أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 19 متى يعتبر الولاء للكفار مخرجاً عن الملة؟ السؤال متى يعتبر الولاء للكفار مخرجاً عن الملة؟ وهل مساعدة الكفار بالأموال إذا كانت هذه الأموال ضد المسلمين مخرجه عن الملة؟ الجواب لا شك أن موالاة الكفار من دون المؤمنين مخرجة من الملة ملحقة بهم؛ لأنها تدل على محبة الكفار، فمن والى أعداء الله فقد عادى أولياء الله ولابد، ومن أحب الكفار لزم أن يكون مبغضاً لأهل الإيمان، إذا أحببت الكفار فأنت مبغض لأهل الإيمان ولابد، ولا شك أن من أحب الكفار قربهم وأدناهم ورفع مقامهم، ولا شك أيضاً أن من أحبهم أعطاهم وفضلهم على غيرهم، وزاد في عطائهم، وحرم أولياء الله، وحقر وصغر من شأنهم وأبعدهم، مما يدل على أنه يحب أعداء الله ويبغض أولياء الله، فإذا كان كذلك فهذا لا شك أنه كفر. أما إذا كنت مثلاً تعطيه لأجل كف شره، فلا مانع من ذلك، ولا يكون هذا ولاءً؛ لأن الله تعالى قد فرض للمؤلفة قلوبهم حقاً من الزكاة، وقد ذكر العلماء أن من المؤلفة قلوبهم الكفار الذين يخاف من شرهم، فإذا خيف من شر هذا الطاغية المعتدي أن يضر الإسلام جاز أن يعطى من الزكاة تأليفاً، والصحيح أن حق المؤلفة قلوبهم باق كما ذكر الله، لكن إذا قوي الإسلام وقوي أهله ولم يخف من الأعداء، ولا من كيدهم؛ سقط حق المؤلفة قلوبهم. وعلى كل حال نقول: الولاء والبراء واجب على المسلم، وأما تأليف الكفار عند الخوف من شرهم، وعند قوة بطشهم، والخوف أن يفتكوا بالمسلمين، أو ينضموا إلى الأعداء ويصيرون في جانبهم ويقوونهم أو يخاف أن يؤذوا من عندهم من المؤمنين أو ما أشبه ذلك؛ فلا مانع من مداراتهم ومهاداتهم، ولا يكون ذلك دليلاً على محبتهم، إنما يكون ذلك لكف شرهم. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 20 حكم الاستثناء في الأعمال السؤال ما هو مذهب أهل السنة والجماعة في الاستثناء بالمشيئة؟ وهل يستثنى بالأعمال مثلاً يقول: سوف أترك الدخان إن شاء الله، أو ما أشبه ذلك؟ الجواب مذهب أهل السنة أنه يجوز الاستثناء في الأعمال ويكون على وجه التبرك، قد سمعنا أنه صلى الله عليه وسلم استثنى في الأمور المحققة كقوله في زيارة المقابر: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) ، ومعلوم أن الإنسان لابد لاحق بالموتى، لابد أنه سوف يموت، ومع ذلك استثنى، والموت محقق، ومع ذلك يقول: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) . كذلك أيضاً ورد الاستثناء في الموت على الشهادة، ففي وصية بعض السلف: (إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، عليها أحيا، وعليها أموت، وعليها أبعث إن شاء الله) فالاستثناء هذا قيل: إنه عائد عليها كلها، مع أنها محققة، وأن البعث محقق، وقيل: إنه يعود على البعث عليها. وبكل حال يجوز الاستثناء للتبرك في الأمور التي يعزم الإنسان على فعلها مستقبلاً، فيقول: سوف أصلي إن شاء الله، وسوف أصوم غداً إن شاء الله، ويقول مثلاً: أنا مؤمن إن شاء الله، وأنا مسلم إن شاء الله، ويقصد بذلك التبرك، ولا يقصد بذلك التوقف ولا الشك ولا التردد، هذا في بعض الأعمال. وأما في بعض التروك فإنه يستثني ولو كان عازماً وجازماً؛ لأن هذا غيب وأمره إلى الله، فإذا عزم مثلاً على أن يترك المحرمات فله أن يستثني، إذا كان مبتلئ مثلاً بالدخان يقول: سوف أترك الدخان إن شاء الله، ولو كان جازماً؛ لأن الترك أمره في المستقبل، وكذلك المعاصي التي يفعلها يعزم على أنه سيتركها، فيقول مثلاً: سأعفي لحيتي إن شاء الله، أو سوف أقصر من ثوبي المسبل إن شاء الله، وهو عازم على ذلك، أو مثلاً سوف أتوب من الربا إن شاء الله، أو من الرياء إذا شاء الله، أو إن شاء الله، يقول ذلك على وجه التبرك، وعلى وجه الرجاء أن ربه يعينه إذ وكل الأمر إليه، فهذا لا بأس به، أما إذا كان على وجه الشك أو على وجه التردد فلا يفعله، بل يجزم بترك المحرمات ولا يتردد في تركها. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 21 معنى: (كل ميسر لما خلق له) السؤال نرجو توضيح حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما خلق له) ؟ الجواب هذا حديث صحيح قاله صلى الله عليه وسلم لما قال له الصحابة: (أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] ) ، فجعل الله كلاً ميسراً لما خلق له، فإذا خلق الله العبد للسعادة يسره لعمل أهل السعادة حتى يموت على ذلك العمل ويكتب سعيداً، وإذا خلق الله العبد للشقاوة خذله ويسر له أسباب الشقاوة حتى يموت عليها، وذلك عدل من الله، وليس فيه ظلم لأحد، ليس هو ظالم لهذا حيث خذله، وليس هو تارك لشيء من حق الإنسان، بل الله تعالى هو المالك للإنسان، وهو الذي يتصرف في الناس كيف يشاء، فمن شاء هداه ومن شاء أضله، وهدايته لهذا تكون بفضله، وإضلاله لهذا عدل منه. فعلى كل حال (كل ميسر لما خلق له) ، يعني: أنه تتيسر له أو تتوافر له الأسباب التي تؤدي به إلى ذلك الشيء، فإن كان من أهل الشقاوة سلط الله عليه -لحكمة- من يضله، ومن يصده عن القرآن، ويصده عن الحق، ومن كان من أهل السعادة ومن أهل الإيمان، وعلم الله أنه من أهل الخير، يسر الله له من يهديه، ومن يدعوه إلى التوبة النصوح. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 22 صفات المحسنين السؤال ما هي صفات المحسنين الذين ذكروا في حديث جبريل عليه السلام؟ الجواب صفاتهم ما جاء في قوله: (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، فمن أراد التوسع فليقرأ شرح هذا الحديث في كتاب ابن رجب (جامع العلوم والحكم) ، وأورد له أمثله، وشرحه حافظ الحكمي في المجلد الثاني من معارج القبول، وأورد له أمثله، ومعلوم أنه في هذا الحديث قسم الناس إلى قسمين: من يعبد الله كأنه ينظر إلى ربه، ومن يعبد الله وهو يستحضر أن ربه يراه، وتسمى الحالة الأولى: عين المشاهدة، وتسمى الحالة الثانية: عين المراقبة، فعين المشاهدة أن يمثل أنه أمام ربه، كأنه ينظر إلى ربه، واقف بين يديه، وفي هذه الحالة إذا كان يصلي أو إذا كان يذكر الله أو إذا كان يدعوه ماذا تكون حالته؟ لا شك أنه يحضر قلبه، ويحضر قالبه، وتسكن أعضاؤه، ويخشع ويخضع وينيب، ويخبت إلى الله تعالى، ويكثر من ذكره، وهكذا عين المراقبة، وهو الذي يستحضر أن ربه يراه، أما حال الكثير من الناس إذا صلى أحدهم غفل في صلاته ولم يدر ما يقول، ولم يستحضر ما هو فيه، فإنه لم تتحقق له عين المشاهدة ولا عين المراقبة. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 23 سبب تحريف المبتدعة للآيات والأحاديث السؤال لماذا تسلط المبتدعة على تحريف آيات وأحاديث الصفات؟ الجواب المبتدعة مثل المعتزلة تركزت في نفوسهم أو في فطرهم أو في عقولهم عقيدة سيئة، وهي: عدم الإقرار بصفات الله، وادّعوا أنها تنافي العقول، فلما ارتكزت تلك العقيدة في قلوبهم، وجاءتهم الأدلة التي تخالف ما في فطرهم وما في عقولهم الفاسدة؛ لم يجدوا بداً من أن يؤولوها ويحرفوها ويسلطوا عليها أنواع التحريف، والسبب الوحيد في ذلك هو أنها خالفت معتقدهم، ومعتقدهم مبني على شبهات تلقوها من كتب المتكلمين، ومن كتب اليونان والمشركين. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 24 معنى الجواهر المفردة السؤال ما معنى الجواهر المفردة؟ وهل يجوز التسمية بمد الله وجار الله، وغرم الله، وأشباهها؟ الجواب الجواهر المفردة كلمة يستعملها المتكلمون، ونحن لا حاجة بنا إلى هذه الاصطلاحات، لكنهم يقسمون الموجودات إلى قسمين: جواهر وأعراض، فالجوهر ما له جرم يمكن إدراكه، ويمكن رؤيته، ويمكن لمسه، فيسمونه جوهراً، والأعراض ما ليس له جرم، بل هو عرض، فمثلاً: الكلام الذي يتكلم به الإنسان ليس له جرم، ما يمكن أن تقبض على كلام متكلم إذا خرج من فمه، فيسمونه عرضاً، الصلاة إذا صلاها الإنسان صعدت إلى السماء، فالصلاة عرض ليس لها جرم تشاهدونه، فيقولون: هذه أعراض، وهذه جواهر، فكل شيء له جرم حتى مثل حبة الرمل يسمونه جوهراً، ويقولون: إن جميع الموجودات التي لها جرم مركبة من الجواهر المفردة، يمكن أن ترجع إلى جواهر صغيرة لا يدركها البشر، وكل شيء من الموجودات من الحديد والأخشاب والفرش والحيوانات والجبال والصخور ونحوها جواهر مركبة، فتكلموا في هذا وأطالوا الكلام، ولا حاجة بنا إلى أن نناقشهم، وذلك من فضول الكلام. أما الأسماء التي ذكرها فهي أسماء اصطلاحية، فاسم: (جار الله) يستعمل بمعنى المجاور الذي يجاور في مكان مقرب إلى الله، وقد سمي به قديماً الزمخشري صاحب التفسير؛ لأنه جاء إلى مكة، وأطال الإقامة في المسجد الحرام، فكان مجاوراً، فسمي جار الله، ويسمى به في الناس، بمعنى أنه مجاور لله، أي: متعبد له أو نحو ذلك تفاؤلاً، فلا بأس بذلك. أما بقية الأسماء فينظر إلى معانيها، فاسم (غرم الله) يستثقل؛ وذلك لأن فيه أن الله تعالى غرم لهذا الإنسان عن ولد مات له أو نحو ذلك، فالأقرب أنه ينهى عنه؛ لأن الغرم أصله التحمل، مثل تحمل الدين ونحوه؛ ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من المأثم والمغرم، وقال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف) ، وبقية الأسماء التي تضاف إلى الله ينظر في معانيها، مثل: وصل الله، أو رجاء الله، أو فرج الله، أو رزق الله، فهذه لا بأس بمعانيها، والأولى التعبيد باسماء الله كعبد الله، وعبد الرحمن، وعبد العزيز وما أشبهها. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 25 هل (الشارع) من أسماء الله السؤال نعلم أنه لا يجوز أن يسمى الله عز وجل إلا بما سمى به نفسه، أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا نسمع كثيراً من الناس يقولون: قال الشارع الحكيم، فهل لفظ الشارع من أسماء الله عز وجل، أم أنها عبارة درجت على أنه هو الذي شرع الأحكام، ومثلها الصانع وغيرها؟ الجواب هذه كلمة مشتهرة، ولكن لا يقصد بها أنها من الأسماء الحسنى، وإنما يقصدون بها الصفة، يعني: أنه هو الذي شرع الأحكام وبينها، وكذلك كلمة (الصانع) أيضاً مشتهرة في تعبيرات المتكلمين أولاً، مثل قولهم: جحود الصانع، وجود الصانع، وقد استعملها أيضاً بعض الأئمة كـ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22] قال: الاستدلال على وجود الصانع وما أشبه ذلك، وبكل حال فيقصد بها معنى: أنه الذي أوجد الخلق، وقد ذكرها الله تعالى في قوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] يعني: إيجاده واختراعه وإبداعه. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 26 سبب رد بعض الأحاديث الصحيحة السؤال فضيلة الشيخ! قلتم: إن النقل الصريح لا يعارض العقل الصريح والسليم من الزيغ والانحراف، لكننا نجد من علماء المسلمين والمثقفين والدعاة من يردون بعض الأحاديث الصحيحة؛ لعدم موافقتها لعقولهم، فكيف نفسر ذلك؟ الجواب قد ذكرنا أن تلك العقول عقول ناقصة، عقول مضطربة، وأن الواجب على الإنسان أن يتهم عقله، ولا يرد الأحاديث إذا لم توافق مزاجه، بل يتهم فهمه بالخطأ ونحوه، وقد أنكر بعض المتأخرين بعض الأحاديث التي خالفت الواقع في هذه الأزمنة أو قبلها، ولكن لا عبرة بردهم، وكذلك غيرهم من المتقدمين، فردوا مثلاً أحاديث في صحيح البخاري كحديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل أنه يفعل الشيء وما يفعله) إلخ، فقالوا: إن هذا يخالف العصمة، وأنه وأنه وأجاب العلماء عن ذلك وبينوا أنه لم يقع في أمر الشرع. والسحر له حقيقة، وأنكرت المعتزلة ونحوهم حقيقة السحر، وردوا الأحاديث التي في ذلك، مع وجودها وصراحتها، ومع مشاهدة الناس أن الساحر قد يؤثر، وأخبر الله تعالى بذلك. كذلك في هذه الأزمنة أيضاً قرأت لبعضهم إنكاراً لبعض الأحاديث، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لولا بني إسرائيل لم يخنز اللحم) أي: لم ينتن، يعني: أنهم لما أعطاهم الله تعالى السلوى صاروا يدخرون لغد ولبعد غد، فصار اللحم ينتن، نقول: وما المانع من ذلك؟ وإن كانت طبيعة اللحم أنه إذا تأخر يتغير، لكن قد يجعل الله له ما يكافحه وما يزيل عنه ذلك النتن. وكذلك أحاديث عذاب القبر أنكرها بعضهم، وقالوا: إننا نكشف عن الميت بعد مدة فنجده كما وضعناه، ولا نجد أثراً لعذاب القبر ولا لنعيمه ولا لغير ذلك. فيقال لهم: إن عالم الأرواح غير عالم الأجساد، وإن العذاب في القبر على الروح ولا على الجسد، الجسد تأكله الأرض، ويكون تراباً. والحاصل أننا لا نلتفت إلى هؤلاء الذين يطعنون في الأحاديث لمجرد عرضها على العقل. فالأولون من معتزلة ونحوهم ما كانوا يردون إلا الأحاديث التي تتعلق بالصفات، أما أحادث البعث والنشور فإنهم يقرونها، ويوافقون عليها، وأما هؤلاء العصريون فينكرون الأحاديث الحسية كالأحاديث التي تخالف فطرهم مثلاً، أو تخالف ما تجدد لهم من المصنوعات ونحوها، وما علموا أن قدرة الله غالبة على كل شيء. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 27 معنى الهرولة والتردد الواردين في حديث: (وما ترددت في شيء مثل ترددي في قبض روح عبدي السؤال ما معنى الهرولة والتردد الواردان في حديث: (وما ترددت في شيء مثل ترددي في قبض روح عبدي) ؟ الجواب الصحيح أن الهرولة هنا بمعنى قرب الرب تعالى إلى عبده بثوابه، فالقرب معنوي، العبد لا يتجاوز مكانه، وإنما تقرباته بالأعمال، فقرب الرب إليه، وهرولته -يعني: إسراعه- إنما هو بالأعمال، بكثرة الثواب، فلا يقال: إن الهرولة صفة من صفات الله في هذا الحديث، إنما ذكرها على وجه المبالغة في كثرة الثواب، قال: (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً) ، العبد ما يتقرب شبراً، يعني: هو مكانه، ولكن تقرب بالأعمال، (من تقرب إلي ذراعاً) ، العبد لا يتزحزح عن مكانه، ولكن تقرب بالأعمال (من أتاني يمشي) ، العبد لا يتجاوز مكانه بهذا المشي، المراد بالمشي هنا مواصلة الأعمال الصالحة، يعني: كثرة الأعمال الصالحة، وعبر عن ذلك بالمشي. إذاً: هذا الحديث إنما فيه المماثلة، فقرب العبد بالأعمال، وقرب الرب بالثواب، وكذلك المشي والهرولة. أما التردد فليس معناه التوقف في الشيء، وعدم الجزم به ونحو ذلك، لكن لما كان العبد يكره الموت، فإن الله تعالى يكره ما يسوءه، فالتردد هو الكراهية، يعني: كراهية الله تعالى لما يسوء العبد، وليس هو بمعنى التوقف في الشيء وعدم الجزم بفعله، ولأجل ذلك قال في تمام الحديث: (ولا بد له منه) . الجزء: 62 ¦ الصفحة: 28 قول الشاعر: نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه السؤال يقول الشاعر في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم أبياتاً منها: نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العطاء وفيه الجود والكرم فما رأي فضيلتكم في هذا البيت جزاكم الله خيراً؟ الجواب هذا البيت نقل عن أعرابي فيما نقله العتبي، وذكره ابن كثير عند تفسير الآية التي في سورة النساء، وهي قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64] وبالبحث عن هذه الحكاية لم يوجد لها سند صحيح، ولو ذكرها ابن كثير وأقرها، ولو ذكرها غيره، فهي حكاية باطلة لا أصل لها، ولا يجوز اتخاذها حجة في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته، والبيت معناه صحيح، يعني: أنه صلى الله عليه وسلم خير من دفنت بالقاع أعظمه، وأن قبره فيه العفاف وفيه الكرم، فالمعنى صحيح، ولكن القصة التي فيها أنه جاء قاصداً للنبي صلى الله عليه وسلم وقرأ هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64] وأنشد الأبيات، وطلب من الرسول المغفرة، وبعد ذلك يقول العتبي: نمت، فرأيت الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: أدرك الأعرابي، وأخبره أن الله قد غفر له. فهذه حكاية باطلة، وأما البيت فمعناه صحيح. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 29 هل الولاية رتبة فوق الإيمان السؤال هل الولاية رتبة فوق رتبة الإيمان؟ الجواب الولاية هي من آثار الإيمان، من كان مؤمناً فإنه ولي، والله تعالى هو مولى عباده المؤمنين، {اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] فهو مولى المؤمنين ووليهم {إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196] ، فمن كان مؤمناً فإنه من أولياء الله، فهما متلازمان. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 30 حال الوليد بن عقبة السؤال يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة، فهل يجوز أن يقال: إنه فاسق مطلقاً أم نقول: إنه فاسق بهذا الفعل أم لا نصفه بهذا الوصف في كلا الموضعين، وذلك لأنه صحابي رضي الله عنه؟ الجواب لا ينكر هذا حتى ولو كان من الصحابة، وقد جلده علي رضي الله عنه في شرب الخمر بأمر أمير المؤمنين عثمان، جلده أربعين جلدة، وكذلك أيضاً صلى في ولاية عثمان بالناس وهو سكران، فالحاصل أنه لا يستنكر إذا وصف في هذه الآية بأنه فاسق، ولكن فسقه لا يخرجه من الإيمان، ولا يدخله في الكفر، إنما هو فسق عملي. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 31 معنى حديث: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله) السؤال ما معنى: في ذمة الله في الحديث الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله حتى يمسي) ؟ الجواب الذمة العهد، ذمة الله تعالى بمعنى: عهده، أي: أن الله تعالى يتولاه ويحفظه فلا يجوز لأحد أن يعتدي عليه، ولا أن يمد يده إليه لكونه في ذمة الله، يعني: في جوار الله تعالى وفي حمايته وفي عصمته، وبكل حال نقول: إن مثل هذه الصفات وهذه الأحاديث تؤخذ على ظاهرها، ولكن لا يكون الإنسان متساهلاً في الطاعات ومعتمداً على بعضها، فيقول: ما دام صليت الصبح فأنا في ذمة الله، فسوف أفعل وأفعل من المعاصي ونحوه، لا يعتمد على ذلك، فإن الصلاة ما لم يكن لها تأثير عليه لم تكن صلاة صحيحة مفيدة. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 32 معنى قول الشارح: والمراد بالحسنة هنا النعمة إلى آخر كلامه السؤال نرجو من فضيلتكم التوضيح لقول الشارح رحمه الله تعالى: (والمراد بالحسنة هنا النعمة، وبالسيئة البلية في أصح الأقوال. إلى أن قال الشارح: ولكن لا منافاة بين أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه، مع أن الجميع مقدر، فإن المعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى، فتكون من سيئات الجزاء، مع أنها من سيئات العمل، والحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى) ؟ الجواب قد ذكرنا أن الحسنة هي النعم، والسيئة هي البلايا، وأن الجميع من الله خلقاً وتكويناً، ولكن قد تكون أيضاً ابتلاء وامتحاناً، فتكون النعم ابتلاء، وتكون السيئات ابتلاء، وقد تكون الحسنة بسبب من العبد وهو الأعمال الصالحة، والسيئة بسبب من العبد وهي الأعمال السيئة، وقد تكون الحسنة ثواباً لحسنة قبلها، والسيئة عقوبة لسيئة قبلها، ورد في بعض الآثار أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها. وبكل حال فقد فصلنا في الحسنات والسيئات، وذكرنا أن الله تعالى يبتلي بالخير ويبتلي بالشر، وله الحكمة فيما يبتلي به، وكلام الشارح ظاهر لا خفاء فيه. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 33 توجيه تمني أسامة للإسلام بعد قتله لمن نطق بالشهادة السؤال ورد أن أسامة رضي الله عنه لما قتل الذي قال: لا إله إلا الله، وأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ تمنى أن يكون أسلم ذلك اليوم، فما هو توجيه ذلك التمني؟ هل أنه أراد إسلاما ًبلا ذنب أم أن سببه هذا التوبيخ من النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب لا شك أنه خاف لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟!) وكرر عليه، فخاف أن يكون قد حبط عمله، وقال: لو كنت أسلمت الآن ولم أسلم قبل ذلك لكان ذلك أولى لي، حتى أستقبل عملاً جديداً، فهو يخشى أن يكون قد حبط عمله بقتله الرجل، وتمنى أنه ما أسلم إلا بعده. وعلى كل حال فإنه رضي الله عنه قتله متأولاً؛ وذلك لأنه ظن أنه لم يقلها عن يقين، فلذلك أقدم على قتله، وبين العلماء الحكم فقالوا: الكفار الذين يمتنعون من لا إله إلا الله، إذا قوتلوا فنطق واحد منهم يكف عنه حتى يختبر بعد ذلك هل قالها عن يقين؟ وهل يعمل بها أم لا؟ أما الذين يقولونها ويقاتلون لأجل أمر آخر كالذين يقاتلون لإنكارهم الرسالة، أو لإنكارهم البعث، أو لطعنهم في القرآن مثلاً، أو لإنكارهم العبادات كالصلوات ونحوها؛ فهؤلاء لو قالوها ما ردت عنهم؛ لأنهم يقولونها قبل القتال، إنما قوتلوا لشيء آخر. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 34 شرح العقيدة الطحاوية [63] إن من حكمة الله وعدله أنه لابد أن يبعث الأجساد بعد موتها، لينتصف للمظلومين، ويجاري المحسنين، وقد اهتم أهل السنة بجمع أدلة البعث من القرآن والسنة وغيرها، وذلك تبعاً لاهتمام الشرع بذلك. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 1 الإيمان بالبعث قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب والثواب والعقاب، والصراط والميزان) الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة السليمة، فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليل عليه، ورد على منكريه في غالب سور القرآن. وذلك أن الأنبياء عليهم السلام كلهم متفقون على الإيمان بالآخرة، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري، كلهم يقر بالرب إلا من عاند كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثيرون، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الأنبياء، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر المقفي؛ بيّن تفصيل الآخرة بياناً لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء؛ ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلوا هذه حجة لهم في أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري. والقرآن بين معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع، وهؤلاء ينكرون القيامة الكبرى، وينكرون معاد الأبدان، ويقول من يقول منهم: إنه لم يخبر به إلا محمد صلى الله عليه وسلم على طريق التخييل، وهذا كذب، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام. وقد أخبر الله بها من حين أن أهبط آدم، فقال تعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف:24-25] ، ولما قال إبليس اللعين: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر:36-38] . وأما نوح عليه السلام فقال: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح:17-18] . وقال إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] إلى آخر القصة، وقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41] ، وقال {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] . وأما موسى عليه السلام فقال الله تعالى لما ناجاه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15-16] بل مؤمن آل فرعون كان يعلم المعاد، وإنما آمن بموسى قال تعالى حكاية عنه: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:32-33] إلى قوله تعالى: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] إلى قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] . وقال موسى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156] ، وقد أخبر الله في قصة البقرة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73]] . هذا الكلام وما بعده يتعلق بالبعث بعد الموت، الذي هو بعث الأجساد وحشرها، ونشرها، وإعادة الأرواح إلى الأجساد، وجمع الأجساد بعد أن بليت وبعد أن صارت تراباً، وبعد أن تمزقت وتفرقت، فيبعثها الله، ويعيد إليها الحياة، وتتصل بها أرواحها اتصالاً أبدياً محكماً ليس بعده انفصال، ليس كاتصالها بها في الدنيا الذي يعتريه شيء من الانفصالات، هذا هو البعث بعد الموت، فمتى يكون؟ يكون يوم القيامة عندما ينفخ في الصور، وقيل: إن الصور هو قرن واسع كبير، فيه ثقوب بعدد أرواح بني آدم، ينفخ فيه إسرافيل فتخرج كل روح من ثقب وتصل إلى جسدها، وقبل النفخ في الصور ينزل الله مطراً فتنبت منه أجسادهم، والله قادر على أن ينبتها بدون مطر وغيره، كما في هذه الآية: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ} [نوح:17] (أنبتكم) يعني: أخرجكم إلى هذا الوجود. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 2 اهتمام القرآن والسنة بالإيمان بالبعث أكثر من غيره الإيمان باليوم الآخر والبعث: هو ركن أساسي من أركان الإيمان، وقد يكون هو الركن المؤكد عليه دائماً؛ ولأجل هذا كثيراً ما يقتصر عليه مع الإيمان بالله في كثير من الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره) ، (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث) . لم يذكر مع الإيمان بالله إلا الإيمان باليوم الآخر؛ وذلك لأن اليوم الآخر وقع فيه الخلاف بين الرسل وأممهم، وأنكره المشركون وبالغوا في إنكاره، واعتقدوا أن الأجساد بعد موتها تضمحل ولا تعود، وأنه ليس هناك حياة، وأن هذه الدنيا باقية وليس لها فناء؛ ولهذا حكى الله عنهم أنهم يقولون: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} [الجاثية:24] أي: الزمان، ومعنى قولهم: نموت ونحيا أي: يموت قوم ويحيا آخرون، وهو معنى قولهم: أرحام تدفع، وأرض تبلع، هذه عقيدة أولئك المشركين، وهي أيضاً عقيدة الدهريين. فالإيمان بالله واليوم الآخر آكد أركان الإيمان، فهو آكد من الإيمان بالكتب، ومن الإيمان بالرسل، ومن الإيمان بالملائكة ونحو ذلك؛ لأن الخلاف في الإيمان بها قليل بخلاف الإيمان باليوم الآخر فإن المنكرين له كثير، ولما كان الأمر كذلك، جاءت الأدلة الكثيرة عليه، فلا تحصى الآيات التي تؤكد البعث بعد الموت، وستأتينا آيات مشروحة موضحة لما حكى الله، ولما رد الله به على المشركين الذين أنكروا البعث بعد الموت، وكيف أنه احتج عليهم بحجج عظيمة، فإذا آمن العباد باليوم الآخر وبما بعده فإنهم يستعدون لذلك اليوم بالأعمال الصالحة التي يكونون بها سعداء، وإذا لم يؤمنوا به فإنهم لا يهتمون إلا بهذه الحياة، حيث إنهم ليس في نظرهم حياة أخرى بعد هذه الحياة. فعرفنا بذلك أن الإيمان باليوم الآخر من آكد أركان الإيمان، وهو يعم -كما تقدم- البرزخ والحشر، ولكن أكثر ما يركز على الحشر الذي هو حياة الأجساد وحشرها وحسابها وجمع الناس في الدار الآخرة وما أشبه ذلك وما بعده، وهكذا إلى أن يحصل الجزاء على الأعمال، وإدخال أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. هذا هو الذي اتفقت عليه دعوة الرسل، وهذه الآيات التي سمعنا لا شك أنها تدل على أن الرسل مجمعون على أن اليوم الآخر لابد منه وأنه سيأتي، كما في قول نوح عليه السلام: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح:17-18] ، ينبههم على أنهم سيخرجون منها، مثل قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] . وكذلك بقية الرسل ذكروا البعث لأتباعهم، وكانوا يحثونهم على الإيمان بالله وعلى الإيمان بالبعث بعد الموت وعلى الاستعداد له، وكذلك غير الأنبياء كما سمعنا من مؤمن آل فرعون الذي قال: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر:32] ، وهو يوم القيامة، وقوله: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40] ، فكل ذلك دليلٌ على أن أتباع الأنبياء أيضاً صرحوا بأنهم يؤمنون باليوم الآخر. من الإيمان بالله الإيمان باليوم الآخر؛ لأنه خبر الله، فالله هو الذي أخبر باليوم الآخر، وبما يكون في اليوم الآخر، فمن آمن بالله آمن بأخبار الله. واليوم الآخر يشمل البعث وما بعده، بل يشمل الموت وما بعده، ولكن أكثر ما يذكرون البعث بعد الموت، وما بعده من الجزاء والحساب والثواب والحوض والميزان وجزاء الأعمال ومحاسبة الله تعالى للعباد، وما يكون في عرصات القيامة من طول الوقوف ومن طلب الشفاعة، ومن الأهوال وطول ذلك اليوم الذي يجعل الولدان شيباً، فيؤمن أهل السنة بذلك على التفصيل الذي ذكره الله تعالى، ومن آثار إيمانهم الاستعداد ليوم المعاد، فإن الذي يؤمن بالشيء ويصدق به تظهر عليه آثاره، فيستعد له، ويتهيأ لذلك اليوم، ويعرف أنه لا نجاة له إلا بالأعمال الصالحة التي كلف بها. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 3 إنكار الفلاسفة للبعث الجسماني ذكر الشارح أن القرآن فيه الأدلة الكثيرة على الإيمان بالبعث، وضرب الأمثلة على ذلك، ولعل السبب في ذلك كثرة المنكرين له من المشركين الذي يستبعدون إعادة الموتى من القبور بعد التفرق وذهاب الأشلاء وصيرورة الأجسام تراباً، ويقولون: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3] ، يستبعدون ذلك، ويطلبون شططاً فيقولون: {ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية:25] . ولما كان هذا تكذيبهم؛ فإن الله -سبحانه- ضرب لهم الأمثلة، وذكر الأدلة، وبين لهم كمال القدرة؛ ولأجل ذلك يقول العلماء: إنه لم يشتمل كتاب من الكتب السابقة على تقرير البعث وذكر أدلته مثلما اشتمل كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ففيه التصريح به تصريحاً بليغاً لا يحتمل أو يتطرق إليه تأويل أو حمل على محمل بعيد، لكثرة الأدلة وقوتها وصراحتها، وكثرة ضرب الأمثلة عليها. ومع هذا فإن كثيراً من الذين تسموا مسلمين ينكرون هذا البعث -البعث الجثماني أو البعث الجسماني- ويقال لهؤلاء: الفلاسفة الإلهيون، وهم الذين ينكرون أولاً بدأ الخلق، ويقولون: إن هذا الإنسان لم يزل قديماً، وليس له أول، فينكرون أن يكون أبو البشر آدم، وينكرون أن يكون بدء خلقه من طين، وينكرون أن يكون هناك وقت للإنسان لم يكن فيه شيئاً مذكوراً. ثانياً: ينكرون نهاية الدنيا، ويقولون: الدنيا ليس لها آخر، وهذه الحياة تستمر أبداً إلى غير نهاية، ويعبرون عن هذا بقولهم: أرحام تدفع، وأرض تبلع، وينكرون عودة الأجساد وجمعها بعد تفرقها، ويجعلون الجزاء على الأرواح، ويدعون أن هذه الأرواح هي التي أهبطت من السماء واتصلت بالجسد، ثم بعد ذلك خرجت منه إلى حيث كانت، ويقول رئيسهم ابن سينا -وهو من أكابر الفلاسفة- في مطلع قصيدته العينية: هبطت إليك من المحل الأرفعِ ورقاءُ ذات تقلب وتفجع وصلت على كرهٍ فلما واصلت ألفت مرافقة الخراب البلقعِ يصف الروح بأنها هبطت إليك من المكان الأرفع، ثم اتصلت بجسدك، ثم ألفته، إلى أن صارت كجزء منه، ثم بعد ذلك تنفصل وتعود كما كانت، فهؤلاء ما آمنوا بالله حق الإيمان؛ لأن الإيمان بالله يستدعي الإيمان بخبره، ومن خبره حشر الأجساد وبعثها وجمعها بعدما تتفرق، وهذا لم يؤمن به هؤلاء. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 4 إيراد الأدلة القرآنية المتنوعة على البعث قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أخبر الله أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين في آيات من القرآن، وأخبر عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71] ، وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا، فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم من عقوبات المذنبين في الدنيا والآخرة، فعامة سور القرآن التي فيها ذكر الوعد والوعيد يذكر فيها الدنيا والآخرة. وأمر نبيه أن يقسم به على المعاد، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ:3] ، وقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53] ، وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] . وأخبر عن اقترابها فقال: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] ، وقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] ، {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:1-2] ، إلى أن قال: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:6-7] . وذم المكذبين بالمعاد فقال: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس:45] ، {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [الشورى:18] ، {بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمِونَ} [النمل:66] ، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} [النحل:38] ، إلى أن قال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39] ، وقال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [غافر:59] ، وقال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً} [الإسراء:97-99] ، وقال تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:49-52] . فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال سؤال على التفصيل، فإنهم قالوا: أولاً: {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء:49] ، فيقال لهم في جواب هذا السؤال إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب، فهلا كنتم خلقاً لا يفنيه الموت كالحجارة والحديد، وما هو أكبر في صدوركم من ذلك، فإن قلتم: كنا خلقاً على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء، فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم، وبين إعادتكم خلقاً جديداً؟ وللحجة تقدير آخر: وهو لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما فإنه قادر على أن يفنيكم، ويحيل ذواتكم وينقلها من حال إلى حال، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة، فما الذي يعجزه فيما دونها؟ ثم أخبر أنهم يسألون سؤالاً بقولهم: من يعيدنا إذا استحالت جسومنا وفنيت؟ فأجابهم بقوله: {قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51] ، فلما أخذتهم الحجة، ولزمهم حكمها، انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به تعلل المنقطع، وهو قولهم: متى هو؟ فأجيبوا بقوله: {عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51]] . قد ذكرنا أن القرآن اشتمل على الأدلة الكثيرة في تقرير البعث والنشور، وفيه ذكر عظم قدرة القادر، وأنه لا يعجزه شيء، وأن الرسل أولهم وآخرهم كلهم بلغوا هذا البيان، الذي هو الخبر عن اليوم الآخر والبعث والجزاء في الدار الآخرة، وذكروا ما يكون بعد الموت، فقد اتفقت دعوة الرسل كلهم على ذلك. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 5 حكمة الله وعدله يقتضيان البعث الحكمة تقتضي البعث، فإن هذه دار عمل، والآخرة دار جزاء، فالناس في هذه الدنيا يعملون، وفي الآخرة يلقون جزاء أعمالهم؛ ولأجل ذلك صار اهتمام العقلاء في هذه الدار بعمارة ما بعد الموت، وهو الدار الآخرة التي سيفدون إليها، وقد انتبهوا إلى أنهم مأمورون بالعمارة وبالبناء، ولكن البناء الذي يبقى ليس البناء الذي يفنى، فإن بناء الدنيا يفنى ويفنى ساكنوه، وتفنى الدار ويموت صاحبها، وأما العمارة في الآخرة فإنها هي الباقية، يقول بعضهم: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها النفس ترغب في الدنيا وقد علمت أن السعادة فيها ترك ما فيها فاغرس أصول الهدى ما دمت مجتهداً واعلم بأنك بعد الموت لاقيها فإذا آمن العبد بأنه مأمور بأن يعمل للآخرة أكثر من العمل للدنيا أفلح، والآخرة هي دار الجزاء، والمؤمنون يعملون لآخرتهم، بمعنى أنهم يقدمون ما تعمر به مساكنهم في الجنة، روي في بعض الآثار: (أن الملائكة يبنون قصوراً لبني آدم، فإذا توقف الإنسان عن العمل توقفوا عن البناء وقالوا: نتوقف حتى تأتينا النفقة) . معلوم: أن الذي يبني في الدنيا يتوقف العمال عن البناء حتى يعطيهم أجرتهم ونفقتهم، فكذلك في الآخرة لا تبنى المباني الأخروية من الغرف التي فوقها غرف إلا بالأعمال الصالحة. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 6 إقامة الله الحجة على الكفار المنكرين للبعث يوم القيامة الرسل كلهم أخبروا باليوم الآخر، واعترفت الأمم التي تدخل النار بأن رسلهم قد بلغوهم، واعترفوا بأنهم لم يصدقوا لنقص في عقولهم، قال الله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] يعني: ينذركم بالعذاب وينذركم بالنار، {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} [الملك:9] واعترفوا بأن تكذيبهم هو الذي أوقعهم في العذاب حتى قالوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] . وسمعنا الآية التي في سورة الزمر، وهي قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71] ، وكذلك في سورة الأنعام أن الرسل تقول لهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام:130] ، يقول الله لهم هذه المقالة، فيقولون: بلى، يعترفون بأنهم قد جاءهم الرسل الذين أنذروهم لقاء يومهم هذا، ومع ذلك لم يتقبلوا، بل كذبوا الرسل، واستبعدوا أن يكون هناك بعث بعد الموت، واعتقدوا أن ليس هناك إلا هذه الدنيا، وأنهم إنما خلقوا ليأكلوا ويشربوا ويمتعوا أجسامهم، وبعد أن يخرجوا من الدنيا لا يعودون مرة أخرى، هذه عقيدة أوبقتهم وأهلكتهم وأنستهم ما خلقوا له. ومن الأدلة على البعث أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه على اليوم الآخر في قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53] الضمير (هو) يعود إلى البعث وما بعد الموت من الجزاء على الأعمال، (أحق هو؟) أي: أحق صحيح وثابت ما أخبرتنا به من البعث والجزاء، (قل: إي وربي) أمره أن يحلف بالله ربه الذي هو رب المخلوقات وخالقها ومدبرها. وكذلك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [سبأ:3] ، (بلى وربي) هذا حلف أيضاً، (لتأتينكم) : أي: لابد أن تأتيكم الساعة. وكذلك قوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [التغابن:7] ، هذا أيضاً قسم ثالث: (بلى وربي لتبعثن) أي: لابد من البعث. وكذلك قوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] ونحو ذلك من الآيات الكثيرة التي يقسم فيها بأنه لابد أن يبعثوا. أما المشركون: فإنهم ينكرون هذا، بل يحلفون عليه، يقول الله تعالى في سورة النحل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:38] ، والله تعالى يقيم عليهم الحجج بعد جزمهم هذا، فيخبرهم أنه هو الذي بدأ خلقهم فلابد أن يعيده، وهو الذي خلق هذه المخلوقات التي هذه عظمتها، فلابد أن يعيد الإنسان الذي هو أحقر وأصغر وأذل من هذه المخلوقات العظيمة، يقول الله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] ، السماوات والأرض بما فيها الله تعالى هو الذي خلقها، والإنسان بلا شك أنه من أفضل من خلقه الله، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] فالله خلق الإنسان، وأعطاه السمع والبصر والفؤاد، وخصه بالعقل والمعرفة، وعند ذلك كلفه، وأمره بأن يتعبد لربه ويطيع، وأمره بأن يستعد للقاء الله، وأخبره أنه لابد من لقاء ربه، وأن اللقاء حتم لابد منه، فمن حقق ذلك الإيمان وذلك الرجاء استعد له، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} [الكهف:110] (لقاء ربه) يعني: مقابلة ربه، أي: من كان موقناً بأنه لابد أن يلقى الله تعالى فليستعد بالعمل الصالح الخالي من الشرك. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 7 حقيقة الدنيا الزائلة أخبر الله تعالى بأن هذه الدنيا وما عليها حقيرة هينة، لا تستحق أن يهتم لها الإنسان هذا الاهتمام فقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20] ، أي: هذه أكثر ما يشتغل به أهلها، ثم ضرب لها مثلاً في انقضائها، كمثل غيث أعجب الكفار نباته، فالغيث إذا نزل فإن الكافرين بالله هم الذين تعجبهم زهرة الدنيا، وهم الذين تعجبهم زينتها وما عليها؛ لأن رغبتهم في الدنيا، وليس لهم رغبة في الآخرة، ومن العلماء من يقول: الكفار هم الزراع، ولكن الأولى أنهم الكفار بالله، فهم الذين يعجبهم نباته، وبعد مدة ماذا يكون هذا النبات؟ لا شك أنه ييبس ويصير حطاماً وتذروه الرياح، فهكذا هذه الدنيا تثمر لأهلها وتخضر وتقبل عليهم، ثم بعد ذلك تدبر عنهم ولا تقبل، ويذوقون الضر كما ذاقوا الخير، وتنزع عنهم أو ينزعون عنها، ولسان حالها يقول كما أنشد بعضهم: هي الدنيا تقول بملئ فيها حذار حذار من بطشي وفتكي فلا يغرركم طول ابتسامي فقولي مضحك والفعل مبكي فهذه حالة هذه الدنيا، إذا فكر العباد بما عليها علموا أنها متاع فقنعوا منها باليسير، وشمروا للدار الآخرة، ونصبوا الأقدام، وهجروا التواني والتكاسل الذي يعوقهم عن السير في الآخرة، وهجروا الفتور الذي يبطل هممهم، وأنصبوا أبدانهم وأجسامهم في طاعة الله تعالى، وعلموا أن الدنيا فانية وقنعوا منها باليسير، وجعلوا رغبتهم في الآخرة، ووثقوا بقول الله تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:30] ، هذه حالة المصدقين. وأما حال المكذبين فقد سمعنا ما ذكر الله تعالى عنهم في الآيات التي في سورة الإسراء، وهي قول الله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الإسراء:47-48] ، ثم يقول تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:49-51] ، فهذه حجة عليهم: أن الذي يعيدكم هو الذي فطركم أول مرة، {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} أي: متى هذا البعث؟ {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51] ، {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:52] . إذا دعاهم وأخرجهم تذكروا هيئتهم الأولى، وقالوا: كم لبثتم؟ يظنون أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا أياماً قليلة، يوماً أو بعض يوم، كما في آية أخرى، يقول تعالى عنهم: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} [طه:103] ، وأمثلهم وأعقلهم يقول: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} [طه:104] ، يتقالُّون الزمن الذي لبثوه ومكثوه في الدنيا، وما ذاك إلا أنهم لما كانوا في سرور، مضت عليهم الأيام قصيرة، وبلا شك أنهم سيلقون بعد ذلك السرور جزاء ينسيهم ما كانوا فيه من قبل، فإنهم يعذبون في الآخرة أو يثابون في الآخرة، ورد في بعض الأحاديث: (يجاء بأشد الناس عذاباً في الدنيا من أهل الجنة فيغمس في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت سوءاً قط؟ هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا يا رب! ما رأيت سوءاً قط، وما مرت بي شدة قط، ويجاء بأنعم الناس في الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مرت بك نعمة قط؟ فيقول: لا يا رب! ما رأيت خيراً وما مرت بي نعمة) ، نسي النعمة التي كانت في الدنيا؛ وذلك لأن لحظة واحدة في النار تنسيه ما كان فيه من النعيم في الدنيا، ويضرب بعضهم مثل هذا فيقول: مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم إنها شبه أنصابِ فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقابِ لو أن إنساناً نُعِّمَ في الدنيا عشرات السنين، في ألذ وأنعم ما يكون من الحياة والبهجة، ثم بعد ذلك ناله عذاب ساعة واحدة؛ نسي ذلك النعيم، ونسي تلك البهجة، ونسي ذلك السرور، فكيف ونعيم الدنيا بأسرها قليل! ونعيمك الذي تناله أنت في عمرك أقل من القليل؟ كيف إذا تعقب هذا النعيم العذاب المستمر الذي لا انقضاء له ولا انقطاع وهو عذاب الآخرة، عذاب النار وبئس القرار، فإنه هو الذي لا انقضاء له أبداً، فهذا يبين لك أن الدنيا قليل متاعها، وأن حظ الإنسان منها أقل من القليل. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 8 قرب قيام الساعة وذكر أيضاً الآيات التي فيها ما يدل على قرب قيام الساعة، وقد يقول قائل: قد مضى مئات السنين بعد نزول هذه الآيات، مضى أربعة عشر قرناً وبعض قرن، فكيف يقال: إنها قريب؟ الله تعالى ذكر أنها قريب في قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب:63] ، {يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} [الأعراف:187] ، يعني: استعدوا لها فإنها تأتي على حين غفلة وبغتة، فلابد أن تأتي، فلما كنتم مؤمنين بها وأنها تأتي فكونوا على أهبة في كل لحظة، وفي كل وقت، ترقبوا أن تأتي الساعة في ذلك اليوم أو في تلك الليلة. يقول الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} [النازعات:42-44] ، يعني: علمها، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:45-46] ، وفي آية أخرى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35] ، لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار، فالآيات التي ذكر الله فيها أنها قريبة: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ} [القمر:1] ، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1] ، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] ، تدل على أنها قريبة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها قريبة وأن الناس عليهم أن ينتظروها، بقوله: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) ، (إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة) ، فإذا رأينا أماراتها وأشراطها، فإننا ننتظر أن تأتي الساعة بغتة ليأتي أمر الله. وأولها: أن ينفخ في الصور نفخة الفزع ونفخة الصعق: وهي نفخة واحدة، ثم بعدها تموت الأجساد وتفنى، ثم ينفخ فيه نفخة أخرى هي نفخة البعث والقيام من القبور، فيبعث الناس ويجتمعون في دار الجزاء، وليس دون ذلك إلا أيام قليلة. فالمسلم يكون متأهباً لذلك، حتى إذا جاءه أمر الله يكون على أهبة، وقد أعد للساعة عدتها، وقد عمل عملاً صالحاً يكون سبباً في نجاته، كما كان كثير من السلف -رحمهم الله- يهتمون بالآخرة، حتى لو قيل لأحدهم: إنك تموت هذا اليوم، لم يستطع أن يزيد في عمله، يعني: قد بلغ أقصى ما يمكنه من العمل ومن الاجتهاد في الأعمال الصالحة، بحيث إنه يترقب الموت في كل حالة، ويمتثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) ، وقول ابن عمر رضي الله عنه: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) يعني: ترقب الموت بينك وبين الصباح أو بينك وبين المساء، مخافة أن يأتيك أمر الله، ومن مات فقد قامت قيامته. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 9 قوله تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) قال رحمه الله: [ومن هذا قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] ، إلى آخر السورة، فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان أن يأتي بأحسن من هذه الحجة أو بمثلها في ألفاظ تشابهه هذه الألفاظ في الإيجاز ووضع الأدلة وصحة البرهان؛ لما قدر، فإنه -سبحانه- افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد اقتضى جواباً، فكان في قوله: (ونسي خلقه) ما وفّى بالجواب، وأقام الحجة وأزال الشبهة، لوما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها، فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] ، فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، إذ كل عاقل يعلم -علماً ضرورياً- أن من قدر على هذه قدر على هذه، وأنه لو كان عاجزاً عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز، ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه وعلمه بتفاصيل خلقه، أتبع ذلك بقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] ، فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ومواده وصورته، فكذلك الثاني، فإذا كان تام العلم كامل القدرة، كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم؟ ثم أكد الأمر بحجة قاهرة وبرهان ظاهر يتضمن جواباً عن سؤال آخر يقول: العظام صارت رميماً، وعادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لابد أن تكون مادتها وحاملها طبيعته حارة رطبة، بما يدل على أمر البعث، ففيه الدليل والجواب معاً فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:80] ، فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، الذي يخرج الشيء من ضده وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي عليه، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه من إحياء العظام وهي رميم. ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم على الأيسر الأصغر، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتداراً، فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس:81] ، فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض على جلالتها وعظم شأنها وكبر أجسامها، وسعتها وعظيم خلقها أقدر على أن يحيي عظاماً قد صارت رميماً، فيردها إلى حالتها الأولى، كما قال في موضع آخر: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57] ، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف:33] . ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر: وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات والكلفة والتعب والمشقة ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لابد معه من آلة ومعين، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته، وقوله للمكون: كن؛ فإذا هو كائن، كما شاء وأراده، ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده فيتصرف فيه بفعل وقوله (وإليه ترجعون) ومن هذا قوله سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36-40] ، فاحتج سبحانه على أنه لا يتركه مهملاً عن الأمر والنهي والثواب والعقاب، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشد الإباء، كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] ، إلى آخر السورة. فإن من نقله من النطفة إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم شق سمعه وبصره، وركب فيه الحواس والقوى والعظام والمنافع والأعصاب والرباطات التي هي أسره، وأحكمه، وأحكم خلقه غاية الإحكام، وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال، كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سدى؟ فلا يليق ذلك بحكمته، ولا تعجز عنه قدرته، فانظر إلى هذا الاحتجاج العجيب من قول وجيز، الذي لا يكون أوجز منه. ] . هذه الآيات في آخر سورة يس احتج الله بها على بعض المشركين، روي أن الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل جاء ومعه عظم ميت قد بلي، وجعل يفته، وقال: أتزعم -يا محمد- أن ربك قادر على أن يعيد هذا حياً بعد أن صار فتاتاً وتراباً؟ فقال: (نعم، يميتك الله، ثم يحييك، ثم يحشرك إلى جهنم، ونزل فيه هذه الآيات، وهي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] ) ، فهذه هي الحجة الأولى، يذكره الله بأنه خلق من نطفة، والنطفة: ماء قذر لو ترك لحظة لفسد، فالله هو الذي أوجد الإنسان وخلقه من هذه النطفة، ثم طوره إلى أن أخرجه إنساناً سوياً، وجعله بشراً متكامل الخلق، فإذا هو يخاصم ربه ويجادله. ثم قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] ، وهذا المثل كونه أتى بالعظم يفته، ونسي مبدأ خلقه، نسي أن الله هو الذي أوجده من تلك النطفة إلى أن صار رجلاً، ونسي قول الله تعالى له ولغيره: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات:20-21] ، نسي مبدأ خلقه فقال: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} ، والآيات التي بعدها في تقرير البعث وفي الرد عليه: الحجة الأولى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] ، فإن الذي ابتدأ الخلق قادر على أن يعيده، وليس بدأ الخلق أهون من إعادته، هذه حجة قاطعة لكل خصومة؛ وذلك لأن الله هو الذي ابتدأ خلق الإنسان وأحياه في هذه الدنيا، وكذلك سائر المخلوقات، فقدر الله أنها تتوالد، وأنها تنشأ، وأنها توجد على هذه الحياة شيئاً فشيئاً، فالذي أوجده وخلقه وكونه وقدر ما يقدر عليه لا شك أنه قادر على أن يعيده كما كان، فيقول تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] . الحجة الثانية: قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] ، يعني: أنه عالم بكل شيء فلا يخفى عليه شيء، فهو عالم بعدد المخلوقات، وعدد الرمل والتراب، وأبصر كل شيء فلم يحجب بصره حجاب، وسمع جهر القول وخفي الخطاب، لا يخفى عليه شيء من أمور عباده، علم عددهم قبل أن يخلقهم، وعلم آجالهم، وعلم أعمارهم، وعلم أعمالهم، وعلم أوقاتهم التي يولدون فيها، فهو بكل خلق عليم، فإذا كان عليماً فلا يليق به أن يهمل خلقه. الحجة الثالثة: قول الله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً} [يس:80] ، يقولون: هناك شجر اسمه المرخ، وشجر اسمه العفار، يعرفه أهل البوادي، إذا أرادوا أن يقدحوا ناراً قطعوا عودين أخضرين، وحزوا في أحدهما حزاً، ثم إنهم يحركونه تحريكاً جيداً فتنقدح منه النار، ثم يجعلون تلك الشررات التي تنقدح منه في خرقة، ثم بعد ذلك ينفخونها، ثم يوقدونها ناراً، وكان يغني عن الكبريت الذي نستعمله وغيره، وهو معروف عند العرب قديماً وعند البوادي إلى حد قريب، يقولون: في كل شجر نار، والله تعالى هو الذي يخرج النار من هذا العود الأخضر، النار طبيعتها حارة، وطبيعة هذا العود أنه رطب، وأنه مائي أخضر، ومع ذلك تنقدح منه هذه النار التي فيها هذه الحرارة، أليس ذلك دليلاً على أن الذي أوجد هذه الحرارة في هذا قادر على أن يعيد إلى الإنسان حياته، ولو كان تراباً؟ يعيده ويجمع أشلاءه ولو كانت متفرقة، ولو كانت رماداً أو تراباً، لا يستعصي عليه أن يعيد إليه حرارته الغريزية وحياته وطبيعته، كما لم يستعصِ عليه أن يخرج النار من ذلك الشجر الأخضر الذي توقدون منه. الحجة الرابعة: قول الله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} [يس:81] ؛ وذلك لأن خلق هذه السماوات مع ارتفاعها وما فيها من الأفلاك وما فيها من النجوم السائرة والثابتة، وما فيها من الشمس والقمر وهذه الأجرام العلوية، وكذلك هذه الأرض وما فيها من الشعاب والجبال والمهاد؛ أعظم من خلق الإنسان، فإن المخلوق العظيم يدل على عظمة خالقه. إذاً: القادر على أن يخلق مثل هذه الأشياء قادر على أن يعيد الإنسان -مع صغره ومع حقارته- كما كان. يقول الشارح كما سمعنا: من قدر على أن يحمل قنطاراً، لم يصعب عليه أن يحمل أوقية، القنطار: هو ملء مسك الثور من الذهب أو نحوه -ملء جلد الثور-، والأوقية ملء اليد، فالذي يقدر على أن يخلق هذه المخلوقات العلوية الكبيرة لا يستعص عليه أن يوجد الإنسان. الحجة الخامس: قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فالله ليس كالذي يحتاج إلى حرفة وإلى صنعة وإلى عمل وإلى مواد يجمعها، الصانع إذا أراد أن يصنع مثل هذه الطاولة، لابد أن يأتي بأعواد ولابد أن يأتي بمنشار، ولابد أن يقيس، ولابد أن يسويها بآلة إلى أن تستوي، وكذلك من يصنع مثل هذا الزجاج لابد أن يأتي بالمواد التي يصنع منها، إلى أن يكون منها ما يصنع، أما الرب تعالى فإنه لا حاجة به إلى م الجزء: 63 ¦ الصفحة: 10 تفصيل الشريعة لما يكون بعد البعث البعث وما بعده من الجزاء والحساب والثواب والعقاب والحوض والميزان والعرض وما أشبه ذلك، كل ذلك داخل في الإيمان باليوم الآخر، والشريعة الإسلامية قد فصلت ذلك، وفي القرآن والسنة من ذلك ما لم يكن مفصلاً في الكتب قبله، والإيمان باليوم الآخر قد توافقت عليه شرائع الأنبياء، وكتبهم المنزلة عليهم متفقة على الإيمان بأن هناك بعثاً بعد الموت وجزاءً على الأعمال خيرها وشرها. وكذلك هناك حساب عسير أو حساب يسير كما أخبر الله. وهناك وقوف في الموقف الذي هو موقف الناس: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ، وتضمنت الشريعة إثبات البعث الذي هو بعث الأجساد وإعادتها بعد أن كانت تراباً ورميماً، وذلك يسير على الله تعالى. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 11 الحجج العقلية على البعث وردت الأدلة الكثيرة في القرآن في تقرير هذا البعث، ومرت بنا آيات توضح ذلك، وأن الله تعالى يحتج على البعث بحجج عقلية معقولة مشاهدة، وقد احتج على المنكرين بما يلي: 1- بإحياء الأرض بعد موتها، يقول الله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19] ، لما ذكر أنه يحيي الأرض بعد موتها أخبر بأنهم كذلك يخرجون من الأرض، ويقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} يعني: أرضاً ميتة {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} [الأعراف:57] يعني: كما تحيا هذه الأرض الهامدة اليابسة التي ليس فيها عود أخضر، وليس فيها ورقة خضراء، ينزل عليها المطر فيغمرها، فتصبح بعد ذلك خضراء تهتز، فيها من أنواع النباتات المختلفة الطعوم والألوان والروائح والطبائع والأضراب، ولا شك أن ذلك آية ومعجزة بينة على إخراج الموتى وإعادتهم بعد أن يكونوا تراباً. 2- ويحتج أيضاً: ببدء الخلق، فيقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] ، أي: أنه كما بدأ خلق الإنسان وأحياه بعد أن كان عدماً، فكذلك يعيده بعد أن يكون تراباً، فالذي أخرج الإنسان بعد أن كان ماءً مهيناً، وبعد أن كان نطفة قذرة؛ أخرجه بشراً سوياً حياً متحركاً عاقلاً متكلماً فاهماً، له حركاته وله حواسه؛ لا شك أنه قادر على أن يعيده بعد أن يكون تراباً، ولو تفرقت أشلاؤه، ولو أكلته الدود أو أكله التراب أو رمي في البحر أو صار رماداً؛ لا يعجز الله أن يعيده كما كان، فهذا من حجة الله على خلقه. 3- كذلك يحتج تعالى بمخلوقاته العلوية والسفلية التي هي أعظم من خلقه، فيقول تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] ، ويقول تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} [يس:81] ، ويقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف:33] ، ونحو ذلك من الأدلة. 4- ويخبر سبحانه بأنه لا يحتاج في خلقه ولا في تصرفه إلى حركة ولا إلى عمل ولا إلى معين ومساعد، وإنما يأمر أمراً لا يرد: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، فالذي تذل له المخلوقات وتطيعه كلها ولا تستعصي عليه، وإذا أمرها انقادت لأمره؛ لا يستعصي عليه أن يعيد خلق الإنسان كما كان. فهذه من الأدلة التي سمعنا إيضاحها ودلالتها على إعادة الخلق، ولا شك أن الإنسان العاقل الذي يسمع هذه الأدلة يقنع غاية القناعة، ويصدق بذلك غاية التصديق، ويستسلم لذلك، ولا يبقى في قلبه شك ولا ريب، ولكن لا يكتفي بأن يقول: أنا مؤمن وأنا مصدق وأنا موقن بذلك كله، وأنا لا أشك ولا أتردد، ولكن يطلب منه العمل الذي يلقاه ذلك اليوم، فإن ذلك اليوم لابد أن يكون له عمل، لابد أن يعمل العمل الذي ينجو به في ذلك اليوم، فإذا علم الإنسان أن ذلك اليوم يوم عسير، ويوم طويل كألف سنة مما تعدون، أو كخمسين ألف سنة، وأنه لا يخف إلا على أهل الإيمان، وعلم أن فيه حساباً، وأن الحساب يكون عسيراً إلا على أهل الإيمان وأهل الأعمال الصالحة إذ إن الله يحاسبهم حساباً يسيراً، وعلم أن فيه وزناً للأعمال، وأنها تخف وتثقل، وأن الذي تثقل موازينه هم أهل السعادة وهم أهل الأعمال الصالحة، وأن الله تعالى سريع الحساب، يحاسبهم في طرفة عين، ولا يشغله شأن عن شأن، وعلم أيضاً: أن فيه تتطاير الصحف، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره؛ لا شك أنه يستعد لمثل هذه الأشياء، فيعلم أنها لا تحصل إلا بعمل، فيسأل عن العمل، ويتقرب بذلك العمل. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 12 شرح العقيدة الطحاوية [64] من اعتقاد أهل السنة والجماعة الإيمان باليوم الآخر، وما ذكر فيه من المواقف كالعرض الأكبر والحشر والميزان والصراط وغير ذلك، ومن أنكر ذلك من الفلاسفة وغيرهم فالأدلة العقلية والنقلية ترد عليهم. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 1 ذكر مواقف القيامة قد عرفنا أن من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر -وهو يوم القيامة-، وسمي باليوم الآخر؛ لأنه ليس بعده يوم، وتلك الدار تسمى الدار الآخرة، فاليوم الأول هو الدنيا، وهي تعتبر كأنها يوم، ثم اليوم الآخر هو ما يكون بعد البعث، فعندنا يومان: الدنيا يوم، والآخرة يوم، والدنيا سميت بذلك لأنها دنية أو دانية، والآخرة سميت بذلك لأنها متأخرة عن هذه الدنيا، أو لأنها آخر ما يمر به الإنسان، وليس بعدها يوم، بل هي مستمرة دائماً وأبداً، وأول ما يكون في اليوم الآخر هو البعث، الذي هو إعادة الناس وإحياؤهم بعد تفرق أشلائهم وأجزائهم، وبعد صيرورتهم تراباً ورفاتاً، هذا أول ما يكون في ذلك اليوم. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 2 الحشر بعد العبث يكون الحشر، يعني: سوقهم إلى الموقف ، وقد أخبر الله تعالى بأنهم يحشرون على هذه الأرض، والمجرمون يحشرون: {زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} [طه:102-103] ، يقول بعضهم لبعض: ما لبثتم في الدنيا إلا عشرة أيام، ويقول (أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً) ، فأول شيء بعد البعث أنهم يحشرون، يعني: يساقون إلى الموقف. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 3 الموقف الموقف هو موضع خصصه الله على وجه الأرض، وقد أخبر الله بأن الأرض تبدل، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم:48] ، وأخبر بأنها تمد مداً، {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:3-5] ، أي: تمد كما يمد الأديم العكاظي، وكذلك يزال ما عليها من البنيان، وتزال الجبال التي عليها، {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5] ، تتفتت أولاً وتصير كالرمل كما في قوله تعالى في قوله: {كَثِيباً مَهِيلاً} [المزمل:14] ، ثم بعد ذلك تكون كالهباء الذي يسير، {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88] أي: كأنها السحاب الذي هو هباء -غيم- وبعد ذلك يزال ما عليها، يقول الله تعالى: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:107] أي: مستوية ليس فيها منخفض ولا مرتفع، تزال الأشجار، وتزال الجبال، وتزال الأبنية، وتزال الكثب والمرتفعات ونحو ذلك، ويقوم الناس عليها: أولهم وآخرهم، يجمعون كلهم، يقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49-50] ، فأخبر أن أولهم وآخرهم كلهم مجموعون مجتمعون في ذلك اليوم الذي هو يوم الجمع ويوم العرض. والعرض يكون على الله تعالى، ولكن بعد أن تطول المدة في ذلك الموقف، وبعدما يلحقهم التعب والعناء، فيستشفعون إلى الله تعالى بالأنبياء، ويشفع محمد صلى الله عليه وسلم لينزل الله تعالى لفصل القضاء، ثم بعد ذلك العرض، وهو عرض الناس، يقول الله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً} [الكهف:48] أي: صفوفاً: صفاً بعد صف؛ ليحاسبهم، وقد أخبر تعالى أنه يحاسبهم، وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يحاسبهم الله ويناقشهم، ويذكرهم بكذا وكذا، (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان) ، وأخبر الله تعالى أنه سريع الحساب، لا يشغله شأن عن شأن. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 4 أهوال يوم القيامة من الأهوال التي تكون في يوم القيامة: نصب الميزان، وتطاير الصحف، فإن الناس يأتيهم الهول عندما تنصب الموازين، حتى يعلم: هل يخف ميزانه أم يثقل؟! وعندما تتطاير الصحف، حتى يعلم: هل يأخذ كتابه بيمينه، أم يأخذه بشماله؟! فإذا ثقلت موازينه نودي: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإذا أوتي كتابه بيمينه كذلك يفوز فوزاً عظيماً، ويقرأ كتابه ويعرضه على من يعرفه، ويقول: {هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] ، وكل ذلك مفصل في القرآن بعبارات واضحة لا يعتريها شيء من الشك والريب، ولكن الفلاسفة الذين ينكرون هذه الأشياء حقيقة يتسلطون على تأويلها وصرفها عن ظاهرها؛ حتى تسلم لهم عقيدتهم، كما تسلط إخوانهم من المعتزلة على نصوص الصفات فتأولوها، ففتحوا للناس باب التأويل. وهذه الأمور التي وردت في القرآن لا يتم إيمان العبد إلا بتحققها، وتيقنها، ومعرفة أنها صحيحة ثابتة، ولا يعلم ذلك إلا بالاستعداد لها والتأهب؛ لأن من آمن باليوم الآخر استعد لذلك اليوم، وتأهب له، وعمل العمل الصالح الذي يكون سبباً في نجاته وسبباً في فوزه، أما من يصدق به بلسانه ولكنه لا يستعد له؛ فإن هذا يقول ما لا يفعل، ولا ينفعه قوله بلسانه مادام أنه لا يطبق ما يقوله، كما يقول بعضهم واصفاً هؤلاء المفرطين: ألسنة تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 5 أدلة القرآن على اليوم الآخر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والعرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب) . قال الله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:15-18] إلى آخر السورة. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} [الانشقاق:6-15] . وقال تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف:48] ، وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] ، وقال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] إلى آخر السورة. وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15] ، إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17] ، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] . وروى البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت: يا رسول الله! أليس قد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:7-8] ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلكِ العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب) ، يعني: أنه لو ناقش في حسابه لعبيده لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولكنه تعالى يعفو ويصفح، وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى] . أورد المؤلف هذه الآيات، والقرآن مشتمل -بإيضاح- على ذكر الدار الآخرة، وما يكون فيها. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 6 النفخ في الصور أول ما يكون يقوم القيامة النفخ في الصور، وقد ذكر في القرآن في عدة مواضع، فذكر الله نفختين أو ثلاث نفخات، نفخة ذكر بعدها الفزع في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87] ، وسميت في سورة الزمر بنفخة الصعق: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] ، يقول بعض العلماء: إنها نفختان: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، وقال بعضهم: بل نفخة واحدة، يفزعون في أولها ثم يصعقون في آخرها، وقال بعضهم: إن الفزع صعق، أي: موت، أي: أن أوله فزع ثم موت. أما النفخة الثانية فهي نفخة البعث، وهي مذكورة في قوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] ، وهي النفخة التي يبعثون بعدها، ورد في الحديث: (ما بين النفختين أربعون) ، وتوقف الراوي لا يدري هل هي أربعون يوماً، أو أربعون شهراً، أو أربعون سنة؟! وجزم بعضهم أنها أربعون سنة، أي: بين نفخ الصعق وبين نفخة القيام لرب العالمين. وبعد النفخة الثانية تسوقهم الملائكة إلى الموقف، وهذا يسمى الحشر كما في قوله تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:47] ، وبعد ذلك العرض كما في قوله: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً} [الكهف:48] أي: صفوفاً، وبعده الوقوف: وهو القيام الطويل. وإذا تأملنا النصوص وجدنا ما يؤيد هذه الأشياء في آيات متتابعة متكررة، فقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة:13] ، هي نفخة البعث أو نفخة الصعق، {وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة:14] أي: جعلت الأرض والجبال شيئاً واحداً، حتى تكون مستوية صالحة لأن يوقف عليها، {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة:15] أي: حصلت الواقعة التي هي يوم القيامة. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 7 أسماء يوم القيامة الله تعالى سمى يوم القيامة بأسماء عدة، كما في قوله: {إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1] ، وفي قوله: {الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1] ، وفي قوله: {الْقَارِعَةُ} [القارعة:1] ، وسماه بيوم القيامة {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] ، وسماه بالطامة والصاخة، في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} [النازعات:34] ، {فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ} [عبس:33] ، وكل اسم له معنى، فمعنى كونها (طامة) أنها تطم ما قبلها، وتنسي ما قبلها، والطم -في الأصل- هو التغطية، ومنه قولهم: طم البئر إذا غطاها، أي: أنها طامة مذهلة، أو عامة لكل الخلق. وأما تسميتها بالصاخة فإنه لأجل ثقلها على الناس، والصخ أصله الضرب بقوة، أو الثقل أو نحو ذلك. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 8 الخوف من يوم القيامة والحكمة من تكرار ذكره في القرآن هذه الآيات تخوف بما اشتملت عليه، وذلك أن يوم القيامة الذي ذكر في قوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] ، {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة:48] ؛ لا شك أن هذا اليوم هو يوم الجزاء، هو يوم الحساب، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] . والآيات التي ذكرت فيها ووضحت متقاربة المعنى، وإن اختلفت الألفاظ؛ وذلك لأن الله تعالى يذكره في كل موطن بما يناسبه، والقصد من تكرار ذكر يوم القيامة تحققه، حتى لا يقال: إنه خيال، أو إنه تقريبي أو ما أشبه ذلك. وحتى لا تتسلط عليه التأويلات التي يسلكها النفاة من الفلاسفة ونحوهم، فإذا جمعت الآيات بصراحتها يعجزون عن أن يصرفوها. فلذلك آمن أهل السنة وآمن المسلمون بالبعث بعد الموت، وقالوا: ليس في العقول ما ينكره، والقدرة الإلهية عامة له ولغيره، والعقل يقتضيه لأجل الجزاء على الأعمال، ولأجل الانتقام من الظالم، وأخذ الحق للمظلوم، ولأجل إثابة المطيع، وعقوبة العاصي، وذلك لأننا نشاهد في الدنيا ظلمة يموتون وهم مصرون على الظلم، منهم من قتل، ومنهم من قطع طرفاً ظلماً، ومنهم من انتهب مالاً: سرقة، أو اختلاساً، أو غصباً أو غير ذلك، ومنهم من انتهك عرضاً؛ ومع ذلك يموتون والحق عندهم، ولاشك أن الله تعالى أعدل من أن يذهب صاحب المظلمة دون أن ينتقم منه؛ فلابد أن يكون هناك يوم آخر ينصف الله فيه المظلوم، وينتقم من الظالم، ويجازيه بما يستحقه، فيكون ذلك هو اليوم الآخر الذي هو يوم القيامة. كذلك أيضاً: نشاهد أن هناك من يجد في العمل، ويجتهد في الأعمال الصالحة، ويتقرب بالحسنات، ولا يأتيه جزاء في الدنيا إلا ما يجده من لذة الطاعة ونحوها؛ فلابد أن الله لا يضيع عمله، كما في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] ، فإذاً: لا يضيع أجره ما دام أنه لم يتمتع من أجره بشيءٍ في الدنيا، فأجره يوفى إليه في الدار الآخرة، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] . كما أننا نشاهد الكفرة والفجرة الذين تمتعوا في الدنيا بشهوات وملذات، وهم يظهرون الكفر والفسوق والسخرية بالرسل، ويكذبونهم ويسخرون من الحق، ويفعلون المعاصي ويتركون الطاعات، ومع ذلك يموت أحدهم وهو على إصراره، لم تنله عقوبة في الدنيا. إذاً: لابد أن تكون هناك دار أخرى يعاملهم الله فيها بما يستحقونه، أو يعاملهم فيها بعدله إذا لم يعفُ عن المحسن منهم، فهذه الأمور العقلية تضطر المؤمن إلى أن يؤمن بالبعث بعد الموت، وأن يتحقق وقوعه. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 9 حديث: (إن الناس يصعقون يوم القيامة) قال المؤلف: [وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور) ، وهذا صعق في موقف القيامة، إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذٍ يصعق الخلائق كلهم. فإن قيل: كيف تصنعون بقوله في الحديث: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش) ؟ قيل: لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكال، ولكنه دخل فيه على الراوي حديث في حديث، فركب بين اللفظين فجاء هذان الحديثان هكذا: أحدهما: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق) ، كما تقدم، والثاني: (أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة) ، فدخل على الراوي وهذا الحديث في الآخر، وممن نبه على هذا أبو الحجاج المزي، وبعده الشيخ شمس الدين بن القيم، وشيخنا الشيخ عماد الدين بن كثير رحمهم الله تعالى. وكذلك اشتبه على بعض الرواة فقال: (فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل) ، والمحفوظ الذي تواطأت عليه الروايات الصحيحة هو الأول، وعليه المعنى الصحيح، فإن الصعق يوم القيامة من تجلي الله لعباده إذا جاء لفصل القضاء، فموسى عليه السلام إن كان لم يصعق معهم فيكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكاً، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضاً عن صعقة الخلائق لتجلي الرب يوم القيامة، فتأمل هذا المعنى العظيم ولا تهمله. وروى الإمام أحمد والترمذي وأبو بكر عن ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: سمعت أبا موسى الأشعري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فعرضتان: جدال ومعاذير، وعرضة: تطاير الصحف، فمن أعطي كتابه بيمينه، وحوسب حساباً يسيراً دخل الجنة، ومن أوتي كتابه بشماله دخل النار) ، وقد روى ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك أنه أنشد في ذلك شعراً: وطارت الصحف في الأيدي منشرة فيها السرائر والأخبار تطلع فكيف سهوك والأنباء واقعة عما قليل ولا تدري بما تقع أفي الجنان وفوز لا انقطاع له أم الجحيم فلا تبقي ولا تدعُ تهوي بساكنها طوراً وترفعهم إذا رجوا مخرجاً من غمها قمعوا طال البكاء فلم يرحم تضرعهم فيها ولا رقة تغني ولا جزعُ لينفع العلم قبل الموت عالمه قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا] . تحقيقاً لما ذكرنا من الحشر والبعث بعد الموت أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أول من تنشق عنه الأرض، فدل على أنهم يجمع خلقهم ويكمل وهم في جوف الأرض، إما في نفس القبور، وإما بطن الأرض، ثم بعد ذلك تنشق الأرض عنهم فتخرج الأرواح والأجساد على وجه الأرض، فيقومون من قبورهم كما في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] الأجداث: هي القبور، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] ، كأنهم شعروا بأنهم قبل بعثهم كانوا نياماً قد رقدوا فيقال: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] . والأنبياء لهم مزية، ونبينا صلى الله عليه وسلم أفضلهم، فهو أول من تنشق عنه الأرض، ثم بعد ذلك بقية الأنبياء، وأرواحهم في الملأ الأعلى، وكذا أرواح الشهداء قد رفعت، وأما أجسادهم فإنها في الأرض، بعد ذلك يبعثهم الله؛ لأنه أخبر بأن الأرض هي مرد كل إنسان في قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] ، وفي قوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] ، وهذا يعم الأنبياء وغيرهم، وبعدما يجتمعون في ذلك المجمع، وذلك الموضع الذي يجمع فيه أولهم وآخرهم، ولا يحصي عددهم إلا الله تعالى، ويطول وقوفهم، وقد أخبر في هذا الحديث أنهم يصعقون، وهذه صعقة جديدة، إما أنهم يسمعون صوتاً مزعجاً عندما تتشقق السماء بالغمام لتنزل الملائكة، فيكون من آثار تشققها أصوات مزعجة يصعق الناس فيها -يعني: يغشون- وتطول هذه الغشية، ويكون نبينا صلى الله عليه وسلم أول من يفيق، ولكن يجد موسى قد أفاق قبله، وفي ذلك مزية لموسى عليه السلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا أدري هل أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟) ، صعقة الطور: هي المذكورة في سورة الأعراف في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] ، فهذا صعق في الدنيا، يعني: كأنه جوزي بهذا الصعق. وبكل حال فهذا الصعق يكون في الموقف، وفي الموقف أيضاً -بلا شك- أهوال عظيمة منها: العرض على الله تعالى، ومنها نصب الموازين ومنها تطاير الصحف، ومنها نشر كتب الأعمال التي هي دواوين الأعمال، كل ينشر له ديوان فيه أعماله، يقول الله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13-14] ، ويقرؤه من يقرأ ومن لا يقرأ، كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف:49] ، فهذه -بلا شك- حقائق يقينية دل عليها القرآن، ودل على أنه يحضر للإنسان كل شيء عمله من الخير والشر، فيسره أن يجد الحسنات مضاعفة موفرة، وأما إذا وجد السيئات فيستاء لذلك ويحزن، يقول الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداًً} [آل عمران:30] ، ما عملت من خير تجده محضراً، وما عملت من شر -يعني: من سيئات- تتمنى أنه يبعد عنها، وأنها لم تره؛ وذلك لأن السيئات -بلا شك- تسوء صاحبها، ويخاف من الجزاء عليها. وبكل حال: هذه حقائق يجب الإيمان بها، ويجب أيضاً الاستعداد لها، والتأهب لما بعدها. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 10 الإيمان بالصراط قال رحمه الله: [قوله: (والصراط) : أي: ونؤمن بالصراط، وهو جسر على جهنم إذا انتهى الناس بعد مفارقتهم مكان الموقف في الظلمة التي دون الصراط، كما قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: (أين الناس {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48] ؟ فقال: هم في الظلمة دون الجسر) . وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين، ويتخلفون عنهم، ويسبقهم المؤمنون، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم، وروى البيهقي بسنده عن مسروق عن عبد الله قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة إلى أن قال: فيعطون نورهم على قدر أعمالهم قال: فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر ذلك من يعطى نوره على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ مرة، فإذا أضاء قدم قدمه، وإذا طفئ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحض مزلة، فيقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرحل ويرمل رملاً، فيمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تجر يد وتعلق يد، وتجر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبهم نار، قال: فيخلصون فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منكِ بعد أن أراناكِ، لقد أعطانا الله ما لم يعطِ أحداً) الحديث] . هذا من الأهوال التي ذكرت في يوم القيامة، ذكر الله تعالى أن الأرض تبدل، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أين النار يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال: في الظلمة دون الجسر) ، وفي حديث ابن عباس: (إنهم على الصراط) ، وقد تكاثرت الأدلة في أنهم يعبرون على الصراط، والصراط في الأصل: هو الطريق الذي يسار عليه، قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] ، وهو صراط معنوي، وفي الآخرة صراط حسي يعبر الناس عليه، ويسيرون عليه، وهذا الصراط منصوب على متن جهنم يمر الناس عليه على قدر أعمالهم. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 11 تميز المؤمنين عن المنافقين عند المرور على الصراط قد أخبر الله تعالى أنه يتميز المؤمنون من المنافقين في قول الله تعالى: {نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:12-13] ، إذا أعطوا نوراً وفرقت عليهم الأنوار انطفأ نور المنافقين، وسار المؤمنون بنورهم، فإذا ساروا تأخر المنافقون في تلك الظلمة، وعند ذلك يمنعون ويحجزون، ويقولون: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ} يعني: نأخذ قبساً نستضيء به من نوركم، فيقال: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} [الحديد:13] ، ارجعوا إلى المكان الذي قسمت فيه الأنوار فيرجعون، فإذا رجعوا ضرب بينهم بسور: حاجز منيع له باب لا يدخل إلا من ذلك الباب {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] ، فهذا الوقت الذي يتميز فيه المنافقون من المؤمنين. وقد ورد أيضاً: (يقال: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ومن كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتمثل لكل فئة طاغوتها الذي كانت تعبده، فيمثل للنصارى تمثال على هيئة ما يعبدونه، ويقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، يقال: كذبتم ما اتخذ الله من ولد ولا صاحبة، ما تريدون؟ فيقولون: عطشنا يا رب! فيقال: ألا تردون؟ فيساقون إلى جهنم فيتساقطون فيها، وكذلك يقال لليهود، فيتساقطون فيها، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فإذا بقيت هذه الأمة أتاهم ربهم، فيقول: ماذا تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فإذا تجلى لهم سجدوا، فإذا سجدوا تمكن المؤمنون من السجود، ولم يتمكن المنافقون، كلما أراد المنافق أن يسجد خر لقفاه، وذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:42-43] ) أي: قد كانوا يدعون في الدنيا إلى الصلاة وهم سالمون فلا يسجدون، فكذلك إذا دعوا إلى السجود يوم القيامة وأرادوا أن يسجدوا لم يحصل لهم ولم يستطيعوا السجود، وهنالك تقسم عليهم الأنوار ويتميز المؤمنون عن المنافقين، وينادون المؤمنين: ألم نكن معكم؟ فيقولون: {بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} [الحديد:14] ، وهذا واضح في كلام الله. وفي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الجسر الذي ينصب يوم القيامة على متن جهنم ويعبرونه، يقول العلماء: إن هذا هو المرور أو الورود، فالله تعالى أخبر أن كلاً يرد على النار فقال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71-72] ، فمرورهم على هذا الصراط هو ورودهم المذكور: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} ، فأما المؤمنون المتقون فإن الله تعالى ينجيهم، {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:72] ، ولا تضرهم، بل كلما مروا على لهب منها طفئ اللهب، ويروى: (أن النار تقول: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي، فإذا عبروا يتساءلون: ألم يعدنا ربنا أننا نرد النار؟ فيقال: إنكم قد وردتموها وهي هامدة خامد) ، هذا هو مرورهم على هذا الصراط. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 12 وصف الصراط وصفة المرور عليه ورد في وصف هذا الصراط أنه دحض مزلة تزل عنه الأقدام إلا من ثبته الله، وأنه أدق من الشعرة، وأحد من السيف الأبتر، وأن الناس يمرون عليه على قدر أعمالهم أو على قدر النور الذي أعطاهم الله، فمنهم من يكون نوره الذي أعطيه مثل الجبل، ولكن لا يضيء إلا له، ومنهم من يكون نوره أقل من ذلك، وبعضهم يعطى نوراً على رأس إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ مرة، إذا أضاء قدّم رجله وإذا طفئ وقف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف مرورهم على الصراط: (منهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والركاب، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، وعلى جنبتي الصراط كلاليب مثل شوك السعدان تخطف من أمرت بخطفه، فناج مسلم، ومخدوش، ومكردس في النار) ، هذه الكلاليب التي مثل شوك السعدان تخطف العصاة إذا مروا على هذا الصراط من أهل كبائر الذنوب ونحوهم، فإذا اختطفته وسقط وتكردس في النار عذب فيها بقدر عمله، أما الذين يعبرون على هذا الصراط إلى أن يتجاوزوه فأولئك هم الذين يحمدون العاقبة حتى ولو كان أحدهم يزحف زحفاً، ولكن في نهايته يرى أنه سلم، وأنه نجا فيحمد العاقبة، (ويقول إذا التفت إلى النار: الحمد الذي أنجاني منكِ، لقد أعطاني الله ما لم يعطه أحداً من العالمين) ، فاغتبط حيث نجا من عذاب النار التي عذابها شديد، وحرها شديد. المؤمن يتذكر مثل هذه الأهوال فيستعد لها، ويذكر بها إخوانه الغافلين ليستعدوا لها، وليعلموا أنها حق ويقين، وأنه ليس بينك وبين هذا إلا خروج هذه الروح من هذا الجسد، ثم بعد ذلك تلاقي أول الحساب. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 13 شرح العقيدة الطحاوية [65] لاشك أن مما يجب على المؤمن اعتقاده مما يكون يوم القيامة الصراط والميزان، لورود الآيات والأحاديث الدالة على ذلك، وقد ذكر العلماء تفاصيلها وصفاتها، ومتى تكون، كما ورد ذلك في الأحاديث والآيات. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 1 وجوب الإيمان بتفاصيل اليوم الآخر ومنها المرور على الصراط من الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بما أخبر الله ورسوله مما يكون يوم القيامة من طول الموقف فنؤمن بذلك اليوم {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ، أخبر الله بعرض الناس على ربهم، {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف:48] ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم (يحشرون حفاة عراة غرلاً، ودل على ذلك قوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] ، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] . وأخبر الله تعالى بالحشر في قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم:85-86] ، والحشر: هو الجمع يوم القيامة. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بتطاير الصحف، وبأنهم: يأخذون صحفهم وكتبهم بأيمانهم أو بشمائلهم من وراء ظهورهم. وأخبر الله تعالى بالحساب: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14] ، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب) . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحوض المورود يوم القيامة، ومن يرده، ومن يذاد عنه. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالصراط الذي ينصب على متن جهنم، يجتازه الناس على قدر أعمالهم وعلى قدر إيمانهم، سيراً سريعاً أو سيراً بطيئاً. وأخبر الله تعالى بالميزان {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102-103] . وأخبر الله تعالى وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه التفاصيل، ومن جملتها: كون الرب سبحانه وتعالى يبرز لعباده ويسجد له المؤمنون، ولا يستطيع المنافقون السجود كما في قوله تعالى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42] ، أخبر الله بأن نور المؤمنين (يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8] ، وبأن نور المنافقين ينطفئ إذا بدءوا في السير، ويقولون للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] ، وتفاصيل يوم القيامة كثيرة، وهذه من جملتها. والإيمان باليوم الآخر يلزم منه أن يؤمن بكل هذه التفاصيل، ما سمي منها وما لم يسمَّ، ما فصل منها وما أجمل، ومن آمن بذلك اليوم آمن بكل ما فيه، والنهاية قول الله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] . وأخبر الله وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بالأعمال التي تدخل النار، والتي تدخل الجنة. وأخبر الله وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بمن يخرج من النار بشفاعة الشافعين أو برحمة الله تعالى، ومن لا يخرج منها بل يخلد فيها، فكل هذه من التفاصيل التي وردت عن اليوم الآخر الذي هو يوم القيامة، فمن آمن باليوم الآخر آمن بكل ذلك. من أركان الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فاليوم الآخر هو: ما بعد الموت وما بعد البعث، وما بعد ذلك إلى ما لا نهاية له، هذا كله اليوم الآخر الذي يؤمن به المؤمنون، ويصدقون بتفاصيله، ولا شك أن من صدق به لا يكون تصديقه مجرد قوله: آمنت بذلك وصدقت به، بل يكون من آثار تصديقه العمل الصالح الذي يستعد به لذلك، فيستعد به حتى يكون نوره كالشمس، يستعد بالعمل الصالح الذي يرجح به ميزانه، يستعد بالعمل الصالح الذي يسير به على الصراط كالبرق، يستعد بالعمل الصالح الذي يؤتى به كتابه بيمنه، ويقول: {هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] . وهكذا بقية الأشياء التي تكون في ذلك اليوم، لابد من عمل صالح يسلم به من طريق أهل الجحيم، ويفوز بطريق أهل النعيم. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 2 اختلاف العلماء في معنى قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها) قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71] ، ما هو؟ والأظهر والأقوى: أنه المرور على الصراط، قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72] ، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! لا يلج أحد بايع تحت الشجرة، قالت حفصة فقلت: يا رسول الله! أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71] ، فقال: ألم تسمعيه قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72] ) ، أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا يستلزم حصوله، بل يستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه؛ يقال: نجاه الله منهم، ولهذا قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً} [هود:58] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً} [هود:66] ، وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً} [هود:94] ، ولم يكن العذاب أصابهم، ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك، وكذلك حال الواردين النار يمرون فوقها على الصراط، {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72] ، فقد بين صلى الله عليه وسلم في حديث جابر المذكور: (أن الورود هو المرور على الصراط) ، وروى الحافظ أبو نصر الوائلي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (علم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك، وإن أحببت ألا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدثن في دين الله حدثاً برأيك) ، أورده القرطبي، وروى أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد عن يعلى بن منية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جُزْ يا مؤمن! فقد أطفأ نورك لهبي) ] . قول الله تعالى -لما ذكر النار في سورة مريم-: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] ، ظاهره أن كل الناس واردو النار، كلهم لابد أن يردوا النار، ما هذا الورود؟ ورد في بعض الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (من فعل كذا لم يدخل النار إلا تحلة القسم) ، والمراد: الورود المذكور في هذه الآية، وقوله: (تحلة القسم) كأن الله أقسم بأنكم لابد أن تردوها، لابد من الورود لها، والأصل أن الورود: هو الإتيان إلى الشيء، ومنه تسمية الإبل التي تأتي إلى الماء وروداً، يقال: وردت الإبل المياه. يعني: جاءت إليها، وأخبر الله تعالى عن آل فرعون أنهم يردوها في قوله تعالى: {فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98] ، فظاهر هذا أنه أدخلهم فيها، فهم وردوا إليها وسقطوا فيها، وفي بعض الأحاديث أنه (في يوم القيامة يقال لليهود: ما تعبدون؟ فيقولون: نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم لم يتخذ الله من صاحبة ولا ولد، ماذا تريدون؟ فيقولون: يا رب! عطشنا، فيقال: ألا تردون؟ فيساقون إلى النار فيتساقطون فيها، وكذلك يقال للنصارى: ألا تردون؟ فيساقون إلى النار ويتساقطون فيها) ، فالورود في هذه الآيات وفي هذه الأحاديث لا شك أنه الوصول إليها. إذاً: كيف يكون ورود الأتقياء وورود الأنبياء وورود الصالحين وورود الصحابة الذين لابد أن يردوها: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71] ؟ الله يخاطب الصحابة ويخاطب المؤمنين كلهم بأنه لابد أن كلاً منكم واردها، {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً} [مريم:71] ، حتماً: يعني: أمراً محتوماً لابد منه، مقضياً، ثم قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72] ، فأخبر أنه ينجي أهل التقوى، ويبقى أهلها الظالمون جاثين فيها، والأشهر أن هذا الورود هو المرور على الصراط. وقد تقدم أن الصراط: جسر مزلة، منصوب على متن جهنم، أحد من السيف، وأدق من الشعرة، يمر الناس عليه بأعمالهم، يمرون على هذا الجسر الذي هو أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وكيف يمرون عليه؟ يمرون عليه بأعمالهم، هو منصوب على متن جهنم، فإذا مر المؤمن فإنه بنوره وبإيمانه لا يحس بحرارة ولا يحس بلهب، ولذلك تقول له النار: (جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي) ، والنار أخبر الله تعالى بأن لها لهباً، {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] ، فلهيبها ينطفئ من نور المؤمن، إذا مر المؤمن انطفأ، ولا يحس بأن تحته ناراً، ثم يمر على هذا الصراط كالبرق، تشاهدون البرق عندما يخطف في السماء من هنا ومن هنا أسرع من طرفة العين، ويمر بعضهم كالريح، الريح المسرعة التي تسوق السحاب، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، الجواد من الخيل: هو السابق، ومنهم من يمر كأجايود الركاب، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً؛ فسيرهم على قدر أعمالهم. فإذاً: قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71] المراد: أنكم لابد أن تمروا عليها مروراً على الصراط وإن لم يحس بها المؤمنون، وفي بعض الآثار: (أنهم يقولون بعدما يدخلون الجنة: أليس قد أخبر الله أنا نرد النار، أين النار ما شعرنا بها؟ فيقال لهم: مررتم عليها وهي خامدة) ، يعني: بمرور المؤمنين تخمد فلا يحسون بلهب، ولا يحسون بحرارة أبداً. وأما المنافقون والعصاة وأهل الكبائر فإنهم يخطفون وهم على الصراط، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن على جنبتي الصراط كلالي) ، والكلاليب هي جمع الكلوب، وهو الحديدة المحنية الرأس المحددة، هذه الكلاليب مثل شوك السعدان، يعني: كلاليبها كثيرة، إلا أنه لا يقدر قدرها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، تخطف من أمرت بخطفه، فتخطف الرجل، وتخطف اليد، وتخطف بعد نصف الطريق، وتخطف بعد ثلثه، وتخطف عند آخره، فمن نجا منها نجا، ولو أصابه خدش، ولو أصابه خطف، ولو أصابه حرارة؛إذا نجا منها وجاز الصراط -ولو بعد مائة سنة أو نحوها- (التفت إلى النار وقال: الحمد لله الذي نجاني منكِ، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من خلقه) ؛ وذلك لأنه نجا من عذاب النار التي عذابها شديد ومستمر، فرأى أن ذلك سعادة وأي سعادة! ولو أن غيره قد ظفر بالنجاة قبله! في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمنين يدخلون الجنة ولا تمسهم النار) ، فاستشكلت عائشة الآية: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71] ، وقالت: كيف وقد قال الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} ؟ فظاهرها أن الجميع يريدونها ويدخلونها؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين لها أن الورود يكون للجميع، ولكن ينجي الله تعالى المؤمنين المتقين، يقول تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:72] ، كيف ينجيهم؟ هل يدخلونها ثم يرجعون منها؟ لا يلزم أنهم دخلوها، بل كل من تجاوزها يقال: نجا من النار، كل من مر على الصراط حتى انتهى يقال له: لقد أنجاك الله من النار، يعني: سلمك منها، أنقذك من دخولها، فكل من سلم من شر يقال: هذا قد نجا، ولا يلزم أنه قد دخل فيه ثم أخرج، فإن النجاة تستعمل فيمن سلم من العذاب الذي عذب به غيره، ولا يلزم أن يكون العذاب قد أصابه، فقول الله تعالى عن لوط وأهل بيته: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ} [العنكبوت:32] معناه: أنا نخرجه حتى يسلم من العذاب، فلا يدخل العذاب ولا يحس به، وهكذا النجاة من النار. وأنت دائماً تدعو فتقول: اللهم نجنا من النار! رب نجني من عذاب النار! وكذلك حكى الله عن الذين آمنوا بموسى، قولهم: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85-86] ، يعني: سلمنا وأنقذنا، فكل من سلم من العذاب فإنه ناجٍ، فهكذا قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:72] يعني: أنهم يسلمون من العذاب، ويمرون عليها وقد انطفأ لهبها، فلا يحسون بشيء من لهبها. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 3 اختلاف العلماء في معنى قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71] ، ما هو؟ والأظهر والأقوى: أنه المرور على الصراط، قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72] . وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! لا يلج أحد بايع تحت الشجرة، قالت حفصة فقلت: يا رسول الله! أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71] ، فقال: ألم تسمعيه قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72] ) . أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه؛ يقال: نجاه الله منهم، ولهذا قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً} [هود:58] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً} [هود:66] ، وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً} [هود:94] ، ولم يكن العذاب أصابهم، ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك. وكذلك حال الواردين النار يمرون فوقها على الصراط، ثُمَّ ينجي الله الَّذِينَ اتَّقَوْا ويذر الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً، فقد بين صلى الله عليه وسلم في حديث جابر المذكور: (أن الورود هو المرور على الصراط. وروى الحافظ أبو نصر الوائلي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (علم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك، وإن أحببت ألا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدثن في دين الله حدثاً برأيك) ، أورده القرطبي، وروى أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد عن يعلى بن منية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جُزْ يا مؤمن! فقد أطفأ نورك لهبي) ] . قول الله تعالى -لما ذكر النار في سورة مريم-: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] ، ظاهره أن كل الناس واردو النار، فما هذا الورود؟ ورد في بعض الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (من فعل كذا لم يدخل النار إلا تحلة القسم) ، والمراد الورود المذكور في هذه الآية، وقوله: (تحلة القسم) كأن الله أقسم بأنكم لابد أن تردوها، لابد من الورود لها. والأصل أن الورود هو الإتيان إلى الشيء، ومنه تسمية إتيان الإبل إلى الماء وروداً، يقال: وردت الإبل المياه. يعني: جاءت إليها، وأخبر الله تعالى عن آل فرعون أنهم يردونها في قوله تعالى: {فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98] ، فظاهر هذا أنه أدخلهم فيها، فهم وردوا إليها وسقطوا فيها، وفي بعض الأحاديث أنه (في يوم القيامة يقال لليهود: ما تعبدون؟ فيقولون: نعبد عزيراً ابن الله، فيقال: كذبتم لم يتخذ الله من صاحبة ولا ولد، ماذا تريدون؟ فيقولون: يا رب! عطشنا، فيقال: ألا تردون؟ فيساقون إلى النار فيتساقطون فيها، وكذلك يقال للنصارى: ألا تردون؟ فيساقون إلى النار ويتساقطون فيها) ، فالورود في هذه الآيات وفي هذه الأحاديث لا شك أنه الوصول إليها. إذاً: كيف يكون ورود الأتقياء وورود الأنبياء وورود الصالحين وورود الصحابة الذين لابد أن يردوها: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71] ؟ الله يخاطب الصحابة ويخاطب المؤمنين كلهم بأنه لابد أن كلاً منكم واردها، {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً} [مريم:71] ، يعني: أمراً محتوماً لابد منه، ثم قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72] ، فأخبر أنه ينجي أهل التقوى، ويبقى أهلها الظالمون جاثين فيها، والأشهر أن هذا الورود هو المرور على الصراط. وقد تقدم أن الصراط: جسر منصوب على متن جهنم، أحد من السيف، وأدق من الشعرة، يمر الناس على هذا الجسر الذي هو أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وكيف يمرون عليه؟ يمرون عليه بأعمالهم، فإذا مر المؤمن فإنه بنوره وبإيمانه لا يحس بحرارة ولا يحس بلهب، ولذلك تقول له النار: (جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي) ، والنار أخبر الله تعالى بأن لها لهباً، {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] ، فلهيبها ينطفئ من نور المؤمن، ثم يمر على هذا الصراط كالبرق، أي: أسرع من طرفة العين، ويمر بعضهم كالريح المسرعة التي تسوق السحاب، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، الجواد من الخيل: هو السابق، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً؛ فسيرهم على قدر أعمالهم. فإذاً: قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71] المراد: أنكم لابد أن تمروا عليها مروراً على الصراط وإن لم يحس بها المؤمنون، وفي بعض الآثار: (أنهم يقولون بعدما يدخلون الجنة: أليس قد أخبر الله أنا نرد النار، أين النار؟ فيقال لهم: مررتم عليها وهي خامدة) ، يعني: بمرور المؤمنين تخمد فلا يحسون بلهب، ولا يحسون بحرارة أبداً. وأما المنافقون والعصاة وأهل الكبائر فإنهم يخطفون وهم على الصراط، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن على جنبتي الصراط كلاليب) ، والكلاليب هي جمع كلوب، وهو الحديدة المحنية الرأس المحددة، هذه الكلاليب مثل شوك السعدان، يعني: كلاليبها كثيرة، إلا أنه لا يقدر قدرها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فتخطف الرجل، وتخطف اليد، وتخطف بعد نصف الطريق، وتخطف بعد ثلثه، وتخطف عند آخره، فمن نجا منها وجاز الصراط ولو بعد مائة سنة أو نحوها التفت إلى النار وقال: الحمد لله الذي نجاني منكِ، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من خلقه؛ وذلك لأنه نجا من عذاب النار التي عذابها شديد ومستمر، فرأى أن ذلك سعادة وأي سعادة! ولو أن غيره قد ظفر بالنجاة قبله! في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمنين يدخلون الجنة ولا تمسهم النار) ، فاستشكلت عائشة الآية: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71] ، وقالت: كيف وقد قال الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} ؟ فظاهرها أن الجميع يردونها ويدخلونها؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين لها أن الورود يكون للجميع، ولكن ينجي الله تعالى المؤمنين المتقين، يقول تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:72] ، كيف ينجيهم؟ هل يدخلونها ثم يرجعون منها؟ لا يلزم أنهم دخلوها، بل كل من تجاوزها يقال: نجا من النار، كل من مر على الصراط حتى انتهى يقال له: لقد أنجاك الله من النار، فكل من سلم من شر يقال: هذا قد نجا، ولا يلزم أنه قد دخل فيه ثم أخرج، فإن النجاة تستعمل فيمن سلم من العذاب الذي عذب به غيره، ولا يلزم أن يكون العذاب قد أصابه، فقول الله تعالى عن لوط وأهل بيته: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ} [العنكبوت:32] معناه: أنا نخرجه حتى يسلم من العذاب، فلا يدخل العذاب ولا يحس به، وهكذا النجاة من النار. وأنت دائماً تدعو فتقول: اللهم نجنا من النار! رب نجني من عذاب النار! وكذلك حكى الله عن الذين آمنوا بموسى، قولهم: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85-86] ، يعني: سلمنا وأنقذنا، فكل من سلم من العذاب فإنه ناجٍ، فهكذا قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:72] يعني: أنهم يسلمون من العذاب، ويمرون عليها وقد انطفأ لهبها، فلا يحسون بشيء من لهبها. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 4 الإيمان بميزان الأعمال قال المؤلف رحمه الله: [قوله: والميزان: أي: ونؤمن بالميزان، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] ، وقال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102-103] ، قال القرطبي: قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها. قال: وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} يحتمل أن يكون ثم موازين متعددة توزن فيها الأعمال، ويحتمل أن يكون المراد الموزونات فجمع باعتبار تنوع الأعمال الموزونة، والله أعلم. والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان، روى الإمام أحمد من حديث أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب! فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبادر الرجل فيقول: لا يا رب! فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل شيء باسم الله الرحمن الرحيم) ، وهكذا رواه الترمذي وابن ماجة وابن أبي الدنيا من حديث الليث، زاد الترمذي: (ولا يثقل مع اسم الله شيء) . وفي سياق آخر: (توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة) الحديث، وفي هذا السياق فائدة جليلة: وهي أن العامل يوزن مع عمله، ويشهد له ما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليؤتى الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا إن شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105] ) ، وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود: (أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تدفعه فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ممَ تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله! من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده! لهما أثقل في الميزان من أحد) ] نؤمن بما أخبر الله من الميزان في سورة الأعراف بقوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} [الأعراف:8-9] ، وكذلك في سورة الأنبياء: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [الأنبياء:47] ، وكذلك يقول الله تعالى في سورة المؤمنون: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102-103] . وفي سورة القارعة: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:6-9] ، وغير ذلك من الآيات والأحاديث فيها ذكر الميزان، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) وفي صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان) أي: كلمة (الحمد لله) تملأ الميزان، وهذا يدل على أن الكلمات أيضاً توزن، وغير ذلك من الأدلة. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 5 إنكار المعتزلة للميزان أنكرت المعتزلة الميزان في الآخرة، وقالوا: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقالون، والله تعالى ليس بحاجة إلى أن يزن وينصب الميزان، وفسروا الميزان في هذه الآيات بأنه العدل، فقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} يعني: العدل، {ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} يعني: نجح عندما يعدل بين الناس. ولا شك أن هذا إنكار لخبر الله ولخبر رسوله، فالله تعالى ينصب الموازين ويظهرها حتى لا يكون هناك ظلم؛ ولأجل ذلك أخبر تعالى أن هذه الموازين يوزن فيها القليل والكثير، ففي هذه الآية في سورة الأنبياء: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء:47] فأخبر أنهم لا يظلمون بمثقال خردلة، والخردل: شجر حبه أصغر من حب الدخن. كذلك يقول تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7-8] المثقال: بمعنى: الوزن: أي: أنه سبحانه يحضر الأعمال صغيرها وكبيرها، حسنها وسيئها، وتوزن حتى مثاقيل الذر، فهذه الموازين حقيقة، وقد وردت في هذه الآية بالجمع: {ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف:8] ، ولم يقل: ميزانه، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} [الأنبياء:47] ، ولم يقل: الميزان، فدل على أن هناك عدداً، وأنها موازين كثيرة، يوزن لهذا ويوزن لهذا. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 6 اختلاف العلماء في الموزون اختلفوا في الموزون ما هو على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الذي يوزن هي الأعمال، ولو كانت أعراضاً فيقلبها الله تعالى أجساماً ثم توزن؛ لأن الأعراض ليس لها جرم، مثلاً كلمة (الحمد لله) ليس لها جرم حتى توزن؟! فهي عرض، وكذلك الصلاة، فالصلاة قد أخبر النبي صلى الله عليه سلم بأنها تتجسد (إذا صلى الرجل فأحسن صلاته صعدت إلى السماء ولها نور، وتفتح لها أبواب السماء، وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا صلى وأساء صلاته صعدت إلى السماء ولها ظلمة، وتغلق دونها أبواب السماء، فتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، وتلف كما يلف الثوب الخَلِق، ويضرب بها وجه صاحبها) . هل نحن نبصر الصلاة إذا صعدت؟ لا نبصرها فهي عرض، ولكن الله تعالى يقلب الأعمال أجساماً، فصيامك يكون جسماً وجرماً، وصلواتك وقراءتك وأذكارك وأدعيتك يقلبها الله أجساماً كما أن هذه الخشبة جسم، وهذه السارية جسم لها جرم ولها وزن، ولكن الكلام ليس له جرم، ولكن يقلبه الله فيجعله ذا جرم، فلذلك يقول في الحديث: (الحمد لله تملأ الميزان) ، ويقول: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان) ، وقوله: (ثقيلتان) يدل على أن كلمة (سبحان الله وبحمده) توزن، يعني: يجعلها الله جرماً، ولا يستعصي ولا يخرج عن قدرة الله شيء، فهو قادر أن يقلب الأعراض أجساماً. القول الثاني: أن الذي يوزن هو الصحف، وتثقل الصحف وتخف بسبب ما كتب فيها، ودل على ذلك الحديث الذي مر بنا، فإن هذا رجل كتبت عليه الملائكة سيئات كثيرة -تسعة وتسعين سجلاً- والسجل: هو الصحيفة التي يكتب فيها كالسجلات التي عند القضاة تملأ بالقضايا، يقال: سجل في كذا السجل رقم كذا هذه السجلات تطوى طيًّا، ثم إذا نشرت كانت مد البصر، فكان له تسعة وتسعون سجلاً كلها سيئات، فلما وقف على هذه السجلات سأله الله: هل تنكر شيئاً من هذا؟ فلا ينكر، يقول: هل ظلمك الكرام الكاتبون الحفظة، وكتبوا عليك ما لم تقل؟ لا يستطيع أن ينكر، ولا يقول: ظلموني، يقول: هل لك عذر؟ ما له عذر، هل لك حسنة تقابل هذه السجلات وتمحوها، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ؟ فينبهر وينبهت ويقول: لا، ليس لي حسنات. وكأنه أيس من النجاة، وأيقن بالعذاب؛ لكثرة ما كتب عليه، فإنه رأى هذه السيئات التي دونت عليه ولا يستطيع أن ينكرها، كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف:49] ، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] ، فيقول الله: بلى لك عندنا حسنة واحدة، تخرج له هذه البطاقة - والبطاقة: الورقة الصغيرة مثل الكف أو نحوه- مكتوب فيها: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، ولكن قالها عن صدق، قالها عن عقيدة، قالها عن يقين، وختمت بها أيامه، وختمت بها أعماله، وخرج من الدنيا وهو على هذه الحسنة التي أثرت فيه وفي قلبه، فلما رأى هذه البطاقة استصغرها بالنسبة إلى هذه السيئات الكثيرة، فقال: ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فالله تعالى يقول: إنك لا تظلم، ونصب الميزان الذي له كفتان، وجعلت البطاقة في كفة، وجعلت تلك السجلات في كفة، فعند ذلك طاشت -يعني: خفت- السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء، فكان ذلك سبباً في سعادته. ومعلوم أن كثيراً من الذين يقولونها قد يعذبون وقد تخف موازينهم؛ وذلك لأنهم لم يقولوها عن يقين، ولم تؤثر في عقائدهم، ولم تصدر عن قلب مصدق بها؛ فلأجل ذلك تخف موازينهم، أما هذا فقد قالها عن علم وعن يقين وعن إخلاص وعن معرفة وعن تقبل؛ فأثرت في قلبه، ووقعت موقعاً فثقلت موازينه فسعد، ويصدق عليه أنه من الذين ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية. القول الثالث: أن العامل نفسه يوزن، فالرجل نفسه يوزن، ويثقل إذا كان قلبه ممتلئاً إيماناً، ويخف إذا كان قليل الإيمان، واستدل على ذلك بهذه الآية الكريمة في آخر سورة الكهف، وهي قول الله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105] ، وإن كانت محتملة أن المراد: لا نقيم لهم قدراً، ولكن ظاهرها أنهم يوزنون، ولكن لا يكون لهم وزن ظاهر، ويؤيد هذا الحديث الذي فيه (يجاء بالرجل العظيم السمين -الأكول الشروب- لا يزن عند الله جناح بعوضة) لو وزن كان أخف من جناح البعوضة. وهذا دليل على أن العامل يوزن، وأنه يثقل إذا كان تقياً كما في قصة ابن مسعود رضي الله عنه حين صعد مرة على شجرة الأراك ليقطع منها سواكاً، ولما صعد رآه بعض الصحابة وعجبوا من دقة ساقية، فجعلوا يضحكون من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لهما في الميزان أثقل من جبل أحد) ، فدل على أن العامل نفسه يوزن؛ فيثقل إذا كان من أهل السعادة، ويخف إذا كان من أهل الشقاوة. وقد ذكر الشارح أن الوزن بعد الحساب، يبدأ أولاً بالحساب؛ وذلك بأن يقال: حاسب نفسك، هذه صحائفك، هذه حسنة وهذه سيئة قابل بينهما، وبعدما يحاسب ويقر بما له وبما عليه، بعد ذلك توزن هذه الأعمال حتى يعرف مقدارها، وحتى يحقق في أمرها، وإذا وزنت عرف من يستحق أن يكون سعيداً لكون حسناته ثقيلة، ومن يكون بخلاف ذلك؛ لأن الحساب إنما هو لتمييز الحسنات من السيئات، ولكن الميزان يميز الحسنات، فتكون الحسنات كثيرة وخفيفة، وتكون قليلة وثقيلة، كصاحب البطاقة، قد يكون هناك إنسان له أذكار وأوراد وأدعية وقراءات كثيرة، ولكنها خفيفة، وآخر أذكاره قليلة، ولكنها ثقيلة؛ بسبب صدورها عن الإيمان الراسخ المتمكن في القلب. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 7 تجسد الأعمال ووزنها يوم القيامة قال رحمه الله: [وقد وردت الأحاديث أيضاً: بوزن الأعمال أنفسها، كما في صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان) ، الحديث، وفي الصحيحين -وهو خاتمة البخاري - قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) . وروى الحافظ أبو بكر البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بابن آدم يوم القيامة فيوقف بين كفتي الميزان، ويوكل به ملك، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خف ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً) . فلا يلتفت إلى ملحد معاند يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن، وإنما يقبل الوزن الأجسام، فإن الله يقلب الأعراض أجساماً كما تقدم، وكما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالموت كبشاً أغبر، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، ويقال: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون، ويرون أن قد جاء الفرج، فيذبح، ويقال: خلود لا موت) ، ورواه البخاري بمعناه. فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال، وثبت أن الميزان له كفتان، والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات، فعلينا الإيمان بالغيب كما أخبرنا الصادق صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان، ويا خيبة! من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة كما أخبر الشارع لخفاء الحكمة عليه، ويقدح في النصوص بقوله: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال، وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً. ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده، فلا أحد أحب إليه العذر من الله؛ من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه؟ فتأمل قول الملائكة لما قال الله لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] ، وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85] . وقد تقدم عند ذكر الحوض كلام القرطبي رحمه الله: أن الحوض قبل الميزان والصراط بعد الميزان، ففي الصحيحين: (أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة) ، وجعل القرطبي في التذكرة هذه القنطرة صراطاً ثانياً للمؤمنين خاصة، وليس يسقط منه أحد في النار، والله تعالى أعلم] . تقدم أن من الأقوال: أن الأعمال تجسد، وأنها توزن ولو كانت أعراضاً، فالله تعالى قادر على أن يقلب الأعراض أجساداً كما يشاء، فيقلب التسبيح والتكبير والقراءة أجساداً وأجراماً يكون لها ثقل ويكون لها وزن، وقد دلت على ذلك السنة، فالأحاديث التي تقدمت دالة على أن الأعمال تجسد، وأنها توزن، وأن الله لا يستعصي عليه أن يقلب هذه الأعراض ويجعل لها جرماً يخف ويثقل. وتقدم أن المعتزلة أنكروا الميزان الذي ينصب يوم القيامة مع وروده في الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة، ومع ذلك يقولون: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال -تعالى الله عن قولهم-، وأنكروا أن يكون الميزان حقيقياً، فلذلك رد عليهم الشارح، وأنكر قولهم وقال: إنهم حريون أن تخف موازينهم، ولا شك أن في جعل هذه الموازين حكماً عظيمة، ولو لم يكن فيها إلا العدل؛ ولذلك وصفها الله تعالى بالقسط: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] ، (أي) : العدل، يعني: الموازين العادلة إذا نصب الميزان وحضر الموزون، يقال: احضر وزن أعمالك، فإذا رجح ميزانه نادى ذلك الملك: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإذا خف ميزانه نادى ذلك الملك: شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، وإذا تساوت الحسنات والسيئات عومل بعد ذلك بما يستحقه، بأن يعذب بقدر سيئاته، ثم يخرج إذا كان من أهل التوحيد أو نحو ذلك مما يشاؤه الله. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 8 الميزان بعد الحساب سمعنا أن أول شيء الحساب، ثم بعده الميزان، ثم بعده الصراط، ثم بعده القنطرة، ثم دخول الجنة، أما أهل النار من الكفار الذين لا حسنات لهم فلا يحاسبون؛ لأنهم لا حسنات لهم، وإذا كان لهم حسنات فإنهم قد استوفوها في الدنيا. فأول شيء تعرض الأعمال، ويقال: حاسبوا أنفسكم، ثم بعدما يعرفون الحسنات والسيئات تنصب الموازين، فيعرفون خفة الحسنات أو ثقلها، ونحو ذلك، ثم بعد ذلك ينصب الصراط فيسلكونه -هذا إذا كان لهم حسنات وسيئات- فيخدش من يخدش، ويسلم من يسلم. ثم بعدما يسلمون ويعبرون الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، وهذه القنطرة يحاسبون فيها عن مظالم كانت بينهم، فإذا كان عندك مظلمة جوزيت بها، فيؤخذ من حسناتك، وإذا كان لك حق أخذته، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة؛ لأنه لا يدخل الجنة أحد وفي قلبه غل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43] ، فلا يدخلون الجنة إلا بعد التنقية وبعد التصفية، وبعد أن يكونوا متحابين ليس بينهم إحن ولا بغضاء، ونهايتهم دخول الجنة إلى الأبد. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 9 شرح العقيدة الطحاوية [66] من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما أبديتان لا تفنيان، وخالف في ذلك المعتزلة وغيرهم من الفرق الضالة، وقد بين العلماء أدلة أهل السنة وأجابوا عن شبهات المخالفين. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 1 ثمرة الإيمان بالميزان وغيره مما يكون يوم القيامة من أركان الإيمان الإيمان باليوم الآخر، وهو البعث بعد الموت، وما يكون في يوم القيامة من الأهوال والحساب والجزاء على الأعمال، والعرض والمناقشة، ونصب الموازين، وتفريق الدواوين، وأخذ الصحف والكتب بالأيمان أو بالشمائل، ونصب الصراط على متن جهنم، والورود على نار جهنم، والوقوف في ذلك اليوم الطويل، والشفاعة التي ثبتت للأنبياء وللرسل ولنبينا صلى الله عليه وسلم، وما بعد ذلك إلى أن يستقر أهل الجنة في دار النعيم، وأهل النار في الجحيم، ويبقى في النار من حكم عليه بالخلود، ويدخل الجنة من حكم له بالخلود، وتفاصيل ذلك مذكورة في كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأهل السنة يؤمنون بذلك على ما جاء في النصوص، ويصدقون بتلك النصوص، ويعتقدون أنها حق وصدق؛ لأنها كلام الله، وكلام أعرف الخلق بالله، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، ويحملون ذلك كله على أنه حقيقة لا لبس فيه ولا تأويل، ولا نفي لشيء مما دلت عليه تلك النصوص، ويردون على من أنكر البعث الجسماني كالفلاسفة، وعلى من أنكر النعيم والعذاب في الآخرة كالباطنية، فهم ينكرون عليهم ويعتقدون أن كفرهم أشد من كفر اليهود والنصارى، ولو تسموا بأنهم من أهل الإسلام. من آمن بتفاصيل يوم القيامة وما يكون في ذلك اليوم؛ فإنه بلا شك يستعد لذلك اللقاء، ويظهر عليه أثره في أعماله، وفي سيرته وفي نهجه، وكلما كان الإنسان أشد يقيناً وأشد إيماناً كان أشد استعداداً وتأهباً، وهكذا كانت حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم، فإيمانهم يحملهم على أن يستعدوا للموت، ويستعدوا للجزاء، ويستعدوا للقاء ربهم، ويعملوا العمل الصالح الذي ينجون به، ويكونون به من أهل السعادة ومن أهل الفلاح، حتى لو قيل لأحدهم: إنك تموت في هذا اليوم، لم يكن هناك عمل يزداد به في ذلك اليوم؛ لأنه لم يضيع لحظة من لحظاته في غير طاعة. علم المؤمن بأن الموت لابد وأن ينزل، وأنه قد يأتي فجأة على غير موعد، وعلم أن بعد الموت حساباً، وعذاباً أو ثواباً، وعلم أن بعد الموت بعثاً ونشوراً وجنة أو ناراً، فصارت كل دقيقة تمر عليه يشغلها في طاعة الله، هكذا كان أولياء الله المتقون. أما المفرطون الذين يقولون: آمنا، ولكن يقولونه باللسان، وقلوبهم كأنها غير مصدقة؛ فإنهم لا يستعدون، فهؤلاء إيمانهم ضعيف، ألسنتهم تصف، وقلوبهم تعرف، وأعمالهم تخالف، ذلك بأن إيمانهم وتصديقهم لم يكن عن يقين أو كان عن تردد، أو كان يقينهم قد أتاه ما يضعفه من الشهوات، وزينة الدنيا، والركون إليها، ومحبة التوسع في الملذات، وعدم استحضار الموت، وعدم استحضار ما بعد الموت، فكان ذلك حاملاً على كثرة الغفلة، والانهماك في لذة الدنيا، وعدم التفكر في عاقبة هذه الملذات والشهوات، وعدم التفريق بين الحلال منها والحرام، فحصل ما حصل منهم من التفريط، فجاءهم أمر الله بغتة وهم لا يشعرون، فندموا حين لا ينفع الندم، ويقول أحدهم: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] . فعلينا أن نتفقد أنفسنا ونتفقد إخواننا، فإذا رأينا الذي شغل وقته كله بأعمال الآخرة، قلنا: هذا صادق الإيمان بالآخرة، هذا مؤمن حقاً، هذا ممن استعد للقاء ربه، وإذا رأيناه ضعيف الإيمان، ضعيف الأعمال، قليل الاهتمام، قلنا: هذا قليل الاهتمام، هذا ضعيف الإيمان بالآخرة، ولو كان إيمانه قوياً لما فرط في أيامه، ولما تناسى لقاء ربه، فنثبت الأول ونحثه على الاستعداد والزيادة؛ ونحذر الثاني ونخوفه من أن يفجأه الأجل وهو على هذا التفريط والإهمال، وبذلك نكون جميعاً من المؤمنين بالدار الآخرة. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 2 الإيمان بالجنة والنار قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له، والخير والشر مقدران على العباد) . أما قوله: (إن الجنة والنار مخلوقتان) اتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل على ذلك أهل السنة، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية فأنكرت، وقالت: بل ينشئهما الله يوم القيامة، وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله، وأنه ينبغي أن يفعل كذا ولا ينبغي له أن يفعل كذا، وقاسوه على خلقه في أفعالهم، فهم مشبهة في الأفعال، ودخل التجهم فيهم، وصاروا مع ذلك معطلة، وقالوا: خلق الجنة قبل الجزاء عبث؛ لأنها تصير معطلة مدداً متطاولة، فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى، وحرفوا النصوص عن مواضعها، وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم. فمن نصوص الكتاب قوله تعالى عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] ، وقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21] ، وعن النار قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] ، وقوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلْطَّاغِينَ مَآباً} [النبأ:21-22] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:13-15] ، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، ورأى عندها جنة المأوى كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء، وفي آخره: (ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال: ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنادب اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك) . وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة) ، وتقدم حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وفيه: (ينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها) ، وتقدم حديث أنس بمعنى حديث البراء رضي الله عنه] . الجزء: 66 ¦ الصفحة: 3 معنى الجنة يصدر الناس بعد الموقف يوم القيامة إلى دار الجزاء، وجزاء المحسنين جنات النعيم، وجزاء الكافرين نار الجحيم، والجنة في الأصل هي: البستان الذي يجمع الخضرة والزهور والأنهار والثمار والظلال والأشجار والنضرة والبهجة والسرور؛ فهذا يسمى في الأصل جنة؛ لأنه يجن من بداخله ويستره، ومنه قول الله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم:17] يعني: أصحاب البستان، ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} [الكهف:32] أي: بستانين من أعناب، {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف:32-33] . فالجنة في الدنيا: هي البساتين التي تبهج وتفرح من دخلها، وسميت دار النعيم بهذا الاسم؛ لأن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فقد ذكر الله ما في الجنان مثل قوله تعالى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:50] {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن:50] {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] وقوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد:15] ، وكما في قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} [البقرة:25] ، وكما في قوله تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء:57] ، وقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:71] ، وكذلك قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] . وغير ذلك من الآيات الدالة دلالة واضحة على أن هذه الجنة مشتملة على ما يجلب السرور والحبور، وأن فيها الجزاء الأوفى، وأن فيها النعيم الذي ما بعده نعيم، وأن أهلها يغتبطون بمقامهم فيها، ويقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34] ، وكذلك يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74] . الجزء: 66 ¦ الصفحة: 4 أسماء النار وصفتها الجحيم هي نار تلظى، نار موقدة، نار حامية، ذكر الله لها عدة أسماء، وذكر أنها {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:44] . وأخذ العلماء لها سبعة أسماء من الآيات: لظى، والحطمة، وجهنم، والجحيم، وسقر، والسعير، والهاوية؛ وكلها موجودة في القرآن، وكلها دالة على شدة الحرارة. وقد أخبر الله تعالى بشدة العذاب فيها، وأنهم كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها، وقال: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97] ، كلما خبت النار وانطفأت زِيد في حرها، وقال: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24] ، وقال: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ} [الهمزة:7-8] يعني: مطبقة، وغير ذلك من أنواع العذاب الذي ذكره الله. ولا شك أنه عندما يذكر الله الجنة يشوق إليها، وكأنه يقول: أيها المؤمنون بالجنة المصدقون بها! اطلبوها بالأعمال الصالحة، فهذا نعيمها وهذه صفتها، وأيها المؤمنون بالنار والمصدقون بها! احذروها وابتعدوا عنها، فهذه حرارتها، وهذا عذابها، وأيها المفرطون! وأيها الكافرون! هذا عذابكم أفلا تتبون؟ أفلا تندمون وتبتعدون عن الأعمال السيئة التي تجعلكم من أهل ذلك العذاب؟ وهكذا ذكر الله هذا العذاب وهذا الثواب، وسمى دار الكفار بالنار. والنار في الأصل هي هذه النار التي نوقدها في الدنيا، والتي ننتفع بها، قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة:71] يعني: تقدحونها حتى تشتعل وتتقد، {أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة:72-73] تذكرة بالنار الأخرى، {وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] ، وقد سمى ذلك العذاب ناراً؛ لأن فيه ناراً تشتعل وتتقد، {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] . ولا شك أن الله ذكر الجنة وذكر النار كثيراً في القرآن؛ لأجل أن يرغب الله في دار الثواب، ويحذر من دار العقاب. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 5 اعتقاد أهل السنة أن الجنة والنار موجودتان الآن من عقيدة أهل السنة أن الجنة والنار موجودتان الآن، وإن كنا لا نعلم جهتها ولا مكانها، فإن علمنا قاصر، ما نحيط إلا بالأرض وبما على الأرض، ولكن الجهات كثيرة لا يعلمها إلا الله، ففي يوم القيامة يجاء بجهنم، قال الله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:23] ، وذكر في الحديث: (تجيء الملائكة بجهنم، ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) ، أولئك الملائكة قد يكون أحدهم قادراً على قلع الجبال وجرها بإذن الله، ومع ذلك هذا عددهم، فما مقدارها؟! فإخبار الله تعالى بأنه يجاء بها في يوم القيامة، دليل على أنها موجودة. وكذلك الجنة موجودة أيضاً، وتبرز يوم القيامة، يقول الله تعالى: {وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء:90-91] ، فأزلفت؛ معناه: قربت وأظهرت، ولا شك أن هذا دليل على أنها موجودة وأنها تبرز، ويقال: هذه الجنة دار المتقين. وأظهرت النار لأهلها، {وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء:91] ، ولا شك أن إبرازها دليل على أنها موجودة الآن، وكذلك الآيات التي سمعنا، مثل قول الله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] أي: هيئت فهي معدة لهم، وقال في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] ، أي: هيئت لهم، وهذا دليل على أنها موجودة، وأنها قد أعدت لأهلها. وكذلك قوله في الجنة في سورة النجم: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:14-15] دليل على أن الجنة فوق السماء السابعة حيث يشاء الله، فهي موجودة الآن، وذكر الله سعتها في قوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] ، فهذه صفتها، ومعنى (أعدت) أي: هيئت لهم. وتقدمت الأحاديث التي فيها أن الجنة موجودة، وأنه يقال للعبد في قبره: (افتحوا له باباً إلى الجنة، فيأته من روحها وريحانها؛ فيقول: رب! أقم الساعة، ويقال للكافر: افتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها؛ فيقول: رب! لا تقم الساعة) ، وهذا دليل أيضاً على أنها موجودة، وأنه يفتح له باب إليها، ويقال: هذا مقعدك من الجنة، هذا مقعدك من النار، وهذه الأدلة واضحة. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 6 إنكار المعتزلة لوجود الجنة والنار قبل يوم القيامة ذكر المؤلف أن قوماً من المعتزلة أنكروا وجود الجنة والنار الآن، وقالوا: لا حاجة إلى وجودها الآن مادام أنه ليس فيها أحد، فتبقى مغلقة الأبواب، وتحتاج إلى من يسقي شجرها هذه المدة الطويلة قبل أن يأتي إليها أهلها، فجعلوا أفكارهم متحكمة في أمر الله، فقالوا: الجنة والنار غير موجودتين، وزعموا أنها إنما تنشأ يوم القيامة عندما يبعث الله الخلق. ولكن الصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الجنة موجودة الآن، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك النار موجودة، وقد عرضت عليه الجنة والنار في صلاة الكسوف، فلما عرضت الجنة تقدم، ولما عرضت عليه النار تقهقر وتأخر، وكل ذلك دليل على أنه رآها، وأنها موجودة الآن. ولا يلزم ما يقوله أولئك المعتزلة: من أنها معطلة، وأنه لا حاجة إلى وجودها على أصلهم الفاسد الذي أصلوه: وهو أنهم يتحكمون في أمر الله، ويفرضون على الله ما يريدونه، فيقولون: يجب على الله أن يفعل كذا وألا يفعل كذا فكأنهم هم الذين يوجبون بعقولهم ما يشاءون. فهذه عقيدة أهل السنة، ولا يضر خلاف من خالفها. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 7 أدلة وجود الجنة والنار قال رحمه الله: [وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خسفت الشمس في حياة رسول صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث، وفيه: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به حتى لقد رأيتني آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني أقدم، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت) . وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (انخسفت الشمس على عهد رسول صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، وفيه: فقالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولت شيئاً في مقامك، ثم رأيناك تكعكعت، فقال: إني رأيت الجنة فتناولت عنقوداً، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أرَ منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء، فقالوا: بمَ يا رسول؟ قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت خيراً قط) . وفي صحيح مسلم من حديث أنس: (وايم الذي نفسي بيده! لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً وبكيتم كثراً، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار) ، وفي الموطأ والسنن من حديث كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه: (إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة) ، وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة. وفي صحيح مسلم والسنن والمسند -من حديث أبي هريرة رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، فرجع فقال: وعزتك! لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بالجنة فحفت بالمكاره، فقال: ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها ثم رجع فقال: وعزتك! لقد خشيت ألا يدخلها أحد، قال: ثم أرسله إلى النار، قال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها، فإذا هي يركب بعضها بعضاً، ثم رجع فقال: وعزتك! لا يدخلها أحد سمع بها، فأمر بها فحفت بالشهوات، ثم قال: اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها فذهب فنظر إليها، فرجع فقال: وعزتك! لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها) ، ونظائر ذلك في السنة كثيرة] . هذه الأحاديث صريحة في وجود الجنة وفي وجود النار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كما في أحاديث كثيرة، ففي صلاة الكسوف ذكر أنه عرضت عليه الجنة، وأنه تناول منها عنقوداً لو أخذه لأكلوا منه ما بقيت الدنيا؛ وذلك لأن نعيم الجنة لا ينفد، وعرضت عليه النار فتكعكع: يعني: تقهقهر وتأخر، وذكر أنه رأى فيها فلاناً وفلاناً، وسمى من رأى فيها، فرأى فيها عمرو بن لحي، وكان أول من غير دين إبراهيم، ورأى فيها سارق الحاج الذي كان يسرق المتاع بمحجنه، ورأى فيها المرأة التي تعذب بهرة ربطتها حتى ماتت جوعاً. وفي هذا الحديث يقول: (رأيت أكثر أهلها النساء) ؛ بسبب أنهن يكفرن الإحسان، فإذا أحسن الزوج إلى المرأة -غالباً، وليس دائماً- ثم رأت منه شيئاً يخالف ما تشتهيه أنكرت إحسانه، فيكون ذلك سبباً في عذابها. وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة، أي أن الله جعل أرواحهم في أجواف طير خضر تدخل الجنة، وتأكل من شجرها حتى يردها الله إلى أجسادها، وأخبر الله تعالى: أن أرواحاً من الكفار كآل فرعون تعرض على النار، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر:46] ، فدل على أن النار موجودة، وأنهم يعرضون عليها في الصباح وفي المساء. فكل هذه الأدلة واضحة الدلالة على أن الجنة والنار موجودتان الآن، ولا يلزم ما تقوله المعتزلة من أنها تبقى معطلة سنين طويلة، بل إنها تعتبر تذكرة، وتعتبر ظاهرة لمن أطلعه الله عليها، وقد ذكر ابن عمر: (أنه رأى رؤيا، وهي: أن رجلين أتيا به النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، يقول: فرأيت فيها رجالاً أعرفهم، فقيل: لن تراع) . وكذلك: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة الطويل أنه دخل الجنة في المنام مع رجلين هما ملكان، وأنه رأى فيها كذا وكذا، ولا شك أن هذا كله دليل على أنها موجودة، وأنها مهيأة معدة لأهلها، وأن من مات وصل إليه ألمه إن كان من أهل العذاب، ونعيمه إن كان من أهل الثواب. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 8 الرد على شبهة من ينكر وجود الجنة الآن حتى لا يلزم موت أهلها يوم القيامة قال المؤلف رحمه الله: [وأما على قول من قال: إن الجنة الموعود بها هي الجنة التي كان فيها آدم ثم أخرج منها، فالقول بوجودها الآن ظاهر، والخلاف في ذلك معروف. وأما شبهة من قال: إنها لم تخلق بعد: وهي أنها لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضطراراً أن تفنى يوم القيامة، وأن يهلك كل من فيها ويموت؛ لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] ، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] ، وقد روى الترمذي في جامعه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، وقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) ، قال: هذا حديث حسن غريب. وفيه أيضاً من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة) قال: هذا حديث حسن صحيح. قالوا: فلو كانت مخلوقة مفروغاً منها لم تكن قيعاناً، ولم يكن لهذا الغراس معنى، قالوا: وكذا قوله تعالى عن امرأة فرعون إنها قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] ؟ ف الجواب إنكم إن أردتم بقولكم إنها الآن معدومة بمنزلة النفخ في الصور، وقيام الناس من القبور، فهذا باطل، يرده ما تقدم من الأدلة وأمثالها مما لم يذكر، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها، وأنها لا يزال الله يحدث فيها شيئاً بعد شيء، وإذا دخلها المؤمنون أحدث الله فيها عند دخولهم أموراً أخر، فهذا حق لا يمكن رده، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القدر] . هذه الأحاديث وأشباهها دالة على أن الجنة موجودة، ولكن يحدث الله فيها ما يشاء، ويجدد الله فيها ما يشاء، ففي حديث الإسراء أخبر أنه لقي إبراهيم فقال: (أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) يعني: أن الجنة موجودة، ولكن كل أحد يغرس له فيها غراس أعماله التي يعملها في الدنيا، فمما يغرس له في الجنة أنه إذا قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ غرست له شجرة في الجنة، وإذا كررها فكذلك. وهكذا أيضاً: يبنى له غرف بأعماله الصالحة، ورد في بعض الأحاديث (أن الملائكة تبني لابن آدم بيوتاً وغرفاً ما دام يعمل الصالحات، ويذكر الله ويشكره، ويأتي بالحسنات، وإذا توقف عن العمل توقفوا عن البناء، فإذا قيل: لماذا توقفتم؟ قالوا: حتى تأتينا النفقة) ، فالباني في الدنيا يحتاج إلى نفقة، والعمال الذين يعملون لك في الدنيا لا يعملون إلا إذا أعطيتهم نفقة، ونفقة الملائكة التي يبنون بها هي ذكر الله، وعبادته، والحسنات، فهم مشتغلون يبنون، والبناء الذي تبنيه في الآخرة هو الذي يبقى؛ ولهذا يقول بعض الشعراء: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها النفس ترغب في الدنيا وقد علمت أن الزهادة فيها ترك ما فيها فاغرس أصول التقى ما دمت مجتهداً واعلم بأنك بعد الموت لاقيها فهكذا تكون أعمال الإنسان في الدنيا بمنزلة الغراس في الجنة، كلما عمل حسنة غرس له أو بني له بها بيوت ومنازل في الجنة؛ وهذا يدلنا على أن الجنة موجودة، وأنها تتكامل يوم القيامة بالأعمال الصالحة، كلما توفي مؤمن كان قد بني له بقدر أعماله، وهكذا إلى أن يأذن الله بقيام الساعة. وفي حديث عبادة الذي في الصحيح: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) فالجنة أعدها الله لأوليائه، والنار هي دار العذاب، أعدها الله لأعدائه، ولمن كفر به. وصفات الجنة والنار تؤخذ من الكتاب والسنة، فقد وصفهما الله تعالى، وذكر ما فيهما من العذاب وما فيهما من الثواب، ولا شك أن من آمن بذلك حقاً فإنه يستعد لذلك؛ ولذلك يقول بعض السلف: عجبت للجنة كيف ينام طالبها؟! وعجبت للنار كيف ينام هاربها؟! يعني: أن من تحقق هذه الجنة وما فيها فإنه يطلبها، ولا يهنأ بالمنام ولا بالمقام، وكذلك من آمن بالنار وعذابها وما فيها من الأنكال والأغلال، فإنه يهرب منها، ولا يهنأ بالمنام ولا بالمقام. الكلام في الجنة والنار يتعلق بالكلام على حقيقتهما، وهذا يؤمن به كل من آمن بالله، ويتعلق بوجودهما الآن، وهذا يؤمن به أهل السنة، ويخالف فيه المبتدعة، ويتعلق ببقائهما واستمرارها، وهذا أيضاً يؤمن به أهل السنة، فيؤمنون بأن الجنة والنار موجودتان الآن مخلوقتان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى الجنة وقد رأى النار رؤيةً حقيقة: إما في المنام، وإما في الإسراء، ويؤمنون بما ذكر الله عنهما، فقد ذكر الله عن الجنة والنار: أن هذه {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] يعني: هيئت وأزلفت لهم، وأن هذه {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] فهي معدة مهيأة لهم، وغير ذلك من الأدلة. ويدخل في ذلك الرد على من أنكر ذلك كالمعتزلة الذين أنكروا وجود الجنة والنار الآن، وقالوا: إنما يخلقان غداً يوم القيامة، وهذا منهم مصادمة لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي فيها الإخبار أن الله هيَّأ الجنة وأعدها لمن آمن به؛ فهي مخلوقة موجودة الآن بما فيها من النعيم، وهيَّأ النار وأعدها؛ فهي موجودة الآن مهيأة بما فيها من العذاب! وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الميت في قبره يفتح له بابان: باب إلى الجنة، وباب إلى النار، فإذا كان مؤمناً يقال: هذا منزلك من الجنة، وهذا منزلك من النار لو كفرت، فيزداد فرحاً حيث يرى العذاب الذي سلم منه، والثواب الذي حظي به، ويفتح للكافر بابان: باب إلى الجنة، ويقال: هذا منزلك لو آمنت بالله، وباب إلى النار ويقال: هذا منزلك ومقيلك، فيزداد حسرة على ما فاته من الثواب، وعلى ما فاته من النعيم، وذلك بلا شك دليل على أنهما موجودتان الآن مهيأتان كما أخبر الله، فيؤمن أهل الإيمان بالله بما أخبر الله، ويؤمنون بهذه الأخبار الواضحة التي تدل على وجود الجنة والنار. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 9 الرد على احتجاج منكري وجود الجنة بآية: (كل شيء هالك إلا وجهه) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما احتجاجكم بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] ، فأتيتم من سوء فهمكم معنى الآية، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن نظير احتجاج إخوانكم بها على فنائها وخرابها وموت أهلها، فلم توفقوا أنتم ولا إخوانكم لفهم معنى الآية. وإنما وفق لذلك أئمة الإسلام، فمن كلامهم: أن المراد كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء، وكذلك العرش فإنه سقف الجنة، وقيل المراد: إلا ملكه، وقيل: إلا ما أريد به وجهه، وقيل: إن الله تعالى أنزل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] ، فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض وطمعوا في البقاء، فأخبر تعالى عن أهل السماء والأرض أنهم يموتون، فقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] ؛ لأنه حي لا يموت، فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت، وإنما قالوا ذلك توفيقاً بينها وبين النصوص الدالة على بقاء الجنة وعلى بقاء النار أيضاً على ما يذكر عن قريب إن شاء الله تعالى] الذين يحتجون بهذه الآية هم المبتدعة من المعتزلة ونحوهم، يقولون: لو كانت الجنة موجودة لأتى عليها الفناء، ولأتى عليها الهلاك، وكذلك النار لو كانت موجودة لفنيت كما يفنى غيرها؛ لأن الله يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] . و الجواب أن الله أخبر بأن الذي خلق للبقاء فإنه باقٍ، وذلك أن الجنة والنار خلقتا للبقاء؛ لأنهما يثاب بهما ويعاقب بهما في الدار الآخرة -أي: بعد الموت وبعد البعث من الموت- فهما مخلوقتان للبقاء، فلا يأتي عليهما الفناء، فيكون قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] أي: كل شيء خلقه الله في الدنيا لابد أن يهلك ويفنى إلا وجه الله، أي: إلا الله وحده، أو: إلا ما أريد به وجهه. كذلك قول الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] ، الضمير في (عليها) يعود إلى الأرض، أي: كل من على الأرض فانٍ ويبقى وجه ربك، ولكن يقال أيضاً: إن المراد كل من على هذه الحياة فان، ولا مانع من أن يموت أهل السماوات وأهل الأرض من الملائكة ومن المخلوقات التي خلقها الله للفناء، ثم بعد ذلك يبعثون ويعودون كما كانوا؛ وذلك لقوله الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ، ويقول في الحديث: (أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) . فأخبر بأن الحياة لله وحده، وأن ما سواه فإنه يموت، ولا يلزم أن ذلك يعم المخلوقات كلها -كالجمادات ونحوها- قد ذكر الله أن الجبال تكون هباء، وأن الأرض تبدل بغيرها {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم:48] ، وأن السماوات تتفطر، {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج:8] ، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1] ، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25] ، فذكر أن كل هذه الأشياء تتغير في ذلك اليوم الذي هو يوم القيامة، ولكن لا يكون ذلك عاماً في كل الموجودات. وعلى كل حال فلا يلزم من ذلك فناء الجنة، إذ هي مما خلقه الله للبقاء. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 10 أبدية الجنة وعدم فنائها والكلام على الاسثناء في آية هود قال المؤلف: [وقوله: (لا تفنيان أبداً ولا تبيدان) . هذا قول جمهور الأئمة من السلف والخلف، وقال ببقاء الجنة وفناء النار جماعة منهم السلف والخلف، والقولان مذكوران في كثير من كتب التفسير وغيرها. وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة، وكفروه به، وصاحوا به وبأتباعه من أقطار الأرض، وهذا قاله بأصله الفاسد الذي اعتقده: وهو امتناع وجود ما لا ينتهي من الحوادث، وهو عمدة أهل الكلام المذموم، التي استدلوا بها على حدوث الأجسام، وحدوث ما لم يخلُ من الحوادث، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم. فرأى الجهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنعه في المستقبل، فدوام الفعل عنده على الرب في المستقبل ممتنع، كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي، وأبو الهذيل العلاف -شيخ المعتزلة- وافقه على هذا الأصل، لكن قال: إن هذا يقتضي فناء الحركات، فقال: بفناء حركات أهل الجنة والنار حتى يصيروا في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة. وقد تقدم الإشارة إلى اختلاف الناس في تسلسل الحوادث بالماضي والمستقبل، وهي مسألة دوام فاعلية الرب تعالى، وهو لم يزل رباً قادراً فعالاً لما يريد، فإنه لم يزل حياً عليماً قديراً، ومن المحال أن يكون الفعل ممتنعاً عليه لذاته، ثم ينقلب فيصير ممكناً لذاته من غير تجدد شيء، وليس للأول حد محدود حتى يصير الفعل ممكناً له عند ذلك الحد، ويكون قبله ممتنعاً عليه، فهذا القول تصوره كافٍ في الجزم بفساده. فأما أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] ، أي: غير مقطوع، ولا ينافي ذلك قوله (إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ) . واختلف السلف في هذا الاستثناء، فقيل: معناه إلا مدة مكثهم في النار، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار ثم أخرج منها لا لكلهم. وقيل: إلا مدة مقامهم في الموقف. وقيل: إلا مدة مقامهم في القبور والموقف. وقيل: هو استثناء استثناه الرب ولا يفعله، كما تقول: والله! لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا تراه بل تجزم بضربه. وقيل: (إلا) بمعنى الواو، وهذا على قول بعض النحاة وهو ضعيف، وسيبويه يجعل (إلا) بمعنى: (لكن) فيكون الاستثناء منقطعاً، ورجحه ابن جرير وقال: إن الله تعالى لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله: عطاء غير مجذوذ، قالوا: ونظيره أن تقول: أسكنتك داري حولاً إلا ما شئت، أي: سوى ما شئت، أو لكن ما شئت من الزيادة عليه. وقيل: الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله، لا أنهم يخرجون عن مشيئته، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود، كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} [الإسراء:86] ، وقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24] ، وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس:16] ، ونظائره كثيرة يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقيل: إن (ما) بمعنى (مَنْ) أي: إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء. وقيل غير ذلك، وعلى كل تقدير فهذا الاستثناء من المتشابه، وقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] محكم، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54] ، وقوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد:35] ، وقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] . وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن وأخبر أنهم {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] ، تبين لك المراد من الآيتين، واستثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية، وذاك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها. والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت) ، وقوله: (ينادي منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وأن تحيوا فلا تموتوا أبداً) ، وتقدم ذكر ذبح الموت بين الجنة والنار: (ويقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت) ] . هذا دليل واضح على أبدية الجنة، ودوامها. أهل السنة يقولون: بأبدية الجنة والنار ودوامهما، وعدم انقطاعهما، وهناك بعض العلماء قالوا: إن عذاب النار ينقطع، وإن نعيم الجنة دائم سرمدي لا ينقطع. وهناك مبتدعة إمامهم الجهم بن صفوان قالوا بأن الجنة والنار تفنيان، وأول من قال هذا القول: الجهم بن صفوان إمام الجهمية، وهو الذي جمع ثلاث بدع أو أكثر من ثلاث: بدعة التعطيل، بدعة الجبر، بدعة الإرجاء. ومن عقيدته: أنه يقول بامتناع حوادث لا نهاية لها ولا بداية لها، وهذا على قاعدة له، ولم يسبق إلى هذا القول، أي: ليس له سلف، فليس هناك أحد قبله قال إن الجنة تنقطع وإنها تفنى وإنها تزول، فهو أول من قال بذلك. وأبو الهذيل العلاف من رءوس المعتزلة، ومن رءوس المتكلمين، وافقه بأن النار تفنى، وكذلك الجنة، ولكن يقول: إن فناءها بمعنى أنها تبقى موجودة، وأهلها كأنهم ليسوا أحياء، أي: تذهب حياتهم وتذهب حركاتهم، ولا شك أن هذا قول بالفناء، يعني: أنهم يموتون ما دام أنه لا حركة فيهم، فلا يبقى أهل الجنة ولا أهل النار. وهناك قول بأن أهل النار يبقون فيها بلا حركة، أو أن طبائعهم تنقلب طبيعة نارية، بمعنى: أنهم يبقون في النار بدون تألم، فلا يحسون بألمها؛ لأنهم يصبحون ناريين كالجن والشياطين الذين لا تحرقهم النار في الدنيا، وكل هذه أقوال لا دليل عليها. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 11 ذكر بعض الآيات المؤكدة على أبدية الجنة ورد التأكيد على أبدية الجنة في القرآن في عدة آيات، ففي سورة النساء قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء:57] ، فأكد الخلود بالأبدية، وكذلك قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [التوبة:100] ، فأكد الخلود بالأبدية، بمعنى: أنهم مخلدون فيها خلوداً دائماً لا يتحول، فالأبدية بمعنى الدوام. وكذلك في عدة مواضع من آخرها قول الله تعالى في سورة البينة: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8] ، أكد الخلود بالأبدية، فلا شك أن هذا دليل على البقاء، وقد ورد أيضاً: التأكيد بثلاثة أشياء في سورة التوبة، قال تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [التوبة:21-22] ، (مقيم) : يعني: دائم، (خالدين) : يعني: دائمين، (أبداً) : يعني: مؤبداً، فأكده بقوله: (مقيم) وبقوله: (خالدين) وبقوله: (أبداً) ، ولا شك أن ذلك دليل على الأبدية والاستمرار. واستدل الشارح بقول الله تعالى في أهل الجنة في سورة الدخان: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] يعني: التي في الدنيا، فمعناه أنهم دائمون لا يموتون، بل مستمر بقاؤهم ولا يتحولون عنها، فلا يذوقون فيها الموت إلا موتتهم التي في الدنيا، فهذا دليل أيضاً على بقائها. واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم في وصف أهل الجنة أنه يقال لهم: (إن لكم فيها أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وأن تقيموا فلا تظعنوا أبداً) ، واستدل بالحديث الذي تقدم في ذبح الموت بين الجنة والنار، وأنه يقال لأهل الجنة: (يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت) ، فيزداد أهل الجنة فرحاً، ويزداد أهل النار سوءًا وحزناً؛ وذلك لأن أهل النار يتمنون الخلاص، بل يتمنون أن يقضى عليهم يقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] ، فيتمنون أن يموتوا، فيخبر الله بأن ذلك لا يكون، يقول الله تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36] ، ويقول في آية أخرى: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:13] ، يتمنى الموت فلا يموت، ولا يحيا حياة طيبة يسعد فيها وينعم، هذه حالتهم، ولا شك أن هذا دليل على البقاء، ودليل على دوامهم وعدم انقطاع نعيم هؤلاء وعذاب هؤلاء. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 12 اعتقاد أهل السنة أبدية الجنة ثم تكلم المؤلف رحمه الله على ما يتعلق بآية هود، وهي قول الله تعالى في أهل الجنة: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] ، أكد البقاء بقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} أي: ما دامت السماوات والأرض باقية، ومعلوم أن السماوات يعيدها الله كما شاء، وأن الأرض يبدلها كما يقول الله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48] ، فتبقى السماوات وتبقى الأرض التي تبدل، وليس لها نهاية لبقائها، فما دامت السماوات والأرض باقية فالجنة والنار باقية. كذلك قوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] ، أي: غير مقطوع ولا مصروم ولا نهاية له، بل هو باقٍ مستمر متواصل، ليس له ما يكدره ولا ما يقطعه، فهذا من الآيات المحكمة التي فيها الإقامة والخلود والأبدية والدوام وعدم الانقطاع، ولا شك أن أهل الجنة لو قيل لهم: إن نعيمكم سينقطع ولو بعد مائة ألف سنة، ولو بعد ألف ألف سنة؛ لتكدرت حياتهم، ولقالوا: لا هناء لنا ما دام أنه سينقطع، فإنه سيأتي ذلك اليوم، ولو كان بعيداً، هذا معلوم. فمما يكدر نعيم الدنيا على أهلها معرفتهم بأن نعيمها يزول، وأنه يتبدل، فأما نعيم الجنة فإنه لا يزول؛ فلذلك بشرهم ربهم بأنهم باقون فيها وأنهم لا يحولون ولا يزولون. وأما الاستثناء في آية هود في قوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] فقد سمعنا أن العلماء قالوا: هذا الاستثناء من المتشابه، ومنهم من حمله على ما قبل دخولها، يعني: أنه يمر عليهم قبل دخولها زمان وهو وقت حساب، أو وقت الوقوف ليوم القيامة قبل نزول الله لفصل القضاء فيقولون: هذا هو زمان الاستثناء. وقيل: إنه استثناء، ولكن لا يدل على أنه يقطع عليهم نعيمهم، ومثله الشارح كما إذا قلت: سوف أكرمك إلا أن أشاء، وأنت عازم على إكرامه، وقد ورد ذلك أيضاً في القرآن في قول الله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] ، ونحو ذلك. وعلى كل حال فهو من المتشابه، والآيات الدالة على بقاء النعيم واستمراره محكمة ليس فيها خفاء، فيؤمن أهل العقيدة السلفية بما تتضمنه تلك الآيات، ويستعدون للقاء، ويطلبون هذا الثواب الذي لا يحول ولا يزول. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 13 اختلاف الناس في أبدية النار ودوامها قال رحمه الله: [وأما أبدية النار ودوامها فللناس في ذلك ثمانية أقوال: أحدها: أن من دخلها لا يخرج منها أبد الآباد، وهذا قول الخوارج والمعتزلة. والثاني: أن أهلها يعذبون فيها، ثم تنقلب طبيعتهم، وتبقى طبيعة نارية، يتلذذون بها لموافقتها لطبعهم، وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي. الثالث: أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود، ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون: وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وأكذبهم فيه، وقد أكذبهم الله تعالى، فقال عز من قال: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:80-81] . الرابع: يخرجون منها، وتبقى على حالها ليس فيها أحد. الخامس: أنها تفنى بنفسها؛ لأنها حادثة، وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه، وهذا قول الجهم وشيعته، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار كما تقدم. السادس: تفنى حركات أهلها ويصيرون جماداً لا يحسون بألم، وهذا قول أبي الهذيل العلاف كما تقدم. السابع: أن الله يخرج منها من يشاء كما ورد في السنة، ثم يبقيها ما يشاء، ثم يفنيها فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه. الثامن: أن الله تعالى يخرج منها من يشاء كما ورد في السنة، ويبقي فيها الكفار بقاء لا انقضاء له، كما قال الشيخ رحمه الله، وما عدا هذين القولين الأخيرين ظاهر البطلان، وهذان القولان لأهل السنة ينظر في دليلهما] . الآن تكلم على فناء النار ومن يخرج منها، ولا شك أن الأقوال الستة التي سمعنا من أقوال المبتدعة، فمن عقيدة الخوارج والمعتزلة أن من دخل النار لا يخرج منها، وأن العصاة وأصحاب الكبائر لا يخرجون منها، من دخلها فهو فيها مخلد، ويستدلون بمثل قول الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:167] ، وبقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20] ، ونحو ذلك من الآيات، ولكن هذه الآيات محمولة على الكفار، ولا يراد بها أهل الكبائر، ولا يراد بها المؤمنون الذين هم من أهل التوحيد، فإنه ورد الدليل بأنهم يخرجون بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين، يعذبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون، فهذا القول الذي هو قول الخوارج وقول المعتزلة بتخليد أصحاب الكبائر في النار تخليداً مؤبداً؛ قول يخالف الأدلة الصريحة. وأما اليهود فقالوا: إن أهل النار الذين يدخلونها من اليهود، يخرجون منها، ثم تخلفهم فيها هذه الأمة، لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف تدخلون النار؟ فقالوا: ندخلها أربعين يوماً، ثم نخرج منها وتخلفوننا أنتم، فقال: كذبتم) ، وكذبهم الله تعالى بقوله: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} [البقرة:80] ، ولا شك أن هذا أيضاً قول باطل؛ وذلك لأنه لا يدخلها إلا أهلها. ولا شك أيضاً أن قول أبي الهذيل العلاف: أنه تفنى حركاتهم، وأنهم يبقون فيها بلا حركة؛ قول باطل. وكذلك القول: بأن أهلها يصيرون فيها ناريين، أي: تنقلب طبيعتهم نارية بحيث يتلذذون بها كما يتلذذ أهل الجنة بالجنة، فهذا أيضاً قول لا دليل عليه؛ وذلك لأن الأدلة دلت على أنهم يتألمون وأنهم ينادون ويقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] ، ويقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:107-108] ، وأخبر بأن: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:106-107] ، ولا شك أن هذا دليل على أنهم يتألمون ولا ينقطع ألمهم. بل أخبر تعالى بتجديد العذاب عليهم بقوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء:56] ، فالنار تحرقهم حتى يصيروا فحماً، ثم بعد ذلك يجدد لحمهم، وينبت لحمهم حتى يتألم مرة بعد مرة، وحتى يزداد ألمهم، ولا شك أن هذا دليل على بطلان قول هؤلاء الذين يقولون: إنها تنقلب طبيعتهم فيكونون ناريين. وكذلك قول الذين يقولون: إنها تبطل حركاتهم ويصبحون جماداً لا حركة لهم، وغير ذلك من أقوال المعتزلة ونحوهم. بقي القولان الأخيران: قال بعضهم: إنهم يبقون فيها مدة، ثم بعد ذلك تفنى، وأنهم لو مكثوا فيها ما مكثوا فلابد من نهايتها. والقول الآخر: إنهم يبقون فيها ولا يفنون، وإنها لا تفنى. استدل القائلون بفنائها بقول الله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] كأنهم يقولون: الأحقاب معدودة معروفة، فيدل على أن لبثهم فيها محدد، ثم بعد ذلك يفنى ذلك العذاب، وسمعنا الأثر المذكور وهو: أنهم لو لبثوا فيها عدد رمل عالج لكان لهم يوماً يخرجون منها أو يفنون. والصحيح أن هذه الآية ليس فيها تحديد الأحقاب؛ لأن الله ما حددها، وفسر بعضهم الحقب بأنه مائة عام، قال الله تعالى عن موسى: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:60] ، وإذا كان الحقب مائة عام، فالعام اثنا عشر شهراً، والشهر ثلاثون يوماً، واليوم الواحد كألف سنة مما تعدون، ثم لو قال الله مائة حقب أو ألف حقب أو مائة ألف حقب، لكان للكافر رغبة وأمل ورجاء في أن عذابه سيزول، ولكن ما حددها الله؛ ولأجل ذلك يقول بعض العلماء: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} : أي كلما مضى حقب أتى حقب، كلما انقضى حقب ابتدأ حقب إلى غير نهاية، فليس لهذه الأحقاب نهاية، حيث لم تحدد. فلا دلالة في هذه الآية ولا في الآيات التي فيها الاستثناء في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] ، فإن الاستثناء هنا كالاستثناء في الآية التي في نعيم أهل الجنة، ولا يدل على أن هناك زماناً يخرج هؤلاء من نعيمهم أو هؤلاء من جحيمهم، بل الأصح المعتمد: أن الجنة والنار باقيتان دائمتان، لا تفنيان ولا تبيدان أبد الآبدين، وبذلك يرغب أهل الجنة في الدار التي لا ينقطع نعيمها، ويهربون ويخشون من النار التي لا ينقطع عذابها. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 14 شرح العقيدة الطحاوية [67] وقع الخلاف في فناء النار وبقائها، وللناس فيها مذاهب متباينة، والحق الذي عليه جمهور أهل السنة بقاؤها، وقد ذكروا أدلة ذلك وردوا على المخالفين. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 1 أدلة من قال بفناء النار قال المؤلف: [فمن أدلة القول الأول منهما: قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128] ، وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:106-107] ، ولم يأتِ بعد هذين الاستثناءين ما أتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة، وهو قوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] ، وقوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] . وهذا القول -أعني: القول بفناء النار دون الجنة- منقول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم. وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور بسنده إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه، ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] . قالوا: والنار موجب غضبه، والجنة موجب رحمته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق: كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) ، وفي رواية: (تغلب غضبي) ، رواه البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه] . قالوا: والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] ، و {أَلِيمٍ} [هود:26] ، و {عَقِيمٍ} [الحج:55] ، ولم يخبر ولا في موضع واحد عن النعيم أنه نعيم يوم. وقد قال تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] ، وقال تعالى حكاية عن الملائكة: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر:7] ، فلابد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته، وقد ثبت في الصحيح تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة، والمعذبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم. وليس في حكم أحكم الحاكمين، ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقاً يعذبهم أبد الآباد، عذاباً سرمداً لا نهاية له، وأما أنه يخلق خلقاً ينعم عليهم ويحسن إليهم نعيماً سرمداً فمن مقتضى الحكمة، والإحسان مراد لذاته، والانتقام مراد بالعرض. قالوا: وما ورد من الخلود فيها والتأبيد وعدم الخروج وأن عذابها مقيم وأنه غرام، كله حق مسلم لا نزاع فيه، وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد، ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 2 تضعيف القول بفناء النار هذا يتعلق بقول من يقول بأن عذاب النار لا يبقى، بل ينقطع، وأن له حداً ونهاية، وهذا قول قاله بعض العلماء عن اجتهاد، وعللوا بهذه التعليلات التي سمعنا، ونحن لا نشك أن الله تعالى رحيم بالعباد، وأن رحمته تغلب غضبه، ولكن نعرف أنه خلق للرحمة أهلاً. وخلق للعذاب أهلاً، ولا نشك أيضاً: بأنه سبحانه جعل هذا العمل اليسير في الدنيا له ثواب عظيم مضاعف مستمر، وكذلك الكفر اليسير له عذاب دائم مستمر كثير؛ وذلك لمقتضى حكمته، فمثلاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) يعني: أن بعض الناس قد يولد كافراً ويحيا كافراً أو مبتدعاً، ويمضي عليه عمره وهو على كفره، وقبل موته بيوم أو بساعة أو سويعات يمن الله عليه فيهتدي ويسلم ويموت على الإسلام؛ فتكون تلك الساعة أو ذلك اليوم مكفراً لما مضى من عمره ماحياً لسيئاته وكفره وشركه وذنبه وجميع ما عمله طوال حياته، وكان رجل من الأنصار يقال له: أصيرم بن عبد الأشهل مشركاً مع قومه لم يسلم، ولما حضرت غزوة أحد وحضر القتال؛ هداه الله وأسلم، ولما أسلم دخل المعركة في تلك الساعة، وقاتل مع المسلمين وقتل شهيداً؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عمل قليلاً وأجر كثيراً) ، فعمله هذا القليل ثوابه لا ينقطع، ثواب دائم. وبخلاف حاله رجل يقال له: قُزْمَان كان مع المسلمين، وقاتل قتالاً شديداً، ولكن قبل موته أصابته جراحة فقتل نفسه، وقبل أن يموت ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنه من أهل النار) ، حبط عمله الصالح بهذه الفعلة، فنقول: العمل اليسير ساعة أو ساعات يثاب عليه العبد أبد الآباد، وكذلك الكفر اليسير الذي يختم لصاحبه به يعذب عليه أبد الآباد. إذاً: لا مانع أن نقول: إن الله تعالى قدر هذا العذاب لمن كفر به وخرج عن طاعته، وجعل ذلك مستمراً لمن يستحقه بلا نهاية، كما خلق النعيم والأجر والثواب المستمر الباقي ولم يجعل له نهاية، وجعل ذلك ثواباً لمن عمل هذا العمل إلى غير نهاية، فهذا كله لا يخرج عن حكمة الله، فيعذب عذاباً مستمراً على العمل الكفري، وينعم نعيماً مستمراً على العمل الصالح. وأما الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً؛ فهؤلاء إما أن يعفو الله عنهم ويمحو عنهم السيئات، وإما أن يعذبهم بقدر سيئاتهم، فيدخلون في النار، ويبقون فيها مدة طويلة أو قصيرة بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها بعدما يمكثون فيها المدة التي قدر الله، فقد يمكثون ألف سنة أو ألفين أو ألوفاً، وقد لا يمكثون إلا قليلاً ثم يخرجون. فأما أن النار تخمد وينقطع عذابها فهذا -على القول الصحيح- لا يكون، بل الله تعالى يقول: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً} [النساء:56] ، وقال الله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] ، يقول العلماء: كلما انقضى حقب ابتدأ حقب، إلى غير نهاية، فالقول الصحيح أنها دائمة ومستمرة. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 3 أدلة القائلين ببقاء النار وعدم فنائها قال المؤلف رحمه الله: [ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37] ، وقوله تعالى: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75] ، وقوله تعالى: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} [النبأ:30] ، وقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء:57] ، وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] ، وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:167] ، وقوله تعالى: {لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] ، وقوله تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36] ، وقوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان:65] ، أي: مقيماً لازماً. وقد دلت السنة المستفيضة أنه (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله) ، وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار، وهذا حكم مختص بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم،ولم يختص الخروج بأهل الإيمان، وبقاء الجنة والنار ليس بذاتهما، بل بإبقاء الله لهما. وقوله: (وخلق لههما أهلاً) . قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179] ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دعي رسول صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار؛ فقلت: يا رسول الله! طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء، ولم يدركه، فقال: أوغير ذلك يا عائشة؟! إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم) ، رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:2-3] ، والمراد: الهداية العامة، وأعم منها الهداية المذكورة في قوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]] . الجزء: 67 ¦ الصفحة: 4 ترجيح القول ببقاء النار وعدم فنائها ذكر المؤلف ما يتعلق بأبدية النار، وهذه الآيات صريحة أو ظاهرة الدلالة في أن النار باقية لا فناء لها، فقوله: {لَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37] المقيم: هو الذي لا يزول، ولا يتحول، ولا ينقطع، وكذلك التعبير بالخلود والأبدية: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء:57] يدل على أن الخلود مستمر، وكذلك الأبدية. وكذلك قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:167] ، {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37] ، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] هذه الآيات صريحة بأنه ليس لهم خروج، بل بقاؤهم مستمر، وكذلك لما قالوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] تمنوا أن يقضى عليهم فيموتوا، فقال: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} ، وكذلك قوله: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36] ، أي: لا يقضي عليهم فيستريحون من هذا العذاب، ولكنهم دائماً ماكثون فيه. وهذه الأدلة وغيرها واضحة الدلالة في أن الجنة والنار باقيتان دائمتان، وأن نعيم الجنة وعذاب النار مستمر، وهذه عقيدة أهل السنة، ولا شك أن القول بدوامهما هو القول الذي تؤيده الأدلة، وبكل حال هذا من الأمور التي يؤمن بها المسلمون، ويدل إيمانهم بها على أنهم يؤمنون بالغيب وإن لم يروه. أما أن الله تعالى علم أهل الجنة وأهل النار، فلا شك أنه سبحانه قدر من يعمل للجنة، ومن يعمل للنار قبل أن يخلقهم، بل قبل أن يخلق الخلق، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ولا شك أن خلقهم ابتدأ منه، وهو بكل شيء عليم، فهو يعلم من هم أهل الجنة ومن هم أهل النار. وهذه الآية صريحة في أنه خلق هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] ، إلى آخرها (ذرأنا) : خلقنا لجهنم أهلاً. وكذلك قوله في الحديث: (إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم) ، بل وهم في صلب آدم، ففي بعض الأحاديث أنه لما أخذ الله الميثاق من بني آدم من ظهر آدم، وهو الميثاق المذكور في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] ، أن الله مسح ظهر آدم فاستخرج ذريته كالذر، فقال: (خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، وخلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون) ، فلا يتجاوز أحد ما خلق له، ومع ذلك فإنهم مأمورون ما داموا في هذه الحياة بأن يستعدوا وأن يعملوا. لما قال الصحابة: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (اعلموا فكل ميسر لما خلق له) ، الله تعالى أمرنا بالعمل مع أنه علم من يعمل ومن لا يعمل، وكذلك أمرنا بالدعوة إليه، وأمرنا بأن نعلم، وأمرنا بأن نبشر وننذر، بل أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، مع أنه قد علم من يطيع ومن يعصي، وعلم من هم أهل الجنة ومن هم أهل النار، ولكنه جعل لذلك أسباباً، فجعل رسالة الرسل سبباً من أسباب معرفته والدعوة إليه والإيمان به، وكذلك جعل ورثة الرسل الذي يدعون إليه أيضاً من الأسباب في العمل الصالح، حيث يهدي الله على يديهم وبواسطتهم من جعله الله من أهل الجنة. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 5 أنواع الموجودات قال المؤلف رحمه الله: [فالموجودات نوعان: أحدهما: مسخر بطبعه. والثاني: متحرك بإرادته، فهدى الأول بما سخره له طبيعة، وهدى الثاني هداية إرادية تابعة لشعوره، وعلمه بما ينفعه ويضره. ثم قسم هذا النوع إلى ثلاثة أنواع: - نوع لا يريد إلا الخير، ولا يتأتى منه إرادة سواه كالملائكة. - ونوع لا يريد إلا الشر، ولا يتأتى منه إرادة سواه كالشياطين. - ونوع يتأتى منه إرادة القسمين كالإنسان. ثم جعله ثلاثة أصناف: - صنف يغلب إيمانه ومعرفته وعقله هواه وشهوته فيلتحق بالملائكة. - وصنف عكسه فيلتحق بالشياطين. - وصنف تغلب شهوته البهيمية عقله فيلتحق بالبهائم. والمقصود: أنه سبحانه أعطى الوجودين العيني والعلمي، فكما أنه لا موجود إلا بإيجاده، فلا هداية إلا بتعليمه، وذلك كله من الأدلة على كمال قدرته وثبوت وحدانيته، وتحقيق ربوبيته سبحانه وتعالى. وقوله: (فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً إلخ) : مما يجب أن يعلم أن الله تعالى لا يمنع الثواب إلا من منع سببه وهو العمل الصالح، فإنه {َومَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} [طه:112] ، وكذلك لا يعاقب أحداً إلا بعد حصول سبب العقاب، فإن الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] . وهو سبحانه المعطي المانع، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، لكن إذا من على الإنسان بالإيمان والعمل الصالح لا يمنعه موجب ذلك أصلاً، بل يعطيه من الثواب والقرب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وحيث منعه ذلك فلانتفاء سببه وهو العمل الصالح. ولا ريب أنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لكن ذلك كله حكمة منه وعدل، فمنعه للأسباب التي هي الأعمال الصالحة من حكمته وعدله، وأما المسببات بعد نزول أسبابها فلا يمنعها بحال، إذا لم تكن أسباباً صالحة، إما لفساد في العمل، وإما لسبب يعارض موجبه ومقتضاه، فيكون ذلك لعدم المقتضى أو لوجود المانع. وإذا كان منعه وعقوبته من عدم الإيمان والعمل الصالح، وهو لم يعط ذلك ابتداءً حكمة منه وعدلاً، فله الحمد في الحالين، وهو المحمود على كل حال، كل عطاء منه فضل، وكل عقوبة منه عدل، فإنه تعالى حكيم يضع الأشياء في مواضعها التي تصلح لها كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] ، وكما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53] ونحو ذلك، وسيأتي لهذا زيادة بيان إن شاء الله تعالى] . الجزء: 67 ¦ الصفحة: 6 الملائكة كلهم خير الكلام الأول يتعلق بخلق الله تعالى لأهل الجنة وأهل النار وتقسيمهم؛ وذلك لأنه سبحانه خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً، وكل موفق وميسر لما خلق له، ولا يتجاوزون ما قدر لهم، ولكنه سبحانه جعل بعض الخلق شراً محضاً، وبعضهم خيراً محضاً، وبعضهم فيه مادتان: مادة خير ومادة شر، فالملائكة كما سمعنا كلهم خير، ليس فيهم نفوس شريرة، بل كلهم يعبدون الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد) ، وأخبر أن هناك ملائكة سجود منذ خلقهم الله إلى أن تقوم الساعة، ثم يوم القيامة يقولون: (سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، غير أنا لم نشرك بك شيئاً) . وقد ذكر من عبادتهم ومن اجتهادهم في الطاعات وأنواع القربات، مع أنهم ليس لهم شهوة تحملهم على المعاصي؛ فلأجل ذلك فكلهم خير، وأخبر الله بأنهم يخدمون أهل الجنة، قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد:23-24] ، وقال: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر:75] . الجزء: 67 ¦ الصفحة: 7 الشياطين كلهم شر القسم الثاني: الشياطين، لا شك أنهم خلقوا للشر، وأنهم خلقوا للنار، وأنهم مستعدون لدخول النار ومقدمون عليها؛ وذلك لأنهم خلقوا من النار، ولهذا لا يتألمون بالنار في الدنيا. ومنهم شياطين الجن، فإنهم أيضاً خلقوا من النار كما قال تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27] ، وقال تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] ، ولكن الشياطين الذين هم إبليس وذريته كلهم شر محض، ليس فيهم خير أصلاً، هؤلاء هم أهل النار، وهم الذين لا خير فيهم. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 8 الإنس والجن فيهم خير وشر القسم الثالث: الإنسان، وقيل: الثقلان -الجن والإنس- فهؤلاء فيهم خير وفيهم شر، فمنهم من يغلب خيره، أو يكون كله خيراً، وهم الأنبياء وورثة الأنبياء والأتقياء والعباد والزهاد، والمؤمنون صادقو الإيمان؛ فهؤلاء يحميهم الله عن السيئات وعن الكبائر والآثام فلا يقربونها، ويحفظون أوقاتهم كلها بالطاعة، ويتقربون إلى ربهم بأنواع العبادة، فهؤلاء يلحقون بالملائكة. ومنهم من يكون بضد ذلك، فهم أشرار وكفرة وفجرة وفساق خارجون عن الطاعة، لا يألفون العبادة ولا يحبونها، ويألفون الكفر والفسوق والعصيان، ويتلذذون بالمعصية وينفرون عن الطاعة، فهؤلاء لا شك أنهم يلحقون بالشياطين، ويكونون منهم ومن أتباعهم، ويدخلون في قول الله تعالى لإبليس: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85] ، وفي قوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء:94-95] ، فهذا القسم ملحق بالشياطين. وأيضاً: هناك قسم ثالث تغلب عليهم الحياة البهيمية، وهم الذين يجعلون عقولهم تبعاً لما يشتهونه، فيسخرون عقولهم للشهوات البهيمية الدنيئة؛ فهؤلاء ملحقون بالبهائم، ولكنهم أقرب إلى من عبد هواه، والله تعالى قد أخبر بأن هناك من يعبد الهوى: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] ، وفي الأثر: (ما تحت أديم السماء إله يعبد شر من هوى متبع) ، والذي يعبد هواه هو الذي لا يشتهي شيئاً ولا يهوى شيئاً إلا ركبه. فانظر أي الأقسام أحسن؛ فاختر أن تكون منهم. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 9 نفوس البشر ثلاثة أقسام يقول بعض العلماء: إن نفوس البشر ثلاثة أقسام: - نفوس علوية ملكية، وهذه نفوس الأتقياء الأصفياء، عباد الله المخلصين. - ونفوس بهيمية، بمعنى أنها ليس لها همٌّ إلا هواها وشهواتها، وما تميل إليه بطباعها، فهؤلاء ملحقون بالبهائم، وهم أشبه ما يكونون بمن لا عقول لهم، وهم داخلون في قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأعراف:179] إلخ الآية. - ونفوس سبعية: وهم الذين من طبعهم الاعتداء والظلم والتجبر والتكبر والتسلط على الغير، وحب السلطة والسيطرة والتعدي؛ فهؤلاء أشبه ما يكونون بالسباع الضارية المعتدية. ولا شك أن خير الأقسام الذين نفوسهم ملكية علوية همتهم عالية رفيعة، ليست همتهم دنيئة. وحكمة الله اقتضت تقسيم الخلق إلى هذه الأقسام الثلاثة: الملائكة، والشياطين، وبني آدم، وجعل الله لبني آدم هذه الأقسام الثلاثة، والله تعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 10 تقدير الله لأهل الجنة وأهل النار بحكمته وعدله ورحمته قدر الله تعالى أهل الجنة وأهل النار، فمعلوم أنه سبحانه حكيم في أمره وفي تدبيره، وأنه لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه؛ لم يكن ظالماً لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، فإنهم ما عملوا ولا آمنوا ولا اتقوا إلا بفضله: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع فهو سبحانه خلق الجنة وخلق لها أهلاً وقدر أعمالهم، ويسر لهم السبل والوسائل التي تجعلهم من أهلها، وتلحقهم بالعباد الصالحين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وكذلك قدر للنار أهلاً؛ وذلك لأن هاتين الدارين -دار الثواب ودار العقاب- قد وعدهما الله تعالى بأهل؛ فقال تعالى مخاطباً الجنة والنار: (ولكل واحدة منكما علي ملؤها) ، فلابد أن يدخلهما الله من يستحقهما، فبفضله ينعم على أهل الجنة، وبعدله يعذب أهل النار، ولا يظلم أحداً: {وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] ، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} [غافر:31] . الجزء: 67 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [68] اختلف الناس في الاستطاعة على قدر اختلافهم في القدر، ومهما نظر الإنسان بإنصاف فإنه سيجد الحق الذي يصدقه الدليل مع أهل السنة، وأن الصواب قد جانب من خالفهم. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 1 آثار الإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، وهذان الركنان يحتاج كل منهما إلى تفاصيل، وقد مر بنا بعض التفاصيل، والمؤمن الذي يؤمن بالله يؤمن بما أخبر من التفاصيل لهذه الأشياء؛ وذلك لأن من تمام الإيمان بالله الإيمان بما أخبر به مما كان أو هو كائن. ومن علامات الإيمان باليوم الآخر الاستعداد له، ولا شك أن يوم القيامة عظيم الهول، عظيم الكرب، سماه الله يوم الفزع الأكبر. وأما تفاصيله فإنها مأخوذة من الأدلة التفصيلية التي اشتملت عليها الآيات والأحاديث، وإذا قرأها أو سمعها المؤمن فبلا شك أنه يظهر عليه أثر تلك الأمور، فيستعد للحساب إذا آمن به، ويستعد لتطاير الصحف إذا آمن بها، ويستعد لورود الحوض إذا آمن به، ويستعد للصراط إذا آمن به، وآخر شيء يؤمن به الجنة أو النار، فيعلم أنهما النهاية، وأن الجنة دار الكرامة لأولياء الله، والنار دار العذاب لأعداء الله، ولكل منهما بنون، ولكل منهما أهل، وقد وعد الله كلاً منهما بملئها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: فيّ ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار: فيّ الجبارون والمتكبرون، فقال الله للجنة: أنت دار رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت دار عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما علي ملؤها) ، وإذا كان كذلك فإنه يستعد لما ينجيه من النار، ولما يؤهله للجنة. وأما صفة ما فيهما فقد فصلت في ذلك الأدلة، وألفت فيها المؤلفات، فللإمام ابن القيم رحمه الله كتاب مفيد اسمه (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) جمع فيه صفة الجنة، وما ورد فيها، وذكر فيه درجاتها وآنيتها وقصورها وأنهارها وأشجارها وثمارها وحورها وفرشها وسررها وجميع ما أخبر الله عنها، وهكذا لتلميذه ابن رجب رحمه الله كتاب سماه (التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار) تكلم فيه عن النار وعن عذابها وحميمها وزقومها وأغلالها وسعيرها وزمهريرها ودركاتها وحرها وحال أهلها، وما ورد فيهم، فإذا قرأ القارئ هذا الكتاب اشتد خوفه، واشتد فزعه، وإن لم يكن فيه تفصيل للأعمال التي يستحق بها العبد النار، ولكن ذكر فيه صفة عذاب النار، وأما الأعمال فهي مذكورة مبسوطة في الأدلة، تجدون في الآيات والأحاديث التي ذكر فيها أهل النار وأهل الجنة، من فعل كذا دخل الجنة، ومن فعل كذا دخل النار، وهذه مشروحة وموسع الكلام فيها، وإذا عرفها المسلم فإنه بلا شك يهتم بها، فيعرف الأعمال الصالحة التي تصير أهلها من أصحاب الجنة فيعملها، والتي توعد عليها بعذاب النار فيتركها، ويبتعد عنها، وعن أهلها حتى يكون من أهل الوعد، ويسلم من الوعيد. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 2 حقيقة الاستطاعة وأقسامها واختلاف الناس فيها قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به تكون مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] . الاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع، ألفاظ متقاربة، وتقسيم الاستطاعة إلى قسمين -كما ذكره الشيخ رحمه الله- هو قول عامة أهل السنة، وهو الوسط، وقالت القدرية والمعتزلة: لا تكون القدرة إلا قبل الفعل، وقابلهم طائفة من أهل السنة فقالوا: لا تكون إلا مع الفعل، والذي قاله عامة أهل السنة: إن للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي، وهذه تكون قبله، ولا يجب أن تكون معه، والقدرة التي يكون بها الفعل لابد أن تكون مع الفعل، لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرة معدومة. وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع والتمكين وسلامة الآلات، فقد تتقدم الأفعال، وهذه القدرة المذكورة في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] ، فأوجب الحج على المستطيع، فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج، ولم يعاقب أحداً على ترك الحج، وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وكذا قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا} [التغابن:16] ، فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة، فلو كان من لم يتقِ الله لم يستطع التقوى لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ولم يعاقب من لم يتقِ وهذا معلوم الفساد. وكذا قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة:4] ، والمراد منه: استطاعة الأسباب والآلات، وكذا ما حكاه سبحانه من قول المنافقين: {لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة:42] ، وكذبهم في ذلك القول، ولو كانوا أرادوا الاستطاعة التي هي حقيقة قدرة الفعل، ما كانوا بنفيهم عن أنفسهم كاذبين، وحيث كذبهم فدل أنهم أرادوا بذلك المرض أو فقد المال على ما بين تعالى بقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة:91] ، إلى أن قال: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} [التوبة:93] . وكذا قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] ، والمراد: استطاعة الآلات والأسباب، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لـ عمران بن حصين: (صلِ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) ، وإنما نفى استطاعة الفعل معها] . هذا الكلام يتعلق بركن من أركان الإيمان وهو القدر -والقدر: كما نقل عن الإمام أحمد - هو قدرة الله، والمعنى: أن الله قادر على كل شيء، وأنه يدخل في قدرته أفعال العباد وحركاتهم، وأنه هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء. ومن الإيمان بالقدر: الإيمان بأن للإنسان قدرة على أفعاله وإرادة بها أصبح مكلفاً، وأن من فقد تلك القدرة سقط عنه التكليف؛ وذلك لأن هذا شيء محسوس، ظاهر ليس فيه خفاء، فالإنسان الأعمى لا يكلف أن يقرأ في الكتاب، والإنسان الأعرج لا يكلف أن يسعى السعي الشديد في الطواف أو في السعي لعجزه عن ذلك، وقد أسقط الله الجهاد عن المعذورين في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] ، ونحو ذلك من الآيات. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 3 استطاعة بمعنى التوفيق ذكر الشارح: أن الاستطاعة تنقسم إلى قسمين: استطاعة بمعنى التوفيق، وهذه لا يملكها إلا الله، واستطاعة بمعنى مزاولة الفعل، وهذه يوصف بها العبد. فأما التوفيق والإلهام والهداية فهي إلى الله لا يستطيعها العباد، بل قد نفاها الله تعالى حتى عن نبيه، فقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر:37] ، {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33] ، وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:37] ، أي: من أضله فلا أحد يقدر على هدايته، فهذه الاستطاعة تستدعي توفيق الله وإلهامه وإفهامه، وتستدعي الإقبال بقلبه وقالبه إلى الأعمال. ولكن بلا شك أن الإنسان أيضاً: له قدرة على بعض الأسباب، فيجعلها الله سبباً لهداية بعض الناس؛ ولأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله عنه: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ، فجعله سبباً للهداية، والله هو الهادي، بمعنى: أنك أنت بينت لذلك الرجل وحذرته وأنذرته وخوفته، ودعوته إلى ما ينفعه، وبينت له النافع، وبينت له الضار، وبينت له عاقبة هذا وعاقبة هذا، فالله قذف في قلبه المعرفة والقبول، وتقبل ما جئت به، فأصبح بذلك قابلاً؛ فمثل هذا بلا شك أنه سبب في الهداية، فأصلها من الله، وأنت منك الأسباب. كذلك يقول في حديث آخر (من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه) ، سماه هدى، أي: ضد الضلال، فالداعي -بلا شك- متسبب، والله هو الذي جعل السبب مؤثراً ومفيداً. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 4 استطاعة بمعنى القدرة على الفعل القسم الثاني من الاستطاعة: الاستطاعة التي هي مزاولة الفعل والقدرة عليه، وهذه هي التي لا يكلف الله من لم يقدر عليها، فالعاجز -مثلاً- عن الحج بدنياً لا يستطيعه؛ ولذلك قال تعالى: {مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] ، والفقير الذي لا يجد ما يوصله إلى مكة لا يستطيع، ولو كان يستطيع بدنياً، والذي لا يستطيع بدنياً كالذي لا يثبت على السيارة أو على الطائرة لمرض أو لشلل أو لخوف أو ما أشبه ذلك، يقال عنه أيضاً: لا يستطيع الثبوت على المركوب فهو معذور بذلك، لا يستطيع بماله أو لا يستطيع ببدنه. ومعلوم أن الله تعالى لا يكلف الإنسان مع عجزه، إنما يكلفه إذا كان قادراً، وكذلك إذا كان فاهماً، ولذلك أسقط الله التكاليف عن الأطفال لكونهم غير قادرين ولا فاهمين، وأسقطها عن فاقدي العقول لنقصهم معنوياً، وكذلك أسقطها عن العاجزين في قوله تعالى في الجهاد: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة:91] ، يعني: ليس عليهم حرج في أن يتخلفوا عن الجهاد، مثل هؤلاء لا يستطيعون أن يخوضوا المعارك، وكذلك المرضى لا يستطيعون، وكذلك الذين لا يجدون ما ينفقون، لا يجدون مركوباً أو لا يجدون عدة، فهؤلاء أسقط الله عنهم الجهاد، كما أسقط عن العاجز مالياً الحج بقوله: {مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] ، وفسرت (سبيلاً) : بالزاد والراحلة في بعض الأحاديث والآثار، فدل على أن الاستطاعة: قدرة العبد من حيث المال ومن حيث البدن، فإذا كان ذلك الفعل يستدعي مالاً كالحج والجهاد سقط عنه إذا فقد المال، وإذا كان لا يستدعي مالاً كالقريب من مكة ولكنه يستدعي قوة البدن، وكان هذا الإنسان مريضاً أو عاجزاً بدنياً سقط عنه، والجهاد كذلك يسقط عنه إذا كان عاجزاً بدنياً، وأما إذا كان عاجزاً مالياً، ولكن هناك من تكفل به وجهزه فإنه لا يسقط عنه. وكذلك العبادات البدنية المحضة إذا كان فيها مشقة فإنها تسقط أو تؤجل، مثل: الصيام في السفر أو في المرض، يقال: لا يستطيع أن يصوم وهو مريض، لا يستطيع أن يصوم وهو مسافر لمشقة السفر، فيؤجل الصيام، وكذلك بقية الأعذار، أما الصلاة فإنها عمل بدني؛ فلأجل ذلك تتوقف أفعالها على القوة والقدرة، فإذا لم يستطع أن يحصل على الماء سقطت عنه الطهارة بالماء، واكتفى بالتيمم، يقال: لا يستطيع الحصول على الماء أو لا يستطيع استعمال الماء لمرض أو حرق أو نحو ذلك، وكذلك فعل الصلاة: إذا لم يستطع أن يصلي وهو قائم صلى وهو جالس، فإن عجز عن الصلاة جالساً صلى على جنب أو مستلقياً كما في بعض الروايات، فمن عجز عن نوع من الاستطاعة البدنية انتقل إلى ما يستطيعه، ويعرف ذلك العرب في كل شيء حتى يقول بعضهم: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعُ أراد بذلك الأمور العادية، أي: الأفعال المحسوسة، فمثلاً: الحرف تختلف، فالإنسان الذي معه قوة بدنية يستطيع أن يحمل الأثقال، فهذا يحترف هذه الحرفة، وقد تكون أكثر أجرة، وآخر لا يستطيع ذلك، ولكن يستطيع أن يعمل الأعمال التي ليس فيها حمل ولا أثقال، كحراسة أو ما أشبهها، فالناس يتفاوتون في الاستطاعة. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 5 الاستطاعة تكون قبل الفعل ومع الفعل معلوم أن الاستطاعة تكون قبل الفعل ومع الفعل، قبل الفعل: يعني قبل مباشرته، نرى إنساناً قوياً فنقول: أنت مكلف بأن تصلي قائماً، ونرى إنساناً غنياً فنقول: أنت مكلف بالحج؛ لأنك تستطيعه مالياً، وهذه الاستطاعة تستمر إلى أن ينتهي من العمل، فتكون قبل الفعل، وفي أثناء الفعل؛ ولأجل هذا لو صلى ركعتين من الظهر وهو قائم ثم عجز جلس، وأتم بقية صلاته جالساً، وكذلك في الحج، لو أنه عمل بعض أعمال الحج وعجز عن بعضها كالرمي -مثلاً- وكَّل فيه، وسقط عنه لعجزه، ويقال في سائر الأفعال: إن الاستطاعة تكون قبل الفعل، ولا يخاطب بها إلا من كان مستطيعاً قبل مزاولة الفعل، وتكون في أثناء الفعل أيضاً. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 6 بطلان القول بأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل قول من قال: الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل: قول باطل؛ وذلك لأنه لو كان كذلك لم يكن الإنسان مكلفاً حتى يفعل، فلا يكون على القادر توبيخ، إذا كان الإنسان قادراً على الحج ولكنه تركه، وقال: أنا غير مكلف حتى أقدر، قلنا له: أنت مكلف من الآن؛ لأنك موصوف بالقدرة بدنياً ومالياً، فيلزمك أن تباشر الفعل، وهكذا الإنسان الصحيح البدن الذي يسمع النداء للصلاة ولا عذر له، ويستطيع أن يأتي إلى المساجد فيؤدي الصلاة فيها، فهل يقال له: أنت لا تستطيع حتى تباشر الفعل؟ أنت غير مكلف إلى أن تبدأ في الفعل؟ لو قيل ذلك لسقطت كثير من العبادات، لو قيل مثلاً: أنت لست بمكلف ما دمت في بيتك حتى تبدأ في مباشرة الفعل؛ لاعتذر الكثير، وقالوا: لا نكون قادرين إلا إذا باشرنا، فهذا قول لا يقوله عاقل. ولو كان كذلك لاعتذر كثير من الناس عن العمل، فلو قيل له في النكاح: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) ، فلا يقول: أنا لا أستطيع، ما معنى الاستطاعة هنا؟ هل يقال: أنت لا تستطيع حتى تدخل بالزوجة؟ إذا رأيناه يملك المال وعنده الأهلية، قلنا: أنت مستطيع أن تتزوج، فلو قال مثلاً: ما دمت لم أتزوج، فأنا لي رخصة في أن أترك الزواج، قلنا: هذا خلاف العقل. وقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:25] رخصة في أن يتزوج الأمة المملوكة إذا لم يستطع طول الحرة، فهل هذه الرخصة لا تكون إلا لمن عجز بعد الفعل؟ نقول: ليس كذلك، بل إذا رأيناه ذا مال يقدر على مهر الحرة، منعناه أن يتزوج الأمة، وقلنا: لا تحل لك، قد يقول: ما دمت لم أتزوج فأنا غير مستطيع، نقول: أنت الآن مستطيع، الطول هو المال، والمال موجود عندك، وهكذا يقال في أنواع الاستطاعة. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 7 بطلان مذهب الجهمية في الاستطاعة الجهمية قالوا: إن العبد ليس له حركة، وحركاته ليست اختيارية، بل اضطرارية، ويُسمون المجبرة، فهؤلاء سلبوا العبد قدرته، وسلبوه اختياره، وجعلوا حركات يديه أو ركوعه أو سجوده أو جنايته أو سكره أو نحو ذلك اضطراراً إجباراً ليس له أي اختيار، وقالوا: إنما هو بمنزلة أغصان الشجرة التي تحركها الرياح، وبمنزلة حركة المرتعش الذي ترتعش يداه ولا يقدر على إمساكها، هكذا جعلوا حركاته! فجعلوا طاعاته ومعاصيه خارجة عن استطاعته، وليس له أي اختيار، وأبطلوا بذلك الأوامر والنواهي، وأبطلوا بذلك الشريعة كلها، ومع ذلك فإنهم متناقضون، وقد مر بنا كثير من تناقضهم؛ وذلك لأنك لو ضربت أحدهم، واحتججت بالقدر؛ ما عذرك في ضربك، ولا تركك تضربه، فكذلك أيضاً نقول: لا تحتج بالقدر على فعل المعاصي وترك الطاعات، بل عليك أن تزاول الفعل بقدر استطاعتك التي منحك الله، فالله أعطى الإنسان استطاعة بها يزاول الأفعال، ولولا تلك الاستطاعة لما حصل تكليف بهذه العبادات وبهذه الأفعال، ولو نفيت لبطلت الشريعة. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 8 بطلان مذهب المعتزلة في الاستطاعة الجهمية يجعلون أفعال العباد الصادرة منهم ليس لهم فيها أي اختيار، بل هم مضطرون إليها، وأما المعتزلة فمذهبهم أن العبد هو الذي يخلق فعله، وليس لله قدرة على أفعال العبد، فجعلوا العبد مستقلاً بفعله، ونفوا قدرة الله عليه، ونفوا الأدلة التي تدل على ذلك، فقالوا: إن الله لا يقدر أن يهدي ولا أن يضل، بل العبد هو الذي يهدي نفسه أو يضل نفسه، وجعلوا للعباد الاختيار لا لله تعالى، وأبطلوا قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] ، وأبطلوا عموم قول الله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] ، وقالوا: لا يقدر إلا على ما يشاء، لا على كل شيء، وهكذا قالوا في كل ما هذا سبيله. فنقول: لا شك أن هذا قول باطل لا يمكن أن يصدر من عاقل؛ وذلك لأنا نؤمن بقدرة الله، ونؤمن بعمومها، ولا ينافي ذلك أنه أعطى العباد قدرة يزاولون بها أعمالهم أصبحوا بها مكلفين، يثابون على الخير، ويعاقبون على الشر، ولكن تلك القدرة مغلوبة بقدرة الله، فقدرة الله غالبة على قدرتهم، وإرادته غالبة على إرادتهم. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 9 أدلة ثبوت الاستطاعة قال رحمه الله: [وأما دليل ثبوت الاستطاعة التي هي حقيقة القدرة، فقد ذكروا فيها قوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20] والمراد: نفي حقيقة القدرة لا نفي الأسباب والآلات؛ لأنها كانت ثابتة، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) -إن شاء الله تعالى- وكذا قول صاحب موسى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} [الكهف:67] ، وقوله: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} [الكهف:72] ، والمراد منه: حقيقة قدرة الصبر لا أسباب الصبر وآلاته، فإن تلك كانت ثابتة له، ألا ترى أنه عاتبه على ذلك؟ ولا يلام من عدم آلات الفعل وأسبابه على عدم الفعل، وإنما يلام من امتنع منه الفعل لتضييعه قدرة الفعل؛ لاشتغاله بغير ما أمر به، أو شغله إياها بضد ما أمر به، ومن قال: إن القدرة لا تكون إلا حين الفعل يقولون: إن القدرة لا تصلح للضدين، فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل، وهي مستلزمة له لا توجد بدونه] . معلوم أن الإنسان معه قدرة عامة، ولكن قد يغلب تلك القدرة والاستطاعة ما يفوتها عليه، ففي قصة موسى والخضر أن الخضر: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف:67-68] ، ولكن موسى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} [الكهف:69] ، ومع ذلك لم يستطع الصبر؛ لأنه رأى ما أنكره، ففي المرة الأولى لما خرق السفينة لم يستطع أن يصبر؛ لأنه رأى شيئاً عجباً فلم يستطع أن يصبر، ثم أخبره الخضر بأنه أراد عيبها حتى لا تؤخذ منهم، ولما رآه قتل غلاماً بغير ذنب لم يصبر أن ينكر عليه، ولكن لم يعلم عاقبة هذا الغلام، وأنه طبع كافراً، فلم يستطع الصبر مع كونه قادراً أن يمسك نفسه، ولما بنى الخضر الجدار في تلك القرية التي لم يضيفهما أهلها استنكر ذلك، كيف أنهم لم يضيفونا! ومع ذلك تقيم جدارهم؟ فلم يستطع أن يصبر، وهو قادر على ذلك. إذاً: قوله: ((لَنْ تَسْتَطِيعَ)) ليس المراد لا تستطيع بدنياً، ولا تستطيع عقلاً، بل هو يقدر، لكنك إذا رأيت شيئاً تستنكره وتستقبحه؛ فالعادة أنك تندفع، ولو كنت لا تدري ما عاقبته، هذا معنى الاستطاعة في هذا الباب، وبلا شك أن هذه الاستطاعة مقدورة، ولو لم تكن مقدروة لما قال موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} [الكهف:69] ، فأفاد بأنه قادر وأن عنده استطاعة. والاستطاعة تكون مالية، مثل استطاعة الذي يريد الحج ونحوه، أو تجب عليه نفقة أقاربه، وتكون بدنية كاستطاعة صوم الكفارات ونحوها، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة:4] ، في كفارة الظهار، وفي كفارة القتل، يعني من لم يستطع العتق، وهو استطاعة مالية، والصيام استطاعة بدنية محضة، وقال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة:4] يعني: من لم يستطع صوم الشهرين الذي هي استطاعة بدنية لعذر من الأعذار. فيقال في القدرة: الله تعالى قدرته عامة، وجعل للعباد قدرة على مزاولة أعمالهم، وأما الآية التي بدأ بها الشارح هنا، وهي قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20] ، فمعلوم أنهم لهم أسماع ولهم أبصار، ولكن كانوا ينفرون من هذا الشيء فلا يستطيعون أن ينصتوا ويستمعوا له، وكذلك لا يستطيعون مقابلته، وفي إمكانهم أن يجلسوا ويستمعوا، ولكن الدوافع تدفعهم، قد ذكر الله مثل ذلك عن المشركين في قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5] ، ومعلوم أن هذا ليس بظاهر، فقلوبهم كقلوب غيرهم، ولكن كأنهم يقولون: كلامك لا يدخل في قلوبنا ولا يدخل في أسماعنا، ولو سمعناه لم نتأمله ولم نتعقله ولا ننظر إليه نظر الاعتبار، فهل يقال: إنهم عاجزون عن الاستماع؟ ليسوا عاجزين، فكذلك قوله: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) ، هم قادرون على السمع، ولكن ينفرون منه، وهذه النفرة من الحق بسبب وسوسة الشيطان. فالآن -مثلاً- كثير من أهل البدع لا يستطيعون أن يستمعوا النصائح التي تخالف بدعهم، إما أنهم لا ينصتون لها، وإما أنهم إذا حضروها أخذوا يتكلمون، كما في قول المشركين: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26] ، وإما أن يهربوا ويخرجوا ويبتعدوا، كما حكى الله عن نوح أنه قال: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح:7] ، كأنهم يقولون: إذا سمعناه نخشى أن يدخل في قلوبنا شيء فيعلق بها، وهكذا يقوله كثير من المبتدعة الآن، كما يحكي لنا بعض الإخوة الذين ذهبوا إلى نجران وألقى محاضرة تتعلق بالسنة وعقيدة أهل السنة، وكان الغالب على أهل المسجد أنهم من المكارمة الذين هم الإسماعيلية، فلما جلسوا يستمعون جاء مشايخهم وأخذوا يقيمونهم واحداً واحداً واحداً مخافة أن يقع في أسماعهم أو يصل إلى قلوبهم شيء يغير معتقداتهم، فهم -ولو كان الكلام حقاً- لا يقبلونه، ليس معهم قدرة ولا استطاعة على أن يقولوا: نستمع وننظر: إن كان حقاً فإنا نقبله، وإلا لم يضرنا سماعه، بل يبتعدون عنه. وهكذا أخبرنا بعض الإخوة الذين جلسوا مدة قصيرة يدرسون في المرحلة المتوسطة في القطيف، أنه اتفق مع طلابه وهم كلهم شيعة على أن يتجادل معهم بالقرآن وبصحيح السنة، ولما عزموا على المجالسة، وهم يعتقدون أنهم سيغلبونه، جلسوا معه مرة أو مرتين، وكأن آباءهم أحسوا بشيء من التغير في معتقدهم، فما كان منهم إلا أن رحلوه، وقالوا: ابتعد عن بلادنا، ولا تعد تدرس في بلادنا ولا تدرس أولادنا! لماذا؟ هل كانوا لا يستطيعون أن يسمعوا منه، مع أنه إنما كان يبين معاني الآيات والأحاديث ونحوها؟ نقول: هم يستطيعون أن يسمعوا، قال الله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} معلوم أنهم لهم قدرة على ذلك، ولكن هناك ما يدفعهم، ويحول بينهم وبين هذا الاستماع، فالاستطاعة أصلاً موجودة، ولكن هناك ما يدفعها عن أن تكون مؤثرة أو تصل إلى أصلها. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 10 الرد على القدرية قال رحمه الله: [وما قالته القدرية بناء على أصلهم الفاسد، وهو إقدار الله للمؤمن والكافر والبر والفاجر سواء فلا يقولون: إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان، بل هذا بنفسه رجح الطاعة، وهذا بنفسه رجح المعصية، كالوالد الذي أعطى كل واحد من بنيه سيفاً، فهذا جاهد به في سبيل الله، وهذا قطع به الطريق. وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر، فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع نعمة دينية خصه بها دون الكافر، وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] ، فالقدرية يقولون: هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق، وهو بمعنى: البيان وإظهار دلائل الحق، والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمن؛ ولهذا قال: (أولئك هم الراشدون) والكفار ليسوا راشدين، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125] ، وأمثال هذه الآية في القرآن كثير، يبين سبحانه أنه هدى هذا وأضل هذا، قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [الكهف:17] ، وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان إن شاء الله تعالى] . رد الشارح على القول الذي حكاه عن المعتزلة؛ لأنه حكى في أول الكلام ثلاثة أقوال: القول الأول: قول الجبرية الذين يقولون إن العبد مجبور، وليس له اختيار، وأنه بمنزلة الشجرة التي تحركها الرياح، فهو مدفوع إلى الزنا، وهو مدفوع إلى الربا، وهو مدفوع إلى السكر، وهو مدفوع إلى الصلاة، وليس له أي اختيار!! والقول الثاني: قول المعتزلة: وهو أن العبد هو الذي يخلق فعله ويزاوله، وليس لله أية قدرة على فعله!! والقول الثالث: قول أهل السنة: وهو أن للعبد قدرة واختياراً، ولكنها مغلوبة بقدرة الله وباختياره، فهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهدايته للمؤمنين تعتبر فضلاً منه وكرماً، وإضلاله للكافرين يعتبر عدلاً منه بدون ظلم، قال الله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ، وكذلك امتن على هؤلاء، وعلم أنهم أهل للفضل وأهل للنعمة وأهل للهداية؛ فهداهم وسددهم. أما الجبرية فعندهم أنه ليس له أي اختيار، بل هو بمنزلة المرتعش، والمعتزلة عندهم ليس لله أية قدرة، بل العبد هو الذي يضل نفسه، وهو الذي يهدي نفسه، ونفوا مدلول الآيات: {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر:36-37] . وقد عرفنا الرد عليهم بمثل هذه الآيات: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125] ، هذا أنعم عليه، وهذا خذله، وإنعامه على هذا يعتبر فضلاً، ويعتبر خذلانه لهذا عدلاً: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع الجزء: 68 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [69] لا يزال المنحرفون في القدر يجادلون عن انحرافهم، ولو وقفوا مع أنفسهم وأخضعوها لنصوص الكتاب والسنة لعلموا حكمه وسلموا لأمره. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 1 مراتب الإيمان بالقدر الإيمان بالقدر من أركان الإيمان، وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: القدر قدرة الله، وهذه كلمة لها أهميتها، بمعنى: أن من آمن بقدرة الله، وأن الله على كل شيء قدير، صدق بالقدر خيره وشره. ويدخل في القدر تقدير الأشياء قبل وقوعها، ويدخل فيه كتابتها قبل أن تخلق وتوجد، ويدخل فيه إرادة كل ما يحدث ومشيئته العامة، ويدخل فيه خلقها وإيجادها وتكوينها، وأنها لا تكون إلا بإرادة الله وبخلقه وبتقديره وتكوينه، وهذه تسمى مراتب القدر، وهي أربع: الأولى: العلم. الثانية: الكتابة. الثالثة: الإرادة. الرابعة: الخلق. فيؤمن العباد بهذه المراتب الأربع، ومن كذب بشيء منها نقص إيمانه بالقدر، وقد أنكر العلم الأزلي السابق طوائف من الغلاة، وهم الذين يقول فيهم الإمام الشافعي رحمه الله: ناظروهم بالعلم؛ فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا. أي: سلوهم: أتقرون بأن الله تعالى موصوف بالعلم؟ وبأنه بكل شيء علم؟ فإذا اعترفوا بذلك خصموا، ويقال لهم: ما الفرق بين علم الماضي وعلم المستقبل؛ فكله داخل في العلم، وفي أن الله بكل شيء عليم، فإذا علم ما قد مضى فلا يخفى عليه ما هو آتٍ. وأما الخلق والتكوين فإنه يدخل في الإيمان بقدرة الله، فإذا كنا نؤمن بأن الله على كل شيء قدير، فلابد أن يدخل في هذه القدرة كل ما في الكون، لا يخرج عن قدرة الله شيء من الوجود ومن الحركات التي تكون في هذا الكون، بل كلها كائنة بقدرة الله، وبمشيئته وبخلقه وتكوينه، فلا يكون في الوجود ما لا يريد، ونعتقد أن ربنا سبحانه أعطى الإنسان قدرة على مزاولة أعماله، فللعباد قدرة على أفعالهم، ولهم إرادة، وقدرة الله غالبة على قدرتهم، وإرادته غالبة على إرادتهم، فإذا أراد الله شيئاً فلابد أن يكون، وهذا معنى قول شيخ الإسلام في شعر له: فما شئت كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن وهذا أيضاً معنى الحديث الذي فيه: (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن) . الجزء: 69 ¦ الصفحة: 2 إثبات قدرة العباد على أفعالهم للعباد قدرة تناسبهم، وبهذه القدرة أصبحوا مكلفين، وبها أصبحوا مأمورين ومنهيين، ولو سلبت عنهم هذه القدرة لسقطت عنهم التكاليف؛ ولهذا تسقط التكاليف عن العاجز، وينفى عنه الحرج، فلا يكلف إلا ما يطيق، فمن فقد العقل لم يكن إلى إفهامه من سبيل، فلا يكلف، ومن فقد البصر لم يكلف بالغزو وبالقتال، وكذا العاجزون ونحوهم. يقول تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة:91] يعني: إذا تخلفوا عن الجهاد؛ لأنهم لا يستطيعونه، فدل على أن غيرهم عليهم حرج؛ لأن معهم استطاعة، وإن كانت تلك الاستطاعة مخلوقة لله، وداخلة تحت قدرته. وبكل حال، فالاستطاعة التي منحها الله الإنسان هي التي في إمكانه أن يزاول بها الأعمال، مع أنها داخلة في خلق الله تعالى، والله سبحانه لا يكلفهم إلا ما في قدرتهم واستطاعتهم، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، فلهذا أسقط الحج عن غير المستطيع، بل جعل فرضه على من استطاع إليه سبيلاً، وكذلك أسقط ما يعجز عنه الإنسان أو يشق عليه، فرخص للمسافر في أن يفطر؛ لأن عليه مشقة، وكذلك المريض له أن يفطر ويقضي؛ لما في الصيام عليه من الصعوبة، وهكذا في سائر العبادات التي يعجز عنها العبد، فالقدرة والاستطاعة التي أعطاها الله الإنسان هي ما منحه الله وما أودعه فيه، وما قواه به، وإن كان ذلك كله داخلاً في عموم قدرة الله سبحانه. قد مر بنا أن الاستطاعة التي نفيت هي ما لا يدخل في مقدور الإنسان، كما نفي في قول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] ، أي: لا يكلفها بغير ما أعطاها، {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:233] . الجزء: 69 ¦ الصفحة: 3 الرد على من نفى القدرة على الفعل أثناء فعله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فقول القائل: يرجح بلا مرجح، إن كان لقوله: يرجح معنى زائد عن الفعل، فذاك هو السبب المرجح، وإن لم يكن له معنى زائد، كان حال الفاعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل، ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح، وهذا مكابرة للعقل. فلما كان أصل قول القدرية: إن فاعل الطاعات وتاركها كليهما في الإعانة والإقدار سواء، امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصه؛ لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك، وإنما تكون للفاعل، ولا تكون القدرة إلا من الله تعالى، وهم لما رءوا أن القدرة لابد أن تكون قبل الفعل، قالوا: لا تكون مع الفعل؛ لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك، وحال وجود الفعل يمتنع الترك؛ فلهذا قالوا: القدرة لا تكون إلا قبل الفعل. وهذا باطل قطعاً، فإن وجود الأمر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع، بل لابد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجوداً عند الفعل، فنقيض قولهم حق: وهو أن الفعل لابد أن يكون معه قدرة، لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين، حزب قالوا: لا تكون القدرة إلا معه، ظناً منهم أن القدرة نوع واحد لا يصلح للضدين، وظناً من بعضهم: أن القدرة عرض فلا تبقى زمانين، فيمتنع وجودها قبل الفعل. والصواب: أن القدرة نوعان كما تقدم: نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي، وهذه تحصل للمطيع والعاصي، وتكون قبل الفعل، وهذه تبقى إلى حين الفعل، إما بنفسها عند من يقول ببقاء الأعراض، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول: إن الأعراض لا تبقى زمانين، وهذه قد تصلح للضدين، وأمر الله مشروط بهذه الطاقة، فلا يكلف الله من ليس معهم هذه الطاقة، وضد هذه العجز كما تقدم] . الشارح يناقش بعض المبتدعة الذين يقولون: إن القدرة على الفعل تسبق فعله، وتسبق مزاولته، ولا تصحبه حالة وجوده، فيقولون -مثلاً-: إن الإنسان الذي عنده مال، وتمت قوته وقدرته على الإتيان بالحج، إذا تمت أصبح مكلفاً، ولا تكون القدرة حالة مزاولته للعمل، وحالة سفره، وحالة إحرامه وطوافه وسعيه ووقوفه ورميه ونحو ذلك، يقولون: لا تشترط القدرة ولا القوة في هذه الحالات، وما ذاك إلا أنها شرطت في أول الأمر، وزالت الحاجة إليها بعد ذلك، فلا حاجة إلى وجودها وبقائها حالة مزاولة الفعل. ويقولون كذلك أيضاً في سائر العبادات كصلاة الجماعة -مثلاً-: إذا أمن على نفسه، وكان معه قدرة وقوة، وكان صحيح البدن ليس فيه مرض، وليس بخائف، وجب عليه أن يصلي مع الجماعة، فإذا ابتدأ في الصلاة -مثلاً- أو دخل المسجد أو أقيمت الصلاة فلو زالت القدرة لم تضر، ولا تشترط القدرة ولا وجودها حالة مزاولة الصلاة، هذا تقرير قولهم. ولا شك أن القدرة والقوة على الفعل لابد من وجودها قبل الفعل وفي حالة وجود الفعل، فإن الإنسان مثلاً مأمور بأن يصلي قائماً، فلو صلى ركعتين من الظهر -مثلاً- قائماً، ثم عجز، رخص له أن يجلس ويتم جالساً، فدل على أن القدرة مشترطة حالة الفعل من أوله إلى آخره، ولو أن إنساناً تجهز للحج، ولما قطع نصف الطريق -مثلاً- عجز وقلت نفقته أو حصل له خوف أو مرض أو نحو ذلك؛ لجاز له أن يرجع ويؤجل الحج؛ لأن القدرة لم تبقَ معه، بل حدث ما يضادها، وهكذا بقية الأعمال. لكن قد يستثنى منها بعض الأعمال، فإذا تم الحول على المال ووجبت فيه الزكاة؛ تعلقت بذمة المالك، فلو تلف المال بقيت الزكاة في الذمة؛ وذلك لأنه فرط حيث أخر إخراجها، وهناك من يقول: إنها تسقط عنه، بمعنى أنه لو حصد زرعه وجمعه، وقبل أن يخرج زكاته احترق كله، أو حملته الرياح وفرقته، فالصحيح أنه لا يلزمه زكاة؛ وذلك لأنها وجبت مواساة، ومن أين يواسي ما دام أن المال الذي وجبت فيه قد تلف؟! وهكذا مثلاً: لو تم حول نصاب الماشية السائمة، ولما تم الحول ماتت كلها -مثلاً- أو لم يبقَ منها إلا أقل من النصاب، سقطت الزكاة عنها، لأنه أصبح من غير أهل الزكاة. وكذلك الإنسان إذا صام نصف النهار، حيث أصبح وهو قادر وعنده القوة وعنده الاستطاعة على إتمام صيام ذلك اليوم، ولكن في أثناء النهار أصابه مانع شديد منعه من الإتمام، جاز له أن يفطر، ويقضي ذلك اليوم؛ لأنه أصبح من غير أهل الاستطاعة. فتبين بهذا أن الاستطاعة التي أمرنا الله بها في قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] أن المراد بها الاستطاعة التي قبل الفعل والتي مع الفعل، فقبل الفعل يكون نشيطاً قوياً قادراً على أن يكمل الفعل، ومع الفعل يحصل منه أنه قادر على إتمامه من أوله إلى آخره، فإذا لم يكمله فهو معذور، فهذا توضيح قول أهل السنة، ولا يلتفت إلى قول هؤلاء الذين يقولون: إن القدرة تشترط قبل الفعل ولا حاجة إلى اشتراطها ولا إلى لزومها حالة مزاولة الفعل، وما ذاك إلا أنهم متناقضون. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 4 لا يكلف الله العباد إلا ما في وسعهم قال رحمه الله: [وأيضاً: فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون ما يتصور الفعل مع عدمها، وإن لم يعجز عنه، فالشارع ييسر على عباده ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة المرض وتأخر برئه، فهذا في الشرع غير مستطيع؛ لأجل حصول الضرر عليه, وإن كان قد يسمى مستطيعاً، فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإذا كان الفعل ممكناً مع المفسدة الراجحة، لم تكن هذه استطاعة شرعية، كالذي يقدر على الحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله، أو يصلي قائماً مع زيادة مرضه، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ونحو ذلك، فإذا كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة، فكيف يكلف مع العجز؟ ولكن هذه الاستطاعة مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل، ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل، بل لابد من إحداث إعانة أخرى تقارن مثل جعل الفاعل مريداً فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة وإرادة، والاستطاعة المقارنة يدخل فيها الإرادة الجازمة، بخلاف المشروطة في التكليف، فإنه لا يشترط فيها الإرادة. فالله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده، لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه، وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض، فالإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد، لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد، وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة، لزم وجود الفعل، وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق، فإن من قال: القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول: كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق. وما لا يطاق يفسر بشيئين: بما لا يطاق للعجز عنه، فهذا لم يكلفه الله أحداً، ويفسر بما لا يطاق للاشتغال بضده، وهذا هو الذي وقع فيه التكليف، كما في أمر العباد بعضهم بعضاً، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا، فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف، ويأمره إذا كان قاعداً أن يقوم، ويعلم الفرق بين الأمرين بالضرورة] . هذه تعتبر أمثلة لما تقدم من أن الله تعالى لا يكلف العباد إلا ما في وسعهم وما في إرادتهم وما تصل إليه قدرتهم، وما لا مشقة عليهم فيه، وإن كانوا قد يستطيعون فعل بعض الأشياء التي أسقطت عنهم، لكن مع مشقة تلحقهم، فالمشقة تجلب التيسير، وقد نفى الله الحرج في هذه الشريعة، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، ولما ذكر أنه يجوز لهم استعمال التراب عند فقد الماء أو عند الخوف من استعماله لمرض ونحوه، قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة:6] ، ولما أباح لهم الفطر في رمضان للسفر وللمرض، قال بعد ذلك: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، فإن المسافر الذي يشق عليه الصيام، ولكنه يستطيعه، وإذا صام انقطع عن العمل، وانقطع عن خدمة نفسه، واحتاج إلى أن يخدمه رفقته، واحتاج إلى أن يظلل عليه، ويرش بالماء لشدة جهده، فهذا قد يقول: إني أطيق، فنقول: ما فاتك أشد وأعظم، حيث إنك أعوزت غيرك إلى أن يخدموك، وإلى أن يقوموا عليك، وأبطلت مصالح نفسك، واحتجت إلى من يخدمك، ولو كنت تستطيع أن تكمل يومك. وكذلك المريض، لو قال: أنا أستطيع أن أصوم مع المرض، ولكن المرض يزداد مع هذا الصيام ويشتد، وتكلف صاحبه الصيام، نقول: إنه قد كلف نفسه، وله رخصة وإن كان يستطيع الصيام، ولو قال الفقير: أنا أستدين وأحج وأصبر على الديون التي أتحملها في ذمتي، نقول: إنك قد كلفت نفسك ما فيه مشقة؛ لأنك لست على يقين بأنك تقدر على وفاء هذه الديون التي تتحملها، أو أنك -مثلاً- في سفرك قد تضيع أهلك، وقد تعوزهم إلى أن يتكففوا الناس؛ لأنك أنت الذي تتكسب لهم، وتنفق عليهم من كسبك، فإذا سافرت عنهم أدى ذلك إلى أنهم يحتاجون، ويسألون الناس، (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) ، فيسقط عنك الحج في هذه الحالة إذا لم تجد ما ينفقه أهلك على أنفسهم حتى ترجع. وهكذا أيضاً: المصلي الذي أبيح له أن يصلي جالساً، لو قال: باستطاعتي أن أصلي قائماً، وكان القيام يزيد في المرض، ويؤخر البرء والشفاء، فنقول: لست بمكلف، وأنت غير مستطيع، والذي يعجزه القيام يجزئه الجلوس، ويكون أجره كأجر القائم سواء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) ، ولو كانت الاستطاعة قد تحصل، ولكن مع نوع من المشقة، وبكل حال فالمشقة التي نفاها الله تعالى هي التي فيها صعوبة على العباد، وهي من جملة ما لم يكلفوا به: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، فإذا كان على العباد شيء من الضيق ومن الحرج ومن الشدة، فإن ذلك يجلب لهم الرخصة في أمورهم عامة، وفي هذا الأمر خاصة. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 5 أفعال العباد مخلوقة لله تعالى قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد) : اختلف الناس في أفعال العباد الاختيارية: فزعمت الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان الترمذي: أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى، وهي كلها اضطرارية كحركات المرتعش، والعروق النابضة، وحركات الأشجار، وإضافتها إلى الخلق مجاز، وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصله. وقابلتهم المعتزلة، فقالوا: إن جميع الأفعال الاختيارية من جميع الحيوانات بخلقها لا تعلق لها بخلق الله تعالى، واختلفوا فيما بينهم أن الله تعالى يقدر على أفعال العباد أم لا. وقال أهل الحق: أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة لله تعالى، والحق سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه. فالجبرية غلوا في إثبات القدر فنفوا صنع العبد أصلاً، كما غلت المشبهة في إثبات الصفات، فشبهوا، والقدرية -نفاة القدر- جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى؛ ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة، بل أردأ من المجوس، من حيث إن المجوس أثبتت خالقَينِ وهم أثبتوا خالقِينَ، وهدى الله المؤمنين أهل السنة والجماعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فكل دليل صحيح يقيمه الجبري فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل في الحقيقة، ولا مريد ولا مختار، وأن حركاته الاختيارية بمنزلة حركة المرتعش، وهبوب الرياح، وحركات الأشجار. وكل دليل صحيح يقيمه القدري، فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأنه مريد له مختار له حقيقة، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى، وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته. فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى؛ فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن، وسائر كتب الله المنزلة من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم، وهذا هو الواقع في نفس الأمر، فإن أدلة الحق لا تتعارض، والحق يصدق بعضه بعضاً ويضيق هذا المختصر عن ذكر أدلة الفريقين، ولكنها تتكافأ وتتساقط، ويستفاد من دليل كل فريق بطلان قول الآخرين، ولكن أذكر شيئاً مما استدل به كل من الفريقين، ثم أبين أنه لا يدل على ما استدل عليه من الباطل] . تكلم الشارح هنا على أفعال العباد، ذكر الطحاوي أن أفعال العباد خلق الله وكسب العباد، لكن الجبرية لم يثبتوا للعباد فعلاً، وإنما أثبتوا لهم كسباً، يعني: أنهم هم الذين زاولوها، وهم الذين عملوها، وإليهم تنسب، فالعبد يوصف بأنه الذي صلى وأنه الذي صام، ولا يقال: خلق الله فيك الصوم ولا خلق الله فيك الصلاة، ولا خلق الله فيك القتل، أو الشرك أو الزنا أو أكل الحرام، بل يقال: أنت المصلي والصائم وأنت الصادق أو الكاذب، وأنت المؤمن أو الكافر، وأنت البر أو الفاجر، وأنت العامل للصالحات أو العامل للسيئات، أنت المحسن أو أنت المسيء، أنت الذي صبرت أو جزعت، أنت الذي تشجعت أو جبنت، يوصف العبد بهذه الأفعال، ولو كانت خلق الله، فالله تعالى خالق كل شيء، وهو الذي أرادها، وهو الذي أوجدها، ولو شاء لما آمن أحد، ولو شاء لما كفر أحد، ولكنه تعالى أعطى العبد قدرة يزاول بها هذه الأعمال فيصبح من أهل الأعمال وتنسب إليه، هذا هو الذي تكلم عليه الطحاوي، والأشاعرة لا يثبتون للعبد فعلاً، وقولهم قريب من قول الجبرية إلا أنهم يثبتون للعبد كسباً، ثم يضعفون ذلك الكسب، ولا يجعلون له تأثيراً، فأصبح الكسب الذي أثبتوه ليس له حقيقة، وفي هذا يقول بعضهم: مما يقال ولا حقيقة تحته معلومة تدنو من الأفهام الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام يعني: أن هذه الثلاثة لا حقيقة لها أصلاً، الكسب عند الأشعري لا حقيقة له، وقد يثبت الكسب ومع ذلك ينفي قدرة العبد، والحال عند البهشمي معناه: أنه لا يثبت للحال حقيقة، وطفرة النظام الذي هو أحد المعتزلة، فإنه اعتقدها وذهب إليها ولا حقيقة لها. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 6 مذاهب الناس في الأفعال الشارح رحمه الله ذكر أن للناس في الأفعال ثلاثة مذاهب: مذهب باطل وهو مذهب الجبرية، ويقابله مذهب باطل أيضاً، وهو مذهب نفاة قدرة الله. ومذهب حق، وهو إثبات قدرة الله وإثبات قدرة العبد التي تناسبه. فالأول الذي قال أهله إن العبد ليس له قدرة أصلاً، هو قول الجبرية الذين يقولون إن العبد مجبور على أفعاله، وليس له أي اختيار، بل أفعاله وحركاته بمنزلة حركات المرتعش الذي ترتعش يده ولا يقدر على إمساكه، أو بمنزلة العروق النابضة التي تتحرك ولا يقدر على إمساكها، أو حركاته بمنزلة حركات الأشجار التي تحركها الرياح، وهؤلاء الجبرية رئيسهم الجهم بن صفوان؛ فهو أول من قال إن العباد ليس لهم قدرة، وليس لهم اختيار، بل هم مجبورون على الفعل. وهؤلاء يقولون: إن الله إذا عذب الخلق فإنه ظالم لهم؛ لأنه الذي خلق فيهم المعصية، وقالوا: كيف يخلق فيهم الذنب كالشرك والقتل والزنا والحرام وما أشبه ذلك ثم يعاقبهم على ذلك؟! فيعتبرون هذا ظلماً من الله تعالى، مع أن الله قد نفى الظلم بقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] . حتى قال قائلهم -كما ذكره ابن القيم في بعض كتبه-: ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء يقولون: مثل العاصي الذي يجبر على المعصية مثل إنسان ألقي في البحر وقد أوثقت يداه وقيل له: لا يبلك الماء! وهو لا يستطيع الحركة، ومع ذلك ألقي في البحر. ويقولا ابن القيم في ميميته: وعند مراد الله تفنى كميت وعند مراد النفس تسدي وتلحم وعند خلاف الحق تحتج بالقدر ظهيراً على الرحمن للجبر تزعم يقول: إن هؤلاء متناقضون، فإنه إذا كان المراد للنفس فإن أحدهم يسدي ويلحم ويأتي الأمور من طولها وعرضها، ولا يتوقف جهده على الشيء المراد، بل يبذل كل ما في وسعه، وأما إذا قيل له إن الله أمرك بكذا ونهاك عن كذا، فإنه يتقاعس ويتكاسل، وإذا وقع منه الذنب قال هذا مكتوب عليّ، وهذا ليس لي فيه اختيار، فيحتج بالقدر، ويحتج بالقضاء، ويزعم أنه مجبور على ذلك، وهذا هو فعل الجبرية الذين يزعمون أن العبد مجبور على فعله. وتقدم واحد منهم إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو في مجلس وحوله تلامذته، فألقى عليه أبياتاً يقول في أولها: أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلوه بأوضح حجة ويقول فيها: دعاني وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل بينوا لي حجتي يقول: إنما مثلي كمثل إنسان دعاني، ثم سد الباب وأقفله دوني، وضربني وقال: لماذا لا تدخل؟ وكيف أدخل وقد أوصد الباب؟ فرد عليه شيخ الإسلام بأبيات مشهورة مكتوبة مطبوعة، وقد شرحها الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، في أولها قوله: سؤالك يا هذا سؤال معاند مخاصم رب العرش باري البرية وتدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طراً معشر القدرية سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا به للشريعة واستمر في ذكر ما يتناقضون فيه وذكر أنهم يتناقضون؛ وذلك أن أحدهم إذا لامه لائم على فعل فإنه يحتج بالقدر، ولكن لا يحتج بالقدر إذا كانت المصلحة له، فهو إذا كانت المصلحة له في طلب معيشة وفي طلب رزق، فإنه يبذل قصارى جهده، فيقال له: لماذا لا تجلس في بيتك وتترك التكسب؟ ولماذا لا تترك الأكل؟ ولماذا لا تقول: إن كان الله أراد لي حياة فإني سأحيا وإن لم آكل؟ ولماذا تلبس الثياب في الصيف لتتقي الحر، وفي الشتاء لتتقي البرد؟ ولماذا تتزوج تطلب الولد؟ ولماذا تطلب الثمر؟ وهكذا، فأنت تفعل هذه الأفعال وطلب المعيشة فكذلك نقول: لماذا لا تعمل أعمالاً صالحة تؤهلك لدخول الجنة؟! ولماذا لا تترك الأعمال التي تؤهل لدخول النار؟ إذاً: فأنت معك قدرة ومعك استطاعة على مزاولة الأعمال. ذكروا أن سارقاً أُتي به إلى عمر رضي الله عنه، فقال: هذا شيء قدره الله، فقال عمر رضي الله عنه: (سرقت بقدر الله، ونقطع يدك بقدر الله) . ولما توجه عمر إلى الشام ذكر له أن الشام قد وقع فيها الطاعون، فعزم على أن يرجع بمن معه إلى المدينة، فقال له أبو عبيدة: (أفراراً من قدر الله؟ فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله) أي: الله تعالى قدر لنا أن نرجع، فهو كتب علينا هذا، ولم يكتب علينا أننا نقدم على هذا الوباء. واستدل أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) . وبكل حال هذه أقوال هؤلاء الطائفة، ولهم حجج طويلة اختصرها الشارح. أما الطائفة الثانية الذين هم المعتزلة فبلا شك أن قولهم أشد بطلاناً، ولعله يأتي ما يبينه عندما يتكلم المؤلف على أدلتهم، والله أعلم. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الطحاوية [70] القدر مرجعه إلى الله تعالى، وقد خالف الحق فيه طرفان: طرف عطل الرب عن خلق الأفعال، وطرف جعل العبد مجبراً ليس له قدرة ولا اختيار، وذلك كله لا يصلح للمسلم اعتقاده. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 1 وجوب الإيمان بالقدر مذهب أهل السنة هو الإيمان بالقدر، وقد ذكرنا قول الإمام أحمد: (القدر قدرة الله) وأراد بذلك الرد على القدرية الذين ينكرون قدرة الله على كل شيء، ويخرجون كل الأفعال عن خلق الله تعالى، وقد أشبهوا بذلك المجوس. فالمجوس يجعلون للكون خالقين، والقدرية يجعلون مع الله من يخلق، وقد تقدم أنهم يقولون: إن القرآن مخلوق، واستدلوا بقول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] فأدخلوا صفة الله التي هي كلامه في هذه الآية، وتناقضوا فأخرجوا أفعالهم عن عمومها، فجعلوا أفعالهم من خلقهم وليست من خلق الله، فلم يعملوا بعموم الآية: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] . ولا شك أن أفعال العباد أولى ما يدخل في عموم الآية، لأنها من خلق الله تعالى، وأن نسبتها إلى العباد نسبة فعل ومباشرة، ولهذا يقال: إن الله خالق كل شيء بما في ذلك حركات العباد وأفعالهم، ومع ذلك فالله تعالى هو الذي مكنهم، وأعطاهم قوة وقدرة، فهم يزاولون الأعمال بقدرتهم وبقوتهم، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، فقدرة الله غالبة على قدرتهم، وإرادته غالبة على إرادتهم، وبذلك أصبحت أفعالهم من خلق الله تعالى؛ لقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] وأفعالهم هم الذين باشروها، فتنسب إليهم مباشرة، وتنسب إلى الله خلقاً وإيجاداً، وبما أعطاهم الله من القوة والقدرة يثابون ويعاقبون. ولأجل ذلك نقول: إن العباد فاعلون حقيقة، والله خالقهم وخالق أفعالهم، وأن العبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وأن للعباد قدرة على أفعالهم، ولهم إرادة، ولكن هذه القدرة والإرادة مسبوقة بقدرة الخالق تعالى وبإرادته، هذا هو قول أهل السنة. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 2 المذاهب المخالفة لعقيدة أهل السنة في باب القدر وقد عرفنا القولين الذين هما طرفان في هذه المسألة: الطرف الأول: هو قول المجبرة الذين سلبوا العباد قدرتهم واختيارهم، وجعلوهم مجبورين، ليس لهم أي قدرة أو إرادة، وليس لهم همة ولا عمل ولا أثر في الأعمال، وجعلوا حركاتهم بمنزلة حركات الأشجار التي تحركها الرياح! وأبطلوا حكمة الله تعالى؛ فإذا سئلوا: لماذا أرسل الله الرسل؟ ولماذا يُعذب الله الكفار؟ ولماذا خص الله المؤمنين بأنهم أهل الثواب؟ لم يكن لهم من جواب إلا أن ذلك محض المشيئة، ومحض الاختيار، ومحض الإرادة، وليس لأحد فيه تصرف، وأكثر ما يرددون قول الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ويقولون: إنه قدر ذلك عليهم وخلقه فيهم، ويعذبهم على فعله فيهم، ولكن لا يُسئل عن ذلك!! وأما الطرف الثاني: فهم المعتزلة الذين أرادوا تنزيه الرب تعالى عن أن يعذبهم على أمر خلقه فيهم كما يقولون، فجعلوا أنفسهم هي التي تباشر وتخلق الفعل، ولم يجعلوا لله أي قدرة, بل كثير منهم يقولون: إن الله لا يقدر على أن يهدي من يشاء، ولا أن يضل من يشاء، بل العباد يهدون أنفسهم أو يضلونها! فهؤلاء طرف هالك بعيد عن الصواب. وهدى الله تعالى أهل السنة فآمنوا بعموم قدرة الله، وآمنوا بأن له قدرة عامة غالبة على أفعال العباد، وآمنوا بأنه خلق أفعال العباد، وكتبوا في ذلك المؤلفات، كما كتب البخاري في ذلك رسالته المشهورة: (خلق أفعال العباد) . وبينوا أن قدرة العبد هي التي تناسبه، والتي بها يثاب ويعاقب، وأنها مع ذلك مغلوبة بقدرة الله تعالى، وبذلك يستحق العبد الثواب أو العقاب على ما يزاوله من الأعمال التي تنسب إليه؛ لأنه هو الذي باشرها. ومع ذلك لا يخرج عن إرادة الله تعالى، والهداية بيد الله؛ فهو الذي هدى هؤلاء وأضل هؤلاء، فأضل هؤلاء حكمة وعدلاً، وهدى هؤلاء رحمة وفضلاً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 3 الرد على المخالفين في باب القدر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمما استدلت به الجبرية قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] فنفى الله عن نبيه الرمي، وأثبته لنفسه سبحانه، فدل على أنه لا صنع للعبد. قالوا: والجزاء غير مرتب على الأعمال، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) . ومما استدل به القدرية قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] ، قالوا: الجزاء مرتب على الأعمال ترتيب العوض كما قال تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:71-72] ونحو ذلك. فأما ما استدلت به الجبرية من قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] فهو دليل عليهم؛ لأنه تعالى أثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم رمياً، بقوله: (إِذْ رَمَيْتَ) ، فعلم أن المثبت غير المنفي، وذلك أن الرمي له ابتداء وانتهاء، فابتداؤه الحذف، وانتهاؤه الإصابة، وكل منهما يسمى رمياً، فالمعنى حينئذٍ -والله تعالى أعلم-: وما أصبت إذ حذفت ولكن الله أصاب، وإلا فطرد قولهم: وما صليت إذ صليت ولكن الله صلى! وما صمت إذ صمت! وما زنيت إذ زنيت! وما سرقت إذ سرقت! وفساد هذا ظاهر. وأما ترتيب الجزاء على الأعمال فقد ضلت فيه الجبرية والقدرية، وهدى الله أهل السنة، وله الحمد والمنة، فإن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات، فالمنفي في قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) باء العوض، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل إلى الجنة، كما زعمت المعتزلة أن العامل يستحق دخول الجنة على ربه بعمله، بل ذلك برحمة الله وفضله. والباء التي في قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:14] ونحوها باء السبب، أي: بسبب عملكم؛ والله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات، فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته. وأما استدلال المعتزلة بقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] فمعنى الآية: أحسن المصورين المقدرين، و (الخلق) يذكر ويراد به التقدير، وهو المراد هنا؛ بدليل قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] أي: الله خالق كل شيء مخلوق، فدخلت أفعال العباد في عموم (كل) . وأما أفسد قولهم في إدخال كلام الله تعالى في عموم (كل) الذي هو صفة من صفاته! يستحيل عليه أن يكون مخلوقاً، وأخرجوا أفعالهم التي هي مخلوقة من عموم (كل) !! وهل يدخل في عموم (كل) إلا ما هو مخلوق؟! فذاته المقدسة وصفاته غير داخلة في هذا العموم، ودخلت سائر المخلوقات في عمومها. وكذا قوله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ولا نقول: أن (ما) مصدرية، أي: خلقكم وعملكم، إذ سياق الآية يأباه، لأن إبراهيم عليه السلام إنما أنكر عليهم عبادة المنحوت، لا النحت، والآية تدل على أن المنحوت مخلوق لله تعالى، وهو ما صار منحوتاً إلا بفعلهم، فيكون ما هو من آثار فعلهم مخلوقاً لله تعالى، ولو لم يكن النحت مخلوقاً لله تعالى لم يكن المنحوت مخلوقاً له، بل الخشب أو الحجر لا غير. وذكر أبو الحسين البصري إمام المتأخرين المعتزلة: أن العلم بأن العبد يحدث فعله ضروري. وذكر الرازي: أن افتقار الفعل المحدث الممكن إلى مرجح يجب وجوبه عنده ويمتنع عند عدمه ضروري. وكلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضروري، ثم ادعاء كل منهما أن هذا العلم الضروري يبطل ما ادعاه الآخر من الضرورة غير مسلم، بل كلاهما صادق فيما ادعاه من العلم الضروري، وإنما وقع غلطه في إنكاره ما مع الآخر من الحق، فإنه لا منافاة بين كون العبد محدثاً لفعله وكون هذا الإحداث وجب وجوده بمشيئة الله، كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7-8] فقوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8] إثبات للقدر بقوله: (فَأَلْهَمَهَا) ، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه؛ ليعلم أنها هي الفاجرة والمتقية. وقوله بعد ذلك: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10] إثبات أيضاً لفعل العبد، ونظائر ذلك كثيرة] . الجزء: 70 ¦ الصفحة: 4 الرد على الجبرية هذه مناقشة لأدلة الفريقين المتطرفين، وهمنا هنا أن نعرف الجواب. وأما شرح أدلتهم والتوسع فيها، وكيفية استدلالهم، وتوجيهها، فلا حاجة لنا إلى التوسع فيه. وقد عرفنا أن كلا القولين -قول الجبرية وقول المعتزلة- في طرفي نقيض، وكلاهما لا يزال لهما بقية يقولون بمثل هذه الأقوال، ولا تزال أيضاً مؤلفاتهم يعنى بها وتنشر وتحقق، وينفق عليها الأموال، مع أنها سبب في ضلال كثير من الناس. ويدعون أنهم بذلك يقوون حجتهم ومعتقدهم الذي اعتقدوه، ويستدلون بأن الله تعالى يقول: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] وقالوا: هذا دليل على أن الفعل ليس للإنسان، وإنما هو لله؛ لأن الله هو الذي رمى. وقد أجاب الشارح بأن التقدير: وما أصبت الهدف ولكن الله هو الذي وفق لإصابته، فأنت الذي رميت والله هو الذي وفق للإصابة. ونحن نعرف القصة التي حصلت في غزوة بدر، والقصة التي حصلت أيضاً في غزوة حنين؛ وذلك أنه لما تواجه المشركون مع المسلمين أخذ النبي صلى الله عليه وسلم قبضة من حصباء ورمى بها في وجوه القوم، معلوم أن رميته لو كانت بمجرد قوته لم تذهب مثلاً إلا نحو عشرين متراً أو ثلاثين، ولكن هذه الرمية وصلت إلى جميعهم أو أكثرهم؛ بحيث إنها دخلت في أعينهم، ودخلت في أفواههم وأنوفهم، وأعمت عليهم الطرق، مع أنها كانت حصيات قليلة في يده رمى بها وقال: (شاهت الوجوه) ، فالله تعالى هو الذي أوصلها، وهو الذي وفق لإصابتها، فمادام أن الله أثبت الرمي بقوله: (إِذْ رَمَيْتَ) أي: حركت يدك بتلك الحجارة وقذفتها، فهذا دليل على أن الفعل أصله من الإنسان، والله تعالى هو الذي يسدده ويوصله، وهو الذي يدفع ويحرك همة العبد إلى أن يفعل ذلك الفعل. وكثيراً ما يكون المسلمون قلة، وإذا وجهوا سهامهم إلى المشركين أصابتهم ولو كانوا بعيدين؛ لأن الله يسدد سهامهم فتصيب العدو، وأما سهام أعدائهم فإنها تخطئهم وتذهب يميناً أو يساراً ولا تصيبهم؛ لأن الله تعالى يصرفها. إذاً: من الغزاة الرمي، ومن الله التسديد والإصابة. وهذا هو معنى قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ، وهذه الآية من أدلة الجبرية التي استدلوا بها. ومن أدلتهم في أن العمل ليس سبباً في دخول الجنة، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) قالوا: هذا دليل على أن الأعمال ليس لها أثر، وأن الأعمال ليست هي التي تسبب دخول الجنة؛ وعلى هذا فالأعمال ليست من الإنسان، والإنسان ليس له أي عمل، وليس له عندهم حركة، بل هو مدفوع إلى هذه الحركة ومغلوب على أمره، ولا يقدر أن يحرك باختياره أي حركة، فلا يحرك إصبعاً ولا رأساً ولا لساناً ولا يداً ولا قدماً، بل هو متصرَف فيه، وتحركه إرادة الله كما تتحرك الشجرة بدون اختيارها. و الجواب أن هذا الحديث أراد به النبي صلى الله عليه وسلم أن أعمالنا وإن كثرت لا تعادل نعم الله، فنعم الله علينا كثيرة، ولو عملنا ما عملنا فإنها قليلة بالنسبة إلى ما ينعم الله به علينا، فأعمالنا لو كثرت لم تكن سبباً وحيداً في دخول الجنة، كما ورد في الحديث: (أنه يؤتى برجل قد عمل أعمالاً صالحة أمثال الجبال، فيقول الله تعالى: أدخلوه الجنة برحمتي، فيقول: يا ربي، بل بعملي-أليس هذه الأعمال التي عملتها تحصل لي الجنة والثواب؟ - فيقول الله: حاسبوا عبدي على نعمي، يقول الله لنعمة البصر: خذي حقك -يعني: من أعماله- ولنعمة السمع: خذي حقك، ولنعمة النطق، ولنعمة العقل، ولنعمة البطش، ولنعمة القوة، ولنعمة الرزق، ولنعمة العمل، ولنعمة الصحة، وتبقى نعم كثيرة كنعمة الهداية ونعمة التوفيق ونعمة الإعانة- فيقول: أدخلوا عبدي النار، فعند ذلك يقول: بل يا ربي! برحمتك) . فعُرف بذلك أن العمل لا يستقل بشأن دخول الجنة إلا إذا رحم الله العباد. وإذا قيل: قد وردت أدلة في ترتب الجزاء على الأعمال وهي التي استدلت بها المعتزلة، وجعلوا عمله سبباً وحيداً في دخول الجنة، واستدلوا بقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] ، وقوله: {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] ونحو ذلك. فنقول: صحيح أن العمل سبب؛ ولكن رحمة الله مع ذلك السبب؛ فيدخل الجنة بسبب عمله، ولكن ذلك برحمة الله تعالى فهو أرحم الراحمين. وكما جاء في الحديث الذي فيه: (إن الله خلق الرحمة مائة جزء، كل جزء طباق ما بين السماء والأرض، أنزل منها جزءاً واحداً في الأرض، وبذلك الجزء تتراحم الخليقة بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة ضمه الله إلى تلك الأجزاء فيرحم بها عباده يوم القيامة) ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن واسع رحمة الله لما رأى امرأة تضم ولدها إلى صدرها وترضعه بعد أن وجدته، فقال: (أترون هذه قاذفة ولدها في النار؟ قالوا: لا، والله! وهي تقدر على تخليصه، فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها) . فإذاً: رحمة الله للعباد أوسع لهم، كما ورد في الحديث: (لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم) . فعرفنا بذلك ضعف ما استدل به هؤلاء وهؤلاء. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 5 الرد على المعتزلة وأما استدلال المعتزلة بقول الله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] ، ومثلها قوله تعالى: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون:72] فيقولون: هذا دليل على أن الخالقين كثير، وليس الخالق هو الله وحده، لكن الله أحسنهم! فجعلوا العباد خالقين ورازقين مع الله. و الجواب أن هذا ليس بصحيح، بل الله هو الخالق وحده، كما قال عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] ، فالخلق خلقه، والأمر أمره، والآية وردت في سياق التكوين، ووردت في سياق الإيجاد، فيقال: إن الإنسان ليس هو الذي يخلق نفسه، وإن كان له سبب في وجود الولد بالنكاح والوطء والمباشرة، فينسب إليه أنه هو الذي تسبب في خلق وتكوين هذا الولد، ولكن الله هو الذي أنشأه، قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58-59] ، فهذا المني الذي ينصب في الرحم ليس الإنسان هو الذي يكونه، بل قدرة الله، فالله هو الذي قدر أنه يكون نطفة ثم يكون علقة ثم مضغة ثم ينشئه الله خلقاً آخر إلى أن يخرج بشراً سوياً. فإذاً: الولد من الإنسان سببه النكاح والوطء ونحوه، ومن الله تعالى الخلق والتكوين والتطوير إلى أن يخرج سوياً، فهذا معنى قوله: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] ، وقد يُراد بالخالقين الذين يكونون بعض المخلوقات في الدنيا، أو يبدعون بعض الأشياء وإن كانوا مخطئين في ذلك، كما ورد في الحديث القدسي: (يقول الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، أو يخلقوا برة، أو ليخلقوا شعيرة) ، بمعنى: أنهم جعلوا أنفسهم خالقين، وهم المصورون الذين يضاهون بخلق الله، فأثبت لهم إرادة في أنهم يضاهون خلق الله، ويخلقون كخلقه، ولكن لا يستطيعون أن يضاهوا وأن يشابهوا خلق الله تعالى، فالخلق الأصل هو من الله، وهو الذي خلق الأرواح، ولا يستطيعون أن يخلقوها، وهو الذي يحيي الأموات، ولا يستطيعون أن يحيوها، وهو الذي ينفخ فيه الروح، ولا يستطيعون ذلك، كما في الحديث: (من صور صورة كُلِّف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ) . إذاً: عرفنا أن المعتزلة استدلوا بقوله تعالى: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] على أن الخالقين كثير. والجواب: أن الخلق هو التكوين من الله تعالى، وأما الإنسان فمنه السبب، أو أنه يراد به المضاهاة. واستدل المعتزلة بترتيب الجزاء على الأعمال، بقوله تعالى: (جزاء بما كنتم تعملون) وبقوله: {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] . والجواب: أن الأعمال سبب، وليست مستقلة، وإنها هي من جملة الأسباب التي يثاب عليها العباد ويعاقبون. واستدلت الجبرية بآيتين: الآية الأولى قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ونحوها، في إثبات أن الإنسان ليست له أية حسبة، وليس له أي عمل، وكذلك استدلوا بقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] . وقد عرفنا كيف نرد عليهم. واستدلوا بأن الأعمال ليست سبباً في دخول الجنة أو النجاة من النار أو دخول النار بالآية التي ذكرنا، وبالحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) ، وعرفنا بذلك أن أدلتهم لا تفيدهم شيئاً، وأن ترتيب الجزاء على الأعمال من ترتيب الأسباب على المسببات. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 6 كيف يخلق الله الذنب ويعاقب عليه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه شبهة أخرى من شبه القوم التي فرقتهم، بل مزقتهم كل ممزق، وهي أنهم قالوا: كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم وهو خلقها فيهم؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله فيهم؟ وهذا السؤال لم يزل مطروقاً في العالم على ألسنة الناس، وكل منهم يتكلم في جوابه بحسب علمه ومعرفته، وعنه تفرقت بهم الطرق: فطائفة أخرجت أفعالهم عن قدرة الله تعالى، وطائفة أنكرت الحكم والتعليل، وسدت باب السؤال. وطائفة أثبتت كسباً لا يُعقل! جعلت الثواب والعقاب عليه. وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرين، ومفعول بين فاعلين! وطائفة التزمت الجبر، وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه! وهذا السؤال هو الذي أوجب هذا التفرق والاختلاف. والجواب الصحيح عنه أنه أن يقال: إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية، وإن كانت خلقاً لله تعالى، فهي عقوبة له على ذنوب قبلها، فالذنب يكسب الذنب، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها؛ فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضاًَ. ويبقى أن يقال: فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب؟ يقال: هو عقوبة أيضاً على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه؛ فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له، وفطره على محبته وتأليهه والإنابة إليه، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] . فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه من محبة الله وعبوديته والإنابة إليه عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، فإنه صادف قلباً خالياً قابلاً للخير والشر، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] ، وقال إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82-83] ، وقال الله عز وجل: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:41-42] . والإخلاص: خلوص القلب من تأليه ما سوى الله تعالى وإرادته ومحبته، فخلص لله؛ فلم يتمكن منه الشيطان. وأما إذا صادفه فارغاً من ذلك تمكن منه بحسب فراغه، فيكون جعله مذنباً مسيئاً في هذه الحال عقوبة له على عدم هذا الإخلاص، وهي محض العدل] . في هذا السؤال الذي يردده المعتزلة أو يردده الجبرية وهو قولهم: إذا كان الله خلق فينا المعاصي فكيف يعذبنا؟ وإذا كان الله لم يهدنا بل أضلنا فكيف يعذبنا؟ وهذا السؤال قد يكثر الذين يرددونه، وإذا نصحت أحدهم، يقول: الله ما هدانا، وإذا لم يهدنا الله فأنت لا تهدينا! وكثيراً ما يقول: الله هو الذي أضلنا أو كتب علينا ذلك، فإذا عذبنا فقد ظلمنا! أو نحو ذلك من العبارات الشنيعة البشعة. ولا شك أنا لسنا بحاجة إلى مناقشة تلك الأقوال السيئة، قد عرفنا مما ذكر الشارح أن من أقوالهم الباطلة قول من لم يجعل للعبد أي فعل ولا اختيار. وقول من جعل العبد مستقلاً. وقول من أثبت له كسباً، ولكن لا حقيقة لذلك الكسب. وقول من جعل الفعل صادراً عن فاعلين، والقدرة صادرة عن قادرين، يعني: جعلوا الفعل مكوناً من قدرتين. ونحن نقول: لا شك أن الإنسان أعطاه الله هذه القوة، وهذه الهمة، وهذه المباشرة، وهذه القدرة يزاول بها الأعمال، وتنسب إليه، ويثاب بسببها أو يعاقب، مع أنه قادر على أن يضله، وقادر على أن يعجزه، فهو الذي أمده وقواه، فلأجل ذلك تنسب الأفعال إلى الإنسان مباشرة، وتنسب إلى الله تعالى خلقاً وتكويناً وتقديراً، فيقال: هي خلق الله؛ من حيث إنه قدرها، وقوى العباد عليها، وهي أعمال العباد، من حيث إنهم باشروها، وفعلوها بأبدانهم، فنسبت إليهم، ونسبت إلى الله تعالى، ولا منافاة بين النسبتين. ثم ذكر أن الله تعالى يعاقب العباد في الدنيا، ويعاقبهم أيضاً في الآخرة على السيئات، فيقول الشارح: إن هذه العقوبة على الذنوب، وإن الأصل أنه عاقبهم على هذه الذنوب بذنوب أخرى، فلما أذنبوا كان من عقوبتهم بأن أذنبوا ذنباً آخر ثم ذنباً ثالثاً، ثم ذنباً رابعاً وهكذا، واستمرت فيهم السيئات وتمادوا فيها، فيكون بسبب الوقوع في هذا الذنب أن الله خلى بين العبد وبين نفسه، وخلى بينه وبين هواه، وسلط عليه أعداءه من شياطين الإنس والجن، فلما تمكنوا منه صرفوه عن الهدى، وإن كان ذلك بتقدير الله، ولما صرفوه واستحوذت عليه الشياطين كانت أعماله سيئات؛ عقوبة له على سيئة اقترفها سابقاً. وقد نقل الشارح هنا أن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فإذا عمل العبد حسنة قالت الحسنة بعدها: اعملني، وإذا أتى سيئة قالت السيئة بعدها: اعملني، فيتتابع المسيئون في السيئات، والمحسنون في الحسنات. وإذا قالوا: إن السيئة الأولى عقوبة، فعلى أي شيء؟ ومادام أنه وقعت منه هذه السيئة فكيف سلطت عليه؟ وكيف خلقت فيه؟ وكيف فعلها ولم يسبقها سيئة؟ أجاب الشارح: بأنها عقوبة على ترك الإخلاص، وعقوبة على ترك الأعمال الصالحة التي أمر، وكلف بها، وما ذاك إلا أننا خلقنا لعبادة الله، فإذا انشغلنا عن هذه العبادة فذلك إما في لهو وبطالة، وإما في غفلة، وإما في إقبال على شهوات تفوت عليك الخير، فهذه الغفلة وهذه الشهوات وهذه الإضاعة للأوقات تعتبر ذنباً، فيستحق من فعله أن يقع منه ذنب آخر، عقوبة على ذلك الذنب الذي هو الترك. فالله تعالى خلق العباد لأجل أن يعبدوه وحده، وأن يشكروه، وأن يعرفوا حقه عليهم، فلما خلقهم للعبادة أمرهم بالإخلاص في قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] ، فإذا تركوا هذه العبادة في وقت من الأوقات عد ذلك ذنباً وقع منهم، وإن لم يكن سيئة، ولكنه ترك لعمل صالح، فاستحقوا بهذا الترك أن يتسلط عليهم الأهواء والأعداء فيوقعونهم في الذنوب، وتتابع عليهم السيئات، وتتابع منهم. فهذا تعليل علل به العلماء في عقوبة السيئة. يعني قالوا: كيف يعاقب الله على السيئة وهو الذي خلقها؟ فأجاب: بأنه ولو كان هو الذي قدرها لكن لما كان العبد هو الذي باشرها عوقب عليها. والعقاب الذي في الدنيا معروف أنه قد يكون عقاباً حسياً، وقد يكون عقاباً معنوياً. فالعقاب الحسي هو مثل ما ذكره الله بقوله: ما أنزل الله على المعذبين: {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40] . وأما العقوبات المعنوية على الذنوب فهي: تسليط الأعداء عليهم، وكذلك تسليط الأهواء عليهم، وحرمانهم من الطاعة، فإذا رأيت المكب على المعاصي فاعلم أنه معاقب، وأن حرمانه من طاعة الله عقوبة، وإذا رأيت المنهمك في الشهوات الذي فوت الأوقات فاعلم أنها عقوبة له، وإذا قال: أنا ما أذنبت ولا كفرت ولا عصيت! فكيف يعاقبني بأن يوقعني في هذه المصائب وهذه الذنوب؟ فنقول له: أولاً: إنك أذنبت بغفلتك؛ حيث أضعت وقتاً ثميناً في الغفلة. ثانياً: لتركك العمل، وكان الواجب عليك أن تشغل وقتك بأعمال صالحة وبحسنات، فلما لم تفعل كنت مذنباً، وكان عقوبة هذا الذنب أن توالت عليك الذنوب، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذنوب تؤثر في القلوب وتعميها وتصدها عن الهدى، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أذنب العبد ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع صقل قلبه، فإن عاد عادت، حتى يعلوه السواد، وذلك الران: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] ) فإذا غلبه هذا السواد الذي هو بسبب المعاصي عند ذلك تثقل عليه الطاعات، وتخف عليه المحرمات. هذا تلخيص ما ذكره الشارح من أن عقوبة السيئة السيئة بعدها، والله أعلم. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الطحاوية [71] الله تعالى خالق كل شيء، ومن ذلك خلقه لأفعال العباد خيرها وشرها، ولكن الشر لا ينسب إلى الله تعالى، وقد خالف في ذلك القدرية، ورد عليهم العلماء بما يبطل شبهاتهم. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 1 مجمل ذكر المذاهب الموافقة والمخالفة في باب القدر من أركان الإيمان: الإيمان بالقدر، ويدخل في القدر الإيمان بعموم قدرة الله تعالى، وأنه على كل شيء قدير. ويدخل في قدرة الله تعالى أنه قادر على أن يعذب من يشاء، وقادر على أن يرحم من يشاء، وقادر على أن ينتقم من الظلمة ويهلكهم في أسرع وقت، وقادر على أن يرحم عباده، وأن يبسط لهم الرزق، وقادر على أن يعمم فضله على القاصي والداني، وقادر على أن يحرم هذا ويهلكه، وقادر على أن يغير هذا الكون، وأن يبدل هذه المخلوقات؛ إذ لا يعجزه شيء، ولا يخرج عن قدرته شيء. كذلك أيضاً لا يكون في الوجود شيء إلا بإرادته وبعد قدرته وبعد أن يشاء ذلك ويقدره، فلا يكون فسوق ولا طاعة ولا معصية ولا هداية ولا ضلال ولا كفر ولا إيمان ولا طاعة ولا عصيان إلا بعد أن يشاء الله ذلك، كما قال عز وجل: {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} [الرعد:31] ، وقال: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ} [الشورى:33] ، وقال: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:4] ولكن اقتضت حكمته أن يضل أناساً بعدله، فضلوا سواء السبيل، ومنَّ على آخرين بفضله، فاهتدوا إلى سواء الطريق، وأولئك داخلون تحت قدرته، وهؤلاء كذلك؛ لأن الجميع عبيده وتحت تصرفه، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويخفض ويرفع، لا معز لمن أذل، ولا مذل لمن أعز، ولا خافض لمن رفع، ولا رافع لمن خفض، بيده الأمر، وبيده الخير، وهو على كل شيء قدير. ولا شك أيضاً أنه يدخل في ذلك حركات العباد وأفعالهم؛ فهو الذي أعطاهم القوة، وهو الذي بعث هممهم، ولو شاء لما عصوه ولما أطاعوه؛ إذ كل ذلك بمشيئته وقدرته، فإن أطاعوه فبفضله؛ فهو الذي منَّ عليهم حتى أطاعوه، وإن عصوه فبعدله إذ فهو الذي خذلهم حتى عصوه. وذكر المؤلف أن في هذا خلافاً بين ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: هم الجبرية الذين غلوا في نفي قدرة العبد، وجعلوا حركته كحركة الأشجار، ولم يجعلوا له أي اختيار، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] وقالوا: العبد ليس له أي فعل. ورد عليهم: بأن الله تعالى أثبت الرمي لنبيه، فدل على أن منه الرمي وعلى الله الإصابة. والطائفة الثانية: هم القدرية الذين أنكروا قدرة الله على أفعال العباد، وجعلوا العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، وليس لله قدرة على هداية هذا، ولا إضلال هذا، ولا خذلان هذا، ولا توفيق هذا، فجعلوا العبد أقدر من الله، وجعلوا قدرته تفوق قدرة الخالق! تعالى الله عن قولهم، فجعلوا مع الخالق من يخلق، وهؤلاء يقال لهم: مجوس هذه الأمة. الطائفة الثالثة: أهل السنة الذين توسطوا، فجعلوا للعبد قدرة وإرادة، ولكنها مسبوقة بقدرة الله وإرادته، ومغلوبة بها، فإذا أراد الله هداية عبد وفقه وأطلق جوارحه واختار الفعل الطيب، فأصبح مطيعاً مؤمناً. فتنسب إلى العبد الطاعات والمعاصي؛ لأن له اختياراً؛ ولأن له فعلاً؛ ولأن له قدرة زاول بها الأعمال، وتنسب إلى الله لأنه هو الذي أقدره عليها، وهو الذي رزقه القوة، ورزقه التوفيق، وأقبل بقلبه. وكذلك المعصية تنسب إلى الله؛ لأنه هو الذي قدرها ولو شاء لما حصلت، وتنسب إلى العبد لأنه هو الذي باشرها وفعلها. فجميع الحركات من الله تعالى إيجاداً وتكويناً، ومن العبد فعلاً ومباشرة، فعلى هذا لا يكون هناك من يشترك في خلق الفعل وإيجاده، بل الله هو الذي مكن العبد حتى فعله، وأظهره، والعبد هو الذي باشره، فتنسب إليه المباشرة، فلا يكون هناك اختلاف، ولا يكون هناك إجبار ولا إنكار لقدرة الله تعالى، هذا هو القول الوسط. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 2 حكم إضافة الشر إلى الله عز وجل، وذكر المخالفين في ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قلت: فذلك العدم من خلقه فيه؟ قيل: هذا سؤال فاسد؛ فإن العدم كاسمه لا يفتقر إلى تعلق التكوين والإحداث به، فإن عدم الفعل ليس أمراً وجودياً حتى يضاف إلى الفاعل، بل هو شر محض، والشر ليس إلى الله سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الاستفتاح: (لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) وكذا في حديث الشفاعة يوم القيامة حين يقول له الله: (يا محمد! فيقول: لبيك وسعديك والخير بيديك والشر ليس إليك) وقد أخبر الله تعالى أن تسليط الشيطان إنما هو: {عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:100] . فلما تولوه دون الله وأشركوا به معه عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم، وكانت هذه الولاية والإشراك عقوبة خلو القلب وفراغه من الإخلاص، فإلهام البر والتقوى ثمرة هذا الإخلاص ونتيجته، وإلهام الفجور عقوبة على خلوه من الإخلاص. فإن قلت: إن كان هذا الترك أمراً وجودياً عاد السؤال جذعاً، وإن كان أمراً عدمياً فكيف يعاقب على العدم المحض؟ قيل: ليس هنا ترك هو كف النفس ومنعها عمّا تريده وتحبه، فهذا قد يقال: إنه أمر وجودي، وإنما هنا عدم وخلو من أسباب الخير، وهذا العدم هو محض خلوها مما هو أنفع شيء لها، والعقوبة على الأمر العدمي هي بفعل السيئات، لا بالعقوبات التي تناله بعد إقامة الحجة عليه بالرسل، فلله فيه عقوبتان: إحداهما: جعله مذنباً خاطئاً، وهذه عقوبة عدم إخلاصه وإنابته وإقباله على الله، وهذه العقوبة قد لا يحس بألمها ومضرتها؛ لموافقتها شهوته وإرادته، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات. الثانية: العقوبات المؤلمة بعد فعله للسيئات، وقد قرن الله تعالى بين هاتين العقوبتين في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] فهذه العقوبة الأولى، ثم قال: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44] فهذه العقوبة الثانية. فإن قيل: فهل كان يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده من غير أن يخلق ذلك في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له منيبين إليه محبين له؟ أم ذلك محض جعله في قلوبهم وإلقائه فيها؟ قيل: لا، بل هو محض منته وفضله، وهو من أعظم الخير الذي هو بيده، والخير كله في يده، ولا يقدر أحد أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه، ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه. فإن قيل: فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم عاد السؤال، وكان منعهم منه ظلماً، ولزمكم القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه بما يشاء، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] . قيل: لا يكون سبحانه بمنعهم من ذلك ظالماً، وإنما يكون المانع ظالماً إذا منع غيره حقاً لذلك الغير عليه، وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه، وأوجب على نفسه خلافه. وأما إذا منع غيره ما ليس بحق له -بل هو محض فضله ومنَّته عليه- لم يكن ظالماً بمنعه، فمنع الحق ظلم، ومنع الفضل والإحسان عدل، وهو سبحانه العدل في منعه، كما هو المحسن المنان بعطاءه. فإن قيل: فإذا كان العطاء والتوفيق إحساناً ورحمة فهلا كان العمل له والغلبة، كما أن رحمته تغلب غضبه؟ قيل: المقصود في هذا المقام بيان أن هذه العقوبة المترتبة على هذا المنع، والمنع المستلزم للعقوبة ليس بظلم، بل هو محض العدل] . هذه مناقشات لاعتراض المعتزلة الذين ينكرون قدرة الله على أفعال العباد، ويوردون هذه الشبهات ليلبسوا بها على غيرهم. والشر لا يضاف إلى الله تعالى على أنه شر، بل كل أفعال الله تعالى خير، ولو كان عقوبات، ولو كان إهلاكاً أو انتقاماً؛ فلا يقال: إنه شر، ولا يقال: إنه ضرر، بل هو خير بالنسبة إليه سبحانه وتعالى. وإذا تتبعنا الأدلة وجدنا أن الله تعالى لا يضيف الشر إلى نفسه، ولكنه يذكره على صيغة المبني للمجهول، كما في قول الله تعالى حكاية عن مؤمني الجن أنهم قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10] فالشر قالوا: ((أريد بمن)) ولم يقولوا: أراده الله؛ وذلك لأن الشر المحض لا ينسب إلى الله، وأما الخير فأفصحوا بأنه من الله فقالوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10] . فدل على أن كل ما يصدر من الله فهو خير، فالصواعق التي تنزل والأمراض التي تحدث بتقدير الله والجدب والقحط الذي يصيب الكثير من البلاد لا يقال إنه شر، بل هو خير بالنسبة إلى الله؛ وذلك لأنه قدره لعاقبة حسنة، قدره لينبه عباده على عزته وقدرته، ولينبههم على خطئهم وذنبهم، وأنه غير ظالم لهم، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لم يكن ظالماً لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أعظم من طاعاتهم، ومما يستحقونه. إذا: ً كل ما يحدث فهو بتقدير الله، ولكن لا ينسب الشر إلى الله. وكما ذكر في التلبية المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) فجعل الخير كله من الله وبيده، والشر ليس إلى الله، ولذا قال: (الشر ليس إليك) ، أي: لا ينسب إلى الله، ولو كان هو الذي قدره وشاءه ولكن لا نسميه شراً بالنسبة إلى إحداث الله له، بل هو خير؛ حيث إنه سبحانه وتعالى ما أراد إلا الخير، وما أراد بعباده إلا أن ينبههم، فإن كانوا عصاة سلط عليهم قحطاً أو مرضاً فذلك خير؛ لأنه ينبههم حتى ينتبهوا لمعصيتهم، ويعلموا أن ما أصابهم فهو عقوبة لهم؛ فينتبهوا ويتوبوا. وإن كانوا مطيعين علموا أن ذلك ابتلاء وامتحان وتنبيه لهم؛ ليكون ذلك زيادة في حسناتهم، جميع ما يحدث ويقدره الله في الكون فهو خير إذا صدر من الله تعالى. ومعلوم أيضاً أنه سبحانه هو الذي يكون الكائنات ويقدرها، وأنه يعاقب العباد بما يستحقون، وقد يعفو عنهم، وتكون عقوباته على نوعين: عقوبة ظاهرها أنها نعمة، وهي محنة وامتحان واختبار. وعقوبة يظهر فيها أنها عذاب وألم، والكل قد يُسمى عقوبة، ولا يكون ذلك إلا إذا خالفوا ما كلفهم به، فإذا وجه الله إليهم الأوامر وبين لهم، ولكنهم خالفوا وارتكبوا المعاصي عاقبهم بعقوبتين، كما في قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] هذه نعمة ولكنها محنة؛ والمعنى: أنا فتحنا عليهم الأرزاق ويسرنا لهم الأسباب، وقويناهم، وأعطيناهم الأموال والأولاد، والأمن والرخاء، وكثرة النعم، وكثرة الخيرات، فازدهرت لهم الدنيا، وضحكت لهم حياتهم، وأعجبوا بما أصابوا وانخدعوا واغتروا، وظنوا أن ذلك كرامة، وظنوا أن ذلك منحة، وقالوا: هذا بسبب أعمالنا، وهذا ما نستحقه، وهذا كرامة لنا! فعند ذلك يطغون ويبغون، ويتكبرون ويتجبرون، ويكفرون بنعم الله، ويستعينون بها على ارتكاب المحرمات والمعاصي، وكل ذلك بتقدير من الله تعالى، ولو شاء الله لهداهم، ولكنه خلى بينهم وبين أنفسهم وأهوائهم، فاختاروا الضلال، فحقت عليهم هذه الكلمة، فعند ذلك تنزل عليهم العقوبة الثانية: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44] فأخذهم الله على حين غرة وغفلة. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 3 الحكمة في عدم إيمان جميع الخلق ولذا أجاب الشارح على الذين قالوا: لماذا خلق الله فيهم عدم الإيمان؟ بأنه ليس العدم شيئاً. وكذلك قولهم: لماذا لم يساو بينهم فيهديهم كلهم، ويعطيهم العقول التي تهديهم إلى الخير؟ فأجاب: بأنه سبحانه له الحكمة؛ حيث إنه خلق دارين: داراً للنعيم، وداراً للجحيم، دار ثواب، ودار عقاب. ولو سوّى بينهم في الاختيار والهداية لتعطلت إحدى الدارين، فمن حكمته أن جعل أهواءهم تختلف، فمنهم من اختار الهدى، ومنهم من اختار الضلالة، فمنهم من حقت عليه كلمة العذاب، ومنهم من اختار أسباب الثواب. ولا يقال إنه ظلم هؤلاء حيث لم يوفقهم، بل يقال: إنه خلى بينهم وبين أنفسهم، وإنه لم ير هؤلاء أهلاً لنعمته، ولا أهلاً لرحمته، ولا أهلاً لحكمته، بل رأى أن فيهم من الطبع ومن الميل إلى الهوى ما لا يكونون معه أهلاً للفضل. وأنت تشاهد -مثلاً- أبناء رجل واحد أو أهل بيت واحد، أي: أن تربيتهم تربية واحدة، ويتعلمون في مدرسة واحدة، ويربيهم أب واحد وأم واحدة، وكذلك يقرءون مناهج واحدة، ومع ذلك إذا كبروا فإنهم يتفاوتون، فمنهم من يميل إلى الخير ويؤثره ويحبه؛ بحيث إنه يعمل الصالحات ويتقبلها، ومنهم من هو ضد ذلك، بحيث يميل إلى الشر، ويميل إلى البطالة وإلى المعصية والضلالة. فتقول: لماذا حصل هذا التفاوت؟ أليست تربيتهم واحدة وتعليمهم وتثقيفهم سواء؟ يقال: بلى، ولكن هؤلاء كتب الله لهم السعادة، وهؤلاء كتب عليهم الشقاوة هؤلاء خذلهم، وهؤلاء هداهم ووفقهم، والجميع لم يظلمهم، كما قال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] فكونه لم يوفق هؤلاء إنما هو بسبب أنه لم يرهم أهلاً لذلك، بل علم أن طبعهم وميلهم وعقولهم منتكسة ليست أهلاً لأن تستحق الهدى، فخلى بينهم وبين أنفسهم، فانخذلوا، وخرجوا عن الطواعية والاستقامة، بخلاف أولئك. مع أننا نؤمن بأن هناك أسباباً جعلها الله مؤثرة في هذه الدنيا، والسبب الوحيد في هداية الإنسان هو توفيق الله له، وإعطاؤه قابلية للحق، وميلاً إليه، وأن يقذف الله في قلبه محبة للدين ولأهله، هذا هو السبب الأصل، ثم هناك أيضاً أسباب أخرى. ولا شك أن تنشئة الوالدين جعلها الله سبباً: إما سبباً للخير أو سبباً للشر، فإذا كان الوالد محباً للخير فربى أولاده على العلم، وعلى الدين، وعلى الصلاة، وعلى التقوى، وعلمهم كل شيء ينفعهم، كان ذلك سبباً في الهداية والاستقامة، وإن كان قد يتخلف في بعضهم. وكذلك إذا أراد الله بعبده الخير ووفقه بجليس صالح، وأصدقاء صالحين يهدونه ويدلونه، ويأخذون بيده إلى سبيل النجاة، ويبينون له الخير، ويحثونه على فعله، كان ذلك أيضاً من الأسباب للهداية والاستقامة. فبكل حال نحن لا ننكر أن يكون هناك أسباب لها تأثير، لكن ذلك كله تقدير العزيز العليم؛ حيث جعل قلب العبد يميل إلى هذا، أو يميل إلى هذا. مع أن تلك الأسباب قد تفعل مع الشخص الآخر، ولكن لا تزيده إلا عتواً ونفوراً، فأنت -مثلاً- قد تدعو إنساناً وتبذل له الأسباب فتعطيه نصائح، وترشده، وتخوفه، وتهدي إليه كتباً ونشرات وأشرطة مفيدة، فيسمعها ويهتدي ويتقبل بعد أن كان جاهلاً، أو بعد أن كان تائهاً ضالاً، أو بعد أن كان عاصياً عاتياً. وتأتي إلى أخيه أو زميله وتعمل معه ذلك العمل فتأتي وتنصحه وتحذره وتخوفه، ولكن لا يتقبل، بل لا يزيده ذلك إلا عتواً ونفوراً، بل يزيده ذلك احتقاراً لمن يدعوه إلى الخير، وتنقصاً لأهل الخير، وازدراءً وتصغيراً لشأن الدعاة إلى الله، ويرى نفسه أفضل منهم. فأنت أديت ما عليك إلا أن هذا منّ الله عليه وأقبل بقلبه، وهذا خذله وخلى بينه وبين نفسه وسلط عليه أعداءه، فاحتوشوه وتمكنوا من قيادته حيث يشاءون، فلم تنفع فيه الحيل، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً. قال المؤلف رحمه الله: [وهذا سؤال عن الحكمة التي أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحالّ؟ وهلا سوى بين العباد في الفضل؟ وهذا السؤال حاصله: لم َتفضّلَ على هذا ولم يتفضلْ على الآخر؟ وقد تولى الله سبحانه الجواب عنه بقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] ، وقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:29] . ولما سأله اليهود والنصارى عن تخصيص هذه الأمة بأجرين وإعطائهم هم أجراً أجراً، قال: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء. وليس في الحكمة إطلاع كل فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد حتى أبصر طرفاً يسيراً من حكمته في خلقه وأمره وثوابه وعقابه وتخصيصه وحرمانه، وتأمل أحوال محالّ ذلك، استدل بما علمه على ما لم يعلمه. ولما استشكل أعداؤه المشركون هذا التخصيص قالوا: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53] قال تعالى مجيباً لهم: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53] ، فتأمل هذا الجواب! ترَ في ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة، فتثمر بالشكر، من المحل الذي لا يصلح لغرسها، فلو غرست فيه لم تثمر، فكان غرسها هناك ضائعاً لا يليق بالحكمة، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]] . فهذا المعنى قد ذكرنا ما يدل عليه، وقد عرفنا أن الرب سبحانه وتعالى هو الحكيم، الذي يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، وأنه من حكمته قسم خلقه إلى سعيد وشقي، وعلم من هو أهل للتقوى فوفقه، ومن هو أهل للشقاء فخذله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] . فله الحكمة في أمره ونهيه، وله الحكمة في خلقه وتدبيره، وكذلك له الحكمة في هدايته وإضلاله، وفي توفيقه وخذلانه، يهدي من يشاء فضلاً، ويضل من يشاء عدلاً. وفضله سبحانه على عباده كلهم، ففضله على الناس كلهم حيث خلقهم في أحسن تقويم، وحيث رزقهم وحيث أنعم عليهم، وأعطاهم ما يعيشون به: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] فهذا هو الفضل العام الذي عممه على جميع الخلق. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 4 الفضل الخاص حقيقته ومعناه وأما الفضل الخاص فهو الهداية والتوفيق والمنة على العبد، يختص برحمته من يشاء ولا يعاتب على تخصيصه، فلا يقال: لماذا خصّ هذا بالهداية دون هذا؟ كما لا يقال: لماذا أغنى هؤلاء وأفقر هؤلاء؟ ولا يقال: لماذا أصح هذا وأمرض هذا؟! ولا يجوز الاعتراض على تصرف الله تعالى، فلا يقال: فلان لا يستحق أن يبتلى! ولا يستحق أن يمرض! ولا يستحق أن يستقيم! بل الأمر بيد الخالق سبحانه، فله الحكمة أن هدى هؤلاء وأضل الآخرين، وأنعم على هؤلاء وخذل غيرهم، وأصح هذا وأمرض هذا، وأعطى هذا ومنع هذا. الآيات التي ذكر الشارح ظاهرة الدلالة في أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من خلقه. الفضل: هو العطاء والنعمة، وهو بيد الله سبحانه يؤتيه من يشاء ويمنعه من يشاء. وليس الفضل خاصاً بالمال، ولا بالشهوات، ولا بالنعم، ولا بالخيرات، ولا بالمال والبنين، بل الفضل في الأصل هو الهداية والإلهام والتوفيق للعبادة، وللإيمان الصادق، قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] فلا يعترض على الله في أن خص بالفضل قوماً دون قوم. ولما قال المكذبون لرسلهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم:10-11] لا شك أن هدايته لهم منة عليهم، والله عزوجل له المن وله الفضل، كما دعا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة: (لا إله إلا الله له النعمة وله الفضل وله المن وله الثناء الحسن) . فالفضل يعني: العطاء والهداية والتوفيق، والمن يعني: امتنان الله على خلقه، يمتن عليهم بما يشاء، بمعنى: أن له المنة عليهم بالإعطاء والتفضل. فإذاً الله سبحانه يعطي هؤلاء دون هؤلاء ولا يقال: إنه ظلم هذا دون هذا! فمثلاً: قد يعظم أجر هذا ويضاعف له الحسنات أكثر من غيره، لماذا؟ الله أعلم، لا شك أنه رآه أهلاً. نتذكر قول الله تعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:30-31] فتخصيصهن أن لهن الأجر مرتين زيادة على غيرهن، ذلك فضل الله، لكن بالمقابل إذا أتت إحداهن بذنب فإنها تعاقب ويضاعف عليها العذاب ضعفين؛ وذلك لأنها ذات منزلة وذات فضيلة، فلا يليق بها أن تفعل الذنب الذي تلام عليه. فإذاً تخصيص بعض عباده في مضاعفة الثواب فضل منه ومنة، مع أنا نعرف أن جميع الخلق كلهم سواسية بالنسبة إلى الله سبحانه، ليس بينه وبين خلقه حسب ولا نسب، ولا يعطي هؤلاء لكونهم ذوي شرف وذوي فضيلة، ولا يمنع هؤلاء لكونهم ذوي منزلة ساقطة أو نسب دنيء أو نحو ذلك. فرب شخص يكون من أشراف الناس، ومن مشاهيرهم، ومن أفاضلهم، ومن ذوي النسب الرفيع، ومع ذلك يكون بعيداً عن الخير، بعيداً عن الهداية. وآخر يكون من ذوي النسب الساقط الذي لا يؤبه له، ولكن يكون ذا فضل ومنزلة ورفعة وشرف؛ وذلك بالتقوى، ولذلك يقول بعضهم: ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم ويقول آخر أيضاً: لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك الشقي أبا لهب فـ أبو لهب من أشراف قريش وضعه الشرك، وسلمان من فارس ليس من العرب، ومع ذلك رفعه الإسلام. وهذا لا شك أنه محض عطاء من الله وفضل، وقد ذكرنا أن لذلك أسباباً، وأن من أسباب الهداية: كون العبد يرغب إلى ربه، ويسأله، ويرفع إليه أكف الضراعة، ويتملقه، ويدعوه بأوقات الإجابة، يسأله هداية قلبه وهداية روحه وهداية فطرته، يسأله الإقبال بقلبه إلى ربه، فالدعاء من أفضل الأسباب، إذا رأيت في قلبك شيئاً من القسوة، ورأيت في قلبك إعراضاً عن الخير وكراهية، سألت ربك أن يلينه حتى يتقبل الموعظة وأن يقبل على فعل الخير. وإذا رأيت من نفسك تثاقلاً عن الطاعة، سألت ربك ورغبت إليه أن يهديك وأن يعينك على الطاعة، فذلك سبب، والله تعالى جعل لأحكامه وجعل لقضاياه وما قدره أسباباً مشاهدة فهذا منها. ومن الأسباب: كثرة العبادات، وكثرة الطاعات، فالعبد إذا أكثر من الحسنات وأكثر من القربات كانت سبباً في محبته للخيرات، وفي بغضه للسيئات: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] إن الحسنة تجر إلى أختها، والسيئة تجر إلى مثلها، فهذه بلا شك أسباب. كما أن للشقاوة أسباباً وللضلالة أسباباً، بعد خذلان الله وبعد تخليته بينه وبين نفسه، فلا شك أن كثرة المعاصي تقسي القلوب، ولا شك أن الإعراض عن العبادات والإعراض عن الأذكار تقسيها وتصدها عن الخير، وتثقل عليها الطاعات. فلا شك أن للهداية أسباباً وللضلالة أسباباً، والجميع كله داخل تحت إرادة الله تعالى، وتحت مشيئته وتقديره، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 5 شرح العقيدة الطحاوية [72] فعل العبد هو خلق الله وكسب العبد، ولكن القدرية غلوا في النفي، والجبرية بالغوا في الإثبات حتى جعلوا فعل العبد من قبيل الإجبار، وكلتا الطائفتين في طرفي نقيض، وقد هدى الله أهل السنة إلى الحق. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 1 مقدمة في فعل العبد وقدرته وأنها من الله سبحانه وتعالى نحمد الله على ما أولى من النعم، ودفع من النقم، نحمد الله على أن من علينا بفضله ومنّ علينا بعطائه ومد في آجالنا، وبلغنا آمالنا، ونحمده على أن هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ونحمده سبحانه أن من علينا بالفطرة الحسنة، وبالشريعة الإسلامية، وبالعقيدة السنية، وبالطريقة المحمدية، وبالهداية إلى الصراط المستقيم، الذي من سلكه فاز ونجا، ومن حاد عنه تردى وهلك، نحمد الله أن جعلنا من أهل السنة، وأن حمانا وحفظنا من البدع والمنكرات والمحدثات التي تخالف السنة وتنافي الشريعة الدينية. لا شك أنها نعمة عظيمة، لا شك أنها من أكبر النعم، حيث وفقنا الله تعالى أن كنا من أهل السنة، أن عرفنا طريق النجاة، سبل السلام، الطريق السوي، الصراط المستقيم، وحرم ذلك خلقاً كثيراً، هناك الكثير من الدول ومن القبائل ومن الأمم لا يعرفون الإسلام، ولا يدينون به، بل يرونه عائقاً قاطعاً لهم عن السير في هذه الحياة التي هي غاية مطلبهم، والتي هي نهاية مقصدهم. وهناك فئام من الناس يدينون بعقائد ضالة يدعون أنها أهدى سبيلاً، وأقوم طريقاً، وأنهم على سبيل النجاة، وأنهم تفوقوا على المسلمين، ودانوا بطريقة وبسنة وشريعة أهدى من الشريعة الدينية. وهناك فئام ودول وقبائل وخلق كثير ينتسبون إلى الإسلام، ولكن ما معهم من الإسلام إلا مجرد الاسم؛ لأن عقائدهم تخالف العقيدة الإسلامية، وكذلك أعمالهم تخالف ما يدعو إليه الإسلام، فهم على شفا جرف هار، فهؤلاء حريٌ أن يموتوا وهم على تلك البدع وتلك المعاصي والمنكرات، فيكونون من أهل العذاب والعياذ بالله. وهناك فئام وأمم كثيرة يتسمون بأنهم مسلمون، ولكن معهم محدثات ومنكرات وبدع يصور لهم الشيطان ويملي لهم، ويزين لهم أنهم على الحق والهدى، وأنهم أهدى سبيلاً من أهل السنة والجماعة، ويفتخرون بتلك الأسماء التي ينتحلونها وينتمون إلى قادتهم وأئمتهم، وهم يعتقدون أنهم على حق، ولكنهم على باطل، ولم يقبلوا هدى الله، ولم يقبلوا الدليل، ولم ينيبوا إلى الشريعة، بل زين لهم أن تلك النحل وتلك البدع هي التي من تمسك بها فهو على السنة، فجعل السنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقاً. وهذا بلا شك من انتكاس البصائر، ومن عمى القلوب والعياذ بالله. وهناك الكثير ممن يدينون بالسنة وينتسبون إلى أهل السنة والجماعة، ولكن زين لهم الشيطان بعض الذنوب، فوقعوا في المعاصي، ووقعوا في المخالفات وإن لم تكن مكفرات ولا بدعيات، ولكنها في الحقيقة ذنوب عظيمة، أصروا واستمروا عليها، واستحلوها وأتوا بها جهاراً وإسراراً، فقضوا أعمارهم وهم على تلك المعاصي وعلى ارتكاب تلك الكبائر، ولا شك أنهم إذا لم يتوبوا ولم يتب الله عليهم، استحقوا من العذاب بقدر ذنوبهم وسيئاتهم، وأنهم على خطر عظيم. وهناك أيضاً آخرون لم يخالفونا في المعتقد، ولم يرتكبوا كبائر الذنوب، ولكنهم استمروا على الصغائر، فاحتقروها وتهاونوا بها، واستمروا عليها طوال حياتهم، والاستمرار على الصغيرة والإصرار عليها يصيرها كبيرة. لا شك أن هذه الأقسام كلها موجودة، ولكن أشدها الذين ليسوا على دين ولا شريعة، بل لا يعترفون بالله رباً، ولا بالشريعة الإسلامية أو غيرها ديناً. فإذاً ما دام أن الله قد نجانا من هذه الأخطار كلها، وهدانا إلى الحق، فليكن ذلك حافزاً على أن نتعلم الطريقة السنية، نتعلم السنة النبوية، حتى إذا عرفناها تمسكنا بها حق التمسك، وحتى نرد على كل من يخالفنا سواء كانت المخالفة في الأصول أو الفروع، وهذا هو -والحمد لله- ما نقوم به، وما نتلقاه في الخطب وفي الإذاعات وفي القراءات وفي الحلقات العلمية، وفي المحاضرات وفي الدروس اليومية والأسبوعية، كل ذلك إن شاء الله من الأسباب التي يفتح الله بها على عباده وينجيهم. وكذلك ما يمر علينا في هذا الكتاب الذي نقرؤه على عقيدة أهل السنة الذين ألفوها واجتهدوا في تأليفها، ونصحوا بها الأمة حتى يبينوا لهم ما هم عليه وما يفعلونه وما يحذرونه. وقد وصلنا إلى مباحث القضاء والقدر، ومباحث الأمر والنهي، والتكاليف، وقدرة العباد على أفعالهم، أو ما أشبه ذلك. وهي لا شك من المسائل الصعبة، من المسائل العسيرة التي تحتاج إلى تعقل، والتي خالف فيها الخلق الكثير، والتي ولدوا فيها شبهاً، وولدوا فيها تشكيكات تبرر لهم بزعمهم ما هم عليه من القول بالجبر، أو من القول بإنكار القدرة الإلهية، ولكن قيض الله لهم أهل السنة فبينوا لهم ما هم فيه من الحيرة، وأجابوا عما ولدوه من الشبه، وبينوا الجواب الصحيح لمن انحرف عن السنة والجماعة. وإذا تأمل القارئ هذه الشبهات التي يولدونها، وعرف جوابها الصحيح من أهل السنة قنع بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أمر العباد ونهاهم، وقنع بأنه ما أمرهم إلا وهم قادرون على تنفيذ ما أمر به. وقنع بأنهم لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله عليه، وأنه تعالى أعطاهم ومكنهم وقواهم وجعل لهم استطاعة يزاولون بها الأعمال من طاعات ومعاص، كما يتسببون بها في تحصيل أسباب الرزق، وكل ذلك لا يخرج عن قدرة الخالق. فله القدرة وله الاستطاعة الغالبة لكل قدرة، ولكنه سبحانه لما أعطاهم هذه القدرة نسبت إليهم، وأصبحوا هم المزاولين للأعمال، فهم الذين يصلون ويصومون ويزكون ويتصدقون، وهم الذين يؤمنون ويسلمون ويحسنون ويقبلون ويتعبدون، ويثابون عليها، كما أنهم الذين يسرقون ويزنون ويسكرون ويرابون ويرشون ويعصون ويفعلون المحرمات ويعاقبون عليها. وإن كان الله تعالى هو الذي قدر ذلك كله في هذا الكون، وهو الذي مكن لهؤلاء وأعطاهم هذه القدرة التي زاولوا بها الطاعات، أو زاولوا بها المعاصي: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] . الجزء: 72 ¦ الصفحة: 2 حقيقة فعل العبد لفعله مع كونه مخلوقاً لله سبحانه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: إذا حكمتم باستحالة الإيجاد من العبد، فإذاً لا فعل للعبد أصلاً، قيل: العبد فاعل لفعله حقيقة، وله قدرة حقيقة، قال الله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة:197] وقال تعالى: {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود:36] وأمثال ذلك. وإذا ثبت كون العبد فاعلاً، فأفعاله نوعان: نوع يكون منه من غير اقتران قدرته وإرادته، فيكون صفة له ولا يكون فعلاً، كحركات المرتعش. ونوع يكون منه مقارناً لإيجاد قدرته واختياره، فيوصف بكونه صفة وفعلاً وكسباً للعبد، كالحركات الاختيارية. والله تعالى هو الذي جعل العبد فاعلاً مختاراً، وهو الذي يقدر على ذلك وحده لا شريك له، ولهذا أنكر السلف الجبر، فإن الجبر لا يكون إلا من عاجز، فلا يكون إلا مع الإكراه، يقال: للأب ولاية إجبار البكر الصغيرة على النكاح، وليس له إجبار الثيب البالغ، أي: ليس له أن يزوجها مكرهة. والله تعالى لا يوصف بالإجبار بهذا الاعتبار؛ لأنه سبحانه خالق الإرادة والمراد، قادر أن يجعله مختاراً، بخلاف غيره. ولهذا جاء في ألفاظ الشارع: (الجبل) دون (الجبر) كما قال صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة. قال: أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما؟ قال: بل خلقين جبلت عليهما، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله) . والله تعالى إنما يعذب عبده على فعله الاختياري، والفرق بين العقاب على الفعل الاختياري وغير الاختياري مستقر في الفطر والعقول. وإذا قيل: خلق الفعل مع العقوبة عليه ظلم، كان بمنزلة أن يقال: خلق أكل السم، ثم حصول الموت به ظلم، فكما أن هذا سبب للموت، فهذا سبب للعقوبة، ولا ظلم فيهما. فالحاصل أن فعل العبد فعل له حقيقة، ولكنه مخلوق لله تعالى، ومفعول لله تعالى، ليس هو نفس فعل الله، ففرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق. وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله تعالى بقوله: (وأفعال العباد خلق الله، وكسب من العباد) ، أثبت للعباد فعلاً وكسباً، وأضاف الخلق إلى الله تعالى، والكسب: هو الفعل الذي يعود على فاعله منه نفع أو ضرر، كما قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]] . الجزء: 72 ¦ الصفحة: 3 نسبة الأفعال بأنواعها للعبد وقدرته عليها وهذا الكلام قد تكرر وقد اتضح معناه والحمد لله، وهو معرفة أن الله سبحانه وتعالى أثبت للعباد أفعالاً، قال الله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] وأثبت أيضاً جزاءهم على تلك الأفعال، فيقول مثلاً: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ، نسب الفعل إليهم، فهم الذين يفعلون، وهم الذين يعملون، وهم المؤمنون والمسلمون والمحسنون، كما أنهم إذا خالفوا وصفوا بأنهم الفاسقون، والكافرون، والخاسرون، والظالمون، فتنسب المعاصي إليهم، وتنسب الطاعات إليهم، لماذا؟ لأنهم هم الذين زاولوها؛ لأنهم الذين باشروا فعلها ظاهراً. فأنت تشاهد المصلي فتقول: هذا يصلي، هذا يركع ويسجد، ولا تقول: هذا مجبور على الصلاة، ولا تقول: هذا مجبور على النفقة، بل تقول: هذا ينفق أو يتصدق باختياره، فالصدقة منه تنسب إليه ويطيع ويمتثل أمر الله له في الآيات كما في قوله: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] وفي قوله: {أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:254] . كما ينسب إليه فعل العبادات في قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} [البقرة:21] أليس ذلك دليلاً على أنهم قادرون؟! أيأمر الله العجزة؟! لا يمكن أن يأمر من لا يقدر؛ فإنه لا يكلف نفساً إلا وسعها. والناس بعقولهم يعرفون الفرق بين العاجز والقادر، فلا يقال مثلاً للمقعد احمل هذا الكيس إلى البيت الفلاني؛ لأنه مقعد لا يستطيع أن يقوم فضلاً عن أن يحمل، ولا يقال مثلاً للأعمى: اكتب هذه الرسالة؛ لأنه معذور لا يستطيع، وليس في إمكانه أن يكتبها كغيره، كما لا يقال مثلاً لكل عاجز: افعل هذا الفعل وهو ليس من أهله. إذاً فالله تعالى عندما قال: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة:105] لا شك أنه أمرمهم لكونهم قادرين على أن يعملوا، ولأجل ذلك يثابون على أعمالهم وعلى تنافسهم وعلى مسابقاتهم، وتنسب إليهم خلافاً للمجبرة؛ لأنهم باشروها، ويوصفون بها، الله تعالى يقول مثلاً: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2] ، ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57] ، ويقول مثلاً: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37] . أليس ذلك نسبة للأفعال إليهم؟ هذه صفات أمر الله بها، ومدح أهلها، وجعلها مقدورة للمخاطبين. وعلى هذا فالعباد أعطاهم الله تعالى هذه القوة وهذه القدرة. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 4 دخول قدرة العبد تحت مشيئة الله وقدرته نحن نعتقد أنه لو شاء الله لما فعلوا، لولا مشيئة الله وإعطاؤهم هذه القوة وهذا التمكن لما حصلت منهم هذه القوة، ولذلك يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد:33] {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر:37] . فأخبر بأنه هو الذي هداهم ووفقهم وأعانهم، وهو الذي أمرهم ونهاهم، وهو الذي خلقهم وقواهم، وهو الذي مكن لهم وأعطاهم، وهو الذي سخر لهم وهداهم، كما أنه الذي يعاقب ويثيب، ويعطي ويمنع، ويهدي ويضل، ولكن لا يأمرهم إلا بما في إمكانهم فعله. ولذلك يقول الله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] ، ويقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] يعني: أنه ما أمرهم إلا بما يستطيعونه وبما يقدرون عليه، ولو كان الأمر كما يقوله المجبرة، لكان أمرهم بما لا يقدرون عليه، وذلك بلا شك من تكليف ما لا يطاق. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 5 عقيدة الجبرية في أفعال العبد بأنواعها والرد عليهم فالمجبرة يقولون: العبد مجبور على فعله، ليس له أية فعل، ولا ينسب إليه بل حركته كحركة المرتعش. بعض الناس مثلاً عند الكبر يكون غير قادر على إمساك يده، فترى يده تضطرب وتتحرك بدون اختياره، إلا أن يرفعها ويخفضها، لكن إذا وقف ومدها رأيتها ترتعد، هذا هو الارتعاش. فالمجبرة يزعمون أن العباد كلهم ليس لهم أدنى قدرة ولا أدنى حركة، وإنما حركاتهم وركوعهم وسجودهم وكسبهم وعطاؤهم ومنعهم، وصلاتهم وصومهم، وحجهم وعمرتهم، وطوافهم وسعيهم، وجهادهم ونفقاتهم، كلها ليست اختيارية بل قهرية! وكذلك المعاصي يعتبرونها قهرية، فهم يعذرون من زنى، ومن سرق، ومن قتل، ومن شرب الخمر، ومن نهب، ومن سلب؛ لأنهم في زعمهم ليس لهم فعل، بل هم مجبورون على هذا الفعل! لا شك أن قولهم هذا تبطل به الأحكام، وتعطل الشرائع، ولا حاجة إلى إرسال الرسل، مادام المطيع مجبوراً على الطاعة، والعاصي مجبوراً على المعصية، إذاً فلماذا أمر الله ونهى؟! لا شك أن هذا تجرؤ على الله جل وعلا، ثم هو أيضاً مخالفة للعقول والبداهة، الإنسان بفطرته يعرف أن عنده قدرة على المزاولة، إذا رأيت مثلاً إنساناً نشيطاً، ومع ذلك رأيته جالساً ليس له عمل، وليس له حرفة، مع أنه مفكر وعارف وقادر وقوي البنية وقوي التركيز وقوي الأعضاء ومع ذلك لا يعمل، ألست تلومه على هذه البطالة؟ وتقول له: إن الله يبغض الفارغ البطال، لماذا هذه البطالة؟ لماذا هذا الكسل؟ أتريد أن يأتيك رزقك ويدخل عليك بيتك؟ أتريد أن ينزل عليك الطعام والشراب من السماء؟ فأنت تلومه؛ لأنه مستحق لأن يلام؛ وذلك لأن الله سبحانه كما أمر بالطاعات، أمر بالكسب وأباحه في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] وفي قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] . فمادام كذلك فإنه سبحانه أمرنا بأن نبتغي الرزق، وأن نتطلبه، وكل عاقل يتطلب ذلك بفطرته، فإذا تمكن وقويت بنيته، وكملت أعضاؤه وكمل نموه، ما بقي عليه إلا أن يتكسب كما يتكسب آباؤه وأعمامه وأجداده، ويطلب ما يطلبون، ويعف نفسه ويغني نفسه. فإذا كان ذلك جبلة وطبيعة، فكذلك في القوة الإيمانية والأوامر الشرعية يقال: إن الله أمرك بأن تطلب النجاة، وأن تعمل الأعمال التي تكون سبباً في سعادتك عاجلاً وآجلاً. نقول بعد ذلك: لا شك أن الإنسان قد جبل على بعض الصفات، ويسمى ذلك جبلة ولا يسمى إجباراً، كما سمعنا من الشارح أنه فرق الجبر والجبل، فقال: لا يقال: هذا مجبور على فعله، بل يقال: مجبول على هذه الأخلاق، الجبلة: هي الطبيعة والخلقة، يقال: طبيعة فلان وجبلته الصدق، طبيعته الحلم، طبيعته اللين، أو طبيعته الكرم، السخاء، الاهتداء، النصيحة، وكذلك يقال: هذا جبل على البخل، وعلى الشح، وجبل على الجبن وعلى الخوف، وجبل على الكذب وعلى الخيانة وعلى الغش، وما أشبهها، يعني: أنها صفات جبلية مغروسة في نفسه، وأن نفسه الشريرة تميل إليها، أو نفسه الخيرة تميل إلى الصفات الخيرية. أما الجبر الذي تقول به الجبرية فإنه الإكراه والإلزام على الفعل بدون اختيار، وبدون قدرة، فيقال مثلاً: الأمير أجبر فلاناً على القتل، أو فلاناً على السكر، يعني: أكرهه وألزمه به، وفلانة أجبرت على الزنا، يعني: أجبرها هذا وفعل بها، وهكذا، ففرق بين هذا وبين هذا. فالصفات الجبلية أخلاق وليس فيها إكراه، بل يفعلها باختياره سواء كانت طاعات أو معاصي، وأما الجبر فالله منزه عن أن يجبر أحداً أو يكره أحداً، بل قال: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] وإنما هي بالاختيارات وبالجبلات وما أشبهها. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 6 التكليف بحسب الطاقة والاستطاعة قال المؤلف: [وقوله: (ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم. وهو تفسير: لا حول ولا قوة إلا بالله، نقول: لا حيلة لأحد، ولا تحول لأحد، ولا حركة لأحد عن معصية الله، إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله تعالى، وكل شيء يجري بمشيئة الله وعلمه وقضائه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ) . فقوله: (لم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون) قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، وقال تعالى: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [الأنعام:152] . وعن أبي الحسن الأشعري: أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً، ثم تردد أصحابه أنه: هل ورد به الشرع أم لا؟! واحتج من قال بوروده بأمر أبي لهب بالإيمان، فإنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن، وأنه سيصلى ناراً ذات لهب، فكان مأموراً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين الضدين وهو محال. والجواب عن هذا بالمنع، ولا نسلم أنه مأمور بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، والاستطاعة التي بها يقدر على الإيمان كانت حاصلة، فهو غير عاجز عن تحصيل الإيمان، فما كلف إلا ما يطيقه كما تقدم في تفسير الاستطاعة. ولا يلزم قوله تعالى للملائكة: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء} [البقرة:31] مع عدم علمه بذلك، ولا للمصورين يوم القيامة: (أحيوا ما خلقتم) وأمثال ذلك؛ لأنه ليس بتكليف طلب فعل يثاب فاعله، ويعاقب تاركه، بل هو خطاب تعجيز، وكذا لا يلزم دعاء المؤمنين في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] ؛ لأن تحميل ما لا يطاق ليس تكليفاً، بل يجوز أن يحمله جبلاً لا يطيقه فيموت، وقال ابن الأنباري أي: لا تحملنا ما يثقل أداؤه، وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه، قال: فخاطب العرب على حسب ما تعقل، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه: ما أطيق النظر إليك! وهو مطيق لذلك، لكنه يثقل عليه، ولا يجوز في الحكمة أن يكلفه بحمل جبل بحيث لو فعل يثاب، ولو امتنع يعاقب، كما أخبر سبحانه عن نفسه أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها] . الجزء: 72 ¦ الصفحة: 7 التكليف والأمر الشرعي عند أهل السنة يدين أهل السنة بأن الله أمر القادرين ولم يأمر العاجزين، أمرهم بما هو في وسعهم ولم يأمرهم بما ليس في وسعهم، وإذا قيل: لماذا سميت العبادات تكاليف؟ نقول: سميت بذلك لكون الذي يفعلها يوصف بأنه مكلف، أي: مأمور ومنهي، ومع ذلك فليس في فعلها كلفة ولا مشقة، صحيح أن الكلفة هي الشيء الثقيل، كما في قول بعضهم: يكلفه القوم ما نابهم وإن كان أصغرهم مولدا يعني: يأمرونه بما يدفع عنهم المصائب فيقوم بذلك ولو كان أصغرهم، فدل على أنه يفعل شيئاً في إمكانه وشيئاً في قدرته، فنحن نعتقد أن الله تعالى ما أمر إلا بما هو في الإمكان، ولم يكلف الإنسان إلا بما يستطيعه، فمثلاً: الصيام قد يقال فيه كلفة، سيما في الأيام الطويلة وشدة الحر، ولكن هو في الإمكان وهو في الاستطاعة، غالباً أنهم يقدرون على الإمساك إلى أن يذهب النهار ويدخل الليل، والقدرة على ذلك معتبرة، فإذا كان هناك مشقة فإنهم يضجرون؛ فلأجل ذلك قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184] يعني: فأفطر {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] وإذا قلت: إن هناك بلاداً يطول فيها النهار، بحيث يكون مثلاً ثمانية عشرة ساعة أو عشرين ساعة أو نحوها، فإمساكها فيه كلفة وفيه صعوبة، أجاب العلماء: بأنه يمكنهم إذا عجزوا أن يفطروا ويقضوه من أيام أخر إذا قصر النهار؛ لأنه أحياناً يقصر عندهم النهار حتى يكون أربع ساعات أو ست ساعات أو ثمان ساعات أو عشراً أو نحو ذلك. فإذاً ليس في الأمر مشقة. وإذا قلت مثلاً: إن الوضوء فيه صعوبة، فلماذا كلف به؟ نقول: ليس فيه صعوبة، وإن كان الإنسان قد يجد برودة في الماء مثلاً؛ فلأجل ذلك إذا كان مريضاً لا يستطيع أن يتطهر فإنه يعدل إلى التيمم، وإذا كان مسافراً لا يستطيع حمل الماء معه فإنه يعدل إلى التيمم؛ لرفع الحرج. إذاً فليس في الشريعة شيء من الكلفة الشاقة على العباد، بل المشقة تجلب التيسير، فالله سبحانه ما كلف العباد إلا بما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم به، لا يطيقون الشيء الزائد على ذلك، صحيح أنهم قد يطيقون أكثر، يعني: قد يقول القائلون: الله ما أمر إلا بصوم شهر واحد ونحن نطيق صوم شهرين، أو صوم ستة أشهر، أو نحو ذلك، ف الجواب أن القدرة العامة التي يشترك فيها الناس عموماً: هي صوم هذا الشهر، فأما القدرة الخاصة فالإنسان يفعل الشيء بقدر قدرته، ومعلوم أنه لو فرض شهرين أو ثلاثة أشهر لشق على كثير من الناس، وإن كان آخرون لا يشق عليهم. كذلك مثلاً لو فرض عليهم أن يحملوا الماء في الأسفار الطويلة لشق على كثير، وإن كان آخرون لا يشق عليهم. ويقال هكذا في سائر العبادة، فالعبادة إنما كلف الإنسان منها بما يستطيعه، ولأجل ذلك فالمصلي مأمور بأن يصلي قائماً، ولكن قد يكون مريضاً فيصلي جالساً؛ لأن المشقة تجلب التيسير، وكذلك قد يشق عليه أن يصلي جالساً فينتقل إلى صلاته على جنب، كما ورد ذلك في الأحاديث. فليس في الشريعة كلفة ولا مشقة، بل لم يأمر الله إلا بما هو مقدور للعباد. والأدلة واضحة كما سمعنا فإن قول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:233] ، {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [الأنعام:152] (وسعها) بمعنى: أنها لا تكلف إلا بقدر طاقتها وقدرتها وتمكنها، فلا تكلف فوق ذلك مما يشق عليها. لو فرض الله على العباد أن يخرجوا زكاة أموالهم النصف في كل عام، لكان في ذلك شيء من الكلفة، قد يقول قائلهم: أنا جهدت في جمع هذا المال وتعبت فيه، وما حصلته إلا بعرق الجبين، فكيف أعطي هذا الذي ما تعب فيه النصف مثلاً أو الثلث؟! لكن لما علم الله أن هناك من الضعفاء والعجزة والفقراء ونحوهم جعل لهم حقاً في أموال الأغنياء، وجعل ذلك الحق يسيراً لا يكلفهم، يعني: ليس فيه كلفة، وهو ربع العشر، هذا دليل على أن الشريعة إنما أمرت بما يستطاع، لم يأت أمر فيه مشقة على النفوس. معلوم أن هناك نفوساً ضعيفة قد تتثاقل عن الأشياء الخفيفة، وقد لا تصبر عن الشهوات المحرمة، وهذه ليست عبرة، فإذا قلت مثلاً: إن هناك أناساً يستثقلون الصلاة، يستثقلون الإمام إذا قرأ عليهم مثلاً في الركعة الواحدة بورقة أو ورقتين فيقولون: قد شق علينا، وكلفنا، وأتعبنا، وكادت أرجلنا أن تتحطم، وكادت ظهورنا أن تنفصل، وما أشبه ذلك! نقول: هؤلاء ليسوا صادقين، لأنا نشاهدهم أقوياء، نشاهدهم أشداء في أبدانهم، نشاهد أحدهم إذا لعب مثلاً في المباريات، أو إذا سار فيها لم يكسل. إذاً فقولهم هذا كلفة! هذا مشقة! هذه إطالة لا تطاق! نقول: ليسوا كذلك أيضاً. كذلك هناك نفوس ضعيفة يقولون: إن منعنا عن شهواتنا تكليف بما لا يطاق! فمثلاً يقولون: نفوسنا لا تصبر عن أن تفعل هذا الفعل، ومثلاً إذا اشتدت في أحدهم الشهوة قال: لا أصبر عن الزنا، وتكليفي بالعفاف تكليف بما لا يطاق، وكذلك تكليفي مثلاً بالصبر عما أشتهيه وتندفع إليه نفسي تكليف بما لا يطاق، وتكليفي بمنعي مثلاً عن الشراب الروحي -كما يعبرون عن الخمور ونحوها- تكليف بما لا تستطيع النفس أن تصبر عنه، بل تندفع إليه اندفاعاً ولا يقدر على كبحها. سبحان الله! هل هذا تكليف بما لا يطاق، إذا منعنا الله تعالى من الزنا، ومنعنا من المسكرات، هل هو تكليف بما لا يطاق؟! الله تعالى ما حرم علينا شيئاً إلا وجعل له بدلاً يقوم مقامه، فأحل لنا النكاح الذي يقوم مقام الزنا، يقول تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] ويقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] فكيف يقول هذا: إن تكليفي بالتعفف وبالامتناع منه من تكليف ما لا يطاق؟! نقول: هذا كذب، بل الإنسان يقدر أن يقنع نفسه ويمنعها عن المحرمات، وليس عليه مشقة. على كل حال نقول: إن هذه قاعدة مطردة: وهي أن التكاليف الشرعية ليس فيها مشقة، سواء كانت أفعالاً أو سلوكاً، فأشق ما فيها الجهاد، الذي فيه تعرض للقتل، ولكن لما علم المؤمنون بعاقبتهم الحميدة من كونهم يناصرون الإسلام وفي سبيل الله هانت عليهم نفوسهم، لما علموا أيضاً بأن الرب سبحانه يمدهم ويقويهم وينزل عليهم الملائكة لتقاتل معهم ويخذل أعداءهم، كان ذلك دافعاً لهم إلى أن يستميتوا، لما علموا بأنهم إذا قتلوا في سبيل الله فهم أحياء عند ربهم يرزقون، كان ذلك أيضاً دافعاً لهم إلى التفاني في سبيل الله، لما علموا أيضاً أن أعداء الله من الكفار يقاتلونهم على كفرهم وتهون عليهم أنفسهم وهم كفار، كانوا أولى منهم بذلك أن يفدوا دينهم الصحيح، إذا كان هؤلاء يفدون دينهم الباطل فنحن نفدي ديننا الصحيح، ولأجل ذلك قال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] . الجزء: 72 ¦ الصفحة: 8 شرح العقيدة الطحاوية [73] القوة والقدرة مستمدة من الله تعالى، وهو خالقها في الإنسان، وقد اختلف الناس في ذلك حتى جعل بعضهم الفعل المتروك غير مقدور عليه، ولكن الأدلة تدل على خلاف قولهم. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 1 القدرة والقوة مستمدة من الله سبحانه أثبت المسلمون عموم قدرة الله تعالى؛ لقوله عز وجل: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120] يدخل في ذلك الموجود والمعدوم، يدخل في ذلك الأعراض والجواهر، الأفعال والحركات، والمخلوقات كلها داخلة في عموم قدرة الله، وأن الله قادر عليها ولا يخرج عن قدرته شيء. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 2 معنى قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله كذلك مما دل على ذلك الأدعية المأثورة، فمن المأثور قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي موسى: (ألا أدلك على كنز من كنوز العرش، أو من كنوز الجنة؟! لا حول ولا قوة إلا بالله) . تأمل معنى هذه الجملة: (لا حول) أي: لا تحول لأحد من حال إلى حال إلا بالله. (ولا قوة) أي: لا قدرة لأحد إلا بالله، فإن أقدره الله فهو قادر فاعل، وإن منعه وحال بينه وبين الفعل فليس بقادر وليس بفاعل. هذه الكلمة كثيراً ما يتلفظ بها العباد، وهي: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، فأهل السنة يدينون بمعناها، ويعتقدون أن الحول أي: التحول والانتقال من الفقر إلى الغنى أو من الضعف إلى القوة أو من القوة إلى الضعف أو كذلك من العطاء إلى المنع، ومن المنع إلى العطاء، ومن الهدى إلى الضلال، أو من الضلال إلى الهدى، الانتقال من حال إلى حال هو بقضاء الله وبقوته وبقدرته. والقوة معناها: الاستطاعة، فالإنسان قوته التي يزاول بها الأعمال هي من الله، إذا شاء سلبك هذه القوة فأصبحت عاجزاً مقعداً، وإذا شاء منحك هذه القوة وزادك قوة إلى قوتك، فهو الذي خلق الإنسان من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة. الإنسان مبدؤه أن الله خلقه ضعيفاً ثم أمده بقوة منه، إذا شاء سلب هذه القوة في أوانها وفي عنفوانها، وإذا شاء زادها ومكنها. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 3 معنى قوله: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) كذلك أيضاً من الأدعية المأثورة قول النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأذكار: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) ويقول بعضهم: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن ما شاءه الله لا بد أن يحصل ولو كره العباد كلهم، وما لم يشأه فلا يحصل ولا يحدث ولا يقع ولو شاءوه ولو أرادوه ولو حاولوه، فالحول حوله، والقول قوله، والقوة والقدرة منه سبحانه. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 4 ارتباط وتعلق فعل العبد وتركه بقدرة الله سبحانه فالعباد مأمورون، ولكن القوة التي يزاولون بها فعل الأوامر هي من الله، كذلك منهيون والقوة التي يمتنعون بها عن النهي هي أيضاً من الله، هو الذي يمدهم بالقوة التي يمارسون بها الأفعال، ويمدهم بالقوة التي تحميهم من المنهيات، كذلك أيضاً إذا خذل من شاء من عباده، فعل ما فعل من المعاصي والمحرمات، فذلك أيضاً بقضاء الله وبقدره، ولو شاء لمنعهم من ذلك، ولحال بينهم وبينه، ولكن له الحكمة في ذلك، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] له التصرف في العباد، ولا يكون في الكون إلا ما يريد، لو شاء لهدى الناس أجمعين، ولو شاء لأضلهم، فإذا هداهم فبنعمته وفضله، وإذا أضلهم فبحكمته وعدله. لكن إذا هداك الله وألهمك رشدك وسددك، فعليك أن تشكره على هذه الهداية، وأن تستعين بما أعطاك من القوة على الطاعة، وإذا رأيت من أضلهم الله ورأيت ومن حرمهم الخير، فإنك تحمد ربك على أنه لم يجعلك مثلهم، وتقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، فله سبحانه الأمر والنهي وله القدرة التامة، وله التصرف في العباد، هو الذي كلفهم وأمرهم ونهاهم، وهو الذي أعطاهم، ومنع من شاء منهم، وهو الذي يهدي ويضل، ويسعد ويشقي، ويمنع ويعطي، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. وإذا من الله على بعض العباد، فإن ذلك فضل منه، فعليهم أن يشكروه على هذا الفضل، وإذا خذل بعضاً من العباد وخلّى بينهم وبين أهوائهم، وسلط عليهم أعداءهم وساموهم سوء العذاب، فذلك حكمة منه وعدل، فما حصل لهؤلاء محض فضل منه وحكمة، ويجب أن يشكروه عليها، وما حصل لهؤلاء من خذلان فهذا من حكمته سبحانه، ويجب عليهم أن يعرفوا السبب، فالسبب من قبل أنفسهم، كما يقول الله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] ويقول تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] أي: أنه يستحق ذلك بسبب ما جبل عليه، وبسبب الخلق السيئ الذي علم الله أنه لا يناسبه إلا أن يحرمه من الخير وغيره، ويحول بينه وبين الهداية، فهو الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 5 سهولة ويسر التكاليف الشرعية وسبب استثقالها عند البعض قوله: (إن الله تعالى كلف العباد بما يطيقون، فلا يطيقون إلا ما كلفهم، ولم يكلفهم إلا ما في قدرتهم وفي وسعهم) ، فهو سبحانه أمر العباد ولكن لم يأمرهم بما هو مستحيل، ولم يأمرهم بما يعجزون عن تطبيقه ولا عن فعله، لم يأمرهم إلا بالشيء الذي هو في وسعهم وفي قدرتهم وفي طاقتهم، ولا يخرج عن إرادتهم. كذلك أيضاً ما كلفهم إلا بما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم به، فلو كلفهم بما يعجزون عنه لكان لهم حجة أنهم لا يستطيعون ذلك، فعند ذلك يقال: كيف يطيقون الشيء الذي فوق قدرتهم؟! فلذلك قال الله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] . فإذا علم العباد بذلك ونظروا إلى التكاليف التي أمروا بها وجودها سهلة ويسيرة ليس فيها مشقة، ولو استثقلتها بعض النفوس، فإن تلك النفوس التي تستثقلها إنما أتيت من ضعف في النفس، لا أن ذلك لعجز في الفعل كما هو مشاهد؛ فلأجل ذلك نجد أن الاثنين متفاوتان في العبادة، أحدهما يفرح بطول الصلاة ويطمئن بذلك ويعجبه، ولو كان بدنه نحيفاً ضعيفاً، وآخر يستثقل الصلاة ولو كانت خفيفة مع كونه بديناً قوياً، فإذاً هذا التفاوت من ضعف النفوس، لا أنه تكليف بما يعجز البشر، فالله ما كلفهم إلا بما فيه قدرتهم واستطاعتهم. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 6 الرد على من يجعل الفعل المتروك غير مقدور عليه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من يقول: يجوز تكليف الممتنع عادة، دون الممتنع لذاته؛ لأن ذلك لا يتصور وجوده، فلا يعقل الأمر به، بخلاف هذا. ومنهم من يقول: ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز تكليفه، بخلاف ما لا يطاق للاشتغال بضده، فإنه يجوز تكليفه. وهؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى، لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق؛ لكونه تاركاً له مشتغلاً بضده، بدعة في الشرع واللغة، فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه! وهم التزموا هذا، لقولهم: إن الطاقة -التي هي الاستطاعة وهي القدرة- لا تكون إلا مع الفعل، فقالوا: كل من لم يفعل فعلاً فإنه لا يطيقه، وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف، وخلاف ما عليه عامة العقلاء، كما تقدمت الإشارة إليه عند ذكر الاستطاعة. وأما ما لا يكون إلا مقارناً للفعل، فذلك ليس شرطاً في التكليف، مع أنه في الحقيقة إنما هناك إرادة الفعل. وقد يحتجون بقوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} [هود:20] ، {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} [الكهف:67] وليس في ذلك إرادة ما سموه استطاعة، وهو ما لا يكون إلا مع الفعل، فإن الله ذم هؤلاء على كونهم لا يستطيعون السمع، ولو أراد بذلك المقارن، لكان جميع الخلق لا يستطيعون السمع قبل السمع، فلم يكن لتخصيص هؤلاء بذلك معنى، ولكن هؤلاء؛ لبغضهم الحق وثقله عليهم، إما حسداً لصاحبه، وإما اتباعاً للهوى، لا يستطيعون السمع. وموسى عليه السلام لا يستطيع الصبر، لمخالفة ما يراه لظاهر الشرع، وليس عنده منه علم. وهذه لغة العرب وسائر الأمم، فمن يبغض غيره يقال: إنه لا يستطيع الإحسان إليه، ومن يحبه يقال: إنه لا يستطيع عقوبته؛ لشدة محبته له، لا لعجزه عن عقوبته، فيقال ذلك للمبالغة، كما تقول: لأضربنه حتى يموت، والمراد: الضرب الشديد، وليس هذا عذراً، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه؛ لفسدت السماوات والأرض، قال تعالى: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71]] . لا شك أن هذا الكلام معاتبة ومجادلة لبعض من خالف الحق في هذه المسألة، وأنه لا فائدة فيه، ولا طائل في مجادلتهم؛ لأنها أقوال تخالف المحسوس، وتخالف المعقول؛ وذلك لأن العبد قد أعطي قوة، ولا شك أن تلك القوة كامنة فيه، وأنه بواسطتها يستطيع أفعالاً وإن لم يفعلها، فهؤلاء المبتدعة من جبرية وقدرية ونحوهم عندهم أن الأفعال التي لم تفعل ولو كانت سهلة توصف بأنها غير مقدورة للعبد، فإذا رأوا إنساناً كافراً قالوا: هذا لا يقدر على أن يؤمن، مع أنه يقدر، وإذا رأوا إنساناً ما صلى قالوا: هذا لا يقدر أن يصلي، فكل شيء لم يفعله الإنسان مع قدرته عليه يقولون: إنه لا يقدر عليه، مع أنه في استطاعته، وهذا يخالف الحس ويخالف الظاهر. فمثلاً: أنت لو رأيت إنساناً قوي البنية وقوي البدن تستطيع أن تقول: هذا يستطيع أن يحمل مثلاً كيساً ولو لم يحمله، ولو لم تره قد حمل هذا الكيس من قبل، ويكون ذلك أيضاً فيما سخر الله من الدواب التي تركب عليها، فيقال: إن هذا الجمل يستطيع أن يحمل مائة صاع ولو أنه ما حمل عليه. فإذاً الاستطاعة والحمل ليسا بمحصلين لما فعل، بل بما توافر فيه واستقر فيه من الوصف، فهو يستطيعه ولو لم يباشره. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 7 نفي القدرة والاستطاعة عن فعل الخير أو ترك الشر عند أهل البدع بخلاف هؤلاء المبتدعة فإنهم إذا رأوا إنساناً ما قرأ، قالوا: هذا لا يستطيع أن يقرأ، ليس له أن يقرأ، إذا رأوا إنساناً لم يحترف حرفة كذا وكذا قالوا: هذا لا يستطيع أن يحرث الأرض، ولا أن يغرس الغرس، ولا أن يرعى الإبل أو يحلبها مثلاً، مع أنه يستطيع وبإمكانه فعله، هذا بالنسبة للأفعال المحسوسة. ويقال كذلك أيضاً في التكاليف سواء كانت طاعات أو معاصي، في الطاعات يقولون لمن لم يصم: هذا لا يستطيع الصوم، لو كان يستطيع الصوم لصام، مع أنه قادر وقوي، كذلك يقولون: لا يستطيع أن يطعم الطعام، أو يخرج من الطعام ما يخرج مثله، مع أنه ذو مال وعنده ثروة، لكن لما رأوه لم يخرج قالوا: لو كان يستطيع أن يخرج لأخرج، لو كان يستطيع أن يتصدق لتصدق، كأنهم يقولون: إنه لا يستطيع لكون الله حال بينه وبين الصدقة. الله تعالى أمره بالصدقة الواجبة في الزكاة والكفارة والنفقة على الأهل والولد ونحو ذلك، ومع ذلك بخل بها، فهو قادر، لو لم يكن قادراً لما أمره الله بذلك، ولو لم يكن قادراً على الصوم لما أمره. فالله أمر الناس بالصوم، فمنهم من صام ومنهم من لم يصم، وأمر الناس كلهم بالصلاة، فمنهم من صلى ومنهم من لم يصل، ولا يقال لمن لم يصل: هذا لا يستطيع، نقول: بل هو مستطيع، ولكن حيل بينه وبينها، فهو محروم والعياذ بالله، ويوصف بأنه عاص، ويعاقب على هذا العصيان، كما يعاقب على تلك الأفعال. وفي الأفعال المنهي عنها والمحرمة، يقولون في من زنى مثلاً أو ارتشى أو سكر: لا يستطيع ترك هذا المنكر ولو كان يستطيع تركه لما فعله، نقول: بل يستطيع ولو لم يستطعه لما نهي عنه، فالله تعالى ما نهى إلا من عنده قدرة على الانزجار وعلى ترك الشيء المنهي عنه، فقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] لو كانوا عاجزين عن الترك لما نهاهم، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الإسراء:33] لو كانوا عاجزين عن الترك لما نهاهم عنه، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31] لو كانوا لا يستطيعون ترك القتل لما نهوا عنه. فكذلك يقال في الطاعات: لو كانوا عاجزين عن الصلاة لما أمروا بها، لو كانوا عاجزين عن الطهارة لما أمروا بها، فإن الله لا يأمر إلا بما هو مقدور، ولا يأمر بالشيء المستحيل أو الثقيل على النفوس الذي يكون فوق طاقتها. وبذلك نعرف أن هذا القول مخالف للعقل، حتى في عرف الناس، فمثلاً: إذا كان لك ولد نشيط قوي، فقلت له: يا ولدي! اذهب فاشترِ لنا طعاماً. فإذا ذهب واشترى فقد أطاع، وإذ لم يذهب فهل يقال: إنه ليس بمستطيع؟! أو يقال: هو عاص لأبيه؟ لا شك أنه يوصف بالعصيان. ولو كان لك ولد مريض -مثلاً- أو مقعد لا يستطيع أن يذهب، فهل تأمره بأن يذهب إلى السوق ليشتري لك حاجة؟ كيف تأمره وهو مريض مقعد لا يستطيع؟! إذاً: فهذا بيان أن الله ما أمر إلا من هو مستطيع، ولأجل ذلك أسقط الحرج عن غير المستطيع، فلما أمر بالجهاد في سبيل الله أسقطه عن أهل الأعذار، فقال: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91] يعني: لا حرج عليهم إذا لم يخرجوا في الجهاد، فدل على أنه ما أمر إلا من هو مستطيع وعنده قدرة، وبذلك نعرف أن التكاليف إنما هي على حسب قدرة العباد، فلم يأمرهم الله إلا بما هو في طاقتهم وفي وسعهم. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 8 الفرق بين الكوني والشرعي من القضاء والإرادة ونحو ذلك قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم به) إلى آخر كلامه، أي: ولا يطيقون إلا ما أقدرهم عليه، وهذه الطاقة هي التي من نحو التوفيق، لا التي من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات. (ولا حول ولا قوة إلا بالله) دليل على إثبات القدر، وقد فسرها الشيخ بعدها، ولكن في كلام الشيخ إشكال، فإن التكليف لا يستعمل بمعنى الإقدار، وإنما يستعمل بمعنى الأمر والنهي، وهو قد قال: لا يكلفهم إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم. وظاهره أنه يرجع إلى معنى واحد، ولا يصح ذلك؛ لأنهم يطيقون فوق ما كلفهم به، لكنه سبحانه يريد بعباده اليسر والتخفيف، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28] ، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، فلو زاد فيما كلفنا به لأطقناه، ولكنه تفضل علينا ورحمنا، وخفف عنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج. ويجاب عن هذا الإشكال بما تقدم: أن المراد الطاقة التي من نحو التوفيق، لا من جهة التمكن وسلامة الآلات، ففي العبارة قلق، فتأمله. وقوله: (وكل شيء يجري بمشيئة الله وعلمه وقضائه وقدره) : يريد بقضائه القضاء الكوني لا الشرعي، فإن القضاء يكون كونياً وشرعياً، وكذلك الإرادة والأمر والإذن والكتاب والحكم والتحريم والكلمات، ونحو ذلك. أما القضاء الكوني: ففي قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12] . والقضاء الديني الشرعي: في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] . وأما الإرادة الكونية والدينية: فقد تقدم ذكرها عند قول الشيخ: (ولا يكون إلا ما يريد) . وأما الأمر الكوني: ففي قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، وكذا قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16] ، في أحد الأقوال، وهو أقواها. والأمر الشرعي: في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] . وأما الإذن الكوني: ففي قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] . والإذن الشرعي: في قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5] . وأما الكتاب الكوني: ففي قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11] ، وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] . والكتاب الشرعي الديني: في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ، وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] . وأما الحكم الكوني: ففي قوله تعالى عن ابن يعقوب عليه السلام: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف:80] ، وقول الله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112] . والحكم الشرعي: في قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] ، وقال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:10] . وأما التحريم الكوني: ففي قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26] ، {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] . والتحريم الشرعي: في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:3] ، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] الآية. وأما الكلمات الكونية: ففي قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137] ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر) . والكلمات الشرعية الدينية: في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124]] . الجزء: 73 ¦ الصفحة: 9 رحمة الله بالعباد في عدم تكليف ما لا يطاق نحن نعرف أن الله تعالى رحيم بعباده، وأنه ما أمرهم إلا بما يطيقونه، ولو أمرهم بزيادة عليه لأطاقوه، ولكنه تعالى رحمهم، فلم يكلفهم ما فيه مشقة وصعوبة عليهم، فلو فرض في السنة صيام شهرين لقدروا على ذلك، ولكن قد يكون فيه مشقة، ولو فرض عليهم في الطهارة الاغتسال بدل الوضوء لقدروا عليه، ولكن فيه مشقة، ولو فرض عليهم كل يوم عشر صلوات لقدروا على ذلك، ولكن مع صعوبة ومشقة، وكذلك لو فرض عليهم الحج مرتين في العمر أو أكثر لاستطاع كثير منهم ذلك، ولكن مع مشقة، ولو فرض عليهم في الزكاة خمس المال أو نصف الخمس بدلاً من ربع العشر لاستطاعوا ذلك، ولكن يكون عليهم شيء من المشقة، فلأجل ذلك خفف الله عنهم. ولما فرض عليهم -أولاً- أن يثبت العشرة للمائة في الجهاد، وأن تثبت المائة للألف، ولا يفرون منهم، علم أن في ذلك شيئاً من المشقة؛ فخفف عنهم إلى أن لا يفر الواحد من الاثنين، فقد أنزل أولاً قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال:65] الواحد يغلب عشرة، ثم بعد ذلك خفف عنهم: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66] فالواحد يغلب اثنين بشرط الصبر، (مائة صابرة) ، {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:66] ، فأخبر بأنهم يقدرون، ولكن خفف عنهم، يعني إذا كانوا صابرين محتسبين غلبوهم بإذن الله، وقد وقع هذا، فأهل بدر غلبوا المشركين مع أن المشركين أضعافهم -أي: مثلهم ثلاث مرات- ولكن هزموهم بإذن الله. وكذلك حكى الله عن طالوت ومن معه أنهم قالوا: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249] ، فحكى عن الذين يظنون أنهم ملاقو الله قولهم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] . والحاصل: أنه سبحانه وتعالى كلف العباد، ولكن كلفهم وهم يقدرون على ما كلفهم به، بل على أكثر منه، وإنما أمرهم بما فيه يسر وسهولة دون حرج ومشقة، ولما أمرهم بالطهارة بالماء علم أن فيهم مرضى لا يستطيعون استعمال الماء، وعلم أن فيهم مسافرين لا يستطيعون حمل الماء في الصحراء، فأباح لهم أن يعدلوا إلى التراب ليتطهروا به، ثم قال بعد ذلك: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6] يعني: أنه لو كلفكم وأحرجكم لأمركم بحمل الماء في الأسفار، ولكن أراد ألا يحرجكم، وكما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، ولما أمر بالصيام علم أن هناك من يشق عليهم كالمرضى والمسافرين، فأباح لهم الفطر والقضاء، فقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] ، ثم قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، أي: لا يشق عليكم ولا يأمركم بما فيه كلفة وتعب. فعلم بذلك أن هذه التكاليف التي أمرهم بها هي في وسعهم وفي قدرتهم وطاقتهم هذا بالنسبة إلى الأفعال المأمور بها. ويقال كذلك بالنسبة إلى الأفعال المنهي عنها: الذنوب والمعاصي المنهي عنها يقدرون على تركها، ولو قال من قال: إنه لا يستطيع تركها، فإنه غير صادق في ذلك، وقد أشرنا إلى ذلك فيما مضى. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 10 إيمان أهل السنة بما هو قدري وامتثالهم لما هو شرعي بعد ذلك تكلم الشارح رحمه الله على القضاء الشرعي والقدري، يعني: أن الله سبحانه له القضاء والقدر، وله الشرع والأمر، فالمراد بالشرعي: الذي يكلف به ويؤمر به، والمراد بالقدري والكوني: الذي كتبه أزلاً، وقضاه وقدره في عالم الغيب، ولم يخير فيه، بل جعله أمراً أزلياً مقدراً مخلوقاً. فعندنا -مثلاً- الإرادة تكون شرعية وقدرية، والأمر يكون شرعياً وقدرياً، والإذن يكون شرعياً وقدرياً، والحكم يكون شرعياً وقدرياً، والكتابة تكون شرعية وقدرية، والكلمات منها شرعية ومنها وقدرية، وأدلتها تقدمت في كلام الشارح رحمه الله. والفرق بينهما: أن الأمر الشرعي كُلِفَ العباد به وبامتثاله، فإذا أمرهم أمراً شرعياً فإنهم يمتثلون ذلك الأمر. وأما الأمر القدري: إذا أخبر بأن هذا مقدر عليهم، وهو أزلي، فإنه لا يُطلب منهم فعله؛ لأنه يخبر بأن هذا هو حكمه وهو قدره. ويقال كذلك في التحريم: فإذا قيل: ما الفرق بين التحريم القدري، والتحريم الشرعي؟ ف الجواب أن التحريم القدري: إخبار بأن هذا الشيء لا يكون، وأن الله كتب تحريمه ومنعه بحيث لا يحصل ولا يتصور وجوده، وأما التحريم الشرعي فهو نهي، يعني: نهى الله العباد عن أن يفعلوا هذه الأشياء، وأخبرهم بأنها محرمة عليهم. والتحريم معناه المنع، أي: منعناكم من هذه الأشياء، كقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] إلى آخره، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ، فليس هذا مثل قوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأنبياء:95] ، فإن ذلك معناه أن الله قدر أنها لا تعود، وجعل ذلك ممتنعاً أصلاً. فعرفنا بذلك أن هناك فرقاً ظاهراً بين الأوامر الشرعية والقدرية، وبين الإذن الشرعي والقدري، وبين الإرادة الشرعية والقدرية، والحكم الشرعي والقدري، والكتابة الشرعية والقدرية وما أشبه ذلك. فالذي يهمنا أن نؤمن بالقدري، ونعتقد أنه حق وصدق، نقول: هذا قدر الله، وهذه كتابته، وهذا تقديره علينا، لا مفر لنا منه، هذا حكمه الذي حكم به أزلاً على العباد. أما الشرعي فإننا نمتثله ونعمل به، فإن قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة:45] ، {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ} [الأعراف:145] أمر شرعي، معناه: أنه أمر فيها بأوامر شرعية، من ذلك: أن النفس بالنفس إلخ، بخلاف قوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} [الأنبياء:105] ، وقوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف:145] وما أشبه ذلك من الأمور الماضية السابقة. والفرق بينهما: أن الشرعي يدين به العباد ويعملون به، والقدري يؤمنون به ويعتقدونه. ولم يعرف أكثر المبتدعة الفرق بينهما؛ فوقعوا في الخطأ والضلال، فإنهم لما لم يفرقوا بين الإرادة الشرعية والإرادة القدرية؛ جعلوا الجميع مراداً لله، وجعلوا إرادة الله للمعاصي رضاً بفعلها، فقالوا: إن الله لو لم يردها لما حصلت، ولو أراد الطاعات لحصلت. نقول: إن هذه إرادة قدرية، فلا تقيسوها بالإرادة الشرعية. تقدم الفرق بين الإرادتين ودليلهما، فإن دليلة الشرعية: قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28] ، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] ، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185] ، هذه شرعية، بخلاف قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] ، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] فإن هذه إرادة قدرية دالة على أن قدرة الله تعالى أزلية قديمة، وأن العبد ليس له مفر مما قدره عليه. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [74] من رحمة الله بعباده أن يسر لهم سبل النجاة، وجعل أعمالهم سبباً لدخول الجنة والنجاة من النار، ومع هذا فإنه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، وهذه عقيدة أهل السنة، خلافاً للجبرية والقدرية. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 1 رحمة الله وجنته فضل منه سبحانه، وعذابه وناره عدل منه سبحانه يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) . لا شك أن الهداية بيد الله تعالى، وكذا الإضلال، فمن هداه الله فذلك نعمة من الله عليه وفضل وكرم، ومن أضله فلم يظلمه، وليس للعبد حجة على الله، بل لله الحجة البالغة، فإذا شاء هدى وإذا شاء أضل، فمن هداه الله فقد أنعم عليه، فهدايته له فضل منه، ومن أضله الله فإنه عدل منه، فإنه تعالى لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، وأيضاً هو المنعم المتفضل على خلقه. وقد ورد في بعض الأحاديث: أن الله تعالى لو عذب خلقه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، فلو رحمهم كلهم لكانت رحمته فضلاً منه، فهو سبحانه قد تنزه عن الظلم، فوي الحديث القدسي: (يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا) فهو سبحانه لا يظلم {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] ، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ، فإذا أهلك العباد أو سلط بعضهم على بعض، أو سلط عليهم عقوبة سماوية، أو عاقبهم بالعذاب بالنار، لم يكن ذلك ظلماً، بل هم يستحقون ذلك، فإنه لا يمكن أن يهلكهم أو يعذبهم إلا بظلم منهم، يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] ، فلا يهلكهم ظلماً منه لهم، ولا يهلكهم إلا بعدما يقيم عليهم الحجة. وكذلك إذا أنعم عليهم فإنه هو المتفضل، وفي حديث الأوراد يقول عليه الصلاة والسلام: (لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله المن، وله الثناء الحسن) ، فالنعمة منه وحده، والفضل على الخلق منه وحده، وكذلك الثناء الحسن، فإذا عرفنا أن ربنا سبحانه هو المتفضل على عباده؛ فنعلم أن نعمه لا تنفك عن العباد: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] ، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] ، فما أصابنا من نعمة فهو محض فضل الله، ومحض منه على عباده، وليس بأعمالنا، ولا باكتسابنا، ولا باستحقاقنا، بل أعمالنا تضعف عن أن نستحق هذا الفضل وهذه النعمة؛ ولكن هو الذي يتفضل على هؤلاء بالنعم وبالخيرات، وبالنصر وبالتمكين، وبالعطاء وبالصحة وبالإعزاز، وبغير ذلك من أنواع النعم، أو يسلط على من يشاء ما يشاء من المصائب والعقوبات، وكل ذلك محض عدله. وعلى هذا: فإن المسلم يعتمد على ربه سبحانه وتعالى، ويأتي بالأسباب التي تكون مؤهلة له أن يكون من أهل الفضل مؤهلة له أن يستحق لأجلها أن يكون أهلاً للامتنان أهلاً للنعمة أهلاً للخير، ويبتعد عن النقم والعقوبات التي تكون سبباً للعذاب، والتي يعذب الله بسببها، فإنه سبحانه قد رتب للنعم أسباباً، وهي الأعمال الصالحة، فجعلها سبباً لتفضله، فلنأتِ بالأسباب التي يرحمنا الله بسببها، وجعل للعقوبات أسباباً وهي المعاصي، فلنبتعد عن العقوبات وعن أسباب العقوبات وهي المعاصي؛ حتى نسلم من العقاب، ونحظى بالثواب. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 2 تنزيه الله لنفسه عن الظلم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (يفعل ما يشاء، وهو غير ظالم أبداً) : الذي دل عليه القرآن من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد، يقتضي قولاً وسطاً بين قولي القدرية والجبرية، فليس ما كان من بني آدم ظلماً وقبيحاً يكون منه ظلماً وقبيحاً، كما تقوله القدرية والمعتزلة ونحوهم؛ فإن ذلك تمثيل لله بخلقه وقياس له عليهم، وهو الرب الغني القادر، وهم العباد الفقراء المقهورون. وليس الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، كما يقوله من يقوله من المتكلمين وغيرهم، يقولون: إنه يمتنع أن يكون في الممكن المقدور ظلم، بل كل ما كان ممكناً فهو منه لو فعله عدل، إذ الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي، والله ليس كذلك. فإن قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] ، وقوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] ، وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76] ، وقوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] ، وقوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17] يدل على نقيض هذا القول. ومنه قوله الذي رواه عنه رسوله: (يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا) فهذا دل على شيئين: أحدهما: أنه حرم على نفسه الظلم، والممتنع لا يوصف بذلك. الثاني: أنه أخبر أنه حرمه على نفسه، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة. وهذا يبطل احتجاجهم بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهي، والله ليس كذلك. فيقال لهم: هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، وإنما كتب على نفسه وحرم على نفسه ما هو قادر عليه، لا ما هو ممتنع عليه. وأيضاً: فإن قوله: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] قد فسره السلف بأن الظلم: أن توضع عليه سيئات غيره. والهضم: أن ينقص من حسناته، كما قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]] . الجزء: 74 ¦ الصفحة: 3 ضلال أهل الكلام في طريقة تنزيههم لله عن الظلم هذا توضيح لما حكاه عن المعتزلة الذين يقولون: إن الظلم الذي نزه الله نفسه عنه هو الشيء الذي لا يمكن ولا يقدر عليه؛ وذلك لأن من معتقد هؤلاء المتكلمين من المعتزلة: أن العبد هو الذي يهدي نفسه، أو يضل نفسه، وأن الله لا يقدر على أن يهدي هذا أو يضل هذا، فيجعلون الله تعالى عاجزاً، وكذلك يوجبون على الله أن يثيبت المطيع، فيجعلونه حقاً عليه، وتعالى الله عن قولهم، فإنه تعالى ليس عليه حق لعباده: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع فهم يجوبون على الله أن يثيب هذا، ويحرمون عليه أن يعاقب هذا، ويجعلون هذا مستحقاً بعمله، وهذا مستحقاً بعمله، ولا يجعلون لله تصرفاً، ولا يجعلون له منة، ولا يجعلون له فضلاً على عباده ورحمة. لا شك أن هذا تصرف في أفعال الخالق سبحانه، فلأجل ذلك رد عليهم الشارح، وبين أن الظلم الذي نفاه الله تعالى عن نفسه ليس بممتنع ولا بمستحيل، بل هو مقدور، ولكن الله تعالى لا يفعله؛ لكونه غير مستحسن، بل هو أمر مستهجن ومستقبح، فلأجل ذلك نزه الله نفسه في هذه الآيات، فقال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] ، هذا دليل على أنه قادر على أن يظلم، ولكنه منزه عن ذلك، وكذلك قوله: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] ، (لا يخاف ظلماً) أي: بأن يُحمّل سيئات لم يعملها، (ولا هضماً) أي: نقصاً لحسنات قد عملها، بل الله تعالى حكم عدل، فلا يمكن أن يظلم هذا فينقصه، أو يظلمه فيزيد في سيئاته، بل له الفضل عليه، فيضاعف له الحسنات، ويمحو عنه السيئات، ومن أوبقته سيئاته فهو الموبق، ولا يهلك على الله إلا هالك. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 4 الرد على أهل الكلام في طريقة تنزيه الله عن الظلم قال رحمه الله: [وأيضاً فإن الإنسان لا يخاف الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة حتى يؤمن من ذلك، وإنما يؤمن مما يمكن، فلما آمنه من الظلم بقوله: (فلا يخاف) علم أنه ممكن مقدور عليه. وكذا قوله: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق:28] إلى قوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] ، لم يعنِ بها نفي ما لا يقدر عليه ولا يمكن منه، وإنما نفى ما هو مقدور عليه ممكن، وهو أن يجزوا بغير أعمالهم. فعلى قول هؤلاء ليس الله منزهاً عن شيء من الأفعال أصلاً، ولا مقدساً عن أن يفعله، بل كل ممكن فإنه لا ينزه عن فعله، بل فعله حسن، ولا حقيقة للفعل السوء، بل ذلك ممتنع، والممتنع لا حقيقة له! والقرآن يدل على نقيض هذا القول، في مواضع نزَّه الله نفسه فيها عن فعل ما لا يصلح له ولا ينبغي له، فعُلم أنه منزه مقدس عن فعل السوء والفعل المعيب المذموم، كما أنه منزه مقدس عن وصف السوء والوصف المعيب المذموم، وذلك كقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] ، فإنه نزه نفسه عن خلق الخلق عبثاً، وأنكر على من حسب ذلك، وهذا فعل، وقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] ، وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] إنكار منه على من جوز أن يسوي الله بين هذا وهذا. وكذا قوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] إنكار على من حسب أنه يفعل هذا، وإخبار أن هذا حكم سيء قبيح، وهو مما ينزه الرب عنه] . كل هذا رد على كلام هؤلاء المبتدعة، فإن من عقيدتهم أن الظلم الذي نزه الله نفسه عنه مستحيل، فلا يمكن أن يحصل، وعلى موجب كلامهم يقال: إذاً هم آمنون، لأن المستحيل ممتنع الوقوع، فإذاً لا داعي لأن يؤمنهم من الظلم. ويقال أيضاً: إذا كانوا آمنين من الظلم فكيف يؤمنهم منه بقوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] ، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر:31] ، ويقول: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] ؟! فهذا يدل على أنه ممكن، ولو كان شيئاً مستحيلاً لما خافوا منه، ولما أمنهم، فدل على أنه ما نزه نفسه إلا عن شيء مقدور له، ولكنه تعالى نزه عنه نفسه؛ لأنه لا يليق؛ ولأنه وصف للظلمة الذين يفعلون ما لا يستحسن، فيقصرون ويقتلون ظلماً، ويحبسون وينتهبون، فيقال: هؤلاء ملوك ظلمة، وهؤلاء أمراء ظلمة؛ لأنهم يبطشون في الناس بغير حق؛ فلذلك نزه الله نفسه عن مثل هذه الأفعال. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 5 انقلاب الموازين عند الجبرية أما عقيدة الجبرية: فهم الذين يجعلون لله الفعل لما يريد، فيقولون: يجوز لله أن يهلك المتقين، ويجوز له أن يعذب المؤمنين، ويجوز عندهم أن يثيب الكفار، وأن يرفع درجاتهم، يجعلهم في أعلى عليين وهم كفار فجار خارجون عن الطاعة، ويجوز أن يعذب الأتقياء المؤمنين الذين ما عصوه طرفة عين، وأن يجعلهم في أسفل سافلين! هذا قول المجبرة، ويقولون: إنهم ليس لهم اختيار، وليس لهم أفعال، بل الفعل فعله، والقول قوله، ويستدلون بمثل قوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ، وعلى قولهم تكون الخليقة ليس فيها عدل. نقول: إن الله تعالى أعدل من أن يضيع خلقه، ومن الأدلة على نقيض قولهم: أولاً: الأدلة على أنه تعالى ما خلق الخلق عبثاً، كقول تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] أي: مهملاً لا يؤمر ولا ينهى، وهذا حسبان باطل! وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] ، أي: قد حسبتم ذلك، ولكنكم أخطأتم في هذا الحسبان، فما كان ربكم ليهملكم ولا ليترككم مهملين عبثاً. وكقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27] دل على أن من اعتقد أنه خلقهم بغير حكمة، وإنما خلقهم هملاً وسدى، أنه من الكافرين الضالين. ومرت بنا الأدلة التي تنفي التسوية بين أهل الخير وأهل الشر، مثل قوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] أي: لا نجعلهم سواء، بل تأبى حكمة الله أن يجعل المتقين كالفجار، وتأبى أن يجعل المؤمنين كالمفسدين في الأرض، بل لابد أن يميز بينهم. وكذلك قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] ؟ لا يجوز، وهذا خلاف حكمة الله، أن يسوي بين المسلم وبين المجرم، فالمسلم له الثواب، والمجرم يستحق العقاب. ومثله قول الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] ، هل حسبوا ذلك؟ فهذا حسبان باطل! كيف يعتقدون ويحسبون أن نجعلهم -وهم قد اجترحوا السيئات- أن نجعلهم مثل أهل الحسنات؟! ومثل أهل الأعمال الصالحة؟! لقد أخطئوا في هذا الحسبان. هذا كله من مقتضى قول الأشاعرة أو المجبرة الذين يجعلون لله التسوية، ويقولون: يجوز أن يسوي بين الفاجر وبين المؤمن، فلذلك رد عليهم بهذه الآيات، وأصرحها آية سورة (ص) ، وهو قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:27-28] أي: لا نجعلهم، بل لابد أن نميز هؤلاء، فالله تعالى خلق هؤلاء وميزهم، وهؤلاء وحكم عليهم بالشقاء وهؤلاء يستحقون النصر والتمكين في الدنيا وهؤلاء يستحقون الخذلان والعذاب في الدنيا، وفي الآخرة فريق في الجنة وفريق في السعير. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 6 الكلام على حديث: (لو عذب الله أهل سماواته لعذبهم وهو غير ظالم لهم) قال المؤلف رحمه الله: [وروى أبو داود، والحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس، وعبادة بن الصامت، وزيد بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم) . وهذا الحديث مما يحتج به الجبرية، وأما القدرية فلا يتأتى على أصولهم الفاسدة! ولهذا قابلوه إما بالتكذيب أو بالتأويل! وأسعد الناس به أهل السنة، الذين قابلوه بالتصديق، وعلموا من عظمة الله وجلاله قدْر نعم الله على خلقه، وعدم قيام الخلق بحقوق نعمه عليهم، إما عجزاً، وإما جهلاً، وإما تفريطاً وإضاعة، وإما تقصيراً في المقدور من الشكر، ولو من بعض الوجوه، فإن حقه على أهل السماوات والأرض أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وتكون قوة الحب والإنابة، والتوكل والخشية، والمراقبة والخوف والرجاء: جميعها متوجهة إليه ومتعلقة به، بحيث يكون القلب عاكفاً على محبته وتأليهه، بل على إفراده بذلك، واللسان محبوساً على ذكره، والجوارح وقفاً على طاعته. ولا ريب أن هذا مقدور في الجملة، ولكن النفوس تشح به، وهي في الشح على مراتب لا يحصيها إلا الله تعالى، وأكثر المطيعين تشح به نفسه من وجه، وإن أتى به من وجه آخر. فأين الذي لا تقع منه إرادة تزاحم مراد الله وما يحبه منه؟! ومن ذا الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له، ولو في وقت من الأوقات؟! فلو وضع الرب سبحانه عدله على أهل سماواته وأرضه لعذبهم بعدله، ولم يكن ظالماً لهم. وغاية ما يقدر توبة العبد من ذلك واعترافه، وقبول التوبة محض فضله وإحسانه، وإلا فلو عذب عبده على جنايته لم يكن ظالماً، ولو قدر أنه تاب منها، لكن أوجب على نفسه - بمقتضى فضله ورحمته - أنه لا يعذب من تاب، وكتب على نفسه الرحمة، فلا يسع الخلائق إلا رحمته وعفوه، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار أو يدخل الجنة، كما قال أطوع الناس لربه، وأفضلهم عملاً، وأشدهم تعظيماً لربه وإجلالاً صلى الله عليه وسلم: (لن ينجي أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ، وسأله الصديق دعاء يدعو به في صلاته، فقال: (قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) ، فإذا كان هذا حال الصديق -الذي هو أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين- فما الظن بسواه؟ بل إنما صار صديقاً بتوفيته هذا المقام حقه، الذي يتضمن معرفة ربه وحقه وعظمته، وما ينبغي له، وما يستحقه على عبده، ومعرفة تقصيره. فسحقاً وبعداً لمن زعم أن المخلوق يستغني عن مغفرة ربه، ولا يكون به حاجة إليها! وليس وراء هذا الجهل بالله وحقه غاية! فإن لم يتسع فهمك لهذا؛ فانزل إلى وطأة النِّعم، وما عليها من الحقوق، ووازن بين شكرها وكفرها، فحينئذ تعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم] . هذا الكلام دائر حول هذا الحديث. وهذا الحديث أنكرته المعتزلة، واحتجت به الجبرية، ولكنه حجة لأهل الحق وهم أهل السنة، صحيح أن الله تعالى لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم؛ وذلك لأن ما عملوه من الأعمال فهو بفضله، فهو الذي هداهم، وهو الذي أعطاهم، وهو الذي خولهم، وهو الذي سخر لهم، إذاً: فإذا عذبهم فإنه لابد أن يعذبهم على شيء من التقصير، حتى ولو كانوا مؤمنين ومتقين؛ لأن هذا الإيمان وهذا التقى محض عطاء الله ومحض فضله. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 7 لن يدخل أحد الجنة بعمله قد ذكرنا أنه ورد في بعض الأحاديث: أنه يجاء برجل قد عمل أعمالاً صالحة أمثال الجبال، فيقول الله: أدخلوه الجنة برحمتي. فيقول: يا رب! بل بعملي، فعند ذلك يقول الله: حاسبوه. فيقول لنعمة البصر: خذي حقك. فلا تكاد أن تترك من حسناته شيئاً، وتبقى نعمة السمع، ونعمة النطق، ونعمة العقل، ونعمة القوة، ونعمة الشهوة، ونعمة الهداية، ونعمة الإلهام، ونعمة الرزق {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] فعند ذلك يقول: أدخلوه العذاب، فيقول: بل -يا رب! - برحمتك. فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) ، أعمالنا لا تدخلنا الجنة حتى يرحمنا الله معها، فيدخل الجنة برحمته من يشاء، يقول الله تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:31] . وإذا كان العباد مهما عملوا فإنهم بحاجة إلى رحمة الله؛ عُلم أنهم دائماً يسألون ربهم أن يعمهم بواسع رحمته، وهو سبحانه أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 8 كتب الله على نفسه الرحمة قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن رحمة الله تعالى واسعة، يرحم بها عباده فقال صلى الله عليه وسلم: (خلق الله الرحمة مائة جزء، كل جزء طباق ما بين السماء والأرض، فأنزل منها جزءاً واحداً في الأرض، فمن ذلك الجزء تتراحم المخلوقات، وتتراحم الدواب، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة ضم هذه الرحمة إلى تلك الأجزاء فرحم بها عباده) ، فهذا معنى كونه كتب على نفسه الرحمة. وقال في الكتاب الذي كتبه: (فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، إن رحمتي تغلب غضبي) ، ولأجل ذلك كان من أسمائه الحسنى: الرحمن الرحيم، وأخبر بأنه يرحم من عباده الرحماء، وقال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) ، وقال: (من لا يَرحم لا يُرحم) وكل ذلك دليل على أنه تعالى يجود على من يشاء ويرحمهم، ولكن أعمالهم مهما كانت، ومهما كثرت، فهي تقل عن أن يستحقوا بها وحدها الجنة. ولأجل ذلك لما نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] استثقلوا هذه الآية وقالوا: إنا لا نستطيعها، حتى أنزل الله بياناً لها قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، ومع ذلك فسر عبد الله بن مسعود قول الله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] فقال: تقوى الله حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 9 شكر النعمة واحتقار العمل فالإنسان مخلوق لعبادة الله، مأمور بأن يشغل كل أعماله، وكل أفكاره، وكل جوارحه، بعبادة الله، فنظره يجعله كله عبادة، فلا ينظر إلا نظر اعتبار، ولا ينظر إلا نظر رحمة، ولا ينظر إلا فيما ينفعه، فإذا نظر فيما يضره، أو نظر إلى ما لا يحل له، فقد عصى الله بهذا النظر، وكذلك سمعه الذي جعله الله واسطة يسمع به الأصوات، هو نعمة من الله، مأمور بألا يستعمله إلا في الشيء الذي ينفعه مأمور بأن يستمع به الوعظ والعلم والخير والإرشادات والتوجيهات والكلمات النافعة، ولا يستمع به ما يضره، فلا يستمع للهو ولا للعب، ولا يستمع النياح ولا القهقهة، ولا الشيء الباطل، ولا يستمع إلى غيبة أو نميمة أو نحوها، إن استمع إلى ذلك فقد كفر هذه النعمة وما شكرها. وهكذا نعمة النطق، هذا اللسان الذي أنطقه الله، وجعله معبراً عن حاجته، لابد أنه يستعمله في الشيء الذي ينفعه، فإذا صانه وحفظه ولم يتكلم إلا بخير، وجعله مستعملاً في الذكر وفي الشكر وفي الاعتبار، وفي الأمر بالخير والدلالة عليه، وفي النهي عن الشر والتحذير عنه، وكذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الشيء الذي ينفع من ذكر الله وما والاه، والإصلاح بين الناس ونحو ذلك، على حد قول الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] ، فإذا فعل ذلك اعتبر شاكراً لهذه النعمة، وإذا تكلم فيما لا يعنيه، أو تكلم بما لا يجوز له اعتبر كافراً لهذه النعمة. وهكذا يقال في التفكير، العقل الذي مَنَّ الله به على الإنسان، واستعمله فيما ينفعه، ففكر في آيات الله، وفكر في مخلوقاته، وتدبر آياته، وتدبر ما بين يديه وما خلفه، وتدبر أول الأمر وآخره وما أشبه ذلك؛ اعتبر شاكراً لذلك، ولكن إذا صرف شيئاً من ذلك فيما يضره، فقد كفر هذه النعمة، وذلك كما إذا جاء تفكيره وتعقله في أموره الدنيئة، أو في الكيد للإسلام والمسلمين، أو بتدبير الشئون الدنيوية ونسي الأمور الدينية أو ما أشبه ذلك؛ اعتبر كافراً بنعمة العقل. وهكذا يقال في نعمة الجوارح، فاليدان يستعملهما ويبطش بهما في الشيء الذي يقربه إلى الله، والرجلان يسير بهما في الشيء الذي ينفعه، والمأكل والمشرب لا يدخله إلا الشيء الذي يفيده وينفعه. ومعلوم أن الناس في هذا لابد أن يقعوا في أخطاء. إذاً: فكيف مع ذلك يزكون أنفسهم؟! ويدعون أنهم من المقربين؟! وأن حقاً على الله أن يعطيهم؛ وأنه إذا لم يعطهم اعتبر ظالماً لهم؛ وأنه إذا عاقبهم وسلط عليهم الفقر والفاقة ونحو ذلك فهو ظلم منه لهم وما أشبه ذلك؟! نقول: لا شك أن هذا سوء ظن بالله تعالى، وأنه حسن ظن بأنفسهم، والإنسان عليه أن يرجع إلى نفسه بأن يلومها غاية اللوم، وأن ينسب التقصير إليها، وأن يحاسبها أشد المحاسبة، فبذلك يكتبه الله تعالى من أهل الرحمة، ومن أهل الثواب. أما إذا لم يحاسب نفسه، بل اعتقد أنه من المحسنين، وأنه من المتقين، وأنه قد فعل وفعل، وأخذ يمدح نفسه، وأخذ يرفع من شأنه، ويفضل عمله على عمل غيره؛ فإن في هذا ما يسبب بطلان عمله ورده عليه. وإذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يعترف بأنه لا يدخل الجنة إلا إذا رحمه الله بقوله: (ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ، وكذلك من الملائكة من هم سجود من حين خلقوا إلى يوم القيامة، وإذا كان يوم القيامة يقولون: يا ربنا! سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. فكيف بنا نحن الذين قد أضعنا الكثير من حياتنا؟! والذين قد اتبعنا كثيراً من الأهواء، وقد أطعنا النفوس، ومع ذلك نزكي أنفسنا! والله تعالى يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] ؟! فعلى المسلم أن يعتقد أن الله سبحانه هو أرحم بعباده، فيأتي بأسباب الرحمة، ويعتقد بأنه إذا لم تعمه رحمة الله فإنه خاسر، وأنه جعل للرحمة أهلاً، فقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156] إلى آخر الآيات، ذكر أهلها، هؤلاء هم أهل الرحمة، فليس كل من تمناها تحصل له، إذاً فليس أحد ينجيه عمله إلا برحمة الله، ورحمة الله لها أهل، وأسباب الرحمة سهلة ويسيرة على من يسرها الله عليه. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 10 شرح العقيدة الطحاوية [75] لم يزل المسلمون يدعون لموتاهم ويتصدقون عنهم، ويعملون أعمال البر المختلفة يقصدون بها وصول الثواب إليهم، وهم في ذلك مستندون إلى الأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 1 عظيم فضل الله علينا يوجب علينا شكره أحمد الله سبحانه على ما أولانا من النعم ودفع من النقم، نسأله سبحانه أن يوزعنا شكر نعمه التي أنعمها علينا وعلى والدينا، وأن يعاملنا بفضله، ولا يعاملنا بعدله، فإنه سبحانه هو المنعم بكل أنواع الإنعام، فهو الذي أعاننا على ذكره وشكره، وهو الذي هدانا لطاعته {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] . فالهداية فضل منه ونعمة، وكذلك الإعطاء والمنة والإلهام كل ذلك محض فضله على عباده؛ حتى عباداتهم هي إلهام منه وتوفيق، فهو الذي أعانهم ووفقهم وسددهم وقواهم، وجعلهم مطيعين له، ولو شاء لأضلهم جميعاً، ولو شاء لهداهم جميعاً، وله المشيئة النافذة، وله الحكمة البالغة، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ونعمه على عباده لا تحصى، وأياديه عليهم لا تستقصى، فإذا مسهم بالسرور فهو محض فضله، وإذا مسهم بضر فهو ابتلاء منه وامتحان، وفي الصبر على ذلك أجر عظيم، ولذلك يقول بعضهم في بيان الشكر: إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتسع العمر إذا مس بالسراء عم سرورها وإن مس بالضراء يعقبها الأجر فالعبد إذا قال: الحمد لله، فهذه نعمة ألهمه الله وأعانه عليها، فهذه النعمة التي هي الإلهام تحتاج إلى نعمة أخرى يشكرها بها، فإذا قال: أشكر الله، أو: الشكر لله، فهذه نعمة أخرى تستدعي أن يشكر الله عليها، فإذا قال: رب! لك الحمد، فهذه نعمة أخرى تستدعي أن يشكرها، وكذلك إذا ذكر الله وكبره وسبحه واستغفره، كل ذلك نعم منه، وكل نعمة فلها حق أن تشكر ولا تكفر، ولأجل ذلك كانت له النعمة على عباده، وله الفضل عليهم، كما مر بنا أنه لو عذب أهل سماواته لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم؛ وذلك لأنه لا يظلم أحداً، فلا يعذبهم إلا على تقصير منهم في شكر ربهم، ولو حاسبهم على أعمالهم ولو كانت أمثال الجبال، لم تقاوم أصغر نعمة عليهم، سواء كانت نعمة حسية كأسماعهم وعقولهم وألسنتهم وقواتهم، أو نعماً معنوية: كهدايتهم وتعليمهم وفطرتهم الحسنة ونحو ذلك، فإنه لو حاسبهم على هذا العطاء لعذبهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8] : (إن ذلك حساب العرض) ، أن تعرض عليهم أعمالهم دون أن يناقشوا فيها؛ ولذلك يقول: (إن من نوقش الحساب عُذِّب) ، أي: من ناقشه الله الحساب على دقيق النعم وجليلها، وعلى دقيق الأعمال وجليلها، وصغيرها وكبيرها، فإنها وإن كانت حسناته أمثال الجبال لا تقوم أمام أصغر نعم الله عز وجل عليه، فإذاً لابد إذا حاسبهم حساباً شديداً عسيراً أن يعذبهم. ومر بنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ، هذا وهو سيد الخلق وسيد العاملين، الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والذي كان يقوم الليل حتى تفطرت قدماه، ويقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً) ، ومع ذلك أخبر أنه بحاجة إلى رحمة الله! إذاً: فنحن أولى بأن نحتقر أعمالنا، نحن أولى بأن نظهر فقرنا وفاقتنا، نحن أولى بأن نصغر أنفسنا، نحن أولى بأن نظهر الضعف نظهر الفقر نظهر الفاقة نظهر العجز نظهر الذل الذي نحتاج معه إلى التقوية، والذنوب التي نحتاج معها إلى المغفرة، والتقصير الذي نحتاج معه إلى العفو، فإذا لم يتلاف عباده بعفوه فإنهم هالكون، ولذلك لا ينبغي لنا أن نزكي أنفسنا، ونمدحها بكثرة أعمالنا، ونقول: نحن أكثر عملاً، نحن أكثر حسنات من هذا وهذا، نحن الذين عملوا وعملوا، فإن هذه التزكية قد تكون سبباً لحبوط العمل وبطلان ثوابه، ولأجل ذلك يقول الله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32] أي: لا تمدحوها وتفتخروا بأعمالكم، بل الله يزكي من يشاء، فهو الذي يمدح من يشاء أو من يستحق المدح، وعلى هذا فليحتقر المسلم عمله حتى يحصل له مضاعفة الله له، وليطلب من ربه المغفرة، وليدخل عليه من باب الذل والافتقار، وربنا سبحانه عند المنكسرة قلوبهم من أجله. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 2 مسألة: انتفاع الأموات بسعي الأحياء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات) . اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين: أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته. والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له. والصدقة والحج على نزاع فيما يصل إليه من ثواب الحج، فعن محمد بن الحسن: أنه إنما يصل إلى الميت ثواب النفقة، والحج للحاج، وعند عامة العلماء: ثواب الحج للمحجوج عنه، وهو الصحيح. واختلف في العبادات البدنية: كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر: فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها. والمشهور من مذهب الشافعي ومالك عدم وصولها. وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء البتة، لا الدعاء ولا غيره. وقولهم مردود بالكتاب والسنة، لكنهم استدلوا بالمتشابه من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، وقوله: {وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54] ، وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به) ، فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب فيه في الحياة، وما لم يكن تسبب فيه في الحياة فهو منقطع عنه. واستدل المقتصرون على وصول العبادات التي لا تدخلها النيابة بحال، كالإسلام والصلاة والصوم وقراءة القرآن، وأنه يختص ثوابها بفاعله لا يتعداه، كما أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد، ولا ينوب فيه عن فاعله غيره- بما روى النسائي بسنده، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة) ] . هذا موضوع آخر، بعدما انتهى الكلام على ما يتعلق بالقضاء والقدر وما أشبهه، أتى الطحاوي رحمه الله بهذه العبارة رداً على بعض المبتدعة، في مسألة: هل ينتفع الأموات بشيء من أعمال الأحياء أم لا؟ صحيح أن الأموات قد طويت صحف أعمالهم، وقد ختم عليها، فلا يستطيعون زيادة في الحسنات، ولا نقصاً من السيئات؛ وذلك لأنهم أنهوا حياتهم، ودخلوا في عالم البرزخ الذي هو أول منازل الآخرة، فكأنه ختم على أعمالهم، ولكن الأحياء قد يهدون إليهم بعض الأعمال. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 3 انتفاع الأموات بدعاء الأحياء وبما تسببوا به من أعمال هذه الأعمال التي يهديها إليهم الأحياء إما أن تكون أعمالاً بدنية، أو أعمالاً قولية، أو أعمالاً مالية، فالأعمال البدنية: كالصلاة، والصوم، والطواف وما أشبهها، والأعمال المالية: كالصدقات، والنفقات، والأضاحي وما أشبهها، والأعمال القولية: كالدعاء، والذكر، والاستغفار وما أشبهها. ولا شك أنهم ينتفعون بدعاء الأحياء لهم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] ، نحن ندعو بهذا للذين سبقونا بالإيمان ولو لم نعرفهم، ولو كان بيننا وبينهم مائة سنة أو مئات أو ألوف السنين، فدل ذلك على أنه مشروع، وأنه ينفعهم، وسيأتينا أنهم ينتفعون بالصلاة عليهم، فالصلاة على الميت هي أول شيء يزود به الميت، ولو لم يكن له أجر ونفع فيها لم تشرع، إذاً هذا من الذي ينتفعون به، وهو الدعاء لهم. كذلك الأعمال التي كانوا سبباً فيها، يبقى لهم أجرها، فإذا تصدق أحدهم بصدقة، واستمرت تلك الصدقة، فإن الأجر مستمر، وذلك مثل: الأحباس والأوقاف التي ينتفع بها، فهذه يصل أجرهم إليهم، وهكذا البيوت التي ينتفع بها كالمساجد، فإذا بنى مسجداً فإنه يأتيه أجره ولو بعد موته بمائة سنة أو أكثر، ما دام يصلى في هذا المسجد، وهكذا إذا بنى مدرسة لتحفيظ القرآن، أو لطلب العلم النافع؛ فإن ذلك -أيضاً- يجري عليه أجره، وهو معنى قوله: (صدقة جارية) . وكذلك غلات الأوقاف، فإذا جعل غلة هذا الوقف في صدقات أو في جهاد -يعني: في أسلحة للمجاهدين ونحوهم- كان ذلك من النفقة النافعة التي يأتي إليه أجرها بعد موته، وكذلك إذا كان قد ورث علماً ينتفع به، إذا ألف كتباً كتبها، وجعل فيها علوماً نافعة، فإنه ما دام يُقرأ فيها، ويدعى لمن ألفها وكتبها، فلا شك أن ذلك مما يستمر أجره عليها. وهكذا إذا نشر علماً: فكتب أو طبع مصاحف ونشرها، أو كتب علم طبعها وأنفق عليها ونشرها، وصارن ينتفع بها وتقرأ، ويدعى لمن نشرها، لا شك أن ذلك من النفقات المالية التي يستمر أجرها له بعد موته. وكذلك كل إنسان كان متسبباً في عمل من الأعمال النافعة، ذكروا من ذلك الأحباس التي في الطرق ينتفع بها، كالمياه التي يشرب منها أبناء السبيل ونحوهم، وحفر الآبار التي ينتفع بها المارة ونحوهم، وإجراء الأنهار، وإصلاح الطرق التي يمر بها المسلمون وينتفعون بها، وإضاءتها -مثلاً- إذا احتاجت إلى إضاءة وتنوير، وجعل المرافق فيها كالمياه وما ينتفع به كل ذلك من الأعمال الخيرية التي إذا فعلها احتساباً كان له أجر. وهكذا إذا جعل غلته في تجهيز الأموات، وحفر القبور، وتحنيط الميت وتغسيله، وقيمة الأكفان وما أشبهها، فإن ذلك من الأعمال الصالحة، فيستمر له أجر ذلك ولو بعد موته بعشرات السنين؛ وذلك لأن هذا مما أنفق فيه. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 4 معنى حديث: (لا يصومن أحد عن أحد) أما الأعمال البدنية فقد اختلف فيها، وقد تقدم الحديث الذي قال فيه: (لا يصومن أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد) ، ولكن ذلك محمول على الأحياء، فالأحياء القادرون لا يجوز لأحدهم أن ينوب عن أحد، فلا تقل لولدك: صل عني الظهر أو العصر، أو نحو ذلك؛ لأن هذه العبادة تتعلق ببدنك، فلا ينوب فيها عنك أحد، وكذلك لو أحرمت بنفسك فلا تقل لولدك أو لعبدك: طف عني طواف الإفاضة، أو قف عني بعرفة أو نحو ذلك، فإن هذا عمل بدني لا يقوم فيه أحد عن أحد، وكذلك إذا كنت قادراً فلا تقل -مثلاً-: صم عني هذا اليوم من رمضان، أو صم عني هذا الشهر لأنه لا يجوز التوكيل في مثل هذه الأعمال؛ لأنها متعلقة بالبدن؛ ولأن الحكمة فيها أن يخضع ذلك العامل ببدنه، وأن يشعر بذله واستضعافه بين يدي ربه، فإذا كان المتذلل غيره لم يتأثر بذلك. فإذاً: الحكمة في شرعية الصلاة أن يخضع المصلي ويخشع ويتواضع، ولا يحصل له أجر إذا تواضع غيره، بل ذلك التواضع يحصل للمتواضع، ولا يحصل له. ولو قال: أهديت صلاتي لك، لم يجز؛ وذلك لأنه لابد أن يكون عمله من نفسه، وكذلك الحكمة من الصيام حصول ألم الجوع والجهد والظمأ، والصبر على ذلك، أما إذا كان يأكل ويشرب ويتمتع، والذي صام غيره، لم تحصل المصلحة التي هي تأثره بهذا الصيام، فيكون أجر الصيام لمن صامه لا له، وإن كان في ذلك استثناء كما سيأتي. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 5 الدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه قال رحمه الله: [والدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح. أما الكتاب: فقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] ، فأثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم، فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء. وقد دل على انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة، والأدعية التي وردت بها السنة في صلاة الجنازة مستفيضة، وكذا الدعاء له بعد الدفن، ففي سنن أبي داود، من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) . وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم، كما في صحيح مسلم، من حديث بريدة بن الحصيب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية) وفي صحيح مسلم -أيضاً- عن عائشة رضي الله عنها: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أقول إذا استغفرت لأهل القبور؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) . وأما وصول ثواب الصدقة: ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، ولم توصِ، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) . وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها) وأمثال ذلك كثيرة في السنة. وأما وصول ثواب الصوم: ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) وله نظائر في الصحيح، ولكن أبو حنيفة رحمه الله قال بالإطعام عن الميت دون الصيام عنه، لحديث ابن عباس المتقدم، والكلام على ذلك معروف في كتب الفروع. وأما وصول ثواب الحج: ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من جهينة جاءت الى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فاقضوا الذي لله، فإن الله أحق بالوفاء) ونظائره أيضاً كثيرة. وأجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت، ولو كان من أجنبي، ومن غير تركته، فقد دل على ذلك حديث أبي قتادة، حيث ضمن الدينارين عن الميت، فلما قضاهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن بردت عليه جلدته) ، وكل ذلك جار على قواعد الشرع، وهو محض القياس، فإن الثواب حق العامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يُمنع من ذلك، كما لم يُمنع من هبة ماله في حياته، وإبرائه له منه بعد وفاته. وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة ونحوها من العبادات البدنية، يوضحه: أن الصوم كف النفس عن المفطرات بالنية، وقد نص الشارع على وصول ثوابه إلى الميت، فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية؟] . هذه أدلة لمن قال بأنه ينتفع الميت بأعمال الحي التي يهديها له، وانتفاعه بالأقوال كالذكر إذا أهدي له، وكذلك الاستغفار له والدعاء وما أشبه ذلك، دليله الأحاديث التي تحث على الاستغفار للأموات والدعاء لهم؛ وذلك لأن دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، وقد ورد أنه إذا دعوت لأخيك الغائب يقول الملك: آمين، ولك بمثل، وسواء كان ذلك الذي دعوت له حياً أو ميتاً. وكذلك أخبر الله تعالى بأن الملائكة تستغفر للمؤمنين، فدل على أنهم ينتفعون بأعمال غيرهم؛ وذلك لأن هذا العمل الذي يهدى إليهم يعتبر تبرعاً من ذلك العامل. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 6 مناقشة المانعين في معنى آية: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) استدل المانعون من المبتدعة، بقول الله تعالى في سورة النجم: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، وكثيراً ما يستدل بهذه الآية بعض المتأخرين، الذين يمنعون من الإهداء إلى الأموات، ويمنعون الأضحية عنهم، ويمنعون القراءة لهم أو نحو ذلك. ولا شك أن الآية إنما فيها الملكية، أي: لا يملك الإنسان إلا سعيه، أما سعي غيره فلا يقدر عليه، فلا يقدر الميت أن يأخذ من أعمال أولاده، ولا يقدر أن يأخذ من أعمال زوجاته، ولو كانوا يحبونه. ولعل هذا في الدار الآخرة، فقد ورد في تفسير قول الله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34-37] أنه يلقى الرجل ولده فيقول: يا بني! أنا خير أب لك، أنا الذي أعطيتك، أنا الذي نفعتك وربيتك. فيقول: صدقت ونعم الأب! فيقول: إني بحاجة إلى حسنة أو حسنات ليثقل بها ميزاني، فيقول الابن: وأنا بحاجة إلى ما أنت بحاجة إليه، نفسي نفسي! ويأتي إلى زوجته، فيذكرها صحبته، فيسألها حسنة أو حسنات، فتمتنع وتقول: أريدها لنفسي، أخشى أن يخف ميزاني وهكذا، ففي الدار الآخرة لا ينتفع أحد إلا بعمله، وأما في الدنيا فلا مانع من أن يهدي الحي للميت، ومن أن يعطيه، ومن أن يتصدق عنه ويدعو له، لا مانع من ذلك؛ حيث إنه تبرع بذلك. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 7 الصلاة على الجنازة دليل على انتفاع الميت بعمل الحي وتقدمت الأدلة في الدعاء للميت، فمنها: الدعاء في الصلاة عليه، ففي سنن أبي داود بسند صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) أي: ادعوا له وأنتم صادقون بالدعوات الجامعة. وفي صحيح مسلم وغيره حديث عوف بن مالك: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ميت، يقول عوف: فحفظت من دعائه قوله: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله. يقول عوف: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت؛ لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له) ، وهذا تعليم منه لأمته أن يدعوا بمثل هذه الدعوة وإن لم تكن معينة مخصصة، بل يدعون بها وبما يماثلها، ولو كان ذلك لا ينفع الميت لم تشرع هذه الصلاة التي هي صلاة الجنازة. وكذلك بعد الموت وبعد الدفن، فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه أن يسألوا له التثبيت، ويقول: (إنه الآن يسأل) ، فيقولون: اللهم ثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أو اللهم ثبته عند اللقاء، وما أشبه ذلك، فدل على أنه ينتفع بذلك. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 8 دعاء زيارة المقابر دليل على انتفاع الميت بعمل الحي كذلك ما ورد من الدعاء للأموات عند زيارة المقابر، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يسلموا عليهم والسلام دعاء، يقولون: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) ، فهذا دعاء لهم بالمغفرة، ودعاء لهم بالعافية، فدل على أنهم ينتفعون بذلك، وأنهم محتاجون إليه. ولا شك أنه يأتيهم من دعوات الأحياء حسنات كثيرة ينتفعون بها، وتزداد بها حسناتهم، والقصص في ذلك كثيرة مشهورة، أشار إليها كثير من العلماء، ومن أراد الاطلاع والتوسع فليقرأ كتاب الروح لـ ابن القيم رحمه الله، فإنه استوفى ما يتعلق بهذه المسائل، ولعل الشارح لخص هذا منه، وكذلك لتلميذه ابن رجب كتابه الذي سماه: أهوال القبور في أحوال أهلها إلى النشور. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 9 الكلام على انتفاع الميت بأعمال الحي البدنية وأيضاً ما تقدم فيما يتعلق بالأعمال البدنية التي يعملها الحي عن الميت كالصيام، وفيه خلاف، فذهب الإمام أحمد -في المشهور عنه- إلى أنه لا يصوم عنه إلا النذر، فلا يصوم عنه أيام رمضان؛ وذلك لأن في الحديث (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: نعم -ثم شبه ذلك بالدين- وقال: لو كان على أمك دين فقضيته، أيجزئ ذلك؟) فشبه الصوم الذي عليها بالدين، ولما ذكر في الحديث صوم النذر خصه أحمد بالنذر، ومنع صيام الفرض، واستدل بالحديث الذي تقدم، وهو قوله: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد) . وقد عرفنا أن هذا الحديث محمول على الأحياء، بمعنى: لا يصوم حي عن حي، ولا يصلي حي عن حي، فأما الأموات فقد صح لنا هذا الحديث، وصح لنا -أيضاً- حديث عائشة وفيه: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ، ولم يخص ذلك بنذر ولا بفرض، فدل على أنه من المشروع أن يصام عنه القضاء ونحو ذلك، وإذا أطعموا عنه أجزأ ذلك، سواء كان الصوم الذي عليه فرضاً أو نذراً. وأما النفل عنه: أن تصوم يوماً نفلاً، وتقول: اللهم اجعل ثوابه لوالدي أو لوالدتي أو نحو ذلك، فهذا محل خلاف أيضاً، ولعل القياس يدل على جوازه، وذلك أنه إذا سقط عنه الفرض بتطوعك عنه، فمعنى ذلك وصول الأجر إليه، وأيضاً: أنت مأجور على صيام التطوع، فإذا أهديت أجرك لقريبك تطوعاً واختياراً، فما المانع أن يكون أجره له؟! هذا بالنسبة إلى الصيام. وكذلك يقال في الصلاة: إذا أهدى صلاة له، وإن لم يكن ذلك مشهوراً. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 10 وصول الصدقة والحج وانتفاع الميت بها وأما الصدقات فلا شك في وصولها، فإن كانت من الميت فهي الأحباس التي يوصي بها، وإن كانت تبرعاً من الحي فلا شك في أنه يصله أجرها، فإذا تصدقت عنه صدقة خاصة كالصدقة في وقت الأضحية التي تسمى الأضحية، وكذلك الصدقة في رمضان بطعام أو بلحم أو بكسوة على مستحق، أو بنقود ينتفع بها، وجعلت أجرها لأخيك أو لأبيك، فإنه ينتفع بذلك ويصل إليه الأجره، وكذلك كل الأعمال المالية. أما العمل الذي يتكون من المال والعمل كالحج؛ فإنه يتركب من أمرين: عمل بدني، وعمل مالي، فالبدني هو ركوب هذا الحاج، وتعبه في سفره، وإحرامه وطوافه ووقوفه ورميه وما أشبه ذلك، أما العمل المالي فهو نفقاته: ومنها أجرة الركوب، وكذلك نفقته في ذهابه وإيابه، وكذلك ذبيحته التي يذبحها كفدية هذه أعمال مالية. فإن كان هذا المال من الميت أو من تركته فإن أعمال هذا العامل تكون لذلك الميت، حيث إن هذا المال هو الذي وصل بسببه إلى تلك المشاعر، فكأنه كان عاجزاً عن أن يصل إلى مكة لقلة المال، فلما أخذ هذا المال قوي، فدفع منه الأجرة، ودفع منه النفقة، ودفع منه الأضحية وما أشبه ذلك، فكان ذلك متسبباً عن هذا المال، فكان أجره لصاحب المال، فلأجل ذلك يقولون: تصح الاستنابة في الحج، والأجر للمحجوج عنه الذي دفع المال، والناس على هذا. ونقول تعليقاً على هذا: إن الذي يحج بدلاً عن غيره بمال يأخذه لا يجوز له ذلك إلا إذا كان عاجزاً عن الحج بماله، كالفقير الذي لا يستطيع الوصول إلى مكة لفقره، فيأخذ هذا المال لينفق منه حتى يصل إلى المشاعر ويؤدي تلك المناسك، فهذا هو الذي يؤجر على حجه، ويكون الأجر الأصلي لصاحب المال. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [76] يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن كما يختلفون في جواز إهداء ثواب قراءة القرآن للميت، لكنهم لا يختلفون في المنع من أخذ الأجرة على القراءة للميت، وذلك ما سيعرفه القارئ في هذه المادة. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 1 دعاء الأحياء وصدقاتهم تنفع الأموات تتعرض كتب العقيدة لكل شيء فيه خلاف مع المبتدعة، ولو كان من الفروع، ولو كان المخالف فيه مخالفاً لنص ظاهر، أو كان المخالفون فيه قليلين، ومن ذلك مسألة وصول ثواب الأعمال التي يعملها الأحياء إلى الأموات. وقد ورد ما يدل على وصول بعض الأعمال، وخصها بعضهم بما تسبب فيه الميت، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) . فالصدقة الجارية هي: الأوقاف والأحباس التي وقفها في حياته لينتفع بها كبناء المساجد والمدارس، وكذا الصدقات التي هي غلات كوقف ثمار النخيل على الضعفاء، وكوقف غلات البيوت ونحوها على الجهاد، أو على الحج وما أشبه ذلك. وأما العلم الذي ينتفع به: فهو الكتب التي كتبها وألفها، وكذلك العلوم التي علمها من ينقلها عنه، فإنه ما دام ينتفع بها يأتيه أجر. وأما الولد الصالح: فيعم الذكر والأنثى من ذريته وذرية ذريته الذين يدعون له. وأصل الدعاء هو سؤال الله للميت مغفرة ورحمة وجنة وثواباً، وتخفيف حساب ومغفرة ذنب ونحو ذلك. والأحياء يدعون للأموات، وأول ما يدعون لهم في صلاتهم على الجنازة عندما يقدم الميت بين يدي المصلين، فيدعون له بالمغفرة والرحمة، وبإدخاله الجنة، وبتكفير الخطايا وما أشبه ذلك، ولا شك أنه ينتفع بذلك؛ لأن هذا من السنة. وأما بقية الأعمال: فاتفقوا على أن من تبرع بصدقة عن ميته وصله أجرها، سواء كانت الصدقة عيناً -يعني: نقوداً- أو طعاماً أو لحماً أو نحو ذلك من الصدقات، وهي داخلة في قوله: (صدقة جارية) ، فهذه الصدقة تعم ما إذا كان الميت هو الذي سبل تلك الصدقة، أو تصدق بها عنه ذريته، يعني: تبرعوا بمال يتصدق بغلته فينتفع هو بتلك الصدقة التي تصدقوا بها وجعلوا أجرها لميتهم، ويعم ذلك الأضاحي إذا أوصى بها، أو ذبحت عنه وجعل أجرها له؛ فإنها من جملة الصدقات. وأما الصدقات الأخرى: فلا شك أنه يصله أجرها، فإذا تصدق عنه ولده أو قريبه صدقة على فقير، أو على مسكين، أو على ابن سبيل، أو على ذي حاجة من قريب أو بعيد؛ نفعه ذلك، وكذلك إذا أطعم طعاماً أو كسا كسوة أو نحو ذلك، ونوى أجرها لميته؛ نفعه ذلك؛ لأن هذا كله من الصدقات التي إذا تبرع بها ونوى أجرها للميت وصل أجرها بمجرد النية. ويدخل في ذلك الصدقات التي يتبرع بها غير أقاربه، فلو تصدق عنه أحد وليس من أقاربه، بل لإحسان إليه، أو لمحبة له لأنه نفع الإسلام والمسلمين مثلاً، فأراد أن يتصدق عنه؛ نفعه ذلك. ولا شك أن أجر الدعاء يصل إلى الأموات، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته الصلاة على الميت، وأن يقولوا في الصلاة عليه: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله) إلى آخر الدعاء، وكذلك فعل ذلك بنفسه، فدعا بمثل هذا الدعاء الخاص على الجنازة، كقوله: (اللهم اغفر له وارحمه) ، والدعاء العام كقوله: (اللهم اغفر لحينا وميتنا) إلى آخره. ولولا أنه ينتفع بذلك لما شرع هذا الدعاء له بعد موته. وكذلك علم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة إذا زاروا القبور أن يدعوا بقولهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) ، والسلام دعاء، فإذا قال: السلام عليكم، فقد دعا لهم بالسلامة من العذاب والسلامة من الآفات ونحوها. وكذلك قوله: (نسأل الله لنا ولكم العافية) هذا دعاء لهم بالعافية، وكذلك قوله: (واغفر لنا ولهم) دعاء لهم بالمغفرة، وكل ذلك دليل على أنه يصلهم الدعاء؛ وذلك لأنه سؤال من الله، يسأل العبد ربه أن يرحم هذا الميت وأن يتجاوز عنه، فالله تعالى إذا استجاب هذا الدعاء وصل أجره ووصل أثره إلى ذلك الميت، وانتفع بهذا الدعاء واستفاد منه، فكان للميت أجر، وللحي الداعي أجر، كما إذا دعا للغائب، يقول في الحديث: (إن المسلم إذا دعا لأخيه المسلم فإن ملكاً يقول: آمين؛ ولك بمثل) . فكذلك الدعاء للميت. وكذلك بقية الأعمال ولو كانت بدنية فالراجح أنه يصله أجرها، وقد تستثنى من ذلك بعض الأشياء التي يكون العمل فيها غير خالص لله. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 2 لا تعطى الأجرة لمن قصد بحجه المال وننبه إلى مسألة الحج عن الغير، هل يصل المحجوج عنه الأجر أم لا؟ نقول: يكثر التساهل في إعطاء الإنسان أجرة على أن يحج، فهل يصل الثواب إلى ذلك المحجوج عنه أم لا يصل إليه؟ الجواب يختلف ذلك باختلاف حالة الحاج الذي أخذ هذا المال ليحج به، فننظر في حالته: إن كان قصده المال فلا حج له، وإن كان قصده الحج فله حج. وكيف يكون قصده المال؟ إذا كان يريد أن يأخذ هذا المال ليتاجر به، أو ليتملكه وينفقه في أموره الخاصة، لا أنه يريده لينفقه في الحج حتى يتيسر له الحج، فالذي يقصد بأخذه المال الحج، ويقول: أنا عاجز عن الحج، عاجز عن تكلف السفر والنفقة وأجرة الركوب، وأحب أن أحج، وأتمنى أن أقف مع الحجاج، وأن تعمني معهم الرحمة، وأن تنزل علي المغفرة معهم، وأن أكون ممن يباهي الله بهم الملائكة، وأتذلل لله تعالى بإظهار الافتقار، وبإظهار الضعف بين يديه؛ ولكن يعوقني المال، فلا أجد كفاية ذهابي وإيابي، ولا أجد في مالي ما أتمتع به إلى أن أصل إلى تلك المشاعر؛ وذلك لفقري وفاقتي، فأنا آخذ هذا المال وأنفق منه، أو أعطي منه ولدي أو أهلي ما يكفيهم مدة غيبتي، حيث إني أنشغل عنهم بهذا السبب، وقد كنت أكفيهم بكسبي، وأما الآن فقد غبت عنهم، فأنا آخذ هذا المال لأنفق منه عليهم، ولأنفق منه على نفسي، ولأدفع منه أجرة الركوب، ولا أجعل الباقي زيادة، ولا آخذ إلا قدر الكفاية. فمثل هذا يقبل حجه، ويكون له أجر على حجه، ويكون للمحجوج عنه أجر الحجة التي حجها عنه. أما إذا كان قادراً على أن يحج بماله، وليس له رغبة في الحج، ولكن ما أراد إلا أن يأخذ هذا المال ليزيد به ماله إن كان له مال، ولم يكن من الذين يشتاقون إلى الحج، ولم يكن من الذين يحبون أن يقفوا في المشاعر، ويتمنون أن يشاركوا في تلك المناسك، لا همة له في ذلك، إنما همته هذا المال الذي بذل له، والذي أخذه، فتراه -مثلاً- يكفيه مدة ذهابه وإيابه ألفان، ولكنه يطلب أكثر، ويقول: فلان يعطي خمسة آلاف، فلان يعطي أربعة آلاف، فلان يدفع ثمانية آلاف أو نحو ذلك؛ فكأنه والحال هذه ما حج إلا لأجل الدنيا ولأجل هذا المال، فيدخل فيمن يريد الدنيا بعمل الآخرة، ويدخل فيمن يعبد الدنيا، ويدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدنيار، تعس عبد الدرهم) أي: أنه عبد لهذا المال؛ حيث إنه عمل عملاً صالحاً يبتغى به وجه الله، ولم يعمله إلا لأجل هذا الكسب وهذا المال، فمثل هذا لو أعطيته ولو عشرة آلاف أو ثمانية آلاف فأجر حجته ناقص؛ لأنه يدخل في الذين ذمهم الله بقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود:15] ، وقوله: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20] . فيتفطن لمن يدفع أجرة الحج، ويسأل ذلك الحاج: ماذا تريد من هذه الحجة؟ أتريد المال أم تريد الحج؟ إن كنت تريد الحج مشتاقاً إليه ولكنك عاجز؛ فلك أجر، أما إذا كنت لا تريد الحج ولا رغبة لك إلا في المال؛ فلا حج لك ولا أجر لك، ولو أعطيتك مالاً كثيراً فلن يكون هناك أجر لهذه الحجة، فخير لي أن أتصدق على الضعفاء والمساكين فإنه أولى من أن أعطي المال هذا الذي يجعله زيادة في رأس ماله أو نحو ذلك. ولكن إذا كان هذا الذي يريد أن يحج من الفقراء، ونويت بإعطائه الصدقة عليه؛ لكونه مسكيناً وفقيراً، ونويت بالزيادة أنها بأجرها، وأنها صدقة عليه؛ لكونه من الذين تحل لهم الصدقة؛ فلك أجر على هذه النية، ولو كانت نيته غير الحج، يعني: لو كانت نيته المال لكونه بحاجة إلى المال، فأنت إذا نويت أنها صدقة، وأنه إذا حج فربما ينتفع الميت بحجته، فإذا كان قصده المال وهو من أهل الاستحقاق كان للميت أجر الصدقة، فينتفع الميت، سواء كان أجر صدقة أو أجر حجة، ويقال كذلك في بقية الأعمال. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 3 الجواب على أدلة المانعين من وصول ثواب الأعمال إلى الأموات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والجواب عما استدلوا به من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] قد أجاب العلماء بأجوبة: أصحها جوابان: أحدهما: أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودد إلى الناس؛ فترحموا عليه ودعوا له، وأهدوا له ثواب الطاعات، فكان ذلك أثر سعيه، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم. يوضحه: أن الله تعالى جعل الإيمان سبباً لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم، فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه ذلك. الثاني -وهو أقوى منه-: أن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى، فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره، وإن شاء أن يبقيه لنفسه. وقوله سبحانه: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:38-39] آيتان محكمتان، مقتضيتان عدل الرب تعالى، فالأولى: تقتضي أنه لا يعاقب أحداً بجرم غيره، ولا يؤاخذه بجريرة غيره، كما يفعله ملوك الدنيا. والثانية: تقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله، لينقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب، وهو سبحانه لم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى. وكذلك قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة:134] ، وقوله: {وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54] ، على أن سياق هذه الآية يدل على أن المنفي عقوبة العبد بعمل غيره، فإنه تعالى قال: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54] . وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) فاستدلال ساقط؛ فإنه لم يقل: انقطع انتفاعه، وإنما أخبر عن انقطاع عمله، وأما عمل غيره فهو لعامله، فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل، لا ثواب عمله هو، وهذا كالدين يوفيه الإنسان عن غيره، فتبرأ ذمته، ولكن ليس له ما وفى به الدين. وأما تفريق من فرق بين العبادات المالية والبدنية فقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم الصوم عن الميت -كما تقدم- مع أن الصوم لا تجزئ فيه النيابة، وكذلك حديث جابر رضي الله عنه، قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه، فقال: باسم الله، والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي) ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وحديث الكبشين اللذين قال في أحدهما: (اللهم هذا عن أمتي) ، وفي الآخر: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد) رواه أحمد. والقربة في الأضحية: إراقة الدم، وقد جعلها لغيره. وكذلك عبادة الحج بدنية، وليس المال ركناً فيه، وإنما هو وسيلة، ألا ترى أن المكي يجب عليه الحج إذا قدر على المشي إلى عرفات من غير شرط المال. وهذا هو الأظهر، أعني: أن الحج غير مركب من مال وبدن، بل بدني محض، كما قد نص عليه جماعة من أصحاب أبي حنيفة المتأخرين. وانظر إلى فروض الكفايات: كيف قام فيها البعض عن الباقين؟ ولأن هذا إهداء ثواب، وليس من باب النيابة، كما أن الأجير الخاص ليس له أن يستنيب عنه، وله أن يعطي أجرته لمن شاء] . قد تقدم أن مذهب الجمهور: أن الميت ينتفع بأعمال الحي إذا أهداها إليه، وأن هناك بعض المبتدعة أنكر الانتفاع كلياً، وأن هناك من فرق بين الأعمال البدنية والأعمال المالية والأعمال القولية، فأوصل أجر الأعمال القولية: كالدعاء، والمالية كالصدقات، ومنع وصول الأعمال البدنية: كالحج، والجهاد، والصلاة، والصوم. وأما الجمهور: فإنهم يجيزون وصول الجميع، وانتفاع الميت بالجميع. والذين منعوا استدلوا بقول الله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:36-39] ، فقالوا: معنى قوله (لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) أي: لا ينفعه إلا سعيه وعمله، فأما سعي غيره وعمله فلا ينتفع به. هكذا قالوا. و الجواب تقدم أن العلماء أجابوا بجوابين: الأول: أن الإنسان إذا اكتسب بأفعاله وبحسن معاملته الأصدقاء فكأنهم له، فينتفع بدعائهم؛ لأنهم من سعيه وكسبه، وكذلك إذا تزوج، فالزوجة قد اكتسبها، وكذلك إذا ولد له الأولاد، فالأولاد يعتبرون من كسبه ومن سعيه، فأصدقاؤه الذين اكتسبهم في حياته يدعون له، فينتفع بدعائهم، ويتصدقون عنه فينتفع بصدقاتهم، وكذلك يقال في أولاده الذين ولدهم، فهم يدعون له، ويتصدقون عنه مقابل تربيته وتنشئته لهم، ومقابل عمله معهم، ونفقته وحنانه وعطفه عليهم، وكذلك زوجاته وبناته ونحو ذلك، فلما أسدى إليهم معروفاً، وفعل فيهم خيراً، فإن عملهم يكون مقابل ما عمله، فذلك يدخل في سعيه وفي كسبه، ويدخل في قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} . والجواب الثاني: أن الآية ليس فيها نفي الانتفاع، وإنما فيها نفي الملك، والمعنى: ليس الإنسان يملك إلا سعيه، أما سعي غيره فإنه ملك لذلك الغير، فالغير هو الذي يملك عمله، فنقول: أنت الذي تملك صدقتك، وأنت الذي تملك دعاءك، وأنت الذي تملك مالك، وتملك بدنك، فإذا أهديت لذلك الميت الذي بينك وبينه قرابة، وتبرعت له بعملك أو بدعائك أو بذكرك أو بصدقتك؛ فقد أهديته له، فينتفع به، وليس في الآية إلا نفي الملكية، لا نفي الانتفاع، فلم يقل: ليس ينتفع الإنسان إلا بما سعى، بل قال: (لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) ، أي: لا يملك إلا سعيه. هذا هو مقتضى هذه الآية، وبذلك يعرف أن الآية ليس فيها نفي انتفاعه بعمل غيره. أما قوله: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) فالمراد: عمله البدني والقولي، يعني: انقطع ذكره بلسانه، انقطعت صلاته ببدنه، انقطع صومه ببدنه، ولكن لا ينفي أن غيره إذا أهدى له شيئاً من الأعمال أنه ينتفع بذلك. وقد ذكروا أن الأعمال إما أن تكون بدنية محضة كالصلاة والصوم، وحج أهل مكة إلى عرفة على أقدامهم، فهذا يعتبر عملاً بدنياً محضاً. وهناك عمل مالي محض: كالكفارات، والصدقات، والزكوات -وما أشبهها- فهذا عمل كله مالي. وهناك أعمال قولية: كالأذكار، والأدعية، والقراءة، والأوراد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما أشبه ذلك من العمل الذي هو قول باللسان. وهناك أعمال مركبة من القول والبدن كالصلاة؛ فإن فيها قراءة وذكر، وفيها ركوع وسجود، فهي قولية وبدنية. وهناك أعمال مركبة من المال والبدن كالحج؛ فإنه مركب من العمل البدني الذي هو الإحرام والطواف والسعي والوقوف والرمي، والمالي: الذي هو نفقته على نفسه، وأجرة ركوبه، وذبح فديته وما أشبه ذلك من النفقات المالية. وكذا الجهاد؛ فإنه مركب من النفقة ومن العمل البدني، كما في قوله تعالى: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:72] فهذا من العمل البدني المالي. والأصل أن الجميع سواء في إهدائها للميت، وقد دل على إهداء المالي هذه الأحاديث التي فيها ذكر الأضاحي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين، أحدهما: عن محمد وآل محمد، والثاني: عمن لم يضح من أمة محمد، وهذا دليل على أنهم ينتفعون بأجر هذه الأضحية التي ذبحها عنهم نبينا صلى الله عليه وسلم، سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، وعلى هذا: فما المانع من أن تكون الأضحية للميت من جملة الصدقات التي يصل إليه أجرها، كما يصل إليه أجر الصدقة التي أجراها هو أو أوصى بها؟! فإذا تبرع له قريبه بأضحية أو ببعض أضحية جاز ذلك. وقد أخذوا من هذا الحديث جواز الاشتراك في الأضحية، حيث جعلها صلى الله عليه وسلم عمن لم يضح من أمته ولو كانوا مئات أو ألوفاً، فجعل ذلك مشتركاً بينهم، وكذلك التشريك بين الأحياء، يعني: أنه إذا ذبحها عن أهل بيته وصل لهم أجرها، ولو كانوا كثيرين، فدل على أنهم ينتفعون بعمل غيرهم وبمال غيرهم، هذا بالنسبة إلى الأعمال المالية. أما بالنسبة إلى البدنية: فقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ومعلوم أن الصيام عمل بدني، ليس فيه مال، فالصائم لا يخسر مالاً ولا ينفق مالاً، فهو ليس كالحاج الذي يخسر مالاً، فعمله كله بدني، وهو الإمساك. وقد يقال: إن المصلي يخسر مالاً إذا استأجر ما يركبه إلى المسجد ويرده، أو إذا اشترى الوضوء كالماء ونحوه، أو احتاج إلى سترة يستر بها عورته في الصلاة، فيكون محتاجاً إلى مال، وهذا بخلاف الصوم، فإذا صح الصوم عن الميت مع كونه بدنياً محضاً صح أن يصوم ويهدي صيامه للميت، أو يقضي الصيام عن الميت إذا كان على الميت صيام ككفارة ونذر وما أشبه ذلك، فبطريق الأولى أن تصح بقية الأعمال البدنية إذا تبرع بها. ويقال هكذا في الأعمال القولية؛ قياساً على الدعاء، فإذا ذكر الله، وأهدى ثواب هذا الذكر لميت، أو دعا الله للميت وصل إليه هذا الأجر. فإذا تبرع الحي للميت سواء لقرابة بينهما أو صداقة أو لأنه له عليه منة يريد أن يجازيه عليها فيهدي له ثواب عمله من ذكر أو دعاء أو حج أو أضحية؛ أو ما أشبه ذلك، فلا شك أنه ينتفع بذلك ولو كان عمل غيره. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 4 حكم دفع الأجرة مقابل قراءة القرآن أو تعليمه الجزء: 76 ¦ الصفحة: 5 المنع من الاستئجار على القراءة للميت قال رحمه الله: [وأما استئجار قوم يقرءون القرآن ويهدونه للميت! فهذا لم يفعله أحد من السلف، ولا أمر به أحد من أئمة الدين، ولا رخص فيه. والاستئجار على نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف. وإنما اختلفوا في جواز الاستئجار على التعليم ونحوه مما فيه منفعة تصل إلى الغير، والثواب لا يصل إلى الميت إلا إذا كان العمل لله، وهذا لم يقع عبادة خالصة، فلا يكون له من ثوابه ما يهدي إلى الموتى، ولهذا لم يقل أحد: إنه يكتري من يصوم ويصلي ويهدي ثواب ذلك إلى الميت؛ لكن إذا أعطى لمن يقرأ القرآن ويعلمه ويتعلمه معونة لأهل القرآن على ذلك، كان هذا من جنس الصدقة عنه، فيجوز. وفي الاختيار: لو أوصى بأن يعطى شيء من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره، فالوصية باطلة؛ لأنه في معنى الأجرة انتهى. وذكر الزاهدي في الغنية: أنه لو وقف على من يقرأ عند قبره، فالتعيين باطل. وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعاً بغير أجرة، فهذا يصل إليه، كما يصل ثواب الصوم والحج. فإن قيل: هذا لم يكن معروفاً في السلف، ولا أرشدهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم! ف الجواب إن كان مورد هذا السؤال معترفاً بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء، قيل له: ما الفرق بين ذلك وبين وصول ثواب قراءة القرآن؟ وليس كون السلف لم يفعلوه حجة في عدم الوصول، ومن أين لنا هذا النفي العام؟ فإن قيل: فرسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى الصوم والحج والصدقة دون قراءة القرآن! قيل: هو صلى الله عليه وسلم لم يبتدئهم بذلك، بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم، فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له فيه، وهذا سأله عن الصوم عنه، فأذن له فيه، ولم يمنعهم مما سوى ذلك، وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك وبين وصول ثواب القراءة والذكر؟] . يقع في بعض البلاد التي يغمرها الجهل، أو تكثر فيها البدع، أنه إذا مات الميت فإنهم يجمعون عشرة من القراء مثلاً في اليوم الأول، واليوم الثاني، واليوم الثالث أو الأسبوع الأول، أو الشهر الأول، ويقولون لهم: اقرءوا القرآن، وأهدوا ثوابه لأبينا أو لأخينا، ولكم بكل جزء تقرءونه كذا وكذا ريالاً، فأولئك القراء ما قرءوا لله، وإنما قرءوا للدراهم، وإذا كانوا قرءوا للدراهم، فهل لهم ثواب؟ من قرأ لأجل تحصيل الدنيا لا ثواب له، فإذا لم يكن له ثواب فما الذي يهدونه إلى الميت؟! لا يصل إلى الميت شيء؛ لأن هذه القراءة قراءة لأجل الدنيا، وليست قراءة لأجل الله، ولا قراءة لأجل الثواب، فلأجل ذلك يقال: هذا من البدع. ثم هو من إقرار الشرك، حيث إن هذا الذي قرأ للدنيا عمل عملاً أخروياً لأجل أمر دنيوي، فيدخل فيمن أراد الدنيا بعمل الآخرة، فهذا لا يجوز، ولو كان القارئ واحداً، فلو جاءك وقال لك: خذ هذه المائة أو هذه العشرة واقرأ بها ختمة، واجعل ثوابها لوالدي. فلا تفعل؛ وذلك لأنك تكون قد قرأت القرآن لأجل هذا المال، لا لأجل الله، ولا لأجل الحسنات، فعلى هذا تكون قد عملت عملاً أخروياً لأجل مصلحة دنيوية. فمثل هذا -أولاً- لم يفعله السلف، ولم ينقل عن الصحابة والتابعين، ولا عن الأئمة الأربعة ونحوهم، وثانياً: فيه هذا المقصد السيئ الذي هو العمل لأجل الدنيا، مع أن العمل من الأعمال الصالحة، فلا يكون للميت أجر على هذا. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 6 حكم التبرع بإهداء ثواب القراءة للميت وهذا بخلاف ما إذا قرأت ختمة من القرآن، أو جزءاً، أو أجزاءً، وقلت: اللهم اجعل ثوابها لوالدي، أو لوالدتي، أو لأخي، أو لجدي، أو لعمي؛ فلا مانع من وصول الأجر؛ لأنك ما قرأت لأجل الدنيا، إنما قرأت لأجل الآخرة، ثم تبرعت بذلك العمل الأخروي لقريبك المتوفى. ويدل على ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الحج عن الميت أو عن العاجز فأقر ذلك، ففي حديث الخثعمية أنها قالت: (إن أبي أدركته فريضة الإسلام شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: حجي عنه) ، فهذا دليل على جواز الحج للأب ونحوه. وكذلك المرأة التي قالت: (إن أمي ماتت وعليها صيام نذر، أفأصوم عنها؟ قال: أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ فاقضوا الله، فالله أحق بالوفاء) ، فأمرها بأن تقضي الصوم عن والدتها؛ لأنه حق لله ودين لله، فيقضى كما يقضى الدين المالي للعباد، فدين الله أحق بالوفاء. كذلك: حديث الرجل الذي جاءه وقال: (إن أمي افتلتت عليها نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم) ، فأقره على أن يجري صدقة عن أمه. فهذه الأعمال أقرها، ولكنه لم ينف غيرها، بل ظاهره أن ما يشبهها يلحق بها، فيلحق بذلك بقية الأعمال بدنية أو مالية. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 7 حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن وتقدم أنهم اختلفوا في تعليم القرآن بأجرة، فإذا استأجر من يعلم ولده فلا مانع من ذلك، وذلك لأن هذا أجرة على التلقين، وأجرة على التعب، فالذي يجلس يعلم الأطفال لا شك أنه يبذل جهداً، ويقطع وقتاً، ثم يتعب نفسه في تلقين هذا الولد هذه الآية، وفي تصويب الخطأ وما أشبه ذلك. فالتعليم يعتبر عملاً؛ ولهذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم الذين أخذوا الأجرة على الرقية، لما جاءه قوم من الصحابة قرءوا على الملدوغ الذي لدغته عقرب، فسعوا له بكل شيء فلم ينفعه، فرقاه أحد الصحابة، وأخذ جعلاً على ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، فأقرهم على ذلك وقال: (اقسموا، واضربوا لي معكم بسهم) تطييباً لنفوسهم. فيعتبر أخذ الأجرة على تعليم القرآن كسائر أنواع التعليم، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم جعل تعليم القرآن قائماً مقام المهر في قوله: (زوجتكها بما معك من القرآن، فعلمها عشرين آية) أو نحو ذلك. وكذلك يقال في تعليم بقية العلوم: يجوز أخذ الأجرة على التعليم؛ لأنه مقابل التلقين وما أشبه ذلك، بخلاف العمل الذي يعمله لله سبحانه وتعالى، والذي يبتغى به وجه الله، ولأجل ذلك تقدم أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أخذ الأجرة على الأذان، فقال: (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) . ومنعوا أخذ الأجرة على الأعمال التي يختص صاحبها أن يكون من أهل القربة، وإنما رخصوا فيما يبذل من بيت المال مقابل الالتزام بتلك الأعمال: كالتعليم -مثلاً-، وعمل الحسبة، وعمل الإمامة والخطابة والدعوة وما أشبه ذلك، فلا يدخل ما يبذل لهم من بيت المال في أنهم عملوا عملاً صالحاً يبتغى به وجه الله، ولم يعملوه إلا للدنيا. وبكل حال: فإهداء الأعمال التي يتبرع بها ينتفع بها الموتى إن شاء الله، إذا تبرع بها صاحبها ولم يكن أخذ عليها أجراً. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 8 شرح العقيدة الطحاوية [77] من دعا إلى هدى فله مثل أجر من عمل به، وإمام الدعاة إلى الهدى هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن له مثل أجر كل عامل من أمته يعمل خيراً، وليس بحاجة لأن يهدى له ثواب الأعمال بعد ذلك. ويتعلق بإهداء الثواب مسألة القراءة عند القبر، وقد اختلف فيها العلماء، والتوفيق بين الأدلة هو القول الوسط. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 1 الجواب عن أدلة المانعين وصول ثواب الأعمال المهداة للميت من جملة المسائل الفرعية التي تلحق بالعقيدة مسألة إهداء الثواب للأموات، أو انتفاع الأموات بأعمال الأحياء التي يعملونها ويهدونها إلى الأموات، وهذه مسألة فروعية، ولكن لها صلة بالعقيدة، وذلك: أولاً: أن الخلاف فيها مع المبتدعة؛ فلأجل ذلك ألحقت بالأمور العقدية. وثانياً: أنها من الأمور الغيبية، وذلك أن الأموات في عالم غير عالمنا في برزخ بين الدنيا والآخرة، وانتفاعهم بهذه الأعمال غيب عنا، فلا ندري ولا يظهر لنا وجه الانتفاع جلياً، فلأجل ذلك اعتمدنا فيه على الدليل، والأدلة التي اعتمدنا عليها وإن لم تكن قطعية الثبوت، ولكنها ظنية، فلأجل ذلك جعل هذا الباب في باب العقائد. وقد تقدم ذكر الخلاف، والجواب عما استدل به المخالف؛ وذلك لأن المخالفين من المبتدعة اعتمدوا على الآية التي في سورة النجم، وهي قول الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، فقالوا: لا ينفع الميت إلا سعيه -أي: عمله- كما لا ينفع الحي إلا سعيه -أي: عمله-. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 2 الجواب عن استدلالهم بقوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) وأجيب: بأن الإنسان اكتسب الأصدقاء واكتسب الأقارب ونحوهم، فاكتسابه هذا يعتبر من سعيه، فإذا تصدقوا عنه، أو دعوا له، أو حجوا عنه، أو استغفروا له -أو نحو ذلك- فإن ذلك من آثار سعيه وكسبه في كثرة الأصدقاء، حيث تودد إليهم بما جعلهم يخلصون له المودة. وأجيب أيضاً: بأن الآية في ملكية الإنسان، ومعلوم أنه لا يملك إلا عمله أو ماله، وأما عمل غيره فملك لصاحبه، لكن إذا تبرع به اعتبر ملكاً لمن تُبرع له به، ويقاس ذلك على المال، فالمال الذي تكتسبه هو ملكك ولا تملك غيره، ولكن متى تبرع لك صديقك بمال متى أهدى إليك هدية، أو أعطاك عطية، وسمحت بها نفسه، فإنك تملك تلك الهدية، وتدخل في ملكك، وتنتقل من ملكه، فكذلك إذا عمل عملاً صالحاً كحجة وجهاد وصدقة ودعاء ونحو ذلك، وأهداها لفلان الحي أو لفلانٍ الميت وجعل ثوابها له، فإن ذلك بمنزلة ملكه للمال الذي أهدي له. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 3 الجواب عن استدلالهم بحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) وأما الحديث الذي استدلوا به، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ، فهذا -أيضاً- لا شك أنه ظاهر الدلالة، ولكن ليس المراد أنه لا ينتفع إلا بهذه الثلاثة، بل المراد: أنه لا يجري عليه، ولا يملك إلا هي؛ لكن متى تبرع له غير ولده بدعوة انتفع بها، ومتى تبرع له صديقه بصدقة عنه، أو بحجة عنه، أو بجهاد جاهده وجعل أجره لصديقه أو لقريبه فلان أو ما أشبه ذلك، فما المانع من وصولها إليه؟! بل لا شك أن ذلك يصل إليه، وقد اتفق المسلمون على أنه ينتفع بصلاتهم عليه، فإذا مات وصلوا عليه انتفع بذلك، وينتفع -أيضاً- بدعائهم له، فإذا زاروه في قبره ودعوا له انتفع بذلك، وكذلك إذا مر الإنسان على أهل القبور، وسلم عليهم، ودعا لهم؛ انتفعوا بذلك، فينتفعون من دعوات الأحياء بأشياء كثيرة تنور عليهم قبورهم، وتزداد بها حسناتهم، وتكفر بها خطاياهم، ولولا ذلك لما تصدق أحد عن أبويه، ولا تقرب عنهما بشيء. وهذا ظاهر والحمد لله، وقد تقدم الخلاف في الانتفاع أو في إهداء الأعمال البدنية كالصلاة والصوم -الذي هو عمل بدني محض- فذكر بعضهم أنه لا ينتفع بذلك. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 4 الجواب عن استدلالهم بحديث: (لا يصلي أحد عن أحد) واستدل بحديث: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد) ؛ ولكن وردت الأدلة في انتفاعه بالصوم في قوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ، ولما جاءته امرأة وقالت: (إن أمي ماتت، وعليها صيام نذر أو صيام شهر. قال: أرأيتِ لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء -أو: فدين الله أحق بالقضاء-) فأمرها بأن تصوم عن أمها، وسواء كان هذا الصوم فرضاً أو نذراً فإنه أقرها على أن تصوم، بل أمرها بذلك، وشبهه بقضاء الدين. وعلى هذا فمعنى قوله: (لا يصلي أحد عن أحد) ، أي: لا يصلي عنه وهو قادر، يعني: لا يوكل أحد أخاه يصلي عنه، يقول: صلِ عني صلاة الظهر، أو: صلِ عني صلاة العشاء، أو: وكلتك أن تصلي عني صلاة المغرب أو العصر أو نحو ذلك، أو: وكلتك أن تصوم عني هذا اليوم من رمضان أو ما أشبه ذلك وهو قادر، فإن هذا لا يجوز؛ وذلك لأن العبادة وجهت إلى الإنسان القادر، فلا يجوز له أن ينيب غيره ولا يجوز له أن يوكل من يعمل عنه ذلك العمل وهو قادر؛ وذلك لأن الحكمة في هذه العبادة ظهور العبودية على الفاعل، فالصلاة فرضت على المسلمين، ولا يجوز لأحد أن يوكل من يصلي عنه، فإن تذلل المصلي يفوت بالتوكيل، فالمصلي يتذلل ويخشع ويخضع ويتواضع، ويظهر منه الخشوع والذل بين يدي ربه، وهذا لا يحصل له إذا وكل من يصلي عنه، فلا ينتفع بهذه الصلاة، ولا يحصل له بها تذلل ولا خشوع ولا تضرع وتمسكن بين يدي ربه. وكذلك الصيام شرع لإظهار الامتثال بترك طعامه وشرابه وزوجه لأجل امتثال أمر الله، فإذا وكل من يصوم عنه وأخذ يأكل ويشرب، اعتبر غير متقبل لأمر الله، ولم يجز عنه توكيله، فلأجل ذلك قالوا: لا يوكل في العبادات البدنية التي الحكمة منها إظهار الاستكانة والذل بين يدي الرب. ويلحق بذلك: حج الفريضة للقادر، فمن كان قادراً على الحج بالبدن وبالمال فإنه يكلف بأن يفعله ولا يوكل فيه، وذلك لأن الحكمة تقتضي الأمرين: تقتضي إنفاقه من ماله في هذا السبيل، وتقتضي عمله ببدنه هذه الأعمال، والأفضل هي الأعمال التي أمر بها، والأصل في شرعية الحج أن يظهر أثره على العامل، فالحاج إذا أحرم وخضع وخشع وتمسكن بلباسه الذي فيه تجرده عن لباسه المعتاد، أليس ذلك من أجل العبادات؟ هل تحصل له تلك المسكنة إذا وكل غيره؟! أليس إذا أخذ يطوف على البيت العتيق يحصل الثواب والتذلل، ويحصل له إخبات بين يدي ربه؟ هل يحصل هذا الإخبات إذا وكل عنه من يحج عنه؟! وهكذا إذا وقف بعرفات وهو خائف راج ذليل متواضع، هل تحصل هذه الحالة إذا وكل من يقف عنه؟!. إذاً: فالحج في الأصل هو العبادة البدنية. وقد عرفنا أنه غالباً ما يتكون من المال والبدن، ولكن قد يكون بدنياً محضاً، كالمكي الذي لا يقدر على أن يستأجر سيارة أو دابة يركبها، ولكنه قادر على أن يمشي ببدنه من مكة إلى منى، وإلى مزدلفة، وإلى عرفات، أليس ذلك مكلفاً بأن يحج ولا يسقط عنه الحج؟ أليس حجه بدنياً ليس فيه شيء من المال؟ وهذا يدل على أن الأصل في العبادة هو تحريك هذا البدن، فلأجل ذلك لم يصح أن يوكل فيه، ولكن إذا حج فرضه مع القدرة، ثم تبرع له ولده، أو تبرع له أخوه بأن أدى عنه حجة أخرى، أو طاف تطوعاً وأهدى طوافه له، فلا شك أنه ينتفع بذلك، حتى ولو كان قادراً. أما إذا عجز عن الحج إما لعيب في بدنه، وإما لقلة في ماله، وإما للصعوبة والمشقة بينه وبين الحرم، فإنه في هذه الحالة معذور، وإذا وكل غيره، أو قام غيره مقامه في هذا العمل وتبرع له متبرع؛ فإن ذلك ينفعه. فعرف بذلك الفرق بين العبادات البدنية المحضة كالصوم، والصلاة، والحج لمن هو في مكة، فإنها لا تدخلها النيابة إذا كانت فرضاً، وأما إذا كانت تطوعاً وأهدي له ثوابها فلا مانع من أن ينتفع به. أما بالنسبة للأعمال الأخرى فإنها تدخلها النيابة، فالأذكار يصح أن يذكر الله تعالى وأن يهدي ثوابها لأخيه أو قريبه، وكذلك المرء مأمور أن يدعو لأقاربه، أو للمسلمين عموماً، والصدقات يصح أن يوقعها عن قريبه حياً أو ميتاً بجزء من ماله، وهكذا بقية الأعمال. وقد مر بنا بعض الأشياء التي فيها خلاف، وعرفنا كيف الجواب عنها. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 5 حكم إهداء ثواب الأعمال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: ما تقولون في الإهداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: من المتأخرين من استحبه، ومنهم من رآه بدعة؛ لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم له مثل أجر كل من عمل خيراً من أمته، من غير أن ينقص من أجر العامل شيء، لأنه هو الذي دل أمته على كل خير، وأرشدهم إليه. ومن قال: إن الميت ينتفع بقراءة القرآن عنده، باعتبار سماعه كلام الله، فهذا لم يصح عن أحد من الأئمة المشهورين، ولا شك في سماعه، ولكن انتفاعه بالسماع لا يصح، فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة، فإنه عمل اختياري، وقد انقطع بموته، بل ربما يتضرر ويتألم؛ لكونه لم يمتثل أوامر الله ونواهيه، أو لكونه لم يزدد من الخير. واختلف العلماء في قراءة القرآن عند القبور على ثلاثة أقوال: هل تكره، أم لا بأس بها، أم لا بأس بها وقت الدفن وتكره بعده؟ فمن قال بكراهتها كـ أبي حنيفة ومالك وأحمد -في رواية- قالوا: لأنه محدَث، لم ترد به السنة، والقراءة تشبه الصلاة، والصلاة عند القبور منهي عنها، فكذلك القراءة. ومن قال لا باس بها كـ محمد بن الحسن وأحمد -في رواية- استدلوا بما نقل عن ابن عمر رضي الله عنه: (أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن، بفواتح سورة البقرة، وخواتمها) ونقل أيضاً عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة. ومن قال لا بأس بها وقت الدفن فقط -وهو رواية عن أحمد - أخذ بما نقل عن ابن عمر وبعض المهاجرين. وأما بعد ذلك، كالذين يتناوبون القبر للقراءة عنده فهذا مكروه، فإنه لم تأت به السنة، ولم ينقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلاً، وهذا القول لعله أقوى من غيره؛ لما فيه من التوفيق بين الدليلين. ] الجزء: 77 ¦ الصفحة: 6 أدلة عدم مشروعية إهداء ثواب الأعمال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ما يتعلق بالإهداء إلى رسول الله صلى عليه وسلم، فالشارح رحمه الله قد بين الحكم فيه، وذكر أنه لا يشرع أن تعمل عملاً وتقول: أجره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان قراءة أو صلاة أو ذكراً أو جهاداً أو غير ذلك، واحتج بدليلين: الدليل الأول: أنه لم يفعل في العهد النبوي، ولا في عهد الصحابة، ولم يكن أحد من الصحابة يعمل عملاً ويقول: أجره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه؛ وذلك لأنهم أعرف به، وأعرف بما يكون من شريعته، وأيضاً فهم الذين يحبونه ويؤثرونه على أنفسهم، وهم الذين شاهدوه، وصحبوه، وقاتلوا معه، وصلوا خلفه، وتلقوا عنه سنته، ومع ذلك فلم يهدوا إليه ثواب صلاة ولا صوم ولا صدقة ولا غير ذلك، إلا ما نقل عن علي رضي الله عنه أنه كان يضحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر أنه أوصاه بذلك، ولكن الحديث فيه ضعف. وعلى كل حال فهذا دليل واضح، وهو عدم فعل السلف، يعني عدم الإفتاء منهم. الدليل الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم ليس بحاجة إلى إهداء هذه الأعمال؛ وذلك لأن الله يكتب له مثل عمل كل عامل من أمته، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه مثل أوزار من تبعه، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء) ، وقال: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) ، أليس نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي دل على الإسلام؟! وهو الذي دل على الحسنات والصالحات؟ وهو الذي دل على الصلات والصدقات؟ وهو الذي دل على الخيرات كلها، وحذر عن الشرور؟! إذاً: أنت متى صليت صلاة كتب لك أجرها تاماً، وكتب له صلى الله عليه وسلم مثل أجر تلك الصلاة، وإذا جاهدت كتب لك أجر جهادك كاملاً وكتب مثله لنبيك صلى الله عليه وسلم؛ لأنك اهتديت بدعوته، وكذلك إذا تصدقت بصدقة، أو ذكرت الله، أو دعوته، أو قرأت كتابه، أو ما أشبه ذلك، كتب أجرك كاملاً وكتب له صلى الله عليه وسلم مثله من غير أن ينقص أجرك. إذاً: فهذا فضل الله عليه، فلا حاجة إلى أن يُهدى له، وأيضاً فأنت أحوج إلى عملك، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أما أنت فإنك بحاجة للأسباب التي بها تغفر خطاياك، وتمحى بها سيئاتك، ويرجح بها ميزانك، فكونك تهدي عملك له وهو غني، وتترك نفسك وحاجتك! هذا فيه شيء من الخطأ والغلط، هذا ما يتعلق بالمسألة الأولى. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 7 حكم قراءة القرآن عند القبور أما المسألة الثانية وهي: القراءة عند القبور: فهذه المسألة فيها ثلاث روايات عن الإمام أحمد: رواية: أنه يجوز وقت الدفن فقط، ورواية: أنه يجوز مطلقاً، ورواية: أنه لا يجوز مطلقاً. والأرجح: أنه لا يجوز قصد القبور للدعاء والقراءة عندها، كما لا يجوز أن تقصد للصلاة عندها؛ فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تتخذ القبور مساجد: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد) . وثبت أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في المقبرة في أحاديث كثيرة، ولا شك أن العلة في ذلك مخافة الغلو، أو اعتقاد أن الذي يدعو عند القبر، أو يصلي عند القبر، أو يقرأ عند القبر، يعظم أجره، وأن أهل القبور يتسببون في رفع عمله وفي مضاعفة عمله وفي قبوله، ويكون ذلك وسيلة وذريعة إلى الاعتقاد في أصحاب القبور، ومعلوم أن الاعتقاد فيهم أنهم ينفعون، ويشفعون، ويدفعون، ويرفعون الأعمال الصالحة، ونحو ذلك، اعتقاد في مخلوق قد انقطع عمله، فلا يملك شيئاً لنفسه، فكيف يملك نفعاً لغيره، فيكون ذلك من وسائل الشرك. وهذا هو الواقع، فإن الذين يعظمون القبور، ويصلون عندها، ويطوفون بها، ويعكفون حولها، ويقرءون عندها، كانت نهايتهم أن عبدوا تلك القبور، حيث خيل إليهم أن أصحابها من الأولياء، وكان أول ما عملوه أنهم ترددوا إلى ذلك القبر لمجرد الزيارة، ثم بعد ذلك ظنوا أن الأعمال عنده أفضل منها في غير ذلك المكان، فصاروا يفضلون الصلاة عند القبر على الصلاة في المسجد، ويفضلون القراءة عند القبور على القراءة في المسجد، ويفضلون الدعاء عند القبور على الدعاء في المساجد، ثم اعتقدوا بعد ذلك أن للأموات تأثيراً، وأنهم يرفعون الأعمال أو يضاعفونها! ثم زاد الأمر إلى أن صاروا ينادون الميت ويهتفون باسمه، فيقولون مثلاً: يا عيدروس يا عبد القادر أو يا جيلاني أو يا نقشبندي أو يا تيجاني أو يا زيد أو يا يوسف أو يا تاج أو ما أشبه ذلك من الأسماء التي كانوا في البداية ينتابونها ثم اعتقدوا فيها. إذاً: فالصواب هو القول الأول، وهو المنع مطلقاً من قصد القبور للقراءة عندها، ولعل الدليل عليه: أولاً: أنه قول الجمهور، فهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية المشهورة عنه، وكذا عند أصحابه، ورجحها المحققون كـ ابن تيمية وغيره، فلا تجوز القراءة عند القبور لأي سبب، وبأي نية وبأي معتقد؛ مخافة أن تكون وسيلة إلى دعاء الأموات وإلى الاعتقاد فيهم. وأما ما نقل عن ابن عمر أنه أمر بأن تقرأ عنده فواتح سورة البقرة وخواتيمها، فقد تكون الرواية عنه غير صحيحة ولا ثابتة، حيث إنها لم تشتهر، ولم يشتهر العمل بها. وأيضاً: فإنه أراد أن يكون ذلك في حال الدفن وأن يكون ذلك بمنزلة الدعاء، فإن الدعاء للميت مشروع، والدعاء للميت عند قبره مشروع كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات الميت ودفنه قام عند قبره وقال: (اسألوا الله لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل) ، فيكون ذلك من باب الدعاء له؛ وذلك لأن هذه الآيات فيها دعاء، مثل قوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] ، وقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه} [البقرة:286] إلى آخرها، فكأنه أراد: أنكم تدعون بها وتقرءونها وتجعلونها دعاءً لي. فإذاً: لا يكون فيها دلالة على قصد القبر للدعاء عنده، سواء وقت الدفن أو بعد الدفن، وسواء اعتقد أنه ينتفع بتلك القراءة أو أن القارئ ينتفع بها. والقول بأنه ينتفع بها فيه نظر؛ وذلك لأنه لو كان مباحاً لفعله الصحابة. وأيضا: فإن القراءة في المساجد وإهداء ثوابها له أكثر أجراً من القراءة عند القبور، فإن المقابر منهي عن الصلاة فيها، والمساجد مأمور بالصلاة فيها، فالدعاء في المساجد أفضل من الدعاء عند القبور، والصلاة في المساجد أفضل من الصلاة عند القبور، وكذلك القراءة في المساجد أفضل منها عند القبور. فعرف بذلك أن القول الصواب هو قول الجمهور؛ وهو أنه لا يقصد القبر للقراءة عنده، بل إذا أرد أن يهدي للميت قراءة أو ذكراً قرأها عند أهله أو في بيته أو نحو ذلك، فأما أن يقصد القبر ويتحراه فالأصل أن هذا لم يكن مشروعاً فلا يكون جائزاً، والإنسان عليه أن يتبع الدليل، وعليه أن يأخذ بقول جماهير الأمة ويترك الأقوال الشاذة، ولو رويت عن بعض العلماء، والذين رويت عنهم نحسن الظن بهم ونقول: أولاً: هم مجتهدون، وليس كل مجتهد بمصيب. وثانياً: أنهم ولو كانوا عندهم شيء من الاجتهاد ونحوه فإنهم عرضة للخطأ. وثالثاً: لم يكن عندهم من الاعتقاد ما عند من بعدهم، بل هم مأمونون أن يقع فيهم هذا الخطأ، والدليل على ذلك: أنهم لم يقع منهم الغلو الذي وقع من المتأخرين، كما حدث في القرن الثامن وما بعده إلى القرن الثاني عشر في هذه البلاد، بل وإلى هذا القرن في كثير من البلاد حيث زاد غلوهم في القبور حتى دعوها من دون الله، فأصبحوا يشركون بالله، ويجعلون تلك القبور آلهة مع الله، وسبب ذلك تساهل علمائهم بقصدهم لتلك القبور فاقتدى بهم السفهاء، واعتقدوا أن صاحب القبر له تأثير، فأصبحت وسيلة من وسائل الشرك، ثم أصبحت شركاً صريحاً. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 8 أهمية الدعاء وإجابة الله للداعي قال المؤلف: [قوله: (والله تعالى يستجيب الدعوات، ويقضي الحاجات) . قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر:60] ، وقال تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ، والذي عليه أكثر الخلق من المسلمين وسائر أهل الملل وغيرهم أن الدعاء من أقوى الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار. وقد أخبر تعالى عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، وأن الإنسان إذا مسه الضر دعاه لجنبه أو قاعداً أو قائماً. وإجابة الله لدعاء العبد، مسلماً كان أو كافراً، وإعطاؤه سؤاله من جنس رزقه لهم، ونصره لهم، وهو مما توجبه الربوبية للعبد مطلقاً، ثم قد يكون ذلك فتنة في حقه ومضرة عليه، إذ كان كفره وفسوقه يقتضي ذلك. وفي سنن ابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه) ، وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال: الرب يغضب إن تركت سؤاله وبُنيّ آدم حين يُسأل يغضبُ قال ابن عقيل: قد ندب الله تعال إلى الدعاء، وفي ذلك معان: أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يدعى. الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يدعى. الثالث: السمع، فإن الأصم لا يدعى. الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يدعى. الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يدعى. السادس: القدرة، فإن العاجز لا يدعى. ومن يقول بالطبائع يعلم أن النار لا يقال لها: كفي! ولا النجم يقال له: أصلح مزاجي؛ لأن هذه عندهم مؤثرة طبعاً لا اختياراً، فشرع الدعاء وصلاة الاستسقاء ليبين كذب أهل الطبائع. ] هذا بحث جديد يتعلق بشرعية الدعاء من العبد لربه، وبحكم الدعاء، وبفائدة الدعاء، فذكر أن الله تعالى يجيب من دعاه، ويعطي من سأله، وأنه سبحانه يفرح بدعاء الداعين، وأنه يستجيب دعوتهم. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 9 دعاء المشركين عند الاضطرار أولاً: ذكر أن المشركين قبل الإسلام كانوا يدعون الله، يقول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاه} [الإسراء:67] ذهبت عنكم آلهتكم، وذهبت عنكم معبوداتكم كلها، ونسيتموها، ولم يبق في ذاكرتكم إلا الرب تعالى، فإنكم تعلمون أنه لا يجيب دعوتكم ولا يزيل عنكم الضر في المضائق إلا الله سبحانه، ويكون ذلك إذا ركبوا، يقول الله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] دعوا الله في حالة كونهم على خطر ومقربة من الهلاك. ويقول تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} [لقمان:32] ، وأمواج البحر معروفة، وهي التي تدفعها الرياح بحيث ترتفع فوق مستوى البحر متراً أو مترين أو نحو ذلك، وإذا جاءت تلك الأمواج إلى السفن اضطربت السفينة، وكادت أن تغرق، فإذا رأوا تلك الأمواج خافوا الهلاك ورفعوا أيديهم، وقالوا: يا ربنا أنجنا، يا ربنا نجنا من هذا الهلاك، فلا يذكرون إلا الله. إذاً: الله تعالى يستجيب لهم مع أنهم كفار؛ لأنهم أخلصوا له الدعاء، ولا شك أن المسلمين أولى بأن يدعوا الله في الضر وفي الشدة وفي الرخاء، ولا شك أنه يحب أن يدعوه ويغضب على من لم يدعه. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 10 الله يغضب إن تركت سؤاله وتقدم الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه) ، ونحن نحب رضاه، ورضاه يتوقف على أن نسأله ونستعينه عند العجز، ونستنصر به عند الخوف، نطلب منه أن يؤمننا وأن يغنينا، وأن يعزنا، وأن يغفر لنا، ونطلب منه كل حاجاتنا، ونرغب عمن سواه من ذكر وأنثى، من صغير وكبير، ونجعل رغبتنا إليه سبحانه. وتقدم ذلك البيت الذي نظم به ذلك الحديث، وقبله يقول الشاعر: لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب الرب يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب يقول بعضهم: لو أنك مشيت مع إنسان، وأخذت كل ساعة تقول له: أعطني حفنة تراب أعطني حفنة تراب، أليس يضجر منك ويمل ويقول: أتعبتني؟! لا شك أنه يكلفه، مع أن التراب موجود، ولكن قد يتكلف أن ينحني ويأخذ التراب، ثم يناولك وأنت -مثلاً- راكب أو نحو ذلك، لو سئلوا تراباً لملوا، فكيف إذا سئلوا شيئاً يملكونه، أو لهم فيه سبب من الأسباب، ولأجل ذلك على الإنسان أن يعلق رجاءه بربه، ويطلب منه حاجاته كلها، ولا يسأل غيره، يقول بعضهم: لا تجلسن بباب من يأبى عليك دخول داره وتقول حاجاتي إليه يعوقها إن لم أداره واتركه واقصد ربها تقضى ورب الدار كاره فإذا قصدت الرب سبحانه وتعالى، وأنت صادق مخلص، قضى حاجتك، سواء كانت متعلقة بإنسان، أو متعلقة فيما بينك وبين الرب. ذكروا أن إبراهيم بن أدهم رحمه الله اشتكى إليه بعض أصحابه جوعاً نزل به؛ لأنهم لا يكتسبون، عند ذلك نظم أبياتاً يقول في أولها: أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر أنا جائع أنا حاسر أنا عاري هي ستة وأنا الضمين بنصفها فكن الضمين بنصفها يا باري لم يتعلق إلا بربه، فكتب هذه الأبيات، ولما اطلع عليها بعض الذين من الله عليهم، أعطاهم ما يسد حاجتهم، فالرب هو الذي يسر لهم هذا الرزق بواسطة هذا الإنسان، ولم يسألوا أي إنسان، وإنما علقوا قلوبهم بربهم. إذاً فنقول: على الإنسان أن يجتهد في دعائه لله سبحانه وتعالى، وأن يسأل ربه كل حاجاته، ولا يترك حاجة يظن أنه سيحتاج إليها في يوم من الأيام إلا ويسألها ربه، يقول بعض العلماء: سل الله كل شيء حتى ملح طعامك، وذلك لأنك بحاجة إلى أن يمدك ربك بكل شيء، فأنت مأمور أن تفعل السبب، ومع ذلك تعرف أن الله تعالى هو الذي ييسر لك هذه الأشياء ويجعلها مفيدة ومؤثرة. والأدلة على أهمية الدعاء كثيرة، منها قول الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ، ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة) ، وقرأ هذه الآية، فجعل الدعاء عبادة، ومثل ذلك أيضاً قول الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:55-56] . الجزء: 77 ¦ الصفحة: 11 أقسام الدعاء والدعاء ينقسم إلى قسمين: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وكل منهما ملازم للآخر، فالمصلي في صلاته يدعو ربه في كثير من أركان الصلاة وهيئاتها، ففي الفاتحة يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، وهذا دعاء، وفي الركوع والسجود يقول: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي، وهذا دعاء، وبين السجدتين يقول: رب اغفر لي، ويكرر ذلك، وهذا دعاء. وكذلك في السجود مأمور بأن يكثر من الدعاء، وكذلك في آخر التشهد مأمور بأن يدعو، فالصلاة فيها دعاء، وكذلك الحج فيه الدعاء في الطواف، وفي السعي، وفي الوقوف بعد الرمي، وما أشبه ذلك، وهذا دليل على أن الله يحب من عباده أن يكثروا من دعائه، وأن لا يملوا من هذا الدعاء، وأنه سبحانه لا بد وأن يجيبهم إذا تمت الشروط. وتقدم كلام ابن عقيل على هذه الأدلة التي فيها الأمر بالدعاء، فإنه استدل بها على أن الله تعالى موجود، فإن المعدوم لا يدعى، وأنه سبحانه قادر، فإن العاجز لا يمكن أن يطلب منه شيء، وأنه غني، ولو كان فقيراً لم يطلب منه شيء، فكيف يطلب من الفقير شيء وهو لا يجد! واستدل به على أنه كريم؛ وذلك لأن الكريم هو الذي يجود، وهو الذي يهب مما عنده، فالله تعالى هو الكريم، بل هو الذي لا ينقص ما عنده كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه) ، ويقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) ، والآيات والأحاديث والأدلة على هذا كثيرة. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 12 شرح العقيدة الطحاوية [78] قد أمر الله عباده بدعائه وجعله عبادة ووعد بالإجابة، وقد خالف في جدوى الدعاء بعض الفلاسفة وغلاة المتصوفة، واحتجوا بالقدر السابق وأنه كثيراً ما يدعو الناس فلا يستجاب لهم، وقد أجاب العلماء عن شبهاتهم وبينوا خطأهم. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 1 مجمل القول في انتفاع الميت بعمل الأحياء معلوم أن من الأمور الاعتقادية ما يكفر بمخالفته، ومنها ما لا يكفر بمخالفته، وقد تقدم لنا في هذه العقيدة ذكر المسح على الخفين، وهو من الفروع العملية التي لا يكفر المخالف فيها، فقد خالف فيه بعض الصحابة وبعض الأئمة، ولكن استقر قول أهل السنة على القول به، وجاءت مسألة أخرى من الفروع، وهي إهداء الأعمال إلى الأموات أو الأحياء، فهي من المسائل الفرعية، ولا يكفر المخالف فيها وإن ذكرت في العقيدة، وذلك لأنهم: أولاً: قد تمسكوا بقول الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] . وثانياً: لهم واجتهاد اجتهدوه، فلأجل ذلك لم يكفروا بمثل ذلك ولكنهم مخطئون. إنما كان إهداء الأعمال إلى الأحياء أو الأموات من مسائل العقيدة؛ لأن الخلاف فيه مع المخالفين في العقيدة، ومعلوم أن العقيدة هي الأسماء والصفات، والبعث بعد الموت، واليوم الآخر، والإيمان بالملائكة، والرسل، والكتب المتقدمة، ولا شك أن هذه من الأمور الاعتقادية، ولكن تلحق بها أيضاً أمور عملية، وتعطى حكم العقيدة، وإن لم تكن من العقيدة التي يعقد عليها القلب، بمعنى: أنه يؤمن بها وإن لم ير لها دلالات، وقد يكون إدخال إهداء الأعمال إلى الأموات أو الإحياء في العقيدة من باب أنه أمر غيبي، يعني: أننا لا ندري هل يصل إلى الأموات ثواب هذه الأعمال، أو لا يصل إليهم؟! ولكن لما جاءت شواهد ودلائل تدل على أنه ينتفع الميت بعمل الحي إذا أهداه إليه، قال بذلك أهل السنة، فنراهم يصلون على الأموات، لأن الأموات ينتفعون بصلاتهم عليهم، ونراهم يدعون لهم، فيدعو أحدهم لأبويه ولأمواته، كقول نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28] فقد ذكروا أن والديه كانا مسلمين. والنهي عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى، يدل على أنهم لو كانوا مسلمين لانتفعوا بهذا الاستغفار، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر موت عمه أبي طالب وطلب منه أن ينطق بالشهادة فلم يفعل، وكان آخر كلامه أن قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فأنزل الله {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113] ، ومفهومه: أن لهم أن يستغفروا للمسلمين، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فمنعني) يعني بعموم هذه الآية: (ولو كانوا أولي قربى) فهذا يفيد: أنهم ينتفعون بالاستغفار إذا كانوا مؤمنين، ولا ينتفعون به إذا كانوا مشركين، ومعلوم أن الاستغفار دعاء، فإنه إذا قال: رب اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين، فقد دعا الله لنفسه ولوالديه وللمؤمنين، وهذا الدعاء يفيد وينفع. وقد اشتهر الاستدلال بعموم الآيات مثل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان} [الحشر:10] فنحن نقول: ندعو لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان قديماً وحديثاً، فندعو للصحابة وبيننا وبينهم عدة قرون، وللتابعين وللأئمة وللعلماء في كل قرن وفي كل زمان، فإن هذه دعوة آبائنا وأجدادنا ومن خلفنا وإخواننا وأقاربنا وأصحابنا وأصدقائنا من المؤمنين الذين سبقونا بالإيمان، فلا شك أن ذلك ينفعهم. ورد في بعض الكتب أن إنساناً رأى بعض الأموات في منامه فأخبره ذلك الميت بأنه يأتيهم من دعاء الأحياء أمثال الجبال من الهدايا، التي هي دعاء وصدقات وأعمال ونحو ذلك، تنور عليهم قبورهم وتزداد بها حسناتهم، وتحط بها سيئاتهم. والأعمال التي تهدى إليهم كثيرة منها الدعاء، ولا شك في انتفاع المدعو به إذا كان الداعي والمدعو له أهلاً لذلك. ومنها الصدقة: وقد دل عليها الحديث الذي فيه: (إن أمي افتلتت نفسها ولم تتصدق، وأظنها لو تكلمت تصدقت، ألا أتصدق عنها؟ قال: نعم) . ومنها الحج: وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أذن للخثعمية أن تحج عن أبيها مع أنه حي ولكنه لا يستطيع الثبوت على الراحلة، وسمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال: (أحججت عن نفسك؟ قال: لا، فقال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) فأفاد بأنه ينتفع إذا حج عنه، ولو كان بعيداً في النسب، ما دام أنه حج عنه وأهدى إليه عمل حجته. وكل ذلك يفيد أن الأموات ينتفعون بإهداء أعمال الحي، وقد تقدم لنا التفصيل في ذلك، وعرفنا القول الصحيح والأدلة عليه. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 2 الرد على من زعم أن الدعاء لا فائدة فيه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذهب قوم من المتفلسفة وغالية المتصوفة إلى أن الدعاء لا فائدة فيه! قالوا: لأن المشيئة الإلهية إن اقتضت وجود المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء، وإن لم تقتضه فلا فائدة في الدعاء! وقد يخص بعضهم بذلك خواص العارفين! ويجعل الدعاء علة في مقام الخواص! وهذا من غلطات بعض الشيوخ، فكما أنه معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام فهو معلوم الفساد بالضرورة العقلية، فإن منفعة الدعاء أمر اتفقت عليه تجارب الأمم، حتى إن الفلاسفة تقول: ضجيج الأصوات في هياكل العبادات، بفنون اللغات، يحلل ما عقدته الأفلاك المؤثرات! وهذا وهم مشركون. وجواب الشبهة بمنع المقدمتين، فإن قولهم عن المشيئة الإلهية: إما أن تقتضيه أو لا، فثمّ قسم ثالث، وهو: أن تقتضيه بشرط لا تقتضيه مع عدمه، وقد يكون الدعاء من شرطه، كما توجب الثواب مع العمل الصالح ولا توجبه مع عدمه، وكما توجب الشبع والري عند الأكل والشرب، ولا توجبه مع عدمهما، وحصول الولد بالوطء، والزرع بالبذر، فإذا قدر وقوع المدعو به في الدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب، فقول هؤلاء كما هو مخالف للشرع فهو مخالف للحس والفطرة. ومما ينبغي أن يعلم ما قاله طائفة من العلماء، وهو أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومعنى التوكل والرجاء يتألف من وجوب التوحيد والعقل والشرع. وبيان ذلك: أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه، ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوق ما يستحق هذا؛ لأنه ليس بمستقل، ولا بد له من شركاء وأضداد، مع هذا كله، فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر. وقولهم: إن اقتضت المشيئة المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء! قلنا: بل قد تكون إليه حاجة، من تحصيل مصلحة أخرى عاجلة وآجله، ودفع مضرة أخرى عاجلة وآجلة، وكذلك قولهم: وإن لم تقتضه فلا فائدة فيه، قلنا: بل فيه فوائد عظيمة من جلب منافع ودفع مضار، كما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم، بل ما يعجل للعبد من معرفته بربه وإقراره به، وبأنه سميع قريب قدير عليم رحيم، وإقراره بفقره إليه، واضطراره إليه، وما يتبع ذلك من العلوم العلية والأحوال الزكية، التي هي من أعظم المطالب. فإن قيل: إذا كان عطاء الله معللاً بفعل العبد، كما يعقل من إعطاء المسئول للسائل، كان السائل قد أثر في المسئول حتى أعطاه؟! قلنا: الرب سبحانه هو الذي حرك العبد إلى دعائه، فهذا الخير منه وتمامه عليه، كما قال عمر رضي الله عنه: إني لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء، ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه، وعلى هذا قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] فأخبر سبحانه أنه يبتدئ بتدبير الأمر، ثم يصعد إليه الأمر الذي دبره، فالله سبحانه هو الذي يقذف في قلب العبد حركة الدعاء، ويجعلها سبباً للخير الذي يعطيه إياه، كما في العمل والثواب، فهو الذي وفق العبد للتوبة، ثم قبلها، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه، فما أثر فيه شيء من المخلوقات، بل هو جعل ما يفعله سبباً لما يفعله، قال مطرف بن عبد الله بن الشخير أحد أئمة التابعين: نظرت في هذا الأمر، فوجدت مبدأه من الله، وتمامه على الله، ووجدت ملاك ذلك الدعاء] . وهذا يتعلق بالدعاء الذي أمر الله به والذي حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم، والذي نهجه علماء الأمة وحثوا عليه ورغبوا فيه، وهو سؤال الله تعالى الحاجات، فعلى العبد أن ينزل حاجاته بربه، وأن يسأله قضاءها، وأن يرغب إليه بأن ييسر كل يسير، وأن يعطيه كل مطلب، وقد تقدمت أدلة تفيد الأمر بالدعاء والحث عليه، مثل قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] من هو الذي يجيبه؟ هو الله. ولما قال الصحابة: (يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه أنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ) فهذا خبر من ربنا تعالى أنه قريب وأنه يجيب دعوة من دعاه، وكما أمر بذلك في قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] . وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الدعاء وأخبر بأنه عبادة في قوله: (الدعاء هو العبادة، وقرأ هذه الآية: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] ) ، وكذلك حث عليه الصلاة والسلام على الإكثار من الدعاء، وروي عنه أنه قال: (إن الله يحب الملحين في الدعاء) والإلحاح: هو تكرار الدعاء والإكثار منه. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 3 قد يعطي الله الداعي خيراً مما دعا به فيظن أن دعوته لم تجب وإذا قيل: إن الكثير قد يدعون ولا يرون أثراً للإجابة فأين معنى: (ادعوني أستجب لكم) ؟ نقول: ورد في بعض الأحاديث: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أجاب الله دعوته، أو ادخرها له في الآخرة، أو دفع عنه من الشر مثلها) فلا يخلو من ثلاث حالات: إما أن تجاب دعوته عاجلاً ويرى أثرها، وإما أن يدفع عنه شر بسبب هذه الدعوة، كما يدفع بالأعمال الصالحة، وإما أن يدخرها الله له في الآخرة فيثيبه عليها كما يثيبه على الأعمال الصالحة، أي: كما يثيبه على الصلاة والصدقات والزكوات والصيام والحج والجهاد ونحوها، فكذلك يثيبه على الدعاء. ومعلوم أيضاً أن الدعاء وإن أجيب الداعي وأعطي سؤله في الدنيا فإن الله بكرمه يثيبه في الآخرة، بمعنى: أنه يدفع عنه السوء، أو يعظم له الأجر، أو يجزل له الثواب، وسبب ذلك: أن الإنسان الذي يعلم أن ربه هو الذي يقضي الحاجات، وهو الذي يفرج الكربات، وهو الذي يجيب الدعوات، وهو الذي يقضي حاجات عباده، ثم ينزل حاجته بربه، لا شك أنه -والحال هذه- قد عبد ربه فإنك إذا رفعت يديك تدعو الله تعالى ولم يتعلق قلبك بأي مخلوق، أليس ذلك دليلاً على أنك أردت أنه الذي يقضي حاجتك، وأنه الذي يملكها وحده، وأنه هو الذي يفرج الكروب، وأنه علام الغيوب؟ لا شك أن هذه عبادة قلبية، أليس يستحق الداعي ثواباً على ذلك؟ إذاً: فالدعاء يثاب عليه في الدنيا بأن يجيب الله دعوته، وفي الآخرة بأن يعطيه جزاءً على عبادته ومعرفته. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 4 الدعاء سبب من الأسباب التي يجب الأخذ بها وقد تقدم اعتراض بعض الفلاسفة ونحوهم على الدعاء، وقولهم: إن الدعاء لا فائدة فيه، وقولهم: إذا كان هذا القدر قد قدر الله أنه يأتي، فسوف يأتي دعوت أو لم أدع، وإذا لم يقدره الله فلن يأتي ولو دعوت ثم دعوت، إذاً: فلا موجب للدعاء. هذه شبهتهم. وبعبارة أخرى إذا قلنا له مثلاً: ادع ربك أن يفرج عنك هذا الكرب، وأن يقضي عنك هذا الدين، وأن يزيل عنك هذا الهم والغم، وأن يوسع عليك في الرزق، وأن يصحك في بدنك، وأن يرزقك ولداً؛ فإنه يقول: إن كان الله قد قدر أنه يرزقني فسوف يرزقني سواء دعوت أم لم أدع، وإذا كان الله لم يكتب لي هذا الرزق فلا فائدة في هذا الدعاء، دعوت أو لم أدع، هكذا يقول أحدهم. ونقول: هذا ليس بصحيح، وذلك لأننا نقول: إن ربنا سبحانه قد قدر لك هذا الأمر، ولكن جعل له سبباً، وجعل له سبباً وهو الدعاء، فكأنه كتب في الأزل أنك تدعو فترزق، ولو لم تدع لم ترزق، فيكون الدعاء سبباً من أسباب هذا الأمر الذي حصل لك. ومعلوم أن الأسباب مرتبطة بمسبباتها، وأن الله سبحانه جعل في هذه الدنيا أسباباً وأمر العباد بمباشرتها، وجعل لتلك الأسباب تأثيراً، وإن كان قد قدر ذلك أزلاً، وكتبه في اللوح المحفوظ، وقد ذكر الشارح الأسباب الحسية، والأسباب الحسية لا ينكرها منكر، في ذلك أن الإنسان لو ترك الأكل وهو ينظر إليه ويجده حتى مات اعتبر قاتلاً لنفسه، لأن الله تعالى جعل هذا الأكل سبباً في بقاء الحياة، وقدر أن الإنسان يأكل من هذا الطعام فيعيش، وأمر بذلك في قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31] وكذلك جعل الشراب سبباً في بقاء الحياة، ولو تركه الإنسان وهو قادر على أن يشرب حتى مات ظمأً لعد قاتلاً لنفسه. وكذلك الأسباب الأخرى يشاهد أنها مؤثرة في مسبباتها، فالنكاح والوطء سبب في حصول الولد، فالله تعالى أمر بذلك بقوله {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] ، {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] ، وذلك لأن النكاح سبب في الولد، فلو أن إنساناً قال: لا أتزوج، وإذا كان الله قد قدر لي أولاداً حصلوا وإن أتزوج، وإن لم يقدر لي أولاداً فلا فائدة في الزواج، نقول: ليس كذلك، فالله إذا قدر لك ولداً فإنه قد جعل سببه في النكاح، فعليك أن هذا السبب حتى يحصل ما قدره، وعليك أن تدعو الله فهو الذي يقدر ذلك. ولو قال إنسان لا حاجة في أن أبذر هذه الأرض، فإن كان الله قدر أنها تنبت ويكون فيها قمح وزرع فذلك سيحصل، سواء زرعتها وسقيتها وحرثتها أو لم أفعل، وإذا قدر أنها لا تنبت فإنه لا يحصل فيها شيء، فلا فائدة في زرعي لها، فهل هذه المقالة صحيحة؟ لا شك بأنها مقالة باطلة؛ وذلك لأن الله تعالى قد أمر بالسبب الذي هو بذر الأرض وزرعها، وهو الذي إذا شاء جعله مثمراً، قال تعالى {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63-64] ، فأثبت لهم حرثاً (تحرثون) ، وأخبر بأنه هو الذي ينبته ولو شاء لم ينبت، ولهذا قال {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة:65] فهذا بيان أن الأسباب لها فائدة ولو كان ذلك مكتوباً أزلاً. إذاً الدعاء سبب كما أن النكاح سبب، وكما أن البذر سبب والزرع سبب والغرس سبب، وهذا يبين أن هذه الأسباب تؤثر بإذن الله تعالى، فهناك من يعتمد على الأسباب كلها، وقد تقدم أن الاعتماد على الأسباب يعتبر شركاً، يعني أن الاعتقاد بأن السبب هو المؤثر يعتبر شركاً بالله، أي: أنه جعل لغيره تأثيراً ولم يدعه لتقدير الله، فالله تعالى أخبر بأنه هو الذي يخلق الخلق وهو الذي يرزقهم. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 5 الاعتماد على الأسباب كفر وتركها قدح في الشرع والعقل لو قال إنسان: الإنسان هو الذي يخلق ولده؛ لأنه يصبه في الرحم ثم يتكون ولداً، ولم يجعل الله خالقاً؛ كان هذا كفراً بالله الذي هو مسبب الأسباب، فهذا الحكم الأول، والحكم الثاني: الذين يعرضون عن الأسباب وينفونها ولا يلتفتون إلى الأسباب، لا شك أن هذا محو للأسباب وهو نقص في العقل، إذ لا يليق بالعاقل أن يترك العقل فيقول: إذا قدر الله لي أن أعيش فإني سوف أعيش وإن لم آكل. كذلك أيضاً طلب الرزق، فمن يقول: سينزل علي من السماء طعامي وشرابي وحاجتي، وإن لم أتحرك، فهذا نقص في العقل، وإعراض عن الأسباب، وهو قدح في الشرع. فالحاصل أن الاعتماد على الأسباب يعتبر شركاً وقدحاً في التوحيد، ومحوها نقص في العقل، ومحو تأثيرها قدح في الشرع، وعلى كل حال فهذا الدعاء قد أمر الله به وحث عليه ورغب فيه، وأخبر بأنه يحب الذين يدعونه، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه) ، ففيه حث على أن الإنسان يدعو الله حتى يحصل على رضاه، وأن بعض السلف كان يقول: سلوا الله حاجاتكم كلها حتى ملح للطعام، وإن كان ذلك يستدعي أن الإنسان يفعل السبب مع عدم اعتماده عليها، ومن جملتها أن يدعو الله تعالى، والدعاء يحصل بخيري الدنيا والآخرة، فيدعو بأمور الدنيا ويدعو بأمور الآخرة، ويعلم أنها بيد الله، وأنه سبحانه هو الذي يعطي عباده ولا تنفذ خزائنه، مهما أنفق ومهما أعطى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمنيه) ، وكما في الحديث القدسي يقول: (قال الله تعالى: يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) ، وأشباه ذلك مما ورد في الأحاديث التي فيها الحث على الدعاء والترغيب فيه، وبيان أهميته وفائدته، وبيان أن قول الذين قالوا إنه لا فائدة فيه، قول باطل، بمقدمتين: المقدمة الأولى قولهم: إذا كان الله قدره فسوف يأتي، نقول: نعم قدره ولكن جعل له سبباً، والمقدمة الثانية قولهم: إذا لم يقدر فلا فائدة في الدعاء، كيف يدعو بشيء قد قدر الله أنه لا يحصل، نقول: بل له فائدة، ولو لم يكن فيه إلا تضرع العبد لربه، وإظهاره الافتقار إليه، والرغبة فيما عنده، لكان ذلك كافياً وإن لم تحصل له طلبته. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 6 الواقع يشهد بفائدة الدعاء والواقع يشهد بفائدة الدعاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل مرة وهو على المنبر أن يدعو الله تعالى بالغيث، رفع يديه وقال: (اللهم أغثنا) مرتين أو ثلاثاً فاستجاب الله دعاءه فنزل المطر في ذلك اليوم، واستمر نزوله أسبوعاً، وفي الجمعة الثانية دعا بقوله: (اللهم حوالينا ولا علينا) ، فانفرجت السماء وصارت كالإكليل استجابة لدعوته، فدل على أنه يؤثر بالدعاء، سيما إذا كان مستجاب الدعوة وهو الذي تتم فيه الصفات التي يكون بها أهلاً لأن تجاب دعوته، فيأتي بشروط إجابة الدعوة، فإن للدعاء شروطاً مذكورة في الكتب المطولة، وقد جمع العلماء ما وصلهم أو ما صح عندهم من الأدعية، ففي صحيح البخاري كتاب اسمه: كتاب الدعوات أورد فيه كثيراً من الأدعية المرفوعة، سواءً كانت تتعلق بأمور الدنيا أو بأمور الآخرة، مثل: سؤال الجنة والنجاة من النار، وسؤال الخير ومحو الشر وأشباه ذلك, والتحفظ مثل: الاستعاذة من الشرور ونحوها. كذلك في صحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء جمع فيه أدعية كثيرة، وأفردت الأدعية أيضاً بكتب من أوسعها كتاب الدعاء للبيهقي مطبوع في ثلاثة مجلدات، وإن كانت فيه مقدمة طويلة وفهارس ,لكن فيه أدعية كثيرة، واهتم بذلك العلماء متقدمهم ومتأخرهم، وكل أفرد ما يسر الله أن يطلع عليه وما عَنّ له من الأدعية، ولا شك أن ذلك دليل على إجابة الدعاء. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 7 بيان السبب في أن الداعي قد لا يعطى شيئاً أو يعطى غير ما سأل قال المؤلف رحمه الله: [وهنا سؤال معروف، وهو: أن من الناس من قد يسأل الله فلا يعطى شيئاً، أو يعطى غير ما سأل؟ وقد أجيب عنه بأجوبة، فيها ثلاثة أجوبة محققة: أحدها: أن الآية لم تتضمن عطية السؤال مطلقاً، وإنما تضمنت إجابة الداعي، والداعي أعم من السائل، وإجابة الداعي أعم من إعطاء السائل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) . ففرق بين الداعي والسائل، وبين الإجابة والإعطاء، وهو فرق بين العموم والخصوص، كما أتبع ذلك بالمستغفر وهو نوع من السائل، فذكر العام ثم الخاص ثم الأخص، وإذا علم العباد أنه قريب يجيب دعوة الداعي علموا قربه منهم وتمكنهم من سؤاله، وعلموا علمه ورحمته وقدرته، فدعوه دعاء العبادة في حال، ودعاء المسألة في حال، وجمعوا بينهما في حال، إذ الدعاء اسم يجمع العبادة والاستعانة، وقد فسر قوله {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر:60] بالدعاء الذي هو العبادة، والدعاء الذي هو الطلب، وقوله بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] يؤكد المعنى الأول. الجواب الثاني: أن إجابة دعاء السؤال أعم من إعطاء عين السؤال، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، أو يدخر له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها، قالوا: يا رسول الله إذاً نكثر، قال: الله أكثر) ، وقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا بد في الدعوة الخالية من العدوان من عطاء السؤال معجلاً، أو مثله من الخير مؤجلاً، أو يصرف عنه من السوء مثله. الجواب الثالث: أن الدعاء سبب مقتض لنيل المطلوب، والسبب له شروط وموانع، فإذا حصلت شروطه وانتفت موانعه حصل المطلوب، وإلا فلا يحصل ذلك المطلوب، بل قد يحصل غيره، وهكذا سائر الكلمات الطيبات من الأذكار المأثورة، المعلق عليها جلب منافع أو دفع مضار، فإن الكلمات بمنزلة الآلة في يد الفاعل، تختلف باختلاف قوته وما يعينها، وقد يعارضها مانع من الموانع، ونصوص الوعد والوعيد المتعارضة في الظاهر من هذا الباب، وكثيراً ما تجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم، ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله، أو حسنة تقدمت منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكر الحسنة، أو صادف وقت إجابة ونحو ذلك فأجيبت دعوته، فيظن أن السر في ذلك الدعاء، فيأخذه مجرداً عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي. وهذا كما إذا استعمل رجل دواءً نافعاً في الوقت الذي ينبغي، فانتفع به، فظن آخر أن استعمال هذا الدواء بمجرده كافٍ في حصول المطلوب، وكان غالطاً، وكذا قد يدعو باضطرار عند القبر فيجاب فيظن أن السر للقبر، ولم يدر أن السر للاضطرار وصدق اللجوء إلى الله تعالى، فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله تعالى كان أفضل وأحب إلى الله تعالى. فالأدعية والتعوذات والرقى بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه لا بحده فقط، فمتى كان السلاح سلاحاً تاماً، والساعد ساعداً قوياً، والمحل قابلاً، والمانع مفقوداً، حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير، فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثم مانع من الإجابة لم يحصل الأثر. ] هذه الأجوبة قد تقدمت الإشارة إلى بعضها، والسؤال هو: أن بعض الناس يدعو ويكرر الدعاء، ومع ذلك لا يستجاب دعاؤه، والله تعالى يقول {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر:60] . ؟! وقد يقال: لماذا لا يستجيب وقد وعد بالإجابة؟ وكذلك قوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ، فكيف لم تحصل الإجابة؟ ومن هذه الأجوبة التي ذكرها الشارح: القول بأن الإجابة أعم من الإعطاء، حيث إن الله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وقال: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} [البقرة:186] ، ولم يقل: أعطيه مطلبه، ولا أعطيه ما سأل، فالإجابة يدخل فيها الثواب، ويدخل فيها التلبية لطلبه أو نحو ذلك، أو السماع، أي أنه سمع دعوته سماع قبول وقبل دعوته، فيكون هناك فرق بين إعطائه سؤله وبين إجابة الدعوة، فالله ذكر إجابة الدعوة ولم يذكر إعطاء المسئول، فلا يكون هناك اعتراض على الآية. وسمعنا الاستشهاد بحديث النزول الذي يقول الله فيه: (من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟) ، ويظهر هنا الفرق بين السؤال والدعاء، ففي السؤال قال: أعطيه، أما في الدعاء فقال: أجيبه، والآية ليس فيها إلا الدعاء: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر:60] ، فإذا أجابه بأن سمع دعاءه أو بأن قبل دعاءه صدق عليه أنه أجابه، فيقال: أنت ممن قبل الله دعاءك وإن لم يعطك سؤلك. أما الجواب الثاني ففيه: أن الداعي لا يسلم من إحدى ثلاث: الحالة الأولى: أن يعطى سؤله في الدنيا. الحالة الثانية: أن يدخر له في الآخرة. الثالثة: أن يصرف عنه من الشر مثله. فهو رابح بكل حال. أما الجواب الثالث فهو: أن الدعاء قد يتخلف سبب الإجابة فيه؛ وذلك لأن الإجابة لها أسباب وموانع، فمثلاً: كون الإنسان مؤمناً صحيح الاعتقاد هذا يعتبر سبباً من أسباب الإجابة، وكذلك الإلحاح في الدعاء، واستحضار القلب، واجتماع القلب واللسان على الدعاء، وكذلك الاضطرار، بأن يقع المرء في شدة وضرورة فيلجأ إلى ربه صادقاً في دعائه أن يرزقه وأن يستره وأن ينصره، ومن ذلك أن يستعمل المرء أدعية مأثورة، وكذلك تحري أوقات الإجابة وأماكن الإجابة، فإذا اجتمعت فيه الأسباب أعطي سؤله. فلو حصل ذلك لرجل فسمع به رجل آخر وقال: فلان أعطي سؤاله لما دعا بقوله مثلاً: اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له، أو لما قال: اللهم ارزقني رزقاً حسناً ويسر لي اليسرى وجنبني العسرى، وأنا دعوت ولكن لم يستجب لي، فأنا لا أزال في شدة، ولا أزال في جهد. نقول: تخلف فيك سبب من أسباب الإجابة، فلو اجتمعت الأسباب فيك لاستجيب دعاؤك، ولكن العلة أنه تخلف سبب أو وجد مانع، فمثلاً: قد يكون التقصير في شيء من الأعمال مانعاً من الإجابة، وارتكاب شيء من السيئات والمخالفات يكون مانعاً من الإجابة. ثم ما مثل به الشارح رحمه الله بقوله: قد يوجد مثلاً من إنسان دعاء عند قبر ولكنه دعا وهو مضطر، ودعا وهو صادق الرغبة فظن أن إجابته بسبب ذلك القبر، فسمعه الآخرون فقالوا: هذا القبر تستجاب عنده الدعوة، وهذا القبر يجيب من دعاه، وليس كذلك في الحقيقة، بل الأمر إنما حصل إما مصادفة، وإما بأمر سماوي، وإما بحاجة حصلت له، فالحاصل أن الإنسان عليه أن ينظر ويأتي بالأسباب التي تكون مؤثرة ومفيدة في إجابة الدعاء. نحمد الله على ما أولى من النعم، ودفع من النقم، نحمد الله على طول الأعمار والتردد في الآثار، نحمد الله على ظهور فضله ونسأله سبحانه الإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 8 شرح العقيدة الطحاوية [79] قد أثنى الله على نفسه بأنه مالك كل شيء، ووصف نفسه سبحانه بصفات ذاتية وصفات فعلية، وقد أنكر الصفات الفعلية كالغضب والرضا كثير من الأشعرية، وأولوها بالإرادة زعماً منهم أن الله منزه عنها لاتصاف المخلوقين بها، ولعلماء السنة أجوبة عليهم واضحة مستندة إلى الكتاب والسنة. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 1 أهمية الدعاء وإنكار بعض طوائف القدرية له مما درسناه في مسائل الاعتقاد مسألة الدعاء، وأن ربنا سبحانه أمر أن ندعوه ووعدنا أن يستجيب لنا، قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر:60] ، وقال تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ، وقال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف:56] ، {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] والآيات في أمر الله عباده بأن يدعوه كثيرة. وقد عرفنا أن الدعاء هو النداء، وأنا إذا قلنا: اللهم اغفر لنا! اللهم أعطنا سؤلنا! فذلك يستدعي نداءً منا لربنا، والمعنى: يا الله! يا ربنا! وهكذا الأدعية التي في القرآن مثل قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] التقدير: يا ربنا! لا تؤاخذنا. وقد ذكرنا أن الدعاء ينقسم إلى قسمين: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وأن كلاً منهما يلزم منه الآخر، فدعاء المسألة يستلزم دعاء العبادة، ودعاء العبادة يتضمن دعاء المسألة، ودعاء العبادة يدخل فيه كل العبادات، فمثلاً: الصلوات دعاء عبادة، والأذكار دعاء عبادة، والقراءة دعاء عبادة، والأوراد دعاء عبادة، والصدقات والصلات والبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه ذلك من الأعمال الخيرية، وهكذا ترك المنكرات دعاء عبادة كلها، ولكن هي في الحقيقة تتضمن دعاء المسألة، وذلك أن العابد ربه ما قصد إلا المسألة، فكأنه يقول: أقصد من صلاتي الثواب أقصد من صدقتي الثواب أقصد من دعائي ومن ذكري ومن قراءتي الحياة الطيبة، أو كأنه يقول: أصلي لك يا ربي! أو أحج لك يا ربي! لتغفر لي ولترزقني ولتصلح أحوالي، إذاً: فهو داع، إلا أنه في حقيقة أمره يقصد الأجر على هذه العبادات. وقد ذكرنا أن الاشتغال بالدعاء والذكر يقوم مقام السؤال؛ لأنه ورد في الحديث القدسي أن الله يقول: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) ، ولأجل ذلك وردت أدعية في القرآن لفظها لفظ الدعاء ولكنها ذكر وثناء، مثل قول الله تعالى في سورة آل عمران {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26-27] هذه الآيات ليس فيها سؤال، إنما فيها مجرد الثناء على الله، ولكن هذا الثناء يستلزم الدعاء. نقول: هذه هي حقيقة الدعاء، وقد ذكرنا أن المسائل التي تلحق بهذا الكتاب غالباً يكون فيها خلاف مع بعض المبتدعة. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 2 افتقار الخلق إلى الله وحاجتهم إليه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (ويملك كل شيء ولا يملكه شيء، ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين. كلام حق ظاهر لا خفاء فيه، والحين بالفتح الهلاك] . قوله: (ويملك كل شيء ولا يملكه شيء) كلام ظاهر، بمعنى: أن الله تعالى هو المالك لكل شيء، كما أخبر تعالى بقوله: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْد} [التغابن:1] ، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] ، ولا شك أن الملك والمالك من أسماء الله، فهو الذي يملك التصرف الكامل، فهو مالك الدنيا ومالك الآخرة، ومالك العباد، ومالك البلاد، ومالك الرقاب، ومذلل الصعاب، هو المالك لكل شيء، ولا يملكه شيء، فهو الخالق وما سواه مخلوقون، والمالك وما سواه مملوكون، فمعنى هذه الجملة: الاعتراف بأن الملك ملكه، وبأن العبيد كلهم وما في أيديهم مملوكون له، وملكهم لما تحت أيديهم وتحت تصرفهم ملك خاص لا يملكون له استقلالاً، وهو أيضاً ملك مؤقت، فإذا قلت مثلاً: هذه الدولة يملكها فلان أو رئيسها فلان، نقول: إن ملكه خاص ومؤقت، وإذا قلت مثلاً: هذه المزرعة ملك فلان أو هذه العمارة ملك فلان، فالمعنى أنه يملكها ملكاً خاصاً وملكاً مؤقتاً، ربما تنتزع منه أو ينتزع منها أو يموت ويتركها، فعرف بذلك أن الملك الحقيقي هو الله تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] ، {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء} [يس:83] . وأما كونه سبحانه لا غنى لأحد عنه طرفة عين فقد تقدم معنى ذلك في الجمل المتقدمة والتي ذكر فيها أن العباد بحاجة إلى ربهم، وأنهم مضطرون إلى سؤاله، وهو سبحانه يحب منهم أن يسألوه ويدعوه، ويرغبهم في أن يسألوه ويستعطوه من فضله مع كونهم بحاجة إلى عطائه وهو غني عنهم، يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] ، ويقول تعالى {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُم} [محمد:38] ، فوصف نفسه بأنه الغني والعباد فقراء إليه، ورد في الحديث القدسي الصحيح (يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم) . فإذاً لا أحد يستغني عن الله طرفة عين، والذين يظهرون أنهم يملكون نعم الله هم في الحقيقة فقراء ولو ذللت لهم الدنيا، ولو سخرت لهم الدنيا حتى انخدع كثير منهم، حتى ذكر لي عن بعض الكفرة الذين كانوا بين المسلمين لما قيل لأحدهم: اعبد الله فإن الله هو الذي رزقك، أنكر ذلك والعياذ بالله وقال: إنما رزقتني يميني. أعوذ بالله من ذلك، يعني: اعتمد على أنه الذي كسب أو لم يكسب، ونسي أن الله حنن عليه أبويه في طفولته، وأنه وكل به من يطعمه ويسقيه ويغذيه في حالة عجزه، حتى اشتد عظمه وقوي هيكله، فنسي فضل الله عليه، واعتقد أنه هو الذي أغنى نفسه، ولو شاء الله لانتقم منهم ولسلبهم ما أعطاهم، فعلى الإنسان أن يعترف أنه فقير إلى الله وأن ربه هو الغني، وأن العباد لا غنى لهم عن ربهم طرفة عين. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 3 صفات الله الفعلية كالغضب والرضا قال المؤلف: [وقوله: (والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى) قال تعالى {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم} [المائدة:119] ، {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] ، وقال تعالى {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْه} [المائدة:60] ، {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَه} [النساء:93] ، {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّه} [البقرة:61] ونظائر ذلك كثيرة. ومذهب السلف وسائر الأمة إثبات صفة الغضب والرضا والعداوة والولاية والحب والبغض ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى، كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام وسائر الصفات، كما أشار إليها الشيخ فيما تقدم بقوله: (إذا كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ترك التأويل، ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين) . وانظر إلى جواب الإمام مالك رضي الله عنه في صفة الاستواء كيف قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول. وروي أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً عليها ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال الشيخ رحمه الله فيما تقدم: (من لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) ويأتي في كلامه: (إن الإسلام بين الغلو والتقصير والتشبيه والتعطيل) . وقول الشيخ رحمه الله: (لا كأحد من الورى) نفى التشبيه ولا يقال: إن الرضا إرادة الإحسان، والغضب إرادة الانتقام، فإن هذا نفي للصفة، وقد اتفق أهل السنة على أن الله يأمر بما يحب ويرضى، وإن كان لا يريده ولا يشاؤه، وينهى عما يسخطه ويكرهه ويبغضه ويغضب على فعله، وإن كان قد شاءه وأراده، فقد يحب عندهم ويرضى ما لا يريده، ويكره ويسخط ويغضب لما أراده. ويقال لمن تأول الغضب والرضا بإرادة الإحسان: لم تأولت ذلك؟ فلا بد أن يقول: لأن الغضب غليان دم القلب، والرضا الميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى! فيقال له: غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب، لا أنه هو الغضب، ويقال له أيضاً: وكذلك الإرادة والمشيئة فينا، فهي ميل الحي إلى الشيء أو إلى ما يلائمه ويناسبه، فإن الحي منا لا يريد إلا ما يجلب له منفعة، أو يدفع عنه مضرة، وهو محتاج إلى ما يريده، ومفتقر إليه، ويزداد بوجوده، وينقص بعدمه، فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذاك، وإن امتنع هذا امتنع ذاك. فإن قال: الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد، وإن كان كل منهما حقيقة، قيل له: فقل: إن الغضب والرضا الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد، وإن كان كل منهما حقيقة، فإن كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات لم يتعين التأويل، بل يجب تركه؛ لأنك تسلم من التناقض، وتسلم أيضاً من تعطيل معنى أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب، فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام، ولا يكون الموجب للصرف ما دله عليه عقله، إذ العقول مختلفة، فكل يقول: إن عقله دله على خلاف ما يقوله الآخر. وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله تعالى لامتناع مسمى ذلك في المخلوق، فإنه لابد أن يثبت شيئاً لله تعالى على خلاف ما يعهده حتى في صفة الوجود، فإن وجود العبد كما يليق به، ووجود الباري تعالى كما يليق به، فوجوده تعالى يستحيل عليه العدم، ووجود المخلوق لا يستحيل عليه العدم، وما سمى به الرب نفسه وسمى به مخلوقاته، مثل الحي والعليم والقدير، أو سمى به بعض صفاته كالغضب والرضا، وسمى به بعض صفات عباده، فنحن نعقل بقلوبنا معاني هذه الأسماء في حق الله تعالى، وأنه حق ثابت موجود، ونعقل أيضاً معاني هذه الأسماء في حق المخلوق، ونعقل أن بين المعنيين قدراً مشتركاً، لكن هذا المعنى لا يوجد في الخارج مشتركاً، إذ المعنى المشترك الكلي لا يوجد مشتركاً إلا في الأذهان، ولا يوجد في الخارج إلا معيناً مختصاً، فيثبت في كل منهما كما يليق به، بل لو قيل: غضب مالك خازن النار وغضب غيره من الملائكة، لم يوجب أن يكون مماثلاً لكيفية غضب الآدميين؛ لأن الملائكة ليسوا من الأخلاط الأربعة، حتى تغلي دماء قلوبهم كما يغلي دم قلب الإنسان عند غضبه، فغضب الله أولى] . أما الكلام الذي بعده فيتعلق ببعض الصفات ومنها صفة الغضب والرضا والسخط والحب والبغض ونحوها، وهذه تسمى صفات فعلية، لأنه قد تقدم أن الصفات تنقسم إلى قسمين: صفات ذاتية، وصفات فعلية، فالصفات الذاتية هي الملازمة للموصوف؛ كصفة الكلام والحياة وصفة الوجه واليد والسمع والبصر ونحوها، وأما صفة العلو والنزول وصفة الحب والبغض والكراهية والسخط والغضب والرضا فهذه صفات فعل، أي أن الله يفعلها إذا شاء، وقد تكاثرت الأدلة على إثبات صفات الأفعال في القرآن وكذا في السنة، ومع كثرتها فقد أنكرها الكثير من المبتدعة، فأنكرها المعتزلة وإن كانوا قد أنكروا أيضاً الصفات الذاتية، وأنكر الأشعرية هذه الصفات الفعلية. ولكن أهل السنة لم ينكروها، بل أقروا بها؛ وذلك لأنهم رأوا الأدلة عليها من القرآن والسنة متواترة وواضحة فقول الله تعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6] ، هل ننكر دلالة هذه الآية على صفة الغضب؟ وكذلك قوله: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور:9] ، وكذلك قوله في القاتل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْه} [النساء:93] ، وكذلك قوله في قوم هود لما أغضبوه: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّه} [البقرة:61] ، ونحو ذلك. وكذلك آيات السخط مثل قوله تعالى: {بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّه} [آل عمران:162] ، وكذلك وردت آيات الرضا كثيراً في القرآن: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه} وهكذا أيضاً الأحاديث كحديث الشفاعة إذا جاء أهل الموقف إلى آدم يقولون: (اشفع لنا إلى ربنا، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله) ، وهكذا يقول نوح وإبراهيم وباقي أولي العزم من الرسل، فيقرون بأن الله تعالى قد غضب اليوم غضباًَ لم يغضب قبله ولن يغضب بعده مثله، فلا شك أن هذا دليل على أن الأنبياء والرسل يعترفون لربهم بأنه يتصف بصفة الغضب كما يليق به، وعلى هذا فلابد من إثبات هذه الصفة، ولكن إذا أثبتناها فإنا: أولاً: لا نكيفها، ولا نقول كيفية الغضب كذا وكذا في حق الله. ثانياً: ننزهها عن مشابهة غضب المخلوق، ولهذا يقول الطحاوي رحمه الله: (لا كأحد من الورى) أي: لا كغضب أحد من الخلق، إذاً غضب الله يليق به، وغضب المخلوق يليق به. وقد أنكر الأشاعرة هذه الصفة وقالوا: إن الغضب الذي نعرفه هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا الوصف لا يليق بالله، فقال لهم أهل السنة: فبماذا تفسرون الآيات والأحاديث التي فيها إثبات الغضب؟ فقالوا: نفسره في حق الله بأنه إرادة الانتقام، قلنا: كيف صرفتم غضب الله إلى إرادة الله أن ينتقم؟ والأشاعرة إنما صرفوه إلى هذا المعنى لأنهم يعترفون بالإرادة، فيثبتون صفة الإرادة لله، وإذا قلنا لهم: الإرادة هي ميل النفس إلى المراد، قالوا: لا، هذه إرادة المخلوق، قلنا: الغضب الذي هو غليان دم القلب هذا غضب المخلوق أيضاً، فأنتم فررتم من شيء ووقعتم في مثله، فالأولى لكم أن تثبتوا صفة الغضب وتنفوا عنها التشبيه، وتكلون كيفيتها إلى الله تعالى، كما تفعلون ذلك في سائر الصفات؛ وذلك لأن المخلوق قد وصف بكثير من الصفات التي هي من صفات الله، ومع ذلك يوجد فارق بين صفات الخالق وصفات المخلوق، فإذا أثبتنا صفة السمع والبصر كما أثبتها الله تعالى لنفسه {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134] ، {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61] ، {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] ، وكذلك الإنسان، قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2] ، {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِر} [مريم:38] . فالإنسان سميع والله سميع، فهل يلزم التشابه بين سمع الخالق وسمع المخلوق؟ لا يلزم. فاشترك سمع الله وسمع المخلوق في معنى عام وهو التشبيه العام، أي أنه إذا قيل: أليس السمع هو إدراك الأصوات؟ قلنا: نعم، السمع هو إدراك الأصوات، ولكن سمع الله لا يحجبه شيء، فهو يسمع دبيب النملة على الصخرة الصماء، وسمع الله أيضاً لا تختلف عليه الأصوات، ولا تغلطه كثرة المسائل مع اختلاف اللغات والمسئولات، وسمع المخلوق ليس كذلك، فأنت إذا تكلم عندك اثنان في آن واحد اشتبه عليك ما يقول هذا بما يقول هذا، أما الرب تعالى فإنه لا يشغله سمع عن سمع، فيكون الفرق ظاهراً. وكذلك يقال في البصر، فالله تعالى موصوف بالبصر والإنسان موصوف بالبصر، والاشتراك إنما هو في المعنى العام وهو أن يقال: أليس معنى البصر إدراك الأشباح التي تتمثل أمام العينين؟ فنقول: نعم، لكن بصر الله ليس كبصر المخلوق، فالله تعالى موصوف بالبصر ولا يحجبه شيء عن أن يبصر مخلوقاته بعيدهم وقريبهم، أما المخلوق فلا يخرق بصره هذا الجدار أو هذا الحجاب، وإذا كان هذا فارقاً فكذلك نقول في الغضب والرضا، وفي السخط والبغض والكراهية والمحبة نقول: إن بين محبة الله ومحبة المخلوق فرقاً، ولا نقول: إن محبة الله هي ميل النفس إلى المحبوب أو الانعطاف نحو الشخص المحبوب أو نحو ذلك. كذلك مثلاً قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، فارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) ، رحمة المخلوق معناها عطفه وحنوّه على الضعيف ورقته عليه حتى ينقذه من شدة أو يفرج عنه هماً أو ينصره من مظلمة أو يؤويه أو نحو ذل الجزء: 79 ¦ الصفحة: 4 شرح العقيدة الطحاوية [80] يثبت أهل السنة الصفات الفعلية لله، وينكر ذلك الجهمية والأشاعرة والكلابية، معتمدين على أصل فاسد، وهو أن الله ليس محلاً للحوادث، ولكن الكتاب والسنة على خلاف ما هم عليه، ولا عبرة باللوازم الباطلة. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 1 إنكار طوائف أهل البدع لأسماء الله وصفاته معلوم أن أشد البدع وأكثرها فشواً وانتشاراً بدعة التعطيل التي هي تعطيل الله عن صفات الكمال؛ وذلك لأن الذين روجوها وأدخلوها كأنهم اكتسبوا الناس بالعقول، وأقنعوا من اتصلوا به أو من دعوه إلى أن أدلتهم العقلية، وأن العقل هو الأصل في النقل، وأنهم ما عرفوا صدق الرسل إلا بالعقل، فلا يمكن أن يصدقوا الرسل فيما يخالف العقل أو فيما لا يقره العقل. ومعلوم أن المعطلة يقال لهم الجهمية؛ لأن الجهم بن صفوان هو الذي نشر بدعة التعطيل التي أخذها عن الجعد بن درهم، والجعد هو الذي قتله خالد القسري في يوم عيد الأضحى وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بـ الجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل فقتله، وفي ذلك يقول ابن القيم في النونية: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد الـ قسري يوم ذبائح القربان إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان فكل صاحب سنة شكره على هذه الضحية، فهكذا أسس البدعة الجعد بن درهم ثم تبعه الجهم بن صفوان الذي قتله سلم بن أحوز، ثم انتشرت هذه البدعة، وصارت عقيدة لطائفة تسموا بالمعتزلة أنكروا صفات الله تعالى، بل أنكروا أسماءه وجعلوها أعلاماً لا تدل على صفات، فقالوا: إن الله عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، رحيم بلا رحمة، وهكذا وأنكروا أيضاً صفات الأفعال وصفات الذات، فأنكروا علو الله تعالى على خلقه، وأنكروا ما أثبته لنفسه من صفات، حيث أثبت لنفسه الوجه في قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك} [الرحمن:27] ، وأثبت لنفسه اليدين في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} [المائدة:64] ، وأثبت لنفسه العين في قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] ، فجاء المعطلة ونفوا ذلك كله. كذلك نفوا الصفات الفعلية، فنفوا أن الله تعالى يرحم أو يحب أو يغضب أو يرضى، ووافقهم على هذا النفي طائفة متأخرة تسموا بالأشاعرة، انتسبوا إلى أبي الحسن الأشعري، ولكن الأشعري تبرأ منهم ورجع عن طريقتهم، واعتقد معتقد الإمام أحمد ومن كان على طريقته من أهل السنة، لكن هؤلاء الذين تسموا بالأشاعرة اتخذوا طريقة عن الأشعري كان قد رجع عنها. ومن عقيدتهم أنهم لا يثبتون إلا سبع صفات، وأنهم ينكرون صفات الأفعال، فصفة الغضب يثبتها أهل السنة ويقولون: إن الله يغضب لا كغضب المخلوق، ويرضى لا كرضا المخلوق، ويحب لا كمحبة المخلوق، ويسخط ويكره، كما أخبر عن نفسه في عدد من الآيات، ويبغض من يشاء كما يحب من يشاء، ويرحم من يشاء. ولا شك أن هذه صفات كمال، ولو كانوا يتوهمون أنها مستحيلة فنحن نقول: نثبت أن الله تعالى يحب من يشاء، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِه} [الصف:4] ، ونثبت أن الله يرضى، كما قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه} [المائدة:119] ، ونثبت أنه يغضب، كما قال تعالى {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُم} [الفتح:6] ، ونثبت أن الله يكره، كما قال تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُم} [التوبة:46] ، وهكذا فهذه كلها تسمى صفات فعلية، ولكن ننزه الله أن تكون هذه الصفات كصفات المخلوقين، بل صفات المخلوق تناسبه وصفات الخالق تناسبه، ولا نفسرها تفسيراً أكثر من إثباتها وأنها حقيقة، فالذين نفوها قالوا: إنها لا يتصف بها إلا المخلوق، وإنه يلزم من إثباتها تشبيه الله بالمخلوق، وإن الغضب هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، وأن المحبة هي ميل النفس إلى المحبوب، وأن الرحمة رقة تكون في الراحم، وأن هذا لا يليق أن يكون في الخالق، وما أشبه ذلك، ولكن عمدتهم أن العقل يستبعدها، أي أنه لا يمكن أن يتصف بها الخالق عقلاً، فقدموا العقل على النقل، واعتمدوه دليلاً. فيقال لهم: ما دمتم قد اعترفتم بأن الرسل صادقون، وبأن عقولكم دلت على صدق الرسل، فعليكم أن تتقبلوا كل ما جاء عنهم، وألا تردوا شيئاً دون شيء؛ لأنكم إذا رددتم بعضاً دون بعض فقد صدقتم بشيء وكذبتم بشيء فيصدق فيكم قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:85] ، ويتحقق فيكم الوعيد الذي توعد الله به اليهود. وبذلك نعرف أننا إذا آمنا بجميع ما جاء في كتاب الله وفي شريعة رسوله فيما يتعلق بالأسماء والصفات، وفيما يتعلق بالبعث والنشور، وفيما يتعلق بالعبادات والمعاملات، وفيما يتعلق بالأحوال الشخصية، وفيما يتعلق بسائر الأحكام، آمنا بالله وبما جاء عن الله وعلى مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله، وآمنا بالكتاب كله، ووكلنا ما لا نعرف تأويله إلى عالمه وتوقفنا عن التأويلات التي يتأولها أولئك المحرفون للكلم عن مواضعه، فصرنا بذلك مؤمنين بكتاب الله، متبعين لرسول الله، مصدقين لما جاء به، وهذا هو الإيمان الذي أمر الله به وأمر به رسوله، وهذا هو معتقد أهل السنة. فإن شاء الله أن أهل السنة الذين يعتقدون هذا سيحشرون مع سلف الأمة وأئمتها. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 2 إنكار الجهمية لأسماء الله وصفاته قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد نفى الجهم وكل من وافقه كل ما وصف الله به نفسه، من كلامه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه وأسفه ونحو ذلك، وقالوا: إنما هي أمور مخلوقة منفصلة عنه، ليس هو في نفسه متصفاً بشيء من ذلك. وعارض هؤلاء من الصفاتية ابن كلاب ومن وافقه، فقالوا: لا يوصف الله بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلاً، بل جميع هذه الأمور صفات لازمة لذاته قديمة أزلية، فلا يرضى في وقت دون وقت، ولا يغضب في وقت دون وقت، كما قال في حديث الشفاعة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) . وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك! فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب! وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) فيستدل به على أنه يحل رضوانه في وقت دون وقت، وأنه قد يحل رضوانه ثم يسخط، كما يحل السخط ثم يرضى، لكن هؤلاء أحل عليهم رضواناً لا يتعقبه سخط. وهم قالوا: لا يتكلم إذا شاء، ولا يضحك إذا شاء، ولا يغضب إذا شاء، ولا يرضى إذا شاء، بل إما أن يجعلوا الرضا والغضب والحب والبغض هو الإرادة، أو يجعلوها صفات أخرى، وعلى التقديرين فلا يتعلق شيء من ذلك لا بمشيئته ولا بقدرته، إذ لو تعلق بذلك لكان محلاً للحوادث، فنفى هؤلاء الصفات الفعلية والذاتية لهذا الأصل، كما نفى أولئك الصفات مطلقاً بقولهم: ليس محلاً للأعراض. وقد يقال: بل هي أفعال، ولا تسمى حوادث، كما سميت تلك صفات ولم تسمّ أعراضاً، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى، ولكن الشيخ رحمه الله لم يجمع الكلا م في الصفات في المختصر في مكان واحد، وكذلك الكلام في القدر ونحو ذلك، ولم يعتن فيه بترتيب. وأحسن ما يرتب عليه كتاب أصول الدين، ترتيب جواب النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام حين سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) الحديث، فيبدأ بالكلام على التوحيد والصفات، وما يتعلق بذلك، ثم بالكلام على الملائكة، ثم وثم إلى آخره] . يتعلق هذا الكلام بالرد على الذين يثبتون بعض الصفات دون بعض، أو ينفون الصفات كلها، وعرفنا أن الجهمية ينفون الصفات بل ينفون الأسماء، وعلة النفي عندهم أنه ليس محلاً للحوادث، ويقولون: إننا ننزه الله عن الأعراض وعن الأبعاض، وما أشبه ذلك. ولا شك أن هذا قول بعيد عن الصواب، وذلك لأنا لا نقول بالأعراض، بل نقول: إن الرب سبحانه وتعالى بصفاته واحد فلا أعراض هناك ولا أبعاض ولا حوادث ولا غير ذلك. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 3 إنكار الأشاعرة لصفات الله الفعلية أما الأشاعرة ومثلهم الكلابية فيسمون الصفاتية، والذي سماهم بهذا الاسم المعتزلة، فالمعتزلة والجهمية ينكرون الصفات كلها، فلما أن الأشاعرة والكلابية أثبتوا سبع صفات وهي: العلم والإرادة والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام، سمتهم المعتزلة الصفاتية. والصفاتية منهم الكلابية أتباع محمد بن سعيد بن كلاب، وكذلك الأشاعرة أتباع أبي الحسن الأشعري، وهؤلاء أنكروا الصفات الفعلية، فأنكروا قول الله تعالى {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم} [المائدة:119] ، {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم} [الفتح:6] ، {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف:55] ، وقوله {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُم} [غافر:10] فأنكروا المقت والأسف والحب والبغض والغضب والرضا والكراهية والسخط والرحمة وما أشبهها، وكان سبب إنكارهم لها -على زعمهم- لأنها حوادث، والله لا تحل به الحوادث، ويعللون بهذا التعليل في كتبهم قديماً وحديثاً. وكان من آخر علمائهم عالم مصري يقال له: زاهد الكوثري، الذي مات في أواسط القرن الماضي، فهو في تعليقاته على كثير من الكتب، وفي تحقيقاته لها ينكر هذه الصفات، ويرد على من أثبتها بأنهم جعلوا الله محلاً للحوادث، بمعنى أنه حدث عليه الرضا بعد أن لم يكن راضياً، وحدث عليه المحبة بعد أن لم يكن محباً، وحدث عليه السخط بعد أن لم يكن ساخطاً، وحدث عليه المقت بعد أن لم يكن ماقتاً، والكراهية بعد أن لم يكن كارهاً، وهكذا، هذا معنى قولهم: إنه محل للحوادث. ونحن نقول: ليس كذلك، بل الله تعالى يحب إذا شاء ويبغض إذا شاء وله المشيئة التامة، كما قال تعالى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه} [الإنسان:30] ، فجعل له المشيئة والإرادة متى شاء، وكذلك أيضاً أخبر بأنه يكره متى شاء ويغضب متى شاء ويرضى إذا شاء، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يغضب في وقت دون وقت، وذلك في حديث الشفاعة الذي يأتي فيه أهل الموقف إلى الأنبياء طلباً للشفاعة فيقولون: (يا آدم! اشفع لنا إلى ربك، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباًلم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) وهكذا يقول نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، فأثبتوا أن الله تعالى غضب في ذلك اليوم غضباً شديداً، أي: على أولئك الذين وافوه بالكفر والشرك، ووافوه بالمعاصي والمخالفات، فلابد أن ينتقم منهم وأن يعذبهم وأن ينزلهم دار عذابه التي يستحقونها، فما ورد في هذا الحديث دل على مخالفة قول ابن كلاب ومن معه من أن الغضب لا يكون في وقت دون وقت. فهؤلاء الصفاتية يقولون: هذه الصفات لا تتغير، فإن كان موصوفاً بالغضب فالغضب صفة له دائمة، وإن كان موصوفاً بالرضا فالرضا صفة له دائمة، وعلى هذا يكون موصوفاً بأنه غاضب وبأنه راض دائماً في آن واحد، وبأنه محب ومبغض في آن واحد، وكاره وراض في آن واحد، فيجمعون بين النقيضين، ويجعلونها صفات ملازمة له، فخالفوا بقولهم الأدلة، والتي فيها ما جاء في قول الله لأهل الجنة: (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) ، فدل على أنه رضي عنهم رضاً مستمراً، وأن هذا الرضا هو الذي أحله بهم في دار الكرامة، وهو أكبر نعيم لهم، قال الله تعالى في سورة التوبة {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] أي: أكبر نعيم لهم هو هذا الرضا عنهم، فهذا دليل على أن الله يرضى إذا شاء ويغضب إذا شاء، وكذلك نقول في بقية الصفات. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 4 شرح العقيدة الطحاوية [81] من عقائد أهل السنة محبة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وقد مدحهم الله في كتابه، ومدحهم رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته، فمحبتهم إيمان، وبغضهم نفاق. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 1 عقيدة أهل السنة في الصحابة قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرؤ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان) . يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الروافض والنواصب، وقد أثنى الله تعالى على الصحابة هو ورسوله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، ووعدهم الحسنى كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100] . وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح:29] إلى آخر السورة، وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} [الأنفال:72] إلى آخر السورة، وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد:10] ، وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:8-10] وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار، وعلى الذين جاءوا من بعدهم يستغفرون لهم ويسألون الله ألا يجعل في قلوبهم غلاً لهم، وتتضمن أن هؤلاء هم المستحقون للفيء، فمن كان في قلبه غل للذين آمنوا ولم يستغفر لهم لا يستحق في الفيء نصيباً بنص القرآن. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) انفرد مسلم بذكر سب خالد لـ عبد الرحمن دون البخاري، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ خالد ونحوه: (لا تسبوا أصحابي) يعني: عبد الرحمن وأمثاله؛ لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون، وهم الذين أسلموا من قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهل بيعة الرضوان، وهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، ومنهم خالد بن الوليد، وهؤلاء أسبق ممن تأخر إسلامهم إلى فتح مكة، وسموا الطلقاء، منهم أبو سفيان وابناه يزيد ومعاوية] . هذا ابتداء الكلام في فضل الصحابة رضي الله عنهم، وسبب الكلام في الصحابة أنه وجد طوائف يطعنون في الصحابة ويضللونهم ويبدعونهم ويرمونهم بالنفاق ويرمونهم بالردة، ويتبرءون منهم بل ويشتمونهم ويلعنونهم قديماً وحديثاً، وهؤلاء الطوائف فرقتان: الروافض والنواصب؛ فالروافض: هم الذين يغلون في علي وذريته من أهل البيت فقط، ويزيدون في حبهم، وأما بقية الصحابة أو أكثرهم فإنهم يكفرونهم، أما النواصب: فهم الذين يضللون علياً وذريته أو من كان قريباً منهم، ويميلون إلى بني أمية أو إلى من والاهم، وسموا نواصب؛ لأنهم نصبوا العداوة لأهل البيت، ولكن الرافضة هم الذين كثروا وظهر تمكنهم فيما هم فيه، فأصبحوا ينتشرون في الأرض وتقوى شوكتهم. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 2 ثناء الله على الصحابة حب الصحابة رضي الله عنهم جميعاً من الإيمان، ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق) ومعلوم أن المهاجرين أقدم من الأنصار، وأفضل منهم، والله تعالى يقدم ذكرهم على الأنصار في القرآن، ومع ذلك فالأنصار لهم ميزتهم ولهم فضلهم، ولهم مكانتهم في السبق والفضل، كذلك أيضاً قد أثنى الله تعالى على جميع الصحابة كقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَه} [الفتح:29] فلم يخص الله بعضهم، بل قال: (والذين معه) أي: كل الذين يجاهدون معه، والذين يجالسونه، والذين يصلون معه، كلهم مدحهم الله بقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] هذا وصف لهم، وينبغي أن يكون هذا الوصف في أتباعهم، وهو أن تكون أيها المسلم! شديداً على الكفار رحيماً بالمؤمنين (أشداء على الكفار) يعني: تبغضهم وتمقتهم وتحقر شأنهم وتغلظ لهم القول، وتتبرأ من طريقتهم، وتجاهدهم بما تستطيع من أنواع الجهاد، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} [التوبة:73] فوصف الله الصحابة بأنهم أشداء على الكفار، وكأنه يمدح الذين كانوا على هذه الطريقة في الشدة على الكفار، ومدحهم بأنهم رحماء بينهم، أي: يرحم بعضهم بعضاً، وما أجله من وصف أن يكون المؤمن رحيماً بإخوانه مشفقاً عليهم، محباً لهم؛ لأنهم مسلمون وهو مسلم. ووصف الله الصحابة بقوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29] سيماهم التي هي علامة على وجوههم من كثرة سجودهم، (ركعاً سجداً) دائماً يشتغلون بالركوع والسجود، وهذا دليل على أن من أخل بهذا الوصف وترك الركوع والسجود والصلاة فإنه مخالف لطريقة الصحابة، ومخالف لطريقة الأمة. ووصفهم الله بأنهم (يبتغون فضلاً من الله ورضواناً) أي: يطلبون فضله ورضوانه. ووصفهم في آخر الآية بقوله: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّار} [الفتح:29] ، نقول لمن أبغضهم: إنهم قد أغاظوك، فأنت داخل في هذه الآية، فكل من أبغضهم قد صار في قلبه غيظ عليهم، وحقد وشنئان وبغضاء شنيعة لهم، لذلك نصفه بأنه داخل في هذه الآية، فمن أغاظه الصحابة فهو كافر، الله تعالى يقول: (ليغيظ بهم الكفار) فالمبغض لهم الذي أغاضه ما من الله به عليهم، من هؤلاء الكفار. وقد مدح الله تعالى الصحابة بالسبق في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ} [التوبة:100] والسابقون يعني: المتقدمون من المهاجرين الذين أسلموا بمكة قبل الهجرة بعشر سنين وبثلاث عشرة سنة، ومن الأنصار الذين أسلموا قبل الهجرة بسنة أو سنتين أو أسلموا بعد الهجرة، ومن الذين اتبعوهم بإحسان يعني: ساروا على نهجهم واتبعوهم إلى يوم القيامة، مدح الله الجميع بقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه} [التوبة:100] ، وهذا فضل كبير أن رضي الله عنهم ورضوا عنه، {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَار} [التوبة:100] وما أعظمها من كرامة. كذلك أيضاً مدحهم بالآيات التي في آخر سورة الأنفال فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّه} [الأنفال:72] آمنوا إيماناً ثابتاً راسخاً في قلوبهم، وهاجروا من بلادهم التي هي بلاد كفر إلى بلاد الإسلام، وجاهدوا بالأموال، وجاهدوا بالأنفس، بذلوا كل ما يملكونه من الأموال، وبذلوا أنفسهم في سبيل الله، هؤلاء هم المهاجرون، {وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا} [الأنفال:72] أي: الأنصار الذين آووا إخوانهم ونصروهم {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} [الأنفال:72] ، ثم قال بعد ذلك: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:74] مدحهم بأنهم المؤمنون حقاً، ثم قال بعد ذلك: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا} [الأنفال:75] أي: المتأخرون الذين آمنوا في آخر الأمر وهاجروا وجاهدوا {فَأُوْلَئِكَ مِنْكُم} [الأنفال:75] وما أعظمها من مزايا لهؤلاء الصحابة، ولكن الرافضة قوم لا يعقلون قوم لا خلاق لهم. وقال الله تعالى في سورة الحديد: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَل} [الحديد:10] يعني: السابقون الذين أنفقوا وقاتلوا -سواءً من المهاجرين أو الأنصار- قبل الفتح، يعني: قبل صلح الحديبية الذي فتح الله به على المؤمنين {أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْد وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] يعني: بعد الفتح، ولكن يقول الله تعالى {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] وعد الله المتقدم منهم والمتأخر بالحسنى، وهو الثواب الكبير والثواب العظيم. وكذلك لما ذكر الله تقسيم الفيء في سورة الحشر، ذكر أن أول من يستحقه هؤلاء الفقراء من المهاجرين الذين هاجروا بأنفسهم وتركوا ديارهم، وتركوا أموالهم وعشائرهم وأهليهم ونجوا بأنفسهم {الَّذِينَ أُخْرِجُوا} [الحشر:8] لما ضيق عليهم هربوا، {أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر:8] لماذا؟ {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] ثم قال في الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِم} [الحشر:9] أي: هؤلاء الأنصار يحبون المهاجرين؛ لأنهم إخوانهم {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9] لو أعطي المهاجرون ما أعطوا من الفيء ومن الغنائم ما غضب أولئك الأنصار، بل يوافقون على ذلك {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر:9] أي: يقدم الأنصار إخوانهم من المهاجرين على أنفسهم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] أي: جوع {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] ، ثم قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِم} [الحشر:10] سواءً كانوا آخر الصحابة الذين أسلموا بعد الفتح، أو الذين جاءوا بعدهم إلى يوم القيامة، هؤلاء منهم بشرط أن يدعو لهم، وأن يقولوا: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) ، ومن كان في قلبه غل وحقد وبغض وشنئان وغضب عليهم، فإنه بريء منهم، ولأجل ذلك استنبط العلماء أن الذين في قلوبهم غل على الصحابة وحقد عليهم ولا يدعون لهم بقولهم: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) ؛ فليسوا من أهل الفيء ولا يستحقون أن يعطوا من بيت المال؛ وذلك لحقدهم على المسلمين وبالأخص الصحابة رضي الله عنهم. وقد اشتهر أن هؤلاء الرافضة يبغضون الصحابة ويدعون عليهم ويشتمونهم، ولكن ذلك لا يضر الصحابة بل فيه خير لهم؛ لأنهم قد ختم على أعمالهم وانتهت أعمارهم، وحصلوا على ما حصلوا عليه من الثواب، وتستمر لهم الحسنات من هؤلاء الذين يسبونهم، روي عن بعض السلف أنه قال: ما أرى الناس ابتلوا بسب الصحابة إلا ليجري عليهم عملهم، أي: ليكون عمل الصحابة مستمراً غير منقطع، فيأخذون من حسنات هؤلاء الذين يسبونهم، وكأنهم لما حقدوا عليهم ورأوا أنهم ضلال وكفار عاد الضلال والكفر على هؤلاء والعياذ بالله، ودخلوا في قوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] . الجزء: 81 ¦ الصفحة: 3 تفاضل الصحابة رضوان الله عليهم الفضل يعم المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولكن بلا شك أن الصحابة رضي الله عنهم يتفاوتون كما في قول الله تعالى في سورة الحديد: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} [الحديد:10] يعني: صلح الحديبية {وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] فنحن نفضل السابقين الذين أدركوا بيعة الرضوان التي رضي الله بها عنهم، وأنزل فيهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} [الفتح:10] وذلك في صلح الحديبية تحت شجرة، حيث قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (بايعوني) ، وكانوا نحو ألف وأربعمائة وزيادة، وكلهم بايعوه على أن يقاتلوا ولا يفروا حتى ولو ماتوا، وجاء عن بعضهم قوله: إننا بايعناه على الموت، وقيل: بايعوه على ألا يفروا، وكلها متلازمة، يعني: أنا لا نفر، بل نقاتل إلى أن ينصرنا الله أو نقتل دونك، هكذا بايعوه، وصدقوا في ذلك، قال الله تعالى في وصفه لهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23] صدقوا في النصرة، ووفوا بهذه البيعة، وحصل أن الله رضي عنهم، يقول تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] ، ولا شك أن من رضي الله عنهم فإنهم يثبتون على هذا الرضا، ولا يمكن أن يسخط الله عليهم وقد علم أنهم أهل للرضا، إذ كيف يرضى عنهم وهو يعلم أنهم سيرتدون أو سيكفرون فيما بعد؟ فالله لم يستثن أحداً من أهل البيعة، ولهذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) أي: كلهم من أهل الجنة، وسمعنا أنه صلى الله عليه وسلم قال للمتأخرين من الصحابة كالذين أسلموا بعد صلح الحديبية أو في سنة ثمان وما بعدها: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) المد: ربع الصاع، والنصيف: نصف المد، أي: لو أن أحدكم أنفق نفقة من الذهب مثل هذا الجبل الذي يضرب به المثل في عظمه وضخامته ما بلغ مد أحدهم، سواءً من طعام أو نحوه، فكيف بمن أنفقوا أكثر أموالهم أو كلها في سبيل الله رضي الله عنهم وأرضاهم. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 4 تزكية الله عز وجل لسائر الصحابة زكى الله تعالى الصحابة بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] كل الذين معه، يعني: على الإسلام {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} [الفتح:29] إلى آخر الآيات. وزكاهم بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] . وزكاهم بقوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة} [التوبة:117] . وزكاهم بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:18] . فعلم الله أن قلوبهم مؤمنة الإيمان الصادق. وزكاهم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] والآيات كثيرة كما تقدم، وإذا كان الله تعالى هو الذي زكاهم فلابد أن هذه التزكية لها أثرها، بمعنى: أنهم عدول، وأنه لا يطعن فيهم طاعن، فمن طعن فيهم فقد كذب خبر الله، ولا شك أن من كذب خبر الله تعالى وكذب ما جاء من عند الله يعتبر كافراً، حيث إنه خالف كلام الله، وطعن فيما أخبر الله به، فالله تعالى يعلم ما كان وما يكون، ويعلم بإيمانهم ويطلع على ما في قلوبهم، ولهذا قال: ((فعلم ما في قلوبهم)) علم الله أن قلوبهم مطمئنة بالإيمان، فإذاً: الذين طعنوا فيهم يطعنون في الله تعالى وأنه لم يعلم أنهم سوف يرتدون، وهذا هو معتقد الرافضة، فهم يقولون: إن هذه الفضائل التي ذكروا بها كانت قبل أن يرتدوا، وبطل مفعولها بعد أن ارتدوا، فهم بذلك يكفرون أجلاء الصحابة، وعليه فهم يطعنون فيما أخبر الله به، ولازم قولهم أن الله لم يعلم ما في قلوبهم. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 5 الصحابة خير الناس بعد الأنبياء لم يزل المسلمون يعترفون بهدي الصحابة ويروون فضائلهم ويعرفون أن الله تعالى هو الذي زكاهم، وهو الذي طهرهم، وهو الذي اختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أنهم خيرة الأمة وصفوتها، وهذه الأمة خير الأمم وأزكاها عند الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) الآخرون وجوداً، والسابقون يوم القيامة، فأخبر بأن هذه الأمة تسبق غيرها من الأمم، أي: الأمم السابقة، ولا شك أن خير هذه الأمة هم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنتم خير من أبنائكم, وأبناؤكم خير من أبنائهم) وقال صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) (خير الناس) أي: خير جميع الناس من الأولين والآخرين؛ القرن الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: من المؤمنين، وهذه بلا شك تزكية من النبي صلى الله عليه وسلم. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) ، ولما قال لأصحابه: (إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، قالوا: الله أكبر! فقال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة) . وقد زكاهم الله بقوله: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13-14] يراد بالأولين -على الصحيح- الأولون من هذه الأمة، أي: الصحابة، فذكر أن الأكثر من السابقين الأولين هم من القرن الأول الذين هم الصحابة، وكذلك من تبعهم وسار على نهجهم. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 6 عقيدة الرافضة في الصحابة ولازم قولهم فيهم لم تزل عقيدة المسلمين أن الله سبحانه وتعالى فضل هؤلاء الصحابة، وذكر ميزتهم وذكر فضلهم، فقبلوا خبر الله تعالى، وقبلوا ما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم، واعتقدوا ميزة هؤلاء الصحابة، وفضلوهم؛ لأنهم الذين حملوا هذه الشريعة الإسلامية إلينا، فهم الذين بلغوا القرآن كلام الله، وهم الذين حفظوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وبلغوها لمن بعدهم، وعملوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) ، وعملوا بقوله: (بلغوا عني ولو آية) فإذا كانوا -كما تقول الرافضة- كفاراً مرتدين فكيف يقبل خبرهم؟ وكيف يقبل تبليغهم؟ ومعنى كلام الرافضة أن دين الله مغير، وأن كلام الله مبدل، وأن شريعة الله غير محفوظة، وأن الله ما صدق في كلامه بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ولم يحفظ دينه وكتابه، بل وكله إلى كفرة فجرة -في زعم أولئك الرافضة- غيروا فيه وكتموا وكذبوا، وزادوا ونقصوا وحرفوا، وقالوا ما يشتهونه، وولوا من يريدونه، وعزلوا من يبغضونه، هذا مقتضى قول هؤلاء الرافضة. إذاً: فينبني على قول الرافضة أن الله ما حفظ شريعته، وأن هذه الشريعة ليست هي الإسلام؛ لأن طعنهم في الصحابة ليس طعناً في ذواتهم خاصة بل هو طعن في الشريعة، وطعن في الإسلام، وطعن في الدين، وطعن في القرآن، وطعن في السنة، وطعن في الأحاديث النبوية، وطعن في الأحكام، وطعن في الأوامر والنواهي، وطعن في الوعد والوعيد، وطعن في الخبر والأمر، وطعن في كل ما جاء في هذه الشريعة، هذا لازم طعن هؤلاء الرافضة، لكن الله تعالى قيض هؤلاء الصحابة حتى حفظوا الشريعة وبلغوها، وقيض لهم تلامذة يتقبلون منهم، ويأخذون عنهم السنة، وقيض للتلامذة آخرين من تلامذتهم إلى أن حفظت الشريعة الإسلامية في الأقوال والأفعال، وصدق الله في حفظ شريعته من الضياع لتقوم الحجة على الآخرين كما قامت على الأولين، فإن الله تعالى له الحجة {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149] وليست الحجة لأحد من خلقه، فإذا كنت الحجة لله سبحانه؛ فإن كلامه لم يتغير، فيكون حجة علينا وحجة على آبائنا وعلى أبنائنا، وعلى الخلق كلهم إلى أن تقوم الساعة، {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:19] ، ولئلا يقول الناس: {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:47] . فإذاً: قد جاءهم الرسول، وقد بلغ الرسول الشريعة، وقد حفظت شريعته التي بلغها، وقد قيض الله له صحابة أتقياء أنقياء ليس فيهم طعن، اعترفت الأمة بفضلهم، ورأوا فضائلهم التي في القرآن والتي في السنة، وأقروها في شروحهم وفي كتبهم ومؤلفاتهم، فتجدون مؤلفات أهل السنة مليئة بذكر فضائلهم، فقد ألف الإمام أحمد كتاباً مطبوعاً في مجلدين سماه: فضائل الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك في صحيح البخاري كتاب الفضائل، ذكر فيه فضائل الصحابة بدءاً بالخلفاء الراشدين، وهكذا صنع مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح، فجعل كتاباً في فضائل الصحابة روى فيه فضائلهم بدءاً بالخلفاء الأربعة على ترتيبهم في الخلافة، وهكذا أكثر المؤلفين ذكروا فضائلهم، ورووها بالأسانيد الصحيحة الثابتة التي لا مطعن فيها؛ اعترافاً منهم بأن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم هم أزكى هذه الأمة، وهم الذين حازوا هذه الفضائل، وهم الذين أجمعت الأمة على فضلهم، وأجمعت على تقديمهم، ومع تفاوتهم في الفضل، فأفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، وهكذا بقية الصحابة، ولم تزل الأمة تترضى عنهم كما رضي الله عنهم، والله تعالى ذكر الرضا عنهم في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِين} [الفتح:18] ، وإذا رضي الله عنهم، فمتى علمتم -يا رافضة! - أنه سخط عليهم بعد الرضا؟ وكيف يسخط عليهم وقد رضي عنهم؟! يقول الله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَار} [التوبة:100] أعدها لهم، وكذلك لمن اتبعهم بإحسان {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِين} ، {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:117] ، فإذا تاب عليهم فكيف يعذبهم؟ فعلى المسلم أن يعرف فضلهم, وأن يعترف بفضائلهم، وأن يصدق ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يترضى عنهم ويحبهم، وينشر بين المسلمين فضائلهم، وأن يحذر من الرافضة الذين يطعنون فيهم ويكفرونهم، وينزلون عليهم الآيات التي جاءت في المنافقين، ويجعلونهم منافقين أو مرتدين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك تعرف طريقة أهل السنة وطريقة الرافضة الذين سموا أنفسهم شيعة، ولعله يأتينا كلام أوسع من هذا على هؤلاء الصحابة في الشرح إن شاء الله. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 7 لا يعدل فضل الصحبة شيء قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [والمقصود أنه نهى من له صحبة آخراً أن يسب من له صحبة أولاً؛ لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لا يمكن أن يشركوهم فيه، حتى لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية، وإن كان قبل فتح مكة فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؟ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وقيل: إن السابقين الأولين من صلى إلى القبلتين، وهذا ضعيف؛ فإن الصلاة إلى القبلة منسوخة ليس بمجرده فضيلة؛ لأن النسخ ليس من فعلهم، ولم يدل على التفضيل به دليل شرعي كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة التي كانت تحت الشجرة. وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فهو حديث ضعيف، قال البزار: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هو في كتب الحديث المعتمدة. وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (قيل لـ عائشة رضي الله عنها: إن ناساً يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر! قالت: وما تعجبون من هذا، انقطع عنهم العمل فأحب الله ألا يقطع عنهم الأجر) . وروى ابن بطة بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة -يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم- خير من عمل أحدكم أربعين سنة) وفي رواية وكيع: (خير من عبادة أحدكم عمره) . وفي الصحيحين من حديث عمران بن الحصين وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة) ، الحديث. وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) . وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117] ، ولقد صدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في وصفه حيث قال: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد؛ فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيء) وفي رواية: (وقد رأى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر) وتقدم قول ابن مسعود: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات) إلى آخره عند قول الشارح: ونتبع السنة والجماعة. فمن أضل ممن يكون في قلبه غل على خيار المسلمين، وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين، بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة، قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل للنصارى: من خير أصحاب ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يستثنوا منهم إلا القليل، وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة. وقوله: (ولا نفرط في حب أحد منهم) أي: لا نتجاوز الحد في حب أحد منهم كما تفعل الشيعة، فنكون من المعتدين، قال تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُم} [النساء:171]] . الجزء: 81 ¦ الصفحة: 8 لا يكون أحد بعد الصحابة أفضل منهم فضائل الصحابة رضي الله عنهم أكثر مما سمعنا، ولو لم يكن إلا هذا الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ، وكذلك هذا الأثر عن بعض الصحابة: (لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة خير من عبادة أحدكم عمره -وفي رواية- خير من عبادة أحدكم أربعين سنة) وما ذاك إلا لأنهم آمنوا في وقت أزمة وشدة، وفي وقت كفر وضلال، وفي وقت شرك وعبادة أوثان، فآمنوا واهتدوا، واعتنقوا الإسلام، وفارقوا الأهل والبلد والمال، وأخلصوا دينهم لله، ووقرت محبة الله ومحبة رسوله في قلوبهم، وثبت الإيمان ورسخ في قلوبهم حتى كان أرسى من الجبال، ثم ظهرت عليهم آثار ذلك ففدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بآبائهم وأمهاتهم، وبأنفسهم وبأموالهم، وأنفقوا كل ما يملكونه طاعة لله وطاعة لرسوله، واجتهدوا في العمل الصالح الذي يحبه الله ويرضاه، فتفوقوا على من جاء بعدهم بأضعاف مضاعفة، من الذين ولدوا في الإسلام، والذين نشئوا فيه ولو كانوا أكثر منهم عملاً، ولو كانوا أطول منهم أعماراً، ولو كانوا أكثر منهم جهاداً، أو أكثر منهم نفقات، لكن النفقة من أولئك مضاعفة أضعافاً كثيرة كما في هذه الآثار، فهذا من جهة. ومن جهة ثانية: ما جاء في قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه} [المائدة:119] ، لا شك أنه مدح لهم وإخبار بأن الله قد رضي عنهم، وفي قوله: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [التوبة:100] إخبار بأنهم من أهل الجنة، وخبر الله تعالى صادق: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] ، وفي قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة} [التوبة:117] يعني: غزوة تبوك، وكانوا حينها أربعين ألفاً أو نحو ذلك، فذكر الله تعالى أنه تاب عليهم كلهم، فلم يستثن منهم أحداً، وكذلك ما أخبر الله عز وجل من أنه رضي عن طائفة منهم وهم أهل بيعة الرضوان في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] ، وأخبر بأن بيعتهم كأنها بيعة مع الله، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} [الفتح:10] ، وحاشاهم أن ينكثوا بيعة الله، وحاشاهم أن يكذبوا في مبايعتهم، سواءً كانت مبايعتهم على الموت أو مبايعتهم على ألا يفروا، روي أنه لما نزل أول سورة الفتح وفيها قول الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:2] قالوا: (هنيئاً لك يا رسول الله! فما لنا؟ فقرأ عليهم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:4] إلى قوله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الفتح:5] إلى قوله: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26] ) كل هذا اختص بأولئك الصحابة، ولكن الرافضة طمس الله تعالى على قلوبهم، وأعمى بصائرهم؛ فصدوا عن هذه الآيات، ولم يتفكروا فيها، وأخذوا ينقبون الآيات التي وردت في المنافقين، ويطبقونها على الصحابة {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] . ونقول لهم: متى سخط الله عليهم بعد الرضا؟! ومتى لم يتب عليهم بعد أن تاب عليهم؟! لا شك أن الله تعالى لا يخلف وعده، وأنه قد صدقهم ما وعدهم، لما صدقوا الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23] هذه صفات الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء في كلام ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إن الله تعالى نظر في قلوب العباد فاختار قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ونظر في قلوب الأمم فوجد قلوب أصحابه أبر وأزكى وأطهر فاختارهم لصحبته) اختارهم الله لصحبة هذا النبي، فدل هذا على أن الصحابة رضي الله عنهم هم خلاصة الأمة وهم صفوتها. وتقدم قول ابن مسعود رضي الله عنه: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أبر هذه الأمة قلوبا، ً وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه ولحمل دينه؛ فاعرفوا لهم حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) شهادة منه رضي الله عنه بأنهم كانوا على الهدى، وأن من خالفهم وخرج عن طريقتهم فليس على الهدى، بل هو على الضلال. فالأدلة الواضحة من الكتاب والسنة الشاهدة بأن الله رضي عنهم أكثر من أن تحصر، ولكن كما قالت عائشة رضي الله عنها في الأثر الذي تقدم: (لما انقطع عملهم بموتهم، أجرى الله لهم حسنات غيرهم) ، فهؤلاء الذين يسبونهم ويحقدون عليهم، إنما يهدون إليهم حسناتهم وأجور أعمالهم، فهم يعملون ويتصدقون ويصلون ويقرءون ويركعون، ولكن يذهب ثواب أعمالهم إلى أولئك الصحابة الذين سبهم هؤلاء. وروي ذلك أيضاً عن الإمام أحمد أنه قال: (ما أرى الناس ابتلوا بسب الصحابة إلا ليجري الله لهم عملهم) ؛ لأن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، ولكن إذا كان هناك من يسبه فإنه يأخذ من حسنات الذين يسبونه، وتضاف إلى حسناته كما ورد ذلك في الأحاديث، فيكون ذلك رفعة له، وزيادة في درجاته، وزيادة في أعماله. كذلك تقدم قول ابن مسعود: (فما رآه المسلمون حسناً -يعني: الصحابة- فهو عند الله حسن) وقد رأى المسلمون -يعني: الصحابة- أن أبا بكر رضي الله عنه أولى بالخلافة فاتفقوا عليه، وولوه أمر المسلمين، فذلك بلا شك اتفاق منهم على أهليته، وعلى أفضليته، وعلى أحقيته بالخلافة، ولهذا سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بلا شك أهل لهذه الخلافة، ولهذا قام بها أتم قيام، وصمد فيها وصبر، وعمل بما كان يعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقدم أيضاً ما ذكر عن اليهود والنصارى مما يبين أن اليهود خير من الرافضة، والنصارى خير من الرافضة؛ لأن اليهود يقولون: أفضل بني إسرائيل أصحاب موسى، والنصارى يقولون: أفضل أتباع عيسى أصحابه الذين هم معه، وهم الحواريون، أما الرافضة فهم يقولون: شر هذه الأمة أصحاب محمد، فتفوقوا على اليهود، يعني: صاروا بذلك أشر من اليهود؛ لأن اليهود فضلوا أصحاب موسى، والنصارى فضلوا أصحاب عيسى، والرافضة تفوقوا عليهم في الكفر وجعلوا أشر قرون هذه الأمة وأكفرها وأضلها وأدناها وأبعدها عن الحق هم أصحاب محمد، ولم يستثنوا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا أفراداً قليلين كـ علي وأولاده، وعمار وسلمان وخباب ونحوهم، وكذلك الذين هم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم القدامى كـ حمزة ونحوه، أما بقية الصحابة فإنهم عندهم ضلال وكفار! قاتلهم الله أنى يؤفكون، فلا يغتر بقولهم، وبذلك يعرف أفضلية هؤلاء الصحابة، وأما أهل السنة والحمد لله فلا يشكون في ذلك، ولكن من باب التأكيد والتقرير حتى يعرف كفر وضلال هؤلاء الرافضة. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 9 إيمان من أحب الصحابة وكفر ونفاق من أبغضهم قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ولا نتبرأ من أحد منهم كما فعلت الرافضة) فعندهم لا ولاء إلا ببراء، أي: لا يتولى أهل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأهل السنة يوالونهم كلهم، وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإقساط، لا بالهوى والتعصب، فإن ذلك كله من البغي الذي هو مجاوزة الحد، كما قال الله تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُم} [الجاثية:17] ، وهذا معنى قول من قال من السلف: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، يروى ذلك عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين، منهم: أبو سعيد الخدري والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وغيرهم، ومعنى الشهادة: أن يشهد على معين من المسلمين أنه من أهل النار أو أنه كافر، بدون العلم بما ختم الله له به. وقوله: (وحبهم دين وإيمان وإحسان) لأنه امتثال لأمر الله فيما تقدم من النصوص، وروى الترمذي عن عبد الله بن مغفل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الله الله في أصحابي! لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه) . وتسمية حب الصحابة إيماناً مشكل على الشيخ رحمه الله؛ لأن الحب عمل القلب، وليس هو التصديق، فيكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان، وقد تقدم في كلامه أن الإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، ولم يجعل العمل داخلاً في مسمى الإيمان، وهذا هو المعروف من مذهب أهل السنة، إلا أن تكون هذه التسمية مجازاً. وقوله: (وبغضهم كفر ونفاق وطغيان) تقدم الكلام في تكفير أهل البدع، وهذا الكلام نظير الكفر المذكور في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وقد تقدم الكلام في ذلك] . نقول: إن حبنا للصحابة رضي الله عنهم -كما سمعنا- إيمان، فحب الصحابة من الإيمان، وبغضهم من النفاق، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحب الأنصار إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق) ، وكذلك الحال في المهاجرين: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، والمهاجرون أقدم من الأنصار وأفضل، فبغضهم كفر ونفاق، وحبهم زيادة في الإيمان وقوة في الإيمان, وباعث على الأعمال الصالحة التي تنبعث من القلب. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 10 بعض الأسباب الباعثة على حب الصحابة من أسباب حب الصحابة: لسبقهم لمن بعدهم حيث إنهم سبقونا بالإيمان، فنقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] أي: طهر قلوبنا من أن يكون بها حقد وبغض لأولئك الصحابة الذين تقدمونا وكانوا مؤمنين. ونحبهم لأن لهم المنة علينا؛ وذلك لأنهم حفظوا الشريعة، وبينوها وبلغوها. ونحبهم لأنهم دعوا إلى الله وجاهدوا في سبيل الله، ونصروا الله ورسوله، وانتشر بواسطتهم الإسلام. ونحبهم لأنهم أهل الأعمال الصالحة، وأهل النفقات في سبيل الله. ونحبهم لأنهم أهل التصديق القوي وأهل الإيمان القوي. ولا شك أن هؤلاء هم أولى بالمحبة ممن سموا أنفسهم شيعة، وادعوا أنهم يوالون ويعادون ونحو ذلك. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 11 اعتقاد الرافضة أن تولي آل البيت لا يتم إلا بالبراءة من سائر الصحابة الرافضة يقولون: لا ولاء إلا ببراء، ومعنى ذلك: أن من تولى أهل البيت لزمه أن يتبرأ من غيرهم من الخلفاء الثلاثة وبقية الصحابة، ونحن نقول: صحيح أنه لا ولاء إلا ببراء، ولكن من الذي نتولاه؟ نتولى المؤمنين كلهم وهم الصحابة ومنهم أهل البيت، ومن الذين نتبرأ منهم؟ نتبرأ من المنافقين، ونتبرأ من الكافرين عموماً، ونتبرأ ممن أمرنا بالبراءة منه ولو كانوا أقارب، كما قال إبراهيم عليه السلام: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26] ، {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه} [الممتحنة:4] هؤلاء هم الذين نتبرأ منهم، فلا ولاء إلا ببراء، فيكون ولاؤنا للمؤمنين ومن جملتهم الصحابة، وبراؤنا من الكافرين ولو كانوا أقارب، ولاؤنا لأولياء الله الذين قال فيهم: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُو} [البقرة:257] وبراؤنا وتبرؤنا من أعداء الله ومن جملتهم أولياء الشيطان الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} [البقرة:257] . أما الرافضة فعندهم أن الولاء هو ولاء أهل البيت خاصة الذين هم علي وذريته وزوجته وأم زوجته التي هي خديجة ومن كان معهم من المقربين عنده أو نحوهم، وأما البراء فإنه البراء من غيرهم، كالبراء من أبي بكر وعمر، والبراء من جابر وأنس، والبراء من ابن عمر وابن عباس وسائر أجلاء الصحابة، والبراء من أبي هريرة وغيره من الصحابة، ولماذا البراء منهم؟! يقولون: نتبرأ منهم؛ لأنهم مرتدون وخارجون عن الإسلام! الجزء: 81 ¦ الصفحة: 12 وسطية أهل السنة في حب الصحابة أهل السنة يقولون: نحن نحب الصحابة، ولكن لا نغلو في حب أحد منهم؛ لا الخلفاء الثلاثة، ولا أهل البيت، فحبنا لهم حب متوسط ليس فيه غلو وليس فيه جفاء، الرافضة غلوا في أهل البيت حتى رفعوهم عن طورهم وأعطوهم شيئاً من حق الله، بل صاروا يعبدونهم من دون الله، ويدعونهم في الشدائد، ويدعونهم في الكربات، وينسون الله تعالى، وأما بقية الصحابة فجفوا في حقهم وضللوهم وبدعوهم وتبرءوا منهم، فقد جمعوا بين الغلو والجفاء، ولم يتوسطوا في واحد منهما توسط أهل السنة، فخير الأمور أوسطها، فلا غلو ولا جفاء، ورد في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: (تهلك فيك طائفتان) يعني: طائفة غلوا، وطائفة جفوا، فالطائفة الذين جفوا هم النواصب والخوارج؛ فإن الخوارج خرجوا على علي وكفروه وقالوا له: حكمت الرجال، وقالوا له: لا حكم إلا لله، وقاتلوه إلى أن قتله أحدهم، وهو عبد الرحمن بن ملجم، حيث زعم أنه مرتد بقبوله قول الحكمين، واشترطوا في توبته أن يعترف أنه كفر، ويعترف بأن عمله وجهاده كله باطل، وأن يعتبر نفسه يستقبل عملاً جديداً، فهؤلاء ماذا نسميهم؟ نسميهم جفاة، جفوا في حق أهل البيت، بل نسميهم هالكين؛ لأنهم هلكوا حيث كفروا من هو من أجلاء الصحابة، وضللوا علياً ومن كان في بيت علي ممن رضي الله عنه، وقد كثر مذهب أولئك الخوارج الذين يكفرون علياً، بل ويمدحون من قتله، كما روي أن عمران بن حطان كان من أهل السنة، وروى أحاديث عن عائشة وعن غيرها من الصحابة، ثم تزوج امرأة من النواصب - أي: من الخوارج- ورجا أن يؤثر عليها حتى ترجع وتكون من أهل السنة، ولكن أثرت عليه، ولقنته مذهب الخوارج، فأصبح من الخوارج إلا أنه ليس من المتعصبين، لكنه من قعدتهم الذين يقعدون ولا يخرجون، وهو الذي مدح ابن ملجم في أبيات مشهورة يقول فيها: يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا يعني: ابن ملجم الذي قتل علياً، فهؤلاء بلا شك طرف هالك حيث أبغضوا هذا الصحابي رضي الله عنه الذي هو من أجلاء الصحابة، أما الطرف الثاني فهم الشيعة، ومذهبهم معروف بالغلو في آل البيت. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 13 شرح العقيدة الطحاوية [82] الرافضة من أعظم وأخطر المبتدعة، وقد قويت شوكتهم في هذا الزمان، فعلى المسلم أن يعرف أول نشأتهم، وحقيقة مذهبهم، وبحمد الله قد بين أهل العلم فضائحهم وبطلان مذهبهم. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 1 فضائح الرافضة الجزء: 82 ¦ الصفحة: 2 ادعاء بعض طوائف الرافضة ألوهية علي رضي الله عنه مر بنا عقيدة أهل السنة في الصحابة رضي الله عنهم، وما خصهم الله تعالى به، وما ميزهم به من الفضائل التي مدحهم بها، وأثنى عليهم، وما تميزوا به من السبق إلى الإسلام وإلى الأعمال الصالحة، وما تميزوا به من فضل، وأنهم أفضل قرون هذه الأمة، وهذه الأمة أفضل الأمم، وذكرنا الأسباب التي تميزوا بها، ومع ذلك فقد انتصب لهم أعداء الله الرافضة، وناصبوهم العداوة، وألصقوا بهم التهم، وحملوا عليهم كل الجرائم، ورموهم بالرذائل، ورموهم بالكفر، ووسموهم بالنفاق، كذباً وبهتاناً، وبالغوا في ذلك أشد المبالغة، ولا شك أن هذا الفعل من الرافضة من زيغ القلوب، ومن الانتكاس والعياذ بالله إلى الحضيض. والرفض أصله: الترك، ومنه قولهم: رفضت هذا القول، أي: تركته، وهؤلاء الرافضة خرج مقدمهم وأولهم في عهد علي رضي الله عنه وفي حياته، وكان سبب ذلك أن يهودياً دخل في الإسلام نفاقاً يقال له: عبد الله بن سبأ ويعرف بـ ابن السوداء، أظهر الإسلام ولكن باطنه الكفر، وأراد بذلك أن يشكك في الإسلام، وأن يدعو إلى أسباب الانحلال، فهو من الذين دعوا الثوار إلى قتل عثمان، حيث جمع الجموع، وحشد الحشود، وأثار من أثار حتى اجتمعت عصابات خرجوا من مصر ومن العراق ومن غيرها وحاصروا عثمان رضي الله عنه، وانتهى الأمر بأن قتل شهيداً رضي الله عنه، وكان من أسباب ذلك هذا المنافق، ولما قتل عثمان وتمت البيعة لـ علي، ورأى أنه محجوز عند أهل العراق حيث استقر بينهم، أراد أيضاً أن يبطل إسلامهم وأن يوقعهم في الكفر، فدعاهم إلى أن يغلو في علي، فبدل أن يكون خليفة وإماماً يجعلونه رباً وإلهاً، فقال لهم: علي هو الرب علي هو الإله، وانخدع به خلق كثير، واعتقدوا هذا الاعتقاد الفاسد، فخرج عليهم مرة وهم صفوف في أعداد هائلة، فما إن رأوه حتى خروا له سجداً، فقال: ما هذا؟! قالوا: أنت إلهنا! فعجب من ذلك، ودعا أكابرهم ليتوبوا، ولكن أقاموا على ما هم عليه ولم يتوبوا، ثم اشتهر أنه أحرقهم، حيث خد لهم أخاديد، وأظرم فيها النيران، ثم استتابهم وأمرهم بالرجوع فمن لم يتب ألقي في تلك الأخاديد، وكان علي رضي الله عنه ينشد قوله: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً وقنبر هو غلامه، فما زادهم هذا الإحراق إلا تمسكاً بما هم عليه، وقالوا: الآن عرفنا أنك الرب؛ لأنك الذي تحرق بالنار، ولا يعذب بالنار إلا رب النار، فتمسكوا بما هم عليه، وقتل من قتل منهم بالإحراق، وقد أنكر عليه ابن عباس رضي الله عنه الإحراق، وقال: إن النار لا يعذب بها إلا الله، وقال: لو كنت أنا لقتلتهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) وأما بقية الأمة فإنهم متفقون على أنهم يقتلون وأنهم كفار. فهؤلاء الغلاة من الرافضة الذين جعلوا علياً إلهاً، هم أتباع ابن سبأ، ولا يزال كثير منهم على هذه العقيدة، ويحفظ من شعرهم قولهم: أشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين ولا حاجب عليه إلا سلمان ذو القوة المتين لما كان سلمان من الفرس جعلوه هو الحاجب على الله، وجعلوا علياً هو الله، وحيدرة هو: لقب علي؛ جاء من قوله لما كان يقاتل في خيبر: أنا الذي سمتني أمي حيدرة كليث غابات كريه المنظرة أوفيهم بالصاع كيل السندرة فصار هذا الاسم علماً عليهم، فهم يقولون: لا إله إلا علي، لا إله إلا حيدرة، وهذا الاعتقاد مشهور فيهم، وهؤلاء السبئيون هم بقية ورثة ابن سبأ، ويقال لهم: الغلاة، ولما قتل علي رضي الله عنه اعتقدوا أنه لم يقتل، بل قالوا: إنه رفع إلى السحاب، واعتقدوا أنه سوف يرجع، فلذلك يقال لأحدهم: فلان يؤمن بالرجعة، ولا يزال كثير منهم يؤمنون بالرجعة إلى اليوم، ولهم في ذلك كتب جديدة، ويذكر بعضهم أنه جاءه أحد علماء الرافضة وقال: إني ألفت كتاباً، قال: في أي شيء؟ قال: في الرجعة، فقال: كيف تكون الرجعة وقد قتل علي؟! وكيف يرجع وقد قال الله تعالى {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11] ، {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] فقال: قد آمن بها أسلافنا ومشايخنا، وقد كتبوا فيها، فقال: كل ذلك خطأ، أتقلد في الخطأ؟! فقال: بل أنت المخطئ، فلما رأى أنه متشدد في الإنكار ذهب ذلك المؤلف وهو يقول: واإسلاماه! واإسلاماه! بمعنى: أنه لم يجد من يؤيده، أو لم يؤيده هذا الشيخ على الإيمان بالرجعة. إذاً: فهي عقيدة لا تزال موجودة يعتنقها كثير في العراق وفي إيران، وفي كثير من البلاد التي يكثر فيها الرفض. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 3 ادعاء طوائف من الرافضة أن علياً رسول من عند الله توجد طائفة منهم غلوا في علي حتى جعلوه رسولاً من عند الله، وادعوا أن الرسالة له، وأن جبريل أخطأ، كما قالوا: إنه كان مأموراً بأن ينزل على علي، ولكنه خان ونزل على محمد، فـ علي أحق بالرسالة من محمد، ولذلك يقول قائلهم: خان الأمين وصدها عن حيدر والأمين هو جبريل، فهم يقولون: إنه خان الرسالة! والله تعالى سماه الأمين: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] ، {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21] ، وهؤلاء المخونة موجودون أيضاً، ويعتقد هذه العقيدة كثير من الرافضة في العراق وفي إيران، بل وفي المملكة، فقد ذكر لنا بعضهم أن رافضة المدينة قبل أن يسلموا من الصلاة يضربون بأيديهم على ركبهم ويكررون: خان الأمين، خان الأمين، ثم يسلم أحدهم، فهذه طائفة منهم، وهم أيضاً من الغلاة. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 4 سبب انتشار الرافضة الرافضة يسمون أنفسهم الإمامية، وهم في الحقيقة الرافضة، وعقيدتهم أن علياً هو الإمام، وأن الأئمة قبله مغتصبون، فـ أبو بكر عندهم مغتصب للخلافة، وكذا عمر، وعثمان، وكذا من تولى الخلافة غير علي وذريته، يعتقدون أنهم مغتصبون لما ليس لهم به حق، وأصل تكاثرهم كان في العراق، ثم انتشارهم فيما بعد سببه -والله أعلم- ما حدث من بعض ولاة بني أمية منتصف القرن الأول، لما تولى ابن زياد على العراق، وكان سبباً في قتل الحسين، واستمر في العراق إلى أن قتل، ثم مات بعده يزيد، فتولى العراق بعد ولاية آل الزبير الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان هؤلاء الولاة يميلون إلى بني أمية، وفي أنفسهم حقد على علي، كان يزين لهم أنه ممن داهن في قتل عثمان، ويقولون: إنه كان قادراً على أن ينصر عثمان لكنه لم ينصره! فكانوا يسبونه في الخطب على المنابر في العراق، وكذلك في الشام، ولا شك أن في العراق كثيراً من المحبين لـ علي، من الذين ألفوه في حياته، وأحبوه محبة صادقة، هؤلاء إما أن يكونوا معتدلين في حبه وإما أن يكونوا غلاة من أتباع الغلاة، فإذا سمعوا هؤلاء الخطباء يلعنونه على المنبر في العراق وفي الشام ساءهم ذلك، فإذا سمعوا ذلك أخذوا في مجالسهم يذكرون فضائل علي، فدخل بينهم الغلاة، وصاروا في مجالسهم الخاصة -التي هي مجالس أتباع علي المحبين له- يكذبون، ويغلون في الكذب، ويروجون الكذب بدلاً من أن يذكروا فضائله الصحيحة ومزاياه التي مدحه بها النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 5 أدلة الرافضة في تفضيل آل البيت والطعن في الصحابة ثبت لـ علي رضي الله عنه فضائل كثيرة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) ، ولكن الرافضة بلا شك لم يقنعوا بذلك بل صاروا يزيدون، فصارت مجتمعاتهم التي يجتمعون فيها لا يتذاكرون فيها إلا فضائل علي، فلا يرون من يقتنع بقولهم فيكذبون أكاذيب، وحديث غدير خم الذي يجعلونه عيداً لهم جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي) وقال: (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي) هذا هو الثابت (أذكركم الله في أهل بيتي) ، وقوله: (إني تارك فيكم كتاب الله وعترتي) ولكن ما اقتصروا عند هذا، بل صاروا يضيفون إليه حتى ألفوا كتباً في هذا الحديث، وجعلوه بألفاظ عديدة، فقالوا إنه قال: (من كنت مولاه فـ علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) ، وذكروا في أكاذيبهم أن علياً مكتوب اسمه على قائمة العرش، وأنه ممن خلقه الله وقرنه باسم محمد أو فضله على خلقه، وأنه وزوجته مكتوبان في غرف الجنة كلها، وأنه وأنه إلى غير ذلك من الأكاذيب التي يلفقونها، وهذه الأكاذيب التي يكذبونها ويروجونها إذا سمعها تلامذتهم وإذا سمعها أحبابهم أخذوا يروونها، وإذا سمعها الآخرون فماذا يقولون؟ لا شك أنهم يقولون: كيف تكون هذه مزاياه؟ وكيف تكون هذه فضائله؟ ومع ذلك يتقدم عليه غيره، ويكون غيره أفضل منه؟ وكيف قدم عليه أبو بكر وعمر وعثمان؟ بل كيف فضل عليه فلان وفلان؟ لابد أن يكون هو الأفضل، وهو الإمام، فلما أنهم سمعوا تلامذتهم ومن كان حولهم يتكلمون بهذا أرادوا أن يشككوهم فقالوا: هلم فلنكذب أكاذيب نشكك بها تلامذتنا حتى لا ينكروا علينا ما نحن فيه، فكذبوا أكاذيب لفقوها ورموا بها أبا بكر وعمر وعثمان وبقية الصحابة، وادعوا أنهم مغتصبون وخونة، وادعوا أنهم ظلمة، فامتلأت الرافضة بالسب والكذب على هؤلاء الصحابة، أكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان، سببها ومبدأ أمرها التشكيك بأتباعهم حتى لا ينكروا عليهم، ولما اشتهرت هذه الأكاذيب فيما بينهم اعتقد تلامذتهم كفر أئمة الصحابة، واعتقدوا أن الصحابة ليسوا على هدى، حيث إنهم بايعوا غير الإمام الحق، وخلعوا الإمام الحق من إمامته وهو علي، وبايعوا أبا بكر وهو مغتصب ظالم، ثم بايعوا أيضاً عمر وهو ظالم ليس له حق، فجعلوهم بذلك مرتدين، وأبطلوا بذلك فضائلهم التي رواها أئمة الصحابة، وخرجت في الصحيحين وغيرها، وقالوا: إن فضائلهم التي وردت في القرآن بطلت بمجرد ردتهم، وأنهم ارتدوا بعد موت محمد صلى الله عليه وسلم، فما هي ردتهم على قول هؤلاء؟ ردتهم أنهم منعوا علياً من حقه، فمنعوه أن يكون هو الإمام، وبايعوا مغتصباً ظالماً هو أبو بكر، هكذا أقوالهم، وهكذا رسخت هذه العقيدة في نفوسهم، وتوارثوها، وأخذوا يتناقلون هذه الأكاذيب، فصاروا ينقلون فضائل علي ويبالغون فيها، وكذلك فضائل الحسن والحسين وابن الحنفية وزين العابدين وأولادهم وأولاد أولادهم، ويكذبون لأجل فضائلهم أكاذيب لا تليق بعاقل ولا يصدقها ذو عقل سليم، ولو قرأتم في كتبهم التي يروونها لعجبتم كيف يصدقون بهذه الأكاذيب! وكيف تروج عليهم! ولكن سلبت عقولهم، فلأجل ذلك يذكر بعض العلماء أنهم ليس لهم عقول، وأن الرافضة قوم لا خلاق لهم، فلا يصدق بتلك الأكاذيب إلا من طمست بصيرته، والردود التي ردت عليهم لو قرأتموها لعجبتم كيف يصدقون بهذه الأكاذيب! ولا يزالون على هذا المعتقد إلى هذا اليوم وللأسف؛ على الرغم من تفتح الناس وتبصرهم، ولا يزالون يروون ويتناقلون في كتبهم تلك الأكاذيب، ويؤولون عليها الآيات القرآنية. ذكر بعض الإخوان أنه اطلع على تفسير كبير عندهم موجود في العراق وفي إيران -وهو تفسير لأحد أئمتهم- فقرأ في قول الله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن:19] فذكر أن البحرين في قوله: (مرج البحرين يلتقيان) هما علي وفاطمة و (يلتقيان) يعني: في النكاح، وقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] اللؤلؤ والمرجان هما الحسن والحسين اللذان خرجا من علي وفاطمة، هكذا راجت هذه الأكاذيب. وفسروا قول الله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوت} [النساء:51] فقالوا: (الجبت) هو أبو بكر، و (الطاغوت) هو عمر، قاتلهم الله أنى يؤفكون! وفسروا قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] فقالوا: (يدا أبي لهب) هما: أبو بكر وعمر. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] قالوا: البقرة التي أمروا أن يذبحوها هي عائشة بنت أبي بكر وهذه كلها أكاذيب، لكن كيف راجت عليهم؟ راجت عليهم لأنهم سلبوا المعرفة، فما زال غلاتهم على هذه العقيدة، وما زالوا مصرين عليها. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 6 أول نشأة الرافضة في آخر ولاية بني أمية خرج رجل من ذرية علي اسمه زيد بن علي، ولما خرج دعا الناس إلى بيعته؛ فجاءه الرافضة الذين في العراق فقالوا: نبايعك على أن تتبرأ من أبي بكر وعمر؛ وذلك لأنهم قد ارتسم في أذهانهم أنهما أكفر من أبي جهل وفرعون، فلابد أن يتبرأ منهما، ولكنه رضي الله عنه امتنع من ذلك وقال: هما صاحبا جدي فلا أتبرأ منهما، قالوا: إذاً نرفضك، فرفضوه؛ فمن ثم عرفوا بالرافضة، هذا هو اسمهم الذي ينطبق عليهم منذ ذلك الوقت، وهم الآن لا يعترفون به، بل يشنعون على من سماهم بهذا الاسم، مع أن الذي سماهم هو زيد، وهو ابن أحد أئمتهم، وهو زين العابدين علي بن الحسين أحد الأئمة الاثني عشر، أما الذين بايعوه فهم من سموا بالزيدية، والزيدية يوالون أبا بكر وعمر وأكثر الصحابة، ولكنهم يتبرءون من بني أمية، أما الذين خالفوه فهم المعروفون بالرافضة. أما تسميتهم بالشيعة فهم الذين يطلقون هذا على أنفسهم وذلك ليتمدحوا به فيقولون: نحن من شيعة علي، ومعنى شيعته أي: أنصاره، والشيعة في الأصل هم: الأنصار والأعوان، كقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات:83] ، وقوله تعالى {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّه} [القصص:15] يعني: أتباعه؛ لأن الشيع هم: الفرق الضالة الذين ذمهم الله تعالى بقوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32] فالأصل أنهم فرق كثيرة متشعبة، ومنهم الباطنية. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 7 علاقة الباطنية بالرافضة كان أول ظهور الباطنية في أوائل القرن الرابع، وقد استولوا على شطر هذه البلاد، فاستولوا على منطقة القصيم والأحساء والبحرين وما اتصل بها، وكان لهم قوة ونفوذ، وهم الذين قتلوا الحجاج في الحرم في سنة ثلاثمائة وسبعة عشر وهم يطوفون بالبيت، حيث قدموا في صورة حجاج ومعهم أسلحتهم ولما توسطوا في المسجد الحرام سلوا سيوفهم وأخذوا يقتلون الحجاج وهم في نفس الحرم، فجعل الحجاج يلوذون بالكعبة ويتعلقون بأستارها، ولكنهم جعلوا يقتلونهم، حتى كان يقول قائدهم: أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا وأخذ سترة الكعبة وشققها بين أصحابه، وقلع الحجر الأسود، وذهب به معه إلى بلاده التي هي القطيف، وبقي عندهم إلى سنة ثلاثمائة واثنين وثلاثين حيث ضعفت دولتهم، وقويت دولة الإسلام، وهددوا بأن يردوه وإلا غزاهم المسلمون وقتلوهم، فردوه وهم كارهون والحمد لله، وأعيد الحجر الأسود إلى مكانه، فهذه الطائفة من أكبر الطوائف ومن أكثرها ومن أخبثها؛ وذلك لأن بعض العلماء يقولون: إنهم يظهرون الرفض، ولكنهم كذبة، فظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، فهؤلاء طائفة منهم، ولا شك أن هؤلاء من ورثتهم الذين يظهرون أنهم مع المسلمين، وأنهم بين المسلمين، ويظهرون أنهم إخواننا كما يقولون، ويدعوننا إلى التقارب، ويدعون أنهم على الحق، وأن مذهبهم الذي يذهبون إليه هو مذهب كسائر المذاهب الفرعية وهي: مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد، وكذبوا بذلك؛ لأنهم مخالفون للمسلمين في العقيدة التي هي الأصل والأساس، فكيف يجمعون مع المسلمين؟! وكيف يأمنهم المسلمون؟! ولا شك أنهم يظهرون للمسلمين العداوة والبغضاء، ولعلكم تحفظون من الحكايات عنهم أكثر مما أحفظ، وبلغكم وبلغ أفرادكم أكثر مما بلغني. إذاً: فهم أعداء لله وأعداء للإسلام والمسلمين، فلا يغتر بدعوتهم إلى ما يسمونه بالتقريب، ولا شك أن هذا كله كفر وضلال، فعلى المسلم أن يعرف أعداء الله ولا ينخدع بدعاياتهم وبأقوالهم وبما هم عليه، بل نأخذ حذرنا منهم. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 8 استغلال الرافضة لما في تاريخ ابن جرير للترويج لمذهبهم كان العلماء الأولون منتبهين للرافضة في القرون الأولى، وقد كانوا يتسترون في تلك الفترة -القرن الأول والقرن الثاني والثالث- ولا يظهرون أمرهم، ولكن مع الأسف تولوا ولايات، ووثق بهم أكثر العامة، وصاروا يروون عنهم تلك الأخبار، وصار منهم أخباريون، وإن لم يكونوا من غلاتهم، فلذلك دخل الكذب في كتب التاريخ؛ بسبب الرواية عنهم أو عن كثير منهم، فتجدون مثلاً أن كتب التاريخ -حتى فيما يكتبه أهل السنة- مملوءة بما يدل على أنه من الرافضة، فمن المشهورين في نقل الأخبار وحفظها رجل شيعي يقال له: لوط بن يحيى، ويشتهر بـ أبي مخنف، يروون عنه في كتب التاريخ، ويقول ابن جرير: قال أبو مخنف وذكر أبو مخنف، هذا الراوي يُذكر أنه من أهل السنة، ولكنه يميل إلى الشيعة، دليل ذلك أنه يتتبع أخبار أهل البيت، ويبالغ في نقلها، ويطيل فيها، ويتابعها المتابعة الزائدة، ويستقصي أخبارها، فمثلاً: في تاريخ ابن جرير ذكر واقعة قتل الحسين، وهي حادثة واحدة، حيث قتل ومعه من أهل بيته نحو الأربعين، وهذه الواقعة كان يكفيها ثلاث صفحات أو أربع صفحات، ولكن استغرقت نصف مجلد -أي: أكثر من مائتين وخمسين صفحة- في تاريخ ابن جرير، وذلك بسبب اعتماده على نقل كلام هؤلاء الأخباريين، وابن جرير رحمه الله من أهل السنة، ولكن بلاده طبرستان بإيران كانت مليئة في زمانه بهؤلاء الرافضة، فكانوا يدخلون عليه شيئاً من أخبارهم -وإن كان محدثاً ومفسراً وإماماً- فينخدع بهم، وقد ألف بعضهم كتاباً يقع في مجلدين في غدير خم، يقول ابن كثير: ذكر فيه ما لا يصلح أن يذكر، وحشد فيه الطيب والخبيث، والغث والسمين، والصحيح والسقيم، واستوفى فيه كعادة المؤلفين في ذلك الوقت، فكثرت عنده تلك الأخبار، كدليل على أن أخبار الرافضة في ذلك الزمان قد كثرت، وفي القرن الثالث استولى على العراق -بل وعلى مصر وعلى إيران ونحوها- بنو بويه، فأسسوا دولة رافضية، وقد تسلطوا في زمن خلافة بني العباس، وأعلنوا مذهب الرافضة، وزادوا في التوغل فيه، ونشروه النشر الزائد، وانتشر في زمانهم وتمكن، فتمكن في العراق؛ لأنها وطنهم، وتمكن في إيران وفيما بعدها، وصاروا يدعون إليه بالقول وبالفعل، ويشجعون كل من يعتنقه، ويولونه الولايات، ولا شك أن هذه من الدعايات في تمكين هذا المذهب، وإلا فهو مذهب باطل خبيث، ولما تمكن وكثر معتنقوه صار لهؤلاء مراجع ومؤلفات، فصاروا يؤلفون الكتب لتقرير مذهبهم، ويدرجون فيها ما لا يصدقه العقل، فانتشر هذا المذهب، وانتشرت كتبهم، حتى صار عندهم الآن من الكتب في العراق وفي إيران ما لا يحصيه العباد، وكلها تركز على تأييد هذا المذهب. كذلك لما انتشرت تلك المؤلفات فيما بينهم، وكثر المؤلفون، تمكن هذا المذهب وظهر وقوي، وانخدع به من انخدع، ولا يزالون يخدعون الناس إلى هذا اليوم، ولا يزالون يسعون لجر الناس إلى اعتناق واعتقاد هذا المذهب الباطل إلى هذا اليوم، وينخدع كثير من الناس بحسن معاملتهم وبملاطفتهم وبحسن كلامهم وبمدحهم لأنفسهم، فيظهرون شيئاً من الأخلاق ومن الأدب ومن الصدق في الوعد، ومن كذا وكذا، فيجتذبون الناس بمثل هذه المعاملة الحسنة، وإلا فالأصل أنهم كفرة، وعقائدهم سيئة، نقول هذا بموجب ما يحكى لنا عنهم، ولا أتجرأ أن أذكر تلك الحكايات التي يذكرها لنا بعض الإخوان الذين اشتغلوا معهم في المنطقة الشرقية في شركة (أرامكو) وغيرها من احتيالهم على أهل السنة، ومقتهم وبغضهم لهم، وحقدهم عليهم، وحرصهم على أن يوصلوا إليهم كل ضلال وكل شر، ورغم ذلك ينخدع الكثير بإعلاناتهم وبدعاياتهم أنهم مسلمون، وأنهم على مذهب متبع ومعترف به, وأنهم وأنهم يذكر لنا بعض المشايخ الذين جاءوا إلى الأحساء أنهم وجدوا أهل الأحساء يعتقدون أنهم مسلمون، وليس بينهم من الفرق إلا كما بين من يقول: إني شافعي وإني مالكي، ولم يدروا أنهم ضلال وكفار حتى ظهر لهم الحق. لا شك أن هذا هو المعتقد السيئ عندهم، نقول: لما كان كذلك اهتم العلماء رحمهم الله بذكر فضائل السلف وفضائل الصحابة رضي الله عنهم، وذكروا ذلك في عقائدهم، كما ذكر ذلك صاحب هذه العقيدة الذي هو الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى، وكما ذكر ذلك أهل العقائد نظماً ونثراً، فيقول مثلاً أبو الخطاب الكلوذاني في عقيدته: قالوا فمن بعد النبي خليفة قلت الموحد قبل كل موحد حاميه في يوم العريش ومن له في الغار مسعد يا له من مسعد يعني: أبا بكر، ثم ذكر خلافة من بعده من الخلفاء إلى أن وصل إلى خلافة علي رضي الله عنه، وهو رابعهم: قالوا فرابعهم فقلت مجاوباً من حاز دونهم أخوة أحمد يعني: علي رضي الله عنه، فعلى هذا اهتم السلف بذكر فضائل الصحابة في العقيدة؛ لأن الكتاب ما جاءنا إلا بواسطتهم، والأحاديث النبوية ما وصلنا إلا عن نقلهم، فإذا كانوا كفاراً -كما يقولون- فإن أخبارهم لا تقبل! الجزء: 82 ¦ الصفحة: 9 طريقة الرافضة في الاستدلال بآيات القرآن للطعن في الصحابة شبه الرافضة في الطعن في الصحابة، أن الآيات التي ذكرت في المنافقين يحملونها على الصحابة رضي الله عنهم، فمثلاً: قول الله تعالى في قصة بدر: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:5-6] قالوا: هؤلاء جادلوا الرسول كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، فهم كفروا بذلك، بينما الله تعالى ما كفرهم به، وإنما سماهم مؤمنين (وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون) فكيف يكفرونهم والله سماهم مؤمنين؟! نعم كرهوا مقاومة ومقابلة الكفار مخافة أنهم يقضى عليهم وهم عدة من المسلمين، ومعهم الرسول، ومعهم خيار الصحابة، ولكن الله تعالى نصرهم وأيدهم، هذه هي الكراهية والمجادلة، يعني: كأنهم يقولون: لو ذهبنا إلى العير لكان أفضل، فهل يخرجهم ذلك من الإيمان؟ ما يخرجهم، ولكن الرافضة جعلوها كدليل على أنهم كفار، فكفروهم بمثل ذلك. أما الآية الثانية التي استدلوا بها، فهي الآية التي في آخر سورة الجمعة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] قالوا: هؤلاء الذين انفضوا عن الرسول وهو يخطب وتركوه قائماً ارتدوا بذلك، والله تعالى لم يكفرهم بذلك، بل عفا عنهم، ثم نقول: من هم الذين بقوا ومن هم الذين انفضوا؟ معلوم أنهم خرجوا ينظرون إلى هذه الإبل فرجعوا وأتموا صلاتهم؛ لأنه لا يليق أن يتركوا الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قد يكون معهم بعض أهل البيت، وقد يكون معهم سلمان، وقد يكون معهم أحد الذين يمدحونهم كـ عمار وصهيب ونحوهم، فما دام كذلك فلا حجة لهم بمثل هذه الآيات التي يستدلون بها، ثم لو قدر أنهم صادقون وأن تلك الأشياء التي وقعت منهم حقيقية فهل يليق أن نكفرهم بها؟ لا يليق ذلك، خاصة وأن لهم من السوابق ما يعفى عنهم إذا صدر منهم أي ذنب من الذنوب، ولابد أنه قد تاب منه، والتوبة تجب ما قبلها، أو محيت عنه بسوابقه وبحسناته التي عملها، فسوابقهم وأعمالهم مضاعفة (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فالحسنات يذهبن السيئات، فكيف مع ذلك ننسى حسناتهم ونتذكر أشياء طفيفة وسيئات خفيفة، على حد قول بعضهم: ينسى من المعروف طوداً شامخاً وليس ينسى ذرة ممن أسا ينقبون الذرات والأشياء الصغيرة عليهم، وينسون فضائلهم وجهادهم، ولكنهم قوم لا يفقهون. فعلى المسلم أن تكون عقيدته نحو الصحابة سليمة محبتهم، والترضي عنهم، والثناء عليهم، والاعتراف بما لهم من المزية، وبما لهم من السبق، ومعرفة أنهم خير قرون هذه الأمة، لا كان ولا يكون مثلهم، وأن فضائلهم لا يدركها غيرهم، فإذا اعترفنا بذلك عرفنا عندها كفر من كفرهم، وضلال من ضللهم، وبعد الذين عادوهم وناصبوهم وناصبوا كل من والاهم من أهل السنة والجماعة العداء، فما علينا إلا أن نشهر ونعلن فضائل الصحابة كما أعلنها وكما أشهرها الأئمة قبلنا، وقد تقدم أن العلماء أظهروا فضائلهم؛ فـ البخاري جعل كتاباً في صحيحه ذكر فيه فضائل الصحابة، وبدأه بفضائل الخلفاء الأربعة، وهكذا فعل مسلم رحمه الله، وهكذا فعل الترمذي، وهكذا ألف الإمام أحمد كتابه المعروف فضائل الصحابة، والكتب المؤلفة في ذلك كثيرة، وكل ذلك في الثناء على هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، وعلى أتباعهم. فإذا قرأ المسلم تلك الأخبار وعرف صحتها؛ عرف بذلك أن من عاداهم فهو ضال مضل خارج عن الإسلام، طاعن في عقيدة الإسلام، بل في أصل الإسلام الذي هو الكتاب والسنة. أما ما يتعلق بأحوال هؤلاء الرافضة وأعمالهم فهم وأعمالهم والعياذ بالله في ضلال، نبرأ إلى الله منهم ومن عقائدهم ومن أعمالهم السيئة، ونتمسك بما نحن عليه إن شاء الله، ونسأل الله أن يحيينا على محبة الخير وأهله، وأن يميتنا وإخواننا المسلمين على الإسلام والتمسك بالسنة. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 10 شرح العقيدة الطحاوية [83] أبو بكر الصديق أفضل هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام، وهو أول الخلفاء، وفضائله كثيرة مشهورة، ولهذا أجمع الصحابة على تقديمه. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 1 مجمل معتقد أهل السنة في الصحابة المسلمون يترحمون على الصحابة ويترضون عنهم كما ترضى الله تعالى عنهم في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة} [الفتح:18] ، وإذا رضي الله عنهم فقد علم أنهم أهل للرضا فلا يسخط عليهم، كما وعد أهل الجنة بذلك في قوله: (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً) ، وكذلك يقول تعالى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه} [التوبة:100] أخبر بأنه رضي عنهم، وإذا رضي عنهم فلا يسخط عليهم، وهم أهل للرضا، وكذلك يقول تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117] ، وإذا تاب الله عليهم -ومنهم نبيهم صلى الله عليه وسلم- ومدحهم بأنهم اتبعوه في ساعة العسرة؛ فإنه تعالى هو التواب الرحيم، ولا شك أنه قبل توبتهم بعد أن كانوا مشركين في الجاهلية فأسلموا وتابوا فقبل منهم وبقوا على هذا الإسلام، ولا يمكن أن يتوب الله عليهم ويخبر بأنهم أهل للرضوان وهو يعلم سبحانه أن فيهم من يرتد، وأن فيهم من يكفر، وأنهم ليسوا أهلاً لذلك على حد زعم أعدائهم. هذا هو مقتضى علم الله تعالى، فالله سبحانه عليم بما كان، عليم بما يكون، علم أن هؤلاء الصحابة خيرة خلق الله من هذه الأمة، اصطفاهم صحباً لنبيه، وحملة لشريعته، وأهلاً لرضاه، وأهلاً لدينه، وأهلاً لتوبته، فهم أهل لذلك في وقت نزول القرآن وفيما بعده، وفي حياة نبيهم صلى الله عليه وسلم وبعد موته، لا يمكن أن يغيروا ولا أن يبدلوا، هذه سنة الله وهذا علم الله. كذلك نترضى عنهم؛ لأنهم حملة شريعة الله التي وصلت إلينا، فهم الذين بلغوا أمر الله، وبلغوا أمر رسوله، بلغوا القرآن وبلغوا السنة، ونقلوها إلى من بعدهم كما هي عملاً بقول نبيهم صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) فمن حفظ منهم آية علمها وبلغها، ومن حفظ حديثاً أداه كما سمعه على ما قال نبيهم صلى الله عليه وسلم، حيث قال في حجة الوداع لما خطبهم: (ألا هل بلغت؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وأديت، فقال: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فلعل بعض من يبلغه أوعى ممن سمعه) فأمر الشاهد الحاضر أن يبلغ الغائب، ولا شك أنهم امتثلوا هذا الأمر فبلغوا ما أمروا بأن يبلغوه وما تحملوه، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لهم على ذلك بقوله: (رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) فهذا البيان والبلاغ أول وأولى من قام به صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولما كانوا حملة هذا القرآن، وحملة هذه الشريعة، وحملة السنة النبوية، والذين أدوها إلى تلامذتهم، وأدوها إلى من بعدهم؛ اعتقد أهل السنة أنهم أوفياء، وأنهم بررة أتقياء، وأنهم كلهم عدول ليس فيهم من يتهم بكذب، وليس فيهم من يقول كذباً أو يختلق حديثاً لا أصل له، وإنما حدث الكذب فيمن بعدهم، فعرفنا بذلك عدالة هؤلاء الصحابة وثقتهم، وأنهم حملة الشريعة، ولو طعن فيهم لبطلت الشريعة، ولبطل الدين، ولبطلت ثقتنا بالقرآن، لكن ثقتنا بكتاب ربنا ثقة قوية، وكذلك ثقتنا بالأحاديث، وثقتنا بالأعمال التي نحن نعملها ثقة راسخة وعقيدة ثابتة لا يمكن أن ننساها، ولا يمكن أن نتركها، ولا يمكن أن يتصدى لها طاعن أو نقبل فيها قول قائل؛ لأننا ما وثقنا بها إلا لأنها بلاغ أولئك الأصحاب، فهي بلاغ وبيان منهم، وهم أهل الثقة وأهل العدالة وأهل التقوى. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 2 أصل مصادر أهل البدع في طعنهم في الصحابة وموقف المسلم منهم أعداء الله وأعداء صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يتلقوا عقيدتهم عن موثوقين، وإنما تلقوها عن كذبة وعن فجرة وعن مولدين دخلوا في الإسلام نفاقاً كـ ابن سبأ الذي يقال له: ابن السوداء فإنه يهودي دخل في الإسلام نفاقاً، ولما دخل فيه أراد أن يفسد معتقد المسلمين، وأراد أن يفرق بينهم، فأدخل فيهم الكفر بخفية، وولد فيهم بغض الصحابة أو بعضهم والغلو في بعضهم إلى أن حصلت به فتنة عظيمة، فكذلك من تبعه. ومن غلا في بعض الصحابة وتنقص بعضاً من أتباع هذا الرجل أو ممن هو على شاكلته، ما هو معتمده؟ أدلتهم ونصوصهم وبراهينهم جاءتهم من طريق أولئك الكذبة الكفرة الفجرة فلا يوثق بهم، فإذا عرفنا معتمد أهل السنة ومعتقدهم أنه عن طريق الصحابة الثقاة العدول، إيمانهم بالأحاديث، وإيمانهم بالآيات، وإيمانهم أيضاً بالأعمال التي تلقوها، وعرفنا معتقد الرافضة ومعتقد الباطنية والنصيرية والمكرمية كما يسمون، والنخاولة وما أشبههم؛ عرفنا معتقدهم، فما هو معتقدهم؟ وما هو معتمدهم؟ وما هو سندهم الذي اعتمدوه؟ لا نجد لهم سنداً صحيحاً، أسانيدهم ترجع إلى منافقين ويهود وكفرة دخلوا في الإسلام تستراً، وأرادوا بذلك إدخال الفساد على المسلمين، وقد تمكنوا من ذلك حيث انخدع بهم خلق كثير وللأسف، ولا يزال يدافع عن أولئك الكفرة ويسير على نهجهم الخلق الكثير والجمع الغفير، ولكن الله سبحانه وتعالى حفظ دينه كما ضمن ذلك بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فلا يضره كثرة من يطعن في هؤلاء الصحابة أو يطعن في هذه المعتقدات، ولا يضر المؤمنين طعن الطاعنين ما دامت أصولهم وأسسهم التي يعتمدونها موجودة، حيث عندهم كتاب الله الذين ضمن الله حفظه، فهو موجود محفوظ في المصاحف، ومحفوظ في الصدور، كذلك سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد تحرى العلماء لها وتثبتوا، ونقلوها بالأسانيد، واختاروا الرجال الأثبات، والعلماء العدول، واطرحوا الأحاديث التي في أسانيدها ضعفاء أو أهل كذب أو بدعة أو ما أشبه ذلك، واقتصروا على أحاديث الأئمة العدول الثقات الأثبات، وأثبتوها في الصحيحين وفي السنن وفي المسانيد، وبينوا أحوال رجالها، وتثبتوا منها، متى كان هذا التحري إلا عند أهل السنة؟! متى كان هذا التثبت إلا عند أهل السنة؟! إذا نظرنا في كتب الرافضة هل نجد فيها هذا التثبت؟ لا نجد فيها هذه الأسانيد القوية التي كان حملتها أعلاماً، وجبالاً في الحفظ، والعلم، وكانوا علماء ربانيين بررة حفاظاً يضرب بحفظهم المثل، حفظ الله تعالى بهم شريعته وتولى حفظ هذه الشريعة بواسطتهم، وذلك فضل الله ومنته على عباده، فعلى هذا فإن الطاعن في هؤلاء العلماء وهؤلاء الصحابة إنما هو في الحقيقة يطعن في الله، وفي شرع الله، وفي دين الله، وفي كتاب الله وسنة رسوله، فكأن هؤلاء الرافضة بطعنهم في الصحابة يطعنون في كتاب الله ويطعنون في سنة رسول الله، فلا يبقى للمسلمين شيء يتشبثون به ولا يعتمدون عليه. كتب الرافضة التي يعتمدون عليها ليس لها أسانيد صحيحة، ولا ما يعتمد عليها، فما لهم معتقد بخلاف أهل السنة. وبذلك نعرف أدلة أهل السنة ومعتقدهم، وأدلة أعدائهم الرافضة ومعتقدهم، في الصحابة وفيمن بعد الصحابة من أهل السنة. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 3 عقيدة أهل السنة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة) . اختلف أهل السنة في خلافة الصديق رضي الله عنه: هل كانت بالنص أو بالاختيار؟ فذهب الحسن البصري وجماعة من أهل الحديث إلى أنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة، ومنهم من قال: بالنص الجلي، وذهب جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية إلى أنها ثبتت بالاختيار. والدليل على إثباتها بالنص أخبار: من ذلك ما أسنده البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، قال: (أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ كأنها تريد الموت، قال: إن لم تجديني فاتئي أبا بكر) ، وذكر له سياقاً آخر وأحاديث أخر، وذلك نص على إمامته. وحديث حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) رواه أهل السنن. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بدئ فيه، فقال: ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لـ أبي بكر كتاباً، ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) ، وفي رواية (ولا يطمع في هذا الأمر طامع) ، وفي رواية قال: (ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر لأكتب لـ أبي بكر كتاباً لا يختلف عليه، ثم قال: معاذ الله أن يختلف المسلمون في أبي بكر) وأحاديث تقديمه في الصلاة مشهورة معروفة، وهو يقول: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، وقد روجع في ذلك مرة بعد مرة فصلى بهم مدة مرض النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منه ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم استحالت غرباً فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن) . وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم. قال على منبره: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر) . وفي سنن أبي داود وغيره من حديث الأشعث عن حسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: (من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً أنزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر، فرجحت أنت بـ أبي بكر، ثم وزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع فرأيت الكراهة في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء) . فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ولاية هؤلاء خلافة نبوة، ثم بعد ذلك ملك، وليس فيه ذكر علي رضي الله عنه؛ لأنه لم يجتمع الناس في زمانه، بل كانوا مختلفين لم ينتظم فيه خلافة النبوة ولا الملك، وروى أبو داود أيضاً عن جابر رضي الله عنه أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بـ أبي بكر، ونيط عثمان بـ عمر، قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما المنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه) . وروى أبو داود أيضاً عن سمرة بن جندب أن رجلاً قال: (يا رسول الله! رأيت كأن دلواً دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شرباً ضعيفاً، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت منه، فانتضح عليه منها شيء) . وعن سعيد بن جمهان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي ملكه من يشاء -أو- الملك) ] . الجزء: 83 ¦ الصفحة: 4 الأدلة العقلية والنقلية على أحقية أبي بكر بالخلافة تكلم العلماء على الخلفاء الراشدين وهم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وقالوا: هؤلاء هم الخلفاء الراشدون، وتسميتهم تسمية نبوية لحديث العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) فجعلهم خلفاء، والخليفة هو الذي يخلف غيره، وسماهم رأس الدين، والراشد هو: ضد الغاوي، أي أنهم على رشد، ووصفهم أنهم مهتدون غير ضالين، فهذه إشارة إلى خلافة هؤلاء الأربعة، وكذلك من سار على نهجهم أو اقتدى بهم كـ عمر بن عبد العزيز، فقد قيل: إنه من الخلفاء الراشدين؛ لأنه أشبه سيرتهم، كذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخلافة ثم الملك بحديث سفينة الذي قال فيه: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً) وقد كان ذلك، فإن خلافة أبي بكر سنتان ونصفاً، وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة، فهذه أربع وعشرون سنة ونصف سنة، وخلافة علي خمس سنين إلا بعض السنة، وتتمتها خلافة الحسن فأصبحت هذه ثلاثين سنة أو نحوها، وهذه هي الخلافة التي أخبر بأنها خلافة نبوة، ثم بعدها يكون ملكاً؛ وذلك لأن الملك لما انتقل إلى معاوية ثم إلى بني مروان أصبحوا كأنهم يعملون عمل الملوك، ولو كان فيهم شيء من السيرة الحسنة والجهاد، لكن عملهم ليس كعمل الخلفاء الراشدين، حيث إنهم جعلوها وراثة، وصاروا يعهدون بالخلافة إلى أبنائهم أو من يطلب منهم، فأصبحت الخلافة النبوية ثلاثين سنة ابتدأت بخلافة أبي بكر رضي الله عنه، وقد أجمع الصحابة على تقديمه وفيهم أهل البيت كـ علي والحسن والحسين والعباس وابن العباس، وجميع الصحابة اتفقوا على خلافة أبي بكر، والله تعالى لا يجمع الصحابة على ضلالة، فلا يجتمعون إلا على حق، وهذه حجة قوية في صحة خلافة أبي بكر، فأين الرافضة من هذا الإجماع؟ الرافضة يقولون: إن أبا بكر مغتصب، وأنه تجرأ على شيء ليس له، وأن الصحابة خانوا هذه الأمانة التي هي عهد لـ علي بالخلافة، ولكن خانوا في ذلك وكتموا، وبايعوا أبا بكر خيانة وضلالاً، وظلموا حق علي، هكذا يقولون! ومعناه: أنهم كلهم أجمعوا على هذا الظلم وحاشاهم من ذلك، ولا شك أنهم عندما بايعوا أبا بكر عملوا بهذه الإشارات التي سمعنا من الأحاديث الدالة عليها، فإن قوله صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة لما قالت: (أرأيت إن لم أجدك؟ فقال: ائتي أبا بكر) كأنها أشارت إلى أنه قد يأتيك الموت أو نحوه فمن يكون بعدك؟ ومن آتيه بعدك لقضاء حاجتي؟ فقال: (ائتي أبا بكر) فدلت هذه الإشارة إلى أن أبا بكر هو الذي يقوم بالخلافة بعده كما هو الواقع. كذلك هذا الحديث الذي روته عائشة وهي من أمهات المؤمنين، ولا يمكن أن تكذب في حق أهلها، ولا في حق غيرهم، تذكر أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب كتاباً بالولاية لـ أبي بكر: (ائتوني بكتاب أكتب فيه عهداً لـ أبي بكر) ولكن علم بأن الله تعالى يجمع الصحابة على استخلافه وتوليته، فترك الكتابة ثقة بما كانوا عليه من معرفة حقه، وقال: (يأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر) يعني: أنهم يعرفون أحقيته وأقدميته، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قدمه في الصلاة لما مرض وثقل وصعب عليه أن يتولى الصلاة بهم، وبقي أياماً -قيل: خمسة أيام، وقيل: سبعة، وقيل: أكثر أو أقل- وفي تلك الأيام كان الذي يصلي بالمسلمين هو أبو بكر، وذلك بأمر النبي لما قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة: إن أبا بكر رجل رقيق لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت له مثل ذلك، فكرر ذلك ثم قال: إنكن صواحب يوسف) فأكد أن أبا بكر هو الذي يصلح أن يكون إماماً، وقد تولى هذه الإمامة التي هي الصلاة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أن توفي صلى الله عليه وسلم نظر الصحابة في أمر خلافته فقالوا: رضينا لدنيانا من رضيه نبينا لديننا. بمعنى أن: نبينا صلى الله عليه وسلم رضيه إماماً لنا في ديننا، حيث كان يصلي بنا، فذلك دليل على أفضليته؛ لأجل ذلك نرضاه أن يكون إماماً لنا عاماً في هذه الولاية التي فيها إصلاح دنيانا وضبط أحوالنا، وهكذا اتفقوا على توليته الخلافة. ثبت أنه صلى الله عليه وسلم خطب في آخر حياته قبل مرضه بزمن قليل فقال: (إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: نفديك بأنفسنا وأهلنا، فعجب الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن هذا العبد الذي خيره الله وأن أبا بكر يبكي ويقول هذه المقالة، فلما قال ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من أمن الناس علي في نفسه وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) ثم قال: (لا يبقين خوخة في المسجد إلا سدت إلا خوخة أبي بكر) وهنا دليل على أنه مقدم في هذا الأمر، فالخلة هي: المحبة، فيقول: إنه أحق الناس في أن يكون لي خليلاً، وأن تكون له الخلة، فلو كنت متخذاً خليلاً لكان هو أحق بأن أتخذه، ثم أمر أن تسد النوافذ التي تطل على المسجد إلا نافذة أبي بكر، لأن الصحابة كانوا قد بنوا بيوتهم إلى جانب المسجد، وفتحوا عليه أبواباً، فهذا الباب يدخل منه فلان من بيته إلى المسجد، وذلك الباب لفلان، فأمر بأن تسد تلك الأبواب التي تسمى خوخات، وتبقى خوخة أبي بكر، لماذا؟ إشارة إلى أنه سيتولى الخلافة، وسيحتاج إلى أن يدخل المسجد ويخرج ويتكرر دخوله، وذلك دليل على أنه سيتولى، والنبي عليه الصلاة والسلام علم بأنه سيكون والي المسلمين بعده، فأمر بإبقاء خوخته حتى لا تتغير. هذه الأدلة فيها إشارات، ولكن مجموعها يكون صريحاً، أما الإشارة الأولى فهي قصة القليب، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (رأيتني على قليب -القليب هو: البئر التي فيها ماء- أنزع منها -يعني: أجتذب الماء بدلوي- فنزعت منها ما شاء الله أن أنزع، ثم أخذها أبو بكر -جعل أبا بكر هو الذي أخذها بعده- فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له -أي: وذلك لقصر مدته- ثم أخذها ابن الخطاب -يعني: عمر -فاستحالت غرباً -والغرب هو: الدلو الكبير الذي يستقى به من الآبار، والذي تجتذبه السواني أو النواضح قديماً- فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه حتى روي الناس وضربوا بعطن) وذلك لأن مدته طالت حتى بلغت عشر سنين، وفي مدته اتسعت رقعة الإسلام، وفتحت الأموال على بيت المال، وكثرت جبايتها، أوليس في هذا إشارة إلى أن الذي يأخذ الخلافة بعد النبي أبو بكر، ثم لا تطول مدته، ويأخذها بعده عمر فتطول مدته؟ الإشارة الثانية: قصة ذلك الدلو الذي تدلى من السماء في رؤيا الرجل، حيث يقول: رأيت أن دلواً تدلى من السماء فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخذه أبو بكر فشرب منه، ثم أخذه عمر فشرب منه حتى تضلع، ثم عثمان، ثم علي، إلا أنه انتزع منه فأصابه منه نضح، أليس في هذا دليل على ترتيبهم في هذه الخلافة، وأن الذي شرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم يكون خليفة بعده، وهو أبو بكر، ثم بعد أبي بكر عمر، ثم عثمان ثم علي؟ فهذه إشارة إلى خلافتهم. كذلك أيضاً: بعض الإشارات التي تكون إما في صورة رؤيا أو قصص واقعية لا شك أن فيها إشارة واضحة إلى أن هؤلاء يكونون خلفاء بعده صلى الله عليه وسلم. وبكل حال نقول: إن هذه الإشارات من مجموعها يجزم بأنها نص صريح في أنه صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر وجعله خليفة بعده، وسيأتي ذكر قصة بيعته وكيف اجتمع الصحابة على بيعته وفضلوه، ومعروف أنهم لم يختاروه إلا لميزة تميز بها. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 5 إسلام أبي بكر ومرافقته للنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة أبو بكر الصديق هو أول من أسلم من الرجال؟ كما يقول الكلوذاني في عقيدته: قالوا فمن بعد النبي خليفة قلت الموحد قبل كل موحد حاميه في يوم العريش ومن له في الغار مسعد يا له من مسعد فالجمهور على أن أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه، إذ كان رجلاً عاقلاً عارفاً موثوقاً، كامل العقل، ولما عرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام لم يتوقف ولم يتردد، بل بادر وقبل الدعوة ودخل في الإسلام، ولما دخل في الإسلام صار أيضاً داعية لأكثر الصحابة الذين أسلموا بمكة، فبإسلامه أسلم عثمان، وأسلم طلحة وأسلم الزبير وأسلم عبد الرحمن بن عوف وأسلم سعد بن أبي وقاص، فكلهم أسلموا بدعوة أبي بكر. إذاً: فهو الذي دعا إلى الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أليس من فضائله أنه رفيق النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الهجرة؟ هاجر معه من مكة إلى المدينة، واختار النبي صلى الله عليه وسلم صحبته، وقد كان أبو بكر قد عزم على أن يهاجر وحده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انتظر لعل الله يأذن لي) فلما أذن له قال: (إن الله أذن لي في الهجرة، فقال: الصحبة يا رسول الله؟! قال: الصحبة) أي: سوف تصحبني. ومعروف أيضاً أنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الغار الذي قال الله فيه: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَن} [التوبة:40] ولا شك أن هذه الصحبة لم ينلها غيره، فهو رضي الله عنه جمع نفسه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض نفسه للقتل، أما المهاجرون غيره فقد هاجروا خفية أو بعلن ولم يتعرض لهم المشركون، أما أبو بكر والنبي صلى الله عليه وسلم فإن المشركين قد عزموا على قتل محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان الله ليسلطهم عليه، فلما اجتمع معه أبو بكر عزموا على أن يقتلوا أبا بكر معه، وجعلوا لمن أتاهم بكل منهما مائة من الإبل، فعند ذلك أمرهما الله بأن يخرجا بخفية، فخرجا ليلاً ودخلا في ذلك الغار المعروف بغار ثور، واختفيا فيه ثلاثة أيام، يأتيهما عامر بن فهيرة بغنم لـ أبي بكر فيحلب لهما منها ويسقيهما، وكذلك يأتيهما عبد الرحمن بن أبي بكر بالأخبار في الليل ثم يرجع، أوليس مبيت أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم من التعرض للأذى؟ أليس ذلك من فدائه بنفسه؟ لا شك أن هذه ميزة لا يلحقه فيها غيره، كذلك أيضاً صحبته له من مكة إلى المدينة وليس معهما إلا رجل مشرك يدلهما على الطريق، كذلك أيضاً خروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، ولما كان في الليلة التي وقعت الوقعة في صبيحتها بات النبي صلى الله عليه وسلم طوال الليل يصلي ويتهجد، وبات أبو بكر معه يحميه ويحفظه، وكلما سقط رداؤه عنه رده عليه أبو بكر، وكان مما قال له: (كفاك مناشدتك لربك، سوف يوفي لك ربك ما وعدك) ، ولا شك أن هذه ميزة ميزه الله تعالى بها، فكان بذلك أهلاً أن يقلد هذه الخلافة التي هي الولاية. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 6 قوة أبي بكر وحزمه في تعامله مع المرتدين الصحابة الذين بايعوا أبا بكر واجتمعوا على بيعته علموا أهليته وكفاءته، ومن نظر في سيرته رضي الله عنه ويرى كيف ضبط الأمور، وكيف أنفذ الجيوش، وكيف أرسل الرسل للدعوة، وكذلك ما وقع في السنة الأولى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من ارتداد العرب عن الإسلام، حتى لم يبق على الإسلام إلا أهل مكة وأهل المدينة وأهل الطائف، أما الأعراب حولهم فكلهم قد ارتدوا إلا من شاء الله، وكيف قوي أبو بكر على ضبط الناس كلهم، وقد رموا الإسلام عن قوس العداوة، ولكن حزمه رضي الله عنه وفطنته وسياسته وسيرته، وهذا يدل على أنه ذكي عارف، فصل في الأمور، وتعامل مع الأمر بحزم إلى أن رجع الناس في أقل من نصف سنة، واجتمع العرب كلهم على الرجوع إلى الإسلام، ودانوا بالإسلام بعدما كانوا تركوه، ولا شك أن في هذا فراسة قوية تدل على خبرته وحنكته وأهليته، وأن الله تعالى ما اختاره في هذه الحالة الحرجة إلا لأهليته، ولأجل ذلك يقول بعض العلماء: إن الله تعالى حفظ الإسلام برجلين: أبي بكر يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة، ولأجل ذلك سمي بـ الصديق، أخذاً من قول الله تعالى في سورة الزمر: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] الذي جاء بالصدق هو النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به هو أبو بكر، فهذه بلا شك أنها تدل على أهليته، وقد أجمع الصحابة على تسميته ب الصديق مبالغة في الصدق، ولا شك أن الصديقية هي أعظم المراتب بعد النبوة، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69] فبدأ بالصديقين بعد النبيين، والصديقون هم: المبالغون في التصديق، وأبو بكر رضي الله عنه على رأسهم. فهذه الفضائل والميزات هي التي صار بها أهلاً أن يتولى أمر المسلمين، ولكن طمس الله على قلوب الرافضة وأعمى بصائرهم وحال بينهم وبين مائدة الحق، فولدوا أكاذيب بأنه مغتصب، وأن الصحابة كلهم خونة، وأن علياً مظلوم، حتى جعلوا علياً أيضاً من الظالمين؛ لأنه أقر بخلافة أبي بكر وبايعه وصبر على بيعته في زمانه، ولم يطالب بشيء من الخلافة، بل علي رضي الله عنه كان يصلي خلف أبي بكر مدة خلافته، إذلم يقل أحد من أهل السنة إن علياً كان يصلي وحده، أو كان له محراب يصلي فيه وحده، ولا قال أحد: إنه ترك الصلاة مع الجماعة وحاشاه. إذاً: فقد كان يصلي خلف أبي بكر، أوليس ذلك دليل على أنه أقر بخلافته، وأنه رضي به والياً كما رضي به بقية المسلمين؟ الجزء: 83 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الطحاوية [84] طعن الرافضة في خلافة أبي بكر الصديق، ويعتقدون أنه اغتصب الخلافة من علي رضي الله عنه، ويوردون بعض الشبه لترويج مذهبهم، وقد كشف أهل العلم شبهاتهم، وزيفوا دعاواهم. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 1 معتقد متأخري الرافضة في الصحابة كمعتقد متقدميهم نحمد الله أن جعلنا مسلمين، ونحمد الله أن جعلنا سنيين، ونحمد الله أن جعلنا متمسكين بالهدي النبوي، متمسكين بسنة خير المرسلين، متبعين للصحابة أجمعين، مترضين عنهم وعن التابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، مترضين عن أئمة المسلمين، عارفين لحقهم وعارفين لقدرهم، مخالفين لأهل البدع والمحدثات، وهذه بلا شك نعمة عظيمة ومنة جسيمة حيث أنقذنا الله من تلك البدع، وأنقذنا من تلك الخرافات، وأنقذنا من أولئك المبتدعة الذين رأوا الحق فتركوه، وزين لهم الباطل فاتبعوه، وقامت عليهم حجة الله، ولكنهم أصروا وعاندوا على المخالفة. في القرون السابقة قد يكون الشيعة والرافضة معذورين؛ حيث إنهم لم يطلعوا على سير الصحابة، ولم تنتشر كتب السلف، ولم تشتهر الأحاديث التي فيها؛ وذلك لكونها مخطوطة في المكتبات الكبيرة ولا يمكن انتشارها، وهم لا يألفونها، ولا يقصدون تلك المكتبات، ولا ينتقون تلك الكتب وإنما ينتقون ما يناسبهم من مؤلفات مشايخهم، ولكن في هذه الأزمنة بلا شك أنها قد قامت عليهم الحجة، وظهر الحق واستبان، ولكنهم عاندوا وأصروا واستكبروا عن الحق، فلا عذر لهم، فقد انتشرت كتب السلف وكتب السنة وكتب السيرة بعدما كان لا يوجد منها إلا كتاب أو كتابان أو نسخة أو نسختان، صار يوجد منها الآن مئات وألوف وعشرات الألوف، وفي إمكانهم أن يقرءوها، بل وقرءوها، ولكنهم أصروا واستكبروا. كذلك في هذه الأزمنة أيضاً وجدت الأشرطة التي فيها سيرة السلف وهم يسمعونها ويقتنونها، ولكنهم أصروا واستكبروا على العناد وعلى البدعة الشنيعة. كذلك أيضاً تنشر سير السلف وسير الصحابة ومآثرهم وفضائلهم في الكتب، وتنشر في الصحف اليومية، وتنشر في المجلات الأسبوعية أو المجلات الشهرية التي هي دائماً منتشرة تذاع علناً، ولا شك أن أولئك الشيعة يتمكنون من قراءتها والاطلاع عليها ولابد، ولكنهم مع ذلك كله بعد قيام الحجة عليهم أصروا واستكبروا استكباراً. وكذلك أيضاً بلا شك أنهم يسمعون إذاعات أهل السنة في كل مكان وفي كل جهة، الذين يترضون عن الصحابة وينشرون سيرهم، وينشرون أخبارهم وجهدهم وجهادهم، فلا شك أنهم قد سمعوا ذلك ويسمعونه، ولكنهم مع ذلك أصروا واستكبروا استكباراً. كذلك أيضاً مع وجود المناهج الدراسية التي تدرس فيها سير الصحابة وسير السلف وأحوالهم، وكتب الأدب، وكتب التاريخ في المعاهد العلمية، وفي المدارس المتوسطة والثانوية، وفي الجامعات الإسلامية، لا شك أنها تدرس وأن الشيعة يدرسونها, ويقرءونها، وقد عرفوا صحة ما فيها وثبوته؛ حيث إنه يعتمد على الدليل وعلى النقل الصحيح، ولكنهم مع ذلك كله أصروا واستكبروا استكباراً. إذاً: فقد قامت عليهم الحجة، فليسوا كعلمائهم الأولين الذين لم يتمكنوا مما تمكن منه هؤلاء، هذا بالنسبة للرافضة. أما بالنسبة لأهل السنة فإنهم كانوا قديماً لا يتمكنون من قراءة كتبهم، ولا يطلعون عليها، بل الرافضة بأنفسهم يخفون كتبهم وعقائدهم ويسرونها، ولا يمكنون أحداً من قراءتها؛ وذلك لما فيها من الفضائح، ولما فيها من الأخطاء الفاحشة، ولما فيها من الحمل على الصحابة، ومن التأويلات البعيدة، ولكن في هذه الأزمنة لم يقدروا على إخفائها، بل طبعت تفاسيرهم، وطبعت كتبهم، واطلع عليها أهل السنة، فرأوا فيها الفضائح، ونقلوا ما نقلوا منها، وجعلوه حجة عليهم، وردوا عليهم الردود الواضحة من كتبهم أنفسهم، وقالوا: قلتم في كتابكم الفلاني في صفحة كذا من جزء كذا، وقلتم في كتابكم كذا وكذا، وكلها أشياء واقعية، لكنها تأويلات بعيدة، وتحريفات للكلم عن مواضعه، وأكاذيب وترهات يقولونها بغير حق، ويجعلونها شبه أدلة وهي في الحقيقة خرافات لا أصل لها، وقد اتضح كذبها، واتضح بعدها، واتضح لكل عاقل أنها بعيدة عن الصواب، فبان بذلك كذبهم، وبان بذلك فشلهم، واطلع العلماء على أسرارهم، وردوا عليهم من مؤلفاتهم، ولكنهم مع ذلك كله أصروا واستكبروا. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 2 جهود الرافضة في إفساد عقائد المسلمين في هذه البلاد -المملكة- معلوم أن المناهج الدراسية موحدة بالنسبة إلى طلاب السنة والشيعة، ولكن علماؤهم الذين يخفون أنفسهم -وربما أظهروا أنفسهم في هذه الأزمنة- يحرصون على ألا يقع في أيدي أبنائهم وأولادهم شيء من التعاليم التي يتلقونها من المدرسين السنيين، فإذا درس الطلاب الشيعيون في هذه المدارس أشياء تتعلق بالعقيدة وتتعلق بسير الصحابة، وخرجوا وقد عرفوا ذلك وقرءوه، وأخذوه من تلك المناهج والكتب الدراسية؛ عرضوه على شيخ لهم أو على كبير لهم، فأخذ ينتقد هذه، ويصوب هذه، ويخطئ هذه، ويقول لهم: هذا لا تعتقدوه، وهذا لا تقولوا به، وهذا ليس بصحيح، وهذا يخالف معتقدكم، وهذا يخالف سيرتكم، ولا يزال بأولئك الطلاب حتى لا يبقي أثراً في قلوبهم مما تلقوه من علمائهم السنيين؛ حتى يبقوا على معتقد آبائهم وأجدادهم وأسلافهم الباطل السيئ. وقد ذكر لنا بعض الإخوان أنه كان هناك مدرس من أهل السنة في إحدى البلاد التي يغلب على أهلها التشيع، فلما عقل أولئك الطلاب وتفتحوا، ورأى أن فيهم ذكاء وإقبالاً رأى أن يناقشهم بالدليل، ويناقشهم بالقرآن، ويناقشهم بالسنة الصحيحة، وأخذ يجعل لهم مجالس أسبوعية يقرر لهم الحق ويقول لهم: نحن مع الحق أينما كان، إن كان معكم فائتونا به، وإن كان معنا أتينا به، ونحن نتبعه أينما كان، ولكن بعدما استمر شهراً أو شهرين، ورأى آباءهم أنهم قد اقتنعوا بعض الاقتناع بكلام هذا الشيخ، وأنه غير شيئاً من معتقدهم؛ عمد الآباء إليه فطردوه وأبعدوه من بلادهم، وقالوا: إنك أوشكت أن تغير معتقد أبنائنا، رغم أنهم كلما أخذوا منه توجيهات عرضوها على آبائهم ومشايخهم، فلما رأوا أنها حجج قوية تكاد أن تغلبهم قالوا: هذا سوف يفسد أخلاقهم ومعتقدهم، وليس لنا حيلة إلا أن نبعده ونطرده. وكذلك هم يحاولون اضطهاد أهل الخير، ويحاولون ألا يكون لأهل السنة قوة ولا نفوذ ولا تسلط ولا قدرة على شيء، وقد ذكر لنا بعض الإخوان أنه في مدرسة من المدارس قرب المدينة النبوية اتفق المدير والمدرسون -وكلهم شيعة- على ألا يدرس الأولاد في المرحلة الابتدائية إلا دروساً قليلة، فلا يعلمونهم هجاءً، ولا يعلمونهم كتابة، ولا إملاءً، ولا تجويداً، ولا قرآناً، ولا حساباً، ولا غير ذلك، وأن ينجحوهم في آخر السنة وإن كانوا لا يعرفون شيئاً، ويأتي المدرس ويقف أمام الطلاب ويبقى يتكلم معهم كلاماً عادياً، ولا يفتح عليهم بكلمة حتى تنتهي السنة الدراسية، فإذا انتهت نجحوهم كلهم، وهم لا يعرفون شيئاً، ولما انتهوا من المرحلة الابتدائية وواحدهم لا يحسن أن يكتب اسمه، ولا يعرف حساباً، ولا غير ذلك، والتحق بالمتوسطة؛ إذا هو لا يحسن شيئاً، ولا يعرف شيئاً، فيقول: ماذا أفعل وزملائي قد تفوقوا علي، فهم يعرفون وأنا لا أعرف، عند ذلك يتعقد ويترك الدراسة؛ لأنه لا يستطيع أن يعود للدراسة في السنة الأولى وعمره قد جاوز الثانية عشرة أو نحوها، عند ذلك يتركون الدراسة ويتعقد أحدهم، فهذه حيلة من حيل أولئك، لما تولوا هذا العمل وهو التدريس. فهم في الحقيقة أعداء للسنة، وأعداء لأهلها، يحاولون أن يفرضوا أنفسهم، ويحاولون أن يظهر لهم النفوذ والقوة، ولكن كما قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] . الجزء: 84 ¦ الصفحة: 3 فضل أبي بكر الصديق والرد على الطاعنين فيه من معتقد أهل السنة الاعتراف بخلافة الخلفاء الراشدين، وأن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، فأول الخلفاء هو أبو بكر رضي الله عنه، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي؛ هؤلاء هم الخلفاء الراشدون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعهم، وسماهم الخلفاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) شهادة نبوية لهؤلاء أنهم خلفاء، وأنهم راشدون، وأنهم مهديون، أي: على الهدى المستقيم، وعلى الصراط المستقيم الذي سألوا الله أن يهديهم إياه، ونحن نسأله أيضاً، ولا شك أن هذه الشهادة النبوية تثبت أن الذين تولوا بعده هم خلفاء، ولا شك أن أولهم أبو بكر رضي الله عنه. وسيرة أبي بكر رضي الله عنه هي أحسن السير؛ حيث إنه اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يفعل، فأنفذ جيش أسامة أول ما تولى، وبعث الجيوش لقتال المرتدين، فانتصر الإسلام بعدما كان العرب قد رموا أهل المدينة عن قوس العداوة خلال ما يقرب من ثلاثة أشهر، فأرسل جيشاً لقتال بعض المرتدين، فهدى الله طيئاً ومن معهم، فلما رأت منهم قبائل العرب الذين حولهم ذلك انضموا إليهم، ولم يمض إلا شهران أو ثلاثة أشهر حتى بعث أبو بكر ستة عشر أميراً أو سبعة عشر لقتال المرتدين البعيدين، فتراجعوا كلهم وانضموا إلى الإسلام أوليس ذلك دليلاً على حنكته وفراسته وقوته في القيام بأمر الله تعالى؟ أوليس دليلاً على أن الله تعالى وفقه وسدد به وهدى به ونصر به الإسلام؟ الجزء: 84 ¦ الصفحة: 4 استشهاد الرافضة بحديث الغدير للطعن في خلافة أبي بكر والرد عليهم الرافضة يطعنون في أبي بكر، ويدعون أن علياً هو الإمام، ويستشهدون على ذلك بأحاديث ضعيفة أو موضوعة يسمونه حديث الغدير مع أن أكثره كذب، ويقولون فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كنت مولاه فـ علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاده) ونقول: هذا صحيح، ونحن نقول: إن منزلة علي من النبي صلى الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى، وأنه مولى المسلمين، وكذلك نقول: إن أبا بكر وسائر الخلفاء، وسائر الصحابة هم موالي المسلمين، وليست الولاية إلا ما تقتضي المحبة، فإذا كان علي ولياً للمؤمنين وولياً للنبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عيله وسلم مولى للمؤمنين أيضاً، فكذلك بقية الصحابة، فليس هناك دليل على أن علياً اختص بالولاية دون غيره، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) دعاء صحيح إذا ثبت، ونحن نواليه ونحبه، ولكن لا نفرط في حبه، ولا نجعله أحق بالولاية وبالخلافة من أبي بكر وغيره من الصحابة، بل نجعلهم كلهم أهل ولاية وأهل محبة وأهل ترضٍ، فنترضى عنهم جميعاً، ونجعل لهم حقاً علينا بأن نحبهم ونواليهم. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 5 استشهاد الرافضة بما حصل بين فاطمة وأبي بكر للطعن في خلافته والرد عليهم وطعن الرافضة في أبي بكر بأنه لم يعط فاطمة حقها من ميراث أبيها، الله أكبر! هذا هو الذي طعنوا عليه فيه، وتحاملوا عليه تحاملاً شديداً، وأنكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نورث، ما تركنا صدقة) أنكروا ذلك كله مع ثبوته بطرق كثيرة، وزعموا أن أبا بكر قد كذب في ذلك مع أنه لم ينفرد به، وجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مهتماً لأمر الدنيا، وكأن الدنيا أكبر همه مع أنه يقول: (ما لي وللدنيا! إنما أنا كراكب قال في ظل دوحة) ، ومع ما ثبت عن الحارث بن أبي ضرار وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خلف ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا سلاحه وعتاده وأرضاً جعلها صدقة. إذاً: بأي شيء ينتقدون أبا بكر ويقولون: إنه منع فاطمة حقها من ميراث أبيها؟ ويجاب عليهم من عدة وجوه: أولاً: الرسل لا يورثون. ثانياً: ليست الدنيا ذات أهمية عندهم حتى يخلفوها لأولادهم، ويقولون: لهم أن يرثوا، ولهم أن يأخذوا. ثالثاً: أن الأرض التي جعلها صدقة قد صار علي رضي الله عنه هو المتولي عليها بعد موت فاطمة. وبكل حال فهذا أكبر ما طعنوا فيه، ولما طعنوا فيه بأنه حرم فاطمة من ميراثها، أخذوا يجمعون عليه الأكاذيب ويلفقون عليه، ويعيبونه بكل عيب، فيقولون: إنه قاتل المسلمين، وكذبوا! فهو ما قاتل إلا من ارتد، فبالرغم من أنهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، إلا أنهم فرقوا بين الصلاة والزكاة؛ لذلك فلم يكونوا مقرين بالشهادة حق الإقرار، فلأجل ذلك رأى قتالهم وسماهم مرتدين. ويقولون: إنه أقر خالد بن الوليد على القتال، ويكفرون خالداً بذلك، فنقول: إن أبا بكر ما أقره إلا وقد رآه أهلاً للقتال، لأن خالداً لم يكن قريباً له ولا صهراً له، بل هو سيف الله كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا نقموا عليه حتى يسبوه ويلعنوه ويشتموه؟! قاتلهم الله. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 6 بعض أقوال النبي وأفعاله الدالة على أحقية أبي بكر بالخلافة النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل أبا بكر رضي الله عنه خليفته في الصلاة حين قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) أوليس تقديمه في الصلاة دليلاً على أفضليته؟ وأهليته للإمامة وللصلاة؟ كذلك أيضاً هو دليل على ميزته وعلى كفاءته, وفيه إشارة إلى أنه سيخلفه ويقوم مقامه. والنبي عليه الصلاة والسلام أمر أن تسد النوافذ التي فتحت على المسجد إلا باب أبي بكر فلا يسد، وذلك إشارة إلى أنه سيتولى الأمر، وسيكثر دخوله وخروجه إلى المسجد؛ وذلك إشارة إلى أن له أحقية في المسجد وفي الولاية. وقال عليه الصلاة والسلام: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) فبدأ بـ أبي بكر مما يدل على أنه الذي يتولى بعده، وهذا ما وقع، ثم تولى بعده عمر. إذاً: فهذه إشارات واضحة إلى أن أبا بكر رضي الله عنه هو الخليفة بعده. كذلك أيضاً من الإشارات ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (رأيت أني على قليب فنزعت منها ما شاء الله أن أنزع، فأخذها أبو بكر فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، فاستحالت غرباً فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه حتى روي الناس وضربوا بعطن) وفيه إشارة إلى قصر فترة أبي بكر حيث قال: (ذنوباً أو ذنوبين) ، أما خلافة عمر فقد امتدت طويلاً، وفي عصره فتحت بلاد كثيرة، وذلك بلا شك دليل على أنهما خليفتان بعده. وهكذا الرؤيا التي رآها بعض الصحابة في الدلو الذي تدلى من السماء فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم انتضح منه على علي، وهو إشارة إلى أنهم الذين يتولون بعده. ومن أصرح الإشارات قوله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر) . فـ أبو بكر رضي الله عنه هو الخليفة الراشد، وهو الذي تولى أمور المسلمين، وهو الذي سار بهم سيرة حسنة، ولم يول الخلافة لأولاده ولا لأقاربه، ولم يحاب فيها، وكذلك أيضاً في حالة ولايته لم يول الأمير الفلاني أو العلاني، ولم يولهم لأجل قرابتهم له، ولا لأجل محاباة، وإنما اختار الولاة والقادة الذين فيهم الأهلية وفيهم الكفاءة، حتى ولو لم يكونوا من قريش، فكانت توليته لـ خالد بن الوليد ولغيره من الأمراء لما فيهم من الأهلية. فنشهد بأن أبا بكر أهل للخلافة، وأن الله تعالى عندما اختاره ولياً وخليفة فإن ذلك عين المصلحة، وأنه هو الذي ثبت الله به الإسلام ورد به المسلمين بعد أن كادوا يخرجون من الإسلام، فلأجل ذلك سمي بـ الصديق الذي هو أول من صدق، والذي فتح الله تعالى به قلوب العباد، ورزقهم الإنابة إليه والثبات على دينه. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 7 استخلاف أبي بكر إن لم يكن نصاً فهو بإشارة واضحة قال الشارح رحمه الله تعالى: [واحتج من قال: لم يستخلف، بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني: أبا بكر - وإلا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم-) ، قال عبد الله: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف. وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: (من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلف؟) . والظاهر -والله أعلم- أن المراد أنه لم يستخلف بعده بعهد مكتوب، ولو كتب عهداً لكتبه لـ أبي بكر، بل قد أراد كتابته ثم تركه، وقال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) فكان هذا أبلغ من مجرد العهد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دل المسلمين على استخلاف أبي بكر، وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك حامد له، وعزم على أن يكتب بذلك عهداً، ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتابة اكتفاء بذلك، ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس، ثم لما حصل لبعضهم شك: هل ذلك القول من جهة المرض أو هو قول يجب اتباعه؟ ترك الكتابة اكتفاء بما علم أن الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر، فلو كان التعريض مما يشتبه على الأمة لبينه بياناً قاطعاً للعذر، لكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر المتعين، وفهموا ذلك حصل المقصود؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: (أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولم ينكر ذلك منهم أحد، ولا قال أحد من الصحابة: إن غير أبي بكر من المهاجرين أحق بالخلافة منه، ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار طمعاً في أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير، وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بطلانه، ثم الأنصار كلهم بايعوا أبا بكر إلا سعد بن عبادة لكونه هو الذي كان يطلب الولاية، ولم يقل أحد من الصحابة قط: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على غير أبي بكر، لا علي ولا العباس ولا غيرهما كما قد قال أهل البدع، وروى ابن بطة بإسناده أن عمر بن عبد العزيز بعث محمد بن الزبير الحنظلي إلى الحسن فقال: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر؟ فقال: أوفي شك صاحبك؟ نعم والله الذي لا إله إلا هو استخلفه، لهو كان أتقى لله من أن يتوثب عليها] . قد تقدم القول الأول أن خلافة أبي بكر رضي الله عنه كانت بالنص، وهذا قول ثان أنها بالإشارة، فهما قولان للعلماء: فالذين قالوا: إنها بالنص، استدلوا بقوله: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) فإن هذا نص على أن أبا بكر بعده، واستدلوا أيضاً بقوله للمرأة التي قالت: (أرأيت إن أتيت فلم أجدك؟ فقال: ائتي أبا بكر) فإن هذا نص أنه هو الذي يتولى الولاية بعده، واستدلوا بأنه أمره بأن يؤم الجماعة وأن يصلي بهم، وهذا نص بأنه هو الذي يكون إماماً متبعاً إذا اتبعوه في الصلاة، ولهذا قالوا: رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا. أي: من قدمه لديننا إماماً، إلى آخر الأدلة التي سبقت. هذا القول الأول. أما القول الثاني: وهو أنه لم يستخلف، وإنما أشار إشارات، فيقولون: إن عمر رضي الله عنه قال: (إن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني) يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فهذا عمر شهد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، فنقول: لم يستخلف بالنص؛ لأنه لم يقل: أيها الناس! بايعوا أبا بكر فهو خليفتي عليكم، لكن قد عزم على أن يكتب له كتاباً وقال لـ عائشة: (ادعي لي أخاك وأباك أكتب كتاباً حتى لا يختلفوا عليه) ثم إنه ترك الكتاب وقال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) فلم يقل: خليفتي أبو بكر مقالاً صريحاً، ولم يقل: بايعوه بعدي قولاً صريحاً، إنما هي أقوال عامة فيها نوع من الإشارة، ومجموع تلك الإشارات يصبح دليلاً صريحاً واضحاً لا خلاف فيه. كذلك أيضاً سمعنا كلام الحسن لما قيل له: هل استخلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر؟ فقال: هو أورع من أن يتوثب عليها، يعني: ليس بمحب للولاية ولا راغباً فيها، ولكن لما اجتمعت عليه كلمة المسلمين، ولما جاءت هذه الإشارات من النبي عليه الصلاة والسلام باستخلافه؛ قبلها، وإلا فهو ورع وزاهد وخائف لا يمكن أن يقبلها بدون أن يكون أهلاً لها، وبدون أن يرضاه لها أهل الولاية وأهل الحل والعقد من الصحابة، هذا معنى قوله: يتوثب عليها. فبلا شك أنه صلى الله عليه وسلم أشار هذه الإشارات التي تدل على أن أبا بكر أحق بالخلافة، ثم لما اجتمعت عليه الإشارات وكانت واضحة رأى عمر رضي الله عنه أنه أحق بالخلافة؛ فبايعه وبايعه الصحابة كلهم. وخلاصة ما جرى في أول يوم من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل بيعة أبي بكر: أن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وكادوا أن يبايعوا واحداً منهم وهو سعد بن عبادة، فلما سمع بهم عمر رضي الله عنه وأبو بكر وأبو عبيدة ذهبوا إليهم، ثم خطبهم أبو بكر رضي الله عنه وقال لهم: (الخلافة في قريش) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قالوا: (منا أمير ومنكم أمير) أي: نؤمر أميراً على الأنصار، وأميركم منكم يا معشر المهاجرين! فقال أبو بكر وعمر: (بل الإمارة في قريش) ثم قال أبو بكر: (نحن الأمراء وأنتم الوزراء) فلما أقنعوهم بكلام النبي صلى الله عليه وسلم وبإشارته تمت البيعة في نفس السقيفة، فبايعوه واجتمعوا عليه، ولم يتخلف منهم أحد، أما سعد بن عبادة رضي الله عنه فإنه لم يبايع في تلك الساعة رجاء أن يكون له حظ من الولاية، ولكنه بايع بعد ذلك بيعة مختار راضٍ، كذلك أيضاً علي رضي الله عنه قيل: إنه تأخر عن البيعة ثم بعد ذلك بايع، والصحيح أنه لم يتأخر، بل بايع باختياره وبطوعه وبما علمه من أهلية أبي بكر وأحقيته بهذه الخلافة. ثم حصل من خلافته رضي الله عنه من الأهلية ومن ضبط الأمور وإحكامها غاية الإحكام، فرأوا أن الله تعالى اختاره للمسلمين في ذلك الوقت الحرج الذي كانوا فيه أشد احتياجاً إلى خليفة قوي يقيم فيهم أمر الله تعالى، ويرتب أمورهم ترتيباً محكماً، فهذا ما يسره الله لهم في ذلك الوقت، وما أنعم به عليهم. إذاً: عرفنا بذلك أن خلافة أبي بكر وإن لم تكن نصاً فإنها بإشارات واضحة مجموعها يصبح نصاً قوياً. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 8 تقديم الصحابة لأبي بكر دليل على أحقيته بالخلافة قال الشارح رحمه الله: [وفي الجملة: فجميع من نقل عنه أنه طلب تولية غير أبي بكر لم يذكر حجة دينية شرعية، ولا ذكر أن غير أبي بكر أفضل منه، أو أحق بها، وإنما نشأ من حب قبيلته وقومه فقط، وهم كانوا يعلمون فضل أبي بكر رضي الله عنه، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ففي الصحيحين عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وعد رجالاً) . وفيهما أيضاً عن أبي الدرداء قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما صاحبكم فقد غامر، فسلم وقال: إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر! ثلاثاً، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم هو؟ فقالوا: لا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ (مرتين) ، فما أوذي بعدها) ومعنى غامر: غاضب وخاصم، ويضيق هذا المختصر عن ذكر فضائله. وفي الصحيحين أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح -فذكرت الحديث- إلى أن قالت: واجتمع الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليه أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني هيئت في نفسي كلاماً قد أعجبني خشيت ألا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس، وقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب وأعزهم أحساباً، فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح، فقال عمر: بل نبايعك، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس، فقال قائل: قتلتم سعداً! فقال عمر: قتله الله! والسنح: العالية، وهي حديقة من حدائق المدينة معروفة بها] . معلوم أن التقديم يدل على الفضل، والاختيار يدل على الأهلية، فهم ما قدموا أبا بكر إلا لفضيلته، ولا اختاروه خليفة إلا لأهليته وكفاءته، وكونه كفئاً لهذه الولاية؛ لذلك أجمعوا عليه، وقد نزه الله الأمة أن تجتمع على ضلالة، وقد ذكر العلماء في كتب الأصول الفقهية أن إجماع الأمة حجة قاطعة، والرافضة يعترفون أن الإجماع حجة، ولكنهم هاهنا خالفوا معتقدهم، فنقول لهم: من الذي خالف في بيعة أبي بكر؟ سموا لنا شخصاً لم يرض بهذه البيعة فيما بعد؟ علي رضي الله عنه -الذي هو الإمام عندكم- قد بايعه، وجاهد معه، وصار مستشاراً له، وصار قريناً له في كل حاله وتدبيراته، يرجع كل منهما إلى قول الآخر، ولم ينقل عنه أنه سخط بيعته ولا أنكرها، فهو من جملة من بايع، وأما سعد بن عبادة الأنصاري فقد كان تهيأ لأجل أن يكون أميراً على الأنصار، ولكن لما تمت البيعة لـ أبي بكر رضي الله عنه قام بعد ذلك وبايع، وبقي كسائر المقتدين بـ أبي بكر، فبقي كآحاد الرعية. مثل هذه الأحاديث دليل على فضيلة أبي بكر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويقدمه، فهذا عمرو بن العاص من أكابر قريش وأهل الفضل فيهم لما عينه النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على سرية ذات السلاسل، قبل أن يخرج جاء إليه وقال: أي الناس أحب إليك؟ من الناس كلهم، فأخبره بأنه يحب عائشة؛ وذلك لفضيلتها ولفضيلة أبيها، فسأله عن أحب الرجال إليه، فقال: (أبوها) وهذا بلا شك دليل على تقديمه في المحبة، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويقدمه فإن ذلك دليل على فضيلته وأهليته، وبعده ذكر عمر وسمى بعده رجالاً، ولا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم ما حصلت إلا لكونه أهلاً لأن يكون محبوباً كما ذكر في الأحاديث الأخرى. وفي الحديث الثاني أنه صلى الله عليه وسلم قال: (هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ إني قلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بماله ونفسه) هكذا شهد له النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه أول من أسلم من الرجال، هذا هو القول الصحيح. يقول أبو الخطاب في عقيدته المشهورة، وهو عالم من علماء الحنابلة، يقال له: محفوظ بن أحمد الكلوذاني له عقيدة في نظم عقيدة أهل السنة يقول فيها: قالوا فمن بعد النبي خليفة قلت الموحد قبل كل موحد حاميه في يوم العريش ومن له في الغار مسعد يا له من مسعد فشهد بأنه الموحد قبل كل موحد؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما دعاه لم يتلعثم ولم يتوقف، بل بمجرد ما عرض عليه الإسلام بايع ولم ينتظر، ولم يقل: أمهلني، ولا سأنظر في أمري، وكان رجلاً كاملاً من بين الرجال، فلذلك هو أول من أسلم من الرجال، فلما قال الناس: كذبت، قال أبو بكر: صدقت، أنت الصادق؛ فلذلك سمي بالصديق. وفي حديث السقيفة أنه لما سمع باجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة جاء ومعه عمر وأبو عبيدة؛ فخطبهم وقال: (نحن الأمراء وأنتم الوزراء) لما طلبوا أن يكون منهم أمير، فقال: لكم الوزارة ولكم الإشارة، أما الإمارة ففي قريش؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذلك بقوله: (إن هذا الأمر في قريش) يعني: الولاية، فرضوا بذلك، ولما قال: بايعوا أبا عبيدة أو عمر، يقول عمر: إنه لم يقل كلمة تؤلمني إلا هذه الكلمة، ما كنت أحب أن أكون والياً على قوم فيهم أبو بكر، لما هو فيه من الأهلية، فقد قدموه لصحبته، وقدموه لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم له، وقدموه لقربه منه، ولكونه صهره، وقدموه لكونه صاحبه في السفر، وصاحبه في الغار، وغير ذلك من الفضائل، وقدموه أيضاً لفضائله التي نص عليها الله سبحانه في كتابه، كما في قول الله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، وكذلك أنزل فيه قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17-21] ، وغير ذلك من فضائله الكثيرة، ومن أراد أن يتوسع في ذكر فضائله فليرجع إلى ترجمته وإلى ما كتب عنه العلماء، ومن أهمها وأشهرها كتاب (فضائل الصحابة) للإمام أحمد، وقد اشتمل على فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 9 شرح العقيدة الطحاوية [85] عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام وأبي بكر الصديق، وهو ثاني الخلفاء الراشدين، وفضائله كثيرة، ومناقبه عظيمة، وهذه عقيدة أهل السنة فيه، وقد صح عن علي بن أبي طالب ما هو مطابق لها. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 1 اعتراف المسلمين بفضل الصحابة وبخاصة الخلفاء الراشدين يعترف المسلمون بفضل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حفظوا على الأمة دينها، ولأنهم ورثوا نبي الأمة وبلغوا شريعته ودينه، ودعوا إلى ما دعا إليه، ونشروا الإسلام بعده، وجاهدوا في سبيل الله، وأطاعوا شريعة الله، ونفذوا حدوده، فالنبي بلغهم الرسالة التي أرسل بها، وهم قاموا بتبليغها لمن بعدهم، ودعوا إليها قاصي البلاد ودانيها، فكانوا بذلك ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن ميراثهم هو أشرف ميراث، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) هذا العلم الذي هو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم من الذي تحمله عنه؟ أليس هم الصحابة، وبالأخص الخلفاء الراشدون؟ من الذين بلغه بعده؟ إنهم صحابته، إنهم الذين بلغوه وعلموه الأمة، أليسوا هم قادة الأمة وسادتها؟ نعترف لهم بالفضل، ثم نعترف للخلفاء الراشدين بالأقدمية؛ لأنهم أفضل الأمة بعد نبيها، ونعترف لهم بأنهم أهل الولاية والخلافة والإمامة التي قاموا بها أتم قيام، فأجمعوا بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم على تقديم الخليفة الأول الراشد أبي بكر رضي الله عنه، ورأوه أهلاً للخلافة كما رآه نبيهم صلى الله عليه وسلم أهلاً للإمامة، كذلك أيضاً رأوه سباقاً إلى الخير، ورأوه عاملاً بالأعمال الصالحة، ورأوه أهلاً للخلافة لحنكته وحذقه وقوة تفكيره ومعرفته وذكائه وصحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وطول ملازمته، فلم يروا بداً من أن يبايعوه خليفة عليهم وإماماً وقائداً لهم، فكان ذلك عين المصلحة، فثبته الله في وقت اشتدت فيه الغربة، إذ إنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ارتد العرب عن الإسلام إلا ما شاء الله، وما بقي إلا أهل المدينة ومن حولهم، وهم الأعراب أن يغيروا على المدينة وأن يسلبوهم ما هم فيه، وأن يقتلوهم ويستأصلوهم، ولكن ثبت الله أبا بكر وربط على قلبه؛ فقابل أولئك الأعراب بقوة، وهزمهم شر هزيمة، ثم توالت الانتصارات على أيدي جيوشه الذين دفعهم لقتال المرتدين، فرجع العرب -في ظرف نصف سنة أو عدة أشهر- إلى الإسلام بعدما كانوا خرجوا عنه. حتى قال قائلهم: أتانا رسول الله مذ كان بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكر يعني: ما لنا ولطاعته؟ إنما طاعتنا للرسول حين كان بيننا! ولكن لما استخلفه الله على المسلمين كان ذلك عين المصلحة التي أيد الله بها الإسلام في ذلك الوقت العصيب، والظروف الشديدة، وقد سار فيهم السيرة الحسنة، وخلف النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يفعله، فلم يترك شيئاً كان يفعله النبي إلا فعله؛ كتوزيعه للأموال وللغنائم، وتقسيمه لخمس الخمس، وإعطائه لمن كان يعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم من سهم ذوي القربى، وتوزيعه للصدقات، لم يأل جهداً أن يفعل كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لما لم يعط فاطمة -كما زعموا- ميراثها من أبيها نقمت عليه الروافض، وطعنوا في خلافته، وطعنوا في إمامته، وصاروا يسبونه ويشتمونه زعماً منهم أنه خان الأمانة، وأنه خالف ما جاء من سيرة من قبله، وحاشاه من ذلك! معلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يخلف تركة، فقد ثبت عنه أنه قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) يعني: لم نترك شيئاً إلا أن يكون صدقة، وثبت أيضاً عن الحارث بن أبي ضرار أنه قال: (ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا بغلته وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة) فهذه شهادة من هذا الرجل الذي ليس من قريش بل من بني المصطلق، وهو أخو إحدى أمهات المؤمنين، وهي جويرية أم المؤمنين، ومع ذلك أخبر بهذا الخبر فدل على أنه عليه السلام لم يكن وراءه تركة حتى يقول الرافضة: إن أبا بكر لم يعط فاطمة حقها، ما أعظم فريتهم! فهل هذا لشدة محبتهم لـ فاطمة؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم أشد حباً لـ فاطمة منهم، فهي بضعة منه، ولو كان يعطيها لأعطاها في حياته لما جاءته تشتكي من العمل، وذكرت أن الرحى أثر في يديها، وتعبت من العمل، فطلبت منه أمة من السبي تخدمها، لكنه لم يعطها شيئاً من ذلك، بل باع ذلك السبي ووزع ثمنه على المستضعفين من أهل الصفة وغيرهم، وأرشدها وأرشد زوجها إلى التسبيح والتكبير والتحميد عند النوم وقال: (هو خير لكما من خادم) فكيف يزعم هؤلاء الرافضة أنهم يغارون لـ فاطمة والنبي عليه الصلاة والسلام يحرمها ولا يعطيها؟ كذلك أيضاً هو صلى الله عليه وسلم يقول لها: (سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً) ولو كان عنده مال لأخذت منه في حياته، فكيف مع ذلك يقولون: إنه منعها من ميراثها، ومعلوم أيضاً أن الأنبياء لا يورثون، إلا أن الرافضة يتمسكون بآيات فيها شيء من ذكر الميراث، مثل قول الله تعالى في سورة النمل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد} [النمل:16] ، ويقولون: هذا دليل على أن الأنبياء يورثون، عجباً لهم! الآية إنما فيها ذكر إرث النبوة، بمعنى أنه ورثه في ملكه، فكان ملكاً بعده، وكان نبياً بعده، ومعلوم أن داود كان له كثير من النساء، وكذلك كان له الكثير من الأولاد، فكيف خص داود سليمان بالإرث؟ فالإرث هنا إنما هو إرث الملك، كذلك يستدلون بقول الله تعالى في سورة مريم في قصة زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:5-6] ، فيقولون: هذا دليل على أن زكريا طلب ولداً حتى يرثه، الله أكبر! كأن المال أكبر هم الأنبياء، لا والله! إنما أراد يرثني في النبوة والعلم، أي: يرث ما عندي من العلم، ويرث العلم الذي خلفه آل يعقوب، ويعقوب عليه السلام هو إسرائيل، أما أن يهتم بمن يرث ماله فحاشاه، ليست الدنيا أكبر همه حتى يطلب ولداً لأجل أن يأخذ المال الذي بعده، من الذي أعلمكم أن زكريا كان ذا أموال حتى يطلب ولداً ليأخذها؟ فهكذا ينقبون عن مثل هذه الآيات ليطعنوا في أبي بكر، ويدعون أنه حرمها من الميراث؛ فلأجل ذلك يكفرونه، ويضللونه، ويزعمون أنه خان الأمانة، وأنه خالف سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقم بما قام به، وأنه بخس فاطمة حقها، وبخس علياً حقه، وأن علياً هو الإمام؛ لأنه هو الوصي، وغير ذلك من أكاذيبهم. والصحابة ما اختاروا إلا من هو أفضلهم، ومن هو أهل للولاية، وقد مرت بنا أحاديث تدل على فضله، وأحاديث تدل على أولويته وأحقيته بالولاية وبالخلافة والإمارة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 2 تقديم السلف لعمر على سائر الصحابة بعد أبي بكر قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قوله: (ثم لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه) . أي: ونثبت الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه لـ عمر رضي الله عنه، وذلك بتفويض أبي بكر الخلافة إليه، واتفاق الأمة من بعده عليه، وفضائله رضي الله عنه أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تنكر، فقد روي عن محمد ابن الحنفية أنه قال: قلت لأبي: (يا أبت! من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بني! أو ما تعرف؟! قلت: لا، قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول: ثم عثمان، فقلت: ثم أنت، فقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين) وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) ، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي، فالتفت إليه فإذا هو علي، فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ وذلك أني كنت أكثر ما أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله معهما) ، وتقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه في رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزعه من القليب، ثم نزع أبو بكر ثم استحالت الدلو غرباً فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن، وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يكلمنه عالية أصواتهن) الحديث وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إيه يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده؛ ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك) وفي الصحيحين أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم) قال ابن وهب تفسير (محدثون) أي: ملهمون] . الجزء: 85 ¦ الصفحة: 3 استخلاف أبي بكر لعمر دليل على أحقيته بالخلافة اتفق الصحابة رضي الله عنهم على مبايعة عمر، وهو عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي القرشي رضي الله عنه، الخليفة الثاني، فلما أن مرض أبو بكر وأحس بقرب الوفاة دعا عمر وقال: (أنت الخليفة بعدي، أوليك بعدي هذه الولاية) فأرشد الناس إلى مبايعته، وعهد إليه بالخلافة، فلم يختلف عليه اثنان، بل أجمعوا على مبايعته، وأجمعوا على أهليته، ولم يخالف منهم أحد، فتمت له البيعة، وتم أمره. وفي ولايته رضي الله عنه اجتهد في توسعة رقعة الإسلام، حيث أنفذ الجيوش وأرسلهم إلى أطراف البلاد، ففتحت بلاد الشام في عهده، وكذلك بلاد العراق ومصر وأفريقيا وخراسان، واتسعت الفتوحات وكثرت في زمانه، ووقعت في عهده وقائع كثيرة، وفتوحات كثيرة، كوقعة اليرموك، ووقعة القادسية، ووقعة نهاوند وغيرها من الوقائع المشهورة التي أعز الله فيها الإسلام والمسلمين، وانتصر فيها أولياء الله على أعدائه، وكل ذلك بتوفيق من الله تعالى ثم بتحريض من عمر وتوصية منه بولاته، ولم يقف الأمر عند وصيته لهم بل سار بنفسه حتى وقف على كثير من البلاد، ففتح بيت المقدس التي هي (إيلياء) وتسمى بلغتهم (أورشليم) ، هذا البلد المعروف الذي هو من أقدس البلاد لم يفتح إلا بعدما غزاه بنفسه، ووقف عليه وحاصره، فعند ذلك فتحوا له الأبواب، ودخل المسجد الأقصى وأسس فيه ما أسس. وبكل حال فهو ثاني الخلفاء الراشدين، وقد وفق الله أبا بكر لتوليته، فكانت توليته عين المصلحة، ووافق على ذلك المسلمون، وترضى عنه أهل السنة، واعترفوا بأفضليته وبقوته وبصرامته وبشهامته وحنكته وسيرته الحسنة التي ضرب بها المثل في عدله وفي تواضعه وفي منهجه وفي سلوكه. لا شك أن هذا من توفيق الله تعالى للأمة، حيث ظهر الإسلام وانتصر وتمكن وفشا في البلاد، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وذل للإسلام أعداؤه من اليهود والنصارى، وأعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ومكن الله للمسلمين في بلادهم، وحقق الله لهم وعده في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] ، فحقق ذلك كله في عهد الخلفاء رضي الله عنهم، وبالأخص في عهد أبي بكر ثم عمر. ولا شك أن اختيار أبي بكر لـ عمر له مستند، فهو الذي قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وعرف إشاراته، وعرف محبته له، وسمع منه ما يدل على أفضلية عمر وعلى أهليته، وقد وردت إشارات نبوية إلى خلافتهما، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ولا شك أن عمر منهم، وتقدم قوله: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) فسماه مع من قبله باسمه الصريح، وأمر بالاقتداء به؛ وذلك أنه أهل للاقتداء، كما أنه أهل لحمل السنة، فقد حمل من الشريعة ما حمل، وفي عهده رضي الله عنه كثرت المسائل الواقعية فأفتى فيها بما قبله منه أهل السنة؛ ولأجل ذلك يعرف فقهه وفهمه وفتاواه، لكثرة ما نقل وما وقع له. ومن الإشارات التي تدل على أنه الخليفة بعد أبي بكر قوله صلى الله عليه وسلم: (رأيتني على قليب أنزع منها -يعني بالدلو- ما شاء الله، فأخذها أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت غرباً، فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه حتى روي الناس وضربوا بعطن) فأشار إلى خلافة أبي بكر وأنها قليلة، حيث لم ينزع إلا ذنوباً أو ذنوبين، يعني: دلوين، أما عمر فجعل ينزع بهذه الدلو مع كونها استحالت غرباً، والغرب هو الدلو الكبيرة التي ينضح عليها قديماً، ومع ذلك أخذ ينزع حتى روي الناس وضربوا بعطن، إشارة إلى طول خلافته، وإشارة إلى امتداد الخلافة في عهده، وامتداد الإسلام والدولة في عهده، وانتشار الإسلام في زمانه، والانتصارات التي حصلت بواسطة تدبيراته وسيرته. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 4 موقف آل البيت من أبي بكر وعمر ومخالفة الرافضة لهم في ذلك يعترف جميع أهل السنة بأفضلية عمر، ومن أهل السنة علي بن أبي طالب الذي تعظمه الشيعة، وترفع من قدره، وتعلي شأنه، وتغلو فيه الغلو الزائد، ومنهم من يدعوه من دون الله، فيزعمون أنه عدو لهؤلاء الخلفاء، وأنهم أعداء له، وأن من والى علياً فلابد أن يعادي أبا بكر وعمر فإنهما ضدان، ويقولون: لا ولاء إلا ببراء، بمعنى أنك إذا واليت علياً فتبرأ من أبي بكر وعمر؛ لأنه لا يمكن أن توالي هذا وهذا في آن، فإنهما ضدان مفترقان، فنقول: كذبتم، بل هما صاحبان، بل هما أخوان، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية الصحابة كلهم إخوة، وعلي واحد منهم، يحبهم ويحبونه، ويصلي خلفهم ويتولى ولايتهم, ويأخذ أعطياتهم، ويجالسهم، ويؤانسهم، ويكلمهم، ويصحبهم، ولم يظهر لهم عداوة، ولم يقاطعهم، ولم يهجرهم، ولكنكم أنتم -أيها الشيعة- نكست فطركم، وتغيرت أفهامكم، ورأيتم الحق باطلاً والباطل حقاً، وصوبتم ما كان خطأً، وزعمتم عداوة بين الصحابة لم تكن، وإنما العداوة والبغضاء منكم، فأنتم أهل الحقد وأهل البغضاء، كيف تجعلون بين الصحابة بغضاء وهي لم تحصل ولم تكن؟ ما هي العلامات التي تدل على أنها حصلت بينهم؟ يذكر العلماء أن الآثار شبه متواترة عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول على المنبر (أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر) فيعترف بذلك ويصرح به على المنبر، سبحان الله! أين صرفت عقول هؤلاء الرافضة من هذا الأثر الذي يعتبر مشهوراً غاية الشهرة؟! ومع ذلك يخالفونه، فيكفرون ويشتمون ويسبون هذين الخليفتين اللذين يعترف إمامهم وقدوتهم -في زعمهم- بفضلهما. وهذا ولده محمد ابن الحنفية وهو أيضاً ممن يغلون فيه؛ لأنه من أولاد علي، ولكن ليس كغلوهم في الحسن والحسين، فيسأل ابن الحنفية أباه ويقول: يا أبت! من أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقول مستغرباً: يا بني! أما تعرف؟! فيقول: لا، فيقول: أبو بكر، فيعترف علي بأن أفضل الأمة هو أبو بكر، ولفضله اتخذ والياً وخليفة عليهم، ولفضله سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يسأله: ثم من أفضل بعد أبي بكر؟ فيقول: عمر، وعلى هذا فـ عمر رضي الله عنه هو ثانيه في الخلافة، وهو ثانيه أيضاً في الفضل، يقول محمد بن الحنيفة: قلت: ثم أنت يا أبتي! خشي أن يقول: ثم عثمان، وأحب أن يكون أبوه له الفضل، ولكن علياً رضي الله عنه تواضع غاية التواضع، وقال: ما أنا إلا واحد من أفراد المسلمين أو كما قال، مع أن له الفضل، وقد اختلف العلماء من أهل السنة في تفضيل عثمان وعلي، والخلاف في ذلك ليس مخرجاً من الملة ولا يضلل به. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 5 الأدلة العقلية والنقلية على أحقية عمر بالخلافة فضائل عمر رضي الله عنه أكثر من أن تحصر، وقد أفردت بالتأليف قديماً وحديثاً، فـ ابن كثير رحمه الله صاحب التاريخ ذكر أنه كتب في فضل أبي بكر وعمر كتاباً أتى في ثلاثة مجلدات. وأفرد بعضهم عمر بالتأليف، وأشهر من كتب فيه ابن الجوزي (مناقب عمر) وهي رسالة مشهورة مبوبة منتشرة، ذكر فيها أبواباً تدل على حنكة عمر وفضله، وذكر فيها فضائله وأحواله، وذكر فيها ما بشره به النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك. وقد تقدم أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه، وفي حديث أبي موسى لما كان بواب النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام، يقول: فجاء رجل فأراد أن يدخل فقلت: من أنت قال: أبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عمر فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه) . كذلك أيضاً من فضائله ما جاء في الحديث الذي أشار إليه الشارح رحمه الله، وفيه أن عمر رضي الله عنه طرق باب النبي صلى الله عليه وسلم وعنده نساء قد رفعن أصواتهن، فلما سمعن صوت عمر ابتدرن الحجاب، وألقين الستر بينهن وبينه، ودخل والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك، فأخبره بأنهن كن رافعات أصواتهن، فلما دخل عمر احتجبن عنه وتسترن، فقال عمر: أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك) والفج هو: الطريق، بمعنى: أن الشيطان إذا لقيه في طريق هرب منه وذهب إلى طريق آخر، وما ذاك إلا لصرامته بحيث إن الشيطان يهرب منه! كذلك شهد النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه من المحدثين، يعني: من الملهمين، يقول: (إنه كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في هذه الأمة فإنه عمر -أو فإن منهم عمر -) ولأجل ذلك يكثر موافقته للسنة وموافقته للقرآن، يقول رضي الله عنه: (وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله! لو حجبت نساءك فإنه يدخل عليهن البر والفاجر؟ فأنزل الله قوله تعالى {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب} [الأحزاب:53] ) بمعنى: أنه أشار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقين محجبات في البيوت، ولا يخرجن إلا لحاجة ضرورية، فنزل القرآن موافقاً له، يقول: والمرة الثانية قلت له: (لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت الآية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] ) والمرة الثالثة يقول: (إنه قال لزوجات النبي صلى عليه وسلم لما اجتمعن في الغيرة عليه: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت الآية موافقة لما قاله) . كذلك أيضاً في قصة أسارى بدر لما أشار بقتلهم، والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر اختارا أن يمكنوا من الفدية، فجاء حكم الله موافقاً لقول عمر، حيث قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْض} [الأنفال:67] إلى آخر الآيات، فذلك دليل على أنه رضي الله عنه كان من المحدثين الملهمين. ومن أشهر فضائله أنه دفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وذلك دليل على اعتراف الصحابة بفضله، حتى قال بعض العلماء في أبي بكر وعمر: إن منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته، فهما قريناه في حياته، وكذلك بعد مماته جعلا معه في طرف الحجرة النبوية، أوليس ذلك دليلاً على أفضليتهما، وأنهما صاحباه وحبيباه والمقربان إليه؟ وقد شهد بذلك علي رضي الله عنه في الحديث الذي سبق حين مات عمر رضي الله عنه، حيث قال: (ما تركت أحداً كنت أتمنى أن ألقى الله بمثل عمله إلا أنت) يقول: إنني لا أغبط أحداً وأرجو أن أكون مثله إلا أنت، أما البقية فأنا أقول: إني خير منهم، يعني: من كان بعد عمر رضي الله عنه، فـ علي رضي الله عنه يغبط عمر، ويقول: لا أحد أغبطه وأتمنى أن ألقى الله بمثل عمله سوى أنت يا عمر! يقوله بعد موته. ثم يشهد بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويحب أبا بكر، ومن آثار تلك المحبة أن جمعا معه في المكان الذي قبر فيه، يقول: كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً يقول: (جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر) يجعل ذلك من المبررات في أن يكون رضي الله عنه أهلاً لأن يجعل إلى جانب أبي بكر، وإلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما حصل، وعلى ذلك فنعترف بأنه هو الخليفة الراشد الذي امتدت خلافته بعد أبي بكر عشر سنين، وهو الذي ظهر من آثاره ومن فضائله الاقتداء التام بالنبي صلى الله عليه وسلم، وله أوليات كثيرة، فهو الذي أشار بجمع القرآن في عهد أبي بكر حين كثر القتل واستحر في القراء في وقعة اليمامة، حيث قتل فيها خمسمائة من حملة القرآن، فخشي رضي الله عنه أن يذهب شيء من القرآن، فأشار بأن يكتب في صحف، ووافقه أبو بكر على ذلك، فكتب في صحف حتى يحفظ ولا يضيع منه شيء، ووافقهما الصحابة على ذلك, كذلك هو الذي وضع التأريخ، واختار أن يكون تقييد التأريخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بعد الهجرة بدأ الإسلام يظهر وينتشر، فجعل التاريخ من أول الهجرة، وأجمعت الأمة بعده إلى يومنا هذا على التأريخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك هو الذي سن هذه الأوقاف، وهي الأرض المفتوحة عنوة، إذ إنه لما فتحت أرض مصر وأرض الشام وأرض العراق الزراعية جعلها وقفاً على بيت المال، فكانت تزرع وتعاد إلى بيت المال لتموله عند انقطاع الفتوحات ونحوها، وأقره على ذلك الصحابة ومن بعدهم، فلا شك أن ذلك دليل على معرفته بمهام الأمور ومستقبلها. وقد كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم جريئاً على إنكار ما رآه منكراً، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولكن الرافضة يتتبعون ما يظنون أن فيه شيئاً من العيب والقدح فيه، فيجمعون أكاذيب، ويجمعون وقائع لا مطعن فيها، ويجعلونها طعناً في خلافته، وطعناً في أهليته للخلافة بل في إيمانه، فيجعلونه مرتداً عن الإسلام أو نحو ذلك، وأكبر ما يطعنون به فيه أنه لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ائتوني بأوراق أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده) وكان ذلك في يوم الخميس، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد ثقل، عند ذلك قال عمر: (إنه صلى الله عليه وسلم قد شق عليه فلا تكلفوه، وعندكم كتاب الله) فعند ذلك قام الرافضة يقولون: إن علياً كان هو الخليفة، وإن أبا بكر ليس بخليفة، وإن عمر خاف أن يكتب النبي صلى الله عليه وسلم بالخلافة لـ علي فعند ذلك قال: لا تكتبوا، فحرم الكتابة ومنعها وتجرأ بقوله: عندنا كتاب الله، هذا مطعن يطعنون به في عمر رضي الله عنه، مع أنهم غائبون لم يحضروا ذلك الوقت, ولم يعرفوا الإشارات، ولم يعرفوا القرائن، وعمر رضي الله عنه عرف القرائن المختصة به، وكذلك علي رضي الله عنه كان حاضراً ولم يخطر بباله أنه يكتب له بالولاية، ولا أن عمر حرمه من الولاية أو من الخلافة، فأين في هذا إشارة ولو من بعيد إلى أنه حسد علياً فقال: لا تكتبوا، وعندنا كتاب الله؟ والدليل على ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه لما ذكر له أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب كتاباً قال: (من أراد أن يقرأ وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] إلى آخر الآيات الثلاث التي في كل واحدة منها {ِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] ، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152] ، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] . فالصحابة فهموا أن وصية النبي صلى الله عليه وسلم ليست هي وصية بولاية ولا بخلافة، ولكنها وصية بديانة وبأمانة ونحو ذلك، وليس فيها إشارة إلى خلافة علي ولا غير ذلك، بل قد تقدم في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (ادعي أباك وأخاك أكتب لهما كتاباً، ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) فهذا دليل على أنه لو كتب لولى أبا بكر الخلافة، فكيف يزعمون أن عمر هو الذي حال بين علي وبين الخلافة، فيوجهوا الطعن عليه؟ ولهم مطاعن عليه كثيرة لا تحصى، وينشرونها في كتبهم، وكذلك يجعلونها في خطبهم، وفيما يذيعونه فيما بينهم، ويرمونه بالفظائع والعظائم، والله حسبهم، ولكن ذلك لا يضره، بل يكتب أجره عند الله وافياً. فنعتقد أنه رضي الله عنه خليفة الأمة بعد أبي بكر، وأن له الفضل وله الميزة، فهو أفضل الأمة بعد أبي بكر، وهو خليفة الأمة بعد أبي بكر، وهو أحد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 6 شرح العقيدة الطحاوية [86] عثمان ذو النورين هو ثالث الخلفاء الراشدين، وقد ولي الخلافة بعد عمر رضي الله عنه الذي جعل الأمر من بعده شورى في ستة منهم عثمان، وفضائل عثمان كثيرة، ومناقبه عظيمة. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 1 ترتيب الخلفاء في الفضل كترتيبهم في الخلافة للعلماء في الخلفاء الراشدين مسألتان: المسألة الأولى: مسألة ترتيبهم في الخلافة، فإجماع الأمة الإسلامية خلافاً للرافضة على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر، ثم الخليفة بعد أبي بكر هو عمر، ثم الخليفة بعد عمر هو عثمان، ثم الخليفة بعد عثمان هو علي، وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون، ومن طعن في خلافة أحد منهم فهو أضل من حمار أهله. اتفق أهل السنة على أنهم الخلفاء على هذا الترتيب، إلا أن الرافضة زعموا أن أبا بكر مغتصب للخلافة وكذلك عمر وعثمان، وأنهم ليسوا خلفاء، ولا يستحقون الولاية ولا الخلافة، بل زادوا أن كفروهم وشتموهم، وأخرجوهم من الإسلام، وجعلوهم منافقين، وطبقوا عليهم الآيات التي في المنافقين، ولكن أهل السنة -والحمد لله- على عقيدة موحدة في الاعتراف بخلافة الخلفاء الراشدين. المسألة الثانية: مسألة ترتيبهم في الفضل، وقد تواتر عن علي رضي الله عنه -الذي تغلو فيه الرافضة- أنه قال: أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم بعد أبي بكر عمر ولم يختلف الصحابة في تفضيل أبي بكر ثم عمر، ولم يختلف أهل السنة في ذلك، فيقولون: أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ويروون ذلك مسنداً، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره، أي: يعترف بهذا الترتيب، وقد رجح أكثر أهل السنة أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ولكن وقع خلاف في الترجيح بين علي وعثمان، فقوم قدموا عثمان، وهو القول الصحيح، وقوم قدموا علياً، وهذه المسألة وهي: هل يقدم علي على عثمان أو يقدم علي على عثمان -يعني: في الفضل- مسألة اجتهادية، لا يضلل من قدم علياً، ولا يضلل من قدم عثمان، وأما تقديم الشيخين فلا خلاف في تقديمهما، ويضلل من قدم عليهما أحداً من الصحابة أو من غير الصحابة. وقد عرفنا خلافة أبي بكر وخلافة عمر، وأنها منصوصة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) ، وهذه إشارة واضحة إلى أنهما اللذان يليان الخلافة بعده، والواقع وقع كذلك، ولعل عهد أبي بكر إلى عمر كان اعتماداً على هذا الحديث، أو اعتماداً على الأهلية والكفاءة، وقد وافقه الصحابة على هذا التقديم؛ وذلك لأهلية عمر، ولكفاءته، ولما رأوا فيه من زهد في الدنيا، وتقشف، وعبادة لله تعالى واجتهاد، ولما رأوا فيه من حنكة وحذق، ومن حزم وقوة، ومن عقل ومتانة وإدراك وفهم قوي، فكان أهلاً لهذه الخلافة، وقد ظهر أثر هذه الصفات بعد أن تولى الخلافة التي امتدت عشر سنين، وكلها كانت جهاداً، يجاهد بنفسه، فقد خرج إلى الشام مرتين، ويجاهد بآرائه ونظره، ويجهز جيوشه، ويرسل إليهم التعليمات فيعملون بها، ويحثهم على الصبر فيصبروا، ويوجههم توجيهات سديدة، وكان من آثارها أن انتشر الإسلام، وانتصر المسلمون انتصاراً عديم النظير، ومكّن الله للمسلمين، ونصرهم وأيدهم وقواهم، وظهر أمر الله، ولو كره الكافرون. وكان من آثارها أن انتشر العلم؛ وذلك لأنه رضي الله عنه كان من أوعية العلم وحملته، وأرسل الدعاة إلى البلاد التي أسست في زمانه، والتي فتحت، وأرسل المعلمين، وأخذ يراسلهم ويكاتبهم، وعين القضاة والمرشدين؛ وكل ذلك لأجل أن يظهر دين الله، وأن ينتصر المسلمون على أعدائهم، وصدق الله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] . الجزء: 86 ¦ الصفحة: 2 عثمان رضي الله عنه قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ثم لـ عثمان رضي الله عنه: أي: ولنثبت الخلافة بعد عمر لـ عثمان رضي الله عنهما، وقد ساق البخاري رحمه الله قصة قتل عمر رضي الله عنه، وأمر الشورى والمبايعة لـ عثمان في صحيحه، فأحببت أن أسردها كما رواها بسنده: عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة، ووقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف فقال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمراً هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل، قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: لا، فقال عمر: لئن سلمني الله لأدعن أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً، قال: فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب، قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهم خللاً تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً وشمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنساً، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فأما ما يلي عمر، فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله! فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال: الصنع؟ قال: نعم، قال: قاتله الله! لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثرا العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقاً، قال: إن شئت فعلت؟ -أي: إن شئت قتلنا؟ - قال: كذبت بعدما تكلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم؟ فاحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس عليه، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جرحه، ثم أتى بلبن فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه، وجاء رجل شاب فقال: أبشر -يا أمير المؤمنين- ببشرى الله لك بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، فقال: وددت أن ذلك كفافاً لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا عليّ الغلام، قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك. يا عبد الله بن عمر انظر ما عليّ من الدين؟ فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه، قال: إن وفَّى له مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدِّ عني هذا المال، وانطلق إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين؛ فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فسلم واستأذن ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، قال: ما لديك؟ قال: الذي تحب -يا أمير المؤمنين- أذنت، قال: الحمد لله، ما كان شيء أهم إلي من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب. فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين. وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه، فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت داخلاً، فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين! استخلف قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن، قال: يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء -كهيئة التعزية له- فإن أصابت الإمارة سعداً فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم من أمِّر، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة، وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفي عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيراًً، فإنهم ردء للإسلام، وجباة الأموال، وغيظ العدو، وألا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم ويرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل مِن ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم. فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أدخلوه، فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه، فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، قال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم إلى نفسه؟ فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إليّ، والله علي ألا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن، ثم خلا بالآخر، فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق، قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه، فبايع له علي، وولج أهل الدار فبايعوه. وعن حميد بن عبد الرحمن أن المسور بن مخرمة أخبره أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا، قال لهم عبد الرحمن: لست بالذي أنافسكم عن هذه الإمرة، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم؟ فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن، فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم، مال الناس على عبد الرحمن، حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط، ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي، حتى إذا كانت تلك الليلة التي أصبحنا فيها فبايعنا عثمان، قال المسور بن مخرمة: طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل، فضرب الباب حتى استيقظت، فقال: أراك نائماً؟ فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكبير نوم، انطلق فادع لي الزبير وسعداً، فدعوتهما له فشاورهما، ثم دعاني فقال: ادع لي علياً، فدعوته فناجاه حتى أبهار الليل، ثم قام علي من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً، ثم قال: ادع لي عثمان، فدعوته، فناجاه حتى فرّق بينهما المؤذن بالصبح، فلما صلى الناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن، ثم قال: أما بعد: يا علي! إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بـ عثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً، فقال لـ عثمان: أبايعك على سنة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن، وبايعه الناس، والمهاجرون، والأنصار، وأمراء الأجناد والمسلمون. ومن فضائل عثمان رضي الله عنه الخاصة: كونه ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيته كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه، فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك؟ فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة) . وفي الصحيحين: (لما كان يوم بيعة الرضوان، وأن عثمان رضي الله عنه كان قد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان، فضرب بها على يده، فقال: هذه الجزء: 86 ¦ الصفحة: 3 عدل عمر رضي الله عنه وحرصه على ما ينفع المسلمين في آخر حياة عمر رضي الله عنه كان يتفقد أحوال أهل البلاد التي أسست في زمانه في العراق وفي الشام وفي غيرها، ولما فتحت تلك البلاد، وكان فيها أرض زراعية؛ رأى من المصلحة أن الأرض الزراعية تبقى موقوفة ولا تقسم بين المقاتلين، ولو كانوا هم الذين غنموها، بل تبقى وقفاً مورداً لبيت المال؛ وذلك لأنه استشعر أن المد سيتوقف، فإن مد بيت المال كان من خمس الغنائم ومن الفيء، ولكن قد يتوقف هذا الفيء وهذه الغنائم في وقت من الأوقات، فقد يتوقف الجهاد فيبقى بيت المال ليس له ما يمد به، فرأى أن تلك الأرض التي فتحت عنوة تكون وقفاً، فجعل الأراضي الزراعية التي في العراق مع كثرتها، والتي في الشام، والتي في مصر؛ كلها وقفاً، ليس لها مالك معين، ثم أمر بأن تؤجر على من يزرعها، ويؤدي أجرتها إلى بيت المال، فأجروها بقدر ما تطيقه، وسأل عن هذا بعض أمرائه كـ حذيفة رضي الله عنه -وكان هو ممن قدم من تلك البلاد- فقال: (لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق؟) أي: أجرتماها بأجرة زائدة عن قدر المستطاع، وعما تطيقه، فذكرا أنهما حملاها أمراً هي له مطيقة، يعني: أنهما أجراها بأجرة مناسبة ليس فيها جور، وكان رضي الله عنه يحب ألا يكون في مملكته ولا في الأمة الإسلامية من يناله ظلم أو ضيم، حتى ولو كان من الكفار؛ لأن أغلب الذين استأجروا تلك الأراضي للزراعة والحراثة غير مسلمين، ولكنهم عمال عارفون باستغلالها، فخشي أنهم ظلموا وحملوا ما لا يطيقون، ثم التزم بأنه إذا مد الله في حياته أن يفرق مالاً على المسلمين والمستضعفين في أقطار الأرض، وألا يترك أحداً ولو أرملة أو فقيراً يحتاج إلى أحد بعده، أي: يجعل لهم مدداً ويجعل لهم مالاً، وقد كان قد جعل رزقاً للصحابة لما فتحت عليه البلاد، وكثر وارد المال، فدون ديواناً، وجعل فيه إعاشة سنويةً لكل المسلمين من المهاجرين والأنصار ونحوهم من أهل المدينة والمجاهدين الأولين، فأحب أيضاً أن يصل ذلك إلى أهل البلاد الإسلامية: في الشام، ومصر، والعراق، واليمن، وخراسان، وما أشبه ذلك، ولكن اخترمته المنية قبل ذلك، فبعد أن قال هذه الكلمة التي التزم فيها، ما أتى عليه إلا أربع ليالٍ حتى قتل. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 4 قصة مقتل عمر رضي الله عنه الذي قتل عمر معروف مشهور، وهو غلام المغيرة، ويقال له: أبو لؤلؤة، وهو مجوسي غير مسلم، وكان صانعاً، يعني: كان له صناعة، يعمل الأرحاء، ويأخذ عليها أجراً معلوماً، وقد اتفق مع المغيرة على أن يؤدي إلى المغيرة كل يوم دراهم معدودة عن عمله، حيث قال له المغيرة: اعمل للناس بالأجرة، وأعطني كل يومٍ كذا وكذا درهماً، فكأنه تثاقل تلك الضريبة التي جعلها عليه المغيرة، فجاء إلى عمر، وقال له: أريد أن تشفع لي عند المغيرة حتى يخفف عني، ولكنه قال: أنت رجل صنّاع، وبيدك صنعة تعمل فيها، وهذه الأجرة التي ضربت عليك خفيفة، وليست ثقيلة، فغضب على عمر وقال: وسع عدله الأرض كلها إلا أنا، وفي بعض الروايات أنه قال له: أريد أن تصنع لنا رحى، فقال: لأصنعن لك رحىً يتحدث بها أهل المشرق والمغرب، ففطن عمر أنه أراد أن يقتله، ولكنه لم يأخذ حذره، وفي بعض الروايات أنه قال: يتوعدني العلج، أو يريد قتلي، فلما عزم على قتله صنع سكيناً ذات رأسين محددين، وسقاها سماً، ثم لما قام عمر رضي الله عنه لصلاة الصبح، وكان يسوّي الصفوف قبل أن يكبر، وكان إذا كبر أطال القراءة في الركعة الأولى، بحيث إنه تارة يقرأ في الركعة الأولى سورة يوسف أو سورة النحل، وهي أكثر من نصف الجزء، وقصده بذلك أن يجتمع الناس، وأن يدركوا الركعة الأولى، ولكنه ساعة ما كبر، ولم يبتدئ بعد بالقراءة، إذا هو يلتفت إلى من يليه ويقول: أكلني الكلب أو قتلني الكلب، ويعني بذلك هذا العلج الذي قتله، وقد طعنه ثلاثة طعنات في بطنه قطع بها أمعاءه، وبعد ذلك قام العلج في الناس يطعن فيهم، فطعن ثلاثة عشر من المصلين، مات منهم سبعة، ورآه بعض المصلين وهو يجول فيهم، فألقى عليه برنساً وضمه به، ووضعه على الأرض، ووطئ على ذلك البرنس، فعلم العجل أنه مقتول فقتل نفسه، ولما طعن عمر رضي الله عنه اجتذب عبد الرحمن فصلى بهم صلاة خفيفة، وكان الناس الذين حوله قد فطنوا أنه طعن لما سمعوا قوله: قتلني أو أكلني الكلب، وأما أهل الصفوف البعيدة وأطراف الصفوف فإنهم لم يشعروا بما حصل، لكنهم لما فقدوا صوت عمر، وسمعوا صوت عبد الرحمن، أخذوا يسبحون استنكاراً لما حصل، وبعدما صلوا صلاة خفيفة، سأل عمر رضي الله عنه ابن عباس: انظر من الذي قتلني؟ فجال ساعة ثم جاء وقال: غلام المغيرة، فقال: الصنع؟ -أي: الذي بيده صنعة-، قال: نعم. يعني: أنه مشهور بهذه الصنعة، ثم قال يخاطب ابن عباس: قد كنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج. والعلوج هم النصارى والمجوس، يعني: الكفرة الذين هم مماليك، وكان العباس له مماليك كثيرون، وغالبهم ليسوا بمسلمين، ولكنهم أسلموا بعدما ملكوا، ولكن ابن عباس يقول: إن شئت فعلنا؟ -يعني: قتلناهم- ولكن عمر يقول: بعدما دخلوا بلادكم، وتكلموا بكلامكم، وصلوا إلى قبلتكم، وحجوا بيتكم. يعني: قد فعلوا كما تفعلون، وكان يكره أن يأتي هؤلاء المماليك إلى هذه البلاد وهم على عاداتهم السيئة. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 5 جعل عمر الأمر شورى من بعده بعد أن انتهوا من الصلاة حمل عمر رضي الله عنه وجرحه يسيل، وكأن الناس لم يصابوا بمصيبة قبل هذه المصيبة؛ وذلك لأنها مصيبة عظيمة، وفاجعة كبيرة، قتل أمير المؤمنين الذي هو المثل الأعلى في العدل، فلما حملوه قال بعضهم: إنه لا بأس عليه، وإنه سوف يعيش، وآخرون يقولون: نخاف عليه من هذه الطعنات المسمومة، فلما سقوه نبيذاً -والنبيذ هو عصير التمر- خرج من الجرح، ولكنهم لم يتفطنوا له واعتقدوه دماً، فلما سقوه لبناً خرج اللبن من الجرح أبيض، فعلموا حينئذٍ أنه ميت، فقالوا له: استخلف، أي: اختر من يكون بعدك خليفة، فقد نزل بك أمر الله، وعرفوا بأنه ميت، فأشاروا عليه أن يختار للمسلمين خليفة بعده، ولكنه رضي الله عنه قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، يعني: أبا بكر، وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعين خليفة بعينه، ولكنه جعل الأمر شورى في ستة من الصحابة، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لعشرة من الصحابة بالجنة، ومنهم أبو عبيدة، ولكنه مات في خلافة عمر، ومنهم سعيد بن زيد، ولكنه قريب لـ عمر، فهو ابن ابن عمه، فلم يجعله من أهل الشورى لقرابته؛ مخافة المحاباة، وبقي ستة، وهم عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وطلحة وسعد، فهؤلاء هم الستة الذين جعلهم مستشارين، وجعل الخلافة شورى فيهم، وهم الذين يسمون أهل الشورى في ذلك الوقت. ولما عرف عمر رضي الله عنه أنه ميت أخذ يوصي الخليفة من بعده بهذه الوصايا: يوصيه بالمهاجرين، ويوصيه بالأنصار، ويوصيه بأهل القرى والمدن، ويوصيه بالأعراب، ويذكر ما لكلٍ منهم من المآثر، وما لكل منهم من الجهاد، ويوصيه بالسير الحسن، وعادة الناصحين المخلصين الوصية لمن بعدهم بالخير، وصية دينية، يقصد منها السير على نهج قويم، حتى تأمن البلاد في عهده، وحتى لا يخاف من جوره، وحتى لا يكون عليه اختلاف ولا خروج، ولا من ينكر عليه، وقد عمل الخليفة بعده بهذه الوصايا. وسمعنا: أنه جاءه ذلك الغلام الذي كان مسبلاً إزاره فشهد له بالخير، ولكن عمر لما رأى إزاره يصل إلى الأرض نصحه، ولو كان في تلك الحال، ولو كان في مرض الموت، فنصحه بأن يرفع إزاره، وقال له: إنه أتقى للرب، وأنقى للثوب، فهكذا كانت عادته رضي الله عنه يحب للمسلمين الخير، ولا يدخر عنهم وسعاً. وسمعنا كذلك قصة استئذانه أن يدفن مع صاحبيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فاستأذن من أمنا عائشة؛ لأن البيت مسكنها، وقد كانت تحب أن تكون في ذلك المكان مع زوجها وأبيها، ولكنها آثرت عمر رضي الله عنه لما جاءها الخبر بأنه قد طعن، فبقيت تبكي في بيتها، ولما دخلوا عليها وهي باكية، وذكروا لها ذلك لبت طلبه، ووافقت على ذلك، فدفن رضي الله عنه مع صاحبيه. وقد مر بنا قول علي رضي الله عنه لما دفن عمر مع أبي بكر: كنت كثيراً ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جئت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر) يعني: أنه كان يقرن بينهما دائماً، فكان ذلك دليلاً على أنهما سيقبران معه، وكذلك في حديث أبي موسى المشهور الذي فيه أنه قال: لأكونن بوّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم. لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في بستان، فجاء أبو بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قد جلس على قُفّ البئر، وكشف عن ساقيه، ودلى قدميه على شفير البئر، فدخل أبو بكر وهو كذلك، ثم جلس عن يمينه في ذلك الجانب، ثم جاء عمر رضي الله عنه، فجلس عن يساره، وامتلأ طرف البئر، ثم لما جاء عثمان وجدهم الثلاثة قد صفوا في أحد جوانب البئر، فقابلهم في جانب آخر، ودلى قدميه مثلهم مقابلاً لهم، يقول الراوي: فأولت ذلك قبورهم، النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر جعلت قبورهم متجاورة، وعثمان جعل قبره وحده، وقد حقق الله تعالى لـ عمر رضي الله عنه ما تمناه؛ ولأجل ذلك يقول بعض العلماء في أبي بكر وعمر: منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة كمنزلتهما منه بعد الممات، فإنهما كانا قرينيه وصاحبيه في حياته، لا يسافر إلا وهما وزيراه دائماً كانا معه، فقرنهما الله به بعد موتهما، فأصبحا قرينين له في حياته وبعد مماته. وسمعنا أن هؤلاء الستة الذين اختارهم عمر رضي الله عنه، وجعل الأمر فيهم، اجتمعوا وجعل كل منهم أمره إلى واحد، فجعل الزبير أمره إلى علي، وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن، وجعل طلحة أمره إلى عثمان، فأصبح الأمر إلى ثلاثة: عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وكأن عبد الرحمن هو الذي اهتم بهذا الأمر، واشتد عليه أن يمضي وقت ولم يتم للمسلمين اختيار خليفة لهم يقوم بأمرهم، فبقي ثلاث ليالٍ لا يهنأ بالنوم، لا ينام إلا قليلاً؛ من شدة اهتمامه بأمر المسلمين، وكلما جاء أو جلس مع واحد منهم أخذ يناجيه، ويتكلم معه، ويأخذ عليه العهد والميثاق إذا تم له الأمر أن يسير سيرة حسنة، وأن يتبع سيرة الخليفتين قبله، حتى توثق منهما بذلك، فرأى أن الناس يميلون إلى عثمان، وأن عثمان له تجربة، وله مكانة، وله أهلية، فأمره أن يبسط يده للمبايعة، فبايعه عبد الرحمن وبايعه علي، وتمت البيعة، ولم ينقل أن علياً توقف، ولا قال: أنا أحق بها منه، أو أنا ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، بل وافق على ذلك بما أُخذ عليه من العهد، ولا شك أن ذلك دليل على أنه رضي الله عنه لم يكن مخالفاً لما حصل، بل موافقاً له. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 6 فضائل عثمان رضي الله عنه تمت الخلافة لـ عثمان رضي الله عنه، وسار في الناس سيرة حسنة، وبقي خليفة اثنتي عشرة سنة إلى أن قتل سنة خمس وثلاثين رضي الله عنه. وله فضائل كثيرة، ولو لم يكن من فضائله إلا أنه هاجر الهجرتين: هاجر أولاً إلى الحبشة، ثم هاجر بعد ذلك إلى المدينة. ومن فضائله أنه يقال له: ذو النورين؛ لأنه تزوج أولاً رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ماتت سنة اثنتين من الهجرة زمن وقعة بدر، ثم زوجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنته الثانية أم كلثوم، ولكنها أيضاً ماتت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (لو كان لنا بنت ثالثة لزوجناها عثمان) ؛ ولذلك قيل له: ذو النورين، ويقال: لا أحد تزوج بنتي نبي إلا عثمان؛ ولذلك يقول فيه الكلوذاني: قالوا فثالثهم فقلت مجاوباً من بايع المختار عنه باليد صهر النبي على ابنتيه ومن حوى فضلين فضل تلاوة وتهجد أعني ابن عفان الشهيد ومن دعي في الناس ذو النورين صهر محمد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل في الحديبية، وصده المشركون عن دخول الحرم، وعن إكمال عمرته؛ أراد أن يبعث عمر إلى قريش، ولكن عمر خاف منهم؛ لكرامته وقوته، فأشار إليه أن يبعث عثمان؛ لكونه ذا قرابة منهم، فـ أبو سفيان قريبه، وهو سيد فيهم، فوقع الاختيار عليه، فبعثه، ولما بعثه قالوا له أهل مكة: نمكنك أن تطوف بالبيت، فقال: لا أطوف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يطف، ثم جاء خبر كاذب بأن عثمان قتل، فعند ذلك فزع النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (بايعوني) ، فبايعه الصحابة البيعة التي تسمى بيعة الرضوان، ولما تمت وجاء الخبر بأن عثمان حي، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى على يده اليسرى، وقال: (هذه لعثمان) أي: هذه بيعة عثمان، فكأنه بايع عن عثمان بنفسه؛ فلذلك يقال: إنه من أهل البيعة وإن لم يكن حضرها، بل البيعة ما حصلت إلا بسببه. ولا شك أن تزوجه ببنتي النبي صلى الله عليه وسلم مزية وأي مزية، وفضيلة كبيرة. وعثمان رضي الله عنه كان من أوائل الذين أسلموا؛ وذلك لأنه تزوج رقية قبل نزول الوحي بمدة، وكانت رقية قد خطبها أحد أبناء أعمامها أبي لهب، ولكن كرهته وكرهه النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي، ثم خطبها عثمان وتزوج بها؛ لما رؤي منه من الأهلية، ورزق منها أولاداً، وهاجر بها، ولما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم كان عثمان صهراً للنبي عليه الصلاة والسلام، وكان قد عرف صدقه، وعرف أهليته، فلم يتوقف أن أسلم، فهو من أوائل من أسلم، ولم يسلم لكونه صهراً للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن أبا العاص بن الربيع زوج زينب صهر للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يسلم إلا في سنة ثمان، بل تمسك بدينه، مع أن زوجته -وهي بنت النبي صلى الله عليه وسلم- أسلمت، لكن عثمان أسلم؛ لكونه اقتنع بصحة النبوة، ولأهلية النبي صلى الله عليه وسلم للنبوة، فأسلم وهاجر الهجرتين كما عرفنا، وله فضائل كثيرة رضي الله عنه، استحق بها أن يكون خليفة على المسلمين. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الطحاوية [87] علي رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين، وهو من أكثر الصحابة فضائل ومناقب، ولذلك كان حبه من الإيمان، وبغضه من النفاق كما صحت بذلك الأحاديث، ودعوى الرافضة في علي خرافة كدعوى النصارى في عيسى. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 1 عقيدة أهل السنة في الصحابة نحمد الله أن جعلنا من أهل السنة والجماعة الذين يعتقدون ما جاء عن الله، ويتقبلون ما جاء في كتاب الله، الذين هداهم الله وسددهم وأرشدهم، والذين يتمسكون بالنصوص وبالأدلة، ويعملون بالكتاب والسنة، ويكون مرجعهم إلى الأدلة القوية، الذين نزهوا معتقدهم عن البدع والمحدثات. ولا شك أن من أشد البدع الطعن في نقلة السنة وحملتها من الصحابة؛ وذلك لأنهم الواسطة بين الأمة وبين نبيها، وهم الذين تحملوا السنة والشريعة الإسلامية، وبلغوها لمن بعدهم، ولم يكتموا منها شيئاً، ولم يغيروا ولم يبدلوا، ولم يزيدوا ولم ينقصوا؛ فلهذا ففضلهم على الأمة كبير، وإحسانهم إليها عظيم، ولأجل ذلك اتفقت الأمة من أهل السنة على تزكيتهم وتعديلهم، وعلى إنكار قول من طعن أو بدّع أو شنّع فيهم، واتفق أهل السنة على أن الصحابة كلهم عدول، ويكفي في تعديل الراوي أن يكون من الصحابة، فإذا روي حديث وثبت أن راويه صحابي ولو كان مجهولاً قبلت روايته، وذلك دليل على أنهم عرفوا مكانة الصحابة وعدالتهم. والصحابة يتفاوتون في الفضل، وقد ذكر الله تعالى شيئاً من تفاوتهم بقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] ، فأخبر أن المتقدمين منهم الذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح أفضل من الذين لم يسلموا ولم ينفقوا ولم يقاتلوا إلا بعد الفتح، ولكن وعدهم جميعاً بالحسنى: (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) أي: الثواب الحسن والجنة، والجزاء الأوفى عند الله، وهذا ثناء كبير (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) ، ومن يدرك هذه الفضيلة؟ ومع كل هذا الثناء عليهم تسلط عليهم الأعداء من الرافضة، وسددوا سهام الطعن نحوهم، بل سلطوها على خيارهم وأفاضلهم وأشرفهم، وهم الخلفاء الراشدون، وقد تقدم شيء من سيرة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولا شك أنهم هم الخلفاء الراشدون الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، فإن أول من يدخل فيه خلفاؤه الذين تولوا الأمر من بعده، فأول من تولى بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون الذين أوصى النبي عليه الصلاة والسلام باتباعهم، والسير على منهاجهم، وهم ممن شهد لهم بالجنة شهادة عظيمة فقال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة بن عبيد الله في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وأبو عبيدة عامر بن الجراح في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة) ، فهؤلاء هم العشرة المشهود لهم بالجنة. وفي حديث أبي موسى لما كان بوّاب النبي صلى الله عليه وسلم في القصة التي مرت بنا يقول: فاستأذن أبو بكر، فقلت: على رسلك! فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا أبو بكر يستأذن، فقال: (ائذن له وبشره بالجنة، فجاء وجلس إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء عمر فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان، فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه) فبشره بالجنة، ولكن أخبره ببلوى، وهذه البلوى هي ما حصل عليه من الثوار الذين ثاروا عليه، وحاولوا خلعه، إلى أن انتهى الأمر بقتله رضي الله عنه. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 2 مناقب عثمان رضي الله عنه عثمان أحد الخلفاء الراشدين، وقد امتدت خلافته اثني عشر سنة، واتفق على خلافته الصحابة، ولم يشذ منهم أحد، فصار هو ثالث الخلفاء الراشدين، وله فضائل ومزايا رضي الله عنه، ولو لم يكن منها إلا أنه صهر النبي صلى الله عليه وسلم، زوجه ابنته الأولى رقية وماتت سنة اثنتين، ثم زوجه ابنته الثانية أم كلثوم وماتت أيضاً في سنة ثمان أو نحوها، وقال: (لو كان لنا ابنة ثالثة لزوجناها عثمان) ؛ ومن ثمّ عرف بذي النورين، أي: ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل ذلك مدحه الكلوذاني في عقيدته بقوله: قالوا فثالثهم فقلت مجاوباً من بايع المختار عنه باليد صهر النبي على ابنتيه ومن حوى فضلين فضل تلاوة وتهجد أعني ابن عفان الشهيد ومن دعي في الناس ذو النورين صهر محمد ومن فضائله: أنه الذي جمع القرآن بعدما افترق الناس فيه، وكادوا يقتتلون، فكتب القرآن ونسخه في المصاحف، وأرسلها إلى الناس حتى يقتصروا عليها، فاتفقت الأمة على الاقتصار على هذا المصحف، ويسمى المصحف العثماني، أو الرسم العثماني. ومن فضائله رضي الله عنه: أنه كان طوال ليله يتهجد ويصلي، حتى ذكروا أنه كان يختم القرآن في كل ليلة في تهجده، وذلك دليل على اهتمامه بالعبادة، يقول بعض الذين مدحوه: ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطِّع الليل تسبيحاً وقرآناً يقطِّع الليل يعني: يَقْطع الليل كله في التسبيح وفي القراءة، وعبّر بالتسبيح عن الصلاة. وكان رضي الله عنه تستحي منه الملائكة كما في الحديث الذي مر بنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مرة جالساً في حجرته، وقد أبدى ركبتيه وساقيه، فدخل أبو بكر وهو على تلك الحال، ثم دخل عمر وهو على تلك الحال، فلما دخل عثمان استوى جالساً، وستر ركبتيه وساقيه، فقيل له: لماذا جلست بعدما كنت على تلك الهيئة؟ فقال: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟) ، قيل: إنه كان حيياً، ولو رأى النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الحال لرجع ولم يجلس معه على تلك الهيئة؛ فلأجل ذلك استوى النبي عليه الصلاة والسلام جالساً، ولا شك أنه رضي الله عنه كان من أجلاء الصحابة وسابقيهم، وفي الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مرة على جبل أحد، فاهتز الجبل فقال: (اسكن أحد، فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد) ، وكان معه أبو بكر وعمر وعثمان، فجعل أبا بكر صديقاً، وعمر وعثمان شهيدين، وتحقق ذلك، فإن كلاً منهما قتل شهيداً، وهذه شهادة منه صلى الله عليه وسلم لـ عثمان بأنه من الشهداء، ولما قتل مظلوماً قيّض الله له من ينصره، وقد استنبط ابن عباس من قول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33] فقال: إن عثمان قتل مظلوماً، وإن أولياءه الذين يطالبون بدمه - وهم معاوية ومن معه- منصورون. وبكل حال فلا مجال للطعن فيه، ومن طعن في خلافته أو في عدالته فقد طعن في الإسلام، وفي حملة الإسلام. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 3 علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ثم لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه. أي: ونثبت الخلافة بعد عثمان لـ علي رضي الله عنهما، لما قتل عثمان وبايع الناس علياً؛ صار إماماً حقاً واجب الطاعة، وهو الخليفة في زمانه خلافة نبوة، كما دل عليه حديث سفينة المتقدم ذكره أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء) ، وكانت خلافة أبي بكر الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن ستة أشهر. وأول ملوك المسلمين معاوية، وهو خير ملوك المسلمين، لكنه إنما صار إماماً حقاً لما فوّض إليه الحسن بن علي رضي الله عنهما الخلافة، فإن الحسن رضي الله عنه بايعه أهل العراق بعد موت أبيه، ثم بعد ستة أشهر فوّض الأمر إلى معاوية؛ فظهر صدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) ، والقصة معروفة في موضعها. فالخلافة ثبتت لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد عثمان رضي الله عنه بمبايعة الصحابة سوى معاوية مع أهل الشام، والحق مع علي رضي الله عنه، فإن عثمان رضي الله عنه لما قتل كثر الكذب والافتراء على عثمان، وعلى من كان بالمدينة من أكابر الصحابة كـ علي وطلحة والزبير، وعظمت الشبهة عند من لم يعرف الحال، وقويت الشهوة في نفوس ذوي الأهواء والأغراض ممن بعدت داره من أهل الشام، ويحمي الله عثمان أن يظن به الأكابر ظنون سوء، ويبلغه عنهم أخبار منها ما هو كذب، ومنها ما هو محرف، ومنها ما لم يعرف وجهه، وانضم إلى ذلك أهواء أقوام يحبون العلو في الأرض، وكان في عسكر علي رضي الله عنه من أولئك الطغاة الخوارج الذين قتلوا عثمان من لم يعرف بعينه، ومن تنتصر له قبيلته، ومن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله، ورأى طلحة والزبير أنه إن لم ينتصر للشهيد المظلوم، ويقمع أهل الفساد والعدوان، وإلا استوجبوا غضب الله وعقابه، فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من علي ولا من طلحة والزبير، وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين. ثم جرت فتنة صفين لرأي، وهو أن أهل الشام لم يعدل عليهم، أو لا يتمكن من العدل عليهم، وهم كافون حتى يجتمع أمر الأمة، وأنهم يخافون طغيان من في العسكر كما طغوا على الشهيد المظلوم، وعلي رضي الله عنه هو الخليفة الراشد المهدي الذي تجب طاعته، ويجب أن يكون الناس مجتمعين عليه، فاعتقد أن الطاعة والجماعة الواجبتين عليهم تحصل بقتالهم بطلب الواجب عليهم بما اعتقد أنه يحصل به أداء الواجب، ولم يعتقد أن التأليف لهم كتأليف المؤلفة قلوبهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده مما يسوغ، فحمله ما رآه من أن الدين إقامة الحد عليهم، ومنعهم من الإثارة دون تأليفهم على القتال، وقعد عن القتال أكثر الأكابر؛ لما سمعوه من النصوص في الأمر بالقعود في الفتنة، ولما رأوه من الفتنة التي تربو مفسدتها على مصلحتها، ونقول في الجميع بالحسنى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ، والفتن التي كانت في أيامه قد صان الله عنها أيدينا، فنسأل الله أن يصون عنها ألسنتنا بمنه وكرمه. ومن فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ما في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ علي: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي) . وقال صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي علياً، فأتي به أرمد، فبصق في عينيه، ودفع الراية إليه) ، ففتح الله عليه، ولما نزلت هذه الآية: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران:61] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: (اللهم هؤلاء أهلي) ] . الجزء: 87 ¦ الصفحة: 4 فضائل علي رضي الله عنه الخليفة الرابع هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الذي تتولاه الرافضة، وتدعي أنه الخليفة الأول، وأن الخلفاء قبله مغتصبون، أما أهل السنة فيقولون: إنه آلت إليه الخلافة بعد قتل عثمان، فإن عثمان رضي الله عنه اتهم في آخر خلافته باتهامات لا أساس لها، وكان من نهايتها أن ثار عليه ثوّار كثير من العراق ومن مصر، واجتمعوا، وحاصروه إلى أن آل الأمر بقتله رضي الله عنه مظلوماً، ولما قتل لم يكن هناك أولى بالخلافة من علي، فهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قريبه، وهو صهره زوج ابنته، وهو أبو الحسنين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله فضائل كثيرة، حتى كان لا ينافس. وذكروا من فضائله أنه لما خالفه معاوية ولم يبايعه، واستقر معاوية في الشام، وعلي في العراق، كتب إليه معاوية كتاباً يذكر فيه فضائله، أنه كاتب الوحي، وأنه خال المؤمنين، أي: أخو أم المؤمنين التي هي أم حبيبة، وأنه الذي جاهد وفتح الفتوح، ونحو ذلك من فضائله، فذكر ابن كثير في تاريخه أن علياً رضي الله عنه قال: يفخر علي ابن فلانة، ثم أمر أن تكتب أبيات يذكر فيها فضائله يقول فيها: محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر الذي يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد زوجي وعرسي مسوق لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ولداي منها فأيكم له سهم كسهمي سبقتكم إلى الإسلام طراً صغيراً ما بلغت أوان حلمي ولا شك أن له فضائل صحيحة، ولكن الرافضة زادت، وجعلت له فضائل أكثر من هذا، حتى رفعوه عن طوره، وأعطوه ما لا يستحقه، ووصفوه بصفات أكبر من صفة النبوة، وجعلوا له مكانة تفضله على مكانة الخلفاء قبله، بل ورفعوه إلى مكانة النبوة! وأما أهل السنة فاعتدلوا فلم يصفوه إلا بالصفات التي وردت له، وبالفضائل الثابتة الصحيحة التي تميّز بها. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 5 خلافة علي رضي الله عنه رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن علياً أولى بالخلافة بعد مقتل عثمان، فتمت له البيعة، وكان ذلك في وقت الحج في سنة خمس وثلاثين من الهجرة، وكان الحجاج الذين بمكة قد غابوا عن فتنة قتل عثمان، ولما انتهوا من الحج، وأرادوا أن يقبلوا إلى المدينة، جاءهم الخبر أن الثوّار قد قتلوا عثمان، وكانوا يعرفون أفراداً من أولئك الثوّار من أهل العراق، فعزموا على أن يقاتلوهم، وقالوا: لا يقر لنا قرار حتى نقاتل قتلة المظلوم عثمان، وكان من أولئك الحجاج: طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعائشة رضي الله عنهم، فتوجهوا من مكة إلى العراق، ولم يأتوا إلى المدينة، ولم يبايعوا علياً فيمن بايعه، وهذا معناه أنهم قد شقوا العصا، وأنهم قد جعلوا في المسلمين خللاً، وكان يحب أن يأتوا إليه، ويبايعوه كما بايعه غيرهم، ثم بعد ذلك يسير معهم في قتال أولئك الثوّار، ولكن قضي الأمر، وتوجهوا من مكة إلى العراق، فلما سمع بأنهم توجهوا إلى العراق ساءه ذلك، وسار بمن معه في أثرهم ليردهم إلى الطاعة، وشق عليه أن يخالفوه، وأن يقع اختلاف في الأمة، وأحب أن تجتمع الأمة على إمام واحد، حتى يكونوا يداً واحدة على الثوّار، هكذا رأى رضي الله عنه، فتوجه إلى العراق ومعه جموع كثيرة من أهل المدينة الذين طاوعوه والذين بايعوه، فوصلوا إلى الكوفة، وتقابلوا هم وأهل الحج الذين جاءوا من مكة ومعهم عائشة، وكانت على جمل لها مشهور، فتقابلوا وكادوا أن يصطلحوا على أنهم في الصباح يمسكون بقواد القتلة ويقتلوهم، ولما باتوا على ذلك، ولم يبق إلا فعل ما قرروا في الصباح، كان قتلة عثمان أشرافاً وأكابر وسادة، ولهم شرف في قومهم، فقالوا: لا يمكن أن يقتل فلان ويقتل فلان ويقتل فلان، فكان من حيلتهم أن قالوا: إذا كان آخر الليل فقوموا وقاتلوا، فابدءوا بالقتال حتى تنشب الحرب، وحتى يختلف هؤلاء وهؤلاء، ففعلوا ذلك في آخر الليل، ولم يدروا من أثار الحرب، والذين أثاروها هم قتلة عثمان، فوقعت الواقعة، وجرت وقعة شنيعة كبيرة، قتل فيها عدة ألوف من المسلمين، منهم طلحة والزبير رضي الله عنهم، وأكثرهم أو كلهم إلا نادراً ليسوا من الصحابة، وما زالوا يقاتلون النهار كله، والسيف يعمل فيهم، وعائشة رضي الله عنها على جملها في وسطهم، وكان يأتي أصحابها الذين جاءوا معها ويمسكون الجمل بخطامه، وكل ما أمسكه أحد قطعت يده، ثم يجيء آخر فتقطع يده، حتى قطعت أكثر من عشرين يداً كانت تمسك بذلك الخطام، فرأى علي أن يعقر الجمل، فقال: اعقروا الجمل فإنهم يدورون حوله، فلما عقروا الجمل سقط الجمل وسقطت عائشة بهودجها، فعند ذلك أمر علي أن تحاز إلى رحل المسلمين، وبذلك انهزموا وانتهت الحرب وتوقفت بعد معركة شديدة، وسببها قتلة عثمان، وتمت البيعة منهم لـ علي، ولم يبق خلاف. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 6 خروج أهل الشام على علي مطالبين بدم عثمان بعد وقعة الجمل بقي أهل الشام بقيادة معاوية؛ وذلك لأن معاوية هو ابن عم عثمان، وقد أسف لقتله، وأسف أهل الشام، وصاروا يبكون بكاءً شديداً على ما سمعوا، وعلى ما نقل إليهم من الشناعة والبشاعة، وصاروا يجتمعون في المساجد، ويقسمون أن يأخذوا بثأر عثمان مهما حصل الأمر، فعند ذلك جمعوا جموعاً أكثر من مائة ألف، وتوجهوا قاصدين العراق؛ لأجل مقاتلة أولئك الثوّار، واجتمعوا في موضع يقال له: صفين، وجاء علي وأهل العراق في أكثر من مائة ألف، وجاء هؤلاء كذلك وتقابلوا، وأرادوا أن يصطلحوا فيما بينهم، ولكن لم يحصل الاتفاق، وقد اختاروا حكمين، واختلف الحكمان، ونشبت الحرب بينهم واستمرت أياماً، منها ليلة شديدة القتال تسمى ليلة الهرير، وبعدما كاد أهل العراق أن ينتصروا رفع أهل الشام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله، فعند ذلك تركوا القتال، بعدما قتل عشرات الألوف من هؤلاء ومن هؤلاء، فرجع أهل الشام إلى الشام وهو متقوون، ورجع أهل العراق إلى العراق وفيهم شيء من الاختلاف والفشل، وانفصلت منهم طائفة سموا بالخوارج، وقالوا لـ علي: أنت حكمت الرجال يعني: لما اختار حكماً من الرجال، وثاروا عليه، وهم الخوارج الذين قاتلهم علي في النهروان وقتلهم. والحاصل: أن علياً رضي الله عنه تمت بيعته، وكانت خلافته في العراق وفي الحجاز وفي خراسان وفي اليمن، وفي أكثر البلاد، ما عدا الشام ومصر والمغرب، فهذه كانت تحت ولاية معاوية؛ وذلك لأنه تمكّن من هذه البلاد، وكانوا يحبونه؛ لكونه ذا سيرة حسنة وجهاد، فبقي متمكساً بهذا الأمر، ولم يزل أمر كل منهم على هذه الحال إلى أن قتل علي رضي الله عنه سنة أربعين، قتله الخارجي المشهور المسمى بـ عبد الرحمن بن ملجم. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 7 خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهما بعد استشهاد أبيه لما قتل علي بايع أهل العراق ابنه الحسن، تمت له البيعة، وبايعوه بقوة، وكان أهل العراق يحبون علياً محبة شديدة، وبقوا ملتزمين بطاعته، وكانوا يحبون ذريته، فالتزموا أن ينصروا الحسن، وأن يبذلوا في نصرته ما يمكنهم، ولما تمت له البيعة، وبقي نصف سنة، أراد معاوية أن يغزوا أهل العراق، فجاء بجنود هائلة، واجتمع أيضاً مع الحسن جنود هائلة عظيمة، ولما أرادوا أن يتقاتلوا فكر الحسن رضي الله عنه وقال: علام نقتل هؤلاء المسلمين؟ يقتل عشرات ألوف أو مئات ألوف لأجل الخلافة ولأجل الولاية، لا بورك فيها ولا خير فيها، لماذا لا أتنازل وأحقن دماء المسلمين؟ وعند ذلك أرسل إلى معاوية: إنني سآتي إليك، فجاء إليه، وقال: سأبايعك وأتنازل لك عن هذه الخلافة، واشترط عليه شروطاً: ألا يقتل أحداً، لا من قتلة عثمان ولا من غيرهم، يكفي ما قد حصل من الفتن ومن القتال، وألا تسبّوا أحداً منا ولا نسب أحداً منكم، لا نسب عثمان ولا تسبوا علياً، وأن نكف عن هذه الفتن، فقبل تلك الشروط، وتمت البيعة سنة إحدى وأربعين لـ معاوية، وسمي ذلك العام: عام الجماعة، واجتمعت فيه الأمة على إمام واحد وهو معاوية؛ ولذلك يقولون: الخلافة ما قبل الحسن، والملك ما بعده، وفي حديث سفينة يقول صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً) وفسره سفينة فقال: احسب سنتين وأربعة أشهر خلافة أبي بكر، وعشر سنين ونصفاً خلافة عمر، وثنتا عشرة خلافة عثمان، وأربع سنين ونصف خلافة علي، ونصف سنة خلافة الحسن، فمجموعها ثلاثون، أو تنقص أو تزيد قليلاً، وما بعده فهو ملك، وأول ملوك الإسلام معاوية، وهو أفضل وخير ملوكهم؛ وذلك لأنه صحابي وابن صحابي، ولأن سيرته سيرة حسنة، إلا أنه أخطأ حيث أمر أو أقر من يسب علياً، وحصل بسب علي في خلافته سواء في العراق أو في الشام حدوث هذه الطائفة التي تعصبت لـ علي، واخترعت أكاذيب في سب الصحابة وفي الغلو في علي؛ ولأجل ذلك صارت الرافضة تحمل عليه، وتحمل على جميع بني أمية وتضللهم، ما عدا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه؛ وذلك لأن سب علي استمر في العراق، وإن لم يكن في كل الأماكن، بل في بعض المساجد، وكذلك في الشام مدة خلافة بني مروان، إلى أن تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز، فعند ذلك أبطل سبه، وهو الذي مدحه بعض أهل البيت على هذا الفعل، فنسب إلى المرتضى وهو من أهل البيت أنه قال: يا ابن عبد العزيز لو بكت الـ عين فتىً من أمية لبكيتك أنت أنقذتنا من السب والشتم فلو أمكن الجزاء جزيتك غير أني أقول لقد طبت وإن لم يطب ولم يزك بيتك دير شمعان لا عدتك العوادي خير ميت من آل مروان ميتك وكان قد دفن رضي الله عنه في دير شمعان. وبعده انقطع السب، ولكن حدثت هذه الطائفة التي هي الرافضة، وكان سبب سبهم لـ علي رضي الله عنه تسويل الشيطان لهم بأنه من جملة الذي داهنوا في قتل عثمان، أو شاركوا فيه، فصاروا يسبونه ويشتمونه على المنابر، وصار أولياؤه وشيعته يتحرقون عندما يسمعون كلامهم، ويجمعون أكاذيب في سب بني معاوية، وفي سب بني مروان، بل وفي سب الخلفاء الراشدين، وفي الغلو في علي رضي الله عنه، ولا حاجة لـ علي في أكاذيبهم؛ فله فضائل كثيرة، وله مناقب شهيرة، هو غني بها عما لفقوه وزادوا عليه، حتى جعلوا له ما لا يستحقه. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 8 علي رضي الله عنه أول من أسلم من الصبيان علي رضي الله عنه من السابقين، أسلم وهو صغير، وكان سبب إسلامه أن أبا طالب كثر عياله، وكان قليل ذات يد، فقال حمزة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: هلم فلنخفف عن أبي طالب، فنأخذ منه بعض أولاده نَعولُهم، فأخذ حمزة جعفراً مع عياله، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم علياً مع عياله، وكان ينفق عليه، ولما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بادر وأسلم، وهو أول من أسلم من الصبيان، قيل: إنه أسلم وعمره عشر سنين، فلذلك قالوا: إنه أسلم قبل أن يبلغ. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 9 حديث: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) من فضائله: قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) . ، ومعلوم أن هارون أخو موسى؛ ولكن هارون نبي أوحي إليه كما أوحي إلى موسى، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} [مريم:53] ، وحُسب هارون من الأنبياء الذين أوحي إليهم، أما علي فإنما له قرابة من النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك القرابة لم تصل إلى حد النبوة، إنما له قرابة وله محبة وله صلة وله مصاهرة، حيث تزوج بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح له هذه المكانة. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 10 حديث: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله) من فضائله: قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب اللهَ ورسولَه، ويحبه اللهُ ورسولُه، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم، أيهم يُعطاها، فلما أصبحوا غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأُتي به، فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، وقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) . اشتمل هذا الحديث على ثلاث فضائل: الأولى: أنه يحب اللهَ ورسولَه. الثانية: أن الله يحبه ورسوله. الثالثة: أن الله يفتح على يديه. ولأجل ذلك تطاول إليها كثير من الصحابة حتى قال عمر رضي الله عنه: ما تمنيت الولاية إلا يومئذ، وقد أرسله النبي عليه الصلاة والسلام لما يلي: أولاً: لقرابته منه. ثانياً: لِما عُرف عنه من الشجاعة والقوة والإقدام. ثالثاً: ليظهر آثار ذلك بالفتح على يديه. فله هذه الفضائل، مع أنها حاصلة لغيره أيضاً، فإن الصحابة رضي الله عنهم بل وجميع المؤمنين بل ونحن إن شاء الله جميعاً نحب الله ورسوله، ونرجو أن نلقى ثواب هذه المحبة، ونحب أولياء الله ومنهم الصحابة رضي الله عنهم، وهذه فضائل لـ علي، ولغيره من الصحابة. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 11 الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما الفتن التي حصلت بين علي رضي الله عنه وبين أهل الشام وقعت باجتهاد، فأهلُ الشام معذورون حيث إنهم يطالبون بدم عثمان، وأهل العراق معذورون حيث إن علياً رضي الله عنه يطالب بجمع الكلمة، ويقول: بايعوني واجتمعوا معي، ونحن بعد ذلك إذا اجتمعنا ولم نختلف تمكنا من أخذ أولئك القتلة واحداً واحداً، وهي فكرة جيدة؛ ولكن قدر الله ما حصل، وحصل هذا الأمر الذي وقعت بسببه هذه الفتن، فنحن نقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] ، ونقول كما قال الشارح: تلك فتنة صان الله عنها أيدينا، فنصون عنها ألسنتنا، فلا نقول: هذا هو المصيب، ولا هذا هو المخطئ، بل نَكِل أمرهم إلى الله تعالى، والله يحكم بينهم، ونعذرهم، ولا نُلحِق بأحد منهم لوماً ما داموا مجتهدين، ونعرف للجميع سبقهم، ونعرف لهم فضلهم وفضائلهم، ونشهد لهم بالخير، ولا نتبرأ من أحد من الصحابة لا من علي ولا من معاوية؛ ولأجل ذلك يقول الكلوذاني في معاوية: ولابن هند في الفؤاد محبة ومودة هل يُرْغَمَنَّ المعتدي ذاك الأمين المجتبى لكتابة الـ ـوحي المُنَزَّل بالتقى والسؤدد فهو من الخلفاء؛ ولكن ليس هو من الخلفاء الراشدين، ولكنه ملك من الملوك، سار سيرة الملوك، ولكنه أحسنهم، أما علي رضي الله عنه فلا شك أنه في زمانه خليفة ذلك الزمان، ولا شك أن فضائله تدل على أقدميته على معاوية وعلى ميزته؛ لأنه من السابقين الأولين، وأما معاوية فهو من مسلمة الفتح، وهو داخل في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] أي: من بعد الفتح {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] . الجزء: 87 ¦ الصفحة: 12 شرح العقيدة الطحاوية [88] بشر النبي صلى الله عليه وسلم عشرة من الصحابة بالجنة في حديث واحد، وهم الخلفاء الأربعة وابن عوف والزبير وطلحة وأبي عبيدة وسعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص، وقد ضل الرافضة في بغضهم لأكثر هؤلاء العشرة، وسلكوا مسلك اليهود في الجفاء والنصارى في الغلو. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 1 حب أهل السنة للصحابة ومعرفتهم لفضلهم نحمد الله أن جعلنا مسلمين، وجعلنا متحابين في ذات الله، نحب أهل الخير متقدِّمهم ومتأخرهم، ونعترف لهم بالفضل، ونعترف لهم بالسبق إلى الخير، ونمتثل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلَّاً} [الحشر:10] أي: حقداً {لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] . ولا شك أن هذا وصف المؤمنين في كل زمان، فهم يعترفون لمن سبقهم من أهل الإيمان بالفضل والخير، ولا شك أن أفضل مَن سبق وأول مَن سبق هم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، فنحبهم من كل قلوبنا، وهذا وصف أهل السنة، يقول شيخ الإسلام في عقيدته: حب الصحابة كلهم لي مذهب ومودة القربى بها أتوسلُ ولكلهم فضل وقدر ساطع لكنَّما الصديق منهم أفضلُ نحبهم لأنهم السابقون إلى الخيرات، ونحبهم لأنهم حفظوا على الأمة دينها وشريعتها، ونحبهم لفضلهم وشرفهم، ونحبهم لقرابة أكثرهم -سيما الخلفاء الراشدون- من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الحديث أن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي) ، فجعل المحبة لله مقدمةً ثم المحبة لقرابته أي: قربهم منه كعمه وبني عمه ونحوهم. ومعلوم أننا ما أحببناهم لمجرد القرابة، فقد كان هناك من هو أقرب منهم كـ أبي لهب وأبي طالب وغيرهما ممن ماتوا على الكفر، ومع ذلك نمقتهم ونبرأ من أعمالهم، هذه هي عقيدتنا، أما من آمن به ولو كان بعيداً من نسبه، وصدَّقه واتبعه؛ فإنه محبوب إلى كل مسلم تقي من أهل السنة والجماعة. ومحبتنا للصحابة لا تصل إلى الغلو كعادة الذين يغلون في بعض الصالحين، فالرافضة أوصلهم الحب لآل البيت إلى الغلو بحيث اعتقدوا في أئمتهم الاثني عشر نوعاً من الألوهية، وأعطوهم شيئاً من التصرف في الكون، وصاروا يطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلَّا الله، ويصفونهم بأوصاف لا يستحقها إلَّا الله. أما أهل السنة فأحبوا الصحابة، وأحبوا قبلهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يغلوا في أحد منهم، ولم يعطوه شيئاً من حق الله، بل اعتقدوا أنهم بشر، وأنهم مخلوقون، وأن فضلهم إنما هو بالأعمال الصالحة، وأن محبتهم إنما تحمل على اتباعهم، وعلى العمل بمثل أعمالهم، وهكذا محبة كل مؤمن، فإذا أحببنا الأئمة ودعاة الخير ومشايخنا وعلماء الأمة فهذه المحبة تحمل المحب على أن يقتدي بالمحبوب، وعلى أن يحرص على أن يفعل كأفعاله، وبذلك يكون صادق المحبة، فأما أن تحمله محبته على أن يعطيه شيئاً من حق الله، فإن هذا غلو وإطراء داخل في فعل النصارى، وهو منهي عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) وصفة العبودية للنبي صلى الله عليه وسلم صفة شرف، وكذلك صفة العبودية للصحابة صفة فضل وشرف، وكذا صفة العبودية لنا صفة شرف، فأنت تفرح إذا نُسِبت إلى أنك عبدٌ لله، وكذا أنبياء الله، قال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172] لا يستنكفون أي: لا يأنفون ولا يتكبرون عن العبودية، فكذا الصحابة لا يتكبرون عن العبودية، وكذا أقارب النبي صلى الله عليه وسلم لا يتكبرون عن العبودية، بل يفتخرون بها، وهذا هو الواجب في اعتقادنا نحوهم. وقد مر بنا في هذه العقيدة قول أهل السنة في الصحابة وفي الخلفاء، وأن أفضلهم: الخلفاء الأربعة، وأفضل الصحابة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأنهم هم الخلفاء الراشدون، وتكلم العلماء في خلافتهم فقالوا: إن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم بعده عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة واحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله كما قال ذلك شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية. وكذلك تكلموا في فضلهم، فاتفقوا على فضل الشيخين أبي بكر وعمر، واختلفوا في عثمان وعلي أيهما أفضل؟ فقدم قوم عثمان وربعوا بـ علي، أي: جعلوه هو الرابع في الفضل، وقدم قوم علياً، وقوم توقفوا، هكذا ذكر شيخ الإسلام في الواسطية، وذكر أن مسألة التقديم بين عثمان وعلي ليست من المسائل التي يُضَلَّل مَن خالف فيها، وإنما التي يُضَلَِّل فيها مسألة الخلافة، فهناك فرق بين مسألة الخلافة ومسألة الفضل، فقد اتفق أهل السنة على أنهم مرتبون في الخلافة، واتفقوا على أن ترتيبهم في الفضل أن يقدم أبو بكر ثم عمر، واختلفوا هل علي يلي عمر في الفضل ثم عثمان بعده أو بالعكس؟ وأكثر العلماء على أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وهذا هو الذي نعتقده؛ وذلك لأنهم لا يتفقون على خطأ، وقد اتفقوا على تقديم عثمان في الخلافة، فدل ذلك على أهليته وأفضليته. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 2 اتباع الخلفاء الراشدين قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ (وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون) تقدم الحديث الثابت في السنن وصححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) وترتيب الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ولـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من المزية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين، ولم يأمرنا بالاقتداء في الأفعال إلا بـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: (اقتدوا باللذَين من بعدي: أبي بكر وعمر) ، وفرق بين اتباع سنتهم والاقتداء بهم، فحال أبي بكر وعمر فوق حال عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وقد روي عن أبي حنيفة تقديم علي على عثمان، ولكن ظاهر مذهبه تقديم عثمان على علي، وعلى هذا عامة أهل السنة، وتقدم قول عبد الرحمن بن عوف لـ علي رضي الله عنهما: إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بـ عثمان. وقال أيوب السختياني: من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار. وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان] . قد ذكرنا أن هؤلاء هم الخلفاء الراشدون، سماهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم خَلَفوه، وواحدهم خليفة، والخليفة هو الذي يخلف مَن بعده بخير، وقد سمى الله آدم خليفة بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] ؛ لأنه -كما قيل- خلفٌ عمن قبله، فكل من تولى أمراً هاماً وناب عمن قبله فهو خلف عنه، فـ أبو بكر اتفقوا على تسميته خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا ينادونه بذلك، ولما تولى عمر دعوه بقولهم: يا خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى أن هذا شيء يطول فقال: أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فاتفقوا على تسميته أمير المؤمنين؛ ولكنه في الحقيقة خليفة، فهو أول من سمي بأمير المؤمنين. هؤلاء الأربعة سماهم النبي صلى الله عليه وسلم بالراشدين، وهذا دليل على أنهم على رُشْد، والرُّشْد ضد الغَي قال تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] والرشد هو الصلاح والخير، والغي هو الغواية والضلال، فهم راشدون على رشد، نشهد لهم بذلك كما شهد لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم. ومن فضلهم أنه أمر باتباعهم في قوله: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين) أي: اتبعوها، إذا قيل: عليكم بكذا فالمعنى: خذوه، وسنتهم يعني: أعمالهم وطريقتهم التي ساروا عليها، هذه هي سنتهم، ونحن نعرف أنهم لم يبتدعوا سنة من قبل أنفسهم، بل يحرصون كل الحرص على أن يسيروا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن نسبت إليهم لأنهم أظهروها، فقيل: هذا سنة أبي بكر، يعني: الذي رواه وأظهره، ولو لم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنهم لطول صحبتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم قد حفظوا منه ما لم يحفظ غيرهم، وقد عرفوا من شريعته ما لم يعرف غيرهم، فلا جرم كانت سنتهم هي سنته صلى الله عليه وسلم. وسمعنا أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء بـ أبي بكر وعمر فقال: (اقتدوا باللذَين مِن بعدي: أبي بكر وعمر) ويؤخذ من هذا صحة خلافتهما، وأنهما اللذان بعده، وقدم أبا بكر في الذكر، فدل على أنه الذي يليه، والاقتداء هو التقيد بقوله وبفعله، (اقتدوا بهما) يعني: تقبلوا ما جاءا به، وتقبلوا أعمالهما وأقوالهما وطبقوها واعتبروها من الشريعة، وهذا يُرَد به على مَن رد أقوال الصحابة سيما الخلفاء الراشدين، وقد كان كثير من الأئمة كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يقدم قول الصحابة على اجتهاد مَن بعدهم، وكذلك إذا وقع بينهم اختلاف قدم قول الخلفاء الراشدين، وإذا وقع خلاف بين الخلفاء الراشدين قدم قول أبي بكر وعمر، ولا شك أن هذا دليل على معرفته بأنهم أهل للاتباع والاقتداء. ونأخذ من هذا أنه صلى الله عليه وسلم نص على خلافة هؤلاء وأنهم هم الخلفاء الراشدون، أما ترتيبهم في الخلافة فالخليفة الأول هو: أبو بكر يقول الكلوذاني: قالوا فمَن بعدَ النبي خليفةً قلت الموحد قبل كل موحد قالوا فمَن ثاني أبي بكر رضاً قلت الخلافة في الإمام الزاهد قالوا فثالثهم فقلت مجاوباً: مَن بايع المختارُ عنه باليد قالوا فرابعهم فقلت مجاوباً: مَن حاز دونهمُ أخوة أحمد فهؤلاء هم الخلفاء، وهكذا ترتيبهم. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 3 ترتيب الصحابة في الفضل قال ابن عمر: كانوا يقولون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره) ، وفي بعض الروايات: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان) يعني: أفضلهم وأقدمهم وأشرفهم وأولاهم هؤلاء، هذا هو القول الصحيح؛ أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ورُوي عن أبي حنيفة أنه كان يقدم علياً على عثمان؛ ولكن الصحيح عند أصحابه أنه يقدم -مثل جمهور الأمة- عثمان، وسمعنا الأثر الذي يقول: (من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار) يعني: تنقَّصهم وعابهم وثلبهم، وحطَّ من شأنهم، حيث إنهم اجتمعوا على تقديم عثمان خليفةً. وسمعنا أيضاً أن عبد الرحمن بن عوف لما أخذ البيعة لـ عثمان قال لـ علي: إني نظرتُ في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بـ عثمان أحداً. وهذا يدل على أن الصحابة في ذلك الوقت يعرفون قدر عثمان ويفضلونه. وقد ذكرنا فيما سبق متى حدث التشيُّع، وأنه أكثر ما حدث في العراق، ولا شك أن أكثر من يذكر فضائل علي أهل العراق، ولكثرة ما يروى عنه من أحاديث وآثار في العراق فمَن يسمعها يعتقد فضله على عثمان، فلعل أبا حنيفة بسبب كثرة سماعه من يطري علياً، ويزيد من قدره، ويصفه بما ليس فيه، قال: إنه أفضل من عثمان، وإن كان القول الصحيح عن أبي حنيفة أنه يفضل عثمان كسائر أئمة السنة. وقد ذكر ابن كثير في التاريخ في ترجمة سفيان الثوري -وهو من أهل العراق- أنه كان يميل إلى تفضيل علي على عثمان، ولعل ذلك لم يثبت عنه، وإذا رُوِي عنه شيء من ذلك فلعله كان يكثر من ذكر فضائل علي -لكونها منتشرة- في العراق، وكان أهل العراق في زمن الثوري قد ظهر فيهم شيء من الغلو ومحبة علي، وصاروا يبالغون في ذكر ما ينقلون عنه، ويتناقلون أحاديث قد يكون بعضها مكذوباً، ويكثرون في مجالسهم من ذكرها، فلعلها التي أثرت في أبي حنيفة وسفيان الثوري، وإلَّا فهما إمامان من أئمة أهل السنة. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 4 العشرة المبشرون بالجنة قال الشارح رحمه الله: [ (وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة نشهد لهم بالجنة على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله الحق وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين) . تقدم ذكر بعض فضائل الخلفاء الأربعة، ومن فضائل الستة الباقين من العشرة رضي الله عنهم أجمعين: ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أَرِق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة. قالت: وسمعنا صوت السلاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله! جئت أحرسك. وفي لفظ آخر: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام) . وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع لـ سعد بن أبي وقاص أبويه يوم أحد فقال: (ارمِ فداك أبي وأمي) . وفي صحيح مسلم عن قيس بن أبي حازم قال: (رأيت يد طلحة التي وَقَى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد قد شلت) ! وفيه أيضاً عن أبي عثمان النهدي قال: (لم يبقَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد) . وفي الصحيحين واللفظ لـ مسلم عن جابر بن عبد الله قال: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق، فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي حواري، وحواريي الزبير) . وفيهما أيضاً عن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟ فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: فداك أبي وأمي) . وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة أميناً وإن أميننا -أيتها الأمة-: أبو عبيدة بن الجراح) . وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان قال: جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ابعث إلينا رجلاً أميناً. فقال: (لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين. قال: فاستشرف لها الناس. قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح) . وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أني سمعته يقول: (عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وطلحة في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، ولو شئتُ لسميت العاشر. قال: فقالوا: مَن هو؟ قال: سعيد بن زيد. وقال لَمَشْهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر منه وجهه خير من عمل أحدكم ولو عُمِّر عمر نوح) رواه أبو داوُد وابن ماجة والترمذي وصححه، ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة) رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه أبو بكر بن أبي خيثمة وقدم فيه عثمان على علي رضي الله عنهما. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهدأ! فما عليك إلا نبي أو صدِّيق أو شهيد) رواه مسلم والترمذي وغيرهما، ورُوِي من طرق] هؤلاء الستة الباقون من العشرة، وأفضل الصحابة بعد الخلفاء الأربعة هم الستة الباقون من العشرة، وقد جمعهم ابن أبي داوُد في عقيدته في بيت واحد فقال: سعيد وسعد وابن عوف وطلحة وعامر فهر والزبير المُمَدَّح الجزء: 88 ¦ الصفحة: 5 فضل سعيد بن زيد العشرة المبشرون بالجنة كلهم من قريش، فـ سعيد بن زيد هو ابن عمرو بن نفيل، وأبوه زيد كان ممن وحد الله تعالى في الجاهلية، وترك عبادة الأصنام، وترك الأكل مما أُهلَّ به لغير الله، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يُبعث يوم القيامة أمةً وحده، وهو ابن عم عمر بن الخطاب بن نفيل، وقد شهد النبي عليه الصلاة والسلام لـ سعيد بأنه من أهل الجنة، فهو من هؤلاء العشرة. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 6 فضل عبد الرحمن بن عوف عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أمه صلى الله عليه وسلم من بني زهرة، وعبد الرحمن أسلم قديماً بدعوة أبي بكر، فإن أبا بكر كان على صلة بكثير ممن أسلم، فكلمهم وبين لهم الآيات والمعجزات التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم، فبادروا إلى الإسلام، وكان اسمه عبد عمرو ثم لما أسلم سمى نفسه: عبد الرحمن، فكان بعض قريش يدعونه: يا عبد عمرو فلا يجيبهم، فإذا دُعي بـ عبد الرحمن أجاب مَن دعاه. وقد تقدم أنه من الذين جعلهم عمر من أهل الشورى، وأخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو عنهم راضٍ، وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن، فهؤلاء الستة جعل عمر الأمرَ شورى فيهم، وهو من الذين بشرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة في هذه الأحاديث التي عدَّ فيها عشرة بأنهم من أهل الجنة. ومن فضله: أنه من ضمن الذين كانوا على جبل أحد لما ارتجف وتحرك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسكن! فما عليك إلا نبي أو صدِّيق أو شهيد) فهو من الشهداء، والشهيد ليس خاصاً بمن قتل في سبيل الله، فقد قال الله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] ، وقد قيل: إن المراد شهداء هذه الأمة، وقد ذكر الله أن كل من آمن بالله ورسوله فإنه من الشهداء في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19] . ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال سعد: هلمَّ أقاسمك مالي، وأنزل لك عن إحدى زوجتَيَّ، فقال: بارك الله لك في مالك وفي زوجتك. ثم قال: دلوني على السوق، فدُلَّ على السوق، فصار يتجر، حتى صار ذا مال، وكان من أثرياء الصحابة وأغنيائهم، قدمت عيرٌ له إلى المدينة، والناس في حاجة، فجاء إليه التجار فرغَّبوه بأن يبيعهم، وأعطوه فائدة في المائة -مثلاً- خمسةً أو ستةً؛ ولكن قال: قد أعطيت فيها في المائة ألفاً! فتصدَّق بها وقال: إن الله قد أخبر بأنه يضاعفها أضعافاً كثيرة في قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:11] فتصدق بها كلها، وكان رضي الله عنه إذا أتي بالطعام الشهي بكى حتى يتركه؛ إذا تذكر حالة الصحابة الذين كانوا في جهد جهيد. وبكل حال فهو من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم، مات سنة اثنين وثلاثين، في السنة التي مات فيها العباس رضي الله عنه. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 7 فضل طلحة بن عبيد الله طلحة بن عبيد الله من العشرة، ومن المهاجرين، وهو من قريش، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مُرَّة، فهو من بني تيم بن مرة الذين منهم أبو بكر، وكان من الذين جاهدوا في الله حق جهاده، ففي غزوة أحد كان ممن ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصيب في رميه، فكان إذا جاء أحد من المسلمين ومعه سهام قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألقِها وانثرها لـ طلحة) فيأخذها طلحة فيرمي بها المشركين، وكان ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد النبي عليه السلام أن ينظر إليهم ويرفع قال له: لا ترفع رأسك فيصبك شيء، نحري دون نحرك وكان يقيه بيده السهام التي يُرمَى بها النبي صلى الله عليه وسلم حتى شُلَّت يده، أصابتها سهام فصار فيها عيب، وذلك بلا شك من حبه للنبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 8 فضل الزبير بن العوام الزبير بن العوام قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي حواري، وحواريي الزبير) ، ولما ندب أصحابه في ليلة من ليالي الخندق فقال: من يذهب فينظر إلى المشركين ما فعلوا، فلم ينتدب إلا الزبير فبعثه وفدَّاه بقوله: فداك أبي وأمي. والزبير من بني أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، وهو ابن عم خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهو أيضاً من المهاجرين الأولين، وله قرابة أخرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو ابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وقد كان من المجاهدين الذين بذلوا أنفسهم في الجهاد في سبيل الله، وكان من الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، حتى فدَّاه بقوله: (ارمِ فداك أبي وأمي) . قتل هو وطلحة في سنة ست وثلاثين في وقعة الجمل، لما خرجوا مع أهل الجمل وحصلت الوقعة التي حصلت بينهم وبين علي، فتبرأ علي ممن قتلهما. وبكل حال فهم مجتهدون وإن حصل منهم هذا الاختلاف؛ لأنهم أرادوا بخروجهم تتبع قتلة عثمان -كما تقدم-، ولا شك أن هؤلاء الستة من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم، وممن شهد لهم صلى الله عليه وسلم بالفضل وبالجنة. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 9 فضل أبي عبيدة بن الجراح أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح من المهاجرين، وقد أسلم قديماً وهاجر، خرج أبوه مع المشركين في بدر، ولما رآه أبوه مع المسلمين حاول أن يقتل ابنه؛ لأنه مسلم، ولما لم يجد بُداً قتل أباه؛ لكونه مع المشركين، ولكون أبيه يريد قتله، ونزل فيه قول الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} [المجادلة:22] إلى آخرها، فهو من الذين لم يوادوا المشركين ولو كانوا آباءً أو أبناءً أو إخوةً، وهو من الذين {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} [المجادلة:22] . وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمين فقال: (لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) . مات رضي الله عنه سنة ثماني عشرة في خلافة عمر، بطاعون عمواس، وقد كان عمر أمَّره على الغزاة بعد موت أبي بكر، عزل خالداً وجعل أبا عبيدة هو القائد؛ لأن أبا عبيدة هو أسبق من خالد بن الوليد، وهو أفضل منه، فقدَّمه وجعله هو الأمير القائد لتلك الجيوش، وحصلت فتوحات عظيمة بقيادة أبي عبيدة. فهؤلاء هم الخلفاء، وكذلك أتباعهم وأعوانهم الذين ساعدوهم، والذين كانوا معهم، فنشهد للجميع بأنهم من أهل الخير، وبأنهم من أهل الجنة كما شهد لهم بذلك نبيهم صلى الله عليه وسلم. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 10 الشهادة بالجنة لكل من شهد له النبي عليه الصلاة والسلام بذلك هناك جماعة آخرون من الصحابة شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونحن نشهد لمن شهد لهم بذلك، ونترضى عن الجميع كما رضي الله عنهم في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] ، فالله تعالى أخبرنا أنهم أهل لرضوانه، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم) فهذا دليل على أنه غفر لهم ولو عملوا ما عملوا، وإذا صدر منهم ذنب على تقدير أنه ذنب فإنه مغفور لهم بهذا الوعد الكريم من الله تعالى، فكيف -مع ذلك- تتصدى لهم الرافضة وتسبهم وتضللهم أو تزعم أن فضائلهم التي فضلوا بها كانت قبل ردتهم؟ فالرافضة يدَّعون أنهم ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حيث منعوا علياً حقه من الولاية، فلما منعوه أصبحوا بذلك مرتدين، هكذا تدعي الرافضة! ومتى منعوه حقه من الولاية، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، ولم يأمر علياً، وأقر أبا بكر بأن يصلي بالناس، وأبو بكر هو صاحبه في كل الحالات والأوقات؟! فكيف اتفق الصحابة -كما تزعم الرافضة- على أن حرموا علياً من الولاية فأصبحوا بذلك مرتدين؟! كيف يرتدون وقد زكاهم الله بقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] ، وسماهم السابقين الأولين، وسماهم أهل البيعة: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10] ؟! وهكذا غيرهم من بقية الصحابة الذين لهم سابقة وفضل، نعترف بفضلهم، ونؤمن بسابقتهم، وننزلهم منزلتهم، ونعرف لكل منهم حقه وسبقه، ونتبرأ ممن ثلبهم وعابهم وقدح في دينهم وعبادتهم وتسلط عليهم؛ كما تفعله الرافضة الذين نصبوا عداوتهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، والله {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:113] {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] . الجزء: 88 ¦ الصفحة: 11 ضلال الرافضة في بغضهم لأكثر العشرة المبشرين بالجنة قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وقد اتفق أهل السنة على تعظيم هؤلاء العشرة وتقديمهم لما اشتُهر من فضائلهم ومناقبهم، ومَن أجهلُ ممن يكره التكلم بلفظ العشرة أو فعل شيء يكون عشرة؛ لكونهم يبغضون خيار الصحابة وهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وهم يستثنون منهم علياً رضي الله عنه، فمن العجب: أنهم يوالون لفظ التسعة، وهم يبغضون التسعة من العشرة! ويبغضون سائر المهاجرين والأنصار من السابقين الأولين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وكانوا ألفاً وأربعمائة، وقد رضي الله عنهم كما قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] ، وثبت في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) ، وفي صحيح مسلم أيضاً عن جابر أن غلام حاطب بن أبي بلتعة قال: يا رسول الله! ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كذبت! لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية) ، والرافضة يتبرءون من جمهور هؤلاء، بل يتبرءون من سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من نفر قليل نحو بضعة عشر نفراً! ومعلوم أنه لو فرض في العالم عشرة من أكفر الناس لم يُهْجر هذا الاسم لذلك، كما أنه سبحانه لما قال: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48] لم يجب هجر اسم التسعة مطلقاً، بل اسم العشرة قد مدح الله مسماه في مواضع من القرآن: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196] ، {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142] ، {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1-2] ، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وقال في ليلة القدر: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان) ، وقال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من أيام العشر) يعني: عشر ذي الحجة، والرافضة توالي بدل العشرة المبشرين بالجنة اثني عشر إماماً: أولهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويدعون أنه وصي النبي صلى الله عليه وسلم دعوى مجردة عن الدليل، ثم الحسن رضي الله عنه، ثم الحسين رضي الله عنه، ثم علي بن الحسين زين العابدين، ثم محمد بن علي الباقر، ثم جعفر بن محمد الصادق، ثم موسى بن جعفر الكاظم، ثم علي بن موسى الرضا، ثم محمد بن علي الجواد، ثم علي بن محمد الهادي، ثم الحسن بن علي العسكري، ثم محمد بن الحسن، ويغالون في محبتهم ويتجاوزون الحد! ولم يأت ذكر الأئمة الاثني عشر إلا على صفة ترد قولهم وتُبْطله وهو ما خرَّجاه في الصحيحين عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً. ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عليَّ فسألت أبي: ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كلهم من قريش. وفي لفظ: لا يزال الإسلام عزيزاً باثني عشر خليفة. وفي لفظ: لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثني عشر خليفة) ، وكان الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والاثنا عشر: الخلفاء الراشدون الأربعة، ومعاوية، وابنه يزيد، وعبد الملك بن مروان وأولاده الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز، ثم أخذ الأمر في الانحلال. وعند الرافضة أن أمر الأمة لم يزل في أيام هؤلاء فاسداً منغَّصاً، يتولى عليهم الظالمون المعتدون، بل المنافقون الكافرون، وأهل الحق أذل من اليهود! وقولهم ظاهر البطلان، بل لم يزل الإسلام عزيزاً في ازدياد في أيام هؤلاء الاثني عشر] . قد ذكرنا من فضائل الصحابة سيما العشرة أنهم اجتمعت فيهم الثلاث البشائر: البشارة الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (عشرة في الجنة) ، وذَكَرَهم كما تقدم. البشارة الثانية: أنهم من أهل بدر، وقد قال الله تعالى لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم) . البشارة الثالثة: أنهم من أهل البيعة، قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) . فهذه البشارات الثلاث كلها داخل فيها هؤلاء العشرة، بل هم أولى بها وأقدم، وغيرهم من الصحابة الذين حضروها لهم فضل ولهم سابقة، فأهل بدر الذين شهدوا وقعة بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، هؤلاء قد قال الله لهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم) والرافضة تدعي أنهم ارتدوا وكفروا إلا علي ونفر قليل، والذين بايعوا تحت الشجرة هم ألف وأربعمائة وزيادة، بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وأخبر الله بأنهم بايعوا ربهم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] ، وفي هذا شرف لهم وشرف للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال بعض المتأخرين في مدحهم ومدح النبي صلى الله عليه وسلم: كيف السبيل إلى تقضي مدح مَن قال الإله له حسبك جاها إن الذين يبايعونك إنما حقاً يقال يبايعون الله فأي مدح أشرف من هذا المدح؟! الجزء: 88 ¦ الصفحة: 12 شرح العقيدة الطحاوية [89] عبد الله بن سبأ اليهودي هو أصل الرافضة والباطنية، وهو أول من أظهر التشيع لعلي رضي الله عنه، ثم فشا الغلو في آل البيت من قبل الرافضة، وقد رد عليهم أهل السنة، وبينوا أن الغلو فيهم لا يرضاه أهل البيت أنفسهم. الجزء: 89 ¦ الصفحة: 1 نعمة اتباع السنة ومحبة الصحابة نحمد الله أن جعلنا مسلمين، نحمد الله أن جعلنا سنيين، نحمد الله أن جعلنا من أهل الحق، علينا أن نحمد الله لِمَا نرى من كثرة المنحرفين، ولِمَا نرى من كثرة المعرضين الذين سول لهم الشيطان وأملى لهم، {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] ، فنحمد الله الذي لم يجعلنا من المعتزلة، ولم يجعلنا من المنكرين للقدر، ولم يجعلنا من المجبرة، ولم يجعلنا من الرافضة، ولم يجعلنا مبتدعة، بل جعلنا من المتمسكين بالكتاب والسنة، بكتاب الله الذي جعله الله هدىً لمن سار عليه، ونوراً يُهتدى به، ويُحتذى حذوه، وكذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي سبيل النجاة، وهي سفينة النجاة، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وما أكثر الغرقى في هذه الأزمنة! ما أكثر الغارقين! تراهم يقولون: نحن أهل نجاة وهم شيعة ورافضة!! أو يقولون: نحن أهل النجاة وهم خوراج وإباضية!! أو يقولون: نحن أهل النجاة وهم مبتدعة بغاة!! أو يقولون: نحن أهل النجاة ويسمون أنفسهم حداثيين أو علمانيين أو ما أشبه ذلك! ومع ذلك يدعون أنهم على الحق والصواب، وما أبعدهم عن الصواب! يرون الحق أبلج، يرون النور المستقيم، والهدى القويم، وهم عنه معرضون! وأكبر مثال: طعن الرافضة في الصحابة رضي الله عنهم، ما ذنب الصحابة حتى تقدح فيهم الرافضة؟! أيُقدح فيهم لأنهم حفظوا السنة؟! أيُقدح فيهم لأنهم بلَّغوها؟! أيُقدح فيهم لأنهم سبقوا إلى الإسلام؟! أيُقدح فيهم ويُعابون ويكفَّرون لأنهم حفظوا على الأمة دينها؟! أيُقدح فيهم ويُعابون ويكفَّرون لأنهم الذين فتحوا البلاد، ونصروا الله ونصروا رسوله؟! هذه مآثرهم، متى كان للرافضة مثل هذه المآثر حتى يلعنوهم ويسبوهم ويُكفروهم ويتهموهم بأنهم منافقون وبأنهم ضالون وبأنهم مبتدعون وبأنهم حَسَدة خائنون؟! هذه الأوصاف تنطبق على الرافضة أتم الانطباق، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برآء، نشهد بذلك وندين به. ومَرَّ بنا أن الرافضة يكرهون كلمة (عشرة) ؛ لأنه ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عشرة في الجنة) ، فهؤلاء العشرة لما كانوا يكفِّرونهم صار لفظ (العشرة) عندهم ممقوتاً مكروهاً لا يقبلونه ولا يتقبلونه، مع أنهم يستثنون منهم واحداً فقط وهو علي، وأما بقيتهم فإنهم يلعنونهم ويشتمونهم، فيكفرون تسعة من هؤلاء العشرة، والعاشر يوالونه ويتولونه، لماذا كرهتم لفظ العشرة ولم تكرهوا لفظ التسعة؟! أليس ذلك من الخطأ؟! ما ذنب لفظ كلمة (عشرة) ؟! ما ذنبها؟! مع أنها وردت في كلام الله تعالى، وفي كلام الرسول، وفي كلام أهل العلم؟ فقد ورد ذكرها وتكرر، ولم يرد ما يفيد ذمها؛ ولكن في قلوبهم حقد على هؤلاء العشرة ما عدا علياً، وحقد أيضاً على جميع الصحابة إلَّا أفراداً منهم قلة قليلة. الجزء: 89 ¦ الصفحة: 2 الكلام على حديث: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً) في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال هذا الأمر ظاهراً حتى يليه اثنا عشر. ثم قال: كلهم من قريش) هذا الحديث يقول الرافضة: هو حجة لنا على أئمتنا الاثني عشر، وهذا الحديث في كتبكم، رواه مسلم في صحيحه، إذاً: أنتم تروون الأحاديث التي تؤيد مذهبنا، هكذا يقولون! فنقول: هذا الحديث صحيح رواه مسلم وغير مسلم في كتبهم الصحيحة بأسانيد صحيحة؛ ولكن لا ينطبق على أئمتكم الذين تدعون، فهو ينطبق على أئمة لهم ولاية، أئمة لهم إمارة، أئمة وخلفاء لهم أمر ونفوذ وسلطة وأتباع وولاية تامة، يكون من آثارهم الإصلاح العام، ومن آثارهم الاقتداء بهم، ومن آثارهم نفوذ الأوامر، ومن آثارهم تجهيز الجيوش، وغزو البلاد وفتحها، وجمع الأموال لبيت المال، وتصريفها في وجوهها، هل كان أحد أئمتكم هكذا ما عدا علياً وما عدا الحسن ستة أشهر؟! لا، إنما كانت هذه الولاية لأئمة وولاة كلهم من قريش، وقد عد الشارح هؤلاء الأئمة الاثني عشر، فعدَّ الخلفاء الأربعة؛ وذلك لأنهم تمت لهم الولاية، وعدَّ معاوية وابنه؛ لأن معاوية تولى عشرين عاماً، وابنه تولى أربع سنين، وكان لهما ولاية، وكان الغزو في زمانهما مستمراً، وعد عبد الملك بن مروان وأولاده الخلفاء الذين هم أربعة، وبينهم عمر بن عبد العزيز، قبله ولدان لـ عبد الملك، وبعده ولدان، فهؤلاء اثنا عشر، وقد كان لغيرهم ولاية ولكنها ناقصة، كـ ابن الزبير وكذلك مروان، فولايتها ناقصة، وكذلك مروان بن محمد الأخير كانت ولايته ناقصة أيضاً؛ لأنها سلبت منه. إذاً: فما بقي إلا هؤلاء، أما بعدهم في خلافة بني العباس فقد خرجت الفتن، وكثرت البدع، وانتشر الضلال، وقرَّبوا اليونان، وقرَّبوا الترك، ومكَّنوهم من الولاية، وظهر القول بخلق القرآن، والقول بإنكار الصفات، والقول بالقدر، والقول بالإرجاء، وتمكن الرفض في تلك الأيام أي: في خلافة بني العباس. إذاً: الأئمة الاثنا عشر هم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم معاوية، ثم يزيد بن معاوية، ثم عبد الملك بن مروان، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، هؤلاء اثنا عشر خليفة. ونقول: لا شك أن الرافضة يدعون الأئمة الاثنا عشر أئمتهم فنقول: صحيح أن علياً كانت له خلافة، وهو من الخلفاء الراشدين، وأما الحسن فليس له خلافة، وإنما استولى ستة أشهر ثم تنازل لـ معاوية، أما الحسين فلم يتم له ولاية، وإنما وعده أهل العراق بأن يبايعوه ثم لما جاءهم قُتِل، أما ولده الذي هو علي بن الحسين زين العابدين فهو علم من العلماء ولم يكن له ولاية، وهكذا أولاده الذين تسلسلوا منه إلى أن كان آخرهم الحسن بن علي العسكري، وهو آخر السلسلة من ذرية زين العابدين، والحسن العسكري ليس له ولد، لم يخلِّف، ولما كان إماماً عند الرافضة رأوا أنه لا بد أن يكون له ولد، فجعلوا له ولداً؛ ولكن جعلوه مختفياً، فادعوا أن له ولداً اسمه محمد بن الحسن، وأنه مختفٍ، وأنه سيخرج، وادعوا أنه دخل سرداب سامراء، وأنه سوف يخرج، وقد ذكرنا شيئاً من الكلام عن هذا المنتظر عندهم، وعرفنا أن هؤلاء الأئمة الذين تدعي الرافضة ليس لهم ولاية ولا نفوذ ولا سلطة، ما عدا علياً والحسن بضعة أشهر، ومن بعدهم بقوا كأفراد قريش، وكسائر العلماء الذين لهم علم، ومعهم من العلم ما يعملون به أو يدعون إليه، وليسوا وحدهم، بل في زمانهم علماء من قريش ومن غير قريش، وقبلهم وبعدهم، وكانوا يماثلونهم أو يفوقون كثيراً منهم، فما الذي خصص هؤلاء حتى تجعلوهم -أيها الشيعة- أئمتكم دون غيرهم، مع أنه لا مميز لهم ولا شيء يخصصهم؟ فالحاصل أن استدلالهم بهذا الحديث: (لا يزال هذا الأمر ظاهراً حتى يليه اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) ليس فيه حجة لهم، بل هو حجة عليهم، فليُنتبه لذلك. الجزء: 89 ¦ الصفحة: 3 محبة الصحابة وأهل البيت براءة من النفاق قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قوله: (ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس؛ فقد برئ من النفاق) . تقدم بعض ما ورد في الكتاب والسنة من فضائل الصحابة رضي الله عنهم، وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً بماء يُدعى: (خماً) بين مكة والمدينة فقال: (أما بعد: ألا أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي. ثلاثاً) ، وخرج البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: ارقبوا محمداً في أهل بيته. وإنما قال الشيخ رحمه الله: (فقد برئ من النفاق) لأن أصل الرفض إنما أحدثه منافق زنديق قصْدُه إبطال دين الإسلام والقدح في الرسول صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ذلك العلماء، فإن عبد الله بن سبأ لما أظهر الإسلامَ أراد أن يفسد دين الإسلام بمكره وخبثه، كما فعل بولِس بدين النصرانية، فأظهر التنسُّك، ثم أظهر الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى سعى في فتنة عثمان وقتلِه رضي الله عنه، ثم لما قدم علي الكوفة أظهر الغلو في علي والنصر له؛ ليتمكن بذلك من أغراضه، وبلغ ذلك علياً فطلب قتله، فهرب منه إلى قرقيس، وخبره معروف في التاريخ، وتقدم أن من فضَّله على أبي بكر وعمر جلده جلد المفتري، وبقيت في نفوس المبطلين خمائر بدعة الخوارج من الحرورية والشيعة. ولهذا كان الرفض باب الزندقة، كما حكاه القاضي أبو بكر بن الطيب عن الباطنية، وكيفية إفسادهم لدين الإسلام قال: فقالوا للداعي: يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلماً أن تجعل التشيُّع عنده دينك وشعارك، واجعل المدخل من جهة ظلم السلف لـ علي وقتلهم الحسين، والتبري من تيم وعدي وبني أمية وبني العباس، وأن علياً يعلم الغيب، يفوَّض إليه خلق العالم! وما أشبه ذلك من أعاجيب الشيعة وجهلهم! فإذا أنِسْت من بعض الشيعة عند الدعوة إجابةً ورشداً أوقفتَه على مثالب علي وولده رضي الله عنهم. انتهى. ولا شك أنه يتطرق مَن سب الصحابة إلى سب أهل البيت، ثم إلى سب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ أهل بيته وأصحابه مثل هؤلاء الفاعلين الضالين] . بعد أن ذكر المصنف الخلفاء العشرة ذكر بقية الصحابة وذكر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم شيء من فضائل الصحابة جميعاً أو بعضهم كقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] وكانوا ألفاً وأربعمائة وزيادة رضي الله عنهم. وكذلك أيضاً قد أخبر تعالى بأنه رضي عنهم في آية أخرى كقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] والآيات كثيرة كما تقدم، ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه) هذا في الصحابة رضي الله عنهم، وما ذاك إلا لأنهم فاقوا غيرهم بالصحبة، متى يدركهم غيرهم؟! متى يصل إلى ما وصلوا إليه؟! لقد سبقونا وسبقوا مَن قبلنا بصحبتهم لنبينا صلى الله عليه وسلم، وبقتالهم معه وجهادهم، وبإيثارهم له، وبإنفاقهم أموالهم في سبيل نصرته، وبالأخذ عنه والتعلُّم منه، وبالقيام بعده بالسنة وتبليغها، وبالجهاد في سبيل الله معه وبعده، متى يدركهم غيرهم رضي الله عنهم؟! الجزء: 89 ¦ الصفحة: 4 الكلام على حديث غدير خم حديث غدير خُم الصحيح منه ما رواه مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه: (لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بعد حجة الوداع وأقبل على المدينة نزلوا في أثناء الطريق في موضع يقال له: خُم، وكان هناك غدير فأقاموا عليه يوماً أو بعض يوم، فخطب خطبة وأوصاهم في هذه الخطبة، وذكر لهم قرب أجله، وكأن الله تعالى قد أطلعه على قرب وفاته، فقال: إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي -أي: الملَك الذي يقبض روحي- فأجيب) وذكر أنه تاركٌ فينا ثقلين، وفي رواية صحيحة أنه قال: (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وسنتي) ، وهما المرجع الذي يُرجع إليه عند التنازع كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] أي: إلى الكتاب والسنة، هكذا قال: (إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي) ، وفي هذا الحديث قال: (إني تاركٌ فيكم الثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي) يقول الرواي: فقلنا لـ زيد: ومَن أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ فقال: نساؤه من أهل بيته؛ ولكن أهل بيته هم الذين حُرِموا الزكاة بعده -يعني: بني هاشم الذين لم تحل لهم الزكاة-، فعدَّ منهم آل علي وآل العباس وآل جعفر وآل أبي طالب وآل عقيل، يعني: بني هاشم، فكأن زيداً يقصد بذلك أن أقاربه يستوصى بهم خيراً، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس: (والذي نفسي بيده لا يؤمنوا حتى يحبوكم لله ولقرابتي) ؛ لما ذكر له العباس أن بعض قريش يجفوا بني هاشم، فدل على أن لأقاربه -الذين هم بنو هاشم- ميزة وفضيلة؛ وذلك لشرف القرب من النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنهم صفوة صفوة في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى من العرب كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) فهو صلى الله عليه وسلم خيار من خيار. الجزء: 89 ¦ الصفحة: 5 أهل البيت هم بنو هاشم ويدخل فيهم أمهات المؤمنين هذا الحديث فيه أن أهل البيت هم بنو هاشم، وفيه شهادة زيد بن أرقم أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، وتسمعون الرافضة دائماً يقولون: نحن نوالي أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، أتعيبوننا لأننا نحب أهل بيته؟ إنما ذنبنا عندكم أننا أحببنا أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وما ذنب من أحب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟! ويدندنون دائماً بأنهم يحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: كذبوا، أهل بيته صلى الله عليه وسلم يدخل فيهم نساؤه، وهم يعادون أغلب نسائه أشد العداوة، وأهل بيته يدخل فيهم عمه وبنو عمه آل العباس، وهم يعادون العباسيين وذريتهم، وأهل بيته يدخل فيهم كل أقاربه من بني هاشم حتى ذرية أبي لهب، وإن كان أبو لهب وأبو طالب ماتا كافرين، لكن ذريتهما من بني هاشم من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الرافضة تتبرأ منهم، ولا تخص إلا علياً وبعض ذريته، بعضهم وليس كلهم، فمثلاً: ابن الحنفية لا يجعلون له ولاية، وإن كان من ذرية علي، فعندهم أن أهل بيته هم علي وولداه وذريتهما فقط، أين نساؤه؟! ألسن هن في بيوته صلى الله عليه وسلم؟! يقول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ، فهذه البيوت هي بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أنزلهن فيها، والله تعالى يقول: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب:53] فهل كان له بيوت خاصة ليس فيها أزواجه؟! لم يكن له إلا بيوت أزواجه، إذاً: فبيت النبي صلى الله عليه وسلم وبيوته هي التي أنزل فيها نساءه، فنساؤه من أهل بيته، ولا ننكر أن فاطمة من أهل بيته، ولا ننكر أن ابنته زينب امرأة أبي العاص من أهل بيته، فهي ابنته ولها ذرية، ولا ننكر أن رقية وأم كلثوم اللتين تزوجهما عثمان من أهل بيته، فهما بنتاه، ولكن لا تعترف الرافضة إلا بـ فاطمة فقط وأولادها، أليس هذا هو الغلط؟! أليس هذا هو الخطأ؟! نقول بعد ذلك: حق الصحابة وأمهات المؤمنين على جميع المؤمنين الترضي عنهم، ومحبتهم، والاعتراف بحقهم، والاعتراف بفضلهم، ونقول: إن من أحب الصحابة ومن أحب أمهات المؤمنين فهو -كما يقول الشارح:- بريء من النفاق، ومن أبغضهم ففي قلبه نفاق. الجزء: 89 ¦ الصفحة: 6 قصة عبد الله بن سبأ اليهودي ساق الشارح رحمه الله قصة ابن السوداء الذي هو عبد الله بن سبأ، فذكر أنه أظهر محبة علي في أول الأمر، وأظهر نصرته، وهو منافق، دخل في الإسلام متستراً لأجل أن يفسد على المسلمين دينهم، بل وليفسد على المسلمين عقولهم، وكان يهودياً، ولما رأى الإسلام انتشر وتمكن غاظه ذلك أشد الغيظ، فعند ذلك فكر في حيلة يفسد بها على المسلمين عبادتهم وديانتهم، فأظهر التنسك، وأظهر التعبد، وأظهر التدين، وأظهر الصلاح، ثم أظهر محبة علي أول الأمر، وأظهر الثأر له، وسعى في الفتنة التي حصل بسببها قتل عثمان رضي الله عنه، فهو الذي أثار أولئك الثوار أو كثيراً منهم، وهو الذي نشر مساوئ لـ عثمان وأنه فعل وفعل، فجمع جموعاً من العراق وغيره، وسار مع الذين ساروا إلى أن حاصروا عثمان، وكانت النهاية أن قتل، ولما بويع علي رضي الله عنه أظهر أولاً موالاته، ثم بعد ذلك فكر في أن يفسد على أوليائه دينهم، فقال: إن علياً هو ربكم، إن علياً هو الله، فلماذا لا تعبدونه؟ اعبدوه كما تعبدون الله، وما قصده بذلك إلا أن يفسد عليهم دينهم، فصدقه خلق كثير من السبئية، ولما خرج علي مرةً سجدوا له، وقالوا: أنت إلهنا، أنت ربنا. تعالى الله! فأنكر عليهم علي وقال: توبوا، أنا ابن امرأة تأكل القديد، أنا مولود وسوف أموت، كيف تجعلوني رباً؟! فقالوا: أنت إلهنا، فماذا فعل بهم؟ أحرقهم، خد لهم أخاديد، وجعل يستتيبهم فلا يقبلون ولا يتوبون، بل تمسكوا بمقالتهم، وقالوا: الآن عرفنا أنك الرب؛ لأنك تعذب بالنار، ولا يعذب بالنار إلا رب النار، فالآن عرفنا أنك إله، فصبروا على أن يحرقهم، وهو حرق مستمر إن شاء الله من نار الدنيا إلى نار الآخرة، وكان يحرقهم ويقول: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً وقنبر هو غلام له، فصاروا يدعونه وهو يحرقهم ويقذفهم في النار واحداً واحداً، فهؤلاء أول الغلاة، ولا يزال لهم ورثة يدعون أن علياً هو الله، حتى يقول قائلهم: أشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين حيدرة أي: علي، فيعني: لا إله إلا علي، تعالى الله! فمن إله الناس قبل علي؟! من إله الناس بعد علي؟! ولكنهم لا يعقلون. الجزء: 89 ¦ الصفحة: 7 الباطنية هم ورثة ابن سبأ توجد فرقة يقال لهم: الباطنية، ويسمون أيضاً: القرامطة، ولهم ثمانية أسماء مذكورة في بعض الكتب، وقد تكلم عليها ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس وغيره، وأشهرها الباطنية؛ لأنهم يبطنون خلاف ما يظهرون، يقول العلماء في وصفهم: ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض، والحقيقة أنهم لا دين لهم، دخلوا في الإسلام تستراً، وحيلتهم أن يفسدوا عقائد الناس، وقد ذكر الشارح مبدأهم، وأنهم قاموا على هذه العقيدة الفاسدة، وعقيدتهم لا نتطرق لها، فهي طويلة يكثر الكلام فيها، وقد ذكر الشارح فعلهم الذي يقتنصون به الناس، ويصطادون به الجهلة، وقد ظهروا في آخر القرن الثالث، ولما تمكنوا رأوا أن أهل العراق وأهل خراسان -إيران وما اتصل بها- قد تمكن فيهم حب أهل البيت، فقالوا: نقتنصهم بهذه الحيلة، فندعوهم إلى حب أهل البيت، وكان ذلك بعد موت الحسن العسكري الذي هو آخر أئمتهم الأحياء، وهو الذي يدعون أن ولده محمد بن الحسن دخل السرداب، فصاروا يقولون: نحن نذر بين يدي المهدي، والمهدي سيخرج قريباً، فبايعونا على ما نحن عليه، وكان من أشهر رؤسائهم وقادتهم رجل يقال له: ابن بيطان وكان من دعاتهم، وكان منزله في المنطقة الشرقية في القطيف، فالقطيف معدن كفر منذ القدم، فاجتمع عليه خلق كثير، وذكروا أنه خرج مرة من العراق متوجهاً إلى القطيف، وفي أثناء الطريق رأى رجلاً يسوق له حمراً، فقال له: إنني أدعو إلى نصرة المهدي، وأدعو إلى أمر، يكون فيه النصر، وكان ذلك الرجل جاهلاً وهو حمدان قرمط، فانخدع بـ ابن بيطان، وقال: أنا أتقبل منك، وأنا الذي أنصرك، وأنا الذي أواليك، فأفش إلي كل ما تريد، فصار حمدان هذا من أنصاره، وكثر أتباعه، وصارت النسبة إليه أكثر، حتى سموا قرامطة نسبة إلى حمدان هذا، فكثروا وتمكنوا، واستولوا على هذه المنطقة الشرقية، حتى أن الخليفة العباسي أرسل إلى أميرهم يخوفه ويقول له: لا تخرج عن الطاعة، فقال: إن عندي أكثر من مائة ألف يفدوني بأنفسهم، لو أمرت أحدهم بقتل نفسه لم يعصني، ثم قال لأحدهم: قم فألق نفسك من هذا الجدار الرفيع، فقام ذلك المسكين وألقى نفسه على أم رأسه، فسقط على البلاط فمات، فقال: عندي مائة ألف كلهم يفدوني كما فداني هذا، وكلهم في طاعتي، أتظن أني أخافك يا خليفة العباسيين؟! وقويت شوكته، وعظم أمره. ومن أخبار هؤلاء القرامطة الباطنية حادثتهم الشنيعة، التي هي أشنع الأمور، وهي قتلهم الحجاج في الحرم المكي سنة ثلاثمائة وسبعة عشر، كان الحجاج محرمين في يوم التروية يطوفون فلم يشعروا إلا وقد سلّ ذلك القرمطي وأصحابه سيوفهم عليهم، وأخذوا يقتلون الحجاج قتلاً ذريعاً، فجعل الحجاج يلوذون بالكعبة، ويتعلقون بأستارها، وجعل يقتلهم، ولا يبالي بهم، حتى قتل من شاء منهم، وقذفهم في بئر زمزم حتى امتلأت من القتلى، وامتلأت الساحة من القتلى، وكان من أمره أن خلع كسوة البيت، وفرقها بين أصحابه، وأصعد رجلاً ليقلع ميزاب الكعبة، ولكن ذلك الرجل الذي صعد ليقلعها سقط على أم رأسه فمات إلى النار، فخاف الملعون أن تكون هناك عقوبة، ولكنه قلع الحجر الأسود، وخرج هارباً بمن معه ومعه الحجر الأسود، بعد أن فشا القتل في الحجاج، وبقي الحجر عندهم اثنين وعشرين سنة، إلى أن رد في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة بعد أن ضعفت شوكتهم وهددوا. الجزء: 89 ¦ الصفحة: 8 تأثر الرافضة بابن سبأ اليهودي ورث الرافضة القرامطة الباطنية، الذين ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض، فكيف يوثق بمثل هؤلاء، ويدعى أنهم إخوان لنا، وأنهم من أهل الإسلام، ومن أهل الولاية، وهذه سوابقهم وهذه أحوالهم؟!! وتعرفون أن من مبادئهم التقية، وهي أنهم يلعنون الرافضة ويلعنون الشيعة أمام أهل السنة، ويترضون عن الصحابة في ظاهر أمرهم، ولكنهم كالذين قال الله فيهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] تعالى الله عن قولهم، كأنهم يستهزئون بالله ويستهزئون بالمسلمين، فهذه مقالة هؤلاء، فكيف يوثق بهم؟! وقد عرفنا أن من أحب الصحابة رضي الله عنهم وأحب أمهات المؤمنين ووالاهم وسار على نهجهم فهو إن شاء الله بريء من النفاق؛ وذلك لأن محبتهم تحمل على اتباعهم، وتحمل على العمل بسنتهم وبنقلهم وبما جاء عنهم، أما بغضهم، أو بغض أحد منهم، أو تهمتهم بأنهم خانوا، أو أنهم كذبوا؛ فهذا سوء ظن بالله، وادعاء أنه ما حفظ كتابه، وما حفظ دينه، وتكذيب لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، فلينتبه لمثل هذا، وليعلم أن محبة الصحابة رضي الله عنهم براءة من النفاق، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق الأنصار: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق) ، وإذا كان هذا في حق الأنصار، فالمهاجرون بطريق الأولى، لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق. ونحن نحب أهل البيت، ونحب علياً رضي الله عنه وزوجته وأولاده، ونبرأ إلى الله ممن كفرهم أو ضللهم، نحبهم ونشهد الله على محبتهم، فبماذا تطعنون علينا يا معشر الرافضة؟! نحن نحبهم أشد من محبتكم لهم، فلو قلتم: إن من أحب علياً لزمه أن يبغض أبا بكر، قلنا: كذبتم، أبو بكر هو صديق علي وحبيبه، وقد سمعنا ما نقل الشارح رحمه الله أن علياً رضي الله عنه كان يؤدب من فضله على أبي بكر وعمر، ووالله! لو خرج علي لأدب هؤلاء الرافضة الذين يشتمون أبا بكر وعمر، ويشتمون أجلاء الصحابة، ولنكل بهم، ولكنهم قوم لا يعقلون. الجزء: 89 ¦ الصفحة: 9 شرح العقيدة الطحاوية [90] من عقائد أهل السنة سلامة صدورهم للصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمة، ويعذرون من أخطأ في المسائل الاجتهادية ويعتقدون أن له أجراً على اجتهاده، بخلاف الرافضة المخالفين للعقل والنقل في كل مسالكهم. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 1 لا يبغض الصحابة إلا منافق نسأل الله أن يرزقنا تحقيق الإيمان به، والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء عنه، ونعوذ بالله من الشقاق، ونعوذ بالله من النفاق، ونعوذ بالله من سيئ الأخلاق، ورد عن بعض السلف أنه قال في النفاق: ما أمنه إلا منافق، وما خافه إلا مؤمن. من علامات الإيمان محبة الصحابة، ومن علامات النفاق بغض الصحابة، ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأنصار: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق) ، وورد أن علياً رضي الله عنه قال: (عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق) ، ويقال كذلك في بقية الصحابة جميعاً، فحبهم إيمان، وبغضهم نفاق، كما ذكر ذلك الطحاوي رحمه الله. ذكر الشارح أن أول من دعا إلى مذهب الرافضة رجل من المنافقين يقال له ابن السوداء عبد الله بن سبأ، وهو يهودي دخل في الإسلام متستراً، وأراد أن يفسد على المسلمين عقيدتهم ودينهم، وقلده -مع الأسف- هؤلاء الرافضة، الذين سموا أنفسهم شيعة، فهم أتباع ذلك المنافق، وسيرته مشهورة، وقد ذكر بعضها الشارح رحمه الله، وتوسع المؤرخون في ذكر نفاقه وما دعا إليه. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 2 نفاق الباطنية الذين يظهرون الرفض ويبطنون الكفر ورث الرافضة والسبئية من هم أشد كفراً ونفاقاً، وهم الباطنية أو القرامطة، فرقة ظهرت في آخر القرن الثالث، وتمكنت في أول القرن الرابع، وظهر لهم فساد كبير، ومقالات شنيعة، يقول فيهم بعض السلف: ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض. ويذكرون أن الذي حملهم على الدخول في الإسلام إخراج الأمة من عقيدتها وإفساد عقيدتها من الإيمان بالله والإيمان بالبعث وما أشبه ذلك، وعقائدهم كفرية، وقد تمكنوا مع الأسف في آخر القرن الثالث، في حدود سنة مائتين وسبعين إلى حدود سنة ثلاثمائة وثلاثين، فتمكنوا من البحرين والأحساء والقطيف والخليج كله، ووصلوا إلى حدود العراق، وأغاروا على العراق مراراً، وقتلوا وسبوا، وفي سنة ثلاثمائة وسبعة عشر قتلوا الحجاج، وقلعوا الحجر الأسود، وبقي عندهم إلى أن ضعف أمرهم في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، ولا شك أنهم كفرة فجرة، فكيف تمكنوا؟ رأوا أن أهل العراق وأهل إيران وأهل تلك البلاد قد تمكن من قلوبهم حب علي وأهل بيته، فقد كانوا على مذهب الرافضة، فدخلوا عليهم من هذا الجانب، وبدءوا بادعاء أنهم رسل للمهدي المنتظر، الذي هو عند الرافضة محمد بن الحسن العسكري، الذي دخل سرداب سامراء، ولا يزالون ينتظرونه، فهؤلاء القرامطة ادعوا أنهم رسله، وأنهم كمقدمة بين يديه، وأنه سيخرج قريباً، فقالوا: نحن نؤلف من يكون عوناً له، حتى إذا خرج يكون له أعواناً، حتى يقضي على الدولة العباسية، وعلى دولة كذا وكذا، حتى لا يبقى أحد ضده، هذا تفكيرهم، فانخدع بهم خلق كثير، وفعلوا الأفاعيل، وظهر للناس فسقهم وكفرهم، فذكر المؤرخون أنهم حجوا مرة، ولما كانوا في أثناء الطريق على حدود الضريبة التي هي محرم ميقات أهل العراق أو قبل ذلك بقليل؛ اتفقوا بحجاج العراق، فقتلوا الحجاج، وكان أميرهم من بني العباس، ولم يبقوا منهم إلا من شذ، قتلوهم وأخذوا ما معهم من النساء والرواحل، وهرب من سلم منهم، والذين هربوا راجلين مات أغلبهم ظمأً وجهداً، فهذه من أفعال هؤلاء المنافقين الباطنية الذين ورثتهم في القطيف وما حوله، وقد سماهم أهل السنة بالباطنية؛ لأنهم يبطنون الكفر، ويظهرون أنهم يحبون أهل البيت، وأنهم يوالونهم، وأنهم أتباع علي، يقولون لدعاتهم: ادعوا الناس إلى محبة الآل، ادعوهم إلى محبة أهل البيت، ادعوهم إلى محبة آل المصطفى، فإذا أجابوكم فقولوا لهم: لا نقبل منكم حتى تتبرءوا من بني العباس، وحتى تتبرءوا من الخلفاء، وحتى تتبرءوا من الصحابة، وحتى تتبرءوا من بني أمية، ومن كذا ومن كذا، فإذا تبرءوا منهم، واعتقدوا كفرهم وخروجهم من الملة، عند ذلك يقدحون أيضاً في إمامهم الذي يتبعونه وهو علي، ويذكرون لهم عيوبه ومثالبه، وما نقم عليه، فعند ذلك يبقون مذبذبين، لا إلى المؤمنين ولا إلى الشيعة، لا سنيين ولا شيعة، فيكونون منهم، يبطنون ما يبطنون، فغروا الخلق الكثير بهذه الحيلة. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 3 من مبادئ الرافضة النفاق ويسمونه: التقية نحلة الشيعة مبناها على النفاق، وقد اشتهر أن الرافضة من مبادئهم النفاق الذي يسمونه التقية، ويقولون: من لا تقية له لا دين له، فتجدهم يتبرءون من الرفض، ويشتمون الرافضة إذا كانوا مع أهل السنة، فيقولون: كيف تزعمون أننا نبغض الصحابة؟! بل نحن نحبهم، نحب أبا بكر، ونحب عمر، والرسول تزوج بنت أبي بكر، وتزوج بنت عمر، ولكن يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] ، أليس هذا هو النفاق؟! وقد اشتهر هذا عنهم. كلمتُ أنا كثيراً من شيعة البحرين فقلت لهم: إنكم تسبون الصحابة، ولكن تبرءوا، وقالوا: لا نقول بذلك، وأخذوا يترضون عن الشيخين، ويقولون: أليس كذا وكذا؟ ولكن عندما جاءهم بعض من أخفى نفسه، وشتم في ظاهر الأمر الشيخين، وافقوه على ذلك، وأخذوا يذكرون مثالب وعيوب الصحابة رضي الله عنهم، إذاً: هذا هو النفاق، فالذين يحبون الصحابة من قلوبهم بريئون من النفاق، والذين يبغضونهم أو يبغضون أحداً منهم لم يسلموا من النفاق. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 4 محبة أهل السنة لعلماء السلف قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] ، فيجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصاً الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم؛ إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقاً يقيناً على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له في تركه من عذر، وجماع الأعذار ثلاثة أصناف: أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله. الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول. والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ. فلهم الفضل علينا والمنة بالسبق، وتبليغ ما أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا، فرضي الله عنهم وأرضاهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]] . هذا الكلام يتعلق بأئمة المسلمين، وعلماء الدين، وعباد الأمة، وهداتها، الذين هداهم الله، وسددهم، وأرشدهم، وبصرهم بالحق، الذين ورثوا النبوة، وحملوا العلم، ونقلوه عمن قبلهم، ولقنوه وعلموه لمن بعدهم، قولاً وعملاً. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 5 فضل أهل القرون الأولى قد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لسلف الأمة بالخير وبالفضل فقال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ، وروي عنه أنه قال لأصحابه: (أنتم خير من أبنائكم، وأبناؤكم خير من أبنائهم) ، فهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم لصدر هذه الأمة بالخير، ولا شك أنهم يتفاوتون؛ وذلك لأن فيهم العلماء، وفيهم العباد، ولا شك أن العلماء أفضل من العباد، ففي حديث أبي الدرداء المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) ، ويقول بعضهم: لعالم أشد على الشيطان من ألف عابد، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وعلماء هذه الأمة الذين تحملوا العلم، نشهد أنهم لم يكتموه، وأنهم عملوا به، وأنهم طبقوه، فمن الصحابة علماء أجلاء، عاملون بما قالوا، ومن تلامذتهم علماء مشهود لهم بالخير كالفقهاء السبعة الذين نظمهم بعض العلماء بقوله: إذا قيل من في الدين سبعة أبحر رواياتهم ليست عن العلم خارجة فقل: هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة الأول: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ابن أخي عبد الله بن مسعود الصحابي. الثاني: عروة بن الزبير بن العوام خالته عائشة رضي الله عنها. الثالث: القاسم بن محمد بن أبي بكر عمته عائشة رضي الله عنها. الرابع: سعيد بن المسيب بن حزن العالم المشهور التابعي العابد، وهو من أفاضل قريش. الخامس: أبو بكر بن الحارث بن هشام من بني مخزوم من قريش. السادس: سليمان بن يسار مولى مملوك، ولكن منّ الله عليه بالعلم. السابع: خارجة بن زيد بن ثابت. هؤلاء من أجلاء علماء التابعين، ولهم من يروي عنهم، اشتهروا بالعلم، ثم اشتهر بعدهم من صغار التابعين من لهم مكانة في العلم ومكانة في الدين، فمن علماء المدينة: محمد بن مسلم الزهري المعروف بـ ابن شهاب. وربيعة بن عبد الرحمن ويعرف بـ ربيعة الرأي. ومن علماء مكة: عطاء بن أبي رباح مولى عتيق، ولكن منّ الله تعالى عليه بالعلم. وكذلك أيضاً في سائر البلاد، ورثهم أيضاً تلامذتهم، مثل: عبد الملك بن جريج وشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري والأئمة الأربعة المشهورون، المشهود لهم بالإمامة: في العراق أبو حنيفة، وفي المدينة مالك، وفي بغداد الإمام أحمد، وفي مكة ثم في مصر الإمام الشافعي، وفي مصر أيضاً الإمام الليث بن سعد، وفي الشام الإمام الأوزاعي، وأتباعهم وأشباههم. فنقول: إن هؤلاء الأئمة في الدين، لا يقدح فيهم إلا من هو ضال مضل، وقد شهد لهم أتباعهم، وكذلك شهدت لهم الأمة، بأنهم علماء هذه الأمة، حملهم الله العلم، ولما تحملوه لم يبدلوا ولم يبتدعوا ولم يغيروا، بل كانوا على السنة، محاربين للبدعة، كلما ظهرت بدعة أنكروها، وأنكروا على أهلها، وشنعوا بهم وحاربوهم وطردوهم، والبدعة في زمانهم مندحرة. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 6 مذهب السلف في العقيدة واحد ابن المبارك عالم من علماء خراسان، وكان في الري المعروف الآن في إيران، قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ فقال: بأنه على عرشه، فوق سماواته، بائن من خلقه. ولا شك أن هذا تصريح بعقيدة أهل السنة في زمانه، ورداً على المبتدعة، لأنه ظهر في زمانه كثير من المبتدعين، مثل: بشر بن غياث المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأحمد بن أبي دؤاد المبتدع المشهور، وأشباههم، فخافوا على الأمة أن يقلدوهم، أو يكونوا مثلهم في الضلال؛ فأظهروا السنة، وأظهروا الأحاديث، وأظهروا الاستدلال بها، وبينوا المعتقد السليم الصحيح، حتى لا يبقى لمسلم شبهة يتبع بها هؤلاء المبتدعة، وأكثروا من الرواية للأحاديث التي تتعلق بالعقيدة السلفية السليمة الصحيحة؛ لئلا ينخدع بعض من يموّه له أولئك المبتدعة بأنهم على حق وعلى صواب، فهدى الله بهم من أراد هدايته، وسلمت عقيدتهم وعقيدة أتباعهم، فأقوالهم في العقائد واحدة، فهم متفقون في العقيدة، لم يتنوع مذهبهم فيها، لا يقال: مذهب أحمد في العقيدة كذا، ومذهب أبي حنيفة كذا، ولما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية عقيدته الواسطية، وحصل جدال فيها مع أهل زمانه، وكان السلطان حاضراً المناظرة بينهم، فأراد أن يفصل بينهم فقال: إنه على مذهب أحمد، ومذهب أحمد معتبر ومعترف به، فاتركوه على مذهبه، وأنتم على مذهب أئمتكم شافعية أو حنفية أو نحو ذلك، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: معاذ الله أن يكون للإمام أحمد مذهب خاص في باب العقيدة، بل هذه العقيدة مذهب الأئمة كلهم، ثم صنف رسالة أخرى تسمى الفتوى الحموية، وتوسع فيها، وذكر أنها قول الأئمة كلهم، فنقل عن أبي حنيفة من كتابه (الفقه الأكبر) الموجود الآن، ونقل عن الشافعي، ونقل عن مالك، ونقل عن الليث، ونقل عن الثوري، ونقل عن ابن عيينة، ونقل عن ابن أبي ذئب، ونقل عن الأوزاعي، ونقل عن فلان وفلان من أئمة السلف، ثم نقل عن أتباعهم؛ فبين أنهم متفقون في باب العقيدة، لا يوجد بينهم أي اختلاف، أما المذاهب التي تفاوتت، فإنما هي في الفروع الاجتهادية، الفروع التي هي الأعمال. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 7 ذم التعصب للأئمة في المسائل الاجتهادية هناك أتباع للأئمة في الفروع اجتهدوا كما اجتهد الشافعي واتبعوه، وهناك أتباع لـ أبي حنيفة اتبعوه، وأتباع لـ مالك اتبعوه، وأتباع للأوزاعي، وأتباع للثوري، وأتباع لليث، وأشباههم، ولكن هذا فيما يتعلق بالفروع التي طريقها الاجتهاد، وإذا قلت: لماذا حصل التفاوت؟ ولماذا حصل التمذهب، حتى أدى ذلك إلى التعصب، فنحن نرى أن الحنفية يتعصبون لمذهبهم، وأن الشافعية كذلك، وكذا الحنابلة والمالكية ونحوهم؟ فلماذا هذا التعصب وهذا التمذهب؟ أليس الدليل واحداً؟ أليس القصد والهدف واحداً؟ نقول: نعم، الهدف واحد، ولكن هذه الأشياء حدثت بسبب الاجتهاد، فهؤلاء اختاروا قولاً، وصار لهم مشايخ، ولهم كتب يرجعون إليها، فصار بعضهم يتمحل في رد الأدلة التي يستدل بها خصومهم، ويتعصب لمذهبه ومذهب إمامه، ونحن ننكر عليهم هذا التعصب، ورد الأحاديث التي هي صريحة في مخالفة مذهبهم، وهذا التعصب حدث للمتأخرين، ولعل بعضكم قرأ في كتاب البيهقي السنن الكبرى التي طبع في ذيلها رد عليها اسمه: الجوهر النقي في الرد على البيهقي، فـ البيهقي رحمه الله عالم جليل محدث حافظ، ولكنه شافعي المذهب، فإذا جاء إلى المسألة التي فيها المذهب الشافعي استوفى الأحاديث التي فيها، ولا يزيد على الاستيفاء، وإذا خالفه مذهب أبي حنيفة، فإن صاحب الجوهر النقي يتعصب تعصباً شديداً، ويرد تلك الأحاديث، ونحن نعذر الإمام أبا حنيفة في مخالفته لتلك الأحاديث أو تلك الأدلة، ونقول: إما أنها لم تبلغه، وإما أنها لم تثبت عنده لما بلغته، ولم يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وإما أنها بلغته ولكن ثبت عنده ما ينسخها أو ما يخالفها، وإن لم يثبت ذلك عند غيره، فهو معذور، ولكن لا يعذر أتباعه الذين تعصبوا له، وتشددوا في نصرة مذهبه، بل ردوا الأحاديث كما فعله صاحب الجوهر النقي هذا، وهو: ابن التركماني، وهو متأخر في حدود القرن الثامن. أما المقتصدون منهم فإنهم لا يتعصبون، فمثلاً صاحب نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية حنفي يقال له: الزيلعي، وهو عالم بالحديث منصف، يذكر أحاديثهم التي تدل على مذهب الحنفية، ثم يذكر أحاديث من خالفهم، ولا يتشدد في ردها ولا في تعقبها، وهذا بلا شك من الإنصاف. وبكل حال نقول: إن الأئمة والعلماء من هذه الأمة هم خير هذه الأمة، وفضلهم ظاهر؛ وذلك لأنهم حفظوا على الأمة دينها، ومن نصحهم للأمة أنهم دونوا ما حفظوه وكتبوه، فكتبوا فقههم وأحكامهم، وكتبوا الأحاديث التي بلغتهم، وبينوا وجهتهم واجتهاداتهم، وذلك كله نصح وشفقة للأمة، فرضي الله عنهم وجزاهم عن هذه الأمة خيراً، فهم أفضل هذه الأمة، فأفضل هذه الأمة علماؤها، وقد ذكر الله عن الأمم السابقة أن علماءهم فيهم المخالفة الشديدة، فقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] الرهبان: هم العباد، والأحبار: هم العلماء، ويقول الله تعالى في أهل الكتاب: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78] فذمهم بأنهم يكذبون ويتقولون، وذمهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، وأنهم كتموا ما أنزل الله، وذمهم بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] ، أما هذه الأمة فإن علماءها نصحوا لأتباعهم، ونصحوا للأمة، وبينوا لهم طرق الصواب، فجزاهم الله عن الأمة خيراً، ونحن نقول كما أمرنا الله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] . الجزء: 90 ¦ الصفحة: 8 الرد على من فضل الأولياء على الأنبياء قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء) . يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الاتحادية وجهلة المتصوفة، وإلا فأهل الاستقامة يوصون بمتابعة العلم ومتابعة الشرع، فقد أوجب الله على الخلق كلهم متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء:64] إلى أن قال: (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] . قال أبو عثمان النيسابوري: من أمّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة. وقال بعضهم: ما ترك بعضهم شيئاً من السنة إلا لكبر في نفسه، والأمر كما قال؛ فإنه إذا لم يكن متبعاً للأمر الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعمل بإرادة نفسه فيكون متبعاً لهواه بغير هدى من الله، وهذا غش النفس، وهو من الكبر، فإنه شبيه بقول الذين قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] ، وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياسته واجتهاده في العبادة وتصفية نفسه إلى ما وصلت إليه الأنبياء من غير اتباع لطريقتهم، ومنهم من يظن أنه قد صار أفضل من الأنبياء، ومنهم من يقول: إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، ويدعي لنفسه أنه خاتم الأولياء، ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون: وهو أن هذا الوجود المشهود واجب بنفسه ليس له صانع مباين له، لكن هذا يقول: هو الله، وفرعون أظهر الإنكار بالكلية، لكن كان فرعون في الباطن أعرف بالله منهم، فإنه كان مثبتاً للصانع، وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق كـ ابن عربي وأمثاله، وهو لما رأى أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره قال: النبوة ختمت لكن الولاية لم تختم! وادعى من الولاية ما هو أعظم من النبوة، وما يكون للأنبياء والمرسلين، وأن الأنبياء مستفيدون منها، كما قال: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي وهذا قلب للشريعة، فإن الولاية ثابتة للمؤمنين المتقين، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] ، والنبوة أخص من الولاية، والرسالة أخص من النبوة، كما تقدم التنبيه على ذلك] . الجزء: 90 ¦ الصفحة: 9 ضلال الصوفية هذا الكلام في الرد على غلاة الصوفية من الحلولية والاتحادية، وهم مبتدعة نشأ أولهم في آخر القرون المفضلة، ثم توسعوا وانتشروا وكثروا في أواسط القرون، وصار لهم مذاهب ونحل، ولا يزال لهم أتباع يدعون إلى طرقهم مع الأسف، ويدعون إلى مذاهبهم، فمن مذاهبهم طريقة النقشبندية، وطريقة الشاذلية، وهي طرق مشتهرة، لها دعاة يدعون إليها، وهناك طرق أخرى لها أتباع، وأشهرها طريقة التيجانية، فهؤلاء ماذا نسميهم؟ هم يسمون أنفسهم صوفية، ولهم أتباع، فالذين رئيسهم النقشبندي ينتسبون إليه، وهكذا أتباع الشاذلي، وأتباع عبد القادر الجيلاني، وأتباع الاتحادي ابن عربي، وأشباههم، والكلام عليهم قد استوفاه الأئمة المتقدمون والمتأخرون، ومن أوسع من رأيته تكلم على طريقة الصوفية من المتقدمين ابن الجوزي في كتابه الذي سماه: تلبيس إبليس، فإنه لما تكلم على الصوفية جعل فيهم نحو نصف الكتاب أو قريباً منه، مع أن الكتاب في ذم كل من عنده بدعة أو نحلة في زمانه، ولكن حمل على الصوفية؛ ولعله حمل عليهم لكثرتهم في زمانه، وذكر أشياء كثيرة منتقدة من طرقهم، وفي زماننا كتب فيهم عالم مصري يقال له: عبد الرحمن الوكيل كتابين: الكتاب الأول بعنوان: صوفيات، والكتاب الثاني بعنوان: هذه هي الصوفية، وقد فضح مناهجهم وطرقهم، ولعله شاهد عبادتهم في بلاده، فإنهم منتشرون في مصر والسودان، وفي أكثر البلاد الإفريقية متمكنة طرقهم، ولهم مبادئ، ويمدحون أنفسهم، ويمدحون طريقتهم، ويدعون أنهم الذين حفظوا الإسلام، والذين كافحوا ونافحوا عنه، ويدعون أنهم الذين قاموا به أتم قيام، ودعوا إليه وبلغوه، وأنه هدى الله بهم من أراد هدايته، وأنقذ بهم من أراد به خيراً، هكذا يعبرون، ومع الأسف قد انتشروا في هذه البلاد، فيوجدون بكثرة في الحجاز، ويوجدون في الشرقية، أما في وسط نجد فإنهم قلة والحمد لله، لكن لأولئك من يؤيدهم ويتبعهم وإن لم يكن على نحلتهم. حدثت الصوفية في أول الأمر في نصف القرن الثاني، وكثروا في القرن الثالث، ولكن الصوفية الذين في القرن الثاني والثالث لم يكن عندهم بدع، وسماهم السلف رحمهم الله صوفية؛ لأنهم رضوا بالتخشن وبالتقشف وبالزهد، وصاروا يرتدون لباس الصوف الخشنة، أي: اللباس الذي ينتج من صوف الضأن، فكانوا يلبسونه مع خشونته، كل ذلك من باب التقشف والزهد، واشتهر منهم علماء وعبّاد في صدر هذه الأمة، فمنهم: إبراهيم الخواص وهو عابد مشهور متمسك، وإبراهيم بن أدهم، الذي له حكايات وله وقائع مشهورة، والجنيد بن محمد وبشر الحافي ومعروف الكرخي وأشباههم، فهؤلاء كانوا يسمون صوفية في زمانهم، ولكن ليسوا على معتقد الصوفية المتأخرين، بل هم زهاد، واسمهم في الأصل زهاد وعباد، وهم مبتعدون عن شهوات الدنيا وزينتها، مقبلون على العبادة، لا يريدون الدنيا، يقنعون منها باليسير، ذكروا أن بعضهم سمي إبراهيم الخواص؛ لأنه كان يأكل من كسب يده، يتتبع ما يلقيه الناس من الخوص، ثم ينسجه ويبيع منه بقدر ما يقتاته، وبقية وقته للعبادة، فجلّ أوقاتهم عبادة، فهؤلاء ليسوا مذمومين، خلافاً لبعض المتأخرين الذين أدخلوا كل من أطلق عليه صوفي في الذم، منهم علماء معتبرون دخل عليهم شيء من البدع المتأخرة، ولعلكم قرأتم للحارث المحاسبي شيئاً من رسائله التي تتعلق بالتصوف ومحاسبة النفس وما أشبهها، والحارث هذا معه علم ومعه زهد، ولكن دخل عليه بسبب قلة علمه شيء من بدع المتصوفة ونحوهم، فصار معه بدع، ولكن لم تصل بدعته إلى بدعة المتصوفة المتأخرين، فلأجل ذلك أُنكر عليه بعض الأشياء، ولكنها قليلة، وهو على طريقة الصوفية المتقدمين الذين هم أهل الزهد وأهل التقلل. وفي آخر أو في وسط القرن الثالث ظهر منهم بعض المشتهرين بالعبادة مثل الشبلي وهو عابد من العباد، وله أشعار منقولة في الزهديات، ولكن حفظ عليه بعض الأشياء انتقدت عليه، ومنهم أبو يزيد البسطامي وقد نقل عنه بعض الأشياء التي فيها شيء مما يفهم منه أنه على طريقة أهل الاتحاد، فقد نقل عنه ابن الجوزي في تلبيس إبليس أشياء مستنكرة، منها أنه سُمع يقول: سبحاني سبحاني ما أعظم شاني ومنها أنه كان مرة يمشي، فالتفت إلى أناس وراءه فقال لهم: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون! ومقالات نحو هذه، وبعضهم حملها على أنه زاد به الوجدان فصار إلى هذه الحال، وتأولها بعضهم بأنه يحكي عن الله، أو ما أشبه ذلك، ولكن أكثر من أنكر عليه رجل في آخر القرن الثالث يسمى الحسين الحلاج فيحكون عنه عجائب، ويحكون عنه وقائع عظيمة بشعة شنيعة وقد قتل في سنة ثلاثمائة وتسعة، ومن قرأ ترجمته في تاريخ ابن كثير يرى عجائب مما نقل عنه، حيل كان يحتال بها ويوهم الناس أنه ولي، وأنه وأنه، وأجمع أهل زمانه على أنه محكوم بكفره، فقتل لذلك، ولو أنكر قتله من أنكره. فهذا أساس مبدأ الصوفية. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 10 شرح العقيدة الطحاوية [91] أولياء الله هم كل مؤمن تقي، وقد تغير هذا المفهوم عند كثير من الناس، فجلعوا أولياء الله أناساً مخصوصين، وبنوا على قبورهم القباب، وغلوا فيهم، ومنهم من كان صالحاً، ومنهم من كان على غير سواء السبيل، كابن عربي الصوفي الحلولي الذي كفره كثير من العلماء. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 1 منزلة أولياء الله ذهب بعض المبتدعة إلى أن الأولياء أفضل من الأنبياء، سبحانك هذا بهتان عظيم، فالأولياء بم صاروا أولياء؟ ومتى نزل عليهم الوحي؟ الأولياء تولاهم الله وصاروا أولياءه عندما اتبعوا رسله، وأطاعوهم واتبعوا شريعته؛ فبذلك أصبحوا من أوليائه، فتولاهم الله، وتولى توفيقهم وحفظهم، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] وليهم أي: حافظهم، وهو الرقيب عليهم، وهو الموفق لهم، وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] حزب الله هم جنده، وهم عباده الصالحون، وهم الذين يحبهم ويحبونه، الذين شهد لهم بولايته، واتباعهم لأمره، وتقبل شرعه، وعلى هذا فالناس قسمان: ولي لله، وعدو لله، لا يخرج الإنسان من هذين القسمين، ومن تولاه الله حفظه، ومن عادى ربه خلى بينه وبين أعدائه، فصار ولياً للشياطين تستهويه وتستحوذ عليه، وتغريه وتؤزه إلى الشر أزاً {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83] فمن لم يكن ولياً لله فهو ولي للشيطان، وعلى هذا المنوال وضع شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه المشهور الذي طبع عدة مرار واسمه: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وجعل هذا الكتاب في بيان أولياء الله وعلامتهم، وأولياء الشيطان وعلامتهم، وبيّن أن كل من آمن بالله واتقاه حق تقواه، وحقق الإيمان به، فهو ولي لله تعالى {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] ، والله تعالى ذكر أن أولياءه هم المؤمنون المتقون، وذكر ثوابهم. فقال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] ، لا تفسر ولاية الله إلا بما فسرها به الله سبحانه، فأولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، فكل من حقق الإيمان بالغيب من الإيمان بالله والإيمان بالبعث والإيمان بالحساب والجزاء والإيمان بالقدر خيره وشره والإيمان بالملائكة والكتب والرسل، والإيمان بكل ما أخبر الله تعالى به، وكذلك ظهرت عليه آثار هذا الإيمان من العمل والاستعداد، وكذلك حقق تقوى الله ومخافته ورجاءه، وعمل بطاعته؛ فإنه من أولياء الله، وأما من خالف ذلك ولم يطع أمر الله بل خالفه، وعاند وعصى، وطغى وبغى؛ فإنه من أولياء الشيطان. إذاً: أولياء الله هم كل المؤمنين، وكل المتقين، فكلهم أولياء لله، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي ولاية الله: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ، فجعل ولي الله تعالى هو الذي يواليه ويتولاه، ومن عاداه فإنه حرب لله، وأي شخص يقوى على محاربة الله؟! وصريح الحديث: أن أولياء الله يتولاهم ربهم وينصرهم ويعزهم ويحميهم على من خالفهم، وعلى من خرج عليهم، وكذلك في القرآن: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55] ، وإذا كان الله ولينا فإننا أولياء الله، وإذا كان الرسول ولينا فنحن نتولاه، وإذا كان المؤمنون أولياء بعضهم من بعض فإنهم أولياء الله، وقد ذكر الله تعالى ولاية المؤمنين بعضهم لبعض فقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} [التوبة:71] يعني: ينصر بعضهم بعضاً، ويؤيد بعضهم بعضاً، ويحمي بعضهم بعضاً، ويتناصرون فيما بينهم؛ وذلك لأنهم جميعاً أولياء الله، فكل منهم يتولى الآخر وينصره، ويحرصون على اكتساب ولاية الله بهذه الأمور التي هي ولاية من تولاه الله، ومحبته ونصرته، والقرب منه، يقول ابن عباس رضي الله عنهما في الأثر المشهور: من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك. من أراد أن ينال ولاية الله وأن يكون من أولياء الله؛ فليحب أولياء الله وليوالهم وليقرب منهم، وليعاد أعداء الله وليقاطعهم وليبتعد عنهم، وبذلك ينال العبد ولاية الله له، ويكون من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 2 المؤمنون بعضهم أولياء بعض المؤمنون بعضهم يتولى بعضاً، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] ، هكذا أخبر (بعضهم أولياء بعض) كما أن الكفار يتولى بعضهم بعضاً، كما أخبر الله في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] يعني: لا تتولوا أعداء الله، بل يكفيكم أن تكونوا جميعاً أولياء لله وأولياء لبعضكم، يكفيكم أن يتولاكم الله وأن تكونوا من أولياء الله. هذه عقيدتنا، ونرجو إن شاء الله أن نتوفى على هذه العقيدة، وهي أن المسلمين والمؤمنين بعضهم أولياء بعض، وأن من تولى الله فإنه من أوليائنا، وأن جميع من آمن واتقى فهو من أولياء الله. وقد ذهبت الصوفية إلى أن هناك أولياء خصيصون، فهم يسمون الأولياء، وأما بقية المؤمنين فلا يصلون إلى درجة الولاية، وجعلوا الذي سموه ولياً أرفع رتبة من النبي، وجعلوا النبي أرفع رتبةً من الرسول، وهذا مخالفة لشرع الله، ومر بنا في الشرح البيت الذي يستشهدون به، وهو قولهم: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي فجعلوا النبوة منزلة وسطى، وجعلوا الرسول المنزلة الدنيا، والولي المنزلة الرفيعة، فقالوا: إن الولي هو الأعلى، ويليه النبي، وأنزل منه الرسول، فمقام النبوة جعلوه في الوسط: فويق الرسول ودون الولي هكذا مثلوا، وفضلوا كثيراً ممن سموهم أولياء على جميع الرسل، وفضلوهم على الأنبياء، وقالوا: إن الولي غني عن الشرع، وغني عن القرآن، وغني عن هذا الدين، لماذا؟ لأن له ولاية رقته إلى رتبة عالية، فأصبح يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي ينزل على الأنبياء والرسل، وروح هذا الولي عندهم تتصل بالملأ الأعلى، وتطلع على اللوح المحفوظ، وتأخذ منه المعلومات، وتنال منه مرادها، ويستغني الولي عن هذا الشرع، وعن هذا القرآن، وعن هذه العبادات كلها؛ ولأجل ذلك جعلوه في رتبة عالية، وقالوا: إنه يأخذ بسره أو بسريرته، وأنه يحدثه قلبه عن ربه، يقول بعض الأولياء: حدثني قلبي عن ربي، ويسمون ذلك مكاشفة أو باطناً من البواطن التي لا يطلعون عليها غيرهم. قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قد قال الصحابة والأولى تبعوهم في القول والأفعال أو قلت قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والإمام العالي أو قلت قال صحابهم من بعدهم فالكل عندهم كشبه خيال لا يعتبرون بذلك كله، ويقول: قلبي قال لي عن سره عن سر سري عن صفا أحوالي عن حضرتي عن فطرتي عن خلوتي عن شاهدي عن وافدي عن حالي عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي عن سر ذاتي عن صفات فعالي دعوى إذا حققتها ألفيتها ألقاب زور لفقت بمحال نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم نبذ المسافر فضلة الآكال هذه الاصطلاحات التي اتفقوا عليها يدعون أنهم تفوقوا بها على المسلمين وعلى الإسلام وعلى أولياء الله المؤمنين من الصحابة والتابعين ونحوهم، ويستغنون بها في زعمهم عن الشرع الشريف وعن أهله، وقد حدث من آثار ذلك أنهم عظموا هؤلاء الذين ادعوا أنهم أولياء أو ادعوا لهم الولاية، وعبدوهم من دون الله، فما عبدت القبور إلا بالغلو في الصالحين، فإن الشيطان صار يزين لهم أن هذا ولي، وقد سقطت عنه التكاليف، وأنه لا حرج عليه فيما يفعل، وأنه قد ارتقى قلبه إلى ربه، وأنه مستغنٍ عن الشرع وعن أهل الشرع، فـ السيد البدوي المشهور بطنطا في مصر إلى الآن يعتقدون أنه لا يدخل مصر أحد إلا من بعد أن يأذن له السيد البدوي، فهو الذي يتصرف في الكون كله، وعندهم أنه مالك الملك، تعالى الله عن قولهم، فلأجل ذلك لا ينكرون عليه ترك العبادة، سمعت من بعض المشايخ يقول: إنه عرف أنه دخل مرة المسجد، والناس في الصلاة، فبال في المسجد وخرج ولم يصل، فسمعوه وقالوا: مجذوب مجذوب، قلبه عند ربه، وجعلوا يتمسحون به! وأمثاله كثير، ولا يكون عليهم أي حرج، ويسمونهم الأولياء، وأنهم لا حرج عليهم في أي شيء، كما قال الصنعاني رحمه الله: كقوم عراة في ذرى مصر ما ترى على عورة منهم هناك ثياب يعدونهم في مصرهم من خيارهم دعاؤهم فيما يرون مجاب يمشون عراة، ويقولون: لا حرج عليهم، قلوبهم في الملأ الأعلى، يشتغلون عن الشرع! هكذا وصلت الحال بهم إلى أن أسقطوا عنهم -بزعمهم- التكاليف، وإذا رأوا مجنوناً من هؤلاء المجانين الذين رفع القلم عنهم لفقد عقله، أخذوا يتمسحون به، وقالوا: هذا ولي من أولياء الله، وإذا مات أحدهم فشيّع، يزعمون أن الملائكة تحمله، وإذا جعلوه فوق السرير على النعش، يخيل إليهم أنه قد ارتفع عن المناكب، وأنه يطير في الهواء على نعشه، وكل هذا تخييل من الشيطان، وهكذا كل الذين عبدوا من دون الله، فإنهم ما عبدوا إلا بسبب أن الجهلة غلوا فيهم، واعتقدوا فيهم أنهم أولياء لله من دون الناس. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 3 انتشار قبور الأولياء قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه الجزيرة قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان هناك قبور يدّعون أنها قبور أولياء من أولياء الله، وقد ذكر منها الشيخ محمد في رسالته كشف الشبهات قبر رجل اسمه شمسان، ولم يذكر تفصيلاً عن حالته، وقبر آخر يسمى يوسف، وآخر يسمى تاجاً، ذكر هؤلاء الثلاثة في كشف الشبهات، وكذلك ذكرهم مولى علي بن مولى عمران في قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها: جاءت قصيدتهم تروح وتغتدي في سب دين الهاشمي محمد إلى أن قال: الشيخ جاهد بعض أهل جهالة يدعون أصحاب القبور الهمد تاجاً وشمساناً وما ضاهاهما من قبة أو تربة أو مشهد جاءهم الشيطان وقال: هذا ولي من أولياء الله، فتبركوا به ما دام حياً، وإذا مات فاعبدوه، فعبدوه من دون الله، وكثرت في ذلك المعبودات من دون الله، وانتشرت في كثير من البلاد، ففي العراق يدعون ولاية عبد القادر الجيلاني، وهو عبد صالح وعالم من العلماء، إلا أنه لم يكن له صنعة في علم الشريعة وفي علم الحديث، ولأجل ذلك لا يميز بين صحيح الحديث وسقيمه، ولعلكم قرأتم شيئاً من كتابه الذي يسمى: (الغنية) ففيه ما يدل على أنه لم يكن متضلعاً من علم السنة، ولكن كان من أهل السلوك، وكان من أهل التصوف، ومن أهل العبادة، فلأجل ذلك غلوا فيه، وادعوا أنه ولي، وصاروا ينقلون عنه أشياء من خوارق العادات ليست صحيحة، بل هي مكذوبة مختلقة لا أصل لها من الصحة، فمن ذلك: ذكروا أن امرأة جاءت إليه وقالت: إن ابني مات وإنه وحيدي، وليس لي ابن غيره، فسلْ الله أن يحييه، فقال: سأفعل، ثم إنه طار في الهواء، حتى أدرك ملك الموت وهو في السماء، وقد قبض أرواحاً وجعلهم في زنبيل، فقال: رد روح هذا الميت، فلما لم يفعل أخذ الزنبيل، وأسقط ما فيه من الأرواح، فحيي كل من قبض في ذلك اليوم من تلك الأرواح التي قبضها ملك الموت! وهذه خرافة من خرافاتهم. ومن ذلك: ذكروا أنه أتي بكبش مشوي أو مطبوخ، فقال: كلوا ما عليه من اللحم، ولا تأخذوا عظامه، ولا تزيلوها، فلما أكلوا اللحم كله، قال: قم يا كبش بإذن الله، فقام الكبش ينفض شعره وجلده كأنه لم يمت! وهذه أيضاً خرافة لا أصل لها. وكثر الكذب عليه من مثل هذه الأكاذيب، فادعوا أنه ولي من أولياء الله، وأنه أفضل من الأنبياء، وأن له العصمة، وأنه مستغن عن الشرع، وأنه وأنه. والذين ترجموا له من أولئك المخرفين جعلوه من غلاة الاتحادية، أو من أهل وحدة الوجود، ولا شك أنه -إن شاء الله- بريء من هذا كله، بل هو عابد من العباد، ولكن لما ظهر على يديه شيء من الكرمات، ادعوا أنه وصل إلى هذه الدرجات، وولدوا عليه هذه الأكاذيب، وكان من نتيجتها أنه صار معظماً يعبد مع الله، يعبد في أفريقيا، ويعبد في بلاد الهند والسند والعراق والشام، وغالباً يذكر عبد القادر على الألسن كثيراً، حتى سمعت رجلاً في يوم عرفة في حجة من الحجات يهتف: يا عبد القادر يا عبد القادر، خذ بيدي، أنجني، اغفر لي، خذ بيدي من الهلاك، فنصحته وقلت: ومن هو عبد القادر؟ فقال: السيد عبد القادر الجيلاني، هذا ولي الله، هذا الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ويملك أزمة الأمور، ويغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويخفض ويرفع، يمجده هذه التمجيدات! فقلت له: ومن رب الناس قبل عبد القادر؟ ولماذا عبد القادر لم يرد عن نفسه الموت؟ وأين الآن عبد القادر حتى نعرف حالته؟ هو مخلوق خلق من ماء مهين، ثم تمتع وعاش في الدنيا كما تمتع غيره، ولكن ذلك الشخص أخذ يوبخني ويقول: أنت تسقط قدر أولياء الله، أنت لا تحب أولياء الله حقاً، أولياء الله فيهم وفيهم، وهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأشباه ذلك، وعرفت أنه لا حيلة فيه، فأخذت أقول له: أنا كفرت بـ عبد القادر، كفرت بك يا عبد القادر، فابعث لي ما تشاء، فقبض على رأسه واعتقد أني سأموت في لحظتي! هكذا زين لهم الشيطان، ولا شك أن الجهل هو الذي أردى بهم إلى أن اعتقدوا هذا في هذه المعبودات في نظرهم. وفي اليمن ولي يقال له ابن علون، وهو مشهور أيضاً، وله قصص، وكان من العلماء، لكن بعد موته جاء الشيطان وقال: هذا قبر ابن علون، وهو ولي الله، فالآن يدعى في كل الأماكن، وإن كان في الزمن الأخير بعدما تفقهوا، وجاءتهم كتب أئمة الدعوة، تنبهوا وتركوا ذلك. وبكل حال فهذه الولاية التي أوقعها الشيطان في قلوب هؤلاء، زين لهم أنها مرتبة راقية رفيعة، انخدع بها هؤلاء حتى عبدوا المخلوقين من دون الله. ويذكر لنا كثير من الإخوان أنه هناك قبور: في باكستان، وفي أفغانستان، وفي الهند والسند، بل وفي البلاد العربية: كمصر، والعراق، وسوريا، ولبنان، والسودان، واليمن في جنوبه وشماله، ولا حقيقة لتلك الأمور، حتى ذكروا أن بعضهم مات له حمار، فدفنه، ثم جاء إلى أهل البلد وقال: هذا قبر ولي من أولياء الله، فقالوا: من هو؟ فسمى لهم اسماً مستعاراً، فعبد ذلك الحمار، وبني عليه، وجعلوا يأتون إليه، ويتبركون بتربته ويدعونه! ولا شك أن هذا من وسوسة الشيطان حتى أوصلهم إلى هذه الحال، ومع ذلك فإن هناك أشخاصاً ادعيت فيهم الولاية، وأنهم أولياء لله، وهم ليسوا أولياء لله، بل أعداء الله، ومنهم ملاحدة من أهل وحدة الوجود، وكم يذكر في تراجمهم من المبالغة والمديح العظيم والثناء عليهم، كـ ابن عربي الاتحادي الذي هو من أهل الوحدة، وهو على طريقة الحلاج وغيره ممن يقولون: إن وجود الخالق هو وجود المخلوق، وعين الخالق هو عين المخلوق! تعالى الله عن قولهم، ومع ذلك يذكرون في ترجمته الثناء عليه، والمديح له، والمبالغة في أمره وإطرائه، حتى من بعض أهل السنة الحنابلة، مثل ابن العماد الحنبلي صاحب شذرات الذهب، كان في القرن الحادي عشر، لما ذكر ترجمة ابن عربي، أخذ يحكي له من الحكايات التي تدل على أنه مستجاب الدعوة، وأنه مقرب عند الله، وأنه وأنه، ويورد له ذكريات، ويورد له أقاويل وحكم، بينما الذين ترجموه من أهل المعرفة كـ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية بينوا حقيقته، وذكروا أنه اتحادي ملحد، يقول بوحدة الوجود، فلا يغتر بمن مدحه أو أثنى عليه، وهكذا أمثاله كثيرون، فعلى هذا نحذر من هؤلاء الذين يفضلون أولياء الله -كما يقولون- على أنبياء الله، بل نعرف أن نبياً واحد أفضل من جميع من يسمونهم أولياء. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 4 حقيقة ابن عربي الصوفي قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وقال ابن عربي أيضاً في فصوصه: (ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إلا موضع لبنة، فكان هو صلى الله عليه وسلم موضع اللبنة، وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤية، فيرى ما مثله النبي صلى الله عليه وسلم، ويرى نفسه في الحائط في موضع لبنتين، ويرى نفسه تنطبع في موضع كلتا اللبنتين فيكمل الحائط؛ والسبب الموجب لكونه يراها لبنتين: أن الحائط لبنة من فضة ولبنة من ذهب، واللبنة الفضة هي ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله في الشرع ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه؛ لأنه يرى الأمر على ما هو عليه؛ فلا بد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى إليه إلى الرسول. قال: فإن فهمت ما أشرنا إليه فقد حصل لك العلم النافع) فمن أكفر ممن ضرب لنفسه المثل بلبنة ذهب، وللرسول المثل بلبنة فضة، فيجعل نفسه أعلى وأفضل من الرسول؟! {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111] ، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56] ، وكيف يخفى كفر من هذا كلامه؟! وله من الكلام أمثال هذا، وفيه ما يخفى من الكفر، ومنه ما يظهر، فلهذا يحتاج إلى ناقد جيد ليظهر زيفه، فإن من الزغل ما يظهر لكل ناقد، ومنه ما لا يظهر إلا للناقد الحاذق البصير. وكفر ابن عربي وأمثاله فوق كفر القائلين: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124] ، ولكن ابن عربي وأمثاله منافقون زنادقة، اتحادية في الدرك الأسفل من النار، والمنافقون يعاملون معاملة المسلمين؛ لإظهارهم الإسلام كما كان يظهره المنافقون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ويبطنون الكفر، وهو يعاملهم معاملة المسلمين؛ لما يظهر منهم، فلو أنه ظهر من أحد منهم ما يبطنه من الكفر لأجرى عليه حكم المرتد، ولكن في قبول توبته خلاف، والصحيح عدم قبولها، وهي رواية معلى عن أبي حنيفة رضي الله عنه، والله المستعان] . ابن عربي هذا اتحادي، وقد نقل عن الاتحاديين أقوال بشعة، وأشهرهم ومن أوائلهم: الحسين الحلاج، وقد أشرنا فيما سبق إلى شيء من الكلام حوله، وهو الذي أفتى أهل زمانه بقتله، فقتل بإجماع علماء زمانه من أهل السنة، حيث نقل عنه أقوال تدل على كفره، ثم ورثه أو قال بمقالته ابن عربي، ولكن ابن عربي كان يتستر في نفسه مخافة أن يقتل كما قتل الحلاج، فهو يظهر أنه من أهل السنة، ولكن عندما يتأمل كلامه يتضح أنه من أهل الاتحاد، فلذلك يعامل معاملة المنافقين، وله كتاب مطبوع اسمه: فصوص الحكم، ظاهره أنه حكم وكلام جيد، ولكن عندما يتأملها ذو العقل وذو الفكر يعرف في أثناء كلامه ميله إلى الاتحاد، وإلى القول بوحدة الوجود، وإن لم يكن كلاماً صريحاً، وله قصيدة تائية مشهورة، يظهر منها القول بالوحدة، فمن ذلك قوله فيها يخاطب محبوبته: له صلواتي بالمقام أقيمها وأشهد عنها أنها هي صلتِ وهذه عقيدة أهل الوحدة، يقولون: إن كل شخص هو عابد ومعبود، يقول: فأنا أصلي لها وهي تصلي لي، وذلك أن في نظره أن الخالق متحد بالمخلوق، تعالى الله عن قولهم! وإذا كان هذا من المنافقين فإن أقوالهم أقوال باطلة، انظروا إلى مقالته التي يقول فيها: إن النبي صلى الله عليه وسلم مثّل الأنبياء بالبيت الذي أحكم بناؤه إلا موضع لبنة، يقول عليه السلام: (فكان الناس يدخلون ويقولون: ما أحسنه، لولا موضع هذه اللبنة، يقول: فأنا تلك اللبنة) يعني: أنه خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وابن العربي يقول: إن هذا البيت بقي فيه موضع لبنتين: لبنة من فضة وهي ظاهر الشرع، ويراد بها محمد، ولبنة من ذهب وهي باطن الأمر وهي خاتم الأولياء، ويرى نفسه أنه هو اللبنة من الذهب، فجعل نفسه لبنة ذهب، وجعل الرسول لبنة فضة، هذا معتقده، ويقول: إن الولاية لها خاتم كما أن النبوة لها خاتم. فكأنه يقول بلسان الحال أو المقال: أنا خاتم الأولياء ومحمد خاتم الأنبياء، ويجعل نفسه أفضل؛ لأنه يجعل نفسه باطن الأمر وسرّه، والرسول ظاهره وعلنه، هذا هو معتقدهم، وعلى هذا ماذا نقول في ابن عربي وأمثاله كـ ابن سبعين وابن الفارض والحلاج الاتحاديين وأشباههم؟ نقول فيهم: إنهم يتسترون بأنهم مسلمون، ويقولون كلمات فيها شيء من الحِكم، وفيها شيء من العلم المحكم، ويعجب الناس من كلماتهم، وتعجبهم صياغتها، ويعتقدون أنهم أولياء لله، ويعتقدون علمهم وفضلهم وأقدميتهم؛ فلأجل ذلك يصبحون مقدسين محبوبين عند العامة والخاصة، ولم يتفطنوا بأسرارهم، ولم ينظروا في دواخل أمرهم، ولم يتأملوا فيما يستنبط من كلامهم السيئ، ولو تأملوه وتعقلوه لعرفوا أنهم منافقون، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك، وهذا هو شأن المنافقين، فإن المنافقين يظهرون أنهم مسلمون كما قال الله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] ، وهؤلاء إذا خلا بعضهم إلى بعض فإنهم يبدون لأوليائهم ما كان لديهم من العلوم، ولكن إذا لقوا عامة الناس أخذوا يمدحون الإسلام، وأخذوا يمدحون أنفسهم بالاتباع ونحو ذلك، إذاً: فهم منافقون. المنافقون في العهد النبوي لما أظهروا الإسلام وأخفوا الكفر، ولم يطلع الرسول ولم يطلع المسلمون على شيء من أسرارهم، عاملوهم معاملة المسلمين، فكانوا يأخذون منهم الصدقات والزكوات ونحوها مع أنهم كفار، وكانوا يصلون على من مات منهم إذا لم يظهر لهم نفاقه، ولم يقاتلوهم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخشى أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه!) ، وكانوا أيضاً يغزون مع المسلمين، وإن لم يكونوا يريدون بذلك الأجر، بل كما أخبر الله عنهم في قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:47] ، وفي قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:61] ، وسماهم الله المرجفين فقال: {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} [الأحزاب:60] ، ومع هذه كله لم يقتلهم، بل أجرى أمرهم على الظاهر، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، وقبل كلامهم لما حلفوا، وأخبر الله أن حلفهم كذب في قوله: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} [التوبة:96] {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة:62] {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} [التوبة:95] ، ومع ذلك لم يقاتلوهم بناءً على ما ظهر، فهكذا يقال في هؤلاء المنافقين من أهل الاتحاد، الذين يدعون أن الخالق عين المخلوق، تعالى الله عن قولهم. لا شك أن لهم أقوالاً بشعة، لا يجرؤ أحدنا أن يحكي أقوالهم، يقول بعض العلماء: إنا لنستطيع أن نحكي أقوال اليهود والنصارى ولا نتجرأ أن نحكي أقوال هؤلاء؛ لبشاعتها، وقد رد عليهم العلماء. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 5 ظهور مذهب أهل وحدة الوجود أهل وحدة الوجود في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية تمكنوا وظهروا وكثروا، وكثر أتباعهم وأعوانهم، فلا جرم رد عليهم بعدد من رسائله، فكتب رسائل في الرد على أهل وحدة الوجود، لما سئل عن أحوالهم، ولما رفع إليه كثير من أشعارهم في ذكر مقالاتهم التي تبين ما هم عليه من العقائد: سواء كان نظماً صريحاً، أو نظماً خفياً، وكان من آثار رده عليهم أن حذر الناس منهم، ووقعت بينه وبينهم مناظرات في ملطة، وفي دمشق، وظهر عليهم وغلبهم، حتى أنهم مرةً جاءوا ليناظروه، وقالوا: نحن أولياء الله، ومن علامة ولايتنا: أننا لو دخلنا في هذه النار التي تشتعل لم تحرقنا، فجاء إليهم شيخ الإسلام وأخذ يناظرهم، ويحتج عليهم بالأدلة، ويقول: أنا أدخل وإياكم في هذه النار، وننظر أينا يحترق، ولكن اغسلوا جلودكم بالصابون وبالسدر وبالمزيل الذي يزيل ما فيها، وكان قد عرف أنهم يطلون جلودهم بأنواع من أدهان بعض الدواب التي لا تحرقها النار، فإذا دخلوا في النار لم تحترق أجسادهم لذلك الدهن الذي عليها، فلما قال لهم ذلك امتنعوا، وظهر بذلك دجلهم وكذبهم. وعلى كل حال كتب فيهم عدة رسائل، وحذر منهم العلماء بعده وقبله، وبهذا يعرف أن هذا المذهب هو كرب الأولياء، وأن قول الاتحاديين: الأولياء أفضل من الأنبياء قول باطل. هناك من أولياء الله من خصهم الله تعالى بأنواع من الكرامات، ولا ننكر أن من خيار عباد الله، ومن الأتقياء الأنقياء من أجرى الله على أيديهم كرامات وخوارق عادات، تدل على قربهم وعلى أفضليتهم، وعلى أنهم مستجابة دعوتهم، وقد ألفت كتب في كرامات الأولياء، سواء في تراجم بعضهم أو في نفس الوقائع التي تقع، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جانباً كبيراً منها في كتابه الذي ذكرنا: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فذكر كرامات كثيرة لبعض الصالحين، من أراد معرفتها قرأها، وسيجد فيها أن الله تعالى تفضل عليهم واستجاب دعوتهم، وأعطاهم طلبتهم، والشيخ ابن رجب رحمه الله له كتب كثيرة تتعلق بالرقائق وبالرغائب، مثل: استنشاق نسيم الأنس، وكلامه على الشهادة في شرح العروة الوثقى، وكذلك كتابه الكبير الذي هو جامع العلوم والحكم، وقد تعرض لذكر الأولياء والصالحين، وذكر أشياء من كرامتهم التي تجري على أيديهم، والتي تدل على أنهم من المتقبلين، ولما تكلم على حديث: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) إلى قوله: (وما ترددت عن شيء ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن) ذكر وقائع تدل على أن بعض أولياء الله وبعض عباد الله الصالحين يكون موتهم بسهولة، بحيث لا يشعرون أو لا يحسون بالموت؛ وذلك تسهيلاً عليهم، وأشباه ذلك. وكذلك أيضاً أبو نعيم ألف كتابه: حلية الأولياء، وهو مطبوع في أربعة مجلدات كبيرة، وهو ثمانية أجزاء، ذكر فيه الأولياء، ولكنه توسع في تراجم العلماء ونحوهم، ويذكر بسنده بعض الوقائع وإن كانت ضعيفة لم تثبت، وبهذا ونحوه يعرف أن أولياء الله تعالى هم الصالحون من عباده، كما أن أولياء الشيطان هم الأشقياء الذين خرجوا عن طاعة الله، وابتلوا بطاعة الشيطان. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 6 شرح العقيدة الطحاوية [92] كرامات الأولياء حق، وهي من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن يجب التفريق بين الكرامات والحيل الشيطانية التي يقوم بها بعض المشعوذين. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 1 التصديق بكرامات أولياء الرحمن من عقيدة أهل السنة: التفاضل الذي ذكره الله تعالى بين العباد، فأفضل الخلق هم رسل الله، وكذا ملائكته المقربون، وكذا عباده الصالحون. ومن عقيدة أهل السنة: أنه لا يكون أحد أفضل من الرسل والملائكة من بقية البشر، وخالفت في ذلك الصوفية، فقدموا الأولياء على الأنبياء، ففضلوا الولي على النبي، ومعلوم أن الولي بشر من جنس بني آدم، وأنه لم يخرج عن البشرية، ولم يخرج عن كونه آدمياً، وكذلك أيضاً لم يصل إلى رتبة الأنبياء، فلم ينزل عليه الوحي، لا وحي إلهام، ولا وحي بواسطة ملك، وإن كان قد يجري الله على يديه شيئاً من الكرامات: إما لفضله، وإما لحاجته، وإما لإقناع خصم أو نحو ذلك. وأولياء الله تعالى هم عباده الصالحون المؤمنون المتقون، فهؤلاء كلهم أولياء الله؛ لقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] ، فكل المؤمنين المتقين أولياء لله، ولكنهم يتفاوتون في الإيمان، ويتفاوتون في التقوى، وبعضهم أقوى إيماناً من بعض، وأقوى تقى من بعض، فيكون له ميزة وفضيلة على غيره، فيحصل على الرفعة والقرب، وتحصل له أيضاً كرامات يجريها الله على يديه. شيخ الإسلام ابن تيمية ألف كتابه المشهور: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ وذلك لأنه كثر في زمانه الذين يفضلون الأولياء، ويجعلون لهم صفات يتحلون بها، وكل من جرت على يديه كرامة اعتقدوه ولياً، وقد ذكر رحمه الله في هذا الكتاب أنواعاً من الكرامات التي جرت على أيدي بعض الصالحين، ومن تلك الكرامات وخوارق العادات: أن فلاناً -وسماه- كان قد أصيب بالفالج، الذي هو موت وعيب أحد جانبيه، سأل ربه أن يطلق أعضاءه وقت الطهارة والصلاة فاستجاب الله دعاءه، فكان كلما دخل وقت الصلاة قام كأنه أنشط الناس، وتوضأ وصلى، فإذا انتهى من الصلاة رجعت أعضاؤه إلى خدرها وإلى موتها بحيث لا تتحرك! وهكذا قصة الذي كان غازياً، وكان راكباً على حمار، فمات حماره، فسأل ربه أن يحييه له حتى لا يقبل منة أحد، فأحياه الله له، فركبه وحمل عليه متاعه، ولما وصل إلى أهله وأنزل متاعه عنه، قال: يا بني! خذ ما على الحمار فإنه عارية، فبمجرد ما أخذ ما عليه مات الحمار! وكان إحياؤه له كرامة له. وأما الذين استجيبت أدعيتهم، فأكثر وأكثر: منها: أن سعيد بن جبير كان عنده ديك يوقظه للصلاة، فذات ليلة ما صاح الديك، فلما أصبح دعا عليه وقال: ما له قطع الله صوته، فلم يصح الديك بعدها بقية حياته، فقالت أمه: يا بني! لا تدع على أحد فتصيبه دعوتك! فهذه دعوة رجل صالح. ووقعت قصص كثيرة من بعدهم، ومن قرأ الكتب التي كتبت في تراجم عباد الله الصالحين وقصصهم يجد منها عجائب، مثل كتب ابن رجب رحمه الله، كشرح الأربعين الذي يسمى: جامع العلوم والحكم، فإنه يذكر فيه عجائب من جنس هذا، منها قصة ذلك الرجل الذي ذهب ليشتري لأهله من بلاد بعيدة قمحاً، فلما لم يكن عنده ثمن، ولم يجد من يقرضه، ولا من يبيعه بدين رجع وليس معه شيء، فلما أقبل على أهله، مر بكثيب رمل، فقال: لماذا لا آخذ من هذا الرمل في أكياسي حتى لا يقال: رجع خائباً، فلما أنزل تلك الأكياس التي فيها ذلك الرمل، جاءت امرأته وفتحت أحدها، ووجدته قمحاً طيباً أحسن ما يكون، فطحنت منه وخبزت، فسألها: ما هذا الخبز الذي أجد رائحته؟ فقالت: من البر الذي أتيت به، فحمد ربه أنه لم يخيب سعيه، وكان ذلك البر غاية في الجودة، بحيث إنهم إذا بذروا منه تخرج الزرعة من أصلها إلى فرعها كلها سنابل من أحسن ما يكون، استجابة لدعوة ذلك الرجل الصالح! وذكر لنا بعض الإخوان: أن بلاداً فيها بعض الرافضة وبعض السنة، فكان الرافضة إذا جاع الطفل يقولون له: ادع علياً حتى يعطيك طعاماً، فإذا دعا علياً قربوا له تمراً وخبزاً، وقالوا: هذا جاءك به علي، فأهل السنة قالوا: نعود أبناءنا على أن يدعو ربهم، فإذا جاع الصبي قالوا: ادع ربك يا ولدي حتى يعطيك طعاماً، فإذا دعا ربه، قالوا له: ائت ذلك المكان أو خذ الطعام من تحت ذلك الطبق تجد فيه طعاماً من ربك، فيذهب إليه ويجده، فذات يوم غفلوا عنه، فجاء الطفل ولم يعدوا له طعاماً، وكان قد اعتاد الدعاء، فاستقبل القبلة وقال: يا رب! هيئ لي طعاماً آكله في هذا الوقت، فذهب فكشف الطبق وإذا فيه خبز من أحسن الخبز، فأكله حتى شبع، فجاء أهله وقد أسفوا على أنهم لم يجعلوا له طعاماً، فقالوا: من أتاك بالطعام؟! قال: دعوت ربي فجاءني بطعام كما كنت أدعوه، فهذه كرامة وآية من آيات الله. ولا شك أن أمثال ذلك كثير، يجريه الله تعالى على أيدي الصالحين من عباده. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 2 الفرق بين الكرامات والحيل الشيطانية ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الكتاب: أن أولياء الشيطان يجري الشيطان على أيديهم مخارق يموهون بها على الناس، ويوهمونهم أنها كرامة، وهي حيل شيطانية، وسماها رحمه الله بالأحوال الشيطانية، وذكر أمثلة من ذلك، وربما تحفظون من قصص السحرة وأولياء الشيطان الشيء الكثير، فبعضهم تحمله الشياطين وتقطع به مسافات طويلة، ومنها أن الشياطين أو مردة الجن يتمثلون لأوليائهم بصور وبأشكال مختلفة، وأنهم قد يقربون لهم الأشياء البعيدة، ولا شك أن تلك الأحوال الشيطانية إنما هي من وحي الشيطان. ومن ذلك الأعمال التي تسمعونها عن السحرة، وأنهم يفرقون بين المجتمعين، ويجمعون بين المتعاديين، وأنهم يوقعون الوحشة والبغضاء، وأنهم ربما قلبوا هذا حيواناً، وهذا إنساناً، وما أشبه ذلك؛ فهذه أحوال شيطانية، ولا نقول: إنها كرامات، ولا أنها خوارق عادات، ولكنها من وحي الشيطان أو من عمله، فإن الشيطان يتلبس بتلك الأرواح، فيقلب الروح ويغيّر هيئتها إلى حيوان أو إلى جماد، أو إلى ما أشبه ذلك، فتكون هذه المخارق تجري على أيدي أعداء الله الذين هم عبدة الشياطين. إذاً: فرق بين الأحوال الشيطانية التي تجري على أيدي أولياء الشيطان، وبين الكرامات وخوارق العادات التي تجري على أيدي أولياء الرحمن، والفرق بينهما: أن هذه خوارق وكرامات يجريها الله على يدي هذا العبد الذي هو من عباد الله الصالحين، والذي ظاهره من أحسن الظواهر: عمله عمل حسن، ودعاؤه مستجاب، وأكله حلال طيب، ورزقه وكسبه من أحسن الكسب وأبعده عن الخبيث، مقيم لعباداته، محافظ على صلواته وزكواته، مبتعد عن المشتبهات وعن المحرمات، متمسك بالشريعة، مؤمن بالله إيماناً قوياً ظاهراً وباطناً، مطبق لشريعة الله، تالٍ لكتابه، متبع للسنة، بخلاف أولياء الشيطان، فإنهم وإن تظاهر بعضهم بالإيمان والإسلام، ولكن باطنهم يعرفه المتبصرون: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] ، فالمتبصر يعلم خبث طواياهم، ويعلم خبث أفعالهم. وإلى الآن نجد في هذه البلاد كثرة السحرة الذين يعملون هذه الشعوذة وهذا السحر، بحيث إنهم يزوِّرون، ويقلبون أمام الأعين الحقائق حتى يخيل إلى من ينظر إليهم أن هذا شيء وهو ليس بشيء، أو ما أشبه ذلك، وهذا فعلهم قديماً، ولكنهم كثروا في هذه البلاد في هذه الأزمنة بسبب توافد الأعداء الكفرة أو نحوهم، فشاع هذا السحر وكثر، وهو في الحقيقة عمل شيطاني، ويشتكي الكثير من الناس مما يجدون في صدورهم من الوحشة من أنفسهم وأهليهم، وكذلك يشتكون من تسلط الجن عليهم، فيضربون الأبواب عليهم، ويحرقون شيئاً من الأمتعة وهم لا يرون من يحرقها، ورفع الأصوات، وضرب الأبواب والنوافذ ونحوها، ولا يدرون من يفعل ذلك، وما هو إلا الجن أو الشياطين الذين سلطهم أولئك السحرة عليهم، وكذلك تلبس الجن بأناس من الصالحين بواسطة ذلك الكاهن أو ذلك الساحر الذي سخر بسطوته عدداً من الجن، بحيث إنه ينفذ هذا لفلان وهذا لفلان، فهؤلاء أولياء الشيطان، وتشاهدون أو تسمعون أن هناك عباداً لله صالحون مصلحون، نياتهم حسنة، وأعمالهم صالحة، حفظة لكتاب الله، عاملون بشريعة الله، رزقهم الله قوة الإيمان وصفاء القلوب، وكان من عملهم أن كشف الله لهم عن هؤلاء السحرة وأعمالهم، فصاروا يعرفون أن هذا الشخص ساحر، وهذا كاهن، وهذا قد عمل كذا وكذا، ويعالجون المسحورين والمصابين بهذه الأمراض الشيطانية ونحوها بالقراءة وما أشبهها. ذكر شيخ توفي قريباً رحمه الله أن أخاً له أو عماً له كان من حفظة القرآن، ومن العاملين به، ومن المطبقين للشريعة، ومن الذين نبت لحمهم على طعام طيب، ولم يتعاطوا شيئاً من المشتبهات؛ كان إذا قرأ على المريض مرة أو مرتين شفي بإذن الله، وكان إذا أتي بكأس ليقرأ فيه نفث فيه نفثتين أو ثلاث نفثات؛ امتلأ ذلك الكأس ولو لم يكن فيه إلا قليل من الماء! ثم إذا شربه ذلك المريض شفي بإذن الله، وهذا من آثار الإخلاص وقوة الإيمان، وذُكر لنا أمثال هذا كثيرون، وهؤلاء نقول: إنهم من أولياء الله الصالحين، الذين نحسبهم -والله حسيبهم- عملوا بالشريعة، فأجرى الله على أيديهم هذا الشفاء، وهذا الأثر الطيب، وبضدهم الكهنة والسحرة الذين تجري على أيديهم تلك الشعوذة وتلك الأحوال الشيطانية، فهولاء أولياء الشيطان، وأولئك أولياء الرحمن. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 3 الفرق بين الكرامة والمعجزة قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم. فالمعجزة في اللغة: تعم كل خارق للعادة، وكذلك الكرامة في عرف أئمة أهل العلم المتقنين، ولكن كثيراً من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما، فيجعلون المعجزة للنبي، والكرامة للولي، وجماعها: الأمر الخارق للعادة. فصفات الكمال ترجع إلى ثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، وهذه الثلاثة لا تصلح على الكمال إلا لله وحده، فإنه الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50] ، وكذلك قال نوح عليه الصلاة والسلام، فهذا أول أولي العزم، وأول رسول بعثه الله إلى الأرض، وهذا خاتم الرسل وخاتم أولي العزم، وكلاهما تبرءا من ذلك؛ وهذا لأنهم يطالبونهم تارة بعلم الغيب كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف:188] ، وتارة بالتأثير كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء:90] ، وتارة يعيبون عليهم الحاجة البشرية كقوله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] ، فأمر الرسول أن يخبرهم بأنه لا يملك ذلك، وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله، فيعلم ما علمه الله إياه، ويستغني عما أغناه عنه، ويقدر على ما أقدره عليه من الأمور المخالفة للعادة المطردة أو لعادة أغلب الناس، فجميع المعجزات والكرامات ما تخرج عن هذه الأنواع. ثم الخارق إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين كان من الأعمال الصالحة المأمور بها ديناً وشرعاً، إما واجب أو مستحب، وإن حصل به أمر مباح كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكراً، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه كان سبباً للعذاب أو البغض، كالذي أوتي الآيات فانسلخ منها بلعام بن باعورا لاجتهاد أو تقليد، أو نقص عقل أو علم، أو غلبة حال، أو عجز أو ضرورة، فالخارق ثلاثة أنواع: محمود في الدين، ومذموم، ومباح؛ فإن كان المباح الذي فيه منفعة كان نعمة، وإلا فهو كسائر المباحات التي لا منفعة فيها. قال أبو علي الجوزجاني: كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة. قال الشيخ السهروردي في عوارفه: وهذا أصل كبير في الباب، فإن كثيراً من المجتهدين المتعبدين سمعوا بالسلف الصالحين المتقدمين، وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات، فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئاً منه، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهماً لنفسه في صحة عمله، حيث لم يحصل له خارق، ولو علموا بسر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة يقيناً؛ فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا، والخروج عن دواعي الهوى، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة، ولا ريب أن للقلوب من التأثير أعظم مما للأبدان، لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحاً، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسداً، فالأحوال يكون تأثيرها محبوباً لله تعالى تارة، ومكروهاً لله أخرى، وقد تكلم الفقهاء في وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن، وهؤلاء يشهدون بواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني، ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم أنه كرامة من الله له، ولا يعلمون أنه في الحقيقة إنما الكرامة لزوم الاستقامة، وأن الله تعالى لم يكرم عبداً بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه، وهو طاعته وطاعة رسوله، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] ، وأما ما يبتلي الله به عبده من السراء بخرق العادة أو بغيرها أو بالضراء، فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه، بل قد سعد بها قوم إذا أطاعوه، وشقي بها قوم إذا عصوه، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:15-17]] . سمعنا أن الكرامة هي أمر خارق للعادة، مستغرب عجيب صدوره، وأنه إذا جرى على أيدي الأنبياء سمي معجزة، وقد ذكر العلماء معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم: منها: أن الجذع حنّ له لما ترك الخطبة عليه، وهو جماد. ومنها: أنه الحصيات سبحن بيده وهن جماد. ومنها: أن حجراً كان يسلم عليه إذا مر به، وهو حجر يعرفه. ومنها: أن الماء القليل يزيد إذا غمس فيه يده حتى يشرب منه الخلق الكثير، ويملئوا منه قربهم، ويتوضئوا منه. ومنها: تكثير الطعام خبزاً أو لحماً، كما ورد ذلك في أدلة كثيرة. فهذه معجزات، لا يقدر البشر على مثلها، ويعلمون أن الله أجراها على يديه، ليعلم أنه رسول من الله صادق. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 4 من كرامات الصحابة الكرامات التي تجري على أيدي الصالحين من عباده وقع كثير منها لبعض الصحابة، كالنصر والتأييد لهم في الوقائع التي يقلّ فيها عددهم، ويكثر عدد عدوهم، فإذا دعوا ربهم وسألوه استجاب لهم، ونصرهم وخذل عدوهم، وقد ذكروا من ذلك وقائع: منها: أن عمر كان يخطب، فبينما هو يخطب جرى على لسانه: يا سارية الجبل! يا سارية الجبل! وكان سارية أميراً لجيش يقاتل في بلاد الشام، وكان في ذلك الوقت قد حمي القتال، وسمع الصوت من بعيد ولا يدري أحد ما مصدره، فقال لأصحابه: لوذوا بالجبل، واجعلوه خلف ظهوركم حتى تغلبوا عدوكم، فانتصروا بإذن الله. وذكروا: أن رجلاً جاء إليه، فقال: ما اسمك؟ قال: جمرة، قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب، فقال: من أي قبيلة؟ فقال: من بني ضرام من الحرقة، فقال: ما أظن أهلك إلا قد احترقوا، فوجد الأمر كذلك، فهو سمع أن اسمه يدور حول هذه الأمور: حرارة وشهب وجمر ونحو ذلك. ولما قتل عثمان رضي الله عنه كان أول قطرة منها وقعت على المصحف على قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:137] ، فقال الصحابة: لا بد أن ينتقم الله من هؤلاء، وأن ينتصر الذين يحمون له، واستنبط ابن عباس من قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33] أن معاوية ومن معه سينتصرون؛ لأنهم يقاتلون لأجل قتل مظلوم وهو عثمان، فصار ذلك سبباً لانتصارهم، وأمروا ألا يسرفوا في القتل. ومن الكرامات ما جرى على يدي بعض الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فـ أسيد بن حضير وعباد بن بشر صحابيان من الأنصار، خرجا مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة شديدة الظلمة، فأضاء لهما طرف سوط أحدهما نوراً يشع أمامهما في ذلك الظلام وفي تلك الطرق الضيقة، حتى إذا افترقا وذهب كل منهما إلى داره، افترق النور بينهما مع هذا شعبة، ومع هذا شعبة، إلى أن دخل كل منهما على أهل بيته، وذلك كرامة لهما. وكان أسيد بن حضير مرة يقرأ في سورة الكهف، فلم يشعر إلا وسرج أمثال المصابيح قد نزلت عليه، وكان فرسه مربوطاً، فلما أحس بتلك الأنوار التي نزلت من السماء حاس الفرس وتحرك، فأسرع بالصلاة، وكان ابنه قريباً من الفرس فخشي عليه، فلما انصرف من الصلاة ورفع رأسه وإذا تلك المصابيح قد ارتفعت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ يا ابن حضير فتلك الملائكة نزلت لقراءتك) . الجزء: 92 ¦ الصفحة: 5 الكرامات لا تدل على الأفضلية ذكر العلماء أن الكرامات للتابعين أكثر منها في الصحابة، وذكروا أمثلة كثيرة وجدت في عهد كثير من التابعين ومن بعدهم، ولا شك أنها دالة على صلاحهم أو حاجتهم، ومع ذلك فالكرامة لا تدل على أفضيلة ذلك الشخص الذي جرت على يديه، فإذا قلنا -مثلاً-: لماذا لم تجر على يدي أبي بكر مثل ما جرى على يد عمر وعثمان وعلي ونحوهم؟ نقول: ليست الكرامات دليلاً على الأفضلية، وإنما هي إما لحاجة الذي جرت على يديه، وإما لمناسبة، وإما لقطع حجة خصم أو نحو ذلك؛ ولأجل ذلك لا نقول: إن الصحابة مفضولون حيث إن الكرامات فيهم قليلة، وهي في التابعين كثيرة. وعلى كل حال فالكرامات هي: الأمور التي تجري على أيدي بعض الأولياء من عباد الله الصالحين المؤمنين خارقة للعادة كالأمثلة التي ذكرنا قبل قليل، وهذه الكرامات لا شك أنها دليل على صلاحهم وحسن استقامتهم وديانتهم، ومع ذلك يستدل بها كثير من العلماء -كـ ابن كثير رحمه الله في التاريخ- على أنها معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن هؤلاء ما حصلت لهم هذه الكرامات إلا باتباعهم لهذا النبي الكريم، فلما كانوا متبعين له سائرين على نهجه وطريقته حصلت لهم هذه الكرامات. ذكروا عن أبي مسلم الخولاني أنه غضب عليه الأسود العنسي، فأوقدوا له ناراً وألقوه فيها، وصارت عليه برداً وسلاماً، وخرج ولم يحترق، فلما وفد إلى عمر رضي الله عنه قال: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله، وأمر الصحابة أن يسلموا عليه كلهم، وأن يهنئوه. يعني: الصحابة الذين كانوا عند عمر. وكان العلاء بن الحضرمي قائداً لجيش في ساحل هذا الخليج الفارسي أو العربي، فحال بينهم وبين عدوهم البحر، فأرادوا أن يتبعوهم فلم يجدوا بُدَّاً من أن يخوضوا بخيولهم، فنزلوا في البحر وهم على خيولهم، ولم يفقدوا متاعاً أبداً، ولم يفقدوا شيئاً، وجعلت الخيل تسبح على البحر كما تسبح السفن، فلما رآهم الفرس قالوا: ما هؤلاء إلى شياطين! فهربوا، وأتى المسلمون إلى مكان العدو وانتصروا عليهم، ولم يفقد أحد منهم شيئاً من متاعه، وعدوا ذلك من كرامات ابن الحضرمي رحمه الله ورضي عنه. وهذه الكرامات من الله تعالى، وهو الموصوف بالعلم، يعلم حال عبده هذا، ويعلم حاجته، ويعلم إيمانه وطمأنينة قلبه، وهي من قدرة الله، فالله تعالى على كل شيء قدير، فهو الذي قدر هذا الأمر لهذا العبد، وأقدره على ذلك، وأجرى على يديه هذه الكرامة، وكذلك الله تعالى موصوف بالغنى، فهو الغني عما سواه، وهذه الكرامات دليل على أن الرب سبحانه هو الغني المغني الذي يعطي من يشاء ما يشاء بدون حاجة إلى أحد، فهذه الصفات التي هي العلم، والقدرة، والغنى، المتصف بها هو الله وحده، والكرامات لا تحصل إلا من الله الذي هو عليم بهذا العبد، وقادر على أن يعطيه، وغني لا تنقص خزائنه، ولا تحصل لأي بشر كما سمعنا في الآية التي استشهد بها الشارح، وهي قول الله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [الأنعام:50] يعني: الخزائن عند الله تعالى وهو الغني المغني، {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50] علم الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50] يعني: لا أقول لكم إني من الملائكة، بل إنما أنا بشر ضعيف لا قدرة لي إلا على ما أقدرني الله تعالى عليه. وهذه الأمور حكاها الله تعالى عن نوح، وأمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم. فكلما كان العبد أتقى لله كلما كان أقوم سبيلاً وأعرف بالله سبحانه، فإن ربه تعالى يجري على يديه عند حاجته ما يكون مقوياً لإيمانه. وعرفنا أنه ليس كل من جرت على يديه هذه الخوارق أو هذه الكرامات يتفوق على من لم تجر عليه، فلا نقول مثلاً: إن ذلك العابد الذي يقال له: سحنون، ويحكون عنه كرامات، أشرف من الإمام الشافعي الذي لم تجر على يديه هذه الكرامات ولا بعضها، وكذلك بهلول ورابعة العدوية، فيحكون في تراجمهم أشياء كثيرة من الكرامات ونحوها، ولا توجد تلك الكرامات في تراجم الأئمة: مالك وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وشعبة بن الحجاج والليث بن سعد والإمام أحمد والإمام الشافعي وإسحاق بن راهوية ويحيى بن معين وعلي بن المديني ويحيى بن سعيد القطان وأشباههم من العلماء، لماذا لم تجر على أيديهم هذه الكرامات وقد جرت على أيدي أولئك العباد؟ نقول: لأن هؤلاء اكتفوا بما فتح الله عليهم من العلوم التي فيها العلم بالله وبشرع الله وبأحكامه وبأمره وبنهيه، فكانت مقوية لإيمانهم، فلا يحتاجون إلى أن يجري على يديهم كرامة، بخلاف سحنون وبهلول ورابعة وبشر بن الحارث والجنيد ومعروف وأشباههم فإن هؤلاء قد يكون في إيمانهم شيء من الرقة والضعف، فيجري الله على أيديهم أشياء من الكرامات؛ حتى يقوى إيمانهم، وحتى يثبتوا ويرسخوا، هكذا قال بعض العلماء، وإلا فلا مساواة بين العلماء الذين لهم مكانتهم في العلم ونحوه وبين العباد. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 6 طلب الكرامات سمعنا ما حكاه الشارح أن بعضاً من الزهاد أو العباد إذا تنسك وتعبد فإنه يطلب من ربه أن يجري على يديه كرامة، ويحزنه إذا رأى فلاناً وفلاناً وسمع فلاناً وفلاناً جرت على أيديهم كرامات وخوارق عادات، فيبقى منكسراً، ويكثر من فعل الأسباب أو السؤال عن الأسباب التي تحصل له مثل هذه الكرامة، ويبقى حسيراً إلى أن يحصل على يديه شيء مما حصل على أيدي أمثاله. فنقول: إن الأولياء والصالحين من عباد الله وعلماء الشريعة وعلماء الأئمة لم يكونوا يهتمون بأمور الكرامات، بل قد تجري على أيديهم بدون أن يطلبوها، وهم لا يطلبونها، ولا يحزنون لعدمها، فلا يحزن لعدم جريان كرامة على يديه إلا ضعفاء الإيمان ونحوهم. وأما استجابة الدعاء فلا شك أن المسلم إذا دعا الله تعالى وأخلص في دعائه، ثم لم ير لدعائه أثراً فإنه يحزنه، ومع ذلك نقول له: لا تنقطع عن الدعاء، بل أكثر من دعاء الله تعالى، فإن دعوتك ولو لم تجب، ولو لم تر أثرها، فهذا لا يدل على أنك مردود، ولا تدل على أنك لست من أولياء الله، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم إذا دعا الله تعالى فإن ربه يعطيه بدعوته أحد ثلاثة أشياء: إما أن يعجل له دعوته وما طلب، وإما أن يدفع عنه من الشر مثلها، وإما أن يدخرها له في الآخرة، فلا يخيب أحد إذا دعا الله تعالى، فليس شرطاً أن تجاب دعوتك كلما دعوت الله سبحانه وتعالى، وليس كل من أجيبت دعوته يحكم عليه بأنه مستجاب الدعوة أو بأنه ولي من أولياء الله. وعلى كل حال نقول: إن هذه الكرامات وخوارق العادات التي يجريها الله تعالى على أيدي بعض عباده هي إما ابتلاء وامتحان، وإما لحاجة ألمت بهم، وإما لفضيلة وميزة حصلوا عليها، ولا تكون دائماً، بل قد يحتاج أحدهم إلى كرامة أو إلى إجابة دعوة فلا تحصل له؛ لبعض الموانع ولبعض الأسباب كغيرهم من بني الإنسان. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 7 أقسام الكرامات قال الشارح رحمه الله: [ولهذا كان الناس في هذه الأمور ثلاثة أقسام: قسم ترتفع درجتهم بخرق العادة، وقسم يتعرضون بها لعذاب الله، وقسم يكون في حقهم بمنزلة المباحات، كما تقدم. وتنوع الكشف والتأثير باعتبار تنوع كلمات الله. وكلمات الله نوعان: كونية ودينية: فكلماته الكونية هي التي استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام:115] ، والكون كله داخل تحت هذه الكلمات، وسائر الخوارق. والنوع الثاني: الكلمات الدينية، وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله وهي أمره ونهيه وخبره, وحظ العبد منها العلم بها والعمل، والأمر بما أمر الله به، كما أن حظ العباد عموماً وخصوصاً العلم بالكونيات والتأثر فيها، أي بموجبها. فالأولى تدبيرية كونية، والثانية شرعية دينية، فكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية. وقدرة الأولى التأثير في الكونيات، إما في نفسه كمشيه على الماء، وطيرانه في الهواء، وجلوسه في النار، وإما في غيره، بإصحاح وإهلاك، وإغناء وإفقار. وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات، إما في نفسه بطاعة الله ورسوله والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطناً وظاهراً، وإما في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله فيطاع في ذلك طاعة شرعية. فإذا تقرر ذلك، فاعلم أن عدم الخوارق علماً وقدرة لا تضر المسلم في دينه، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخر له شيئاً من الكونيات: لا ينقص ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له، فإنه إن اقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة، فإن الخارق قد يكون مع الدين، وقد يكون مع عدمه، أو فساده، أو نقصه. فالخوارق النافعة تابعة للدين، خادمة له، كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين، وكذلك المال النافع، كما كان السلطان والمال النافع بيد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فمن جعلها هي المقصودة، وجعل الدين تابعاً لها ووسيلة إليها، لا لأجل الدين في الأصل: فهو شبيه بمن يأكل الدنيا بالدين، وليست حاله كحال من تدين خوف العذاب، أو رجاء الجنة، فإن ذلك مأمور به، وهو على سبيل نجاة، وشريعة صحيحة. والعجب أن كثيراً ممن يزعم أن همه قد ارتفع عن أن يكون خوفاً من النار أو طلباً للجنة يجعل همه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا!! ثم إن الدين إذا صح علماً وعملاً فلابد أن يوجب خرق العادة، إذا احتاج إلى ذلك صاحبه. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3] . وقال تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29] . وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66-68] . وقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:62-64] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] ) رواه الترمذي من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وقال تعالى فيما يرويه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولابد له منه) . فظهر أن الاستقامة حظ الرب، وطلب الكرامة حظ النفس، وبالله التوفيق. وقول المعتزلة في إنكار الكرامة: ظاهر البطلان، فإنه بمنزلة إنكار المحسوسات. وقولهم: لو صحت لاشتبهت بالمعجزة، فيؤدي إلى التباس النبي بالولي، وذلك لا يجوز، وهذه الدعوى إنما تصح إذا كان الولي يأتي بالخارق ويدعي النبوة، وهذا لا يقع، ولو ادعى النبوة لم يكن ولياً، بل كان متنبئاً كاذباً، وقد تقدم الكلام في الفرق بين النبي والمتنبئ، وعند قول الشيخ: وأن محمداً عبده المجتبى ونبيه المصطفى. ومما ينبغي التنبيه عليه ههنا: أن الفراسة ثلاثة أنواع: إيمانية: وسببها نور يقذفه الله في قلب عبده، وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب، يثب عليه كوثوب الأسد على الفريسة، ومنها اشتقاقها، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحد فراسة. قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب، وهي من مقامات الإيمان. انتهى. وفراسة رياضية، وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا تدل على إيمان، ولا على ولاية، ولا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم، بل كشفها من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء، ونحوهم. وفراسة خَلقية، وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم، واستدلوا بالخَلق على الخُلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل، وبكبره على كبره، وسعة الصدر على سعة الخلق، وبضيقه على ضيقه، وبجمود العينين وكلال نظرهما على بلادة صاحبهما وضعف حرارة قلبه ونحو ذلك] . وأهل السنة والجماعة يصدقون بكرامات الأولياء، وهي تعتبر كرامة لمن جرت على يديه، ولا تعتبر نقصاً فيمن لم تحصل له تلك الكرامة، وهناك من أنكر تلك الكرامات كالمعتزلة، فادعوا أنها لو حصلت لحصل الاشتباه بينها وبين معجزات الأنبياء، وبين العلماء أن الخوارق تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: معجزات، وهي تختص بالأنبياء، وليس في قدرة البشر أن يأتوا بمثلها، كمعجزات نبينا صلى الله عليه وسلم، ومعجزات موسى وعيسى وغيرهم، وهي التي ذكرت في السنة، وحكيت عن الأنبياء في القرآن. القسم الثاني: كرامات أكرم الله بها بعض أوليائه الصالحين، ويعتبرها العلماء دالة على صدق نبوة الأنبياء؛ وذلك لأنها ما حصلت لهم إلا باتباعهم لأنبيائهم، فأتباع نبينا صلى الله عليه وسلم حصلت لهم كرامات؛ بسبب إيمانهم وتصديقهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم، وتمسكهم بشريعته، فكانت تلك الكرامات منة من الله عليهم، وتقوية لإيمان بعضهم، وقطعاً لحجة من خالفهم أو طعن في معتقدهم، وكذلك أجراها الله على أيديهم لإظهار الحق الذي هم عليه، وبيان صحة ما يدعون إليه، وكذلك أجراها الله للدلالة على أنهم على دين صحيح، وأن نبوته صلى الله عليه وسلم نبوة حق ليس فيها فرية ولا توقف، وقد ذكر العلماء جملة كثيرة من تلك الكرامات، وأفردت بالتآليف، وذكروا أن الله تعالى أجراها على أيديهم كما أجرى المعجزات على أيدي الأنبياء؛ للدلالة على أن كل النبوات من عند الله تعالى، فكما أن الله جعل النار على إبراهيم برداً وسلاماً فكذلك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مسلم عالم هو أبو إدريس الخولاني ألقي في النار ولم تضره، بل كانت عليه برداً وسلاماً، فكان في هذه الأمة من جرى له مثل ما جرى للخليل عليه السلام. وكذلك جعل الله البحر لموسى طريقاً يبساً -كما أخبر بذلك- فسلكه هو وقومه ولم تبتل ثيابهم ولا أقدامهم، وجرى مثل ذلك للعلاء بن الحضرمي، حيث خاض البحر هو وجنده المقاتلون، ولم يفقدوا من متاعهم شيئاً، وكأن البحر يبس، فكانوا يسبحون فوقه دون أن يغرقوا فيه مع عمقه، وهذه كرامة للعلاء رحمه الله، وأمثال ذلك كثير. القسم الثالث: الأحوال الشيطانية التي تجري على أيدي السحرة والمشعوذين، وهذه الأحوال الشيطانية هي ما يتمكن منه السحرة من الصرف والعطف وتغيير الحقائق وقلب الأشياء، وكذلك ما يفعلونه من قطع المسافات، ومن حمل الأثقال، والطيران في الهواء، ونحو ذلك في زمن قصير، وهذه الأحوال تسمى أحوالاً شيطانية، وهي تجري بسبب خدمتهم للشياطين، فهم يتقربون إلى الشياطين وإلى مردة الجن بما يحبون، فتجري على أيديهم المخارق، والشعوذة، والتغيرات النفسية، ولكنها تبطل بإذن الله إذا عولجت بالآيات القرآنية والأدعية النبوية. فما يحصل من أعمال السحرة والمشعوذين ونحوهم، من صرف وعطف، وإلقاء بغضاء بين متحابين، وإلقاء تقابل قوي بين المتباغضين، وكذلك من تغيير لمزاج بعض الناس إذا عملوا له سحراً شيطانياً ونحو ذلك؛ فهذا لا يسمى كرامة ولا فضل فيه، بل هو من عمل الشياطين؛ وذلك لأن هؤلاء السحرة والكهنة ونحوهم يتقربون إلى الشيطان، ويذبحون له، ويطيعونه حتى يخدمهم ويطيعهم فيما يشيرون إليه، فتصير الشياطين والجن خدماً لهذا الكاهن الذي عبدهم وذبح لهم، وركع للشياطين وسجد، وأشرك بالله، فصار من خدمهم، فأصبح بذلك من أعوانهم، فهم يتلبسون به، وينطقون على لسانه، ويخبرون بالأشياء الغيبية والبعيدة ونحوها، وكذلك يخبرون بالغائب والمسروق وما أشبه الجزء: 92 ¦ الصفحة: 8 شرح العقيدة الطحاوية [93] للساعة أشراط كبرى وصغرى، ومن أعظم علامات الساعة الكبرى نزول عيسى عليه السلام، وخروج الدجال، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج يأجوج ومأجوج. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 1 الإيمان بأشراط الساعة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (ونؤمن بأشراط الساعة: من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض من موضعها) . عن عوف بن مالك الأشجعي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهو في قبة من أدم فقال: (اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر؛ فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً) وروي: (رايغ) بالراء والغين، وهما بمعنى. رواه البخاري، وأبو داود، وابن ماجة، والطبراني. وعن حذيفة بن أسيد قال: (اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر الساعة، فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، فقال: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم) رواه مسلم. وفي الصحيحين -واللفظ للبخاري - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر الدجال عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور، وأشار بيده إلى عينه، وإن المسيح الدجال أعور عينه اليمنى، كأن عينة عنبة طافية) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وأنذر قومه الأعور الدجال، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، ومكتوب بين عينيه: ك ف ر) فسره في رواية: (أي: كافر) . وروى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة خيراً من الدنيا وما فيها) ، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159] ، وأحاديث الدجال وعيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم ينزل من السماء ويقتله، ويخرج يأجوج ومأجوج في أيامه بعد قتله الدجال، فيهلكهم الله أجمعين في ليلة واحدة؛ ببركة دعائه عليهم، ويضيق هذا المختصر عن بسطها] . الجزء: 93 ¦ الصفحة: 2 نزول عيسى عليه الصلاة والسلام ابتدأ الطحاوي رحمه الله وكذا الشارح في ذكر أشراط الساعة، وأن أهل السنة والجماعة يصدقون بما ذكر منها في القرآن، وما ذكر منها في السنة في الأحاديث الصحيحة الثابتة التي لا تردد فيها، فأما ذكر المسيح ابن مريم وأنه يخرج في هذه الأمة، فورد في تفسير قول الله تعالى في سورة النساء: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159] أن معنى هذه الآية: أن من أهل الكتاب من يدركونه فيؤمنون به قبل موته، أي: إن منهم إلا سوف يؤمنون به، ومتى يؤمنون به؟ إذا خرج في آخر الدنيا؛ وذلك أنه ورد في الحديث خروجه فقال صلى الله عليه وسلم: (ليوشكن أن يخرج فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد) فذكر له هذه الصفات: أنه يقتل الخنزير؛ وذلك لأن لحمه حرام، والنصارى يبالغون في أكله. ويكسر الصليب؛ لأن النصارى يعبدونه، ويدعون أن عيسى قتل وصلب عليه، فيعظمونه لأنه صلب عليه ربهم أو ابن ربهم! تعالى الله عن قولهم. وأنه يضع الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف، وفي هذه الشريعة معلوم أن الكتابيين تقبل منهم الجزية ويبقون على دينهم، لكن عيسى في آخر الزمان لا يقبل الجزية، بل يقاتلهم إلى أن يسلموا أو يقتلوا، وينصره الله ويظهره، ويفيض المال في زمانه حتى لا يقبله أحد، أي: يكثر المال بأيدي الناس، وذلك ببركة ينزلها الله تعالى، ففي بعض الأحاديث: (أن الله تعالى يبارك في الرسل -يعني: في اللبن- حتى تكفي اللقحة الفئام من الناس، ويبارك في الثمار، حتى يأكل الجماعة من الرمانة ويستظلون بقحفها) يجعلون قحفها -يعني: غلافها- كخيمة يستظلون به، وذلك من آثار البركة. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 3 خروج الدجال خروج الدجال من الأمور الغيبية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ووردت الإشارة إليه في القرآن؛ فكان من الإيمان بالغيب التصديق بخروجه؛ لأن الله مدح الذين يؤمنون بالغيب، أي: بما أخبروا به ولم يشاهدوه. ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات -وذكر منها- خروج الدجال) وهو الأعور الكذاب الذي يخرج في آخر الزمان، ويدعي أنه الرب، ويفتن به خلق، فيأتي إلى القرية فإذا عصته أصبحوا ممحلين، وإذا أطاعته أصبحوا منعمين، عقوبة وفتنة، ويدعو القرية الخربة فيتبعه ذهبها كيعاسيب النحل، واليعسوب هو: ذكر النحل الذي يتبعه بقية النحل. وأخبر عليه الصلاة والسلام أن هذا الدجال يبقى أربعين يوماً، ولكنها مختلفة، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وباقي الأيام كأيامكم، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك اليوم الطويل هل يكفيهم فيه خمس صلوات، فقال: (لا، اقدروا له) أي: اقدروا لكل صلاة ما بينها وبين الأخرى ثم صلوا. وكذلك أخبر أن الدجال يقتله المسيح ابن مريم بباب لد، وهو موضع في الشام، فإذا رأى المسيحُ ابن مريم الدجالَ ذاب كما يذوب الملح في الماء، فيقتله ويزول بذلك أثره، بعدما يفسد في الأرض. وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستعاذة من الشيطان، ويكثر أن يستعيد من أعوان الشياطين ومنهم هذا الدجال الذي هو المسيح الدجال المنتظر، فيقول: (إذا تشهد أحدكم فليعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال) أي: تقول: أعوذ بالله، أو: اللهم إني أعوذ بك وتذكر هذه الأربع في آخر التشهد، ومن جملتها المسيح الدجال، من شر فتنته ومن شر أذاه. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ذكر له علامة، وهي: أنه أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، ومعروف أن العنبة إذا أخذ ماؤها بقيت ملتصقة قشرتها بعضها ببعض، فعينه حدقتها منطفئة، فهي ملتصق جلدها بعضه ببعض، مثل العنبة إذا أخذ ماؤها. وكذلك أخبر أنه مكتوب بين عينه: كافر، حروف مقطعة منفصلة: (ك) و (ف) و (ر) ، يقرأها كل من نظر إليه من أهل الإيمان، وإن لم يكن قارئاً؛ حتى لا ينخدع به. ولكثرة الأحاديث التي وردت في الاستعاذة منه، وفي بيان شره؛ جعله العلماء من أشراط الساعة، وصاروا يحذرون من شره، ولكن مع الأسف أن بعض المعاصرين أنكروه لما رأوا أن الواقع لا يساعد عليه، فصاروا يتأولون الأحاديث التي وردت فيه، ويصرفونها عن ظاهرها، حتى قال بعضهم: إن المراد بالدجال الشرور التي تحصل في آخر الزمان، والمنكرات، وغفلوا عن قوله عليه السلام: (إنه أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية) ، وغفلوا عن أنه يدعو الناس ويفتنهم، وأنه يسلط على البلاد كلها، ما عدا مكة والمدينة، فإن الله يجعل عليهما ملائكة يحمونهما منه، ولكن المدينة ترجف ثلاث رجفات، فيخرج إليه من كان منافقاً، وغفلوا أيضاً عن أوصافه التي وصف بها، من أن بين عينيه كافر، ومن أنه إنسان يجول ويتقلب في البلاد، وأنه يسير بسرعة السحاب، فيقطع الأرض بسرعة. هذا وكثير مما يكون معه من الخوارق هي من الأحوال الشيطانية، فإن هذه التي تجري على يديه أحوال شيطانية، حتى إنه يقطع الرجل قطعتين ثم يقول له: قم، فيقوم، وأنه إذا عصته أهل قرية أصبحوا ممحلين، قد جفت بلادهم، وإذا أطاعته بلدة أصبحوا في رفاهية ونعمة، وذلك دليل على أنه فتنة يخرجها الله للناس حتى يفتن بها العباد، فمن ثبته الله ورزقه علماً وبصيرة لم يزدد بأمره إلا بصيرة، ومن أراد الله فتنته فإنه ينخدع به. وقد أكثر العلماء من الكلام عن المسيح الدجال، وعن المسيح ابن مريم، وذكروا عليهما أدلة كثيرة، وقد تكلم ابن كثير رحمه الله عن ذلك في آخر تفسير سورة النساء عند قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] ، فأطال الكلام في ذكر المسيح ابن مريم ونزوله، والآيات التي تدل على خروجه، وذكر الأحاديث، واستقصى غالباً ما ورد في ذلك. وأما ذكر المسيح الدجال فذكره رحمه الله في النهاية التي في آخر تاريخه، أي: في ذكر أشراط الساعة، وأطال في ذلك، وكذلك ألفت كتب في ذلك كثيرة من العلماء المتقدمين والمتأخرين، ومن أوفى من كتب في ذلك الشيخ حمود التويجري في كتابه المشهور الذي يسمى: إتحاف الجماعة في أشراط الساعة، فإن الجزء الثاني كله يتعلق بالأشراط المذكورة في هذه الكلمات، وقد توسع فيها، وأورد كل ما وقف عليه أو يصله من إيراد، وهكذا غيره، فنؤمن بهذه الأشياء وإن لم نرها. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 4 خروج دابة الأرض دابة الأرض ذكرت في قول الله تعالى في سورة النمل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82] ، وقد تكلم ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية عليها، وذكر الأدلة التي يمكن الاستدلال بها، والأحاديث التي وردت فيها، ولكن معلوم أن أكثر ما ذكر فيها لم يصح، مثل أنها دابة عظيمة، وأن طولها كذا وكذا، وأن معها عصا موسى، وأن معها خاتم سليمان، وأنها تجعل على المؤمن علامة الإيمان، وعلى الكافر علامة الكفر، حتى أن الناس يتبايعون بعد ذلك، فيقول هذا: يا مؤمن، وهذا: يا كافر، وما أشبه ذلك؛ فأكثر تلك الأحاديث لم تثبت، ولكن فيها أحاديث ثابتة، وفيها النص القرآني في هذه الآية: ((دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ)) . الجزء: 93 ¦ الصفحة: 5 طلوع الشمس من مغربها طلوع الشمس من مغربها استدل عليه بقول الله تعالى في آخر سورة الأنعام: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158] قيل: إن هذه الآية التي إذا أتت لم ينفع أحداً إيمانه إذا لم يكن مؤمناً: طلوع الشمس من المغرب، وإذا طلعت يقول الناس: آمنا، فلا ينفعهم حينئذٍ إيمانهم، وفي ذلك الوقت يقرب انتهاء الحياة الدنيا، وتقرب قيام الساعة، وهذه علامة من العلامات، وقد استوفى أدلتها ابن كثير في آخر تاريخه في النهاية، وكذلك غيره ممن كتبوا في أشراط الساعة، وأنكرها في هذه الأزمنة من أنكر كثيراً من الغيبيات، وادعوا أنه لا يمكن أن تطلع الشمس من المغرب، فإن العادة جارية بأن الشمس تطلع من جهة مشرقها، ولا يتغير هذا الكون إلا تغيراً كلياً، وهذا على قول من يقول: إن الشمس ثابتة وإن الأرض هي المتحركة، ولكن هذا أيضاً يرد عليهم، والدليل الواضح يدل على أن الشمس تطلع من مغربها، وأن الناس إذا رأوا ذلك آمنوا، وحينئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 6 الدخان الدخان المذكور في هذا الحديث قيل: إنه المذكور في سورة الدخان في قول الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:10-11] ، وقد ذهب بعض الصحابة: إلى أنه شيء قد مضى، ومنهم ابن مسعود، قال: إن الدخان قد مضى، وأن المراد به الجوع الذي حصل لقريش لما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع سنين تصيبهم كسبع يوسف لما لم يطيعوه، فأصابتهم سنة، يعني: قحط، فتأخر عليهم المطر، حتى أكلوا الجلود، وصار أحدهم من شدة الجوع ينظر إلى ما بينه وبين السماء فينظر كهيئة الدخان من الغشاوة التي على أبصارهم، فكان ذلك هو الدخان الذي ذكر في هذه الآية: ((يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ)) ، وهذا تفسير ابن مسعود، والجمهور: على أنه لم يأت، وأنه شيء يكون بين يدي الساعة، وأنه دخان حقيقي يغشى الكثير من الناس كما تغشاهم الرياح، وكما يغشاهم الغبار، بحيث يحول بينهم وبين نظرهم إلى السماء أو نحو ذلك، وأنه يعم البلاد، وهذا هو الذي ورد في بعض الأحاديث، وهو من جملة أشراط الساعة. وبكل حال يحتمل أنه الذي ذكره ابن مسعود، وأنه ما حصل لقريش من الجهد حتى رءوا بينهم وبين السماء مثل الدخان، أو أنه شيء منتظر، والآية محتملة لذلك. كذلك أيضاً من أشراط الساعة ما ذكر في بعض الأحاديث من البطشة، ولكن قيل: إنها مضت، وقوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان:16] الصحيح أنها قد وقعت، وأنها غزوة بدر. وقيل: إن من أشراط الساعة اللزام المذكور في آخر سورة الفرقان: (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:77] ، وقيل: إن هذا اللزام هو القحط والعذاب الذي وقع بقريش لما لم يطيعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه عذاب مستمر مستقبل، وسوف يحصل، ولعل الأقرب ما ذكر أنه ما نزل بهم من القحط الذي نزل بهم مدة طويلة، حتى هرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وطلبوا منه أن يدعو لهم، فدعا لهم، فرحمهم الله، وأزال عنهم القحط الذي نزل بهم. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 7 بعثة النبي عليه الصلاة والسلام وموته من أشراط الساعة التي ذكرت في الأحاديث: موت النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن بعثته تعتبر من أشراط الساعة، يقول الله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] أي: قرب، ويقول تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] ، ويقول: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] أي: قرب وقت الحساب، وكل هذا دليل على قرب الساعة، وقال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] ، ويقولون: إن من أكبر أشراطها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فموته بعد بعثته شرط من أشراط الساعة. أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث عن أشياء قد حصلت أو سوف تحصل ولا بد، فإخباره بالفتنة والهرج والخلاف الذي حصل بين المسلمين أمر قد وقع، وكذلك إخباره بالموتان قد حصل، وهو ما حصل في صدر الإسلام من الموت الذريع إما بسبب الفتن وإما بسبب الأمراض التي حصلت، فمات فيها خلق كثير، وهذا معنى قوله: (موتان) ، يعني: موت ذريع كبير كثير. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 8 فتح بيت المقدس من أشراط الساعة فتح بيت المقدس، وقد فتحت في خلافة عمر رضي الله عنه، وقد غزا بنفسه إلى أن وقف عليها ففتحت بيت المقدس، ثم تغلب عليها بعد ذلك الإفرنج أثناء الحروب الصليبية، وبقي بأيديهم نحو مائة وثمانين سنة، ثم استعادها المسلمون وفتحت فتحاً مبيناً، واستولى عليها المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي، ثم في هذه الأزمنة استولوا عليها مرة ثانية، ولعل الله أن يعيد للمسلمين الكرة حتى يفتحوها ويعيدوها بلدة إسلامية كما أخبر بهذا الحديث في قوله: (فتح بيت المقدس) . الجزء: 93 ¦ الصفحة: 9 الخسوفات الكبيرة الخسوف كثيرة، ولعل التي تكون من أشراط الساعة هي الخسوف الكبيرة، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وقد يكون منها أيضاً الزلال التي تحصل في كثير من البلاد، وقد تكون من العقوبات التي يعاقب الله بها بعض عباده في بعض الأزمنة إذا حصل منهم ذنوب أو تهاون بحقوق الله تعالى وبحدوده. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 10 نار تخرج من المدينة أخبر صلى الله عليه وسلم: (أنه يخرج من المدينة نار شديدة الضوء، تضيء لها أعناق الإبل ببصرى) وهي من قرى الشام، وقد حصلت هذه النار في القرن السابع، فخرجت في الحرة التي في شرق المدينة نار شديدة الضوء ترتفع أكثر من عشرين متراً، لها لهب ولكنها لا تحرق السعف، وإنما تحرق الحجارة، تشتعل النار بالحجارة وتتقد بها، ويلقى فيها السعف والخوص فلا يشتعل، واستمرت أكثر من شهر في شرق المدينة، وانزعج الناس منها، وعرفوا أنها ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الأحاديث، وذكر أن أهل بصرى رأوا ضوءها، وأنهم رأوا أعناق الإبل في ظلمة الليل بواسطة ضوئها، فوصل ضوءها إلى تلك الأماكن البعيدة. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 11 نار تخرج من قعر عدن من أشراط الساعة نار تخرج من قعر عدن، أي: أنها تخرج من أقصى اليمن، فتحشر الناس وتسوقهم إلى محشرهم، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وهذه من آخر أشراط الساعة. وبكل حال فإن المسلم يصدق بما ورد في هذه الأحاديث من أشراط الساعة ويؤمن بها، وإن أنكرها بعض من استبعد وقوع ذلك، وادعى أن هذه أمثلة ضربت للتقريب أو تأولها بتأويلات بعيدة، فلا عبرة بقول المتأولين. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 12 أول الآيات خروجا ً قال رحمه الله تعالى: [وأما خروج الدابة وطلوع الشمس من المغرب، فقال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82] ، وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام:158] . وروى البخاري عند تفسير الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل) . وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريباً) أي: أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجال، ونزول عيسى عليه الصلاة السلام من السماء قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج ، كل ذلك أمور مألوفة؛ لأنهم بشر مشاهدة مثلهم مألوفة، وأما خروج الدابة بشكل غريب غير مألوف، ثم مخاطبتها الناس، ووسمها إياهم بالإيمان أو الكفر؛ فأمر خارج عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية، كما أن طلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها المألوفة أول الآيات السماوية، وقد أفرد الناس في أحاديث أشراط الساعة مصنفات مشهورة، يضيق على بسطها هذا المختصر] . الدابة من الآيات التي ذكرت في الأحاديث التي مرت، وورد ذكرها في القرآن في هذه الآية في آخر سورة النمل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} [النمل:82] ، ووصف الدابة، وطولها، وما معها وارد في أحاديث. وأما طلوع الشمس من مغربها فذكر في الآية التي في آخر سورة الأنعام وهي قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158] ، فذكرت أن هذه الآية إذا خرجت وحصلت لم ينفع أحداً إيمانه، وفي الحديث أن هاتين الآيتين: الدابة وطلوع الشمس متقاربتان، إذا حصلت إحداهما تبعتها الأخرى. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 13 خروج يأجوج ومأجوج ذكر الشارح أن خروج عيسى ابن مريم، وكذلك الدجال قبل طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة، ومعلوم أنهم من جنس البشر، فلا يستنكر خروجهم، وإنما أخبر بخروجهم كأمر غيبي، ولكن ليعلم أنهم ولو كانوا من البشر لكن لهم شأن، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج، وقد ورد ذكرهم في القرآن، قال تعالى في آخر سورة الأنبياء: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96] ، وقد أخبر الله تعالى أن ذا القرنين بنى دونهم حاجزاً منيعاً، وسداً شديداً، وهو المذكور في آخر سورة الكهف في قوله: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94] يعني: بناءً منيعاً يسد ما بيننا وبينهم حتى لا يتسلقوه ولا يصلوا إلينا، فعمل ذلك ذو القرنين وأمرهم أن يأتوه بزبر الحديد، أي: أكوام الحديد، ثم أوقد عليه، وقال: انفخوا، فلما أوقد عليها وذاب الحديد، جعله بين جبلين، فأصبح سداً منيعاً، وهو المذكور في قوله: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا} [الكهف:96] إلى آخر الآيات، ثم قال: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98] . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سوف يحفرون هذا السد ويخرجون، وفي بعض الأحاديث عن زينب رضي الله عنها قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً فقال: (ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بين أصبعيه السبابة والإبهام، قالت زينب: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث) وأخبر أنهم إذا خرجوا يعيثون في الأرض فساداً؛ وذلك لأنهم خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الله، فإذا خرجوا امتصوا ما على الأرض من البحيرات والأنهار، حتى يمروا على بحر طبرية، فيشربون ما فيه، ويقول آخرهم: لقد كان في هذا المكان مرة ماءٌ، ويكون ذلك في زمن عيسى، فيدعو عيسى الله تعالى عليهم، فيسلط الله عليهم عقاباً وهو دود يخرج في رقابهم، فيصبحون موتى كموت رجل واحد، فعند ذلك تنتن الأرض من زهمهم، فيرسل الله طيراً تحملهم وتلقيهم في البحار، وينزل مطراً، وتصبح الأرض كالصدفة قد طهرت، ثم ينبت الله النبات بعد ذلك المطر وينزل البركة إلى آخر ما ذكر في الحديث الذي في صحيح مسلم وغيره. هذه الأحاديث ثابتة في الصحاح، ورواها الأئمة بأسانيد ثابتة؛ ولذا اعتقد أهل السنة صحتها، وآمنوا بها، وإن قصرت العقول عن إدراك معانيها، فيفوضون كيفياتها كما يفوضون كيفيات الإيمان بجميع المغيبات. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 14 شرح العقيدة الطحاوية [94] إتيان السحرة من كبائر الذنوب، والسحرة كفرة، وقد حذر العلماء منهم، وبينوا حقيقتهم وما يجب على الولاة من منع شرهم، وكف الرعاع عن التردد إليهم. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 1 بيان حقيقة الكهنة والتحذير من سؤالهم وتصديقهم قال المصنف رحمه الله: [قوله: (ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً، ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة) . روى مسلم والإمام أحمد عن صفية بنت أبي عبيد، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) . وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) . والمنجم يدخل في اسم العراف عند بعض العلماء، وعند بعضهم هو في معناه. فإذا كانت هذه حال السائل، فكيف بالمسئول؟ وفي الصحيحين ومسند الإمام أحمد عن عائشة قالت: (سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس عن الكهان؟ فقال: ليسوا بشيء فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة) . وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وحلوان الكاهن خبيث) . وحلوانه: الذي تسميه العامة حلاوته. ويدخل في هذا المعنى ما يعاطاه المنجم وصاحب الأزلام التي يستقسم بها، مثل الخشبة المكتوب عليها (أب ج د) والضارب بالحصى، والذي يخط في الرمل، وما يعاطاه هؤلاء حرام. وقد حكى الإجماع على تحريمه غير واحد من العلماء، كـ البغوي والقاضي عياض وغيرهما. وفي الصحيحين عن زيد بن خالد قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، على إثر سماء كانت من الليل، فقال: أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) . وفي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة) . والنصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر الأئمة، بالنهي عن ذلك أكثر من أن يتسع هذا الموضع لذكرها] . قال الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:221-223] ، وفي الحديث: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: (ليسوا بشيء) يعني: كذبة، ليسوا على يقين، ولا على دين، فقال الناس: إنهم يحدثوننا بالأمر فيكون حقاً، فيقولون: في اليوم الفلاني يحصل مطر، أو رعد، أو صواعق، أو ريح، مع أنه قد يحصل في اليوم الفلاني أن يمرض فلان، أو يموت فلان، أو ما أشبه ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك الكذبة تخطفها الشياطين فتلقيها على ألسنة الكهنة، فيزيدون فيها أكثر من مائة كذبة) . وفي حديث أبي هريرة المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا سمع ذلك أهل السماء صعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما يشاء، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر على سماءٍ سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه، فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقول الناس: أليس قد قال لنا: يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكذبة التي سمعت من السماء) يعني: أن الناس لا يعتبرون بمائة كذبة، ولكن يصدقون الكذب الكثير لتلك الكلمة التي اختطفها الجني من السماء، فيصدقونه بما يخبرهم به مما تلقيه عليه شياطين الجن. وهؤلاء الكهنة الذين هذا حالهم ما حكمهم؟ في صحيح مسلم عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) ، وذكر العلماء أنه إذا تاب وندم فإنها تجزيه ولا يعيدها، ولكن عقوبته على فعله أنها لا تقبل منه، سيما إذا أتاه وهو يقدسه، ويرفع مكانته، ويعترف بميزته أو بفضله، أو نحو ذلك. وعن عمران بن حصين وعن غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) وهذا أشد من الحديث الذي قبله، ولعل السبب أن هذا صدقه بكل ما يقول، صدقه في هذه المسألة وغيرها، واعتقد أنه صادق، وأن له ميزة وخصوصية، أو اعتقد أنه ملهم، أو اعتقد أنه ينزل عليه وحي، أو اعتقد أنه يعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فعقوبة هذا الذي صدقه في كل ما يقول أنه يحكم بكفره، فيحكم بكفر السائل للكاهن المصدق بكل ما قال. يقول الشارح رحمه الله: إذا كانت هذه حالة السائل، فكيف بحالة المسئول؟! الذي هو الكاهن، فإن كفره أشد، وخروجه من الإسلام أبعد وأبعد، فالسائل المصدق بما يقول حكم بكفره، قيل: معناه أنه كفر بما أنزل في أمور الغيب، وأن الغيب لا يعلمه إلا الله، فالأمور المغيبة علمها عند الله، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) يعني: لا أعلم المغيبات، وقال في آية أخرى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188] ، وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] ، فإذا كان حال نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي: لا أعلم ما في القلوب، ولا أعلم الأمور المغيبة، إنما الذي يعلمها الله وحده (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) ؛ فكيف بحال غيره من هؤلاء المتكهنة ونحوهم؟! فهذا حكم السائل، وهذا حكم المسئول. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 2 كسب الكاهن والمنجم والساحر خبيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبث كسب الكهنة في قوله: (مهر البغي خبيث، وثمن الكلب خبيث، وحلوان الكاهن خبيث) وحلوان الكاهن هو: ما يبذل له إذا أخبر، فإذا جاءه إنسان وقال: أخبرني بمكان دابتي التي فقدت، أخبرني بمكان مالي الذي سرق أو نحو ذلك، فيستوحي من شيطانه ويقول: دابتك في الشعب الفلاني، وعلامتها أن فيها كذا وكذا ونحو ذلك، فيعطى مالاً على إخباره، فهذا المال الذي أعطيه يعتبر خبيثاً، ونسميه سحتاً وأي سحت. وذلك لأنه أخذه على شيء محرم، وهو ادعاء علم الغيب. ويدخل في ذلك من يسمى بالمنجم، ومن يسمى بالعراف، وكذلك الساحر، فهؤلاء: الكاهن، والساحر، والعراف، والمنجم، والرمال، والضراب، ونحوهم؛ كلهم يتدخلون فيما لا يعنيهم، فأما الكاهن فهو الذي يدعي معرفة المغيبات، ويخبر عما في الضمير، يقول: هذا يحدث نفسه بكذا، أو يخبر بمكان مسروق، يقول: مالك المسروق في المكان الفلاني، في البيت الفلاني، فتخبره شياطينه. أما المنجم، فهو الذي يدعي علم الغيب بسير النجوم، يقول: علامة المطر أن يكون هذا النجم في المكان الفلاني في الليلة الفلانية فينزل مطر، أو ينزل برق، أو ما أشبه ذلك، وهذا بلا شك تدخل في علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وكذلك ادعاء أن هذه النجوم هي التي تنزل المطر. وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه مرة في الحديبية، فلما انصرف من الصلاة -وكان قد أصابهم مطر في تلك الليلة- قال: (أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي، كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا -النوء: النجم الذي ينوء أي: يطلع- فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب) أي: جعل الكوكب هو الذي يؤثر في الكون، وهو الذي يثير السحب، وهو الذي ينزل المطر، وذلك كله حق الله تعالى، فهو الذي ينفرد بذلك، يقول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف:57] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم:46] يعني: تبشر بالرحمة وبالمطر، فيرسل الله الرياح فتثير السحاب، ويحمل الله السحاب ماء فيصرفه الله تعالى حيث يشاء، وينزله حيث يشاء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان:50] صرفناه يعني: جعلنا المطر على هذه الأرض أكثر، وعلى هذه أقل، كيف يشاء الله تعالى. إذاً: فليس للكواكب تأثير، فمن ادعى أن النجوم لها تأثير فإنه ممن يتدخل فيما لا يعنيه، ويقول على الله تعالى بغير علم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة) فالفخر بالأحساب: كون الإنسان يفتخر بآبائه وبأجداده الذين ماتوا، وقد ورد في الحديث: (لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا أو ليكونن أهون على الله من الجعل) ، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى) . والطعن في الأنساب: هو العيب فيه، بأن يقول هذا ليس ابناً لفلان، أو ليس من آل فلان، أو نحو ذلك. والاستسقاء بالنجوم: هو أن يقال: مطرنا بنوء كذا وكذا، هذا النجم فيه كذا، وكان الجاهلية يقولون: هذا نوء كذا وكذا، والنوء: هو النجم الذي ينوء يعني: يطلع، فكذبهم الله فقال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] أي: الرزق الذي ينزله الله تعالى على عباده تجعلونه من غير الله، تجعلون رزقكم الذي سخره الله لكم ورزقكم إياه، تجعلونه منسوباً لغيره، فتنسبونه إلى النوء، وإلى النجوم، ولا شك أن النجوم مذللة ومسخرة. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 3 من الكهانة الخط في الرمل وضرب الحصى والاستقسام بالأنواء الرمّال هو الذي يخط في الرمل، ويدعي معرفة الغيب به، فإذا جاءه إنسان ليستشيره، وقال: هل أفعل هذا أم لا أفعل؟ هل أسافر في هذا اليوم أم لا؟ هل أتزوج هذه المرأة أم لا؟ هل أبيع هذه السلعة بهذا الثمن أم لا؟ يقول: دعني أخط لك، فيأتي بعصا، ويخط خطوطاً كثيرة في الرمل بسرعة حتى لا يعرف حسابها، ثم يرجع فيمحو اثنين اثنين اثنين اثنين حتى ينظر الباقي، فإن بقي خط قال: افعل، وإن بقي اثنان قال: لا تفعل، وهذا بلا شك تدخل في علم الغيب، ما هذه الخطوط؟ وما فائدتها؟ هي لا تدل على صواب، ولا على خطأ، وليست علامة على معرفة الأمور المستقبلة، ولا على صدق هذا، ولا على كذبه. ومثله أيضاً الضرّاب بالحصى، يجمع عنده حصىً كثيرة، فإذا جاءه إنسان يستشيره، يأخذ منها ويرمي ويرمي إلى أن يجعل حصىً كثيراً متراكماً، ثم يأخذ منه حجرين حجرين حتى ينظر هل يبقى واحد أم يبقى اثنان، فإن بقي واحد تفاءل، وإن بقي اثنان تشاءم، وهو قريب من فعل الرمّال الذي يخط في الرمل، وهؤلاء كلهم من الذين يتدخلون في الأمور الغيبية، ولا شك أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، وأنهم يدعون معرفة الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله. وكذلك المستقسم بالأزلام، وهي عبارة عن حجارة كان أهل الجاهلية يستقسمون بها، فأبطلها الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90] ، فجعلها رجساً، والرجس: هو النجس، وقال تعالى لما ذكر المحرمات: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:3] إلى قوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة:3] ، كان أهل الجاهلية يجعلون هذه الأزلام في كيس، فإذا أرادوا أمراً من الأمور استقسموا، فجاءوا إلى ذلك الكيس فنقضوه، ثم أخرجوا منه واحداً، فإن خرج الذي يقول له: افعل؛ فعلوا، وإن خرج الذي يقول: لا تفعل؛ تركوا، وإن خرج المهمل الذي ليس فيه شيء؛ أعادوا تقليبها مرة ثانيةً، وهكذا؛ فأبطل الله تعالى ذلك، وفي الحديث: (أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة، ورأى المشركين قد صوروا صورة إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام، فدعا بماء فمحا الصورة، وقال: قاتل الله المشركين. والله ما استقسما بها قط) يعني: أن الله نزه إبراهيم وإسماعيل عن أن يعملا هذه الفعلة الجاهلية، فكل هذه من الأمور التي كان يفعلها المشركون، حتى الجهلة في هذه الأزمنة؛ ليتوصلوا بها إلى العلوم المستقبلة. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 4 حكم الكهنة بعد أن عرفنا حال هؤلاء فنقول: على المسلم أن يعرف حكمهم، فهم كفرة فجرة ضلال، وقد حكم الشرع بكفرهم، فثبت في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له) ومعنى (ليس منا) : يعني ليس من المسلمين، (من تكهن) يعني: تعاطى الكهانة أو (تكهن له) : يعني: ذهب إلى الكهان يطلب منهم الإخبار بأمر من الأمور. وفي هذه الأزمنة كثر هؤلاء في هذه البلاد، وقد كانوا قلة وأذلاء، والآن انتشروا، وانتشر السحر، وانتشر الكهان، وكثر شرهم، وكثر ضررهم، وإذا قيل: ما سبب فشوهم وكثرتهم وانتشارهم؟ فنقول: السبب -والله أعلم- قلة العلم الصحيح، وقلة الإيمان، وقلة الأعمال الصحيحة التي يبطل بها كيدهم، ويبطل بها عملهم؛ وذلك لأن الكهنة والسحرة والمشعوذين ونحوهم عملهم يتوقف على الشياطين، فالشياطين هي التي تمدهم، وهي التي تخبرهم، وهي التي تعمل لهم، وهي التي تحركهم، وترفع وتخفض فيهم، وتتكلم على ألسنتهم، وتلابسهم، وتخدمهم بما يريدون، ومتى تكثر الشياطين؟ إذا كثر الخبث، إذا كثرت المعاصي، إذا ضعف الإيمان، إذا كثر الزنا، وكثر الربا، وكثر الخنا، وكثر الغناء، وكثر الفساد، وكثر اللهو والباطل، وانشغل الناس بالشهوات، وقل الإيمان وضعف أهله، وضعف المتمسكون عن أن يقاموا هذه الأشياء؛ عند ذلك تستولي الشياطين وتستحوذ على أولئك، ويقل نزول الملائكة الذين يسددون المؤمنين، والذين يوفقونهم، والذين تنفر منهم الشياطين، فإن الملائكة كلما عمرت مكاناً هربت منه الشياطين، فإذا كثرت الشياطين لم يكن هناك ملائكة. إذاً: فشوا هؤلاء بسبب كثرة المعاصي التي تمكنت في كثير من البلاد، فكان من نتيجتها أن استحوذ الشياطين وأولياء الشياطين من هؤلاء السحرة والكهنة على هذه البلاد. ومعروف أن السحرة والكهنة يعبدون الشياطين، وقد حكم العلماء بكفرهم وبردتهم وبشركهم، وبينوا أنهم لا تقبل منهم التوبة، بل يبادر بأحدهم فيقتل، ولا يبقى لحظة واحدة، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (حد الساحر ضربه بالسيف) ، وثبت أن عمر رضي الله عنه كتب إلى بجالة بن عبدة أن يقتلوا كل ساحر وساحرة، قال بجالة: فقتلنا ثلاث سواحر، وقد ثبت أيضاً أن حفصة بنت عمر رضي الله عنها -وهي إحدى أمهات المؤمنين- أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت؛ وذلك لأنها كانت دبرتها، يعني: علقت عتقها بموتها، فحرصت تلك الجارية على أن تموت سيدتها حتى تعتق، فعملت لها سحراً واعترفت، فأمرت بها فقتلت. وكذلك ثبت عن جندب الخير رضي الله عنه أنه دخل على أحد خلفاء بني أمية، وكان عنده كاهن أو ساحر، وكان ذلك الساحر يقطع رأس الإنسان ثم يرده والناس ينظرون؛ وذلك لأنه يشعوذ ويزور على أعين الحاضرين، فيوهمهم أنه قطع الرأس، ولم يبق إلا الحنجرة، ثم بعد ذلك يرده فيقوم سوياً. فيعجب الناس ويضحكون، فجاء جندب رضي الله عنه ومعه سيف أخفاه، واستعاذ بالله، وقرأ آية الكرسي، فلما حاذى الساحر ضربه بالسيف حتى قطع رأسه، وقال: فليحي نفسه إن كان صادقاً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حد الساحر ضربه بالسيف) أو قال هو: حد الساحر ضربه بالسيف، فهذا حده؛ لأنه تعاطى الكفر. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 5 كفر السحرة وعبادتهم للشياطين الساحر قد تعاطى الكفر، وقد سمعتم أعمال الكهنة والسحرة، وهي تدل على أنهم مشركون كفرة، فهم يتقربون إلى الشياطين بما تحب حتى تبطل عملها؛ فلأجل ذلك تخدمهم هذه الشياطين، فمنهم من لا تخدمه الشياطين حتى يترك الصلاة مدة؛ لأنه إذا تركها أصبح كافراً، فعند ذلك تحبه الشياطين، وتقترب منه، وتتولاه وتخدمه وتفعل له ما يريده، وتتكلم على لسانه، وتسترسل له حيث ما استرسل، ويستخدم منها ما يريد، فيستخدم منها مائة أو ألفاً أو نحو ذلك، ويكونون تحت طوع إشارته بسبب كونه تسلط عليهم بهذه الأمور التي استولى بها عليهم، وما فعل ذلك إلا بعدما كفر بالله، وآخرون من الكهنة أو السحرة لا تخدمهم الشياطين حتى يذبحوا لها قرابين، والشيطان يقنع ولو باليسير، ولو يذبحون له ذباباً تعظيماً له، أو عصفوراً، أو ديكاً، أو كبشاً، أو تيساً، أو نحو ذلك، فكل ذلك يقنع به الشيطان، ويكون ذلك سبباً لأن يخدمه؛ وذلك لأنه عرف أن هذا الساحر أو الكاهن أصبح مشركاً؛ لأنه أشرك بالله، فلما أشرك بالله خدمه الشيطان. وكثير من السحرة والكهنة يستدعون الشياطين، ويسألونهم عن أسمائهم، فيحفظ أسماءهم، فلان الجان، وفلان الشيطان، وبعد ذلك يهتف بأسمائهم، ويناديهم في أوقات فراغه، حتى إذا ألفوه، وعرفوا أنهم من أوليائه؛ صاروا طوع إشارته، فيخبرونه بما يريد، ويسترقون له السمع، وينزلون عليه، ويلابسونه، ويتكلمون على لسانه، ويخبرونه بالأمور الغيبية التي لا يعرفها الناس، وما أشبه ذلك. وآخرون من الكهنة أو السحرة لا تخدمهم الشياطين حتى يلابسوا النجاسات؛ وذلك لأن الشياطين تألف الأقذار، وتألف النجاسات، وتألف المستقذرات ونحوها؛ فلأجل ذلك أمرنا إذا دخلنا بيوت الخلاء أن نتعوذ بالله من شر الخبث والخبائث أي: ذكران الشياطين وإناثهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (استتروا من البول فإن الشياطين تلعب بمقاعد بني آدم) فالأماكن التي لا يذكر فيها الله مثل بيوت الخلاء تألفها الشياطين، فأولئك السحرة قد يلطخون أجسامهم وثيابهم بالنجاسات، وبالقاذورات، وبالعذرة، حتى تأتيهم الشياطين التي تحب هذه النجاسات، وتكون في خدمتهم، ثم توحي إليهم بأن يفعلوا كذا، ويفعلوا كذا، فمتى فعلوا هذه الأشياء أطاعتهم وخدمتهم وصارت في ولايتهم. فمثل هؤلاء لا شك أنهم كفار؛ لأنهم عبدوا غير الله تعالى، وقد أخبر الله بكفرهم في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] ، فجعل تعليم السحر كفراً، وجعله من عمل الشياطين، وأخبر عن الذين يعلمونه كهاروت وماروت {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] ، فأفاد أن كل من تعلم السحر فإنه يحكم بكفره؛ ولأجل ذلك يقول العلماء: إذا عثر على ساحر، فإن الصحيح أنه يقتل ولا يستتاب؛ وذلك لأنا لا نعلم حقيقة توبته، فقد يقول الساحر والكاهن: إني تبت، ولكن قلبه مضمر على ما هو عليه من العمل، وشياطينه الذين يخدمونه ملازمين له، لا ينفكون عنه، فإذن هو في الحقيقة كافر. ومن بعض أفعال هؤلاء الكهنة وخدمة الشياطين أنهم يحملون الإنسان من مكان بعيد، ويقطعون به المسافات الطويلة، أو يأتونه مثلاً بعسيب نخل فيقولون له: اركب على هذا العسيب، والعسيب لا يحمل شيئاً، فيطيرون به على العسيب إلى أن يبلغ المكان الذي يريد، وقد يكون مسيرة شهر أو أشهر! هل معقول أن الإنسان يركب العسيب وأن الكاهن يركبه؟ لا شك أن الذي يفعل ذلك هم الشياطين التي أجسامها أو أرواحها خفيفة، فتحمل هذا بسرعة، وتقطع به هذه المسافات، وهي لا تفعل ذلك إلا لأوليائها الذين صاروا من خدمها، فهؤلاء بلا شك خدم للشياطين، فعلينا أن نعرفهم ونبتعد عنهم، وأن نعرف أن كل من قرب منهم فإنه يعطى حكمهم. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 6 شرح العقيدة الطحاوية [95] اختلف الناس في حقيقة السحر، كما اختلفوا في حد الساحر، وقد نوقشت الأدلة في ذلك وهي على كل حال دالة على خبث السحرة وانسلاخهم عن ركب المتقين. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 1 براءة أهل السنة من السحرة والكهنة أهل السنة بريئون من السحرة والكهنة والمنجمين، وبريئون من أفعالهم؛ وذلك لأنهم يحكمون عليهم بالحكم الشرعي، وهو: الشرك والكفر، وقد كفرهم الله تعالى بقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] ، وبقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] ، (من اشتراه) يعني: من تعلم السحر، وبذل فيه دينه أو بذل فيه عقيدته، فليس له عند الله من خلاق أي: من حظ ولا نصيب. ولأجل ذلك وردت السنة بقتل السحرة والكهنة ونحوهم، ورد في الأثر: (حد الساحر ضربه بالسيف) ، ومجموعة من الصحابة قتلوا الساحر، فـ عمر كتب إلى بجالة أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، وجندب الخير قتل الساحر، وحفصة بنت عمر أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقُتلت؛ وذلك لأن هؤلاء اعتبروا السحر كفراً، واعتبروه ردةً، واعتبروه شركاً. وقد استدل بهذا على أن عمل السحر كفر وردة، وأنه يقتل ولا تقبل له توبة في الدنيا، بمعنى أنه يحكم بقتله ولو قال: إني تبت، وإني ندمت، وإني سأترك العمل؛ لأن ذلك ليس بيقين حتى يصدق في قوله، فيقتل حداً؛ لعموم الأثر: (حد الساحر ضربه بالسيف) ، والحد هو العقوبة الشرعية التي لا تغير ولا تسقط بالتوبة، فإن الزاني لا تسقط عنه عقوبة الرجم أو الجلد ولو قال: إني تبت، وكذلك السارق تقطع يده ولو قال: إني تبت الآن، وكذلك بقية الحدود، وهكذا حد الساحر، وكذلك الكاهن الذي يخبر بالمغيبات، أو يخبر بما في الضمير، أو يدعي معرفة العلوم المغيبة بمقدمات يستدل بها على مكان الضالة وعلى المسروق، فيأتيه من فقد ضالة له فيقول: تجده في الشعب الفلاني، في المكان الفلاني، فيخبره شيطانه، وكذلك يأتيه من سرق منه مال، فيصف له السارق، ويقول: مالك في المكان الفلاني، وقد سرقه شخص صفته كذا وكذا، تخبره شياطينه بذلك. فهؤلاء كفرة، وقد كفر النبي صلى الله عليه وسلم من يصدقهم، فهم أولى بالتكفير، قال صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) ، وقد عرفنا أن هؤلاء كفرة؛ وذلك لأنهم مشركون؛ لأنا نعرف أنهم بشر مثلنا، ولا يمكن أن يعلموا الغيب، ولا يمكن أن يطلعوا على الأسرار كما لا نعرفها نحن، فلا بد أنهم يستخدمون الشياطين حتى تخبرهم بما غاب عنهم، فالشياطين تطلع على ما لا يطلع عليه الإنسان، وكذلك مردة الجن يطلعون لخفة أجسامهم على أشياء لا يعرفها الإنسان، فيقطعون المسافات الطويلة في زمن قصير لخفة أجسادهم، وكذلك يرون أشياء لا نراها، ونحن لا نراهم وهم يروننا، قال تعالى في الشيطان وجنده: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] ، وهم لخفتهم يجري أحدهم في بدن الإنسان، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) أي: يجري في جسده، ويجري خلال لحمه ودمه، يجري مع عروقه، ويمشي في عروقه، ويسير فيه، وهذا هو سبب أنه يوسوس في صدور الناس، ويلقي في القلوب الوساوس للإنسان فيقول له: اذكر كذا، ويشككه في أمور الغيب، وفي أمور الساعة، وما أشبه ذلك. فهؤلاء لما أطاعوا الشياطين وخدموها وعبدوها خدمتهم، فمن خدمها خدمته، ومعلوم أن الشياطين تحرص على إضلال الإنسان، وتحرص على أن توقعه في الكفر؛ لأن الشيطان عدو للإنسان، وقد أخبر الله عن إبليس أنه التزم أن يضل الناس، وأن يصدهم عن الهدى، قال الله تعالى عن إبليس: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:62] ، ويقول: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] . فهذا التزام عدو الله، فأخبر الله عنه بأنه التزم وتهدد بأن يضل جنس الإنسان، حتى لا يبقى أكثرهم شاكراً بل كافراً، وهؤلاء الكهنة والسحرة ونحوهم لما عبدوا هذا الشيطان، وتقربوا إليه، وذبحوا له، ودعوه مع الله أو من دون الله، عند ذلك أطاعهم عدو الله، وأظهر لهم ما لم يظهره لغيرهم، فانخدع الجهلة بهم، واعتقدوا أنهم مكرمون، واعتقدوا أنهم على صواب، وأن هذه ميزة لهم، وخارق عادة، وأنهم أفضل من غيرهم، حيث يخبرون بأمور لم تحصل فتقع، ويخبرون عن أشياء بعيدة فتعرف حالتها وأين هي، وأشباه ذلك، وما علموا أن هذا من الشياطين، وأن الشياطين لا تطيعهم إلا إذا صرفوا لها حق الله تعالى، ومن صرف لها شيئاً من حق الله فقد عبدها مع الله تعالى. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 2 حكم التنجيم وتعلمه قال المصنف رحمنا الله وإياه: [وصناعة التنجيم التي مضمونها الأحكام والتأثير -وهو: الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية أو التمزيج بين القوى الفلكية الأرضية- صناعة محرمة بالكتاب والسنة، بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين قال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69] ، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوت} [النساء:51] . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره: الجبت السحر. وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان لـ أبي بكر غلام يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري مم هذا؟ قال: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه) . والواجب على ولي الأمر وكل قادر أن يسعى في إزالة هؤلاء المنجمين والكهان والعرافين، وأصحاب الضرب بالرمل والحصى، والقرع والفالات، ومنعهم من الجلوس في الحوانيت والطرقات، أو يدخلوا على الناس في منازلهم لذلك، ويكفي من يعلم تحريم ذلك ولا يسعى في إزالته -مع قدرته على ذلك- قوله تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] ، وهؤلاء الملاعين يقولون الإثم، ويأكلون السحت بإجماع المسلمين. وثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية الصديق رضي الله عنه أنه قال: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) ] . التنجيم من الأعمال الشيطانية، وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، بمعنى أنه يقول: طلوع النجم الفلاني سبب لحدوث رياح، وسبب لحدوث غرق، أو لجدب أو لخصب، أو لوباء أو مرض، أو إذا غاب النجم الفلاني حدث في البلدة الفلانية فيضان أو غرق أو زلزال أو ما أشبه ذلك، وهذا فعل كثير من المنجمين، ويغلب عليهم أنهم شبه السحرة؛ وذلك لأن النجوم مسخرة مسيرة بأمر الله، ليست دليلاً على شيء مما يقولون، روى البخاري رحمه الله عن قتادة قال: (خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن ادعى فيها غير ذلك فقد أخطأ، وأضاع نصيبه من الدنيا، وتكلف ما لا علم له به) ، يرد قتادة على المنجمين الذين يستدلون بطلوع النجوم على الحوادث التي تحدث في الأرض من العاهات والمصائب، ومن الأمطار والخيرات، ومن العقوبات ونحوها، وما ذاك ألا أن النجوم لا تحدث شيئاً بنفسها، بل الله تعالى جعلها مسخرة كما قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} [النحل:12] ، وقال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] أي: يقتدون في طرقهم، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:97] (لتهتدوا) يعني: أنكم تستدلون بها على الجهة التي تريدونها، وتعرفون أي جهة تقصدونها، فجعلها الله علامات ليهتدى بها، كما جعلها زينة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5] أي: بهذه النجوم، وقال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6] والكواكب التي في هذه السماء هي زينة لها، فإذا كنت في ليلة مظلمة ونظرت إلى السماء ترى نجومها تزهر في كل جانب، كالسرج تضيء، فهي زينة للسماء. كذلك أيضاً أخبر الله تعالى بأنها رجوم ترجم بها الشياطين عن استراق السمع، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر:18] والشهاب: هو هذا الذي يرمى به في الليلة الظلماء، فإذا أبصرته منقضاً فقد رمي به شيطان أو مسترق للسمع، وقال تعالى عن الجن: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9] ، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5] أي: يرجمون بها، فهذه هي الحكمة في وجود هذه النجوم، فأما الذين يدعون فيها أنها تدل على وجود خير أو زواله، أو تدل على حدث أو أمر مستقبل أو نحو ذلك، فإن هذا من التكلف. والنجوم يعرف بها مواقيت الشتاء والصيف، والغراس والزروع ونحو ذلك؛ وذلك لأن الله تعالى قدر لها مواقيت، فهناك نجوم تطلع في الشتاء، فإذا رآها الناس عرفوا أن هذا وقت زراعة البر ونحوه، ونجوم تطلع في الصيف، فإذا رأوها عرفوا أن هذا وقت يبذر فيه كذا وكذا، ويغرس فيه كذا وكذا، أو يعرفون بها دخول الشتاء أو انسلاخه، أو دخول البرد وإقباله أو انتهاءه، أو دخول الحر أو إقباله أو نحو ذلك، فتعلم هذا لا بأس به؛ لأنها مواقيت، كما أن الليل والنهار مواقيت، وكما أن الأشهر والأهلة مواقيت، فكذلك طلوع النجوم والبروج التي جعلها الله في السماء، قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:1] ، وقال: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الحجر:16] ، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان:61] ، فهذه البروج التي هي منازل الشمس، وهذه الأنواء أو النجوم التي هي منازل القمر كما في قول الله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس:39] أي: ينزل في كل ليلة منزلة؛ لا شك أنها خلق الله تعالى، فتعلم منازل القمر وتعلم منازل الشمس ومعرفة أحوال كل منهما لا يدخل في التنجيم المحرم، إنما التنجيم المحرم هو أن يستدل بطلوع النجم الفلاني على أنه سوف يحدث كذا وكذا من الآفات، أو ما أشبه ذلك، فهذا من التدخل في علم الغيب، والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26-27] فلا يدخل في ذلك الكهنة ونحوهم. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 3 وجود السحرة والكهنة منذ عهد الصحابة السحرة والكهنة منتشرون ومتمكنون منذ زمن قديم؛ فالشارح رحمه الله في القرن الثامن يشتكي من كثرتهم، وأنهم قد أضروا بالناس بأعمالهم الشيطانية، ويحرض من يعرف إنساناً يتعاطى السحر أو يتعاطى الكهانة أن يدل عليه، وأن يخبر به، وأن ينكر فعله، أو ينبه من ينكر فعله؛ فإن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل ومن تغيير المنكر الواجب تغييره على كل من علمه، ويستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت ولم تغير ضرت العامة) ، ويذكر أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينكرون على الكهنة ويستبشعون صناعتهم، ويستشنعون أفعالهم، فهذا أبو بكر رضي الله عنه كان له غلام مملوك لم يكن بحاجة إلى خدمته، فجعله يشتغل، فكان يقول له: اذهب واحترف واجمع لنا مالاً وخراجاً، فكان يأكل من خراجه، يعني: من كسبه وكد يمينه، فجاء ذلك الغلام مرة بمال أخذه من تكهن، وأخبره بأنه خدع إنساناً بالكهانة في الجاهلية وقال: إني أعلم كذا، وإنك مصاب بكذا وكذا، فلقيه ذلك الرجل فأعطاه حلواناً، يعني: مالاً عن كهانته، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد عرف تحريم الكهانة، وعرف أن حلوان الكاهن خبيث، فلما سمع من غلامه هذه القصة، وأن هذا المال الذي أكل منه سحت وحرام، وأنه حلوان كاهن وهو خبيث، لم يقر قراره وذلك الطعام في بطنه، بل أدخل إصبعه في حلقه فاستخرج كل ما أكله ذلك اليوم، حتى لا يكون في غذائه ولو لقمة من حرام، أو من مشتبه، ولو كان معذوراً؛ لأنه قد يقول: إثمه على من كسبه، وهو معذور لأنه قد يقول: ما شعرت حين أكلته ولا علمت أنه محرم؛ أو معذور لأنه قد يقول: إنه دفعه عن طيب نفس، ولكن لم تقبل نفسه مثل هذه التأويلات حتى استخرج ذلك الطعام، بل أخرج كل ما أكله ذلك اليوم، وهذا دليل على بعد الصحابة رضي الله عنهم عن المشتبهات وعن المحرمات، ودليل على أنهم يعرفون أن الكهنة كاذبون، وأن كسبهم حرام، وأن إقرارهم حرام؛ وذلك لأن الله تعالى كذبهم، وأخبر بأنهم يأخذون من الشياطين، فقال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:221-223] أي: يتلقون السمع من الشياطين التي تُلقي عليهم، وأكثر الشياطين تكذب عليهم، وهم يكذبون على الناس. فإذاً: الكهنة عبدة للشياطين، وإذا كانوا يعبدون الشياطين فلا يجوز أن نقرهم؛ لأن إقرارهم تمكين لهم من عبادة غير الله، وكذلك إقرار لهم على الشرك وعلى المنكر، فمتى قدرنا فإننا نحاربهم، ونحرص على أن نقضي على قوتهم، وعلى معنوياتهم. وإذا كانوا كثيراً في زمن المؤلف ابن أبي العز رحمه الله، فكيف بزماننا الذي هو القرن الخامس عشر، والذي استحكمت فيه غربة الإسلام إلا ما شاء الله، والذي كثرت فيه الكهنة والسحرة والشعوذة، وتمكن فيه الأشرار، وصاروا قادة وسادة يفعلون بالأبرياء ما يريدونه؟! الجزء: 95 ¦ الصفحة: 4 الواجب تجاه السحرة والكهنة واجبنا تجاه السحرة والكهنة أن نحاربهم بقدر ما نستطيع، وكثيراً ما يشتكي لنا بعض الإخوان بأنهم أصيب منهم شخص بسحر، أو أصيب بعمل شيطاني، أو تسلط عليه جني، وأخبر بأن الذي سخره ساحر متشيطن متسلط، وأشباه ذلك. ويذكرون أن الساحر متى تمكن من السحر فإنه يسخِّر له جنوداً من الشياطين ومن الجن، فالشياطين يدلونه ويخبرون بالأمور الغائبة ونحوها، والجن يتصرف فيهم، فيسلطهم على من يريد، فيقول: -أنت يا هذا- اذهب إلى فلان فلابسه، أو إلى فلانة فتلبس بها، ولا تخرج منها أبداً، وحاول أنك لا تخرج إلا بعد موت هذا الإنسان، فإذا نطق ذلك الجني الذي تلبس بذلك الإنسان، ذكر أنه لا يستطيع أن يخرج ولو قرأ عليه القارئ، ولو عالجه، ولو نفث عليه، ولو تضرر من القراءة؛ لأنه مسخر، من الذي سخرك؟ ومن الذي سلطك؟ فيدل عليه، ويقول: سلطني الساحر الفلاني الذي تحت سيطرته ألف جني أو خمسة آلاف أو خمسمائة من الجن، وهؤلاء كلهم تحت تسخيره، وتحت سلطته، فكيف تمكن منهم؟! وكيف استعبدهم؟! تقربوا إليه وتقرب إليهم، حتى أخذ بطاعتهم، وتعهدوا أنهم لا يخرجون عن طواعيته، ولا يستطيع أحدهم أن يعصيه، فمتى أشار إليه أن تسلط على فلان أو فلانة لم يستطع التأخر. ومتى يبرأ هذا الذي أصيب بهذا المس؟ ومتى يبرأ هذا الذي أصيب بهذا الجنون؟ الغالب أنهم لا يبرءون حتى يموت ذلك الجني الذي لابسه، وكثير من القراء الذين يقرءون على أولئك المصابين يقرءون بشدة، وينفثون بشدة، ويستعملون أدعية وآيات من القرآن فيها شيء من القوة، فذلك الجني الذي لابس ذلك الإنسي يكاد أن يحترق ولا يستطيع الخروج، فأحياناً يموت وهو ملابس لذلك الإنسي، وبعد موته يفيق الإنسي بإذن الله سليماً، ويقول: أين أنا؟! لأنه لا يدري أين هو قبل ذلك، وإذا قيل لذلك الجني: لماذا لا تخرج؟ يتعذر ويقول: إني لا أستطيع حتى تقتلوا ذلك الساحر الذي سلطني عليه، ولو متُ ولو خرجت فإنه سيسلط عليه مثلي آخر وآخر؛ لأن تحت طواعيته هذا العدد الكثير، فاذهبوا فاقتلوا ذلك الساحر، حتى تريحوا أنفسكم، وحتى أخرج أنا براحة بدون أن تكرهوني، وأتخلص منكم وتتخلصون مني، هكذا يتكلم كثير من الجن على ألسنة من لابسوه. ونقول: لا شك أن هذا الساحر الخبيث الذي سخر هؤلاء الجن ما سخرهم إلا بعد ما استعبدهم، وبعد ما تقرب إليهم، وبعد ما أخذ عليهم العهد، وبعد ما عبدهم مع الله، أو عبد الشياطين حتى ذللتهم لطواعيته. إذاً: ما واجبنا نحو هؤلاء السحرة الذين يعيثون في الأرض فساداً، والذين يسلطون الجن على الأبرياء من الرجال والنساء؟ وقد يتظاهرون بأنهم لا يعملون ذلك، وربما يأتي أحد ضعفاء الإيمان إلى الساحر فيقول: أريد أن تسلط على فلان أو فلانة كذا وكذا! لا شك أن مثل هؤلاء يجب أن يحاربوا؛ حتى يخف شرهم، وحتى يُقطع دابرهم، وأما إذا بقوا فإنهم يزيدون ويزيد شرهم ويتمكنون، ويصعب بعد ذلك التخلص من شرهم. ونحن نعرف أن هناك من وفقهم الله تعالى من أهل الخير ومن أهل الدين وأهل المعرفة يعالجون مثل هذه الإصابة الشيطانية، فيعالجون من إصابة المس، ويعالجون من إصابة السحر والصرف والعطف ونحو ذلك، ويشفي الله على أيديهم خلقاً كثيراً، ولكن هناك أحوال شيطانية تستعصي، ويصعب تخليصها إلا بقتل الجان، أو بقتل الساحر، فلو تعاون الأهالي على كل من عرفوا أنه ساحر، أو أن أنها ساحرة، وقضوا عليهم وقتلوهم؛ لاستراح منهم العباد والبلاد. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 5 أنواع السحرة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال الخارجة عن الكتاب والسنة أنواع: نوع منهم: أهل تلبيس وكذب وخداع، الذين يظهر أحدهم طاعة الجن له، أو يدعي الحال من أهل المحال، من المشايخ النصابين، والفقراء الكاذبين، والطرقية المكارين، فهؤلاء يستحقون العقوبة البليغة التي تردعهم وأمثالهم عن الكذب والتلبيس، وقد يكون في هؤلاء من يستحق القتل، كمن يدعي النبوة بمثل هذه الخزعبلات، أو يطلب تغيير شيء من الشريعة، ونحو ذلك. ونوع: يتكلم في هذه الأمور على سبيل الجد والحقيقة بأنواع السحر. وجمهور العلماء يوجبون قتل الساحر ، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في المنصوص عنه، وهذا هو المأثور عن الصحابة كـ عمر وابنه وعثمان وغيرهم. ثم اختلف هؤلاء: هل يستتاب أم لا؟ وهل يكفر بالسحر أو يقتل لسعيه في الأرض بالفساد؟ وقال طائفة: إن قتل بالسحر يُقتل، وإلا عُوقب بدون القتل إذا لم يكن في قوله وعمله كفر، وهذا هو المنقول عن الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد. وقد تنازع العلماء في حقيقة السحر وأنواعه: والأكثرون يقولون: إنه قد يؤثر في موت المسحور ومرضه من غير وصول شيء ظاهر إليه. وزعم بعضهم أنه مجرد تخييل. واتفقوا كلهم على أن ما كان من جنس دعوة الكواكب السبعة، أو غيرها، أو خطابها، أو السجود لها، والتقرب إليها بما يناسبها من اللباس والخواتم والبخور ونحو ذلك فإنه كفر، وهو من أعظم أبواب الشرك؛ فيجب غلقه، بل سده، وهو من جنس فعل قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا قال ما حكى الله عنه بقوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88-89] ، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:76] الآيات إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] . واتفقوا كلهم أيضاً على أن كل رقية وتعزيم أو قسم فيه شرك بالله فإنه لا يجوز التكلم به، وإن أطاعته به الجن أو غيرهم، وكذلك كل كلام فيه كفر لا يجوز التكلم به، وكذلك الكلام الذي لا يعرف معناه لا يتكلم به؛ لإمكان أن يكون فيه شرك لا يعرف، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً) . ولا يجوز الاستعاذة بالجن، فقد ذم الله الكافرين على ذلك فقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] قالوا: كان الإنسي إذا نزل بالوادي يقول: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فيبيت في أمن وجوار حتى يصبح: (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) يعني: الإنس للجن باستعاذتهم بهم، (رهقاً) أي: إثماً وطغياناً وجراءة وشراً؛ وذلك أنهم قالوا: قد سدنا الجن والإنس! فالجن تعاظم في أنفسها وتزداد كفراً إذا عاملتها الإنس بهذه المعاملة، وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40-41] ، فهؤلاء الذين يزعمون أنهم يدعون الملائكة ويخاطبونهم بهذه العزائم وأنها تنزل عليهم ضالون، وإنما تنزّل عليهم الشياطين، وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128] ، فاستمتاع الإنسي بالجني: في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات ونحو ذلك، واستمتاع الجن بالإنس: تعظيمه إياه، واستعانته به، واستغاثته، وخضوعه له. ونوع منهم: يتكلم بالأحوال الشيطانية والكشوف، ومخاطبة رجال الغيب، وأن لهم خوارق تقتضي أنهم أولياء الله، وكان من هؤلاء من يعين المشركين على المسلمين! ويقول: إن الرسول أمره بقتال المسلمين مع المشركين؛ لكون المسلمين قد عصوا!! وهؤلاء في الحقيقة إخوان المشركين] . الجزء: 95 ¦ الصفحة: 6 قتل الساحر ذكر المؤلف الخلاف في عدة مسائل منها: هل يقتل الساحر مطلقاً أو لا يقتل إلا بعد أن يستتاب؟ الأكثرون على أنه يقتل ولا يستتاب، وهذا هو قول الجمهور. والشافعية رحمهم الله رأوا أنه يستفصل عن سحره ويستتاب، أو أنه لا يقتل إلا إذا قتل بسحره، لكنه لما ثبت عن الصحابة أنهم قتلوا الساحر ولم يستتيبوه دل ذلك على أن هذا هو حكمه، وأنه لا تقبل توبته، وأن توبته إنما تكون بينه وبين ربه. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 7 الخلاف في حقيقة السحر هل للسحر حقيقة أم أنه خيالات؟ أنكرت المعتزلة أن يكون للسحر حقيقة، وأنكر ذلك أيضاً كثير من المتأخرين الذين ينكرون من العلوم غير ما تصل إليه إحساساتهم. والصحيح أن له حقيقة؛ ولولا ذلك لم يحتج إلى الاستعاذة من السحرة، قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:1-4] النفاثات: السواحر، وورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك) ، ويذكر العلماء أن الساحر أو الساحرة إذا أراد أحدهما عمل سحر فإنه يأخذ خيطاً أو حبلاً، ثم يعقد فيه عقدة، ثم تكون نفسه قد امتزجت بها الصفات الشريرة، وتلبست بها الشياطين، وأصبحت ذات شر وذات أذى، فإذا تمثلت فيها تلك الصفة نفثت نفثاً من ذلك الريق المسموم، فأوقعتها في ذلك الحبل أو الخيط، وعقدت عليها، وتكلمت بكلام سيئ، بأن تقول: يُعقد فلان، أو يُضر فلان أو نحو ذلك، فهذا من عمل السحرة؛ فمن عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ولو كان السحر ليس له حقيقة لما استعيذ من شره؛ لأنه لا يضر، وكذلك قد أخبر الله تعالى بشيء من ضررهم فقال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102] ، فهم يفرقون بين المرء وزوجه، وهذا يُسمى بالصرف، وهناك أيضاً ما يُسمى بالعطف، فالسحرة من أعمالهم الصرف وهو: وقوع البغضاء بين المتحابين، والعطف وهو: جلب المودة بين المتقاطعين والمتباغضين، وهذا الذي يُسمى الصرف أو العطف كله عمل شيطاني، وتوصلهم إلى ذلك بأدوية أو بعلاجات لا شك أنها من وحي الشياطين، فهي التي تدلهم على أن النفث في الدواء الفلاني يسبب فرقة، ويسبب بغضاء بين فلان وفلانة، فإذا رأى زوجين بينهما عشرة طيبة حاول أن يفرق بينهما، فعمل ذلك السحر الذي يوقع عداوة من كل منهما للآخر، وهذا مشاهد كثيراً، وقد اشتكى إلينا كثير من الرجال بأنه إذا دخل بيته أو رأى امرأته وجد نفرة، ووجد ضيقاً، ووجد حشرجة، ووجد تكتماً؛ بحيث يكون في غم، وفي ضيق، وكأنه في سجن أشد ما يكون، ولا تستريح نفسه حتى يفارق بيته، أو يصد عن امرأته. وكذلك أيضاً يقع كثيراً حبس الرجل عن امرأته؛ بحيث إنه لا يستطيع إتيانها، ويفعل ذلك أيضاً السحرة، فيكون الرجل على هيئته وقوته، فإذا قرب من امرأته لوطئها بردت همته، وهو على خلاف ذلك، ولا يدري ما السبب، إلا أنه من عمل هؤلاء السحرة! إذاً: فهذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يؤثر ويضر، وأما ما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنه قالت: (سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، ثم إنه سأل ربه وسأله، فقال: يا عائشة! أشعرت أن الله شفاني؟ إني قد أتاني ملكان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال: ما بالرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر في بئر ذروان، فذهب إلى تلك البئر فاستخرج السحر منها، وإذا ماؤها مثل نقاعة الحناء، وإذا نخلها كرءوس الشياطين) فشفاه الله تعالى. يقول العلماء: هذا العمل الذي عمله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر عمل خفي فيما بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين امرأته، بمعنى: أنه حبس عنها، ولأجل ذلك في بعض الروايات تقول: (حتى أنه يخيل إليه أنه يأتي النساء وما يأتيهن) ، وأما في مجال الرسالة وفي مجال تبليغ الرسالة فلم يتغير شيء من عقله؛ وذلك لأن الله تعالى حفظه عن أن يناله السحرة بشيء يضر فيما يتعلق برسالته، فهذا أيضاً دليل على أن السحرة قد يؤثرون في بعض الأمور، فأثر هذا الساحر، ولكن أبطل الله كيده، كما أن اليهود أرادوا أن يقتلوه بسم جعلوه في شاة لهم، ولكن الله حماه عن أن يضره ذلك السم. وبكل حال فهذه أدلة على أن للسحر حقيقة، وأنه يضر، وأن الساحر قد يتمكن من سحره، ويقلب الإنسان حيواناً، أو الحيوان إنساناً، ولكن كيف يقلب الإنسان دابة، أو وحشاً، أو وعلاً، أو سبعاً أو نحو ذلك؟ نقول: يسلط عليه جنياً، ومعلوم أن الجني يتشكل بأشكال، فتارة يظهر بصورة سبع، وتارة يظهر بصورة إنسان، وتارة يظهر بصورة كلب، وتارة يظهر بصورة هامة، وتارة يظهر بصورة بقرة؛ لأن الله أعطاه من القدرة على التشكل في هذه الأجسام ما أعطاه، فإذا سلط الساحر شيطاناً على ذلك الإنسان، وقال له: اخرج بصورة حمار، أو بصورة كلب، أو بصورة كذا، لابسه ذلك الشيطان، وانقلبت هيئته إلى ما يريده ذلك الساحر، ولا يبطل عمله إلا بعدما يشفى -بإذن الله- بالقراءات والتعوذات التي تبطل عمل السحرة. وبعد ذلك نقول: هذا يبطل قول من قال: إن السحر شعوذة، كالمعتزلة الذين يقولون: إن السحر ليس له حقيقة، وإنما هو تخيلات، ويستدلون بما حكى الله عن السحرة الذين جادلوا موسى، قال الله تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] فقوله: (يخيل إليه) أي: أنهم جاءوا بعصي فألقوها فإذا هي تتحرك كأنها حيات، وكذلك ألقوا حبالاً فإذا هي تتحرك، ولما أن ألقى موسى عصاه فانقلبت حية قالوا: نحن نلقي عصينا وتنقلب حيات، ونلقي حبالنا وتنقلب حيات، فيقولون: ذلك خيال، ولكن قد يتمكنون من أن يسخروا بعض الشياطين التي تتحرك أمام الناظرين، ولكن بطل كيدهم لما جاء الحق، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:117-119] أي: أن موسى ألقى عصاه فالتقمت عصيهم وحبالهم كلها، وعادت عصاً كما كانت، فعرف السحرة أن هذا ليس عملاً شيطانياً، وأنه أمر رحماني، فعند ذلك أُلقي السحرة ساجدين، فبطل سحرهم، وعرفوا أحقية ما جاء به موسى. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 8 شرح العقيدة الطحاوية [96] يشرع للمسلم أن يتحصن من السحرة والشياطين بالأذكار والأوراد الشرعية، وقد بين العلماء علاج السحر والمس بالطرق الشرعية. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 1 سبب انتشار السحرة والكهان والمشعوذين إن السحرة والكهنة والمشعوذين والمنجمين والعرافين هم خدمة الشياطين، أو هم رسل الشياطين، أو هم من شياطين الإنس الذين يخدمون شياطين الجن، وهؤلاء -مع الأسف- قد كثروا وتمكنوا، وبالأخص في الأزمنة المتأخرة؛ وكثرتهم سببها: ضعف الدين في القلوب، وضعف الإسلام والعاملين به في المجتمعات؛ وذلك أنهم كلما قوي المسلمون وكلما قويت العقيدة ضعفوا وضعف وجودهم، أو انقطعوا، أو كادوا أن ينقطعوا. ولقد كانوا قبل الإسلام موجودين بكثرة، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حُرست السماء، وحيل بين الشياطين وبين الاستراق؛ حتى ينقطع وحي الشياطين، وحتى ينقطع ما تسمعه الكهنة من أوليائها، وحتى لا يلتبس الحق بالباطل، ويلتبس وحي الرحمن بوحي الشيطان، وفي بعض الأحاديث: أن بعض الصحابة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فرمي بكوكب -وهو الشهاب الذي يُرمى به- فسألهم صلى الله عليه وسلم: (ما تقولون في هذا النجم الذي رمي به؟) ، فلم يقولوا شيئاً، فأخبرهم: بأن الشياطين كانت تسترق السمع، وتنزل إلى الكهنة بما تأخذه من الملائكة، فتخبرهم بأن الملائكة تحدثت بكذا، وأنه سيحدث كذا وكذا، ولما أنزل الله وحيه على النبي صلى الله عليه وسلم كثرت حراسة السماء، ورجمت الشياطين، واشتكوا إلى رئيسهم الذي هو إبليس، وقالوا: منعنا من السماء، ومنعنا من استراق السمع، فأرسل من يسأل ويستفصل: ما السبب؟ إذ لابد أن يكون هناك سبب، ثم إنهم وجدوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، فاستمعوا إليه، ورجعوا إلى قومهم، وقالوا: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:8-10] ، ورجع الذين استمعوا القرآن إلى أوليائهم وقالوا: عرفنا السبب الذي لأجله حرست منا السماء، وهو بعث هذا النبي، فآمنوا به كما حكى الله عنهم قولهم: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} [الجن:13] . وبكل حال في ذلك الوقت حرست السماء حراسة شديدة؛ لقوة الإسلام، ولحماية الوحي من السماء، ولما ضعف العمل بالشريعة، وضعف التمسك بها؛ قوي وجود الكهنة، وقوي استراق الشياطين والجن للسمع، ونزولهم إلى أوليائهم من الكهنة والسحرة، فكثروا حينئذٍ، وصار الناس يشجعونهم، حيث يأتون إليهم، ويقولون: أخبرنا بكذا وكذا، فإذا أخبرهم بما توحيه إليه الشياطين قدسوه وعظموه، وقالوا: هذا هو الذي يعرف، وهذا هو العارف، وهذا هو العرّاف، ولا يزال الناس يترددون إليه، وما ذاك إلا لضعف الإسلام، وقد مر بنا الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) ، ولو كان ذلك الكاهن يخبر بأشياء مثل أن يخبر بمكان الضالة، ويخبر بمكان المسروق، أو بعين السارق، أو ما أشبه ذلك، فنقول: هذا مما يستوحيه من شياطينه، والواجب على الإنسان أن يلجأ إلى الله، وألا يصدق هؤلاء الكهنة. والسحرة أيضاً قد تمكنوا، وقد كثروا مع الأسف، وأضروا بكثير من الناس، وكثر الذين يشتكون، وكثر الذين يقول أحدهم: إنه أصيب بكذا، أو أصيبت ابنته بكذا، بصرف أو بعطف، أو ببغض لبيتها أو ببغض لزوجها أو لأهلها، أو أصيب الرجل بضيق كلما دخل إلى بيته؛ بحيث إنه يصير محشرجاً، ويصير كأنه في سجن حتى يفارق بيته، أو حيل بينه وبين امرأته؛ بحيث إنه لا يقدر على إتيانها أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي يكثر الشكاة لها، ما أكثر الذين يشتكون أنه أصيب أحدهم بكذا وكذا، وأنه أصيب بهذا الصرف، وأصيب بهذه المصائب التي لا شك أنها من عمل الشياطين، ونقول: ما السبب في كثرة هذه المصائب؟ وما السبب في إصابة هؤلاء بهذه الأمور؟ لا شك أن السبب هو: ضعف الإيمان، فمتى كنت مؤمناً، ومتى كنت مسلماً متمسكاً بإسلامك فثق بأن الله يحرسك، وأنه يحميك من كيد هؤلاء السحرة ومن ضربهم. وما يصاب غالباً بهذه الأمور الشيطانية إلا ضعاف الإيمان، نشاهد أن أكثر الذين يشتكون إما من جن أصابه أو أصاب ابنته، وإما من صرف، وإما من سحر أو نحو ذلك هم من العصاة والفسقة، وإما من الجهلة، وإما من العامة الذين لا يتحصنون، أما أهل التحصن فإن الله يحميهم بما يتحصنون به. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 2 كيفية التحصن من كيد السحرة والشياطين إذا أردت أن تكون في حصن حصين من عمل وكيد الشياطين وعمل السحرة فعليك أن تتحصن بالأشياء التي تحفظك: أولها: تحقيق العقيدة السليمة، وهي: كونك تصدق بأن الله هو النافع الضار، وتصدق بأنه هو الذي يحمي العباد إذا تحصنوا به. ثانيها: كثرة ذكر الله في كل الأحوال؛ فلا تغفل عن ذكر الله فإنه يطرد الشياطين. ثالثها: الدعاء، فعليك أن تدعو بما يحضرك من الأدعية النافعة التي يكون فيها حفظ لك وحفظ لأهلك وحفظ لبيتك ونحو ذلك. رابعها: قراءة كتاب الله وكثرة تدبره وتكراره، فإنه حصن لمن قرأه وتحصن به. خامسها: حماية منزلك من آلات اللهو والملاهي كلها، وعن المعاصي ونحوها؛ فإن الشياطين تألف تلك الأماكن وتلك البيوت الممتلئة بالملاهي، والممتلئة بآلات الفساد ونحوها، فإذا كان المنزل خالياً من هذه الأشياء فإن الملائكة هي التي تعمره، ولا تجتمع الملائكة والشياطين. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 3 الطرق الجائزة في علاج السحر شياطين الجن والسحرة ونحوهم قد يسلطون أولياءهم على بعض المتعففين أو على بعض المتمسكين، يريدون بذلك إضراره ورده عما هو عليه، فالحيلة في إبطال هذا الكيد علاجه، ولا شك أنه لا علاج له إلا العلاج الرحماني وهو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز علاجه بإتيان السحرة، ولا بطلبهم أن يفكوا عنه، ولا العلاج بمثله من السحر، وإذا عرف الساحر فإنه يقام عليه الحد: (حد الساحر ضربه بالسيف) ، فلا يجوز إقراره، فكيف يُؤتى إليه ويقال: فلان مصاب فعليك أن تعالجه! فلا يجوز ذلك، إنما نعالجه بكلام الله وبكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالأدعية النافعة، وبالأدوية المباحة. ولقد تكلم العلماء على بعض العلاجات النافعة، فتكلم على ذلك ابن القيم رحمه الله عندما فسر سورتي المعوذتين في كتابه (بدائع الفوائد) ، فإنه فسر سورتي المعوذتين، وأتى على قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] ، وأطال الكلام على السحر، وعلى ذكر حقيقته، وعلى ما قيل فيه، ثم تكلم عن فك السحر وحلّه عن المسحور وهو المسمى بالنشرة، وذكر الآثار في ذلك، فذكر الحديث الذي روي بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة؟ فقال: هي من عمل الشيطان) ، وقال: النشرة: حل السحر عن المسحور، وهو قسمان: حلّ بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل كلام الحسن البصري أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر، وصفته: أن الساحر والمسحور كل منهما يتقرب إلى الشيطان بما يحب، فأما أن يدعو الشيطان، وإما أن يطيع الشيطان، حتى يبطل عمله عن المسحور، فهذا حرام، وهذه هي النشرة المحرمة؛ لأن الناشر والمنتشر يتقربان إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. الثاني: العلاج بالقراءة وبالأدعية وبالأوراد وبالآيات ونحوها؛ فهذا لا بأس به، وهو داخل في كون القرآن شفاءً كما وصفه الله؛ فإن الله تعالى وصف القرآن بأنه شفاء في قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82] ، ولهذا إذا قرئ على المصاب بجن أو بسحر، وكان ذلك المصاب عاصياً أو فاسقاً أو متصفاً بخروج عن الطاعة لم تؤثر فيه القراءة حتى يقلع عن معصيته، أو حتى يعلن التوبة وعدم الرجوع، فهنالك يشفى بإذن الله تعالى عملاً بهذه الآية: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت:44] ، وقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82] فهذا هو العلاج. وقد ذكر ابن القيم وابن كثير أنواعاً من العلاجات، وابن كثير تكلم على السحر وأطال عليه في تفسير قول الله تعالى في سورة البقرة: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102] إلى آخر الآية، وتكلم على قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102] يعني: أن من السحر ما يسبب البغضاء بين الزوجين، والزوجان -غالباً- يكونان متآلفين، فالساحر يقدر بعمله الشيطاني على أن يوقع بينهما الوحشة، وأن يسبب الفرقة بينهما، أو يعمل عملاً يحجز به الزوج عن امرأته ويحبسها فلا يقدر على جماعها، فذكروا علاجاً وصفه ابن كثير ونقله عمن نقله من السلف، وهذا بلا شك من الأشياء المجربة، ذكر أنه يؤخذ سبع ورقات من السدر الأخضر، فتضرب بين حجرين، ثم يصب عليها ماء، ويقرأ فيها سورتي الكافرون والإخلاص: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، والمعوذتين، وآية الكرسي، وآيات السحر الثلاث: في سورة الأعراف قوله تعالى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:118-119] ، وقوله تعالى في سورة يونس: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:80-81] ، وقوله تعالى في سورة طه: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:68-69] ، فيكرر المصاب أو المحبوس عن امرأته قراءتها، وسيفك ذلك عنه بإذن الله إذا توافرت الشروط. وهناك آيات أخرى غير هذه، ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سبعاً وثلاثين آية في القرآن فيها قول: لا إله إلا الله، من قرأها فإنه يُحمى من كيد الشياطين ونحوه، وأنه لا يضره سحر في ذلك اليوم إذا قرأها كورد في الصباح أو في المساء، يعني الآيات التي فيها التهليلات، وتسمى: تهليلات القرآن. وعلى كل حال فالقرآن كله شفاء كما وصفه الله تعالى، وإن كان فيه آيات تخص قراءتها، وتكون حرزاً للمؤمنين ودعاءً، وكذلك أيضاً الأحاديث النبوية، وقد جمع العلماء متقدميهم ومتأخريهم أدعية من الكتاب والسنة، وجعلوها كأوراد، وقراءتها قبل المرض تكون حفظاً بإذن الله، وبعد المرض تكون علاجاً. وقد أصيب بعض الإخوان واشتكى أنه تصيبه حشرجة وضيق في صدره؛ بحيث إنه لا يستقر ولا ينشرح باله إذا دخل منزله، فعمد إلى الورد المطبوع المشتهر الذي اسمه: (الورد المصفى المختار) الذي جمعه الملك عبد العزيز رحمه الله، يقول: أخذت هذا الورد، وجعلت أقرأه قبل أن أنام، إذا جلست على فراشي قرأته من أوله إلى آخره، وإذا أصبحت قرأته من أوله إلى آخره في المصلى، وأنا رافع يدي ومخبت قلبي، قال: فما لبثت إلا شهراً أو أقل من شهر حتى زالت عني تلك الوحشة، واتسع قلبي، وزال عني ما أجد من ذلك الضيق! وهذا دليل على أن كتاب الله وسنة نبيه والأدعية والأوراد سبب في الشفاء إذا وقع المرض، وسبب في الحمية والعصمة والحماية منه قبل وقوعه. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 4 الكرامات والخوارق الشيطانية قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [والناس من أهل العلم فيهم على ثلاثة أحزاب: حزب يكذبون بوجود رجال الغيب، ولكن قد عاينهم الناس، وثبت عمن عاينهم أو حدثه الثقات بما رأوه، وهؤلاء إذا رأوهم وتيقنوا وجودهم خضعوا لهم. وحزب عرفوهم، ورجعوا إلى القدر، واعتقدوا أن ثَّم في الباطن طريقاً إلى الله غير طريقة الأنبياء! وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا ولياً خارجاً عن دائرة الرسول، فقالوا: يكون الرسول هو ممداً للطائفتين. فهؤلاء معظمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه. والحق أن هؤلاء من أتباع الشياطين، وأن رجال الغيب هم الجن، ويسمون رجالاً، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] ، وإلا فالإنس يؤنسون، أي: يشهدون ويرون، وإنما يحتجب الإنسي أحياناً، لا يكون دائماً محتجباً عن أبصار الإنس، ومن ظنهم أنهم من الإنس فمن غلطه وجهله. وسبب الضلال فيهم، وافتراق هذه الأحزاب الثلاثة: عدم الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن، ويقول بعض الناس: الفقراء يُسلّم إليهم حالهم! وهذا كلام باطل، بل الواجب عرض أفعالهم وأحوالهم على الشريعة المحمدية، فما وافقها قُبِل، وما خالفها رُد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، وفي رواية: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ، فلا طريقة إلا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا يصل أحد من الخلق بعده إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته إلا بمتابعته باطناً وظاهراً، ومن لم يكن له مصدقاً فيما أخبر ملتزماً لطاعته فيما أمر في الأمور الباطنة التي في القلوب والأعمال الظاهرة التي على الأبدان لم يكن مؤمناً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله تعالى، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء، وأنفق من الغيب، وأخرج الذهب من الخشب، ولو حصل له من الخوارق ماذا عسى أن يحصل، فإنه لا يكون مع تركه الفعل المأمور وعزل المحظور إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله تعالى، المقربة إلى سخطه وعذابه، لكن من ليس يكلف من الأطفال والمجانين قد رفع عنهم القلم، فلا يعاقبون، وليس لهم من الإيمان بالله والإقرار باطناً وظاهراً ما يكونون به من أولياء الله المقربين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين، لكن يدخلون في الإسلام تبعاً لآبائهم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] ، فمن اعتقد في بعض البله أو المولعين -مع تركه لمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله- أنه من أولياء الله، ويفضله على متبعي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ضال مبتدع، مخطئ في اعتقاده، فإن ذاك الأبله إما أن يكون شيطاناً زنديقاً، أو زوكارياً متحيلاً، أو مجنوناً معذوراً، فكيف يفضل على من هو من أولياء الله المتبعين لرسوله أو يساوى به؟! ولا يقال: يمكن أن يكون هذا متبعاً في الباطن، وإن كان تاركاً للاتباع في الظاهر، فإن هذا خطأ أيضاً، بل الواجب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً. قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: قلت للشافعي: (إن صاحبنا الليث كان يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة، فقال الشافعي رحمه الله: قصّر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، ويطير في الهواء، فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب. وأما ما يقوله بعض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اطلعت على أهل الجنة فرأيت أكثر أهلها البله) فهذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي نسبته إليه؛ فإن الجنة إنما خلقت لأولي الألباب الذين أرشدتهم عقولهم وألبابهم إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وقد ذكر الله أهل الجنة بأوصافهم في كتابه، فلم يذكر في أوصافهم البَلَه الذي هو ضعف العقل، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء) ، ولم يقل: البله] . هذا الكلام حول هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أهل الغوث، وهم ممن ينصبون أنفسهم لهذا الأمر، ولا شك أن الغوث إنما هو من الله تعالى، فمعلوم أن الغوث الذي هو إزالة الشدة وتفريج الكربات من الله، وأما الإنسان فلا يقدر أن يزيل شدة، ولا أن يفرج كرباً، ولا أن يسد حاجة إنسان بدون أمر وإعانة من الله تعالى، فذكر أن هناك من يقول: إن هؤلاء الذين وصلوا إلى هذه الحالة تفوقوا على الأنبياء، وأن الله يمدهم بعطاء من عنده، ويفتح عليهم، وينزل عليهم ملائكته أو ينزل عليهم وحيه بواسطة أو بغير واسطة، وأنهم قد استغنوا عن الوحي وعن شرائع الأنبياء، وهذه مقالة بعض العوام أو من يقلدهم. والجواب عليها: أن هذا كفر، ولا يجوز لأحد أن يستغني عن الشريعة الإسلامية مهما كانت حالته، بل الشريعة المحمدية هي خاتمة الشرائع، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، ولا يسع أحد الخروج عن شريعته، ومن نواقض الإسلام أن يعتقد أحد أن إنساناً يسعه الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى! ثم هناك طائفة اعتقدت أن هؤلاء الذين يسمون أهل الغوث أو نحوهم كذبة، وأنه ليس هناك ما يسمى بغوث أو ما يسمى بفتح أو إلهام أو نحو ذلك، وقد تقدم في كرامات الأولياء: أن الله قد يفتح على بعض أوليائه وينطقهم بكلمات هي حكمة، أو يكون فيها شيء مما يسمى بخرق العادة، ويكون ذلك كرامة لهم، فلا يجوز إنكار ذلك. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 5 أنواع الخوارق خوارق العادة ثلاثة أنواع: النوع الأول: هو الذي يجري على أيدي الرسل والأنبياء، وهذه تسمى معجزات، ولا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثل معجزات الأنبياء. النوع الثاني: يجري على أيدي الصالحين من عباد الله، وهذه تسمى كرامات، بأن يفتح الله عليهم ويلهمهم، أو يعطيهم كرامات ظاهرها أنها تعجز البشر، ولكنها فتح من الله ومنّة منه؛ لتقوية الإيمان، أو لإمدادهم، أو لغير ذلك. النوع الثالث: ما يجري على أيدي السحرة والمشعوذين والكهنة ونحوهم، وقد ذكرنا أن هذا يسمى بالأحوال الشيطانية، وأن الشيطان قد يلابس بعض الناس، ويظهر منه أفعال قد يتعجب منها، كما يحدث أناس بأفعالهم وبعجائب أمورهم، حتى ذُكر أن أحدهم لما لابسه شيطانه أتى إلى نار موقدة وفيها جمر أمثال الحجارة، وجعل يأخذ الجمر بيده ويأكلها، ويُسمع لها حس إذا دخلت في ريقه وانطفأت به، ثم يبتلعها، حتى ابتلع الجمر كله، ويقولون: كانت النار تتقّد لكثرة جمرها، فانطفأت من كثرة ما أكل، ولا شك أن هذا من الشيطان الذي لابسه، والشيطان مخلوق من النار، ولا يتأثر بالنار، قال تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27] ، فلا ينكر أن تجري مثل هذه الأشياء على أيدي هؤلاء المشعوذين ومن أشبههم. كذلك أيضاً لا شك أن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أو يسميهم بعض الناس أهل الغوث، ليس لهم طريق يسلكونه إلا سلوك الطريق النبوية، وليس لأحد أن يخالف الشريعة، بل الأمة مكلفة باتباع هذه الشريعة مهما كانت، ولو خالفت الأهواء، ولو صعبت في بعض الأحوال؛ إذ لا يجوز لأحد الخروج عن العقيدة قيد أنملة، بل يتقيد بها، والله تعالى سدّ الطرق إلا طريق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكلف الأمة باتباعه وبتقليده مهما كانت الأحوال، وجعل طاعته سبباً للسعادة، ومعصيته سبباً للشقاوة؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71] ، وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14] . الجزء: 96 ¦ الصفحة: 6 لا يُصدق أصحاب خوارق العادات حتى يُعرضوا على الكتاب والسنة ذكر العلماء رحمهم الله أن ما يقوله هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أهل الغوث من تسويل الشيطان غالباً، وأنه يلابسهم حتى ينخدع بهم من ينخدع، فلا بد أن نعرض أمرهم على الكتاب والسنة. وذكر المؤلف كلام الليث بن سعد، وهو عالم مصر رحمه الله، فنقل إلى الشافعي أنه يقول: إذا رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به حتى تعرض أمره على الكتاب والسنة، والشافعي رحمه الله يقول: قصر الليث، بل إذا رأيته يطير في الهواء فلا تغتر به حتى تعرض أمره على الكتاب والسنة؛ وذلك لأنه يُشاهد. ونقل أيضاً متقدمون ومتأخرون أن السحرة ونحوهم قد يرفعون بعض الناس حتى يخيل للناس أنه بين السماء والأرض، فيتحرك ويضطرب ويتكلم، فيقولون: سبحان الله! يطير في الهواء بدون أن يمسكه شيء، وليس هناك شيء يرفعه، ولا يدرون أن الشياطين هي التي حملته!! وذكر شيخ الإسلام في كتاب (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) أن الشياطين أو الجن تحمل بعض أوليائها من مكان بعيد مسيرة شهر أو أشهر على الرواحل، وأنه يصل إلى الناس في عرفة، ويقف معهم، ويجلس معهم ساعة أو ساعات، ثم يردونه إلى مكانه في يومه أو في ليلته، وأنه يحدث الناس، ويقول: رأيت فلاناً وفلاناً، وسلمت على فلان، وقابلت فلاناً وهو راكب في كذا وكذا، وحدث كذا وكذا، إذا قدم الحجاج سألوهم، فقالوا: صحيح، هذا شيء وقع، وقد رأينا فلان حج معنا في عرفة، ولكن ما رأيناه في غير عرفة، ويتكلمون بما يطابق ما قال، فكيف حصل هذا؟! يقول: إن الجن حملته، والشياطين لها قدرة على الطيران لخفتها، فإذا كانت تصل إلى السماء كما قال الله عنهم: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ) فكيف لا تحمل هذا الشيء الثقيل وتوصله إلى مكان تقدر عليه إلى حيث تشاء ثم ترده؟!! ولكن لا تخدمه إلا إذا كان من أوليائها الموالين لها، والمتقربين إليها. فكيف نقول في هؤلاء؟ نعرض أمرهم كما قال الشافعي والليث على الكتاب والسنة. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 7 حقيقة من يُسمون بالبله اشتهر أناس في الزمان الأول كانوا يسمون بالبله، وقد يسمون بالمجانين، وكان يقال لأحدهم: المجنون فلان، والمجنون فلان، ثم ينقلون عنهم أفعالاً ويقولون: إنهم ممن رفع عنهم القلم، وسقطت عنهم التكاليف وأشباه ذلك. فنقول: ليس الأمر كذلك، والحديث الذي يتناقلونه وفيه: (أن أكثر أهل الجنة البله) لا يصح، بل الله تعالى ذكر أن أكثر أهل الجنة على لسان نبيه هم العاملون، وهم أولو الألباب، والله تعالى يذكر دائماً أولي الألباب -يعني: أهل العقول- ولا يذكر البله، ولا ناقصي العقول ولا المجانين ونحوهم؛ بل هؤلاء أقل أحوالهم أن تسقط عنهم التكاليف، ولا يكلف أحدهم إذا فقد العقل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- المجنون حتى يفيق) ، فالأبله ضعيف العقل، قريب من المجنون، فكيف يكونون أكثر أهل الجنة؟! بل هم إذا دخلوا الجنة فإنهم يعاملون على أنهم ممن أثيبوا لأجل أنهم لم يستطيعوا أن يعملوا لقلة فهمهم وعقلهم. وبكل حال فهؤلاء الذين يسمون بالبله، قد انخدع بهم خلق كثير من المتقدمين والمتأخرين؛ بل وإلى زماننا، كما ذكر لنا أن هناك من المتأخرين في مصر وفي سوريا وفي كثير من البلاد الإفريقية من يعظمون هؤلاء الضعفاء، ويدعون أنهم أولياء، وأنهم ممن سقطت عنهم التكاليف، وأنهم ممن يأخذون الوحي بدون واسطة الأنبياء وأنهم وأنهم! ويقولون: إن من كراماتهم أن أحدهم إذا مات فإن الملائكة تحمله على النعش، والذين يحملونه فوق متونهم لا يحسون بثقله، فيخيل إليهم هذا، حتى قيل: إنه لما مات واحد من أولئك المجانين أراد أولياؤه أن يوهموا العامة أن هذا ممن حملته الملائكة، فصاروا يسرعون به سرعة زائدة، مع أنهم يحسون بثقله، ولكن كأنهم يقولون: انظروا -أيها العامة- أننا نحمله، وكأننا لا نحمل شيئاً؛ فالملائكة تحمله فوقنا، ونحن لا نحس به، فنحن الآن نسعى سعياً شديداً حتى كأننا لم نحمل شيئاً! وكل هذا لأجل إيهام هؤلاء العامة أنه من الأولياء، حتى يغلوا فيه، مع أنه مجنون لم يُعرف إلا بكلام ساقط. والمتقدمون ترجموا لهؤلاء فيقولون: قال المجنون سحنون، قال المجنون بهلول! وهذه أسماء موجودة في كتب التراجم التي تتكلم عن كرامات الأولياء ونحوهم، ومع ذلك يعتدون بكلامه وهم يسمونه مجنوناً! وكذلك أيضاً يذكرون أنهم في بعض البلاد من جهلهم أو بلههم أن أحدهم يمشي عرياناً، فيقولون: هذا ممن سقط عنه التكليف! وهذا كان حتى في الزمن المتوسط في عهد الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني صاحب (سبل السلام) ، ففي قصيدته البائية يقول فيها: كقوم عراة في ذرى مصر ما على عورة منهم هناك ثياب يعدونهم في مصرهم من خيارهم دعاؤهم فيما يرون مجاب مع أنهم يمشون عراة ليس على عوراتهم ثياب، ومع ذلك يقولون: هؤلاء هم المجانين الذين سقطت عنهم التكاليف، وهؤلاء هم البله الذين لا حرج عليهم، ونقول: لا شك أن هذا من تلاعب الشيطان بهم. فعلى كل حال: لا يُغتر بمثل هؤلاء؛ بل يُرد أمر الجميع إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما وافق ذلك فهو الصواب. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 8 شرح العقيدة الطحاوية [97] من ضلال بعض الصوفية تفضيلهم وتعظيمهم للمجانين على العقلاء الصالحين، وقد رد عليهم أهل العلم هذا الاعتقاد الفاسد الخاطئ. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 1 مجمل الكلام في تعظيم الصوفية لمن يسمونهم البله نحمد الله أن جعلنا مسلمين، نحمد الله على النعمة بهذا الدين، نحمد الله أن جعلنا من أتباع خير المرسلين، لا شك -أيها الإخوة- أنها منة كبيرة ونعمة عظيمة، أن هداكم الله، وأقبل بقلوبكم، ومنّ عليكم بمعرفته، وبمعرفة دينه، وبمعرفة نبيه، ووفقكم للقبول وللاتباع، فقد رأيتم وقد سمعتم الفئام والأعداد الكبيرة الكثيرة الذين أُتوا علوماً، ولم يُؤتوا فهوماً، أوتوا أذهاناً وقلوباً ولم يؤتوا زكاءً؛ أذكياء ولكنهم ليسوا أزكياء، منّ الله عليهم بالسمع والبصر والفؤاد، ولكن لم تغن عنهم أسماعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء. وما أكثر المنحرفين الذين رأوا الحق فحادوا عنه إما عن عمد وإما عن خطأ، وما أكثر الضالين المنكرين وهم يعلمون! فإذا وفق الله العبد ومنّ عليه وأقبل بقلبه فتلك نعمة عظيمة عليه أن يعرف قدرها، وعليه أن يشكر ربه عليها، ونحن إذا قرأنا وسمعنا ما يمر علينا في هذه الكتب وفي هذه الأخبار نرى العجب العجاب! هؤلاء من أهل العقول، ومن أهل الأفهام، ومن أهل الذكاء ومع ذلك يتركون الحق جانباً! ويتركون الحق وهم يرونه، ويرتكبون سبل الضلال! ونحن نسمع وتسمعون أخباراً في القريب والبعيد عن فئام من الناس قد كان آباؤهم على جهل؛ ولكن هم قد زال عنهم الجهل، كان آباؤهم على ضلال، ولكن هم أبصروا الهدى وعرفوه، ومع ذلك تشبثوا بسنن الآباء والأجداد وبعاداتهم! وصدق الله القائل: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:69-70] . مر بنا في الدرس الماضي أن في الزمان القديم بل وفي هذه الأزمنة من يعظمون البله، ورووا فيهم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (دخلت الجنة فرأيت أكثر أهلها البله!) ، وهذا الحديث لم يثبت؛ فهو حديث ضعيف، ولو نشروه، ولو اشتهر في مؤلفاتهم، فإنه لا حقيقة له، والأبله هو: ضعيف العقل، وأقل أحواله أن يكون مجنوناً ساقطة عنه التكاليف، فأما كونهم يُرفعون فوق الأبرار وفوق المقربين ويكونون أكثر أهل الجنة فإن هذا من الكذب. ونحن نعرف أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أكثر من يدخل الجنة هم الضعفاء والفقراء والمساكين الذين ليس لهم أموال تشغلهم، ولا تجارات يحاسبون عليها فيتأخرون، ولكن أهل الأموال يتأخرون في الحساب؛ ولذلك جاء في الحديث: (وأهل الجد محبوسون) يعني: أهل الحقوق محبوسون- يعني: للحساب- فأما أن يكون البله الذين هم ضعفاء العقول أكثر أهل الجنة فليس بصحيح، ثم لما فشا هذا الأمر عند كثير من الجهلة تشبثوا وتعلقوا بهؤلاء ضعفاء العقول، وصاروا يرفعون من شأنهم، ويعتقدون أن قولهم تنزيل من الله، وأن أفعالهم وحي من السماء، وأنهم معصومون، وأن أقوالهم متبعة، وأنهم صفوة الله من خلقه، فصاروا يتبعونهم، ويطيعون إشاراتهم وحكاياتهم، ولو كانت مخالفة للشرع، ولو كانت مخالفة للعقول السليمة! وهذا بلا شك من الانحراف العقدي، ومن المخالفة للكتاب وللسنة؛ وذلك لأن الله تعالى أمرنا بأن نتبع النبي صلى الله عليه وسلم، ونقتدي بسنته وسيرته، ونقتفي كتاب ربنا وسيرة نبينا، ونتمسك بذلك، ونلقي ما عدا ذلك خلف الظهور مهما كان القائل، ومهما كان المخالف، فكل ما خالف شرع الله تعالى فلا يلتفت إليه، وقد مر بنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، وفي رواية: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) . فطرق المتصوفة، وكذلك الملاحدة، والاتحاديون، وكذلك الطرقية ونحوهم من الصوفية الذين من جملة بدعهم تصفيقهم ورقصهم ونشيدهم ولهوهم ولعبهم وغير ذلك من البدع التي اتخذوها ديناً وما أنزل الله بها من سلطان. كذلك أيضاً من المعلوم أنهم قد يلابسهم الشيطان، وقد يجري على أيديهم شعوذةً وأشياء تكون غريبة يموهون بها على العوام، ويوهمون من رآهم بأنهم على حق، وأنهم يستطيعون أن يفعلوا أشياء تخالف عادات الناس، فلا جرم أنه لا يجوز أن يغتر بهم، وقد مر بنا الأثر المنقول عن الليث رحمه الله أنه كان يقول: لو رأيت صاحب هوىً يمشي على الماء فلا تغتر به حتى تعرض أمره على الكتاب والسنة. فـ الشافعي رحمه الله يقول: قصر الليث! بل لو رأيت صاحب هوىً يطير في الهواء فلا تغتر به حتى تعرض أمره على الكتاب والسنة. فهؤلاء المشعوذون ونحوهم لو طاروا في الهواء، ولو مشوا على الماء، ولو أخرجوا الذهب من الخشب، ولو قلبوا الحجر ذهباً فنقول: لا نغتر بهم -بل نعتقد أن ذلك شعوذة وعمل شيطاني- حتى نعرض أمرهم على كتاب ربنا وسنة نبينا، فهما الميزان الذي يرجع إليه، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] ، فالرد إلى الله: الرد إلى كتابه، وإلى الرسول: إلى سنته بعد موته، فما وافقهما فهو الصواب، وإلا فهو مردود على من جاء به، وأما هؤلاء الذين يسير خلفهم هؤلاء الضعفاء، ويعتقدون أنهم قد ارتقت قلوبهم، وقد تقربت إلى ربها، وقد سقطت عنهم التكاليف، وقد وصلوا إلى حظيرة القرب، وقد أطلعهم الله على اللوح المحفوظ، وقد صار لهم تمكن كما يزعمون أن يأخذوا من المعدن الذي تأخذ منه الملائكة ما توحيه إلى الرسل ونحو ذلك من الخرافات، فمثل هذه لا يلتفت إليها؛ بل مرجعنا هو شرع الله ودينه، وقد ذكرنا أن هذه الأمور فاشية منذُ أزمنة، وأن لهم حكايات ينقلونها، ومع ذلك يستشهدون بها. ولا شك أن هناك من يسمون بالمجانين وليسوا مجانين، ولكن لما رآهم عوام الناس قد زهدوا في الدنيا واشتغلوا بالأعمال الصالحة سموهم مجانين! ولكنهم في الحقيقة حكماء، وأما بعض المتأخرين الذين نقلت عنهم أقوال شنيعة فإنهم ولو كانوا عقلاء فهم أقل حالة من المجانين، وهم من البله والسفهاء وضعفاء العقول، فالمرجع في ذلك إلى ما يقوله علماء الشريعة، وعلماء الملة الذين هم أعرف بالله وبما جاء عن الله تعالى. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 2 أحوال الطائفة الملامية والرد عليهم قال الشارح رحمه الله تعالى: [والطائفة الملامية، وهم الذين يفعلون ما يلامون عليه، ويقولون: نحن متبعون في الباطن، ويقصدون إخفاء المرائين! ردوا باطلهم بباطل آخر! والصراط المستقيم بين ذلك. وكذلك الذين يصعقون عند سماع الأنغام الحسنة، مبتدعون ضالون! وليس للإنسان أن يستدعي ما يكون سبب زوال عقله! ولم يكن في الصحابة والتابعين من يفعل ذلك، ولو عند سماع القرآن، بل كانوا كما وصفهم الله تعالى: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] ، وكما قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23] ، وأما الذين ذكرهم العلماء بخير من عقلاء المجانين فأولئك كان فيهم خير، ثم زالت عقولهم. ومن علامة هؤلاء: أنه إذا حصل في جنونهم نوع من الصحو تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان، ويهذون بذلك في حال زوال عقلهم، بخلاف غيرهم ممن تكلم إذا حصل لهم نوع إفاقة بالكفر والشرك، ويهذون بذلك في حال زوال عقلهم، ومن كان قبل جنونه كافراً أو فاسقاً لم يكن حدوث جنونه مزيلاً لما ثبت من كفره أو فسقه، وكذلك من جن من المؤمنين المتقين، يكون محشوراً مع المؤمنين المتقين. وزوال العقل بجنون أو غيره، سواء سمي صاحبه مولهاً أو متولهاً، لا يوجب مزيد حال، بل حال صاحبه من الإيمان والتقوى يبقى على ما كان عليه من خير وشر، لا أنه يزيده أو ينقصه، ولكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير، كما أنه يمنع عقوبته على الشر، ولا يمحو عنه ما كان عليه قبله. وما يحصل لبعضهم عند سماع الأنغام المطربة من الهذيان والتكلم ببعض اللغات المخالفة للسان المعروف منه فذلك شيطان يتكلم على لسانه، كما يتكلم على لسان المصروع، وذلك كله من الأحوال الشيطانية! وكيف يكون زوال العقل سبباً أو شرطاً أو تقرباً إلى ولاية الله -كما يظنه كثير من أهل الضلال-؟! حتى قال قائلهم: هم معشر حلوا النظام وخرقوا الـ سياج فلا فرض لديهم ولا نفل مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أبوابه يسجد العقل وهذا كلام ضال، بل كافر، يظن أن للجنون سراً يسجد العقل على بابه؛ لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة، أو تصرف عجيب خارق للعادة، ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين، كما يكون للسحرة والكهان، فيظن هذا الضال أن كل من كاشفه أو خرق عادة كان ولياً لله!! ومن اعتقد هذا فهو كافر، فقد قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221-222] ، فكل من تنزل عليه الشياطين لا بد أن يكون عنده كذب وفجور] . الجزء: 97 ¦ الصفحة: 3 نعمة العقل لا شك أن العقول نعمة من الله على الإنسان، وأنه سبحانه منّ على هذا النوع الإنساني بأن ميزه بهذا الفهم، وهذا الإدراك، وهذا العقل الذي كلّفه لأجله، فالله تعالى ما كلف البهائم والدواب والوحوش والحشرات وبهيمة الأنعام؛ لأنها ليس لها عقول. فالنوع الإنساني ميزه الله بهذا العقل؛ بحيث إنه يفهم الخطاب ويرد الجواب، ويعرف ما يقال له، ويتفكر فيمن خلقه، وفيما بين يديه وما خلفه، وجعل الله هذا العقل ينمو شيئاً فشيئاً، وجعله أكبر مِنّة، وجعل الذين يتفكرون ويتدبرون هم أهل العقول، وكثيراً ما يقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:4] يعني: لا ينتفع بها إلا العقلاء، ويقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3] أي: يتفكرون بعقولهم، وكثيراً ما يأمر الله بالتفكر في المخلوقات كقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف:109] ، وقوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68] ، وقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} [ق:6] يعني: نظر عبرة، وقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] ، والتفكر لا يكون إلا بالعقول، فإذا عرف ذلك فإن العقل هو ميزة الإنسان، وإذا فقد العقل فقد خصيصته، وفقد ميزته وفضيلته، والتحق بالبهائم؛ بل قد يكون أشر حالة من البهائم؛ فإن البهائم معها عقول معيشية، بمعنى: أنها تتبع مصالحها، وتطلب أسباب نجاتها، وتعرف ما يلائمها وما يناسبها من المآكل ومن المشارب ونحوها. وأما من سلب عقله، فإنه لا يميز بين التمر والجمر، ولا يميز بين التراب والماء، ولا يميز بين الطعام الذي فيه سم والذي فيه دسم! وذلك لأنه فقد ميزته التي تميز بها، فأصبح بذلك أقل حالة من البهائم، وإذا كان كذلك فإنا نقول: إن الذين فقدوا عقولهم في الدنيا يعني: عاقبهم الله بأن أذهب عقولهم، أو ولدوا وهم مجانين، أو حصل لهم مرض ذهبت فيه عقولهم، ما هي حالتهم؟ هل يكونون أفضل من العقلاء عند الله؟ الجواب ليسوا أفضل، وإنما أقل حالاتهم: أنهم معذورون يرفع عنهم التكليف، فلا يعاقبون، ولا يُقتل أحدهم إذا قتل؛ لأنه لا عمد له؛ وكذلك لا يُجلد لو زنى، ولا يُقطع لو سرق؛ وذلك لفقد العقل؛ لأن العقل يعقل صاحبه، يعني: يقيده عن أن يتقدم إلى ما فيه مضرة، وهؤلاء ليس عندهم ما يعقلهم ولا ما يقيدهم. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 4 كتابة الحسنات للمجانين هل تكتب للمجانين حسنات؟ الجواب لا تكتب لهم حسنات، ولا تكتب عليهم سيئات، ولكن تسقط عنهم التكاليف، وثوابهم في الآخرة على ما يشاء ربنا، فيمكن أن يلحقوا بأهل الفترات الذين لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، أو الذين لم يدركوا رسلاً قبلهم، ولم يأتهم رسل في زمان الفترة، فإنهم يقولون: يا رب! ما جاءنا بشير ولا نذير، وما بلغتنا دعوة الرسل، فكيف تعذبنا؟! فيقول الله تعالى: أرأيتم إذا أمرتكم أتطيعوني؟ فيقولون: وما لنا لا نطيعك؟ فتمثل لهم نار تشتعل، فيقول: ادخلوا هذه النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، وصار من أهل الجنة، ومن امتنع أن يدخلها قال الله له: هذا وأنا الذي أمرتك، فعصيت أمري، فكيف لو جاءتك رسلي؟! فعلم الله في هؤلاء أنهم ممن حقت عليهم كلمة العذاب، فالمجانين الذين ولدوا مجانين، أو أصابهم الجنون بعد الولادة وقبل التكليف، وبقوا على ذلك، فهؤلاء يلحقون بأهل الفترات، ويمتحنون في الآخرة. أما أن يقال: إنهم مقربون، أو إن لهم مكانة عند الله، أو إنهم من أهل الزلفى، أو إنهم ممن وصلوا إلى حظيرة القدس! فإن هذا كذب؛ بل هم أقل حالة بكثير من العقلاء، ولا شك أنهم عادةً إذا أصاب أحدهم الجنون في أثناء حياته، فإن كان قبل إصابة الجنون من أهل الفسوق، ومن أهل المعاصي، ومن أهل الذنوب، ومن أهل الجرائم الذين يسكرون، ويقتلون، ويسرقون، ويهجرون، فإنه إذا جُنّ يصير هذيانه فيما كان يفعله من قبل، فتراه يتكلم بأفعاله الشنيعة من فعل الفواحش والمنكرات ونحوها، وإذا ارتاح في وقت من الأوقات ورجع إليه عقله في حين من الأحيان فإنه يعود إلى غيه، كما قال الشاعر: والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه إذا ارعوى عاد إلى قوله كدبٍّ عاد إلى نكسه أما إذا كان قبل الجنون من أهل الإيمان والأعمال الصالحة، وأهل التقوى؛ فإنه -والحال هذه- إذا أصيب بالجنون ثم بقي على جنونه أصبح معذوراً، ولا تزيد حسناته في حالة جنونه؛ بل يرفع عنه التكليف، وعادة أنه يهذو بما كان يعمله، فيتكلم في الحسنات، ويتكلم في القربات، وما أشبه ذلك، وهذا في المجنون الذي فقد العقل فقداً كلياً، وإذا عرفنا أن هذا الجنون نقص حقيقيٌّ فإننا نقول: لا يجوز للإنسان أن يتعاطى الأسباب التي تذهب عقله، فنقول: لماذا حُرم شرب المسكرات؟ الجواب: لأن المسكر يزيل هذا العقل، ولو إزالة مؤقتة. فالشيء الذي يزيل عقل الإنسان ويلحقه بالبهائم ينبغي مباعدته ومحاربته، فهؤلاء الذين يتعاطون أشياء تزيل عقولهم عمداً سواءً كان ذلك الشيء من المحرمات كالإسكار وما أشبهه، أو من غيرها نقول: إنهم هم السفهاء، ولا يرضى عاقل فعل السفهاء، ولا يرضى أن يتعاطى شيئاً يذهب عليه عقله. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 5 الرد على أصحاب الفناء بعض المتصوفة كانوا يجتمعون في أماكنهم ثم يغلب عليهم شيء يسمونه الفناء؛ وذلك إما بسماع يسمعونه من وعاظهم ونحوه، وإما برقص يرقصونه إلى أن يصلوا إلى الفناء، وإما بتفكير يفكرونه في أشياء إلى أن يغلب عليهم هذا الوصف الذي يسمونه الفناء؛ بحيث لا يشعرون بمن حولهم!! فهذا الفناء هل حصل للصحابة؟! الجواب لم يحصل، ولم يحصل للتابعين لهم بإحسان، ولم يحصل لأئمة الدين، وإنما وجد في هؤلاء المتصوفة الغلاة الذين يزعمون أن سببه هو هذا التواجد، ويقولون: إن أحدهم يتصل قلبه بربه، وأنه يفنى عن نفسه، ولا يشعر بحالته، ويقولون: يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، يفنى بموجوده عن وجوده، موجوده يعني: نفسه، أي: أنه يفنى بنفسه في ربه، ويفنى من لم يكن هو الإنسان، ويبقى من لم يزل، ويتصل روحه بالملأ الأعلى، هذا معنى الفناء، وهو بدعة من بدع المتصوفة، ومع ذلك فإنهم يعدونه رقياً، ويتمدحون به، ويزعمون أنه درجة رفيعة، وأنه درجة متمكنة لا يصل إليها إلا الخواص! كذلك أيضاً من أحوال المتصوفة، أن أحدهم إذا تليت عليه آيات أو مواعظ أو كلمات أو نحوها يصعق، ويزعم أن ذلك مما لا يطيق الصبر عليه، وهذا الصعق لم يُؤثر عن الصحابة، ولا عن أئمة الدين، بل كانوا كما ذكر الله تعالى عنهم أنهم يزيدهم القرآن خشوعاً، ويخضعون له ويسجدون، قال عز وجل: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58] ، وقال: {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء:107] ، وقال: {تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] أي: تخشع قلوبهم، وتزيدهم الآيات إيماناً، هذه هي أوصاف أولياء الله، وهذا هو النص الحقيقي للمؤمنين، فأما أن يصل إلى أنه يصعق أحدهم أو يغمى عليه، فهذا أقل أحواله أن يكون معذوراً، وأن يكون الذي غلبه هو شدة الخوف، أو على ما يقول الصوفية: شدة التواجد، فلا شك أن هذا ليس أشرف حالاً من حال الصحابة والأئمة المهتدى والمقتدى بهم. وأما ما ذكر عن أحوال هؤلاء الذين ذكرهم هذا الشاعر، وأن العقول تسجد على أبوابهم إلى آخره، فإن ذلك بلا شك كفرٌ وضلال، فنقول: لا تسجدوا إلا لله، وهذا التواجد الذي يحصل لهم كله خطأ لا أصل له. فالمسلم يتقيد بأوامر الشرع، ويبتعد عن الأشياء التي لا أصل لها، وأما من يسمون بالملامية الذين ذكرهم، وأنهم الذين يفعلون الأشياء التي يلامون عليها، ويتعمدون ذلك؛ فهؤلاء من المنحرفين؛ واللوم في الأصل هو: أن يفعل الإنسان شيئاً لا يحسن بحيث يلام عليه، وقد ذم الله تعالى ذلك، ففي قوله تعالى في قصة فرعون: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:38-40] أي: آثم بما يلام عليه، يعني: مستحق للوم الذي سبب أنه عذب به. ثم هؤلاء يقولون: إنهم يفعلون هذه الأشياء، حتى إنهم يتعمدون أن يلاموا عليها، وليس في ذلك أصل من دين الله، فلا يغتر بمثل هذه الطرق التي لا أصل لها في شريعة الله. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 6 كل تعبد خالف الشرع مردود على صاحبه قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأما الذين يتعبدون بالرياضات والخلوات، ويتركون الجمع والجماعات، فهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، قد طبع الله على قلوبهم، كما قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً من غير عذر طبع الله على قلبه) . وكل من عدل عن اتباع سنة الرسول، إن كان عالماً بها فهو مغضوب عليه، وإلا فهو ضال؛ ولهذا شرع الله لنا أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وأما من يتعلق بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني، الذي يدعيه بعض من عدم التوفيق: فهو ملحد زنديق، فإن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولم يكن الخضر مأموراً بمتابعته؛ ولهذا قال له: أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه، وإذا نزل عيسى عليه السلام إلى الأرض إنما يحكم بشريعة محمد، فمن ادعى أنه مع محمد صلى الله عليه وسلم كـ الخضر مع موسى، أو جوّز ذلك لأحد من الأمة فليجدد إسلامه، وليشهد شهادة الحق؛ فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله، وإنما هو من أولياء الشيطان، وهذا الموضع مفرق بين زنادقة القوم وأهل الاستقامة، فحرك ترَ، وكذا من يقول بأن الكعبة تطوف برجال منهم حيث كانوا!! فهلا خرجت الكعبة إلى الحديبية فطافت برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أحصر عنها، وهو يود منها نظرة؟! وهؤلاء لهم شبه بالذين وصفهم الله تعالى حيث يقول: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر:52] إلى آخر السورة] . هذه صفة لا شك أنها بشعة وشنيعة، وهؤلاء هم من المتصوفة، وكان مجموعة منهم يعتزلون إما في زاوية، وإما في مكان نازح، ثم يعكف في نظره بقلبه على ربه، ويجمع جمعيته، ويجيل فكره في الملأ الأعلى في نظره، ويبقى لا يخرج إلى المساجد، ولا يصلي جمعة ولا جماعة، ويزعم أنه إذا خرج تفرق عليه قلبه! ورأى ما يشتت عليه فكره! وأنه إذا بقي اجتمع عليه ذكره، وأعمل هذا العقل إلى أن يتجاوز السبع الطباق! إلى أن ينظر في الملأ الأعلى، وفي ملكوت السماوات والأرض، كما يقول! حتى يحصل له ما يُعبر عنه بالتواجد، ويحصل ما يحصل عليه مما يسمى بالاستلامات والحركات التي تخالف الحركات الطبيعية، وهؤلاء فرق كثيرة قديمة الوجود، وموجودة الآن في البلاد التي يكثر فيها التصوف. ولا شك أنهم إذا تركوا الجمع والجماعات أنهم تركوا الشريعة والسنة المحمدية، وأنهم ابتدعوا ديناً من عند أنفسهم فضّلوه على شرع الله، وعلى دين الله، وليس لهم سنة وطريقة يستدلون بها، ولا دليل يحذون حذوه إلا مجرد التجربة في زعمهم أن هذا جُرب، وأنه لما جمع جمعيته رأى ما لم يره غيره. فالحاصل: أنه تارة يكون الواحد منهم منفرداً في زاوية في بيته أو في صومعة أو في مكان خاص، وقد يخرج خارج البلد ثم يجيع ويظمئ نفسه ويتعبها، ويعمل فكره، ويبقى مفكراً يومه وليلته ويومه الثاني وليلته الثانية إلى أن يحصل له مطلبه، وهو الفناء الذي يعبر عنه بالتواجد وما أشبه ذلك. ثم إنه يفضل نفسه على رسل الله؛ إذ لم يكن الرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم يفعلون هذه الأشياء، فعرف بذلك ضلال هؤلاء، وبطلان طريقتهم، وأنهم لا يمكن أن يصلوا إلى ما وصل إليه رسل الله الذين فضلهم، والذين ميزهم بما ميزهم به من العلم، وهكذا ما شرعه في شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم التي هي خاتمة الشرائع. فهذه من البدع المنكرة عليهم، وبلا شك أن البدع لا تتمكن إلا إذا رأى أهلها فيها شيئاً يجتذبون به الناس، وقد انخدع بهم خلق كثير عندما رأوا أنهم يحصل منهم هذه الكلمات، وهذه التوهمات، وهذه الأمور التي قد يظنون أن فيها شيئاً من الأمور الغيبية، وأنهم يطلعون على أمور سماوية، وأنهم وأنهم، فرآهم جمهرة وجمع كثير من الناس فتزينوا بزيهم، وساروا على نهجهم -والعياذ بالله- ووقعوا في هذا الأمر الذي هو ترك الشريعة واتباع هذه الطرق المبتدعة، وتعطيل ما هو عبادة سماوية مأمور بها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه) والعياذ بالله! فيجب أن نحذر من كل هذه الطرق وغيرها التي تخالف الشرع، ونتجنب أهلها، ونعرف أنهم يسيرون عليها لأجل أن يضلوا ويضللوا غيرهم، والعياذ بالله! الجزء: 97 ¦ الصفحة: 7 الرد على الصوفية المعظمين للمجانين تقدم ما ذكره الشارح رحمه الله فيما يتعلق بالذين يعظمون البله والمجاذيب والمجانين ونحوهم، ويعتقدون أنهم من المقربين، ويعتقدون أنهم يصلون إلى الله تعالى من طرق غير طرق الأنبياء والرسل، وأنهم يمكن أن يستغنوا عن الشرائع السماوية، وأنهم لذلك يستحقون أن يُقتدى بهم في أفعالهم، ويُسار على مناهجهم، وهذه الأقوال -وللأسف- انتشرت في المتصوفة، ويكثر تواجدهم في الدول الإفريقية وفي غيرها، ويقول وجودهم إذا قويت العقائد السلفية، وإذا تمكنت معرفة التوحيد عند أهله، ولكن لا يزال الكثير على هذه المناهج الفلسفية والطرق الصوفية، ولا يزالون ينقلون تلك النقول ويموهون على العوام أن هؤلاء ولو كانوا ناقصي العقول فإن قلوبهم عند ربهم، وأنهم سقطت عنهم التكاليف ولو كانوا من البشر، وأن جميع كلامهم حكم وآيات وعبارة! ولكن ذلك كله لا يروج إلا على الجهلة الذين هم أتباع كل ناعق، أما أهل السنة والجماعة وأئمة الدين وفقهاء الإسلام فإنهم يعرفون أن الطرق كلها مسدودة إلا الطريق الشرعية، وهي طريق الرسل الذين أرسلهم الله ليوضحوا للناس الشرائع، وليدلوهم على ما يقربهم إلى ربهم، فمن سلك تلك الطرق التي هي طرق أولئك المشعوذين وأولئك المموهين ونحوهم فإنها تؤدي به إلى الهلاك، ومن سلك الطريق الأقوم الذي هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يؤدي به إلى النجاة والفلاح. ولقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خط خطاً مستقيماً، وخط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، وقال للخط المستقيم المستمر: هذا صراط الله، وقال للطرق المنحرفة عن يمينه وشماله: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) ، فمن سار على ذلك الخط المستقيم وصل إلى النجاة، ومن انحرف وأخذ بنيات الطريق ضل وهلك وتردى. وضرب بعضهم لذلك مثلاً بجريد النخل: فإنه يُشاهد أنه يتدلى بعضه حتى تصل أطرافه إلى الأرض، فلو أن حشرة من الحشرات ارتقت على الجريدة وسارت على وسطها ولم تنحرف فإنها تصل إلى أعلى النخلة، وتأكل من ثمرها، أما إذا انحرفت وركبت إحدى الأغصان المتدلية فإنها تسير عليها قليلاً، ثم تسقط بنهايتها، فهكذا من سار على هذا الخط المستقيم أوصله إلى كرامة الله، وأوصله إلى الدرجات، وأوصله إلى النجاة، أما من انحرف وركب هذه الطرق فلا يأمن أن يهلك ويتردى، وقد تمادى هؤلاء في مدح أولئك المجانين والمجاذيب الذين يسمون أحدهم مجذوباً، ويقولون: قلبه عند ربه! وتمادوا في تعظيمهم حتى ادعوا أنهم: إذا ماتوا رفعوا إلى السماء! هكذا يعتقدون فيهم، ويموهون أن هذا الذي هو سقيم العقل عند الناس ما ذُهب بعقله إلا أنه تعلق بربه، وأن ربه قد أسقط عنه التكاليف، وأباح له كل شيء، أباح له أن يفجر! وأن يزني! وأن يقتل! وأن يفعل الجرائم والبشائع دون أن يكون عليه إثم أو يكتب عليه سوء! ونحن نقول: إذا ثبت أنه مجنون بمعنى: أنه مسلوب العقل والفطرة فهذا أقل أحواله ألا تُكتب عليه لا حسنات ولا سيئات، فأما أن يتفوق على أهل الحسنات، وعلى الصالحين من عباد الله فحاشا وكلا، إذ لا يمكن أن يكون المجنون أرقى درجة من العاقل الذي عمَّر وقته بالصلوات، وعمَّر وقته بالعبادات، وأكثر من الحسنات! ثم إن المجنون قد يكون ملحقاً بأهل الفترات الذين لم تأتهم الدعوة، أو في أماكن نازحة لم تبلغهم الرسالة، ولم يسمعوا عن الإسلام، ولا عن دين الإسلام، فهؤلاء لا نحكم بضلالهم ولا بكفرهم، ولا نخلدهم في النار؛ لأنهم قد يعتذرون ويقولون: يا ربنا! بأي شيء نتعبد؟! لو أعطيتنا عقولاً لتعبدنا كما تعبد هؤلاء، أو لو بلغتنا الشرائع لتعبدنا كما تعبد أهلها؛ ولكن الله تعالى يمتحنهم، ففي الحديث أنه يقول لهم: (أرأيتم إذا أمرتكم بأمر أتطيعوني؟ فيقولون: وما لنا لا نطيعك وأنت ربنا؟! فتُمثل لهم نارٌ تشتعل، فيُقال: ادخلوها، فمن علم الله أنه من أهل السعادة والخير دخلها، وكانت عليه برداً وسلاماً، ومن علم الله أنه شقي ليس من أهل الجنة فإنه يتقاعس ولا يدخلها، فيقول الله: قد أمرتك فعصيتني، فكيف لو أمرتك رسلي! أنت من أهل النار) فيتميز بذلك أهل الجنة من أهل النار. فالبُله والمجذوبون والمجانين وناقصو العقول ونحوهم الذين بلغوا واستمروا على ذلك إلى الممات ملحقون بأهل الفترات، وملحقون بأهل الأماكن النائية الذين لم تبلغهم الدعوة، هذه حالتهم. وبذلك يُعرف أن الذين فضلوهم على العقلاء، وفضلوهم على الأنبياء، وجعلوهم مستغنين عن الشرائع؛ قد أتوا قولاً إدَّاً. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 8 شرح العقيدة الطحاوية [98] أهل السنة يرون الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة كثيرة جداً. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 1 منهج أهل السنة في لزوم الجماعة وترك الفرقة قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قوله: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً والفرقة زيغاً وعذاباً) : قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعَاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] . وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159] وقال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118-119] ، فجعل أهل الرحمة مستثنَين من الاختلاف. وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176] . وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابَين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني: الأهواء- كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة. وفي رواية: قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) ، فبين أن عامة المختلفين هالكون إلا أهل السنة والجماعة، وأن الاختلاف واقع لا محالة. وروى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاة الشاردة القاصية، فإياكم والشعاب! وعليكم بالجماعة، والعامة، والمسجد) . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابَاً مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] قال: (أعوذ بوجهك! {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] قال: أعوذ بوجهك! {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعَاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] قال: هذه أهون) ، فدل على أنه لا بد أن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض، مع براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الحال، وهم فيها في جاهلية. ولهذا قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية. وقد روى مالك بإسناده الثابت عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: (ترك الناس العمل بهذه الآية) يعني: قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] ، فإن المسلمين لما اقتتلوا كان الواجب الإصلاح بينهم كما أمر الله تعالى، فلما لم يُعمل بذلك صارت فتنة وجاهلية. وهكذا مسائل النزاع التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع -إذا لم ترد إلى الله والرسول- لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم الله أقر بعضهم بعضاً، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد، فيقر بعضهم بعضاً، ولا يعتدي ولا يُعتدى عليه، وإن لم يُرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله، والذين امتَحنوا الناس بخلق القرآن كانوا من هؤلاء، ابتدعوا بدعة، وكفَّروا مَن خالفهم فيها، واستحلوا منعَ حقه وعقوبتَه] . هذا الكلام يتعلق بوقوع الاختلاف في هذه الأمة كما وقع في الأمم السابقة، ويجب على الأمة -أمة الإجابة والدعوة الاجتماع والائتلاف، يقول: إن الواجب على المسلمين جميعاً أن يأتلفوا ولا يختلفوا، وأن يكونوا إخوة كما سماهم الله تعالى. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 2 الجماعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين كان أهل المدينة قبل الإسلام مختلفين، ويقع بينهم قتال كثير، ويستمر القتال حتى يُقتل فيه أعداد من هؤلاء وهؤلاء. ولما جاء الإسلام زال ذلك الاختلاف، وزالت تلك الفرقة، واجتمعوا على الإسلام، فذكَّرهم الله تعالى بذلك في قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعَاً} [آل عمران:103] أي: تمسكوا بحبل الله الذي هو دين الإسلام. {وَلا تَفَرَّقُوا} أي: لا تكونوا فرقاً وأحزاباً. {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانَاً} [آل عمران:103] : فجعلهم إخوة وهو حق، فإنهم بعد أن دخلوا في الإسلام أصبحوا مثل الإخوة متحابين، وهكذا أصبحوا يحبون كل مؤمن، لما جاءهم المهاجرون صاروا يحبونهم كما يحبون إخوانهم أولاد آبائهم وأمهاتهم، كما ذكر الله ذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9] يحبون المهاجرين، بل يقدمون محبتهم على محبة أنفسهم، كما في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] . وما ذاك إلا أنهم عرفوا أن الله يحبهم فأحبوهم، ما دام أن الله يحب المؤمنين فإننا نحبهم، وما دام أنهم يحبون الله، ويحبون رسول الله فإننا نحب من يحب الله، نحب من يحب الرسول عليه الصلاة والسلام، وإذا ثبتت هذه المحبة فلا بد أن لها آثارها، وهي: الاجتماع، أن نكون مجتمعين غير متفرقين، أهدافنا موحدة مقاصدنا محددة كل منا على الإسلام كل منا يعبد الله ويعرف الله، ويعرف دين الله ويدين به، وكل منا على عقيدة واحدة، وعلى شريعة واحدة وهي: شريعة الإسلام. هكذا كان الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الشريعة، وكذلك في عهد أبي بكر، وفي عهد عمر، وفي عهد عثمان، كانوا على هذه الشريعة، لم يكن بينهم أي اختلاف يسبب التقاطع والتباغض والعداوات. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 3 من مقاصد الشريعة المحبة والاجتماع من تأمل شرائع الأنبياء وشريعتنا خاصة، وجد أن كل المعاملات والأحكام تهدف إلى هدف واحد وهو تحصيل الأخوة بين المسلمين، الذي يكون من آثاره جمع الكلمة، إخوة في ذات الله تعالى، فعلى المسلمين أن يتركوا التقاطع والتباغض جانباً؛ ليكونوا متحابين في ذات الله. ومن تأمل المنهيات التي تتعلق بالمعاملات وجد أن الحكمة من تحريمها ومن النهي عنها أنها تسبب البغضاء، وتوقع العداوة والوحشة بين المسلمين. لأجل ذلك نهى الله عن أشياء تسبب هذا، فمثلاً قال الله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11] ، لماذا نُهينا عن السخرية؟ لأنها تسبب الفُرقة. {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرَاً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] . اللمز هو العيب، قال الله: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] ، وقال: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:11] وهو الذي يتتبع العثرات، ويلصق بالإنسان ما ليس فيه، لماذا نهينا عن الهمز واللمز والعيب والثلب وتتبع العثرات وإظهار السوءات؟! لأنه يسبب الفُرقة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تَقاطَعوا، ولا تَدابَروا، ولا تَهاجَروا، ولا تَحاسَدوا، ولا تَنافَسوا) لماذا نهانا عن التقاطع والتهاجر؟ لا شك أن هذه الأشياء التي نهانا عنها تسبب الفُرقة، فإذا تركناها أصبحنا مجتمعين، ولا شك أن الإسلام يهدف إلى الاجتماع، ويحث عليه، وينهى عن الاختلاف. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 4 الآيات الدالة على لزوم الجماعة الآيات التي أوردها الشارح رحمه الله دالةٌ دلالةً واضحة على النهي عن الفُرقة: قال الله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] ، وقال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118-119] . فدل على أن من رحمهم الله فإنهم غير مختلفين، وأن أولئك الذين اختلفوا قد فاتتهم الرحمة، ولا شك أن فوات الرحمة أمر عظيم وكبير، حيث حصل لهؤلاء رحمة، ولهؤلاء ضد الرحمة، أو نُزعت منهم الرحمة. {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً} [الأنعام:159] يعني: أحزاباً {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام:159] . وقال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] . إلى آخر الآيات التي سمعتم، ولا شك أنها نهي عن التحزبات، ونهي عن الاختلافات. {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] أي: لا تتبعوا السبل المنحرفة فتتفرق بكم عن سبيله، فسبيل الله هو سبيل النجاة. ومعلوم أن هذه الشريعة قد من الله تعالى ببقائها، وحفظها على الأمة، وأن حفظها عليهم نعمة عظيمة وكبيرة، حيث وفقهم لحفظها، ووفقهم لبقائها، وبين لهم تعاليمها، فكل شيء مما يتعلق بهذا محفوظ مبين. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 5 خطر التفرق والتنازع والتحزب لا مبرر للاختلاف لا موجب للتفرق لماذا نتحزب أحزاباً؟! ولماذا نتسمى بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان؟! القصد واحد، والجماعة واحدة، والتفرق -بلا شك- سبيل إلى التحزبات وإلى تفرق الكلمة، ولا شك أن المسلمين كلما تفرقوا وتباعدوا وتناءت كلماتهم ضعفت قوتهم، وإذا ضعفت قوتهم قوي أعداؤهم عليهم، فتسلطوا عليهم. ولو تتبعنا التواريخ والوقائع التي وقعت على الأمم السابقة، بل وعلى هذه الأمة؛ لوجدنا أنهم إنما يسلط عليهم الأعداء عندما تتفرق كلمتهم، أما إذا اجتمعوا فإنهم يصيرون إخوة، وهدفهم واحد، ووجهتهم نحو العدو واحدة، وهكذا. ذكروا في تاريخ آخر القرن الأول، أن المسلمين كانوا يقاتلون في حدود أفغانستان، فتركوا القتال في وقت من الأوقات، فظهرت بينهم أحزاب وخلافات بسبب المفاخرات، هذه القبيلة تفتخر، وهذه القبيلة تذكر نسبها، وهذه تذكر حسبها، فحصل بينهم شقاق وخلافات ومنازعات، مع أن كلهم مسلمون. فتولى عليهم قتيبة بن مسلم الباهلي، وهو أحد القواد المصلحين، فخطبهم وقال: لماذا تتفرقون؟! ولماذا تتحزبون؟! كلكم من آدم! وكلكم مسلمون! وكلكم على شريعة واحدة! تعبدون رباً واحداً، وتدينون ديناً واحداً، فاجتمعوا ووجهوا قوتكم إلى عدوكم، فإن عدوكم بحاجة إلى أن تذلوه، وعدوكم يفرح بهذه التفرقات فيكم. فلما لَمَّهم وجمعهم قويت كلمتهم، فتوجهوا وصاروا يفتحون بلاد أفغانستان، وبلاد السند، وبلاد ما وراء النهر، وفتحوها بلداً بلداً إلى أن وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وحصل هذا بعد أن جمع الله كلمتهم. فعُرف بذلك أن الشياطين وأعوان الشياطين لهم أغراض في تفريق الكلمة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد كان يحث على الجماعة، وقد مثّل صلى الله عليه وسلم المنفردين بالشاة القاصية والبعيدة التي تبتعد وتنعزل عن الغنم، فيأتي الذئب على حين غفلة من الرعاة، فيأخذها ويختطفها، فهكذا الشيطان للإنسان، متى وجد هذا شاذاً في قول، وهذا منفرداً بعقيدة، وهؤلاء الفرقة القليلة على نحلة وعلى مذهب؛ تمكن منهم، وأدخل عليهم البدع، وأدخل عليهم الوساوس، فإذا انتبهوا لأنفسهم، ورجعوا إلى الطريق السوي، وتمسكوا بالصراط المستقيم، واجتمعت كلمتهم مع علمائهم ودعاتهم، ومع سائر إخوانهم؛ فإنهم يكونون يداً واحدةً، ولا يقوى عليهم الشيطان، كلما وسوس إليهم بوسوسة وألقى في قلوبهم أو في قلب أحدهم شكاً أو ريباً أو شبهةً احترقت بنور النبوة، احترقت بأنوار الشريعة، ولم يبق له سلطان: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:100] . الجزء: 98 ¦ الصفحة: 6 حديث افتراق الأمة حديث افتراق الأمة، فيه أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهو دليل على أن الله تعالى أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على أن الأمة الذين استجابوا لدعوته سوف يقع بينهم شيء من الخلافات، وهذه الخلافات لا بد أن يكون لها آثار، فآثارها وقوع قتال ووقوع تفسيق وتكفير وتضليل فيما بينهم، وقد وقع هذا الاختلاف حتى في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فوقعت الفتنة الأولى التي هي خلاف بين علي ومعه أهل العراق، لما جاء بعض الصحابة يطالبون باستئصال قتلة عثمان، فوقعت وقعة بشعة تسمى وقعة الجمل، قتل فيها خلق كثير من هؤلاء وهؤلاء، مع أن الجميع مسلمون؛ ولكن تدخل الشيطان فأوقع هذا الاختلاف. وأكثر الصحابة أجلاء لم يدخلوها بل اعتزلوها، وإنما دخلها من لا بد منه كـ علي ومن معه وعائشة ومن معها، وقتل فيها من الصحابة الزبير وطلحة، وقتل فيها من قتل من أتباع هؤلاء وهؤلاء. ثم وقعت فتنة أخرى في صفين بين أهل الشام وأهل العراق، أهل الشام يطالبون بدم عثمان، ويطلبون باستئصال قتلته، وأما أهل العراق فيطالبون بجمع الكلمة ويقولون: إننا سوف نستأصلهم بعدما تجتمع الكلمة، فوقعت هذه الفتنة التي حصل فيها قتل كثير يقدر بعشرات الألوف من هؤلاء وهؤلاء، وكانت فتنة عظيمة، وممن قتل فيها من الصحابة عمار بن ياسر رضي الله عنه، وأكثر القتلى من غير الصحابة. ثم انعزلت فرقة من أصحاب علي، وكفروا علياً ومعاوية، وسُموا بالخوارج؛ لأنهم خرجوا عن طاعة أمير المؤمنين، وعن موافقة المسلمين، وليس فيهم أحد من الصحابة، بل كلهم من غير الصحابة، فحصل أن الصحابة غزوهم وقاتلوهم، وحصل منهم ثورات وقتال استمر أكثر من سبعين سنة مع المسلمين، ولا شك أن ذلك من أسباب الفرقة، وأن الشيطان أوقع هذا الخلاف بينهم في هذه العقائد، حتى يضللهم ويوقعهم فيما أوقعهم فيه، مما له فيه هدف وقصد، ثم حدثت بعد ذلك فرق كثيرة، ومنها ما وصلت بدعتهم إلى الكفر، ومنها ما وصلت إلى الابتداع الذي هو دون الكفر. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 7 الحث على التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الصحابة أهل السنة يعتقدون أن جميع أهل الأهواء مبتدعون، ويقولون: عليكم جميعاً أن ترجعوا إلى الأصل، فلو رجعتم إلى الأصل والشريعة، وإلى طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم لوجدتم أنها طريق واحدة بلا تثنية، وذلك مذكور في حديث التفرق، فإنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرقة الناجية: (من هي؟ فقال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) . ومعلوم أن سنة الصحابة وطريقتهم مجتمعة، وأنهم -والحمد لله- لم يكن بينهم اختلاف تضاد في الدين، ومعلوم أن ما كانوا عليه محفوظ مدوَّن قد يسر الله من العلماء من نقل عنهم أقوالهم وأفعالهم التي يتعبدون بها ويدينون بها، فعلينا أن نحرص على الاقتداء بسنتهم، وأن نترك كل المحدثات التي جاءت من بعدهم، ونعلم أنها بدع وضلالات. النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على التمسك بسنته، في آخر حياته وعظ الصحابة رضي الله عنهم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقال الصحابة: (كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسكوا بها، وعَضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة) . فأمرهم أن يتمسكوا بالسنة بالأيدي، وكأنها شيء يُمسك بالأيدي، وإذا خافوا أن تتفلت من أيديهم عضوا عليها بالنواجذ التي هي أقصى الأسنان، وهذا أقصى شيء يمكن التمسك به، ألَّا يجد إلَّا أقصى أسنانه يُمسكه ويعض عليه به حتى لا يتفلت منه، وذلك لوجود من يحاول انتزاعه، فإن هذه السنة التي أنت متمسك بها هناك من يحاول أن ينتزعها منك، ويريد أن يبطلها، وذلك بما يلقي في قلبك من الشبهة والتشكيك والتوهمات، حتى يُضعف تمسكك، فإذا كنت متمسكاً تمسكاً قوياً فلن يستطيع أن يتغلب عليك، وأخبر بأن كل محدثة بدعة، وأن السنة طريقة واحدة. وكان مما حُفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكرر قوله: (إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) هكذا كان يخطب على المنبر على رءوس الأشهاد، يحث على هديه، وعلى التمسك بكتاب ربه، وينهى عن المحدثات في دين الله. وكذلك يخبر بأن دينه لا يجوز تغييره، ولا الزيادة فيه، ولا النقص فيه، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ، والكلام في هذه المسألة معروف وطويل. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 8 أنواع الخلاف قال الشارح رحمه الله: [فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول: - إما عادلون. - وإما ظالمون. فالعادل فيهم: الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره. والظالم: الذي يعتدي على غيره. وأكثرهم إنما يظلمون مع علمهم بأنهم يظلمون كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19] ، وإلَّا فلو سلكوا ما علموه من العدل أقر بعضهم بعضاً كالمقلدين لأئمة العلم، الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم الله ورسوله في تلك المسائل، فجعلوا أئمتهم نواباً عن الرسول، وقالوا: هذا غاية ما قدرنا عليه. فالعادل منهم لا يظلم الآخر، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل، مثل أن يدعي أن قول مقلده هو الصحيح بلا حجة يبديها، ويذم من خالفه مع أنه معذور. ثم إن أنواع الافتراق والاختلاف في الأصل قسمان: - اختلاف تنوع. - واختلاف تضاد. واختلاف التنوع على وجوه: - منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقاً مشروعاً، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم حتى زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (كلاكما محسن) . ومنه اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، ومحل سجود السهو، والتشهد، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، ونحو ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان بعض أنواعه أرجح أو أفضل. ثم تجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها ونحو ذلك! وهذا عين المحرم، وكذا تجد كثيراً منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع، والإعراض عن الآخر والنهي عنه؛ ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. - ومنه ما يكون كل من القولين هو في المعنى القول الآخر؛ لكن العبارتان مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود، وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات، ونحو ذلك، ثم الجهل أو الظلم يُحمل على حمد إحدى المقالتين، وذم الأخرى، والاعتداء على قائلها، ونحو ذلك. وأما اختلاف التضاد: فهو القولان المتنافيان إما في الأصول وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون: المصيب واحد، والخطب في هذا أشد؛ لأن القولين يتنافيان؛ لكن نجد كثيراً من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما، أو معه دليل يقتضي حقاً ما، فيرد الحق مع الباطل، حتى يبقى هذا مبطلاً في البعض، كما كان الأول مبطلاً في الأصل، وهذا يجري كثيراً لأهل السنة] . لا شك أن التفرق والاختلاف من حيث هو فيه ضرر على الأمة، وفيه سبب لتفرقة الكلمة، ومما يسببه أيضاً كثرة المنازعات والمجادلات بين الأمة وبين الأفراد والجماعات ونحو ذلك، ومما يسببه أيضاً كثرة التحزبات والانتصار من هؤلاء لقولهم، ومن هؤلاء لقولهم، ويوقع في التعصب والتشدد، ورد الأقوال المخالفة بنوع من التعسف والتكلف في رد الأدلة وما أشبه ذلك. وهذا بلا شك مذموم، ويعرفه المتخصصون الذين قرءوا في كتب الخلاف، وأما الذين لم يقرءوا فنحن ننصحهم بألَّا يقرءوا في مثل هذه الخلافات التي تحصل بين المختلفين، وفيها كثير من المماحكات والمنازعات والمُجادلات. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 9 اختلاف التنوع وكثرته في المسائل الفقهية ذكر الشارح أن الاختلاف نوعان: - اختلاف تنوع. - واختلاف تضاد. اختلاف التنوع هو من طبيعة البشر، ومن طبيعة المجتهدين، فلا عجب أن يقع خلاف في المسائل الفرعية بين التلميذ وشيخه، فيكون هذا له رأي وهذا له رأي، هذا يختار قولاً وهذا يختار قولاً؛ ولكن لا يصل إلى التضليل والمقاطعة. فمثلاً نقول: إن الإمام مالك بن أنس رحمه الله، إمام دار الهجرة، تلقى العلم عن أهل المدينة الذين هم أولاد الصحابة، وسمع ما سمعه بالمدينة، وأثبته في مؤلفه الموطأ، وتتلمذ عليه الشافعي فقرأ عليه، وأخذ من علمه، وروى أحاديثه، ومع ذلك خالفه في كثير من الأمور الاجتهادية؛ ولكنه لم يخطئه، بل قال: أنا مجتهد وهو مجتهد، ولكل مجتهد نصيب، فلما قيل له: هل نصلي خلف من يقلد مالكاً؟ غضب وقال: ألستُ أصلي خلف مالك؟! أي: مالك شيخي، وأنا أصلي خلفه، ولو خالفته في بعض الأشياء التي هي أمور اجتهادية، مثلاً: كان الإمام مالك لا يجهر بالبسملة لا في الفاتحة ولا في السورة، والشافعي يجهر بالبسملة في السورة وفي الفاتحة؛ ولكن لا يعيب على من أخفى البسملة، كما لا يعيب مالك وأحمد على من جهر بها وأعلن، فهذا الخلاف لم يؤدِّ إلى تهاجُر ولا تقاطُع. كذلك الإمام الشافعي يرى أنه يتورك في كل تشهد عقبه تسليم، وأحمد لا يتورك إلا في الصلاة التي فيها تشهدان في الأخير منهما، ومع ذلك لم يقع بينهما بسبب هذا الاختلاف تقاطُع. وقد وقع هذا الاختلاف زمن الصحابة، فمرة سمع عمر رضي الله عنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان، واستنكر عليه حروفاً وكلمات زادها أو نقصها أو غيَّرها، فعند ذلك رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنه يقرأ على خلاف ما أقرأتني! فأقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر على قراءته، وهشاماً على قراءته وقال: لا تختلفوا فإن القرآن أُنزل على سبعة أحرف) فأخبر بأن كلاً منهما مصيب، ونهاهم عن الاختلاف. كذلك أيضاً ورد الاختلاف في الاستفتاحات، فتارةً كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك) ، وتارةً يستفتح بقوله: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب إلخ) ، وكان يستفتح تارةً بقوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض إلخ) ، وتارةً يستفتح بقوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل إلخ) . واختار هذا قوم، واختار هذا قوم، ولم يخطئ أحد الآخر. كذلك أيضاً ورد الاختلاف في الأذان والإقامة، فالأذان بعضهم يجعل التشهدات فيه ثمانية، وبعضهم يجعلها أربعاً، وكلمات الإقامة بعضهم يجعلها سبع عشرة، وبعضهم يجعلها إحدى عشرة، وذلك من باب الاجتهاد أيضاً، وذلك لأن هذا رُوي، وهذا رُوي؛ مما يدل على التوسعة. كذلك مثلاً تكبيرات الجنازة، رُوي أنه كبر أربعاً، وأنه كبر خمساً، وأنه كبر ستاً، ولم يقل أحد: إن من كبر خسماً فقد أخطأ. كذلك أيضاً التسليم في صلاة الجنازة، روي أنه كان يسلم تسليمتين، وتارةً يسلم تسليمة واحدة، ولا يُخطَّأ من فعل هذا، ولا يُخطَّأ من فعل هذا؛ لأن هذا مروي، وهذا مروي أيضاً. كذلك عدد التكبيرات في صلاة العيد، منهم من قال: يكبر في الأولى سبعاً، ومنهم من قال: تسعاً، وليس أحدهما بمخطئ، بل هذا مروي وهذا مروي. وأنواع الاختلافات في مثل هذا يسمى اختلاف تنوع. وقد سئل الإمام أحمد عن صلاة الخوف، وقد رويت بست روايات مختلفة، فقال: من صلاها على صفة ثابتة من الصفات المروية فلا أعيب عليه؛ ولكن أختار رواية سهل بن أبي حثمة، وهي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، وقال: إنها أقرب إلى نص القرآن، أي: الآية التي في سورة النساء، فلم يخطئ غيره؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم صلاها هكذا وهكذا. كذلك صلاة الكسوف رُوي أنه ركع في الركعة ركوعاً واحداً، ورُوي أنه ركع في الركعة ركوعين، ورُوي أنه ركع في الركعة ثلاثة ركوعات، ورُوي أربعة ركوعات، ورُوي خمسة ركوعات، وهو أقصاها، وحملوه على أن ذلك وقع تكراراً؛ تارةً اقتصر على ركعة، وتارةً ركع ركوعين، وتارةً ثلاثة إلى خمسة، أي: أن ذلك وقع منه متكرراً، وذلك دليل على الجواز، وكأنه لاحظ طول الوقت، كأنه يقول: إذا كان الوقت يحتمل أن يتمادى الكسوف أطال وأكثر الركوعات إلى خمسة ركوعات في كل ركعة، أي: عشرة ركوعات في الركعتين، وإن كان الكسوف سهلاً فإنه يقتصر على ركوع أو ركوعين، وذلك أيضاً من باب الاجتهاد أو من باب التوسعة. وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في أشياء كثيرة؛ ولكن لم يصل بهم هذا الاختلاف إلى أن يضلل بعضُهم بعضاً، بل كل منهم يرى أنه على صواب، وأن صاحبه مجتهد ومعذور، ولم يكن أحد يخطِّئ صاحبه. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 10 اختلاف التضاد تفرق أهل الخير بقوتهم وبسيطرتهم من مفاسد التحزب، الواجب عليهم كلهم أن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسوله، هذا هو الحكم فليس لنا إلا مرجع واحد، ونحن أمة واحدة كما أمرنا الله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92] فإذا كانت الأمة واحدة فليكن منهجها واحداً، وليتركوا هذه التحزبات والاختلافات، قد حصل هذا التفرق الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن لنعرف ما هو الحق وما هو الصواب من تلك الفرق، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن (هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلَّا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وأخبر بأن الذين تمسكوا بسنته وبما كان عليه أصحابه هم أهل النجاة، وما سواهم فإنهم أهل الهلاك، ولقد وقع هذا التفرق في الأمة فتفرقت وصاروا أحزاباً وشيعاً، وسُموا بأسماء مبتدَعة ما أنزل الله بها من سلطان، فهناك فرقة الرافضة، وهناك فرقة الجهمية، وهناك فرقة الجبرية، وفرقة المرجئة، وفرقة كذا وفرقة كذا من الفرق القديمة. وهكذا أيضاً الفرق الجديدة: فرقة الشيعة، وفرقة الإباضية مثلاً، وفرقة البعثية، وفرقة الحداثية، وفرقة العلمانية، وأشباهها. هؤلاء كلهم أو جلهم يقولون: نحن أهل الحق والصواب في جانبنا، ونحن على حق، وأنتم الذين خالفتمونا ضالون مضلون، وأشباه ذلك. ولا شك أن هذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول: المرجع كتاب الله، هذا كتاب الله ينطق بيننا بالحق، فنجعله حكماً ونترك ما سواه، ولا نتعصب لأقوالنا، فنرد ما خالف قولنا بأنواع من التكلفات كما تفعله الجهمية والجبرية ونحوهم. ذلك لأن هؤلاء الذين خالفوا الحق قد أخبر الله تعالى بأنهم زائغون، يقول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] فهؤلاء يتمسكون بظواهر لا دلالة فيها، ويتتبعون آيات ويقولون: إنها في جانبنا، وهي عليهم لو تأملوا؛ ولكنهم يأخذون منها جانباً ويتركون البقية، ويتركون الآيات الصريحة الواضحة الدلالة، التي تخالف منهجهم ومعتقدهم، ويسلطون عليها التأويلات، وكذلك يتركون صريح السنة وصحيحها، ويردونها بأنها لا تفيد إلَّا الظن، وبأنها آحاد، وبأنها وبأنها فيقعون في رد السنة، وفي رد الدليل الواضح من حيث لا يشعرون. نقول: لا شك أن هذا الفعل فعل شنيع مستبشع، وهو أخذهم ببعض من الآيات وترك بعض الآيات، فهذا هو الذي سلكه أهل الزيغ الذين يتتبعون المتشابه منه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم) يعني: فأولئك هم الزائغون، لا شك أن زيغ القلوب من أشد الأمراض، يقول الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] ، والزيغ: هو الميل والانحراف يعني: أن في قلوبهم مرض، وفيها انحراف عن الحق وعن قبوله، فدل على أن مثل هؤلاء زائغون. فمثلاً الرافضة اليوم يقولون: نحن على الحق، ويتمسكون مثلاً بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليردن علي أقوام، فإذا عرفتهم حيل بيني وبينهم، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! إنهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقتَهم) يستدلون بهذا الحديث على أن الصحابة كلهم ارتدوا، وأنهم لم يبق منهم أحد على الحق إلا علي وذريته، ويستدلون على فضيلته وأفضليته بحديث: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلَّا أنه لا نبي بعدي) ، وبحديث: (من كنت مولاه فـ علي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه) ويتركون الأحاديث الصريحة الصحيحة التي وردت في فضل الصحابة وفي فضائلهم وهي مشهورة، ويتركون أيضاً الآيات الواضحة التي تنص على فضائلهم، وعلى مدائحهم، فيتركون الصحيح الواضح ويتمسكون بأشياء لا دلالة فيها. ونقول لهم: هذا الحديث يختص بأهل الردة الذين ارتدوا وماتوا وهم مرتدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم أبو بكر، وقاتلهم علي، وقاتلهم الخلفاء، أما هؤلاء الخلفاء فلم يغيروا بعد موته، بل تمسكوا بسنته غاية التمسك. وأما قوله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) فالمراد القرابة والأخوة، لا أنه يُفضل بهذا على غيره. ومثلاً الخوارج الذين يكفِّرون بالذنوب وبالسيئات، ويُخرجون العاصي أو المذنب من الإسلام ويُدخلونه في الكفر، ويستحلون دمه، ويخلدونه في النار إذا مات على ذلك، قد يتشبثون ببعض الأدلة وببعض الآيات في تخليد العصاة في النار كقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] ، {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37] ، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20] ، وينكرون الشفاعة، وينكرون خروج العصاة من النار. ويغفلون عن الآيات التي فيها مغفرة الله، وسعة رحمته وفضله، ويتركون الآيات الصريحة مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، ومثل قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156] ، ومثل قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] ، ومثل أحاديث الشفاعة التي تعم كل من قال: لا إله إلَّا الله خالصاً من قلبه، وأشباه ذلك. ونقول لهم: الآيات التي ذكرتم خاصة بالكفار الذين كُتب عليهم الخلود؛ وذلك لأن في أولها ذكر الكفر، وذكر الشرك، فهؤلاء هم الذين لا يخرجون من النار، وإذا أرادوا الخروج منها أعيدوا فيها، وأما الذين من أهل التوحيد ودخلوها عقوبة على ذنوب مؤقتة فإنهم يخرجون منها، إذاً: فلا دلالة لكم فيما تمسكتم به من العمومات، بل الأدلة واضحة في أنكم خاطئون ومائلون وزائغون عن الحق والصواب. كذلك مثلاً المرجئة الذين يعتقدون أن المعاصي لا تضر، ويستدلون بآيات الوعد، ويتركون آيات الوعيد، فيستدلون بقوله: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرَاً عَظِيمَاً} [النساء:40] ويقولون: إن الشرك يحبط الأعمال، فإذا كان الشرك يحبط الأعمال، فكذلك الإيمان يمحو السيئات، فلا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل. ونقول لهم: هذا قياس فاسد، وذلك لأن الله توعد العصاة بأنواع من الوعيد، وجعل هذا الوعيد خاصاً بأنهم يعذبون في النار على قدر ذنوبهم، فنحمل على ذلك الآيات التي تمسك بها الوعيدية. وعلى كل حال: فإذا أردنا أن نجمع هؤلاء الخوارج وهؤلاء المرجئة والمعتزلة والأشعرية والكَرَّامية والكُلَّابية والخَطَّابية وأشباههم من المبتدعة، وكذا الرافضة والزيدية والإمامية والشيعة وما أشبه ذلك، لا بد أنهم إذا تليت عليهم الأدلة الواضحة لم يستطيعوا أن ينفصلوا عنها. وكذلك نقول للمخالفين في هذا العصر وفي هذه الأيام؛ الذين تمذهبوا وتحزبوا نقول: لا شك أن خلافاتكم هذه صريحة في مخالفة الحق والصواب، إذا رجعتم إلى كتاب الله وسنة رسوله وجدتم أنها تقدح في معتقدكم، وأن الأدلة ترد أقوالكم، وتنص على خلاف ما تقولونه، وأنكم متى فضلتم رأياً أو نظراً أو ميلاً فقد أبطلتم الأدلة، وعدلتم عن السنة، وفضلتم اتباع الأهواء والشهوات، وملتم إلى ما تمليه عليكم نفوسكم، فأصبحتم بذلك مخالفين لدينكم الذي تنتمون إليه، وهو دين الإسلام، وأصبحتم بذلك خارقين لإجماع الأمة في أن المرجع إلى كتاب الله. ولكن هؤلاء الذين خالفوا في هذه الأزمنة، وهؤلاء الذين تمذهبوا بهذه المذاهب الجديدة، في الغالب أن انتماءهم إلى الإسلام مجرد انتماء لا حقيقة له، وإلا فلو نظرنا في مناهجهم التي يسلكونها لوجدناها تخالف الإسلام، تخالفه مخالفة كلية. فهذا ما يتعلق بأحد النوعين من الاختلاف، وهو اختلاف التضاد الذي كل واحد من الصنفين يضلل الآخر ويُبَدِّعه، وهو مثل الاختلاف الذي وقع بين اليهود والنصارى، حتى اختلفوا اختلاف تضاد، حكى الله عنهم هذا الاختلاف بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] . فكذلك هؤلاء المختلفون فإن اختلافهم أيضاً اختلاف تضاد، كل منهم يدعي الحق في جانبه. فالخوارج يقولون مثلاً: ليست الجبرية على شيء، وكذا يقول المجبرة. والأشاعرة يقولون: ليست المعتزلة على شيء، وكذا تقول المعتزلة. وأهل السنة يقولون في الجميع: لستم على شيء، وكذلك أهل السنة مع الرافضة، كل منهم يقول: إنكم لستم على شيء، هؤلاء يقولون: الحق معنا وأنتم ضالون خاطئون، وهؤلاء يقولون كذلك أيضاً. وكذلك الفرق التي حدثت في هذه الأزمان، وتسمت بأسماء جديدة، كل فرقة تجعل الحق في جانبها، وتفضل نفسها على الأخرى، وتقدح فيما يتمسك به الآخرون. ولكن المرجع واحد، فإذا رجعنا إلى الأصل الذي هو الشريعة الإسلامية، وتركنا ما سواهما، عرفنا أن الحق واحد لا يتعدد، وحينئذ نقول: ليس لمن خالفه عذر، بل هو ملوم، وليس بمصيب، خلافاً للمعتزلة الذين جعلوا الاجتهاد يتعدد، والحق في جانب كل من المجتهدين وقالوا: إن كل مجتهد مصيب، ونحن نقول: الاجتهاد له حدود، ثم أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المجتهد واحد، والمصيب واحد، والمجتهد المخطئ معذور إذا أخطأ، وله أجر على اجتهاده، وخطؤه معفوٌّ عنه. وهذا إذا كان الاجتهاد له مجال، وأما الذين قامت عليهم الحجة الجزء: 98 ¦ الصفحة: 11 حقيقة الاختلافات الواقعة في صدر الإسلام قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وأما أهل البدعة فالأمر فيهم ظاهر، ومن جعل الله له هدايةً ونوراً رأى من هذا ما تبين له منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا؛ لكن نور على نور. والاختلاف الأول الذي هو اختلاف التنوع: الذم فيه واقعٌ على مَن بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل ذلك، إذا لم يحصل بغي، كما في قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5] ، وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار، فقطع قوم، وترك آخرون. وكما في قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلَّاً آتَيْنَا حُكْمَاً وَعِلْمَاً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:78-79] فخص سليمان بالفهم، وأثنى عليهما بالحكم والعلم. وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة. وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) . والاختلاف الثاني هو: ما حُمد فيه إحدى الطائفتين، وذُمت الأخرى، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] . وقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] الآيات. وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول، وكذلك إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق، ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل، والأخرى كذلك، ولذلك جعل الله مصدره البغي في قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ} [البقرة:213] ؛ لأن البغي مجاوزة الحد، وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرةً لهذه الأمة، وقريبٌ من هذا الباب ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به، معللاً بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال، ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية. ثم الاختلاف في الكتاب من الذين يقرون به على نوعين: أحدهما: اختلاف في تنزيله. والثاني: اختلاف في تأويله. وكلاهما فيه إيمانٌ ببعض دون بعض. فالأول: كاختلافهم في تكلم الله بالقرآن وتنزيله، فطائفة قالت: هذا الكلام حصل بقدرته ومشيئته، لكنه مخلوق في غيره لم يقم به، وطائفة قالت: بل هو صفة له قائم بذاته ليس بمخلوق؛ لكنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكل من الطائفتين جمعت في كلامها بين حق وباطل، فآمنت ببعض الحق، وكذبت بما تقوله الأخرى من الحق، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك. وأما الاختلاف في تأويله الذي يتضمن الإيمان ببعضه دون بعض فكثير، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يختصمون في القدر، هذا ينزع بآية، وهذا ينزع بآية، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان فقال: (أبهذا أمرتم؟! أم بهذا وكلتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟! انظروا ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فانتهوا) وفي رواية: (يا قوم! بهذا ضلت الأمم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض؛ ولكن نزل القرآن يصدِّق بعضُه بعضاً، ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به) ، وفي رواية: (فإن الأمم قبلكم لم يُلعنوا حتى اختلفوا، وإن المراء في القرآن كفر) وهو حديث مشهور مخرج في المسانيد والسنن، وقد روى أصل الحديث مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال: هجَّرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعرف في وجهه الغضب فقال: (إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب) . وجميع أهل البدع مختلفون في تأويله، مؤمنون ببعضه دون بعض، يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات؛ وما يخالفه إما أن يتأولوه تأويلاً يحرفون فيه الكلم عن مواضعه، وإما أن يقولوا: هذا متشابه لا يعلم أحد معناه، فيجحدون ما أنزله الله من معانيه! وهو في معنى الكفر بذلك؛ لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب، كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً} [الجمعة:5] ، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] أي: إلا تلاوةً من غير فهم معناه، وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القرآن فعمل به، واشتبه عليه بعضه، فوكَل علمه إلى الله، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالِمه) فامتثل ما أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم] . في هذا الكلام يبين الشارح أن الاختلاف جنسه مذموم، وما ذاك إلا لأنه يسبب الوحشة والعداوة والبغضاء بين المسلمين، ويفرق الكلمة، ويوقع الفرقة المعنوية، بحيث تكون كل فرقة وكل حزب ينتصر لمحنته ولمعتقده ولمذهبه، ويضلل الآخر، فلا يكون المسلمون جميعاً مجتمعين، بل فرقاً وأحزاباً. وأما الاختلاف الذي هو واقعي ولا يصل إلى حد الذم ولا التضليل فهذا اختلاف في فروع، أو يسمى اختلاف تنوُّع، ليس اختلاف تضاد، وذلك لأنه من طبيعة المجتهدين أن اجتهادهم يصيب تارةً ويخطئ تارة، وأن الذي يخطئ قد يخيل إليه أن الصواب معه، وأن الخطأ مع الآخر، فيستمر على خطئه الذي يظنه صواباً وهو معذور والحال هذه. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 12 الاختلاف الواقع بين الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم سمعنا ما نقله الشارح من الاختلاف الذي وقع بين الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرهم الله تعالى، وأقرهم رسوله عليه الصلاة والسلام. ففي غزوة بني النضير -وهم يهود بجوار المدينة- حاصرهم الصحابة، وكانت نخيلهم محيطة بهم، فجعل بعض الصحابة يقطع من النخل ليكون غيظاً للكفار، وبعضهم يقول: لا تقطعوها فإنها في مآلها سترجع غنيمة للمسلمين، وكل منهم مجتهد، فأقر الله هؤلاء وهؤلاء فقال: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5] . وكذلك الاختلاف الذي حصل في غزوة بني قريظة، وهم أيضاً طائفة من اليهود، لما نقضوا العهد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اخرجوا إليهم، لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة) ، وهم بمكان بعيد، لا يمكن أن يصلوه في الوقت القريب، فبعض الصحابة صلوا في الطريق، وبعضهم أخروا الصلاة حتى وصلوا بني قريظة بعد غروب الشمس، فأقرَّ هؤلاء وهؤلاء، الأولون قالوا: إنما أراد منا الإسراع، والآخرون قالوا: نمتثل أمره ولو فات وقت الصلاة، فكلهم مجتهد، ويسمى هذا اختلاف تنوع، ولم يُخَطَّأ أحد منهم لاجتهادهم. وهذا مثل الاختلاف الذي وقع بين الصحابة لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فبعضهم أنكر موته وقالوا: إنما هو إغماء، وبعضهم قال: إنه قد مات، فاختلفوا، ثم بعد ذلك اجتمعوا لما سمعوا أبا بكر يتلو قوله تعالى: {أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] . وكذلك لما ارتد المرتدون من الأعراب قال بعضهم: نقاتلهم، وقال بعضهم: إنهم يقرون بالشهادة، وإنما منعوا الزكاة فاختلفوا، ثم اجتمعوا بعد ذلك على قتالهم، قال عمر: (ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق) . فهذا يبين أنهم متى علموا أن الحق مع أحدهم رجعوا إليه، ولم يتعصب أحد منهم لرأيه ولا لمذهبه، ولا شك أن هذا هو الصواب والفعل الصحيح، كون الإنسان يرجع إلى الحق متى عرفه، فإن الحق قديم كما قاله عمر رضي الله عنه، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. ومن هذا أيضاً الاختلاف الذي وقع بين الأئمة، وقع بين الصحابة خلاف في بعض الفروع، فخالف ابن عباس في أشياء ولكن لم يضلله غيره، فرُوي عنه أنه خالف حتى في مسائل فرضية، خالف في حجب الأم بأخوين، ورأى أنها لا تُحجب إلا بثلاثة أي: تحجب من الثلث إلى السدس، وقال: إن الأخوين ليسا بإخوة، والله يقول: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء:11] . وخالف في العول وقال: إن الفرائض ليس فيها عول، يعني: زيادة في السهام، ونقص في الأنصباء، فقال: إن الذي علم عدد رمل عالج لم يجعل في المال نصفاً ونصفاً وثلثاً. والصحابة الذين عملوا بالعول اتفقوا على العمل به؛ ولكن لم يضللوه، وقالوا: هذا اجتهاده، ولبقية الصحابة اجتهادهم. وخالف في تحريم الحمر الأهلية، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما نهى عنها إلا أنها حمولة الناس، فرد عليه الصحابة الذين قالوا: إنه نهى عن الحمر وقال: (إنها رجس أو ركس) أو نحو ذلك، ولكن مع ذلك لم يعادوه، ولم يقاطعوه، ولم يكن بينهم وبينه عداوة وقالوا: هذا اجتهاده وللآخرين اجتهادهم. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 13 الاختلاف الواقع بين الأئمة الأربعة الأئمة الأربعة الذين هم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد اختلفوا اختلافاً كثيراً، وتعرفون الكتب المؤلفة بحيث إن هناك أربعة أقوال في المسألة الواحدة؛ ولكن بعضهم يصلي وراء بعض، ولم يضلل بعضُهم بعضاً. فمثلاً الإمام مالك يقول: لا تُقرأ البسملة في الصلاة لا سراً ولا جهراً. والإمام الشافعي يقول: يُجهر بها، ومع ذلك هو يروي عن مالك ويقول: هو شيخي أروي عنه، ولو كنت قد خالفته في هذا. والإمام أحمد يقول: تقرأ سراً ولا يُجهر بها، والبسملة في الفاتحة وفي السورة. وهذا الاختلاف لم يسبب تقاطعاً بينهم، بل كل منهم يروي عن الآخر، فالإمام أحمد يروي عن الشافعي، فيأخذ من آرائه ومن اجتهاداته، والشافعي يروي عن مالك، فيعترف به ويروي عنه في مسنده، وكذلك بقية العلماء. وهكذا الخلاف الذي وقع بين أبي حنيفة ومالك، فمثلاً اختلفوا في تقدير الصاع، فقال أبو حنيفة: الصاع ثمانية أرطال، وقال مالك: الصاع خمسة أرطال وثلث، ومع ذلك كل منهما يرى أن له اجتهاده. واختلافهم في الزكاة، واختلافهم في مسائل كثيرة من الحج، واختلافهم في علة الربا وما أشبه ذلك. ولا نضللهم في هذه الاختلافات، بل نقول: إن هذا مما أدى إليه اجتهادهم، وهم في ذلك كله بذلوا وسعهم فيدخلون في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) . الذي أصاب لا شك أنه بذل جهداً وتوسع في البحث والتنقيب، أو كان أمكن وأقوى وأفهم وأقدر؛ فوفقه الله فأصاب الحق، فله أجران: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة. أما الذي أخطأ وقد بذل وسعه في البحث فله أجر الاجتهاد، يفوته أجر الإصابة، ويُعذر إذا أخطأ؛ ولكن ليس كل أحد يكون أهلاً للاجتهاد، بل إنما يجتهد في المسائل ويبحث فيها من يكون عنده القدرة والاستطاعة على البحث، وعلى الوصول إلى الصواب، وعلى عين المسألة المطلوبة، فأما إذا كان قاصراً في مثل هذه الأشياء فلا يليق أن يُمكن من الاجتهاد، ولا يقال: إنه من أهل الاجتهاد وإنه أصاب. وبكل حال: الخلاف في فروع المسائل مشهور ومدون -والحمد لله- في الكتب الفقهية، وكل يأخذ مما تيسر منه، فإن وجدت المسألة فيها خلاف بين الشافعي وأحمد مثلاً أو بين مالك وأبي حنيفة فإنك تنظر أيها أقرب إلى الصواب، وأيها أمكن في نفسك، وأقرب إلى الإصابة والدليل، فتأخذ بها، ولا تأخذ بمجرد الميل، ولا بما تهواه النفس، بل ترجع إلى ما هو الأولى والصواب، وبذلك تكون موفقاً إن شاء الله. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 14 شرح العقيدة الطحاوية [99] للإسلام مميزات وفضائل كثيرة، وهو دعوة جميع الأنبياء مع اختلاف شرائعهم، وهو الذي أمر الله الناس باتباعه، ولكن أكثر الناس أعرضوا عنه اتباعاً للهوى أو تقليداً للآباء أو جهلاً بحقيقته. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 1 أسباب اختلاف التضاد في الأمة تطرق الطحاوي رحمه الله إلى أن دين الإسلام جاء بالاجتماع، وحث على لزوم جماعة المسلمين، ونهى عن التفرق والاختلاف. وتوسع الشارح رحمه الله في بيان أسباب الاختلاف، وبين أنواعه، وذكر أن الاختلاف: - اختلاف تنوع. - واختلاف تضاد. وأن اختلاف التنوع لا يُضلل به؛ وذلك لأنه يثبت عن اجتهاد، كاختلاف الصحابة في تفسير بعض الآيات، وكذا المفسرون بعدهم اختلفوا في بعض معاني الآيات، وإن كان المعنى واحداً. ففسروا مثلاً (الصراط المستقيم) أنه الإسلام، وفسره بعضهم بأنه الرسول، ولا فرق فالمعنى واحد. وكذلك اختلافهم في معاني كثير من الأحاديث التي يدخل فيها الاجتهاد. أما اختلاف التضاد فلا شك أنه يُضلل به، وهو الذي يحدث عن هوى، ويكون سبب الاختلاف اتباع الأهواء، وذلك لأن المبتدع متى هوي نحلة ومال إليها فإنه يصر على تلك النحلة ويخالف الأدلة. وهذا ما يسببه اتباع الهوى، وقد ورد في الأثر: (أن الهوى يُعمي ويُصم) . كذلك أيضاً من أسباب اختلاف التضاد: تقليد الآباء، وذلك لأن كثيراً من الناس قد يتضح له الحق، ويعرف القول الصحيح، ثم يخالفه، لماذا؟ لأن آباءه وأسلافه ليسوا على هذا المسلك، وإذا خالفه أحد منهم هجروه وقالوا: تترك معتقد آبائك وأسلافك؟! وهذه سنة المشركين، ذكر الله أنهم يعرفون الحق ثم يخالفونه، ويعرفون أن الباطل باطل ويرتكبونه، لماذا؟ {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:69-70] . يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] . وكذلك بقية المبتدعة: يتمسكون بمذاهب آبائهم وأسلافهم ولو تبين لهم الحق. فمثلاً: الرافضة كانوا قديماً لا يقرءون كتب السنة، وذلك لأنها لم تنتشر ولم تشتهر، وإنما يقرءون الكتب التي يكتبها أئمتهم، فكثير من عوامهم ممن يريد الحق لم يعرفه، ولم يصل إليه ما يبين الطريق الحق، فبقوا على ضلالهم؛ ولكن في هذه الأزمنة طُبعت الكتب، وانتشرت كتب الصحيح، وكتب السنن، وكتب المسانيد، وكتب السنة، ومن أرادها من الشيعة أو غيرهم قدر عليها، وتحصل عليها وعرف الحق. فبعض الشباب من الرافضة تبين لهم طريق الحق فاهتدى منهم أفراد؛ ولكن لما اهتدوا وخالفوا طرق الرافضة ماذا فعل أهلوهم؟ هجروهم وقالوا: أتتركون سنة آبائكم؟! أتتركون عقيدة أسلافكم؟! فضايقوهم وأضروهم، أحدهم يحكي لنا أنه لما اهتدى تمسكت زوجته بمذهبها وقالت: لا يمكن أن تكون أهدى من أبي ومن أبيك ومن أسلافنا! وبقيت على طريقة آبائها، هو قرأ وعرف فسلك طريق الحق، وأما زوجته وأهله فإنهم مقتوه وطردوه. وهكذا شابة أيضاً في الدمام أو في القطيف لما درست وسمعت الأخبار، وقرأت الكتب والنشرات، وأصغت إلى الإذاعة وما يُنشر فيها، واقتنت شيئاً من الكتب، واحتكت بأهل السنة؛ عرفت أن طريقة الشيعة باطلة وبعيدة من الصواب، فتلقت الحق واهتدت وتمسكت به، فماذا لقيت من الأذى؟! وماذا لقيت من الضرر؟! حبس وضرب! وطرد وإبعاد! ولكنها صبرت على ذلك كله. نقول: لا شك أن الذين يقلدون الآباء والأجداد وهم على ضلال ضالون، والعاقل يختار الحق، يختار الصواب، ولو خالفه من خالفه، وذلك لأنه لا يهمه إلا نفسه، في الدار الآخرة يتبرأ منه أهله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:34-35] يفرون منه، ولا يتقبلون منه ولا يقبل منهم، ولا ينفع بعضهم بعضاً. فإذاً: كيف يقدم أحدهم الباطل تقليداً للآباء والأجداد؟! والحاصل: أن من أسباب هذا الاختلاف: اتباع الهوى، ومن أسبابه: تقليد الآباء والأجداد والأسلاف، وهذا يؤدي إلى أنه قد يعرف الإنسان الحق ويتمسك بالباطل، الله تعالى يقول: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71] ، فإذا كان الحق واضحاً فالحق أحق أن يُتبع. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 2 مفاسد اختلاف التضاد اختلاف التضاد سبب التفرق بين المسلمين، وسبب ضياع الحقوق، وسبب التعصب، فكل طائفة تعرف الحق ولكنها تتعصب للباطل. فلو قرأنا مثلاً كتب المعتزلة، لوجدنا فيها من التعصب والتشدد والتكلف في صرف الأدلة الشيء العجاب! ولو قرأنا كتب الخوارج أو الإباضية الموجودين في عمان؛ لعرفنا أنهم يعرفون الحق ثم ينكرونه، وكذلك إذا قرأنا الكتابات التي يكتبها هؤلاء المخالفون. فالفرق الذين تفرقوا في هذه الأزمنة -وما أكثرهم! - كطائفة البعث، وطائفة العلمانيين ونحوهم، لا شك أنهم قد اتضح لهم الحق، وعرفوا الأدلة؛ ولكن لما لم تكن أهواؤهم منقادة نحو تلك الأدلة، ونحو العمل بها، تمسكوا بالباطل وتشبثوا به، وقدموا الباطل على الحق، فكان هذا هو السبب في كثرة الفرق، وتفرقت فرق الأمة، وصار بعضهم يضلل بعضاً، ويخالف بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض. فمن الفرق ما يصل إلى حد الكفر، كفرقة غلاة الجهمية فقد أخرجهم كثير من الأمة ومن العلماء من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا: ليسوا من فرق الأمة، وكفرقة الفلاسفة والباطنية. وفي هذه الأزمنة فرقة الدروز، وهم موجودون في سورية ولبنان، ذكر لنا بعض المشايخ أنهم عثروا على واحد منهم في الرياض وهو سكران، فجاءوا به ليعاقبوه؛ ولكن شهد عليه أناس أنه لا يصلي، فسألوه فقال: أنا لا أصلي. قالوا: مكتوب في جوازك وفي إقامتك أنك مسلم، لماذا لا تصلي؟! فقال: ليس في ديننا صلاة، فبحثوا عنه فإذا هو درزي. الدروز يكتبون في هوياتهم أنهم مسلمون! أين الإسلام؟! إسلام بلا صلاة؟! وكثير من الذين اهتدوا منهم قاطعوهم، قاطعوا أولادهم الذين اهتدوا أو بناتهم وتبرءوا منهم، بل لو وجدوهم لقتلوهم، من اهتدى منهم ورجع إلى الإسلام اغتالوه وقتلوه، وكانوا يخفون كتبهم التي فيها معتقداتهم؛ ولكن تسربت في هذه الأزمنة ولم يستطيعوا أن يخفوها، لوجود المطابع وآلات التصوير، ولوجود الناسوخ ونحوه، والذي يصور من بعيد، فافتضحوا وظهرت بذلك عقائدهم المشينة، فاتضح أنهم ليسوا من فرق الأمة. وكذلك فرقة النصيرية موجودة في سورية وفي غيرها، وقديماً قد كتب عنهم العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية له رسالة فيهم مطبوعة مفردة، ومطبوعة مع المجموع، بين فيها فضائحهم وعقائدهم السيئة، إذا نظرنا في عقيدتهم قلنا: هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، وذلك لبعدهم عن الإسلام، ومع الأسف أنه يُكتب في بطائق هوياتهم: مسلم، وليس معهم إلَّا مجرد الاسم. وهكذا غلاة الرافضة الذين يكفرون أجلاء الصحابة، ويطعنون في القرآن، لا شك أنهم يصلون إلى مرتبة الكفر، وذلك لأنهم إذا كانوا لا يؤمنون بالكتاب والسنة فماذا بقي عندهم؟! وبكل حال: فهذه فرق خرجت من ملة الإسلام، أما بقية الفرق فيمكن أن تكون من المسلمين، ويعمهم اسم المسلمين؛ لأنهم يصلون ويدينون بالإسلام، ولكن بدعتهم مضللة لا توصلهم إلى حد الكفر، كبدعة الإباضية الموجودين في عمان، وكذلك كثير من المبتدعة. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 3 حكم الأحزاب والفرق الموجودة في عصرنا ما حكم الأحزاب والفرق الموجودة الآن في كثير من الدول الإسلامية، وقد تصل الأحزاب إلى عشرين أو إلى خمسين حزباً، وكل حزب يسجل أعداداً هائلة، ويحب أن يكون أكثر من الآخر؟! إذا نظرنا في تلك الأحزاب نجد كل حزب يتسمى باسم، ولا شك أنها لم ينزل الله بها سلطاناً، فهي فرق ضالة، يُنظر في معتقداتهم وما يميلون إليه. فمنهم من يكون كافراً بحتاً كالشيوعيين، وفي بعض البلاد يكون لهم أحزاب إما واحد وإما عدد. ومنهم من يكون معه شيء من الإسلام؛ ولكن ليسوا متمسكين به. ومنهم من هم مسلمون؛ ولكن معهم شيء من المخالفة. والجميع يعمهم أنهم أحزاب ومختلفون. وهناك أحزاب في البلاد الإسلامية يتسمون بأسماء ظاهرها حسن، وأعمالهم فيها ما هو خطأ وفيها ما هو صواب، فمثلاً: جماعة التبليغ، هؤلاء فرقة نشئوا في الهند وفي الباكستان، وكان هدفهم أن يبلغوا الشرع، كما سموا بذلك أنفسهم، ولهم طريقة في الدعوة بمعنى: أنهم يقتصرون على بيان الفعل دون أن يوضحوا أو يدعوا بالقول غالباً، ويدعون الأفراد ولا يتكلمون في المجتمعات، لا في الخطب، ولا في المساجد العامة، ولا في محاضرات ولا غير ذلك، ورأوا أن هذه دعوة ناجحة. أما طريقتهم في الدعوة فنقول: هكذا ظهر لهم، ولا نعيبهم في ذلك؛ لكن دخلت معهم فرق ضالة من الصوفية والقبوريين فأفسدوا عليهم دعوتهم، فالذين يتمسكون بالسنة ويعملون بها لا نعيبهم، والذين يصلون إلى بغض التوحيد بحيث لا يقرءون في كتب العقيدة ولا يقرون من يقرأ فيها، ولا يقرءون في كتب التوحيد، وبحيث أنهم يبايعون بعض رؤسائهم على الطاعة، وإن كان في خلاف الحق، وأنهم إذا كانوا في غير بلاد التوحيد يزورون المشاهد، ويعكفون عند القبور، ويتمسحون بها، ويقرونها، فمثل هذا لا يقره الإسلام. وأما إذا لم يدخل معهم شيء من هؤلاء فلا بأس بهم. وكذلك هناك طوائف في كثير من الدول الإسلامية، كسورية ومصر والسودان، ولهم أيضاً فروع في المملكة، ويتسمون بأسماء حسنة، ويهدفون إلى هدف واحد، ويدعون إلى دعوة واحدة، فمنهم من يسمون بالسلفيين، ومنهم من يسمون بجماعة أنصار السنة، ومنهم من يسمون أنفسهم بأهل التوحيد، والأسماء حسنة، والمقاصد متقاربة، والطرق تختلف، ولا يضر هذا الاختلاف، يعني: كون هؤلاء يفضلون طريقة، وهؤلاء يفضلون طريقة، هؤلاء مثلاً يفضلون الاقتصار على التأليف والنشر، وهؤلاء يفضلون الرحلات ودعوة الناس، وهؤلاء يفضلون الدعوة عن طريق المنابر والمساجد والحلقات والندوات والمحاضرات ونحوها، وهؤلاء وهؤلاء نقول: كل ذلك يصب في الدعوة ما دام أن المنهج سليم، ومناهجهم كما أخبرنا كثير منهم يدعون إلى العقيدة سواءً دعوا أفراداً أو أشتاتاً، يدعون إلى تحقيق التوحيد، ويحاربون البدع والشرك، فكلهم إن شاء الله على الخير، ولهم نشاط في كثير من البلاد الإسلامية، يوجدون حتى في غير البلاد العربية كالباكستان وغيرها، وفي البلاد البعيدة يُضطهدون ويُذلون، وذلك لأنهم يُتهمون في الهند والباكستان وغيرها، بل وفي بعض البلاد العربية؛ بكونهم وهابيين، وأنهم كفار وضُلَّال وما أشبه ذلك. وعلى كل حال الإسلام أرشد أن يجتمع المسلمون، وأن يصيروا يداً واحدة، وألَّا يتفرقوا؛ لأنهم متى اجتمعوا واجتمعت كلمتهم فإنهم يقوون على مقاومة أعدائهم، ويصير لهم مكانة معنوية قوية، ويهابهم الأعداء والأضداد، ومتى تفرقوا ذلوا وهانوا، وهذا ما يريده العدو. فنتواصى جميعاً بأن تجتمع كلمتنا متى رأينا من يخالف في منهج أو مسلك، ونحرص على أن نجمع بين المتخالفين، نقرب هذا ونقرب هذا، إلى أن يتآلفا ويصيرا يداً واحدة. وهكذا أيضاً إذا رأينا من يعيب على بعض الطرق قلنا له: رويدك! ماذا تعيب عليهم؟ فإذا وجدنا أن ذلك العيب الذي يعيبه لا يبلغ أن يُهجروا لأجله، قلنا له: لا ينبغي لك أن تهجر إخوتك المسلمين أو مشايخك وعلماءك، ولا أن تسيء الظن بهم بمجرد هذا الفعل الذي لا يبلغ أن يكون ذنباً، بل هو إما اجتهاد، وإما قول مسلوك قد قاله من العلماء المتقدمين من قاله، فكيف تضلل بقولٍ هو محل اجتهاد. وما يقع بين المسلمين في هذه البلاد وغيرها من هذا الاختلاف الذي سببه سوء الظن بكثير من المشايخ، حتى اتُّهموا بأنهم يحاولون الخروج، وبأنهم ضُلال، وبأنهم شر على الأمة من كذا وكذا لا شك أن هذا من وساوس الشيطان، وكيد الأعداء الذين يريدون أن يفرقوا بين المسلمين. والواجب على شباب المسلمين وشباب الصحوة الذين انتبهوا وأقبلوا على ربهم أن يجتمعوا، وألَّا يخطئ بعضهم بعضاً إلا في الشيء الذي يكون خطؤه واضحاً، وأن يعذروا من رأوا منه شيئاً من النقص أو التقصير، ولا يشددوا ولا يتهموا إخوتهم أو علماءهم بمداهنة أو بنقص أو بتعمد خطأٍ أو نحو ذلك، بل يعذروهم ويقبلوا منهم عذرهم، وبذلك تجتمع كلمة المسلمين إن شاء الله. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 4 مميزات دين الإسلام قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قوله: (ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] . وقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينَاً} [المائدة:3] ، وهو بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل، وبين الجبر والقدر، وبين الأمن والإياس) . ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد) ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينَاً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] عامٌّ في كل زمان؛ لكن الشرائع تتنوع كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً} [المائدة:48] . فدين الإسلام هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده على ألسنة رسله، وأصول هذا الدين وفروعه موروثة عن الرسل، وهو ظاهر غاية الظهور، يمكن كل مميز من صغير وكبير، وفصيح وأعجم، وذكي وبليد، أن يدخل فيه بأقصر زمان، وإنه يقع الخروج منه بأسرع من ذلك، من إنكار كلمة، أو تكذيب، أو معارضة، أو كذب على الله، أو ارتياب في قول الله تعالى، أو رد لما أنزل، أو شك فيما نفى الله عنه الشك أو غير ذلك مما في معناه. فقد دل الكتاب والسنة على ظهور دين الإسلام، وسهولة تعلمه، وأنه يتعلمه الوافد، ثم يولي في وقته، واختلاف تعليم النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الألفاظ بحسب من يتعلم، فإن كان بعيد الوطن كـ ضمام بن ثعلبة والنجدي ووفد عبد القيس، علمهم ما لم يسعهم جهله، مع علمه أن دينه سيُنشر في الآفاق، ويرسل إليهم من يفقههم في سائر ما يحتاجون إليه، ومن كان قريب الوطن يمكنه الإتيان كل وقت بحيث يتعلم على التدريج، أو كان قد علم فيه أنه قد عرف ما لا بد منه، أجابه بحسب حاله وحاجته، على ما تدل قرينة حال السائل كقوله: (قل: آمنت بالله، ثم استقم) . وأما من شرع ديناً لم يأذن به الله فمعلوم أن أصوله المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن غيره من المسلمين؛ إذ هو باطل، وملزوم الباطل باطل، كما أن لازم الحق حق] . الجزء: 99 ¦ الصفحة: 5 الإسلام هو دين جميع الأنبياء مع اختلاف الشرائع سمعنا أن الماتن والشارح رحمهما الله تطرقا إلى وحدة الإسلام، الذي هو دين الله الذي رضيه لنفسه، فقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينَاً} [المائدة:3] ، ورد ما سواه من الأديان فقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينَاً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] ، وأن أصل هذا الدين واحد عليه جميع الأنبياء، الوحدة والوحدانية اتفق عليها رسل الله، اتفقوا كلهم على الدعوة إلى التوحيد، فكل منهم يبدأ دعوته فيقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] . فالتوحيد هو دين جميع الرسل، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] أي: كل الرسل أوحيت إليهم هذه الكلمة، وأمروا بها، وبلَّغوها إلى قومهم، وإن كانت الشرائع متنوعة، كما حكى الله عن عيسى أنه قال: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50] فأحل لهم أشياء كانت محرمة عليهم في شريعة الأنبياء قبله، وكذلك حكى الله عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، أي: أنه قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كان عليهم آصار يعني: أثقال من التكاليف، وأغلال من الأوامر والنواهي، وتشديدات، وأن تلك الآصار والأغلال وضعت وخُفف عنهم في هذه الشريعة التي هي خاتمة الشرائع. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 6 يسر الإسلام وسهولة تعلمه دين الإسلام دين يسير سهل، تعاليمه يسيرة قريبة التناول، كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه في لحظات وفي أوقات يسيرة، فيتعلمونه، فيخرج أحدهم معلماً ومبلغاً. وفد عبد القيس علمهم أركان الإسلام، وعلمهم بعض المحرمات؛ ولكنهم فهموا بلغتهم وبسليقتهم وفطرتهم بقية الشريعة، فعلمهم الشهادتين، وعرفوا معناها وما تستدعيه كل واحدة منهما، بمجرد ما قالوا: لا إله إلَّا الله، محمد رسول الله؛ عرفوا معنى (لا إله إلَّا الله) فلم يعبدوا غيره، وعرفوا معنى (محمد رسول الله) فأطاعوه ولم يعصوه. وأما الصلاة فإنهم صلوا معه يوماً أو يومين أو أياماً قليلة، وعرفوها. وكذلك الزكاة بعث إليهم من يعلمهم في بلادهم، ومن يأخذ منهم الزكاة المفروضة. وكذلك الصوم، والحج بمجرد ما أخبرهم. وكذلك المحرمات، مجرد ما يقول: حرم عليكم كذا وكذا يعرفون، فالجلسة والجلستان في تلك الحلقات العلمية يصبح بها أحدهم عالماً، بينما أحدنا في هذه الأزمنة يبقى عشرين سنة ومع ذلك لا يأتي على جميع العلوم لقصر الأفهام، ولتغير الألسن والاستعمالات، وتغير اللغات واللهجات المحدثة البعيدة عن الأصل، فصار الواحد لا بد أن يبذل وقتاً في تعلم الكلمات، ثم يتعلم معانيها بعد حفظ الكلمات، ثم بعد ذلك يتعلم مدلولات واصطلاحات العلوم الشرعية. ذكر الشارح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم كلاً بما هو أهم شيء عنده، ولأجل هذا اختلفت أجوبته، يُسأل سؤالاً واحداً ويجيب بعدة أجوبة، فإذا قيل له: ما أفضل الأعمال؟ فتارة يقول: (قل: آمنت بالله ثم استقم) ، وتارةً يقول: (من سلم المسلمون من لسانه ويده) ، وتارةً يفسره بأنه: (أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) ، وتارةً وتارةً وذلك لأنه يخاطب كلاً بما يرى أنه مناسب له، وأنه أهم له وأولى بأن يهتم به ويتأثر به أفضل من غيره. فالجميع واحد، والمؤدَّى واحد، وذلك لأنها تعتبر من خصال الإسلام والإيمان، وهي العقائد والعبادات ونحوها. وعلى كل حال: فالمسلمون يدينون بهذا الدين، ويعتقدون هذه الشريعة، ويتبعونها، ويعرفون أنه ليس فيها تعقيد، ولا صعوبات، لا في علومها ولا في أعمالها. فالعلوم: سهلة ويسيرة؛ ولكنها تحتاج إلى تعقُّل، قد يقول القائل: إنني بذلت وتعلمت ولم أصِر عالماً! نقول: لأنك أولاً: لم تقبل على العلم بكليتك؛ بخلاف الصحابة، فإن أحدهم كان يقبل على العلوم بكليته وبقلبه وقالبه، فيتعلمها في يوم أو في أيام أو في عشرين يوماً كما في حديث مالك بن الحويرث. ولأنك ثانياً: لم تطبق ولم تعمل مباشرة، وذلك لأن الإنسان الذي يسمع الكلمات ويعرفها؛ ولكنه لا يطبقها في حينه، تذهب من ذاكرته، ينساها بعد مضي سنة أو شهر أو نحو ذلك؛ بخلاف من إذا أراد التعلم، وتفرَّغَ له وأقبل بقلبه، ثم كلما تعلم شيئاً كرره وعمل به، فإنه يمكن أن ينال العلم ويكون عالماً في وقت قصير. ومعلوم أيضاً أن العلوم كثيرة؛ ولكن يُبدأ منها بما هو الأهم، فالإسلام يعم الأعمال التي فعلها من الدين، والأعمال التي تركها من الدين، والمباحات ونحوها، وهذه كلها داخلة في مسمى الإسلام، ومعرفتها يسيرة، والحمد لله أن المسلمين الذين خرجوا من بين أهلينا من بنين وآباء وعلماء ومشايخ كلهم يدينون بالإسلام وبالعقيدة السلفية، ولا يخفى عليهم شيء من تعاليم هذا الدين. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 7 دين الإسلام وسط بين الغلو والتقصير قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (بين الغلو والتقصير) : قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171] ، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة:77] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالَاً طَيِّبَاً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة:87-88] . وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن: (ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟! لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) . وفي غير الصحيحين: (سألوا عن عبادته في السر، فكأنهم تقالوها) . وذُكر في سبب نزول الآية الكريمة عن ابن جريج عن عكرمة أن: (عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالماً مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل، وصيام النهار، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87] يقول: لا تسيروا بغير سنة المسلمين، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار، وما هموا به من الاختصاء، فلما نزلت فيهم بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: إن لأنفسكم عليكم حقاً، وإن لأعينكم حقاً، صوموا وأفطروا، وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا، فقالوا: اللهم سلَّمنا واتبعنا ما أنزلت) . وقوله: (وبين التشبيه والتعطيل) : تقدم أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تشبيه، فلا يقال: سمع كسمعنا، ولا بصر كبصرنا ونحوه، ومن غير تعطيل، فلا يُنفى عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به أعرف الناس به: رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك تعطيل، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى، ونظير هذا القول قوله فيما تقدم: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زَلَّ ولم يصب التنزيه) . وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] : ردٌّ على المشبهة. وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] : ردٌّ على المعطلة] . في هذا بيان أن الحق وسط بين الطرفين، وأن أهل السنة وسط بين فرق الأمة، وأن الأمة وسط بين الأمم، والكلام على وسطية أهل السنة ووسطية الأمة طويل ومعروف، ومما ذكر الشارح أنهم لا يغلون ولا يقصرون، بل هم وسط بين ذلك. فالغلو هو التشديد على النفس، كما حصل من هؤلاء الذين هموا أن يختصوا وحرموا الطيبات، وشددوا على أنفسهم، ولزموا البيوت، واقتصروا على العلقة من الطعام، وعزموا على أن يقوموا جميع الليل، ويصوموا جميع النهار، ويعتزلوا الملذات والشهوات، ويتشبهوا بالرهبانية، فهؤلاء غلوا. والذين يقصرون هم الذين لا يأتون من الأعمال إلا بعض العمل، فلا يصلون إلا الفريضة مثلاً، وإذا صلوها صلوها خفيفة، ولا يصومون إلا الفرض، وربما يقصرون في الصيام، أو يأتون بما يفطِّر أو يفسد صيامهم، وكذلك في الطهارة يخففونها. الأولون: يتشددون ويتقعرون في العبادة، والآخرون يخففون الطهارة وربما لم يبالغوا في غسل الأعضاء ولم يسبغوا. فهؤلاء في طرف وهؤلاء في طرف، والوسط هو الخير بين الغلو والتقصير. فالغلو مذموم لهذه الآية: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77] . والتقصير أيضاً مذموم؛ لأن فيه نقصاً في العمل، ونقصاً في لزوم ما أمر الله به. كذلك أيضاً الغلو والتقصير يعم جميع الأحوال والعبادات ونحوها. فجميع العبادات يمكن أن يُتصور فيها غلو وتقصير، فالمعاملات مثلاً فيها غلو وتقصير، فالذي يحرم البيوع أو يحرم أكثر الأطعمة ولا يتعامل إلا مع فلان وفلان، أو لا يتعاطى، أو لا يمتلك من الأموال إلا شيئاً دون شيء، يقال: هذا غالٍ قد حرم الطيبات، وكذلك لو حرم الصناعات الجديدة، إذا حرم مثلاً الركوب في السيارات، أو في الطائرات، أو حرم الانتفاع بالأجهزة الحديثة كمكبر الصوت والاستنارة بالكهرباء، والانتفاع بالكهرباء في مكيفات، أو في أنوار كهربائية أو نحو ذلك، نقول: هذا قد غلا. والذي يتوسع في مثل هذه الأشياء يجره إلى الحرام، فيستعمل مثلاً السماع للموسيقى والأجهزة المفسدة كأجهزة الغناء، وأجهزة التصاوير والتمثيلات الخليعة، والصور والأفلام الماجنة ونحوها، ويتوسع في ذلك، نقول: هذا قصر. فالأول قد غلا وتشدد، والثاني قد توسع وأتى بما يفسد دينه أو يقلل عليه ديانته، وما بينهما وسط لا تشديد وغلو، ولا تقصير وإخلال بالواجبات ونحوها. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 8 دين الإسلام وسط بين التشبيه والتعطيل ذكر الشارح أن أهل السنة متوسطون بين المشبهة وبين المعطلة، وهذا بحث قد تقدم مراراً، فالمشبهة هم الذين غلوا في إثبات صفات الله، وقالوا: إنها كصفاتنا، يد كيد المخلوق، ووجه كوجه المخلوق، وهكذا. والمعطلة هم الذين نفوا صفات الله وتأولوها، وتشددوا في صرفها عن ظاهرها، وعطلوا الله تعالى عن صفات الكمال. وقد تقدم أن هؤلاء مقصرون وغالون، والحق بينهما وسط، وهو أنَّا لا نصل إلى درجة هؤلاء المعطلة ولا نسلك طريقة هؤلاء الذين هم ممثِّلة، بل نثبت الصفات كما أثبتها الله تعالى لنفسه، ونصفه بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، دون تشبيه أو تمثيل. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 9 دين الإسلام وسط بين الجبر والقدر وبين الأمن واليأس قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (وبين الجبر والقدر) : تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى، وأن العبد غير مجبور على أفعاله وأقواله، وأنها ليست بمنزلة حركات المرتعش وحركات الأشجار بالرياح وغيرها، وليست مخلوقة للعبد، بل هي فعل العبد وكسبه وخلق الله تعالى. وقوله: (وبين الأمن والإياس) : تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى، وأنه يجب أن يكون العبد خائفاً من عذاب ربه، راجياً رحمته، وأن الخوف والرجاء بمنزلة الجناحين للعبد في سيره إلى الله تعالى والدار الآخرة] . لابد أن نعلم أن أهل السنة وسط في هذه الأمور، وذلك لأن القدرية الذين نفوا قدرة الله قالوا: إن الله لا يقدر على كل شيء، بل العبد يعصي قهراً على الله، والله لا يقدر أن يرد هذا العاصي، ولا يقدر أن يهدي من يشاء، ولا يضل من يشاء، بل العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، وهؤلاء غلوا في نفي قدرة الرب، وجعلوا القدرة للعبد. وأما الجبرية فضدهم، حيث نفوا قدرة العبد أصلاً، وجعلوا العبد مجبوراً ليس له أية قدرة، ولا أية مشيئة، ولا أية عمل، بل حركته كحركة أغصان الشجرة التي تحركها الريح، فلم يجعلوا له اختياراً. فلا هؤلاء ولا هؤلاء، بل الحق وسط بينهما وهو أن نقول: إن للعبد قدرة، ولكنها تحت قدرة الله خاضعة لمشيئته وقدرته. كذلك أيضاً أهل السنة وسط بين الأمن واليأس، الأمن: هو عدم الخوف من الله، كون الإنسان يقدم على المعاصي، ويتجرأ عليها، ويتجرثم في الذنوب، وكأنه عنده صك أمان من الله أنه في الجنة، فتراه يُقدم على الذنوب، ويكثر من السيئات، ولا يخاف من الله، هذا هو الآمن، قال الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] . وأما اليأس: فهو القنوط الذي هو قطع الرجاء، قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] ، وهو الذي يقطع رجاءه من الرحمة، وكأنه يجزم بأنه في النار ويقول: لا قدرة لي على التوبة، أنا قد عملت عملاً لا تنالني فيه الرحمة، ثم إذا نصحتَه يقول: عملي وذنوبي كثيرة، وأنا لا أستطيع أن أمحوها، وقد تكاثرت علي، فالآن أنا مقدم أو جازم على أني من أهل النار، ولو عملت ما عملتُ، ذنوبي لا تمحوها التوبة، ولا تصل إليها الرحمة، فيقطع رجاءه من رحمة الله. نقول: هذا قنوط {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] بل الوسط هو الخيار، وهو أن تكون خائفاً راجياً، فيكون الخوف والرجاء للإنسان بمنزلة الجناحين للطائر مستويان، لا يكون في أحدهما زيادة على الآخر، إذا كان في أحدهما زيادة اختل طيران الطائر، وإذا تساويا استوى طيرانه، الخوف يحملك على أن تكثر من الأعمال، والرجاء يبرِّد قلبك على ألَّا تيئس من رَوح الله. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 10 شرح العقيدة الطحاوية [100] لقد خرج عن منهج الله الصحيح طوائف من المسلمين، واتبعوا أهواءهم، فخالفوا منهج السلف، وجانبوا الصواب، وعلى رأس هؤلاء عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء مؤسسا فرقة المعتزلة، والجهم بن صفوان والجعد بن درهم مؤسسا فرقة الجهمية، وكل يزعم أنه على الصواب والجادة، وهم أبعد عن الحق مما بين الشرق والغرب. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 1 قبض العلم بموت العلماء نحمد الله على ما قضى وقدَّر، وعلى ما دبَّر ويسَّر، فهو أهل الحمد والثناء، يستحق الحمد على السراء والضراء، إذا ابتلى بالخير فهو أعلم بذلك وبمن يصلح له، وإذا ابتلى بالشر فهو أعلم بمن يبتليه، وبالأسباب التي يبتلي بها ولأجلها. إذا مس بالخيرات عم سرورها وإذا مس بالضراء يعقبه الأجر في هذا المسجد قبل ثلاثة أيام شهدنا حشداً عظيماً، وجمعاً كبيراً، يجهِّزون ويودعون عالماً من علماء المسلمين، يحضرون من كل فج، ومن كل جهة؛ لأجل أن يشيعوه، وأن يحضروا الصلاة عليه، ألا وهو شيخنا الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله، الذي وافاه أجله قبل ثلاثة أيام، والذي فقد المسلمون به عالماً جليلاً، وشيخاً كبيراً، بذل جهده، وأفرغ وسعه، وقام لله تعالى بما يستطيع، وجاهد في الله حق جهاده، جاهد بقلمه، وجاهد بلسانه، ورد على أعداء الله الذين يحاولون النيل من كتاب الله، أو من سنة رسوله، أو من دينه، فأبطل كيدهم، ورد أباطيلهم، وبين الحق أوضح بيان، قد أعطاه الله ووهبه علماً وحفظاً وفهماً، وذاكرةً قويةً، ومعرفةً بالأدلة وبمواضعها، ومعرفةً بسبك الكلمات وبرصفها، وبكيفية جمعها، حتى تكون كافية ومقنعة. لا شك أن فقد العلماء مصيبة عظمى، مصيبة كبيرة؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) نخشى أن يقبض العلم من بيننا، ولا يبقى فينا من يكون أهلاً لتحمل العلم؛ لأجل ذلك يجب أن نبذل جهداً ووسعاً في أن نتحمل من العلم ما نكون أهلاً به أن نذبَّ عن دين الله، وأن نجاهد في سبيله، وأن نبلغ شريعته، وأن نقوم لله مثنى وفرادى كما يقوم العلماء المجاهدون العارفون بالله أمثال هذا الشيخ رحمه الله؛ مخافة أن يطغى الجهل على العلم، ويطغى الشرك على الإيمان، وتعظم المصيبة في هذا الدين، وتعظم البلوى بأعداء الدين. وقد كان العلماء رحمهم الله دائماً يبكون على علمائهم إذا فقدوهم، ويخشون أن يكون هذا سبباً لنقص العلم ولتلاشيه، يقول ابن مشرف رحمه الله في نظمه لرثاء العلم: على العلم نبكي إذ قد اندرس العلم ولم يبق فينا منه روح ولا جسم ولكن بقي رسم من العلم داثر وعما قليل سوف ينطمس الرسم وليس يفيد العلم كثرة كتبه فماذا تفيد الكتب إن فقد الفهم وعار على المرء الذي تم عقله وقد أُملت فيه المروءة والحزم إذا قيل ماذا أوجب الله يا فتى أجاب بـ (لا أدري) وأنى لي العلم وأقبح من ذا لو أجاب سؤالَه بجهل فإن الجهل مورده وخم نقول: إننا في زمان ينقص فيه العلم، والمراد: العلم الشرعي، العلم الحقيقي الذي هو العلم بالله وبآيات الله، والعلم بشريعته، والعلم بكتابه وبسنة نبيه، والعلم بتوحيده وبحقوقه، ولو كثر العلم الآلي الذي كثر ادعاؤه، وكثر تعلُّمه، العلوم الآلية، وعلوم الحرف، وعلوم الصناعات، والعلوم الدنيوية، لقد كثر الذين ينتحلونها ويتعلمونها واحداً بعد واحد، لا شك أن هذا من الإعراض عن العلم الأصلي. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 2 معنى الإسلام ووسطيته قد قرأنا ما ذكره الطحاوي رحمه الله من أن ديننا دين الإسلام، الذي لا يقبل الله من أحد ديناً غيره، هو أن يُسْلِم العبد قلبه وقالبه لربه، وأن يذعن له وينقاد، ويخضع له ويتواضع، وأن يعرفه بأسمائه وبصفاته، ويعرفه بما يجب أن يُعرف به، وأن يعبده حق عبادته، ويجاهد فيه حق جهاده. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 3 وسطية الإسلام بين دين اليهود ودين النصارى دين الإسلام وسط بين الأديان كلها، فهو الوسط بين دين اليهود ودين النصارى، فدين اليهود فيه تشدد، ودين النصارى فيه توسع وتفريط، والإسلام جاء بالتوسط بينهما، اليهود يشددون في بعض الأشياء، والنصارى يتساهلون في كثير منها، والأمثلة على ذلك واضحة. كذلك أيضاً الدين الإسلامي وسط بين الغلو والتقصير، فليس فيه غلو بحيث يكلف أهله ويشق عليهم، وليس فيه تقصير بحيث يكون فيه نقص أو خلل في أية عبادة. فالطهارة التي هي من العبادات لا يجب فيها التشدد والدلك الشديد، وتكرار الغسل، وتكرار صب الماء، فهذا غلو، ولا يجزئ فيها مسح الأعضاء مسحاً، أو غسلها غسلاً خفيفاً لا يبلغ أن تبتل البشرة، فهذا تقصير، بل الوسط بين ذلك. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 4 وسطية الإسلام بين المشبهة والمعطلة في صفات الله دين الإسلام وسط في باب صفات الله تعالى بين المشبهة الممثلة الذين شبهوا صفات الله تعالى بصفات خلقه، وبين المعطلة الذين نفوا صفات الله، وعطلوه من صفات الكمال. فأهل السنة توسطوا، وهم الذين أثبتوا لله تعالى صفات الكمال، ونفوا عنه التشبيه والتمثيل بالمخلوقات، فهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء. وهم كذلك وسط في باب الوعد والوعيد بين الوعيدية والمرجئة. فهناك الوعيدية الذين شددوا وحكموا بأن من عصى أدنى معصية فقد كفر، وحل ماله ودمه. وآخرون قالوا: المعاصي لا تؤثر ولا تضر. هؤلاء غلوا وهؤلاء نقصوا، والإسلام وسط جاء يحذر من الإصرار على المعاصي وكبائر الذنوب، والاستمرار على صغائرها، وجاء يأمر بترك التكفير والخروج على أئمة المسلمين، والخروج على عامتهم، بل جعلهم وسطاً أي: صار أهل السنة وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 5 وسطية الإسلام في الأمن والقنوط الإسلام وسط بين الأمن والقنوط، فهناك طائفة يكثرون من المعاصي والكفريات والبدع وهم آمنون، ويصدق عليهم قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] . وآخرون غلب عليهم اليأس والقنوط، ووقعوا في معاصٍ وكبائر؛ ولكنهم قطعوا الرجاء، وانقطعوا انقطاعاً كلياً عن التوبة، وأيسوا من قبولها، واعتقدوا أنهم لا تنفعهم التوبة ولا تُقبل منهم، واعتقدوا أنهم لا ينفعهم أي عمل عملوه، فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] . كذلك وسط في أفعال العباد بين القدرية وبين المجبرة، فالمجبرة هم الذين يقولون: ليس للعبد اختيار، بل هو مجبور على أفعاله، ليس له أية حركة، بل حركاته كحركات الأشجار التي تحركها الرياح، فلا طاعة تنسب إليه، ولا معصية تنسب إليه. وطائفة أخرى عزلوا الرب تعالى عن الأفعال التي تتعلق بالعباد، فنفوا عنه القدرة التامة، ونفوا أنه يهدي ويضل؛ نفوا أنه يهدي هذا ويضل هذا، أو يعين هذا ويخذل هذا، وجعلوا العبد هو الذي يهدي نفسه، أو يضل نفسه أو يفعل باختياره بدون أن يكون لله قدرة عليه، فهؤلاء في طرف، وهؤلاء في طرف، وتوسط أهل السنة بينهم وجعلوا للعبد قدرة، وله إرادة واختيار، وجعلوا تلك القدرة خاضعةً لقدرة الله، مغلوبة بقدرته. فهذا معنى كون الدين الإسلامي بين الغالي والجافي، وبين القدري والجبري، وبين المشبِّه والمعطِّل، ونحو ذلك، أي وسط بين الطرفين. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 6 بيان معتقد المعتزلة قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ (فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً، ونحن بُرَآءُ إلى الله تعالى من كل مَن خالف الذي ذكرناه وبيناه، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به، ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الرديئة مثل: المشبهة، والمعتزلة، والجهمية، والجبرية، والقدرية، وغيرهم من الذين خالفوا الجماعة، وحالفوا الضلالة، ونحن منهم بُرَآء، وهم عندنا ضُلَّال وأردياء، وبالله العصمة والتوفيق) . الإشارة بقوله: (فهذا) : إلى كل ما تقدم من أول الكتاب إلى هنا. والمشبهة: هم الذين شبهوا الله سبحانه وتعالى بالخلق في صفاته، وقولهم عكس قول النصارى، فإن النصارى شبهوا المخلوق -وهو عيسى عليه السلام- بالخالق تعالى، وجعلوه إلهاً، وهؤلاء شبهوا الخالق بالمخلوق، كـ داوُد الجواربي وأشباهه. والمعتزلة: هم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزال وأصحابهما، سُمُّوا بذلك لما اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري رحمه الله تعالى في أوائل المائة الثانية، وكانوا يجلسون معتزلين، فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة، وقيل: إن واصل بن عطاء هو الذي وضع أصول مذهب المعتزلة، وتابعه عمرو بن عبيد تلميذ الحسن البصري، فلما كان زمن هارون الرشيد صنف لهم أبو الهذيل كتابين، وبيَّن مذهبهم، وبنى مذهبهم على الأصول الخمسة التي سَمَّوها: العدل. والتوحيد. وإنفاذ الوعيد. والمنزلة بين المنزلتين. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولبَّسوا فيها الحق بالباطل؛ إذ شأن البدع هذا، اشتمالها على حق وباطل، وهم مشبِّهة الأفعال؛ لأنهم قاسوا أفعال الله تعالى على أفعال عباده، وجعلوا ما يحسن من العباد يحسن منه، وما يقبح من العباد يقبح منه! قالوا: يجب عليه أن يفعل كذا، ولا يجوز له أن يفعل كذا، بمقتضى ذلك القياس الفاسد! فإن السيد من بني آدم لو رأى عبيده يزنون بإمائه ولا يمنعهم من ذلك، لعُدَّ إما مستحسناً للقبيح وإما عاجزاً، فكيف يصح قياس أفعاله سبحانه وتعالى على أفعال عباده؟! والكلام على هذا المعنى مبسوط في موضعه. فأما العدل: فسَتَرُوا تحته نفي القدر، وقالوا: إن الله لا يخلق الشر، ولا يقضي به؛ إذ لو خلقه ثم يعذبهم عليه يكون ذلك جوراً! والله تعالى عادل لا يجور، ويلزمهم على هذا الأصل الفاسد أن الله تعالى يكون في ملكه ما لا يريده، فيريد الشيء ولا يكون، ولازمه وصفه بالعجز! تعالى الله عن ذلك. وأما التوحيد: فسَتَرُوا تحته القول بخلق القرآن؛ إذ لو كان غير مخلوق لزم تعدد القدماء! ويلزمهم على هذا القول الفاسد أن علمه وقدرته وسائر صفاته مخلوقة أو التناقض! وأما الوعيد: فقالوا: إذا أوعد بعض عبيده وعيداً فلا يجوز ألَّا يعذبهم ويُخلف وعيده؛ لأنه لا يخلف الميعاد، فلا يعفو عمن يشاء، ولا يغفر لمن يريد عندهم! وأما المنزلة بين المنزلتين: فعندهم أن من ارتكب كبيرة يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر! وأما الأمر بالمعروف، وهو أنهم قالوا: علينا أن نأمر غيرنا بما أُمِرنا به، وأن نلزمه بما يَلْزَمنا، وذلك هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وضمَّنوه أنه يجوز الخروج على الأئمة بالقتال إذا جاروا! وقد تقدم جواب هذه الشُّبَه الخمس في مواضعها. وعندهم أن التوحيد والعدل من الأصول العقلية التي لا يُعلم صحة السمع إلا بعدها، وإذا استدلوا على ذلك بأدلة سمعية إنما يذكرونها للاعتضاد بها، لا للاعتماد عليها، فهم يقولون: لا تثبت هذه بالسمع، بل العلم بها متقدم على العلم بصحة النقل! فمنهم من لا يذكرها في الأصول؛ إذ لا فائدة فيها عندهم، ومنهم من يذكرها ليبيِّن موافقة السمع للعقل، ولإيناس الناس بها، لا للاعتماد عليها. والقرآن والحديث فيه عندهم بمنزلة الشهود الزائدَين على النصاب، والمدد اللاحق بعسكر مستغنٍ عنهم، وبمنزلة من يتبع هواه، واتفق أن الشرع ما يهواه! كما قال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذاً أنت لا تُثاب على ما وافقتَه من الحق، وتعاقَب على ما تركتَه منه؛ لأنك إنما اتبعتَ هواك في الموضعين، وكما أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والعمل يتبع قصد صاحبه وإرادته، فالاعتقاد القوي يتبع أيضاً علم ذلك وتصديقه، فإن كان تابعاً للإيمان كان من الإيمان، كما أن العمل الصالح إذا كان عن نية صالحة كان صالحاً، وإلَّا فلا، فقول أهل الإيمان التابع لغير الإيمان كعمل أهل الصلاح التابع لغير قصد أهل الصلاح، وفي المعتزلة زنادقة كثيرة، وفيهم من: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً} [الكهف:104]] . في هذه الخاتمة تكلم الماتن والشارح على هذه الفرق التي خالفت أهل السنة في الاعتقاد، ولا شك أن مخالفتهم عن عناد، وذلك لأنهم حكَّموا العقول في الشرع، ونظروا فيما يهوَونه، وفيما تميل إليه أهواؤهم، فاتبعوه، فصدق عليهم أنهم ممن اتبع هواه، أو ممن اتخذ إلهه هواه، ولا شك أن الهوى يُعمي ويُصم، وأنه ما تحت أديم السماء إله يُعبد أو يطاع من هوىً يُتبع، وهؤلاء ذكر لنا منهم طائفتين: الطائفة الأولى: المشبهة. الطائفة الثانية: المعتزلة. وهما في طرفي نقيض. فالمعتزلة نسميهم: معطِّلة. والمشبهة نسميهم: ممثِّلة. وقد قال بعض السلف: (الممثل يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً) . ويقول ابن القيم رحمه الله: لسنا نشبِّه ربنا بصفاتنا إن المشبِّه عابد الأوثان كلا ولا نخليه من أوصافه إن المعطل عابد البهتان ويقول بعضهم: من شبَّه الله تعالى بخلقه فقد كفر، ومن نفى وأبطل ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما أثبته الله لنفسه تشبيه. وهم يقولون: إثبات هذه الصفات التي وردت في الكتاب والسنة تشبيه، وذلك لأنها صفات موجودة في المخلوق، وإذا كانت موجودة في المخلوق وأثبتت للخالق فقد حصل التشبيه، ويعتمدون على مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فهم دائماً يعتمدونها، وهذا دليلهم السمعي، وأما دليلهم العقلي فهو المحكم عندهم دائماً، يجعلون عقولهم حاكمة على الكتاب والسنة، ولا يعترفون من الوحيين إلا بما يوافق أهواءهم، بل العمدة عندهم هو العقل. والمشبهة هم الذين غلوا في الإثبات، فجعلوا صفات الخالق كصفات المخلوق، فيقول أحدهم: لله أيدٍ كأيدينا، وله أعين وأرجل كصفاتنا، وله كذا وكذا، ويقولون: هذا ما يوجد وعندنا ما نشاهده، وإذا أخبرنا الله بشيء غائب وسماه قسناه على ما نعرفه ونشاهده. ويقال لهم: كل شيء له صفات تناسب ذاته، فكما أن لله تعالى ذاتاً لا تشبه الذوات فله صفات لا تشبه الصفات، فكما أن ذات الله تعالى لا تشبه ذواتنا فكذا نقول في سائر صفاته. أما المعتزلة الذين هم المعطلة النفاة فإنهم نفوا صفات الله التي هي صفات كمال، وجعلوها مجازاً، ولم يثبتوا لله لا صفات فعل ولا صفات ذات، فهؤلاء غلوا في النفي. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 7 أول من أسس مذهب المعتزلة وسبب تسميتهم المعتزلة كما ذكر الشارح أنهم حدثوا قديماً في أول القرن الثاني، أو في أول المائة الثانية، أو في آخر حياة الحسن البصري، خرج من حلقته رجل يقال له: واصل بن عطاء، هذا الرجل كان فصيحاً جريئاً في الكلام، ذكياً قوي العبارة؛ ولكن {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنَاً} [فاطر:8] . أول ما ظهر مذهب المعتزلة أنه جاء رجل يسأل الحسن البصري عن مسألة الكفر والإيمان والفرق بينهما، فتكلم واصل وقال: أنا لا أقول: إن العاصي مؤمن، ولا أقول: إنه كافر، بل هو في منزلة بينهما، فلا أحكم بأنه مؤمن فأعامله معاملة أهل الإيمان، ولا أحكم بأنه كافر فأقاتله كمقاتلتي للكفار، بل أجعله في منزلة بينهما. فعند ذلك أراد أن يقنعه الحسن فامتنع من الاقتناع، ثم اعتزل في ناحية من المجلس، فمجلس الحسن كان في جهة وهو في جهة، وجعل يقرر منهجه لِمَا أُعْطِيَه من بلاغة وقوة، وجعل الذين أعجبوا به يجلسون في حلقته، واعتزلوا حلقة الحسن البصري رحمه الله، فكلما جاء رجل من المبتدعة، وسأل عن مسألة وظهر أن في مسألته شيء من التعنُّت وشيء من الشدة قال له الحسن: اذهب إلى أولئك المعتزلة، أو يقول في جوابه له: عند أولئك المعتزلة، يعني: الذين اعتزلوا مجلس الحسن، فلُقبوا بالمعتزلة، واعترفوا بهذا الاسم. الآن يوجد منهم بقايا على مذهبهم كله، أو على بعض مذهبهم، وكثير ممن يُسمَّون أشعرية مذهبهم قريب في باب الصفات من مذهب المعتزلة؛ لأن الفرق يسير، كذلك الشيعة والرافضة، فعلماء الرافضة قديماً وحديثاً على مذهب المعتزلة، يوجد على مذهبهم طوائف كثيرة في كثير من البلاد، في الشام، وفي مصر، وفي العراق، وفي اليمن، وفي أفريقيا، وفي الباكستان، وفي كثير من البلاد العربية وغير العربية، يعني: لا نقول: إنهم انقطعوا؛ بل هم موجودون، وقد طبعت قريباً كتبٌ لواحد من أكابرهم، وهو القاضي عبد الجبار، وهو من أكابر المعتزلة، فله كتاب كبير اسمه: المغني، طُبع في نحو أربعة عشر مجلداً، ضمَّنه عقليات مذهبهم، والذين طبعوه أُعجبوا بأسلوبه، وبقوة تعبيره، وسبكه للكلام، وحققوه ونشروه، وطُبع له كتاب آخر اسمه: الأصول الخمسة، وهي التي ذكرها الشارح كما سمعنا، وهي أصولهم التي بنوا عليها مذهبهم، وقد ضمَّنها في ذلك الكتاب. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 8 أصول المعتزلة الخمسة أصول المعتزلة خمسة وهي: الأصل الأول: التوحيد: ويريدون به نفي الصفات، يقولون: إن الله إذا أثبتنا له سمعاً وبصراً وعلماً وحياةً وقدرةً، فما أثبتنا واحداً بل أثبتنا عدداً، فلا نثبت إلَّا واحداً، حتى نكون بذلك موحِّدين. يرد عليهم بأن يقال: إن الصفات من جملة الذات، فلا يكون هناك تعدد. فالحاصل أن أصلهم الأول: التوحيد الذي ضمَّنوه نفي الصفات. الأصل الثاني: العدل: وهو الأصل في هذا الكتاب الذي صنفه القاضي عبد الجبار منهم. والعدل عندهم معناه: نفي قدرة الله على أفعال العباد، يقولون: إن الله لا يخلق الذنب ثم يعاقب عليه، بل العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، فنفوا أن الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء. الأصل الثالث: المنزلة بين المنزلتين: وهو أن أهل الكبائر ليسوا بمسلمين ولا بكفار، بل في منزلة بينهما، ولا أدري من أين جاءوا بهذه المنزلة، وأهل السنة يقولون: إنهم مؤمنون ناقص إيمانهم، أو فسقة، أو مؤمنون بأصل الإيمان الذي في قلوبهم، وأما معاصيهم فسموا بها فسقة. الأصل الرابع: إنفاذ الوعيد: يقولون: الآيات التي فيها وعيد على ذنب لا بد من إنفاذه حتى لا يخلف الله وعده، فإذا وعد أهل الكبائر بأنهم في النار فلا بد أن يدخلوها، ولا يخرجون منها أبداً، فكل ذنب مات صاحبه مصراً عليه فإنه يعتبر كافراً، ويعتبر مخلداً في النار، هذا حكمه في الآخرة، ولذلك ينكرون شفاعة الشافعين ويقولون: ليس هناك شفاعة، من دخل النار من أهل الكبائر لا يخرج منها أبداً، بل هو مخلد فيها. الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويضمِّنون ذلك أن كل منكر رأوه فإنهم يقاتلون عليه، حتى ولو كان الذي أظهر المنكر وعمل به خليفةً أو إماماً عاماً أو ملكاً من الملوك، فهم يخرجون عليه، وأخذوه من معتقد الخوراج، فهم يستبيحون الخروج على الأئمة بمجرد الذنوب، وقد خالفهم أهل السنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأمراء العصاة ونحوهم: (اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك) ، ويقول في الولاة ونحوهم: (عليكم بالسمع والطاعة -أي: لولاة الأمور مهما كانت حالتهم- في المنشط والمكره، والعسر واليسر، والأثرة -أي: إذا استأثر عليكم بشيء فاسمعوا وأطيعوا- ما لم تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) . فهذه الأصول الخمسة هي التي بنوا عليها مذهبهم: 1- التوحيد. 2- العدل. 3- المنزلة بين المنزلتين. 4- إنفاذ الوعيد. 5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هكذا جعلوها معتقدهم، ودليلهم في ذلك هو العقل، ولا يعترفون بالسمع، والأدلة السمعية إذا جاءت موافقةً لمعتقدهم جعلوها زائدة على قدر الحاجة، كما ذكر الشارح أنهم يمثلونها بالمدد الذي جاء إلى الجيش بعد الاستغناء عنه، لو كان هناك جيشان متقاتلان ومتكافئان، هذا يكافئ هذا، وجاء لهذا الجيش مدد يقويه، فهذا الجيش الذي يقاتل يقول: لا حاجة لنا في هذا المدد، نحن نقدر أن نقاوم عدونا، وأن ننتصر عليه. فيقول: إن هذه الأدلة التي اعتمدوها هي أدلة عقلية، وجاءت الأدلة السمعية التي هي الآيات والأحاديث فلم يأبهوا بها، ويقولون: نحن في غنىً عنها، أدلتنا العقلية كافية ومقنعة، حيث إنا رجعنا إليها واقتنعنا بها، وجعلناها هي الأصل الأصيل، والأساس لمعتقدنا، ولا شك أن عقائدهم التي بُنيت على هذا العقل متهافتة؛ ولذا كثُر في باب العقائد اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله تعالى حجابهم، وكثر تناقضهم، ورجوع أكابرهم عما كانوا عليه. تأتي المسألة ويختلفون فيها، هذا يقول: العقل أقرها، وهذا يقول: العقل نفاها، كيف تكون مسألة واحدة ينفيها هذا بالعقل ويثبتها هذا بالعقل؟! فهذا دليلٌ على أن العقول ليست معتمَدة، بل العمدة على السمع، العمدة على الأدلة النقلية التي هي مسموعة مثبتة، جاءت من قبل الله العزيز الحكيم، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، فهذا هو المعتمَد الصحيح. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 9 بيان مذهب الجهمية قال الشارح رحمه الله: [والجهمية: هم المنتسبون إلى جهم بن صفوان الترمذي، وهو الذي أظهر نفي الصفات والتعطيل، وهو أخذ ذلك عن الجعد بن درهم الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط، فإنه خطب الناس في يوم عيد الأضحى وقال: أيها الناس! ضحوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مُضحٍّ بـ الجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً! ثم نزل فذبحه، وكان ذلك بعد استفتاء علماء زمانه وهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى. وكان جهم بعده بخراسان، فأظهر مقالته هناك، وتبعه عليها ناس بعد أن ترك الصلاة أربعين يوماً شكاً في ربه! وكان ذلك لمناظرته قوماً من المشركين يقال لهم السُّمَنية من فلاسفة الهند، الذين ينكرون من العلم ما سوى الحسيات قالوا له: هذا ربك الذي تعبده هل يُرَى أو يُشَم أو يُذاق أو يُلْمَس؟ فقال: لا. فقالوا: هو معدوم! فبقي أربعين يوماً لا يعبد شيئاً، ثم لما خلا قلبه من معبود يألهه نقش الشيطان اعتقاداً نَحَته فكرُه فقال: إنه الوجود المطلق! ونفى جميع الصفات، واتصل بـ الجعد. وقد قيل: إن الجعد كان قد اتصل بالصابئة الفلاسفة من أهل حران، وأنه أيضاً أخذ شيئاً عن بعض اليهود المحرفين لدينهم المتصلين بـ لبيد بن الأعصم الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فقُتل جهم بخراسان، قتله سلم بن أحوز؛ ولكن كانت قد فشت مقالته في الناس، وتقلدها بعده المعتزلة؛ ولكن كان الجهم أدخل في التعطيل منهم؛ لأنه ينكر الأسماء حقيقة، وهم لا ينكرون الأسماء بل الصفات. وقد تنازع العلماء في الجهمية هل هم من الثنتين وسبعين فرقةً أم لا؟ ولهم في ذلك قولان، وممن قال: إنهم ليسوا من الثنتين وسبعين فرقةً: عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط. وإنما اشتهرت مقالة الجهمية من حين محنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة، فإنه من إمارة المأمون قووا وكثروا، فإنه كان قد أقام بخراسان مدة، واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثمان عشرة ومائتين، وفيها مات، وردوا الإمام أحمد إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين، وفيها كانت محنته مع المعتصم، ومناظرته لهم بالكلام، فلما رد عليهم ما احتجوا به عليه، وبيَّن أنه لا حجة لهم في شيء من ذلك، وأن طلبهم من الناس أن يوافقوهم، وامتحانهم إياهم جهل وظلم، وأراد المعتصم إطلاقه، أشار عليه مَن أشار بأن المصلحة ضربُه؛ لئلا تنكسر حرمة الخلافة مرةً من بعد مرة! فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة، وخافوا فأطلقوه، وقصته مذكوره في كتب التاريخ. ومما انفرد به جهم: أن الجنة والنار تفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة فقط، والكفر هو الجهل فقط، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على سبيل المجاز، كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس، ولقد أحسن القائل: عجبت لشيطان دعا الناس جهرةً إلى النار واشتُق اسمه من جهنم وقد نقل أن أبا حنيفة رحمه الله سئل عن الكلام في الأعراض والأجسام فقال: لعن الله عمرو بن عبيد هو فتح على الناس الكلام في هذا!] . الجهمية طائفة من المبتدعة، ومن أقدمهم وأعرقهم في البدعة، وهم أتباع هذا الشيطان الذي وصفه هذا الشاعر بقوله: عجبت لشيطان دعا الناس جهرةً إلى النار واشتُق اسمه من جهنم فسماه: شيطاناً، وجعل اسمه مشتقاً من جهنم، وليس بين اسمه وبين اسم جهنم إلَّا زيادة النون، هذا الرجل ذكر أنه كان بخراسان التي تعرف الآن بإيران، ومن أين أخذ هذه المقالة؟ أخذها من شيخ قبله يقال له: الجعد بن درهم، والجعد أخذها من يهودي يقال له: طالوت وطالوت أخذها من خاله اليهودي الذي يقال له: لبيد بن الأعصم، وهو الذي عمل السحر للنبي صلى الله عليه وسلم، فكفاه الله شره وأبطل كيده، فرجع إسناد الجهم إلى اليهود أو إلى سحرة اليهود. وله إسنادٌ ثانٍ ذكره الشارح وهو أنه اتفق مرةً بفرقة يقال لهم: السُّمَنِية، وكانوا ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات، لا يقرون إلَّا بشيء رأوه بأعينهم، أو سمعوه بآذانهم، أو لمسوه بأيديهم، أو شموه بأنوفهم، أو ذاقوه بألسنتهم، أما الذي يُخبَرون عنه وهم لَم يروه فإنَّهم لا يقبلونه، هؤلاء ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات. لما لقوا هذا الرجل الذي هو الجهم شككوه في ربه فقالوا له: ربك الذي أنت تعبد، هل رأيته؟ قال: لا. هل سمعت كلامه إليك؟ قال: لا. هل لمسته؟ هل شممته؟ قال: لا قالوا: إذاً: ليس لك رب، إذاً: هو معدوم. فعند ذلك بقي متحيراً أربعين يوماً لا يصلي؛ شاكاً في وجود ربه؛ ولكنه بعد ذلك تذكر فقال لكبير أولئك السُّمَنِية: أليس لك روح؟ فقال: نعم. قال: روحك هذه التي تدخل في جسدك ثم تخرج منه وتدخل في الجسد وهكذا ثم تخرج منه، هل رأيتها بعينك؟ قال: لا. هل شممتها؟ هل لمستها؟ هل سمعتها؟ قال: لا. قال: فإذاً: هي موجودة وجوداً مطلقاً، فكذلك وجود الله وجود مطلق. فاعتقد الجهم أن وجود الخالق مجرد وجود دون أن تكون له ذات، بل الوجود المطلق بشرط الإطلاق. فبقي على هذه العقيدة وهي نفي الأسماء والصفات، فلا يثبت لله أسماءً إلَّا على الطريق المجاز، ولا يثبت لله صفاتٍ أبداً، بل كل صفاته ينكرها، حتى ولو كانت في كتاب الله تعالى، أو في الصحيحين، هذه عقيدته في باب الصفات. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 10 عقيدة الجهم في الإيمان والأفعال عقيدة الجهم في باب الإرجاء أنه يقول: لا يضر مع الإيمان ذنب، ويبيح للعاصي أن يكثر من كبائر الذنوب، فلا يضره لو سرق، ولو زنى، ولو قتل، ولو نهب، ولو سكر، ولو أكل مال يتيم، ولو فعل ما فعل، ما تضر الذنوب عنده. وعنده أن الإيمان هو مجرد المعرفة، يقول: إذا كنت عارفاً بالله فأنت مؤمن كامل الإيمان، والكفر عنده هو الجهل فقط، من كان جاهلاً بالله فإنه يعتبر عنده كافراً، وأما إذا كان يعرف الله معرفة الوجود المطلق، فإنه يسمى مؤمناً كامل الإيمان. ومن عقيدته أنه يقول بالجبر، فلا يثبت لله تعالى أفعالاً، وورثه الجبرية في ذلك، حيث ادعى أن العبد مجبور على أفعاله، ليس له أي اختيار، بل هو مجبور عليها ومقهور، ليس له اختيار أصلاً، هذه عقيدته! انفرد بثلاثة أشياء: بالتعطيل. وبالجبر. وبالإرجاء. وزعم أن الإيمان مجرد إثبات المعرفة فقط. وشيخه الذي أخذ العلم عنه وهو الجعد من عقيدته أنه ينكر الصفات، فمن جملة ما ينكره: صفة الخلة التي هي المحبة: فيقول: إن الله ما اتخذ إبراهيم خليلاً. وصفة الكلام: فيقول: إن الله تعالى ما كلم موسى تكليماً. فلأجل الكلمتين هاتين -إنكار الكلام وإنكار المحبة- قتله السلف، وأفتى العلماء بحل قتله، فقتله أمير في العراق يقال له: خالد بن عبد الله القسري وجعله كأضحية، ضحى به في يوم عيد وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍّ بـ الجعد بن درهم. شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان الجزء: 100 ¦ الصفحة: 11 بشر المريسي ونشره لمذهب الجهمية الجعد قتله خالد القسري، والجهم قتله سلم بن أحوز، فكل منهما قُتل، فدل على عظم ذنب كل منهما؛ ولكن مع الأسف بقيت عقيدتهما بعدهما، ما قتل الجهم إلَّا بعد أن أضل خلقاً كثيراً، وبعد أن تبعه أقوام وأفواج، وتمكنت عقيدته في إيران وفي تلك البلاد، ثم وصلت إلى العراق، فكان في العراق جهمي يقال له: بشر المريسي تقلد هذه العقيدة وكتب فيها كتباً، وقد رد عليه العلماء، ومن جملة من رد عليه: الإمام الدارمي في الرد المطبوع المسمى: رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد، وبيَّن في رده مذهب أهل السنة، وأبطل مذهبه الذي بناه على العقليات. وفي زمن المريسي لم يكن له قوة وصولة؛ ولكن بعد موت الرشيد وموت ابنه الأمين بن الرشيد تولى الخلافة المأمون، ولما تولاها استولى عليه هؤلاء الجهمية وقربوا منه، وزيَّنوا له هذا المذهب الباطل، فانتحله واعتقده، فعند ذلك دعا الناس إلى اعتناقه، وفتن الناس، وحصل أذىً كثيراً، حتى فُتن الأئمة وأُدخل السجون كثيرٌ منهم، وأُكرهوا على أن يعتنقوا هذا القول، فادعى كثير منهم ذلك من باب التخلص لا أنه من باب عقيدة، كـ يحيى بن معين وغيره، وأما الإمام أحمد رحمه الله فإنه أصر على عقيدته، وطلب منهم دليلاً يؤيدون به حجتهم، فلم يأتوه بدليل مقنع، فأصر على أن القرآن كلام الله، وأنه ليس بمخلوق، وعذبوه أشد العذاب؛ ولكن لم يزدد إلا تصلباً وتشدداً، فقال له بعضهم: لو قلت: إن القرآن مخلوق لخلصناك من هذا العذاب، فقال: لو قلتم: إن القرآن كلام الله لخلصتم من عذاب النار. والحاصل: أنه أصر على ذلك إلى أن جعل الله له فرجاً ومخرجاً، فتوفي المأمون قبل أن يصل إليه الإمام أحمد؛ ولكن تولى تعذيبه أخوه الذي استولى بعده، وهو المعتصم، إلى أن مات المعتصم والإمام أحمد لا يزال يُعذَّب أو لا يزال يُهان، وتولى بعده الواثق بن المعتصم ولكنه خفف المحنة، ولما مات الواثق تولى بعده ابنه المتوكل فنصر السنة وقرَّبها، وكبت أهل البدعة، وزالت دولتهم، ولا يزال لله تعالى قائم بالحق في كل زمان يجاهد في الله ويناضل. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 12 الأسئلة الجزء: 100 ¦ الصفحة: 13 شرح معنى قوله: (وأما التوحيد فستروا تحته القول بخلق القرآن) السؤال نرجو من فضيلتكم توضيح معنى قول الشارح: [وأما التوحيد فسَتَرُوا تحته القول بخلق القرآن، إذ لو كان غير مخلوق لزم تعدد القدماء، ويلزمهم على هذا القول الفاسد أن علمه وقدرته وسائر صفاته مخلوقة أو التناقض] ؟ الجواب يتكلم الشارح عما يعتقده المعتزلة، وذكرنا أن أول أصولهم: التوحيد، فيقولون: نحن نقول بالتوحيد، وهو أنه ليس لله إلَّا ذات، فلا نقول: إن الله متكلم، ولا نقول: إن القرآن كلام الله، بل القرآن مخلوق، كما أن الإنسان مخلوق، والسماء مخلوقة، والأرض مخلوقة، والجبل مخلوق، فالقرآن مخلوق! لماذا تقولون: إن القرآن مخلوق؟! يقولون: لئلا يلزم تعدد القدماء، إذا قلنا: كلام الله قديم، وذات الله قديمة، صار عندنا قديمان، فنقول: ذات الله قديمة فقط، والقرآن حادث ومخلوق. هكذا قالوا! فالتوحيد عندهم: إنكار كلام الله، وإنكار صفات الله. أما الرد عليهم فسمعنا كلام الشارح حيث يقول: يلزمكم أن تقولوا: إن الله مخلوق، وحياته مخلوقة، وسمعه وبصره مخلوقان، فتجعلون لله تعالى في ذاته ما هو مخلوق، وهذا لازم لهم لا محيد لهم عنه. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 14 الفرق بين المعتزلة والجهمية السؤال هل ينكر المعتزلة جميع الصفات؟ وما الفرق بين المعتزلة والجهمية؟ الجواب المعتزلة ينكرون جميع الصفات؛ ولكنهم يقرون بالأسماء، أما الجهمية فينكرون الأسماء أيضاً، ولا يعترفون لله تعالى بالأسماء، حتى كلمة (شيء) لا يقولون: إن الله شيء، إنما يعترفون بكلمة (موجود) ، أو يثبتون الوجود، هذا الفرق بينهما. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 15 الأشاعرة وما يثبتونه من الصفات السؤال ما هو مذهب الأشاعرة؟ وماذا يثبتون من الصفات؟ وما حجتهم؟ الجواب الأشاعرة حدثوا في آخر القرن الثالث، وانتسبوا إلى أبي الحسن الأشعري، وهو من ذرية أبي موسى، ويثبتون سبع صفات، وينكرون بقيتها، فيثبتون العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام والحياة، يثبتونها حقيقةً، ويجعلون الباقي مجازاً، هذا مذهبهم. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 16 المقصود بقول أهل السنة: إن الله خالق أفعال العباد السؤال من مذهب أهل السنة والجماعة أن الله خالق أفعال العباد، فما المقصود بذلك؟ وهل الخلق هنا هو المشيئة؟ الجواب من مذهب أهل السنة أن الله خلق أفعال العباد بمعنى: أنه هو الذي خلقهم وخلق أفعالهم؛ ولكن معلوم أن الله هو الذي هداهم، وهو الذي أقدرهم، وهو الذي قواهم، ولو شاء لما اهتدوا لفعل أفعالهم. وهو الذي يهدي هؤلاء بفضله، ويضل هؤلاء بعدله. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 17 جمع الجهم بين الإرجاء والتعطيل والجبر السؤال قلتَ: إن الجهم يرى الإرجاء، وأنه يقول: لا يضر مع الإيمان معصية، ولا مع الكفر طاعة، مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لا نعلم شخصاً بعينه قال بمقالة الإرجاء نصاً، فما رأيكم جزاكم الله خيراً؟ الجواب شيخ الإسلام هو الذي ذكر عن الجهم أنه يقول بالإرجاء، يعني: كونه لا يضر مع الإيمان ذنب، وذكر أن الجهم أيضاً هو الذي يقول بالجبر، أي: أن العبد مجبور على أعماله وسيئاته. فكونه يقول هذه المقالة فلعله يريد بذلك مَن بعدَه، يعني: قد يقال: لا نعلم أحداً اجتمعت فيه هذه الثلاث: التعطيل والإرجاء والجبر إلا الجهم. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 18