الكتاب: تفسير سورة الحجرات المؤلف: عطية بن محمد سالم (المتوفى: 1420هـ) مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 12 درسا] ---------- تفسير سورة الحجرات عطية سالم الكتاب: تفسير سورة الحجرات المؤلف: عطية بن محمد سالم (المتوفى: 1420هـ) مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 12 درسا] تفسير سورة الحجرات [1 - أ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 ترابط سور القرآن ببعضها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:1-5] . باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فقد تقدم أيها الإخوة الكرام الكلام على هذه السورة الكريمة في مدة زيارة الزائرين في موسم الحج، ولم نكمل الحديث عنها، وفي بداية هذه السورة الكريمة وفي استئناف الحديث عنها نجمل ما تقدم ليرتبط الماضي بالحاضر: تقدم في أول الحديث عنها تنبيه على مدى ربط سور القرآن بعضها ببعض، وهذا جانب عظيم في التفسير الكريم؛ إذ نلحظ جميعاً بيسر وسهولة ربط ما بين سورة الفاتحة وسورة البقرة، وكذلك قصار السور، يظهر ذلك الربط لقصر السور ولوحدة الموضوع فيها. فتجد في سورة الفاتحة بعد المقدمة بحمد الله وتنزيهه وتمجيده وتكريمه، والاعتراف له بالربوبية وإفراده بالعبودية والاستعانة يأتي قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، وهذا أعظم طلب يطلبه العبد لأنه يتعلق بأعظم مطلوب؛ لما فيه من سعادة الدنيا والآخرة، وتأتي سورة البقرة بعدها بعد مقدمة قصيرة (بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ) {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] . فكأنه الجواب على السؤال {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، فيقول تعالى: هذا الكتاب هو الهدى الذي تسألونه فالزموه. وكذلك نجد الربط بين سورة الحجرات وما قبلها وهي سورة الفتح؛ حيث تتحدث أواخر سورة الفتح على ما وقع في صلح الحديبية، فلما أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بينه وبين المشركين في المفاوضة على الرجوع والتحلل في مكانهم ثم العودة بعمرة أخرى من عام قابل، وعظم ذلك وشق على أصحابه أنهم لم يدخلوا مكة، ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد أعطى وعداً حتى قال: (والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) . وكان المولى سبحانه وتعالى أراد بهذا الصلح الفتح المبين، وذلك لما سأل عمر رضي الله تعالى عنه أبا بكر عما جاء في الاتفاقية مما ظاهره الحيف والهضم للحق، وإملاء القوي على الضعيف، حيث جاء في الصحيفة: إذا أتانا منكم أحد مرتد عن دينه فلا نرده عليكم، وإذا أتاكم أحد مسلم بدون إذن أهله رددتموه علينا. فقال عمر لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا عمر! إلزم غرزه إنه رسول الله. والكل يعلم أنه رسول الله، ولكن المراد بذلك لازم الخبر، فقد عمر يعلم أنه رسول الله، وقد آمن به رسولاً من عند الله، ولكن يريد أبو بكر مقتضى ذلك: وهو أنه يتبع الله فيما يوحي به إليه فالزمه. فذهب عمر إلى رسول الله، وعرض عليه ما عرض على أبي بكر، وسمع من رسول الله مثل الذي سمع من أبي بكر: (يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبداً) ، يقول عمر: فوالله ما زلت أصوم وأتصدق وأعتق أكفر عن تلك الكلمة؛ لأنني تقدمت بين يدي الله ورسوله باقتراح ما كان لي أن أتقدم به. ولما أمرهم بالتحلل وحلق الشعر ونحر الهدي، توانوا وكأنهم يتطلعون إلى حل آخر، ودخل صلى الله عليه وسلم على زوجه أم سلمة مغضباً، قالت: من أغضبك أغضبه الله؟ قال: (وما لي لا أغضب وأنا آمر أمراً فلا أُتبع، قالت: يا رسول الله! قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنساناً، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره، واحلق، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس) . فما إن كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا وتسابق القوم بالنحر والحلق، وأيقنوا أنه ليس هناك حل آخر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أمامهم. فتأتي آخر السورة: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح:27] ، لأنهم قالوا: ألم يعدنا رسول الله أنا نأتي البيت؟ فقال لهم أبو بكر: نعم، ونحن آتوه، وهل قال لكم: هذه السنة؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ستأتونه. {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] ، أي: لا مطرودين عنه كهذه السنة {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} [الفتح:27] ، أي: من دون ذلك الدخول الآمن {فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:27] ، ألا وهو صلح الحديبية. ونزلت السورة الكريمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عودته من الحديبية ليلاً، وكان عمر يمشي في آخر القوم مخافة أن ينزل فيه قرآناً مما جادل فيه رسول الله، فلم يلبث أن سمع صارخاً: يا ابن الخطاب! أجب رسول الله! ففزع لذلك وظن أنه قد نزل فيه ما يخشى، فلما أتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس. ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] ، وقرأ عليه سورة الفتح، فقال عمر: يا رسول الله! أوفتح هو؟ قال: نعم) . وفي عُرف العالم اليوم: أنه إذا كان هناك نزاع بين دولتين ثم توصلتا إلى المفاهمة، أو الجلوس على مائدة المفاوضات؛ كان ذلك شبه اعتراف من كل منهما بالجانب الآخر، وهنا كان صلح الحديبية بعد ست سنوات فقط من خروج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً مختفياً في الغار يسري ليلاً ويختفي نهاراً، فيرجع اليوم يريد مكة فيصل إلى حدودها، وتجلس معه صناديد قريش يفاوضونه على العودة على أن يخلوا له مكة في العام القادم، فيأتي ويعتمر آمناً ويرجع مطمئناً. إنه فتح عظيم، ويقدر علماء التاريخ قيمة هذا الفتح: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه من المسلمين في صلح الحديبية نحو الألف، فلما وقعت الهدنة، ووقع هذا الصلح والاتفاق، ساح المسلمون والمشركون في الجزيرة، فما لقي مسلم مشركاً عاقلاً يحدثه عن الإسلام إلا دخل فيه، فانتقل وانتشر المشركون في ديار المسلمين، وانتقل وانتشر المسلمون في ديار المشركين، ثم وقع بعد ذلك بسنتين فقط فتح مكة، وخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة بعشرة آلاف مقاتل. مرت تسع عشرة سنة من الوحي، وثلاث عشرة سنة منها في مكة، وست سنوات في المدينة؛ كانت حصيلتها ألف مقاتل، وبعد هذا الصلح تكون الحصيلة عشرة آلاف مقاتل. وفعلاً كان فتحاً مبيناً، فنزلت خاتمة سورة الفتح تبين للمسلمين حقيقة الموقف، ولماذا كف الله أيديهم عنهم: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25] ، أي: أن الله كف أيدي المسلمين عن دخول مكة مقاتلين ولو دخلوا لنصرهم الله، إلا أن في مكة من هو مسلم يخفي إسلامه، فلو دخلوا لقتلوا المسلم مع المشرك وهم لا يعلمون، فرجع المسلمون ونزلت السورة وفيها: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:27] . وهنا تأتي افتتاحية سورة الحجرات، وكأنها تتمة أو تعليق أو تنبيه أو تصحيح لما كان من أصحاب رسول الله في تلك الوقعة -أي: في صلح الحديبية- فيبين المولى تعالى ما ينبغي من الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إرشاداً لهم ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:1] ، إلزاماً لهم بمقتضى ما آمنوا به وهو أن يقبلوا كل ما جاء به وأن يكونوا تبعاً لله ولرسوله بمقتضى إيمانهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 التشريع حق لله ورسوله {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] . قوله: (تُقَدِّمُوا) ، هل هي (تتقدّموا) أو (تقدِّموا) ؟ فعلى أنها (تتقدموا) أي: تكونوا أمام رسول الله في الرأي، أو (تُقدِّموا) على أن تقترحوا عليه صلى الله عليه وسلم، وكلا الأمرين ممنوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 لا يجوز تقديم الآراء على شرع الله ورسوله لا يحق للمسلمين جميعاً ولو اجتمعوا أن يتقدموا على رسول الله بآرائهم ويتركوا رأي رسول الله، ولا يجوز لهم أن يقدموا بين يديه الاقتراحات لأنها مهما كانت فهي نتائج وحصائد عقولهم، أما هو صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] ، أي: كما قدم عمر، وكذلك الصحابة الذين تأخروا يريدون حلولاً أخرى، وقد أبرم صلى الله عليه وسلم الصلح الذي هو فتح مبين. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:1] ، هذه الآية الكريمة تأديب للأمة كلها في شخصيات أصحاب رسول الله فيما يتعلق بحق التشريع، فإنه لله ولرسوله، فالمعنى: لا تتقدموا بشيء على ما جاء من عند الله في كتاب الله، ولا على ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو أن العالم الإسلامي وقف عند هذه الآية وحقق مدلولها لكفاه ذلك، لأنه لا يحق للمسلمين ولو اجتمعوا أن يشرعوا شيئاً من عقولهم ما دام كتاب الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم. ولا يحق لأحد أن يتقدم بعمل يرجو ثوابه، ولا بعمل يخشى في تركه عقابه، إلا إذا كان لله ولرسوله، ومن هنا نبه صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، بمعنى أنه مردود عليه، فمهما كان العبد، ومهما كان المسلم، ومهما كان المسلمون جميعاً في عقولهم وذكائهم وفطنتهم، ونظرهم في المصالح، وادعائهم أي دعوى كانت؛ فليس لهم حق أن يرتقوا إلى منصب التشريع، ولا أن يتقدموا بأمر من الأمور إلا إذا كان عليه أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (ليس عليه أمرنا) ، لأن أمره من أمر الله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] ، و {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] . إذاً: هذه الآية الكريمة في مستهل هذه السورة الكريمة فيها تأديب للأمة، وتعريف لهم بالحق الواجب عليهم، من حيث الاتباع وحق التشريع، ولا يحق للعالم بأسره أن يشرع ما لم يأت به الله ولا رسوله، ويكفي ذلك تنبيهاً على كل تشريع من شرق أو غرب، من حضارة أو مدنية أو غيرها، فكل ذلك إن لم يكن تابعاً وموافقاً لكتاب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو مردود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 اجتهادات العلماء راجعة إلى كتاب الله الفرعيات والاجتهاديات إذا حدثت وتجددت؛ فإن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والذين أعطاهم الله البصيرة في دينهم وأنار قلوبهم بالتقوى التي أورِثوها، وبالزهد والورع، وبمخافة الله، وبنور الله في قلوبهم، فإنهم يجتهدون فيما استجد ويردونه إلى الأصول من كتاب الله وسنة رسوله، فهو أيضاً عمل بما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) . فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فهل وجدت ذلك في كتاب الله، قال: أتقرأين كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين -تعني: القرآن- فما وجدت فيه ما تقول. قال: لئن كنت قرأته أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ؟ قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه. قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه، قال: فاذهبي فانظري. فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئاً، فقال: لو كانت كذلك ما جامعتها. والشاهد من هذا أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه جعل سنة رسول الله من كتاب الله، ويقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان: السنة بأجمعها قطرة من بحر كتاب الله. أي في قوله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] . ووقع للشافعي رحمه الله أنه وقف في المسجد الحرام، وقال: يا أهل مكة! سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله. وهذه دعوى عريضة لا يقوى عليها إلا مثله، فقام شخص وقال: أخبرنا عن المُحرِم يقتل الزنبور ماذا عليه؟ الزنبور حشرة أكبر من النحلة ولسعته شديدة، ويقولون: إن سبعة منه كعقرب، وكما قيل: دويبة حمراء في بردة حبِرة. فقال: يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ، ويقول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ، وحدثني فلان عن فلان -وذكر السند إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه-: أنه سُئل عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه؟ فقال: لا شيء عليه، فلا شيء على المحرم يقتل الزنبور في كتاب الله. فانظروا أيها الإخوة! إلى هذه الدرجات وتلك المراتب في الاستدلال والربط والتأكد! فكأن الشافعي رحمه الله يقول: أنا من الراسخين في العلم؛ سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله، ولكن كلنا يعلم أن الزنبور ليس في كتاب الله، وكنت حاولت إحصاء ما ذكر من تلك الحشرات والحيوانات والطيور؛ فإذا بها تزيد عن الثلاثين صنفاً ليس منها الزنبور، فمنها العنكبوت والبعوض والذباب والنحل، ولكن كلمة زنبور ليست موجودة في كتاب الله، والشافعي يرد هذه الجزئية التي جاء السؤال فيها على سبيل التعنت إلى كتاب الله؛ لأن السائل رأى دعوى الشافعي في ذلك، فقام وأتاه بما لا يمكن أن يخطر على البال، وكما قيل: لا يفل الحديد إلا الحديد. فكان موقف الشافعي رحمه الله أن يتدرج في مراتب الاستدلال، فيبدأ بكتاب الله، فيجد كتاب الله يحيل على سنة رسول الله، وسنة رسول الله تحيل على الخلفاء الراشدين، ويُروى عن أحد الخلفاء الراشدين الحكم في هذه المسألة، فيعزوه الشافعي إلى كتاب الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 شروط الإفتاء الذي ينسب إلى الكتاب والسنة أيها الإخوة! في هذه الآونة قد نسمع ونرى الكثير مما لا ينتهي منه العجب؛ من أن بعض الأشخاص يكون قد بدأ في طلب العلم ولم يبلغ به شأواً، فإذا به ينصب نفسه للفتوى فيما علِم أو لم يعلم، وما عَلِمَه فلا ندري أيكون علمه فيه صحيحاً أو غير صحيح! ويا ليتهم يقفون عند ذلك في حق أنفسهم، بل يتعدى ذلك إلى الآخرين، فيفتون الآخرين بما يعلمون أو لا يعلمون، ثم يتعدى ذلك إلى أن يعيبوا من يخالف ما هم عليه وإن كانوا هم محدودي العلم والتحصيل وغيرهم أوسع علماً وأكثر تقوى لله وأكثر تحصيلاً، وأدعى أن يتبع من غيره، وهم أيضاً لا يتورعون أن يبدِّعوا من خالفهم، أو أن يبدعوا من قال بغير قولهم. وإنا والله لنحزن لذلك، ونسأل الله تعالى لنا ولهم الرجوع إلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ينقل ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله عن الشافعي رحمه الله: لا يحق للقاضي أو المفتي أن يقضي أو يفتي إلا إذا عرف حكم الله في كتاب الله وأقوال أهل التأويل في تأويله، وعلم سنة رسول الله وأقوال العلماء فيها، والإجماع والقياس، والخلاف إن وجد وما اختلفوا فيه. فيا أيها الإخوة! تلك الشروط وهذه المعايير التي ذكرتها عن الشافعي يجب أن تتوفر فيمن نصب نفسه للإفتاء لأنه ليس بالأمر الهين، وإن من عوفي ولم يكلف ذلك من ولي الأمر، ينبغي أن يحمد الله إذ لم يلزم بالإفتاء، وعليه ألا يحمل نفسه ما لا طاقة له به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 تورع العلماء في الفتوى وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يأتيه المستفتي في هذا المسجد فيقول: سل المفتي الرسمي، فإن هناك مفتياً نصبه ولي الأمر وهو مسئول عن ذلك، أو يقول: سل غيري، فأقول له: إذا لم تفتِه أنت فمن الذي يفتيه؟ إنك تقصد للفتوى في مسجد رسول الله. فيقول: إذا كنت في عافية من ذلك فما الذي يلزمني؟ وهل أضمن أن أصيب ولا أخطئ؟! وهل أعلم أن سؤاله له دليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله فأجيبه، وكيف أجتهد؟ وهل أضمن في اجتهادي الصواب؟ وجاءه إنسان وألح عليه، وقال: يا شيخ! جئتك أمس فرددتني وطوّفت المسجد فلم أجد من يفتيني، فماذا أصنع؟ قال: سل هذا. وأشار إلي، وقال: هذا قاض في المحكمة، فسله يفتيك، فقلت: يا شيخ إذا امتنعت أنت عن الفتوى كيف أفتيه أنا؟ قال: لا علي، فقلت: اجلس، أنا سأفتيك والشيخ يسمع، فإن كان صواباً أقره، وإن كان خطأً فلا يحق له السكوت عليه، ثم أفتيته، فقال الرجل: ماذا تقول يا شيخ في ذلك؟ قال: قد أفتاك القاضي. قال: أريدك أنت. قال: خيراً والحمد لله. ويذكر العلماء أن الرجل كان في عهد التابعين يسأل فيُحال من عالم إلى عالم -وحسبك بعلماء التابعين- حتى تنتهي به الإحالة إلى الأول، وكلهم كان يفر من الفتوى، ويقولون: أجرأ الناس على الفتوى أجرؤهم على النار. فنحن نُحذِّر إخواننا وأبناءنا من أن يتسرعوا إلى منصب الفتوى قبل أن يستحقوا ذلك حقاً، وكان مالك رحمه الله يقول: ما جلست للفتوى والدرس إلا بعد أن شهد لي سبعون عالماً في مسجد رسول الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 أهمية التلقي عن الشيوخ واجتناب الشذوذ وجاء عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه جاءه رجل وقال: يا أبا حنيفة! في المسجد حلق فتيان يتناظرون في الفقه، قال: ألهم رأس؟ قال: لا، قال: لن يتفقهوا أبداً. ويعني بـ (رأس) أي: شيخ أو أستاذ يرجعون إليه فيما يختلفون فيه. فإنه قد يجتمع جماعة لهم حماس وحسن نية -على ما نحملهم عليه بحسن الظن- وهم راغبون في الخير، ولكن ليس كل راغب في الخير يصيب طريقه، فيجلسون يتذاكرون، ويتحادثون، ويتناقشون، ولكن ليس لهم رأس يرجعون إليه، وليس بين أيديهم كتاب يقرءونه، ويأخذون عن مؤلفه وما يعزوه إلى سلف الأمة. فما يقع منهم إنما هي حواصل مناظرات أو مدارسات أحصوها، ثم يناقش بعضهم بعضاً، وهذه ليست طريقة علم، ولا سيما إذا ابتلي البعض بتتبع شواذ المسائل. يقول عمر رضي الله تعالى عنه وهو على المنبر: أحرِّج على كل مسلم -أي: أجعله في حرج وضيق، وأضيق عليه- أن يحدث حديثاً ليس العمل عليه. لأن في تتبع الشواذ إثارة للفتن، وكما قال ابن عبد البر: ما تتبع إنسان شواذ المسائل إلا وحرم العلم؛ لأنه يقضي حياته في تتبع تلك الشواذ! وللأسف كل الأسف أننا نجد الآن رسائل كتبت في الحج أو في غيره، وفيها أحاديث ينص عليها من رواها بأنه لم يعمل بها أحد -وهذا موجود بأيدي الناس- يفعل ذلك من تتبع الشواذ وعُرِف بذلك. أيها الإخوة الكرام! لو أن المسلمين التزموا تعاليم هذه الآية فقط لسلموا وبقوا على الصراط المستقيم بعيدين عن الشواذ، بعيدين عن الابتداع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 آداب الأمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] ، أي: لما تقولون ولما تتقدمون به، عليم بما تفعلون وعليم بما تقدمتم به، والله تعالى أعلم. تأتي الآية الكريمة بعدها بأدب آخر في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نبهنا سابقاً على أن السورة في مجملها سورة الآداب آداب مع الله آداب مع رسول الله آداب مع نبي الله آداب في حضرته آداب في غيبته آداب معه كربِّ أسرة في حجراته ثم بعد ذلك آداب مع الجماعة الإسلامية، وطوائف المسلمين، ثم آداب الأفراد في حد ذاتهم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله؛ فالآية الأولى في بيان الآداب مع الله ورسوله من حيث التشريع والاتباع. النداء الثاني في الآية الثانية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] . في الآية الأولى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] ، فوصفه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وفي الآية الثانية وصفه بالنبوة: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] . والحكمة أنه في الموقف الأول عُطِف الرسول على الله سبحانه وتعالى في مجال التشريع وهو منهل واحد، لأنه لا ينطق عن الهوى وإنما يأخذ عن الله، وهذا بجانب الرسالة؛ لأنه يأتي برسالة للأمة، أما الموقف الثاني فهو النبوة، وهو تكريم لشخصه صلى الله عليه وسلم بصفته نبياً بأدبين كريمين: الأول: النهي عن رفع الصوت فوق صوت النبي حتى ولو كان بقراءة القرآن في مجلسه، أو بندائه ودعائه، بل يغض الصوت فلا يرفع صوته على صوت النبي، فلو كان يتحدث بينهم لا يكون صوت أحدهم أرفع من صوت رسول الله، وهذا غاية في الأدب؛ لأن من يرفع صوته عند غيره لا يكون مؤدياً كل واجبات الأدب بل يكون مخلاً بالأدب والاحترام، ونحن نعلم أو نرى المجالس ذات المستويات العالية فلا نجد إنساناً مهما كانت مكانته يرفع صوته على كبير المجلس، وهكذا يأمر الله سبحانه وتعالى الأمة أن تتأدب مع رسول الله في نوعية المحادثة وكيفيتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 نوع الحديث الذي يطرق مع الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يأتي الأدب الثاني: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات:2] ، يظن بعض الناس أنهما شيءٌ واحد، ولكن الحقيقة أنهما أمران مختلفان، فالأول: في رفع الصوت من حيث هو، ولو كان بتلاوة القرآن، والثاني: نوعية الحديث ما هي؟ حديث أدبي، ديني، اقتصادي، عائلي، ما هو الموضوع؟ {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ، أي: لا تجعلوا أحاديثكم مع رسول الله في الأمور التي تجعلونها بين أنفسكم في خلواتكم؛ لأن الإنسان مع صديقه وزميله قد يتحدث في أمور يستحي أن يجهر بها ويعلنها عند من هم أكبر منه سناً، أو منزلة. فمثلاً: الأولاد فيما بينهم يتحدثون في أمور بيتهم أو شخصياتهم، فإذا دخل أبوهم غيروا مجرى الحديث، لأنهم لا يريدون أن يسمع الأب ذلك الحديث. لو كان إنسان في دور الخطوبة والزواج، وجلس مع زملائه الذين سبقوه بالزواج يتحدثون عن آداب الزواج وكيفية المعاشرة وشيء من ذلك، فإذا دخل عليهم رجل كبير ولو لم يكن أب واحد منهم غيروا مجرى الحديث؛ لأن هذا الحديث ينبغي أن يكون سراً وليس جهراً. إذاً فالمعنى: اجعلوا حديثكم مع رسول الله على مستوى عال من مكارم أخلاق، والتعلم في الدين، والاسترشاد في أمور الدنيا، وليس مما تنزلون بمستواه إلى ما لا تحبون أن يسمعه من هو أعلى منكم سناً أو مرتبة. ويذكر علماء التفسير أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قادماً إلى بيت رسول الله، فسمع وهو على الباب قبل أن يستأذن امرأة تشتكي من زوجها فيما يكون من شأن الفراش بين الزوجين، فنادى خالد بن سعيد أبا بكر من عند الباب: يا أبا بكر! ألا تنهى هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأن الجهر بمثل ذلك لا يليق بالمستوى، مع أنه صلى الله عليه وسلم هو المشرع وهو المرجع في كل صغيرة وكبيرة، ولكن لكل مقام مقال. أيضاً: المرأة التي سألت رسول الله: يا رسول الله! هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فغطت أم سلمة وجهها وقالت: فضحت النساء عند رسول الله؛ سلي بعض زوجاته تسأل لك رسول الله، أي: كيف تجاهرين بهذا مباشرة مع رسول الله؛ لأن الحديث سيأتي بصورة ذهنية عما ذكرته المرأة، فيتصور الإنسان بمخيلته امرأة في فراشها ترى ما يرى الرجل، وهذه الصورة يتأبّى عنها كل أديب وكل ذي خلق كريم، لكنها أدخلتها على ذهنه إجباراً عليه، ومن هنا قالت أم سلمة: فضحت النساء. هل نهرها صلى الله عليه وسلم؟ لا، لأن عليه البيان، فقال: (نعم، إن هي رأت الماء) . هذا أمر تشريعي، أم سلمة استحت منه، ولكن لضرورة التشريع لابد منه، لكن إذا لم يكن الأمر مما يستدعي ذلك، وأرادوا الحديث فلا ينبغي هذا. ومما جاء أيضاً: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم في حجرتي، وكان مضطجعاً وفخذه باد، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حالته، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حالته، ثم استأذن عثمان فاعتدل وغطى فخذه وأذن له. تقول عائشة رضي الله تعالى عنه: فلما خرجوا قلت: يا رسول الله استأذن عليك أبي فأذنت له وأنت على حالك، واستأذنك عمر فأذنت له وأنت على حالك، واستأذنك عثمان فنهضت وسترت فخذك، فلماذا؟ فقال: (ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة) ، هذه ناحية، الجواب الثاني وهو عملي، قال: (إن عثمان رجل حيي وإني خشيت أن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته) . انظروا إلى هذا الحال. الرسول مع أبي بكر وعمر لكن لما علم من عثمان شدة حيائه خشي أن يرى عثمان ذلك فلا يطلب ولا يسأل حاجته، وربما ينصرف، فقابله بما يمكن أن يكون وسيلة أو طريقة لما يصل بها عثمان إلى حاجته. إذاً: الأقوال أو المجالس أو الأحاديث تتفاوت، ولكل مقام مقال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 لا يجوز التقدم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالآية الثانية أدب الأمة مع رسول الله كنبي صلوات الله وسلامه عليه في شخصيته وذاته بعدم رفع الصوت، وبعدم الجهر له بالقول، وإذا كان الأمر كذلك في حياته صلوات الله وسلامه عليه؛ فإننا نأتي إلى التطبيق العملي، من إجماع المسلمين من أن الآيتين يجب تطبيقهما بعد مماته كما طبقتا في حياته صلى الله عليه وسلم. فالآية الأولى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ} [الحجرات:1] ، فلا يجوز التقدم عليه بشيء، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما) ، كذلك لا ينبغي لأحد أن يتقدم على سنة رسول الله التي هي مسطَّرة بأيدي العلماء، وموجودة في سجل السنة المشهورة عند الجميع، فلكأنه صلى الله عليه وسلم حيٌ بين أظهرنا بوجود الكتاب والسنة. وهنا أيضاً: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات:2] ، نهى عمر رضي الله تعالى عنه عن رفع الصوت في مسجد رسول الله حتى لا يقع من يرفع صوته في نطاق الآية الكريمة، وسَمِع رجلين يتحدثان في المسجد النبوي بصوت مرتفع، فقال: عليّ بهذين، فأُتي بهما ترعد فرائصهما، فنظر إليهما فقال: أغريبان أنتما، قالا: بلى، من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل هذه البلدة لأوجعتكما ضرباً، أترفعان أصواتكما عند رسول الله؟ وهذا بعد موته صلى الله عليه وسلم. وكان التحديث سابقاً إذا كثر الطلاب وكان الصوت محدوداً أن يُوقف رجال على منتهى الصوت فيسمعون من المحدث ما يقول ويجهرون به ويسمعون من خلفهم، وهكذا ويتم نقل الحديث عن طريق المبلغين كما كان الحال في المبلِّغة المؤذن يرفع صوته بتكبيرات الإمام لكي يُسمع من في مؤخرة المسجد، فقيل لـ مالك: اتخذ مبلغين فإن الحلقة قد زادت، ومن في آخر الحلقة لا يسمع منك؟ فقال: أخشى أن أدخل في قوله سبحانه: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] ، مع أن ابن عبد البر بوب في كتابه جامع بيان العلم وفضله: جواز رفع الصوت بالعلم، وذكر قضية إسباغ الوضوء، ونداؤه صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته، وبعض الأدلة الأخرى. الذي يهمنا أن هاتين الآيتين محكمتين إلى اليوم، ويجب تطبيقهما عملياً، سواء من جانب الرسالة أو من جانب النبوة. ولهذا اتفق العلماء على أن من أراد أن يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إلى الحجرة الشريفة ويستقبل الوجه الكريم، وأن يسلم بصوت ليس فيه ارتفاع وليس همساً بحيث يسمع نفسه، أو يسمع من بجواره، ولا يرفع صوته على صوت رسول الله، ويقول مالك رحمه الله: من ظن أن وفاة رسول الله تنقص منه قدر شعرة فقد كفر بما أنزل على محمد لأن الله سبحانه يخبر عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وما الشهداء جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها إلا حسنة من حسنات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأن الأنبياء أحياء في قبورهم، ولكنهم في حياة برزخية لا يرتقي العقل إلى كيفيتها، ولا إلى إدراك كنهها، كما قال تعالى: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران:169] ، والذي عند ربنا ليس عندنا، ولا نستطيع أن نتصور أي شيء من ذلك. وعليه فالآيتان محكمتان مطبقتان، ويجب الالتزام بهما إلى اليوم وإلى ما شاء الله، وبالله تعالى التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 حبوط الأعمال برفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] ، العمل لا يحبطه إلا الردة عياذاً بالله، فمن ارتد عن الإسلام حبط عمله، كما قال الله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] ، وحاشاه أن يشرك، ولكن هذا خطاب للأمة في شخصيته. فيقول العلماء: مجرد رفع الصوت عند رسول الله لا يحبط العمل، وقد كان ثابت بن قيس وهو خطيب رسول الله ثقيل السمع فكان يرفع صوته عند رسول الله، وله قصة وذلك أنه لما نزلت الآية دخل بيته وقال لزوجته: سمري علي الباب لقد كنت أرفع صوتي عند رسول الله، فقد حبط عملي وأنا من أهل النار، فافتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يومين، فسأل عنه، فقال جار له: أنا آتيك بخبره، فدخل عليه: يا ثابت أين أنت؟ قد افتقدك رسول الله، لماذا غبت عنه؟ قال: ألم تعلم ما أنزل الله في رفع الصوت عند رسول الله، وأنا رجل جهوري الصوت قد حبط عملي وأنا من أهل النار. فعاد الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالجواب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل هو من أهل الجنة) . فلما أخبره قال: اكسر الباب، وخرج وأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد وكان من أهل الجنة. فيقول العلماء: إحباط العمل بأن يرفع صوته وهو يرى أن لنفسه حقاً، أو يرى لنفسه ما يستوجب ذلك، ولربما خطر بباله شيءٌ في شخصية رسول الله بأن يرفع صوته عنده بلا مبالاة، فيكون عندها إحباط العمل. (وأنتم لا تشعرون) : بذلك لأنه أمرٌ خفي ودقيق جداً، ولهذا يقول سبحانه: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات:2] ، بما عساه أن يخطر ببال الواحد منكم في حق رسول الله. وقد سأل رجلٌ مالكاً رحمه الله وقال: أريد أن أحرم من هذا المسجد -والرسول صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة- فقال له مالك: لا تفعل. قال: لماذا؟ قال: أخشى عليك الفتنة. قال: وأي فتنة، إنما هي خطوات أزيدها على ميقات رسول الله. قال: أخشى أن يخطر في بالك أنك زدت خطوات لم يخطها رسول الله في إحرامه، فتظن أن إحرامك خير من إحرام رسول الله فتفتن في دينك. وهكذا دقة الملاحظة أيها الإخوة، وبالله تعالى التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الأسئلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الفرق بين الرسالة والنبوة السؤال ما الفرق بين الرسالة والنبوة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب هذه قضية طويلة يبحثها علماء المصطلح، فكثير من العلماء يقول: إن النبوة والرسالة سواء، ولكن من حيث الاشتقاق اللغوي: النبوة أو النبوأة بالهمز، فالنبوة من النبْوة، والمكان النابي هو المرتفع، والنبوأت من النبأ، والنبأ: الخبر المهم، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1-2] ، وكلا المعنيين يصدق على النبي المرسل، والنبيء: الذي يأتي بالنبأ عن غيره إلى غيره، وهو عين الرسول. فبعض العلماء قالوا: النبي والرسول سواء. ولكن جرى على ألسنة العلماء أنه صلى الله عليه وسلم نُبِّئ باقرأ، وأُرسل بالمدثر، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] ، و {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] ، فقالوا في الاصطلاح: النبي من قام بدعوة من كان قبله يطبقها. أي: أنه لم يوح إليه بشيء مستقل، كحواريي عيسى مثلاً، أو عيسى بما جاء في التوراة عن موسى عليه السلام، والرسول من جاء برسالة مستقلة. وعلى كل فالمسألة اصطلاحية والخلاف موجود، ولكن التحقيق: أن هناك فرقاً، وفي تتمة أضواء البيان عند سورة (اقرأ) بدا لي -والله تعالى أعلم وأبرأ إلى الله- بأنه أرسل باقرأ، لأنه يقرأ لمن، وعلى من؟ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} [العلق:1-6] . وهذه لا تختص به صلى الله عليه وسلم، إنما أقرئها ليقرأها على غيره، ولو كانت خاصة به في شخصه لما كانت في كتاب الله، ولا أدرجت في المصحف مع القرآن الكريم، ففي نظري والله تعالى أعلم أنه أرسل من أول يوم بدأه الوحي بسورة اقرأ. ولكن لا نستطيع أن نقول ذلك؛ لأن العلماء الأجلاء الذين سبقونا ولهم الفضل في ذلك، وأعلم بهذا، إنما فرقوا بين النبوة والرسالة وجعلوا النبوة باقرأ والرسالة بالمدثر، والله تعالى أعلم. ويقولون في الاصطلاح: كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم ... ) السؤال ما الراجح في سبب نزول هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات:2] الآية؟ الجواب التطلع إلى سبب النزول كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في رسالة أصول التفسير: يعين على فهم الآية؛ لأن سبب النزول عند الأصوليين قطعي الدخول. قالوا: جاء وفد وفيهم الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: (يا رسول الله! أمر فلاناً علينا، فقال عمر: لا يا رسول الله! أمر فلاناً) فتلاحى الشيخان ورفعا صوتيهما بين يدي رسول الله، حتى قال القائلون: كاد أن يهلك الشيخان. وإذا كان سبب النزول في أبي بكر وعمر فهي عامة في جميع المسلمين، والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 تفسير سورة الحجرات [1 - ب] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 جزاء امتثال الأمر بغض الصوت بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: فقد تقدم الكلام على الآيتين الكريمتين في أول السورة الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] ، والتي تليها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] ، إلى آخر الآية. وهنا يأتي قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3] . في الآية التي قبلها (لا تَرْفَعُوا) ، وهذه الآية بيان لمفهوم المخالفة؛ لأن من لم يرفع صوته يغضه، وهذا في النسق القرآني الكريم يدل على الترابط بين الآي والآي. ويقول علماء الأصول: إن النهي عن الشيء أمر بضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده، ويمثلون: إذا قلت لإنسان: اسكن، فقد أمرته بالسكون ويتضمن النهي عن الحركة، وإذا قلت له: صم، فإنك أمرته بالصوم ونهيته عن الأكل والشرب ومبطلات الصوم. ففي الآية الأولى (لا تَرْفَعُوا) ، وعكس رفع الصوت غضه. فالآية الكريمة الثالثة جاءت بنص مفهوم الآية التي قبلها، وبيّن سبحانه مكانة من تأدب بأدب القرآن ونتيجة هذا الامتثال، إذا قيل لهم: (لا ترفعوا أصواتكم) ؛ فحالاً يمتثلون ويغضون الأصوات، وبيّن نتيجة هذا الامتثال السريع فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ) . ومجيء (إن) هنا راجعة لتبعيض الصوت، أو راجعة لتبعيض الغض منه، فقد يضطر الإنسان في حالة شديدة ويرفع صوته ليبلغ مسامع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الحالة لا يعاب عليه؛ لأنه لا يمكن أن يصل إلى ما يريد إلا بهذا النوع من رفع الصوت، فلا يكون في ذلك ارتكاب للمنهي عنه، أما في الأمور العادية فلا يرفع صوته بل يغض منه. والغض من الشيء: التنقيص منه، كما في غض البصر، فهو كف البصر عن النظر إلى منتهاه، وإنما يغض بصره ويكفه عما لا يحل له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 حالات جواز رفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذه الآية يبيِّن سبحانه وتعالى جزاء الذين امتثلوا بالأمر السابق (لا تَرْفَعُوا) ، أو بالنهي المتقدم وغضوا أصواتهم (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ) . إذاً: الظرف هنا معين، بغير ما لو لم يكن عندهم رسول الله، وقد يضطره الرسول بنفسه، وقد يضطره غيره بحضرته صلى الله عليه وسلم لمصلحة عامة، كما جاء في غزوة حنين لما فوجئ المسلمون بنبل الأعداء فانصرفوا وولوا الأدبار فوقف صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة وأعلن ونادى: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) . وهذا في عرف العسكريين في غير شخصية رسول الله مخاطرة، ولكن هذا من الأدلة على ما كان صلى الله عليه وسلم يتمتع به من الشجاعة والقوة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقولون: نُرَى أنه أعطي قوة أربعين رجلاً منا. والعادة العسكرية أنه حينما ينكشف الجند في المعركة فالقائد يخفي نفسه؛ لأنه المسئول عن سير المعركة، فإذا قُتل القائد ذهبت قوة الجيش واضطربت أموره، فالقائد يكون دائماً في مؤخرة الجيش أو في مكان آمن، ويخفي نفسه، وقد قيل: إن هتلر كان يدير المعارك في منطقة في الجو. الذي يهمنا في هذه الحالة: أنه صلى الله عليه وسلم بعد قرار أصحابه وانكشافهم عنه، وقف وأعلن عن نفسه: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ، ثم قال للعباس: (نادي أصحاب السمرة) . والسمرة: الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان، أي: الذين بايعوا رسول الله على الموت في سبيل الله، وقيل: على أن لا يفروا، وقد رضي الله عنهم، {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] ، فنادى العباس بأعلى صوته، فنادى وجهر بالصوت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلحة. ويقولون: إن العباس رضي الله تعالى عنه كان إذا صاح في البرية ربما فزعت الوحوش من صوته، وإذا وقف في المدينة كانت له أرض بالغابة، وإذا أراد من عماله شيئاً جاء إلى سلع ونادى إلى عماله فبلغ صوته عماله في الغابة. إذاً: قد يتطلب رفع الصوت في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 امتحان الله للمؤمنين بأوامره لهم قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3] . الامتحان في اللغة: التخليص، ومنه: عرض الذهب على النار؛ لأن الذهب من حيث هو: ذهب معدن نفيس لا تحرقه النار، ولا تنقص من معدنه شيئاً، وإذا ما وضع على النار وأذيب ليست له فقاقيع كالزيت أو كالرصاص أو غيره، إنما يتموج متماسكاً كالزئبق. والذهب من حيث هو: معدن نفيس لا يصلح للصياغة خالصاً، ولابد أن يضاف إليه معدن فيه صلابة، وهو النحاس، فيضاف مثلاً إلى الثمن ثلاثة قراريط من الأربعة والعشرين؛ حتى يمكن أن يصاغ فيصير صلباً صالحاً للاستعمال. ونحن نسمع: عيار (21) ، وعيار (18) ، وعيار (20) ، فكيف يتوصلون لذلك؟ في دُور الدمغ أو الضرب والصك يأخذون من السبيكة التي وزنها -مثلاً- كيلو جرام، عشرة جرامات أو جرامين فيعرضونها لنار مرتفعة إلى درجة مائتين فهر نهايت، فتذيب الذهب وتحرق ما معه من معدن آخر ويتبخر ويتلاشى، ويبقى المعدن الصافي من الذهب، فيعيدون وزن الباقي، ويقارنون بينه وبين وزنه قبل الاحتراق -كم نقص وتبخر؟ - فيعرفون الجزء المضاف إلى الذهب، ويعرفون كم عيار هذا الموجود، فيكتبون عيار كذا، بنسبة ما فيه من معدن أجنبي عنه، ويقولون لك: عيار كذا، أو كذا. بقدر ما فيه من ذهب خالص. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ} بمعنى خلّص، كما أن امتحان الذهب بالنار يخلصه من شوائب أي معدن آخر. إذاً: قلوبهم أصبحت أوعية للتقوى، وليس في قلوبهم شيءٌ آخر قط غيرها، فطهرت ونقت، وتعطرت واستقبلت التقوى في تربة خصبة خالصة لا تشوبها شوائب أخرى. بمثل هذا تكون التقوى في قلوبهم ذات فعالية قوية، بخلاف ما إذا كانوا خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهذا أمر متموج، وبخلاف ما إذا كان خالصاً صافياً إلى آخر أمره، فهؤلاء بمقتضى صفاء قلوبهم، وما خلصت فيه من التقوى، يكون العكس في ذلك هو غض الصوت عند رسول الله؛ لأن رفع الصوت عند إنسان ليس دلالة على احترامه وتوقيره، وغض الصوت عند إنسان دلالة على توقيره واحترامه، ولو لم يكن له سلطان عليه، ولكن إكراماً وإجلالاً له، كما قيل: أهابكِ إجلالاً وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها فيهاب ويوقر لا لمخافة ولا لذلة، ولكن توقيراً ومحبة لمن يهابه ويوقره بغض الصوت عنده، وهذا هو غاية إكرامهم وتأدبهم ومحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 مغفرة الله لذنوب المؤمنين قال الله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ، إذا كان عظيم يستعظم شيئاً: أيكون هذا الشيء بنفسه عظيماً أم حقيراً؟ العظيم لا يستعظم الحقير. لو أن الحقير استعظم شيئاً نقول: صحيح؛ لأنه أعظم منه؛ لأنه حقير، لكن عظيم يستعظم شيئاً معناه: أن ذلك الشيء هو في ذاته عظيم، فإذا كان المولى يقول: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ، لا يقدر قدر هذا الأجر الذي استعظمه الله إلا الله، ويكفي في وصف الجنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) . والمغفرة: الستر، ومنه المِغفر الذي يغطي به الفارس رأسه عند القتال، فالمغفرة وغفران الذنوب هو تغطيتها وسترها، والعفو إزالتها ومحوها نهائياً. فهؤلاء الصنف من الناس الذين تأدبوا بأدب القرآن، وأصبحوا يغضون أصواتهم عند رسول الله لهم هذا الأجر العظيم. وتعقيباً على ما تقدم عند السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب على الإنسان أن يغض من صوته ولا يرفعه، وسيأتي بيان خلاف ذلك، وماذا قال الله تعالى فيمن يفعل ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 أدب نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 ترابط الآيات للدلالة على الآداب لاحظوا هذا النسق القرآني الكريم: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} ، {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} ، {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} ، هل الذي ينادي إنساناً من وراء بيته: أغض من صوته أم جهر بالقول؟ بل جهر بالقول. وارتكب عدة أخطاء أدبية. وهذه الآية الكريمة اشتملت على أنواع من الآداتب التي ينبغي أن نتأدب بها في حق النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: الآية الأولى: أدب للأمة في حق الرسالة، أن يتبعوا ولا يبتدعوا. والآية الثانية: توقير للرسول صلى الله عليه وسلم في شخصيته بالنبوة. والآية الثالثة: بيان لمفهوم المخالفة للأمر الذي تقدمها. وتأتي هذه الآية وتبين من لم يغض من صوته بعدما نهي عنه {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} ويلزم غض الصوت، وتأتي الآية الرابعة لبيان ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} ، الحجرات: جمع حجرة، والحجرة: السكن. إذاً: أدب الأمة في حق النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته كرب أسرة، وبيان أن للبيوت حرماتها، وخاصة حجرات رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ليس من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات والآداب أن يأتي الإنسان من تحت النافذة ويقول: يا فلان، {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189] ، وتستأذن بلطف، وتتجافى عن الباب، ولا تأت مقابل الباب فتفاجئ من يأتيك، بل تستأذن وبلطف. {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] ، قد يكون صاحب البيت معذوراً، قد يكون في حالة لا يريد أن تراه عليها، وقد يكون مشغولاً بما هو أهم. إذاً: صاحب البيت أدرى بحالته، إن أذن لك دخلت، وإن لم يأذن لك انصرفت ولا تغضب، فهو أزكى لك وأطهر وأنقى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 معذرة الإخوان لبعضهم فيما بينهم جاء العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم ومعه عبد الله بن عباس وما زال فوجد الباب مفتوحاً، فاستأذن العباس على رسول الله ثلاث مرات فلم يأذن له، -ويقولون كان في بني هاشم حدة- فعاد مغضباً، فأدرك الغلام أن أباه غضب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأذن له بالدخول، فقال: يا أبت! لا تغضب لعله مشغول مع الرجل الذي هو جالس عنده، قال: أوعنده رجل؟ قال: بلى. قال: ما رأيته، قال: بلى رأيت رجلاً عنده يحادثه، فجاء راجعاً، ولما جاء راجعاً استأذن فأذن له، فقال العباس: يا ابن أخي جئت فاستأذنت عليك ثلاث مرات فلم تأذن لي، وقال لي الغلام: لعلك مشغول بالرجل الذي كان عندك، وأنا لم أر أحداً، وجئتك الآن فأذنت لي لأول مرة، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغلام وقال: (رأيته؟ قال: نعم. قال: ذاك جبريل) فهو لم ينتبه له حتى يأذن له أو لا. وأيضاً: قد يمر الإنسان على أخيه وهو مشغول البال أو تأتي مناسبة فيناديه أو يكلمه فلا ينتبه له، ففي هذه الحالة عليه أن لا يأخذ في خاطره ومما يروى في ذلك أن عمر رضي الله تعالى عنه خرج يوماً فمر على عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فوجده جالساً في طريقه وهو ذاهب إلى بيت أبي بكر فسلّم عليه فلم يرد عليه السلام، فلما دخل على أبي بكر قال: أشكو إليك أخاك عثمان، مررت عليه جالساً في مكان كذا، وسلمت عليه فلم يرد علي سلام. وهذا من حق الأخوة أن لا يبقيها في صدره حتى تسوء الصلة بين الإخوان، بل حالاً استفسر عنها، ولا تتركها، ليكون القلب على أساسه {امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3] ، فما انتهى عمر من كلامه إلا وعثمان يستأذن على أبي بكر رضي الله عنهم. فقال له أبو بكر: ما لك يا أخي عثمان على أخيك عمر يسلم عليك فلم ترد عليه السلام؟ قال: ومتى هذا؟ وأين؟ فقال عمر: وأنت جالس في مكان كذا. قال: والله ما سمعتك ولا شعرت بك. وهنا انتبه عمر رضي الله عنه وظهرت حقيقة الأخوة، فقال: فيما كنت مشغولاً إذاً؟ وهذا يهم عمر، لأن أخاه مشغول البال، فلعله يساعده فيما شغل به، ويخفف عنه، فقال: فيم كنت مشغولاً إذاً؟ قال: جلست أتفكر ثم عرض لي ميراث الجد والإخوة، فكنت أفكر وأقول: يا ليتنا كنا سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكمه فقال: والله ما أخرجني من بيتي إلا هذا. إذاً: الإنسان قد يأذن لمن يستأذن عليه، وقد لا يأذن له أو لا يسمعه، والإنسان قد يحدث أخاه أو يسلم عليه وهو لم يشعر به سواء لثقل في السمع، أو لقلة في الصوت، أو لانشغال البال، فإذا حدث ذلك فلا ينبغي أن يحمل على أخيه. وبهذه المناسبة أيضاً: جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إذا بلغتك مقالة عن صديق لك أو أخ لك مسلم، وفيها خمسون احتمالاً على معنى سيء واحتمال واحد لمعنى حسن فاحملها على المعنى الواحد الحسن ولا تظن بأخيك شراً) . وكنت أسمع والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: (الشائع عندنا في بلادنا من باع أخاه بخمسين زلة باعه بيعة وكس) ، يعني: بيعة رخيصة. إذاً: يجب على الإنسان أن يغتفر لأخيه إساءته، وأن يصرف ما وصله من أخيه على أحسن احتمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 ثبوت إمكانية رؤية البشر للملائكة لما استأذن العباس رضي الله عنه ولم يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ في نفسه فأخبره الغلام بأنه شاهد عنده رجلاً وهذا من الشواهد على أن الملائكة عالم موجود، وإن كانوا عالماً نورانياً خفياً عن أبصارنا فإن رؤية واحد من البشر لواحد من الملائكة، ممكنة، كما يقال: الواحد بالجنس كالواحد بالكل، فإذا وُجِد واحد من الملائكة رآه واحد من البشر، فيمكن لجميع البشر أن يروا جميع الملائكة؛ لأن ما جاز على الفرد جاز على المجموع. وهذا من الشواهد، وكذلك ما جاء في حديث عمر: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد) وهذا يبين دقة عمر في الاستدراك. إذا كان بهذه النظافة والأناقة، ولم يكن مسافراً ولم نعرفه، فليس من أهل المدينة فنعرفه، وليس قادماً من سفر فيكون أشعث أغبر. إذاً: من أين أتى؟ هل طلع من تحت الأرض أو نزل من السماء؟! يقول عمر فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم. كما في حديث جبريل الطويل، فلما ولى قال: (إنه جبريل) . إذاً: رآه كل من كان في المسجد، ثم قال: (أتاكم يعلمكم دينكم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 سبب نزول قوله تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) يقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات:4] نداء الإنسان في بيته من وراء الحجرات يتنافى مع الآداب العامة. {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات:5] ، ومع ذلك مادام أكثرهم لا يعقلون {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:5] . ويذكرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة: أنه وفد من تميم -وكان المسلمون قد أخذوا لهم أسارى- جاءوا يفادونهم، {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا} ، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم فادى البعض وأطلق البعض عفواً، لو صبروا لكان قد أطلق الجميع. وقد كان مجيئهم في وقت القيلولة، ووقت القيلولة حق لكل إنسان أن يستريح ويقيل فيه، وكان الواجب أن ينتظروا حتى يخرج لصلاة العصر ويكلمونه، لكنهم ما صبروا، فنادوه في وقت الراحة يريدونه أن يخرج إليهم في وقت قيلولته. فأزعجوه وأقلقوه وواجهوه بكلمات ما كان يريدها، ولما نادوه ما أجابهم أولاً، فقالوا: يا محمد! اخرج إلينا، جئنا نفاخرك، والمفاخرة والمنافرة معروفة عند العرب: المفاخرة: أن يأتي وفد إلى وفد ويذكر كل وفد مفاخر قومه فينا فلان الكريم فينا فلان الشجاع فعلنا من المكرمات كذا وكذا، ويكون هناك حكم من أهل العقل والروية يعرف طباع العرب فيحكم لمن يكون الفخار في هذه المفاخرة. وكذلك المنافرة: تكون فيما بينهم من عداء وانتصارات ووقائع، فكانت هذه طريقة عند العرب وهي طريقة جاهلية وقد يتفاخرون بأمور جاهلية لا أصل لها. فقال صلى الله عليه وسلم: (ما بالفخار بعثت) أي: أنتم جئتم لشيء أنا ليس لي به شأن، أنا لم أبعث بالفخار، إنما بعثت بالإسلام والإيمان والتواضع. إلى آخره. فقال أحدهم: (اخرج إلينا فإن مدحي زين وذمي شين) ، يعني: إن جئتنا مدحناك، وإن لم تخرج هجوناك أو ذممناك. (وذمنا شين) : أي: يطير عند العرب ويلصق بك (ومدحنا زين) : يطير عند العرب ويكون فخراً لك. هذا على مقاييس الجاهلية، فهم ما ارتفعوا إلى مستوى النبوة، ولا إلى ما هو عليه صلى الله عليه وسلم، ونسوا أنفسهم أنهم بشر كغيرهم، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: (ذاك الله عز وجل) . أي: أن الله إذا مدح إنساناً فذاك المدح هو الزين، وأن الله إذا ذم إنساناً فذاك الذم هو الشين، لا ينقطع عنه. فمثلاً: مدح الله سبحانه وتعالى أهل بيعة الشجرة فقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] امتدح الله أولئك فكان هذا المدح شرفاً لهم إلى يوم القيامة، وذم أبا لهب وزوجه فقال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] من يستطيع أن يمحو هذا أو يرفعه عنهما؟ لصقت فيه وفي زوجه إلى يوم القيامة. إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له مناديهم أو أميرهم: (إن مدحي زين وذمي شين) ، قال له: (ذاك الله عز وجل) ، لأن من مدح الله كان ممدوحاً وثبت له المدح إلى يوم القيامة، ومن ذمه الله لصق به هذا الذم إلى يوم القيامة، وهذا تصحيح للمفاهيم. وأخيراً: خرج إليهم صلى الله عليه وسلم، فقال الأقرع بن حابس أو أميرهم: أتأذن لشاعرنا أن يتكلم -وكل كتب التفسير تذكرها خاصة أبو حيان وابن كثير - فقام شاعرهم وفاخر بقومه في الحروب والغنائم فدعا رسول الله حسان وقال: (يا حسان أجبه) ، فقام وأجابه على نفس الروي، وافتخر بوجود رسول الله وباتباعه وبنزول القرآن عليهم وبهدايتهم إلى الإسلام، ثم قال: ائذن لخطيبنا، فقام خطيبهم وخطب، وطلب من ثابت بن قيس الذي جاء ذكره سابقاً وهو ثقيل السمع، وكان خطيب رسول الله، فقام فخطب، ثم قال أمير الوفد: والله إن هذا الرجل لمؤتى -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- شاعره إن من شاعرنا، وإن خطيبه لأفصح من خطيبنا وأسلموا، ثم فادوا نصف القوم، وأطلق صلى الله عليه وسلم لهم النصف الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 دفاع الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات:4] ، لما كانوا ليسوا كلهم سواء بل (أَكْثَرُهُمْ) . إذاً: البعض منهم عنده عقل {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} ، فمن لم يعقل فهو في حكم الجاهل، ولما كانوا على حكم الجهالة كان الحكم في الأخير {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، لجهالتهم. هذه الآية تعتبر دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في من جاءوا وانتهكوا حرمة بيته وهو موجود فيه كرب أسرة. وكما تقدم أنه قد يكون للشخص الواحد عدة جوانب، وكل جانب له لوازمه، فتأتي مثلاً إلى أمير دائرة، وهو رئيس الدائرة في دائرته له الرئاسة والأمر والنهي، إذا خرج إلى السوق ليتقضى بعض الشيء فهل أوامره التي يصدرها في الدائرة يملك أن يصدرها في السوق؟ لا. فهو في السوق مثله مثل غيره. إذا عاد إلى البيت، فهل منزلة الرئاسة وسلطانها تُفرض على البيت؟ الطفل الصغير يرد عليه ويعصي أوامره. إذاً: جانب هذا الإنسان في رئاسته له حدود، وله صفات، وجانبه في السوق له مواصفات وحالات، وجانبه في البيت له صفات وحدود، فكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. في جانب الرسالة له حقوق الرسالة والاتباع، وفي جانب شخصه وتكريمه ونبوته له التوقير والتعظيم، وفي جانب كونه رب أسرة وفي بيته له جانب احترام حرمة بيته، وهكذا له عدة جوانب، وسيأتي الجانب الأخير بعد هذه الآية الكريمة. من هنا أيضاً أيها الإخوة نرجع ونقول: كما أن الآيتين المتقدمتين معمول بهما إلى اليوم وإلى قيام الساعة في أنه لا يحق للمسلمين أن يتقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا بين يدي سنة رسوله الموجودة الآن عوضاً عنه، وكذلك لا ينبغي لهم أن يرفعوا أصواتهم عنده حين السلام عليه، فكذلك هنا لا ينبغي لهم أن يأتوا من البعد وينادوا من وراء الحجرات للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) عن هذا النداء (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) في احترامهم لرسول الله، وفي توقيرهم لحرمة بيت رسول الله، وفي الأمر الذي جاءوا من أجله وهو مفاداة الأسارى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 عتاب الله لداود عليه السلام لتركه حوائج الناس دائماً نقارن بين هذا الموقف: دفاع المولى عن رسوله صلى الله عليه وسلم فيمن أخطأ عليه، وبين قضية نبي الله داود، حينما كان يعتكف في محرابه وجاء إليه الخصمان وتسورا عليه، بأنه كان الفرق في ذلك في توجيه الله لنبي الله داود في موقفه في محرابه، وثمة فرق بعيد بين أن يدافع الله عن رسوله ممن جهل حرمة بيته، ومن يرسل إليه الملائكة يتسورون عليه المحراب، وذلك كما في سورة ص: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17] {فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص:22] إلى آخر الأبيات. فنبي الله داود قد آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب، وجعله خليفة في الأرض ليحكم بين الناس، فهذه مهمته وهذا منصبه وهذه مؤهلاته، لكنه قسم زمنه إلى أثلاث: يوم لأهل بيته وشأنه الخاص، ويوم يجلس فيه للحكم بين الناس، ويوم يخلو ويعتكف لله سبحانه وتعالى في محرابه، ولكن هل الرسل بعثوا ليعتكفوا في المحاريب؟ وهل القضاة يتركون القضاء بين الناس ويعتكفون؟ لا. فأداء الواجب مقدم على ذلك، فلما حصل من داود عليه السلام ما حصل وكان الخلطاء في حالة لا ترضى، بعث الله له ملكين تسورا عليه المحراب ففزع منهم، قالوا: نحن خصمان بغى بعضنا على بعض، وذكرا له القضية، وهي قضية محلولة لا تحتاج إلى قضاء، رجل عنده تسعة وتسعين نعجة والثاني عنده واحدة، فقال صاحب: التسعة والتسعين: أعطنيها أكمل المائة، وهذا ظلم لو عرضته على طفل صغير لقال: لا. هذا ظالم، ولا حاجة إلى قاضٍ صاحب اجتهاد قد أوتي الحكمة. هل سمعتم بأن اثنين بغى بعضهما على بعض، وقالوا: يا أيها القاضي احكم بيننا، حتى في أيامنا المدعى عليه ظالم ويعرف ذلك ولكنه يحتاج إلى مراسلة عشرين مرة، ويحتاج إلى إرسال الجنود حتى يأتوا به، متغيب ويعرف نفسه أنه ظالم، ونحن كلنا متفقون على هذا. إذاً القضية منتهية. لكن ليرشد نبي الله داود بأن مهمته ليست الاعتكاف {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [ص:24] ، سبحان الله، {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص:24] ، أي: بترك الخلطاء يبغي بعضهم على بعض وهو معتكف في محرابه، وما دمت تعترف بأن الخلطاء يبغي بعضهم على بعض فلماذا تتركهم ومهمتك الأساسية الخلافة في الأرض، وقد آتيناك الحكمة وفصل الخطاب؟ لماذا تعطل هذا وتأتي إلى محرابك تعتكف؟ هذه هي حقيقة الفتنة المذكورة في سورة ص، ولن يكون للمرأة دخل في هذه القضية البتة؛ لأن الله قدم لهذه القصة، فقال: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا) وإضافته بصفة العبودية أعظم في التكريم {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} [ص:17] ، صاحب القوة المعنوية، والقوة المادية، {إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17] ، شديد الأوب والرجوع إلى الله. {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:18-19] سبحان الله! إنسان أعطي القوة، ويسخر الله الجبال معه بالتسبيح، ويجمع الله الطير عليه حينما يسبح فتسبح معه، وهو شديد الأوب إلى الله ويفتن بامرأة؟! والله ولا حتى المجنون يصدق هذا. إذاً سياق القصة يدل على نزاهة نبي الله داود، وأن حقيقة الفتنة هو ما ذكر، {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص:24] . إذاً: ما دام تعلم ذلك، وهذه هي الفتنة، وهل تكون الفتنة في العبادة؟ نعم. معاذ رضي الله تعالى عنه كان يسهر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي وراءه العشاء في المسجد النبوي، وبعد أن يصلي مع رسول الله يذهب إلى أهل قباء فيصلي بهم العشاء، وفي ليلة من الليالي بدأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، {الم} [البقرة:1] ، إلى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا} [البقرة:285] ، جاء رجل من مزرعته متعب في عمل نهاره ودخل معه في صلاة العشاء، لما وجده بدأ بسورة البقرة واسترسل فيها، قال: والله لن يرده شيء حتى يختمها، وانفصل عنه وأتم صلاته وذهب إلى بيته، فلما أصبح أُخبر معاذ بذلك، قال: إنه رجل منافق، وكلمة منافق ليست هينة على المسلمين وخاصة في الصدر الأول، فذهب الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشتكاه، وقص له القصة، فدعاه رسول الله: (ما هذا يا معاذ؟ أتريد أن تكون فتاناً) ، فسمى رسول الله الإطالة في القراءة والقيام على الناس الضعفاء فتنة، ثم قال (من أم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف وذو الحاجة، أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى، والضحى، والليل إذا يغشى) . أين أنت من قصار السور ولا تشق على الناس في طول القيام فتفتنهم. إذاً: قد تكون الفتنة في العبادات، وهذا نبي الله داود عليه السلام في محرابه لما ترك المهمة التي من أجلها استخلف، ومن أجلها أوتي مقوماتها، وهي الحكمة وفصل الخطاب، وترك الخلطاء -وهم الرعاة- يبغي بعضهم على بعض، عندها ترك مهمته الأساسية؛ فكان الفساد يعم خارج المحراب وهو ساكت عنه وهذا لا ينبغي، ولهذا كنا دائماً ننبه فيما يتعلق بآيات الصيام، عند قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] : إن كل من تتصل به مصلحة الجماهير لا يحق له أن يعتكف ويعطل مصالح المسلمين إلا إذا كان هناك من ينوب عنه، حتى قلنا: يدخل فيهم السقايين والفرانيين وعمال النظافة؛ لتعلق مصالح المسلمين بهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 مكوث النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة الناس عاتب الله سبحانه وتعالى الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، وهناك عاتب الله داود عليه السلام الذي كان معتكفاً وراء الأسوار، وفرق بين هذا وبين ذاك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مكوثه بين الناس واعتكافه في المسجد وأبوابه مفتحة، وما امتنع في لحظة من الحظات عن الناس بخلاف صلاة الليل أو موضع النوم فهذا أمر يشترك فيه الجميع، وإلا فقد كان من صلاة الفجر إلى صلاة العشاء وهو في مصالح الناس، كما جاء عن جميلة بنت فلان أنه صلى الله عليه وسلم خرج لصلاة الفجر فإذا سواد عند البيت، فقال: (من هذه؟ قالت: جميلة بنت فلان، قال: ما شأنكِ؟ قالت: زوجي فلان لا أنا ولا هو، فاستمهلها حتى صلى واستدعى زوجها وقال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم أردها وزيادة، قال: أما الزيادة فلا، فقال له: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) . فهذا رسول الله في مصالح المسلمين من طلوع الفجر. وأبعد من هذا: رجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع أصحابه وقال: (يا رسول الله! لي بعير قد ندّ عليَّ، عنده جمل هاج عليه، فما دخل الرسول في هذا؟ ولكن {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فقال: قوموا بنا إلى بعيره، فلما أقبلوا على البستان والبعير، قال أبو بكر: على رسلك يا رسول الله الجمل هايج، قال له: (بل على رسلك أنت يا أبا بكر) ، وتقدم ودخل البستان على الجمل الهايج، فلما رأى الجمل أن رسول الله قد دخل البستان أقبل عليه ووضع عنقه على كتفه، وصبر وأصغى إليه رسول الله. سليمان يقول: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} [النمل:16] ، وهذا يستمع لمن؟ للجمل، ولذا يقول السيوطي رحمه الله: ما أوتي نبي معجزة إلا وأوتي نبينا نظيرها. ثم رفع البعير رأسه والتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحبه وقال: (يا صاحب البعير! بعيرك يشتكي -يعني: حصلت بينكما خصومة- قلة العلف وكثرة الكُلف) ، هذه العبارة كما يقولون: تعطي قانون توازن الحياة بكاملها عند الإنسان والحيوان وكل الكائنات. قانون المبادلة بين البعير وصاحبه؛ يعطيه العلف فيعطيه العمل، فإذا قلل في العلف قلت قوة البعير بقدر ما أعطاه، وإذا زاد في العلف زادت قوة البعير، وزاد في عمله الذي يعطيه، فبقدر البدل يكون المبدل، وأنت تذهب للسوق وتدفع وتأخذ، تدفع عشرة ريال تأخذ كذا، تدفع ألف ريال تأخذ أكثر، تدفع مليون ريال تأخذ عمارة، وقانون المبادلة هو الذي يسير العالم بين الإنسان والإنسان في المعاوضات، وبين الإنسان والحيوان في التكليف، حتى قالوا: هناك قانون للمعاوضة والمبادلة قائم بين الحيوانات نفسها. وذكروا أن التمساح حينما يأكل فريسته في الماء؛ فإنه لا يستطيع أن ينظف أسنانه كما تفعل الهرة وبقية الحيوانات، فالهرة إذا أكلت بلسانها نظفت نفسها كأحسن ما يستاك المسلم، لكن التمساح لا يستطيع؛ لأن طواحينه فيها شوك في الأركان الأربعة مثل الإبر، فلا يستطيع أن يمرر لسانه عليها وينظفها، فيخرج إلى البر ثم يأتي طائر خاص من أنواع الطيور ويقع في وسط فم التمساح، ويأخذ يلتقط تلك الفضلات الموجودة على طواحينه، فمن جهة يشبع الطائر، ومن جهة يتنظف فم التمساح. وقد سألت طبيباً بيطرياً عن السبب في أن هذا الطائر بالذات هو من يفعل هذه المهمة؟ فوصفه لي بأن حجمه بقدر الحمامة الصغيرة. قال: هذه قدرة الله، وهذا ما اختص الله به هذا الطائر؛ لأن الله جعل لهذا الطائر شوكة فوق رأسه، فلا يستطيع التمساح أن يطبق فمه عليه، فهو يخاف من تلك الشوكة. سبحان الله العظيم! إذاً: قانون المعاوضة هو الذي يحكم تصرفات العالم من إنسان وحيوان وحيوان. حتى الأرض والتربة؛ إذا أعطيت التربة سماداً وماءً وخدمة أعطتك إنتاجاً أحسن، وإذا أهملتها ما أعطتك أي شيء، وهكذا. وعوداً على ذي بدئ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحتجب عن الأمة، وما كان يمنع أحداً من الوصول إليه، وكما قالت المرأة التي مر عليها في المقبرة ووجدها تبكي عند قبر لها فقال: (يا أمة الله اتقي الله واصبري، فلم ترفع رأسها، وقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي فأتاها إنسان، وقال: أتدرين من كان يكلمك؟ قالت: لا، قال لها: هذا رسول الله) ، فأسفت المرأة على هذه المواجهة وتبعته، فكان قد وصل البيت فأتته وقالت: والله ما وجدت على بابه حارساً ولا باباً مقفلاً. يعني: ما كان عنده حراس يمنعون الناس من الدخول عليه حتى بالليل، وكان صلى الله عليه وسلم يتخذ حراساً، ولكن لما نزلت المعوذتان قال: (انصرفوا عني، لا حاجة لي بكم) ، فهنا ما كان يمتنع عن أحد، فما كان هناك موجب ولا داعي لأن يأتي إنسان أو وفد وقت القيلولة أو الراحة وينادي: يا محمد اخرج إلينا، فهذا منافٍ للآداب، ومنافٍ للحقوق النبوية، والرسول صلى الله عليه وسلم ما تأخر عنهم. والذي يهمنا مما سبق: هو المقارنة بين دفاع الله عن رسول الله فيمن ناداه من وراء الحجرات، وبين عتاب الله لنبي الله داود في اعتكافه وراء المحراب من أجل مصالح الناس، والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 مكانة الحجرات في تبليغ الشرع هنا لفتة قد يتساءل عنها كل عاقل، وهي: ما مكانة تلك الحجرات النبوية؟ كل إنسان يعتقد بأن الله قد شرفها سبحانه وتعالى بما وجه إليها زوجات رسول الله، فقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] ، ويتفق المسلمون على أن الحكمة المذكورة مع آيات الكتاب هي السنة، وكن زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ينشر السنة للمسلمين، وكل ما اختلفوا فيه من بعد وفاته عليه الصلاة والسلام أو أشكل عليهم ولم يجدوا له حلاً ولا جواباً يرجعون فيه إلى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجدون الجواب والحل العملي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا وجدت قضايا عديدة ذكرها مالك رحمه الله في الموطأ، منها: من أصبح جنباً في رمضان؛ هل له صوم أم لا؟ ومنها: قضية عمر فيمن جامع أهله ولم ينزل هل عليه غسل أم لا؟ ولم يجدوا عند أحد نصاً في ذلك، فأرسلوا إلى زوجات رسول الله فأجابوا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحة الصوم ووجوب الغسل، وغيرها إذاً: فالحجرات كان لها شأن كبير في إبلاغ السنة وبيان الأحكام، ويوم أن هدمت وأدخلت في المسجد في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة لبني أمية، قال بعض السلف: ليتها بقيت ليرى الناس ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي القادمون من الآفاق فيرون كيف كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من التواضع والرضا بما قسم الله له: ولو أفردت الحجرات برسائل جامعية لكانت حرية بذلك، والله تعالى أعلم. وبالمناسبة كانت الحجرات مطيفةً بالمسجد من الجنوب من ناحية القبلة، وتبدأ بحجرة حفصة، وهناك الطاقة المواجهة تجدون جدار القبلة كله مصمت ما عدا طاقة مقابل الحجرة النبوية، كانت هناك حجرة حفصة، وكان هناك دار آل الخطاب، وكان بين حفصة وعائشة كوة يتبادلن الحديث منها، ثم تأتي الحجرات من جهة الشرق بعضها إثر بعض حتى تصل إلى جهة الشمال، فكانت الحجرات بالمسجد من ثلاث جهات، الجنوبية من حفصة، والشمالية لزوجات رسول الله، والشرقية لبعضهن أيضاً، والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 الأسئلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 حكم كشف الرجل عن فخذه السؤال ذكرتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جالساً وفخذه ظاهرة، فدخل أبو بكر ثم عمر. الحديث، كيف نوفق بين هذا الحديث وحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه للأعرابي: (غطي فخذك فإن الفخذ من العورة) ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم؟ الجواب هم يذكرون هذا ويقارنون بينه وبين كيف يكون ذلك، فيقولون: إنما هو بين إخوانه أبو بكر وعمر وفي بيته، ولعله لم يكن مكشوفاً كشفاً كاملاً، ويجبون عن ذلك بأجوبة، ولكن نقول: هذا صح عن رسول الله وهذا صح عن رسول الله، والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 حكم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم لمن زار مسجده السؤال هل يجوز التوجه إلى القبر للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم ولو من مؤخرة المسجد؟ الجواب هذه المسألة يختلف فيها أهل المدنية من زمن الإمام مالك، وإذا كان الإنسان من أهل المدينة وليس عنده وقت فهل كلما دخل إلى المسجد ويسلم وعندما يمر بباب المسجد ينحرف ويقول: السلام عليك يا رسول الله في نفسه، يقولون: كان مالك لا يرى في ذلك بأساً، ولكن ليس من باب: {يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات:4] ؛ لأنه في نفسه ولم يناد، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغونني عن أمتي السلام) ، فكل إنسان بعد عن القبر الشريف وسلم على رسول الله؛ فإن أولئك الملائكة الكرام يحملون هذا السلام ويبلغونه رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان في المشرق أو في المغرب، فهذا الذي عند باب المسجد حينما يسلم في نفسه فهو داخل في هذا المعنى، والمعنى المنهي عنه أن يرفع صوته من عند الباب وينادي ويصيح: السلام عليك يا رسول الله. هذا هو المنهي عنه وهذا المتنافي مع الأدب معه. ونجد بعض الناس يتوجه هنا مثلاً أو في ذاك الركن أو إلى تلك الحجرة ويقبض يديه ويسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، نقول: هذا تقصير منه في حق رسول الله؛ لأنه في المسجد، والذي في المسجد عنده وقت، وكان عليه أن يذهب إلى الحجرة الشريفة وأن ويسلم عن قرب، وسلامه هنا إما استعجالاً وإما كسلاً. فهذا لا ينبغي، بخلاف الشخص الذي هو مار في الطريق قد لا يكون متوضئاً، وحينما مر على باب المسجد نادته عاطفته أو من ناحية روحية أو وجدانية فسلم على رسول الله بمعنى الوجدان والشوق ولم يناد، ولم يرفع صوته، ولم يجهر، إنما هو أمر في نفسه استدعته إليه عاطفته ومحبته لرسول الله، فيكون داخلاً في من تبلغ الملائكة سلامه إلى رسول الله، والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 تفسير سورة الحجرات [2 - أ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 تفسير قوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فيقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:6-8] . بعد ما تقدم بيان حق النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة من جانب الرسالة، ومن جانبه شخصياً، ومن جانب حرمة بيته، جاء هنا بيان أدب رابع، وهو: التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غيبتهم عنه، فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:6] ، وهذا النداء المتكرر لينبه بلوازم الإيمان من السمع والطاعة. (إِنْ جَاءَكُمْ) ، يقول علماء اللغة: (إن) و (إذا) من أدوات الشرط، ولكن (إن) للأمر النادر، و (إذا) للأمر بكثير الوقوع. والفاسق: هو الخارج عن الطاعة، وأصل الفسق في اللغة: الخروج عن الطريق المعتاد، فتقول العرب: فسقت النواة عن الرطبة: إذا خرجت من موضعها الذي كان ينبغي أن تبقى فيه، وفسقت الحبة عن الطاحون. أي: ندت عن موضع طحنها، والفاسق هو الذي خرج عن الصراط السوي، وشرعاً: الذي خرج عن الصراط المستقيم؛ بارتكاب بعض المخالفات. ويقول العلماء في: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ) قدم الفعل، ولم يقل: (إن فاسق جاءكم) ؛ لأن الغرض هنا المحافظة على المجيء إليهم وليس لغرض الفاسق في ذاته. النبأ والخبر يشتركان في الإخبار عن أمر غائب، وأصل الخبر مأخوذ من الأرض الخبار، وهي الأرض الخصبة إذا وطئت ثار لها غبار، فالغبار هذا يسمى خبار؛ لأنه يخبر وينبئ عن وطءٍ جرى فيها. فكذلك الخبر إنما هو إتيان بعلم للمخبر بما لم يكن يعلمه، ولكن فرقوا بين الخبر والنبأ، فالخبر أعم؛ فكل أمر لم تكن تعلمه وأعلمت به فهو خبر، ولكن النبأ لا يطلق إلا على ما له شأن هام، كما بين سبحانه في أمر الساعة: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1-2] . (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ، وهناك قراءة: (فتثبتوا) وهيكل الكلمة واحد، ولكن الاختلاف في النقط، وقرئت بهذا وقرئت بذاك. وتبينوا: من التبيان وهو التثبت أيضاً. ثم بين سبحانه وتعالى نتيجة وموجب هذا التثبت وهو: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات:6] ، أي: لئن تصيبوا قوماً بجهالة بناءً على نبأ الفاسق المغاير للواقع؛ لأن الغريب هنا مجيء الفاسق بالنبأ ووصفه بالفسق يشعر بأن نبأه الذي جاء به كذب، فربما ينبني على هذا النبأ الكاذب تصرف يقع بسببه أثر على من أخبر عنهم، كالنميمة بين القوم وغيرهم. (فَتُصْبِحُوا) : بعد أن يتبين لكم حقيقة الأمر بكذب الفاسق. (نَادِمِينَ) : هنا يرى بعض علماء الحديث: أن مبدأ علم مصطلح الحديث من هذه الآية، وقالوا: إن العدل المعروف بالعدالة لا يحتاج أن يتثبت عن خبره؛ لأنه معروف بالعدالة عندهم، وكذلك قالوا في جواز قبول خبر الواحد: إن لم يكن فاسقاً، ومفهوم المخالفة: إن كان الآتي بالنبأ ليس فاسقاً فلا حاجة إلى التبين ولا إلى التثبت، وهنا أيضاً يقول بعض العلماء: الأصل في المسلم العدالة ما لم يظهر جرح أو فسق، والآخرون يعكسون، وهذه الآية تدل على الأول، ومن كان مجهول الحال فيبحث عن حاله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) قال الله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في سبب نزولها أنه قال: (التثبت من الرحمان، والعجلة من الشيطان) وهذا التبين احترازاً لكم من أن تصيبوا قوماً بمقتضى النبأ الكاذب، ويذكرون في سبب النزول قصة أو حادثة يتفق عليها كثير من المفسرين ويردها البعض كـ الفخر الرازي وهي: أن الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم، أو هو طلب من النبي أن يرجع إلى قومه فيعرض عليهم الإسلام فمن أجابه أخذ منه زكاة المال، وأخذ موعداً من رسول الله أن يرسل إليه رسولاً يقبض ما يجمعه من الزكاة، فأرسل إليه الرسول، فلما خرج، قيل: إنهم استبطئوا موعد رسول الله، فقال الحارث لقومه: ما من رسول الله خلف وقد عدني وما أرى رسول رسول الله تأخر إلا عن وشاية علينا، قوموا لنذهب بصدقاتنا إلى رسول الله، فلما تأخر رسول رسول الله لأخذ الزكاة جمع وجهاء القوم وأخذ الزكاة وجاء في طريقه إلى المدينة ليقدمها إلى رسول الله حسب الوعد، يقولون: لما ذهب ذاك المرسول إذا به رأى تجمع القوم قادمين، وكان بينه وبينهم في الجاهلية حرب، فخاف على نفسه فرجع، فلما رجع أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبر غير الواقع، وقال: إنهم ارتدوا، ومنعوا الزكاة، وكادوا يقتلونني. وفي رواية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما بلغه ذلك جهز خالد بن الوليد ليذهب إليهم، فلما خرج خالد من المدينة لقيه الحارث بوجهاء قومه، فقالوا له: لمن بعثت يا خالد؟ قال: لكم، قالوا: ولماذا؟ قال: لأنكم فعلتم كذا وكذا وكذا، فأقسموا بالله أو بالذي بعث محمداً نبيناً ما جاءنا أحد ولا وجدنا أحداً ولا لقينا أحداً، وإنما جئنا حينما جاء الموعد ولم يأت مبعوث رسول الله ليأخذ الصدقة. وفي بعض الروايات أن خالداً وصل إلى ديارهم وأرسل عيوناً بين يديه، لينظروا: هل ارتد القوم فعلاً أم أنهم على إسلامهم، فذهبت العيون وجاءوا وقالوا: يا خالد جئناهم على المغرب فإذا بهم يؤذنون ويصلون، انتظرنا إلى العشاء فإذا بهم يؤذنون ويصلون، انتظرنا إلى الفجر فإذا بهم يؤذنون ويصلون، فدخل إليهم خالد وقال لهم الخبر. وعلى كل: فالبعض يجعل هذه الآية نزلت في هذا الصحابي، وبعض العلماء يقول: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم عدول وليس فيهم من يوصف بهذا الوصف، ولكن من حيث الترتيب الزمني في نزول هذه الآية فقد صادفت قصة الوليد بن أبي معيط، وصادف نزول الآية وقوع هذا الخبر، وليست هي نازلة في شأنه، ولكن تزامنت معها، وبهذا يبرأ جانب الصحابي الجليل من أن يوصف بالفسق، وسداً على طوائف يطعنون في أصحاب رسول الله جملة وتفصيلاً من القمة إلى النهاية، وإذا سدّ هذا الباب كان أسلم وأولى، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقون بأن تدفع عنهم هذه التهم، وكما قيل: قوم اصطفاهم الله لصحبة رسوله؛ لابد أن يكونوا على أعلى المستوى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 أثر الآية في الواقع العلمي هذا النظم الذي بين أيدينا، والخطاب الذي توجه للأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، في كل حين وعصر وزمان ومكان، {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} ، فاسق معروف بالفسق، أو فاسق بهذا النبأ الواحد الذي جاء به، إذا ظننتم فيه خلف الوعد أو عدم الصدق تبينوا وتثبتوا، أما إذا كان معلوماً لديكم من قبل بالعدالة وصدق الحديث فلا حاجة إلى هذا التثبت، وتقبلون روايته خبره، وهذا التحفظ والاحتياط إنما هو إبقاءً على وحدة الأمة، وإخوة الإيمان التي نادهاهم الله بها من أول السورة إلى هذا المكان، {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} ، ولو أن خالداً ذهب ووصل إلى القوم ولم يتثبت من إسلامهم وبيتهم ليلاً، ثم تبين بعد ذلك أنهم مسلمون فكما بين سبحانه وتعالى: {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ؛ لأنكم لم تتثبتوا. وإلى هنا يتفق العلماء أو القضاة على أن سبب تحمل المسئولية أو سبب إثبات الجناية إنما هو يدور على أمرين فقط: التفريط والتعدي؛ فكل حادثة جنائية لا يدان فيها إنسان إلا بأحد هذين الأمرين: التفريط، أو التعدي. فالتفريط مثاله: يقود سيارة وما فيها مكابح فهذا تفريط منه؛ لأنه يقودها وهو لا يستطيع أن يتحكم فيها، فكذلك إذا رمى هدفاً وأصاب إنساناً، فقد فرط بأنه لم يتبين ما وراء هذا الهدف، فيقولون: أسباب المسئولية الجنائية أحد أمرين: التفريط، والتعدي، فإذا أخذ إنسان خبر فاسق وبناء عليه كان مفرطاً في أنه لم يتبين من صدق خبره، {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} . وهنا يقول العلماء في مباحث القضاء: خطاب الوضع وخطاب التكليف؛ خطاب التكليف مثل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات:6] ليس فيه كلفة عمل. وخطاب الوضع: ما هو شرط وبيان لخطاب التكليف فيما كلفوا به، مثل: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، هذا أمر بقيام الصلاة لأوقات معينة مرتبطة بالشمس، وهذا خطاب وضع، فيقولون: خطاب الوضع ما كان شرطاً أو سبباً أو مانعاً يستوي فيه العامد والجاهل. فإذا أصابوا قوماً بجهالة فقد يعذرون من جانب الإثم ولكن لا يعذرون من جانب حقوق البشر، فلو أصابوا لزمتهم ديات من أصابوهم؛ ولأن خطاب الوضع كما يقال: يستوي فيه العالم والجاهل، حتى الدواب، فلو أن إنساناً أتلف مالاً لغيره نسياناً أو بجهالة أو خطأ فإنه ملزم بضمان ما أتلفه، ولو أن طفلاً صغيراً أتلف شيئاً لغيره فوليه ملزماً بما أتلف الصبي، ولا يقال: هذا غير مكلف وليس مسئولاً، فحقوق الآدميين يستوي فيها العالم والجاهل، لو بهيمة لإنسان انطلقت ورعت زرع آخرين، فصاحبها مكلف وملزم بضمان ما أتلفت، ونعلم قضية ناقة البراء بن عازب، وقضية داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث. إذاً: في هذه الحالة تصبحوا على ما فعلتم نادمين؛ لأنكم ستتحملون نتيجة تفريطكم في التثبت من خبر الفاسق، وترتكبون بناءً عليه ما يضر بالآخرين؛ فتندمون على ما أوقعتم بغيركم وما لزمكم من ضمان فيما وقع عليهم. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 تفسير سورة الحجرات [2 - ب] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 تفسير قوله تعالى: (واعلموا أن فيكم رسول الله) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: فيقول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه} [الحجرات:7] . أيها المؤمنون المخاطبون في أول الآية اعلموا أن فيكم رسول الله، فكأنه سبحانه يقول: يا من يأتي بخبر غيب لم يحضره رسول الله ولم يعلم أحد من الخلق صدقه من كذبه، ويأتيكم معشر المسلمين به فتأخذون بقوله، هذا خطأ منكم وتفريط، واعلموا أيها الآتون بخبر أو بنبأ فاسق كذب أنكم تكذبون على الله وعلى رسوله وعلى المؤمنين، واحذروا واعلموا أن فيكم رسولاً، وقد تقدم لنا ذكره صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ومعنى لا تقدموا بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ووصفه بالنبوة، {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] ، وهنا جاء بوصف الرسالة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات:7] ، معنى هذا: لو كذبتم عليه في غيبته وجئتم بأخبار كاذبة مغايرة للواقع والرسول موجود فيكم، هل يقره من أرسله سبحانه على تصديقكم أو على الأخذ بكذبكم؟ لا. بل سيكشف الله له بالرسالة كذب ما جئتم به. وقلنا: إن السنة المطهرة بعده صلى الله عليه وسلم كقيامه في الأمة، ولو أن إنساناً جاء بنبأ يخبر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا، أو أن السنة كذا، أو أن السلف كانوا يقولون أو يعملون كذا، لقلنا له: اعلم أن عندنا سنة رسول الله مدونة؛ وسنرجع إليها ونعرف زيف خبرك من صدقه. ويتضح هذا الأمر أكثر بقوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] ، فلو أن إنساناً أو جماعة يقرءون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء إنسان ورفع صوته على أصواتهم نقول: كأنه رفع صوته على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 تفسير قوله تعالى: (لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ... ) يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ} [الحجرات:7] مما جئتم به، وهذا أعم من نبأ الفاسق، قد يكون لهم رغبة، لكن: لا تقدموا، لا تقترحوا، لا تطلبوا، إذ إنه لو يطيعكم في كثير من رغباتكم ولو كانت صحيحة بدون كذب، {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ} ، ولو كان بعضه كذباً، لو يطيعكم لمجرد الطاعة لرغباتكم، (لَعَنِتُّمْ) ، والعنت: شدة الألم. يقولون: العنت هو كسر العظم مرة ثانية بعد أن جُبر في كسر سابق؛ لأن الألم يكون أشد من الكسر الأول، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم يطيع الأمة في كل ما يريدون ويصبح تابعاً لهم، إذاً: ما الميزة بينه وبين غيره، ولكنه رسول الله لا يتبع إلا الوحي؛ فأنتم بين أمرين: تريدونه تابعاً لكم، أو هو تابع لله بما يوحي إليه وأنتم تبع له، هذه معادلة، {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ} [الحجرات:7] ، وأصبح متبعاً لكم محققاً لرغباتكم؛ لأدى الأمر إلى العنت الذي يلحقكم بسبب طاعته إياكم. إذاً: ما الواجب؟ هو رسول الله، ويطيع ما جاءه من عند الله الذي أرسله، وأنتم تبع له فتسلمون، ولكن هنا: (لَوْ يُطِيعُكُمْ) أفي جميع الأمر؟ لا. بل (فِي كَثِيرٍ) ، مفهوم الكثير أنه يمكن أن يطيعهم في القليل، وقد يكون في هذا القليل مصلحة لهم، وإذا أطاعهم في القليل قد يكون فيه تحقيق لرغباتهم من غير إقرار لهم على باطلهم؛ لأن الله لا يقره على باطل، (فلو يطيعكم) ووافقه الوحي وأقره الله على تلك الطاعة كانت مصلحة، لكن لو أراد أن يطيعكم في أمر والله لا يريد ذلك فإنه يبينه له ويمنعه منه، وقد تبين في بعض الوقائع أنه صلى الله عليه وسلم أطاعهم في بعض الأمور وكانت مصلحة للمسلمين، وكان فيها تأييد من الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 بعض مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في مشاورته لأصحابه وأخذه برأيهم من هذه المواقف: غزوة بدر: لما خرجوا ووصلوا إلى بدر كان منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء القرآن: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} [الأنفال:42] ، ووادي بدر ممتد من الشمال إلى الجنوب، {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} [الأنفال:42] ، سبحان الله العظيم! فنزل النبي صلى الله عليه وسلم بحافة الوادي الدنيا من جهة المدينة، وكان منزل المشركين بالعدوة القصوى التي من جهة مكة، فنزلوا على أول بئر وصلوا إليه، وجاء النبي ونزل عند أول بئر، وفي هذه الحالة جاء الحباب بن المنذر، وقال: (يا رسول الله! أمنزل أنزلكه الله فلا قول لأحد، أم هي الحرب والمكيدة؟ قال: لا. بل هي الحرب والمكيدة) ، لأن قضية بدر من حيث هي كانت كما نقول: بقيادة السماء، وقد بين الله ذلك فقال: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} [الأنفال:5] ، فهو خرج باختيار الله والعير التي كان يخرج إليها كل سنة كانت تروح وتغدوا، وخرج إليها حمزة قبل ذلك، وخرج إليها الرسول إلى العشيرة وما أصابها، ولكن في هذه المرة: (إن هذه عير لقريش لعلكم تخرجون، لعل الله ينقلنيها) ، إذاً: كانت العير طعم فقط ليخرجوا: {أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا} [الأنفال:5] ، لما جاءوا في الطريق كانت العير التي خرجوا إليها ذهبت، والنفير الذي لم يحسبوا له حساباً جاء. إذاً: نزولهم في هذا المكان ونزول أولئك كان بأمر من الله، {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال:42] ، وكذلك: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ} [الأنفال:7] وكما قال في مجلس المشاورة: (أشيروا عليَّ أيها الناس؛ العير قد نجت والنفير أقبلت) ، فمن قائل يقول: كذا وكذا، حتى قالوا: يا رسول الله! لعلك خرجت لأمر وأراد الله أمراً آخر فامض إلى ما أراده الله. يعني: كانت الإرادة لله وليست لهم، ومن هنا التزم الحباب في سؤاله: أهذا المنزل بوحي من الله فنسكت ولا نجتهد، فقال: لا. هي الحرب والمكيدة، فقال: الرأي عندي -وكلمة عندي تحرز فقد يكون عند غيره مخالفاً لهذا- أن نذهب ونتقدم إلى آخر بئر فننزل عليها، ونبني لنا حوضاً نملأه ماءً فنكون على ماء ولا ماء للعدو، يريد أن يحاربوهم بالعطش أيضاً، وكان جبريل عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وسلم أول ما نزل، فإذا ملك ينزل من السماء ويقول: (يا محمد! إن الله يقرؤك السلام، ويقول لك: الرأي ما قال الحباب، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى جبريل وقال: أتعرف هذا يا جبريل؟ فقال جبريل: ما كل ملائكة السماء يعرفها جبريل) والظاهر أنه ملك وليس شيطاناً، ويهمنا هنا: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ} [الحجرات:7] ، مفهوم ذلك: طاعتهم في القليل وكان فيها خير. كذلك عند غزوة الأحزاب، علم صلى الله عليه وسلم بتجمع المشركين ومن تحزب معهم، وجاءه الخبر بأسرع ما يكون فشاور أصحابه، فلما تشاورا قام سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله! كنا إذا حوربنا خندقنا. أي: عملنا خندقاً حول المدينة فيكون هذا حصناً طبيعياً أو مانعاً أو حاجزاً من العدو أن يصل إلينا، فأخذ برأيه صلى الله عليه وسلم، وحفر الخندق ما بين طرفي المدينة ويكون محيطاً بها إحاطة الحذوة كما يقول بعض الكتاب، مستطيلة ليست لها إلا فتحة واحدة، وهي في الوادي حينما ينزل النازل على بئر عثمان وينزل إلى باب الشام، فهذا مدخل المدينة فقط، وما عداها حرار وبساتين لا يمكن للجيوش أن تخترقها، فحفر صلى الله عليه وسلم الخندق ما بين الطرفين ليكون متمماً للحصن الطبيعي حول المدينة. إذاً: أطاعهم في بعض الأمر، وكانت تلك الطاعة إنما هي لمصلحتهم جميعاً، {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ} [الحجرات:7] ، منعكم من أن تتقدموا بالكثير، وأن تقترحوا عليه الكثير، وأن تقبلوا منه ما جاءكم به ولو على غير رغباتكم ولو على غير ما تريدونه أن يأتي معكم فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 تفسير قوله تعالى: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان ... ) قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] ، أي: الذين جمعوا بين هذين الوصفين المتقابلين. وهنا يأتي: (حَبَّبَ) ، والإنسان قد يحب الشيء ولكنه مكروه لديه، من حيث تحقيق المصلحة يحبه، ولكن من حيث عين الموضوع هو يكرهه. المريض مثلاً: يوجد الدواء مر حامض فهو يحبه؛ لأن وراءه الشفاء بإذن الله، ووقت أخذ الدواء يبكي، فهو قد يحب هذا الشيء ولكنه يكره ذاته، ولكن هنا جمع الله بين حبب وزين، فهو محبب لنتائجه الحسنة، ومزين عند الإنسان يأخذه برغبة وطواعية ومحبة، وفرق بعيد بين الأمرين، ولهذا كان (زينه) تتمة (لحببه) ليكون الأخذ بهذا المحبب برغبة واختيار لا عن إكراه كالمريض يتعاطى الدواء. (وَكَرَّهَ) ، حبب يقابلها كره، والمكروه الشيء الذي لا يرغب فيه الإنسان، {إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} [الحجرات:7] ، الكفر مقابل الإيمان ولوازم الإيمان؛ لأن الإيمان: تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان، فالكفر أول ما ينصب على جحود القلب وهو العقيدة. {وَالْفُسُوقَ} [الحجرات:7] ، يقولون: إن الفسوق يكون بالقول ويكون بالفعل، ولكنه بالقول أكثر؛ لأن مجيئه بالنبأ جعله فاسقاً. {وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7] ، يكون بالأمرين لكنه في الفعل أكثر، وبعضهم يقول: الكفر معروف أنه قمة الإشراك، والفسوق يشمل الكبائر، والعصيان يكون للصغائر، ولكن التحقيق: أن العصيان يشمل الكبيرة والصغيرة. ويهمنا هنا: أنه لا يتم تحقيق الإيمان وحبه في القلب حتى يخلو القلب من شوائب الكفر؛ لأن الكفر والإيمان لا يجتمعان أبداً، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في آخر أمره: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) ؛ لأن وجود دينين معاً في بلد واحد يقتضي وجود احتكاك بينهما، وأهل هذا الدين يخالطون أهل هذا الدين، وأهل ذاك الدين يخالطون أهل هذا الدين، وتكون بالمخالطة نقل بعض العادات أو نقل بعض الاعتقادات فيكون هناك شيء من التلاقح بين الأفكار والمشاركة بين الأعمال، فيكون في هذا مضرة على دين الإسلام، لذا قال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) ، وهكذا لا يجتمع دينان في قلب المسلم. {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] . يقول الله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7] وكره إليكم الكفر حتى لا يوجد الضد مع الضد. هؤلاء الذين اجتمع لهم محبة الإيمان وأخذه بطيب ورضا وقناعة ومحبة كرهوا الكفر والفسوق والعصيان وهذا من كمال الإيمان في قلوبهم، ولا ننس أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، {أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] ، والرشد هو الصلاح: أي: هم الذين أخذوا بطريق الرشد، وهو الصلاح في الدين والدنيا، وبعض العلماء كـ الشافعي يقول: الرشد هو الصلاح في الدين، ويذكر ذلك في كتب الفقه عند بلوغ اليتيم، {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] أي: صلاحاً في دينهم، {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] . ومالك رحمه الله يقول: الرشد في الدنيا بخصوص المال لليتيم، فإذا كان يحسن تصريف ماله وحفظه دفعناه إليه وجانب الدين هذا بينه وبين الله. والشافعي يقول: لابد من رشد الدين مع رشد الدنيا؛ لأنه إذا كان يحسن التصرف في المال لكنه يصرفه فيما لا فائدة فيه أو فيما هو محرم؛ فيكون سفيهاً ولو كان يتقن ويحسن التصرف في المال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 تفسير قوله تعالى: (فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم) يقول الله: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:8] . ما الفرق بين الفضل والنعمة؟ الفضل هو: التفضل بما عندك على الغير، والله متفضل على عباده بكل النعم {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] ، وبعض العلماء يتساءل: ما الفرق بين الفضل والنعم؟ فقالوا: أصل الفضل مأخوذ من الشيء الفاضل عند الإنسان وهو مستغنٍ عنه. تقول: أعطني من فضلك. أي: مما فضل عندك، وتقول: هذه فضلة طعام، هذا فضل ثياب. أي: الشيء الزائد عندك وأنت مستغنٍ عنه. فالفضل من جانب المولى سبحانه؛ لأن كل خزائنه بما فيها من الخير فضل زائد وهو في غنى عنه، فهو يعطي عباده مما هو فاضل عنده، والنعمة بالنسبة من جهة العبد؛ لأن النعمة ما ينعم به الله لبعض خلقه لسد حاجته، فالعطاء واحد وهو من جانب الله فضل؛ لأنه موجود بكثرة ومستغنٍ عنه، ومن جانب العبد نعمة؛ لأنه به يسد حاجته ويستغني بما تفضل الله به عليه، وبهذا {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} [الحجرات:8] . أي: زيادة فيما أعطاه وزيادة في خزائنه مما هو مستغنٍ عنه، {وَنِعْمَةً} [الحجرات:8] ؛ لأنه به ينعم عليكم وتكون حياتكم ناعمة وليست بخشنة. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:8] ، قالوا: (عليم حكيم) راجعة إلى كل ما تقدم في كل تصرفاته، وقالوا: لهذا الأخير (الفضل والنعمة) فهو عليم بما في خزائنه من واسع فضله، فيتفضل بما شاء. (حكيم) لما يختار من عباده من يعطيه نعمه، فيعطي كل إنسان من نعمه سبحانه ما يلائم حاله، فهو سبحانه وتعالى يعطي كل إنسان بحكمة فيما تكون فيه مصلحته، ولذا قال: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27] . فكذلك هنا (عليم) بما فيه خزائنه من واسع فضله، وحكيم فيما يعطي من هذا الفضل من النعم لعباده بقدر ما يصلحهم، {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، وفي الحديث أيضاً: (إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لفسد حاله، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لفسد حاله) . إذاً: عليم: بما في خزائنه من واسع فضله وخيراته، حكيم: حيث يعطي من هذا الفضل للعباد بقدر ما يصلحهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 تفسير قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ... ) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9-10] . لاحظوا هذا الترتيب والنسق في آيات السورة الكريمة، وهكذا في جميع السور، لكنه قد يظهر قريباً لبعض الناس، وقد يخفى ولا يظهر إلا للخواص، لما نبه سبحانه وتعالى على وجوب التبين والتحفظ من نبأ الفاسق، وحذر أن تصيبوا قوماً بجهالة، فمعنى ذلك: قد يأتي الفاسق بنبأ ونسمعه، ولو لم يكن في حق رسول الله أو في حياة رسول الله، وليس عندنا من يبين لنا حقيقة كذبه، لكن في الوقت الحاضر الآن لو جاءنا فاسق بنبأ ولم نتبين ما الذي سيترتب على مجيء الفاسق بالنبأ، {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا} [الحجرات:6] . إذاً: من المتوقع ومن الترتيب الطبيعي أن الفاسق إذا جاء إلى قوم بنبأ كذب على قوم آخرين، وجاء بنميمة وجاء بأخبار كاذبة وقال: إنهم يقولون فيكم كذا، إنهم يعدون إليكم كذا، إنهم سيوقعون بكم كذا وكذا، ما الذي سيفعله من جاءهم هذا النبأ؟ سيتهيئون إليهم وربما بادروهم بسوء. إذاً: لما حذر المولى سبحانه من قبول خبر الفاسق الواجب أن نتحرز ونتبين إذا قصرنا، فإذا سارع قوم بأخذ نبأ الفاسق ما الذي سيكون؟ سيقع القتال والفتنة، ولذا جاء بهذه الآية الكريمة كأنها بيان لما عساه أن يقع بالمخالفة وعدم التبين والمسارعة بأخذ خبر الفاسق، فيقع مضرة على هؤلاء الناس، ويقع القتال بين فريقين: فريق نقل عنه نبأ فاسد وفريق ألقي إليه نبأ فاسق، فكان سبباً في قتال الفريقين. فيكون هذا العلاج: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] ، فكأنه يقول: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا بسبب نبأ فاسق جاءهم يكون الحكم: تداركوا الأمر، وأصلحوا بينهم، ولا تتركوهم على ما هم عليه، وإن كانوا فرطوا في عدم التثبت لا تفرطوا أنتم في عدم الإصلاح، وهذا ترتيب في غاية الإعجاز والقوة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 سبب وصف الطائفتين بالإيمان بقي هنا نقاش عند العلماء في سبب نزولها أو عدم نزولها، فهم يقولون: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الحجرات:9] ، يقول بعض العلماء: لماذا لم يقل: وإن طائفتان منكم، وقد قال في أولها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:6] ؟ وهم فعلاً منهم؛ لأنه من المؤمنين، لكن قال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:23] ، كأنه يثير معنى الإيمان في هؤلاء وهؤلاء من المخاطبين، كأنه يقول: ما كان ينبغي للمؤمنين أن يقتتلوا، وما كان ينبغي أن يقع ذلك؛ فإن وقع فهو نادر وعلى خلاف الأولى. {وَإِنْ طَائِفَتَانِ} [الحجرات:9] ، قال: وإن طائفتان بدل فرقتان أو جماعتان أو شخصان، قالوا: الطائفة أقل من الفرقة، بدليل قوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] . {اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] ، لم يقل: يقتتلوا؛ لأن يقتتلوا للحاضر، وقد تكون واقعة عين وينتهي الحكم، واقتتلوا. أي: وقع القتال بين طائفتين في أي زمان ومكان، فعليكم أن تقوموا بالإصلاح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 نوع الصلح بين الطائفتين المتقاتلتين قال الله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] . ما نوعية الصلح بين الطائفتين، وما أسباب القتال، وما نوع الصلح الذي يقوم به المسلمون؟ نجد أن الصلح هنا جاء مرتين: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات:9] هناك في الأول: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ} [الحجرات:9] ، ما جاء وصف العدل في الأول، وهنا: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات:9] ، لماذا جيء بالعدل في الإصلاح الثاني ولم يأت به في الإصلاح الأول؟ قالوا: لأن الغرض بالإصلاح الأول هو كف الطائفتين بعضهما عن بعض بالقتال، بينهما هدنة، أن يكف كل منهما عن الآخر ليمكن التفاهم بين الفريقين ومعرفة أسباب القتال، وتصفية ما بينهما فيما وقع من خسائر أو من دماء أو غير ذلك، فهناك يأتي العدل. إذاً: هنا: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ} [الحجرات:9] ، أي: كفوا أيديهم عن القتال، وهذا إصلاح أولي، ثم بقي معنا الطائفتين. يقول بعض العلماء: قد يكون القتال بين الطائفتين وهما من الأمة؛ قبيلتان أو أسرتان، وربما قطران، لكن كما يقولون: سبب النزول: أن ابن أُبي لما مر عليه صلى الله عليه وسلم راكباً حمار وذاهباً إلى سعد بن عبادة في منطقتهم، فوقف على ابن أُبي يدعوه إلى الإسلام، فقال: إليك عني، اذهب فقد آذاني نتن ريح حمارك، فقام عبد الله بن رواحة وقال: والله لنتن حماره أطيب ريحاً منك، فقام لـ ابن أُبي رئيس المنافقين من انتصر له وانتصر لـ ابن رواحة المسلمون وكان بينهما مناوشات، فنزلت الآية. وبعضهم يقول: لا. بل كان الأمر بين الأوس والخزرج. وقيل: كانت هناك امرأة عند رجل اسمها أم زيد، وكان بينه وبين زوجه ما يكون بين الأزواج، ومنعها أن تذهب إلى أهلها، فجاء أهلها في غيبته ليأخذونها وينزلونها من عليتها، فقام أهل الرجل في الحي ومنعوهم ووقع بينهما ما وقع فنزلت الآية. وأياً كان سبب النزول فإنه انتهى وبقي صريح النقل، وكما قيل: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) ، فيقولون: إن كانت الطائفة الباغية من الأمة كان على ولي أمر المسلمين أن يكف الباغية؛ لأن له سلطان عليها، وإن كان البغي من جانب الأمير فعلى المسلمين نصحه بقدر الإمكان والتدرج بشرط أن لا يتوقع مفسدة أكثر مما يكون بين الطائفتين. إذاً: نوع الإصلاح يتوقف على نوعية الخلاف وعلى نوعية الطائفتين، حتى لو كانا شخصان متنازعان فوجب على الأمة الإصلاح بينهما، وكما قيل: طبيعة الإصلاح من سيماء الإسلام، والله سبحانه وتعالى أوجب الصلح بين المتنازعين، وأوجب الصلح أيضاً حتى بين الزوجين، {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 صفات أهل الصلح بين الطائفتين الصلح من سمات الإسلام، وهو مبني على التسامح والتنازل عن بعض الحقوق كما يقول الله: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ، فلابد للمتصالحين أن يتنازل كل منهما من جانبه ويتغلب على شح نفسه لكن من الذي سيتدخل ويصلح بين الطائفتين؟ نحتاج إلى من يكون عالماً خبيراً بأسباب الخلاف والنزاع، وأسباب الخلاف إذا كانت طائفتان كبيرتان أو قبيلتان أو حتى قطران، إما أن يكون أمراً اقتصادياً أو جنائياً أو أدبياً أو سياسياً. أو إلى آخره؛ فنحتاج إلى تكوين لجنة عدل من كل تلك الفرق لتصل إلى حقيقة الخلاف وتفصل فيه، وتقول للباغية: أنتِ باغية قفي عند حدكِ، فإن وقفت والتزمت فبها ونعمت، وإن لم تقبل وبغت على أختها كان واجب المسلمين أن يردوها عن بغيها، كما في الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: مظلوماً ننصره، وظالماً كيف ننصره؟ قال: ردك إياه عن ظلمه فهو نصرة له) . وهكذا نحتاج كما قيل: إلى هيئة تكون خبيرة بأسباب النزاع تبحث مع وقف القتال؛ لأن البحث في أسباب النزاع والعمل على إيجاد صلح مع وجود القتال لا يتم أبداً، ونحن نشاهد الآن في كثير من الحركات بين الدول أو بين قطر داخلياً أو خارجياً يجلسون للمفاوضات وإطلاق النار ما زال مستمراً، فلا نلبث أن يعقد اتفاق وقف إطلاق النار، وربما لا يلبث ساعتين أو عشر ساعات أو يوم وليلة أو عدة أيام حتى ينقض، لماذا؟ لأنهم لم يتوصلوا إلى نتيجة معرفة سبب الخلاف وإلى الواجب الذي يجب على كل طائفة أن تكون عليه، فيكونوا أصلحوا بينهما مبدئياً أن يكفوا عن القتال فيما بينهم. وهذا إصلاح. ثم بعد البحث وإعلان النتيجة؛ فإن التزمت الطائفتان بذلك فالحمد لله، وإن لم يلتزما أو كان الالتزام من جانب واحد كانت الأمة ملزمة أن تقاتل الباغية التي بغت على أختها، {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] ، أي: ترجع، ليس إلى هيئة الأمم ولا مجلس الأمن، ولكن ترجع إلى حكم الله؛ لأن رجوع الظالم مهما كان ظلمه وشخصه وطغيانه إذا عرف أنه راجع إلى الله وقف عند حده؛ ولأن الرجوع إلى الله هو عين العدل والإنصاف والحكمة، ولذا جاء هناك حينما تكون المفاهمة بعد كف القتال، {فَإِنْ فَاءَتْ} [الحجرات:9] ، وامتثلت ورجعت وانتهى القتال هناك يكون الحكم بالعدل، وليس هناك كما يقال: حق الفيتو بأن ينقض القرار إذا كان لصالح دولة كبرى ولا أن يكون لمصلحة دولة صغرى، ومتى ينقض حق؟ إذا كان العدو بيده السلاح، وهذا كما أشرنا سابقاً: أخذ نظام هيئة محكمة عدل إسلامية دولية يمكن أن تفض جميع المنازعات بين الأمم المسلمة على هذا القانون على مقتضى هذا التشريع: أن تقوم بالعدل والقسط. أن تكف بينهما أولاً، ثم تشرع في بحث الخلاف، ثم تصدر قرارها فيما يلزم، فإن التزموا بذلك فالحمد لله، وإلا فالأمة كلها مسئولة عن ردعها. بقي من من الأمة يتدخل في شئون الآخرين؟ يجب أن تجرد قوة باسم الأمة الإسلامية قوة ردع لمن بغى، ولو وجد هذا النظام باسم الإسلام لما احتاج المسلمون أن يذهبوا إلى خارج بلادهم أو أن يتحاكموا إلى غيرهم، والمجال في هذا واسع طويل، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه. وهناك عودة إلى موجب هذه المسئولية وتحملها بسبب إخوة الإيمان، {الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] ، يعني: ضريبة هذا الإصلاح، وتحمل هذه النفقات، أو ربما يكون هناك قتلى بسبب الإصلاح وردع الباغية، كل ذلك في سبيل الأخوة في الله، وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 الأسئلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 رد شبهة: منع الصلاة في المسجد النبوي لوجود القبر السؤال كيف نرد على من يقول: إن الصلاة في المسجد النبوي الشريف لا تجوز؛ لأن فيه قبر؟ الجواب نقول هذا نصف مجنون أو ثلاثة أرباع مجنون، وأعمى لا يبصر، مطموس البصيرة إن رضي وإن غضب. متى أُدخل القبر في المسجد؟ على رأس المائة من الهجرة. إذاً: (1400) سنة والمسلمون يصلون في المسجد النبوي، ويأتي هذا الآن يوسوس، ولكن كيف نرد عليه؟ وهل القبر أدخل أم الحجرة؟ تقول: عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس هو الذي أدخل الحجرات في المسجد، وأشرنا سابقاً بأن الجدار الذي يلي المصلين وهو الشمالي على شكل مثلث لا يمكن أن يستقبله المصلي، وبين القبر الشريف وبين أول مصلي خلف الشبك الحديد عشرات الأمتار. أما هذا الكلام فإنما يراد به أن يثير فتنة ويشكك الناس، فأقول: إنه أعمى قلب والبصيرة، وسبق أن أثيرت هذه الفتنة في عام (85هـ) في منى من بعض الأشخاص الذين يبثون السموم في رءوس هؤلاء، العوام، قال: يطوفون حولها، قلنا: ممنوع الطواف، وموجود من عهد العثمانيين فليذهب إلى السور وسوف يجد ما بين الفتحة الأولى وما بين المحراب النبوي مصلى رسول الله والحجرة حلقات صغيرة وكان يوضع باب هناك لمنع الطواف، قال: نكتب لوحة ونضعها على الحجرة، لكن من يقرأ في زحمة الموسم، والآن موجود حاجز هناك في آخر الطرق التي في شرقي الحجرة عند الدخول من باب البقيع، هناك الحاجز لا أحد يقدر يطوف مرة كاملة، فلماذا نحن نفتش على هذه المسائل إثارة الفتن، ولا أريد أن أكرر ما قلت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 معنى قوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشح) السؤال نرجو من فضيلتكم شرح معنى قوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ، إلى آخر السياق الكريم، وجزاكم الله خيراً؟ الجواب الشح من طبيعة الإنسان، ويقولون في علم النفس أو علم الاجتماع: إن غريزة حب التملك تجعل الإنسان يندفع إلى أن يتملك كل شيء لو استطاع، وما يمنعه عن تملك أملاك الآخرين إلا الردع بالعقاب قانوناً أو شرعاً، فحينما يمتلك الإنسان الشيء بغريزة حب التملك يحرص عليه، ولا يتركه من يده، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (لا يتصدق المتصدق بدرهم حتى يفك عنه سبعين لحي جمل) ، حريص عليه، {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:19-20] ، (لو أن لابن آدم وادياً من ذهب لتمنى الثاني) فهذا شح النفس حينما يطلب منه البذل إلا من رحم ربي، يكون السخاء سجية وعادة فيه إلى غير ذلك، {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ، يعني: كل نفس جبلت على الشح فيما لو طلب منها أن تبذل، ومن هنا جاءت مع الصلح؛ لأن الصلح لابد فيه من التنازل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 حكم استعمال الباروكة السؤال ما الحكم في المرأة التي تستعمل الباروكة على شعرها وهل هذا من الوصل؟ الجواب الباروكة لا بارك الله فيها، هي باروكة من البروك لا من البركة، وأنا أستعجب بالشخص الذي يرضى لزوجه ويعلم أن شعرها على غير هذا، ويشتري لها ما تدلس عليه به؛ لأن الشعر لا يكشف إلا عند الزوج، والنسوة فيما بينهم مثل بعضهم، لكن هي تدلس على زوجها، مثل المكياج، يعرف خلقتها ووجهها وسيماها وطبيعتها في حالتها الطبيعية، فلما تأخذ المكياج تصبح عروسة، لكن عروسة مزيفة، فلم يخدع نفسه بهذا، ولكن الشيطان حريص. وأعتقد أنه كثر الكلام في هذا، وكان الشيخ علي الطنطاوي، والشيخ ابن باز وغيرهم: (إن كان لنفسها وعند أهلها فلا بأس، أما عند الناس فلا يجوز ذلك) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 تفسير سورة الحجرات [3 - أ] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 تابع تفسير قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله؛ صلى الله عليه وآله وصحبه ومن والاه. وبعد: فيقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} [الحجرات:9] أي: بعد إيقاف القتال بينهما، وبعد أن أخذتم في البحث عن أسبابه، ولكن إحدى الطائفتين لم تلتزم ولم تكف عن القتال واستمرت في غيها وبغيها؛ فحينئذٍ يكون الدفع بالقوة وبحسب الإمكان، وكما نسمع الآن في كثير من القضايا العالمية، يبدءون أولاً بالحصار الاقتصادي، ثم بقطع المساعدات، فإن جاءت بهم فبها، وإلا سيرت إليهم القوات تردعهم بالقوة، وهكذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 قتال الفئة الباغية وسببه قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9] ، والقتال يكون بالتدريج، ويُبدأ بالأخف فالأخف، ثم بعد ذلك إن فاءوا بالأمور الاقتصادية والمالية فبها، وإلا فتعين قتالهم بالسلاح، وقد أشرنا بأن القتال بين طائفتين أن ذلك ليس من حق الأفراد؛ لأن إنساناً أو جماعة لا تملك أن تقاتل جماعة أخرى، وكذلك الدول لا يحق لدولة أن تذهب بقواتها خارج حدودها لتقاتل دولة باغية على دولة أخرى، وكما يقولون في العرف العسكري: هذا تدخل في شئون الآخرين غير مسموح به. إذاً: قال الفخر الرازي رحمه الله: إن كانت الطائفة الباغية من مجموع المجتمع؛ فعلى ولي الأمر أن يجرد قوة يردعها عن أختها، وإن كان فيما بينهم وليس هناك ولي أمر يردعهم، فحينئذٍ يتعين على مجموع المسلمين أن يجردوا من قواتهم قوة تكون مهمتها -كما يقال- ردع الباغي. ليست للاستيلاء على أراضي الآخرين، ولا للاستعمار ولا للتعدي ولا إلى شيء من ذلك كله، إنما هي قوة ردع. ولعلنا نتذكر ما كان بين لبنان وسوريا، فقد كانت هناك قوات ردع عربية دخلت إلى هناك وحجزت بين الفريقين، ولم تكن ترجع قيادتها إلى دولة حتى يمكن أن تسخرها لمصالحها، إنما هي راجعة إلى مجموعة الأمة الإسلامية. {فَإِنْ فَاءَتْ} [الحجرات:9] ، أي: بعد الردع وبعد قتالها ورجعت عن بغيها، والفيئة الرجوع، أُخذت من الفيء وهو الظل في آخر النهار؛ لأن الظل في أول النهار يكون إلى جهة الغرب لمجيء الشمس من الشرق، فإذا جاءت إلى كبد السماء وتحولت إلى المغرب تحول الظل إلى الشرق. وهذا هو الفيء. فكذلك من كان على طريق فرجع عنه إلى عكسه فقد فاء، فإن فاءت عن الغي وفاءت عن الاعتداء حينئذٍ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات:9] ، وهذا الصلح الأخير فيه التصفية بين الطرفين، وفيه الإنهاء بالبحث عن أسباب النزاع والقتال، والبحث عما ترتب ونتج عن هذا القتال من قتلى، وديات، وإتلاف للأموال والعتاد كل ذلك يقع نتيجة القتال بين الطائفتين، ولا يتم الصلح إلا إذا سويت جميع الخلافات من جميع الجوانب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 العدل وأثره في حياة الأمم والملوك {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} [الحجرات:9] ، مجيء القسط بعد العدل ماذا يفيد؟ قالوا: هما من المترادفات، وبعضهم يقول: العدل في الفعل والقسط في القول. أي: حتى تكون المحاكمة والإصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين في مساواة الكلمة والكلمة الطيبة، ونعلم بأن الصلح بين المتخاصمين أباح النبي صلى الله عليه وسلم فيه الكذب للمصلحة، فلو أنك عرفت اثنين متخاصمين، أو أنهما كانا صديقين أو متجاورين وعلمت القطيعة بينهما وخشيت تفاقم الأمر، وأردت إصلاح الواقع، فجئت لأحد المتخاصمين وقلت له من عندك أنت: يا فلان لقد طالت الخصومة بينك وبين صديقك وهو متألم لذلك، ويأسف لهذا، ويتمنى إزالة ما بينكما، ومستعد أن يقدم ما تريد. مع أنه ما قال لك أي شيء، ولكن أنت من نفسك تريد أن توطِّن بين الطرفين للصلح، فهو حين يسمع ذلك لا شك أنه سيلين سيقول: أهو يقول ذلك؟ إذا كان هو مستعد فأنا مستعد، وتذهب إلى صاحبه وتقول له مثلما قلت للأول، فحينئذ تهيأ الجو وتهيأت النفوس، وتوجهوا إلى إيقاع الصلح، فتجمع بينهما على خير، وتسعى بينهما، وقد سمح لك الإسلام أن تبدأ بحديث لم يقله أحدهما، ولكنك تريد الإصلاح، فلا مانع في ذلك. {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] ، العادلين الذين يعدلون بين الناس، وقد جاء في حق النجاشي رحمه الله ورضي عنه لما اشتد الأمر على المسلمين في مكة، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عليه أصحابه من الشدة والضغط من المشركين قال: (إن بالحبشة ملك عادل لا يضام أحد في جواره، أرى أن تذهبوا إليه إلى أن يجعل الله لكم مخرجاً) ، فهذا كان على نصرانيته، وقد وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عادل، وقد تبين فعلاً عدله هناك، وجاءت موقعة بدر وقتل فيها سادة قريش وصناديدها، وأرادت قريش أن تنتقم من المشركين، ماذا فعلوا؟ كان عمرو بن العاص من أصدقاء النجاشي، وكان كل سنة يذهب إليه بهدايا الحجاز، فأرسلوه ومعه شخص آخر، وقالوا: خذ الهدايا واذهب إليه وكلمه في من عنده من المسلمين فيأتيك بهم فنقتلهم؛ فيكون ذلك عوضاً لهم عمن قتلوا عن الذي حدث في بدر، فلما ذهب ووصل إلى النجاشي أخبره: أن قوماً من أهله أو قال: فئة من قومنا دخلوا إلى بلادك، خرجوا عن دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وأرسلني أهلهم لنردهم إليهم. فما بادر الملك وقال: مرحباً بصديقي، ومرحباً بالهدايا، بل قال: قوم اختاروني على غيري وأتوا إلي، ولن أسلمهم حتى آتي بهم وأسألهم وأنظر ماذا عندهم، ثم بعد ذلك يكون التصرف. فدعاهم وعندها اشتد الأمر على المسلمين حين جاءهم الأمر من الملك بالحضور، وكانوا علموا من قبل بمجيء عمرو داهية العرب، فقالوا: من الذي يكلّم الملك؟ فقال جعفر الطيار رضي الله عنه: أنا خطيبكم اليوم، فلما قدموا عليه همس عمرو في أذن الملك وهو جالس بجواره على سريره، وقال: إنهم لن يسجدوا لك كما تسجد لك العرب، فلما دخلوا لم يسجدوا له، فقال: أرأيت، لم يسجدوا لك ولم يكرموك كما نكرمك، ولم يدخلوا في دينك، فهم خرجوا على غيرهم، وهم خارجون عليك -يعني: لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء- فسكت الملك، فلما جاء جعفر ووقف بين يديه، قال له: لم تسجد لي كما يسجد الناس؟ قال: أيها الملك أعزك الله! ما كنا لنسجد لغير الله، لقد كنا نعبد الأحجار والأشجار والأصنام وكنا في جاهلية جهلاء، يأكل القوي فينا الضعيف، ونقطع الأرحام، ونقطع الطريق -وذكر له كل أخطاء الجاهلية- فأكرمنا الله برجل منا نعرف نسبه ومولده ونشأته؛ أتانا بالوحي من عند الله، فأمرنا بأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وصدق الحديث، وحسن الجوار، وصلة الرحم، وأن نعبد الله وحده، فقال: هل معك مما جاء به من شيء؟ قال: بلى، وقرأ عليه أوائل سورة طه، فما كان من الملك إلا أن هوى إلى الأرض، وأخذ قشة بين أنامله، وقال: والله ما زاد صاحبكم على ما جاء به عيسى بن مريم ولا مثل هذه القشة، حينئذٍ نخر من كان عنده من الرهبان والقسس، وأسقط في يد عمرو، ثم قال: ردوا الهدايا على من جاء بها، والله لا أرد هؤلاء، واذهبوا وأنتم السيوح. أي: اذهبوا فأنتم مضمونون مكرمون، من اعتدى عليكم فكأنما اعتدى عليّ، ثم بعد ذلك أعلن إسلامه وإيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فتحقق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملك عادل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 دوام الملك بالعدل والإحسان قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في رسالة صغيرة اسمها: رسالة المظالم: (الملك يدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم) ؛ لأن الظلم كما نعلم يولد حقداً في المجتمعات والأفراد إذا كانوا يتظالمون في حقوقهم وأعراضهم؛ فكل ينصب للثاني العداء، أما إذا كانت الأمانة والعدالة، وكان الناس آمنون على الدين والنفس والعقل والنسب والعرض والمال، حينها الأمة تكون في خير وعلى خير، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: العادلين في قضيتهم سواء كانت جزئية أو كبيرة ولو بين أولاده، وإخوانه الأستاذ في فصله مع طلابه يجب أن يكون عادلاً في توزيع الأسئلة، وتوزيع العناية بالجميع إذا جاء يصحح، فيكون عادلاً في الحكم على الطالب من حيث إجاباته، فالعدل في كل شيء في الحياة، ينبغي على المسلمين أن يحافظوا عليه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] ؛ لأن العدل متلازم مع الإحسان دائماً، ولا يكون مع العدل إساءة قط. وعلى هذا تكون هذه الآية الكريمة إنما هي مبدأ وقاعدة لتشريع قرآني كريم للإصلاح بين الجماعات، سواء كبرت تلك الجماعات أو صغرت، وسواء كانا قطرين أو قبيلتين، أو كانتا أسرتين أو كانا أخوين أو جارين مهما وقع النزاع يجب أن يكون هناك صلح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 عامل الأخوة الإيمانية في المجتمع وأهميته بين الله سبحانه وتعالى السبب بما كلف به الأمة فقال: (فَقَاتِلُوا) والقتال يحتاج إلى سلاح وقتال، فالطائفة الباغية ستقاتلهم، وسيكون هناك ضحايا وقتلى، ومسئولية هؤلاء القتلى من يتحملها؟ فيأتي بيان القرآن الكريم: حملتم تلك الأمانة وتلك المسئولية وفاء بحق الأخوة فيما بينكم {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] ، يقولون: إخوة وإخوان، والأخوة تكون من إخوة النسب، والإخوان يكونون بإخوة المبادئ، فجاء هنا بإخوة الإسلام وهي أخوة مبادئ، لأننا وجدنا أن أخوة الإسلام بين المسلمين في علاقتها وروابطها أشد وأقوى من الأخوة النسبية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 عظم رابطة الإيمان بين أهلها فهنا يبين الله عظم هذا الربط بأن عليكم أن تقوموا بقتال الفئة الباغية ولو تكلفتم في ذلك ما تكلفتم، وفاء بحق الأخوة الإسلامية في حق الناس وأنتم معهم. إذاً: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10] هاتان الطائفتان المتقاتلتان داخلتان في ضمن أخوة المؤمنين وأنتم منهم، وعليه فمجموعة المؤمنين مكلفة بإصلاح شأن بعضها البعض، فبرابطة الأخوة الإيمانية كلف الله المؤمنين فيها كمجموعة بأن تصلح بين أفرادها وجزئياتها، وطوائفها وجماعاتها، لا على مبدأ الوطنية أو الجنسية أو القبلية أو أي مبدأ كان في هذا المجتمع، ولكن على المبدأ الأساسي ألا وهو الأخوة الدينية. ومن هنا يقول العلماء: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10] ، المخاطبون بعيدون عن الفتن، وهنا أصلحوا بين أخويكم. أي: الطائفتان، والتثنية هنا مراعى فيها الفريقان طائفة وطائفة تساوي طائفتين. يقول علماء التفسير: ما عليه سلف الأمة: أن أي كبيرة لا تخرج صاحبها من الملة ولا يخرج بها عن عداد المؤمنين ما دام يعلم بأنها كبيرة بخلاف من استحل ما حرم الله، فهذه ليست كبيرة، هذا شرك بالله، فمن استحل ما حرم الله فقد كفر ويستتاب وإلا ضربت عنقه، أما إذا فعل المنهي عنه وهو يعلم بنهيه ويقر به لكن لغرض ما أو لضعف ما وقع فيما هو منهي عنه، فهذه كبيرة لا تخرجه عن عداد المؤمنين، فهاتان الطائفتان مع اقتتالهما وبغي إحداهما على الأخرى ما أخرج واحدة منهما عن مجموع المؤمنين، وكما هناك في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، فهنا قالوا: هذا القتال بين الطائفتين لم يخرجهما عن الإيمان. هناك: (بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) ، وهنا: (واتقوا الله) أي: في حق الطائفتن المتقاتلتين، ولا تتركوهما حتى يقضي بعضهما على بعض، ويزداد الشر ويستطير فيشمل غيرهم، وتكون الحالقة. إذاً: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بهذا العمل، والقيام بالإصلاح وردع الباغية عن أختها؛ لأن هذا رحمة بكم أنفسكم؛ لأنكم إذا تركتموهم ربما انعكفوا عليكم، وربما كل طائفة استدعت ما يليها حتى عمت الفتنة في الأمة كلها، وحينئذ ليست هناك رحمة، فلعلكم ترحمون بقيامكم بالإصلاح، والقضاء على الفتنة، ولا شك أن في هذا رحمة للأمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 منهج الإسلام في ترسيخ الأخوة الإيمانية هنا سؤال أيها الإخوة: لِمَ عظم الله سبحانه وتعالى منزلة الأخوة الإيمانية، وجعلها رابطة بين المؤمنين جميعاً، وألزمهم بمقتضاها إصلاح المجتمع بأنفسهم وتحملهم المسئولية عامة؟ وكيف سلك الإسلام المنهج الذي آخى بين جميع المسلمين بتلك الأخوة وهذه الرابطة التي من نتائجها هذا الإصلاح، وتحمل المسئولية الكبرى؟ نعلم جميعاً بأن الإسلام دين عالمي لا دين جنس ولا وطن ولا قطر: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ، فهو نذير وبشير لكل الأمم، حتى الجن مع الإنس وإذا نظرنا إلى مبدأ الإسلام نجد نماذج دخلت في الإسلام جمعت عناصر البشر في أجناسهم وطوائفهم، فنجد في مكة صهيب الرومي، بلال الحبشي، سلمان الفارسي. سبحان الله! فارس والروم والحبشة، وعلماء البشر والأجناس يحصرونهم في ذلك الفرس والروم والأحباش والعرب، أو أبناء سام وأبناء حام، فيلتقي الجميع في هذه الأجناس الأربعة، وكل هذه الأجناس اجتمعت تحت راية لا إله إلا الله مع اختلاف العادات والمناهج والطباع والغرائز، كان الفرس والروم لا يرون العرب شيئاً، ولهم في ذلك مواقف، وكان العرب عندهم كالخدم، لكن لما جاء الإسلام طوع هؤلاء الأفراد من أجناسهم ونزلوا عن تلك الغطرسة وأصبحوا مع العرب سواء، وكذلك العرب كانوا أشد أنفة ويأنفون من أي جنسية أخرى، ورغم أن لهم السيادة على البشر إلا تلك الفوارق ماعت وأصبحوا جميعاً إخوة بالدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 مبادئ الأخوة الإيمانية إن المتتبع الموضوع الأخوة يجد أنها قامت على مبدئين: مبدأ تكوين هذا الإنسان من عنصري: المادة والروح، فالمادة هي هذا الهيكل العظمي، والهيكل العظمي كسي لحماً، فأصبح عظاماً ولحماً ودماً، والعنصر الثاني: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] ، فالعنصر الثاني هو: الروح، فنجد في التشريع الإسلامي في هذا الموضوع أن الإسلام راعى الجانبين؛ فمن جانب المادة والهيكل الإنساني منشؤه من التراب، قال الله: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [ص:71] ، والطين معناه ماء وتراب معجون. هذا الهيكل المادي -كما يقولون: وكل عنصر يميل إلى جنسه- يميل إلى ما وجد منه ويتلذذ أو يحيا ويعتز بأصله الذي يرجع إليه، ولذا فإن هذا الجنس راجع إلى الأرض، فملذات المطعم، والمشرب، والجنس كلها راجعة إلى هذا العنصر الذي منه هذا الهيكل. والروح من أمر ربي، عالم علوي تستمتع بالأمور الروحانية بالذكر بالتلاوة بالصلاة بأنواع القرب إلى الله، وهكذا وجدنا في الإسلام مراعاة الجانبين، أما جانب المادة فسيأتي نصه في السورة الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] ، ثم جاء العنصر الثاني: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، ثم جاء الإسلام فأزال الفوارق العنصرية والعرقية من عجم وفرس وروم، وجعل الجميع يرجع إلى مبدأ أساسي وهما الشيخ الكبير آدم والأم الكبيرة وحواء، فردهم إلى الأصل الذي هو المادي، فحرم الكبر والاستهزاء والسخرية، وردهم إلى الأصل الذي هو لاثنين فلا فخر لأحدهما على الآخر، فإذا كان كل منهما من ذكر وأنثى، فما هو الفضل لك حتى تفخر علي؟ وما النقص عندي حتى تستهزئ بي، فالأصل الذي جئت منه أنا معك فيه سواء؟ ولذا يذكر المفسرون قول علي رضي الله تعالى عنه عند هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13] ، يقول: الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 روافد الأخوة الإيمانية لقد حرم الله سخرية الإنسان من الإنسان، وحرم اعتداء الإنسان على الإنسان، وحرم أخذ مال إنسان بغير حق، فحفظ كل جوانب المادة للمجتمع؛ فإذا حفظت الحقوق كانت الأخوة. أما الجانب الروحي فقد حفظ أيضاً، وكما أن هذا العنصر إلهي ومن جانب المولى سبحانه، كما قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] ، فكذلك كانت أخوتهم من جانب الله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103] ، (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ) أي: بتأليفه لقلوبكم. إذاً: تلك الأخوة بين جميع المؤمنين فيها عنصر إلهي نعمة من الله، فأصبحتم بنعمته إخواناً، {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] ؛ لأن المحبة والأخوة لا يستطيع أحد أن يشتريها؛ لأنها أمور روحانية عاطفية قلبية، (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء) فنجد تعاليم الإسلام للمؤاخاة بين المسلمين من جانب العنصر المادي بمنع كل أسباب النزاع وغرس أسباب المحبة: (لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) ، وإفشاء السلام من دواعي المحبة: (تهادوا تحابوا) ، إذا قدمت لأخيك هدية وجد في نفسه ميلاً إليك، أو كما قيل: الهدايا تسل الضغينة من القلوب، وأمر بأداء الحقوق: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه -يفتح لك قلبه- وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) ؛ فهذه الحقوق التي أوجبها النبي صلى الله عليه وسلم لكل أخ على أخيه بمثابة وتواجد دوحة الإخاء، وهذه روافد تصب في جذورها، ففعل الخير وكف الشر يحفظ الأخوة من آفاتها وتبقى سليمة، وفعل روافد تغذيها لتنمو فتؤتي أكلها في كل حين، والجانب الروحي جاء من الله فضلاً ونعمة، ولهذا: (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) ، ولهذا شواهد عديدة، فترى الإنسان ولو لم تكن قد رأيته قط فكأنه معك من سنوات، تستريح لرؤيته، وتميل لحديثه؛ لأن الأرواح قد تعارفت وتآلفت. إذا كان الأمر كذلك، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10] . نجد نتيجة هذا التآخي الموآثرة بين المسلمين، فالواحد منهم يؤثر غيره على نفسه، وقد جاءت النصوص وبينت ذلك في حق الأنصار رضوان الله عليهم، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] ؛ فمن شروط الصلح: التجرد من شح النفس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 مواقف من تفوق الأخوة الإيمانية على أخوة النسب لقد فاقت الأخوة الإيمانية في مواقف عديدة على الأخوة النسبية؛ ففي وقعة بني المصطلق لما تخاصم غلام للمهاجرين لـ عمر وغلام للأنصار، فقال أحد الغلامين: يا للمهاجرين، وقال الآخر: يا للأنصار، فلما قالوا ذلك قال ابن أُبي: أو قد قالوها؟! ما نحن وهم إلا كمثل القائل: سمن كلبك يأكلك، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فجاء الغلام فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فشغل النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالمسير وقت القيلولة، حتى يشتغلوا بأنفسهم عن المهاترات أو النزاع، وخشية وقوع فتنة بينهم، فعلم ابن أُبي أن كلمته وصلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء يعتذر، ويقول: يا رسول الله! ما بلغك عني ليس بصحيح، فإذا بالوحي ينزل: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] ، ثم بين سبحانه وحكم على ابن أُبي بما قاله: ليخرجن الأعز منها الأذل، هذه قضية عامة: من بقي بعد ذلك؟ من هو الأعز الذي سيخرج؟ فحكم الله فقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] . إذاً: الأعز هنا: الله ورسوله والمؤمنون، فيكون الأذل ابن أُبي وجماعته، وهذا ما يسميه علماء الأصول بموجب القول، بموجب ما حكم ابن أُبي حكم الله عليه، لكن بين أنه هو الأذل وهو الذي يستحق الإخراج. فلما وصل المسلمون إلى المدينة، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن عبد الله بن أُبي واستل سيفه وأمسك بزمام ناقة أبيه, وأقسم ألا يدخل المدينة حتى يأذن رسول الله له بالدخول، ويعلم أنه هو الأذل، وأن العزة لله ولرسوله. فأي رابطة أقوى؛ رابطة الإيمان أم رابطة النسب؟ لا شك أنها رابطة الإيمان. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (مروه فليأذن له) فأذن له فدخل. وبمثل هذه الأحداث تشيع شائعات، فأشيع في المدينة أن رسول الله سيقتل ابن أُبي بسبب مقالته تلك، فسمع بذلك ولده فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: بلغني أنك قاتل ابن أُبي، فما قال: أبي. حتى لا يقال جاء يستعطف أو يتشفع وإنما تبرأ منه، ثم قال: إن كنت فاعلاً ذلك لا محالة، مرني آتيك برأسه فإني أخاف أن تأمر غيري يقتله، فلا أقوى أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض فأقتله فأهلك -فأكون قتلت مسلماً بكافر- فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن طمأنه أنه لن يفعل ما أشيع، بل أبعد من ذلك، وانظروا إلى سماحة الإسلام والتمسوها، فإنه لا ينبغي أن نتشدد في الصغائر والتوافه ونترك عظام الأمور، هذا الذي أشيع وكان يستحق القتل في آخر أمره لما توفي جاء ولده بعاطفة البنوة، وكان من أبرِّ الناس بأبيه، وقال: يا رسول الله! إن أبي مات، فأعطني قميصك أكفنه فيه لعل الله ينفعه به. رأس المنافقين يطلب ابنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه، لعل الله ينفعه ببركة رسول الله فأعطاه، ولم يقل له: إن أباك له سوابق رجع بثلث الجيش في غزوة أحد، وترك المسلمين هناك، وله مواقف مؤلمة أقل واحدة منها كان يستحق عليها القتل، ولكن يقولون: بأن النبي صلى الله عليه وسلم تعاطف مع عبد الله الولد إكراماً له، ولقوة إيمانه وصدقه مع المسلمين على أبيه، فكان ذلك معاوضة له، ثم طلب منه أن يصلي عليه فتقدم، وعمر يجره من ورائه، ثم جاءت الآية: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84] ، فرابطته مع المسلمين أقوى من رابطته مع أبيه. نأتي في غزوة أحد ونجد عبد الله بن أبي بكر، وقد أتى مع المشركين ويقول: هل من مبارز؟ فيكون أول من يقوم إليه أبوه أبو بكر، حتى يمسكه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: (أبق لنا نفسك يا أبا بكر) ، فإذا قلنا: ذاك شاب مع أبيه، فذاك شيخ القوم. وهذا أبو بكر لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح إيمان أبي بكر، ومع ذلك يقوم لملاقاة ولده والمبارزة، وكلتا الحالتين مصيبة؛ إن قتل قتل بيد ولده، أو هو قتل ولده، ولكن أخوة الإيمان ورابطته كانت أقوى من رابطة الأبوة والبنوة. نأتي إلى معركة القادسية: يخرج رجل بعد المعركة ويطلب ابن عم له في الجرحى ومعه قدح من الماء، لعله يجده محتاجاً إلى الماء فيسقيه، فوجده يئن، قال: ألك حاجة في الماء؟ قال: بلى، فقدم إليه القدح، فلما أدناه إلى فيه سمع أنيناً بجواره، فقال له: اذهب إلى هذا فلعله أحوج إليه مني، فذهب به إلى الثاني فقال: ألك حاجة في الماء؟ قال: بلى، فلما أهوى بالقدح إلى فيه سمع أنيناً من رجل ثالث، فقال له: اذهب إلى هذا لعله أحوج إليه مني، فذهب به إلى الثالث، فما وصل حتى فاضت روحه فرجع إلى الثاني، فوجده قد فاضت روحه، ثم رجع إلى ابن عمه فوجده قد مات، تفيض أرواح الشهداء الثلاثة وكل منهم يؤثر أخاه على نفسه في تلك اللحظات الحرجة، ويبقى الماء في القدح مع صاحبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 من مشاهد الأخوة في الإسلام تعجز الإنسانية كلها أن تقوم هذه المشاهد، وأن تبين عظمة الأخوة في الإسلام، وإيثار الغير على النفس ولو كان في أمس الحاجة والاضطرار، وليس أشد من ماء في تلك اللحظات، مع ذلك كل يشفق على صاحبه ويقدمه على نفسه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ العظيم بقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد) ، وقال الله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] ، فهكذا أخوة الإسلام جعلت المجتمع الإسلامي حصناً مشيداً، وبنياناً مرصوصاً ليس فيه تخلخل ولا مدخل لعدو، وجعلت أبناء العالم الإسلامي بالتواد والتراحم والتعاطف كالجسد الواحد، فالأمة الإسلامية جسد واحد وهو جسد الإسلام؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له باقي الجسد بالسهر والحمى؛ لأنه جسم واحد يرتبط بعصب واحد وإحساس واحد. لقد كان ذلك في بادئ الأمر، وكأن المال في يد أحدهم كأنه مال أخيه، كما جاء عن عبد الله بن عمر يقول: (كنا في زمن لا يرى أحدنا في ماله فضل على أخيه، واليوم الدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه) ، وإذا كان هذا القول صادر من ابن عمر وهو صحابي وفي ذاك الوقت، فماذا نقول نحن اليوم؟ إن أحوج ما تكون الأمة إليه اليوم هو العودة إلى التآخي والتراحم والتواصل فيما بينها. وليس إيثار الغير على النفس من خصائص الأنصار فقط، بل كذلك من خواص المهاجرين، فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت ذات يوم صائمة، فجاء مسكين بعد العصر، فقال: مسكين يا آل بيت رسول الله، فنادت عائشة بريرة، فقالت: أعطي المسكين يا بريرة، فقالت: ليس عندي ما أعطيه، قالت: أعطي المسكين يا بريرة، قالت: ليس عندي ما أعطيه إلا قرص من خبز شعير تفطرين عليه إذا جاء المغرب، فقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: أعطي المسكين، وإذا جاء المغرب يرزق الله فأعطته بريرة قرص الشعير وهي تتلكأ وتتغنى بقول عائشة: أعطي المسكين وإذا جاء المغرب يرزق الله، حتى وصلت إلى المسكين لم تسمُ بريرة إلى ما سمت إليه أم المؤمنين من قوة الإيمان واليقين بالله، والناس يتفاوتون في ذلك كتفاوت ما بين السماء والأرض، فجاء المغرب وقامت أم المؤمنين تصلي، وبريرة تعيد الكلمات، كأنها تعتب على أم المؤمنين فيما قالت وتصرفت، وما قضت أم المؤمنين صلاتها، إلا ورجل يطرق الباب، فذهبت إليه بريرة وأم المؤمنين تصلي، فرأت بجوارها شاة بقرونها، فقالت: يا بريرة! ما هذا؟ قالت: أهداها إلينا رجل والله ما قد رأيت مثلما أهدى إلينا قط مثل اليوم، قالت: كلي يا بريرة هذا خير من قرصك. وهكذا الإيمان واليقين يصنع في قلوب أصحابه، ثم أعطتنا منهجا منهجاً وقاعدة، وقالت: (والله لا يكمل إيمان العبد ولا يقينه حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه فيما هو في قبضة يده) وحقاً فإن ما كان عند الله لا يضيع، وما كان في قبضة اليد فليس بمضمون، قد يغصب منه، قد يمرض دونه، قد لا يملك منه شيئاً، وهكذا كان لعامل الأخوة قوة في الإيمان والشفقة على المسكين والضعيف. وإذا جئنا إلى المجتمع المدني في ذلك الوقت، نرى أن أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد فيه مجتمعاً خليطاً فالمؤمنون مهاجرون ومواطنون، واليهود حاقدون، والمشركون الوثنيون ما أسلموا بعد، وفيه من يخفي كفره ويظهر إيمانه، فما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع قيادته لهذا المجتمع بأسره إلا بالأخوة في الإسلام؛ فقد آخى بين المسلمين، وأذهب الفوارق العرقية والجنسية والطبقية بينهم، وأصبح الكل إخوانا إخواناً في الإسلام، وضرب المثل الأعلى للأمة حينما جاءت الأحزاب في غزوة الخندق، وعقد صلى الله عليه وسلم لوائين؛ لواء للمهاجرين ولواءً للأنصار، وجعل على كل عشرة عريفاً، وعلى كل عشرة عرفاء رقيباً -تقسيم عسكري نظامي- فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي؛ لأن سلمان جاء من بلده يباع ويشرى حتى انتهى أمره إلى يهودي في المدينة، وكان يعمل في بستان صاحبه، حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم وقدم إلى المدينة بما رأى في كتب الأقدمين عندهم: أن آخر نبي يهاجر إلى بلدة صفتها كذا وكذا، فانطبقت الأوصاف على المدينة، فجاء ينتظر فيها النبي المنتظر، فقال الأنصار: سلمان منا،؛ لأنه كان ينتظر رسول الله كما كنا ننتظره، وقال المهاجرون: سلمان منا؛ لأنه قدم من خارج المدينة، فلما تشاحوا فيه حسم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر قائلا: (سلمان منا آل البيت) كل يقول هو منا والرسول يرفع من شأنه، ويرفع من نسبه وحسبه ويلحقه بآل البيت وهو إنسان فارسي وليس فيه عرق عربي، ولكن تلك أمور مادية لم يلتفت إليها، بل نظر إلى إسلامه وإيمانه وما كان عليه رضوان الله تعالى على الصحابة أجمعين. وصلى وسلم وبارك على محمد وعلى آله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 تفسير سورة الحجرات [3 - ب] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 أثر الأخوة الإسلامية في تلاحم وترابط المجتمع المسلم بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فلن تكون للأمة الإسلامية أصالة ومناعة وترابط وتراحم وتلاحم إلا إذا انضووا تحت الأخوة الإسلامية. واستقوا من رحيقها، وعملوا بمضمونها، كما كان صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: إن تلك الرابطة الإيمانية التي ألغت روابط النسب والجنس والعرق والوطن قد ربطت بين مؤمني هذه الأمة وبين حملة العرش من ملائكة الرحمن، كما قال الله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] ؛ فهذه رابطة الإيمان بين الملائكة ومؤمني هذه الأمة، ثم عطفت قلوب الملائكة على المؤمنين في هذه الدعوات المخلصة: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:7-8] مجال واسع الآباء والذريات والأزواج، ما كان بين الملائكة ومؤمني البشر عنصر يجمعهم؛ فالبشر من مادة الماء والطين، والملائكة عالم نوراني، وكل له خصائصه، ولكن الرابطة العامة قد ربطت بينهما، ويبدو لي أن تلك الرابطة أوسع مدى، فقد ربطت بين المؤمن والحيوان، والمؤمن والجماد، فهذا سفينة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائد من بعض الغزوات، وإذا بالأسد على الطريق يمنع الناس من المرور، فشق الطريق إليه وتقدم عنده، وقال: (أيها الأسد! إني سفينة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عزمت عليك لتفسحن الطريق للناس يمرون، فإذا بالأسد يتنحى عن الطريق ويمضي قليلا ويقف، فيقول لهم: اجتازوا فقد ابتعد عنكم) من الذي أفهم الأسد نداء سفينة؟ إنه الله! وهذا العلاء بن الحضرمي ذهب لغزو البحرين فإذا بالقوم قد علموا به، فانحازوا بسفنهم إلى داخل الجزيرة، فماذا يفعل القائد المسلم وقد قطع المسافة من المدينة إلى هناك قرابة شهرين؟ ما انتظر ولا رجع، ولكن بإيمانه ويقينه بالعهد الذي بينه وبين الله والمهمة التي توجه إليها؛ توجه إلى المولى سبحانه؛ لأنه بيده ملكوت كل شيء، وهو الذي خلق كل شيء وأعطاه خصائصه، وهو قادر أن ينزعها عنه، فقال: أيها البحر! إنك تجري بأمر الله، ونحن جند في سبيل الله -الرابطة واحدة مجراك بأمر الله ومجيئنا أيضا بأمر الله- جئنا لنغزوا عدو الله؛ عزمت عليك لتجمدن لنعبر إليهم، ثم أمر الجيش بالمضي، فاقتحموا البحر وجمد لهم الماء. يقول ابن كثير في هذا الخبر: ما ترجل الفارس، ولا احتفى المتنعل؛ فالذي ركب على فرسه ركب على فرسه، والذي كان لابساً لنعاله بقت نعاله في قدميه، وعبروا البحر يمشون على وجه الماء، حتى وصلوا إلى العدو وقاتلوا وفتح الله عليهم. هذه أيها الإخوة نماذج وأحداث لولا أنها ثبتت عن سلف الأمة وعلمائها لكان العقل يتوقف ويتساءل: كيف يكون ذلك؟ ولكن لا، فالكيف لا يتوجه إلى قدرة القادر سبحانه؛ لأنه مكيف الأشياء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 بين معجزات الرسول وغيره من الرسل وهذه نار إبراهيم المحرقة، ما طار طائر من فوقها إلا وهوى من حرارتها، مكثوا مدداً طويلة يجمعون لها الحطب، فلما أجمعوا أمرهم لم يستطيعوا أن يدنوا منها، فنصبوا المنجنيق؛ ليلقوا بإبراهيم من بعد، وحينما ألقي في النار تقول السير: أتاه جبريل عليه السلام حينما ضجت ملائكة السماء شفقة على إبراهيم، فقال الله لهم: إن طلبكم شيئاً فأعطوه، وإن استعاذكم فأعيذوه، وإن استعان بكم فأعينوه، ولكنه لما نزل إليه جبريل وقال: يا إبراهيم! ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى، سله هو أعلم بحالي من مقالك. هناك من يشكك في هذه الرواية، ويقول: إن ذلك يمنع الدعاء عند الشدة، وهذا غير صحيح؛ لأن هذا القائل لو علم الموقف علماً يقينياً لوجد في هذه الألفاظ الصواب كل الصواب، والبلاغة كل البلاغة، ونحن نعرف (إذا) الفجائية، والموقف الآن هو نار مشتعلة، ومنجنيق منصب، ولم يبق إلا شد الحبل وإرخاؤه، فهل هناك مجال لقول: يا رب ارحمني يا رب ارحمني يا رب احفظني؟ لا مجال، فعلمه سبحانه بحاله يغني عن سؤاله؛ لأنه مهما سأل ومهما تكلم فلن يزيد عن تصوير حالته فيما يرى الله ويسمع. إذاً: لا مجال للكلام، وأنت الآن تطبق ذلك: إذا رأيت إنساناً يعبر الشارع، ورأيت سيارة قادمة مسرعة، فهل تقف وتقول: يا رب! احفظه وسلمه من السيارة وجنبه الآفات -في هذا الوقت تكون السيارة قد أخذت عشرات الأشخاص- أم حالاً تقول: السيارة السيارة، يعني: احذر السيارة. لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار، كان أمر الله للنار؟ (قُلْنَا) والنون للعظمة والقدرة والجلال، وكلمة: (قُلْنَا) لا يملكها إلا هو سبحانه، (يَا نَارُ) :الياء: أداة نداء، والنار منادى، ليس لها آذان وليس لها قلب يعي ولكن خالقها قادر على إسماعها وإفهامها، {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] . وهذا موسى عليه السلام ومعه بنو إسرائيل أمره الله أن يخرجوا مصبحين إلى أين يا رب؟ قال: حيث ترى السحابة فسر في ظلها، فإذا بالسحابة تقوده إلى ساحل البحر، فوقفوا والتفتوا فإذا فرعون وقومه وراءهم، فقال الذين معه: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) البحر من أمامنا، والعدو من ورائنا. أين المفر؟ إن أمامنا بحر لجاج، وإن تأخرنا أدركنا العدو، فقال موسى عليه السلام: (كَلاَّ) ، وكلا هي بذاتها تجلجل، فكيف بمعناها ودلالته؟ {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] . دائماً ننبه على اختلاف المقامات والمراتب، هذا الموقف الحرج قال فيه موسى لقومه: (كَلاَّ إِنَّ مَعِي) معي أنا، والأمة هذه كلها وكأن العبرة لموسى وهارون عليهم السلام، وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان في الغار ومعه الصديق وجاء الطلب ووقفوا على فم الغار بسيوفهم، ماذا قال أبو بكر: (والله لو نظر أحدهم إلى أسفل نعليه لأبصرنا لرآنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما) ؛ {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] هل قال: معي وكفى؟ لا. بل قال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) جمع أبا بكر معه؛ لأن أبا بكر شارك في الهجرة من بيته إلى الغار، وفادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه عدة مرات، تارة من أمامه، وتارة من ورائه وعن يمينه، وعن شماله، كل ذلك مخافة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما وصلوا الغار ليلاً والغار مظنة الآفات والهوام، قال: على رسلك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار) . وأنت يا أبا بكر من يستبرئه لك؟! ولهذا لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بالي أراك تارة أمامي وتارة خلفي. ؟ قال: أتذكر الطلب فأكون خلفك. قال: يا أبا بكر! لو كان هناك شيء أتود أن يكون فيك دوني؟ قال: نعم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن أهلك أهلك وحدي، أما أنت فمعك الرسالة) لست شخصاً وحدك، بل معك رسالة السماء إلى الأمة، ومن هنا كان يستحق أن تفدى بالدنيا بكاملها، ولذا كان التكريم، {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} وقال له: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) وهناك موسى قال: (مَعِي) ؛ لأنه الوحيد في هذه الأمة، والموقف هناك أبو بكر له فيه مساهمة. ماذا كان الحل لإنجاء موسى؟ نجد البحر أمواجاً متلاطمة، فيوحي الله لموسى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] ، كالجبل الكبير جداً، ثم يصير جماداً متماسكاً، وانفلق إلى اثني عشر طريقاً في البحر، ويمشي بنو إسرائيل في كل طريق، وطريق الماء الفاصل بينهما فيه فتحات حتى يطمئن بعضهم على بعض. إذاً: الله سبحانه وتعالى هو القدير، خالق الموجودات ومسبب الأسباب، يمكن أن يسلب السبب من المسبب، أو يسلب الخاصية من العين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 الفرق بين الأخوة الإيمانية والمصالح الشخصية لقد ربطت الأخوة الإيمانية بين بني البشر على اختلاف أجناسهم ودمائهم وبلادهم وعاداتهم. ؛ بل امتدت إلى السماء وما تحت عرش الرحمن فربطت بين حملة العرش ومؤمني هذه الأمة، بل اتسعت وربطت بين المؤمنين وبين الحيوانات والجماد، فكيف نذهب ونطلب روابط أخرى شركية أو وطنية، حينما ارتفعت النداءات بالعنصرية، وأول من فعل ذلك اليهود، نادوا بالقوميات، وقوضوا الخلافة العثمانية، بالدعوة إلى الجنسية التركية العثمانية، وهكذا وفي كل زمن نسمع دعوات وأمم تنحاز عن الأخرى وتتقطع أوصال الجسم الإسلامي عضواً فعضواً حتى أصبحت أعضاء متناثرة، وفي كل قطر داع لما هو فيه، كما قيل: ألقاب ملكة في غير موضعها كالقط يحكي انتفاخاً صولة الأسد ولم يرجعوا إلى المبدأ الواحد بل للأسف أيضاً أبعد من هذا نجد البلد الواحد يوجد فيه رسمياً الأحزاب المتعددة؛ {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53] كل حزب يدعي أنه يخدم الأمة، وأنه يعمل لمصلحتها، فإذا انحلت الحكومة وجاءت الانتخاب قام كل حزب يقاتل الآخر، وتسفك الدماء ليصل الحزب الأكثر أو الأقوى إلى سدة الحكم ثم يتحكم في الآخرين، هل هذه وحدة؟ ليست والله وحدة؛ لأنها قائمة على أغراض شخصية وذاتية، أما الأخوة الإسلامية فإنها تلغي كل الروابط وكل العناصر إلا أخوة الإسلام. فهل علمنا حقيقة الأخوة كيف تكون؟ هل رأينا آثارها في المجتمع الإسلامي كيف كان؟ نسأل الله أن يرد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى دينهم، وأن يعودوا إلى هذا الإخاء في ذات الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 آداب المسلم في التعامل مع أخيه قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] . تأملوا معي هذا النسق الكريم، وتحققوا وأيقنوا مما أسلفناه بأن هذه السورة الكريمة سورة الآداب أو سورة الحقوق، أو سورة الأخلاق على حسب ما تسمونها. لما بين سبحانه وتعالى حق الله ثم حقوق النبي الكريم في حضوره وفي غيبته في بيته كرب أسرة، جاء إلى حق الجماعة فيما بينهم بالصلح بين الطائفتين المقتتلتين، وأداء الواجب وتحمل المسئولية من أجل أخوة الإيمان، فكأنه في ذلك يقول: قد تم بناء الأمة على الإخاء، والتزمت الأمة عدم التقدم بين يدي الله ورسوله، وتبادلت الاحترام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هي قامت بإصلاح ذات البين، واستقر الأمر وأصبحت خير أمة أخرجت للناس. كيف نحافظ على ذلك كله؟ فإذا بالآية الكريمة بعد ذلك: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} فلكأن السخرية سبب في كل المفاسد على وجه الأرض، ولكأن السخرية هي الباعث على ما وراءها من كبار المخاطر والأخطار التي تقع في المجتمع، والسخرية كما يقولون: هو أن تتنقص من تسخر منه. ولماذا تسخر منه؟ لا يسخر إنسان من إنسان إلا إذا رأى لنفسه الفضل له على غيره، فيسخر منه. يقول العلماء: إن أول معصية وقعت هي الحسد، فجرت إلى الكبر، فكانت النتيجة الطرد من رحمة الله، وذلك في قضية إبليس؛ حسد آدم على نعمة الله عليه بأن خلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد الملائكة له، وأسكنه الجنة، فلما أمر بالسجود له تكبر عليه. أقول: إن قبل الحسد السخرية؛ لأن الذي يسخر من إنسان يتنقصه فيستكثر نعمة الله عليه، ولذا جاءت الآية هنا، وأعتبرها بمثابة الوقاية للأمة بعد اكتمالها على أكمل ما يكون، وقاية من أسباب الفرقة والقتال والضياع، فبدأت أول ما يكون: (لا يَسْخَرْ) وكان ابن مسعود يقول: (والله إني أخاف إن خشيت من كلب أو خنزير أن يحولني الله كلباً أو خنزيراً) . وإذا نظرنا إلى قضية الحسد بين إبليس وآدم نقول: إن السخرية سبقت الحسد؛ لأن إبليس سخر من آدم أولاً، وكما في الأخبار: لما كان آدم من صلصال أجوف كان إذا ضربت عليه يصدر منه صوت كالطبل، فكان إبليس يدخل من طرفه ويخرج من طرفه الآخر ويقول للملائكة: سأوريكم شأن هذا، فكان يسخر منه، فلما جاءت نعم الله عليه ونفخ فيه من روحه، وصار إنساناً مكتملاً، توعد بين يدي الله أنه لا يسجد {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82-83] قال: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:62] . قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء:61] ، وقال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76] . لما رأى آدم حسده على تلك النعم؛ لأنه في حسبانه لا يستحقها، فجر ذلك إلى الكبر، ولهذا أيها الأخوة: أول المعاصي في الأرض وأول الشحناء على وجه الأرض كانت بسبب السخرية، وقد وجدنا هذا المبدأ ضمن مبادئ أساسية للمعاصي، فنجد في القوم الذين سألوا نبيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة:246-247] . ماذا قالوا؟ {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:247] ، هذا اصطفاء من الله، اصطفاه وذكر مقومات الملك والقيادة {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247] ، العلم للتخطيط والإرشاد، ولمصالح العالم، وقوة الجسم للتنفيذ، فهو لم يؤت سعة من المال، لأن المال لا يؤدي إلى الملك، وقد يكون الرجل لديه الخزائن، وقد تكون المرأة لديها الكنوز، ولكن لا تصلح لملك ولا لقيادة. إذاً: المال من حيث هو ليس وسيلة للملك ولا وسيلة للقيادة. ونجد أيضا في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم تقول قريش: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:31-32] . قرص العيش نحن الذين قسمناه، أفتريدون أنتم التحكم برحمة الله. وهكذا المشركون عندما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أبعد عنا هؤلاء المساكين. لماذا؟ سخرية من هؤلاء المساكين، والله قد عاتب رسوله في شأن ابن أم مكتوم في {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] . إذاً: تبدأ الآية الكريمة بالنهي عن أخطر عناصر الأخلاق، وهو: سخرية إنسان من إنسان آخر. فهذا لا ينبغي أبداً. (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) أي: لا يتنقص، ولا يستهزئ، وهنا المقارنة أو المقابلة بين قوم ونساء، وهنا ينبه علماء التفسير الذين يتتبعون النكت في التفسير قالوا: قال هنا: (قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) ثم عطف (نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) ، ألسن النساء يدخلن في معنى القوم. قالوا: لغة لا. فكلمة (قَوْمٍ) تختص بالرجال وهو من القوامة والقيام بشئون الأعمال، والنساء لا يقمن بشيء. وما أدري إخا لك تدري أقوم آل حصن أم نساء ففصل بين القوم وهم الرجال وبين النساء، وهنا القسمة رباعية: قوم من قوم، نساء من نساء، جنس من جنس، لم يأت قوم من نساء، ولا نساء من قوم، قوم من قوم هذا جنس، نساء من نساء هذا جنس ثان، قوم من نساء لم يأت، نساء من رجال لم يأت. يقول علماء التفسير: لأن طبيعة الإنسان من حيث هو أن تكون السخرية بين الرجال والرجال؛ لأن الرجل هو الذي يتعاظم على الرجل فيسخر منه، وكذلك المرأة مع المرأة -أي: الجنس مع جنسه- أما رجل يسخر من امرأة فهذا لا يتأتى؛ لأن الرجل لا يضع نفسه في مقابل المرأة حتى يسخر أو لا يسخر، فهو جاعلها في حسبان بعيد عنه، وكذلك المرأة بقوامها وبكيانها وبتكوينها لا تعطيها طبيعة خلقتها أن تسخر من رجل، لأنها تعلم بأن الرجولة كمال لا يمكن لها هي أن تسخر منه، ولو كان أقل الرجال منزلة فهو في حسبان الأمة أعلى منزلة من أعلى امرأة من حيث الرجولة والأنوثة، وإن كان بعض النسوة يفقن بعض الرجال في العقل، ولكن المعادلة: لا يسخر قوم من قوم ولا نساء من نساء. ثم يبين: (عَسَى) وعسى من الله حقيقة (أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) ، ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة ذلك. يقول ابن مسعود: (جلس النبي صلى الله عليه وسلم مجلساً فمر رجل ليس ذا هيئة، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: إن استأذن لا يؤذن له، وإن تحدث لا يصغى إليه، وإن خطب لا يزوج، فسكت عنهم، ثم جاء شخص آخر ذو هيئة ومنصب فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: إن استأذن أذن له، وإن تحدث أصغي إليه، وإن خطب زوج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لذاك خير من ملء الأرض من مثل هذا) . ذاك استخفوا بهيئته وأنه ضعيف ولكنه عند الله يعادل ملء الأرض من غيره. إذاً: لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكون المسخور منه خير منهم عند الله وكذلك النساء: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} . ثم أتى بعد ذلك بتوابع الأخلاق الذميمة التي يترتب عليه أيضاً فساد المجتمع؛ فقال: {وَلا تَلْمِزُوا} بعضهم يقول: الغمز بالعين، واللمز الإشارة باليد، وهو نوع من أنواع السخرية، يعرض به بدل أن يتكلم صراحة، أو يعتقد في قلبه شيئاً ثم يبرز ذلك بعينه أو بلمزه أو غير ذلك، وكل ذلك تعبير في فلك السخرية. {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} (بِئْسَ) : ضد نعم، أو كما يقولون: من أخوات نعم، لكن على العكس، بئس فعل ذم، ونعم فعل مدح. (بِئْسَ الاِسْمُ) ، والاسم من الوسم وهو العلم على الشخص، كل إنسان له اسم يميزه، وسمي الاسم اسماً؛ لأنه كالوسم والعلامة التي عليه تميزه عن الآخرين، وهذا من خصائص الإنسان، وقد يسمي بعض الناس الحيوانات بأسماء تخصها، {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} أن تتسموا بالفسوق بعد أن كنتم مؤمنين. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ؛ كنتم إخوة وتمت الأخوة بينكم، فإذا ما وقعت السخرية ووقع الغمز واللمز كان هناك اسم آخر بسبب ذلك هو الفسوق؛ لأن من سخر بأخيه وغمزه ولمزه وعامله بهذا الانتقاص كان ذلك فسوقاً؛ لأنه خروج عن الجادة، وإخراج الشخص عن مكانته. ث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 الأسئلة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 حكم تلقيب الناس بما اشتهروا به السؤال ذهب بعض الناس مضرباً للجبن والبخل، فهل يعد ذلك من السخرية؟ الجواب الأخ هذا يقول والعهدة عليه: ذهب بعض الأقوام إلى أنهم اشتهروا بالبخل والشح، فإذا قلنا: الجماعة الفلانية بخلاء، هل هذا داخل في السخرية؟ سيأتي ذلك عند قوله: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12] وأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل: (أرأيت يا رسول الله إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) . وسيأتي موضوع يجب التنبيه عليه وهو: إذا كان إنسان له لقب ولم يعرف إلا به، فاللقب على قسمين: لقب مدح ولقب ذم، فمن ألقاب المدح: الصديق رضي الله تعالى عنه، الفاروق، ذو النورين، ذو السبطين، هذه ألقاب للخلفاء الراشدين جميعاً، وهي ألقاب مدح وثناء، فإذا ما ذكر بها صاحبها كان ذلك مدحاً له. لكن هناك ألقاب أخرى ولكن لا أحفظ منها شيئاً، وهي ما يستحي منها صاحبها ويكره أن يذكر بها، فلا ينبغي أن تناديه باللقب الذي يكرهه. والألقاب قد تلتصق بالناس دون إرادة، ربما بسبب حادث من الأحداث تلصق به صفة من الصفات، مثل: صاحب أنف الناقة. على كل يقول علماء الحديث في المصطلح: إذا كنت في سبيل الجرح التعديل، ويوجد إنسان من الرواة اشتهر بلقبه ولو كان يكرهه فلا بأس، مثل: فلان الأعرج، الأعمى، الخرقي، الزيات، وهذه كلها مهن وصفات. فليس ذكره بهذا اللقب الذي يعرفه الرواة من باب السخرية، ولكن من باب التعريف بما هو به مشهور، وليس ذلك من التنابز بالألقاب، وسيأتي زيادة في هذا عند الكلام عن الغيبة إن شاء الله، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 تفسير سورة الحجرات [4 - أ] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 نهي الإسلام عن السخرية بين المجتمعات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] . أيها الإخوة! في هذه الآية الكريمة نداء للمؤمنين بأحب الأشياء إليهم، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونََ} [الحجرات:11] . في هذه المقدمة من هذه الآية الكريمة ينادي المولى سبحانه عباده المؤمنين الذين التزموا بلوازم الإيمان، وهو: التصديق والعمل بكل ما جاء عن الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: هذا التعليم القرآني الكريم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 الإعجاز القرآني في قوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم) نلحظ في هذه الآية الإعجاز القرآني اللفظي والتنبيهات اللطيفة في قوله: (لا يَسْخَرْ قَومٌ) ، المفروض أن الذي سيسخر هو فرد واحد، ولكن الله سبحانه أسند السخرية المنهي عنها بقوم، والقوم هم الجماعة، و (قوم) لفظ خاص بجماعة الرجال، وقالوا: إن مادة قوم والقيام والقوامة ممثلة في الرجال؛ لأنهم هم الذين يقومون بالواجبات، كما قال الله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] ؛ فوصف الرجال بالقوامة؛ ولذا كان لفظ القوم خاصاً بالرجال فقط، ولذا عطف عليه القسيم الثاني وهم النساء، فقال: (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) فكون الإسناد هنا لجماعة أو لقوم وهم عدد، مع أن العادة جارية بأن السخرية لا تنشأ ولا توجد إلا من فرد واحد؛ فلماذا جاء اللفظ بالقوم -وهم الجماعة- نيابة على الواحد؟ أشرنا سابقاً بأن آيات القرآن يرتبط بعضها ببعض، ولذا لو رجعنا قليلاً لوجدنا قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] ، فهنا طائفة متقاتلة مع طائفة أخرى، والطائفة هي الجماعة، والجماعة هي القوم، ولما انتهى القتال وجاء الإصلاح وتدخل المؤمنون قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ َ} [الحجرات:10] ، ثم جاء تصفية ما عساه أن يكون من بقايا القتال بين الطائفتين، فقد تكون طائفة أقوى من الأخرى فتفخر عليها وتسخر من الطرف الثاني، فجاء التعبير بالقوم بناء على أنه تقدم عندنا طائفتان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 اشتراك الراضي عن الفعل في الأثم لو أن شخصاً من إحدى الطائفتين سخر بالطائفة الثانية؛ فإن إسناد السخرية يكون للطائفة التي منها الشخص الذي سخر، ويكون الإسناد للمجموع لا للفرد فقط؛ لأن الواحد يتكلم باسم جماعته، ومن هنا لو أن البعض لم يسخر ولم يرض لكنه مشارك بالسكوت كما قيل: وسامع الذم شريك لقائله ومطعم المأكول شريك الآكل الذي سمع ما ذم إنساناً لكنه سمع ورضي وتلذذ بذلك، كما قيل: لم آمر بها ولم تسؤني؛ فهو مشارك للذي سب، أو ذم غيره، وعليه فهو مشترك في الإثم، وهكذا هنا الجماعة الواحدة؛ فالذي يتكلم منهم ويسخر من الطائفة الثانية كأنه تكلم باسم الجميع، والجميع يتحمل الإثم؛ لأنه سكت ورضي. وهكذا أي إنسان ذكر إنساناً بسوء وعنده من إخوانه من لم يرد عليه ولم يمنعه؛ فمن رضي بذلك فهو مشترك في الإثم معه بسكوته عنه وعدم نهيه عن فعله، ولذا جاء في بني إسرائيل: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] ، ويقول علماء الأصول: الترك فعل في صحيح المذهب، فإذا رأى إنسان منكراً وهو يستطيع أن ينكره وترك النهي فهو كالذي فعله، ولو أن إنساناً وجد آخر يسبح في الماء وأوشك على الغرق، ويستطيع أن ينقذه دون مضرة عليه؛ فتركه حتى غرق فهو مشارك في مسئولية غرقه، ويقولون أيضاً: لو أن إنساناً في فلاة ووجد ظمآناً يكاد أن يهلك من العطش، وعنده فضل ماء يزيد على حاجته وتركه ولم يسقه فمات فهو مسئول عنه. وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: (لو أن إنساناً مات جوعاً في حي من الأحياء لألزمتهم ديته لأنهم تركوا إطعامه) ، هم لم يقتلوه ولكنهم أمسكوا فضل طعامهم ومائهم؛ فبإمساكهم ما به حياة إنسان يكونوا قد فعلوا ما يوجب الموت بالفعل، وهنا إشارة لطيفة في التعبير بلفظ بدل من لفظ، كان ممكن أن يقول: لا يسخر إنسان من إنسان، مسلم من مسلم، مؤمن من مؤمن، وهي تؤدي المعنى، ولكن يأتي بلفظ: (قوم) ، والحاصل: أن السخرية لا تنشأ إلا من شخص واحد، إذا الواحد الذي أنشأ السخرية يمثل القوم، والقوم موافقون وراضون وساكتون، أما من ينكر ذلك فقد خرج منهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 جهات الخيرية الموجودة في المسخور منه (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا) أي: المسخور منه خير من هؤلاء الذين سخروا، (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) . وكما يقولون: السخرية لا تكون إلا في جمع من الناس؛ لأنه لا يسخر من إنسان بينه وبين نفسه، وقد يكون هذا يتنقصه في نفسه ولكن العادة أنه لا يسخر من إنسان إلا بحضور آخرين، ويسخر منه ويتنقص في أمر يسخر منه، قد يسخر قوي من ضعيف غني من فقير سليم من مريض، كل هذه الأنواع المتغايرة المتفاضل فيها قد يسخر من الناقص منها. ولكن يقول سبحانه: (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) ، الخيرية هذه لها جهتان: خيرية في الدنيا، وخيرية في الآخرة. عسى أن يكونوا خيراً منهم عند الله، أنت تسخر منه وهو خير منك عند الله، يبقى فالسخرية حينها ترجع عليك أنت، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر عليهم -وهو في أصحابه- رجل قوي جلد ذو هيئة فقال: (ما تقولون في هذا؟ قالوا: نعم الرجل، إن استأذن أذن له، وإن تحدث أصغي إليه وإن خطب زوج. فسكت عنهم حتى مر إنسان مسكين نحيف الجسم ضعيف الحال، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: إن تحدث لا يصغى إليه، وإن استأذن لا يؤذن له، وإن خطب لا يزوج. قال: لهذا خير من ملء الأرض من ذاك عند الله) ، فهذا الذي تنظرون إليه على أنه ضعيف أو تزدريه أعينكم خير من ملء الأرض من ذاك الذي ملأ أعينكم وأخذ إعجابكم. هذه الخيرية عند الله. لكن وإن قال جميع المفسرين هذا ولكن نقول: هذا في الدنيا؛ أنت غني تسخر من فقير، وما يدريك أن هذا الفقير على مكارم الأخلاق، وأحسن العادات صدوق في الحديث، وفيّ في العهود، محافظ على أوامر الله، يقيم الصلاة، يصوم رمضان، بينما أنت مفرط في بعض ذلك. قد تسخر منه لصحتك وهو مريض، وما يدريك لعله في مرضه يقوم الليل ويناجي ربه، وأنت غارق في النوم. إذاً: قد تكون الخيرية في الدنيا بجوانب أخرى، أنت استنقصته بفقره والله عوضه من ذلك، ولهذا جاء عن الإمام علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن الله تعالى قسم العطاء على الخلق، ولو نظرت في أحوال الناس لوجدتهم من حيث العطاء سواء) قد تقول: كيف هؤلاء متساوون: هذا فقير وهذا غني، وهذا صحيح وهذا مريض، قال: (إن أعطى هذا مالاً ومنعه من هذا، فقد يعطي هذا راحة بال وطمأنينة نفس خير من مال هذا) ، قد يكون المال مشغلاً لصاحبه، مقلقاً له، مؤرقاً إياه، ولكن هذا راض بما قسم الله له، والرضا عطاء من عند الله، فيبيت مطمئناً راضياً قانعاً، فيكون أسعد حالاً، وقد يعطي الله هذا مالاً ويمرض هذا ويعطيه من الحكمة والعلم ما يساوي مئات المرات مما أعطى هذا من صحة ومال. وكما جاء عن عروة بن الزبير: أنه سافر إلى العراق إلى معاوية وحصل له في الطريق ما حصل، وهناك أصيبت ساقه، فجاء الطبيب فقال: لابد من بترها حتى لا يتفشى المرض في باقي الجسم فتقضي على حياتك، أخيراً: قطعت الرجل، فلما جاء إلى المدينة غطاها، وكان الناس يأتون يسلمون عليه ويعزونه في رجله، فدخل عليه أناس من أصحابه الأخصين، فقال لابنه: (اكشف عن رجلي ليراها فلان، فنظر إليه فضحك، قال: ما يضحكك على هذه المصيبة؟ قال: نحن ما أعددناك للسباق والصراع، ولكن أعددناك للعلم والفقه -وكان عروة أحد الفقهاء السبعة- قال: والله ما عزاني أحد فيها كما عزيتني أنت) ؛ فلئن ذهب جزء من الساق أو الساق بكاملها فقد أعطاه الله سبحانه وتعالى من العلم والحكمة ما يفوق على الدنيا وما فيها. إذاً: عسى أن يكونوا في الدنيا بجوانب أخرى خيراً منكم؛ فلا يسخر قوم من قوم. إذا رأى الإنسان من نفسه تطلعاً أو تطاولاً وجاء الشيطان وأغراه فليقمع الشيطان عنه، وليعلم بأن هناك صفات أخرى إما معنوية أو حسية هي خير مما يسخر به هذا الإنسان. إذاً: فالأحمق وغير العاقل هو الذي يسخر من أخيه الإنسان، ألفقره وغناك تسخر منه؟ فالغنى ليس بمحض جهدك بل الله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، لينظر هل يشكر أم يكفر، يصبر أم يضجر؟ فهو عطاء من عند الله، والصحة كذلك ليست من جهدك ولا من عطائك، وهكذا لا ينبغي لعاقل قط أن يسخر من إنسان آخر رآه في حسبانه هو أنه منقصة في هذا الشخص الآخر، لا وكلا، ولذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (والله إني لأخشى لو أنني سخرت من كلب أن يمسخني الله كلباً) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 الخيرية الموجبة لعدم السخرية بين النساء ثم قال الله: (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) ، امرأة هي جميلة في نظرها تنظر إلى أخرى وترى أنها ذميمة، هي رابعة الطول وهي قصيرة، ذات حسب ونسب، وتلك خادمة مسكينة، وكذلك كل ما يقال ويوجد في الرجال للرجال يقال ويوجد في النساء للنساء، قد تسخر منها لجمالها وتكون إما عند الله هي خير منها، وإما أن تكون في الدنيا أيضاً. أنس رضي الله عنه لما تزوج ودخل على زوجه -ما كان رآها قبل ذلك- فلما نظر إليها كأنه كان يتوقع أحسن من هذا، فعرفت ذلك في وجهه، فقالت: يا أنس! إن الله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] . وهو رجل فقيه لما سمع كلام الله وفي وقت حرج مثل هذا قال: قبلنا، فرزقه الله منها بـ مالك فعوضه الله بأعلى من المستوى الذي كان يريد، ومالك جاء بجارية ورزق منها بهذا الولد الذي أصبح إمام دار الهجرة، والله لو كان سيزنها بالذهب فإنه لا يعادلها، لو أن امرأة أخرى في جمالها وحسبها رأت تلك المرأة التي تزوجها أنس لازدرتها، ولو كانت تعرف بأنها سوف تنجب مالك بن أنس، في تلك الساعة ازدرت نفسها عند تلك المرأة. يقول بعض العلماء: إن القسمة هنا ثنائية رجال من رجال. هذا قسم، نساء من نساء. هذا قسم آخر، ولم يأت ذكر رجال يسخرون من نساء، ولا قسم نساء يسخرن من رجال؛ لأن بين الرجل والمرأة بون شاسع، وكمال الرجل لا يجعله يضع نفسه في مقارنة مع امرأة؛ لأنه ينظر نقائصها فلا يسخر منها، وكذلك المرأة مع الرجل؛ لأنها ترى أن الرجل أعلى منزلة منها، فلا تضع نفسها في رفعة حتى أنها تسخر من الرجل، فرجولته تغطي كل شيء، ولذا جاء بالفريقين فقط: قوم من قوم، ونساء من نساء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 السخرية أصل كل خطيئة أشرنا سابقاً بأن كل الخطايا والجرائم والآثام الشخصية قد يقال: إن منشأها من السخرية؛ لأنك سخرت منه عندما رأيت نفسك أعلى منه وهو دونك، فاستنقصته فصار هناك الغمز واللمز، وصار هناك الاعتداء وكانت هناك الآثام، (بحسب امرئ مسلم من الإثم أن يحقر أخاه المسلم) ، يكفيه ذنب واحد في الدنيا لهلاكه وتعذيبه وهو الاحتقار، والاحتقار سيؤدي إلى السخرية، إذ السخرية نتيجة الاحتقار، ويحمله ذلك على معصية الله. ويقولون: إن أول معصية وقعت إنما هي الحسد، أي: حسد إبليس أبانا آدم على ما أكرمه الله به من أنه خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود إليه، وأمر بسكناه الجنة، وإبليس لم يجد شيئاً من هذا، فحسده على تكريم الله إياه، وأقول: إن قبل الحسد كانت السخرية، فإبليس ما حسد آدم إلا من بعد ما سخر منه واحتقره، ولما احتقره استكثر نعم الله عليه وأنه لا يستحقها، وهذا الذي يجري عند الناس إذا رأوا نعمة الله على عبد قالوا: لا يستحقها. وليس أهلاً لهذا، يعني: يسخر منه ويتنقصه ويستكثر نعم الله عليه، فهو محارب لله في عطائه لبعض خلقه. أقول: إن السخرية سبقت الحسد، والحسد جاء بسب السخرية، وكانت نتيجة الحسد الكبر، ونتيجة الكبر العصيان {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ} [ص:75] ، رجع إلى أصله الذي خلق منه، وسخر من آدم ومن أصله الذي خلق منه، وهو مخطئ في هذه المقدمات، ومخطئ في هذه النظرية، ويقول العلماء: إن الطين خير من النار، ولولا الطين ما كانت النار، {أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} [الواقعة:71-72] . وقود النار من الشجر الذي ينبت في الطين، فالطين أصل، ويقولون: لو أخذت نواة وألقيتها في النار فإنها ستحترق ولا تنبت، ولكنها إذا رميت في الطين فإنها ستنمو وينتفع بها الغير، فأصل الطين ينبت ما هو خير، وأصل النار يهلك غيره، وعلى هذا يقول: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:73-74] ، وعلى هذا يحذر الإنسان العاقل من أن يقف موقف السخرية من أي إنسان كان حتى وإن كان كافراً، فإنك تستعيذ من حاله، وقد تشفق عليه لمآله، لكن لا تسخر منه، فإن الله كتب عليه هذا، ولو استطعت أن تدعو له بظهر الغيب أن يهديه الله ويأخذ بيده إلى الإسلام والإيمان كان خيراً من أن تسخر منه. إذاً: هذا كله مبدأ عظيم في هذه السورة الكريمة، وكما أشرنا سابقاً أننا نسميها سورة الآداب أو سورة الأخلاق، وهذا من أعظم تهذيب أخلاق الأمة الإسلامية، بأن لا يسخر بعضها من بعض لا أفراداً ولا جماعات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 نهي الإسلام عن اللمز والغمز قال الله تعالى: (وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) ، اللمز -كما يقولون- التعريض بالكلمات، والغمز بالعين، وفي الحديث: (انتظرت لعل أحدكم قام يضرب عنقه، قالوا: هلا غمزت لنا؟ قال: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين) الأنبياء صرحاء في مقالاتهم لا يأتون بالغمز ولا باللمز. ومجيء النهي: (وَلا تَلْمِزُوا) ؛ لأن من سخر من إنسان في نفسه لمزه بلسانه عند غيره، فهذا مترتب على ذاك، وهذا من الإعجاز القرآني والسبك في الأسلوب، وترتيب الأحداث بعضها على بعض. وهل الإنسان يلمز نفسه؟ يقول العلماء: نعم، وهذا بوجهين: الوجه الأول: كما في قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] ، لا أحد يقتل نفسه إلا المنتحر والعياذ بالله. حينما تلمز أخاك المسلم فكأنما لمزت نفسك؛ فأنت وهو شيء واحد، والأمة الإسلامية كلها كالجسد الواحد، (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد) ، أو كالبنيان المرصوص بعضه يربط بعضاً، فلما كان الإسلام يعتبر الأمة كياناً واحداً؛ فمن لمز فرداً من الأفراد فقد حمل نفسه في عموم الوحدة الإنسانية باللمز الذي طرأ على غيره، وهذا غاية الترابط والتراحم والتآلف. الوجه الثاني: لا تلمز إنساناً ولو كان بشيء واقع فيه، ولا يرضاه، فسيلمزك بمقابل هذا سواء كان فيك أم لا، صدقاً أو كذباً؛ انتقاماً لنفسه وانتصاراً لشخصه؛ فتكون أنت قد لمزت نفسك بلمزك أخاك، كما قال الله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:108] هذا سداً للذريعة، وجاء في الحديث: (لا يسب الرجل أباه ولا أمه، قيل: أو يسب أحد أباه أو أمه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه، ويسب أمه فيسب أمه) ، فيكون هو المتسبب في سب أبيه وأمه. وعلى كلا المعنيين -وكلاهما جليل- على الإنسان أن يتحفظ من ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 نهي الإسلام عن التنابز بالألقاب قال الله عز وجل: (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) ، اللقب هو: اسم يشعر الإنسان بمدح أو ذم، فألقاب المدح لا بأس بها، كما يمثل العلماء بـ الصديق لـ أبي بكر، والفاروق لـ عمر، وذي النورين لـ عثمان، وأبي تراب لـ علي، رضي الله عنهم جميعاً، فهذه لا بأس بها، أما الألقاب التي يكرهها الإنسان، وكما جاء في كتب التفاسير عموماً: أن الرجل في الجاهلية كانت له عدة أسماء، وكان إذا نودي ببعضها يكره ذلك، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وعرف أن للرجل عدة أسماء، فكان يناديه ببعضها، فيقولون: يا رسول الله! إنه يكره هذا، أي: يكره هذا الاسم من بين كل تلك الأسماء، فيناديه بالاسم الذي لا يتأذى منه. (وَلا تَنَابَزُوا) ، أي: لا يلقي بعضكم على بعض الألقاب السيئة التي يتأذى منها صاحبها ولو كانت فيه حقيقة، وهذا يستثنى منه عند علماء الحديث في معرفة الرجال، وتجدون في بعض الروايات: عن فلان الأعرج، أو الزيات، أو الخرقي، يعني: بائع الزيت أو بائع الخرق، وهي ألقاب قد تستنكرها العرب لكن لكونه لا يعرف إلا بذلك أو اشتهر عند الناس بذلك فلا مانع أن يذكر للتعريف لا للنبز ولا للإهانة. ويذكر ابن جرير الطبري عن مجاهد عند قوله تعالى: (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) بأن هذا داخل بالألقاب التي تتصل بالإسلام، كأن يقول إنسان لشخص لخطأ ما: يا فاسق. يا منافق. يا فاجر فيقولون: هذا هو التنابز بالألقاب -أي: الصفات التي لا يرضاها الإسلام، وبعضهم يقول: هي أعم من هذا، وعلى هذا الرأي: إذا كان التنابز بالألقاب يختص بصفات الإسلام ومخالفاتها فنحن نقول اليوم: لا تنابزوا بقولكم: فلان متعصب، فلان مقلد، فلان مجتهد، فلان صفته كذا، فلان يحمل كذا، لا ينبغي لطالب العلم أن يصف زميله في طلب العلم بصفة لا يرضاها لنفسه، وماذا في ذلك إذا كان ما يأخذه من المذهب حق، ومستند إلى مستند شرعي؟ نعم. الحال أن يتمسك بما يراه حقيقة أو أرجح، لكن الذنب فيما إذا كان طالب علم ووجد مسألة خلافية والمذهب الذي هو ملتزم به أخذ بجانب لا دليل عليه، أو عنده دليل وعند المذهب الآخر ما هو أرجح وأقوى منه وأخذ به الجمهور؛ فلا يحق له أن يتعصب لهذا الرأي الضعيف لمجرد أنه مذهب صاحبه، لا ينبغي هذا، ولكن لا نعيبه في الدين، إنما هو أمر اجتهادي، ورأى إمامه هذا الرأي وأخذ به؛ فلا ينبغي أن نجعل ذلك موضع لمز وغمز وتنابز بالألقاب، ويأتي إنسان ويقول: هذا متطرف، لأنه يأخذ بكذا وكذا لا ينبغي أن يكون الاختلاف في الرأي موضعاً للتنابز بالألقاب، بل الواجب على طلبة العلم أن يصلوا الرحم الذي بينهم، ألا وهو العلم، فهو رحم بين أهله، وعلى هذا فإن الواجب على طلبة العلم أن يلتفوا حول العلم، فإذا كانت مسائل خلافية، أو اجتهادية؛ فلا ينبغي أن تكون سبباً في نبز البعض أو لمزه. والفرق بين المسائل الاجتهادية والخلافية هو: أن المسائل الخلافية فيها نص واختلف في معناه، أو نصوص تعارضت واختلف فيما يؤخذ منها؛ لأن الذي بين المختلفين فيها الأدلة نفسها، أما المسائل الاجتهادية: فليس فيها نص، وإنما نظرها العلماء واجتهدوا فيما يحملونها عليه من قاعدة عامة، أو آية أو حديث، بمفهوم المخالفة، ومفهوم الموافقة، والقياس يكون هناك قرائن تحمل عليها؛ فهذه اجتهادية نشأت من اجتهاد العلماء فيها، وكلا الأمرين لا ينبغي الاختلاف فيه بين الناس، ولا يكون الاختلاف في الأدلة سبباً للنزاع والفرقة، وقد ذكرنا في رسالة: موقف الأمة من اختلاف الأئمة، وكان الأئمة إذا التقوا أو تلاميذهم على اختلاف ما بينهم بالمذهب لم يكونوا متفرقين، ومتخاصمين، ومتحزبين، ومن أغرب ما قرأت عن الشافعي رحمه الله: أنه لما جاء إلى بغداد، للأعظمية -حي الإمام الأعظم أبي حنيفة - وكان هناك مسجداً فلما صلى فيه لم يقنت في الفجر، فقيل: لم لم تقنت وهو مذهبك؟ قال: احتراماً لصاحب هذا القبر، وأبو حنيفة يرى القنوت في الوتر، والشافعي بعد وفاة أبي حنيفة يترك القنوت في الفجر حتى لا يكون مخالفاً لـ أبي حنيفة عند قبره. وعندما قيل للإمام أحمد: أتصلي خلف من أكل لحم الجزور ولم يتوضأ؟ وأحمد يرى الوضوء من أكل لحم الجزور، فقال: كيف لا أصلي وراء مالك وسفيان وفلان وفلان، هل اختلافي معهم في مسألة يمنعني من أن أصلي وراءهم؟ وقد أطلنا في هذه النقطة؛ لأنها -في نظري- تخص طلبة العلم أكثر من عوام الناس، فعوام الناس قد يفعلون ما يفعلون بجهل أو بدافع غريزة ما، ولكن طلبة العلم يقعون في ذلك عن قصد، وهذه هي الداهية الكبرى؛ لأنها تفرق بينما يجب عليهم أن يجتمعوا ويعملون على اجتماع الأمة لا أن يكونوا هم مصدر الخلاف والفرقة. إذاً: (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) أياً كان هذا اللقب، كما قيل عن مجاهد: يا فاسق يا منافق يا سارق يا زاني يا شارب أو أنه كان فيه معان أخرى ويلحق بذلك ما أشرنا إليه مما يجب أن يكون عليه طلبة العلم من الابتعاد من أن يلمز بعضهم بعضاً بألقاب لا يرضاها هو لنفسه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 وصف القرآن للعصاة قال الله تعالى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:11] ، من هذا أخذ مجاهد بأن النبز بالألقاب: يا فاسق يا منافق، وهنا بئس الاسم، والاسم هو العلامة، مأخوذ من السمة ومن الوسم، فهو عند الإنسان اسم، وعند الحيوان وسم، فتسم الإبل على العنق أو الكتف أو الفخذ بحديدة محماة في النار، وتطبع طابعاً في ذلك المكان على أن هذا البعير لقبيلة كذا، فإذا هذا البعير شرق أو غرب ورأته القبائل الأخرى عرفوا بأنه ملك للقبيلة الفلانية؛ فهو هنا وسم. وإذا ما شرق أو غرب إنسان يسأل: ما اسمك؟ يقول: اسمي فلان، فيعرف باسمه. (بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ) بعد ما كان يقال: يا مؤمن، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ} [الحجرات:11] ، فإذا وقعت السخرية كانت السخرية معصية، والمعصية خروج عن طاعة الله، والخروج لغة: الفسق، والفسق أعم من المعاصي، فقد يكون مخرجاً من الملة، وقد يكون كبيرة من الكبائر، وقد يكون صغيرة من الصغائر، أو مطلق الخروج عن الجادة وعن الصراط المستقيم. يا أيها الذي ينبز بالألقاب لقد كان فعلك فسقاً، والآن يقال لك: فاسق بتنابزك بهذا الاسم بعد أن كان يقال لك: يا مؤمن؛ لأنك لم تؤذ غيرك. {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ} والمراد به: من وصف بالفاسق، أو المراد به من نبز غيره واستحق وصف الفسق بنبزه أخاه باللقب الذي يكرهه. (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) . أي: فتوبوا إلى الله من هذا العمل، وتوبوا إلى الله مما وقعتم فيه من سخرية واستهزاء ولمز وتنابز بالألقاب، توبوا من هذا كله. {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] لم يقل الفاسقون، مع أنه معصية وفسق، ولكن جاء بالوصف الأخص. يقول علماء اللغة: إن الظلم لغة: وضع الشيء في غير محله، فإذا جاء إنسان وظلم آخر وأخذ ماله ووضعه في غير موضعه، كيد الغاصب والأصل أن يكون في يد مالكه؛ فقد ظلمه. فكذلك هؤلاء جميعاً، فمن سخر من إنسان فقد وضع السخرية في غير موضعها؛ لأنه سخر من شخص عسى أن يكون خيراً منه، فإذا كان خيراً منه فلا موضع للسخرية وهو ظلم له، وإذا لمز إنساناً بعينه بعيب فيه أيضاً فقد يكون ظلمه؛ لأن هذا العيب لم يأت به هو وإنما أنت الذي أشهرته، فأنت ظالم في نقله إلى الآخرين، ومثله التنابز بالألقاب؛ فأنت وضعت هذا اللقب في غير موضعه؛ لأن صاحبه يكرهه ويتبرأ منه، لكنه لصق به. إذاً: ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون، فالظلم درجات، أعلاها الشرك، كما قال لقمان لابنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وكذلك الإنسان يظلم نفسه بالمعصية، وبالمكروه إلى غير ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 أثر ظن السوء على المجتمع ووحدته قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] . تأملوا هذا النسق القرآني العظيم، بعد ذكره سبحانه وتعالى السخرية وما يتعلق بها من اللمز والنبز بالألقاب يأتي بقسم آخر من الأخلاق الفاضلة التي ينبغي أن يكون عليها المجتمع المسلم، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا} هذه الخطوات الثلاث وما بعدها إيضاح لجريمة الغيبة. قوله سبحانه: (اجْتَنِبُوا) بدل اتركوا أو لا تظنوا، يقول فيه والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه: قال في الخمر: (فاجتنبوه) أبلغ في الزجر من اتركوه، أو لا تشربوه؛ لأن (تتركوه) قد يتركه وهو جنبه محتفظ به لكن (فاجتنبوه) . أي: جنبوه عنكم بعيداً، وكونوا عنه عن بعد فإذا كان عنك بعيداً فلا أنت شارب له ولا محتفظ به. وهنا: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ} ، أي: كونوا على جانب من البعد من كثير من الظن، وهذا أبلغ من: لا تظنوا , و (كَثِيراً) مفهومه: لو كان هناك ظن قليل وكان الظن للخير فلا مانع، كما قال تعالى: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] . جلس أبو أيوب وأم أيوب في تلك الحالة فقال: يا أم أيوب! لو كنت مكان عائشة أتفعلين ما يقال عنها؟ قالت: لا والله. ولا أرضاه لنفسي، فقال: لـ عائشة خير منك، فقالت: وأنت يا أبا أيوب لو كنت مكان صفوان بن المعطل، أكنت تفعل ما يقال عنه؟ قال: لا والله، ولا أرضاه لنفسي، فقالت: لهو خير منكم، فظنوا بأنفسهم خيراً، وكذلك ظنوا بأم المؤمنين أنها لا تفعل ذلك، فهذا ظن في الخير، فالظن في الخير كله خير، أما في الشر فلا. إذاً: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ} ولا مانع أن يكون هناك بعض الظن في الخير، والظن هو: التوجس والتحسب، وأن يكون فقه على غير علم، لا عن محسوس بسمع ورؤيا. ثم هذه السخرية وما يتبعها من الهمز واللمز والنبز بالألقاب جاء هنا مرة أخرى، فقال: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ} ، فإذا لم تجتنب وغلبتك النفس، ورأيت بعض العلامات أو الأمارات ورأيت أن بعض الناس يدخلون ويخرجون من بيت ما، فتقول: ماذا عند هؤلاء؟ وذهبت تقدر بأنهم يجتمعون على كذا، وأنهم يعملون كذا، فظننت بهم شراً، فقلت: لماذا الظن؟ لم لا أتأكد؟ فذهبت تتجسس عليهم لتتحقق ما ظننته فيهم. إذاً: التجسس مبني على سوء الظن، فجاء الترتيب منسقاً، {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ} فإذا ظننتم ولا بينة عندكم فلا تتبعوا سوء الظن بالتجسس لتتحققوا فيما ظننتم فيه، وهذا في غاية من البلاغة والتنسيق القرآني الكريم، ظننت ثم ذهبت فتجسست لحب الاستطلاع، فستجد نتيجة إما سلباً أو إيجاباً، فلما لم تجد شيئاً رجعت بخفي حنين، أو أنك وجدت شيئاً مما كنت تظن، فماذا يكون موقفك؟ قف عند هذا ولا تذهب تغتاب أخاك فيما رأيته من تحقيق ظنك السابق. إذاً: يبدأ سوء الظن وهو عمل القلب، ثم تأتي الخطوة الثانية وهي: التجسس وهو عمل الجوارح، وتأتي الخطوة الثالثة بمقتضى تجسسك بأن تغتابه بذكر ما رأيت من معايب. أرأيتم هذا النسق القرآني العجيب؟ هذا هو الإعجاز. ثم يأتي تصوير القبح في هذا العمل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ} [الحجرات:12] ، أي: بما رأى من تجسسه، أو كما بين الحديث بصفة عامة: (ما الغيبة يا رسول الله؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قال: أرأيت إن كان حقاً ما ذكرته فيه؟ قال: إن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول: فقد بهته) ؛ {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] ، فقد وسع الرسول صلى الله عليه وسلم في موضوع الغيبة إما ابتداء وإما نتيجة للتجسس لا يغتب بعضكم بعضاً. ثم جاء بالصورة التوضيحية: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12] ، هذا التمثيل التصويري صورة بصورة، جعل القرآن العظيم أن ذكرك أخاك في غيبته بما يكره كأن تنهش لحم أخيك الميت، بجامع أن الغائب لا يملك أن يرد عن نفسه حال غيبته، والميت لا يملك الدفاع عن نفسه لموته، وقبح الفعل يأتي بالتعبير عنه بقوله: (فَكَرِهْتُمُوهُ) . هذا أكل لحم أخيه لا لحم الغير، وهنا يبرز معنى الأخوة؛ لأن معنى الأخوة: العاطفة والرحمة والتآلف والتراحم، أما أن تغمز وتلمز وتغتاب أخاك وتصفه بما يكره، فهذه ليست من معاني الأخوة في شيء، ويذكرون الحديث النبوي الشريف في قصة ماعز لما اعترف وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم برجمه، فسمع الرسول صلى الله عليه وسلم شخصين يتحدثان ويقولان: (ما فتئ ستر الله عليه حتى جاء وفضح نفسه، حتى رجم رجم الكلب، فلما سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت عنهما، حتى إذا مر بجيفة حمار) وفي رواية: (تيس أسك ميت قد انتفخ فوقف عنده وقال: يا فلان ويا فلان -وسماهما- تعالا كلا من هذه الجيفة، قالا: يرحمك الله يا رسول الله، وهل هذه تؤكل؟ قال: والذي نفسي بيده! للذي قلتماه في أخيكم أشد عند الله من أكل هذه الجيفة، والله إنه الآن ليمرح في متع الجنة) . إذاً: هذه صورة يجعلها القرآن الكريم لمن اغتاب أخاه في غيبته سواء كان فيه ما قال أو لا؛ ما دام أنه يكره ذكر هذا فلا تذكره له، وهو تابع للتنابز بالألقاب المنهي عنه؛ كل ذلك إبقاء على وحدة المسلمين ووحدة الأمة ووحدة الصف؛ لأن هذه التوافه هي التي تمخض القلوب وتنفر بعضها من بعض، وتأتي بالفرقة بعد الألفة، فبين الله سبحانه وتعالى أن هذا الفعل كريه: (فَكَرِهْتُمُوهُ) وهذا فعلاً شيء مكروه، فما دمتم تكرهون الأكل من جيفة الميت فكيف ترضون ذلك من لحم أخيكم؟ وكيف ترضون بالغيبة التي تعادل ذلك بالصورة والإنكار. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) اتقوا: الوقاية مما عند الله بترككم ذلك وبالعودة إلى الله بالتوبة، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] سبحان الله! ما قال: أنا الغفور الرحيم، وإنما قال: (توبوا) وهذا يرجع إلى أحد أمرين: إما أن تكون راجعة لهذا الذي ظننت به السوء ونصبت نفسك شرطياً تتجسس عليه، فاعلم أن الله تواب رحيم، فإذا كان المولى ستر عليه ولم يفضحه فكن أنت صاحب سلطان؛ فالله الذي خلقه وخلقك تواب يتوب عليه ومرجعه إليه وأنت تذهب وتكشف سريرته، لا. وإما راجعة إلى هذا الذي اغتاب وتجسس وسخر أنه إذا رجع إلى الله تاب الله عليه مما فعل. فـ (تواب رحيم) صالحة أن ترجع إلى الطرفين، المعتدي والمعتدى عليه. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا وسيدنا محمد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 الأسئلة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 أدلة حفظ السنة السؤال هل ورد في القرآن الكريم دليل ظاهر على حفظ السنة المطهرة كما ورد في حفظ القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ؟ الجواب نعم، وهذا ظاهر من أمرين: الأول من قوله: (عليكم بسنتي) ، وكيف يكون معنى هذا؟ وكيف نلزمها إذا كانت معرضة للضياع؟ فما دام أنا ملزمون بالالتزام بالسنة يكون هناك كالعهد بحفظها لنلزمها دائماً، والشيء الثاني: الآية الكريمة (إِنَّا نَحْنُ) الذكر الكريم يقول: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] ، وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: السنة بمجموعها قطرة من بحر القرآن الكريم، فحفظ القرآن يتناول حفظ السنة، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] ، أي: يُبين لهم بالسنة، إذاً: تبيان القرآن محول على السنة، والقرآن فيه وعد من الله بالحفظ، فيكون وعد الله بحفظ القرآن وعد بحفظ السنة التي تبينه، والله تعالى أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 جمع الإمام أحمد بين الحديث والفقه السؤال الإمام أحمد إمام في الحديث ولكنه ليس إماماً في الفقه كبقية المذاهب؟ الجواب من قال هذا؟ بل هناك رسالة لأحد الإخوان من الجامعة الإسلامية وكنت مشرفاً عليها، فذكرت في صالة المحاضرات عند مناقشة الرسالة: أن الشائع عند الناس أن الإمام أحمد كان إماماً في الحديث، ولكن بهذه الرسالة وبالمسائل الفقهية التي ذكرها الطالب والمسائل الأخرى التي ذكرها أبو داود، وولده عبد الله في عدة كتب بعنوان: مسائل الإمام أحمد. وهي المسائل الفقهية، تبين أن الإمام أحمد كان فقيهاً أكثر منه محدثاً. إذاً: فالإمام أحمد كان يجمع بين الفقه والحديث وليس كما قيل: إنه لم يكن فقيهاً بل هو فقيه، والمسائل التي حصرت أو أخذت عنه تقوي هذا المذهب وزيادة، وما من مسألة فقهية عند الحنابلة أساسية إلا ولـ أحمد رأي فيها. وهناك بعض المسائل كما يقول: الوجوه والنظائر كمصطلح عند العلماء، هذه وجوه على أصل آخر روي فيه عن أحمد عنه قول أو نظيره، أو قول قاله الإمام أحمد. إذاً: ما خرجت عن فقه أحمد رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 الفرق بين المحدث والفقيه السؤال ما الفرق بين الفقيه والمحدث، وهل يكون الفقيه محدثاً؟ الجواب المحدث والفقيه يشتركان، إلا أن المحدث يكون شغله بالحديث وحفظه متناً وسنداً، والفقيه اشتغاله أكثر بالتفريعات الفقهية والجزئيات في أعمال الناس، وكلاهما فقيه محدث؛ لأن الفقيه لابد أن يكون له من الحديث استدلالاً في فقهه، والمحدث يكون فقيهاً بالحديث الذي يحفظه، لكن إذا غلب أحد الجانبين على أحدهما كان مشهوراً به، فالفقيه الذي كثرت مسائله في الفقه، والمحدث الذي كثر حفظه للأحاديث، وكلاهما يشترك في الحديث معاً وفي الفقه معاً، أي: أن الحديث والفقه شيء مشترك بين الجانبين، وكل بما اشتهر به، والله تعالى أعلم. وقد تجدون في بعض الكتب: كل فقيه محدث، وليس كل محدث فقيه، وهذه المقولة فيها نظر؛ لأنهم يعنون بالمحدث الذي ليس بفقيه الذي يعنى بالأحاديث فقط، وقد وجدنا بعض الناس همه وشغله الشاغل بالأسانيد والرجال: صحيح، حسن، ضعيف، حسنه فلان، ضعفه فلان، أما الاشتغال بالفقه فيكونون في جانب واحد، فهذا الذي يقولون عنه: وليس كل محدث فقيه، أما المحدث الذي يعنى بالمتن مع السند فقهاً وحفظاً فكيف يكون غيره خيراً منه. والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا وسيدنا محمد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 تفسير سورة الحجرات [4 - ب] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 1 من أحكام سوء الظن والغيبة بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأعتقد أنه قد تقدم الكلام في هذه الآية الكريمة، وبقي التنبيه على جانب من جوانب دلالتها. يقول المولى سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] ، أي: ابتعدوا عن كثير من الظن، والمفهوم أنه قد يجوز بعض الظن. ثم يبين سبحانه وتعالى السبب في اجتناب كثير من الظن فقال: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) فلا يمكن اليقين إلا بترك الأكثر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 وجوب اجتناب كثير من الظن قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] فلو قال: اجتنبوا بعضاً من الظن لكان هناك حرج؛ لأننا لا نستطيع أن نحدد كيف يكون الاجتناب، لكن إذا اجتنبنا كثيراً من الظن تأكدنا من أننا اجتنبنا بعض الظن الذي فيه إثم، وهذه فيها القاعدة الأصولية: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولهذا نرى الفقهاء في مواطن التحديد في العبادات يطلبون الزيادة عن الحد للتأكد من استيعاب المحدود، فمثلاً: في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، يقولون: حد الوجه من منبت الشعر طولاً من الجبهة إلى أسفل الذقن، لكن يقولون: ينبغي أن يزيد في منبت الشعر جزءاً بحيث أنه يتأكد بأنه استوعب الوجه كله، وكذلك في صوم رمضان في قوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، يقول الفقهاء: ينبغي أن يمسك قبل أن يتبين ولو بلحظات ليتأكد أن إمساكه وقع في جزء من الليل، وأن كامل النهار سلم من أن يأكل أو يشرب فيه، {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، يكون إتمام الصيام إلى ما بعد نقطة الصفر من غروب الشمس، ليتأكد أنه استوعب النهار كاملاً بالإمساك، أما إذا جاء عند نقطة الصفر بالذات يمكن أن يكون أخذ جزءاً من النهار في أكله وشربه، فيكون ذلك إبطالاً لصيامه، لذلك لا يتم الصيام الواجب إلا بإتمامه وهو أخذ جزء من آخر الليل من الصباح، وأخذ جزء من أول الليل عند الغروب ليتأكد؛ لأن ذلك مما لا يتم الواجب إلا به، وهذه الآية الكريمة تدل على ذلك: اجتنبوا الكثير؛ لأن القليل إثم، ولا نستطيع أن نتجنب القليل إلا إذا تجنبنا ما هو أكثر منه، حتى نتأكد أننا استوعبنا القليل الذي فيه الإثم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 الفرق بين الظن والشك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] . إشارة إلى أن المسلم لا يحق له أن يتجسس على أخيه المسلم، وأشرنا إلى الترتيب الطبيعي في ترتيب هذا الأسلوب حتى وإن رأيت من إنسان قرائن من سماع أو إشاعات، وكما سأل الأخ: ما الفرق بين الظن والشك؟ وقلنا: إن الشك وجود معرفة على وجهين متناقضين في كفتي ميزان متعادل، ويمثل علماء المنطق لذلك: إذا رأيت شخصاً من بعيد فلا تستطيع أن تجزم أكان رجلاً أو امرأة، وإن تأملت قلت: هذا رجل، وإن رجعت مرة أخرى قلت: هذه امرأة، فلم تستطع الجزم بذلك والكفتان بين الرجل والمرأة متعادلتان سواء، في هذه الحالة يكون إدراكك للشاخص شك لأنك لم ترجح أحد الجانبين، فإذا تعادل طرفا العلم بمعلوم فإن هذا العلم شك، ولكن إذا دنا الشاخص منك قليلاً ثم تبين لك أنه رجل، وأصبح عندك عشرة في المائة ترجح أنه رجل؛ حينئذ هذا الجانب الذي رجح ونزلت كفته عشرة في المائة يعتبر ظناً، والكفة المرجوحة التي نقص الإدراك فيها عشرة في المائة يعتبر وهماً، فالظن أحد الجانبين الذي رجح بعد أن كان شكاً متعادلاً، فإذا انتهى الوهم، وكان العلم لجانب واحد، بأن دنا منك ورأيته بملابسه وتأكدت (99%) ونصف أنه رجل، والنصف الباقي احتمال أن تكون امرأة تلبس ملابس الرجل، لكن تأكد عندك أنه رجل، حين ذلك يكون علماً، والعلم مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فعلم اليقين الذي لا يقبل وهماً يطرأ عليه، ويمثلون بأن مسلمي روسيا أو واشنطن يتوجهون في صلاتهم إلى الكعبة، فهو يعتقد ويعلم بوجود الكعبة، فإذا قدر لهذا الإنسان أن جاء إلى مكة ووصل إلى المسجد الحرام ووقف عند الباب، ورأى البنية في وسط المسجد، فقال: ما هذه؟ قيل له: الكعبة، فهل يكون علمه وهو واقف في باب المسجد كعلمه وهو في بلده؟ لا. فعلمه علمه بها وهو يراها بعينه أقوى من علمه بها وهو في بلده، ثم جاء وطاف حولها زاد علماً، ثم فتحت الكعبة ودخل الناس ودخل معهم وصلى في جوف الكعبة، فعلمه بالكعبة هو في جوفها أقوى من علمه وهو واقف في الباب، هذا هو حق اليقين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 ما يجب على المحتسب تجاه الظن السيء {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ} وهو الوهم؛ لأنه لم يتمحض في باب العلم الحقيقي. إذاً: لم يجتنبه، وأراد أن يمضي في الوهم، وأن ينتقل من الظن إلى العلم فذهب يتجسس، فوجد شيئاً أو ارتاب، عندها نجد أن القرآن ينهى عن التجسس، والسنة النبوية أيضاً نهت عن التجسس، (ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً. وكونوا عباد الله إخوانا) . وننبه هنا على نقطة مهمة جداً، وهي: ما يختص بالإخوان الذين يرون في أنفسهم الأهلية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الذين نصبوا من طرف الإمام، والذين يقال لهم: أهل الحسبة، فالآمر والناهي إما محتسب -أي: منصب من جانب الإمام- وله سلطة من طرف الإمام، أو متطوع متبرع: (من رأى منكم منكراً فليغيره) ، وإذا ما أشيع عنده أو وقع عنده ظن ببيت فيه ما ينبغي الإنكار عليه لا يحق له شرعاً أن يذهب يتجسس ليتحقق من هذا الظن؛ لأن الله نهاه عن التجسس، كما يروي مالك في الموطأ: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات؛ فليستتر بستر الله، فمن أبدى لنا صفحته أخذناه بها) ، ويقول مجاهد رحمه الله: (خذوا ما ظهر لكم، واتركوا ما ستر الله عليه) . وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أتاه، وقال: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، قال: (نهينا عن التجسس، إن يبدي لنا صفحته أخذناه بها) . وجاء عن كاتب عقبة بن عامر أنه قال له: (إن لنا جيراناً يشربون الخمر، وأنا ذاهب بالشرط ليأخذونهم، قال: لا تفعل وارجع وعظهم وانصحم وتهددهم، ولا تبلغ أمرهم إلى الشرط، فرجع ووعظهم وزجرهم، ثم رجع وقال: فعلت ولم ينتهوا، فإني ذاهب أستدعي لهم الشرط يأخذونهم، قال: لا تفعل، سمعت رسول الله يقول: (من ستر على مسلم خبأة -يعني: عيباً- كان كمن أحيا موءودة من قبرها) ، هذا الحديث يذكره علماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلماء الحسبة والدعوة، ويذكره الخطيب البغدادي في الرحلة في طلب العلم، قال: إن أبا أيوب الأنصاري أخذ راحلته وذهب إلى مصر حتى أتى إلى الفسطاط، وجد محمد بن مسلمة وهو الأمير عليهم، قال: أين بيت عقبة؟ قال: ما الذي جاء بك أزائرا أم لحاجة؟ قال: جئت لحاجة عنده، أرسل معي من يدلني على بيته، فذهب إليه فرأى عقبة -وهذا أنصاري، وأبو أيوب أنصاري- فقال له: إن أبا أيوب الأنصاري في الباب، فأسرع إليه ولقيه وعانقه وقال له: ما أتى بك يا أبا أيوب؟ قال: جئت لأسمع منك حديثاً، لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنا وأنت، فأردت أن أتثبت منه. وانظروا: الهمة في طلب العلم: يرحل إلى القاهرة على بعيره في الصحراء، من أجل أن يسمع حديثاً كان قد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وطال عليه العهد، وأراد أن يتثبته ممن سمعه معه وهو عقبة بن عامر - قال: جئت لحديث لم يبق أحد ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنا وأنت، وهو فيمن ستر على مسلم، قال: نعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر على مسلم في الدنيا - وقد جاءت له ألفاظ متعددة- ستره الله يوم القيامة، أو كان كمن أحيا موءودة من قبرها) ثم قال له: السلام عليك، ورجع إلى راحلته، وما أدرك أبو أيوب إلا في عريش مصر. هكذا يقول الخطيب البغدادي في كتاب رحلة طلب العلم، ونحن نسمعكم لفتة بسيطة في طلب العلم، ونستطيع أن نقول: إن البعثات للدراسات الغير موجودة في البلد لا بأس بها ,وهذا أصل فيها، وهو أن نرحل لطلب العلم الغير موجود عندنا إذا كانت هناك خصوصيات أو اختصاصات والبلد بحاجة إليها وهي غير موجودة في بلد الإنسان فله أن يرحل إليها، ولكن هل إذا ذهب ليدرس يسترخي ويطمئن إلى الحياة هناك ويترك بلده ومهمته التي سافر من أجلها ويسكن في تلك البلاد؟ أو أنه يؤدي المهمة ويحصل على العلم الذي بعث له ويرجع به إلى بلده فينفع أهل بلده؟ هكذا أبو أيوب بعد ما سمع الحديث رجع إلى راحلته، وقال: جئت لقضاء حاجة وانتهت. ويهمنا في هذا الحديث: (من ستر مسلماً) ويتفقون على روايات عن عمر كما جاء عن الزبير قال: (حرست أنا وعمر ليلة -وعمر رضي الله عنه كان يعس ليلاًَ في المدينة ويتسمع الأخبار، ويتعرف على حال الناس في الليل، وقد يتصدق بدون أن يعلم به أحد، وقد يعرف أخبار الناس- فقال عمر: هذا بيت فلان -سماه- مجافىً عليهم الباب، وهناك سراج ولغط وشرب فما ترى؟ فقال له الزبير: أرانا يا أمير المؤمنين أتينا ما نهانا الله عنه، نهانا الله عن التجسس وقد تجسسنا، قال: فتركهم عمر وانصرف) . وعلى كل فإن الآمر النهي بالمعروف له ما ظهر وليس من حقه أن يتتبع بالتجسس فيفسد أحوال الناس ما دام الأمر مستتراً، بخلاف ما إذا ظهرت آثاره بأصوات أو روائح. إلخ؛ حينئذٍ لم يبق حيز الاستتار، فوجب تغييره لمن استطاع ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 تحذير الإسلام من الغيبة {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ، تقدم البيان بأن الغيبة هي: ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه، كما بين صلى الله عليه وسلم: (إن كان ما ذكرته فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) ، والبهتان شيء عظيم، وبين المولى سبحانه صورة عملية مثالية، فقال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ} ألا تكرهونه، وأحدكم هنا فرد يعم الجميع على سبيل البدل -أي: كل واحد من المجموعة- أن يأكل لحم أخيه ميتاً حتى لو كان حياً يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه. وأشرنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين ذكرا ماعزاً لما اعترف ورجم فقالا: (لم يرض بستر الله عليه حتى جاء واعترف حتى رجم رجم الكلب) ، سمعها صلى الله عليه وسلم، فسكت حتى مر بتيس أسك أو بحمار قد انتفخ فقال: (فلان وفلان! قالا: نعم يا رسول الله، قال: انزلا فكلا من هذه الميتة، قالا: يرحمك الله يا رسول الله، أتؤكل هذه الجيفة؟ -استعظما الأمر- قال: والذي نفسي بيده، للذي قلتما في أخيكم -أي: ماعز - أشد من أكلكما هذه الجيفة، والله إنه الآن ليرتع في بحبوحة الجنة) . لا ينبغي للإنسان أن يغتاب أخاه سواء كان عن عيب نشأ عن تجسس أو عن أمر ابتدائي، ومهما كان الأمر ولو كان إشارة باليد، كما جاء عن صفية رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واقفاً مع إحدى نسائه فمرت من أمامهما صفية، فقالت: ما يعجبك منها؟ يكفيك أنها وأشارت بيدها -يعني: أنها قصير- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والله لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) ، والتعبير هنا بماء البحر دون ماء النهر لأن ماء النهر عذب، وأقل شيء يؤثر فيه، وماء البحر مالح لا يتأثر إلا بشيء غلب عليه، وكما يقولون: الماء المخلوط بالملح أو السكر يمنع أن يتشرب ما يدخل عليه من بكتيريا وغيره، فمثل بالبحر لبعد تأثره بما يقع فيه: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) فكيف بأكبر من ذلك: (فكرهتموه) ؟! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 بيان عظم رحمة الله ومغفرته قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] ، اتقوا الله: أي اتخذوا منه الوقاية بتلك الأمور التي من أولها: (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) و (وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) و (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) ، لا تظنوا السوء بالناس، لا تجسسوا، لا يغتب بعضكم بعضاً، وتوبوا إلى الله من هذا كله، فاتقوا الله وخذوا الوقاية من عذاب الله، وقد أشرنا أن قوله: {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} ، يصح أن ترجع للمغتاب والذي وقعت عليه الغيبة، أو المتجسس والمتجسس عليه، أو الظان والمظنون فيه. أنت تسخر منه لماذا؟ لضعفه. أنت تظن به السوء لماذا؟ لأنك تنقصته بما سمعت عنه. أنت تتجسس عليه لماذا؟ لتصل إلى نقص العلم الذي عندك لتكمله؛ فإذا كان الأمر كذلك والمولى سبحانه تواب رحيم فقد يتوب على ذلك الذي سخرت منه بسبب ما يوجد فيه، سخرت منه لمعصية، قد يتوب الله عليه. فإذا كان المولى يتوب عليه وتأتي أنت وتعاقبه، فلا حق لك في هذا، وترجع أيضاً للفاعل (توبوا) فالله تواب يقبل توبة التائبين عن كل هذه الآفات الأخلاقية أو الدينية، فـ: (تَوَّابٌ رَحِيمٌ) ، يصح أن ترجع للمتنقص أمره والمتنقص الذي ارتكب تلك الآفات والآثام، والله تواب يقبل التوبة من عباده رحيم يكرم من تاب عليه بواسع رحمته، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] ، وقصة الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل إنساناً عابداً جاهلاً، ثم أفتاه بعدم قبول توبته، فقتله وكمل به المائة -وهذه نتيجة الفتوى بغير علم- ثم عندما سأل عالماً قال له: إن تبت إلى الله فإنه يقبل توبتك -وهذا هو الفقه- ولكن أرى أن تخرج من هذه البلدة التي ارتكبت فيها تلك الآفات إلى بلدة أخرى فيها أناس صالحون يعبدون الله فتعبد الله معهم -وهذه نتيجة الجليس الصالح- فخرج تائباً إلى الله، فمات في نصف الطريق، اختصمت فيه الملائكة، والله سبحانه حكم بينهما، وقال: قيسوا الأرض التي خرج منها والأرض التي ذهب إليها، وانظروا إلى أيهما أقرب، وفي بعض الروايات: بأن الله زوى الأرض التي هو خارج إليها فكانت المسافة أقصر، فأخذته ملائكة الرحمة بحنوط إلى الجنة. إذاً: لا ينبغي لإنسان أن يقنط من رحمة الله، ولا أن يعرض عن باب التوبة إلى الله ولو تكرر منه الذنب مراراً، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ولو أنه ارتكب ما ارتكب ثم رجع بعزيمة صادقة من الذنوب ثم رجع بصدق، وتاب توبة، ثم رجع إلى الذنوب مرة أخرى، فرجع فتاب مرة أخرى وتاب نفس التوبة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يتوب عليه في كل مرة ما دام يفعل ذلك. ثم في قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] صيغة مبالغة. يعني: كثير التوبة على عباده واسع الرحمة بهم، والفرق بين الرحمان والرحيم: أن رحمان اسم فاعل، ورحيم صيغة مبالغة، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الله قسم رحمته مائة جزء، فأنزل جزءاً من تلك المائة إلى الأرض بها تتراحمون، وبها ترفع الدابة حافرها أن تضعه على ولدها رحمة به، وادخر تسعة وتسعين رحمة لرحمة العباد يوم القيامة) ، ولذا يقول العلماء: رحمان الدنيا ورحيم الآخرة، والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 تجلي قدرة الله في خلق الناس قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] . إن المتابع لهذا السياق الكريم في هذه السورة المباركة، يرى أنه من أول السورة قال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) توجيه خاص بالمؤمنين في التطبيق العملي، وهنا قال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) والناس أعم من المؤمنين؛ لأن فيها المؤمن والفاسق والفاجر والمنافق والكافر. إلخ. وقالوا: إن كلمة ناس من: ناس ينوس إذا تحرك، ومنه الوسواس يتحرك في صدر الإنسان، فشملت كل بني آدم. لماذا غاير في المنادى؛ لأن موضوع النداء عام وليس خاصاً بطائفة المؤمنين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا} [الحجرات:13] النون هنا نون العظمة {خَلَقْنَاكُمْ} [الحجرات:13] خلق جميع الأناسي من جميع الأمم، والقبائل، والأجناس دون تمييز بصفة من الصفات المعنوية من إيمان أو كفر أو غير ذلك. وهنا: (خلق) ، والخلق في اللغة: التقدير، والعرب تقول: لأنت تفري ما خلق، والفري القطع. تأتي إلى إنسان عنده قالب، ويريد أن يقص على مقداره، فيضعه على الخشب أو القماش، ويعلم على أطرافه بقلم، هذا هو الخلق: التخطيط، فيأتي ويقص على ما علم عليه، وهذا هو الفري، خلق واستطاع أن يفري، تقطع وتنفذ عملياً ما رسمت وخططت، وغيرك قد يستطيع أن يخطط ولكن لا يستطيع أن يفري. إذاً: (خلق) بمعنى قدر، خلقناكم: أوجدناكم على تقادير معينة، فتجد الناس جميعاً أوجدوا من العدم على تخطيط مختلف لا يتفق اثنان في ملايين من البشر في تخطيط واحد، هذا طويل وهذا قصير، حتى الطوال لا يتفقون مع بعض، هذا متين وهذا نحيف، هذا أبيض وهذا أسمر، ولا يتفق أسودان، كل شخص له صفة خاصة مغايرة في الخلق وهذا آية من آيات الله وقدرته. تجد العيون في محلها، والأنف والفم في محلهما، والأذن في محلها، ولك أن تنظر إلى اللون، فاللون واحد، السمة ما يتسم به وما يعرف به واحدة، ولا يمكن أن تجد اثنين على سمة واحدة، فلابد أن تجد هناك فوارق فتميز بين هذا وهذا، ولو لم تعرف اسمه فإنك تميز خلقه. أي: تخطيطه وصورته وأنموذجه، وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: من أراد أن يعرف قدرة الخالق وقدرة خلقه وإحاطة علمه بخلقه، فليقف عند رمي جمرة العقبة عندما يأتي الناس يرمون الجمرات، فهل يجد اثنين من تلك الخلائق اتفقوا في الطبعة سواء، حتى التوأم قد يكون في نظر العين (99%) ، ولكن قد يوجد نصف واحد في المائة من التغاير، فالأم تعرفهما به. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 تفسير سورة الحجرات [5 - أ] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1 تفاضل الناس عند الله تعالى بالتقوى باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: ما زالت سورة الحجرات تنتقل في آداب الجماعة: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا} [الحجرات:9] ، ثم بيّن الدافع والواجب لهذه المسئولية فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ، ثم نهى عن بواعث القتال، أو نهى عن مخلفات القتال فقال: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11] ، قد تسخر الطائفة القوية من الضعيفة، أو الأغنياء من الفقراء. ثم بعد ذلك ذكر الأدب في معاملات الناس بالألفاظ، واحترام الشخصية بعدم اللمز ولا الغمز، ثم اجتناب الظنون، ثم النهي عن التجسس، ثم النهي عن الغيبة وانتهى من هذا إلى القاعدة التي يرد إليها عنصر التفاخر أو التعالي أو الافتخار بين الناس، والأصل في ذلك أن يفتخر بنسبه وبحسبه، ولكن تلك المفاخر النسبية لا مكان لها؛ لأن أصل خلقة الجميع من ذكر وأنثى، ثم إن كان هناك ولابد من تفاخر فالأصل سواء، كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه: الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء لماذا تتفاخر على أخيك وأنتما مشتركان في أصل الإيجاد، وهو: الماء والطين؟! إذاً: لا يتفاضل على نفسه إلا بصفات أخرى: تلك الصفات تكون خصوصية في الأفراد يختصهم الله بها، كما جاء في قول الشاعر: فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال فالدم من حيث هو جنس، ولكن المسك هو جزء من دم الغزال، انعقد في حلمته أو في الأنبوب الذي يتدلى عند حلقه، فينعقد فيه دم الغزال ويتحول إلى مسك، فهو بعض الدم ولكن فاقه، وهذا في امتداح الممدوح، وأصدق ما يكون على النبي صلى الله عليه وسلم. كم من أب علا بابن ذرا حسباً كما علت برسول الله عدنان كم من أب افتخر وارتفعت مكانته بابنه. أي: أن الأصل يفتخر بالفرع على خلاف العادة، والعادة أن الفرع يفتخر بالأصل، ولكن في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم انعكست المسألة؛ فيفتخر الآباء بالأبناء، فتفتخر عدنان كلها بما فيها من القبائل والفخوذ والشعوب بذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 2 حكم المصاهرة مع فوارق الأنساب في هذا المقام نحب أن ننبه على قضية اجتماعية لها خطرها في المجتمعات، وهي: {خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13] ، أي: متساوون في الخلقة، ونظام التكارم أو المكارمة ليس في تلك الأنساب؛ لأن مردها إلى نسب واحد، ولكن حقيقة المكارمة في البشر إنما هي بالتقوى، (أتقاكم أكرمكم) ، في هذه القضية نجد بعض الناس فيما يتعلق بالأنساب والزواج يتشددون، ويفرقون بين جماعة أو طائفة من الجماعة وطائفة أخرى، فإذا كان النسب مسلسلاً إلى قبيلة من القبائل؛ فلا يزوج إلا من كان كذلك مسلسلاً نسبه إلى قبيلة من القبائل، ويقولون: نريد أن نحفظ أنسابنا. وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم) ، فيقولون: حفظ النسب مطلوب لصلة الرحم. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، قال: هذا عند الله، أما عندنا نحن وعند الناس وفي الدنيا لا؛ فلا يزوجون من لا يعرف انتسابه إلى قبيلة بعينها، ويفرقون بين هذا وذاك، فمن ثم وجدت تلك الطائفية أو هذا التقسيم في بني البشر، فلربما يأتي إنسان ويأخذه الحماس ويقول: هذا خطأ وهذا باطل، وهذا لا أصل له، والله يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وفي الحديث: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) ، والآن: إذا جاء من نرضى دينه وخلقه مع كونه نسيباً نزوجه، أما إذا كان ممن نرضى دينه وخلقه وليس نسيباً فلا نزوجه، وهذا مخالفة لظاهر الحديث. أيها الإخوة! إذا جاء إنسان يخطب وهو لا يُعرف ما صلة نسبه إلى قبيلة سوى؛ (كلكم لآدم وآدم من تراب) ، وجاء يخطب ابنة إنسان نسيب في قبيلته، فهل يتعين ويجب على المخطوب من عنده أن يزوجه، أم أن له الحق في أن يرفض، ولو كان من قبيلة أعلى من قبيلته ولكنه لا يريد أن يزوجه، فهل هو ملزم أم أن له الاختيار؟ الواقع أن له الاختيار. وما دام له الاختيار فيما لو تساوى معه في النسب الذي يتمسك فله الاختيار في غيره كذلك، ومعادات الناس ومحاربتهم فيها يجب أن ينظر فيها إلى النتيجة التي تترتب على ذلك، وخاصة في المباحات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لأحوال الناس في بناء الكعبة لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي النتائج في المستقبل، فحينما حج صلى الله عليه وسلم ومعه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: (أريد أن أصلي في الكعبة -أي: داخلها- فأخذ بيدها إلى حجر إسماعيل، وقال: صلي هاهنا فإنه من البيت) ، فلما صلت سألت: كيف يكون من البيت وهو خارج عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إن قومك حينما أرادوا بناء الكعبة قصرت بهم النفقة، فاحتجروا هذا الجزء وأقاموا البيت على قواعد إبراهيم من القسم الثاني، وقصروا البناء على هذا الحد على قدر نفقتهم، ثم حجروه بهذا الجدار) ، ولهذا سمي الحجر حجراً لكونه محجوراً داخل هذا السور، ولذا تسمى الغرفة في داخل البيت السفلي: حجرة، والعلية تسمى غرفة لارتفاعها. فهنا سألته عائشة: لماذا لم يدخلوه في البيت؟ فبين لها السبب، وهو ناحية مادية، أنهم قصرت بهم النفقة، لا لعجز ولكنهم كانت يحتاجون إلى عملة صعبة بالنسبة إليهم، وهي المال الحلال الذي لم يدخله شبهة؛ لأنهم كانوا يجمعون إلى مكاسبهم حلوان الكاهن، ومهر البغي، والربا، وهم يعلمون بأن هذا ممنوع، لكن كانوا يدخلونه في كسبهم، فلما أرادوا بناء الكعبة قالوا: هذا بيت الله، ولا يمكن أن نبني بيت الله بمال فيه شبهة، وهذا مبدأ كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) . فهل تبني بيت الله بما حرم الله؟! لا يجوز هذا تسرق ثوب وتذهب تطوف بالبيت وأنت سارق لهذا الثوب؟! تسرق ثوب جارك ويعزمك في وليمة فتأتي وأنت لابس للثوب الذي سرقته من عنده فهذا تحدٍ. قالت: (فما بالهم جعلوا باب البيت مرتفعاً؟ قال: ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، من أعطاهم أجرهم أدخلوه، ومن لم يعطهم ولم يرضهم ركلوه بأرجلهم فسقط، ولولا حداثة قومك بكفر -وهذا محل الشاهد- لهدمت البيت، ولبنيته على قواعد إبراهيم -يعني: أدخلت فيه الحجر- ولجعلت له بابين، باب للداخل وباب للخارج) ، وقد حدث هذا التنظيم في المسجد النبوي، ووضع الباب الذي يسمى باب النساء، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما كثر الناس وكن النسوة يأتين لصلاة الجماعة عند رسول الله، وكان صلى الله عليه وسلم يأمر الرجال أن لا يتعجلوا بالانصراف حتى ينصرف النساء قبلهم، ويذهبن إلى بيوتهن، فلما كثر الأمر وطال على الرجال الانتظار، قال: (لو جعلتم لهن باباً) ، فجعل لهن باب النساء، وكان في مؤخرة المسجد بالنسبة لحدوده من جهة الشمال، فكان هذا الباب الذي إلى الآن يسمى باب النساء بجوار باب جبريل عليه السلام. فهنا خصص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء باباً يدخلن ويخرجن منه حتى لا يزاحمن الرجال في بقية الأبواب، وهناك يقول صلى الله عليه وسلم: (لبنيت البيت على قواعد إبراهيم، ولسويت بابه بالأرض، وجعلت له بابين؛ باب للداخل وباب للخارج) ، ولو أن الناس اليوم في كل تلك الأبواب خصصوا للدخول فتحات وفتحات للخروج ما تزاحم الناس على الأبواب، وقبل سنوات حصل تزاحم عند باب السلام، وتسبب في وفيات. إذاً: التنظيم من حيث الدخول والخروج مبدأ إسلامي، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ويهمنا في هذه القضية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يكون البيت على قواعد إبراهيم، وأن تكون الأبواب مساوية للأرض حتى يتمكن كل من أراد الدخول أن يدخل، ويكون هناك بابان للداخل وللخارج لكن. ما الذي منعه أن يفعل ذلك؟ ترك ما يرغب فيه مخافة ما سيحدث من الفتنة: (إن قومك حديثو عهد بكفر) فهم لازالوا جدد، فإذا هدمت الكعبة وغيرت على ما كانت عليه، قالوا: هدم وغير وبدل، فيحصل في نفوسهم بعض الشيء، فترك هذا العمل. ولما جاء ابن الزبير وبويع في مكة لما وقعت فتنة عثمان رضي الله عنهم أجمعين كان قد سمع من خالته عائشة رضي الله عنها وصف رسول الله للبيت، فقام وعمل ذلك، وهدم الكعبة وبناها على قواعد إبراهيم، وأدخل الحجر، وجعل له بابين مساويين للأرض، ولما جاء الحجاج، وقتل ابن الزبير، وكان ما كان وراعى أن يعيد البيت على ما كان عليه من قبل، فبناه على ما كان عليه قبل الإسلام، وأخرج الحجر على ما كان، ولما زادت حجارة البيت لاختصاره، حار ما يفعل به، وهي حجارة مختصة بالبيت لا يستطيع أن يبيعها لأنها وقف، ولا يسمح لأحد باستعمالها، فأرسل إلى أسماء أم عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عن الجميع رسولاً، وقال: اذهب فسلها ماذا نفعل فيما بقي من الحجارة؟ انظروا إلى الاعتراف والإقرار لأهل الفضل ولو كانوا أعداء! قتل وصلب ولدها، ثم يرسل إليها يستشيرها، وحينئذٍ ما خانته المشورة، بل أشارت عليه بالصواب، ولكن بعبارة أرجفت الرسول وخاف أن ينقلها، فقالت: (ليضعها في فيه) فرجع الرسول وليس في ذاك الذكاء كـ الحجاج، فما استطاع أن ينطق، فقال الحجاج: قل ما قالت ولا عليك، فقال: قالت ما لا أستطيع أن أنطق به، قال: انطق به ولا عليك، قال تقول: يضعه في فيه، قال: صدقت هو خير مكان لها هي تعني: في فم البيت؛ لأن البيت جعل له باب مرتفع، وأصبح من الداخل مجوفاً إلى ارتفاع -عتبة الباب الأعلى- ما كان عليه من قبل، فأخذ الحجارة الزائدة وأدخلها في الكعبة، ورصها حتى سوات الباب الذي وضعه وأعاده على ما كان وهو ما عليه اليوم. ولما جاء الرشيد إلى مالك وحصلت مناقشته في الموطأ وما يتبع ذلك، سأل الرشيد مالكاً واستنصحه واستشاره: إني أريد أن أعيد البيت على بناية ابن الزبير، تنفيذاً لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا أيضاً يأتي نظر مالك إمام دار الهجرة ويصدق عليه قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] ، والبصيرة دون البصر؛ لأن البصر يرى المحسوسات المواجهة، والبصيرة ترى ما لا يرى المحسوس، وتستنتج بالفراسة نتائج الأمر لو حصل ماذا يكون. قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، قال: ولم وأنا أنفذ رغبة رسول الله، وأعيد ما فعله ابن الزبير، قال: لا تفعل، إني أخشى أن تصبح الكعبة ألعوبة الملوك. الحجاج لماذا أعاد الكعبة على ما كانت عليه؟ لأنه شكل ووضع مات عنه رسول الله ويجب أن يبقى على ما كان عليه، ولم يلتفت إلى الوصف الذي جاء، وهنا مالك يقول: أخشى أن تصبح الكعبة ألعوبة الملوك. يأتي واحد بعدك يقول: لا. يجب أن تعاد الكعبة على ما كانت عليه في حياة رسول الله، ويعيدها، ويأتي الآخر فيخشى أن تتزحزح الكعبة عن مكانها، ولهذا منع مالك الرشيد أن يعيدها على الوصف الذي أراده رسول الله، اتقاء للشر، وهذا ما يسمى في علم الأصول: سد الذرائع: (ترك ما لا بأس فيه مخافة ما فيه بأس) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 مراعاة الشرع لعادات الناس أيها الإخوة: إن قضية التمسك بنسب القبائل قد تشبعت بها طوائف، وإن محاربتها أو انتزاعها بالقوة لا يأتي بنتيجة، وأذكر ونحن في الدراسة: تحمس زميل لنا لهذه الآية، فجاءه زميل له وافد إلى البلاد وخطب أخته، وهي في قرى نجد، فزوجه إياها، وذهب به إلى قريته، وأعلم أهله بأن هذا زوج أخته، فاعترضوا عليه، فقال: لا، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، فعلم بنو عمه وجماعته بالأمر فاجتمعوا بالسلاح عند باب البيت، وقالوا: إما أن تخرجه وإلا قتلناه، وكانت المسألة شديدة الخطورة، فاضطر أن يخرجه حفاظاً على نفسه، وقال له: أنا وأنتم أمام الشيخ محمد بن إبراهيم، وهو المفتي آنذاك رحمه الله تعالى، فما أفتى به على العين والرأس. ثم ذهبوا إلى الشيخ محمد بن إبراهيم، فقال له: إن ما قمت وفعلته حق فيما بينك وبين الله، وهذا شرع الله، والرسول قال لبني فلان: زوجوا فلاناً -وكان حجاماً- فأبوا أن يزوجوه، والرسول صلى الله عليه وسلم زوج زينب ابنة عمته وهي في الذروة من النسب إلى أسامة، وأبوه كان مولى، وأعتق فتبناه إلى غير ذلك، ثم انتهى الأمر إلى الطلاق، لكن ماذا تفعل في قومك وهم مستعدون أن يضحوا بك، وبضيفك؟ وهل أنت مفرط في صديقك، وهل ترضى أن يقع له ذلك؟ كما أن الحكومة لا تستطيع أن تمنعهم، ولا تستطيع أن تحميك ولا أن تحمي زميلك من هذا، فهذه الأمور ليس بالفرض اللازم الواجب أن يتزوج هذا الإنسان بتلك الفتاة، وممكن أن يتزوج غيرها، فدع عنك الفتنة وإثارتها فيما بينك وبين قومك وأهلك. فحينئذٍ طلق تلك الفتاة، وانتهت المشكلة ورجع كل إلى حاله. نذكر هذا يا إخوان؛ لأنه ربما أن تقع بعض الفتن أو الاعتراضات أو الشقاق بسبب ذلك، وطلبة العلم يتنازعون ويدعون بأن هذا هو الأصل، ويجب أن تلغى كل الاعتبارات المغايرة لذلك. نقول: لا بأس، هو مقصد ونقول: هو مما تحكمت فيه العادات، لكن لا نستطيع أن نغفلها أو أن نميتها، أو أن نمنعها. إذاً: ينبغي النظر في النتائج، كما نظر النبي صلى الله عليه وسلم في النتائج لو أنه هدم الكعبة وبناها على قواعد إبراهيم، وكما نظر مالك رحمه الله فيما لو أذن للرشيد أن يعيد البناء على ما حدث به عن رسول الله. هذا الذي أحببت أن أنبه عليه في مفهوم هذه الآية فيما يتمسك به البعض في قضية معينة. أما بقية القضايا والعلاقات فكما قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] ، عليم بمن يدعي التقوى والأصالة والقبيلة عليم بحاله وبسره وعلنه، خبير بداخلته وظاهره، والله تعالى أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 تفسير قوله سبحانه: (قالت الأعراب آمنا ... ) تأتي الآية الكريمة على منهج جديد أيضاً في الآداب والأخلاق، والآداب الإسلامية من حيث هي، وتصحيح المفاهيم، فكل ما تقدم في حقوق الإنسان بعد حق الله ورسوله، وهنا في حق الإسلام في ذاتيته: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، إلى آخرها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 المعاني التي اشتمل عليها قوله تعالى: (قالت الأعراب) {قَالَتْ الأَعْرَابُ} ، الأعراب هم سكان البوادي، والحاضر: سكان الحاضرة وهي المدن، فالناس من حيث المساكن والإقامة قسمان: من يسكن البوادي فهو أعرابي، ومن يسكن الحضر فهو حضري، فهنا هذا القسم: {قَالَتْ الأَعْرَابُ} ، أي: الذين جاءوا من البوادي: {آمَنَّا} ، وهذا إعلان بالإسلام، فرد عليهم وكُلف صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ، لم يقل: (ولكن أسلمتم) لأنه لو قال ذلك: تكون شهادة لهم بإسلامهم حقاً، لكن كان الرد عليهم بمقتضى منهجهم: (قالوا آمنا) لا. (قولوا أسلمنا) ، أسلمنا بدل آمنا، ويكون المرجع إلى مقالتهم هم لا إلى تصديق الوحي على دعواهم، فيكون إقراراً من الوحي بإسلامهم، وإسلامهم مناقش فيه. وهنا مباحث أصولية: (قَالَتْ الأَعْرَابُ) (أل) هنا هل هي للاستغراق أو للجنس؟ وهل كل الأعراب على هذا النمط، وهل كل من قال من عموم الأعراب (آمنا) يقال لهم: لا. لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا؟ الواقع أنه بخلاف ذلك، وأنه عام في الأعراب أريد به خصوص طائفة فقط من عموم الأعراب. واتفقوا على أنها نزلت في أعراب من بني أسد لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! نحن أسلمنا وآمنا بدون قتال كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، على ما سيأتي: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات:17] ، أي: بدون قتال، إذاً: (قَالَتْ الأَعْرَابُ) عام أريد به خاص. وقد بين والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في: أضواء البيان عند هذه الآية ما جاء في عموم الأعراب بالإجمال والتفصيل، جاء في عموم الأعراب: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [التوبة:97] ، ثم جاء بعد ذلك: {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ} [التوبة:98] ، ثم جاء بعدها: {وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ} [التوبة:99] ، فالآية أو السياق: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} ، شملت الجميع، ثم فصلت من بعض الأعراب من يتربص بكم الدوائر، ومن بعض الأعراب من يؤمن وينفق ويتخذ ذلك مغنماً عند الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 أسباب رد الله عليهم بالإسلام بدل الإيمان (قَالَتْ الأَعْرَابُ) ، هل هم الذين يتخذون ما ينفقون مغنماً عند الله سبحانه، أم الذين يتخذون ما ينفقون مغرماً ويتربصون بكم الدوائر؟ هنا يختلف العلماء في نوعية هؤلاء الأعراب من حيث الإسلام وعدمه، فـ ابن جرير رحمه الله يقول: ما السبب الذي من أجله أُمر صلى الله عيله وسلم أن يقول لهم: لا تقولوا آمنا، وقولوا أسلمنا؟ قالوا: إن السبب في ذلك {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات:17] {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} ، هم يمنون عليك أنهم آمنوا بك بدون قتال قال: لا، لا تقولوا آمنا، ولا تمنوا عليّ إيمانكم، لأنكم ما وصلتم إلى هذه الدرجة {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} . والفرق بين (آمنا) و (أسلمنا) يبينه لنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه: بأن هذه الآية من مواضع المباحث في العقيدة، وهو الفرق بين الإسلام والإيمان، ويقول كما يقول علماء الكلام الباحثين في العقائد: إن الإسلام والإيمان، والفقير والمسكين إذا أفرد أحدهما جمع الآخر معه، وإذا قرنا وذكرا معاً افترقا، أو كما يقولون: إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، فإذا قيل: أعط هذه الدراهم لمسلم أو أعطها لمسلم ولمؤمن، وإذا قيل: أعط المسلم درهماً والمؤمن درهمين كان هناك مغايرة، فالمسلم متميز على حدة، والمؤمن متميز على حدة. فعلى هذا: هؤلاء الذين قالوا: (أسلمنا) ، هل هم أسلموا فعلاً أم أنهم أسلموا كما في معنى: {قُولُوا أَسْلَمْنَا} بمعنى: استسلمنا إليك؟ قالوا: إما لأنهم يريدون أن يحفظوا على أنفسهم دماءهم وأموالهم وأعراضهم، أي: قالوا: (أسلمنا) ؛ ليأمنوا من المسلمين، وليغتنموا حالة المشاركة مع المسلمين، ويذكر ابن جرير نوعاً آخر: أنهم قالوا: (آمنا) ليتسموا باسم المهاجرين ولم يهاجروا، وكان ذلك في أول الهجرة، أو أنهم قالوا: (أسلمنا) رداً على أنهم يمنون على رسول الله بالإيمان. {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ، أي: مخافة السبي والقتل، وحفظكم أموالكم بقولكم: (آمنا) ، وأنتم لم تؤمنوا، أو بكونهم يمنون على النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانهم، وهم فعلاً لم يؤمنوا، أو لأنهم إنما أظهروا هذا القول ولم يأت تصديق قولهم بالعمل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 الإيمان قول وعمل قال ابن جرير: الإسلام كلمة، والإيمان كلمة وعمل، كما يقول جمهور علماء الكلام: الإسلام فعل أو نطق بالشهادتين، والإيمان: اعتقاد الجنان، ولفظ اللسان، وعمل الأبدان. أي: أنه اعتقاد وقول وفعل، فالاعتقاد وحده لا يكفي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جلس إلى عمه وقال: (يا عم! قل كلمة أحاج لك بها عند الله) فلم يقل، وهو قد أعلن من قبل: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار سبة لو جدتني سمحاً بذاك مبينا فهو يعتقد يقيناً بأن دين الإسلام الذي جاء به ابن أخيه محمد هو الحق، لكنه لم ينطق بكلمة الشهادتين، لذا كان يقول له: (يا عم! قل كلمة أحاج لك بها عند الله) ، فالاعتقاد وحده لا يكفي، ويجب أن يكون مع الاعتقاد النطق، ومع النطق والاعتقاد العمل، ولذا سمى الله العمل بالفروع إيماناً، ولما تحولت القبلة قالوا: ماذا يكون حال الذين ماتوا قبل أن يصلوا إلى الكعبة؟ لأنه صلى الله عليه وسلم مكث قرابة ستة عشر شهراً يصلي إلى بيت المقدس، وفي هذه الأثناء مات بعض المسلمين، قالوا: ماذا يكون مصيرهم وهم لم يصلوا إلى الكعبة؟ فنزل قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] ، فسمى الصلاة إيماناً؛ لأنها تصديق بالقول، أي: صدق القول بالفعل. وسيأتي: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] ، بأن الإيمان بالقول يجب تصديقه بالفعل، ويهمنا في هذا المقام أن قول الأعراب: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ، أسلمنا في الظاهر أم في الظاهر والباطن؟ الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه في أضواء البيان يرجح بأن إسلامهم كان إسلاماً لغوياً وليس شرعياً؛ لأن الإسلام لغة الاستسلام، كما قال حكيم الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل: وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالاً دعاها فلما أطاعت أرسى عليها الجبالاً وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذباً زلالاً إذا هي سيقت إلى بلدة أطاعت فصبت عليها سجالاً وأسلمت نفسي لمن أسلمت له الريح تصرف حالاً فحالاً هذا جاهلي يقول هذا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: أسلمت وجهي؛ يعني: استسلمت لله الذي هذا صنعه من خلق الأرض بالجبال، ومن خلق المزن بالماء الزلال، ومن تصريف الرياح حالاً فحالاً. هذا إسلام لغوي. أما الإسلام الشرعي فهو: من التزم بحقوق الإسلام والإيمان، وطاعة الله ورسوله، فالشيخ يرى بأن قولهم: (آمنا) {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} لغوي، أما حقيقة الإسلام الشرعية فليست موجودة عندهم، فيقول: هؤلاء من صنف المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر. وابن جرير يقول هذا أيضاً، ويستدل رحمه الله بقوله فيما بعد: {وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، فإذا لم يدخل الإيمان وهو التصديق والالتزام بالعمل في قلوبهم، فهذا يكون إسلاماً لغوياً وليس إسلاماً شرعياً، وسيأتي مناقشة هذا الرأي عند قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] . والذي يهمنا: بأن القرآن فرق بين الإسلام والإيمان، لما أفرد الإيمان جمع معه الإسلام، ولما نفى عنهم الإيمان وأثبت إليهم الإسلام حينها عرفنا أن هناك فرقاً بينهما. هناك: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] . إذاً: في هذه الآية يتفق معنى الإسلام والإيمان؛ لأنه بيت واحد هو الذي أخرج منها، فإذا انفرد لفظ الإيمان شمل الآخر معه، كما إذا انفرد لفظ الفقير أو انفرد لفظ المسكين شمل الآخر معه، أما إذا ذكرا معاً فيكون هناك التفرقة، إذا قال: أعط الفقير درهماً وأعط المسكين نصف درهم؛ كان هناك فرق بين الفقير والمسكين، وقد فرق العلماء بينهما، فقالوا: الفقير من فقار الظهر، كأن فقرات ظهره مكسورة؛ لأنه لا يستطيع التحرك مادياً، أما المسكين فهو الساكن عن الحركة، لكن مع المعافاة، وقد سمى الله سبحانه أصحاب السفينة التي يعمل عليها مساكين: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] ، فكذلك اليوم صاحب المرسيدس الأجرة، وصاحب التكسي عنده بعض الشيء لكنه مسكين، فقال الفقهاء: الفقير من لا يملك شيئاً، والمسكين من يملك أقل من حاجته، فإذا قيل: أعط الفقير كان له وصف مستقل، وأعط المسكين كان له وصف مستقل، وهكذا الإسلام والإيمان. وقد جاء في حديث جبريل عليه السلام في حديث عمر المشهور: (أخبرني عن الإسلام؟) ، فأخبره بأعمال محسوسة وهي أركان الإسلام الخمسة ثم قال: (أخبرني عن الإيمان) ، فذكر له ما لم يذكره في الإسلام، فعرفنا أن الإسلام من حيث هو يتميز عن الإيمان من حيث هو إيمان، وكذلك الإيمان يتميز بأركانه عن الإسلام، وكلٌ له فريقه، والجميع يسمى: الدين، وجاء الركن الثالث الذي يسيطر على الجميع عند الإحسان: أن تعبد الله، والعبادة بدنية وقولية ومالية. أي: أثرٌ فعلي، وهو مع الإيمان والتصديق (كأنك تراه) . أي: مع الاعتقاد، (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) . إذاً: (قَالَتْ الأَعْرَابُ) أولاً: هذا لفظ عام أريد به خاص، ويمثل له الأصوليون بقوله سبحانه: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] ، قالوا: إن لفظ (الناس) عام في بني البشر مراداً به شخصية واحدة ألا وهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] ، يعني: أنكم تحسدون محمداً على ما أنزل عليه؟! لا، وكذلك: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:173] ، القائل: (إن الناس قد جمعوا لكم) ما هو إلا من ليسوا عموم الناس الذين قالوا، وعلى هذا فهذه الآية تصدق على هذا المثال أنه عام أريد به الخصوص، (قَالَتْ الأَعْرَابُ) والمراد به بعض الأعراب وهم أعراب من بني أسد. (آمَنَّا) أي: التزمنا وصدقنا واتبعنا، ولكنهم لم يكونوا على هذا المستوى. {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ، أسلمنا على ما بينا سابقاً، إسلاماً لغوياً، وأشرنا بأن الشيخ رحمه الله في الأضواء يرجح بأن: (قُولُوا أَسْلَمْنَا) أي: استسلمنا إسلاماً لغوياً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 معنى قوله تعالى: (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) {وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، الجمهور يقولون: (لم) و (لما) كلاهما أداة نفي، ولكن يفترقان في المعنى، لو شئتم رجعتم إلى المغني في معاني الحروف، (لم) للنفي القاطع، و (لما) تنفي مع وجود احتمال أن المنفي سيوجد فيما بعد، أو أنه سيوجد بالتدريج، ويمثلون لذلك بقولهم: أثمرت الشجرة ولما تينع الثمرة، والثمرة موجودة ولكن الإيناع ونضجها لم يحصل، ولما قالوا: ولما تنضج الثمرة. معناها: أن النضج آتٍ، لكن بالتدريج، وهكذا في هذه الآية، يقول الجمهور: هم لم يؤمنوا ولكن سيأتي الإيمان إليهم تدريجياً، فالنفي هنا عن وجود الإيمان بالفعل عند قولهم: (آمَنَّا) ، قال لهم: لا، ليس الآن، أنتم في أول الطريق، فقولوا: (أسلمنا) ؛ يعني: هذا يصدق عليكم سواء استسلاماً وإسلاماً لغوياً، أو استسلاماً حقيقياً، وعلى هذا فإن قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، نفي لوجود الإيمان في تلك اللحظة مع احتمال مجيئه إليهم، وأن يدخل في قلوبهم تدريجياً. {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحجرات:14] ، أي: على مقتضى قولكم: (أسلمنا) ، وتطيعوا وتطبقوا القول بالعمل، وتؤيدوا ادعاءكم الإسلام والإيمان بتطبيق العمل، فحينذٍ: {لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} ، أي: لا ينقصكم من أعمالكم شيئاً؛ بناء على مجيء الإيمان التدريجي الذي تلتزمون به بمقتضى العمل بأركان الإسلام. {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في ادعائكم الإيمان، أو فيما تقولون من الإسلام مع هذا كون الإيمان لم يدخل في قلوبكم لا يمنعكم من أن تؤجروا على ما تفعلونه من طاعة الله ورسوله، {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، وأنتم على هذه الحالة في قولكم: (أسلمنا) فيما علمتم أن تقولوه، وقلتم: (أسلمنا) ، وأطعتم الله ورسوله مع مقالتكم تلك، {لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} [الحجرات:14] ، لن ينقصكم من أعمالكم شيئاً، وسيؤجركم على أعمالكم وأنتم على هذه الحالة. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:14] في دعواكم الأولى، أو في غيرها، أو في عمومها أو في خصوها. وهذا بيان من الله لهؤلاء الذين ادعوا الإيمان ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، أن حقيقة الإيمان هي كذا وكذا؛ لأن (إنما) أداة حصر، فالمؤمنون حقاً هم {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا} [الحجرات:15] ، عدة شروط في صدق دعواهم الإيمان، وقولهم: (آمنا) ، وهذا رد على الأعراب؛ لأنهم إلى الآن ما صدقوا القول بالعمل، فهي بيان من الله لحقيقة المؤمنين الذين إذا قالوا: آمنا كانوا صادقين في قولهم، كما في سورة الحشر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 الأسئلة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 شمول التقوى لعموم البشر السؤال عندما أقرأ قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، يتبادر إلى ذهني أن المقصود هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هناك مؤاخذة؟ الجواب حصرها على الرسول أقول فيه: نعم وأقول فيه: لا. لا شك عند أدنى المسلمين أن في ميزان التقوى أن الرسول عال فوق كل أحد ولا يلحق به أحد، قال: (والله إني لأعلمكم بالله وأتقاكم لله) ، وذلك في قضية الثلاثة الذين ذهبوا وقالوا: نرى أعمال الرسول ما هي، فأخبرتهم أم المؤمنين، فقالوا: هذا رسول الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال حينها ما قال، وهذا ليس فيه شك أن الرسل هم أتقى الناس في أممهم، والرسول صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، وخاتم الرسل، وسيدهم أجمعين، فلا شك أنه أتقى الناس، لكن هل هي خاصة به صلى الله عليه وسلم أم لعموم المسلمين المتقين {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل:128] ، التقوى ليست خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما تعم جميع من اتصف بها من البشر من أمة رسول الله، وعلى هذا تكون الآية عامة. لكن إذا جئنا لما ذكر من قبل: (من خير الناس يا رسول الله؟ قال: يوسف بن يعقوب بن إبراهيم -نبي ابن نبي ابن نبي- قال: ما عن هذا سألت، قال: عن الجاهلية؟ خيركم في الإسلام خيركم في الجاهلية إذا فقهوا) ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لا شك أنه إمام المتقين، وسيدهم وأكرمهم عند الله، وأتقاهم لله، ولكن ليست قاصرة على شخصه صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في أبي بكر رضي الله عنه: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح بها) . إذاً: أتقاهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا تفاوت الناس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 توجيه كيفية معرفة الأطباء لما في الرحم السؤال بعض الأطباء المتخصصين يميز جنس المولود وهو في رحم أمه، فما رأي فضيلة الشيخ في من يذهب إليه لمعرفة ذلك؟ الجواب كونهم الآن يعلمون ما في الرحم من ذكر أو أنثى، نقول: إن بعض المغرضين وأعداء الدين عارضوا ذلك بما جاء في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:34] ، فعلم ما في الأرحام لم تعد مختصة بالمولى، وأصبح الناس يعلمونها أيضاً، وشوشوا على بعض الناس على ما سيأتي عند قوله: {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] ، فارتاب بعض الناس في مدلول الآية في علم الله بالأرحام؛ لأن البشر صاروا يعلمونها، ولكن لم يعلم البشر ما في الأرحام من حمل أو دم جامد أو هواء متكور أو ذكراً أو أنثى بطبيعة الحال، ولكنهم ما علموا ذلك إلا بأحد أمرين: إما أن يقتحموا الرحم ويدخلونه بأشعة ونحوها، وإما أن يخرجوا ما في الرحم وينظرونه بأعينهم، أما الاقتحام على الرحم فبالأشعة كأنهم سلطوا الأضواء على ما في الرحم، وأصبح منظوراً إليهم، لكن منعوا هذه الأشعة وأبعدوها وأخبرونا، ليس لهم علم. وإذا كان شيء وراء الجدار وأنت نظرت بما يخرق الجدار، هل أصبح غيباً عليك، قبل الجهاز الذي يكشف لك ما وراء الجدار هو غيب عنك، لكن لما خرقت الجدار ونفذت ونظرت بعينك لم يعد غيباً، سواء خرقته بآلة ونظرت بعينيك، أو أرسلت من يخترق الجدار كأشعة وغيرها. الشيء الثاني: يأخذون عينة من ماء الرحم ويحللونه على ما فيه من هرمونات الذكورة أو الأنوثة، فيكونون أخرجوا ما في الرحم إلى الخارج، ونظروا في ماهيته، أما ما عدا ذلك فلا. وهناك وجه آخر، {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد:8] قالوا: يغيض البويضة حينما تلصق في جدار الرحم لا يتبين فيها ذكورة ولا أنوثة، وكذلك أيضاً الطفل قبل ستة أسابيع لا يمكن أن يوجد فيه خلقة ذكورة ولا أنوثة، وإنما يذهب هذا الجهاز فيما وراء ذلك. والله تعالى أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 تفسير سورة الحجرات [5 - ب] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 1 تفسير قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا ... ) باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فقد تقدم مناقشة الأعراب في قولهم: (آمنا) : {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ، وتقدم التنبيه على هذه النكتة اللطيفة في قوله سبحانه: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ، بدلاً من أن يقول: (ولكن أسلمتم) ؛ لأن فيه هذا شهادة لهم من الله بإسلامهم، ولكن من حسبان القول: (قالت) لا، (قولوا) ، {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] . وقدمنا بأن قوله سبحانه: {قَالَتْ الأَعْرَابُ} [الحجرات:14] ، قول عام مخصوص ببعض الأعراب، وهم جماعة من بني أسد أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (آمنا) . والله سبحانه وتعالى قسم الأعراب إلى قسمين: منهم من آمن بالله وينفق في سبيل الله، ويتخذ ما ينفقه مغنماً وقربة عند الله، ومنهم من لم يؤمن، أو استسلم، أو نافق واتخذ ما ينفقه مغرماً وغرامة وقعت عليه. أي: لا يؤمن بجزائها ولا بالثواب عليها؛ لأنه لا يؤمن بالبعث الذي هو يوم الجزاء. وهذا القسم رجح والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في الأضواء بأنهم كانوا منافقين، أظهروا الإسلام أو قول الإيمان بألسنتهم ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، وقال: إنهم أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم معلنين ذلك رغبة ورهبة، رغبة أن يشاركوا في الغنائم مع المسلمين، ورهبة في أن يقاتلوا وتسفك دماؤهم وتسلب أموالهم. وبيّن سبحانه وتعالى في آخر السياق: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} [الحجرات:14] ، أي: مع قولكم (أسلمنا) ونفي الإيمان عنكم أن تطيعوا الله وتطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله {لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ} [الحجرات:14] ، أي: لا ينقصكم من أجورها. والله سبحانه وتعالى ليس بظلام للعبيد، حتى إن الكافر المعلن كفره إذا عمل من أعمال الخير فإن الله يجازيه عليها ولكن في الدنيا، أما في الآخرة، فكما قال في الآية الكريمة: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] . وعلى هذا فالقرآن يبين لهؤلاء الناس الذين قالوا بألسنتهم، وصحح مقالتهم من الإيمان إلى الإسلام، ومع عدم وجود الإيمان المطابق لأقوالهم فإنهم إن أطاعوا الله وأطاعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أعمالهم محسوبة لهم ومحفوظة عليهم، ولا ينقص من أجورهم شيئاً؛ لذا سبق هذه الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] ، عليم بصدق ما قلتم، خبير بضمائركم وما تخفيه صدوركم، ليبين لهم حقيقة الموقف وما ينبغي أن يقولونه وهو مقالة الإسلام لا مقالة الإيمان. وهناك من يقول: (لما) أخت (لم) في النفي، ولكن لما تشعر بأن النفي مؤقت وليس قطعياً أبدياً، وينتظر أو يرجى حصول هذا المنفي تدريجياً، ويمثلون لذلك بقول القائل: أثمر الشجر ولما يينع الثمر. أي: أصل الثمرة موجودة ولكنها لا زالت ثبجة لا تصلح للأكل ولما تنضج، فهي في طريق النضج تدريجياً، وهكذا الثمار تبدأ ثبجة أولاً، ثم تتدرج في النضج إلى أن تستوي في نهايته وتكون ثمراً جنياً. {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحجرات:14] ، هذا على العموم والإطلاق؛ لأن طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة مطلقة، ولكن يأتي هناك استثناءات فيما إذا عجز الإنسان، أو حال دون ذلك حائل فإنه يغفر له ويسامحه في ذلك {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم) ، فالفعل على الاستطاعة، والترك على القطع (وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) ، ليس هناك تبعيض في الاجتناب؛ لأن الترك سلبي، بخلاف الصلاة، فإنه عمل تكليف، والتكليف قد يشق على المكلف، وعند المشقة يأتي التيسير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 2 صفات المؤمنين وأعمالهم ثم بين سبحانه وتعالى الحقيقة: لما رد على الأعراب مقالتهم: (آمنا) ولم يستقر الإيمان في قلوبهم، ولم يصدقوا مقالتهم بألسنتهم وبأفعالهم بين لهم سبحانه، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الحجرات:15] ، أي: حقيقة المؤمنين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 اللطائف البلاغية في قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) ويقولون في علم العربية (إنما) أقوى أدوات الحصر، وكذلك النفي والإثبات، تقول: لا شاعر إلا زيد، (لا) نفي، و (إلا) استثناء، وكذلك تقديم ما حقه التأخير: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] ، أصلها: نعبدك ونستعينك، فكاف الخطاب محلها التأخير، فلما فصلت وقدمت جاءتها (إيا) من أجل النطق بها؛ لأنه لا ينطق بكاف الخطاب مجردة، فقدمت كاف الخطاب عن محلها فكان دليلاً على القصر، قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] لا نعبد غيرك، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لا نستعين بسواك. فهذه كما يقولون: أدوات القصر، وكذلك تعريف الطرفين لو قلت: زيد كاتب، قد يكون كاتب من الكتاب، ولكن إذا قلت: الكاتب زيد، فهذا قصر، ويقولون: القصر نسبي وحقيقي، والقصر النسبي ما كان بالنسبة إلى أشخاص آخرين يدَّعون الكتابة، تقول: الكاتب أي: حقيقة هو فلان، وهكذا (إنما) النفي والإثبات تقديم ما حقه التأخير تعريف الطرفين. هذه هي أدوات القصر في علم البلاغة، وأقواها (إنما) . {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الحجرات:15] ، أي: حقيقة المؤمنين ما هي؟ من هم المؤمنون حقاً لا ما يدعي أولئك الأعراب الذين لم تصدق قلوبهم منطق لسانهم، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ} [الحجرات:15] (الَّذِينَ) اسم موصول. {آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] ، هنا لطائف بلاغية كما يقول علماء التفسير: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:15] ، كان ممكن، أن يقال: (ولم يرتابوا) ، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] ، و (ثم) هنا كما يقولون: للتعقيب والتراخي. أولاً: الريب إنما هو الشك، والشك التردد، والتردد والشك هما نتيجة وسوسة الشيطان للعبد، يوسوس إليه فيوجد عنده شكاً في الحقائق فيتردد ويرتاب، فإذا ارتاب كان مذبذباً بين هذا وذاك، ولم يستقر حاله على أمر، وقد قدمنا بأن الشك هو تعادل الكفتين في العلم، والظن ترجيح إحدى الكفتين، والوهم هو الكفة الراجحة، والعلم هو ما لا يوجد مقابله وهم، فالشك تردد، والمتردد لم يجزم ولم يستقر على ما يريده. وأخطر ما يكون في هذه الحياة من أمور الدنيا والدين إنما هو التردد والريب، ولهذا يجد المتأمل في كتاب الله أن المصحف الشريف بدأ بنفي الريب باليقين، وانتهى بنفي الشك والريب والوسوسة، ويهمنا هنا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} . ثم بين سبحانه: (ثُمَّ لَمْ) ومجيء (ثم) هنا يبين به سبحانه بأن المؤمنين حقاً الذين آمنوا إيمان يقين ولم يقم مع إيمانهم شك ولا تردد، ثم هم يثبتون على الإيمان القاطع من أول إيمانهم إلى آخر أمرهم في الحياة حتى يخرجون من الدنيا. (ثُمَّ لَمْ) ، أي: لم يطرأ على إيمانهم فيما بعد ريب، فهم مؤمنون على يقين من أول لحظة، ويستمرون على اليقين في إيمانهم، ولم تزعزعهم القضايا التي تعرض عليهم، ولم تزعزعهم الشدائد التي تضر بهم، بل يثبتون على يقينهم، ثم مهما طال الزمن، ومهما واجهوا من أحداث لن يأتي الريب إلى قلوبهم، ولن يجد الشك إلى يقينهم مدخلاً ولا طريقاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 يقين المؤمنين في الأمم السابقة يقول العلماء: وقريباً من ذلك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] ، أي: استمروا على مقالتهم واعتقادهم هذا إلى النهاية، كما جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: (قالوا ربنا الله ثم استقاموا على هذا القول قولاً وفعلاً إلى أن ماتوا، ولم تتغير مقالتهم، ولم تتغير استقامتهم في منهجهم الذي سلكوه) . وإذا نظرنا إلى عنصر اليقين مع المؤمن: نجد من أول الدنيا وفي الأديان جميعاً أن اليقين هو عنصر النجاح والثبات، ونجد الشدائد التي وقعت بالأمم مهما كانت يكون علاجها باليقين، كما وقع مثلاً في قضية أصحاب الأخدود؛ حينما أوقد ملكهم النار، وعرض عليهم الرجوع عن الإيمان، فامتنعوا، فقال: من امتنع سألقيه في تلك الأخاديد الموقدة، فما ارتابوا، ولا ترددوا، وقضية الطفل الرضيع، لما عُرِضت أمه على النار أو أن ترجع عن دينها فأبت، ولكنها رأت طفلها فأشفقت عليه أن تلقي بنفسها وهو معها في النار، لم تفكر في نفسها ولكن طفلها ما ذنبه؛ لأنه لم يبلغ مبلغ الإيمان، ولكن الله أنطق هذا الطفل وهو ثالث ثلاثة نطقوا في المهد، قال: قعي في النار يا أماه ولا تتقاعسي فإنك على الحق، فهذه الأم على هذا الوضع ألقت بنفسها في النار وهي على يقين من أنها على الحق، فما ترددت ولا رجعت. ومن قبل ذلك أيضاً سحرة فرعون: جاءوا مناصرين للباطل ويعرضون على فرعون: {أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41-42] ، فجاءوا أعواناً للباطل، مشمرين ليدحضوا رسول الله وبما جاءهم به من الآيات، ولكنهم لما عاينوا الحق وهم أعرف بفن السحر، وعلموا أن ما جاء به موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس من باب سحرهم، وإنما هو فوق ما يظنه العقل أو يتداركه، حين ذلك آمنوا بالله سبحانه وتعالى. ولما هددهم فرعون قال: {لأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] ، سبحان الله! النخل أشد ما يكون خشونة، تلمسه بيدك تتألم، وهو يريد أن يصلبهم على جذوع النخل، قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] ، استهانوا بتعذيب فرعون بعد أن كانوا نصراء له وانقلبوا عليه ووقفوا ضده يقيناً بالله؛ لما وجدوا الآية الكبرى مع موسى عليه السلام. ولهذا يقولون في قصتهم: كان كبير السحرة في ذلك الوقت قد هرم ولم يستطع أن يحضر ذلك النادي، فلما قيل له ذلك؛ وذكروا له إيمان السحرة وعابوهم، قال: أخبروني عن تلك الحية التي ابتلعت الحبال والعصي، أبقيت على حجمها الأول قبل أن تلتقمها، أم أنها انتفخت وكبرت بعد أن التقمتها؟ قالوا له: لم يتغير حجمها وكانت على ما هي عليه، قال: إذن هذه آية وليست سحراً. ولهذا يقول والدنا الشيخ الأمين: هذا علم قد يكون حراماً، ولكنه نفع السحرة بأن عرفوا بأن حقيقة ما جاء به نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام ليس من نوع سحرهم، فآمنوا؛ لعلمهم بحقيقة السحر. وهكذا هؤلاء يهددهم فرعون الطاغية بأنه سوف يصلبهم وسيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وكل أنواع التهديد عرضه عليهم، ومع ذلك قالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:121] قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] ، بخلاف الآخرة {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36] ، لا يخرجون من النار ولا يموتون فيها. يعني: عذاب دائم مستمر. إذاً: هؤلاء دخل اليقين إلى قلوبهم، حتى مع مجيء الشدائد عليهم لم يرتابوا فيما آمنوا به. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 يقين المؤمنين في عهد النبوة لما اشتد الأمر على المسلمين في مكة، وجلس صلى الله عليه وسلم بالحجر، ومعه بعض أصحابه، قالوا: يا رسول الله! ادع الله لنا أن ينصرنا على المشركين، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى تسير الضعينة من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلا الله والذئب على الغنم) ، كيف يحصل ذلك وهم يعذبون ومضطهدون؟ إنه اليقين بالله. ونأتي إلى حدث كان قبل ذلك، حينما جاءوا إلى عمه ليكلمه في أن يترك ذلك، وقالوا: إن كان يريد مالاً جمعنا له، وإن كان يريد ملكاً نصبناه علينا، وإن كان يريد زواجاً زوجناه أجمل من في العرب، وإن كان وإن كان إلى آخره، فقال: (فرغت يا عم؟ قال: بلى، قال: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى تذهب هذه عن هذه) ، سبحان الله! قال ذلك وهو أحوج ما يكون إلى عمه، ومع ذلك يتحدى ولو جاءوا بالشمس والقمر، لا بأموالهم ولا بنسائهم ولا بجاههم وملكهم، لن ينظر لذلك قط حتى يتم الله هذا الأمر، وعلى هذا فعلاً كان على يقين من ربه سبحانه. وليلة الهجرة حينما يأتي عشرة شبان بسيوفهم على بابه، ويأتيه جبريل ويخبره، فيخرج يقيناً بالله مستخفاً بهؤلاء، ولم يكتف بالخروج من تحت أيديهم، بل أخذ التراب من تحت أقدامهم ووضعه على رءوسهم، ويقرأ قوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] ، سبحان الله العظيم!! يحجب الله رسوله عن أبصارهم، عشرون عيناً تنظر فلم تره! ثم يذهب ويصل إلى الغار، ويأتي الطلب وراء ذلك، ويقول الصديق: يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا، فماذا كان رده صلى الله عليه وسلم؟ كان منطق اليقين يتجسم في كلامه حتى يملأ الغار أمناً وطمأنينة: (ما بالك باثنين الله ثالثهما) ، ومن كان الله ثالثهما هل يخافا؟! لا والله، آمناً مطمئناً، وكتب السيرة تذكر أحداثاً عجيبة في هذا الغار المبارك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 صدقة عائشة رضي الله عنها دلالة على إيمانها خرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وانتشر الإسلام، ثم يكون هناك من بعض الأفراد اليقين الجازم كما قدمنا مراراً عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصتها مع بريرة وقرص الشعير، وكانت صائمة، وجاء مسكين، فقال: صدقة يا آل بيت رسول الله، قالت عائشة: يا بريرة أعطي السائل، قالت: ما عندي ما أعطيه، إلا قرص شعير تفطرين عليه في المغرب، فماذا قالت أم المؤمنين؟ هل قالت: احفظيه لنا؟! لا، بل قالت: أعطي السائل القرص وعند المغرب يرزق الله، فذهبت بريرة وهي تتغنى بقول عائشة: عند المغرب يرزق الله، لم ترتفع بريرة إلى مستوى أم المؤمنين في اليقين بالله سبحانه، ثم جاء المغرب ما رزق الله، قامت تصلي أمامها، وبريرة جلست تريد أن ترى رزق الله، فما خرجت أم المؤمنين من صلاة المغرب والتفتت إلا وشاة كاملة أمامها بقرامها، قالوا: القرام هو أطرافها وما معها، أو أن القرام هو أنهم إذا أرادوا شوي الشاة بعد سلخها جاءوا بالعجين وطلوها به من جميع الجوانب، ووضعوا عليها الجمر، فإذا جف هذا العجين نضجت الشاة من داخله، وبقي العجين يتلقى الأتربة وغير ذلك، فيقشرون هذا العجين عنها كما تقشر البيضة أو حبة الموز، والآن يستبدلونه بالقصدير، فيدخلون اللحم في الفرن بالقصدير، ويبقى على ما هو عليه. فقالت أم المؤمنين لـ بريرة: ما هذا يا بريرة؟ قالت: والله أهداه إلينا رجل، والله ما أهدى إلينا قبل ذلك قط. يعني: شيء عجيب، لو أنه معتاد أنه يأتي له حسب العادة، لما فوجئ أهل البيت، لكنه على العكس ما أتى لنا بشيء أبداً من قبل. إذاً: شيء ساقه الله بخصوصه، ماذا قالت أم المؤمنين؟ قالت: (يا بريرة! كلي فهذا خير من قرصك) ، أنت كنت حريصة على أن يبقى قرص الشعير؛ لأنك صائمة، فأعطيت قرص الشعير وجاءت الشاة. ثم قالت -وهو محل الشاهد-: (والله لا يكمل إيمان العبد حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه فيما في قبضة يده) ، الخبز بيدها، ولكنها تصدقت به، ويقينها وإيمانها عند الله أقوى في قلبها من هذا الذي في قبضة يدها، وهذا هو حقيقة الإيمان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 اليقين هو مبدأ السعادة وهكذا لو تأملنا أن تمرة تقبض عليها بيديك الاثنتين، ثم جئت لتتناولها فضرب إنسان على كفك فطارت فالتقطها وأخذها وصلت إلى باب فيك ولكن لم تمضغها ولم تأكلها، ولكن هو ما عند الله، والله لو اجتمع الإنس والجن على أن يحولوا بينك وبينه والله ما استطاعوا {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] . وعلى هذا اليقين هو مبدأ السعادة والنجاة في كل شيء، ونجد هذا من أول الحياة الدنيا مع الرسل وأتباعهم، وفي هذه الأمة، ومع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع بعض الأفراد، نجد اليقين هو منطلق الإيمان، وهو مبدأ السعادة في حياة الإنسان. ثم نجد ما أشرنا إليه من ارتباط اليقين في كتاب الله ، نجد مبدئياً بعد فاتحة الكتاب قوله سبحانه: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:1-4] ، اليقين موجود عند هؤلاء بالآخرة، واليقين بالآخرة هو منطلق فعل كل خير علامَ يتحمل الناس الالتزام بالصلوات الخمس؟ علام يلتزم الناس صوم رمضان جوعاً وعطشاً؟ علام يلتزم الإنسان إخراج جزء من المال بكفه وعرق جبينه ويعطيه إلى غيره؟ علام يتحمل الإنسان السفر الطويل من كل فج عميق، ويأتي في حل وارتحال للحج؟ علام يتحمل الناس مسئولية الجهاد وسفك الدماء؟ كل ذلك لأي شيء؟!! لدافع لذلك الإيمان بالغيب واليقين بما فيه من عند الله سبحانه، ولولا ذلك اليقين ما حصل شيء من ذلك، ولهذا المنافق لعدم يقينه يعمل ما كان ظاهراً أمام الناس، وإذا خلا بينه وبين أصحابه جحد ما كان يظهره بلسانه. وهكذا جاء الحديث خاصة في المال على ما سيأتي {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [الحجرات:15] ، وأن الصدقة برهان. أي: دليل قاطع على صدق من يقول: آمنت بالله، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله. إذاً: هنا {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ} [الحجرات:15] ، (ثم) هنا إنما جاءت للتراخي بعد نقطة مبدأ الإيمان، فقد صدر إيمانهم بيقين في وقتها، ثم ثبتوا على هذا اليقين، ومع استمرارهم ومضي الزمن وطوله. وننظر في الأمر الجماعي في غزوة الأحزاب، في حفر الخندق لما اعترضت صخرة جماعة سلمان الفارسي أو أبي هريرة، وتكسرت عليها معاولهم، والغريب أن صخرة اعترضتهم طريقهم مع أن مكان الخندق في أرض سهلة، وهو ما بين طرف الحرة الغربية عند المعهد الوطني، عند كلية أمين مدني ومعرض العامر، ويمتد إلى مقابله إلى الحرة الشرقية -وهي كلها أرض سهلة- لكن اعترضت صخرة في طريقهم في الحفر، لتكون آية من عند الله، وتكسرت عليها معاولهم، واشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أنا آتي، فلما رآها طلب ماءً وتوضأ، ونثر الماء على الصخرة، ثم أخذ المعول وضرب ثلاث ضربات، فأول ضربة أبرقت وتكسرت، والثانية تفتت، والثالثة صارت كثيباً من الرمل، وفي كل ضربة تبرق برقة ويكبر رسول الله معها. قالوا: ما هذه البرقة وما هذا التكبير يا رسول الله؟ قال: (أرأيتم؟ قالوا: بلى، قال: إن الله قد أراني صنعاء والشام وبصرى العراق) ، أي: إن الله سيفتح للمسلمين هذه الأمصار الثلاثة، في هذه الحالة مع شدة الخوف والجوع والبرد، ظهر النفاق والارتياب، فقال المنافقون: يعدنا قصور بصرى والشام وصنعاء وإن أحدنا ليخاف على نفسه أن يذهب فيقضي حاجته. هذه مقالة المنافقين. أما أهل الإيمان فقالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] ، وما زادتهم تلك الشدة وهذا الواقع إلا إيماناً وتسليماً لله، فهذا هو الإيمان الحقيقي، تلك الشدة ما زعزعت إيمانهم، ولا أضعفت يقينهم، بل زادتهم إيماناً، وكما يقولون: الشدة تورث اليقين، أو تدعم التضامن والتجمع. لما تكون أقلية إسلامية في بلد، ويحسون بالشدة والضغينة من الأكثرية ينضم بعضهم إلى بعض، ويقوى ارتباطهم ببعض للدفاع عن النفس، وهؤلاء المؤمنون جاءتهم وواجهتهم تلك الشدائد، ولكنهم لم يرتابوا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 اليقين في كتاب الله نجد اليقين كما أسلفنا من أول كتاب الله إلى آخرة وما بين الطرفين عمل بمقتضى ذلك اليقين، أشرنا إلى الطرف الأول {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] ، وافتح المصحف وقلب أوراقه إلى أن تأتي إلى الصفحة الأخيرة، ماذا تجد في المصحف الكريم؟ المعوذتين، تجد الأولى: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] ، صفة عامة، ولكن (فلق) هنا تأتي على جميع الخلق، فلق الرحم عن الجنين، فلق الحبة عن النبات، فلق الليل عن الفجر، فلق وفلق إلى كل ما تتصور في مخيلتك. {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:2-5] ، فجيء بصفة واحدة أمام أربعة مضار ومفاسد يتعوذ منها. الأولى: العامة: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2] ، حتى قال ابن عباس: المعاصي مما خلق، كأنك تستعيذ بالله أن تقع في معصية، (وغاسق إذا وقب) قال: القمر إذا غاب؛ لأنه وقت اتخاذ السحرة السحر لظلام الليل، (نفاثات) أي: سحرة، (حاسد إذا حسد) وكل ذلك من أضرار البدن المادية. تجد السورة الأخيرة التي ختم بها المصحف الشريف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1-3] هناك: (رب الفلق * من شر) ، وذكر أربع شرور يستعاذ منها، وهنا ثلاث صفات (رب ملك إله) ويقول العلماء: هذه صفات العظمة لله سبحانه؛ لأنها جامعة، الرب رب العالمين، والربوبية قاعدة توحيد الألوهية؛ لأنه يُستدل بفعل الرب لعباده على استحقاقه لإفراده بالعبادة، {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3-4] ، اعبدوه مقابل ما أطعمكم وآمنكم، وهكذا كثير من نصوص القرآن الكريم تسير على ذلك النمط. فنجد هنا (رب الناس) ، والرب هو الخالق المربي، أي: خلق الخلق ورباهم على نعمه ورزقهم. (ملك الناس) ، والملك هنا كامل؛ لأنه ملك قدرة وسلطان، لا ملك سياسة وإدارة كملوك الأرض وملوك الدنيا؛ لأن هنا الملك بالفعل والقدرة والسلطان، {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الشورى:49] . هذه حقيقة الملك، ولا تكون إلا لله، يهب أو يجعل. أي: إرادة فعالة بقدرة قادرة. {مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:2-3] أي: معبودهم ومألوههم، وهذه الثلاث كلها صفات العظمة لرب العالمين. تأتي تلك الصفات الثلاث أمام شر واحد، والمستعاذ منه شيء واحد، بينما سورة الفلق المستعاذ به صفة واحدة والمستعاذ منه أربع صفات، أربع مفاسد تستعيذ منها بصفة واحدة لله، وهنا ثلاث صفات العظمة لله تستعيذ بها جميعها من خصلة واحدة وهي أخطر ما تكون على الإنسان في دنياه وآخرته. {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] ؛ لأنه بالوسوسة في الصدر يكون الشك، وبالشك يكون الريب، وإذا شك الإنسان وارتاب في شيء لم يتم مشروعاً في حياته قط، تريد أن تبني بيتاً لكن ترددت: فيما بعد أبني هنا لا أعمل كذا، وهكذا ما دمت بين كفتي الشك والتردد ولم تستقر كفة اليقين عندك، وهكذا في أمور الدنيا والدين. {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:4-5] أي: بما يبعدهم عن الله سبحانه، أو يضعف يقينهم فيما عند الله. ولهذا دليل لما جاء في أحداث التبشير، ومنذ حوالي أربعين سنة كتب الدكتور عمر فروخ ممن يعالج هذه القضية -التبشير والإسلام- وعقد مؤتمر المبشرين في بلد من البلاد العربية، واجتمع المستشرقون جميعاً في المنطقة، ثم عابوا على رئيس المؤتمر بأن جهودنا ضائعة، قال: لماذا؟ قالوا: لأننا زهاء أربعين سنة -هم يقولون ذلك من أربعين سنة، يعني: من ثمانين سنة من الآن- لم ننصر مسلماً، ماذا قال رئيس المؤتمر ورئيس المبشرين؟!! قال: لا، لا تتعجلوا، نحن لا نريد أن ننصر مسلماً، ولكن إذا استطعتم في هذه المدة أن تشككوا المسلمين في دينهم فقد نجحتم. وهكذا إن العالم المستعمر وأعداء الإسلام ما استطاعوا للمسلمين بقوة السلاح والحديد والنار، فأثاروا الشكوك والقضايا الشائكة التي تتردد بين العقل والمنطق والدين، فتثير الشكوك في نفوس الناشئة، أو في نفوس ضعاف العقول، أو من لم يتمكن في دينه وعقله ويقينه، فإذا ما وقع الشاب أو المسلم في الشك والحيرة بين ما يورده عليه هؤلاء وبين ما يأتي به الإسلام ماذا يكون الحال؟ ومن أمثلة ما يثيرون: يقولون: سلوا محمداً، الشاة التي ماتت من الذي أماتها؟ سيقول لكم: الله، الشاة التي نذبحها من الذي أماتها، تقولون: نحن، فقولوا له: ما أماته الله خير أم ما أمتناه نحن؟ إذاً: الذي نميته نحن نأكله والذي يميته ربه الذي خلقه محرم لا نأكله؟ انظروا إلى هذه الشبهة! فجاءوا وسألوا رسول الله: الشاة الميتة من الذي أماتها؟ قال: الله، قالوا: الشاة التي نذبحها من الذي أماتها؟ قال: أنتم ذبحتموها، قالوا: ما ذبحناه نحن خير مما أماته الله؟ قضية تشكيك. ثم يأتون الآن وفي الوقت الحاضر عن طريق المرأة، ويقولون: نصف المجتمع معطل، وهكذا ينادون بضرورة عمل المرأة، ونسوا أن عملها الحقيقي في بيتها، ولو أنها خرجت إلى عملها، عطللت وظيفتها الأساسية، لما وجد هذا وما وجد ذاك، وإذا ما انقطعت لتربية النشء وأرسلته للمجتمع مكتمل القوة بدنياً وعقلياً وتحت رعاية الأم وحنانها لكان خيراً من إنتاج المجتمعات الأخرى. إذاً: جاءوا بالشبهة، قالوا: هذه إنسان، وهذا إنسان، لماذا يكون ميراثها نصف ميراث الرجل، هذه زوجة وهذا زوج، لماذا يكون الطلاق بيد الرجل ولا يكون بيد المرأة؟ هذه زوجة وهذا زوج لماذا يكون للرجل أربع نسوة والمرأة ليس لها إلا الزوج؟ لماذا يستبيح الرجل الإماء بملك اليمين إلى ما شاء من عدد، والمرأة لا تستبيح عبيدها الذين ملكتهم بيمينها؟ ويشككون هؤلاء أنصاف العقلاء؛ ولكن لو رجعوا إلى منطق العقل وكما رجع البعض منهم الآن. ويعلم البعض أن هناك بعثة جاءت من الفاتيكان إلى هذه المملكة في زمن الشيخ محمد الحركان -رحمة الله تعالى علينا وعليه، حينما كان وزيراً للعدل، وسافر أيضاً رداً للزيارة- لكي يبحثوا في يبحثون نظام الإسلام في الطلاق والنكاح وعلاقة الرجل بالمرأة؛ لأنهم ضجروا وعجزوا عن معالجة قضايا المرأة في بلادهم، ورأوا أن منهج الإسلام في البلاد الإسلامية هو المنهج الأمثل، فجاءوا يدرسون هذا فقهياً أو قانونياً على ما يرونه. وقد حضرنا مؤتمراً مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحضره من العالم قرابة أربعين دولة، منها: إنجلترا وأمريكا وإيطاليا من الفاتيكان، ومندوبٌ بلا تسمية، فلما سمع مندوبو بعض تلك الدول مناقشة إقامة الحدود وحفظ الإسلام للجواهر الست: · الأديان. · والأبدان. · والعقول. · والأعراض. · والأنساب. · والأموال. بشروطها والتحفظ فيها ونتائج ذلك، قام وأعلن: ما كان الغرب ليعلم أن الإسلام فيه هذا النظام الدقيق الشامل، وعهد عليَّ وأمانة لحضوري: أن أنقل هذا بعيد مرجعي إلى هناك، وأن أوصي بالأخذ به. فهذا -أيها الإخوة- حقيقة العقل حينما يباشر الإنسان تعاليم الإسلام عملياً. ولو أردنا التنبيه على فساد مقالاتهم: يقولون في الطلاق: لماذا لا تطلِّق المرأة؟ وهي ماذا تخسر؟ الرجل هو الذي دفع المال، وقام على حمايتها وإيوائها، والإنفاق عليها وعلى عيالها، والرجل أشد تحملاً وأضبط لنفسه عند الغضب، أما المرأة فلأتفه الأسباب تثور حماقتها، ولأتفه الأسباب تنسى الماضي؛ فلو كان الطلاق بيدها لطلقت الزوج عشرين مرة في اليوم الواحد. إذاً: يبقى الأمر بما فضل الله بعضهم على بعض، {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] ، وبين سبحانه سبب القوامة، فقال: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا} [النساء:34] . ونأتي إلى الميراث: تريدون أن المرأة مثل الرجل في الميراث؟ فلو أن الرجل اقتسم مع المرأة المال بنظرهم وأخذ الولد ألفاً والبنت ألفاً، بعد لحظات البنت ستتزوج، ونفقتها ستكون على زوجها، والألف يذهب إلى الصندوق، أما الولد فسيتزوج والألف ستكون لمن؟ كانت لواحد ثم أصبحت لاثنين، الاثنان بعد سنة صاروا ثلاثة وبعد سنة صاروا أربعة، وهكذا الأولاد في زيادة، فالولد يتحمل مسئولية زوجة ستأتي أو هي موجودة بالفعل، وأولاد سيأتون، ويصبح رب أسرة. إذاً: لو كان له تسعة أعشار الميراث لم يكن ذلك كثيراً، وهذا فضل الله كما قسم سبحانه وتعالى. إذاً: كيف ترون أو تدعون أن المرأة هضمت في الإسلام، بل هي أُعطيت فوق حاجتها أو فوق حقها. والجواب على بقية الشبه التي ينادون بها بالعمل وغير ذلك أن يقال: لقد أصبحوا الآن ينادون بلزوم المرأة بيتها، وقد قرأت منذ ما لا يقل عن ثلاثين سنة مقالاً نشرته مجلة: (آخر ساعة) بأن مدير مكتب العمل دخل عليه صحفي فلم يجد في مكتبه فتاةً واحدة من ضمن عماله، فسأله: أنت تورد للدوائر الحكومية موظفين وموظفات، ولم أرَ في مكتبك أية فتاة! فلماذا؟ قال: إن الفتاة مهما كانت تأتي إلى العمل بقوة وحماس بشعور النقص فيها لتغطي نقصها وتثبت جدارتها، فإذا ما أثبتت جدارتها نوعاً ما بدأ رد الفعل وحينها تتراجع في التناقص عن الإنتاج، فضلاًَ عما يعتريها مما خلقت له من دورة شهرية تُثير أعصابها وتقلل تحملاتها، وتغير في أخلاقها، وإذا ما كان الحمل فنصف عمرها يضيع في مؤثرات الحمل، من مبدأ الوحم إلى الولادة إلى الرضاع، فأين إنتاجها إذاً؟ ولذا يقول: أنا لا أقبل في مكتبي أية فتاة، أما الشاب فإن بدأ في الإنتاج ضعيفاً وأقل من الفتاة فهو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 تفسير سورة الحجرات [6 - أ] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 1 الجهاد في كتاب الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] ، في أي وضع من الأوضاع وثبتوا على ما هم عليه إلى أن يلقوا الله سبحانه وتعالى على ما آمنوا به. (وَجَاهَدُوا) الجهاد -كما يقولون-: من بذل الجهد، وبذل أقصى الطاقة عند الإنسان، ولهذا يقولون: اجتهد فلان في حمل الصخرة، ولا يقولون: اجتهد في حمل الدفتر في يده؛ لأن الدفتر لا يحتاج إلى بذل الجهد، والطفل الصغير يحمله، ولهذا كان الجهاد جهاداً؛ لأن الإنسان يبذل أقصى جهده أمام عدوه. (وَجَاهَدُوا) في سبيل الله، لا في سبيل حمية ولا وطنية ولا جنسية ولا عرقية ولا أي مبدأ دنيوي، إنما جاهدوا في سبيل الله. ولماذا يأتي بهذا القيد؟ لأن العدو يجاهد والمسلم يجاهد وكلٌّ له مبدأ، فهؤلاء يجاهدون في سبيل مبادئهم لنصرتها وحمايتها، الماركسي يجاهد لحماية مبدأ لينين وماركس والمسلم يجاهد لإعلاء كلمة الله، وجاء الحديث: (الرجل يقاتل حمية، يقاتل لغنيمة، يقاتل ليرى مكانه. ، من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا) ، هذا هو الذي في سبيل الله. بم يجاهدون؟ (بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) . {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] أي: صدَّق فعلُهم قولَهم. وهنا وقفة طويلة تحتاج إلى توسعة شاملة، وهي في قوله سبحانه: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات:15] ، أي: أنهم لم تكن عندهم غاية في دنياهم إلا سبيل الله وإعلاء كلمة الله، أيَّاً كان موطن جهادهم، وأيَّاً كانت راية قائدهم، ومهما كان الأمر، فليس لهم مطمع، ولا غاية ولا حاجة، لا في استعباد البلاد، ولا في استعمارها، ولا في منصب ولا جاه، وقد بين ذلك أتم بيان القائد المسلم المظفر خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه حينما سئل: يا خالد! لقد خضت المعارك وفزت بالانتصارات العظيمة، فما هي أمنيتك؟ يعني: كأنهم يقولون: أنت لك أمنية وهي النصر في الجهاد، وهذه والله فعلاً عظيمة، ومن جهة المال أو الدنيا فلا يسألون عنها، والله سبحانه وتعالى قد أغناه، كما قالوا: (منع خالد زكاة ماله. قال: إنكم تظلمون خالداً، لقد احتبس أدرعه وسلاحه في سبيل الله) يعني: ليس عنده شيء. خالد يُسأل ما هي أمنيتك بعد هذا النصر؟ قال: أمنيتي هي: أن أقوم في ليلة شديدة البرد عاصفة الرياح مطيرة. تصوروا هذا! ليلة مطيرة شديدة البرد عاصفة الرياح، الناس في مثل هذه الليلة يستكنُّون وينزلون في الخنادق استتاراً من شدة البرد والريح العاصف والمطر. ولكن خالداً يقول في هذه الليلة التي يستكنُّ فيها كل إنسان: أتمنى أن أكون حارساً للجند، تالياً لكتاب الله. هذه الليلة ليست ليلة عادية مقمرة وربيع وهواء، لا. بل شديدة البرد والريح والمطر، يقوم في تلك الليلة حارساً للجند في تلك الحالة أيضاً وتلك الشدة. والرجلان اللذان أسند إليهما النبي صلى الله عليه وسلم حراسة الشِّعب عندما قَفَل صلى الله عليه وسلم من غزوة بالليل، فقال: (من يكلأ لنا هذا الشِّعب؟) وقام رجل ثقفي وآخر أنصاري فقال أحدهما للآخر: اكفني أول الليل أو آخره وتقاسما الليل، وقام الأنصاري يصلي وهو يحرس فم الشعب. هذا هو ترفيههم، وليس كالترفيه البريء الذي نعطيه للجنود في أثناء المعارك، ونلهيهم بما يسمى بريئاً، ووالله ما هو ببريء، على كلٍّ قام يصلي -لكي لا ينام- وهو يحرس الشعب، فجاء رجل كان المسلمون أصابوا زوجته بالنهار وهو غائب، فأقسم ليتبعنَّ المسلمين وليُصيبنَّ منهم ثأراً لزوجه، فلما جاء على فم الشعب سمع هذا يقرأ، فعرف أنه من المسلمين، فأخذ سهماً، فصوَّبه فأصاب؛ لكنه لم يقطع القراءة، ونزع السهم واستمر، فظن الرامي أنه لم يُصِب، فعدَّد الثاني والثالث، وكلها تصيبه، حتى تقاطر الدم على وجه صاحبه وهو نائم فانتبه، فلما انتهى قال: ما هذا الدم يا أخي؟ قال: كذا وكذا، قال: هلَّا أنبهتني أول ما رمى، قال: كنت أقرأ سورة كرهت أن أقطعها. هذا حاله وهو يجاهد في سبيل الله. وهكذا -أيها الإخوة- أمثلة عديدة. فهؤلاء هم الذي جاهدوا في سبيل الله حقاً. أما قوله سبحانه: {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [الحجرات:15] ، فللعلماء مبحث في تقديم الأموال على الأنفس، والعادة أن التقديم له أهمية، فهل يكون الجهاد بالمال أهم من الجهاد بالنفس؟ سيأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 2 نماذج من الإيمان الصادق قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] . تقدم -أيها الإخوة- الكلام على الريب والشك، وأنه إذا طرأ على الإنسان فإنه يفسد عليه دنياه وآخرته، وذكرنا نماذج من الإيمان الصادق الذي لم يطرأ عليه ريبة ولا شك. ونظراً لخطورة هذا الأمر أحببنا أن نزيد بعض الأمثلة لقضية الريب واليقين، وهي قضية النفاق والإيمان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 غزوة الأحزاب وعناصر الإيمان الراسخة جاء في كتاب الله فيما يتعلق بغزوة الأحزاب أن الله سبحانه وتعالى بين أن الناس كانوا على قسمين حينما جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10-11] في هذه الشدة العصيبة برزت عدة عناصر: * العنصر الأول: عنصر الريب: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب:12] ، المرض هو: الشك والريب وعدم اليقين، {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] ، وآخرون يقولون: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:13] ، يثبطون الناس عن القتال. * العنصر الثاني: عنصر الإيمان: بعد مشوار طويل مع هذا القسم في أحوالهم وبيان حقيقة أمرهم، وبعد التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكما قال الله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] إلى آخره، يأتي القسم الثاني: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] . ففي حدث واحد ومشهد واحد وشدةٍ عمت الجميع ينقسم الحضور إلى قسمين: * قسم يعتريه الريب يقولون: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً * يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:12-13] . وقسم يقول: (هَذَا) حقاً {هَذا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22] وأنه حق، وما زادتهم تلك الشدة وما زادهم ذاك الموقف لما {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] ، ما زادهم ذلك {إِلَّا إِيمَاناً} [الأحزاب:22] بالله وبوعد الله وبخبر الله {وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] لأمر الله. وجاء وبعدها {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23] ، بخلاف المنافقين والذين في قلوبهم مرض بدَّلوا، كانوا يقولون: أسلمنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، والآن بدلوا ويقولون: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] ، ولكن المؤمنين حقاً ما بدَّلوا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 مقدار صدق بني إسرائيل مع أنبيائهم طالوت لما فصل بالجنود هناك، لما رءوا العدو انقسموا ففريق قالوا: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249] ، والآخرون {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:250-251] . بنو إسرائيل لما قال لهم نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21] وعد من الله، قالوا: {لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا} [المائدة:24] ، {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة:22] ، {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] ، فهذا من الريب ومن ضعف اليقين بالله. والمسلمون لما أتوا إلى بدر كانوا إنما خرجوا للعير، والرسول قال لهم في أول الأمر: (من كان ظهره حاضراً فليركب) ، وفي أثناء الطريق إذا بالمسألة تنقلب، ذهبت العير وجاء النفير، فماذا تقولون؟ أشيروا عليَّ أيها القوم، فيقعد المهاجرون جميعاً يتكلمون ويحسنون: لعلك خرجت إلى أمر وأراد الله أمراً، فامضِ إلى ما أراده الله، حتى قام قائم الأنصار يقول: والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ؛ ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك. أعتقد أن هناك فرق كبير بين الفريقين في وبين الأمتين في بني إسرائيل وهذه الأمة المباركة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 فداء الصحابة لرسول الله بأنفسهم نأتي إلى بعض النماذج أيضاً في الإسلام، ونجد ذلك في بعض المواقف في عصر النبي صلى الله عليه وسلم: النفر الذين أخذوا من قبل قريش، والشخص الذي أُخِذ منهم وخرجوا به إلى التنعيم ليصلبوه، واجتمع القوم، وجيء به عند الخشبة، فجاءه أبو سفيان وقال: أتود أن محمداً مكانك تُضرب عنقُه، وأنت آمن في أهلك؟ عند أحرج المواقف، وعند ضربة السيف والقضاء عليه يُعرض عليه هذا العرض، فماذا كان جوابه؟ قال: لا والله، ما أود ولا أرضى أن يكون محمدٌ صلى الله عليه وسلم يُشاك بشوكة في رجله وهو في مكانه. لا أريد أن أستبدل حياتي بشوكة يُشاكها في قدمه وهو في بلده يفدي شوكة في رجل رسول الله بحياته. وأعتقد أن هذا شيء فوق الخيال. وفي غزوة أحد مواقف عديدة منها: الذين ترَّسوا على رسول الله، قيس بن النعمان انكسر قوسه، يقول: لم يبقَ معي ما أرمي به، فقوَّست على رسول الله. وقتادة بن النعمان أيضاً يقول: وما يأتي سهم إلا والتقيته وأملت وجهي ألتقي السهم عن وجه رسول الله، وكان آخرها سهماً اندلقت منه عيني على خدي. وهو الذي رد له رسول الله صلى الله عليه وسلم عينه، كان يقول: (وانفض الجمع فجئت بها في كفي -وكما قال عمر بن عبد العزيز: كنا نُحَدَّث بأنها علقت بعرق وتدلت- فأخذها في كفه وجاء إلى رسول الله وقال: يا رسول الله، إن لي زوجة جميلة أحبها وتحبني وأخشى إن هي رأت عيني تقذرها، فأخذها صلى الله عليه وسلم بيده ووضعها مكانها وغمزها بكفه فكانت أجمل وأحب عينيه) . وطلحة يعدون فيه فوق الثمانين حرجاً ما بين إصابة سهم وطعنة رمح ضربة بسيف، وأم عمارة امرأة أيضاً وأصابها شيء من هذا. فكل هؤلاء يفدُّون رسول الله بأنفسهم: هل كان في ذلك ريب أم أنه عين اليقين؟! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 اليقين والإيمان يتمثل في عبد الله بن حذافة رضي الله عنه نأتي إلى صورة يعجز إنسان أن يُقْدِرها قَدَرها إلا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في زمنه عبد الله بن حذافة كان في مواجهة جيش الروم، فأخذ أسيراً ومعه ثمانون رجلاً، فذكروا لملك الروم عن عبد الله ما لم يذكروا عن بقية الأسارى، فاستدعاه، فقال: هل لك أن تتنصَّر وتترك دينك وأشاطرك ملكي؟ قال: والله لو ضممتَ إلى ملكك ملك العرب لن أترك ديني لحظةً واحدة، قال: وأزوجك ابنتي، قال: وإن كان، قال: أقتلك، قال: لا باس بذلك فهو حق لك، وبيدك أن تعفو أو تقتل، ثم كان من شأنه أن أتى بقدر زيت وأوقد عليه النار، ودعا أسيراً من الأسارى أمامه، وعرض عليه أن يتنصر فامتنع فألقاه في ذلك القدر فذابت عظامه، قال: أتتنصر وتأخذ نصف الملك وتتزوج ابنتي أو ألقيك في هذا الزيت؟ قال: لا أرجع عن ديني ولا لحظةً واحدة، قال: اذهبوا به وألقوه في القدر، فلما وصل هناك بكى، فرجعوا به وقالوا: لقد أسِف ورجع وبكى، قال: أقبلت؟ قال: لا والله، قال: وما بالك تبكي؟ قال: أبكي؛ لأن لي نفساً واحدةً، وددتُ لو أن لي أنفساً أو نفوساً بعدد شعر جلدي كل نفس تلقى مثل هذا المصير في سبيل الله، فعجب الملك من أمره، قال: ردوه واحبسوه وامنعوا عنه الطعام والشراب، ثم قدموا إليه لحم الخنزير والخمر، ليأكل عند الاضطرار والجوع، فما أكل ولا شرب أربعة أيام، فقالوا للملك: إنه لم يأكل ولم يشرب، ومالت عنقه ويكاد أن يموت، فاستخرجوه، قال له: لماذا لم تأكل؟ قال: والله لقد علم الملك أن هذا الذي قدمتموه لي محرم في الإسلام، وأنه قد أبيح لي عند الضرورة وكان من الممكن أن آكل وأشرب بالرخصة ولكني كرهت أن تشمت في الإسلام بأن مسلماً أكل الخنزير وشرب الخمر وهما حرام عليه، فآثرتُ الموت على ذلك. قال: أتقبِّل رأسي وأفرج عنك؟ قال: وعن جميع الأسارى معي؟ قال: وعن جميع الأسارى معك. يقول عبد الله: فقلت في نفسي: كافر أقبل رأسه وأعتق نفسي وثمانين مسلماً من تحت يده فلا مانع، وقبَّلت رأسه، فأعتقه وأعتق الثمانين معه، وأجزل له العطية والهدايا. نقف هنا لحظة: ملك كافر عجز عن رجل مسلم بجميع أنواع صنوف الإغراء والتهديد. أي إغراء بعد نصف الملك والزواج بابنة الملك؟ وأي تهديد وقد سبق أيضاً أن قال: أصلبك، وعلقه على خشبة الصلب وقال للرماة: ارموا بجواره ولا تصيبوه، فكانت السهام تقع قريباً منه ولم تصبه، قال: أنزلوه. وما رهب ذلك كله. ويرى الأسير تذوب عظامه في الزيت ولا يرجع، ويظل على يقينه بالله، ولا يرجع عن دينه لحظة. نقول: إن الملك فعلاً قدَّر العظمة في هذا الرجل بصرف النظر عن كونه مسلماً أو غير مسلم، إنسان يعتز بدينه ويتمسك بمبادئه؛ لا تغريه المناظر ولا المادة ولا تلينه التهديدات. إذاً: فهو شخصية فذة أكبرها الملك في نفسه واكتفى منه أن يقبل رأسه، وتقبيل رأس الملك ليس بالأمر الهين، لو أن شخصاً عادياً طلب من الحرس أن يصل إلى الملك ليقبل رأسه ما سمح له الملك بذلك؛ لأنه شخص عادي، وتقبيل رأسه من عاديٍّ أمر عادي؛ لكن هذا شخص من نوع خاص، فكونه مع مكانته وقوة نفسه وعظمة شخصيته يتنازل ويقبل رأس الملك اعتبر الملك أن هذا انتصاراً عليه. فلما قدم المدينة ومعه الأسارى سأله عمر: ماذا فعلت؟ فأخبره، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابن حذافة، وقام عمر وقبل رأسه أمام الناس. تلك هي روح عظيمة ونفس كريمة ويقين ثابت، كل هذه المغريات ما غيَّرت في مبادئه، وكل هذه التهديدات ما أثرت في نفسه شيء، وآثر كل تلك الشدائد على البقاء على دينه. إذاً: الريب واليقين هما الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، والإيمان حقيقةً: ما وقر في القلب وصدَّقه العمل. ومعنا في خبر هرقل خير شاهد، إذ لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وجاء أبو سفيان بتجارة إلى الشام وقال: أيكم أقرب نسباً لهذا الرجل الذي ظهر فيكم يدَّعي النبوة؟ قالوا له: أبو سفيان، ثم أجلسهم وراءه وقال: إني سائلك، إن صدق فصدِّقوه وإن كذب فكذبوه، ثم سأله عدة أسئلة، من ضمنها؟ أيرجع عن دينه من دخل فيه؟ قال: لا. فقال: هذا فعلاً إذا خالط الإيمان بشاشة القلوب، فإنه لا يرجع عن ذلك قط، يذوق حلاوة الإيمان، وإذا خالطت بشاشة الإيمان قلب العبد فلا يمكن أن يرتد عن هذا الدين ولا يتخلى عن تلك الحلاوة والبشاشة. إذاً: المنافق لم تخالط بشاشة الإيمان قلبه، كما قال تعالى في الأعراب: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ؛ لأنكم ما وصلتم بعد إلى هذا الحد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 الجهاد بالنفس والمال قال الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الحجرات:15] حقيقة المؤمنين من آمن {بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] ، ونبهنا على ما تفيده (ثُمَّ) بأن الإيمان وقع منهم حقيقةً من أول لحظة، ومع التأخير والتراخي لم يطرأ عليهم ما يغير هذا اليقين، {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] . ثم جاء إثبات هذا اليقين الذي وقر في القلوب: (وَجَاهَدُوا) ، الجهاد هو علامة أو نتيجة ذاك اليقين الذي وقر في قلوبهم، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا} [الأحزاب:23] . فهنا علامة اليقين في قلوبهم أنهم جاهدوا. وهل جاهدوا في أمر دنيا، أو منصب، أو مال؟ لا (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) . فهنا قال سبحانه: {لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا} [الحجرات:15] ، فكان الجهاد دليلاً على عدم الريب وعلى قوة اليقين، ثم جعل الجهاد قسمين: الأول: (بِأَمْوَالِهِمْ) . الثاني: (وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) . يبحث العلماء في التقديم والتأخير، والأصل في التقديم: العناية بالمقدَّم في المتساويين، كما جاء في دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة في حجة الوداع، فطاف وقالوا: من أين نبدأ في السعي؟ هناك صفا ومروة متساويتان، من الأولى إلى الثانية شوط، ومن الثانية إلى الأولى شوط، فقال صلى الله عليه وسلم: (أبدأ بما بدأ الله به) . إذاً: البداية لها تأثير، وهنا المال والنفس هل هما متساويان، حتى يقال: قدم أحد المتساويين فله أثر؟ هما يشتركان في الغاية؛ لأن المال صنو النفس، وفي الحديث: (من مات دون ماله فهو شهيداً) . إذاً: هناك من يقول: قُدِّم المال من باب التدرُّج؛ لأن الذي يجود بماله وبسخاء ولوجه الله يتدرج بعد ذلك ويجود بنفسه ويجاهد بنفسه ويعرِّضها إلى القتل شهادة في سبيل الله. والبعض يقول: قدَّم المال؛ لأنه أعم من تقديم النفس، والله سبحانه وتعالى رفع الحرج عن النفس في بعض الحالات: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] ، ونعرف أن النسوة لسن داخلات في ذلك، كما قيل: كُتِب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيولِ القتل والقتال مكتوب على الرجال، والمرأة لا تقاتل بنفسها، والمريض والأعمى والأعرج لا يقاتل بنفسه؛ لأنه ليس أهلاً للقتال؛ ولكن هؤلاء الأصناف الأربعة: الأعمى والأعرج والمريض والمرأة: هل يمكن أن يقاتلوا بأموالهم أم لا؟ يمكن، يتبرع بجزءٍ من ماله، ويكون قد جاهد بماله. إذاً: الجهاد بالمال أعم وأشمل؛ لأنه يعم من عُذر في الجهاد بالنفس. ثم هؤلاء المجاهدون إذا لم يوجد مال يزودهم ماذا يفعلون؟ ونحن نعلم قضية البكائين الذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لهم: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92] . إذاً: المال هو عصب الجهاد، ونحن في الوقت الحاضر هل الجهاد سيف ورمح، أم الجهاد آليات وكيماويات وإلى آخره، تلك الآليات بم تأتِ؟ كيف نحصل عليها؟ بالمال. بعض الطائرات الحربية تكلف عدة ملايين، والصواريخ الموجهة تكلف عدة ملايين أيضاً. إذاً: المال هو عنصر الجهاد الأساسي. وعثمان رضي الله تعالى عنه لما جهَّز جيش العسرة قال له صلى الله عليه وسلم: (لا عليك ألَّا تعمل بعد اليوم) ، يكفيك من فعل الخير ما فعلتَه في هذا الجيش وجهَّزته. ثم ننظر أيضاً فيما بينه سبحانه وتعالى في صلاة الخوف: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:102] ، ثم بين (وَأَمْتِعَتِكُمْ) ، بيَّن بأن أمتعة الغزاة أو أن أمتعة الجيش تعادل السلاح سواءً بسواء. ومن هنا: حراسة المرافق: الكباري والطرق والمستودعات وخطوط المياه ومولدات الكهرباء ومستودعات الذخيرة أو الطعام كل ذلك قرين السلاح سواءً بسواء؛ لأن الجيش إذا لم تؤمَّن له مطالبه ضاع، وفي عادة الجيوش أنها تسبق مجيء الجنود، حتى تمدَّد مواسير المياه، وخطوط الاتصالات، وكل ما يحتاجون إليه، وتبني لهم المخابئ والمستودعات وتؤمَّن الذخيرة، كل ذلك بالمال. إذاً: تقديم المال هنا لأهميته في الجهاد، ويمكن أن يساهم فيه من لا يستطيع أن يجاهد بالنفس، ولأن المال -كما يقال- عصب الجهاد. {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [الحجرات:15] : كما قيل: يجود بالنفس إن ضن الجبان بها والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ ولهذا يقولون: كل شجاع كريم، وكل بخيل جبان؛ لأن الشجاع يلقي بنفسه ويضحي بها، والذي يضحي بنفسه لا يضن بالمال، وكذلك البخيل الذي يشح بالدرهم والطعام لا يعرِّض نفسه للهلاك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 تفسير سورة الحجرات [6 - ب] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1 الإنفاق في سبيل الله قانون معاوضة في الخير لقد بين سبحانه وتعالى أن الإنفاق والجهاد بالنفس في سبيل الله علامة على قوم الإيمان واليقين في القلوب، وبين من ناحية أخرى: بأن الحياة مبنية على قانون المعاوضة، فكل شيء تراه في الدنيا من معاملة بين اثنين، فقانون المعاوضة هو الذي يحكمها تدفع درهماً تأخذ خبزاً، تدفع درهمين تأخذ ثوباً، وكان قبل أن توجد النقود كان البيع بالمقايضة، يذهب صاحب البر بصاع من البر إلى الجزار ويأخذ منه لحماً، أو يذهب بكذا من التمر ويأخذ قماشاً، ما كانت هناك دراهم، فقد كانت المعاملة على المقايضة، فجاءت الدراهم كعملة سائلة، فصارت الحياة مبنية على المقايضة. ولهذا لو رأيتَ إنساناً يتلف ريالاً ويشعل فيه النار أو يقطعه لقلتَ: هذا مجنون، ولو رأيتَ إنساناً يدفع الملايين في عقار لقلت: والله هذا ناجح، هذا رابح، مع أنه دفع الملايين؛ لكن في عوض يقابل ذلك، وهكذا. حتى قال بعض العلماء: المقايضة قائمة بين الإنسان والحيوان، وذكروا قضية التمساح مع الطائر الذي يأتي وينقب ما بين أسنانه وينظفها، والطائر يشبع. وذكروا قصة الرجل الذي جاء واشتكى بعيره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (قوموا بنا إلى بعيره، ولما وصلوا إلى البستان قال أبو بكر لرسول الله: على رسلك يا رسول الله، إن البعير هائج. قال له: على رسلك أنت يا أبا بكر. ودخل صلى الله عليه وسلم البستان على الجمل الهائج، فإذا بالجمل -حينما رأى رسول الله- يقبل عليه هادئاً، فيتلقاه رسول الله فيضع الجمل رأسه على كتفه، ويصغي إليه رسول الله، فإذا رسول الله يترجم لنا المحادثة بينهما، ويقول: يا صاحب الجمل، جملك يشتكي. قِلة العلف، وكثرة الكُلف) ، العلف: هو المعاوضة للبعير، والعمل: هو المعاوضة لصاحبه، فلابد أن يتعادل العلف مع مقدار الكُلف، ونحن نعلم هذا، عندك فرس وتريد أن تسافر لا تجوِّعه؛ بل قبل السفر بأسبوع تزيد في علفه تحسباً لمدة السفر، وهكذا. فإذا كان قانون المعاوضة هو الذي يحكم قانون الحياة فهؤلاء الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، من أين العوض لهم؟ أم أنه خرج عن القاعدة؟ ما خرج عنها، ولكن العوض كما بين سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] ، وبيّن المولى بأن هذا تعامل وقرض مع الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] . إذاً: المنفق في سبيل الله والمتصدق على المحتاجين يتبادل العوض مع الله، وهذا بمقضى إيمانه ويقينه بالبعث والجزاء والأجر على ما أنفق، أما المنافق الذي لا يؤمن بالبعث ولا بالجزاء أتراه يتصدق بشيء ينفع؟ لا. فماله الذي ينفق منه خبيث، يذهب إلى أردء ما عنده من أنواع التمر ويجيء به، وكانوا فيما سبق يأتون بالحشف، والمؤمنون يأتون بعذق النخل فيه الرطب والبسر والتمر يعلقونه لأصحاب الصفة، والمنافق يأتي ويعلق الحشف، كما بيّن الله في حق الأعراب: منهم {مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً} [التوبة:98] ، غرامة رائحة عليه، ومنهم من يعتبر ذلك مغنماً وقربات عند الله ورسوله. إذاً: الذي يتصدق هو يتعامل بقانون المعاوضة؛ ولكن مع الله وليس مع الخلق: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ} [الإنسان:8-9] منكم، ما قال: لا نريد مطلقاً، لا. بل منكم أنتم؛ لأنكم فقراء فماذا نأخذ منكم؟! {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:9-10] هناك يوم عبوس، هو الذي نعمل من أجله، {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان:11] . إذاً: تقديم الجهاد بالمال له أهميته، والجهاد بالنفس له خطورته. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 2 تفسير قوله تعالى: (أولئك هم الصادقون) {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] ، الذين آمنوا: داموا على الإيمان وثبتوا عليه، وأيدوا إيمانهم ويقينهم بالعمل وهو الإنفاق ينتظرون العوض يوم القيامة، والجهاد بالنفس ينتظرون الشهادة، ونعلم بأن قيمة الشهادة عظيمة {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] . وكونهم أحياء عند ربهم جاء الواقع يصدِّق هذا، ونحن لسنا في حاجة إلى أن نختبر كلام الله بتصديق الواقع؛ ولكن كما قال إبراهيم: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] : يذكر مالك في الموطأ في شهداء أحد لما جاءت قناة معاوية أو جاء السيل وكشف عن أرجلهم، قالوا: نرفعهم عن مجرى السيل، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان دفنهم في الربوة التي على حافة السيل، أو كانوا في بطن الوادي، وكان بقايا مبنى المصرع -كما يقال: الموضع- الذي صُرع فيه حمزة دُفن فيه في بطن الوادي، وبعد الأربعين سنة لما أرادوا نقلهم من مجرى السيل إلى الربوة وجدوا أبدانهم سليمة وكأنهم دفنوا بالأمس وهذا بعد أربعين سنة؟! وحدثني بعض الإخوان من أعضاء هيئة الأمر بالمعروف في تلك المنطقة، قال -كانت هناك هيئة ثابتة دائمة-: توفيت لنا طفلة فتكاسلنا أن ننزل بها إلى البقيع وقلنا ندفنها هنا بجوار الشهداء، وهي طفلة ولن تؤذيهم، فذهب أبوها يحفر لها فإذا به يفاجأ بالدم يفور في وجهه، فألقى المسحاة وأخذ يبحث فإذا المسحاة أصابت فخذ رجل وانبعث منه الدم، فأخذ غترته وعصب على محل الجرح وردم عليه التراب، وأخذوا البنت وذهبوا بها إلى البقيع. هذا في عام (1370هـ) أو دون السبعين. يعني: بعد قرن وثلث والدم في جسمه. فإذا كان الإنسان مؤمناً وصادقاً في إيمانه أنفق المال في سبيل الله، والحسنة بسبعمائة {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] ، وإن قتل فهو حي عند ربه يرزق. إذاً: لا يتوانى ولا يتأخر ولا ينهزم ويكون بيقينه هذا من جانب المال ومن جانب النفس ينطلق يجاهد في سبيل الله، {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 تفسير قوله تعالى: (قل أتعلمون الله بدينكم ... ) قال الله: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات:16] . هذا تعقيب على مقالة الأعراب، {آمَنَّا} [الحجرات:14] ، والله سبحانه وتعالى قال: قل لهم يا محمد: {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ، ثم قل لهم: أتعلِّمون الله بحقيقة دينكم وتدعون أنكم آمنتم؟! هل هذا يروج عند الله؟! {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [الحجرات:16] : والله لا يخفى عليه شيء؟ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الحجرات:16] ، ومن ضمن ذلك دينكم لا يخفى عليه، ما دام يعلم ما في السموات وما في الأرض على سبيل العموم والشمول. إذاً: فهو يعلم حقيقة دينكم، فتعلِّمون الله بشيء غير موجود؛ لأن الله يعلمه أنه غير موجود، وهذا رد على ادعائهم وبيان أن ادعاء غير الواقع لا يخفى على الله سبحانه وتعالى. {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات:17-18] . بعدما بين موقف الأعراب وأظهر حقيقة حالتهم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن باب التسلية ومن باب الوقائع: هؤلاء جاءوا {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات:17] ، وأنت لا تتحمل منة أحد، وما لهم حق أن يمنوا عليك. دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمن هو: ذكر أيادي الشخص على شخص آخر؛ لأن ذكر ذلك فيه ثقل على النفس. وبعض العلماء يقول: المن: نوع من الوزن أكثر من القنطار، يقولون: قنطارٌ ومَنٌّ، والمن ربما يوجد في الشام وربما يوجد في نجد، فالمن نوع من الوزن أكثر من القنطار، (يَمُنُّونَ) ، يعني: يثقلون عليك بهذا الوزن الثقيل، وذلك لما جاء بعض الأعراب الذين تحدَّث عنهم من بني أسد فقالوا: (يا محمد! جئناك مسالمين ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان -يعني: يمنون عليه أن أسلموا بدون قتال ولا كلفة من المسلمين- قال لهم: لا) . وبعضهم يقول: المن ليس من الثقل وإن كان فيه نوعاً منه؛ لكنه العطاء دون أن تنتظر ممن أعطيت مكافأة ولا مجازاة ترفعاً عليه، فهنا لما قالوا: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات:17] ، قال: لا جميل لهم، أو لا يد لهم عليك في إيمانهم؛ لأن إيمانهم لهم إن كانوا فعلاً آمنوا. {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} [الحجرات:17] ، لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يتمنى أن العالم كله قد أسلم، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا} [الكهف:6] ؛ ولكن لا، هوِّن على نفسك، ما كلفناك مثل هذا. وهنا {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} [الحجرات:17] : إن كانت هناك فعلاً منة على أحد من الأطراف أنا أو أنتم فلا، المنة لله عليكم. (أَنْ) وهذه للتعليل، {هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17] ، يعني: وهل هم آمنوا حتى هداهم للإيمان؟ قالوا: هداهم، أي: الهدى الظاهر؛ لأن الهدى قسمان: * هدى بمعنى البيان والإرشاد. * وهدى توفيق وإيمان يستقر في القلب، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] ، يعني: لا توجد الهداية القلبية اليقينية في القلب؛ {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] أي: بينا لهم {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى} [فصلت:17] أي: الضلال {عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] . إذاً: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] في دعواكم، وهذا يُشعر بعدم الصدق. ويبين لنا منة الله على العباد: ما جاء في غزوة حنين، لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وقسم الغنائم ولم يعط الأنصار من غنائم حنين شيئاً؛ مع أنه أعطى بعض المؤلفة قلوبهم من مكة (1000) شاة، و (100) بعير، والأنصار الذين جاءوا معه من المدينة لم يعط أي واحد منهم شاة واحدة، فقال بعضهم: لقي أهله فآثرهم علينا ولم يعطنا شيئاً، فبلغت المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لـ سعد: اجمع لي الأنصار ولا تجمع معهم أحداً، فجمعهم إليه ليلاً وأتاهم، فقال: (هل فيكم من غيركم؟ قالوا: فلان خالنا، قال: خال القوم منهم، ثم خطبهم وقال: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟ قلتم: كذا وكذا، ثم قال: أتعتبون عليَّ في لعاعة من الدنيا أتألف بها قلوب أقوام؟! ثم ذكر: ألم آتكم ضُلالاً فهداكم الله بي؟! قالوا: المنة لله ولرسوله. ألم أجدكم عالةً فأغناكم الله بي؟! قالوا: المنة لله ولرسوله -هذا محل الشاهد، أن الله منَّ علينا بهذا- وذكر أشياء ثم قال: ما لكم لا تجيبونني؟! قالوا: وماذا نقول؟ قال:-وهذا الإنصاف-: تقولون: كفر بك قومك وآمنا بك، طردك قومك وآويناك، وو إلى آخره. قالوا: الله ورسوله أمنُّ، أو الفضل لله والمنُّ، ثم قال: يا معشر الأنصار! والله لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، الناس دثاري، والأنصار شعاري) الدثار: ما يُتَدثَّر به، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] والشعار: ما خالط البدن. الناس دثاري: الدثار: اللباس الخارجي. (والأنصار شعاري) : أي اللباسين أقرب للإنسان؟ الشعار. ثم ذكر: (والله لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، والله لو سلك الناس شِعباً أو وادياً وسلك الأنصار شِعباً أو وادياً لسلكت شعب الأنصار وواديهم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يرجع الناس إلى ديارهم بالشاة والبعير، وترجعون إلى رحالكم برسول الله؟ قالوا: رضينا، وبكوا حتى اخضلت لحاهم) . والشاهد في هذه الحادثة: (ألم آتكم كذا وكذا، فيقولون: المنة لله) . أي: لأن الله هو الذي امتن علينا بمجيئك إلينا، ومن علينا بما حصل لنا بهذا المجيء المبارك، والله أعلم. إذاً: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} [الحجرات:17] ؛ لأن إسلامكم راجع إليكم، لأنكم أنقذتم أنفسكم من النار، ولأنكم سلَّمتم أو ضمنتم سلامة دمائكم وأموالكم وأعراضكم بهذا. إذاً: إن كنتم آمنتم فبمنة من الله عليكم، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] في دعواكم: آمنا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 تفسير قوله تعالى: (إن الله يعلم غيب السموات والأرض ... ) {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات:18] . يقول العلماء: هذا عَوداً على بدء، فقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحجرات:18] تأكيداً لقوله: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] ، والله لا يخفى عليه الصدق من الكذب؛ لأنه {يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحجرات:18] ، وانظروا إلى أول السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] ، في أول السورة ينبههم بصفات الله سبحانه ألَّا يقدموا بين يدي الله ورسوله وهو سميع عليم لما يقدمون أو يؤخرون. وفي آخر السورة أيضاً يرجع إلى هاتين الصفتين الكريمتين، وكأنه ينبه في أول السورة على مراقبة الله؛ لأنه يعلم ويسمع، وكذلك في آخر السورة بعد هذا المشوار الطويل. وبالله تعالى التوفيق. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5