الكتاب: شرح العقيدة الطحاوية المؤلف: خالد بن عبد الله بن محمد المصلح مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 21 درسا] ---------- شرح الطحاوية لخالد المصلح خالد المصلح الكتاب: شرح العقيدة الطحاوية المؤلف: خالد بن عبد الله بن محمد المصلح مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 21 درسا] شرح العقيدة الطحاوية [1] من أولى ما ينبغي على طالب العلم أن يهتم به ما يتعلق من الدروس بالاعتقاد، لا سيما مع كثرة الضلال في هذا الباب، واشتباه الحق بالباطل على كثير من الناس، فيلزمه أن يعتني بمسائل الاعتقاد، حتى يبني معتقده وما يدين الله به على أرض صلبة، وعلى حجة وبرهان من كتاب الله وسنة نبيه، وهذا لا يتأتى إلا بالنظر فيما ذكره الله جل وعلا في كتابه من العقائد، وفيما ذكره رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته، وفيما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 لمحة تاريخية في سبب تأليف العقائد وتدوينها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي بمصر رحمه الله: [هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين ويدينون به رب العالمين] . فهذا الدرس هو قراءة في كتاب الطحاوية عقيدة الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى. ولا شك أيها الإخوان أن ما يتعلق بالاعتقاد من الدروس والمؤلفات والبحوث هو من أولى ما ينبغي لطالب العلم أن يهتم به لاسيما مع كثرة الضلال في هذا الباب، واشتباه الحق بالباطل على كثير من الناس، وليس هذا خاصاً بالمبتدئين من طلاب العلم، ولا حتى المتوسطين بل هو عام وقع فيه كثير من المحققين من أهل العلم. ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمسائل الاعتقاد، وأن يحرر فيها القول، وأن يبني عقده وما يدين الله به على أرض عزاز على أرض صلبة على حجة وبرهان من الكتاب والسنة، وهذا لا يتأتى إلا بالنظر فيما ذكره الله جل وعلا في كتابه من العقائد، وفيما ذكره رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سنته، وفيما كان عليه سلف الأمة القرون المفضلة فإنهم خير القرون لاسيما ما كان عليه الصحابة، فإنهم أفضل الناس وخيرهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم. فينبغي للمؤمن أن يتحرى ما كانوا عليه، فإنهم على الحق والهدى، تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الاعتقاد والعمل، فعملوا بما اعتقدوا، وكانوا على معين صافٍ، وعلى حجة بينة، وعلى هدى وبرهان، لم يختلط بما اختلط به حال من بعدهم من العقائد المختلفة، والأقوال المبتدعة، والآراء الناشئة عن عقائد وأقوال فاسدة، فينبغي لطالب العلم أن يحرر هذا القصد. ومن رحمة الله جل وعلا بهذه الأمة أن جعل كتابها محفوظاً، وقيض لسنة النبي صلى الله عليه وسلم من يميز الحق فيها من الباطل، ومن يميز الصحيح من غير الصحيح، وأيضاً يسر الله جل وعلا من يدون عقائد السلف ويبين أقوالهم وما كانوا عليه، ويبين ضلال الضالين ويرد على المنحرفين. ولذلك كانت كتب الردود في العقائد من أوائل ما ألف في الاعتقاد؛ لأن الناس كانوا على صراط الله المستقيم، وعلى هدى وحجة وبرهان، لم يلتبس عليهم الحق، ولم يختلط عندهم الأمر، بل كانوا على محجة واضحة بيضاء نقية، ثم حصل الزيغ والانحراف، واحتاج أهل العلم أن يردوا على المنحرفين، فرد من رد في القرن الأول في الصدر الأول من التابعين، بل رد الصحابة رضي الله عنهم على ما ظهر من البدع في أوقاتهم، كما جرى من ابن عمر مع القدرية وابن عباس مع الخوارج وغيرهما من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا سار على هذا المنوال وهذا الطريق الأئمة المهديون من بعدهم الذين تلقوا عنهم وساروا على طريقهم، فردوا البدع، ولم يكونوا بحاجة إلى أن يؤلفوا عقائد؛ لأن الناس يستقون عقائدهم من الكتاب والسنة، ويتلقون من قال الله وقال الرسول، ليس عندهم في ذلك شك ولا ريب. فلما حدثت البدع وتنوعت الطرق وتكاثرت الأقوال الفاسدة احتاج العلماء إلى أن يؤلفوا عقائد يميزون فيها صراط أهل السنة والجماعة، وطريق الفرقة الناجية المنصورة عن غيرها من الطرق، فكان من أوائل المؤلفات ما ألفه حماد بن أبي سليمان في الفقه الأكبر، وكذلك ما كتبه أبو حنيفة رحمه الله في كتابه الفقه الأكبر، وهي ورقات معدودة زيد فيها ما ليس منها. ثم بعد ذلك نقلت العقيدة عن الإمام أحمد من رواية بعض أصحابه، ونقل الاعتقاد المشهور عن الإمام الشافعي عن بعض أصحابه. وهكذا كانت العقائد تنقل عن الأئمة وتدون، ثم جاء بعد ذلك من العلماء من ألف وكتب في عقائد السلف، في مطولات ومختصرات، ومن أوائل من ألف في المختصرات أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في هذه العقيدة التي بين أيدينا، وسندرسها إن شاء الله تعالى، وهي عقيدة مشهورة ذائعة الصيت، تكلم عنها العلماء المتقدمون واعتمدوها، ونقلوا عنها، حتى إنهم ينقلون منها فصولاً ومقاطع طويلة في الاستدلال لعقيدة السلف. وممن فعل ذلك الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه ذكر عقيدة الطحاوي ونقل منها، وكذلك ابن القيم رحمه الله وغيرهما من أهل العلم، فالعقائد كانت مؤلفة منذ وقت طويل، وعرفتم سبب ذلك وهو: أن الناس حصل عندهم اشتباه وحدثت الأقوال المنحرفة والآراء المبتدعة في دين الله عز وجل؛ فاحتاجوا إلى أن يميزوا الحق عن الباطل وأن يبينوا صراط أهل السنة والجماعة عن غيره. وهذا لا يعني أن ما تضمنته هذه العقائد قد حوى جميع عقيدة أهل السنة والجماعة، ولا يعني أيضاً أن هذه العقائد اقتصرت فقط على ذكر ما يتعلق بالعقيدة دون غيره من المسائل، بل فيها من مسائل الفقه ما هو معروف مشهور سيمر علينا بعضه في هذه الرسالة. ومنها ما اقتصر على أبواب من أبواب الاعتقاد، وعلى جوانب من العقيدة ركز عليها للحاجة -فيما يظهر للكاتب المؤلف- إلى البيان والتوضيح في هذه الأبواب وهذه الجوانب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 تعريف بعقيدة الإمام الطحاوي عقيدة الطحاوي رحمه الله عقيدة مختصرة تكلم فيها عن أصول الإيمان، وعن ما يتعلق بأكثر أبواب الاعتقاد، إلا أنه رحمه الله كان في كلامه شيء من التكرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ملاحظات على العقيدة الطحاوية فإن هذه العقيدة وقع فيها تكرار في عدة مواضع، فكرر فيها كلاماً في مسائل تقدم له تقريرها، ولا حاجة إلى إعادة الكلام فيها، ولعل ذلك ناشئ عن نظر المؤلف إلى أهمية هذه المسائل، وإلى الحاجة إلى تكرارها وتأكيدها. كذلك مما يلاحظ على هذه العقيدة: أنها لم تحرر عقيدة أهل السنة والجماعة وعقيدة السلف الصالح فيما يتعلق في باب الإيمان، بل وقع فيها خلط واشتباه فيما يتعلق بالإيمان، حيث أن المؤلف رحمه الله سار على ما كان عليه مرجئة الفقهاء في قولهم في مسائل الإيمان، وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى ونوضحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 شروحات العقيدة الطحاوية هذه العقيدة شروحها كثيرة في القديم والحديث، فلها من الشروح ما هو على طريق أهل السنة والجماعة، ومنها ما هو على طريق المبتدعة الذين لووا أعناق النصوص، وحرفوا الكتاب والسنة فضلاً عن كلام البشر، فإنهم حرفوا كلام الطحاوي وحملوه على ما يوافق العقائد المنحرفة من عقائد الأشاعرة والماتريدية وغيرهم من مثبتة الصفات الذين خالفوا أهل السنة والجماعة. وأشهر هذه الشروح وأخلصها وأصفاها من الاشتباه ما كتبه ابن أبي العز رحمه الله، حيث إنه كتب شرحاً موسعاً ضمنه بياناً واضحاً لكثير من مسائل الاعتقاد، وكثير من مواد هذا الكتاب ومحتوياته -يعني: ومما فيه- ما هو منقول عن شيخ الإسلام رحمه الله وعن تلميذه ابن القيم يعرف هذا من عرف كلام الشيخين، بل هناك نصوص ومقاطع طويلة منقولة من كلام الشيخين، ولا ضير في ذلك فإن المؤلف رحمه الله أراد بيان الكتاب بكلام مبتدأ منه وبكلام مستفاد من غيره. وأيضاً مما تميز به هذا الشرح: أنه شرح محرر من حيث الاستدلال، فهو مليء بالأدلة النقلية من الكتاب والسنة التي تقرر ما تضمنته هذه العقيدة من مسائل الاعتقاد على اختلاف أبوابها. فهذا الشرح من أوفى الشروح أجمعها وأوسعها، إلا أنه في الحقيقة لا يناسب المبتدئين؛ لكثرة التشعبات التي فيه، ولكونه حوى مسائل في الحقيقة هي من فضول المسائل، وليست من أصول مسائل الاعتقاد، كمسألة التسلسل على سبيل المثال، وكمسالة أيهما أفضل الملائكة أم البشر؟ وما أشبه ذلك من المسائل الكلامية هل الاسم غير المسمى؟ وما أشبه ذلك. وهذا الكتاب في الجملة كتاب جيد من أفضل شروح هذه العقيدة المباركة. وللمتأخرين هناك عدد من الشروح وعدد من التعليقات، فقد علق عليها شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله تعليقات مفيدة في كتاب مختصر وله شرح وتعليق على شرح ابن أبي العز، وهو تعليق مفيد جيد، قرأ عليه شرح الطحاوية وعلق عليه في مواضع عديدة تعليقات مفيدة جيدة لطالب العلم، إلا أن الصوت فيها رديء، وفي الجملة فإن الذي يتقن سماع الشيخ رحمه الله لا يجد إشكالاً في فهم الكلام. وهناك تعليقات للشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في الشرح وفي الاستدراك، وفي بيان هذه العقيدة، وهو شرح مختصر، وقبل هذين الشرحين هناك شرح لـ ابن مانع وهو من علماء هذه البلدة، وهو شرح مفيد جيد، قرر فيه عقيدة أهل السنة والجماعة، وبين فيه ما في هذه العقيدة من العقائد المباركة. هذا أبرز ما لهذه العقيدة من شروح المتأخرين، وهناك شرح جديد للشيخ صالح الفوزان أثابه الله، لخص فيه الكلام على جمل هذه العقيدة، وهو شرح مفيد مختصر مناسب لطالب العلم المبتدئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 بيان منهج الإمام الطحاوي في عقيدته المختصرة بين المؤلف رحمه الله في مقدمته على هذه العقيدة ما الذي يريد تحقيقه، وما الذي يريد الكتابة فيه. قال رحمه الله: (بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين) فبدأ الرسالة بما جرى عليه أهل العلم رحمهم الله من البداءة بالبسملة؛ تأسياً بكتاب الله عز وجل؛ واتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسيراً على ما جرى عليه عمل أهل العلم رحمهم الله في مؤلفاتهم وكتاباتهم، والبداءة بالبسملة سنة جارية في الكتاب والسنة، وفي عمل أهل العلم قديماً وحديثاً، والبسملة تقدم الكلام عليها وأنها جملة اسمية أو فعلية تامة مفيدة، المتعلق فيها إما أن يكون اسماً أو فعلاً مقدراً مؤخراً مناسباً. قال رحمه الله: (وبه نستعين) . بعد أن بدأ بـ (بسم الله) عز وجل أعقب ذلك بالاستعانة به، والاستعانة بالله عز وجل من أعظم ما يحصل به الإنسان مقصوده. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن يستعن بالله يعنه) . فإن الإنسان إذا استعان بالله عز وجل على تحصيل مطلوبه يسر الله عز وجل له مطالبه، أما إذا اعتمد على نفسه وجهده وكده وعمله في تحصيل أموره فإنه لا يوفق إلى تحصيل المطلوب، بل كثيراً ما يفوته غرضه ومقصوده، فينبغي للمؤمن أن يكل أمره إلى الله، وقد قال الله جل وعلا في السورة المتكررة التي يقرؤها أهل الإيمان في صلواتهم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] . فجعل بعد إفراد الله بالعبادة إفراده بالاستعانة، وذلك أنه: (إذا لم يكن عوناً من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده) فينبغي للمؤمن ألا يغتز بقوته وحوله، بل لا حول ولا قوة له إلا بالله، فيستعين بالله عز وجل على مطلوبه دقيقاً كان أو جليلاً، فإن الله جل وعلا إذا لم ييسر لك الأمر لم يتيسر؛ لأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو جل وعلا، فينبغي للمؤمن أن يعلق قلبه بالله عز وجل، مستعيناً به في فهم العلم ونشره وبذله وفي إفادة الناس به، فإنه إذا أعان الله عبداً وفق إلى خير كثير. قال رحمه الله: (الحمد لله رب العالمين) . وهذه المقدمة هل هي من المؤلف أو من غيره؟ على كل حال: الظاهر أنها من كاتب هذه العقيدة ومؤلفها وهو الطحاوي رحمه الله، فبعد البسملة والاستعانة حمد الله وهو أحق من حمد جل وعلا، وحمده إثبات الكمال له، فإن الحمد هو: ذكر المحمود بصفات الكمال محبة وتعظيماً. وهذا أحسن ما قيل في تعريف الحمد، ولابد من هذين القيدين الأخيرين أنه: ذكر لصفات المحمود على وجه المحبة والتعظيم، فإذا لم يكن محبةً ولا تعظيماً فإنه لا يسمى حمداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 بيان عقيدة أهل السنة والجماعة (قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي بمصر) . وهو من علماء القرن الثالث والرابع الهجري، توفي رحمه الله في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وله مؤلفات مشهورة نافعة في الحديث والفقه، وهو على مذهب الإمام أبي حنيفة، وإن كان في الأصل شافعياً إلا أنه انتقل إلى مذهب الإمام أبي حنيفة، وسار عليه وإن لم يكن متمذهباً به بالمعنى الضيق؛ لأنه له اجتهادات خالف فيها الحنفية، وإنما ارتضى سبيلهم وطريقهم في التفقه في الدين. يقول رحمه الله: (هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة) المشار إليه ما سيأتي تفصيله في هذه العقيدة. فقوله رحمه الله: (ذكر بيان) . المقصود توضيح وتجلية عقيدة أهل السنة والجماعة. والعقيدة: هي ما طوى الإنسان قلبه عليه، وأصلها من العقد والشد؛ لأن الإنسان يعقد على ما يعتقد ويربط قلبه عليه، فالعقيدة هي ما طوى الإنسان قلبه عليه مما يتعلق بالله عز وجل، وما يتعلق بأصول الإيمان، وهذا الذي يبينه الشيخ رحمه الله في هذه العقيدة. وقوله رحمه الله: (أهل السنة والجماعة) . ليخرج غيرهم، فـ (أهل السنة) أخرج به أهل البدعة، و (أهل الجماعة) أخرج به أهل الفرقة، وهذان الوصفان متلازمان؛ لأنه لا يمكن أن يكون الإنسان من أهل السنة إلا إذا كان من أهل الجماعة، ولا يمكن أن يكون من أهل الجماعة إلا أن يكون من أهل السنة فهما وصفان متلازمان، وإنما نصوا عليهما مع أن أحد الوصفين يغني عن الآخر؛ لأن هذين الوصفين يميزان أهل السنة عن غيرهم، فهما أبرز أوصاف أهل السنة والجماعة، وأبرز صفات هذه الفرقة، فهم بالسنة مستمسكون، وإليها راجعون، وعنها صادرون، لا يعدلون بها شيئاً، ولا يقدمون عليها شيئاً، بل هي الحاسم على أقوالهم وعقائدهم وأعمالهم وآرائهم، فما جاءت به السنة أخذوا به، وما ردته السنة ردوه، وما خالف السنة ابتعدوا عنه؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) . وأما الجماعة فهم أهل اجتماع ليسوا أهل فرقة، وهذا وصف لابد لأهل السنة أن يعتنوا به، فإن الله جل وعلا في كتابه ذم الافتراق والاختلاف، وحث على الائتلاف والاجتماع، ونصوص ذلك كثيرة، بل هو من الشرع السابق الذي سار عليه النبيون: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] . (أن أقيموا الدين) إقامته بالقيام به عقداً وعملاً، (ولا تتفرقوا فيه) أي: ولا يكن شأنكم فيه شأن المتفرقين، وهذا بيان أن الائتلاف والاجتماع هو دين النبيين وليس خاصاً بهذه الأمة؛ ولذلك كانوا أهل اجتماع وليسوا أهل افتراق، واجتماعهم ليس على هوى، إنما اجتماعهم على الكتاب والسنة، وعلى إقامة الدين الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الفقهاء الذين اعتمد على مذهبهم في العقيدة الطحاوية قال رحمه الله: [على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم] إلى آخر ما قال. قوله رحمه الله: (على مذهب فقهاء الملة) أي: أن هذه العقيدة التي ألفها رحمه الله وكتبها مستقاة مستفادة من أقوال فقهاء الملة؛ وسبب ذلك: أن من ذكرهم تميزوا عن غيرهم بالفقه من بين بقية العلوم، فـ أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن اشتهروا بين أهل العلم في القديم والحديث بالعناية بالفقه، والكتابة والتأصيل فيه، ولذلك ذكرهم بأخص ما اتصفوا به، وليس معنى هذا أنهم لا يتقنون إلا الفقه، فإنما أراد رحمه الله بيان أخص ما تميزوا به عن غيرهم من العلماء. وقوله: (الملة) . الملة: هي الطريقة، والمقصود بالملة هنا: ملة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما يدين به صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما جاء به من ملة إبراهيم عليه السلام، ومن هذا نعلم: أن أبرز ما يوصف به الإنسان أن يكون من علماء الملة؛ لأن العلماء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام كما قال شيخنا محمد رحمه الله: - عالم ملة. - وعالم أمة. - وعالم دولة. والذي ينبغي لطلبة العلم أن يسعوا لتحقيقه في أخلاقهم وأعمالهم أن يكونوا من علماء الملة الذين ينظرون إلى النصوص ويحكمونها في أقوالهم وعقائدهم وأعمالهم، ويدعون إليها ويعملون بها. عالم الأمة: هو الذي ينظر إلى ما يشتهيه الناس وما يحبونه ويميلون إليه فيفتيهم بما يريدون وهذا مذموم؛ لأنه لا يدل الناس على الخير، إنما يدلهم ويجيبهم لما يحبون وما يشتهون. ومثل هذا في السوء عالم الدولة: الذي ينظر إلى ما يشتهي أهل السلطة فيقول بقولهم. والواجب على أهل الإيمان أن يكونوا من علماء الملة الذين ينظرون إلى قول الله وقول رسوله، ولا يقدمون عليهما لا شهوة الأمة ولا شهوة غيرهم بل يعملون بكتاب الله وسنة رسوله. ذكر في هذه العقيدة ثلاثة علماء هم: أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي رحمه الله. وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري. وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني. أما أبو حنيفة فهو الإمام المقدم في هذا المذهب والمسلك، وكانت وفاته عام خمسين ومائة، وهو من الفقهاء المحققين إلا أن بضاعته في الحديث قليلة رحمه الله. تبعه صاحباه في كثير من أقواله، وخالفاه حتى أنهما اشتهرا وأصبح لهما قول يعدل بقوله، وقد يقول المذهب ما قالاه لا ما قاله أبو حنيفة وهما: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وكانت وفاته عام ثلاثة وثمانين ومائة. وأبو عبد الله محمد بن حسن الشيباني وكانت وفاته سنة تسع وثمانين ومائة رضوان الله عليهم أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 اختلاف أئمة المذاهب في المذاهب الفقهية العلمية واتفاقهم في مسائل الاعتقاد قال رحمه الله: [على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم] إلى آخر ما قال. قوله رحمه الله: (على مذهب فقهاء الملة) أي: أن هذه العقيدة التي ألفها رحمه الله وكتبها مستقاة مستفادة من أقوال فقهاء الملة؛ وسبب ذلك: أن من ذكرهم تميزوا عن غيرهم بالفقه من بين بقية العلوم، فـ أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن اشتهروا بين أهل العلم في القديم والحديث بالعناية بالفقه، والكتابة والتأصيل فيه، ولذلك ذكرهم بأخص ما اتصفوا به، وليس معنى هذا أنهم لا يتقنون إلا الفقه، فإنما أراد رحمه الله بيان أخص ما تميزوا به عن غيرهم من العلماء. وقوله: (الملة) . الملة: هي الطريقة، والمقصود بالملة هنا: ملة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما يدين به صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما جاء به من ملة إبراهيم عليه السلام، ومن هذا نعلم: أن أبرز ما يوصف به الإنسان أن يكون من علماء الملة؛ لأن العلماء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام كما قال شيخنا محمد رحمه الله: - عالم ملة. - وعالم أمة. - وعالم دولة. والذي ينبغي لطلبة العلم أن يسعوا لتحقيقه في أخلاقهم وأعمالهم أن يكونوا من علماء الملة الذين ينظرون إلى النصوص ويحكمونها في أقوالهم وعقائدهم وأعمالهم، ويدعون إليها ويعملون بها. عالم الأمة: هو الذي ينظر إلى ما يشتهيه الناس وما يحبونه ويميلون إليه فيفتيهم بما يريدون وهذا مذموم؛ لأنه لا يدل الناس على الخير، إنما يدلهم ويجيبهم لما يحبون وما يشتهون. ومثل هذا في السوء عالم الدولة: الذي ينظر إلى ما يشتهي أهل السلطة فيقول بقولهم. والواجب على أهل الإيمان أن يكونوا من علماء الملة الذين ينظرون إلى قول الله وقول رسوله، ولا يقدمون عليهما لا شهوة الأمة ولا شهوة غيرهم بل يعملون بكتاب الله وسنة رسوله. ذكر في هذه العقيدة ثلاثة علماء هم: أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي رحمه الله. وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري. وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني. أما أبو حنيفة فهو الإمام المقدم في هذا المذهب والمسلك، وكانت وفاته عام خمسين ومائة، وهو من الفقهاء المحققين إلا أن بضاعته في الحديث قليلة رحمه الله. تبعه صاحباه في كثير من أقواله، وخالفاه حتى أنهما اشتهرا وأصبح لهما قول يعدل بقوله، وقد يقول المذهب ما قالاه لا ما قاله أبو حنيفة وهما: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وكانت وفاته عام ثلاثة وثمانين ومائة. وأبو عبد الله محمد بن حسن الشيباني وكانت وفاته سنة تسع وثمانين ومائة رضوان الله عليهم أجمعين. فهذه العقيدة مستفادة من أقوال هؤلاء، وليست العقيدة مذهباً خاصاً يعمل به ويفرق الناس عليه، يعني: ليست كالمذاهب الفقهية العملية، إنما العقيدة قول لم تختلف الأمة في أصوله، وفي كثير من فروعه وتفاصيله فهم متفقون عليه. ولذلك لا يقال: هذا في العقيدة حنفي أو هذا في العقيدة شافعي، فإن الشافعية والحنفية والحنابلة والمالكية وغيرهم من المذاهب الفقهية إنما هي مذاهب وأقوال في المسائل العملية، وأما مسائل الاعتقاد فإنها مبنية على الكتاب والسنة لا تفرق فيها. ولا يعني هذا أنه لا خلاف بين أهل السنة في مسائل الاعتقاد بالكلية لا في الأصول ولا في الفروع، لكن الكلام على أن الخلاف محدود، وهو في الفروع لا في الأصول، ليس بين أهل السنة والجماعة خلاف في مسائل الاعتقاد، بخلاف مسائل العمل فإن فيها خلافاً بيناً واضحاً. قال رحمه الله: [وما يعتقدون من أصول الدين] . (ما يعتقدون) أي: ما يدينون به وما يعتقدونه في أصول الدين، و (أصول الدين) المراد به مسائل الاعتقاد، وهذا التقسيم ثابت منذ زمن بعيد، فقسم الدين إلى أصول وفروع، الأصول: هي ما يتعلق بالعقائد، والفروع: هي ما يتعلق بالأعمال، وإن كان هذا التقسيم غير مطرد؛ لأنه في الحقيقة يجعل ما هو أصل فرعاً، فمثلاً الصلاة أصل وذلك لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) . وعلى هذا التقسيم هي من مسائل الفروع، وهذا لا شك أنه نزول برتبتها وهي عمود الدين، لكن هذا التقسيم جرى عليه العلماء، وليس المراد بتقسيم الأصول والفروع التقليل من شأن الفروع، إنما المراد هو تمييز ما يتعلق بالاعتقاد عما يتعلق بالعمل، فلما كان غالب ما يتعلق بالعمل هو من الفروع سمي جميع ما يتعلق بالعمل فروعاً، وإن كان في مسائل الاعتقاد فليس من الفروع، كمسألة: أيهما أفضل الملائكة أو البشر؟ فإن الإنسان لو مات ولم يكن له فيها اعتقاد دين ما ضره ولا نقصه، بل لا يزيد الإيمان ولا ينقص بمعرفة الراجح في مثل هذه المسألة، فالتقسيم إلى أصول وفروع إنما هو لأجل تمييز مسائل الاعتقاد عن مسائل العمل. قال: [ويدينون به رب العالمين] . (يدينون) أي: يتعبدون، أصلها من دان يدين، والمراد في ذلك ما في هذه العقيدة مما يتعبد الله جل وعلا بها، فقوله: (يدينون به رب العالمين) أي: يتعبدون بها لله جل وعلا، ومن هذا نفهم أن العقيدة ليست أقوالاً جامدة كما يقول بعض الناس، إنما هو عقد يتعبد العبد به الله جل وعلا، ويدين به ربه سبحانه وتعالى، ويتقرب إلى الله بهذا الاعتقاد، فالعقيدة مما يتقرب به إلى الله جل وعلا، بل هي من أجل ما يتقرب به إلى الله سبحانه؛ لأن العقيدة من أعمال القلوب، ومعلوم أن جنس أعمال القلوب أعظم عند الله عز وجل من جنس أعمال الجوارح، فكان العناية بالاعتقاد مما ينبغي لطالب العلم أن يهتم به تعبداً وعملاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 أنواع التوحيد وما دعت إليه الرسل يقول رحمه الله بعد هذه المقدمة التي بين فيها منهجه في هذه العقيدة المختصرة المباركة: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله] . (نقول في توحيد الله) وتوحيد الله هنا بمعناه العام الذي يشمل توحيد الإلهية والربوبية والأسماء والصفات؛ لأن هذه العقيدة لم تختص فقط ببيان نوع من التوحيد، وإنما قررت ما يتعلق بتوحيد الربوبية، وما يتعلق بتوحيد الإلهية، وما يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات، فهي عقيدة شاملة واسعة تناولت جميع هذه الأبواب، فليست خاصة بنوع من أنواع التوحيد، فمثلاً كتاب التوحيد للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقرر في الغالب توحيد الإلهية، والواسطية على سبيل المثال الغالب فيها تقرير ما يتعلق بالأسماء والصفات، كذلك الحموية فيها تقرير توحيد الأسماء والصفات فقط وهلم جراً، أما هذه العقيدة فقررت ما يتعلق بالتوحيد على وجه العموم. والتوحيد في الأصل مأخوذ من وحد يوحد توحيداً، فهو مأخوذ من وحد، وأصل هذا الفعل دائر على معنى الإفراد أي: أفرد، فالتوحيد هو إفراد الله عز وجل، وبماذا يحصل إفراده؟ إفراده يختص به سبحانه وتعالى في الإلهية وفي الربوبية وفي الأسماء والصفات، وأهم ذلك ما يتعلق بتوحيد الإلهية؛ لأنه الأصل الذي جاءت الرسل بالدعوة إليه، وهو المقصود من النوعين الآخرين، وهما: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات. فإن المقصود من توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية: تقرير الإلهية، ولذلك استدل الله جل وعلا في الكتاب على إلهيته بأسمائه وصفاته، وبما ذكره من معاني ربوبيته في كتابه سبحانه وتعالى، وأنه رب كل شي. ولا يعني هذا أن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ليس لهما أهمية، بل إن توحيد الأسماء والصفات مما يزداد به الإيمان ويرسخ، ويتحقق توحيد الإلهية بقدر ما يتحقق في قلب الإنسان من توحيد الأسماء والصفات، فهي متلازمة يبنى بعضها على بعض، لكن في بيان ما جاءت الرسل بالدعوة إليه، وجرت الخصومة بينهم وبين أقوامهم إنما هو في توحيد الإلهية، وإن كان وقعت مخالفات في توحيد الربوبية ومخالفات في توحيد الأسماء والصفات، لكن الخلاف الأساسي والأصلي الذي جرى بين الرسل وأقوامهم هو في توحيد الإلهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 عقيدة أهل السنة إفراد الله عز وجل في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته يقول رحمه الله: (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله) . أي: أن هذا الاعتقاد وهذا القول ليس من جهدنا، ولا من كدنا، ولا من عملنا، ولا من جودة أفكارنا وعقولنا، بل هو بتوفيق الله، وهذا فيه تفويض الأمر إلى الله جل وعلا، لينفي العبد عن نفسه العجب، فإن الإنسان إذا نظر إلى عمله على أنه كسبه ومن جهده وكده اغتر ووقع في العجب الذي يحبط العمل، لكنه إذا أوكل ذلك إلى فضل الله عز وجل، وأسند ما هو فيه من خير إلى نعمة الله ورحمته كان ذلك من أسباب زيادة الخير فيه، وشكره لهذه النعمة، وفرحه بها، وعمله بها بتوفيق الله. ثم بين رحمه الله في أول ما ذكره في هذه العقيدة المباركة: تقرير توحيد الإلهية، بل قرر رحمه الله في هذا الإلهية والربوبية والأسماء والصفات، فقال: [إن الله واحد لا شريك له، واحد في أسمائه وصفاته، واحد في ربوبيته، واحد في إلهيته] وهذا فيه غاية التوحيد في جميع أبوابه وأصنافه؛ في توحيد الربوبية، وفي توحيد الإلهية، وفي توحيد الأسماء والصفات. (لا شريك له) هذا فيه تقرير أنه لا شريك له في إلهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته، ففي هذه الجملة: أثبت التوحيد بأنواعه الثلاثة، وأن الله جل وعلا لا شريك له في هذه الأنواع الثلاثة كلها، وحقيقة توحيد الربوبية اعتقاد أن الله الواحد في ربوبيته، وأن تعتقد بأنه الخالق الرازق المالك المدبر المحيي المميت. وحقيقة اعتقاد أن الله واحد في صفاته: أن تثبت له ما أثبت لنفسه من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأنه ليس كمثله شيء في صفاته سبحانه وتعالى. ومما يتحقق به أن الله واحد بإلهيته: أن تفرده سبحانه وتعالى بالعبادة، فلا تشرك معه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، بل جميع العبادات له وحده دون غيره، وبهذا يتحقق عقد: إن الله وحده لا شريك له. وقد أحسن المؤلف رحمه الله حيث قدم هذه العقيدة بهذا الاعتقاد، وبهذه الجملة التي تضمنت إثبات الكمال بالتوحيد لله سبحانه وتعالى في الإلهية وفي الربوبية وفي الأسماء والصفات. مسألة: هل هناك أنواع أخرى من التوحيد تدخل في قول: إن الله واحد لا شريك له؟ الجواب لا. جميع أنواع التوحيد مندرجة تحت هذه الثلاثة، فمثلاً ما يتكلم عنه ابن القيم رحمه الله من توحيد المحبة، فهو من جملة توحيد الإلهية، وتوحيد التوكل أيضاً من جملة توحيد الإلهية والربوبية، فجميع الأقسام التي تذكر على وجه الانفراد من أنواع التوحيد لابد وأن تندرج تحت أصل من هذه الأصول الثلاثة: - إما توحيد الإلهية. - أو توحيد الربوبية. - أو توحيد الأسماء والصفات. ولذلك جرى عمل العلماء رحمهم الله منذ زمن بعيد على الاقتصار في ذكر أقسام التوحيد على هذه الأقسام الثلاثة، ولا حاجة إلى مزيد تقسيمات؛ لأن كثرة التقسيمات يحصل بها التشويش، ومعلوم أن التقسيم مقصوده في الأصل التسهيل، فإذا أكثرنا التفصيل انفرط العقد، وأصبح للمحبة توحيد، وللخشية توحيد، وللخوف توحيد، وللحكم توحيد وهلم جراً، مع أن هذه كلها يمكن أن تندرج في الأقسام التي جرى عليها كلام أهل العلم، واستقر عليها الأئمة من تقسيم التوحيد إلى: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، ولا حاجة إلى المزيد، بل كل من زاد نقول له: هذا القسم يندرج تحت هذا النوع وانتهى الأمر، ولا حاجة إلى تشقيق أكثر من هذا. فجميع صور التوحيد وأنواعه تندرج في قوله رحمه الله: (إن الله واحد لا شريك له) . والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [2] الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له في ملكه وألوهيته وأسمائه وصفاته، له الإرادة الكاملة بنوعيها فلا يعجزه شيء، ومهما تخيل الإنسان وأعمل فكره في الله فإنه لا يستطيع إدراك علمه وخلقه وذاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 اعتقاد أن الله لا مثيل له من مخلوقاته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: قال رحمه الله تعالى: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره، قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء، لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد، لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام، ولا يشبه الأنام، حي لا يموت، قيوم لا ينام، خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة، مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة] . فتقدم معنا في أول هذه العقيدة ما ذكره المؤلف رحمه الله في افتتاحها من ذكر توحيد الله جل وعلا في قوله: (إن الله واحد لا شريك له) وقلنا: إن هذا فيه إثبات جميع أنواع التوحيد لله رب العالمين: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وبينا كل نوع من هذه الأنواع. ثم قال المؤلف رحمه الله: (ولا شيء مثله) ولا ريب أن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، فإن الله جل وعلا الكامل في صفاته الذي دلت العقول والنصوص على أنه لا نظير له سبحانه وتعالى، لا مثيل له في ربوبيته لا مثيل له في إلهيته لا مثيل له في أسمائه وصفاته، ولذلك نفى الله جل وعلا عن نفسه النظير والمثيل في كتابه بألفاظ متنوعة، فقال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وهذا نفي واضح للمثيل. ومنه قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] فنفى عن نفسه السمي وهو النظير والمثيل. ونفى أيضاً الند فقال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] . ونفى أن يدرك بالأمثال فقال سبحانه وتعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] . ونفى العديل والكفء فقال سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] . وكل هذا لتقرير هذا الأمر الذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة، ودل عليه الكتاب والسنة والعقل، وهو أن الله جل وعلا لا مثيل له، ومهما طلب العقل مثيلاً للرب فإنه ينحصر ويقف دون إدراك ذلك، بل هو سبحانه وتعالى الذي لا نظير له ولا كفء، ولا سمي ولا ند له جل وعلا، وهذا ليس خاصاً في أسمائه وصفاته فقط، بل وفي ربوبيته وإلهيته سبحانه وتعالى، فلا مثيل له فيما يتعلق بالربوبية، ولا مثيل له فيما يتعلق بالأسماء والصفات، ولا مثيل له فيما يجب له من الحقوق، وهو ما يعرف بتوحيد الإلهية، فلا مثيل له في إلهيته سبحانه وتعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 أنواع النفي في صفات الله ثم قال رحمه الله: (ولا شيء يعجزه) وهذا كالجملة السابقة في أن المؤلف رحمه الله ذكر وصف الله عز وجل بالنفي المتقدم في قوله: (ولا شيء مثله) نفي مجمل قد دلت على مجيئه في صفات الله عز وجل النصوص من الكتاب والسنة، والنفي المجمل في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليس نفياً وعدماً محضاً، بل هو نفي لإثبات الكمال للرب سبحانه وتعالى، فإنه إذا قرأ قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] كان ذلك مفهماً ومعلماً أنه سبحانه وتعالى الكامل في صفاته، الذي لا يلحقه نقص بوجه من الوجوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 النفي المجمل في صفات الله وكذلك النفي في بعض أنواعه -وهو النفي التفصيلي- يفيد إثبات الكمال للرب سبحانه وتعالى، فالنفي في صفات الله عز وجل يرد على أمرين: - يرد نفياً مجملاً كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وكقوله سبحانه وتعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] وما أشبه ذلك من النفي المجمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 النفي المفصل في صفات الله - ويرد النفي عن أوصاف خاصة وهو ما يسمى بالنفي المفصل، وهذا النوع من النفي في صفات الله عز وجل قليل في الكتاب والسنة، ولا يرد إلا لفائدة: إما أن يكون لإثبات كمال الضد كما هو في قول المؤلف: (ولا شيء يعجزه) فإن نفي الإعجاز عن الرب سبحانه وتعالى في مثل هذا إنما هو لإثبات كمال قدرة الله جل وعلا، فلما كملت قدرته سبحانه وتعالى نفى جل وعلا النقص في هذه القدرة بنفي العجز، فلا يعجزه شيء سبحانه وتعالى. يأتي النفي مفصلاً في صفات الله عز وجل لنفي ما اعتقده الجاهلون في رب العالمين، ومن ذلك قوله جل وعلا: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] ، وكقوله سبحانه وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] فهذا إثبات لنفي ما تقدم من كلام اليهود: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] فهنا ليس فيه نفي محض لكنه نفي معنوي للمعنى السابق بصيغة الإثبات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 المراد من إيراد النفي في صفات الله المراد أن النفي قد يرد في صفات الله عز وجل، ويراد به نفي ما اعتقده الجاهلون في رب العالمين سبحانه وتعالى، وما وصفه به أهل الإلحاد والكفر وأهل الشرك، ونفي التنقص لرب العالمين. والنفي يرد في صفات الله عز وجل ويقصد به نفي النقص فيها، والمراد به: إثبات كمال الصفة، مثال هذا ما ذكره الله جل وعلا في أعظم آية من كتابه سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فأثبت الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الحياة والقيومية له سبحانه وتعالى، ثم نفى فقال: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] والغرض من هذا النفي هو إثبات كمال الصفة، وأنه لا نقص فيها، فالذي لا تأخذه سنة ولا نوم إنما اتصف بهذا لكمال حياته وقيوميته جل وعلا. فقول المؤلف رحمه الله: (ولا شيء مثله) من أي أنواع النفي؟ من النفي المجمل؛ لأنه نفي عام وليس نفياً لصفة خاصة، فنفى المثيل له سبحانه وتعالى في قوله: (ولا شيء يعجزه) ؛ إنما هو لإثبات كمال قدرته سبحانه وتعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 اعتقاد تفرد الله عز وجل بالإلهية ثم قال رحمه الله تعالى: (ولا إله غيره) معنى الإله: المعبود المألوه الذي تألهه القلوب محبة وتعظيماً ورقة، والإله في أصل كلام العرب: اسم جنس لما قصد بشيء من العبادة، لكنه غلب على الله جل وعلا؛ لأنه مستحق للعبادة، فما سمي من الإله دون الله سبحانه وتعالى إنما هو تسمية خالية من معناها، فإنه لا إله إلا الله، ولا معبود بحق إلا هو جل وعلا، وهذه الكلمة هي أصل الإسلام وأساسه، ولا يقر الإيمان، ولا يستقيم الإسلام، ولا يصلح حال أحد إلا بهذه الكلمة، فبها صلاح الدنيا والآخرة، وهي أول مطلوب وآخر مطلوب، وكونه أول مطلوب لأنه لا يدخل أحد الدين إلا بلا إله إلا الله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) . وآخر مطلوب: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) فكانت لا إله إلا الله هي أول المطالب وما يخاطب به الناس، وهي آخر ما يندب الناس إليه ويطلب منهم، وذلك لعظم هذه الكلمة التي من أجلها أوجد الله جل وعلا الجن والإنس، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ولا تتحقق العبادة إلا بالإقرار بأنه لا إله إلا الله -لا إله غيره جل وعلا- والاستقامة على هذه الكلمة، والعمل بمقتضاها، فإن العبادة كلها مشمولة بهذه الكلمة داخلة فيها، ولذلك كان شأنها عظيماً، فإذا قالها الإنسان صادقاً من قلبه حرمه الله على النار، وكان من أهل الجنة. فقول المؤلف رحمه الله: (ولا إله غيره) فيه إثبات إلهية الرب سبحانه وتعالى، فمعنى الكلمة لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، لماذا احتجنا إلى تقدير (حق) ؟ حتى نخرج المعبودات الباطلة، ولو قلنا: لا معبود إلا الله لوقعنا في الإشكال، وهو وجود من يعبد غير الله، ألم يعبدوا الشمس والقمر والأصنام والملائكة والأنبياء؟ فهؤلاء عبدوا من دون الله، فهذا القيد ضروري لإخراج كل من عبد من دون الله وهو باطل، أيضاً لابد من هذا القيد؛ لأن الكلام بدون هذا القيد يفهم منه معنى باطل، وهو أن كل ما عبد من دون الله فهو إله حق. فإذا قال قائل: لا معبود إلا الله. تفهم منه أن كل من توجه إليه العبادة فهو إله ومعبود، وهذا المعنى هو ما كان يقوله أهل وحدة الوجود الذين جعلوا كل شيء معبوداً من دون الله، فالذي يعبد الصنم إنما يعبد الله، والذي يعبد الشمس إنما يعبد الله، والذي يعبد الملائكة إنما يعبد الله، والذي يعبد الكلاب والخنازير إنما يعبد الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ومنه قول شاعرهم: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الرب إلا عابد في كنيسة فجعل كل معبود من دون الله إنما هو في الحقيقة يعبد الله، وهذا المعنى باطل، لكن الذين قالوا: لا معبود إلا الله ولم يقدروا (بحق) يقين أنهم لا يقصدون هذا القول، لكن لما كان يترتب على عدم التقدير معنى باطل احتجنا إلى تقدير (حق) فكلمة (حق) ضرورية لإخراج المعبودات من دون الله ولنفي ما يعتقده أهل وحدة الوجود من أن كل معبود في الأرض هو الله جل وعلا؛ لأن هؤلاء يعتقدون أن كل شيء تعبده أو كل شيء عبد من دون لله فهو على حق ولا تنكر على عبدة الأصنام ولا على عبدة الفروج ولا على عبدة الأحجار لأن هؤلاء إنما يعبدون الله عندهم، وهذا كذب وضلال وتحريف لدين رب العالمين. لكن ما الدليل من الكتاب على هذا التقرير، (لا إله حق) ؟ الدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج:6] وقوله تعالى {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] فكل هذا يدل على وجوب تقدير (حق) ؛ لأن ما عبد من دونه فإنما يعبد من غير حق وبدون استحقاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 اعتقاد أن الله قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء ثم قال رحمه الله: [قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء] . (قديم بلا ابتداء) أي: أنه جل وعلا لا بداية له، ولا أول له، فهو الأول الذي ليس قبله شيء. (دائم بلا انتهاء) : هذا فيه الخبر عن آخريته سبحانه وتعالى، وأنه ليس بعده شيء، وهذان الوصفان في كلام المؤلف رحمه الله مأخوذان من قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3] وهذان الاسمان للرب جل وعلا اللذان يتضمنان إثبات وصف الأولية والآخرية، ويفيدان معنى واحداً للرب جل وعلا، وهو الإحاطة الزمنية، فالله جل وعلا قد أحاط بكل شيء زمناً، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء جل وعلا، ولا ينافي هذا أن أهل الجنة يقال لهم: (خلود بلا موت) فإن خلودهم إنما هو بإعطاء الله جل وعلا وهبته ومنته، فليس خلودهم ذاتياً، بخلاف آخريته جل وعلا وبقائه، فإنه سبحانه وتعالى وصف له ذاتي ليس مكتسباً من شيء، وهذا معنى قول الله جل وعلا: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3] ، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حيث قال: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) . ثم اعلم أن قوله: (قديم بلا ابتداء) علق عليه بعض الشراح فقالوا: إنه لا يصح تسمية الله بالقديم، وإن ذكر القديم إنما هو على وجه الوصف، والحقيقة أن الكلام على ظاهره ليس في أسماء الله عز وجل القديم، ولكن كلام المؤلف ليس فيه ما نحتاج بسببه إلى هذا التحليل؛ لأنه لم يقل القديم، وإنما قال: (قديم بلا ابتداء) على وجه الخبر والتفسير لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأول) وقول الله عز وجل: {هُوَ الأَوَّلُ} [الحديد:3] فهو ترجمة وبيان لقوله صلى الله عليه وسلم: (الأول الذي ليس قبلك شيء) . وأما لفظ (القديم) فإنها عند أهل الكلام تقابل ما دل عليه من الكتاب والسنة من اسمه جل وعلا (الأول) ، فإن القديم عندهم هو الأول، ولذلك عندهم القديم: الذي لا بداية له، ويسمونه القدم الأزلي. والتعبير الذي في الكتاب والسنة أفضل، وما تكلم به الله جل وعلا وما جاء في السنة أكمل وأحسن فيما يتعلق بالخبر عنه، لكن من القواعد التي ينبغي لنا أن نفهمها فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته: أن الأسماء توقيفية، والصفات كذلك توقيفية إلا أنها أوسع من الأسماء. ثم بعد ذلك تأتي المرتبة الثالثة، وهي: ما يسمى بالإخبار عن الله سبحانه وتعالى، فالإخبار عنه جل وعلا أوسع من الصفات، فتخبر عنه فيما لم يأت ذكره في الكتاب والسنة، فتقول: يصنع الله كذا. وهذا لا بأس به؛ لأن الأخبار أمرها واسع، فتقول: هو قديم جل وعلا. وتقصد بالقديم: أنه المتقدم على غيره الذي ليس قبله شيء، لكن فيما يتعلق بالأسماء وبالصفات لابد من النص الدال على الاسم والصفات. فقوله: (قديم بلا ابتداء) هذا معنى ما ذكره الله عز وجل في اسمه الأول، كذلك: (دائم بلا انتهاء) أي: أنه لا نهاية له فهو الآخر جل وعلا الذي ليس بعده شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 اعتقاد البقاء الدائم لله تعالى واختصاصه بهذه الصفة ثم قال رحمه الله: [لا يفنى ولا يبيد] . الفناء: هو الهلاك. والبيد: هو الانقطاع والانتهاء. وهو قريب من معنى الفناء، فنفى المؤلف رحمه الله عن الله جل وعلا هذين الوصفين، ونفي هذين الوصفين دل عليه قول الله جل وعلا: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] فأثبت لنفسه سبحانه وتعالى الحياة، وهي البقاء الدائم، ثم قال: (الذي لا يموت) وهذه الصفة اختص الله جل وعلا بها دون غيره، فإن حياته حياة كاملة لا تنقضي ولا تنقطع، وأما ما عداه فإنه يهلك: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] وقد قال الله جل وعلا فيمن هم على الأرض: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27] فبقاء الله جل وعلا دائم بلا انتهاء، فقوله: (لا يفنى ولا يبيد) تأكيد لمعنى قوله (دائم بلا انتهاء) ، ويدل عليه قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] . ويدل عليه أيضاً التأكيد لهذين الوصفين في قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 اعتقاد الإرادة المطلقة لله تعالى ثم قال رحمه الله: [ولا يكون إلا ما يريد] هذا فيه إثبات الإرادة لله جل وعلا، والإرادة ثابتة له سبحانه وتعالى بالكتاب والسنة والإجماع والعقل، ولذلك فالإرادة من الصفات التي يثبتها من يعتمد العقل في إثبات الصفات، وهم مثبتة الصفات كالأشاعرة والماتريدية والكلابية، وعلى هذا فهي صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى في الكتاب والسنة والإجماع والعقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 الإرادة الشرعية واعلم أن الإرادة الثابتة لله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين: - إرادة دينية شرعية أمرية. - وإرادة كونية خلقية قدرية. يعني: تسمى إرادة أمرية وتسمى إرادة شرعية وتسمى إرادة دينية وهي شيء واحد، والمراد بالإرادة الدينية: كل ما أمر الله سبحانه وتعالى به عباده من الطاعات الواجبة والمستحبة يعني: كل المأمورات التي أمر الله بها جل وعلا على وجه التعبد، وهذا النوع من الإرادة يتعلق بمحبته ورضاه جل وعلا، فلا يأمر جل وعلا شرعاً إلا بما يحب، ولا يأمر شرعاً إلا بما يرضى. الوصف الثاني الذي تختص به هذه الإرادة: أنها فيما هو غير لازم للوقوع أي: قد يقع وقد لا يقع، فالإرادة الشرعية لا تستلزم الوقوع، فالله جل وعلا أراد من الخلق العبادة والدليل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فهل هذا تحقق من جميع الخلق؟ لم يتحقق من جميعهم ولو كان المراد هنا مراداً كوناً وقدراً لكان لابد أن يتحقق لكنه مراد ومحبوب له سبحانه وتعالى شرعاً فكان غير لازم الوقوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 الإرادة الكونية القسم الثاني من الإرادة: الإرادة الكونية الخلقية القدرية، وهذا هو الذي يصدر عنه كل ما يقع في الكون، فالإرادة القدرية الكونية هي مشيئة الله جل وعلا التي عنها يصدر كل شيء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقول: (ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن) هذا هو الإرادة الكونية، فكل ما وقع في الكون من خير أو شر، من بر أو معصية، مما يحب الإنسان أو يكره، مما يحب الله ويكرهه، مما يرضاه ومما لا يرضاه، كالإيمان والكفر والطاعة والمعصية والاستقامة والغي كل هذا داخل في الإرادة الكونية. عرفنا من هذا أن الإرادة الكونية تختلف عن الإرادة الشرعية في أنها لا تتعلق بالمحبة والرضا، الفرق الثاني: أن الإرادة الكونية لابد أن تقع، فما أراده الله كوناً لابد أن يقع ما فيه، لا محالة من وقوعه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ما شاء وجد وما لم يشأ لم يوجد، هذا الذي يميز الإرادة الكونية عن الإرادة الشرعية. واعلم أن هذا التفريق اليسير الذي دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة انطمس على كثير من أهل الكلام؛ فلم يميزوا بين نوعي الإرادة، بل الإرادة عندهم شيء واحد، فلا فرق عندهم بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، وهذا الانطماس في التفريق وعدم التمييز بين نوعي الإرادة أوقعهم في أنواع من الضلال فيما يتعلق بالقدر، وفيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأشياء كثيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 الأمثلة على الإرادة الشرعية والكونية ولنضرب مثالاً للإرادة الشرعية من كلام الله عز وجل: فمن أمثلة الإرادة الشرعية قول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] . هل الإرادة هنا شرعية أو كونية؟ شرعية: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:26] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28] . كل هذه إرادات شرعية غير لازمة الوقوع، قد لا يتوب الله عز وجل على بعض من عصى، إنما هو يريد التوبة إرادة شرعية يحبها ويرضاها، لكن قد لا تقع من العبد. مثال النوع الثاني من الإرادة، وهي الإرادة الكونية قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] . ومثاله أيضاً قول الله تعالى فيما ذكره عن نوح: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] . إرادة الإغواء هنا هل هي مما يحبه الله ويرضاه؟ لا. إنما هي من مقتضى حكمته جل وعلا، فهي من الإرادة الكونية والذين لا يفرقون بين نوعي الإرادة يجعلون جميع الإرادة متعلقة بالمحبة، فكل ما أراده الله سبحانه وتعالى فهو محبوب له، وكل ما وقع فهو محبوب له. وعلى هذا فإن الزنا محبوب له أعوذ بالله! لماذا؟! لأنه أراده ووقع، ولو لم يرده ويحبه لما وقع، ولكنهم ضلوا لعدم التمييز بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية، وهؤلاء الذين يقولون: إن كل ما يقع محبوب له وهم الجبرية الجهمية، يقابلهم القدرية الذين يقولون: إن الله جل وعلا لم يرد الزنا من الجاهلين، فهو واقع من غير إرادته جل وعلا، وهؤلاء كذبوا على الله جل وعلا، فإنه لا يقع شيء في الكون إلا بإرادته، فما من حركة ولا سكون ولا ذهاب ولا إياب ولا قيام ولا قعود إلا بإرادة الله جل وعلا ولا معصية ولا طاعة إلا بإرادته جل وعلا، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29] فكل ما في الكون هو بإرادته جل وعلا، لكن هؤلاء قالوا: إنه ليس مراداً لله؛ لأنه ليس محبوباً له، والله لا يريد إلا ما يحب، فأخرجوا المعاصي عن إرادة الله جل وعلا. ولذلك قال أحدهم كلمةً ظاهرها التعظيم لله عز وجل وباطنها التعطيل لصفة الإرادة فقال: سبحان من تنزه عن الفحشاء. فهذه كلمة جيدة، فلما فهمها العالم السلفي قال له: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء؛ لأن الأول مراده أن الزنا والسرقة وما يكون من المخالفات إنما هي واقعة من غير إرادة الله، ولذلك هو منزه عن إرادة الفحشاء، فرد عليه العالم السلفي فقال: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء. فأيهما أبلغ تعظيماً؟ اللفظ الثاني لا إشكال فيه؛ لأن فيه تمام الملك والتصرف من رب العالمين، وأنه لا يقع في ملكه إلا ما يشاء جل وعلا، وهو المطابق لقوله: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) . المهم أن هذه القضية الواضحة التي دل عليها الكتاب والسنة من أجلى ما يكون لمن سلم من الشبهات والخيارات الفاسدة، والظنون الكاذبة هي ملتبسة على أصحاب الأهواء من أهل الكلام، حيث جعلوا الإرادة بنوعيها نوعاً واحداً، ففسروا الإرادة بالمحبة، فما شاءه الله فهو محبوب له، وهذا يستوي فيه القدرية والجبرية، فالجبرية يوسعون ويقولون: كل ما وقع فهو محبوب له، ويقابلهم القدرية الذين يخرجون عن إرادة الله عز وجل المعاصي، فيقولون: المعاصي ليست مرادة له سبحانه وتعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 اعتقاد عجز الأفهام والخيالات عن إدراكه سبحانه وتعالى ثم قال رحمه الله: [لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام] (لا تبلغه) يعني: الأفكار والخيالات والظنون فمهما شد الإنسان ذهنه وأعمل فكره وأشغل عقله في التوصل لصفات الله عز وجل وما له من الكمال فإنه يعود منكسراً حقيراً لا يصل إلى شيء؛ لأنه جل وعلا ليس كمثله شيء، فإذا كان ليس كمثله شيء فمهما وقع في باله أو خطر في ذهنه أو دار في خاطره فليعلم أن الله ليس كذلك؛ لأنه جل وعلا ليس كمثله شيء، والعباد لا يمكن أن يحيطوا بصفة من صفاته فكيف به جل وعلا؟! قال الله جل وعلا في صفة العلم وهي من صفاته: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255] هذا في صفة من صفاته بجزء يسير من علمه فكيف به؟! فنفى جل وعلا الإحاطة به بصفة من صفاته، ونفى الإحاطة به فقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] . ثم اعلم أن الله جل وعلا لكماله وعظيم ما يتصف به لا يدركه الإنسان حتى لو نظر إليه، نسأل الله أن نكون من الناظرين إليه سبحانه، فإنه إذا نظر الإنسان إلى ربه يوم القيامة فهذا النظر لا يحصل به الإدراك، كما قال جل وعلا: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] بل إن هذه السماوات لو أراد الإنسان أن يحيط بها لما استطاع، ولذلك قال الله جل وعلا: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4] فلا يمكن أن يدرك عظم هذا الخلق العظيم، والبناء الكبير، وهو مخلوق من مخلوقات الله جل وعلا فكيف به سبحانه وتعالى، فهو جل وعلا لا تبلغه الأوهام. ولذلك ينبغي للمؤمن أن يقطع الوساوس، وأن يقطع الطريق على الشيطان، بأن يذكر قول الله جل وعلا إذا ورد عليه خاطر أو ما أشبه ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ليريح باله، ويهنئ فؤاده، ويطمئن قلبه، ويسلم من كثير مما يصطلي به أصحاب الوساوس والأفكار. قال: (ولا تدركه الإفهام) أي: لا تحيط به الأفهام، وهذا مستفاد من الآيات التي ذكرناها في قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] ومن قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255] ومن قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103] . كيف نستدل بقول (لا تدركه الأبصار) على أنه لا تدركه الأفهام؟ نقول: إن قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) يدل على صحة قوله (لا تدركه الأفهام) ؛ لأنه إذا كان إدراك البصر مع سهولته ويسر حصول المطلوب من طريقه لا يحصل فيما يتعلق بالله عز وجل وصفاته، فكيف بما هو أصعب وهو إدراك الأفهام. فإذا كان لا تدركه الأبصار مع سهولة إدراك البصر فإدراك الأفهام من باب أولى. هذا وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 شرح العقيدة الطحاوية [3] الله سبحانه وتعالى متصف بصفات الكمال والجمال والعظمة، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، له الأسماء الحسنى المتضمنة للصفات العلى، وصفاته عز وجل صفات ذاتية قديمة، وصفات فعلية يثبت في آحادها الحدوث لتعلقها بمشيئته سبحانه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 الفرق بين مصطلح المماثلة والمشابهة فيما يتعلق باعتقاد أن الله ليس كمثله شيء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فقال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يشبه الأنام، حي لا يموت، قيوم لا ينام، خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة] . تصح مئونة أو مؤنة، لكن المشهور عند مشايخنا مئونة. [خالق بلا حاجة، رازق بلا مئونة، مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة، ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئاً، لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً، ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداث البرية استفاد اسم الباري، له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق، وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم، ذلك بأنه على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء] . قوله رحمه الله: (ولا يشبه الأنام) ، هذا فيه ما تقدم في قوله: (لا شيء مثله) ، وقد تقدم الكلام على نفي المثلية لله سبحانه وتعالى، وأنه جل وعلا ليس كمثله شيء، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والعقل. فإن الله سبحانه وتعالى لا مثيل له في ذاته، ولا مثيل له في أسمائه وصفاته، ولا مثيل له في أفعاله، ولا مثيل له فيما يجب له. فقول المؤلف رحمه الله هنا: (لا يشبه الأنام) تكرار لما تقدم، وهذا من المواضع التي كرر فيها المؤلف رحمه الله القول، وسيأتي أيضاً مزيد تكرير لهذا الأمر. وقوله: (الأنام) المراد بهم الخلق، (لا يشبه الأنام) فهو سبحانه وتعالى ليس بينه وبين خلقه مشابهة، فالمنفي هنا هو المشابهة. وإذا نظرنا إلى نصوص الكتاب والسنة لم نجد فيهما ما يدل على نفي المشابهة، إنما الذي في الكتاب والسنة هو نفي المثلية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، ولذلك ذهب جماعة من المحققين من أهل العلم: إلى أن الذي ينفى عن الله عز وجل هو المثل لا الشبيه؛ وذلك أنه جل وعلا أخبرنا بصفات عن نفسه، وهذه الصفات نحن لا ندرك كيفيتها، وإنما نعقل معناها ونفهم معناها لما أدركناه في المشاهدة مما هو شبيه لها، والمشابهة ليست في الصفة التي اتصف بها الله جل وعلا، بل هي في أصل الصفة. فمثلاً: العلم ندرك معناه، فالعلم ضد الجهل، وقد وصف الله جل وعلا نفسه بالعلم، ونحن ندرك أن العلم الذي يتصف به المخلوق هو ضد الجهل، فبين العلم الموصوف به الرب جل وعلا والعلم الموصوف به العبد مشابهة من حيث أصل المعنى وهو عدم الجهل، ولكن هل علم الله عز وجل كعلم المخلوق؟ لا، لا إشكال أن علم الله جل وعلا ليس كمثله شيء كسائر صفاته سبحانه وتعالى، فثبوت أصل المشابهة لا يعارض نفي المثلية، وإنما ذكر المؤلف رحمه الله وغيره من أهل السنة نفي المشابهة؛ لأن نفي المشابهة في اصطلاح المتكلمين يوازي ويعني نفي المماثلة، فعندهم لا يشبه الأنام أو ليس له شبيه مرادهم بذلك أنه ليس له مثيل، مع أن بعضهم يستعمل هذا في نفي كل الصفات فيقول: (لا يشبه الأنام) ومعنى هذا: أنه ما أخبر به عن نفسه سبحانه وتعالى من الأوصاف لا نعقله، فيستعملون هذا لنفي الصفات المتقررة التي يثبتها أهل السنة والجماعة، والصحيح في النفي أن ننفي المماثلة، أما المشابهة فإننا إذا نفيناها بالكلية يلزم من ذلك أننا لا نعقل ما أخبر الله به عن نفسه، فلا نعقل معنى العلم؛ لأنه لا يوجد مشابهة، ولا نعقل معنى الحلم؛ لأنه لا يوجد مشابهة، ولا نعقل معنى البصر والسمع والكلام وما إلى ذلك مما وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه، إذا كان المنفي هو أدنى مشابهة فإنه يتعذر علينا فهم ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه؛ ولذلك تحرير القول في نفي المشابهة أن نقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، وأما المشابهة فلابد منها بين كل شيئين، ولكن المشابهة لا تستلزم إثبات النقص لله عز وجل، أو إثبات الصفة للمخلوق كصفة الخالق، أو جعل صفة الخالق كصفة المخلوق؛ ولذلك الأحسن في النفي أن نقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] . وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين كتب عقيدة الواسطية تحرى ألا يكون فيها إلا ما جاء النص عليه في كتاب الله عز وجل أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولما أراد نفي المماثلة لم يستعمل نفي المشابهة، بل استعمل النص القرآني فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] . وقال أيضاً في النفي: من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ولم يقل: تشبيه، فلم يذكر المشابهة؛ لأن المشابهة لفظ مجمل قد يتوصل به إلى نفي أصل الصفات التي يثبتها أهل السنة والجماعة. والمراد: أن الله جل وعلا لما كان الغاية في الكمال فإنه جل وعلا لا مثيل له ولا نظير ولا سمي ولا كفء لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا فيما يجب له سبحانه وتعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 اعتقاد الحياة الكاملة والقيومية لله سبحانه وتعالى ثم قال المؤلف رحمه الله: [حي لا يموت] . وهذا دليله قول الله عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ، وهو معنى قول المؤلف رحمه الله: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء) ، فإن حياته جل وعلا لا مبدأ لها، ولا منتهى لها، بل هو الحي القيوم جل وعلا، فهو حي حياة كاملة؛ ولذلك أكد المؤلف رحمه الله هذا المعنى بقوله: (لا يموت) ، وقد استفاد ذلك من كتاب الله عز وجل في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ، مع أن إثبات الحياة يكفي فيه قوله تعالى: {الْحَيِّ} [الفرقان:58] لكن قال: (لا يموت) لأجل أي شيء؟ لأجل أن ينفي كل نقص عن هذه الحياة، فإن حياته سبحانه وتعالى لا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه، بل هي الحياة التامة الكاملة الدائمة الباقية التي لا انتهاء لها ولا نقص، وهذا فائدة النفي في قوله: (الذي لا يموت) فإن وصف الله عز وجل بالنفي هنا في قوله (الذي لا يموت) مقصوده إثبات كمال الصفة، وهي صفة الحياة. ونظير هذا قول الله جل وعلا في أعظم آية من كتابه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] ، ثم أكد كمال الحياة وكمال القيومية بقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ؛ لكمال حياته وقيوميته سبحانه وتعالى. ثم قال المؤلف: [قيوم لا ينام] (قيوم) هذا من أسمائه ومن صفاته جل وعلا، فمن أسمائه القيوم، ومن أوصافه القيومية، ومعنى القيوم أنه جل وعلا قائم بنفسه، فلا حاجة به إلى خلقه، وهو جل وعلا مقيم لخلقه، فكل أحد محتاج إليه، فهو الصمد الذي لا تستغني عنه الخلائق، وليس به الحاجة، ولا غنى عنه سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] . فمعنى القيوم: أنه القائم بنفسه فلا حاجة به إلى غيره، وأنه جل وعلا المقيم لغيره، فكل أحد قيامه بإقامة الله عز وجل، فالسماوات والأرض إنما تقوم بإقامة الله عز وجل، كما قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] يعني: لا يمسكهما أحد من بعده إن رفع إمساكه لهما. والقيومية يصدر عنها كل فعل لله جل وعلا، ولذلك كان اسم الحي واسم القيوم يرجع إليهما جميع معاني أسماء الله وصفاته، فالحياة تستلزم كل وصف كمال من أوصاف الذات، والقيومية تستلزم كل وصف كمال من أوصاف الفعل؛ ولذلك قيل: إن الاسم الأعظم هو الحي القيوم، وهذا من أسباب كون آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله عز وجل؛ لكونها احتوت على هذين الاسمين اللذين إليهما ترجع أوصاف الكمال وأسماء الله الحسنى. قال ابن القيم رحمه الله: وله الحياة كمالها فلأجل ذا ما للممات عليه من سلطان وكذلك القيوم من أوصافه ما للمنام لديه من غشيان وكذاك أوصاف الكمال جميعها ثبتت له ومدارها الوصفان قال: (ومدارها الوصفان) أي: وجميع صفات الكمال هذه ترجع إلى هذين المعنيين أنه الحي القيوم جل وعلا، وهذا هو السر في كون هذين الاسمين يمثلان الاسم الأعظم لله جل وعلا، بل قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن اسم الحي وصفة الحياة التي أثبتها الله لنفسه يدل بالالتزام على جميع أسماء الله عز وجل وصفاته، فناسب أن يبدأ المؤلف رحمه الله ذكر الصفات بهذين الاسمين العظيمين اللذين يرجع إليهما كل اسم من أسماء الله الحسنى، وكل وصف من أوصافه العلى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 اعتقاد أن الله يخلق الخلق بلا حاجة إليهم ويرزقهم بلا تعب أو مشقة ثم قال: [خالق بلا حاجة] فأثبت صفة الخلق لله جل وعلا، ونفى في هذه الصفة أن يكون الخلق عن حاجة؛ لأن من يخلق ومن يصنع قد يكون سبب خلقه وصناعته حاجته إلى ما يخلق، فإذا احتاج إلى شيء خلقه، كما أن الإنسان إذا احتاج إلى قلم صنعه، وإذا احتاج إلى بيت بناه وعمره، وإذا احتاج إلى مركب سواه وركبه، وهلم جراً، إلا أن الله جل وعلا خالق بلا حاجة. وهذا قد أشار الله جل وعلا إليه في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} [الذاريات:56-57] ، فذكر الخلق والغاية منه ثم نفى أن يكون هذا الخلق للحاجة {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57-58] . فخلقه ناشئ عن شدة قوته، وكمال غناه جل وعلا، لا عن حاجته إلى خلقه، والخلق من صفات الله عز وجل العظيمة، وهي تعني: الإبداع والإيجاد والتكوين، ومعنى الخالق: المبدع الموجد المكون سبحانه وتعالى. ثم قال: [رازق بلا مئونة] أي: أنه جل وعلا يرزق عباده، ورزقه جل وعلا لا يكلفه ولا يتعبه ولا يشق عليه، بل رزقه للواحد كرزقه للخلق، ليس فيه كلفة، ويدل على ذلك قول الله جل وعلا لما ذكر ملكه عز وجل للسماوات: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] أي: لا يكلفه ولا يثقله ولا يتعبه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما؛ لأن الحفظ ليس فقط لجرم السماء وجرم الأرض، بل حفظه جل وعلا لمن في السماء ومن في الأرض. ومن تمام الحفظ الرزق فإنه لا يقوم الحفظ إلا بالرزق؛ فلذلك كان جل وعلا رازقاً بلا مئونة، ويدل على ذلك أيضاً ما في الصحيح من حديث أبي ذر أن النبي صل الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منهم مسألته لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً) ، فملك الله جل وعلا لا ينفد، ولا ينقصه سؤال السائل، ولا إعطاء الداعي، فهو جل وعلا رازق بلا مئونة، أي: بلا كلفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 اعتقاد أن الله مميت لخلقه دون خشية منازعتهم له، باعث لهم بعد ذلك دون مشقة ثم قال: [مميت بلا مخافة] لما ذكر الخلق جل وعلا ذكر الإماتة، وذلك أن من تمام الإيمان بالله عز وجل أن يؤمن العبد بأنه المحيي، المميت، الخالق، الباعث. قال رحمه الله: (مميت بلا مخافة) أي: أنه سبحانه وتعالى قضى بالموت على كل حي، وأذل به قوة الأقوياء جل وعلا، فإنه سبحانه وتعالى كتب الموت على كل خلقه، فلا أحد من خلقه من الناس سالم من الموت، بل قد جعل الله جل وعلا الموت لكل نفس: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] ، لكن هذا الموت ليس عن خوف من منازعة المخلوق بل هو من تمام قدرته وقوته، واقتداره على خلقه؛ لأن الإنسان قد يميت شخصاً مخافة أن ينازعه في الملك، أو أن ينزع منه شيئاً مما هو له من الصفات أو من الملك أو من غير ذلك، فالله جل وعلا مميت بلا مخافة، وهذه الصفات لله عز وجل بعضها يستفاد من الاسم كما دل عليه الكتاب والسنة في مثل الخالق، فقد جاء هذا الاسم لله عز وجل، وكذلك الرازق {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] ، أما المميت فإنه لم يثبت تسمية الله تعالى به في الكتاب ولا في السنة، فليس من أسمائه سبحانه وتعالى، وجاء ذلك في حديث أبي هريرة الذي فيه ذكر الأسماء لكنه لم يثبت، والحديث معلوم أنه لا يصح عند أئمة الحديث والعلماء بهذا الشأن. يقول رحمه الله: [باعث بلا مشقة] ، بعد أن ذكر الإماتة ذكر البعث؛ وذلك أنه من تمام الإيمان بربوبية الله جل وعلا الإيمان بأنه باعث يبعث الخلق، والبعث: هو الإحياء بعد الإماتة، وهذا عام لكل من فيه حياة، فإن كل من فيه حياة يبعثه الله جل وعلا، ويحشره يوم القيامة ويبعثه بلا مشقة، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] ، وكما قال سبحانه وتعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] ، وهذا يدل على سهولته ويسره على رب العالمين، وأنه جل وعلا لا مشقة عليه في الخلق، قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] ، فلا مشقة في بعث الخلق كلهم، إنسهم وجنهم، دوابهم وطيورهم، ما في البحر وما في البر، كلهم يبعثهم الله عز وجل، ثم يحشرهم يوم القيامة، كل أمة تأتي في موقف عظيم مهول تشيب له رءوس الولدان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 اعتقاد أن صفات الله الذاتية قديمة ثم قال بعد أن قرر البعث: [ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه] . هذا فيه الرد على معطلي الصفات من الجهمية والمعتزلة، فإن المؤلف رحمه الله أبطل بعض الشبه الكبار التي يعتمدها الجهمية والمعتزلة في إنكار الصفات. واعلم -بارك الله فيك- أن صفات الله جل وعلا تنقسم إلى قسمين: صفات ذاتية، وصفات فعلية، أي: صفات ذات، وصفات فعل. القسم الأول: صفات الذات: وهي التي لم يزل ولا يزال سبحانه وتعالى متصف بها، فهو متصف بها في الأزل والأبد كصفة الحياة، فهو الحي جل وعلا أزلاً وأبداً، وكصفة العلم، وكصفة القيومية، وغير ذلك من صفات الذات، فهو سبحانه وتعالى متصف بها أزلاً وأبداً. القسم الثاني من الصفات: صفات الفعل، أو الصفات الفعلية: وهذا النوع من الصفات يفارق النوع السابق في أن الله جل وعلا متصف بها إذا شاء، فهي صفات متعلقة بمشيئته سبحانه وتعالى، ومثال ذلك: الإحياء والإماتة، والاستواء، فهذه من صفات الفعل؛ لأنه لما شاء أن يستوي استوى جل وعلا. ومنها أيضاً النزول، فكل صفات الفعل يسميها بعض العلماء الصفات الاختيارية للدلالة على أنها معلقة بالمشيئة والاختيار، إذا شاء اتصف بها وإذا شاء لم يتصف بها. والنوع الأول من حيث اتصاف الله جل وعلا بها في الأزل ليس فيه إشكال، فالله حي قيوم سميع بصير عليم أزلاً وأبداً، فقول المؤلف رحمه الله: (ما زال بصفاته قديماً) المراد بذلك: صفات الذات، ولا إشكال أن صفات الذات داخلة في هذا؛ لأنه لم يزل متصفاً بهذه الصفات، فهو الحي ولا أولية لحياته، وهو الأول الذي ليس قبله شيء سبحانه وتعالى، وكذلك العلم، وكذلك السمع، والبصر، والإرادة، كل هذه من الصفات الذاتية التي اتصف بها سبحانه وتعالى منه الأزل، فهي قديمة، والمراد بالقديم هنا: أنها لا أول لها، فقوله: (ما زال بصفاته قديماً) ، دخل في هذا صفات الذات. وهل صفات الفعل قديمة؟ هي قديمة من حيث الجنس، ومعنى قديمة: أنه لا أول لها، يدل على ذلك قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] ، ويدل على ذلك أيضاً أنه جل وعلا القيوم وهو موصوف بهذا أزلاً وأبداً، لكن أفراد الصفات الفعلية الاختيارية حادثة بعد أن لم تكن، فعندنا في صفات الفعل جنس الأفعال وهذا قديم ليس قبله شيء، أما أفراد الأفعال وآحاد الأفعال فهذه حادثة بعد أن لم تكن. استواء الله جل وعلا على العرش هل هو من الأزل أم أنه جرى وحدث بعد أن لم يكن؟ حدث بعد أن لم يكن، فإنه جل وعلا بعد خلق السماوات والأرض استوى على العرش، وقبل ذلك لم يكن مستوياً على العرش، لكن من حيث فعل الله جل وعلا هل هو حادث أم قديم؟ جنس الفعل وأصل الفعل قديم فإنه جل وعلا فعال لما يريد، وهذا وصف لا يتقيد بزمن، بل هو جل وعلا فعال لما يريد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 اعتقاد أن الله اتصف بصفات الخالق والبارئ وغيرها من صفات الكمال قبل أن يخلق الخلق ويحدثهم قال المؤلف رحمه الله: [مازال بصفاته قديماً قبل خلقه] يعني: قبل أن يخلق خلقه [لم يزدد بكونهم شيئاً] أي: بخلقهم وإيجادهم ورزقهم وإمدادهم وإحيائهم وإماتتهم، لم يزدد بهذه الأفعال وهذه الأوصاف شيئاً [لم يكن قبلهم من صفته] ، بل هو سبحانه وتعالى الموصوف بصفات الكمال أزلاً قبل كل شيء. الآن فرغ المؤلف من تقرير أن الله جل وعلا متصف بهذه الصفات أزلاً، ومعنى الأزل: الذي لا أول له، قال: [وكما كان بصفاته أزلياً] أي: أنه لا أول لصفاته، [كذلك لا يزال عليها أبدياً] أي: أنه لا آخر لهذه الصفات، بل هي ممتدة؛ لأنه الآخر، وهذا الوصف للذات، فهو الآخر جل وعلا ليس بعده شيء. ثم قال في تقرير المعنى وتوضيحه وتبيينه: [ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق] ، بل هو الخالق قبل أن يخلق الخلق جل وعلا [ولا بإحداث البرية استفاد اسم الباري] ، والبرية: هم الخلق، وهو جل وعلا الموصوف والمتسمي بهذا الاسم قبل أن يخلق الخلق سبحانه وتعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ} [الحشر:24] أزلاً وأبداً، فليس بعد أن خلق البرية وأوجدهم استفاد اسم الباري، والخالق والباري اسمان من أسماء الله عز وجل دل عليهما الكتاب في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ} [الحشر:24] والفرق بين الخالق والبارئ: أن الخالق الموجد، والبارئ المبدع، وقيل في الفرق: إن الخالق هو المقدر، والبارئ هو الموجد لهذا التقدير، ومعناهما متقارب. ثم قال: [له معنى الربوبية ولا مربوب] أي: أن الله سبحانه وتعالى متصف بأنه الرب ولا مربوب؛ لأنه بصفاته قديم، وهو الأول الذي ليس قبله شيء، [ومعنى الخالق ولا مخلوق] أي: أنه جل وعلا موصوف بأنه الخالق ولا مخلوق وهذا تكرار لقوله [ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق] . ثم قال في الاستدلال لصحة هذا التقرير: [وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا؛ استحق هذا الاسم قبل أحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم] . يقول المؤلف رحمه الله في الاستدلال لكونه سبحانه وتعالى بصفاته قديماً قبل أن يخلق الخلق: كما أنه محيي الموتى، والموتى لم يحصل لهم بعد الإحياء العام، وإنما يكون بعد قيام الساعة {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ، فإذا نفخ في الصور بعث الله عز وجل الخلق وأحياهم، هل هذا موجود أو ليس بموجود؟ لم يوجد بعد، ومع هذا يوصف الله جل وعلا بأنه محيي الموتى. يقول المؤلف رحمه الله: [فكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا] يعني: كما أنه متحقق بهذا الوصف بعد إحيائه يوم القيامة لخلقه وهو استحق هذا الاسم قبل إحيائهم يعني: استحقه في الدنيا قبل أن يحصل الأحياء؛ كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم، وهذا دليل واضح يبين بأن الله جل وعلا موصوف بصفات الكمال أزلاً، وأنه سبحانه وتعالى لم يحدث له شيء من الصفات بعد أن لم يكن، والمقصود صفات الذات، وجنس صفات الفعل. وفي هذا الموضع يبحث بعض العلماء مسألة تسلسل الحوادث، وهي مسألة لا خير في بحثها إلا على وجه الرد على أهل الشبه الذين يريدون إبطال ما دلت عليه النصوص من أن الله جل وعلا موصوف بصفات الكمال أزلاً وأبداً، والنظر في هذه المسألة لا يزيد به الإيمان ولا يزداد به العلم، وإنما اضطر إليه أهل السنة والجماعة في الرد على المبتدعة الذين تكلموا بهذه الأمور. ولذلك ينبغي لطالب العلم -لاسيما المبتدئ- ألا يشتغل بهذه المسائل؛ لأنه مما يحصر عنه فكره، ويضيق عنه فهمه، وقد يورثه شبهاً لا ينفك منها، لكن ينبغي له أن يؤمن بأن الله هو الأول الآخر الظاهر الباطن، وأنه فعال لما يريد جل وعلا، وأنه موصوف بصفات الكمال أزلاً وأبداً، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ثم إذا احتاج الرد على المبتدعة في شبهة شبة من الشبه أو قول من الأقوال فلا بأس، عند ذلك يطلب ويستعين بالله عز وجل وينظر في جواب هذه الشبه، أما أن يطلب ذلك ويقرأه ويصرف فيه الوقت وهو لم يُبتلى به فهذا من تفويت ما هو أهم من العلم؛ لأن العلم كثير والإنسان إذا اشتغل بفضول العلم وحواشيه صرفه ذلك عن أصوله ومقاصده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 الرد على شبهة الجهمية في قولهم: إثبات الصفات يلزم منه تعدد الذات الشبه التي رد عليها الشيخ رحمه الله بهذا الكلام هي مسألة ما يدعيه الجهمية من أنه يلزم من إثبات الصفات تعدد القدماء، وهذه الشبهة الكبيرة عند أهل الكلام يجعلونها سيفاً مسلطاً على النصوص؛ لإبطال ما دلت عليه من اتصاف الله عز وجل بصفات الكمال، يقولون: إذا كان الله جل وعلا موصوفاً بالعلم وبالحياة وبالقدرة وبالكلام وبالسمع وهو قديم وصفاته قديمة، إذاً هذا يفيد تعدد القدماء، وإذا أصبح عندنا عدة قدماء فهذا يدل على أن الله ليس موصوفاً بهذه الصفات. ونقول لهم: إن الله جل وعلا قديم بصفاته، وليس هذا من تعدد القدماء، وليس فيه أن غير الله جل وعلا يشاركه في أنه الأول الذي ليس قبله شيء؛ لأن الله جل وعلا هو بصفاته قديم؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله في إبطال هذه الشبهة: [مازال -أي: الرب جل وعلا- بصفاته قديماً قبل خلقه] ، فجعل القدم له بصفاته التي هو متصف بها سبحانه وتعالى وهي له. وهذه شبهة باطلة ناقشها شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع عديدة، ومن هذه المواضع كتاب درء تعارض العقل والنقل، فقد أبطلها وبين عوارها. أيضاً: مما يرد به على المعتزلة وغيرهم من الجهمية من خلال هذا الكلام: ما يذكرونه من أن إثبات الصفات يقتضي حلول الحوادث، والله جل وعلا لا تحله الحوادث؛ ولذلك هم يقولون: لا تحله الحوادث، أي: أنه لا تقوم به الصفات الاختيارية، وهذه من أكبر الشبه التي يستندون إليها أيضاً في إبطال الصفات، فبيّن المؤلف رحمه الله بأن الله موصوف بصفات الكمال أزلاً وأبداً، وأنه سبحانه وتعالى لا يلزمه النقل بهذا بوجه من الوجوه، وعلل المؤلف رحمه الله ما تقدم من قوله: [ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئاً، لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً] علل ذلك بقوله: [ذلك بأنه على كل شيء قدير] ، فهذه الجملة كالتعليل لما تقدم من التقرير. فالمشار إليه في قوله: (ذلك) قول المؤلف رحمه الله: (ما زال بصفاته قديماً) ، ذا: اسم إشارة، والمشار إليه قوله: (ما زال بصفاته قديماً) ، (ذلك بأنه على كل شيء قدير) ، فاتصاف الله سبحانه وتعالى بهذه الصفات العظيمة، وأنه موصوف بها أزلاً وأبداً؛ ذلك بأنه جل وعلا على كل شيء قدير، قال الله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] ، وهذا يعم كل شيء، فالله جل وعلا على كل شيء قدير، لكنه سيأتي الكلام فيما يخرج من هذا العموم كإخراج الممتنعات، فإنها لا تدخل في هذا، إنما الذي يدخل فيه الممكنات فإنه عليها جل وعلا قدير، أما الممتنع فلا يدخل في هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 اعتقاد أن كل شيء فقير إلى الله ويسير عليه وهو غني عما سواه ثم قال رحمه الله: [وكل شيء إليه فقير] كل شيء من خلقه إليه فقير محتاج إلى ربه سبحانه وتعالى، لا غنى به عنه جل وعلا، ويدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر:15] ، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] فهذا يدل على أن خلقه محتاجون إليه، ويدل عليه أيضاً قوله: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] فإن حفظ السماوات والأرض ومن فيهما لا يقوم إلا بالله جل وعلا، ويدل عليه أيضاً اسم القيوم، فإنه مقيم لكل نفس، ومقيم لكل شيء، لا قيام لشيء إلا به سبحانه وتعالى. ثم قال: [وكل أمر عليه يسير] من تمام قدرته جل وعلا أنه لا يصعب عليه شيء، ولا يمتنع عليه شيء، أي: لا يرده شيء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، وكما قال سبحانه وتعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] ، فهذا يدل على عظمة هذا الرب جل وعلا وعلى عظيم قدرته. ثم قال: [لا يحتاج إلى شيء] وهذا لكمال غناه سبحانه وتعالى، فهو الغني الحميد، والعباد هم المحتاجون إليه، وهم المفتقرون إليه، أما الله جل وعلا فهو الغني الحميد، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 شرح العقيدة الطحاوية [4] الله سبحانه وسع كل شيء علماً، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء فضلاً، ويضل من يشاء عدلاً، وقد خالف هذا المعتقد القدرية والمعتزلة من جهة قولهم بأن العبد يخلق فعله، والجبرية حيث عطلوا الأمر والنهي احتجاجاً بالقدر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 الكلام على قوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال رحمه الله تعالى: [لا يحتاج إلى شيء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله، وهو متعالٍ عن الأضداد والأنداد. لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره. آمنّا بذلك كله، وأيقنّا أن كلاً من عنده] . قال المؤلف رحمه الله تعالى: ( {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ) هذه آية من كتاب الله عز وجل جعلها المؤلف رحمه الله ضمن ما قرره من عقيدة أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية المنصورة، وقد تقدم الكلام على نفي المثلية عن الله جل وعلا في موضعين مما تقدم من كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (لا شيء مثله) وفي قوله: (ولا يشبه الأنام) ، ثم قال: ( {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ) ولعل المؤلف رحمه الله أراد بهذه الآية بيان إثبات الصفات، أو لعل المؤلف رحمه الله أراد بهذه الآية الرد على من ضل في باب الأسماء والصفات، وليس مقصوده تقرير نفي المثلية؛ لأن نفي المثلية تقدم في قوله: (لا شيء مثله) ، (ولا يشبه الأنام) ، لكنه ساق هذا ليرد على طائفتين ضالتين وفريقين منحرفين عن صراط الله المستقيم، وعن مذهب أهل السنة والجماعة وعقيدة الفرقة الناجية المنصورة؛ وهم أهل التعطيل وأهل التمثيل، فإن هذه الآية ردت على جميع البدع الواقعة في باب أسماء الله وصفاته، وعلى اختصار هذه الآية ووجازة لفظها وقلة كلماتها إلا أنها سدت أبواب الضلال فيما يتعلق بالأسماء والصفات، قال الله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وهذا رد على أهل التمثيل الذين يثبتون لله عز وجل مثيلاً ونظيراً وسمياً وكفؤاً في أسمائه أو صفاته أو أفعاله أو ما يجب له. وفي قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد على أهل التعطيل الذين عطلوا صفات الله جل وعلا، فأهل التعطيل عطلوا الله عن صفاته وأخلوه منها إما على وجه الكلية، أو تعطيلاً جزئياً. والمقصود: أن هذه الآية ردت على هاتين الفرقتين. ولو قلنا: ما هي أبواب الضلال في أسماء الله وصفاته؟ فإن الجواب على ذلك: إن جميع البدع في هذا الباب ترجع إلى بدعتين: بدعة أهل التمثيل، وبدعة أهل التعطيل، والممثلة والمعطلة يصلون إلى التمثيل والتعطيل من طريقين: أما الممثلة فيصلون إلى التمثيل عن طريق التكييف، فيطلبون كيفية ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن صفاته؛ ولذلك كان من عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، فنفي التمثيل هو نفي الغاية والمنتهى والمقصد، ونفي التكييف هو نفي للطريقة والواسطة التي يتوصل بها المبتدعة إلى التمثيل. وكذلك من عقيدتهم: أنهم لا يعطلون الله جل وعلا عن صفاته بل يثبتون له ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من غير تعطيل، ومن لوازم نفي التعطيل نفي الطريق الموصل إليه، وهو التحريف الذي يسميه أهله تأويلاً؛ ولذلك كان من العقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات الصفات من غير تحريف ولا تعطيل، فنفي التحريف هو نفي للطريق الموصل إلى التعطيل، ونفي التعطيل هو نفي للغاية والمقصد الذي ينتهي إليه طريق هؤلاء وهم القسم الثاني من أقسام المبتدعة في باب أسماء الله وصفاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . ولما كانت هذه الآية متضمنة لهذين المعنيين من إثبات كمال الصفات، ونفي مماثله المخلوقين؛ ضاقت بها صدور نفاة الصفات، حتى إن أحدهم اقترح على المأمون أن يبدل قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] بقوله: (وهو العزيز الحكيم) فقال له: أزل من ستار الكعبة قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فاكتب: (ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم) حتى ينفي إثبات هاتين الصفتين اللتين يظن أن إثباتهما يقتضي إثبات المماثلة للمخلوق، تعالى الله عما يقول علواً كبيراً، فالله جل وعلا كلامه حق: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، بل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وهذا فيه نفي المماثلة، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وهذا فيه إثبات كمال الصفات للرب جل وعلا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 إثبات صفة العلم لله عز وجل بعد أن فرغ المؤلف رحمه الله من تقرير ما يتعلق بصفات الرب سبحانه وتعالى انتقل إلى تقرير أمر من أصول الدين، وهو من أصول الإيمان، وهو ما يتعلق بالقضاء والقدر فقال رحمه الله: [خلق الخلق بعلمه] . الخلق: هو الإيجاد والإبداع والإنشاء، خلق الخلق وهو الخالق جل وعلا لكل شيء، كما تقدم ذكر ذلك في كلام المؤلف رحمه الله حيث قال: (خالق بلا حاجة) ، فالله جل وعلا خالق بلا حاجة، خلق كل شيء جل وعلا، فكل شيء مخلوق للرب سبحانه وتعالى، وليس مراد المؤلف رحمه الله في هذه العبارة إثبات الخلق، فإنه قد تقدم ذكره، إنما مراد المؤلف بهذه العبارة أن يقرر أنه سبحانه وتعالى خلق الخلق وهو عالم بهم، ولاشك أنه لا يمكن أن تثبت صفة الخلق لله عز وجل إلا بالعلم؛ لأنه لا يمكن أن يكون خالقاً إلا من كان عالماً، ولذلك قال رحمه الله: (خلق الخلق بعلمه) والباء هنا للملابسة والمصاحبة وهي التي تفيد المعية، يعني: خلق الخلق حال كونه عالماً بهم سبحانه وتعالى، فالباء هنا للمصاحبة، ومعنى المصاحبة أنها تفيد المعية، يعني: خلق الخلق مع علمه بهم أو عالماً بهم، فإما إن تقدر مع أو أن تقدر حالاً حتى يتبين معنى الملابسة والمصاحبة. (خلق الخلق بعلمه) ، ولا شك في ذلك، وقد قرر الله سبحانه وتعالى علمه بكل شيء، فعلم الله جل وعلا متعلق بكل شيء، فهو بكل شيء عليم سبحانه وتعالى. والعلم هو من أوسع الصفات تعلقاً، بل هو متعلق بكل شيء، فهو متعلق بالماضي وبالحاضر وبالمستقبل؛ متعلق بالممكن، ومتعلق بالواجب، ومتعلق بالممتنع، فهو من أوسع الصفات تعلقاً؛ ولذلك لا تخصيص في قوله تعالى {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات:16] ؛ لأنه يتعلق بكل شيء، حتى إنه يتعلق بالمعدوم، ويتعلق بالممتنع أي: الذي لا يكون، ومثال تعلقه بالممتنع قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] هل يمكن أن يوجد آلهة حق غير الله؟ الجواب لا، ومع ذلك قال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] ، فأخبر بما سيكون لو كان هناك آلهة، ومما يدل على تعلق العلم بالممتنع قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] . والرد بعد الموت هل هو ممكن أو ممتنع؟ ممتنع، وهل هو ممتنع لعدم القدرة عليه أو لحكمة رب العالمين؟ لحكمته جل وعلا، فإنه يمتنع أن يرد الناس بعد موتهم، ومع ذلك أخبر سبحانه وتعالى بحال الناس لو ردوا بعد موتهم كيف يكونون. فالمراد أن الله جل وعلا عالم بكل شيء، وعلمه من الصفات التي فتعلقت بكل شيء، تعلقت بذاته وبصفاته وبأفعاله وبخلقه، فكل شيء تتعلق به المشيئة، بل تعلقت بالممكن والواجب والممتنع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 من أدلة علم الله لخلقه اعلم أن الله سبحانه وتعالى استدل على علمه لخلقه بثلاث صفات من صفاته، قال سبحانه وتعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] ، فأثبت الله جل وعلا علمه بخلقه، فـ (من) هنا فيها وجهان: - فإما أن تكون في محل رفع فاعل. - وإما أن تكون في محل نصب مفعول به. المعنى الأول: ألا يعلم الذي خلق، يعني: كيف لا يعلم الذي خلق؟ فجعل من لوازم إثبات صفة الخلق، وأنه خالق؛ أنه عالم بكل شيء، وهذا المعنى صحيح ولا إشكال فيه. المعنى الثاني: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14] يعني: ألا يعلم مخلوقه، ولا إشكال في أن الله سبحانه وتعالى عالم بمخلوقه. فعلى المعنى الأول وأن (من) مرفوعة في محل رفع فاعل؛ يكون من دلائل علمه سبحانه وتعالى وشواهد علمه بخلقه أنه خلقهم سبحانه وتعالى {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14] يعني: كيف لا يعلم بخلقه وهو الخالق لهم؟ فاستدل على علمه بخلقه بهذه الصفة، وهي أنه خالق جل وعلا. الثاني: قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فجعل هاتين الصفتين دالتين على علمه بخلقه. واللطيف: هو من يدرك ما دق من الأشياء، والخبير: هو من يدرك ما خفي من الأشياء، فإذا كان يدرك الدقيق ويدرك الخفي فكيف لا يعلم بخلقه، فهو سبحانه وتعالى اللطيف الخبير العالم بما دق وبما خفي، فإذا كان يعلم الدقيق والخفي؛ فهو جل وعلا عالم بخلقه لا إله غيره، هو بكل شيء عليم سبحانه وتعالى وبحمده. إذاً: قوله: (خلق الخلق بعلمه) يدل على إثبات علم الله المتقدم على خلق كل مخلوق ولا إشكال في ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم، وهو جل وعلا عالم بكل شيء قبل خلقه، وسيأتي مزيد تقرير لهذا في كلام المؤلف رحمه الله في مسألة القدر، والمؤلف رحمه الله وغفر له فرق ما يتعلق بمبحث القدر، ولم يجمعه في موضوع واحد، بل أعاد وأبدع ورد وكرر في هذه المسألة؛ ولعل ذلك لأهميتها وشدة الحاجة إليها في وقته رحمه الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 اعتقاد تقدير الله عز وجل لأقدار خلقه وآجالهم ثم قال: [وقدر لهم أقداراً] تقدم أن الله سبحانه وتعالى عالم بخلقه، وأنه خلقهم بعلمه، فعلمه محيط بخلقه جل وعلا، فهو محيط بكل شيء، وعالم بكل شيء، ثم أتى هنا إلى تقرير أنه ما من شيء إلا بقدر فقال: (وقدر لهم أقداراً) قدر لهذا الخلق الذي خلقه أقداراً، فالله جل وعلا خلق كل شيء بقدر كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، فما من شيء إلا وسبق به تقدير رب العالمين، فلا يخرج شيء مما يكون عن تقدير الله جل وعلا العليم القدير، فالعباد كلهم أحاطت بهم قدرة الله جل وعلا. قال الله سبحانه وتعالى في بيان إحاطة تقديره بخلقه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] ، {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] ، وما إلى ذلك من الآيات التي لا تحصر في إثبات أن الله جل وعلا قدر لخلقه أقداراً. ثم قال رحمه الله: [وضرب لهم آجالاً] ، (ضرب) أي: حدد (لهم آجالاً) أي: مدداً مضروبة، فكل عباده لا يتجاوزون ما قدره الله جل وعلا من الآجال، بل هي آجال محتومة، وآجال مقدرة، وقد دل على هذا كتاب الله جل وعلا، ودلت على ذلك السنة، دليل الكتاب قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38] ، ومن السنة قول النبي صلى الله وعليه وسلم: (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) . فالله جل وعلا قدر لخلقه الأقدار، وبينها ووضحها وكتبها وأثبتها، فلا يخرج شيء عن قدره، ومن تمام تقديره أن ضرب لهم آجالاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 الرد على خصماء الله في القدر من قدرية وجبرية ثم قال رحمه الله: [ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم] هذا فيه تأكيد ما تقدم من أنه عالم بهم قبل الخلق، لم يخف عليه جل وعلا شيء قبل أن يخلقهم، بل هو المحيط بهم العالم بهم قبل خلقهم. ثم قال: [وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم] هذا تأكيد لما تقدم من إثبات علم الله عز وجل بالخلق قبل أن يخلقهم، فالله جل وعلا عالم بكل شيء قبل خلقهم. لما قال المؤلف رحمه الله: (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم) ، فهل مراده من هذا الكلام مجرد تأكيد ما تقدم؟ الجواب إنه أكد ما تقدم، وأجاب عن قول خصماء الله في القدر، فإن قوله رحمه الله: (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته) هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله رد على خصماء الله في القدر. وخصماء الله في القدر فريقان: الفريق الأول: هم الذين نفوا تقدير الله للأشياء قبل وجودها، فنفوا القضاء والقدر، وهم غلاة القدرية الذين قالوا: إن الله لم يقدر شيئاً، وإن الأمر أنف، وهذه بدعة ظهرت في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، وردها ابن عمر وغيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل هذه البدعة كانت في الذين خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين في القدر، كما جاء في حديث أبي هريرة: (أن المشركين جاءوا يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم في القدر، فأنزل الله جل وعلا قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ) فإن هذا جواب على من خاصم النبي صلى الله عليه وسلم في تقدير الله عز وجل للأشياء قبل وقوعها. إذاًَ: الفريق الأول الذين خاصموا الله في القدر: هم غلاة القدرية الذين نفوا القضاء والقدر وعطلوه، وقالوا: إن الله جل وعلا لم يقدر شيئاً. الفريق الثاني: هم الذين عارضوا الشرع بالقدر، فعطلوا الأمر والنهي، وهم الجبرية الذين قالوا: إنه ما من شيء إلا بقضاء الله وقدره، وعلى هذا لا يلام العاصي على معصيته، ولا يشكر المحسن على إحسانه؛ لأن إحسان المحسن بقدر الله، ومعصية العاصي بقدر الله، فعلى هذا جعلوا القدر حجة على تعطيل الشرع، وهذا قد ذكره الله جل وعلا عن الكفار في مواضع من كتابه، كقول الله جل وعلا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] ، فاحتجوا على تعطيل الطاعة والتوحيد بالقدر. ومن المواضع التي أبطل الله جل وعلا فيها الاحتجاج بالقدر على ترك الطاعة قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] ، هناك كان الاحتجاج بالقدر على ترك التوحيد، وهنا الاحتجاج بالقدر على ترك الطاعة، وبقي الاحتجاج بالقدر على المعصية وهو في قول إبليس: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16] ، فجعل فعله ومعصيته بسبب إغواء الله عز وجل، فنسبها إلى الله جل وعلا، واحتج بها على استمراره في الغي والضلال. فتبين أنه لا حجة في القدر على ترك التوحيد، ولا حجة في القدر على إتيان المعصية، ولا حجة في القدر على ترك الطاعة، بل لله الحجة البالغة على كل أحد، فإنه ما من أحد إلا وله الاختيار الكامل في فعل ما شاء وترك ما شاء، وهذه المشيئة لا تخرج عن مشيئة الله عز وجل كما سيأتي. والمراد أن كلام المؤلف رحمه الله في هذا الموضع فيه رد على فرقتين ضالتين في باب القضاء والقدر، وهما: غلاة القدرية والجبرية، الذين عارضوا الشرع بالقدر، والذين نفوا القدر وعطلوه، قال رحمه الله: (وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته) هذا الرد على الفريق الثاني ممن خاصم الله في القدر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 اعتقاد أن كل شيء يجري بتقدير الله ثم قال رحمه الله: [وكل شيء يجري بتقديره] . كل شيء يشمل جميع الأشياء، فكل شيء في الكون، وكل موجود ومخلوق؛ هو بتقدير الله جل وعلا، لا نظر في ذلك إلى كونه محبوباً لله أو غير محبوب، فإن الله جل وعلا شاء ما كان وما يكون؛ لحكمة بالغة، ولا تعلق لذلك بالمحبة، فلا يلزم أن يكون ما وقع محبوباً لله جل وعلا، بل قد يكون مبغوضاً، بل إن كثيراً مما يقع يكون مبغوضاً لله جل وعلا، فكل شيء يجري بتقديره، وإذا اعتقد المؤمن أن كل شيء يجري بتقدير الله عز وجل اطمأن قلبه فيما يتعلق بالمصائب ورضي بما قدره الله له، ولن يقع في قلبه معارضة لتقديره جل وعلا، ولا ضيق مما يجري عليه من الأقدار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 إثبات مشيئة الله عز وجل قال رحمه الله: [ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم] . يبيّن المؤلف رحمه الله في هذا المقطع: أن إثبات المشيئة والإرادة للمخلوق ليس ذلك على وجه الاستقلال والانفصال والانفكاك عن مشيئة الله عز وجل، بل ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ ولذلك قال: [ومشيئته تنفذ] أي: مشيئة الرب جل وعلا تنفذ أي: تجوز، فهو جل وعلا ذو المشيئة النافذة، والقدرة النافذة، لا راد لما شاء، ولا مانع لما قدر وقضى، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، مشيئته تنفذ ولا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فإثبات المشيئة للعبد لا يعطل مشيئة الله عز وجل، وليس ذلك خارجاً عن مشيئة الله، بل مشيئة الله عز وجل محيطة بمشيئة عبده، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] ، وكما قال الله جل وعلا: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] . فمشيئة الله سبحان وتعالى محيطة بمشيئة العبد، لا خروج للعبد عن مشيئة الله عز وجل [فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن] وهذه المشيئة المذكورة في قوله: ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، يدخل في الإرادة الكونية، والإرادة الكونية هي معنى قول المؤلف رحمه الله وقول المسلمين: (ما شاء الله كان) -أي: حصل ووجد، (وما لم يشأ لم يكن) أي: لا حدوث له ولا حصول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 اعتقاد أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء والرد على المعتزلة والقدرية في ذلك ثم بعد أن أثبت عموم مشيئة الرب سبحانه وتعالى لكل شيء، وأنه لا خروج لمشيئة العبد عن مشيئة الله عز وجل؛ قال رحمه الله: [يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً] جل وعلا، وفي هذه العبارة الرد على المعتزلة والقدرية الذين قالوا: إن العبد يخلق فعل نفسه، فالهدى والضلال ليس من فعل الله عز وجل ولا من مشيئته ولا من إرادته، إنما هي من مشيئة العبد وإرادته وفعله المستقل عن الله جل وعلا. فقوله: (يهدي من يشاء) يرد بذلك على المعتزلة والقدرية الذين قالوا: إن الله لا يخلق فعل العبد، بل أفعال العباد خارجة عن قدرته ومشيئته وإرادته سبحانه وتعالى، ثم كيف يفسرون الهداية المذكورة في الكتاب؟ يفسرون الهداية المذكورة في الكتاب بأنها هداية البيان والإرشاد والدلالة، فيحملون كل آية أضاف الله فيها الهداية إليه على أنها هداية بيان وإرشاد ودلالة، وهذا لا إشكال أنه تحريف للكلم عن مواضعه، فإن الآيات التي فيها أن الله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء، تشمل هداية الدلالة والإرشاد والبيان، وتشمل هداية التوفيق للعمل، فإنه إذا لم يوفق الله جل وعلا العبد للعمل فإنه لا إصابة في عمله، ولا توفيق له. ومما يدل على أن الهداية المضافة إلى الله جل وعلا تشمل هداية التوفيق للعمل قول الله جل وعلا فيما ذكره في أبي طالب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ، فالهداية المنفية عن النبي صلى الله عليه وسلم هي هداية التوفيق والعمل، وأما الهداية المثبتة لله عز وجل فهي هداية الإرشاد والدلالة والبيان وهداية التوفيق إلى العلم. فقوله: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً) أي: أن الهداية منه سبحانه وتعالى فضلاً ومنة على العبد، وهذا فيه الجواب عن السؤال كيف يهدي فلاناً ولا يهدي فلاناً؟ نقول: الهداية فضل الله ومنته ورحمته وهو جل وعلا أعلم بمحال الفضل من غيره، فإن الله سبحانه تعالى يمن على من يشاء من عباده لعلمه بأن الممتن عليه بالهداية المتفضل عليه بالاستقامة أهل لذلك، أي: أنه يستحق ذلك، وأنه صالح لهذا، قال الله سبحانه وتعالى في جواب المعترضين على الرسل في أنهم خصوا بالرسالة: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] ، الله سبحانه وتعالى جعل الفضل في محله، وجعله لفضل الرسالة في الرسل لعلمه بأنهم أهل لها. قال ابن القيم رحمه الله: والله جل وعلا أعلم بمحال الفضل في الرسل وأتباعهم، فإن الله سبحانه وتعالى أعلم بالمهتدين كما قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] أي: أعلم بمن يستحق الهداية فيوفقه إليها وأعلم بمن يستحق الاستقامة فيوفقه إليها، وهذا معنى قوله رحمه الله: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً) أي: الهداية إلى الصراط المستقيم توفيقاً وعملاً، ويعصم من المعاصي ويعافي من الذنوب والخطايا فضلاً منه سبحانه وتعالى. قوله: (ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً) أي: عدلاً، فهو جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، ما منعهم الله جل وعلا الفضل وهم أهل له، بل الأمر كما قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] ، فإنهم لما استحقوا الزيغ أضلهم وخذلهم وخلى بينهم وبين أنفسهم؛ ولذلك اعلم أن كل معصية تقع فيها فإنها من خذلان الله جل وعلا؛ لأنه خلى بينك وبينها، ولو أن الله جل وعلا أكرمك لعافاك وعصمك، وهذا معنى قوله رحمه الله في هذه العبارة: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 الأسئلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 تقسيم المشيئة إلى كونية وشرعية السؤال هل المشيئة نوعان: شرعية وكونية؟ الجواب لا، المشيئة لا تنقسم إلى مشيئة شرعية وكونية، بل المشيئة واحدة، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 تعريف التعطيل السؤال ما هو التعطيل؟ الجواب التعطيل: عدم إثبات الصفات لله عز وجل، إما كلياً أو جزئياً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 الفرق بين المشيئة والقدر السؤال ما الفرق بين المشيئة والقدر؟ الجواب المشيئة: هي القدر، لكن هي من مراتب الإيمان بالقدر كما سيأتينا إن شاء الله تعالى؛ لأن القدر يتضمن العلم والخلق والمشيئة والكتابة، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 شرح العقيدة الطحاوية [5] النبي صلى الله عليه وسلم هو النبي المختار الذي أرسله الله تعالى للثقلين بالهدى ودين الحق، وهو خاتم الأنبياء فليس بعده نبي، اصطفاه الله عز وجل على جميع الخلق، فيجب أن نعرف حقه وقدره صلى الله عليه وسلم من غير إفراط ولا تفريط، فنثبت له النبوة والاصطفاء على الخلق، كما نثبت له العبودية لله جل وعلا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 قضاء الله عز وجل وقدره في خلقه بسم الله الرحمن الرحيم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله. وهو متعالٍ عن الأضداد والأنداد. لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره. آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلاً من عنده. وأن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، وأنه خاتم الأنبياء، وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى، وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضياء] الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فصلة ما تقدم من كلام المؤلف رحمه الله في مسائل القدر قال رحمه الله: (وكلهم) أي: كل عباده وخلقه (يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله) ، فالله جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، بل الخلق لا يخرجون عن فضل الله جل وعلا، فإن قصروا عن الفضل فلا يخرجون عن العدل، قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44] فالله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، فمن هداه فبفضله، ومن وقع في الضلال فإنما يضل على نفسه، كما قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] والله جل وعلا أعلم بالمهتدين، وهو سبحانه وتعالى يعلم محال الفضل ومحال المن ومواضعه. فلذلك لا يعترض على الله جل وعلا في هداية فلان وفي إضلال فلان، فهذا مما ينبغي أن يقر في قلب المؤمن، فإن الله جل وعلا حكم عدل، ليس في حكمه الكوني ولا في حكمه الشرعي نقص ولا ظلم، بل الظلم منتفٍ عن الرب، وهو مما حرمه الله جل وعلا على نفسه فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الإلهي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) فنفي الظلم عن الله يدل على أنه سبحانه وتعالى العدل الذي لا ظلم في شيء من أحكامه، وقد اعترض على ذلك بعض من بُلي في مسائل القدر، فلقي أحد العلماء فقال له: أرأيت إن منعني الهدى ثم أمرني به أيكون قد ظلمني؟ فقال له العالم الرباني العالم بربه جل وعلا: إن كان قد منعك شيئاً هو لك فقد ظلمك، والله جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، بل الله جل وعلا لا ينفك عباده مسلمهم وكافرهم من خيره وفضله. فلا أحد أصبر على أذىً من الله سبحانه وتعالى، فإنهم يشتمونه ويسبونه وينسبون إليه الولد وهو جل وعلا يعافيهم ويرزقهم ويمدهم سبحانه وتعالى بما تقوم به حياتهم ويصلح به معاشهم، فكل العباد المسلم والكافر يتقلبون في مشيئته، يعني: فيما يقدره ويقضيه بفضله وعدله، سبحانه وتعالى. ثم قال المؤلف رحمه الله: (وهو متعالٍ عن الأضداد والأنداد) . الأضداد: جمع ضد، والضد: هو المناوئ المعارض المقابل، والله جل وعلا لا ضد له، فإنه لا يقوم شيء لإرادته ولا يقوم شيء أمامه سبحانه وتعالى، بل هو القوي العزيز الذي لا راد لقضائه جل وعلا. وقول المؤلف رحمه الله: (متعالٍ عن الأضداد) يرد بذلك على المعتزلة الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، وإن العبد يشاء ما لا يشاؤه الله، وإن العبد يخرج بأفعاله عن أقدار الرب جل وعلا، فهذا فيه الرد على هؤلاء. وهذه الكلمة: (متعالٍ عن الأضداد) يستعملها أهل العلم رحمهم الله في كلامهم، فقد ذكرها ابن القيم رحمه الله في افتتاح كتاب (إغاثة اللهفان) ومعناها كما ذكرنا: أنه لا أحد يقوم في مضادة الرب جل وعلا، فهو سبحانه وتعالى لا يقوم له شيء. وأما قوله: (والأنداد) فالأنداد: جمع ند، والند هو: المثيل والمكافئ والنظير، ويطلق أيضاً على المناوئ، لكن المراد به هنا: المثيل والنظير، فنزه المؤلف رحمه الله الرب جل وعلا عمن يعارضه ويضاده ويخالف أمره، ونزهه سبحانه وتعالى عن أن يكون له ند ونظير ومثيل، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22] ، وكما قال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، فهذا أمر واضح وقد تقدم تقريره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 قضاء الله عز وجل الكوني نافذ لا يرد ثم قال رحمه الله: (لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره) جل وعلا، فقوله: (لا راد لقضائه) أي: لا أحد يقوم برد قضاء الله جل وعلا، بل كما قال عن نفسه: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117] ، فأمر الله جل وعلا وقضاؤه ماضٍ لا راد له. والمراد بالقضاء هنا: القضاء الكوني الخلقي القدري، وأما القضاء الشرعي فإنه يُرد؛ لأنه ليس لازم الوقوع، فقوله: (لا راد لقضائه) أي: أنه لا يُرد ما قضاه سبحانه وتعالى وقدره، فإذا قضى الله جل وعلا بالموت على أحد فلا يمكن لأحد أن يرده، وإذا قضى لأحد بالنجاح فلا يمكن لأحد أن يرده، وإذا قضى بالسعادة لأحد فلا يمكن أن يرده أحد، (لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع) ، بل قضاؤه جل وعلا ماضٍ. والقضاء هنا المراد به: القضاء الكوني، وأما القضاء الشرعي فيرد، ولذلك رد أهل الشرك قضاء الله عز وجل في عبادته، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ، فردوا هذا القضاء وعبدوا غير الله، فقول المؤلف: (لا راد لقضائه) أي: لا راد لقضائه الكوني القدري الخلقي. قال رحمه الله: (ولا معقب لحكمه) أي: لا مؤخر لحكمه، فإذا قضى الله جل وعلا أمراً فإنه لا يؤخر، كما قال سبحانه وتعالى: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ، فإذا قضى الله أجلاً معيناً في وقت معين فإنه لا يتأخر ولا يتقدم. وهذا من معاني قوله: (لا معقب لحكمه) وقد وصف الله جل وعلا نفسه بذلك في قوله: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41] فإنه لا معقب لحكم الله جل وعلا. وكذلك من معاني قوله: (لا معقب لحكمه) أي: لا متتبع لحكمه، بل حكمه نافذ لا يتتبعه أحد ولا ينظر فيه ويتأمل، ولا يرد البعض ويقبل البعض، بل حكمه جل وعلا الكوني نافذ ولا معقب له ولا راد له ولا متتبع له، بل هو جل وعلا الحكيم الخبير الذي إذا حكم وقضى فإنه لا يُرد قضاؤه ولا يُعقب حكمه سبحانه وتعالى. ثم قال: (ولا غالب لأمره) بل الله جل وعلا غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وقال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] فالله جل وعلا يسوق المقادير إلى المقدورات أي: إلى مواضع القدر، فهو سبحانه وتعالى يسوق عباده إلى ما قضاه وقدره، وكل ميسر لما خلق له. قال رحمه الله: (لا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره) سبحانه وتعالى، والحكم والقضاء والأمر هنا هو كله في القضاء والحكم والأمر الكوني. وكذلك يمكن أن يقال: لا معقب لحكمه الشرعي من حيث أنه لا يبدل ولا يغير، ولكن من حيث الفعل فإنه قد يُرد وقد يعقب عليه وينتقد، لكن هذا لا يضر حكم الله جل وعلا بشيء. والظاهر أن الجميع؛ القضاء، والحكم، والأمر، في هذه العبارات كلها تدور على معنى القضاء والحكم والأمر الكوني. ثم قال رحمه الله: (لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلاً من عنده) أي: آمنا بما تقدم مما تقرر في هذه العقيدة. وقوله: (آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلاً من عنده) أي: ما قضاه الله جل وعلا وقدره وشاءه فذلك كله بتقديره، فسعادة السعيد بتقديره، وشقاء الشقي بتقديره. والمؤلف رحمه الله ختم هذا المقطع بهذه العبارة؛ لأنه سينتقل إلى تقرير عقد أو أصل جديد من أصول الاعتقاد وأصول الإيمان، فناسب أن يختم ما تقدم بهذه العبارة تأكيداً وتقريراً لما تضمنه قوله رحمه الله: (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له. إلخ) . فيقول: (آمنا بذلك) يعني: بكل ما ذكرنا أننا نعتقده، (وأيقنا أن كلاً من عنده) أي: أن اعتقادنا ذلك إنما هو امتثال لله عز وجل وامتثال لما جاء في كتابه وما جاء في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك انتقل المؤلف رحمه الله إلى تقرير الأصل الثاني الذي لا يصح الإيمان والإسلام إلا به، وهو شهادة أن محمداً رسول الله فقال: [وأن محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى] هكذا عندي في هذه النسخة بفتح همز إن، والصحيح الكسر؛ لأنه معطوف على قوله: (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله إن الله واحد لا شريك له وإن محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى) ومعلوم أن همز إن يكسر بعد القول وما في معناه: قال رحمه الله: (وإن محمداً) محمد المذكور في هذه الجملة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، وهو خاتم النبيين صلى الله عليهم وسلم، وسيأتي تفصيل ما يجب اعتقاده في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. المهم أن محمداً هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد أتى به بعد ذكر ما يتعلق بالله؛ لأن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم هو ثاني ما يطلب من المكلف، فإن المكلف مطالب بعبادة الله وحده، ومطالب بالإقرار برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الأصل الثاني من الأصول التي يطلب من المكلفين الإقرار بها، فأولها: الإيمان بالله وثانيها: الإيمان برسله، فالإيمان بالرسل من أصول الإيمان التي لا يقر الإيمان ولا يستقيم إلا بها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 إثبات عبودية النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أن محمداً عبده) أي: عبد الله جل وعلا فذكر الضمير هنا عائد إلى ما تقدم في قوله: (نقول في توحيد الله معتقدين وإن محمداً عبده المصطفى) ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعبودية من أعظم ما يوصف به صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلافاً لما يظنه كثير من الجهال من أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعبودية نقص في حقه ونزول في رتبته، بل وصفه بالعبودية هو أكمل ما يكون. ولذلك ورد وصف الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم، فوصفه بالعبودية في أشرف لياليه صلى الله عليه وسلم في الإسراء حيث قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1] . ووصفه في مقام الدعوة وهو من أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] . ووصفه بالعبودية في مقام المنافحة والمدافعة عنه في مقام التحدي حيث قال سبحانه: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [البقرة:23] . ووصفه بالعبودية في مقام الإيحاء في ليلة المعراج فقال جل وعلا: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] وهذه أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم، لم يصفه الله جل وعلا بوصف زائد على هذا، فدل ذلك على أنه من أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 إثبات اصطفاء الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم وقول المؤلف رحمه الله: (المصطفى) هذا فيه بيان ما خص الله عز وجل به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من الاصطفاء، فإن الله اصطفى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، والاصطفاء: هو الاختيار، والاصطفاء: افتعال من الاختيار، وأصله اصتفى، لكن الصاد إذا جاءت بعده التاء فإنها تنقلب إلى طاء، وهذا مطرد، فحيثما جاء الصاد وجاءت بعده التاء فإن التاء تنقلب طاءً للمناسبة بينهما، فإن الصاد والطاء من حروف الاستعلاء، بخلاف التاء، فالاصطناع أصلها اصتنع، والاصطلام أصلها: اصتلم، وهلم جراً. والمراد: أن الاصطفاء معناه: الاختيار، والاختيار حق لله جل وعلا دون غيره، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] فذكر الله جل وعلا فعلين من أفعاله: - الخلق، وهذا لا منازع له فيه. - والاختيار، وهذا الذي وقعت فيه المنازعة من المشركين لرب العالمين. فقال الله جل وعلا: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] والوقف على هذا تتم به الجملة، ثم قال: {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] فنفى الخيرة عن غيره ممن نازعه جل وعلا الاختيار فقال جل وعلا: {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68] فنزه نفسه عن الشركة في الاختيار؛ وذلك لأن الاختيار حق الله جل وعلا، فالله يخلق ما يشاء، ويختار من خلقه ما يشاء. ولذلك اصطفى الله جل وعلا من خلقه ما شاء الله أن يختار، سواء كان زماناً أو مكاناً أو شخصاً، فاختار الله من الأزمان على سبيل المثال الجمعة، واختار شهر رمضان، واختار أشهر الحج، واختار الأشهر الحرم. واختار الله من الأماكن مكة، فاصطفاها وخصها بما خصها به من الأحكام. وأما الأشخاص فاختار الله عز وجل من خلقه الرسل والأنبياء، وخصهم بخصائص دون غيرهم، قال سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] ، فالاصطفاء واقع من الملائكة ومن الناس يصطفي الله جل وعلا منهم من يرسلهم. فالله عز وجل اصطفى رسوله صلى الله عليه وسلم وخصه بخصائص كثيرة، وسيأتي ذكر بعض هذه الخصائص في كلام المؤلف رحمه الله، لكن هل هذا الوصف أخص أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب لا. ومن هذا نعلم أن الذين لا يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم إلا بقولهم: المصطفى، أو قال المصطفى، أو فعل المصطفى، يقصرون في حق النبي صلى الله عليه وسلم عن رتبته التي أنزله الله إياها؛ لأن الاصطفاء ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هو له ولكثير من خلقه كما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] فالمصطفون من خلق الله كثر، لكن النبي صلى لله عليه وسلم له الغاية من الاصطفاء، وله أوفر حظ ونصيب من اصطفاء رب العالمين جل وعلا. والذي اختص به ورضيه صلى الله عليه وسلم هو أن يكون عبد الله ورسوله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) فهذا أفضل ما يوصف به النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أن المؤلف رحمه الله ذكر هذا في مقدم أوصاف النبي صلى عليه وسلم لكان أوفق. قال: (وأن محمداً عبده المصطفى) فالله اصطفاه من بين الخلق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم) فهذا اصطفاء وراء اصطفاء فهو خيار من خيار صلى الله عليه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 إثبات الاجتباء والارتضاء للنبي صلى الله عليه وسلم والتفريق بين المعنيين قال رحمه الله: [ونبيه المجتبى] المجتبى: من الاجتباء، والاجتباء معناه مطابق للاصطفاء، فالاجتباء والاصطفاء معناهما واحد. قال رحمه الله: [ورسوله المرتضى] والمؤلف رحمه الله تدرج في أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم تدرجاً مرتباً، فبدأ بالعبودية، ثم انتقل إلى النبوة، ثم انتقل إلى الرسالة، والعبودية ليست خاصة به صلى الله عليه وسلم، بل هي له ولغيره، والنبوة له ولكثير من الناس، وأخص وأرفع هذه الدرجات درجة الرسالة، فهي له صلى الله عليه وسلم ولخاصة خلق الله عز وجل من البشر. (ورسوله المرتضى) المرتضى: مأخوذ من الارتضاء، والارتضاء مأخوذ من الرضا، والرضا: هو معنىً يثبت به للمرضي الخير الكثير، والمرتضى هو الذي يكون ممتثلاً للأمر منتهياً عن النهي مسارعاً إلى الخير، والنبي صلى الله عليه وسلم مرضي من رب العالمين، ولذلك خصه سبحانه وتعالى بما لم يخص به غيره. وعلى كل حال الرضا فيه معنىً زائد على الاصطفاء والاجتباء؛ لأنه اصطفاء واجتباء وزيادة، فقول بعض الشراح: إن الاصطفاء والاجتباء والارتضاء متقاربة في المعنى فيه نوع نظر، بل الارتضاء فيه زيادة عن معنى الاصطفاء والاجتباء؛ لأنه اصطفاء واجتباء وزيادة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ثم قال المؤلف رحمه الله: (وإنه خاتم الأنبياء) هذا وصف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو خاتم الأنبياء. والخاتم هو: الذي لا يأتي بعده شيء، فالله عز وجل ختم النبوات بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك قول الله جل وعلا: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ، فهو صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ختم الله به النبوات، فلا نبي بعده صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقد جاء تقرير ختم النبوة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه عديدة: الوجه الأول: ضرب الأمثال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً لنبوته فقال: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بناءً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة في زاوية، فجعل الناس يطوفون في هذا البناء ويقولون: ما أجمله! إلا هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين) وهذا ضرب مثل لختم النبوات به صلى الله عليه وسلم، وهذا أحد الطرق التي قرر بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ختم النبوة. الوجه الثاني من الطرق التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته في ختم النبوة: أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بمجيء كذابين فقال: (سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، ولا نبي بعدي) فتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء في دعوى النبوة دل ذلك على أنه خاتم النبيين. الوجه الثالث مما يستدل به من السنة على ختم النبوة: أسمائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن من أسمائه: العاقب، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاسم فقال: (العاقب الذي لا نبي بعده) فلا نبي بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الوجه الرابع: ومما سلكه النبي صلى الله عليه وسلم في تقرير ختم نبوته أن في جملة خصائصه ذكر ختم النبوة، ففي بعض روايات حديث: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي) وفي بعض رواياته: (أعطيت ستاً) وذكر آخرها فقال: (وختم بي الرسل) فختم الله عز وجل بالنبي صلى الله عليه وسلم الرسل. ولو قال قائل: إن ختم النبوة لا يستلزم ختم الرسالة فما الجواب؟ الجواب هذا كذب؛ لأنه ما من رسول إلا ولابد أن يكون نبياً، فالرسالة مرتبة أعلى من النبوة، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فإذا ختم الله بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم النبوات دل ذلك على أنه خاتم الرسل صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فختم النبوة يدل على ختم الرسالة، فما يدعيه الكذابون ممن يدعون الرسالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بختم الرسالات وإنما أخبر بختم النبوات حجتهم داحضة باطلة واضحة العوار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 إثبات أن الرسول صلى الله عليه وسلم إمام الأتقياء قال رحمه الله: [وإمام الأتقياء] لا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم إمام الأتقياء، والإمام هو: المقدم، ودليل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله! إني لاتقاكم لله وأخشاكم له) فاقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتقى الأمة للرب جل وعلا، فإمام الأتقياء هو رسول الله صلى الله وعليه وسلم؛ لأنه مقدمهم، ولأنه محل الأسوة لهم، فبه يتأسون وبه يقتدون، وعن فعله يسيرون صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21] وقال الله جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فجعله الله إماماً لهم في العمل وفي الأسوة، فهو إمام الأتقياء صلى الله عليه وسلم. إذاً: قول المؤلف رحمه الله: (وإمام الأتقياء) يشمل معنيين: الأول: الإمامة، بمعنى: التقدم، ودليل ذلك قسم النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره بأنه أتقى الأمة. الثاني: والإمام، بمعنى محل القدوة والأسوة والاهتداء بهديه، وهذا أدلته كثيرة في الكتاب والسنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 مبحث في إطلاق: (سيد المرسلين) على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال رحمه الله في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: [وسيد المرسلين] ولا إشكال في أن النبي صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، لكنه لم يرد -فيما أعلم- وصفه صلى الله عليه وسلم بذلك في السنة، وإنما الذي ورد في السنة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) فأخبر صلى الله عليه وسلم بأنه سيد ولد أدم يوم القيامة. وورد ذلك مطلقاً حيث قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر في الدنيا والآخرة) وإنما خص العلماء سيادة النبي صلى الله عليه وسلم للمرسلين لأن صفوة ولد آدم هم المرسلون، فإذا كان النبي صلى الله عليه سلم سيدهم فهو سيد ولد آدم جميعاً. وعندي أن الأحسن أن يوصف صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما وصف به نفسه، فإن قول القائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم أكمل من كونه سيداً للمرسلين؛ لأنه أوسع معنىً وأوسع مدلولاً، فهو سيد ولد آدم المسلم والكافر، البر والفاجر، وهذا هو المعنى الذي يلمح من قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أنا سيد ولد أدم يوم القيامة) فإن تخصيص السيادة بيوم القيامة يظهر بها مكانه وفضله، حيث يتخلى الجميع ولا يجدون من يقوم بالشفاعة العظمى إلا نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فينبغي أن يقتصر في الوصف على ما جاء عن النبي صلى عليه وسلم، فإنه مهما بالغ الإنسان في إيفاء النبي حقه فلن يبلغ ما جاءت به النصوص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 الفرق بين الخلة والمحبة وبأيهما يوصف النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: [وحبيب رب العالمين] هذا فيه وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالمحبة، وأنه حبيب رب العالمين، أي: محبوب رب العالمين فحبيب فعيل بمعنى: مفعول، فهو محبوب رب العالمين جل وعلا، ولا شك في إثبات محبة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، إلا أن في هذا التعبير قصور عما ينبغي أن يكون للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خليل رب العالمين، والخلة مرتبة أعلى من المحبة، فالخلة هي الغاية والمنتهى في مراتب المحبة، والخلة أخص من مطلق المحبة وتخصيصها -أي: الخلة- من وجهين: الوجه الأول: أن الخلة تكون محبة لذات الشيء، أي: محبة ليست لغرض وإنما لكون المحبوب مستحقاً للمحبة. الوجه الثاني: أن الخلة تمنع الشركة، فلا شركة في الخلة، بخلاف المحبة فإنها تقبل الشركة. وهذان الوجهان واضحان في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلاً) أي: صيرني خليلاً له جل وعلا، فهو خليل الرحمان، فتبرأ النبي صلى الله عليه سلم من كل خلة؛ لأن الخلة لا تقبل الشريك، ولأن المحبوب سبحانه وتعالى محبوب لذاته، فهذا ما اختصت به الخلة. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الخلة تستلزم كمال العبودية، وهذا في الحقيقة ليس من لوازم الخلة في كل مكان؛ لأن الخلة تكون بين الناس ولا تستلزم أن يعبد الخليل خليله، لكن ما تختص به الخلة عن المحبة هما الوجهان السابقان. وبعض العلماء يرى أن المحبة أعلى من الخلة، ويستدلون بحديث ضعيف: (إبراهيم خليل الله، وأنا حبيب الله ولا فخر) لكن الحديث لا يصح، وكل حديث في هذا المعنى لا يصح، بل الخلة أعلى درجة من المحبة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) . والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [6] خص الله سبحانه وتعالى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بكثير من الخصائص والمميزات عن غيرها من دعوات الأنبياء، من أهمها: أنها خاتمة الرسالات، وأنها عامة للجن والإنس، ومن أعظم ما خص الله تعالى به دعوة النبي عليه الصلاة والسلام: القرآن العظيم، وهو كلام الله رب العالمين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 خصائص دعوة النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 دعوة النبي خاتمة الدعوات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى، وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء] . قال المؤلف رحمه الله في تكملة ما يتعلق بتقرير رسالة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وكل دعوى النبوة) ، أي: وكل ادعاء للنبوة بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فغي وهوى، فوصفها المؤلف رحمه الله بوصفين: (غي وهوى) ، والغي: هو الجهل عن اعتقاد فاسد، فادعاء النبوة بعد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم جهل ناشئ عن اعتقاد فاسد، وهو أنه تجوز النبوة بعده صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقول المؤلف: (وهوى) أي: واتباع للهوى وهو ما تشتهيه النفس وتميل إليه، فالهوى: مأخوذ من هوى يهوى إذا مال إلى الشيء والتذ به وانجذب إليه، فكل من ادعى النبوة بعد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فدعواه لا تخرج عن هذين: - عن كونها جهلاً ناشئاً عن اعتقاد فاسد، أو اتباعاً للهوى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 دعوة النبي عامة للإنس والجن لقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مبعوث إلى الناس كافة؛ وهذا يوجب على كل أحد يبلغه خبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يتبعه وينقاد له، ويشهد له بالرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ومما يدل على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله أمره بمخاطبة اليهود والنصارى، وهم بقية من الأمم السابقة الذين معهم كتب، وخاطبهم صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالاستجابة إليه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] . فكل من لم يأت بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الإقرار له بالرسالة فهو كافر بالله العظيم، وما يدعيه أهل الكتاب من أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بالعرب أو بالأميين فهو كذب وضلال، وهذا في الحقيقة طعن وتكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم، فأهل الكتاب الذين يقولون: نحن نؤمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم لكنه خاص بالعرب، هؤلاء كاذبون مكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر -وهو لا ينطق عن الهوى- بعموم رسالته، وإنما نحتاج إلى تقرير هذا حتى نرد على الذين يقولون في هذه الأزمان المتأخرة: اليهود على حق والنصارى على حق، ويسوون بين أهل الإسلام وغيرهم من أهل الكتاب ولا سواء؛ فهؤلاء يؤمنون بالله الواحد القهار الذي لا إله غيره، ويصدقون النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة وبما جاء به، وأولئك يكذبونه في الأصلين، فهم يشركون بالله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] ، ويكذبون النبي صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: إنه إنما بعث للعرب خاصة وليس لعموم الناس. وأما عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم للجن، فذلك مستفاد من سورة الجن، فإن سورة الجن الدلالة فيها ظاهرة في مواضع عديدة على أن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهم، ويدل على ذلك أيضاً ما ذكره الله جل وعلا في سورة الأحقاف حيث قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ} [الأحقاف:29] ، أي: قضيت قراءة القرآن وقضي سماعه {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] ، منذرين بأي شيء؟ بما سمعوه وتلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا لما ولوا إلى قومهم منذرين وبينوا وجه الإنذار: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] ، وهذا يدل على أنهم كانوا متعبدين لله، أو أن منهم من كان يعبد الله بشريعة موسى عليه الصلاة والسلام: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف:30-31] ، فهذا فيه وجوب اتباع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووجوب الانقياد لما سمعوه من القرآن العظيم. ولا ريب أن الجن مخاطبون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولا خلاف بينهم في أن الجن مخاطبون بدعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 وصف ما جاء به النبي من الوحي فرغ المؤلف رحمه الله من تقرير هذا الأصل، ثم انتقل إلى تقرير ما يتعلق بالقرآن، لكن المؤلف رحمه الله ذكر قبل ذلك شيئاً من أوصاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [بالحق والهدى، وبالنور والضياء] ، وهذا وصف مطابق لفظاً ومعنى لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم بعثه الله بالهدى ودين الحق، وبالنور والضياء، الحق في القول والعمل، والهدى في العلم والاعتقاد، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [الفتح:28] ، الهدى: العلم النافع، ودين الحق: العمل الصالح، فبعث الله عز وجل رسوله بالحق في الأقوال والأعمال، وبالهدى في العلم والاعتقاد، وقد أثبت الله جل وعلا هذا الوصف فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ، فجعل الله النبي صلى الله عليه وسلم هادياً إلى صراط أثبت له الثبات والاستقرار والاستعلاء والتمكن من الصراط المستقيم، فقال: {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43] ، وانظر كيف أتى بحرف (على) الذي يفيد الاستعلاء والتمكن والاستقرار، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت قدمه على الصراط المستقيم ثباتاً متمكناً عالياً لا زوال له، وكل من سار على طريقه وأخذ بهديه واتبع سنته فإنه موافق له، وله نصيب من هذا الوصف المذكور (إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) . ثم قال: [وبالنور والضياء] ، أي: ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم نور وضياء، ولا ريب أن ما جاء به نور وضياء: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:122] ، من أهم وأخص ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم: إخراج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور، فالله عز وجل أخرج أهل الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الهدى والنور أخرجهم من ظلمات الجهالات والتعاسات والشقاء في الدنيا إلى نور السعادة والعلم والعبادة في الدنيا قبل الآخرة. أما الآخرة فإنها نور ولا إشكال فيه؛ لأن أهل الإيمان يأتون تضيء لهم أعمالهم على قدر استمساكهم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فبقدر ما مع الإنسان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم عقداً وعملاً بقدر ما يكون له من النور يوم القيامة. وما الفرق بين النور والضياء؟ أما من حيث دلالة المعنى فالمعنى متقارب، لكن الفرق بين النور والضياء: أن النور: نور لا حرارة فيه، وأما الضياء: فإنه نور مع حرارة، قال الله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس:5] ، هل بينهما فرق؟ نعم بينهما فرق؛ الشمس إضاءة ونور مع حرارة، والقمر نور لا حرارة فيه، وهكذا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فمنه ما هو نور لا حرارة فيه، ومنه ما فيه حرارة، لكنها حرارة تعقب سعادة ولذة وطمأنينة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 تقرير أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق قال المؤلف بعد هذا في تقرير ما جاء عن أهل السنة والجماعة في مسائل القرآن: [وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية؛ فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر؛ حيث قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ؛ علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 صفة الكلام من دلائل ألوهيته سبحانه وتعالى هذا الكلام من أنفس ما في هذه العقيدة من تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة في هذه الصفة العظيمة صفة الكلام لله رب العالمين، والكلام صفة ذاتية للرب جل وعلا يثبتها أهل السنة والجماعة بالكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل، ولما كانت صفة دل عليها العقل، أثبتها مثبتة الصفات، وإذا رأيتم في كلام العلماء: (مثبتة الصفات) ؛ فالمراد بهم: من يثبتون بعض الصفات وينكرون بعضها كالأشاعرة والكلابية والماتريدية وأشباههم، فهؤلاء يثبتون شيئاً من الصفات وينكرون شيئاً. فمثبتة الصفات يثبتون لله عز وجل صفة الكلام؛ لأنها صفة كمال لله دل عليها العقل، والكلام صفة ذاتية؛ فلم يزل ولا يزال الله جل وعلا يتكلم أزلاً وأبداً كيف شاء جل وعلا: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] ، فهو سبحانه وتعالى متكلم، ومن عطل الله جل وعلا عن هذه الصفة وقال: إنه لا يتكلم. فقد افترى إثماً عظيماً على الرب جل وعلا، وأثبت له نقصاً كبيراً، فإن من دلائل ألوهية الله عز وجل واستحقاقه العبادة: أنه سبحانه وتعالى متكلم. ولذلك لما احتج إبراهيم عليه السلام على قومه في تأليههم من عبد غير الله احتج عليهم بأنهم لا يتكلمون، وذلك في قوله: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] كذلك موسى عليه السلام احتج على إبطال عبادة العجل من قبل قومه بأنه لا يرجع قولاً، فكل من وصف الله عز وجل بأنه لا يتكلم فقد عطل الله جل وعلا عن صفة من الصفات الموجبة لإفراده بالعبادة سبحانه وتعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 أثر تعطيل الله عن الكلام على الإيمان اعلم أن مسألة تعطيل الله جل وعلا عن صفة الكلام لها اتصال بالإيمان بالله، واتصال بالإيمان بالكتب، واتصال بالإيمان بالرسل، ولذلك كان الإخلال بهذه الصفة إخلال في جميع أنواع هذا التوحيد وهذه الأصول؛ الإيمان بالله، وبالكتب، وبالرسل، فإن الكتب كلام الله، والرسل أخبروا عن قول الله، والله جل وعلا متصف بالكلام، فمن قال: إنه لا يتكلم. فقد كذب الرسل فيما أخبروا به عن رب العالمين ولم يحقق الإيمان بالكتب؛ لأن الكتب كلام الله، وهو يعتقد أن الله جل وعلا لا كلام له. ثم هو قدح في الإيمان بالله، ونقص في الإيمان به، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: (ومن الإيمان بالله وكتبه ورسله؛ الإيمان بأن القرآن كلام الله؛ منه بدا وإليه يعود) ؛ لأن القرآن كلام الله، ومن تمام الإيمان بالكتب وبالرسول الإيمان بأنه يتكلم، ولذلك كان التعطيل لهذه الصفة تعطيل لأنواع من التوحيد، وإخلال بعدة أصول من أصول الإيمان بالله، وبالكتب، وبالرسل. قال المؤلف رحمه الله: [وإن القرآن كلام الله] ، فلم يناقش المؤلف رحمه الله قولهم في صفة الكلام إنما ناقش قولهم في القرآن؛ فقرر ما يعتقده أهل السنة والجماعة في القرآن؛ لأن القرآن أشرف كلام الله عز وجل؛ فالقرآن أعظم ما تكلم به الله سبحانه وتعالى؛ فجعل الكلام منصباً ومتوجهاً إلى هذا الأصل العظيم؛ فإذا ثبت فغيره تابع له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 أقسام كلام الله تعالى كلام الله جل وعلا ينقسم إلى قسمين: - كلام خلقي قدري كوني. - وكلام شرعي ديني أمري. والكلام الخلقي القدري الكوني: هو الذي يصدر عنه كل شيء في هذا الكون، ولا حَدَّ له ولا حصر، وهذا الكلام هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم في تعوذه: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر) ، فإن كلمات الله التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر هي الكلمات الكونية؛ لأنه لا خروج لأحد عن قدر الله، وكل ما يقع في الكون من خير أو شر فهو بكلمات الله الكونية التي لا يتجاوزها ولا يخرج عنها بر ولا فاجر. أما الكلام الشرعي الديني الأمري: فهو كلام الله عز وجل الذي كلم به رسله، وأنزل به كتبه كالتوراة والإنجيل والقرآن والزبور وغير ذلك من الكتب، وأشرفها القرآن ثم يليه التوراة، ولذلك تجد أن القرآن العظيم يذكر التوراة والقرآن كثيراً، فأشرف الكتب التي أنزلها الله وأشرف كلام الرب جل وعلا هو ما كان في القرآن العظيم وما كان في التوراة، وأشرف ذلك كله ما كان في القرآن: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر:23] ، والآية تشير إلى ما أنزله الله عز جل على نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا الكلام مما يتعبد به الله سبحانه وتعالى. أما الكلام القدري الكوني فإنه لازم لكل أحد، ولا يتعبد لله جل وعلا به، يعني بالتزامه وفعله؛ لأنه لا خروج لأحد عليه. وكلام الله الكوني يقال له أيضاً: الخلقي؛ لأنه الذي يحصل منه الخلق، ويوصف بهذا باعتبار أن الخلق صادر عنه، لا أنه مخلوق، فيسمى بالكلام الكوني القدري الخلقي، فهو مثل القضاء، والحكم، والإرادة الكونية فهي توصف بالخلقية لا لأنها مخلوقة ولكن لأنها تصدر عنها المخلوقات. هذه مقدمة موجزة فيما يتعلق بصفة الكلام لله عز وجل، ويأتي إن شاء الله تعالى بقية البحث فيما يتعلق بالقرآن في الدرس القادم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 الأسئلة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 سبب كثرة ذكر بني إسرائيل في القرآن السؤال أمة بني إسرائيل كثيراً ما ذكرت في القرآن، لماذا؟ الجواب لأنها أعظم الأمم بعد أمة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى لله عليه وسلم كما في حديث المعراج ذكر بأن الأمم عرضت عليه بأنبيائها؛ فلما رأى بني إسرائيل ظن أنهم أمته لكثرتهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 ما جاء به النبي من وحي فيه نور وضياء السؤال هل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي نور بلا حرارة في الترغيب، والضياء بالحرارة في الترهيب والوعيد؟ الجواب يمكن أن يقال هذا، ويمكن أن يقال: إن الضياء باعتبار ما في العبادات من مشقة كالصيام في أيام الحر فإنه ضياء لما فيه من مشقة وهي حرارة، وقد جاء الحديث بذلك؛ فوصف الصوم بأنه ضياء والصبر أيضاً؛ لأن فيه حرارة ومشقة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 مسئولية الأمة في تبليغ دين الله السؤال يقول الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] ؛ فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم مرسل إلى جميع الناس فمن يبلغ هؤلاء الناس بدينه الذي بعثه الله به؟ وهل الأمة مسئولة عن إبلاغ دينه كل في ثغرٍ يدعو بما يعلم؟ الجواب بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا إشكال أنها لجميع الناس، والواجب على جميع الأمة أن تبلغ دين الله عز وجل كل حسب طاقته وحسب استطاعته، كما قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] . والصحيح أن كل من لم تبلغه الحجة ولم تبلغه رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن كانت هذه حاله فإن الله يمتحنه يوم القيامة، مثلهم مثل المجانين والصغار الذين ماتوا من أطفال أهل الشرك، فهؤلاء يمتحنهم الله عز وجل؛ فإن أجابوا دخلوا الجنة، وإن امتنعوا دخلوا النار، واعلم أن الله حكم عدل لا يدخل النار إلا من استحقها: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 صفة الكلام صفة ذاتية فعلية السؤال هل صفة الكلام ذاتية فعلية؟ الجواب نعم هي صفة ذاتية فعلية، لكن الأصل فيها أنها صفة ذاتية، وهي فعلية باعتبار الأفراد وسيأتي إن شاء الله مزيد تقرير لهذا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 نفي التقارب المدعى بين اليهود والنصارى والمسلمين السؤال ما صحة دعوى التقريب بين الأديان الثلاثة: اليهودية والنصرانية والإسلام؟ الجواب هؤلاء غلطوا غلطاً عظيماً، كيف يتقارب من يقول: إن معنى: لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله، ومن يقول: عزير ابن الله والمسيح ابن الله؟ كيف ويتقارب من يقول: بأن محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى عامة الجنِّ وكافة الورى، ومن يقول: إنه ما بعث فقط إلا للأميين العرب ولم يبعث لغيرهم؟ لا يمكن التقارب بين هؤلاء، تقريبهم إلينا بأن ندعوهم إلى الإسلام، وهذا لا بأس به وهو مأمور به، أما أن نتقرب نحن أو نقرب منهم. فهذا لا إشكال فيه أنه من أعظم الفتن. ثم الأمر واضح في خطاب بني إسرائيل وأهل الكتاب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} [آل عمران:64] ، يعني: مستوية {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران:64] ، فنحن لا نجادلهم ولا نحاورهم ولا نناقشهم إلا على هذا الأصل الأول. أما الدخول معهم في مناقشات أخرى قبل تقرير هذا الأصل ويدعى أن هذا هو التقارب؛ فهذا غلط. والله تعالى أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 شرح العقيدة الطحاوية [7] تعتبر مسألة كلام الله تعالى من أشد المسائل وأكثرها نزاعاً بين الفرق، فهم بين مثبت ونافٍ، ومثبت لها على عوج لرأي رآه، والقول الحق هو قول الله ورسوله وهو: أنها صفة ذاتية فعلية قائمة بالله سبحانه وتعالى، وقد توعد الله سبحانه من وصف كلامه بقول البشر بسقر، فكيف بمن نفى تلك الصفة العظيمة عن المولى جل وعلا؟! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 إضافة القرآن إلى الله من باب إضافة الصفات وإضافته إلى الرسول من باب البلاغ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر؛ حيث قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر] . تقدم الكلام على أول ما يتعلق بهذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (وإن القران كلام الله) ، وقلنا: إن في هذا إثباتاً لصفة الكلام لله جل وعلا، والكلام صفة لله سبحانه وتعالى ذاتية فعلية دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والعقل؛ فإن صفة الكلام من صفات الباري جل وعلا العظيمة، والتي يقتضي إنكارها القدح في الإيمان بالله عز وجل وبالرسول وبالكتب، فإن الإيمان بالرسالة من لوازمه: أن تؤمن بالمرسل، ومن لوازم الإيمان بالمرسل: أن تؤمن بالقول الذي أرسل به رسله، فالإخلال بهذا النوع من أنواع الصفات خلل في أنواع عديدة من العقائد وما يجب الإيمان به من أصول الإيمان. وتقدم الكلام على أن الكلام ينقسم إلى قسمين: - كلام كوني. - وكلام شرعي. فالمؤلف رحمه الله في هذا المقطع يقرر كلام الله جل وعلا الشرعي؛ لأن القرآن من كلام الله الشرعي. يقول رحمه الله: (وإن القرآن كلام الله) ، وعلى هذا أهل السنة والجماعة، ودل على ذلك الكتاب في قول الله جل وعلا: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، والمراد بكلام الله في الآية: كلامه الذي تكلم به وهو القرآن؛ فإن الله جل وعلا تكلم بالقرآن وقت نزوله، وبلغه جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو كلام رب العالمين أضافه الله إلى نفسه إضافة الصفة إلى الموصوف، فليس في هذا مرية ولا شك ولا ريب عند أهل السنة والجماعة. وأما إضافة القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإضافته إلى جبريل في بعض الآيات؛ فإن هذا من باب إضافة الكلام إلى مبلغه، وليس إلى قائله، بل المتكلم به وقائله هو رب العالمين جل وعلا، ولذلك أضاف الله القرآن في كتابه إليه، وأضافه إلى جبريل، وأضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإضافته إليه من باب إضافة الصفات، وإضافته إلى جبريل من باب البلاغ، فهو الرسول الملكي الذي أرسله الله عز وجل بالقرآن، وإضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الرسول البشري الذي جعله الله سبحانه وتعالى مبلغاً لرسالاته صلى الله عليه وسلم، فلا يلتبس عليك الأمر؛ فإن الكلام يضاف وينسب إلى من تكلم به أولاً لا إلى من قاله مبلغاً، ولذلك تجد القائل ممن يبلغ قول النبي صلى الله يقول: (قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كذا وكذا) مع أنه لم يسمعه منه، وهذا الكلام ليس كلام المتكلم، أي: أنه ليس منسوباً إليه، وإنما هو مبلغ وناقل لما قاله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالكلام يضاف في لغة العرب إلى من تكلم به ابتداءً، وإن أضيف إلى من نقله فهو إضافة نقل وتبليغ لا إضافة ابتداء وكلام؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (منه بدا بلا كيفية قولاً) ، فـ (من) هنا بيانية لبيان ابتداء الغاية، أي: أن الكلام منه ابتدأ سبحانه وتعالى، فـ (من) لابتداء الغاية، والهاء هنا الضمير فيها يعود إلى الرب جل وعلا فلم يتكلم به غيره ولم يخلقه في غيره. وهذه الكلمة منقولة عن السلف، ومرادهم بها كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله وغيره: أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق هذا الكلام في غيره، كما تقول المعتزلة والجهمية إن الكلام كلام والقرآن كلام الله، لكنه كلام الله مخلوق، فللرد عليهم قال رحمه الله: (منه بدا) أي: هو المتكلم به، فالجهمية يقولون: القرآن كلام الله لكنه خلقه في غيره؛ فهو مخلوق من جملة خلق الله سبحانه وتعالى. وقد رد عليهم سلف هذه الأمة، وحصل في هذه الصفة فتنة عظيمة لأهل السنة والجماعة أيام الإمام أحمد رحمه الله؛ حيث بلي الناس بمسألة القول بخلق القرآن، وامتحن فيها العلماء والقضاة وأهل العلم بل امتحن العامة بهذه المسألة، وثبت الله جل وعلا الإمام أحمد رحمه الله، وحفظ الله به كتابه وعقد السلف الصالح من الاندثار والضياع؛ حيث ثبت على قوله، وذَبَّ عما دل عليه الكتاب والسنة، ورد قول المبتدعة الجهمية الذين قالوا: إن القرآن كلام الله لكنه مخلوق كسائر المخلوقات، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] ، والقرآن شيء؛ فهو داخل في هذا العموم، لكنه كذب؛ لأن (كل) في كل موضع تفيد العموم بحسب الموضع الذي وردت فيه، فإفادة (كل) للعموم ليست مطلقة مجردة عن السياق الذي وردت فيه. ولذلك الريح التي أرسلها الله عز وجل على عاد لم تدمر المساكن، مع أن الله عز وجل قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:25] ، ولو كان المراد أنها تدمر كل شيء لما بقيت حتى الأرض؛ لأنها مرت على الأرض فبقيت الأرض، فدل ذلك على أن (كل) تفيد العموم بحسب السياق الذي ترد فيه وبحسب ما يقتضيه معنى الكلام، ولا تفيد في كل المواضع العموم المطلق الذي لا يخرج عنه شيء. ثم إن القول بأن القرآن مخلوق استدلالاً بهذا: يقتضي أن نجعل جميع الصفات مخلوقة؛ لأن الرحمة شيء والعلم شيء والبصر شيء والسمع شيء والإرادة شيء، ومقتضى هذا: أن تكون جميع صفات الله عز وجل مخلوقة داخلة في قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، مع أنه سبحانه وتعالى الخالق المدبر الذي لا يدخل شيء من صفاته في عموم قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، فالرد على المعتزلة والجهمية في استدلالهم بهذه الآية على أن القرآن مخلوق واضح وبيّن، يدركه كل من فقه اللسان، وعرف موارد الكلام، وفهم وعلم أن إفادة العموم من هذا الفظ ليست واضحة في إدخال كلام الله عز وجل. المراد: أن القرآن كلام الله حقيقة، والإضافة هنا إضافة أوصاف لا إضافة أعيان، والمعتزلة والجهمية عندهم أن الإضافة إضافة عين؛ لأن الكلام مخلوق فإضافته إلى الله كإضافة بيت الله وناقة الله، وما أشبه ذلك من الإضافات التشريفية التي أضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه للتشريف وبيان المكانة والمنزلة، فناقة الله الإضافة فيها ليست إضافة صفات؛ لأن الناقة عين قائمة بذاتها، فإضافتها إلى الله عز وجل إضافة تشريف، كذلك بيت الله الإضافة فيها إضافة تشريف؛ لأنه عين قائمة، وكذلك عبد الله الإضافة إضافة تشريف؛ لأن العبد عين قائمة، لكن ما لا يقوم بذاته من الإضافات كالكلام والرحمة والسمع والبصر هذه ليست أعياناً قائمة بذاتها، إنما تقوم بغيرها، فإضافتها إلى الله جل وعلا من باب إضافة الصفات. فالكلام ليس شيئاً يقوم بذاته حتى نقول: إن الإضافة إضافة خلق، بل هذا تلبيس وتشبيه يرده أصحاب العقول النيرة والأفهام البينة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 الاعتقاد بانتفاء علم كيفية ذات الله وبالتالي انتفاء علم كيفية صفاته يقول رحمه الله: [بلا كيفية] ، الكيفية المنفية هنا هي كيفية العلم، يعني: نفي علم الكيفية لا الكيفية ذاتها بل الكيفية ثابتة والمنفي هو علمنا لهذه الكيفية، إذ لا شيء إلا وله كيفية، لكن نحن لا ندرك هذه الكيفية، فقول العلماء: نثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل. المراد من غير تكييف نعلمه، وأما كيفية الشيء وهو أن يكون له هيئة؛ فإن الصفات لابد أن يكون لها هيئة لكن هيئة هذه الصفات لا نعلمها ولا ندركها، بل الله أعلم بها. فالمنفي هنا هو العلم بالكيفية لا أصل الكيفية وذاتها، فليس نفياً لأن تكون الصفات على هيئة وصفة معينة. ودليل نفي التكييف قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، تقول: هذا نفي للمثلية فكيف يكون نفياً للكيفية؟ الجواب أنه لا يمكن أن تصل إلى المثلية إلا بالتكييف، فالآية تضمنت نفي الغاية والوسيلة، فالله جل وعلا نفى المثل، وإذا كان المثل منتفياً فما يوصل إليه وهو العلم بالكيفية يكون أيضاً منتفٍ. ولذلك لما سئل بعض السلف عن الاستواء: كيف استوى؟ قال: دلني كيف هو؟ فأخبرك كيف استوى. أي: دلني كيف الله جل وعلا حتى أخبرك بكيفية صفاته، ولا أحد يمكن أن يقول: الله على هذا الكيف، أو على هذه الهيئة، أو على هذه الصفة؛ فإنه جل وعلا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فإذا انتفى علم كيفية الذات فكذلك علم كيفية الصفات؛ لأن القاعدة عند أهل السنة والجماعة -وهي قاعدة دل عليها الكتاب والسنة-: أن القول في الصفات كالقول في الذات، فإذا كنا نجهل كيفية ذات الرب جل وعلا فنحن نجهل أيضاً كيفية صفاته سبحانه وتعالى. والمراد: أن كل صفات الله عز وجل على هذا الباب، وليس هذا مما اختص به الكلام بل هو في جميع الصفات؛ فإن نفي الكيفية من عقد أهل السنة والجماعة الذي دل عليها الكتاب والسنة، ولذلك لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن كيفية الاستواء أجاب بالجواب الفصل البين الواضح الذي عليه نور القرآن وهدي السنة، قال رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول أو غير معلوم) ، فنفى العلم بالكيفية، وذلك أن العلم بالكيفيات فرع عن العلم بالذات. قوله رحمه الله: [قولاً] ، هذا في الرد على الأشاعرة والماتريدية، وهذه العبارة على اختصارها ردت على فرق الضلال في صفة الكلام، فقوله: [منه بدا] فيه الرد على الجهمية، والمعتزلة الذين قالوا: كلام الله مخلوق. وفي قوله: [قولاً] ، رد على الأشاعرة والماتريدية والكلابية الذين ضلوا في هذه الصفة، فقالت الأشاعرة: القرآن عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله؛ لأن الكلام معنىً يقوم بالنفس، وقالت الكلابية: القرآن حكاية عن كلام الله عز وجل وليس كلام الله، واختلفوا في المعنى المحكي عنه، فمنهم من قال: إنه معنىً واحد، ومنهم من قال: إنه خمس معانٍ، على اختلاف بينهم، ولا إشكال في أن القول باطل ترده النصوص من الكتاب والسنة، ويرده قول أهل السنة والجماعة في القرون المفضلة ومن بعدهم ممن سار على طريقهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 أنواع الوحي وأقسامه قوله رحمه الله: [وأنزله على رسوله وحياً] . هذا فيه بيان أن القرآن منزل من رب العالمين، وهذا تأكيد لمعنى ما تقدم من أن القرآن كلام الله جل وعلا، حيث إنه نزل منه سبحانه وتعالى، وقد قرر الله جل وعلا هذا الأمر -وهو إنزال الكتاب من عنده- في آيات كثير {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] تنزيل الحكيم الخبير، والآيات التي يخبر فيها جل وعلا أن القرآن منزل منه كثيرة، وهذا فيه: أنه كلامه سبحانه وتعالى المضاف إليه، فهذا تأكيد لما تقدم من أن القرآن كلام الله جل وعلا منه بدا بلا كيفية قولاً. قال: (أنزله على رسوله) الرسول هنا المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (وحياً) أي: أنزله على صفة الوحي. والوحي أيها الإخوة له ثلاث درجات: - يطلق الوحي ويراد به الإعلام السريع الخفي. وهذا هو الأصل فيه، فمنه ما يكون ظاهراً، ومنه ما يكون خفياً، ومنه ما يكون يقظة، ومنه ما يكون مناماً، وقد بين الله جل وعلا أقسام الوحي في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى:51] ، هذه المرتبة الأولى. - {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51] ، هذه المرتبة الثانية. - {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] ، هذه المرتبة الثالثة. فأقسام الوحي ثلاثة: - القسم الأول: هو الإعلام السريع، وهذا لا يختص به الأنبياء، بل يكون للأنبياء وغيرهم، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي} [المائدة:111] ، ومنه قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص:7] ، ومنه قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68] ، فهذا كله يدخل في القسم الأول. - القسم الثاني: وهو ما خص الله به موسى عليه السلام، وهو التكليم من وراء حجاب، وهو المشار إليه في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] . - القسم الثالث: وهو العام في الرسل، ولا يكون إلا لهم، وهو: أن يرسل إليهم رسولاً وهو جبريل عليه السلام، والأصل في الرسول الذي يبلغ القرآن ووحي رب العالمين في الكتب السابقة هو جبريل عليه السلام. وهذا عام لجميع الأنبياء. فقول المؤلف رحمه الله: (وأنزله على رسوله وحياً) ، من أي أنواع الوحي؟ هل هو من النوع الأول أو الثاني أو الثالث؟ الجواب الثالث؛ لأن جبريل هو الذي نزل بالقرآن، قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] ، وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] ، فالذي نزل بالقرآن جبريل عليه السلام. وأرفع هذه الأنواع هو النوع الثاني الذي خص الله به موسى عليه الصلاة والسلام، وهو أن يكلم الله الرسول من وراء حجاب، ثم النوع الثاني الذي هو آخر المذكورات في الآية، وأقلها وأدناها درجة هو النوع الأول الذي ابتدأ به ذكر أقسام الوحي في قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى:51] ، وهذا لا يختص بالأنبياء كما تقدم. والإعلام الخفي لا يلزم منه أن يكون كلاماً، ومنه قوله تعالى للنحل في إطلاق الوحي على غير الكلام، نحن لا ندري هل للنحل لها لغة كلمها الله بها أو لا؟ وهناك شيء أوضح من هذا في قصة زكريا: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:41] {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [مريم:11] ، هنا أوحى إليهم بغير الكلام؛ لأن الله أخذ عليه العهد بأن لا يكلم الناس، فهذا دليل على أن الوحي الخاص يكون بغير التكليم، ولذلك الوحي والتكليم بينهما عموم وخصوص، فقد يكون الوحي بالتكليم وقد يكون بغيره، والكلام قد يكون وحياً، وقد لا يكون وحياً. والقسم الثاني من أنواع الوحي: ما خص الله به موسى عليه السلام وهو التكليم من وراء حجاب. والثالث: الوحي بإرسال الرسول لتبليغ الوحي. ثم قال: [وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً] الضمير يعود إلى القرآن، أي: صدق القرآن المؤمنون، (على ذلك حقاً) أي: على الصفة التي تقدمت بأنه كلام الله عز وجل: (منه بدا بلا كيفية قولاً وأنزله على رسوله وحياً) . وقوله: (حقاً) أي: من غير تحريف ولا تأويل ولا تعطيل بل صدقوه على ما دلت عليه هذه الألفاظ من أنه كلام الله حقيقة. قال رحمه الله تأكيداً لما سبق: [وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة] ، وهذا فيه الرد على طوائف الضلال ممن قال: إن القرآن مضاف إلى الله إضافة خلق، وممن قال: إنه عبارة عن كلام الله، وممن قال: إنه حكاية عن كلام الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 كفر من زعم أن القرآن من كلام البشر عاد المؤلف رحمه لتقرير ما تقدم من أن القرآن كلام الله فقال: [ليس بمخلوق ككلام البرية] أي: أن كلام الله جل وعلا لا يوصف بالخلق بل هو كلامه الذي هو صفة من صفاته، ليس بمخلوق ككلام البرية، أي: ككلام الخلق؛ فإن كلام الخلق مخلوق وإن تكلموا بالقرآن فإن حركاتهم مخلوقة، لكن الكلام الذي يتكلمون به وهو القرآن كلام رب العالمين ليس بمخلوق. وقولنا: (إن القرآن قول الله) يشمل اللفظ والمعنى، فإنه كلام الله لفظه ومعناه، وهذا فيه الرد على من قال: إن المعنى هو كلام الله واللفظ من جبريل أو من النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه الرد أيضا على من قال: إن كلام الله هو الألفاظ فقط دون المعاني. وكل هذا من أنواع الضلال في كلام الله عز وجل، بل كلام الله عز وجل اللفظ والمعنى، فليس اللفظ خارجاً عن كلام الله، وليس المعنى خارجاً عن كلام الله، فالقرآن بلفظه ومعناه كلام رب العالمين. يقول: [فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر؛ فقد كفر] ، وهذا فيه بيان: أن التكذيب بأن القرآن كلام الله كفر؛ لأنه تكذيب للقرآن الكريم، وفيه أيضاً بيان حكم من قال: إن القرآن من قول النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول بعض الأشاعرة، وأن المعنى من الله واللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (فقد كفر) . وهل التكفير في مثل هذا تكفير عيني أو وصفي؟ تكفير وصفي، أي: من قال بهذا القول فقد كفر، لكن يبقى حكم من يقول بهذا القول، هل نقول: إنه كافر؟ الجواب لا. لكن نقول القول كافر، وأما القائل فنحتاج إلى النظر في حاله من حيث توافر الشروط وانتفاء الموانع؛ فإن تكفير المعين يحتاج إلى هذا، وأما تكفير الأقوال فإنه لا يحتاج إلا إلى إثبات الدليل على أن القول كفر، أما تنزيل الحكم العام على الشخص المعين فنحتاج فيه إلى النظر في الشروط: هل توافرت؟ والموانع: هل ارتفعت؟ فإن توافرت الشروط وانتفت الموانع؛ فإننا نحكم بكفره. قال رحمه الله تعالى: [وقد ذمه الله وعابه، وأوعده بسقر] ، سقر: اسم من أسماء النار نعوذ بالله منها، وقيل: إنه اسم من أسماء أبوابها. قال: [حيث قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر] ، وهذا القول قول الوليد بن المغيرة الذي لما سمع القرآن قال في مدحه والثناء عليه ما نفى عنه قول البشر، ثم حاجه قومه فقالوا: كيف تقول هذا وأنت سيد قريش؟! فرجع وقال: إن هو إلا قول البشر، فقال الله عز وجل في توعده وتهديده: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ؛ لأنه كذب بكلام رب العالمين، وأضافه إلى النبي صلى لله عليه وسلم حيث قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، و (إن) هنا نافية، والمعنى: ما هذا إلا قول البشر. قال رحمه الله: [ولا يشبه قول البشر] ، وهذا ليس خاصاً بالقرآن، بل هو في سائر الصفات كما تقدم، فإنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، سبحانه وبحمده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 كفر من وصف الله بمعنى من معاني البشر ثم قال المؤلف رحمه الله: [ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر] ، هذا فيه النهي عن الأصل الثاني من أصول الشرك والكفر بالله عز وجل؛ لأن الشرك يدور على أصلين: - الأصل الأول: تشبيه الله بخلقه. - والأصل الثاني: تشبيه الخلق بالخالق. فمن شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن شبه الخلق بالله عز وجل فقد كفر، وعلى هذين الأصلين تدور جميع أنواع الشرك والكفر. يقول: (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر) ، أي: شبه الله بخلقه، فقال: يده كأيدينا، أو سمعه كأسماعنا، أو حياته كحياتنا، أو كلامه ككلامنا، أو ما أشبه ذلك فقد كفر، وهذا قول الممثلة الذين غلو في إثبات الصفات فمثلوا الله بخلقه. وأبرز الفرق القائلة بهذا: الكرامية أتباع عبد الله بن كرام الذي مثل الله بخلقه، إلا أن هذه الفرقة انقرضت؛ ذلك أن الفطر مجبولة على تنزيه الخالق، وأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، ولذلك لم يقم لهذه الفرقة سوق، وإنما السوق القائمة لقول أهل التعطيل الذين دخلوا في صفات الله عزل وجل بعقولهم وآرائهم الفاسدة؛ فأفسدوا ما دلت عليه النصوص. يقول رحمه الله: [فمن أبصر هذا] ، أي: من تأمل وأدرك وفهم وعقل، فالإبصار هنا إبصار القلب لا إبصار النظر فقط، (فمن أبصر هذا اعتبر) ، أي: حصلت له العبرة والعظة. قال: [وعن مثل قول الكفار انزجر] أي: إن كف وامتنع سواء فيما يتعلق بصفة الكلام أو بغيرها من الصفات، وعلم أنه جل وعلا بصفاته ليس كالبشر، كما قال الله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] . تنبيه: الضمائر في قوله: (فأنزله، وصدقه) كلها تعود إلى القرآن، ويمكن أن يكون المعنى: صدق الرسول في قوله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 الأسئلة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 تعريف لباس الشهرة السؤال ما هو لباس الشهرة؟ الجواب لباس الشهرة هو كل ما يخرج به الإنسان عن المعتاد ارتفاعاً وانخفاضاً، ارتفاعاً: بأن يلبس ما لا يلبسه الناس عادة من جهة الغلاء والجمال، وانخفاضاً: من جهة الدون والنزول، والمقصود بالشهرة ما يشتهر به، يعني: يكون النظر في هذا إلى كل شخص بحسبه، فمثلاً لبس العالم للعباءة (البشت) لا يعد شهرة، لكن لو جاء إنسان ليس من أهل العلم ولا أهل الوجاهة ولبس في وسط لا يلبس مثله هذا اللباس يكون شهرة، فالشهرة ليس لها ضابط ينتظم الناس جميعاً، إنما هو ما يخرج به الإنسان عن المعتاد ارتفاعاً أو انخفاضاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 حكم الفرق المبتدعة في الدين السؤال هل الفرق المذكورة في الحديث مسلمة؟ الجواب هذه الطوائف من الفرق التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) بعد ذكر افتراق اليهود والنصارى. واختلف العلماء في الجهمية منهم، هل يدخلون في هذه الفرق أو لا؟ والظاهر أنهم لا يدخلون لشدة بدعتهم وشناعة قولهم، ولما يفضي إليه قولهم من تعطيل الرب جل وعلا، فالجهمية خارجون عن الثلاث والسبعين فرقة، أو نقول: الثنتين وسبعين، فيما لو أخرجنا أهل السنة والجماعة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 كلام الله صفة ذاتية فعلية السؤال قلت: إن كلام الله صفة ذاتية، ألا نقول: إنه صفة ذاتية فعلية؟ الجواب هو ذاتية باعتبار أصل الصفة، لكن أفراد الصفات فعلي؛ لأن الله عز وجل تكلم بالقرآن وقت نزوله، ويتكلم متى شاء سبحانه وتعالى، وهذا هو ضابط الصفات الفعلية، لكنه لم يزل ولا يزال متصفاً بذلك، خلافاً لصفة الاستواء مثلاً فهي صفة فعلية؛ لأنها كانت بعد أن لم تكن، والله تعالى أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 شرح العقيدة الطحاوية [8] من معتقد أهل السنة والجماعة إثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل في الآخرة كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وقد خالف في ذلك من أضله الله من المعطلة فظنوا أن إثبات الرؤية يلزم منه التشبيه، وهؤلاء قوم ابتعوا أهواءهم وحكموا عقولهم على نصوص الكتاب والسنة، وقد رد عليهم أهل السنة بما يدحض شبهاتهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 1 الاعتقاد في رؤية الله جل وعلا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: قال الإمام الطحاوي رحمه الله: [والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه. وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلَّم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه. ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حُظر عنه علمه ولم يقنع بالتسليم فهمه؛ حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان، فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوساً تائهاً شاكاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً. ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأوَّلها بفهم، إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنىً يضاف إلى الربوبية ترك التأويل، ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين. ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه] . فهذا المقطع قرر فيه المؤلف رحمه الله عقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق برؤية الرب جل وعلا. فقال رحمه الله: (والرؤية حق لأهل الجنة) . حق أي: ثابتة حقيقة لا مجازاً، فالحق هو: الشيء الثابت الذي لا شبهة فيه ولا افتراء. وقوله رحمه الله: (لأهل الجنة) هذا فيه بيان أعلى ما يكون من الرؤية، فإن الرؤية التي يحصل بها التنعيم وهي فضل الله جل وعلا ومنته وإحسانه وكرمه وهي أعظم ما ينعم به أهل الجنة هي ما يكون من رؤية أهل الجنة لربهم سبحانه وتعالى. فقوله رحمه الله: (والرؤية حق لأهل الجنة) يخرج به أهل النار، فإن أهل النار لا يرونه، ويخرج أيضاً أهل الدنيا، فإن أهل الدنيا لا يرونه، ويبقى رؤية الناس للرب جل وعلا قبل دخول الجنة في أرض المحشر، فإنها ثابتة كما دل على ذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 رؤية الكفار لربهم في أرض المحشر واختلف أهل العلم: هل يرى الربَّ سبحانه وتعالى الكفارُ في الموقف أو لا يرونه؟ على أقوال: فمنهم من نفى الرؤية مطلقاً، ومنهم من قال: إنهم يرونه، ومنهم من قال: لا يراه إلا المنافقون، أما الكفار فلا يرونه. وعلى كل حال فإن الرؤية التي تكون لأهل الموقف هي لأهل الإيمان رؤية تعريف، وأما أهل الكفر والنفاق فإنها رؤية حسرة وعذاب وليست رؤية تنعيم، ولا ينبغي ولا يسوغ أن يقال على وجه الإطلاق: إن الكفار يرون ربهم، بل لابد من تقييد ذلك، وهذا على القول بأنهم يرونه، فإن إطلاق الرؤية لا يكون إلا على وجه التنعيم، وهذا لا يكون إلا لأهل النعيم وهم أهل الجنة، أما الرؤية في النار فلا تكون لأهل النار، كما قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 رؤية الله في الدنيا وأما في الدنيا فإنه لا يرى جل وعلا، كما قال سبحانه وتعالى لموسى لما طلب رؤيته: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه قبل أن يموت) ، فدل ذلك على أن الرؤية بالعين ممتنعة في الدنيا، أما رؤية الفؤاد فإنها حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الرؤية في المنام فقد حصلت له صلى الله عليه وعلى آله سلم. وأما ما نقل عن الإمام أحمد وابن عباس رضي الله عنهما من إثبات الرؤية في الدنيا فإن المنقول عنهما مطلق، يعني: الرؤية مطلقاً فلم يقيداها برؤية العين، وفي بعض الروايات وردت مقيدة، فالمطلق يحمل على المقيد، ولم ينقل عنهما أنهما قالا: إنه رأى ربه سبحانه وتعالى بعينه في الدنيا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 موقف أهل السنة وبعض الطوائف الأخرى من الرؤية فقول المؤلف رحمه الله: (والرؤية حق لأهل الجنة) أي: ثابتة لا مرية فيها ولا خلاف بين أهل السنة والجماعة وسلف الأمة. وقد أنكر الرؤية بعض الطوائف، كالجهمية وهم أول من أحدث إنكار الرؤية، حيث أنكروا أن يُرى الرب سبحانه وتعالى، فقالوا: لا يرى. وتبعهم على ذلك المعتزلة، ووافقهم الخوارج، ووافقهم كذلك متأخرو الإمامية، أما متقدمو الإمامية الرافضة فإنهم يثبتون الرؤية، لكن المتأخرين منهم هم الذين أنكروها؛ لأن متأخري الإمامية على مذهب الاعتزال فهم معتزلة في الاعتقاد. كذلك ممن ضل في الرؤية: بعض مثبتة الصفات كالأشاعرة والكلابية والماتريدية فإنهم أثبتوا الرؤية لكن على غير طريقة أهل السنة والجماعة، وحقيقة قولهم عند المحققين: أنه لا رؤية؛ لأنهم يقولون: يُرى من غير معاينة ولا في جهة، وهذا قول في غاية السقوط؛ لأنه لا يمكن أن يُرى الشيء إلا في جهة، فقولهم: يُرى من غير معاينة ولا في جهة؛ حقيقته كما قال محققوهم: أنه لا يُرى، فهم من حيث حقيقة القول وافقوا نفاة الرؤية. أما أهل السنة والجماعة فإنهم يثبتون الرؤية، وحجتهم في ذلك كتاب الله جل وعلا فإنه قد جاء إثبات الرؤية في الكتاب تصريحاً وتعريضاً، وأما السنة فقد ورد ذلك متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث رواه أكثر من ثلاثين من الصحابة رضي الله عنهم، وأما الأقوال الواردة عن السلف في إثبات رؤية المؤمنين لرب العالمين، فهي أكثر من أن تحصى، نسأل الله من فضله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 رؤية الله عز وجل تلزم الإحاطة يقول رحمه الله في الرؤية التي يثبتها أهل السنة والجماعة: (بغير إحاطة ولا كيفية) بغير إحاطة لقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] فإن إثبات أهل السنة والجماعة لرؤية الرب سبحانه وتعالى لا إحاطة فيه؛ لأنه سبحانه وتعالى الكبير الواسع العظيم الذي جل عن أن يحيط به عباده، وعلا قدره عن أن تدركه أبصار خلقه. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه في قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] (لو أن الملائكة والأنس والجن والشياطين منذ خلق الله الخلق إلى آخر واحد منهم صفوا صفاً واحداً ونظروا إلى الرب لما أحاطوا به) ، فكيف يحيط به نظر واحد من خلقه؟ وهذا كله يدلك على أن معنى الآية نفي الإحاطة لا نفي الرؤية، فإن الآية ليس فيها أنه لا يُرى، بل فيها نفي إدراكه، وأنه لا تدركه الأبصار، ونفي الإدراك أمر زائد على نفي الرؤية، بل هو غير نفي الرؤية، فإن الإنسان ينظر إلى أشياء كثيرة لا يدركها إما لعظم خلقها أو لشدة فيها، فمثلاً: الشمس يراها كل أحد ممن له بصر ونظر، ولكن هل يدركها الناظر إليها؟ الجواب لا. وإذا أقبلت على مدينة من بُعد ورأيتها فهل تدركها؟ فإذا قلت: لا أدرك هذه المدينة لسعة أطرافها فهل هذا نفي لرويتها؟ الجواب: لا، فلا تلازم بين نفي الرؤية ونفي الإدراك، فإن نفي الإدراك هو نفي للإحاطة، وأما نفي الرؤية فإنه لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، بل على العكس الأدلة في الكتاب والسنة دالة على ثبوت الرؤية لأهل الإيمان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 وجوب إثبات الرؤية من غير تكييف وقوله رحمه الله: (ولا كيفية) هذا كسائر الصفات أي: أننا نثبت الرؤية من غير تكييف كسائر ما نثبته لله عز وجل من الصفات، وهذا فيه الرد على من يقول: إنه يلزم من أنه يُرى أنه جسم، ويلزم من أنه جسم أن يكون متحيزاً، ويلزم من هذا أن يكون له مكان يحيط به، وما أشبه ذلك من اللوازم الباطلة، ونحن نقول: نثبت ما أثبته الله لنفسه من غير هذه اللوازم، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 بعض الأدلة من القرآن على رؤية الله عز وجل قال رحمه الله: (كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ) . قوله: (كما نطق به) أي: تكلم به، وبعض الناس يتحاشى من أن يقول: نطق الكتاب بكذا. والظاهر أنه لا بأس بهذا اللفظ، وقد استعمله شيخ الإسلام رحمه الله في كثير من كلامه وكذلك ابن القيم وهو مستفاد من قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] فلعله مأخوذ من هذا، مع أن النطق في الآية مضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم. يقول: (كما نطق به كتاب ربنا) أي: القرآن العظيم، ثم ذكر أعظم ما يستدل به على إثبات الرؤية من القرآن وهو قوله وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] وهذه الآية هي أقوى ما في كتاب الله جل وعلا من إثبات رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، حيث قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] فأضاف النظر إلى الوجوه ومعلوم أن النظر يكون من الوجوه؛ لأن العينين محلهما الوجه، ولذلك أضاف النظر إلى الوجه. ثم إنه عدى النظر بإلى ولا يكون ذلك إلا في نظر العين، فلا يستعمل نظر معدى بإلى إلا فيما ينظر بالعين، ثم قال سبحانه وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] وهذا لنظرها إلى الرب سبحانه وتعالى فاكتسبت من نظرها إلى الله جل وعلا نضارة، وكل هذا من الدلائل في هذه الآية على أن النظر هو النظر إلى الله سبحانه وتعالى. أما أهل التحريف الذين يحرفون الكلم عن مواضعه فقالوا: إن قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] أي: مننتظرة لفضل الله ورحمته، وقالوا: إن هذه المادة تستعمل في الانتظار، ومن ذلك قول المنافقين لأهل الإيمان: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] ، فالجواب على هذا التحريف: أن في الآية ما ينفي تفسير النظر بالانتظار فإن الله جل وعلا ساق هذه الآية في التنعيم، ومعلوم أنه ليس من تنعيم أهل الجنة الانتظار؛ لأن الانتظار فيه إيلام، وإنما هو النظر إلى الرب سبحانه وتعالى الذي هو غاية نعيم أهل الجنة. ثم إنه لا يمكن أن يكون قوله تعالى: (ناظرة) بمعنى: منتظرة وقد عُدي بإلى الدالة على أن النظر بالعين. ثم إن النظر هنا أضيف إلى الوجه، ومعلوم أن الانتظار لا يضاف إلى الوجه، فدل ذلك على أن قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] ما فهمه سلف الأمة مما دل عليه الكتاب والسنة، أي: من أن النظر هنا هو النظر إلى الرب جل وعلا، كقوله تعالى في نعيم أهل الجنة: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] فإن السلف فسروها بالنظر إلى الرب سبحانه وتعالى. وكقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] فالزيادة فسرها صديق الأمة بالنظر إلى الرب جل وعلا، بل قد ورد ذلك في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث صهيب، والمزيد فسره أبو بكر وغيره بالنظر في قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] . قال رحمه الله: (وتفسيره) -أي: تفسير النظر في قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]- على ما أراده الرب وعلمه) وهذا فيه الرد على تأويل وتحريف المحرفين لهذه الآية، فإن تفسير النظر هنا على ما أراد الله تعالى وعلمه، والمراد بالتفسير هنا: على الكيفية: وإلا فالتفسير في المعنى أي: إدراك معنى هذا الكلام، فهو على ما أراد الله تعالى وعلمه، وعلمناه نحن من مقتضى اللغة وما نقل من تفسير الصحابة رضي الله عنهم، فهذا أمر لا يختص الله به، لكن الذي يختص الله به من التفسير هو معرفة حقيقة ما أخبر الله سبحانه وتعالى عن نفسه، فحقيقة ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه هو الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 الأدلة من السنة على إثبات الرؤية ثم قال رحمه الله: (وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال) . قوله: (كل ما جاء في ذلك) المشار إليه هو الرؤية، (من الأحاديث الصحيحة فهو كما قال) يعني: لا نحرفه ولا نؤوله تأويلاً مذموماً، بل نفسره ونمضيه على ظاهره، وهو رحمه الله يشير بهذا إلى ما جاء من الأحاديث الدالة على إثبات الرؤية، ومنها حديث أبي هريرة في الصحيحين وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أناس: (هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم سترونه كما ترون هذين) أو (كما ترون ذلك) أي: كما ترون الشمس ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر في إبداره ليس دونه سحاب. ومعلوم أن أكمل ما يرى في الدنيا وضوحاً ويدركه كل أحد هو الشمس ليس دونها سحاب، والقمر ليلة الإبدار ليس دونه سحاب، فشبه الرسول صلى الله عليه وسلم الرؤية بالرؤية، وشبهها بأعظم ما يرى في الدنيا وهو رؤية الشمس والقمر، وليس فيه تشبيه وتمثيل المرئي بالمرئي، بل الله جل وعلا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. فنثبت ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تأويل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 نصوص الصفات في الكتاب والسنة تمر على ظاهرها ثم قال: (ومعناه على ما أراد، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا) يبطل بذلك تأويلات المحرفين الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، وحملوا الكلام على غير ظاهره ليثبتوا ما اعتقدوه قبل أن ينظروا في النصوص، فوقعوا في إبطال الرؤية ونفي ما دلت عليه النصوص. قوله: (لا ندخل في ذلك) يعني: فيما قاله الله وفيما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم في شأن الرؤية، بل وفي غيرها، فلا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا. ثم قال رحمه الله في قاعدة مهمة قال: (فإنه ما سلم في دينه) والسلامة هي: النجاة من العطب. قوله: (ما سلم في دينه إلا من سلَّم لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لا إشكال أنه لا سلامة لأحد إلا بالتسليم لله ولرسوله، والتسليم يكون لله ولرسوله، ويكون بقبول ما جاء عن الله وعن رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل ينقاد ويقبل ما جاءت به النصوص دون تأويل أو تحريف. ثم قال: (ورد علم ما اشتبه به إلى عالمه) وهذا فيه تأديب لمن أشكل عليه شيء من النصوص فضاق عنها فهمه ولم يدركها عقله، إذ الواجب عليه في ذلك أن يرد علم ما اشتبه عليه -يعني: اختلط والتبس- إلى عالمه، فيقول: الله أعلم بمراده، ولا يدخل في ذلك بتأويل فاسد، ولا بوهم باطل، بل يسلِّم لله ولرسوله، فإذا قصر فهمه عن شيء مما أخبر به الله عن نفسه وجب عليه أن يرد علم ذلك إلى عالمه، كما قال جل وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] فنهى الله سبحانه وتعالى عن اتباع ما ليس للإنسان به علم. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله مثالاً لهذا في تفسير أسماء الله؛ الظاهر والباطن، والأول والآخر، فإنه أطال في الكلام عن هذه الأسماء وبيانها، ثم بعد أن بيّن المعاني في هذه الأسماء قال: فإن ضاق عن ذلك فهمك فجاوزه، على حد قول القائل: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع يعني: إذا قصر فهمك ولم يتسع ذهنك إلى فهم معاني كلام الله عز وجل فليس هذا مسوغاً لردها، ولا التكذيب بها، ولا تحريفها، بل الواجب عليك أن تسلم للنصوص وتقول: لم أفهم هذا، الله أعلم بمراده، ولا يجوز لك أن تقول: ليس لها معنى، بل لها معنىً ضاق عنه فهمك، والناس أفهام، فرد علم ما اشتبه عليك واختلط إلى عالمه، ولا تدخل في ذلك بتحريف أو تعطيل. قال: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام) وهذا لا إشكال فيه، فإنه من دخل فيما أخبر الله به عن نفسه على وجه المنازعة والمعارضة فإنه لا تثبت قدمه على الحق، بل يزيغ عن الصراط المستقيم، ويقع في مهاوي الضلال، فخير ما يثبِّت القدم على الإسلام أن يسلّم لله عز وجل، ولذلك قال: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام) والتسليم بمعنى: الاستسلام، ودليل ذلك قول الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، وأكد التسليم بالمصدر تحقيقاً له، وأنه لا يحصل تمام الإيمان إلا بالتسليم التام لما جاء عن الله وعن رسوله، وكل من عارض كلام الله وكلام رسوله بالشبه والعقول الفاسدة والآراء الباطلة لم يحصل له الثبات على الإسلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 طلب العلم المحظور يورث الشك والحيرة يقول رحمه الله: (فمن رام علم ما حُظر عنه علمه) والذي حظر عنا علمه هو: علم الكيفيات، وعلم ما لم يخبر به الله ورسوله من الصفات، (فكل من رام -أي: طلب- علم ما حُظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه) أي: فيما جاء الخبر عنه؛ لأن هناك ما مُنعنا من النظر فيه وهو ما يتعلق بكيفية ما أخبر الله به عن نفسه، وهناك ما أُخبرنا به وهو الصفات التي جاء الخبر عنها في الكتاب والسنة، فما أخبرنا به فالواجب فيه التسليم، وما منعنا من النظر فيه وهو الكيفيات فالواجب فيه عدم النظر وعدم الطلب. (فمن رام علم ما حظر عنه علمه) وهو في الكيفيات، (ولم يقنع بالتسليم فهمه) فيما أخبرنا عنه، وما جاء الخبر فيه عن كتاب الله وسنة رسوله (حجبه مرامه -أي: مطلوبه- عن خالص التوحيد) ، ولا إشكال أنه يحجب عن خالص التوحيد، ويقع في أنواع من الاشتباه والشرك، ولا يكون صافي المعرفة وصحيح الإيمان. فلا يصح إيمانه ولا تتم معرفته بربه ولا يحصل صافي التوحيد عنده؛ لأن كمال التوحيد فرع عن كمال الإيمان بالأسماء والصفات، وهذا مما يدلك على أن التوحيد مرتبط بعضه ببعض، فالخلل في توحيد الأسماء والصفات يؤثر وينجر على توحيد الإلهية فيفضي إلى نقص فيه ونقص في توحيد الربوبية، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه من الصفات الدالة على كماله وعظيم قدره جل وعلا فإنه ينقص من توحيده بربه سبحانه وتعالى بقدر ذلك، ولذلك لا يُعد الخلل في نوع من أنواع التوحيد مقصوراً عليه، بل في الغالب إذا تأملت وجدت أن الخلل في توحيد الإلهية ناشئ عن خلل في توحيد الأسماء والصفات أو في توحيد الربوبية ولابد. يقول رحمه الله: (فيتذبذب) هذا بيان الثمرة في ذلك، فالفاء هنا للتفريع، أي: لبيان ما الذي يثمره طلب علم ما حظر عنه، وعدم القناعة والتسليم بما جاءت به النصوص، فثمرة ذلك هي كما قال المؤلف: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار) فهو في أمر مريج، وهذا من الذين قال الله جل وعلا فيهم: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] أي: أمر مضطرب، وهذا شأن كل من كذب بالحق قليلاً أو كثيراً، فإن شأن المكذبين بالحق الذين لا ينقادون له ولا يقبلونه أن يكونوا في اضطراب عظيم فيتذبذبون بين الكفر والإيمان، وبين التصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار. قال رحمه الله: (موسوساً تائهاً شاكاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً) وهذا مطابق لحال من لم يسلموا للنصوص القياد فإنهم لم يحصلوا علماً، ولم يدركوا مطلوباً ولا معرفة بالرب سبحانه وتعالى، بل هم تائهون شاكون لم يتحقق لهم تمام الإيمان والتصديق، ولم يسلموا من اعتراضات الجاحدين المكذبين، ومن قرأ كلامهم ورأى مقال من سلك طريق التشبيه علم صدق ذلك، فإذا نظرت إلى ما ذكره الرازي على سبيل المثال وما ذكره الغزالي صاحب إحياء علوم الدين مما وجدوه في هذا الطريق من العطب والضلال، وأنهم لم يسلموا ولم يطمئنوا إلا بالنظر والتسليم للنصوص علمت أن ما قاله المؤلف رحمه الله مطابق للواقع، ويكفي في هذا ما أنشده الرازي حيث قال: نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال والعالمين المراد بهم: من ترك طريق أهل السنة والجماعة ودخل في علم الأسماء والصفات وما يتعلق بالرب سبحانه وتعالى بعقله متأولاً، ولذلك قال: ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا يعني: طوال هذا الكد والسعي والبذل والتأليف والكتابة لم نستفد سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا، والعجيب أن الواحد منهم يثبت في أول المؤلَّف ما ينفيه في آخره، بل بعضهم يقول: ونفي هذا كفر. ثم تجده في آخر المؤلَّف يقول بنقيض ذلك، فيثبت ما جعل نفيه كفراً أو ينفي ما جعل إثباته كفراً، وهذا غاية الاضطراب نسأل الله السلامة والعافية، وهذا حال كل من كذب بالحق كما دلت عليه الآية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 تحريم تأويل الرؤية ثم قال المؤلف رحمه الله: (ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام -جعلنا الله وإياكم من أهلها- لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم) . قوله رحمه الله: (لا يصح الإيمان بالرؤية) أي: لا يتم الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم، يعني: من مثلها أو أولها، فإن من مثل وقع في الضلال؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ومن أول -بمعنى: حرف- فإنه قد ضل في إثبات ما أثبته الله لنفسه؛ لأن التحريف لا يفضي إلا إلى ضلال ولا يوصل إلا إلى عطب، فلا يصح الإيمان بالرؤية إلا بالتسليم للنصوص وإثبات الرؤية على ما أثبته الله لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. يقول: (إذ كان تأويل الرؤية) التأويل المراد به هنا: التحريف، واعلم أن التأويل في الأصل معناه: التفسير لكن المشبهين استعملوا هذا اللفظ في طريقة سلكوها وحقيقتها التحريف، فسموا تحريف النصوص تأويلاً وهم كاذبون، فإن النصوص التي عطلوها بما يسمى التأويل حقيقة فعلهم فيها أنهم حرفوها وعطلوها عن معانيها. يقول رحمه الله: (إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ترك التأويل ولزوم التسليم) فالتأويل الذي ينبغي أن تفسر به النصوص هو ما جاء عن السلف، وأما غير ذلك من التأويل الذي يسميه أصحابه تأويلاً فإن حقيقته تحريف وضلال وباطل. يقول رحمه الله: (وعليه دين المسلمين) أي: ترك التأويل الباطل المنحرف هو ما عليه دين المسلمين، فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يدخلوا في النصوص مؤولين تأويلاً يعطلها عن معانيها أو يحرفها عما دلت عليه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 لا يكون تنزيه الله عز وجل إلا بتوقي النفي والتشبيه ثم قال رحمه الله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) . ذكر المؤلف رحمه الله في هذا المقطع البدعتين الرئيستين فيما يتعلق بالأسماء والصفات، وهما بدعة التمثيل وبدعة التأويل والتحريف الباطل. يقول رحمه الله: (ومن لم يتوق النفي) والنفي هو طريق المؤولة أهل التحريف والتعطيل، سواء كان تعطيلاً كلياً كقول الجهمية، أو جزئياً كقول المعتزلة وبعض مثبتة الصفات. يقول: (والتشبيه) المراد به: التمثيل، فمن لم يتوق هاتين البدعتين: - بدعة التعطيل. - وبدعة التمثيل. زل، ولا إشكال أنه زل، والزلل هو: الخروج عن الطريق المستقيم. قال: (ولم يصب التنزيه) يعني: لم يصب ما قصده من تنزيه رب العالمين، فإن تنزيه الله جل وعلا لا يكون إلا من طريق الكتاب والسنة، وكل من اقترح طريقاً ينزه فيه الرب جل وعلا خارجاً عن الكتاب والسنة فإنه لم يصب التنزيه، بل التنزيه الكامل التام هو في إثبات كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكلام عن الله عز وجل كلام عن غيب، والغيب لا سبيل إلى إدراكه إلا بالوحي، ولا يكون تمام التنزيه إلا في إثبات قول الله وقول رسوله والتزام ما جاء في الكتاب والسنة. وقوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه -أي: والتعطيل والتمثيل- زل ولم يصب التنزيه) وهذا فيه الرد عليهم؛ لأنهم قالوا: إنما نؤول لكي ننزه الله جل وعلا، فيقال لهم: ليس في تأويلكم تنزيه للرب جل وعلا، بل في تأويلكم إثبات النقص له سبحانه وتعالى عما تقولون علواً كبيراً. ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: (كل من أول النصوص بشبهة يروم بها تنزيه الرب جل وعلا لزم على قوله أعظم مما فر منه) . فالذين يؤولون الرؤية ويقولون: إن قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] يعني: لا يرى تنزيهاً له عن أن يكون في جهة أو عن أن يكون جسماً؛ لأن لازم الرؤية عندهم أن يكون جسماً كما يزعمون، قلنا لهم: أنتم فررتم من التجسيم وفررتم من أن يكون في جهة فوقعتم في أعظم من ذلك وهو أنكم شبهتموه بالعدم، لأن الذي لا يُرى هو العدم، والعدم هو أقل شأناً من الموجودات، فالموجودات أكمل من العدم، فإنهم ما فروا من باطل ألا ووقعوا في باطل أعظم منه وهلم جراً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 إثبات صفة الوحدانية والفردانية لله جل وعلا ثم قال رحمه الله في التعليل للجملة السابقة: [فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفة الوحدانية] (الوحدانية) مأخوذة من اسم الله الواحد، والواحد اسم من أسماء الله عز وجل، كما قال تعالى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل:22] فالله سبحانه وتعالى واحد في صفاته واحد في أفعاله واحد في أسمائه واحد فيما يجب له، فهو سبحانه وتعالى واحد لا شريك له. وبعض العلماء يقول الوحدانية مأخوذة من اسم الله عز وجل الأحد، والأحد اسم من أسماء الله عز وجل، كما في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] لكن الظاهر أن هذا القول ليس بصواب؛ لأن الأحد ينسب إليه صفة الأحدية، وأما هنا فالمؤلف قال: (الوحدانية) فتكون مأخوذة من اسمه عز وجل الواحد. قال رحمه الله: [منعوت بنعوت الفر دانية] (منعوت) أي: موصوف، والنعت والوصف بمعنىً واحد، وبعضهم يفرق بين النعت والوصف، لكن الذي جرى عليه أكثر العلماء على أن النعت والوصف لفظان مترادفان معناهما واحد، فقوله رحمه الله: (منعوت بنعوت الفردانية) أي: موصوف جل وعلا بصفات الفردانية، وصفة الفردانية مأخوذة من الفرد، والفرد ليس اسماً لله عز وجل فإنه لم يثبت ثبوتاً يعتد به ويلحق هذا الوصف بأسمائه، لكنهم قالوا: إنه مأخوذ من قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] فإن من معاني اسمه الصمد (الذي لم يلد ولم يولد) فهو فرد سبحانه وتعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 سبب تعطيل المعطلة لصفات الله عز وجل وقوعهم في التمثيل ابتداء ً قال رحمه الله: [ليس في معناه أحد من البرية] (ليس في معناه) أي: لا يثبت لأحد من البرية معنى من معانيه، ولا يثبت له سبحانه وتعالى ما يثبت للمخلوق، فلا يثبت لله جل وعلا معنىً من معاني الخلق، كما أن الخلق لا يثبت لهم شيء من صفات الرب، فقوله: (ليس في معناه) أي: في معنى الله جل وعلا وما ثبت له من الصفات العظيمة الجليلة أحد من البرية، وهذا فيه نفي التمثيل. والمؤلف رحمه الله يبدئ ويعيد في تقرير نفي التمثيل لكون هذا من أعظم ما يسلم به الإنسان من التعطيل، فإن المعطل إنما عطل لما مَثَّلَ صفات الرب جل وعلا بصفات العبد، وعظم في صدره أن يكون الرب كالعبد فعطل ما أخبر الله به عن نفسه لشبهة التمثيل، ولذلك أبدأ المؤلف رحمه الله وأعاد في نفي هذه البدعة؛ لأنها أصل الضلالات في باب الأسماء والصفات، فإن المعطلة إنما عطلوا بعدما مثلوا، وكذلك الممثلة وقعوا في هذه البدعة بعدما توهموا تمثيل الخالق بخلقه وأن له جل وعلا مثيلاً. والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 شرح العقيدة الطحاوية [9] عقيدة أهل السنة والجماعة في الإسراء والمعراج أنه حصل للنبي صلى الله عليه وسلم بروحه وبدنه يقظة، كما يثبتون له الحوض على ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، ويثبتون له الشفاعة العظمى التي يشاركهم في إثباتها المعتزلة والخوارج، كما يثبتون له الشفاعة في أهل المعاصي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1 ما ذكر عن الطحاوي من وصف الله بألفاظ محتملة وصحة نسبتها إليه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية، وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات] . قوله رحمه الله: (تعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات) قال بعض الشراح: إنها مما أدخل على المؤلف، وليست من كلامه، وذلك أن الطحاوي رحمه الله سائر في باب الأسماء والصفات على عقيدة أهل السنة والجماعة، فلم يقرر في هذه العقيدة شيئاً يخالف ما عليه سلف الأمة مما يتعلق بالأسماء والصفات. وما ذكره في هذه الجملة ليس من منهج أهل السنة والجماعة، فإن أهل السنة والجماعة سائرون في هذا الباب على ما جاء في الكتاب والسنة، فلا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، كما أنهم لا ينفون عن الله إلا ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله، والمؤلف رحمه الله في هذا المقطع نفى عن الله عز وجل الحدود والغايات والأركان والأعضاء. وإذا طلبنا هذا في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي كلام السلف الصالح لم نجد له ذكراً، فإن هذا مما أحدث بعد القرون المفضلة، ولم يكن عليه سلف الأمة، ولقائل أن يقول: لماذا تنكرون هذه الألفاظ مع أنها توحي للسامع التعظيم ويفهم منها تعظيم الرب جل وعلا؟ نقول: إن هذه الكلمات قد يظهر منها التعظيم إلا أن أهل الكلام الباطل المنحرفين عن طريق أهل السنة والجماعة يستعملونها في نفي ما دل عليه الكتاب والسنة، فقولهم: (تعالى عن الحدود) ينفون به الاستواء والعلو و (تعالى عن الغايات) ينفون به الحكمة، فيقولون: ليس لأفعال الله غاية ولا حكمة، ويقولون: الغاية إنما تكون للمحتاج، أما الله فهو الغني عن الغايات، وينفون بالأركان والأعضاء والأدوات ما أخبر الله به عن نفسه من أن له وجهاً جل وعلا كما في قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ونحو ذلك من الآيات التي فيها إثبات الوجه. وكذلك ينفون عنه بهذا الكلام ما أخبر به عن نفسه من أن له يداً كما قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] وما أشبه ذلك. فهم يأتون بهذه الألفاظ المجملة المبهمة التي تحتمل معنىً صحيحاً وتحتمل معنىً باطلاً، ويستعملونها في رد ما دلت عليه النصوص من إثبات صفات الكمال للرب جل وعلا. وينفون بقولهم: (لا تحويه الجهات الست) العلو، ولذلك كان عقد أهل السنة والجماعة في هذا من أفضل ما يكون، حيث إنهم لا يثبتون هذه الألفاظ المجملة المبهمة ولا ينفونها، يعني: لا نثبت ولا ننفي؛ لأن الإثبات يحتاج إلى دليل، كما أن النفي يحتاج إلى دليل، لكننا نستفصل، ومعنى نستفصل: نطلب التفصيل من أصحاب هذه الأقوال، فنثبت المعنى الصحيح من أقوالهم، ونرد المعنى الفاسد، المنبني على الألفاظ المبتدعة، فلا نقول: تعالى عن الحدود والغايات وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يقولها هؤلاء؛ لأن نفيها نفي لما لم يأت في الكتاب والسنة نفيه، وإثباتها كذلك مشكل؛ لأنها محتملة مبهمة. فإذاً: قاعدة أهل السنة والجماعة في الألفاظ المبهمة المجملة: أنهم يستفصلون، أي: يطلبون من المتكلم بهذه الكلمات التفصيل، فإذا استفصلوا نظروا في المعاني الصحيحة فأثبتوها، ونظروا في المعاني الباطلة فردوها، وهذا منهج يسلم به الإنسان من أن يتورط في ألفاظ ظاهرها التعظيم للرب جل وعلا، وباطنها نفي ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم. ولذلك نجد في تعليق شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله المكتوب والمسموع إنكار هذا الكلام، بل إنه في التسجيل الذي علق فيه على العقيدة الطحاوية رحمه الله قال: إن هذا الكلام رديء، ولكنه محمول على معنىً صالح فيما ذكره المؤلف؛ لأن المؤلف رحمه الله من أهل السنة والجماعة، وكلامه يفسر بعضه بعضاً، فما أجمله في هذا المكان يفسره في هذه العقيدة التي بين فيها إثبات ما أثبته الله لنفسه من الصفات. والمعاني الصحيحة التي تحتملها هذه الألفاظ مرادهم في قوله: (تعالى عن الحدود) أي: تعالى عن أن يحده عقل بشر، فهو سبحانه وتعالى غير محدود، أي: لا تحيط به عقول عباده، كما قال الله جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] ، والغايات أي: النهايات، فالله جل وعلا الكبير المتعال الذي لا تحيط به عقول عباده. مما ينفى أيضاً من المعاني الصحيحة التي تنفى عن الله عز وجل بهذا اللفظ الغاية التي يحتاجها، فهو سبحانه وتعالى الغني عن عباده كما قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56-57] فنفى الله سبحانه وتعالى عن نفسه الحاجة. ونحن لا نريد أن نفصل في المعاني الصحيحة والمعاني الفاسدة التي تضمنتها هذه الجمل، لكن نقول: كل من تكلم بهذا الكلام ينظر إلى كلامه بالاستفصال؛ فما صح ثبت، وما لم يصح من المعاني رد، هذا من حيث المعاني، أما من حيث الألفاظ فإننا لا نثبت ولا ننفي بل نتوقف فيها؛ لأن الألفاظ موقوفة على النصوص من الكتاب والسنة، فما ثبت بها ثبت، وما لم يثبت يرد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 2 الاعتقاد في معراج النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال رحمه الله: [والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلى، وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه ما أوحى، {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] فصلى الله وسلم عليه في الآخرة والأولى] . يقول رحمه الله في بيان عقد أهل السنة والجماعة: (والمعراج حق) فالمعراج اسم آلة الصعود، هذا في الأصل، فالمعراج هو السلم الذي يصعد به إلى علو، وأصل المادة (عرج) يدور على معنى الذهاب في الصعود، ويعني: العلو والارتفاع، فهذا معنى المعراج في اللغة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 ثبوت معراج النبي صلى الله عليه وسلم بالكتاب والسنة وأما ما يشير إليه المؤلف رحمه الله فهو ما أكرم الله سبحانه وتعالى به نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كونه عرج به إلى السماء أي: صعد به إلى السماء صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا الصعود جاء إثباته في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. أما ثبوته في الكتاب فبما ذكره الله جل وعلا في سورة النجم، فإنه ذكر ما يدل على عروجه سبحانه وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وذلك في قوله سبحانه وتعالى في رؤية جبريل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13-14] ومعلوم أن سدرة المنتهى في السماء وليست في الأرض، فهذا دل على أن الله سبحانه وتعالى عرج بنبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل المعراج من القرآن. أما دليله من السنة فقد ورد متواتراً بما لا شك فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عرج الله به إلى السماء، ولم ينكر ذلك أحد من السلف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 عروج النبي صلى الله عليه وسلم كان بشخصه يقظة لم يختلف السلف في معراج النبي وثبوته، وإنما اختلفوا في مسألة هل عرج به صلى الله عليه وسلم بروحه وشخصه، أم أنه عرج بروحه دون شخصه؟ يعني: دون بدنه، ولم يقل أحد منهم إنه عرج به مناماً، وهنا مسألة تلتبس على طلبة العلم فيظن أن قول عائشة ومعاوية رضي الله عنهما من أن العروج كان بروحه أنه كان مناماً، وهذا ليس بمراد لهم، إنما أرادوا أن الروح انفصلت عن البدن انفصالاً تاماً وعرج بها فلم يكن لها تعلق بالبدن. والذي عليه أهل السنة والجماعة ودل عليه الكتاب والسنة وقول الصحابة رضي الله عنهم: أن العروج إلى السماء كان بروحه صلى الله عليه وسلم وبدنه، ولا تعجب فهذه قدرة الله جل وعلا الذي أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وليس المحل محل تنظير بالواقع حتى نقول: هذا لا يمكن، فإن ذلك على الله يسير. قال رحمه الله: (وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم) هذا فيه إثبات الإسراء، وهو مقدمة المعراج، وقد جرى للنبي صلى الله عليه وسلم في إسرائه ومعراجه آيات عظيمة، وأما الإسراء فقد ثبت في الكتاب في سورة الإسراء حيث قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1] فلا إشكال في ثبوت الإسراء، حيث أسري به صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، وصلى فيه بالأنبياء، ثم بعد ذلك عرج به إلى السماء صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثم قال رحمه الله في بيان المعراج: (وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء) ومعلوم أنه حين قال: (بشخصه) فالمراد الروح والبدن؛ لأن العروج بالبدن دون الروح لا فائدة منه، إنما العروج الذي أثبته بقوله: (وعرج بشخصه) أي: بروحه وبدنه صلى الله عليه وسلم (في اليقظة) ليدفع قول من قال: إنه عرج به في المنام، (إلى السماء) إلى العلو، والسماء هنا: اسم جنس يشمل السماء الدنيا والعليا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاوز السبع الطباق، وبلغ مكاناً لم يبلغه أحد سمع فيه صريف الأقلام الله أكبر! صوت الأقلام التي تكتب ما شاء الله أن يقضي في عباده، كل يوم هو في شأن جل وعلا، وهذه منزلة لم يبلغها أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يبلغها أحد بعده صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 الاعتقاد في منتهى عروج النبي صلى الله عليه وسلم يقول رحمه الله: (ثم إلى حيث شاء الله من العلى) لم يذكر المؤلف رحمه الله منتهى للعروج، بل قال: (حيث شاء الله من العلى) أي: العلو والارتفاع، وأكرمه الله تعالى بما شاء مما شاهد في ذلك الموقف العظيم، إذ شاهد آيات قال الله جل وعلا فيها: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18] رأى آيات عظيمة، حيث رأى الجنة والنار، ورأى جبريل كما خلقه الله سبحانه وتعالى، ورأى سدرة المنتهى، وما غشيها من التغير الذي أذن الله سبحانه وتعالى به لهذه السدرة العظيمة، حتى إنه قال صلى الله عليه وسلم: (فاعتراها من أمر الله عز وجل ما لا يكاد يحيط به وصف) أو (ما لا يدرك بوصف) وذلك لعظيم ما رأى، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزلزل فؤاده، ولم يضطرب قلبه لما رآه في ذلك الموقف العظيم، وقد زكاه الله جل وعلا في موضعين، في قوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] ، وزكاه أيضاً في قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] ومع هذا الثبات العظيم لقلبه وفؤاده في هذه المشاهد الكبرى العظيمة ما استطاع أن يصف ما اعترى الشجرة من تغير لما أذن الله جل وعلا أن يغشاها ما يغشى، كما قال تعالى في قوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:14-16] وأبهم ما غشيها تعظيماً وتفخيماً لشأنها، (وأوحى إليه) أي: أوحى الله جل وعلا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العظيم (ما أوحى) يعني: الذي أوحى، والإبهام هنا كما مر معنا في التفسير إبهام تعظيم، فقد أوحى الله إليه أمر الصلاة وما شاء الله أن يوحيه إليه صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: (قال الله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] ) أي: ما رأى من تلك المواقف العظيمة والآيات الكبيرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 أفضلية ليلة المعراج بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، والقول في رؤية النبي لربه فيها واعلم أن ليلة المعراج هي أفضل ليالي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهي أفضل بالنسبة له من ليلة القدر، أما سائر الأمة فإن الفضل لها في ليلة القدر، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإن الفضل الذي حصله وناله وجرى له في تلك الليلة أعظم مما يجري في ليلة القدر. ثم المؤلف رحمه الله طوى ذكر هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة ربه أو لا؟ لأنه لا دليل على أنه رأى ربه، ولعل المؤلف رحمه الله أتى بالمعراج بعد ذكر الرؤية إشارة إلى الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة المعراج. والعلماء في هذا لهم قولان: القول الأول: أنه لم ير ربه بعينيه التي في رأسه، وهذا قول جمهور العلماء، وعليه المتقدمون والمتأخرون أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ربه رؤية معاينة؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يراه أحد قبل الموت، أي: في الآخرة، كما قال جل وعلا لموسى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] في قوله لموسى، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) . وذهب بعض العلماء إلى أنه رآه بفؤاده، وهذه الرؤية ليست مقيدة بالمعراج؛ لأنهم يقولون: رآه بفؤاده مرتين، ورؤية الفؤاد هي رؤية القلب، وهي غير رؤية المنام؛ لأن رؤية المنام لا إشكال في إثباتها. ولكن لا يقال: كيف رآه بفؤاده؟ فإن هذا أمر لا يدرك، لكن رآه بفؤاده، هكذا قال الإمام أحمد وابن عباس، وورد عنهم إثبات الرؤية مطلقاً للنبي صلى الله عليه وسلم يعني: دون تقييد، فما ورد عنهم مطلقاً يحمل على المقيد. ثم قال رحمه الله: (فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى) حق أن يصلى عليه صلى الله عليه وسلم لما ميزه الله به من الفضائل والمناقب، ومعنى الصلاة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الثناء عليه في الملأ الأعلى، هكذا قال أبو العالية في صحيح البخاري، وذهب شيخنا رحمه الله إلى أنه لا يقال شيء في الصلاة على النبي، إنما يقال: هو ثناء ومرتبة وفضل يدعى به للنبي صلى الله عليه وسلم دون أن يقيد بمعنىً خاص؛ لأن هذا يحتاج إلى توقيف ونص، والذي عليه الأكثرون هو ما ذكره أبو العالية من أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم هو ثناء الله عليه في الملأ الأعلى. قوله: (في الآخرة والأولى) يعني: في الدنيا والآخرة، وهو أحق من يصلى عليه صلى الله عليه وسلم لعظيم ما من الله به علينا حيث أخرجنا به من الظلمات إلى النور صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 مسألة: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؟ ثم المؤلف رحمه الله طوى ذكر هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة ربه أو لا؟ لأنه لا دليل على أنه رأى ربه، ولعل المؤلف رحمه الله أتى بالمعراج بعد ذكر الرؤية إشارة إلى الخلاف في هل النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في ليلة المعراج أو لا؟ والعلماء في هذا لهم قولان: القول الأول: أنه لم ير ربه بعينيه التي في رأسه، وهذا قول جمهور العلماء، وعليه المتقدمون والمتأخرون أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ربه رؤية معاينة؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يراه أحد قبل الآخرة قبل الموت، كما قال جل وعلا: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] في قوله لموسى، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) . وذهب بعض العلماء إلى أنه رآه بفؤاده، وهذه الرؤية ليست مقيده بالمعراج؛ لأنهم يقولون: رآه بفؤاده مرتين ورؤية الفؤاد هي رؤية القلب، وهي غير رؤية المنام؛ لأن رؤية المنام لا إشكال في إثباتها. ولكن لا تقول كيف رآه بفؤاده فإن هذا أمر لا يدرك، لكن رآه بفؤاده هكذا قال الإمام أحمد وابن عباس، وورد عنهم إثبات الرؤية مطلقاً للنبي صلى الله عليه وسلم يعني: دون تقييد، فما ورد عنهم مطلقاً يحمل على المقيد. ثم قال رحمه الله: (فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى) حق أن يصلى عليه صلى الله عليه وسلم لما ميزه الله به من الفضائل والمناقب، ومعنى الصلاة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الثناء عليه في الملأ الأعلى، هكذا قال أبو العالية في صحيح البخاري، وذهب شيخنا رحمه الله إلى أنه لا يقال شيئ في الصلاة على النبي، إنما يقال: هو ثناء ومرتبة وفضل يدعى به للنبي صلى الله عليه وسلم دون أن يقيد بمعنىً خاص؛ لأن هذا يحتاج إلى توقيف ونص، والذي عليه الأكثرون هو ما ذكره أبو العالية من أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم هو ثناء الله عليه في الملأ الأعلى. قوله: (في الآخرة والأولى) يعني: في الدنيا والآخرة، وهو أحق من يصلى عليه صلى الله عليه وسلم لعظيم ما من الله به علينا حيث أخرجنا به من الظلمات إلى النور صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 حوض النبي صلى الله عليه وسلم وثبوته في السنة ثم قال: [والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته حق، والشفاعة التي ادخرها لهم حق كما رؤي في الأخبار] . ذكر المؤلف رحمه الله في هاتين الجملتين أمرين من أمور الاعتقاد: الأمر الأول: الحوض، قال المؤلف رحمه الله: (والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته حق) أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله جعل له حوضاً في عرصات القيامة أي: في فناء القيامة في أرض المحشر، وهذا الحوض من خصائص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حيث السعة، وكثرة من يرد عليه، ولكنه جاء ما يدل على أن لكل نبي حوضاً، لكن الحوض الذي أختص به لا يشبهه حوض. وقد ثبت ذلك بقول الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] فإن الكوثر نهر في الجنة وهبه الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم يخرج منه ميزابان يصبان في الحوض الذي يكون في عرصات القيامة، فهذه الآية بها ما يثبت ما ذكره أهل السنة والجماعة من أن النبي صلى الله عليه وسلم له حوض يرده أهل الإسلام في عرصات القيامة، وهذا الحوض وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث كثرة من يرد عليه، ومن حيث كثرة آنيته، ومن حيث طوله وعرضه؛ كل ذلك جاء مبيناً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. واعلم أن الحوض الذي وعده الله سبحانه وتعالى أهل الإسلام يكون قبل الصراط، بل هو أول ما يرد الناس في أرض المحشر؛ لأن الناس يخرجون يوم القيامة في هول عظيم، وكرب شديد، وتدنو منهم الشمس فيصيبهم عطش عظيم، كما قال الله جل وعلا في وصف المجرمين: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:86] أي: عطاشاً بلغ بهم العطش منتهاه. قال شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله: والظاهر أن هذا الوصف لا يخصهم؛ لأن الجميع يعطشون في أرض الموقف، لكن أهل الإيمان يرون الحوض فيطفأ ظمؤهم، فإنهم إذا شربوا من ذلك الماء لم يظمئوا بعده أبداً. بخلاف أهل الإجرام فإنهم يردون النار عطاشاً، إذ أنهم لا يسقون من حوضه صلى الله عليه وسلم، ولا من حوض غيره من الأنبياء، فيردون النار على هذه الحال التي ذكرها الله جل وعلا (ورداً) أي: عطاشاً. وما قيل في أن الحوض يكون بعد الصراط لا دليل عليه، بل ظاهر الأدلة في ذكر ما يكون في ذلك اليوم أن ورود الحوض يكون قبل الصراط، بل إن في السنة ما يدل على أنه لا يمكن أن يكون بعد الصراط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يرى أقواماً من أمته يذادون عن الحوض أي: يمنعون، فيقول صلى الله عليه وسلم: (أصيحابي أصيحابي) فتقول الملائكة له: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول: سحقاً سحقاً) وهؤلاء هم اللذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يمكن أن يكون بعد الصراط فإنه لا يجوز الصراط إلا مؤمن، نسأل الله أن نكون منهم. المهم أن الحوض ثابت بالكتاب والسنة، وهو مما تواتر به الخبر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقول المؤلف رحمه الله: (أكرمه الله تعالى به) أي: أكرم به محمداً صلى الله عليه وسلم (غياثاً لأمته) أي: يغيثهم من هول ذلك الموقف وشدة العطش والكرب فيه. وقوله: (لأمته) يحتمل أن يكون تخصيصاً فلا يكون الحوض إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن الحوض الذي أكرم الله به نبيه صلى الله عليه وسلم خاص بأمته، فلا يرده غير هذه الأمة، إذ أن كل أمة ترد حوض نبيها، فقوله: (لأمته) إما أنه تخصيص للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء، وإما أن يكون تخصيص حوض النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، والمعنى الثاني أظهر؛ لأنه جاء في الحديث بأن لكل نبي حوضاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم العظمى ثم قال رحمه الله: [والشفاعة التي ادخرها لهم حق كما روي في الأخبار] . الشفاعة: تقدم تعريفها، وأصلها من الشفع، وهو جعل الفرد زوجاً، هذا أصلها في اللغة، والمراد بها: التوسط في جلب الخير أو دفع الضر، وهي كذلك في الآخرة، فإن الشفاعة التي في الآخرة توسط ممن يمن الله عليه بالتوسط في جلب خير أو دفع ضر، لكنها تختلف عن شفاعة الدنيا؛ لأن شفاعة الآخرة لا تكون إلا بإذن من الرب جل وعلا، ولا تكون إلا برضاه عن المشفوع له، فلابد من هذين الشرطين: لابد من الإذن فلا يشفع أحد إلا بإذنه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] . ولابد من الرضا كما قال جل وعلا: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] . فلابد من الإذن والرضا في كل موارد الشفاعة، وليس فقط في مورد واحد، يعني: في الشفاعة العظمى وما دونها، فإن الشفاعة العظمى لا تكون إلا بعد الاستئذان، ولذلك يذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه فيسجد، ولا يبدأ بالشفاعة أولاً بل يستأذن، فإذا أذن له شفع صلى الله عليه وسلم، والشفاعة ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي ثابتة يوم القيامة وهي على درجات: - منها ما حصل الاتفاق بين الأمة على ثبوتها. - ومنها ما جرى فيه الخلاف بين أهل السنة والجماعة وغيرهم من أهل البدع. أما ما اتفقوا على ثبوته فهو ما أشار إليه في قوله: (والشفاعة التي ادخرها لهم حق كما روي في الأخبار) وهي الشفاعة العظمى التي يشفع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم عند ربه أن يأتي جل وعلا لفصل القضاء بين الناس، وهذه شفاعة عظمى؛ لأن المنتفع بها هم الخلق جميعاً، ولأن الجميع يتخلون عنها فلا يكون لها إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك سميت عظمى؛ لعظيم الانتفاع بها، ولكون الأنبياء بل آدم وأولو العزم من الرسل يتخلون عنها، فكل منهم يعتذر، فإن الناس إذا اشتد بهم الكرب يقول بعضهم لبعض كما في الصحيحين وغيرهما من قولهم لبعضهم: (ألا ترون ما قد حل بكم وبلغ بكم، فيذهبون إلى آدم ويعدون عليه ما خصه الله به فيعتذر، ويذهبون إلى نوح فيعتذر، ويذهبون إلى إبراهيم فيعتذر، ويذهبون إلى موسى فيعتذر، ويذهبون إلى عيسى فيعتذر، ويذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم) . وهذه فائدة: الناس الذين يذهبون إلى الأنبياء هم أهل الإيمان فيما يظهر، وكما قال شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله؛ لأنهم يعددون على الأنبياء ما لا يقر به الكفار، فيقولون لنوح مثلاً: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ويقولون لآدم: أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، ويقولون لموسى: أنت رسول الله الذي كتب الله لك التوراة بيده وكلمك، وأيضاً يذكرون خصائص عيسى عليه السلام. الشاهد: أنهم ذكروا لكل نبي ما لا يثبته له إلا أهل الإيمان، فهذا يدل على أن الناس المذكورين في الأحاديث هم أهل الإيمان الذين يصدقون بهذا وهو القريب. أما أهل الكفر فإنهم لا شأن لهم بذلك فهم مشغولون بأنفسهم والتكفير فيما سينالهم من حيث ما ينالهم من سخط الله وعذابه، فإنهم يحشرون يوم القيامة صاغرين، ومن كان صاغراً ليس أهلاً للطلب، ولا أهلاً للسعي في نفع الخلق. على كل حال: هذه الشفاعة يثبتها أهل السنة والجماعة وغيرهم من معتزلة وخوارج وغيرهم من الفرق، وهي خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، أما باقي الشفاعات فإن أهل السنة والجماعة أثبتوها وغيرهم من أهل البدعة نفوها، إلا فيما يتعلق بالشفاعة في رفع الدرجات في الجنة، فإنهم يثبتونها، لكن الشفاعة في أهل الكبائر وفي قوم استحقوا النار أن لا يدخلوها، والشفاعة في إخراج من دخل النار أن يخرج منها، هذه كلها ينكرها المعتزلة والخوارج، ويحملون ما ورد في الشفاعة على الشفاعة العظمى، وعلى الشفاعة في رفع الدرجات في الجنة. والله تعالى أعلم. وبالله التوفيق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 شرح العقيدة الطحاوية [10] أخذ الله سبحانه وتعالى على عباده الميثاق بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وفطرهم عليه، وسيسألهم عنه يوم القيامة، وكتب الله عز وجل مقادير الخلائق عنده في الأزل، فالقدر سر الله الذي لا يطلع عليه أحداً من خلقه، وعقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا ينبغي الخوض فيه؛ لأنه من علم الله الغيبي الذي لا ندركه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 1 الاعتقاد في الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق وقد علم الله تعالى] . الميثاق: مأخوذ من الوثاق فهو اسم مصدر، وأصله الشد والربط، من وثق الشيء وأوثق إذا شد وربط، فالميثاق: هو ما عقد الله جل وعلا الناس عليه، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى من آدم وذريته، وهو حق كما قال المؤلف رحمه الله، يدل على ذلك قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] * {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173] فهاتان الآيتان فيها الإشارة إلى الميثاق الذي أخذه الله جل وعلا على الناس. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 2 خلاف العلماء في حقيقة الميثاق وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حقيقة الميثاق، هل هو ما جاء في بعض الأحاديث كما في حديث ابن عباس: (أن الله سبحانه وتعالى أخرج ذرية آدم من ظهر آدم، ونثرهم بين يديه كالذر، ثم قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى) أي: أقروا له بالربوبية سبحانه وتعالى؟ على هذا حمل جماعة من العلماء الميثاق في هذه الآية وفسروه به، فقالوا: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] هو ما أخذه الله تعالى في عالم الذر مما كان قبل خلقهم. وهذا الميثاق هل يذكره الناس أو لا يذكرونه؟ الجواب أنهم لا يذكرونه، ولا إشكال في أنه ما من أحد يذكر هذا الميثاق الذي أخذه الله عليه في عالم الذر، ولذلك ذهب جماعة من العلماء إلى أن الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم هو ميثاق الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو المشار إليه في قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] ، وهو المشار إليه في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة) فالفطرة: هي الإقرار بالرب جل وعلا، وهو المشار إليه فيما رواه الإمام مسلم في حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: خلقت عبادي حنفاء -أي: على التوحيد- فاجتالتهم الشياطين) أي: صرفتهم، وهذا أمر لا ينكره أحد، بل هو مما ركز في الفطر، ولذلك كان المشركون إذا سئلوا: من الخالق؟ من الرازق؟ من المالك؟ من المدبر؟ كانوا يجيبون: الله، وهذا إقرار منهم بمقتضى الميثاق الذي واثقهم الله وفطرهم عليه، وهذا الذي ذهب إليه جماعة من العلماء: منهم شيخ الإسلام رحمه الله، ومنهم ابن القيم، وأن الميثاق ليس ما جاء في بعض الأحاديث: من أنه أخرجهم من ظهر أبيهم في عالم الذر وأخذ عليهم الميثاق، قالوا: ومما يدل على ذلك: أولاً: أن الأحاديث التي وردت فيها ضعيفة، وأن هذا الميثاق لا يذكره أحد، والله سبحانه وتعالى قال في الآية ما يدل على أن هذا الميثاق حاضر في أذهانهم لا يغيب عنهم، فقال سبحانه وتعالى: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] يعني: لئلا تقولوا {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] ، ومعنى الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} [الأعراف:172] يعني: هذا الأخذ من ظهور بني آدم علته وسببه: أن لا يقول الناس يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] ، وهل يذكر الناس هذا الميثاق؟ الجواب: لا. فإذا كانوا لا يذكرونه في الدنيا فالغفلة عنه وعدم ذكره في الآخرة من باب أولى، وهذا مما يؤيد أن الميثاق الذي أخذه الله عز وجل هو ميثاق الفطرة، وليس الميثاق الذي جاء في حديث ابن عباس لضعف الحديث. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 ترجيح القول إذاً: عندنا في الميثاق قولان: القول الأول: ما جاء في حديث ابن عباس من أن الله أخذ على الناس الميثاق في عالم الذر فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] ، وهذا القول اختاره شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، ونسبه ابن القيم إلى جماعة وطائفة من السلف والخلف. القول الثاني: الذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله وابن القيم وابن كثير في تفسيره من أن الميثاق هو ميثاق الفطرة لضعف حديث ابن عباس؛ ولأن الآية ليس فيها ما يدل على ذلك، فإن الله عز وجل قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172] ولم يقل: (من آدم) فالأخذ من بني آدم وليس من آدم، ولم يقل: من ظهره، بل قال: (من ظهورهم) ولم يقل: ذريته، بل قال: (ذريتهم) كل هذا يدل على أن الأخذ ليس ما جاء في حديث ابن عباس، وأن الأخذ هنا هو أخذ الميثاق عليهم حيث فطرهم جل وعلا منذ أوائل خلقهم، وهو خروجهم من آبائهم نطفاً إلى أرحام أمهاتهم فمن تلك اللحظة أخذ الله جل وعلا الميثاق عليهم بالفطرة التي قارنت خلقهم. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) والفطرة التي ولد عليها هي الإقرار بالتوحيد للرب جل وعلا لو خلي من الموانع والشواغل والصوارف. فإذا كان كذلك فما الجواب على قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:172] ؟ يقول: (أشهدهم على أنفسهم) الشهادة على أنفسهم في القرآن يراد بها الإقرار، ولا يلزم في هذا النطق، بل الشهادة تكون حالاً ومقالاً. فالشهادة على النفس معناها الإقرار أي: جعلهم مقرين بهذا الميثاق: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:172] أي: قررهم عليه، والشهادة لا يلزم منها التكلم، بل قد تكون الشهادة بالحال لا بالمقال، ومن ذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة:17] وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر حالاً لا مقالاً، فإنهم لم يقروا بأنهم كفار، إنما شهادتهم شهادة حالية لا شهادة مقالية. وكذلك قوله: {قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] القول قد يكون باللفظ، وقد يكون بالحال، وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل لتقرير هذا المعنى، وكذلك نقله ابن القيم في أحكام أهل الذمة، والمراد أن الآية ليس فيها دليل على ما ذكر في الميثاق السابق الذي جاء في حديث ابن عباس. أما إخراج الذرية فقد جاءت فيه أحاديث كثيرة، لكن ليس منها صحيح يثبت أن الله كلمهم وخاطبهم، إنما فيها أن الله أخرجهم وميزهم إلى فريقين: إلى أهل السعادة وإلى أهل الشقاء، وهذا ليس فيه ذكر للميثاق، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي ثابتة صحيحة، لكن الذي لم يصح هو تكليم الله لهم في ذلك الوقت وإخراجهم وأخذه الميثاق عليهم. فقول المؤلف رحمه الله: (والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق) يحتمل أن المؤلف رحمه الله تعالى أراد بالميثاق ما جاء في حديث ابن عباس، ويحتمل أنه يريد بالميثاق الفطرة، وهما قولان لأهل العلم كما سبق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 إثبات علم الله عز وجل بأفعال العباد ومصائرهم وتقديره ذلك ثم قال المؤلف رحمه الله بعد هذا. [وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، ولا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه، وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله] . هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله هو بداية بحث مسألة القدر، وبدأه المؤلف رحمه الله بإثبات علم الله جل وعلا السابق لكل شيء، وبدأ بالعلم لأنه أقوى ما يرد به على نفاة القدر. قال الإمام الشافعي رحمه الله: (ناظروهم بالقدر -أي: القدرية- فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا) وهذه كلمة عظيمة من الإمام الشافعي رحمه الله فيها بيان طريق إثبات القدر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 علم الله السابق بمصائر خلقه والمؤلف سلك ذلك المسلك حيث قرر -في أول تقرير مسائل القدر- علم الله جل وعلا السابق لكل شيء، قال رحمه الله: (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص) . وهذا دل عليه أحاديث كثيرة. أولاً: إثبات علم الله السابق للأشياء أدلته أكثر من أن تحصر، فإن الله جل وعلا قد خلق كل شيء بقدر، ومن لازم تقديره العلم كما قال جل وعلا: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، وكما قال سبحانه وتعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] فإن من لازم إثبات القدر إثبات العلم، وأدلة إثبات العلم كثيرة كما تقدم شيء منها في الدروس السابقة. وأما علم الله عز وجل الخاص الذي ذكره المؤلف رحمه الله -وهو علمه سبحانه وتعالى بعدد أهل الجنة، وعدد أهل النار، وأنه قد فرغ من ذلك فلا يزاد في العدد ولا ينقص- فقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة، منها: ما رواه مسلم من حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعي إلى جنازة صبي من الأنصار فقالت عائشة رضي الله عنها: طوبى له عصفور من عصافير أهل الجنة، لم يعمل سوءاً ولم يدركه. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوغير ذلك يا عائشة -يعني: أوغير هذا الكلام- فإن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم) فدل ذلك على أن أهل الجنة وأهل النار قد فرغ منهم، يعني: العلم بهم قد تم واستقر قبل أن يخلقهم. وقد جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه بكتابين فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: هذا كتاب فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم، وهذا كتاب فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم) . وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة فقالوا: (يا رسول الله! أخبرنا كأنا خلقنا اليوم -يعنى: أخبرنا عن هذا الأمر- عن العمل أنعمل أو العمل فيما جرت به الأقلام، وفيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير. ثم قال السائل: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ، وهذا يدل على أن أهل الجنة قد قضي الأمر فيهم، وأهل النار كذلك، فقد سبق علم الله جل وعلا بما يكون من الخلق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 إثبات علم الله بما سيفعله العباد ثم بعد هذا التقرير قال رحمه الله: (وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه) . أفعالهم كذلك على هذه الحال، فإن الله جل وعلا قدر الأشياء وقدر أسبابها، فقدر أهل الجنة وقدر أعمالهم، وقدر أهل النار وقدر أعمالهم، وعلم أهل الجنة والنار وعلم أعمالهم، فالجميع قد أحاط به علم الله جل وعلا. ثم قال رحمه الله تعالى: (وكل ميسر لما خلق له من سعادة أو شقاء) لذلك قال الله جل وعلا: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] فكل أحد من أهل السعادة ومن أهل الشقاء ميسر لما خلق له، أي: خلق ليكون إما من أهل الجنة أو من أهل النار، وكل ميسر لما خلق له. وهذا ليس فيه إلغاء اختيارهم كما سيأتي، بل فيه الإخبار بأن الله علم بما يكون عليه الخلق في المآل، وعلم الأعمال التي تفضي إلى ذلك المآل، وأنه ييسر كل أحدٍ إلى ما علم في سابق علمه من كونه من أهل السعادة أو من أهل الشقاء من أهل الجنة أو من أهل النار. وقوله رحمه الله: (وكل ميسر لما خلق له) هذا من أفضل الكلام؛ لأنه مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وهو أفضل من قول القائل: الإنسان مسير أو مخير، فالإنسان لا شك أنه مسير في بعض ما قدر له لكن هذا التسيير لا يلغي اختياره. ولفظ المؤلف رحمه الله أفضل من لفظ (مسير) فإنه يوحي بأن الإنسان لا اختيار له بالكلية، وهذا مخالف لما دلت النصوص من إثبات المشيئة والاختيار للإنسان، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] فأثبت للعبد مشيئة، لكن هذه المشيئة لا تخرج عن مشيئة الرب جل وعلا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 الأعمال بالخواتيم والسعادة والشقاوة بقدر الله عز وجل وقال رحمه الله: (والأعمال بالخواتيم) أي: الأعمال من حيث الثواب والعقاب، ومن حيث الفوز والنجاة، بما يحصل به الختم والنهاية (والأعمال بالخواتيم) أي: بما يختم للإنسان بها، وبما تنتهي عليه. وقد جاء الحديث في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث سهل بن سعد في الصحيحين أنه قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يرى الناس، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يرى الناس، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم) . فدل ذلك على أن العمل بالخاتمة وما يختم للإنسان به، فالعبرة بالخواتيم والنهايات لا بالبدايات، فقد يكون الإنسان في بدايته كافراً معانداً لرب العالمين، ثم يختم له بالخير. يقول رحمه الله: (والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله) أي: أن السعادة والشقاء بقدر، فكل لا يخرج عن تقدير الله جل وعلا، فطاعة الطائع بقدر الله جل وعلا، ومعصية العاصي بقدر الله سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه وتعالى لا يكون في ملكه إلا ما يشاء. فالسعيد إنما يسعد بما سبق من قضاء الله، والشقي إنما يشقى بما سبق من قضاء الله عز وجل، فقضاء الله وقدره محيط بالعباد أهل السعادة وأهل الشقاء على حد سواء لا فرق بين هذا وهذا. ثم بعد هذا قال رحمه الله في جواب إشكال قد يلقيه الشيطان في قلب الإنسان، فيقول: إذا كان الأمر كذلك ففيم العمل؟ فالجواب ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق) . والجواب أيضاً فيما قاله المؤلف رحمه الله: [وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه كما قال تعالى في كتابه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] فمن سأل: لم فعل فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين. فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 وجوب التسليم لقدر الله الذي هو سره نعم يقول رحمه الله: (وأصل القدر هو سر الله تعالى في خلقه) (أصل القدر) أي: قاعدته التي يبنى عليها أنه سر الله في خلقه، والسر في الأصل: هو ما خفي وكتم، فالقدر هو سر الله تعالى في خلقه أي: أنه جل وعلا أخفاه وكتمه فلم يظهره لخلقه، يبيّن هذا قوله: (لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل) فإذا عجزت عن إدراك وفهم هذا السر، أو فهمت القدر وما تضمن فيجب عليك أن تسلم لله سبحانه وتعالى، وأن توقن أصلاً ثابتاً لا يتزحزح أنه جل وعلا حكم عدل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44] {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] فإذا أيقن العبد أن الله جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، وأنه ليس بظلام للعبيد، وأنه حرم على نفسه الظلم قر قلبه واطمأن وزال ما فيه من الشوائب والكدر المتعلقة بهذا الباب. فالواجب على المؤمن أن يسلم لله عز وجل كما تقدم في كلام المؤلف رحمه الله، فأصل القدر سر الله، وهذه الكلمة نقلت عن عيسى عليه السلام فيما نقل، وهي مأثورة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وهي تفيد فائدتين: الفائدة الأولى: قطع النظر والتعمق في هذا الباب فالنظر فيه لا يوصل إلى علم؛ لأنه سر، والسر خفي، والخفي لا سبيل إلى تحصيله. الفائدة الثانية: التسليم لله عز وجل؛ لأنه إذا كان سراً فلا يمكن الاطلاع عليه، وإذا أيقنت بأن ربك حكم عدل جل وعلا فإنك ستمتنع عن المعارضة والمناقشة والتعمق في هذا الباب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 التحذير من التعمق والخوض في باب القدر بالنظر والفكر والوسوسة قال رحمه الله: (لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك) أي: في باب القدر (ذريعة الخذلان) (ذريعة) أي: وسيلة (الخذلان) أي: هو عدم النصر، يعني: سبب لعدم نصر الله عز وجل لعبده، فالخذلان هو ترك النصر، فمن أراد أن يترك الله جل وعلا نصره فلينظر في القدر، وليماحك فيه وليناقش وليتعمق. قال رحمه الله: (وسلم الحرمان) أي: أنه وسيلة تحصيل الحرمان، والحرمان أصله المنع، والمنع هنا: منع طمأنينة القلب ومنع اليقين والانشراح، فإن من شك في هذا الأمر وعمق النظر فيه ألقى الشيطان في قلبه الوساوس التي تورثه حرمان لذة الإيمان. قال: (ودرجة الطغيان) أي: يحصل للإنسان بها الطغيان وهو مجاوزة الحد؛ لأنه إذا كان القدر سراً أخفاه الله عز وجل عن خلقه؛ ولم يطلع عليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فالواجب التسليم والوقوف وعدم تجاوز ما أمر الله به وما أخبر الله به في هذا الشأن. قال: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسةً) وقد نصح رحمه الله في هذا التحذير، وفي التكرار للتنفير من النظر في هذا الباب. (فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه) (طوى) أي: أخفى (علم القدر) أي: حقيقته (عن أنامه) أي: عن الخلق (ونهاهم عن مرامه) يعني: عن النظر فيه وعن طلبه. وقد (خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أصحابه وهم يخوضون في القدر -كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه- فغضب غضباً شديداً، كأنما تفقأ في وجهه حب الرمان) ، ونهاهم عن ذلك، وأمرهم بالاجتماع على ما كتب الله عز وجل، وعدم ضرب بعضه ببعض، ثم قال: (إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم على كتاب ربهم، اجتمعوا عليه ما ائتلفت قلوبكم، وقوموا عنه إذا اختلفتم) أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (القدرية مجوس هذه الأمة) وهذا الحديث وإن كان في أفراد الأحاديث الواردة فيه مقال لكن مجموع الأحاديث ثابت في ذم القدرية؛ وذلك لأنهم بحثوا وتنطعوا فيما نهوا عنه، وطلبوا تحصيل ما منعوا منه. قال رحمه الله: (كما قال تعالى في كتابه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] فمن عارض الله في قدره فقد نازع الله عز وجل في حكمه، فمن سأل:لم فعل؟) يعني: إذا قال الإنسان: لم فعل كذا ولم يفعل كذا، فإنه قد رد حكم الكتاب ما حكم الكتاب الذي رده؟ النهي عن السؤال عن أفعال الله لماذا فعل كذا؟ ولماذا لم يفعل كذا؟ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ، (ومن رد حكم الكتاب) أي: كتاب الله جل وعلا في هذا وفي غيره (كان من الكافرين) أي: من جملتهم؛ لأن السؤال عن أفعال الله عز وجل على وجه الاعتراض كفر بالله عز وجل. يقول رحمه الله: (فهذا جل ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله عز وجل) يعني: غاية ما نحتاج في مسألة القدر أن نعلم أن الله جل وعلا قد أحاط بكل شيء علماً، وأن نعلم أنه سبحانه وتعالى قد كتب ما علم، وأنه سبحانه وتعالى قد شاء ما قدر، وأنه جل وعلا قد خلق كل شيء، وهذه الأربع المراتب بها يحصِّل الإنسان انتظام التوحيد؛ لأن القدر نظام التوحيد كما قال ابن عباس رضي الله عنه، ومعنى نظام التوحيد أي: أنه ينتظم التوحيد ولا ينتقض، فمن أنكر القدر انتقض وانتفى توحيده. فنظام التوحيد الإيمان بالقدر، والقدر هو أن تؤمن بأن الله علم الأشياء وكتبها وشاءها وخلقها كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مراتب القدر. هذا ما يحتاجه منور القلب، أما الذي يتمحك ويتنطع ويتعمق فهذا قد ضرب طريقاً يحصل له به ما ذكره رحمه الله من الخذلان والحرمان والطغيان. قال: (وهي درجة الراسخين في العلم) جعلنا الله وإياكم منهم وممن حصلها، هذه درجة الراسخين في العلم الذين آمنوا بالقدر ولم يعارضوا قدر الله عز وجل أو يقعوا في شك أو ريب. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 التحذير من الخوض في القدر قال: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسةً) وقد نصح رحمه الله في هذا التحذير، وفي التكرار للتنفير من النظر في هذا الباب. (فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه) (طوى) أي: أخفى، (علم القدر) أي: حقيقته، (عن أنامه) أي: عن الخلق (ونهاهم عن مرامه) يعني: عن النظر فيه وعن طلبه. وقد (خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أصحابه وهم يبحثون في القدر فغضب -كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه- فغضب غضباً شديداً، كأنما تفقأ في وجهه حب الرمان، ونهاهم عن ذلك، وأمرهم بالاجتماع على ما كتب الله عز وجل، وعدم ضرب بعضه ببعض، ثم قال: إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم على كتاب ربهم، اجتمعوا عليه ما ائتلفت قلوبكم، وقوموا عنه إذا اختلفتم) أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (القدرية مجوس هذه الأمة) وهذا الحديث وإن كان في أفراد الأحاديث الواردة فيه مقال لكن مجموع الأحاديث ثابت في ذم القدرية؛ وذلك لأنهم بحثوا وتنطعوا فيما نهوا عنه، وطلبوا تحصيل ما منعوا منه. قال رحمه الله: [كما قال تعالى في كتابه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] فمن عارض الله في قدره فقد نازع الله عز وجل في حكمه، فمن سأل لم فعل؟] يعني: إذا قال الإنسان: لم فعل كذا ولم يفعل كذا، (فإنه قد رد حكم الكتاب) ، ما حكم الكتاب الذي رده؟ النهي عن السؤال عن أفعال الله لماذا فعل كذا؟ ولماذا لم يفعل كذا؟ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ، (ومن رد حكم الكتاب) أي: كتاب الله جل وعلا في هذا وفي غيره (كان من الكافرين) أي: من جملتهم؛ لأن السؤال عن أفعال الله عز وجل على وجه الاعتراض كفر بالله عز وجل. يقول رحمه الله: (فهذا جل ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله عز وجل) يعني: غاية ما نحتاج في مسألة القدر أن نعلم أن الله جل وعلا قد أحاط بكل شيء علماً، وأن نعلم أنه سبحانه وتعالى قد كتب ما علم، وأنه سبحانه وتعالى قد شاء ما قدر، وأنه جل وعلا قد خلق كل شي، وهذه الأربع مراتب بها يحصل الإنسان انتظام التوحيد؛ لأن القدر نظام التوحيد كما قال ابن عباس رضي الله عنه، ومعنى نظام التوحيد أي: أنه ينتظم التوحيد ولا ينتقض، فمن أنكر القدر انتقض وانتفى توحيده. فنظام التوحيد الإيمان بالقدر، والقدر هو أن تؤمن بأن الله علم الأشياء وكتبها وشاءها وخلقها كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مراتب القدر. هذا ما يحتاجه منور القلب، أما الذي يتمحك ويتنطع ويتعمق فهذا قد ضرب طريقاً يحصل له به ما ذكره رحمه الله من الخذلان والحرمان والطغيان. قال: (وهي درجة الراسخين في العلم) جعلنا الله وإياكم منهم وممن حصلها، هذه درجة الراسخين في العلم الذين آمنوا بالقدر ولم يعارضوا قدر الله عز وجل أو يقعوا في شك أو ريب. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [11] إن من تمام التوحيد لله رب العالمين الإيمان بالقدر، وأن ما شاءه الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، كما أن من تمام الإيمان بالقدر والإيمان بالقلم الذي كتب كل شيء أمر الله به، وباللوح المحفوظ الذي كتب فيه قدر الله سبحانه وتعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 1 قبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود من الإيمان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: - علم في الخلق موجود. - وعلم في الخلق مفقود. فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود] . قال المؤلف رحمه الله تعالى في سياق كلامه عن القدر: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور القلب) . (هذا) يعني: ما تقدم تقريره من المسائل فيما يتعلق بالقدر، والذي تقدم تقريره سبق علم الله جل وعلا للأشياء، وتقدم أيضاً أن القدر سر الله في خلقه، وأنه قد منع الله جل وعلا من التعمق والنظر فيه؛ لأن ذلك من أسباب الخذلان والحرمان والطغيان. ثم قال رحمه الله: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه) وإنما يحصل النور في القلب من القرآن الكريم، فهو النور الذي يفرق الله به بين الحق والباطل، قال الله جل وعلا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:122] ، فالقرآن نور وروح، فكلما عظم في قلب العبد هذا النور تبددت الشبهات، وانقشعت الظلمات، وزالت كل المكدرات، وكلما خفي هذا النور كلما التبس الأمر على الإنسان، وضل وأصيب بالحيرة والوسوسة والتيه والاضطراب والتناقض، كما قال الله جل وعلا: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] ، والله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والنور الذي أخرجهم إليه هو نور النبوة والقرآن. فمنور القلب هو من اقتصر على ما في القرآن واكتفى به، ومنور القلب هو الذي لم يجاوز ما جاء في القرآن والسنة في هذا الباب، ولم يدخل في هذا الأمر بعقله ولا برأيه الفاسد، بل اقتصر على ما جاءت به النصوص. وقوله رحمه الله: (وهي درجة الراسخين في العلم) أي: إدراك ما تقدم درجة الراسخين في العلم، فليس الرسوخ في العلم التعمق فيما منع الله عز وجل العباد من النظر فيه، إذ يظن بعض الناس أن الرسوخ في العلم هو أن يتعمق الإنسان في مثل هذه الأمور وأن يبحث وأن يطيل النظر، وأن يكرر الكلام فيما حظر ومنع من الكلام فيه، ويظن ذلك تحقيقاً ورسوخاً، وهو مزلة عن الطريق المستقيم، ومضلة يضل بها عن سبيل الله القويم. فالواجب على المؤمن، وعلى من نصح نفسه أن يقتصر على ما في الكتاب والسنة في هذا الباب، وأن لا يجاوزه؛ فإنه نور القلب وهو درجة الراسخين في العلم. ثم قال رحمه الله في تعليل أن هذا هو المطلوب، وهذا هو الكفاية، وأنه لا حاجه للناس في طلب المزيد والنظر والتعمق في مسائل القدر: (لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود) وهو علم الشريعة مما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القرآن والسنة، (وعلم في الخلق مفقود) وهو علم الغيب، ومن جملته علم الأقدار، فإن الله جل وعلا غيّب عن الخلق الأقدار، فلم يطلع أحداً على ما في اللوح المحفوظ، وهو ما رقم فيه، وكتب ما كان، وما سيكون، لم يطلع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26-27] ، كل هذا احتياط، يعني: حتى ما يظهره الله جل وعلا للأنبياء من غيبه في غاية الاحتياط لهذا الغيب، حيث جعل من يرصد ما يقوله النبي ويحصي ما يبلغه لئلا يضل أو يزيد أو ينقص. فعلم الغيب علم مفقود، وهو المشار إليه في قوله: (وعلم في الخلق مفقود) . ثم قال رحمه الله: (فإنكار العلم الموجود كفر) إنكار علوم الشريعة كفر، فمن قال: إن الله لا يعلم ما الخلق عاملون فإنه كافر بالله العظيم؛ لأن الله جل وعلا أخبر في كتابه أنه بكل شيء عليم، وأنه يعلم ما الخلق عاملون: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] وهو بكل شيء عليم جل وعلا. (وادعاء العلم المفقود كفر) ادعاء علم الغيب كفر: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] لا يعلمون متى يبعثون، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] فالله جل وعلا أحاط بكل شيء علماً. فالعلم عنده سبحانه وتعالى كما قال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] سبحانه وتعالى، فمن ادعى علم الغيب كذب القرآن، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (وادعاء العلم المفقود كفر) . ثم قال رحمه الله: (ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود) لا يثبت الإيمان، ولا تقر القدم على الإيمان إلا بقبول العلم الموجود قبولاً مجملاً، قال الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] فقوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] هو القبول، فيقبل ذلك قبولاً لا منازعة فيه. يقول رحمه الله: (وترك طلب العلم المفقود) لا إشكال فيه؛ لأن العلم المفقود لا سبيل إلى تحصيله، فالغيب لا طريق إلى تحصيله إلا من طريق النبوة، فكل من زعم بأن له طريقاً يوصله إلى ما غاب وخفي من علم الله عز وجل فقد كذب بالقرآن، فالواجب عليه أن يترك ذلك، ولا يثبت إيمانه إلا بذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 2 الإيمان بالقلم واللوح المحفوظ من مقتضيات ولوازم الإيمان بالقدر ثم قال رحمه الله: [ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم، فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه] . يقول رحمه الله: (ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رقم) هذا من صلة وتمام البحث في مسائل القدر، الإيمان باللوح والقلم، اللوح: هو اللوح المحفوظ، وقد ذكره الله تعالى في مواضع عديدة منها: قوله سبحانه وتعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21-22] فذكره الله جل وعلا بهذا الاسم في كتابه، وسماه الله جل وعلا ذكراً: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] فالذكر هو ما كتبه الله جل وعلا في اللوح المحفوظ. وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في جواب من سأله عن أول هذا الأمر قال: (وكتب في الذكر كل شيء) فالذكر هو اللوح المحفوظ، وقد كتب الله جل وعلا في هذا اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة، فقد حوى كل شيء من أفعال الرب ومن أفعال الخلق. ومن جملة ما في اللوح المحفوظ القرآن العظيم، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في قوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21-22] ، وأما القلم فالمراد به القلم الأعظم الأول الذي كتب الله به مقادير كل شيء، فإن الله سبحانه وتعالى خلق القلم وقال له في أول خلقه: اكتب، قال ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى القلم بأمر الله بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة، كما جاء فيما رواه أصحاب السنن من حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء أو اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 من لوازم الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله قد كتب كل شيء وقد ثبت سبق الكتابة في أحاديث كثيرة، بل في آيات من الكتاب الحكيم: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] أي: من قبل أن نخلقها، هذا من القرآن، وأما من السنة ففي الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) ، فالله سبحانه وتعالى كتب مقادير كل شيء، وهذه الكتابة هي الكتابة العامة الشاملة. ثم تلاها كتابات دون هذه الكتابة في المنزلة والمكانة والعظم وهي متنوعة، وكل كتابة لها قلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به مما جرى ليلة المعراج: (أنه بلغ مكاناً سمع فيه صريف الأقلام) وصريف الأقلام: صوت جريها وكتابتها، وهذه الأقلام هي التي تكتب قدر الله اليومي، كما قال الله جل وعلا: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] يعز من يشاء! ويذل من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويرفع من يشاء، ويضع من يشاء، يحيي ويميت، يدبر أمر مملكته جل وعلا لا إله إلا هو. فقول المؤلف رحمه الله: (نؤمن باللوح والقلم) اللوح: هو الذي كتب فيه المقادير، والقلم: هو الذي كتب بأمر الله ما يكون، قال: (وبجميع ما فيه قد رقم) أي: كتب، وهذا إيمان مجمل، وهو من مقتضيات ولوازم الإيمان بالقدر؛ لأن من لوازم الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله قد كتب كل شيء، ولا يتم إيمان أحد إلا بالإيمان بهذه المرتبة. يقول رحمه الله: (فلو اجتمع الخلق كلهم) الخلق: ليسوا خلق زمانك، بل الخلق كلهم منذ أن خلق الله الخلق إلى آخر من يخلق الله جل وعلا، (لو اجتمع الخلق كلهم على شيءٍ كتبه الله تعالى أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه) لا إله إلا الله! وهذا يبيّن لك عظيم قدرة الرب سبحانه وتعالى، وأنه لا مبدل لخلقه، ولا راد لأمره، ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن ينفعوك بأمر لم يكتبه الله لك ما نفعوك، ولو اجتمعوا كلهم على أن يردوا عنك قضاء الله في أمر كتبه الله عليك ما ردوه، وهذا قد ضمنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في وصيته العظيمة لـ ابن عباس: (احفظ الله يحفظك) فكان من جملة ذلك أن قال له: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) (رفعت الأقلام) أي: فرغ من التقدير السابق، (وجفت الصحف) الصحف المقصود بها ما رقم في اللوح المحفوظ، أو ما استنسخته الملائكة من اللوح المحفوظ، فإن الملائكة تكتب من اللوح المحفوظ ما يكون بالنسبة لكل مخلوق، قال الله جل وعلا: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] والاستنساخ هنا: هو الكتابة قبل الوقوع، فإن الاستنساخ نسخ، والنسخ يكون من منسوخ، والمنسوخ هو ما في اللوح المحفوظ، تكتبه الملائكة ثم يجري الله جل وعلا قضاءه وقدره، ثم يقابل ما وقع مما قدره الله من فعل المخلوق على ما في هذه النسخ، ثم يثبت ما فيها من خير ومن شر، فقوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] المراد به كتابة الملائكة من اللوح المحفوظ، لا الكتابة التي يكتبها الملائكة على الإنسان كقوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فهذه كتابة سابقة. ثم قال رحمه الله بعد أن قرر هذا الكلام: (جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة) القلم الذي جف هو القلم الأول السابق الذي كتب الله به مقادير كل شيء، (جف) أي: انقطعت كتابته. وقد ذكّر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذا في مواضع عديدة، فلما استأذنه أبو هريرة رضي الله عنه في الاختصاء أعرض عنه، ثم كرر مرة ثانية وثالثة، قال: (جف القلم بما أنت لاقٍ) كما في صحيح البخاري أي: أن الأمر قد فرغ سواءً فعلت هذا أو لم تفعل، فما كتبه الله عليك لا محالة أنه سيدركك. قال المؤلف رحمه الله: (جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه) (ما أخطأ العبد) يعني: ما تجاوزه إلى غيره (وما أصابه) أي: ما ناله ونزل به، (لم يكن ليخطئه) أي: لم يكن ليتجاوزه إلى غيره، وهذا من كلام الصحابة رضي الله عنهم، وورد مرفوعاً ونقل عن جماعة منهم: (إنك لو أنفقت مثل جبل أحدٍ ذهباً في سبيل الله لم يتقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) نقل هذا عن عبادة بن الصامت وعن غيره من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا فيه عظيم منزلة القدر، وصدق ما قاله ابن عباس: (القدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض توحيده) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 اعتقاد سبق علم الله في كل كائن من خلقه قال رحمه الله: [وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً ليس فيه ناقض ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال الله في كتابه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]] . يقول رحمه الله فيما يجب عقده من مسائل القدر: (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه) سبق تقرير هذا بأدلته، وأن الله جل وعلا تقدم علمه الخلق، وأنه علم بهم قبل أن يخلقهم سبحانه وتعالى. ثم قال: (فقدر ذلك تقديراً محكماً) أي: قدر ما علمه (تقديراً محكماً) أي: متقناً، فالإحكام يطلق على الإتقان، قال الله جل وعلا: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] (أحكمت) أي: أتقنت، فالله جل وعلا أتقن هذا القدر إتقاناً عظيماً يدل على عظيم قدره جل وعلا وعظيم قدرته، ولذلك لما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن تعريف القدر، قال: القدر قدرة الله؛ لأن من كذب بالقدر فقد كذب بقدرة الله جل وعلا. يقول رحمه الله: (فقدر ذلك تقديراً محكماً) أي: متقناً (مبرماً) أي: لا ناقض له، فما أبرم فهو الشيء الذي أحكم وعقد بما لا نقض له، ولذلك قال رحمه الله بعد أن وصف حكم الله وتقديره بالإبرام: (ليس فيه ناقض) أي: يزيل الحكم بالكلية، فلا أحد يقدر أن يرد قدر الله جل وعلا، بل قدر الله نافذ لنفوذ قدرته ومشيئته سبحانه وتعالى، فهو ذو القدرة البالغة والمشيئة النافذة سبحانه وبحمده لا إله إلا هو. (ولا معقب) أي: لا مؤخر يؤخر قدر الله، فإذا جاء أجل الله لا تأخير ولا تقديم، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38] أي: مكتوب لا يتجاوز هذا ولا يتعداه، {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11] فالله سبحانه وتعالى لا يؤخر ما قضى وقدر، ولا يستطيع أحد أن يؤخر ما قدره الله جل وعلا وقضاه. (ولا مزيل ولا مغير) (لا مزيل) أي: لا رافع، فهو في معنى: لا ناقض (ولا مغير) أي: مبدل، ويشمل التخفيف والتحويل والتأخير، فهو أعم من قوله: (ولا معقب) يعني: لا يمكن أن يحول ولا يزول، فهم -أي: الخلق- لا يملكون كشف الضر ولا تحويله، ولا يملكون كشف ما قدره الله ولا تحويله. قال رحمه الله: (ولا ناقص ولا زائد) أي: لا ناقص عما كتب في اللوح المحفوظ وما سبق به العلم ولا زائد، بل كل ذلك بتقدير محكم مطابق كما قال الله سبحانه وتعالى: {َمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] . فكل زيادة في الأعمار وكل نقص فيها سواء في أعمار العموم -أي: جنس بني آدم- أو أعمار الخصوص -يعني: عمر الفرد- من حيث الزيادة أو النقص إلا في كتاب، فإنه لا مبدل لها ولا معقب ولا مزيل ولا مغير. قال رحمه الله: (من خلقه في سماواته أو أرضه) أي: ليس في حكمه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه. ثم قال رحمه الله: (وذلك) أي: الاعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وقدر ذلك قبل خلقهم، وكتب ذلك قبل خلقهم يقول رحمه الله: (وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة) أي: من أصول الإيمان والمعرفة بالله سبحانه وتعالى، فبهما يكمل للعبد الإيمان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 الإيمان بالقدر من تمام توحيد الله قال رحمه الله تعالى: (والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته) أي: ذلك من الاعتراف بتوحيد الله وربوبيته، ومن هذا نعلم أن من تمام التوحيد -توحيد الربوبية- أن يؤمن الإنسان بالقدر، فمن ضل في مسألة القدر فإنه لم يحقق الإيمان بتوحيد الربوبية؛ لأن من توحيد الربوبية الإيمان بأن الله خالق، وأنه مالك، ولابد للخلق والملك من قدرة ومشيئة وعلم. قال رحمه الله: (كما قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ) خلق كل شيء فقدره سبحانه وتعالى تقديراً محكماً، وتأكيد التقدير هنا بالمصدر توكيد للمعنى، وأنه بقدر، وأنه ما من شيء مخلوق إلا بقدر الله جل وعلا، قال سبحانه وتعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38] . (أمر الله) أي: مأموره سبحانه وتعالى، وهنا فائدة: أن المصادر التي تضاف إلى الله عز وجل قد تضاف على جهة الصفة ويقصد بها مسمى الصفة، وقد يرد المصدر ويُراد به مفعول تلك الصفة، فقول الله عز وجل: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان:11] (خلق الله) المشار إليه هنا هو المخلوق، فأطلق المصدر على مفعول الصفة، فيطلق المصدر في لغة العرب كثيراً ويُراد به المعمول المفعول لتلك الصفة، كما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] هل الذي أتى هو صفة الله عز وجل أو مفعول الصفة؟ مفعول الصفة، (أتى أمر الله) أي: أتى مأمور الله، أي: مخلوق الله الذي قضاه سبحانه وتعالى، ومن ذلك قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38] أي: كان مأمور الله سبحانه وتعالى، أي: ما أمر به سبحانه وتعالى وقضى بخلقه (قدراً مقدوراً) أي: قدراً محدداً لا يتجاوز ما حدد ولا يتعدى ما قضى سبحانه وتعالى. وبهذا ينتهي ما ذكره المؤلف في هذا المقطع من كون الإيمان بالقدر من لوازم الإيمان وأصول المعرفة، ومن لوازم الاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 حكم من خاصم في القدر ثم قال رحمه الله: [فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً، لقد التمس بوهمه في فحصه الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً] . ذكر رحمه الله هذا الكلام في ختام مبحث القدر في هذا المقطع، وهو سيعيد بعض ما يتعلق بالقدر يقول: (فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً) (خصيماً) فعيل بمعنى: فاعَلَ، يعني: خَاصَم، فويل له إذا خاصم قدر الله كما فعل إبليس عليه من الله ما يستحق من اللعن حيث قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] فخاصم الله جل وعلا في قدره. فهؤلاء الذين خاصموا الله في قدره بأن أنكروه أو كذبوه أو جعلوه حجة على ترك الشريعة ومخالفة الأمر، (فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً) ويل: كلمة وعيد، قيل: إنها واد في جهنم، وهذا لا يثبت بسند صحيح، وإنما (ويل) كلمة عذاب فهي كلمة إنشاء وإخبار، (إنشاء) أي: دعاء، فإذا قلت: (ويل) فأنت تدعو بالويل على هذا، (وإخبار) أي: أنك تخبر أنه استحق الويل، وهذا ليس بغريب في اللغة أن تأتي كلمة وتفيد معنيي الجملة؛ لأن الجمل إما أن تكون إنشائية أو خبريه. و (ويل) تضمنت هذين المعنيين: المعنى الإنشائي، والمعنى الخبري. قال: (وأحضر للنظر فيه) يعني: في القدر (قلباً سقيماً) وهذا فيه أنه لا يسلم الإنسان من غوائل البحث في القدر إذا كان صاحب قلب سقيم مليئ بالمعارضة وعدم التعظيم للنصوص، ثم قال: (لقد التمس بوهمه) أي: ظنه الكاذب وتوهمه الفاسد في فحص الغيب (سراً كتيماً) ولا يمكن أن يصل إلى شيء (كتيماً) فعيل بمعنى: مفعول، أي: سراً مكتوماً لم يظهره الله سبحانه وتعالى لأحد، كما قال سبحانه وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:26] . ثم قال: (وعاد بما قال فيه) أي: بعد أن استصحب القلب السقيم، والنظر الكليل، والوهم الفاسد، (عاد بما قال فيه) يعني: في القدر (أفاكاً) أي: كذاباً (أثيماً) أي: مأثوماً فأثيم فعيل بمعنى: مفعول أي: مأثوم، ومعناه قد حصَّل الإثم من رب العالمين. وبالله التوفيق. والله تعالى أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 شرح العقيدة الطحاوية [12] من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يؤمنون بعلو الله عز وجل على خلقه مع إحاطته بجميع خلقه، فهو سبحانه وتعالى قريب مع علوه، فيجب على المسلم إثبات جميع صفات الكمال لله جل وعلا، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1 وجوب الإيمان بالعرش والكرسي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [والعرش والكرسي حق، وهو مستغنٍ عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه. ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم الله موسى تكليماً، إيماناً وتصديقاً وتسليماً. ونؤمن بالملائكة والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين] . قال المؤلف رحمه الله: (والعرش والكرسي حق) كما جاء بذلك الكتاب والسنة، والعرش والكرسي: خلقان عظيمان من خلق الله جل وعلا، أما العرش فهو: سرير الملك، هذا هو معنى العرش في لغة العرب، وهو من أعظم خلق الله جل وعلا، اصطفاه الله سبحانه وتعالى وخصه دون سائر الخلق بأن أضاف إليه الاستواء، فقال الله جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] في عدة مواضع من الكتاب الحكيم، ووصف العرش بأنه عظيم، ووصفه بأنه مجيد، ففي قراءة: (ذو العرش المجيدِ) وصف للعرش، والقراءة الثانية: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] وصف للرب جل وعلا. فالله سبحانه وتعالى عظم شأن هذا العرش، وخصه بما خصه به من أنه استوى عليه جل وعلا استواءً يليق بذاته من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 2 العرش أول المخلوقات العرش هو أول ما خلق الله جل وعلا؛ لأنه سابق على خلق السماوات والأرض، وسابق لكتب القلم الذي كتب الله جل وعلا به مقادير كل شيء، فقد دلت السنة على أن العرش سابق للتقدير، والتقدير إنما كان وقت خلق القلم، فإن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، فهو منذ خلقه ابتدأ الكتابة، والعرش سابق لذلك كما في حديث عمران بن حصين حيث ذكر خلق السماوات والأرض، وقال: (وكتب في الذكر كل شيء، ثم استوى على العرش) فدل قوله: استوى على العرش: أن العرش كان موجوداً قبل خلق السماوات والأرض، وقبل أن يكتب في الذكر كل شيء، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم. وقد ذهب بعض أهل السنة والجماعة: إلى أن أول الخلق هو القلم، ولكن الصحيح هو ما عليه الأكثرون: من أن خلق العرش سابق على خلق القلم، والعرش أعظم المخلوقات، فأعظم خلق الله فيما نعلم العرش. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 حقيقة الكرسي ثم قال رحمه الله: (والكرسي) والكرسي جاء ذكره في القرآن الحكيم في قول الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] ، واختلف العلماء في حقيقة الكرسي: فمنهم من قال: إن الكرسي هو العرش، والصحيح: أنه شيء غير العرش؛ لورود التفريق بين الكرسي والعرش في عدة نصوص من الكتاب والسنة. وقال آخرون في الكرسي: إنه موضع قدمي الرب جل وعلا، فهو بين يدي العرش، جاء هذا عن ابن عباس موقوفاً، ومعلوم أن مثل هذا لا يقال بالرأي؛ ولذلك قبله جماعة من العلماء، وأثبتوا له حكم الرفع ما لم يكن نقله عن أهل الكتاب، فإن ابن عباس له رواية عن أهل الكتاب، وإن كان ينكر الأخذ عنهم رضي الله عنه كما جاء ذلك عنه في صحيح البخاري، لكن المشهور أنه أخذ عنهم، فلعل ما أنكره هو الإقبال على ما عندهم، والأخذ بما يقولون، واعتماده. وعلى كل حال من قال: إن العرش موضع القدمين، فقد استند إلى أثر ابن عباس. وقال آخرون: إن الكرسي خلق عظيم من خلق الله عز وجل غير العرش، ولم يقيدوه بأنه موضع القدمين ولا بغير ذلك، وهذا القول الأخير هو قول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله؛ وذلك لأن الأثر الوارد عن ابن عباس ضعيف، فمن صححه قال بما جاء في الأثر من أن الكرسي موضع القدمين كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في نونيته، ومن رأى ضعف الأثر لم يستند إليه في إثبات هذا الوصف، وقال: الكرسي خلق من خلق الله عظيم، والله أعلم به، واقتصر على هذا. وعلى كل حال لا شك أن العرش والكرسي حق -كما قال المؤلف رحمه الله- لثبوت ذلك في النصوص. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 إثبات استواء الله على عرشه ثم قال رحمه الله: (وهو مستغن عن العرش وما دونه) . يشير بهذا رحمه الله إلى استواء الله عز وجل على العرش، فإن الله سبحانه وتعالى استوى على العرش، واستواؤه ثابت بالكتاب والسنة ثبوتاً لا ريب فيه ولا شك، فإن الله سبحانه وتعالى أخبر باستوائه على العرش في مواضع عديدة من كتابه الحكيم فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] تكررت في سبعة مواضع من الكتاب الحكيم. وجاء ذلك -أيضاً- في حديث عمران وفيه: (ثم استوى على العرش) وهو في الصحيحين، فاستواء الله على العرش ثابت لا مرية فيه ولا شك، وأهل السنة والجماعة أثبتوا الاستواء على ما جاء في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، فقالوا: الرحمن على العرش استوى كما قال الرب جل وعلا، وأنكر هذا من أنكره من المتكلمين وعلى رأسهم الجهمية، فإنهم أنكروا استواء الله عز وجل على عرشه. وتبعهم على هذا جماعة من مثبتة الصفات -كالأشاعرة- فأنكروا الاستواء الذي يثبته أهل السنة والجماعة، وأثبتوا الاستواء بمعنى الاستيلاء، وقالوا: استوى على العرش أي: استولى عليه، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وتركوا المعنى المتبادر الذي فسره السلف وبينوه إلى معنىً غير ثابت في اللغة، بل في ثبوته في اللغة خلاف: هل يطلق استوى بمعنى استولى؟ العلماء مختلفون في ذلك، والصحيح: أن الاستواء معناه العلو والارتفاع. وقد جمع ابن القيم رحمه الله في نونيته كلام أهل العلم في تفسير الاستواء فقال: ولهم عبارت عليه أربع قد حصلت للفارس الطعان وهي: استقر وقد على وكذا ار تفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع وأبو عبيدة صاحب الشيباني فالمعاني أربعة: ارتفع، وعلا، وصعد، واستقر. ثم اعلم أن الاستواء الذي يثبته أهل السنة والجماعة لا يلزم عليه نقص؛ لأن كلام الله حق، كما قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] ، وما كان حق فلا يمكن أن يلزم عليه لازم باطل مهما كان وكيفما كان، وإنما اللوازم الباطلة التي يلزم بها أهل الباطل أهل السنة والجماعة إنما جاءت من الأفهام السقيمة، والآراء الباطلة، والأقوال المنحرفة، والآراء الضالة. فلما كان أهل السنة والجماعة على ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم سالمين من هذه البدع كانوا على الصراط المستقيم، يعملون بما في الكتاب من الهدى والحق ويقبلونه، فكانوا في روح ونور كما قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} [الشورى:52] فالقرآن روح ونور، وأعظم الروح والنور ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم لم تدخلهم هذه البدع التي حصل بها التحريف والتضليل، والانحراف عن الصراط المستقيم. وكل من سار على طريقهم فله من الروح وهو: الحياة، والنور وهو: الهداية بقدر ما يستمسك بالكتاب المبين، والمؤمن إذا عمل بهذا وفق إلى خير كثير، وصرف عنه شر كثير. أما إذا تبع هذه الأقوال الباطلة والآراء المنحرفة خفت صولة الحق في قلبه، وخفي نور الهدى من فؤاده، ووقع في أنواع الضلال والردى. ثم قال رحمه الله في الجواب عما ألزم به أهل الباطل أهل الحق من إثبات صفة الاستواء: (وهو مستغن عن العرش) سبحانه وبحمده، فهو الغني الحميد لا حاجة به إلى شيء من خلقه، وإنما استواؤه تعظيم واصطفاء، فهو دال على عظمته سبحانه وتعالى، وهو المتصف بصفات الكمال، ولله المثل الأعلى، وهو اصطفاء واختيار لهذا المخلوق من سائر الخلق حيث أضاف الاستواء إليه، والله جل وعلا لا معقب لحكمه يخلق ما يشاء ويختار، فمن جملة ما اختاره هذا العرش، فهو سبحانه اختاره وخصه بهذه الخاصية العظيمة وهي: أنه جل وعلا استوى عليه. لكن لا تتوهم أنه محتاج إلى العرش، بل هو الغني عن كل شيء، فالغنى وصف له ذاتي سبحانه وتعالى، وكل شيء مفتقر إليه، ولا غنى للخلق عنه سبحانه وتعالى، وهو الغني الحميد جل وعلا؛ ولذلك قال: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] فكل خلقه مفتقرون إليه، هو الصمد سبحانه وتعالى الذي تذل له الرقاب، وتنزل به الحوائج مع كمال غناه سبحانه وتعالى، فقول المؤلف: (وهو مستغن عن العرش وما دونه) أي: سائر الخلق؛ لئلا يتوهم متوهم من إثبات صفة الاستواء افتقار الله جل وعلا إلى العرش. ولله المثل الأعلى: الآن السماء فوق الأرض فهل هي محتاجة في استقرارها إلى الأرض؟ الجواب لا، فلا يلزم من علو المخلوق على الشيء أو استوائه عليه أن يكون محتاجاً إليه، فاقطع هذه الأوهام الباطلة، وإياك أن تصغي إلى شبه المشبهين، فإنهم يوقعون في الردى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 إحاطة الله سبحانه وتعالى بخلقه قال رحمه الله: (محيط بكل شيء وفوقه) هذا بيان أن الله سبحانه وتعالى محيط بكل شيء؛ لعظمته وسعته وكبره سبحانه وتعالى، فهو الكبير المتعال، وهو الذي أحاط بكل شيء، كما قال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12] فأحاط بخلقه علماً, وأحاط بخلقه قدرة سبحانه وتعالى، فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، الأول: الذي ليس قبله شيء، والآخر: الذي ليس بعده شيء، والظاهر: الذي ليس فوقه شيء، والباطن: الذي ليس دونه شيء، وبهذا ثبت له جل وعلا الإحاطة الزمانية، والإحاطة المكانية سبحانه وبحمده. فالله جل وعلا محيط بكل شيء، وفوقه، أي: وهو عليه مستعلٍ على كل شيء سبحانه وتعالى، ولا شك أنه هو العلي العظيم سبحانه وبحمده؛ ولذلك ختمت أعظم آية في كتاب الله بهذين الوصفين: بإثبات صفة العلو والعظمة، فعلو الله ثابت على كل شيء، وفوقية الله سبحانه وتعالى ثابتة على كل شيء، والعلو الثابت له سبحانه وتعالى هو: علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر. كل هذه المعاني الثلاثة ثابتة للرب جل وعلا، وأهل التحريف والانحراف لم يثبتوا علو الذات، بل قالوا في كل ما جاء في الكتاب والسنة من إثبات العلو لله عز وجل: إنه علو القدْر، أو علو القهر، وهذا ثابت للرب جل وعلا، ولكن لا نعطل المعنى الثالث، وهو صفة كمال للرب سبحانه وتعالى. قال رحمه الله: (وقد أعجز عن الإحاطة خلقه) أعجز عن الإحاطة خلقه، فخلقه مهما بلغ قدرهم وقدراتهم لا يتمكنون من الإحاطة بالرب جل وعلا، لا الملائكة ولا غيرهم، كلهم لا يتمكنون من الإحاطة به سبحانه وبحمده، فهو الكبير المتعال، وهو المحيط بكل شيء، قال الله جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] . وهذا فيه شيء مما اتصف به وهو العلم، لا يتمكنون من الإحاطة بشيء من ذلك، وقال جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] أي: لا يتمكنون من الإحاطة بعلمه سبحانه وتعالى، فنفى الله عز وجل الإحاطة بشيء من صفاته، والإحاطة به جل وعلا، وأيضاً: نفى الإحاطة الحسية، وذلك بإدراك البصر فقال سبحانه وتعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار سبحانه وبحمده، فنفى الله جل وعلا أن تدركه الأبصار؛ وذلك لعظمه وكماله، فخلقه لا يتمكنون من الإحاطة به. وعلى هذا يحمل ما جاء في الأثر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في تفسير الآية قال رضي الله عنه: (لو أن الخلق كلهم -الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين- صفوا صفاً واحداً منذ خلقهم الله عز وجل إلى آخرهم ما أحاطوا بالله جل وعلا) مع تعددهم، واختلاف قدراتهم، وكثرتهم؛ لا يحيطون بالرب جل وعلا، وقد ورد هذا الأثر مرفوعاً إلا أنه لا يصح مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والمراد: أن الخلق عاجزون عن أن يحيطوا بالرب سبحانه وتعالى، وإذا كان كذلك فالواجب عليهم أن يقدروا الله جل وعلا عن توهم الإحاطة به، أو العلم بحقائق ما أخبر به عن نفسه سبحانه وتعالى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 إثبات صفة المحبة لله عز وجل ثم قال رحمه الله: (ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم الله موسى تكليماً إيماناً وتصديقاً وتسليماً) . يقول رحمه الله: (نقول) أي: في عقدنا وما ندين الله به وما نتعبد له سبحانه وتعالى به: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، (اتخذ) أي: اصطفى وصير إبراهيم خليلاً له سبحانه وتعالى، وفي هذا إثبات صفة المحبة لله سبحانه وتعالى، إثبات أنه يحِب وأنه يُحب؛ لأنه إنما اصطفاه وصيره خليلاً له لكونه يحبه، ففي هذا إثبات أنه سبحانه وتعالى يحب عباده وأن عباده يحبونه، وقد أنكر الجهمية أن يحب الله عز وجل عباده أو أن يُحبوه، فقالوا: لا يحب ولا يُحب، نسأل الله ألا يحرمنا فضله، لماذا قلتم كذا؟ قالوا: لأنه لا مناسبة بين الخالق والمخلوق؛ وإنما يحب الإنسان ما يناسبه، فالمحبة تكون بين المتناسبين، ولا مناسبة بين الخالق والمخلوق، فضلوا بهذا ضلالاً مبيناً حيث أنكروا ما أثبته الله في كتابه، فإن الله أثبت أنه يحَب من عباده، وأنه يُحِب منهم، قال سبحانه وتعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وفي غير ما آية قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4] ، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] ، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] والآيات في إثبات محبة الله لعباده كثيرة. وأما محبة العباد لله فهي ثابتة أيضاً في قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وفي قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] ، وهذا فيه إثبات المحبة من الله لعباده، ومن العباد للرب جل وعلا. فيقال لهؤلاء الضالين: أي مناسبة للمحبة أعظم من مناسبة خلق الله إياك، ورزقه إياك، وإمدادك بكل خير؟! إن مناسبة الخلق أعظم مناسبة؛ لأنه من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان أنه خلقه وأوجده من العدم، ورزقه وأمده بالخيرات، وعافاه وأصلح شأنه وتولى أمره، فهو الرب جل وعلا الذي بلغ بالإنسان غاية الكمال، فتدرج به في مدارج الفضل والإحسان إلى أن بلَّغه درجة الكمال في الخلق، ودرجة الكمال في الاهتداء، حيث دله وهداه الصراط المستقيم كما قال سبحانه وتعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، فمن ضل بعد ذلك فإنما يضل على نفسه، لكن الله جل وعلا دل الناس على سبيل النجاة. فأعظم مناسبة هي ما بين الخالق والمخلوق، ولكن كما قال الله جل وعلا: {فإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] نعوذ بالله من الخذلان! وضل في هذه الصفة -صفة المحبة- مثبتة الصفات حيث قالوا: إن الله لا يحب المحبة التي يثبتها أهل السنة والجماعة، إنما محبة الله إرادته الثواب؛ لأنههم لا يثبتون الصفات الفعلية لله جل وعلا، والمحبة صفة فعلية؛ لأنها معلقة بالمشيئة، فمن شاء الله أحبه، ومن شاء لم يحبه. والصحيح هو: ما عليه أهل السنة والجماعة من إثبات هذه الصفة العظيمة للرب سبحانه وتعالى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 إثبات صفة الكلام لله جل وعلا قال رحمه الله: (وكلم الله موسى تكليماً) هذا فيه إثبات صفة الكلام لله عز وجل، وقد أثبت الله جل وعلا هذه الصفة إثباتاً واضحا ًبيناً حيث أكد ذلك بالمصدر (تكليماً) ، فهذا فيه تأكيد هذه الصفة، وقد ثبتت هذه الصفة بالكتاب والسنة والإجماع والعقل؛ ولذلك يثبت الكلام مثبتة الصفات الذين يخالفون أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات، لكن إثباتهم للكلام فيه انحراف. وعلى كل حال هم في الجملة أثبتوا صفة الكلام، لكنه كلام غير الذي يثبته أهل السنة والجماعة للرب، فإنهم أثبتوا كلاماً نفسانياً لا الكلام الذي يثبته أهل السنة والجماعة، ويعقله أهل اللغة، وقد تقدم شيء من الكلام على هذه الصفة. والمقصود: أن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه أنه كلم موسى، وهذا التكليم هو غاية ما خص الله سبحانه وتعالى به بني البشر، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر مراتب الإيحاء فقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وهذا الذي جرى لموسى {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] وهذه ثالث المراتب التي يكون بها الوحي ويكون عليها الوحي. الذي جرى لموسى عليه السلام هو أن الله سبحانه وتعالى كلمه؛ ولذلك لم يذكر موسى في وجه التفضيل إلا وذكر الله امتنانه عليه بالكلام، فالله خص موسى بوصف لم يدركه أكثر الخلق، بل ما حصل له من هذه الصفة لم يدركه أحد، فهو من خصائصه، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] فتأكيد التكليم بالمصدر فيه تأكيد الكلام، وفيه أنه تكليم عظيم اختص الله به موسى دون غيره من الرسل. وأما نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد كلمه الله في ليلة المعراج من غير رسول، أي: من غير واسطة، لكن مع هذا فالذي اختص به موسى فوق ذلك، ومعلوم أن إثبات الفضل في شيء معين لا يلزم التفضيل من كل وجه، فثبوت هذه الفضيلة لموسى عليه السلام لا يلزم منها أن يكون أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، بل النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وهو أفضل الرسل صلى الله عليهم وسلم، وهو أفضل أولي العزم. والذي اختص به موسى أمران: الأمر الأول: أن الله ابتدأ الوحي إليه بالتكليم مباشرة كما قال سبحانه وتعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] فذكر المناجاة، وقد جرت المناداة لغيره كما قال تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف:22] فقد جرت المناداة لغيره، لكن قال فيه: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم:52] ، وهذا لم يحصل لأحد، وهذا مما اختص الله به موسى، فالذي خص الله به موسى أنه ابتدأ الوحي إليه بالتكليم المباشر بخلاف غيره من الرسل فإن ابتداء الرسالة إليهم كانت بواسطة جبريل عليه السلام. الأمر الثاني: مما اختص الله به موسى عليه السلام في التكليم أنه أعطاه من التكليم ما لم يعط غيره، كما قال تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} فإن هذا لم يذكر لغيره. فما خص الله به موسى من التكليم في صفة التكليم أمر لم يدركه أحد من النبيين؛ ولذلك قال الله جل وعلا: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء:163] ثم قال: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] فبعد أن ذكر الله جل وعلا الإيحاء الذي اشترك فيه النبيون والمرسلون ذكر ما اختص به موسى عليه السلام فقال -بعد ذكر الإيحاء العام-: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} . فعلم من هذا أن ما خص الله به موسى مختلف عما أدركه أولئك حتى نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن المعلوم أن ثبوت الفضيلة الخاصة لا يلزم منها التفضيل من كل وجه، فإن الله عز وجل يصطفي من خلقه ما يشاء، كما قال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 الإيمان بالملائكة قال المصنف رحمه الله: [ونؤمن بالملائكة والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين. ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين] . يقول رحمه الله: (ونؤمن بالملائكة والنبيين) الإيمان بالملائكة من أصول الإيمان كما دل على ذلك الكتاب والسنة، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] فذكر الله جل وعلا بعد الإيمان به وباليوم الآخر الإيمان بالملائكة. فالإيمان بالملائكة من أصول الإيمان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله وملائكته) فالإيمان بالملائكة من أصول الإيمان. والذي يتضمنه الإيمان بالملائكة أن نؤمن بأنهم خلق من خلق الله، خلقهم جل وعلا من نور، وأن الله سبحانه وتعالى اصطفاهم فأسكنهم السماوات كما قال جل وعلا: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} [النجم:26] فهم أهل السماوات. واصطفاهم الله جل وعلا بأن جعل منهم رسلاً بينه وبين الخلق من بني آدم كما اصطفى جبريل عليه السلام، واصطفى منهم -أيضاً- من أوكل إليه شئون الخلق كالمطر، وأحوال الناس، وما إلى ذلك. عددهم لا يعلمه إلا الله، فنؤمن بمن ذكره الله منهم تعييناً كجبريل وميكال وإسرافيل، ونؤمن بمن ذكره الله جل وعلا منهم على وجه العمل والوظيفة كقوله سبحانه وتعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، وكملك الموت ومن يعينه في قبض الأرواح. ونؤمن بمن ذكر على وجه الإجمال من أنه ما من موضع أربعة أصابع في السماء إلا وفيه ملك لله ساجد أو راكع. ونؤمن بأنهم مخلوقون للعبادة، فالله جل وعلا خلقهم للعبادة كما قال سبحانه: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] هذا كله من جملة الإيمان بالملائكة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 الإيمان بالنبيين والكتب ثم قال رحمه الله: (والنبيين) أي: نؤمن بالنبيين من أُخبرنا بهم على وجه التعيين، ومن أخبرنا بهم على وجه الإجمال، فالنبيون منهم من عين، ومنهم من لم يُعين، فنؤمن بأن الله اصطفى من البشر أنبياء، واصطفى منهم رسلاً، وهؤلاء خصهم الله عز وجل بالوحي وبالفضائل، فنؤمن بمن عُين منهم، ونؤمن بمن لم يُعين منهم. وذلك الكتب نؤمن بأن الله أنزل كتباً، وأنه ما أرسل رسولاً إلا وأرسل إليه كتاباً، وأن الكتب كلام الله جل وعلا، فكل كتاب أنزله الله على رسول فقد تكلم به حتى التوراة، فلا يمنع كون الله كتبها لموسى بيده أنه تكلم بها، بل تكلم بها سبحانه وبحمده. قال رحمه الله: (والكتب المنزلة على المرسلين) أي: نؤمن بها جميعاً، وجعل الكتب منزلة على المرسلين؛ لأن الأصل في إنزال الكتب أنها إلى الرسل، وأما الأنبياء فإنهم يكونون تابعين لكتب الرسل الذين من قبلهم، ولا يخصون بكتب خاصة. قال: (ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين) أي: على الحق الواضح البين الذي لا خفاء فيه ولا التباس، ولا شك في هذا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 أهل القِبْلة ثم قال رحمه الله بعد ذكر هذه الأصول من أصول الإيمان وهو الإيمان بالملائكة والنبيين والكتب قال: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين) أهل القبلة هم: أهل الإسلام، وهذا اللفظ مستعمل في كلام العلماء في وصف كل مسلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذاك المسلم) حيث جعل النبي صلى الله عليه وسلم من قام بهذه الخصال مسلماً، فأثبت له وصف الإسلام بهذه الأمور الثلاثة. وإنما خصت القبلة بإضافة أهل الإسلام إليها؛ لأنهم يجتمعون عليها، فأهل الإسلام حيثما كانوا يتوجهون في صلاتهم إلى القبلة، فلما كانت هي عنوان اجتماعهم نسبوا إليها، فحيثما وجدت في كلام العلماء: أهل القبلة فهم: أهل الإسلام، وفي بعض المؤلفات يطلقون على أهل الإسلام أهل الصلاة؛ لأنه لا خلاف بينهم في وجوبها، فهي ثاني أركان الإسلام بعد التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. يقول رحمه الله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين) تسميتهم بالمسلمين لا شك في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فذاك المسلم) فمن استقبل القبلة فهو مسلم، ومن هذا أخذ بعض أهل العلم أن الإسلام يثبت بفعل كل ما هو من خصائص أهل الإسلام، ولا يلزم أن ينطق بالشهادتين، لكنه يطالب بها، لكنّ حكم الإسلام يجري عليه بأن يفعل ما يختص بأهل الإسلام، وما يختص به المسلمون عن غيرهم. فمن استقبل القبلة حُكم له بأنه مسلم، ثم نُظر هل يأتي بما بقي، فإن أتى بما بقي جرى عليه حكم الإسلام، وإن امتنع عما بقي مما يجب عليه كان مرتداً؛ ولذلك ذكر الفقهاء أن من صلى مع المسلمين فهو مسلم حكماً، أي: يجري عليه حكم الإسلام. قال رحمه الله: (ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين) أي: مقرين وقابلين. قال: (وله بكل ما قال وأخبر مصدقين) ، ولا شك أن من كان منه ذلك فإنه مسلم؛ لأن الإسلام يثبت بالشهادتين، فمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله فهو المسلم؛ لأن هاتين الشهادتين تتضمنان الاعتراف بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إجمالاً، والقبول لها، والتصديق لما جاء به من أن الله واحد وأنه إله حق، وأن ما سواه من الآلهة باطل، وأن رسول الله يبلغ عنه. ففي قول المؤلف رحمه الله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين) قوله: (مسلمين مؤمنين) هذا فيمن حقق ما ذكر المؤلف رحمه الله، ولكن اعلم أن الإسلام والإيمان من الألفاظ والأسماء التي تختلف دلالتها باختلاف الاجتماع والافتراق، فإذا اجتمع الإسلام مع الإيمان كان الإسلام مما يتعلق بالعمل الظاهر، والإيمان مما يتعلق بالعمل الباطن. وأما إذا افترقا فإن معنى كل واحد منهما يشمل الآخر، ويدخل فيه الآخر، وسيأتي تقرير هذا في بحث الإيمان في كلام المؤلف رحمه الله. فقوله رحمه الله: (مسلمين مؤمنين) لعله أراد: من كمل الظاهر والباطن، أما من اقتصر فقط على الاعتراف بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مجرد تصديق، فإن هذا لا يوصف بالإيمان، يعني: من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأتى بأركان الإسلام لا يوصف بالإيمان حتى يباشر الإيمان قلبه، كما قال الله جل وعلا في الأعراب: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] (لمّا) التي تفيد نفي الشيء مع قرب حصوله ووجوده، فدل هذا على الفرق بين مسمى الإيمان ومسمى الإسلام في حال الاجتماع، فهذا لعله من جملة ما يلاحظ على كلام المؤلف رحمه الله. والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 شرح العقيدة الطحاوية [13] مَنْ أكثر المجادلة في الدين أكثر الشك والتنقل؛ فيجب على المسلم أن يبتعد عن المجادلة والمخاصمة والمماراة في الدين، خاصة في ذات الله وأسمائه وصفاته، وهكذا دينه وشرعه، فإن ذلك يورد الهلاك والعطب على صاحبه، والعياذ بالله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 1 تحريم الخوض والمماراة والمجادلة في الله ودينه وكتابه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [ولا نخوض في الله، ولا نماري في دين الله، ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، وهو كلام الله تعالى، لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين] . يقول رحمه الله: (ولا نخوض في الله) الخوض في أصل استعماله هو الولوج في الماء، ثم استعمل هذا اللفظ على كل دخول في الشيء على وجه باطل، فمراد المؤلف رحمه الله في قوله: (ولا نخوض في الله) أي: لا نتكلم فيما يتعلق بالله جل وعلا بالباطل وبغير الحق، وذلك إما أن يكون بسلوك طريق المتكلمين الذين سلكوا غير الصراط المستقيم فيما يتعلق بالله جل وعلا وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإما أن يكون بالإعراض عما جاء في الكتاب والسنة من وصفه، فنقبل بعضاً ونرد بعضاً، فهذا -أيضاً- من الخوض. ومن الخوض في الله جل وعلا والكلام الباطل فيه سبحانه وتعالى تكييف صفاته وتمثيلها، والبحث عن حقائقها وكيفياتها، فإن هذا من الخوض بالباطل؛ لأن هذا مما لا يجوز طلبه، ولا النظر إليه، ولا بحثه؛ لأن الله جل وعلا نهانا عن طلب ذلك والنظر فيه في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، وهذا خبر يتضمن معنى النهي عن طلب المثل، بل قال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] ، وقال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] ، وما أشبه ذلك مما يفيد النهي عن تمثيل الله عز وجل، وطلب الكيفيات لأفعاله وصفاته سبحانه وتعالى. كل هذا يدخل في قول المؤلف رحمه الله: (ولا نخوض في الله) . ومن ذلك: التفكر في ذات الله، و السؤال كيف هو؟! وما أشبه ذلك مما يوقع الإنسان في الشك والريب، ولا يصل معه إلى علم ولا يقين؛ ولذلك جاء في الأثر: (تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في ذات الله) . وقد أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المؤمن بكف سلسلة الوساوس المتعلقة بالله جل وعلا، فأخبر أن الشيطان يأتي إلى ابن آدم فيقول: من خلق هذا؟ فيقول: الله، من خلق هذا؟ فيقول: الله، من خلق هذا؟ فيقول: الله، ولا يزال به الشيطان حتى يقول: من خلق الله؟ وعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فليستعذ بالله ولينته) فأمره بالاستعاذة؛ لأن هذا من الشيطان، والانتهاء أي: قطع النظر والخوض في هذا الأمر، فإنه مما يوقع الإنسان في المهالك ويورده المعاطب. فالواجب على المؤمن ألا يخوض في هذه الأمور، ويقتصر على ما جاء في الكتاب والسنة، فإن فيها الكفاية في معرفة الله جل وعلا، والعلم به سبحانه وتعالى. ومن رام زيادة على ما جاءت به النصوص في الكتاب والسنة فقد تكلف علم ما لم يكلف به، وزاد وغلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) ، ويدخل في هذا الخبر والدعاء الذين يتعمقون في أسماء الله وصفاته. ثم قال رحمه الله: (ولا نماري في دين الله) (لا نماري) أي: لا نجادل، والمقصود بالمجادلة هنا: المجادلة بالباطل، أما المجادلة التي يحق بها الحق، ويظهر بها ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح فإنها مطلوبة؛ لأن بها يُخصم الخصم، ويُكبت المعاند، فالرد على المخالفين لطريقة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات بالحجج، ومجادلتهم ومناقشتهم جرى عليه العلماء قديماً وحديثاً، وليس هذا من المراء في دين الله، فالمراء في دين الله أن يجعل الإنسان دينه عرضة للمجادلات والمناقشات، ومن أكثر المجادلة والمناقشة أكثر التنقل وضل؛ ولذلك لما قال أحدهم للإمام مالك: تعال أماريك، قال: (أنا قد عرفت ديني، فاذهب إلى شاك) أو كلمة نحوها، وهذا يدل على أن السلف رحمهم الله كانوا يوصدون الباب أمام كل هؤلاء المجادلين بالباطل، ويخوضون في دين الله بالظنون والأوهام والنوايا الفاسدة. ثم قال رحمه الله بعد ذلك: (ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين) هذا من التكرار الذي اتصفت به هذه العقيدة، يقول رحمه الله: (ولا نجادل في القرآن) أي: لا نخاصم في القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن المخاصمة في القرآن، ويشمل هذا المخاصمة في تأويله وتفسيره، والمخاصمة في ضرب بعض آياته ببعض، ويشمل هذا -أيضاً- المخاصمة في القراءات، ويشمل هذا -أيضاً- المخاصمة فيه بالباطل بأن يقر به الإنسان باطلاً، ويبطل به حقاً، فإن هذا من المجادلة في القرآن التي نُهى عنها، كأن يستدل بالقرآن على المعاني الباطلة التي يريد أن يقررها ويحتج لها بالقرآن، وما من شخص يحتج بالقرآن على بدعة أو ضلالة قديمة أو حديثة إلا وفيما استدل به من القرآن ما يبطل دعواه، ويرد باطله. إذا: ً قوله: (لا نجادل في القرآن) يشمل كل هذا، فالذين يختلفون في القراءات يدخلون في هذا، والذين يختلفون في المعاني ويتخاصمون يدخلون في هذا، والذين يضربون بعض القرآن ببعض يدخلون في هذا، والذين يخالفون ما دل عليه القرآن من أن القرآن كلام الله جل وعلا يدخلون في هذا من باب أولى، كشأن كل المخالفين لأهل السنة والجماعة في مسألة القرآن، وأنه كلام الله جل وعلا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 2 القرآن كلام الله مخلوق، والرد على القائلين بخلقه قال المؤلف رحمه الله: (ونشهد أنه كلام رب العالمين) أي: لا نجادل مجادلة أهل الباطل بنفي أن يكون القرآن كلام الله جل وعلا، بل نثبت بأن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، منه بدأ وإليه يعود كما قال أهل السنة والجماعة، فنشهد أنه كلام رب العالمين، والقرآن كلام رب العالمين لا إشكال في هذا، قال الله جل وعلا في وصف كلامه للقرآن: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] . فوصف القرآن بأنه كلامه سبحانه وتعالى، ومعلوم أن الكلام صفة لا تقوم إلا بموصوف، فلا يمكن أن يكون مخلوقاً كما زعمته الجهمية، والإقرار بأن القرآن كلام رب العالمين من حيث اللفظ يوافق فيه المعتزلة ويوافق فيه الأشاعرة ومثبتة الصفات، لكنهم يختلفون في تفسير هذه الإضافة، فالمعتزلة يقولون: الإضافة إضافة خلق، فمعنى كلام الله أي: كلامه المخلوق كقول صالح: {نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف:73] فأضاف الناقة إلى الله والإضافة هنا إضافة خلق للتشريف. ومعلوم أن القرآن ليس كالناقة؛ لأن الناقة مخلوق مستقل، أما الكلام فلابد أن يقوم بشيء، وهذا الشيء ليس عيناً قائماً بذاته، فقولهم باطل، فهم يقولون: القرآن كلام الله، ولكنهم لا يوافقون أهل السنة والجماعة في أنه صفة من صفات الله عز وجل، بل هم يقولون: هو كلام الله، لكنه مخلوق. وأما الأشاعرة والماتريدية والكلَّابية فإنهم يقولون: القرآن كلام الله، لكنهم يقولون: كلام نفساني يعني: معنى بغير حرف ولا صوت، وأهل السنة والجماعة يقولون: هو كلامه جل وعلا بحرف وصوت تكلم به على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى بلا كيف ومعنى بلا كيف أي: لا نكيف، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل. ثم قال رحمه الله: (نزل به الروح الأمين) هذا بيان أن القرآن كلام الله، وأن الروح الأمين جبريل عليه السلام تلقاه كلاماً من رب العالمين، ولم ينقله من اللوح المحفوظ كما زعمه من زعمه من المبطلين، فإن جبريل عليه السلام تلقى القرآن من الله جل وعلا، ولا يعارض هذا أن القرآن في اللوح المحفوظ، فإن أهل السنة والجماعة مجمعون على أن القرآن في اللوح المحفوظ كما قال سبحانه وتعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21-22] فالقرآن في اللوح المحفوظ الذي كتب الله به كل شيء، لكن تكلم به سبحانه وتعالى وقت نزوله. قال رحمه الله: (نزل به الروح الأمين) وهذا مما يثبت أنه من الله جل وعلا، والروح الأمين هو: جبريل كما قال سبحانه وتعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] ، وكما قال سبحانه وتعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193-194] فلا ريب أن القرآن نزل به جبريل عليه السلام، وقد تلقاه من رب العالمين كلاماً سمعه فنقله. يقول: (فعلَّمه) الضمير يعود إلى جبريل، علَّم جبريل (سيد المرسلين) أي: علم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشير بهذا إلى قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:5-6] وهذا الوصف لا إشكال أنه لجبريل، فإنه شديد القوى أي: شديد القوة: (ذُو مِرَّةٍ) أي: ذو هيئة حسنة، وقيل: إن الضمير في الآية يعود إلى الله، لكن الصحيح أن الضمير يعود إلى جبريل عليه السلام. يقول: (فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فالقرآن متلقى من جبريل عن الله عز وجل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 معنى إضافة القرآن إلى جبريل وإلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول رحمه الله: (وهو) أي: القرآن الكريم (كلام الله تعالى) وهذا إعادة لما تقدم، لكنها إعادة ليبني عليها، فقوله: (لا يساويه شيء من كلام المخلوقين) وهذا فيه الرد على من قال: إن القرآن من كلام جبريل، وفيه الرد على من قال: إن القرآن من كلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى أضاف القرآن إلى الرسول الملكي والى الرسول البشري أي: إلى جبريل والى النبي صلى الله عليه وسلم، أضافه إلى جبريل في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19-20] هذا الرسول هو جبريل عليه السلام. وأضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة:40-41] ومعلوم أن الذي اُتهم بأنه شاعر هو النبي صلى الله عليه وسلم. فالإضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع، والإضافة إلى جبريل في الموضع السابق إضافة تبليغ، وليست إضافة إنشاء، وهذا الذي جعل المؤلف رحمه الله يقول: (لا يساويه شيء من كلام المخلوقين) ، وقوله: (المخلوقين) يشمل الإنس والجن والملائكة، وكل مخلوق يتصور منه الكلام لا يأتي بمثله، فلو اجتمع الإنس والجن ومن في السماء والأرض على أن يأتوا بمثل القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، بل هو قول رب العالمين الذي لا مثل له ولا ند سبحانه وتعالى. ثم قال: (ولا نقول بخلقه) رد بهذا على الجهمية الذين قالوا: إن القرآن كلام الله مخلوق، وهم الذين جرت منهم الفتنة لعلماء المسلمين، ولأئمة الإسلام في وقت الإمام أحمد رحمه الله، فالإمام أحمد ابتلي بالجهمية الذين كانوا يفتنون الناس في مسألة خلق القرآن. قال رحمه الله: (ولا نخالف جماعة المسلمين) يعني: في جميع ما نعتقد فيما يتعلق بهذا وبغيره، لكن هنا المراد به: لا نخالف جماعة المسلمين في مسألة: القول بأن القرآن كلام الله، ومن هذا نعلم أن جماعة المسلمين قديماً وحديثاً على أن القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه سبحانه وتعالى يعود، ومن قال بغير هذا فإنه خالف جماعة المسلمين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 4 حرمة التكفير بالمعاصي قال المصنف رحمه الله: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله. ] هذا المقطع فيه انتقال من مسألة القرآن إلى بعض مسائل الإيمان، يقول رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة) أهل القبلة هم أهل الصلاة المسلمون، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وذبح ذبيحتنا فذاك المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا) رواه مسلم. ولهذا يسمى أهل الإسلام (أهل الصلاة) ، وقد سمى بعض أهل العلم مؤلفاتهم به: كمقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، والمقصود بالمصلين: أهل القبلة، فأهل القبلة هم: أهل الصلاة، وهذا شعار على أهل الإسلام يشمل أهل الإسلام جميعهم: مبتدعهم وسنيهم، فكلهم يشتركون في هذا إلا من خرج عن فرق أهل السنة والجماعة الثلاث والسبعين فرقة فإنه ليس منهم. يقول: (لا نكفر أحداً من أهل القبلة) يعني: من المسلمين (بذنب ما لم يستحله) وهذه العبارة حقيقة فيها عدم اتساق؛ لأن فيها من الإطلاق ما لم يطوِ عليه أهل السنة والجماعة عقداً. يقول: رحمه الله: (لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) الذنب هنا يشمل كل ذنب، وهل الشرك ذنب أو ليس ذنباً؟ وهل الكفر ذنب أو ليس ذنباً؟ ذنب، وهل الشرك والكفر يشترط في تكفير صاحبه الاستحلال؟ هل المشرك إذا سجد للصنم -مثلاً- أو الكافر الذي سب الله أو سب رسوله يلزم أن يستحل ذلك، أو يكفر سواء استحل أم لم يستحل؟ الجواب يكفر سواء استحل أم لم يستحل. فهذه العبارة فيها من الإطلاق ما يوهم، لكن مراد المؤلف بهذه العبارة: الرد على الخوارج والوعيدية من المعتزلة الذين يكفرون أهل الإيمان بمطلق الكبائر، وبمطلق المعاصي، ولا شك أن قولهم خطأ وضلال مبين، فإن بدعة الخوارج هي أول بدعة ظهرت في الإسلام، ولم يأت في السنة من التحذير والتنفير والتشديد في البدع كما جاء في بدعة الخوارج، فإنها من البدع التي توافرت النصوص على ذمها، وذم أهلها، وبيان سوء حالهم ومنقلبهم، فكانت أول بدعة ظهرت في المسلمين بدعة الخوارج، وهي: بدعة التكفير. وهذه البدعة دائرة على أنهم يكفرون الناس بمطلق الذنوب، بل بما يرونه ذنباً ولو لم يكن ذنباً، وهذه مسألة أشد يعني: أنهم لا يكفرون بالذنوب التي أجمعت الأمة عليها فقط، بل حتى الذنوب التي هي محل خلاف، أو قد تكون في نظر شخص أنها ذنب، وفي نظر آخر أنها ليست بذنب، فهم يكفرون بمطلق الذنوب، بل وبما يرونه ذنباً، ولو لم يكن كذلك، فقول المؤلف رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) فيه رد على هذه الفرقة الضالة، ومثلهم المعتزلة الذين قالوا: مرتكب الكبيرة يخرج عن الإيمان، لكنه لا يوصف بالكفر، ويكون في منزلة بين المنزلتين، وهذا القول إنما هو في الدنيا أما في الآخرة فإنهم يوافقون الخوارج في أن مرتكب الكبيرة في النار. والمؤلف رحمه الله يبحث في الأسماء؛ لأنه يقول: (ولا نكفر) يعني: لا نثبت اسم الكفر، والأسماء هي: كافر، مسلم، عاصي، فاسق، هذه هي الأسماء، وأما الأحكام فهي: في الجنة أو في النار، وهل البحث الآن في الأسماء أو في الأحكام؟ البحث في الأسماء. يقول: (ولا نكفر أحداً) أي: لا نثبت وصف الكفر واسم الكفر لأحد من أهل القبلة، (بذنب) أي: بسبب ذنب، فالباء هنا للسببية (ما لم يستحله) . لكن هذه العبارة -كما ذكرنا- في إطلاقها نظر، فلابد أن تقيد، وأحسن منها ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في الواسطية حيث قال في بيان عقد أهل السنة والجماعة: إن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك -يعني: أهل السنة والجماعة- لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي، فقوله: (وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر) هذا يدل على عقد أهل السنة بالمطابقة. أما ما ذكره المصنف هنا ففيه من الإطلاق والإجمال ما يُدخِل في المعنى نقصاً، وقد علق على هذا شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله بتعليق جيد قال فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) مراده رحمه الله أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون المسلم الموحد المؤمن بالله واليوم الآخر بذنب يرتكبه كالزنا وشرب الخمر والربا وعقوق الوالدين وأمثال ذلك ما لم يستحل ذلك، فإن استحله كفر لكونه بذلك مكذباً لله ولرسوله خارجاً عن دينه. أما إذا لم يستحل ذلك فإنه لا يكفر عند أهل السنة والجماعة، بل يكون ضعيف الإيمان، وله حكم ما تعاطاه من المعاصي بالتفسيق وإقامة الحدود وغير ذلك حسب ما جاء في الشرع المطهر، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن سلك مسلكهم الباطل، فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعتزلة يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، يعني: بين الإسلام والكفر في الدنيا، وأما في الآخرة فيتفقون مع الخوارج بأنه مخلد في النار، وقول الطائفتين باطل بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وقد التبس أمرهما على بعض الناس لقلة علمه، ولكن أمرهما بحمد الله واضح عند أهل الحق كما بينا، وبالله التوفيق. اهـ وهذا التعليق جيد يقيد ما في هذه العبارة من إطلاق حيث إن الشيخ رحمه الله فسر معنى الذنب في قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) فقال: بذنب يرتكبه كالزنا وشرب والخمر والربا وعقوق الوالدين، يعني: من الذنوب المتفق عليها، من الذنوب التي يقع تكفير الخوارج لأصحابها، أما الذنوب التي هي كفر أصلاً كالشرك بالله، والسجود للأصنام، وسب الله، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم، والاستهانة بالمصحف، والاستهزاء بآيات الله، وبدين الله، فهذه يكفر بفعلها ولا فرق بين مستحل وغير مستحل. ومما تقيد به هذه العبارة -أيضاً- أن إطلاق العلماء لقولهم: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) المراد ما عدا الصلاة والزكاة والحج والصيام، فإنه قد وقع الخلاف بين العلماء في كفر تارك هذه الأركان، وأقوى ما في ذلك من الخلاف الخلاف في ترك الصلاة، فإن من العلماء من يرى أن ترك الصلاة كفر ولو لم يجحد الإنسان وجوبها، مع أنه من جملة الذنوب، لكنه كفر، فقوله رحمه الله (بذنب) يشمل الذنوب التي هي مخالفات وارتكاب المنهيات، ويشمل -أيضاً- الذنوب التي هي ترك للواجبات. لكن يستثنى من ترك الواجبات أركان الإسلام فإنه قد وقع خلاف بين أهل العلم في ذلك؛ ولذلك شيخ الإسلام رحمه الله قيد العبارة هذه في بعض مؤلفاته وهي قوله: (وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج) فقيدها بما عدا الأصول، فإنهم مختلفون في كفر تارك الصلاة، ومختلفون في كفر تارك الزكاة، ومختلفون في كفر تارك الحج، ومختلفون في كفر تارك الصيام. إذاً: هذه العبارة فيها مأخذ، أما قوله رحمه الله: (ما لم يستحله) فهذا قيد مهم في الذنوب كالزنا والخمر وما أشبه ذلك، فإن من استحل هذه الذنوب فهو كافر ولو لم يفعلها، يعني: من استحل الزنا وقال: الزنا حلال فإنه كافر ولو لم يزن، ولو كان أعف الناس. ومن قال: الخمر ليست بحرام، فإنه كافر ولو لم يشربها، والمراد بقول المؤلف رحمه الله: (ما لم يستحله) : ما لم يكن هناك تأويل، فإذا استحله بالتأويل فهل يكفر أو لا يكفر؟ الجواب: لا يكفر؛ لأنه استحل ذنباً من الذنوب بالتأويل، كمن يستحل الربا في هذه الأوراق النقدية الآن، ويقول: لا يجري فيها الربا على مذهب المتقدمين من الفقهاء في جميع المذاهب، في مذهب الإمام أبي حنيفة، وفي مذهب مالك، وفي مذهب الشافعي، وفي مذهب أحمد، فيقول: هذه ليس فيها ربا، وعلى هذا فكل ما يجري من الربا ليس محرماً، فهذا فيه استحلال لصورة من صور الربا، لكن هل يكفر به صاحبه؟ الجواب: لا يكفر به صاحبه، لماذا؟ الجواب: لأن هذا متأول، والمسألة فيها خلاف قديم، فأول ما نشأت هذه الأوراق النقدية وقع فيها الخلاف بين العلماء، هل يجري فيها الربا؟ وهل تأخذ حكم النقدين أو لا تأخذ حكم النقدين؟ ففي مثل هذه الأمور ينبغي للمؤمن أن يتروى وألا يستعجل، فالاستحلال إذا كان مقترناً بتأويل فإنه لا يكفر صاحبه، لكن الواجب أن يبين له الحق، ولا تعجب فإنه قد جاء أن قدامة بن مظعون رضي الله عنه -وهو من أهل بدر- استحل الخمر في زمن عمر بالتأويل، حيث ظن أن قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93] ظن أن هذه الآية تفيد إباحة الخمر، فشرب الخمر رضي الله عنه هو وجماعة معه، ظناً منهم أن هذا مباح، وأنه ليس عليهم حرج، فكتب إليه عمر، وجمع الصحابة وشاورهم، فرءوا أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا. فهؤلاء استحلوا محرماً، لكنهم استحلوه بالتأويل، ومع ذلك لم يكفرهم عمر، بل استتابهم رضي الله عنه، وبين لهم تحريم الخمر، ثم جلدهم على شربه، فعظم الأمر على قدامة رضي الله عنه، واشتد عليه ما وقع منه من استحلال ما حرم الله ورسوله حتى بلغ به الأمر أن يئس من رحمة الله، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأول سورة غافر: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3] فلا أدري أي سوء أتيت أعظم: استحلالك للخمر أم يأسك من رحمة الله؟! فبين له أن ما جرى منه خطأ، والله جل وعلا يقبل التوبة، وقال: فتب ولا تيئس من رحمة الله، فإنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الضالون. فالمهم أن استحلال المحرم -استحلال الذنب- بتأويل لا يكفر به صاحبه، وهذا شاهد قائم من عهد الصحابة رضي الله عنه في خلافة عمر الفاروق، ولذلك يا إخواني! ينبغي للمؤمن في مسألة التكفير أن يتروى، وألا يستعجل، وأن ينظ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 مذهب أهل السنة في الإيمان والرد على المرجئة قال المصنف رحمه الله: [ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله] هذه العبارة من المؤلف رحمه الله فيها الرد على المرجئة وهم من قابل الخوارج. وانظر -يا أخي- إلى البدع كيف ينشأ عنها بدع، ويتولد عنها شرور، ومن الشرور التي تتولد عن البدع: أن البدعة تسبب بدعة أخرى، وتدعو إلى بدعة أخرى، فبدعة الخوارج الذين غلوا في التكفير فكفروا الزاني، وكفروا شارب الخمر، وكفروا المرابي، وكفروا كل من وقع في كبيرة، بل كفروا بما يرون أنه ذنب وليس بذنب حتى كفروا أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، قابلتهم بدعة المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله مهما كان الذنب، يعني: لو جاء رجل -نعوذ بالله- ورمى المصحف وداسه وبال عليه وتغوط -نعوذ بالله- ما يكفر؛ لأن هذا ذنب ما يحصل به الكفر عند هؤلاء، وما دام مصدقاً بقلبه فلا يضره ما يفعله من الأفعال، ولو يمسي ويصبح على سب الله ورسوله ما يكفر؛ لأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، وما هو الإيمان عندهم؟ الإيمان عندهم: مجرد المعرفة، فمن عرف الله فهو مؤمن، ولو لم يركع لله ركعة، ولو لم يقم بعمل صالح، بل ولو قام بما قام به من الكفر، فلو سجد للصنم -وهو مؤمن على زعمهم- لا يضره مع الإيمان ذنب، وهذا قول خطير؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) أي: بل الذنوب تضر، وضررها متفاوت، منها ما يضاد الإيمان ويرفعه، وهذا في الاعتقاد والعمل: في الاعتقاد كأن يعتقد أن غير الله ينفع ويضر، أو أن يجحد ما تيقن أنه جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وفي العمل كأن يسجد للصنم، أو يدعو غير الله، أو ما أشبه ذلك من المكفرات العملية، فهذا يضر الإيمان ويرفعه. إذا: ً من الذنوب ما يضاد الإيمان في الاعتقاد والعمل، ومنها ما ينقص الإيمان ولا يضاده، وهذا الذي ينقص الإيمان ويضاده يشمل كل الذنوب صغيرها وكبيرها، فإن الذنوب صغيرها وكبيرها على تفاوتها واختلافها تضر صاحبها، وتنقص مرتبته، ولكنها لا ترفع عنه وصف الإيمان، فالزاني مؤمن بإيمانه، وفاسق بكبيرته؛ ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ولا يسلبون اسم الإيمان عن الفاسق الملي) يعني: من كان فاسقاً من أهل الملة لا يُسلب عنه مطلق الإيمان، يعني: الإيمان بالكلية، ولا يُثبت له الإيمان المطلق، فلا نقول: هو مؤمن كامل الإيمان كما تقول المرجئة، ولا نقول: إنه لا إيمان معه كما تقول الخوارج، بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 شرح العقيدة الطحاوية [14] لا يجوز تكفير مسلم إذا ارتكب ذنباً من الذنوب ما لم يستحله، لكن المعاصي تنقص الإيمان، وتعرض للعقاب، ولا نشهد لأحد بعينه بجنة ولا نار إلا من ثبت له ذلك بنص من الكتاب أو سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1 رجاء دخول المؤمنين الجنة برحمة الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فقال المصنف رحمه الله: [ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم، ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم. والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة. ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه. ] قوله رحمه الله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) تقدم أن هذا الكلام ينفي فيه المؤلف رحمه الله عقد المرجئة الغلاة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب مهما كان، ويعرِّفون الإيمان بأنه المعرفة، ولا شك أن هذا من أردى الأقوال في تعريف الإيمان، وفي هذا تجرئة لكل صاحب عصيان أن يقع فيما شاء من مخالفة الملك الديان؛ لأنه إذا كان لا يضر مع الإيمان ذنب فالإيمان لا يتأثر ولا ينقص ولا يتغير بما يرتكب الإنسان من الذنوب وما يواقع من السيئات، فإن هذا يحمل العاصي على الاستمرار في عصيانه، والتمادي في خروجه عن الصراط المستقيم، وقد تقدم الكلام على هذا. ثم قال المؤلف رحمه الله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين) المحسنون من أهل الإيمان هم: الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، فإن قصروا فهم يعبدون الله جل وعلا موقنين بأنه يراهم كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تعريف الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) والمراد: أنهم عملوا بالطاعات، وانتهوا عن المعاصي والسيئات الظاهرة والباطنة، فهؤلاء نرجو لهم أن يعفو الله جل وعلا عنهم ما يكون منهم من التقصير والخطأ، فإنه مهما بلغ الإنسان في الإحسان فلابد وأن يكون عنده تقصير وإخلال مهما كان، حتى الأنبياء والرسل يكون منهم شيء من التقصير؛ ولذلك لا يأمن أحد على نفسه، ولا يجوز أن يأمن من مكر الله سبحانه وتعالى كما سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله، بل يجب عليه أن يلاحظ ما معه من التقصير، وأن يراقب الله جل وعلا، وأن يخاف أن يؤاخذه سبحانه وتعالى بذنبه وسيئاته. يقول رحمه الله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم) يعني: أن يعفو الله جل وعلا عنهم ما كان من التقصير، والعفو يتضمن الستر والتجاوز والصفح، فيستر عليهم ما كان من الذنوب، ويعفو ويتجاوز ويصفح عما كان من الذنوب. قال: (ويدخلهم الجنة برحمته لا بعملهم) فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أنه لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني بالله برحمته) وهذا يوجب للإنسان عدم الاغترار بما يكون معه من الأعمال، مهما زكت، ومهما صلحت، ومهما كثرت، ومهما اجتهد في إتقانها فإنه إن لم تدركه رحمة الله جل وعلا فلا فلاح له ولا نجاح. ومن توفيق الله ورحمته: أن يوفق الله جل وعلا العبد إلى العمل الصالح، فلا نجزم لأحد بفوز، ولا نقول: إنه من أهل الجنة كما قال رحمه الله: (ولا نأمن عليهم) أي: لا نأمن أن يغير الله حالهم، ولا نأمن أن يعاقبهم الله جل وعلا، فقد يغير الله حال المحسن إلى الإساءة، وقد يؤاخذ الله جل وعلا من ظاهره الإحسان بسيئ عمله، ومعلوم أن من أعمال القلوب التي لا تظهر للناس ما يكون سبباً لحبوط العمل مهما زكى وحسن. فينبغي لأهل السنة ألا يأمنوا على أحد، ومن ذلك: ألا يأمنوا على أنفسهم، فإنه من أمن على نفسه مكر الله جل وعلا فإنه داخل في قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] ، وهذا نفي الأمن إلا من الخاسرين: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] أتى في تقرير ذلك بالنفي والإثبات الدال على أن كل من أمن من مكر الله فهو خاسر، ومكر الله جل وعلا يدرك العبد بسيئ عمله، فإن الله لا يظلم الناس شيئاً، فإذا تمادى الإنسان في معاصيه ولو كانت صغيرة، أو اغتر بعمله الصالح وأعجب به، ورأى لنفسه فضلاً على الناس وارتفاعاً وعلواً؛ فلا يأمن أن يؤاخذه الله بما في قلبه، فيفضحه ويسيء خاتمته، وهذا معنى حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة -في بعض الروايات: فيما يرى الناس- حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) . فالواجب على المؤمن أن يحذر من الأمن من مكر الله، وألا يغتر بحاله الحاضرة، بل يكون على وجل مما يستقبل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 2 عدم الشهادة لمعين بالجنة إلا بنص قال: (ولا نشهد لهم بالجنة) أي: لا نقول: إن فلاناً منهم في الجنة بعينه، فلا نشهد لهم بالجنة يعني: على وجه التعيين. أما على وجه الإجمال فإننا نشهد بأن المؤمنين في الجنة، فقوله: (ولا نشهد لهم) أي: على وجه التعيين، أما على وجه الإجمال فإن أهل الإيمان وأهل الإحسان في جنات النعيم كما جاء ذلك في آيات كثيرة، أثبت الله جل وعلا فيها الجنة لأهل الإيمان. ومما يدخل في قول المؤلف رحمه الله: (ولا نشهد لهم بالجنة) الشهود لهم بموجب الجنة، فمن قتل في سبيل الله، لا نشهد له بأنه شهيد؛ لأننا إذا شهدنا بأنه شهيد فقد شهدنا له بالجنة؛ ولذلك عقد البخاري رحمه الله باباً في صححيه فقال: (باب: لا يقال: فلان شهيد) لأن في ذلك الشهادة له بأنه من أهل الجنة، بل الواجب ألا يشهد له بموجب الجنة. ومما يلاحظ على هذه العبارة وهي قول المؤلف: (ولا نشهد لهم بالجنة) أنه أطلقها، وهذا يشمل كل أحد، وهذا ليس بصحيح، فإننا نشهد لمن شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالجنة، فنشهد للعشرة المبشرين بالجنة، ونشهد لكل من بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة أنه من أهل الجنة؛ ولذلك كانت عبارة الإمام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله أتقن من عبارة المؤلف هنا، فإنه قال: ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا معناه بمفهوم المخالفة: أنهم لا يشهدون لمن لم يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهذا أحسن من قول المصنف هنا: ولا نشهد لهم بالجنة. والذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كثر، وقد جمعهم بعض طلبة العلم من الأحاديث التي فيها الشهادة لهم بالجنة، ومن أبرز من شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة العشرة المبشرون، وكذلك ثابت بن قيس بن شماس، وكذلك أمهات المؤمنين، وغيرهم كثير. والمراد: أننا لا نشهد لأحد بالجنة إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقيد هذا الإطلاق بهذا القيد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 3 أهل المعاصي من المسلمين تحت مشيئة الله ثم قال رحمه الله: (ونستغفر لمسيئهم) الضمير يعود إلى المسيء من المؤمنين؛ لأنه قال: (نرجو للمحسنين من المؤمنين) والجملة معطوفة على ذلك، والمعنى: ونستغفر للمسيء من المؤمنين، والإساءة تكون إما بترك ما وجب عليه من الطاعات، أو بفعل ما نهاه الله عنه من المعاصي والسيئات. فقوله: (نستغفر لمسيئهم) أي: نطلب من الله المغفرة لمسيئهم. قوله: (ونخاف عليهم) أي: نخاف أن يدركهم ما ذكره الله جل وعلا في حق العصاة والمسيئين. قوله: (ولا نقنطهم) أي: ولا نيئسهم من رحمة الله، ونقطع طمعهم في فضله ورحمته، بل نقول كما قال الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] ، وهذا يشمل كل ذنب صغير أو كبير، من الشرك فما دونه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ، لكن الشرك لابد فيه من التوبة، ولابد فيه من الإقلاع، قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، فالشرك لا يغفره الله سبحانه وتعالى إلا بالتوبة منه والإقلاع عنه. وأما ما عدا ذلك من الذنوب فإنه تحت المشيئة: إن شاء الله غفر لصاحبه، وإن شاء أخذه به، والمراد أننا نرجو لأهل الإحسان الخير، ونخاف على أهل الإساءة من المؤمنين أن يدركهم العذاب الذي ذكره الله للمسيئين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 4 حكم الشهادة لمعين بالنار والمؤلف رحمه الله لم يذكر الشهادة بالنار، والشهادة بالنار هي كالشهادة بالجنة، فلا نشهد لأحد بعينه أنه في النار إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه من أهل النار كـ أبي جهل، وفرعون، وأبي لهب، وغيرهم ممن شهد لهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنهم في النار، ومن عدا ذلك من الناس ولو كان من الكافرين فإننا لا نشهد له بعينه أنه في النار، فإذا مات كافر من الكفار لم نشهد له بعينه أنه من أهل النار؛ لأننا لا ندري ما الذي ختم له، وهذا هو الذي يظهر من اعتقاد أهل السنة والجماعة. وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الكافر إذا مات على الكفر، وأدركنا عدم إسلامه بأن استمر على كفره إلى موته فإنه يشهد له أنه من أهل النار، واستدلوا لذلك بأثر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حيثما مررت بقبر عامري أو قرشي فبشره بالنار) ، وفي رواية (حيثما مررت بمشرك فبشره بالنار) ولكن هذا الحديث في ثبوته نظر. وإذا نظرنا إلى الكتاب والسنة نجد أنها لم تشهد بالنار في غالب الموارد إلا على الأوصاف لا على الأشخاص، فلا نشهد على أحد معينٍ بالنار إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، لكن نقول: ظاهر حاله أنه في النار؛ لأن القول بالظاهر لا إشكال فيه، لكن الشهادة التي هي القطع والجزم لا تكون إلا عن علم، والعلم لا يكون إلا ممن لا ينطق عن الهوى، وهو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 5 حكم الأمن من عذاب الله واليأس من رحمته ثم قال رحمه الله: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام) الأمن: هو عدم الخوف والخشية، والإياس: هو قطع الأمل والقنوط من الرحمة، وهذان جاءا متقابلان، فالأمن يحمل على الاسترسال في المخالفة والمعصية وعدم العمل بالطاعة، والإياس يحمل على اليأس وقطع الرجاء والقنوط من رحمة الله، وكلا هذين مما جاء التحذير منه. أما الأمن من مكر الله فقد قال الله جل وعلا في إنكار من أمن مكره: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] ، وحذر فقال: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] متين أي: شديد، وهذا يوجب الحذر من كيد الله ومكره. وأما اليأس الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله في قوله: (والإياس) فقد جاء ما يدل على النهي عنه وذلك في قوله تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] فوصفهم الله عز وجل بالكفر ووصفهم بالضلال، ونهى أهل الإيمان والإسلام أن ييئسوا من رحمته فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] والنهي يقتضي التحريم، فالأمن والإياس محرمان في شريعة الإسلام، ولكن هل ينقلان عن ملة الإسلام بمعنى: أنه ينتقل إلى الكفر؟ الجواب هذا فيه تفصيل، فليس كل أمن ينقل عن ملة الإسلام، ولا كل يأس ينقل عن ملة الإسلام، بل منه ما ينقل، ومنه ما لا ينقل. فاليأس التام من رحمة الله ينقل، وكذلك الأمن التام ينقل، أما ما كان دون ذلك كما يعرض لبعض أصحاب الذنوب أو يعرض لأصحاب الشهوات فإنه سيئة وخطيئة وذنب لكن لا ينقل. ومما يدلك على أن اليأس من رحمة الله لا ينقل في كل أحواله وموارده: أن قدامة بن مظعون رضي الله عنه -كما ذكرنا في الدرس السابق- أصابه شدة يأس من جراء استباحته ما حرم الله من الخمر، فكتب له عمر رضي الله عنه ما كتب مما ذكر الله في أول سورة غافر، ثم قال: فلا أدري أي ذنبيك أعظم: استباحة الخمر أو يأسك من رحمة الله؟! فينبغي للمؤمن أن لا ييئس من رحمة الله مهما عظم ذنبه، فإنه جل وعلا تتلاشى في جانب مغفرته وعفوه ورحمته وكرمه وبره وإحسانه الذنوب، فينبغي للمؤمن ألا يتعاظم ذنباً، ولا يظن أن الله لا يغفره، ولا يعني هذا: أن يستسيغ المعاصي والسيئات، وأن يهونها فتكون كالذباب الذي يقع على أنفه ويقول به هكذا ويطير، بل ينبغي أن تكون في خاطره وباله، ويكون منها على حذر ووجل، فإن الله إذا أخذ العبد بسيئته أهلكه ولو كانت صغيرة، ولذلك جاء تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الذنوب الصغير منها والجليل فقال: (إياكم ومحقرات الذنوب) محقرات أي: ما يحقره الإنسان، وما يراه سهلاً، (فإنهن يجتمعن على الرجل فيهلكنه) -نعوذ بالله من الخذلان- ومن خلى الله بينه وبين ذنوبه وأخذه بها فلا تسأل عنه، فإنه الهلاك الواضح المبين، لكن نسأل الله أن يعاملنا بعفوه، وأن يعيننا على طاعته. إذاً: هاتان السوءتان مما يحصل التأثيم للإنسان فيهما، وقد يصل إلى حد الكفر، وقد يكون دون الكفر، والأمن هو أصل شبهة المرجئة، واليأس هو أصل شبهة الخوارج، فالمرجئة لما أمنوا من مكر الله استرسلوا في المعاصي، وقالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وأما من قابلهم وهم الخوارج فرءوا أن أدنى ما يكون من الذنوب سبب للكفر والخروج عن الصراط المستقيم، فجعلوا الذنوب مكفرة، وكفروا الناس بالزنا وشرب الخمر وسائر الكبائر، وهذا من قنوطهم. وانظر إلى ما تئول إليه البدع القلبية، فإن الأمن واليأس من بدع القلوب وانحرافاتها التي توقع الإنسان في أنواع من الضلال! ولا يسلم إلا من سلمه الله سبحانه وتعالى، واستمسك بالكتاب والسنة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 6 الجمع بين الخوف والرجاء ثم قال رحمه الله: (وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة) سبيل أي: طريق، والحق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد جاء بالهدى ودين الحق، سبيل الحق بينهما أي: بين هاتين الضلالتين بين الأمن واليأس، فإنه ينبغي للمؤمن أن يستصحب فضل الله ورحمته وواسع كرمه وعظيم جوده، فإن الله سبحانه قال عن نفسه: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] وينبغي -أيضاً- أن يستصحب أن الله شديد العقاب كما قال الله جل وعلا: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49-50] ، فإذا أدرك العبد مجموع ذلك في قلبه حمله على الطاعة وترك المعصية، والتعبد لله عز وجل على أكمل حال؛ لأنه يرجو فضل الله إذا أحسن، ويخاف عقابه إذا أساء، وهذان لا يجتمعان للإنسان إلا بالرجاء والخوف، وهو ما يشير إليه المؤلف رحمه الله في قوله: (وسبيل الحق بينهما) أي: بين الرجاء والخوف، فإذا جمع الإنسان بين هذين وفق إلى الخير، وسلم من الشر، ووقاه الله شر الاعتماد على أحد هذين الأمرين، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الخوف والرجاء أيهما يغلب على أقوال: أصحهما: أنه يختلف هذا باختلاف حال الإنسان، وإن كان الأصل أن يستوي الخوف والرجاء، والأصل أن يستوي الخوف والرجاء كما قال سبحانه وتعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49-50] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي دخل عليه في حال الاحتضار، فقال له: (كيف تجدك؟! قال: أجدني أرجو رحمة الله وأخاف ذنبي، قال: ما اجتمع في قلب عبد مثل هذا إلا أمنه الله مما يخاف، وأعطاه ما يرجو) فدل ذلك على أن الأصل استواء هذين. ولكن قد يحتاج الإنسان إلى تغليب جانب من هذين لعارض، لحال أو لظرف اقترن، ومثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) وهذا يدل على تغليب جانب الرجاء، ولكن من إحسان الظن بالرب أن يعلم العبد أن الرب يؤاخذ على السيئة، فإن من ظن أن الله لا يؤاخذ على السيئة لم يحسن الظن بربه، بل اغتر كما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] ، قال أحد المستهترين لما قرئت عليه هذه الآية: غرني به كرمه، وهذا لا ينفعه، فإن الكريم أخبر بأنه شديد العقاب. فالواجب على المؤمن أن يسير إلى الله عز وجل بهذين الجناحين: الخوف والرجاء، فإذا جاء ما يقتضي تغليب جانب منهما غلبه، فالعاصي إذا غلب الرجاء استمر في عصيانه فنقول له: غلب الخوف حتى تنتهي عن معاصيك، والطائع إذا غلب الخوف قد يبلغ درجة اليأس فنقول له: غلب الرجاء في هذه الحال، لكن الأصل هو استواء هذين في قلب العبد؛ ولذلك ورد عن بعض السلف كالإمام أحمد وغيره: أن الخوف والرجاء بالنسبة للعبد كجناحي طائر، ومعلوم أن جناحي الطائر متقابلان تماماً، ولو حصل نقص في أحد الجناحين لاختل طير الطائر، بل لسقط. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 7 الأشياء التي يخرج العبد بها من الإسلام قال المصنف رحمه الله: [ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه] . قوله: (لا يخرج العبد من الإيمان) يعني: من دائرة أهل الإسلام والإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه، وهذا الإطلاق فيه نظر؛ لأنه معلوم أن الكفر كفران: كفر الجحود، وكفر العمل. وكفر الجحود هو: أن يجحد الإنسان ما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء به، فكل من جحد شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه كافر، مهما كان هذا المجحود به، يعني من قال: إن السواك لم تأت به الشريعة، فهذا جحد شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يكفر بهذا، ولو كان المسواك لا يصل إلى حد الواجب. فكفر الجحود هو جحود ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، جحود أي شيء ثبت أو علم الإنسان أنه قد جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والقسم الثاني: كفر العمل، وهذا على قسمين: القسم الأول: كفر يضاد الإيمان، ويخرج به صاحبه من دائرة أهل الإسلام، وكفر دون ذلك لا يخرج صاحبه عن الإيمان. مثال الأول: الاستهانة بالمصحف، والاستهزاء بآيات الله، والسب لله ورسوله، والشرك الأكبر بأنواعه، كل هذا من الكفر العملي الذي يكفر به الإنسان ولو لم يجحد، وهذا مما يدلك على أن العبارة هنا ليست مستقيمة؛ لأن قوله: (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود) دل على أنه إذا لم يجحد لم يخرج، فإذا لم يجحد تحريم السجود للأصنام وسجد لها فهل يكفر على هذه العبارة أو لا يكفر؟ لا يكفر؛ لأن المؤلف حصر الكفر في الجحود فقط وهذا فيه نظر. والقسم الثاني من كفر العمل: ما ينقص الإيمان، لكنه لا يخرج به صاحبه عن دائرة الإسلام مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) فجعل السباب فسوقاً، والفسوق خروج عن الإيمان؛ لأن الفاسق معناه: الخارج، لكنه ليس خروجاً يحصل به الكفر للإنسان، يعني: لا يخرج به عن ملة الإسلام، فلا يسلب الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية. وكذلك قتال أهل الإسلام كفر، لكن هل هو الكفر المخرج عن ملة الإسلام؟ الجواب لا؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] فجعلهم من أهل الإيمان مع وجود الاقتتال. فقتال المسلم كفر، لكنه كفر دون كفر، كما ورد هذا التفسير عن ابن عباس وغيره من سلف الأمة. والشاهد أن الكفر منه ما يضاد الإيمان فيخرج عن الإسلام، ومنه ما لا يضاد الإيمان فيكون صاحبه مسلماً معه إيمان، لكنه ناقص الإيمان. وإذا أدرك الإنسان هذا علم أن كلام المؤلف رحمه الله فيه خلل، فهذه العبارة فيها نظر بين، ولعل المؤلف قال هذا بناءً على تعريف الإيمان الذي سار عليه المؤلف ومرجئة الفقهاء. يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في تعليقه على العقيدة الطحاوية: هذا الحصر فيه نظر، فإن الكافر يدخل في الإسلام بالشهادتين إذا كان لا ينطق بهما، فإن كان ينطق بهما دخل في الإسلام بالتوبة مما أوجب كفره، وقد يخرج من الإسلام بغير الجحود لأسباب كثيرة بينها أهل العلم في باب حكم المرتد من ذلك: طعنه في الإسلام أو في النبي صلى الله عليه وسلم، أو استهزاؤه بالله ورسوله أو بكتابه، أو بشيء من شرعه سبحانه لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] . ومن ذلك: عبادته للأصنام أو الأوثان، أو دعوته الأموات والاستغاثة بهم، وطلبه منهم المدد والعون ونحو ذلك؛ لأن هذا يناقض قول: لا إله إلا الله التي تدل على أن العبادة حق لله وحده، ومنها: الدعاء والاستغاثة والركوع والسجود والذبح والنذر ونحو ذلك، فمن صرف منها شيئاً لغير الله من الأصنام والأوثان والملائكة والجن وأصحاب القبور وغيرهم من المخلوقين فقد أشرك بالله، ولم يحقق قول: لا إله إلا الله، وهذه المسائل كلها تخرجه من الإسلام بإجماع أهل العلم، وهي ليست من مسائل الجحود، وأدلتها معلومة من الكتاب والسنة، وهناك مسائل أخرى كثيرة يكفر بها المسلم وهي لا تسمى جحوداً، وقد ذكرها العلماء في باب حكم المرتد، فراجعها إن شئت، وبالله التوفيق. اهـ هذا مضمون ما تقدم من المؤاخذة على هذه العبارة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 8 الأسئلة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 9 الشهادة لمعين بالجنة أو النار بناءً على حديث: (أنتم شهداء الله في أرضه) السؤال ما الجمع بين رأي أهل السنة والجماعة ألا نشهد لأحد بالجنة أو النار إلا بدليل مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في أرضه) ؟ الجواب هذه مسألة مهمة، فـ شيخ الإسلام رحمه الله يرى أن من شهدت له الأمة وفضلاؤها بأنه من أهل الجنة فهو من أهل الجنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في أرضه) ، وسبب الحديث: أن جنازة مرت فأثنوا عليها خيراً، فقال: (وجبت) ، ثم مرت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً فقال: (وجبت) ، فسألوه: ما وجبت؟ فقال: (الجنة والنار) وقال: (أنتم شهداء الله في أرضه) ، فدل ذلك على ثبوت الجنة والنار بالشهادة. فيرى شيخ الإسلام رحمه الله أن شهادة الأمة لشخص بأنه من أهل الإحسان، وأنه من أهل الجنة؛ يسوغ الشهادة له بالجنة كالأئمة الأربعة وغيرهم ممن لهم لسان صدق في الأمة، وقدموا سبقاً فيها، لكن هذا خلاف ما عليه الأكثرون من أنه لا يشهد لأحد بالجنة إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، ومن كان له لسان صدق في الأمة فإنه يكفي أن نقول: يرجى له كغيره؛ لأن شهادتنا لمعين بجنة أو بنار لن تقدم ولن تؤخر ما عند الله جل وعلا، فإن كان من أهل الجنة فلن تزيده شهادتنا فضلاً، وإن كان من أهل النار فلن تزيده عذاباً وسخطاً. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 10 صفة المكر لله جل وعلا السؤال هل يوصف الرحمن جل وعلا بأنه الماكر؟ الجواب لا، وكلمة (الماكر) اسم، وليس صفة، وإنما يثبت المكر لله عز وجل صفة فعلية اختيارية، وهي صفة كمال، لكن ليست صفة مجردة، بل هو ماكر بمن يستحق المكر، أما إطلاق هذا الوصف على وجه العموم دون تقييد فإنه لا يطلق في حق الله جل وعلا؛ لأن هذه الصفة قد تقتضي ذماً، ولكن ليس مطلقاً، بل من المكر ما هو محمود، وهو المكر بأهل المكر كما قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 11 تحريم قول: (ظلم الله من ظلمني) السؤال ما حكم قول من يقول لمن ظلمه: ظلمك الله كما ظلمتني؟ الجواب هذا لا يجوز؛ لأن الله لا يظلم الناس شيئاً، لكن له أن يقول: جازاك الله بما تستحق، أو كلمة نحوها؛ لأن الله جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، ولا أظن أن القائل لهذه الكلمة يريد إثبات الظلم، لكن لعله مع انفعاله قال هذا. والمهم أن هذه العبارة لا تصح، ولا تجوز في حق الله عز وجل؛ لأن الله جل وعلا نفى الظلم عن نفسه فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44] . والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 12 شرح العقيدة الطحاوية [15] المسألة الوحيدة التي وقع الخلاف فيها بين أئمة أهل السنة الإيمان؛ فذهب أبو حنيفة وغيره إلى إخراج العمل من مسمى الإيمان ولذلك سموا مرجئة الفقهاء، والصواب أن الإيمان قول واعتقاد وعمل كما عليه جمهور أهل السنة والجماعة، والنصوص كلها تدل على ذلك، وأما ما سواهم من الفرق فقد اختلفوا وتناقضوا فيما بينهم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1 حقيقة الإيمان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين؛ نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فقال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم، بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى. والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن] . يقول المؤلف رحمه الله وغفر له: (والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان) ، هكذا عرف المؤلف رحمه الله الإيمان، والمؤلف أبو جعفر الطحاوي رحمه الله ذكر في أول عقيدته أنه نسج هذه العقيدة وألفها وفق ما يعتقده فقهاء الملة، الإمام أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن، والمشهور عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه خالف ما عليه أهل السنة والجماعة في تعريف الإيمان، وفي بيان حقيقته. وهذه المسألة الوحيدة التي تعد من الأصول وقع فيها الخلاف بين أئمة أهل السنة والجماعة، على أن العلماء مختلفون في حقيقة هذا الخلاف، هل هو خلاف حقيقي يترتب عليه أحكام أم أنه خلاف لفظي لا يترتب عليه شيء؟ فمن العلماء من جعل الخلاف بين أبي حنيفة ومن سلك سبيله من مرجئة الفقهاء -هكذا يسميهم العلماء- وبين ما عليه أهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان خلافاً لفظياً لا يترتب عليه أثر في الاعتقاد. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 2 تعريف أهل السنة للإيمان وقبل أن نخوض في حقيقة الخلاف، وهل هو خلاف لفظي أو خلاف معنوي، نقول: عقد أهل السنة والجماعة الذي اشتهر عنهم واتفقوا عليه ولا خلاف بينهم في القرون المفضلة: أن الإيمان قول وعمل، وقد تواترت المقالات والأقوال عن أهل السنة والجماعة في هذا؛ فهم يجعلون الإيمان قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، فأهل السنة والجماعة عرفوا الإيمان بهذا التعريف المفصل الذي يشمل كل خلال الإيمان وشعبه وصفاته وأخلاق أهله، فمنها ما يكون في القلب، ومنها ما يكون في اللسان، ومنها ما يكون في الجوارح. والمؤلف رحمه الله هنا اقتصر في تعريف الإيمان على ذكر الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، ولم يذكر دخول الأعمال في مسمى الإيمان، ومعلوم أن الإيمان اسم شرعي، والأسماء الشرعية قد جاء الكتاب والسنة ببيانها بياناً واضحاً، فلا يتلقى تعريف هذه الأسماء، ولا الوقوف على حقيقتها إلا من الكتاب والسنة، وقد دلا على أن الإيمان يكون منه عقد، ويكون منه قول، ويكون منه عمل، وأشمل ما ورد في الاستدلال: حديث خصال الإيمان، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) ، وفي رواية (بضع وستون شعبة، أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ، وإذا تأملت هذه الأعمال وجدت أنها قول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلاها: قول لا إله إلا الله) ، وعمل في قوله: (وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق) ، فجعل إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، وقال: (والحياء شعبة من الإيمان) ، والحياء عمل قلبي من أعمال القلوب؛ فدل ذلك على أن الإيمان قول وعمل، وأن الأعمال داخلة في الإيمان، ومن طالع نصوص الكتاب والسنة النبوية أيقن إيقاناً جازماً أن العمل من الإيمان، وأنه يطلق الإيمان في الشرع على الأعمال، وأنها لا تخرج عن مسمى الإيمان، ومن أخرجها فقد خرج عما دلت عليه النصوص. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 3 تعريف مرجئة الفقهاء للإيمان المؤلف رحمه الله ومرجئة الفقهاء أخرجوا العمل عن الإيمان، فليس العمل عندهم داخلاً في مسمى الإيمان، بل هو خارج عنه؛ ولذلك قال: (الإيمان هو الإقرار باللسان) يعني: أن يقر الإنسان بما هو من الإيمان بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. [والتصديق بالجنان] الجنان المراد به القلب، وسمي بهذا؛ لأنه مستور مخفي، فهو مشتق من مادة جنة، وهي دائرة على معنى الخفاء والستر، والصواب إضافة العمل بأن يقول: والعمل بالأركان حتى يتم تعريف الإيمان. وهل هذا الخلاف خلاف حقيقي، أي: يترتب عليه أحكام؟ من العلماء من قال: إنه خلاف لفظي؛ لأن الجميع يتفق على أن مرتكب الكبيرة مذموم، وأنه مهدد بالعقوبة، وأن الله قد يدخله النار، وأن من أهل الكبائر من يدخل النار، فهم يوافقون أهل السنة والجماعة في هذا. ومنهم من يقول: إن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء خلاف حقيقي يترتب عليه اختلاف معنوي، فعلى قول مرجئة الفقهاء: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وعلى قول أهل السنة والجماعة: الإيمان يزيد وينقص وزيادته بالأعمال؛ فهذا يدل على أن الخلاف حقيقي. أهل السنة والجماعة يرون جواز الاستثناء في الإيمان، يعني أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وأما على قول مرجئة الفقهاء، فلا يجوز الاستثناء. وهذه من المسائل التي جعلت من العلماء من يقول: إن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء خلاف حقيقي. والصواب ما ذكره شيخ الإسلام في مواضع من كلامه، ومن ذلك: ما ذكره في شرح العقيدة الأصفهانية، وهو: أن الخلاف بينهم وبين أهل السنة والجماعة منه ما هو لفظي ومنه ما هو حقيقي، وبهذا يجتمع القولان: القول بأن الخلاف حقيقي، والقول الآخر بأن الخلاف، والنزاع بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء لفظي. وقد قرر شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: أن الخلاف حقيقي بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء، وأنه ليس لفظياً، وذلك في تعليقه على شرح الطحاوية لـ ابن أبي العز، حيث قال ابن أبي العز: إن الخلاف لفظي كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في بعض المواضع، وأطلق أن الخلاف حقيقي في بعض المواضع، وفصل وبين أنه خلاف كثير منه حقيقي، وكثير منه لفظي، وفي هذا الإشارة إلى أنه يترتب عليه في بعض المسائل أثر، وفي بعض المسائل لا أثر له. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 4 الإيمان شعب يزيد وينقص قال رحمه الله: [وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق] ، وهذا من تمام الإيمان، بل هو الإيمان المجمل الذي يجب على كل أحد. فالإيمان ينقسم إلى قسمين: إيمان مجمل، وإيمان مفصل، والمؤلف رحمه الله هنا أشار إلى الإيمان المجمل، وهو الإيمان بجميع ما صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: [وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان] يعني: من العمل والخبر، [كله حق] أي: ثابت لا مرية فيه، نصدق به ونؤمن، ونقر بما جاء به صلى الله عليه وسلم وننقاد له، ولا يتم الإيمان إلا بهذين الأمرين؛ فليس الإيمان مجرد التصديق للأخبار، بل لابد من الانقياد، فالإيمان إقرار مع انقياد، وليس إقراراً مجرداً، ولا تصديقاً مجرداً، على أن من عرّف الإيمان بالتصديق فتعريفه منقوص وقاصر، فإن الإيمان ليس تصديقاً مجرداً، بل هو تصديق خاص، حتى إذا قلنا: بأن الإيمان في اللغة يطلق على التصديق فهو تصديق خاص، ولا نريد أن ندخل في مباحث قد تطول، وإنما أردنا فقط أن نشير إلى أن تعريف من عرّف الإيمان بأنه التصديق غلط، والصواب أنه تصديق خاص، والعبارة الأصح أن نقول: هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان والانقياد. يقول المؤلف رحمه الله: [والإيمان واحد] هذا ثمرة من ثمار ما تقدم، فبناء على قوله: إن الإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، فكل من حصل منه هذا فقد حقق الإيمان، فالإيمان عند مرجئة الفقهاء واحد، وهذا هو محل النزاع بين المختلفين في مسألة الإيمان. المشكلة في مسألة الإيمان في مسألة الأحكام والأسماء، ونعني بالأسماء: مسلم، كافر، فاسق، منافق، والأحكام كونه في الجنة أو في النار، والمشكلة في هذا الباب نشأت عن الخطأ في تصور الإيمان، فكل الضُلَّال في هذا الباب على اختلاف ضلالهم يعتقدون أن الإيمان واحد، وإذا كان واحداً فإما أن يثبت جملة، وإما أن ينخلع منه الإنسان جملة، ولا يمكن أن يتبعض. وأهل السنة والجماعة عندهم الإيمان شعب وخلال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) فليس شيئاً واحداً، ومن قال: الإيمان شيء واحد. فقد خالف دلالة الكتاب والسنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ينفي الإيمان عن بعض أهل الإسلام فيقول: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) فهذا نفي للإيمان، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه) ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وكلها تدل على انتفاء الإيمان بسبب الإخلال ببعض الأعمال، أو الوقوع ببعض المعاصي والسيئات، فالنفي هنا ليس نفياً للإيمان بالكلية، ولو نفينا الإيمان بالكلية لخرج الإنسان عن دائرة الإسلام، وكان من أهل الكفر كما تقول الخوارج، أو كان في منزلة بين المنزلتين كما تقول المعتزلة، فليس بمؤمن وليس بكافر، ولكن الإيمان ليس واحداً كما قال المؤلف؛ ولذلك المرجئة قابلوا بدعة أولئك الذين أخرجوا من أخرجوا من الإسلام بسبب ارتكاب بعض السيئات، فقالوا: من كان مؤمناً مقراً بلسانه، مصدقاً بجنانه، فإنه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان جبريل، ولو كان يزني صباحاً ومساءً، أو يسرق صباحاً ومساءً، وحتى لو كان قلبه ممتلئاً بالكبر والحقد والحسد والغل وسائر الآفات، فهو مؤمن كامل الإيمان، لماذا؟ لأن الإيمان واحد، فإيمان أعصى العصاة من أهل الإسلام كإيمان جبريل، وهذا لا شك أنه كذب وخطأ، فالإيمان يزيد وينقص، وليس واحداً كما قال المؤلف رحمه الله. يقول: (وأهله) يعني: أهل الإيمان (فيه) يعني: في الإيمان (سواء) يعني: مستوون، وفي نسخة أخرى: (وأهله في أصله سواء) ، والمقصود بأصله: في ثبوته وحصوله، فهم فيه سواء، وهذا خطأ، فإن الإيمان يزيد وينقص؛ ولذلك كان من عقد أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإن هذا ما يعتقده أهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 5 أسباب تفاوت أهل الإيمان قال رحمه الله: [والتفاضل بينهم: بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى] التفاضل بينهم يعني: بين أهل الإيمان، والخشية: هي الخوف المقترن بالمحبة والوجل، والخشية خوف مع علم؛ ولذلك لا يوصف به إلا أهل العلم، قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ، بخلاف الخوف فقد يكون ممن ليس عنده علم، أما الخشية فلا تكون إلا من أهل العلم. قال: (والتقى) والمقصود بالتقى أي: تقوى القلب، لا تقوى الجوارح؛ لأن تقوى الجوارح ليست داخلة في الإيمان، فلا يكون فيها تفاضل بين أهل الإيمان، وهو يشير بهذا إلى أن عمل القلب داخل في مسمى الإيمان، ولكن هذا قصر للعمل، فالعمل الذي يدخل في الإيمان هو عمل القلب وعمل الجوارح، وهم عندهم أن أصل الإيمان -وهو التصديق- أهله فيه سواء، وهذا ليس بصحيح فحتى التصديق يختلف فيه الناس. الآن أنت تصدق بالخبر إذا جاءك من زيد ويزيد تصديقك بالخبر إذا جاءك من عمرو وأنت مصدق في كلا الحالين، لكن تصديقك لخبر زيد أقل من تصديقك لخبر عمرو لما تعرف عن عمرو من الدقة والتحري والتثبت أكثر من زيد، فالتصديق يختلف؛ ولذلك قوله رحمه الله: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء) ليس بسديد، حتى لو سلمنا أن التصديق واحد للجميع، لكنه واحد متفاضل، لا شك أنه من حيث أدنى المراتب التي يحصل بها الإيمان والإسلام الجميع فيه متفق، لكن هناك تفاوت وتفاضل بين تصديق هذا وتصديق ذاك، وبين إيمان هذا وإيمان ذاك، فالمؤلف رحمه الله قصر التفاضل في أعمال القلب، والواقع أن التفاضل بين أهل الإيمان يكون في أعمال القلوب، وفي أعمال الجوارح، وقوله رحمه الله: [ومخالفة الهوى] أي: مخالفة ما تهواه النفوس وتشتهيه، وسمي الهوى هوىً لأنه يهوي بصاحبه في المهلكات، ويوقعه في المرديات. قال: [وملازمة الأولى] أي: ملازمة ما ينبغي أن يلازمه الإنسان، والصحيح ما ذكرنا من أن التفاضل يكون بعمل القلب واللسان، فمن قال: سبحان الله أفضل ممن لم يقل: سبحان الله، ومن خشي بقلبه أفضل ممن لم يخش الله جل وعلا بقلبه، ومن زاد ركعة أو سجدة أفضل ممن نقص. وفي أذكار الصباح والمساء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضل قول: سبحان الله وبحمده مائة مرة في اليوم، فقال: (وليس يفضله إلا من قال مثل ما قال أو زاد عليه) ، فدل ذلك على أن الزيادة في القول زيادة في الفضل، والأدلة على زيادة الفضل بزيادة العمل كثيرة جداً، ولكن هؤلاء لما وقع عندهم الإشكال أخرجوا الأعمال؛ حتى لا يحتج عليهم الخوارج وأشباههم من الوعيدية فيوقعون الكفر بمن لا يستحقه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 6 المؤمن ولي الله قال: [والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن] لا شك أن أهل الإيمان أولياء الرحمان، لأن الله جل وعلا قال في ذكر الولاية: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] . فهؤلاء هم أولياء الله، فقول المؤلف: [والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن] لا إشكال في هذا، ولكنهم في الولاية مختلفون، والاختلاف في الولاية باختلاف تحقيق الإيمان والتقوى، فبقدر ما يحقق الإنسان من الإيمان والتقوى؛ بقدر ما يفوز بولاية الله عز وجل، والولاية أصلها دائر على القرب، والمعنى: أنه كلما ازداد العبد طاعة لله جل وعلا كلما ازداد منه قرباً، كما قال الله جل وعلا في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن استعاذني لأعيذنه، ولئن استنصرني لأنصرنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه) ، وهذا يدل على عظيم ما يبلغه المؤمن من الدرجة إذا حقق القيام بالفرائض وتقرب إلى الله عز وجل بالنوافل، فالله جل وعلا يكون معه، ويكون نصيره، (فبي يبصر، وبي يسمع، وبي يمشي، وبي يبطش) أي: أنه يمشي على نور من الله جل وعلا في كل فعل وترك، ويبلغ من المحبة، أن الرب جل وعلا يتردد في قضاء ما يسوء العبد ويكرهه وهو الموت، ولكن لما كان لا بد له منه فإنه لا محيص عنه، فالله لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه. قال رحمه الله: [والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، وأكرمهم عند الله أطوعهم -أي: أكثرهم طاعة- وأتبعهم للقرآن] . ولا شك أن أتبع الناس للقرآن هو أقرب إلى الرب جل وعلا، وأحقهم ولاية، وأكرمهم عند الله جل وعلا؛ ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلقه القرآن كان أتقى الناس لرب العالمين، وأكرم الخلق على الله جل وعلا، ومعنى أن القرآن خلق النبي صلى الله عليه وسلم أي: أنه يعمل به، وأنه يمتثله ويترجمه ويعمل بما جاء فيه، فيجب على المؤمن إذا أراد الكرامة أن يسلك هذا السبيل، وهو طاعة الله عز وجل واتباع القرآن؛ فإن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته. بعد هذا ذكر المؤلف رحمه الله الإيمان المجمل وأصول الإيمان. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 7 أركان الإيمان قال رحمه الله: [والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وحلوه ومره من الله تعالى، ونحن مؤمنون بذلك كله، لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به] . يقول رحمه الله في بيان الإيمان الواجب: الإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى. هذه أصول الإيمان وهي ستة، لا يصلح إيمان أحد ولا يستقيم إلا بتحقيقها. الإيمان بالله يشمل الإيمان بوجوده وبربوبيته، وبإلهيته وبأسمائه وصفاته، ويمكن أن نقتصر على الثلاثة الأخيرة فقط؛ لأن من لازم إثباتها إثبات الوجود، فنقول: الإيمان بربوبيته، وأسمائه وصفاته، وإلهيته. الإيمان بالملائكة تقدم الكلام عليه، وكذلك الإيمان بالكتب وبالرسل. واليوم الآخر: هو أن تؤمن بكل ما أخبر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، هذا هو الإيمان المجمل فيما يتعلق باليوم الآخر، أن تؤمن بجميع ما أخبر الله به ورسوله مما يكون بعد الموت، فإن الموت هو ابتداء مراحل الآخرة، والقبر أول منازل الآخرة، فإذا آمن العبد بما أخبر الله جل وعلا به أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فإنه قد آمن باليوم الآخر، وهذا هو الإيمان المجمل، أما الإيمان المفصل: فهو أن تؤمن بكل ما بلغك عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون في البرزخ، ومما يكون يوم القيامة، ومما يئول إليه الناس من جنة أو نار. قال رحمه الله: [والقدر] تقدم الكلام على الإيمان بالقدر، والإيمان بالقدر له أربعة مراتب: أن تؤمن بأن الله جل وعلا علم كل شيء، وكتبه،، وشاءه، وخلقه، وهي المراتب التي يكمل بها الإيمان بالقدر. فالإيمان بالقدر هو أن تؤمن بأن الله عالم بكل شيء قبل وجوده، وأنه كتبه في اللوح المحفوظ، وأنه سبحانه وتعالى شاءه، وأنه جل وعلا خلقه، فلا شيء يخرج عن تقدير الله جل وعلا، والإيمان بالقدر: هو أن تؤمن بأن كل ما وقع فهو بعلم الله وبكتابته وبخلقه ومشيئته سبحانه وتعالى، وقد تقدم الكلام على هذا. يقول رحمه الله: [ونحن مؤمنون بذلك كله] أي: بهذه الأصول، ولا يحصل الإيمان إلا بهذه الأصول، فهذه الأركان هي أركان الإيمان وأصوله التي لا يقوم الإيمان إلا بها. قال رحمه الله: [لا نفرق بين أحد من رسله] ، والتفريق بين الرسل هو التفريق في الإيمان ببعضهم دون بعض، أو الإقرار بما جاء به بعضهم دون بعض، بل الواجب أن نؤمن بجميعهم، وألا نفرق بين أحد منهم، وليس من التفريق بين الرسل معرفة مراتبهم في الفضل، فإن الله جل وعلا فاضل بينهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أولوا العزم من الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك هم في الفضل على ما علم الله جل وعلا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 8 حكم أهل الكبائر في الآخرة قال رحمه الله: [وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين، وهم في مشيئته وحكمه: إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته] . يقول رحمه الله: [وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون] ، أهل الكبائر أي: أصحابها المقارفون لها، الواقعون فيها. والكبائر جمع كبيرة، والكبيرة هي الذنوب التي ورد في الشرع عليها حد أو ذكرت لها عقوبة في الآخرة، أو ختم لصاحبها بغضب أو لعنة أو تبري. فكل ما ورد فيه حد أو وعيد خاص فإنه من الكبائر، مثل الزنا والسرقة والغيبة والنميمة والغش والحقد والحسد والكبر، والكلام على أهل هذه الذنوب الواقعين فيها المقارفين لها الذين لم يتوبوا منها، أما من تاب تاب الله عليه، فالتوبة -ولله الحمد- تجب ما قبلها، وتجعل الإنسان كما لو لم يقع في الذنب، فتمحى الذنوب ولا يسأل عنها، وهذا من فضل الله وعظيم كرمه وواسع إحسانه بعبده أنه إذا تاب تاب عليه. والتوبة ليس لها حد ولا منتهى، بل الله جل وعلا يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ما لم يبلغ الإنسان الغرغرة أو تخرج الشمس من مغربها، عند ذلك يوصد باب التوبة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 9 أهل الكبائر الموحدون لا يخلدون في النار قال رحمه الله: [وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون] أي: لا يبقون فيها بقاء أبدياً، الخلود المنفي هنا هو خلود البقاء الذي لا خروج معه، واعلم أن الخلود نوعان: خلود بمعنى طول البقاء في النار، وهذا قد يكون لبعض أهل الكبائر من أهل الإسلام. والقسم الثاني من الخلود: الخلود الذي لا خروج منه؛ فهو بقاء أبدي سرمدي لا ينقطع. وهذا لا يكون إلا لأهل الكفر والشرك. من الخلود الأول: خلود قاتل النفس؛ فإن الله سبحانه وتعالى توعده بالخلود فقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] ، فالخلود في هذه الآية هو الخلود الذي بمعنى طول المكث لا الخلود الذي لا خروج معه؛ فإن النصوص قد دلت على أن المسلم المؤمن الذي يقول: لا إله إلا الله مآله إلى الجنة مهما أذنب، فمن كان من أهل التوحيد والإخلاص ودخل النار، فلا بد أن يخرج كما سيأتي في الشفاعات. قال: [إذا ماتوا وهم موحدون] ، وهذا شرط يخرج به أهل الشرك، فإن أهل الشرك في النار خالدون فيها أبداً لا يخرجون منها، بل هي موصدة عليهم أبد الآباد. قال رحمه الله: [وإن لم يكونوا تائبين] ، يعني: وإن لم يتوبوا من هذه الكبائر فإنهم لا يخلدون في النار، بل غاية ما يكون أن يدخلهم الله جل وعلا هذه النار فيعاقبون بقدر ما عليهم من الذنوب ويطهرون؛ لأن دخول النار لأهل الكبائر هو تطهير لهم يطهرون به وينقون؛ فإذا نقوا من آثار الذنوب والمعاصي أخرجهم الله جل وعلا. يقول: [وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين] ، والمقصود بالإيمان هنا: هو الإيمان الذي تقدم في قوله: [والإيمان هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وحلوه ومره] . فهؤلاء حققوا التوحيد، لكن حصل منهم من الذنوب ما حصل به نقص هذا التوحيد، وإن كان أصله ثابتاً وباقياً، فلوجود هذا الأصل وبقائه يخرجهم الله عز وجل من النار. يقول: [وهم في مشيئته وحكمه] ، يعني: إذا لم يتوبوا من ذنوبهم فهم في مشيئته وحكمه، إن شاء عاقبهم على ذنوبهم، وآخذهم بها، وإن شاء عفا عنهم وغفر لهم، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] . قال رحمه الله: [إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، وإن شاء عذبهم في النار بعدله] ، فهم بين عدله وفضله سبحانه وتعالى، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44] ولكن لابد أن يعلم أنهم إلى الجنة صائرون مهما وقع عليهم من العذاب إذا كانوا من أهل التوحيد. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 10 الأسئلة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 11 أدلة دخول مرتكب الكبيرة الجنة السؤال ما لدليل على دخول مرتكب الكبيرة الجنة؟ الجواب الدليل هو ما دلت عليه الأدلة من أن مرتكب الكبيرة مهما كان فعله فهو يئول إلى الجنة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 12 معنى الخلود في القرآن السؤال ما معنى الخلود في القرآن؟ الجواب يطلق الخلود على البقاء الطويل، ومنه قولهم: ملك خالد، ومعلوم أنه لا يوجد ملك يخلد، لكن يقصد به ملك طويل البقاء، والعرب تطلق على طول البقاء الخلود. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 13 تسمية مرجئة الفقهاء بذلك السؤال لماذا سمي مرجئة الفقهاء بذلك؟ الجواب سموا مرجئة الفقهاء لأنهم من فقهاء أهل السنة والجماعة، ومرجئة لأنهم وقعوا في شيء من القول بالإرجاء، وهو تأخير العمل عن مسمى الإيمان؛ فالإرجاء أصله في اللغة مأخوذ من التأخير، وكما ذكرنا أن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبينهم منه ما هو حقيقي، ومنه ما هو لفظي، ولكن هذا لا يوجب الفرقة، ولا يوجب القدح والطعن فيهم؛ لأنهم إنما قالوا هذا باجتهادهم، ولكن يجب أن يقرر ويبين ما يعتقده أهل السنة والجماعة من دخول الأعمال في مسمى الإيمان. أما أبو حنيفة فهو من مرجئة الفقهاء، ولا نطلق عليه قولنا: إنه من المرجئة؛ لأن من المرجئة من يقول: إن الإيمان هو المعرفة فقط، وهؤلاء هم غلاة المرجئة وهم الجهمية، الذين يقولون: الإيمان هو المعرفة فقط، ومعنى هذا عندهم: أن فرعون مؤمن؛ لأنه عرف الله، وإبليس مؤمن لأنه عرف الله! فلا نطلق إنهم من المرجئة، إنما نقيد ذكرهم بمرجئة الفقهاء حتى يتميزوا عن غلاتهم، والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 14 شرح العقيدة الطحاوية [16] من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن مآل الموحدين إلى الجنة، حتى أهل الكبائر فإنهم لا يخلدون في النار. ثم إن أهل السنة والجماعة يدعون إلى الاجتماع ويحذرون من التفرق والشقاق، ويجيزون الصلاة خلف كل بر وفاجر، ويوجبون الطاعة لهم بالمعروف. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1 الشفاعة الخاصة بأهل الكبائر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا ولايته، اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به] . يقول المؤلف رحمه الله في تتمة ما تكلم به في مسائل الإيمان: (ثم يخرجهم منها برحمته) أي: يخرج أهل الكبائر؛ لأنه قال رحمه الله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون) يقول: (ثم يخرجهم منها) أي: من دخل النار من أهل القبلة من أمة محمد، والمقصود بالأمة هنا: أمة الإجابة، فمن دخل منهم النار بذنبه فإنه لا يخلد فيها كما تقدم، بل مآله إلى الجنة كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة الدالة على عدم خلود أهل الإسلام في النار، (وأن الله يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان) وهذا يدل على أنه لا يبقى في النار من أهل التوحيد أحد، بل قضى الله جل وعلا ألا يخلد فيها إلا أهل الكفر والشرك دون أهل المعصية من أهل التوحيد والإيمان. (ثم يخرجهم منها) أي: من النار برحمته وشفاعة الشافعين، وذكر المؤلف رحمه الله من أسباب خروج أهل الكبائر من النار رحمته التي وسعت كل شيء، وقدم الرحمة مع أن الحديث الذي ذكر فيه الشفاعة أخر ذكرها؛ حيث يقول الرب جل وعلا بعد شفاعة من يشفع: (شفع النبيون، شفع الصالحون، شفعت الملائكة، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين) قدمها في الذكر؛ لأن الشفاعة برحمته، فالشفاعة إنما هي بإذنه ورضاه، بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع، وذلك من رحمته سبحانه وتعالى بعباده. فرحمته سابقة لاحقة، بل ما يصل الإنسان من الخير إنما هو برحمة الله عز وجل، فإن الرحمة دائرة على إيصال الخير ودفع الضر، وهو جل وعلا الرحمن الرحيم، وكلا الاسمين مشتق من صفة الرحمة التي هي إيصال النفع ودفع الضر، فإيصال الخير، ودفع الضر كله من رحمة الله جل وعلا، والشفاعة إيصال خيرٍ إلى المشفوع له، وهو خير للشافع؛ لأنه إكرام له، وإظهار لمنزلته، فهو رحمة من الله جل وعلا للشافع والمشفوع له. يخرجهم سبحانه وتعالى برحمته وشفاعة الشافعين، والشفاعة هي التوسط في إيصال الخير ودفع الضر عن الغير، وقد تقدم الكلام عليها فيما مضى، وهي ثابتة عند أهل السنة والجماعة بجميع أنواعها التي دلت النصوص من الكتاب والسنة عليها، فالشفاعة العظمى ثابتة لأهل الموقف، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في رفع الدرجات وفي دخول أهل الجنة، وفيمن استحق النار ألا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها، كل هذا مما جاءت به النصوص، ودلت عليه دلالة واضحة، ولا يمتري فيها إلا أهل الأهواء. يقول: [وشفاعة الشافعين من أهل طاعته] هذا بيان لمن هو مستحق لأن يشفع، فالشفاعة فضل وكرامة وهي لا تكون إلا لأهل السبق والطاعة من الملائكة والإنس وغيرهم ممن يقدر الله جل وعلا أنه يشفع. قال رحمه الله: [ثم يبعثهم إلى جنته] البعث مضمن معنى الإثارة في اللغة، والمقصود يبعثهم إلى جنته أي: يدخلهم في جنته، فإنهم يخرجون من النار ويلقون في نهر الحياة، فينبتون في هذا النهر، ثم يمنّ الله جل وعلا عليهم بدخول الجنة، ومعلوم أن أحوال الآخرة مختلفة تماماً عن أحوال الدنيا؟! يقول: [وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته] ، [ذلك] المشار إليه ما منّ الله به على هذه الأمة من إخراج أهل الكبائر من النار، وعدم خلودهم فيها، فالمشار إليه هو عدم خلود أهل الكبائر في النار، والمؤلف رحمه الله استعمل هذا اللفظ، وإن كان قد يدل دلالة فاسدة عند بعض المنحرفين كغلاة المرجئة الذين يقولون: يكفي للتوحيد المعرفة، وأن الإيمان هو معرفة الرب، لكن المؤلف لا يريد هذا، إنما يقصد بأهل معرفته، أي: أهل طاعته كما تقدم في كلامه؛ لأنهم أهل كبائر ولم يفقدوا الإيمان، ولم يخرجوا عن دائرة الإسلام، وهو مستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة) والتعرف على الله في الرخاء: هو أن يقوم الإنسان بما فرض الله عليه من العبادات الواجبة، وأن يسارع فيما شرع له وندب إليه من العبادات المستحبة. [تولى أهل معرفته] والولاية تقتضي القرب والمحبة والنصرة، فإن الله جل وعلا تولى أهل الإيمان، وتوليه لهم يكون بمحبته لهم، وتقريبهم، ودفع ما يضرهم، ونصرهم في المواطن التي يحبون النصر فيها. يقول: [ولم يجعلهم في الدارين] يعني: في دار الدنيا وفي دار الآخرة، [كأهل نكرته] يعني: كأهل الكفر به من أهل الجحود وغير ذلك مما يدخل به الإنسان في دائرة الكفر، ويخرج به عن دائرة الإسلام. ولا شك أن الله جل وعلا فرق بين الفريقين، ولم يسوِ بين أهل الجنة وأهل النار لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل أنكر التسوية بين الفريقين: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35-36] ، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] فنفى الله جل وعلا التسوية بين هذين الفريقين في الدنيا والآخرة، وهم مفترقون في أحكام الدنيا، ومفترقون أعظم الافتراق في أحكام الآخرة، فإن كان هناك شيء من اتفاق بين أهل الإسلام والإيمان وأهل الإجرام والكفر في الدنيا لكنهم في الحقيقة لا يستويان في الأحكام. وفي الآخرة يكون الافتراق واضحاً بيّناً يدركه كل أحد، فإن أهل الإسلام يعطون من النور في الموقف ما يتميزون به عن أهل الكفر والنفاق، ثم إذا آل الأمر واستقر الفريقان عظم الافتراق، وتبين تبيناً لا لبس فيه ولا امتراء، فريق في الجنة وفريق في السعير، فلم يسو الله جل وعلا بين الفريقين، بل فرق بينهما كما دلت على ذلك النصوص. يقول رحمه الله: [ولم يجعلهم] أي: يجعل أهل الإيمان ولو كانوا من أهل الكبائر، وأهل التقصير والمعصية، لم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، أي: أهل جحوده الذين خابوا، أي: لم يحصلوا هدايته، وخسروا سلوك هذا الصراط القويم الذي تحصل به للعبد الفضائل والمنن. قال: [ولم ينالوا من ولايته] لم ينالوا أي: لم يدركوا من ولايته، والولاية المنفية هنا هي ولاية النصر والتقريب؛ لأن الولاية في القرآن نوعان: ولاية عامة لا يخرج منها أحد، وولاية خاصة. الولاية العامة: هي التي يرزق الله جل وعلا بها كل أحد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أصبر على أذى من الله جل وعلا؛ ينسبون له الولد، وهو يرزقهم ويعافيهم) فالرزق والمعافاة والإمداد بكل خير لأهل الكفر هذا من ولاية الله جل وعلا لهم، لكنها الولاية العامة، وليست هي الولاية التي نفاها المؤلف رحمه الله، الولاية التي نفاها المؤلف رحمه الله في هذا الموطن هي الولاية الخاصة التي يحصل بها نصر الله عز وجل لعبده، وتقريبه، وإنجاؤه من مواطن الهلكة، ومحبته سبحانه وتعالى، وهي المشار إليها في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) إلى آخر الحديث، وفي الرواية الثانية المفسرة لهذا الحديث: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يمشي، وبي يبطش) هذه هي الولاية التي تنتفي عن هؤلاء الكفرة. ثم قال رحمه الله سائلاً الله جل وعلا: [اللهم يا ولي الإسلام وأهله] فهو جل وعلا نعم المولى ونعم النصير، وهو ولي الإسلام، وصاحبه، وناصره، ومظهره، ومحبه، وهو ولي أهل الإسلام، ناصرهم، ومحبهم، ومقربهم سبحانه وتعالى، فتوسل إليه بما هو سبب للنصر والنجاح. [ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به] اللهم آمين، والثبات يكون باستقرار القدم على ما جاء في الكتاب والسنة، وبلزوم ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم سبيلاً للنجاة، (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله) فكتاب الله جل وعلا من تمسك به هدي، والمؤلف رحمه الله قد ذكر قبل فقرات قريبة أكرم الخلق عند الله عز وجل فقال: [وأكرمهم عنده أطوعهم وأتبعهم للقرآن] ، فكلما كان الإنسان أتبع للقرآن كلما ثبتت قدمه على الإسلام، فالإسلام لا تثبت فيه القدم إلا بالعلم النافع والعمل الصالح، والعلم النافع والعمل الصالح هما اللذان جاء بهما النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] الهدى: العلم النافع، ودين الحق: العمل الصالح، وبهما يحصل الثبات على الإسلام. أسأل الله عز وجل أن يتوفانا وإياكم مسلمين، وأن يلحقنا بعباده الصالحين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 2 عقيدة أهل السنة في الصلاة خلف الأئمة قال المؤلف رحمه الله: [ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم. ولا نُنزل أحداً منهم جنة ولا ناراً، ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى] . يقول رحمه الله: [ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم] نرى: أي نعتقد، والرؤية هنا رؤية العلم والاعتقاد، و (الصلاة) المقصود بها: الصلاة المفروضة، أو الصلاة التي يشرع لها الاجتماع من الصلوات المسنونة، يشمل هذا وهذا والمراد نرى ونعتقد وجوب الصلاة خلف كل (بر) وفاجر، بر أي: صاحب طاعة، (فاجر) أي مسرف بالمعصية. ولكن المؤلف رحمه الله قيد الفجور بقوله: [من أهل القبلة] يعني: من أهل الإسلام، وأهل القبلة تقدم لنا أنهم أهل الإسلام الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه البخاري منفرداً: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذاك المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا) . فالمؤلف رحمه الله يقول: [نصلي خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة] يدخل في هذا الكلام الصلاة خلف العصاة والفساق والفجار، فإننا نصلي خلفهم لقول عثمان رضي الله عنه: (إن الصلاة من أحسن ما عمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب) كما في صحيح البخاري، ولا شك أن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا صلى الإنسان خلف الفاسق فإنه شاركه في خير وبر، ولم يشاركه في إثم ومعصية. وهذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله هو عقد أهل السنة والجماعة. وأما ما ورد من الخلاف بين الفقهاء في جواز الصلاة خلف الفاسق؛ فإنه خلاف موجود بين الفقهاء، لكن الصحيح ما ذكره المؤلف رحمه الله من أن السلف كانوا يصلون خلف كل بر وفاجر. والإمام لا يخلو من أحوال: إما أن يكون مستور الحال لا نعلم حاله، فهذا يجب الصلاة خلفه على كل حال، وترك الصلاة خلفه من البدع التي يخالف الإنسان بها طريق أهل السنة والجماعة، ولم يقل أحد من أهل العلم: يجب أن تسأل عن عقيدة الإمام الذي تصلي خلفه، أو أن تفتش عن باطنه، وأن تسأل عن حاله، فهذا مما لم يقله أحد من أهل العلم. الحالة الثانية: أن يكون من أهل الطاعة. وهذا لا إشكال في أن الصلاة خلفه من عمل أهل السنة والجماعة. الحالة الثالثة: أن يكون من أهل الفسق والمعصية. وهذا فيه الخلاف بين العلماء، لكن الصحيح أنه يصلى خلفه لا سيما إذا كان إماماً، وعلى هذا يخرج البحث الذي ذكره الفقهاء في مسألة صحة إمامة الفاسق؛ فإن بحث الفقهاء في صحة إمامة الفاسق في غير الأئمة، أي: غير الأمراء والمقدمون؛ فإن الصلاة خلفهم ديانة، ولو كانوا على فسق؛ لأن الصحابة أحرص منا على الخير، وأعلم منا بالشرع، ومع ذلك كانوا يصلون خلف الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، بل نقل عنهم أنهم صلوا خلف الحجاج، والحجاج مشهور ظلمه، ومعروف حاله عند الصحابة، صلى خلفه عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، بل إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صلى خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان شراباً للخمر، حتى إنه صلى بهم صلاة الفجر أربع ركعات، فلما سلم، قال: هل أزيدكم؟ قال عبد الله بن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة، ولم ير هجره وترك الصلاة خلفه؛ لأنه كان الأمير في الجهة التي فيها ابن مسعود رضي الله عنه. المهم أن مسألة الخلاف في صلاة الفاسق يخرج عنها ما إذا كان النظر في الصلاة خلف من ولاه الله أمر المسلمين، فإنه يصلى خلفه ولو كان فاجراً، وهذا من عقد أهل السنة والجماعة الذين تميزوا به عن أهل البدعة. الحالة الرابعة من أحوال الإمام: أن يكون مبتدعاً لا عاصياً، وهذا يصلى خلفه أيضاً إذا كان لا يجد الإنسان غيره، وإذا كان هو المتولي للجمعة والجماعة، ولو كان داعية إلى بدعته، فإن الصحابة والتابعين صلوا خلف ابن أبي عبيد وكان متهماً بالإلحاد والبدعة، وكل هذا إنما هو لتحقيق معنى الجماعة، وعدم الفرقة، وبه نعلم خطأ الذين يفرقون بين الناس ويدعون إلى المنابذة، والمخالفة، والتحزب، والتشرذم، والتفرق؛ فإن هذا خلاف ما كان عليه سلف الأمة. يقول رحمه الله: [ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة] ويشهد لهذا أن عثمان رضي الله عنه، لما خرج عليه الخوارج وحصروه في بيته، جاءه أحد السائلين فقال له: يا عثمان أنت إمام جماعة، وهذا الذي يصلي بنا إمام بدعة، فهل نصلي خلفه؟ فقال: (يا ابن أخي! إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنبهم) مع أنه رضي الله عنه محصور، والذي يصلي بالناس من أعدائه وخصومه الذين خرجوا عليه، ومع ذلك لم يقل: لا تصل خلفه، بل قال: إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، يعني: صلي معهم، وإذا أساءوا فاجتنبهم، وهذا يدل على كمال ورعه رضي الله عنه، وعظيم منزلته، ولو كان شخصاً من عموم الناس أو غير عثمان فالمتوقع: أن يقول -في أقل الأحوال- لا تصل خلفه؛ لأنه نازعه حقه وإمامته، لكن مع ذلك قال: صل خلفه، إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، وهذا يدل على كمال فقهه رضي الله عنه. والمراد: أنه يصلى خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، لكن عند الاختيار إذا أردت أن تختار بين أن تصلي خلف إمام مبتدع، وبين إمام من أهل السنة؛ فعند الاختيار لا إشكال أنك تذهب إلى إمام أهل السنة، لكن في بعض البلاد التي يظهر فيها قول من أقوال المبتدعة، ولا يكون في المكان الذي أنت فيه أحد من أهل السنة، فنقول: صل مع الناس، ولا تترك الجمعة والجماعة؛ فإن ترك الجمعة والجماعة هو البدعة، وهو المخالف لطريق أهل السنة والجماعة. يقول: [وعلى من مات منهم] أي: من أهل القبلة؛ فإن أهل السنة والجماعة يرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة، سواء كان فاسقاً مبتدعاً أو مستور الحال لا فرق، لكن إن رأى أصحاب المكانة والمنزلة أن يعتزلوا الصلاة على أهل الفجور، وأهل البدعة؛ ردعاً لبدعتهم، فهذا الأمر سائغ ولا بأس به، لكن من حيث العموم يصلي أهل السنة والجماعة على كل من مات من أهل القبلة، يعني: ممن ينتسب إلى الإسلام، وهل يصلى عليه ولو كان منتسباً للجهمية أو القدرية أو الرافضة؟ الجواب نعم؛ لأن انتسابه إلى هذه البدعة المغلظة لا يسوغ الحكم عليه بالكفر عيناً؛ وفرق بين أن نقول: الجهمية كفار، وبين أن نقول: هذا كافر، لأن المسألة فيها تفريق واضح بين عند أهل السنة والجماعة، فرق بين التكفير العام وبين الحكم بالكفر على المعين، فيصلى على من كان من أهل الإسلام ولو كان من أهل الملل. يقول: [ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً] أي: لا نشهد ولا نحكم لأحد من أهل القبلة، وتقدم تقييد هذا الإطلاق بمن شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بجنة أو نار، فمن دلت النصوص على أنه من أهل الجنة فهو من أهل الجنة، أو هو من أهل النار فهو من أهل النار، ومن عدا من دلت عليه النصوص فإننا نمسك عن الشهادة له؛ لأن الشهادة له بجنة أو نار لا تنفع. وقوله: [لا ننزل أحداً منهم] أي: من أهل القبلة، وغير أهل القبلة هل ننزلهم النار؟ الجواب: ظاهر عقد أهل السنة والجماعة -وصرح به بعضهم- أنه لا يشهد للكفار بالنار على وجه التعيين، أما على وجه العموم فكل كافر في النار، لكن على وجه التعيين لا نشهد لمعين بالنار إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم. يقول: [ولا نشهد عليهم بكفر، ولا بشرك، ولا بنفاق] لأن هذه أحكام مبنية على نصوص، فلا نشهد عليهم بكفر، ولا بشرك، ولا بنفاق؛ ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، يعني: من الشرك والكفر والنفاق، ويجب فيما إذا ظهر منهم شيء من ذلك أن نقيم عليهم الحجة، وأن نبين لهم الخطأ، فإن أصروا عليه ولم يرتدعوا عن الكفر أو الشرك أو النفاق فعند ذلك حكمنا لهم بما تقتضيه أحوالهم وأفعالهم، لكن بعد إقامة الحجة، وبعد البيان والتوضيح. يقول رحمه الله: [ونذر سرائرهم إلى الله تعالى] أي: نكل سرائرهم إلى الله تعالى؛ لأن السرائر لا سبيل إلى معرفتها، ولا إدراك ما فيها، فإنها خفايا مستورة لا يعلمها إلا الله جل وعلا؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] ؛ فالسر من علمه سبحانه وتعالى ليس من علم غيره، ما أكنته القلوب وأخفته الأفئدة وأسرته الضمائر علمه إلى الله جل وعلا، ولا يكشف ولا يتبين إلا يوم تبلى السرائر، فيجب ترك السرائر إلى الله؛ فالبحث في النيات والمقاصد أمره إلى الله جل وعلا ليس إليك، لكن من ظهر منه أمر عاملناه وحكمنا عليه بما ظهر منه، لا بما قصده، ما لم يعتذر بأمر يوجب رفع الحكم عنه. ذكرنا أن كلام المؤلف رحمه الله يشمل كل المبتدعة الذين لم نعتقد كفرهم، أما من كان كافراً فإنه لا يصلى عليه، فقوله: [ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم] هذا يشمل كل من لم يكفر ببدعته، ولا فرق بين أن تكون البدعة مكفرة وبين ألا تكون مكفرة، بمعنى: أنه قد تكون البدعة مكفرة، ويكون القول كفراً، لكن لا نحكم على القائل بأنه كافر، فهنا يدخل في عموم قوله: [ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم] . وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في حكايته للصلاة خلف المبتدعة والتفصيل في ذلك، وقال: ويدخل في هذا الجهمي والرافضي، وذكر في موضع آخر: أنه لا يصلى خلف من لا يرى الجمعة والجماعة كأئمة الرافضة، فالمسألة على عمومها في كلام المؤلف رحمه الله: [ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم] ، ولا يعني هذا أن يتقصد الإنسان الصلاة على هؤلاء، أو يطلب الصلاة عليهم، ولا يخالف هذا ما قرره أهل السنة والجماعة من هجر المبتدع، وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله قال: لا أشهد جنازة جهمي ولا رافضي، ومن أحب أن يشهدهم فليشهد. وهذا يدل على أن المسألة فيها خيار، وأنه للإنسان أن يختار ألا يصلي ع الجزء: 16 ¦ الصفحة: 3 حرمة الدماء عند أهل السنة والجماعة قال رحمه الله: [ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف] . [لا نرى السيف] أي: لا نرى القتل على أحد من أمة محمد، وهم أمة الإسلام الذين عصم الله دماءهم وأموالهم وأعراضهم بكلمة الإسلام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام) ، فكل من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فهو معصوم الدم، لا يجوز التعرض له بقتل إلا إذا فعل ما يوجب القتل. ولذلك استثنى المؤلف بقوله: [إلا من وجب عليه السيف] ولا يلزم من وجوب السيف أن يخرج عن الأمة وعن الإسلام، بل هو في الأمة وفي الإسلام وإن وجب عليه السيف، كالذي يقتل نفساً بغير حق، أو يزني وهو محصن، وما أشبه ذلك من موجبات القتل في شرعة الإسلام، (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 4 عقيدة أهل السنة في الخروج على الولاة ثم قال رحمه الله: [ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة] . يقول رحمه الله في بيان عقد أهل السنة والجماعة: [ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا] أي: لا نعتقد ولا نجيز الخروج على أئمتنا، والأئمة هنا هم ولاة الأمر؛ ولذلك قال في بيانه: [وولاة أمرنا] أي: من ولاه الله أمر المسلمين من أهل الإسلام فإنه لا يجوز الخروج عليهم، يقول: [وإن جاروا] أي: وإن ظلموا فإنه لا يجوز الخروج عليهم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ذلك، وأمر أصحابه بالصبر على جور الولاة، وأمر بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، ولو ظهر منه ما يخالف الدين، وهذا يدل على أن من عقائد أهل السنة والجماعة التزام الجماعة، ولذلك سموا بالجماعة لأنهم يجتمعون على ولاة أمرهم، ولا تخلوا عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة فيما أدركت ونظرت من ذكر هذا الأمر؛ وذلك أن فتنة الخروج من أول ما حصل من البدع في هذه الأمة، وهي من شر البدع لما ترتب عليها من الشر الكثير. وقد ذكرنا فيما تقدم: أن بدعة الخوارج من البدع التي جاء التحذير والتنفير منها في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تحض بدعة من التحذير والتنفير كبدعة الخوارج لشدة شرها؛ ولأنها تفسد ما جاءت به الشريعة، فالشريعة جاءت بالاجتماع، والائتلاف، والتعاون على البر والتقوى، والتناهي عن الإثم والعدوان، والخروج يحصل به الفساد في هذا كله، وانتفاء هذه المصالح كلها. [لا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا] أي: وإن وقع منهم الجور، سواء بقصد أو بتأويل، لا فرق بين ذلك، ويجب الصبر والاحتساب عند الله عز وجل على ما جرى منهم من الجور. قال: [ولا ندعو عليهم] أي: لا يجوز أن ندعو عليهم؛ لأن الدعاء عليهم منابذة لهم، وهو من أوائل الخروج؛ لأنه خروج بالقول عليهم. وأما قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذكر الولاة: (خير ولاتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتدعون لهم ويدعون لكم؛ وشر ولاتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتدعون عليهم ويدعون عليكم) فهذا ليس فيه تجويز الدعاء عليهم؛ لأن بعض الناس يحتج بمثل هذا في الدعاء عليهم، وهذا إنما هو بيان لعلامة وأمارة، وليس فيه أنه يجوز الدعاء عليهم، بل الواجب ما ذكر المؤلف رحمه الله في قوله: [وندعو لهم بالصلاح والمعافاة] ؛ لأن في صلاحهم صلاح الأمة. قال رحمه الله: [ولا ننزع يداً من طاعتهم] أي إذا وقع منهم الجور فلا ننزع يداً من طاعتهم، بل يجب الصبر عليهم والطاعة لهم مع ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى فيما أوصى أمته بذلك: (عليكم بالسمع والطاعة ولو تأمر عليكم عبد حبشي) ومعلوم أن العرب كان تولي مثل هذا عليهم من أعظم ما يكون في نفوسهم، ومن أعظم أسباب النفرة وعدم الطاعة، مع ذلك أمرهم بالطاعة ولو كان المتولي عليهم من كان بالأمس رقيقاً عندهم، يتصرفون به تصرفهم في سائر أموالهم، ومع ذلك أمرهم بالسمع والطاعة، وهذا فيه بيان عظم هذا الأمر، وأنه لا يجوز الخروج مهما كان الأمر، ما دام الحال لم يبلغ ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) . يقول: [ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله تعالى فريضة ما لم يأمروا بمعصية] . أي: طاعة ولي الأمر فريضة واجبة يؤجر عليها الإنسان، ويأثم بالمخالفة، والطاعة هنا ليست فقط فيما إذا أمروا بالطاعة، بل فيما إذا أمروا بالطاعة، وفيما إذا أمروا بما يرون أنه مصلحة وليس فيه معصية مما يحصل به تنظيم أمور الناس، ومن هذا نفهم خطأ الذين يعارضون في بعض المسائل التي تتبع التنظيمات والترتيبات الإدارية، وهذا جهل منهم؛ لأنهم ظنوا أن الطاعة في النظام الذي لا يخالف الشرع ليس من الشرع، وهذا خطأ، بل الطاعة في النظام الذي لا يخالف الشرع يؤجر عليه الإنسان، ويأثم بمخالفته، وهذا معنى قوله رحمه الله: [ونرى طاعتهم من طاعة الله] هذا مما يدخل في كلامه يرحمه الله: [ونرى طاعتهم من طاعة الله فريضة ما لم يأمروا بمعصية] فإذا أمروا بالمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والمعصية إما أن تكون معصية عند كل أحد، كأن يأمر مثلاً بالزنا، فهنا لا يجوز أن تطيعه؛ لأن هذه معصية عند كل أحد، وإذا كانت معصية عندك وليست معصية عند غيرك، يعني: من مسائل الاجتهاد فهل تطيع أو لا تطيع؟ الجواب تطيع؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، فإذا كان حكم القاضي في المحكمة يرفع الخلاف في قضية من القضايا عليك بما ترى أنه خلاف الصواب، فكيف بحكم من هو أعلى من القاضي وهو ولي أمر المسلمين؟ فإذا حكم ولي أمر المسلمين بحكم ترى أنت أن فيه معصية، والمسألة من مسائل الخلاف فيجب عليك طاعته، ولا إثم عليك؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، وهذه من المسائل المهمة التي يقع السؤال عنها. فقوله رحمه الله: [ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية] إذا كانت المعصية عامة فلا إشكال أنه لا طاعة لأحد في معصية الخالق، أما إذا كانت المعصية مما فيه اجتهاد واختلاف فالواجب الطاعة، ويمكن أن يعتذر الإنسان، ويترخص ممن أمره بالأمر بأنه لا يرى هذا أو أنه يرى أنه معصية، فإن أذن له فالحمد لله، وإن لم يؤذن له فيجب عليه أن يطيع. يقول رحمه الله: [وندعو لهم بالصلاح والمعافاة] ؛ لأن الدعاء بالصلاح والمعافاة ليس خيره خاصاً بهؤلاء، بل خيره في هؤلاء الذين هم ولاة الأمر وللأمة أيضاً؛ لأن صلاحهم من صلاح الأمة؛ ولذلك ورد عن السلف كالإمام أحمد رحمه الله قوله: (لو علمت أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان؛ لما يترتب على صلاحه من صلاح الأمة) وبعض الناس يبخل بالدعاء لولاة الأمر، ويظن أن هذا من الحكمة، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو جهل؛ لأن صلاحهم صلاح للأمة؛ ولذلك ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء لهم، وليس هذا فقط في الأدعية العامة كالخطب وغيرها بل حتى في الدعاء الخاص؛ فإنهم من أسباب صلاح الأمة، ومن أسباب خروجها من البلايا، والله تعالى أعلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 5 شرح العقيدة الطحاوية [17] أهل السنة والجماعة ينطلقون في اعتقادهم وفي عباداتهم وفي شأنهم كله من الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، فلذلك تراهم أهل اجتماع وعدل وأمانة، وتراهم من أبعد الناس عن الشذوذ والفرقة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 1 وجوب اتباع السنة والجماعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة، ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة، ونقول: الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه، ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر، كما جاء في الأثر. والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين، برهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما. ] . قال المؤلف رحمه الله: (ونتبع السنة والجماعة) هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة، وبيان مسلكهم العملي في أنهم أهل اتباع للسنة، فهم يعظمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبها يستمسكون، وعنها يصدرون، وإليها يتحاكمون، وبها يفصلون ويقومون الأقوال والأعمال، فمصدرهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما صح منها وثبت فإنه حاكم على أقوالهم وأعمالهم وآرائهم وكل شأنهم، كما قال الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، فأهل السنة من أخص الناس التزاماً بسنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا يردونها ولا يعارضونها ولا يتأولونها تأويلات باطلة، بل يقبلون ما صح منها ويرجعون إليه؛ ولذلك وصفوا بهذا الوصف، ولا يوصف به غيرهم. قال: (والجماعة) وهذا فيه بيان خاصية أخرى من خصائص أهل السنة والجماعة: أنهم أهل اجتماع، وسموا بالجماعة؛ لأنهم يتبعون الجماعة، والجماعة هي الحق ولو كان الإنسان وحده، وليس المقصود بالجماعة الكثرة، فإن الكثرة ليست دالة على الحق في كل الموارد، بل قد قال الله جل وعلا: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ، وقال الله جل وعلا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:8] ، وقال سبحانه وتعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 2 مفهوم الجماعة المقصود بالجماعة: جماعة أهل الحق، فهم أهل إجماع ويعتدون بالإجماع، وأهل اجتماع على من ولاه الله أمر المسلمين، فلا خروج عندهم ولا منابذة، وأهل اجتماع على الحق، وهو: ما كان عليه سلف الأمة في القرون المفضلة. هم الجماعة الذين من انحاز إليهم انحاز إلى الحق واتصف بهذا الوصف، وليس الحق مع الأكثر في كل زمان، بل هو ما كان عليه أهل الصدر الأول والسلف الصالح: الصحابة أولاً ثم تابعوهم ثم تابعو تابعيهم، فهم أهل القرون المفضلة الثلاثة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) . هؤلاء هم أهل الجماعة، فمن اجتمع إليهم، وانحاز لهم؛ فهو على الحق ولو كان وحده، ولا يضره التوحد في متابعة السلف الصالح. المهم أن الجماعة تصدق بالأخذ بالإجماع، وأيضاً الاجتماع على ولاة الأمر، وعدم الخروج عليهم، وموافقة ما كان عليه سلف الأمة في القرون المفضلة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 3 خطورة الشذوذ والفرقة قال رحمه الله: (ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة) وكل هذا ناشئ عن التفريط في اتباع السنة والجماعة، فكل من فرط في اتباع السنة، وفي الأخذ بالجماعة؛ فإنه يقع في أحد هذه الخلال الثلاث المذمومة: الشذوذ وهو: الانفراد، ولكنه ليس الانفراد بمعنى: التوحد على الحق، وإنما هو: الخروج عن الصراط المستقيم، والخلاف، والفرقة. والفرقة: هي مفارقة الجماعة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم مفارقة الجماعة سبباً مما يستباح به الدم، بل كل من سعى في تفريق المؤمنين فإنه يستحق أن يقتل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم أحد وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائناً من كان) وهذا يدل على أن كل من سعى في الفرقة بين المسلمين، وفي اختلال اجتماعهم فإنه من أهل الفرقة الذين يستحقون هذه العقوبة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولا شك أن الاختلاف وقع بعد الصحابة رضي الله عنهم، أما الخلاف في العمليات فهو واقع في زمنهم رضي الله عنهم، بل حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم يعلموا فيه قولاً عنه صلى الله عليه وسلم، لكن الخلاف المذموم هو: الاختلاف الذي فيه المخالفة لهدي السلف الصالح، ولما كان عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الاعتقاد، هذا الذي يذم صاحبه، وكذلك تقصد مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم فيما عُلِمَ أنه من فعله أو قوله أو هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الاختلاف فقال في وصيته: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) ثم وجه إلى المخرج من هذا الاختلاف فقال: (فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) ووصفهم بالوصفين الدالين على المسوغ للاتباع: الرشد والهداية، الرشد: ضد الغي، والهداية: ضد الضلال، وبهما يسلم الإنسان من الزيغ والانحراف. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 4 قوله: ونحب أهل العدل والأمانة ثم قال رحمه الله: (ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة) المقصود بالمحبة هنا: المحبة العبادية، بمعنى أننا نتعبد لله جل وعلا بمحبة أهل العدل والأمانة، وأهل العدل هم: أهل الإسلام أهل السنة والجماعة الذين اجتمعوا على الحق، ويخرج بقوله: (أهل العدل) أهل البغي وأهل البدعة، أما أهل البغي فهم: الذين يخرجون على الحكام سواء كان خروجهم بمسوغ أو بغير مسوغ، فهؤلاء ليسوا أهل عدل. وكذلك يخرج بقوله رحمه الله: (ونحب أهل العدل) أهل البدعة، فإن أهل البدعة ليسوا أهل عدل، ولو كانوا أهل عدل لما عدلوا بسنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئاً. قال رحمه الله: (ونبغض أهل الجور والخيانة) أي: أهل الظلم، وقد يجتمع في الإنسان عدل وظلم، وهذا متصور وموجود، فالواجب في مثل هذا أن يحب لما معه من العدل والاستقامة والأمانة، وأن يبغض بما معه من الجور والخيانة، فيعامل الإنسان بما تقتضيه حاله من هذين الأمرين. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 5 رد العلم إلى عالمه قوله: (ونقول: الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه) وهذا فيه بيان ما عليه أهل السنة والجماعة من رد العلم إلى عالمه، وأنهم لا يقولون ولا يعتقدون إلا ما ظهر لهم من الكتاب والسنة، وما اشتبه عليهم علمه مما في الكتاب والسنة لم يدخلوا فيه بآرائهم وتأويلاتهم، لا سيما فيما يتعلق بالله عز وجل، بل يردون العلم إلى عالمه، فيردون علم ما اشتبه واختلط ولم يتبين ولم يتضح إلى عالمه وهو الله جل وعلا، هذا هو سبيلهم، وهذه هي طريقهم، وهي طريق النجاة والسلامة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 6 من علامات أهل البدع ترك المسح على الخفين ثم قال رحمه الله في بيان ما عليه أهل السنة والجماعة: (ونرى المسح على الخفين) نرى، أي: نعتقد المسح على الخفين، أي: مشروعيته، والمسح على الخفين ليس من مسائل الاعتقاد، وإنما هو من مسائل العمل، وإنما ذكره المؤلف رحمه الله؛ لأن ترك المسح على الخفين صار علامة على فرقة من فرق المبتدعة، فارقوا بها أهل السنة والجماعة، وهم: الرافضة، فإنهم لا يرون المسح على الخفين، مع أن الأحاديث في ذلك متواترة، والأدلة في ذلك مستفيضة، فذكر المؤلف رحمه الله هذه المسألة الفقهية العملية في مسائل الاعتقاد لتمييز أهل السنة والجماعة عن غيرهم، فقال رحمه الله: (ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر) يعني: نرى مشروعية ذلك، والعمل به في السفر والحضر؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال المؤلف: (كما جاء في الأثر) والمراد بالأثر هنا: معناه العام الذي يشمل الأحاديث النبوية، وإلا فالأثر يطلق في الغالب على غير قول النبي صلى الله عليه وسلم بمفهومه الخاص. وأما مفهومه العام فيشمل كل ما جاء وأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن غيره، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بما لا شك فيه أن المسح على الخفين مما يتعبد الله جل وعلا به، وقد جاء في القرآن ما يشير إلى ذلك في القراءة المشهورة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] فاستدل بعض العلماء بقراءة الكسر على مشروعية المسح على الخفين، فالمسح على الخفين ثابت، وهو مما نقل نقلاً متواتراً، وعرفنا سر أو سبب إدخال هذا في كتب الاعتقاد؛ وذلك لأن عدم المسح على الخفين شعار لبعض أهل البدعة المخالفين لأهل السنة والجماعة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 7 مشروعية الحج والجهاد مع كل بر وفاجر من المسلمين ثم قال رحمه الله: (والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين) فرغ مما يتعلق بالصلاة فيما مضى في قوله: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة) ، ثم ذكر ثاني ما يحصل به الاجتماع، وما لا يمكن أن يكون إلا باجتماع فقال: (والحج والجهاد ماضيان) الحج أي: فريضته، وهو الحج مع الأمراء والأئمة، والجهاد كذلك أي: مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: فأهل السنة والجماعة يرون الحج والجهاد وإقامة الجمعة والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً. وتقدم الكلام على الصلاة، وأتى المؤلف رحمه الله بما يتعلق بالحج والجهاد فقال: (ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين) يعني: هما مع ولاة الأمر من المسلمين ماضيان لا ينقطعان، ومن رأى أن الجهاد لا يكون وقد انتهى فإنه مخطئ، كما تقول الرافضة: لا يكون الجهاد إلا مع الإمام المعصوم! بل الجهاد ماض مع كل ولي من ولاة أمر المسلمين، وكذلك الحج باق وماض مع كل ولي من ولاة أمر المسلمين. قال: (برهم) أي: مستقيمهم وعدلهم (وفاجرهم) أي: من لم يكن على صراط الاستقامة والهداية، قال: (إلى قيام الساعة) قال: (لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما شيء) ، بل هما ماضيان كما قال رحمه الله: (إلى قيام الساعة) . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 8 الإيمان بالكرام الكاتبين قال رحمه الله: [ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين، ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين، وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، وسؤال منكر ونكير في قبره: عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، والقبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران] . يقول رحمه الله: (ونؤمن بالكرام الكاتبين) تقدم أن من الإيمان: الإيمان بالملائكة، فالإيمان بالملائكة من أركان الإيمان، وتقدم الكلام في ذلك، ولكن المؤلف رحمه الله أعاد البحث في الإيمان بالملائكة لكنه ليس بحثاً عاماً، بل ذكر الإيمان ببعض الملائكة، ونحن ذكرنا أن الإيمان بالملائكة يتضمن: الإيمان بأن الله جل وعلا خلقهم من نور، وأنه أوكل إليهم من المهام الشيء الكثير، وأنه سمى لنا بعضهم، وأنهم خلق عظيم، وأنهم أجسام لكن الله جل وعلا أغناهم عن الأكل والشرب، وسخرهم للعبادة والخدمة، فهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون. وقولنا: إنهم أجسام، المراد بذلك: أنهم أعيان، وليسوا كما يقول الفلاسفة: خيالات لا حقيقة لها، ولكنهم أعيان -الله أعلم بحقيقة أعيانهم- خلقت من نور. يقول رحمه الله: (ونؤمن بالكرام الكاتبين) ذكر هنا نوعاً من أنواع الملائكة، وهذا النوع مما جاء وصفه في القرآن وفي السنة، والملائكة يذكرون في القرآن والسنة إما بالأعمال أو بالأشخاص، فممن ذكر بالأعمال، يعني: ذكر عمله ولم يذكر عينه: الملائكة الكاتبين الحفظة، وهم المشار إليهم في قول المؤلف: (ونؤمن بالكرام الكاتبين) كما قال الله جل وعلا: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:10-11] فهم كرام على الله جل وعلا، كاتبين لأعمال بني آدم، فهم يكتبون كل شيء من أعمال بني آدم، ومنه قول الله جل وعلا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] يسجل ويقيد ما يكون منه. يقول: (فإن الله قد جعلهم علينا حافظين) أي: يحفظون أعمالنا، ويقيدون ما يكون منا، فكل ما يكون من الإنسان من قول أو عمل فإنه مرصود مقيد، له ملائكة يسجلونه، ويحفظونه كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] فالملائكة تكتب كل ما يكون من بني آدم، وهؤلاء ملائكة متعددون، وليس هو ملكاً واحداً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر) هؤلاء الملائكة مهمتهم حفظ ما يكون من الإنسان. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 9 هل ملك الموت متعدد أم واحد؟ يقول: (ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين) أيضاً هذا ذكر لجنس من الملائكة، وذكرهم بعملهم، ولم يصح في اسم الملك الموكل بالموت حديث، وما روي من أنه عزرائيل فهو من الأحاديث الضعيفة والإسرائيليات، وليس في ذلك ما يستند إليه، ويعتمد عليه، وملك الموت ذكره الله جل وعلا في قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11] ، وقال سبحانه وتعالى في توفي الملائكة: {إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] فأضاف التوفي إلى رسل. ومن هنا قال جماعة من العلماء: إن ملك الموت ليس واحداً بل هو متعدد؛ لأن الله جل وعلا ذكر توفي الرسل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50] فجعل التوفي لمجموع وليس لواحد، فذهب بعض العلماء إلى أن ملك الموت ليس واحداً، بل هم عدد كما دلت عليه الآيات التي فيها أن التوفي يكون من جماعة. وقال جماعة من العلماء: إن ملك الموت واحد، وله أعوان، وكلا القولين محتمل، وفي حديث البراء بن عازب ما يشهد أو ما يشير إلى أنه واحد له أعوان؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الاحتضار -احتضار الإنسان- ذكر أن الملائكة ينزلون ويجلسون منه مد البصر، هذا في حال الاحتضار، (ثم يأتي ملك الموت، فينزع روحه، فتأخذها الملائكة ولا تدعها في يد ملك الموت طرفة عين) فدل هذا على أن الذي يباشر النزع هو ملك الموت وحده. وقال آخرون: بل هم متعددون، ويدل لذلك قول الله جل وعلا: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النازعات:1-2] فالنازعات: هم جماعات الملائكة الذين ينزعون أرواح بني آدم، ونزع الروح على حالين: إما نزع بشدة كحال أهل الفسق والكفر والشرك والمعصية، أو بيسر كقوله تعالى: {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتخرج روحه كخروج القطرة من في السقاء) في وصف خروج روح المؤمن. بخلاف روح المنافق فإن روحه تتفرق في بدنه وتنزع من كل عضو، كما ينزع السفود من الصوف المبلول، وفي إخراجه عناء ومشقة. المراد أن ملك الموت اختلف فيه العلماء على قولين: القول الأول: أنه واحد له أعوان. والقول الثاني: أن ملك الموت متعدد وليس واحداً، وكلا القولين له ما يشهد له، وعلى كل حال فالتحقيق هل هو واحد أو متعدد؟! يحتاج إلى تأمل وطول نظر، لكن ما تبين لي شيء في هذا. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 10 الكلام على الروح ثم قال: (ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين) أرواح: جمع روح، والروح خلاف البدن، فالإنسان مكون من روح وجسد، والجسد هو: ما يدركه النظر، وأما الروح: فهو أمر خفي، اختلف العلماء في تعيينه، وبيان حقيقته، ولم يقفوا على كنهه في شيء، وليس فيما يتعلق بالروح أكثر مما دلت عليه النصوص: من أن الروح عين، تصعد وتهبط وتقبض وتبسط، هذا أكثر ما جاء في بيان حقيقة الروح، لكن الروح ليست كما يقول الفلاسفة: عرض، بل هي عين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عنها بأخبار تدل على أنها تبصر وتقبض وتبسط ويعرج بها، ولها تعلق بالبدن. أما كيفية تعلقها بالبدن فإننا لا نقف على ذلك في شيء، وأيضاً كيفية الروح لا نقف في ذلك على شيء إلا ما ذكره الله جل وعلا في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] أي: من مأمور ربي جل وعلا، فهي من الأمور التي قدرها الله جل وعلا، ليس فيها ما يعرف أكثر مما جاءت به النصوص، ومن طلب أكثر مما جاءت به النصوص فإنه لا يقف في حقيقة ذلك على شيء. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 11 الإيمان بعذاب القبر ثم قال رحمه الله: (وبعذاب القبر) أي: ونؤمن بعذاب القبر (لمن كان له أهلاً) أي: لمن كان له مستحقاً، والقبر المقصود به ما يكون بعد الموت وقبل البعث من نعيم وعذاب، هذا المقصود بعذاب القبر، وليس المقصود أن العذاب لا يكون إلا في القبر، بل يكون العذاب في القبر وفي غير القبر، فكل ميت يموت -قبر أو لم يقبر- فإنه إما في نعيم أو عذاب، لا يخلو أحد الموتى من هذا. فقوله: (وبعذاب القبر) يعني: العذاب الذي محله القبر، والقبر هو مدفن الموتى، وأضيف العذاب إلى القبر؛ لأنه محله في الغالب، ولكنه لا يقتصر عليه، قال: (لمن كان له أهل) أي: مستحقاً، ولم يبين المؤلف رحمه الله من هم أهل عذاب القبر؟ وذلك أن عذاب القبر له أسباب توجبه ومن أسبابه: الشرك والكفر، وهذا لا إشكال فيه قال الله جل وعلا: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فذكر الله جل وعلا عذابهم في فترة قبل البعث وقبل يوم القيامة، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:21] قيل: إن العذاب الأدنى هو عذاب القبر، وهو الذي يكون في البرزخ، وقال سبحانه وتعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25] وهذا الإدخال بعد موتهم، ومعلوم أن الدخول الذي يكون مستقراً دائماً ومتوعد به أهل الكفر لا يكون إلا بعد البعث، وهذا دخول مباشر بعد الإغراق، فهذا الذي يكون في البرزخ. وعذاب القبر غالبه على الروح، وقد يلحق البدن شيء من ذلك، لكن الغالب فيما يكون من عذاب القبر ومن نعيمه إنما هو للأرواح. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 12 شرح العقيدة الطحاوية [18] من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة الإيمان بعذاب القبر وفتنته، وسؤال منكر ونكير، والبعث وما يتبعه من العرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب، وقد بين العلماء أدلة هذا كله من الكتاب والسنة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 1 تابع الإيمان بعذاب القبر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، وسؤال منكر ونكير في قبره: عن ربه ودينه ونبيه على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران] . قال المؤلف رحمه الله: (وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً) هذه معطوفة على قوله: (ونؤمن بملك الموت) ، وهذا المقطع من هذه الرسالة فيه ذكر ما يعتقده أهل السنة والجماعة فيما يتعلق باليوم الآخر، وتقدم لنا أن اليوم الآخر هو كل ما أخبر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت، ومن أول ما يكون بعد الموت ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من العذاب والنعيم الذي يكون للناس في قبورهم، فإن الناس في قبورهم معذبون أو منعمون، يقول رحمه الله: (وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً) أي: نؤمن بعذاب القبر، (لمن كان له أهلاً) أي: لمن كان له مستحقاً، واكتفى بذكر عذاب القبر؛ لأنه محل إنكار من أنكر من المعتزلة وأشباههم الذين أنكروا عذاب القبر، وعذاب القبر ثابت ثبوتاً لا مرية فيه، وقد دلت الأدلة على عذاب القبر ونعيمه، أما الكتاب ففيه من الأدلة ما تقدم ذكر بعضها، ومن ذلك قول الله جل وعلا: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:45-46] ، ثم قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [غافر:46] ، فالعرض قبل قيام الساعة: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، وأما السنة فإن الأحاديث في عذاب القبر متواترة لا ينكرها إلا منكر، فأدلة ثبوت عذاب القبر في السنة مستفيضة قد بلغت حد التواتر، واشتهر ذلك عن الصحابة اشتهاراً لا يمكن إنكاره، ففي كلامهم ما يدل على إيمانهم بأن القبر محل للعذاب والنعيم مما لا يمكن دفعه؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضي الله عنهم) فقول المؤلف رحمه الله: (وعن الصحابة رضي الله عنهم) ليس فيه أن ثبوت ذلك إنما كان عن طريق الصحابة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كسائر الأمة يتلقون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس قولهم حجة لكن إجماعهم حجة، وليس قول أحدهم حجة إلا من جعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله متبعاً، وجعل له سنة متبعة كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء الراشدون المهديون، فإن لهم من الخصوصية ما ليس لغيرهم، لكن قوله رحمه الله: (وعن الصحابة) أي: أن هذا الأمر تلقي عن الصحابة تلقياً مستفيضاً حتى صار مجمعاً عليه عندهم، فهو كما لو قال: على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت عليه الأمة، فإنه قد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على نعيم القبر وعذابه، ومن ينكره إنما ينكره بعقله، وليس له دليل وليس له مستند يعتمد عليه في نفي العذاب والنعيم في القبر. واعلم أن العذاب والنعيم في القبر غالبه على الروح، وقد ينال البدن من ذلك شيء، ودليل أن البدن يناله من التعذيب والتنعيم شيء ما جاء في ضمة القبر، وهو أن القبر ينضم على صاحبه حتى تختلف أضلاعه، فدل ذلك على أن البدن يناله مما ذكر في القبر من نعيم وعذاب، وهذه الضمة كتبها الله على كل أحد، (لو سلم منها أحد لسلم منها سعد بن معاذ) ، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 2 عذاب القبر قسمان العذاب في القبر ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: عذاب دائم لا انقطاع له، وهذا عذاب أهل الكفر والشرك، وقد يكون لبعض أهل المعاصي ممن عظمت ذنوبهم واشتدت خطاياهم، أما دليل دوامه فقول الله جل وعلا: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:45-46] ، إلى متى؟ {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [غافر:46] ، فدل ذلك على أن هذا العرض وهذا العذاب مستمر بهم، ويدل له أيضاً حديث ابن عباس في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين ثم قال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه -وفي رواية: لا يستتر- من البول) ، وهذا فيه عقوبة أهل المعاصي؛ لأنه إنما ذكر معصيتين، ولو كان عندهما كفر لاستقل بالذكر، ولما كانت هذه المعاصي موجبة لهذا العذاب الدائم، لكن الذي يظهر أنهما قبرا رجلين مسلمين، وعلى كل حال الشاهد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ جريدة رطبة فوضعها في القبر، ثم لما سئل عن ذلك قال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) ، فدل ذلك على استمرار العذاب، وأن ما جرى ببركة وضع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الجريدة الرطبة هو مجرد تخفيف لا رفع. القسم الثاني: عذاب منقطع، وهو الذي يكون لأهل السيئات والمعاصي، فيعذبون بقدر ما يكون معهم من السيئات. ثم هذا التعذيب الذي يكون في القبر -نسأل الله السلامة منه- يخفف به عن أهل الإيمان وأهل التوحيد، فلا يؤاخذون بسيئاتهم يوم القيامة، ويكون ما نالهم من عذاب القبر مكفراً لهم، حاطاً لسيئاتهم وخطاياهم، كما أن التنعيم والتعذيب في القبر متفاوت تفاوتاً عظيماً لا يدرك حده؛ وذلك بتفاوت أعمال الناس في الصلاح والفساد. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 3 سؤال منكر ونكير في القبر ثم قال رحمه الله: [وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه] ، نؤمن بسؤال منكر ونكير، وهذه هي الفتنة التي تكون لأهل القبور، وهي فتنة عظيمة ليست بالسهولة كسهولة قراءتها ومطالعتها وسماعها، إنما هي فتنة عظيمة؛ ولذلك كان من السؤال المتردد: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر) ، ففتنة القبر ما يكون من سؤال منكر ونكير، والدلالة على هذا السؤال جاء في السنة مستفيضاً متواتراً، فلا سبيل لإنكاره، ومن ينكر عذاب القبر ينكر السؤال، وسؤال منكر ونكير بين المؤلف رحمه الله أنه يكون عن ربه ودينه ونبيه، فالسؤال والفتنة مدارها على هذه الأشياء الثلاثة: يسأل عن ربه وعن دينه وعن نبيه. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه الفتنة هل هي لكل الأمم أو لهذه الأمة؟ والظاهر أنها لكل الأمم، فكل أمة تسأل عن نبيها. واختلفوا في الأنبياء، هل تنالهم هذه الفتنة أم لا؟ والصحيح أنهم لا يسألون؛ لأنهم هم المسئول عنهم. واختلفوا فيمن لم يكلف كالصغار والمجانين، هل يسألون أو لا؟ على قولين لأهل العلم، والمراد أنه وقع الخلاف في بعض الناس، ولكن ثبوتها للمكلفين من غير الأنبياء والشهداء أمر متفق عليه. ومما اختلف فيه أهل العلم تسمية الملكين، فالمؤلف رحمه الله ذكر اسمين لملكين كريمين (منكر ونكير) ، وقد اختلف العلماء في ثبوت هذه التسمية مع اتفاقهم على الفتنة، وأن الذي يتولاها ملكان، والأمر في هذا سهل، فمن العلماء من قال: إنه لم يثبت حديث يستند إليه في تسمية الملكين، فنؤمن بأنهما ملكان تجري على أيديهما الفتنة دون تعيين لاسميهما، والصحيح أن هذين الاسمين ثابتان كما في الترمذي وفي صحيح ابن حبان بسندٍ لا بأس به، فهذه التسمية ثابتة لهذين الملكين منكر ونكير، ولا غرابة في هذين الاسمين، فهذان الاسمان لا يتضمنان قدحاً في الملكين، وسميا منكراً ونكيراً باعتبار ما يفزع الإنسان في قبره، فلهما من المنظر، ولهما من المخبر في السؤال؛ ما ينكره الإنسان، ويزعج قلبه، ويفزعه؛ فلذلك سميا بهذين الاسمين، وليس قدحاً لهما، ولا يتضمن هذا الاسم ذماً لهذين الملكين الكريمين. وقوله رحمه الله: (وسؤال منكر ونكير في قبره) ، كقوله في عذاب القبر، ولا يختص هذا بعذاب القبر، ولكن لما كان غالب ما يجري من العذاب وسؤال منكر ونكير في القبور التي هي مدافن الموتى؛ أضيف العذاب والسؤال إليها، لكن من لم يدفن أو من احترق أو أكلته السباع أو غرق في البحار هل يجري له ما ذكر؟ الجواب نعم، يجري له ما ذكر من العذاب إن كان مستحقاً للعذاب، ومن النعيم إن كان مستحقاً للنعيم، ويجري له ما ذكر من سؤال منكر ونكير. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 4 القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ثم قال رحمه الله: (والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار) ، هذا فيه انقسام الناس في القبور إلى منعم ومعذب، القبر هو مدفن الموتى، والروضة تطلق في لغة العرب على ما كثر ماؤه، وحسنت خضرته واتسع مكانه، فالمكان الفسيح المتسع الذي يكثر ماؤه وخضرته يسمى في كلام العرب روضة، والقبر لا إشكال أنه منزل من منازل الآخرة، يكون فيه من التنعيم ما يصدق عليه أنه روضة من رياض الجنة؛ لأنه إذا مات الإنسان ودفن يرى مقعده من الجنة إن كان من أهل الجنة، ويرى مقعده من النار إن كان من أهل النار؛ فلذلك ما يكون في القبر من التنعيم هو شيء مما وعده أهل الإيمان؛ لأنه يعرض له مكانه من الجنة، وليس في هذا أن الجنة تكون في القبر، لا، لكنه يعرض له ما يكون في الجنة من النعيم، ثم إن الروح ليست ملازمة للبدن، بل هي في الجنة إن كانت من أرواح المؤمنين، وفي سجين إن كانت من أرواح أهل الجحيم، أعوذ بالله من الخسران! وقوله: (أو حفرة من حفر النار) النار فيها حفر؛ ولذلك قال الله جل وعلا: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ} [آل عمران:103] ، فالنار فيها حفر، وهذا يدل على أنها ليست مستوية، بل فيها من التنكيل والتنغيص وسوء المآل ما الله به عليم، فإن الطريق في الدنيا الذي فيه حفر يعافه الإنسان ويتجنبه لما فيه من المضار والمشاق، فكيف إذا كانت هذه الحفر تلتهب على أهلها؟ نعوذ بالله من الخسران! والإنسان إذا نظر إلى ما أخبر الله ورسوله مما يكون بعد الموت من النعيم والعذاب؛ حمله ذلك على الاستكثار من الطاعات، والتخفف من السيئات؛ لأنه لابد أن يرد هذا المورد، فهذا المورد كل سيرده، ولكن نسأل الله أن يكون وروداً مستقيماً، وصدوراً إلى جنة عدن. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 5 الإيمان بالبعث وما بعده ثم قال رحمه الله: (ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة والعرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب والصراط والميزان) . نؤمن أي: نعتقد مقرين منقادين قابلين ما جاءت به النصوص من الخبر بالبعث، والبعث هو الإحياء بعد الإماتة، وهذا البعث لا ينكره مؤمن، بل من أنكره فهو كافر، وقد أقام الله جل وعلا من الأدلة في كتابه وفي سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يدل عليه دلالة واضحة، وكل من أنكر البعث فإنه كافر بالله رب العالمين، وهذه العقائد ليست لتمييز عقائد أهل الإسلام عن أهل الكفر، فلماذا ذكر المؤلف رحمه الله البعث في جملة ما يعتقده أهل السنة والجماعة؟ ذكر ذلك ليرد على المنحرفين من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام الذين يقولون: إن البعث ليس بعثاً للأجساد، إنما هو بعث للأرواح فقط، وأما بعث الأجساد فليس كائناً ولا واقعاً. إذاً: ذكر البعث في جملة اعتقاد أهل السنة والجماعة ليرد على من أنكر بعث الأجساد، وهم الفلاسفة الذين قالوا: إن ما أخبرت به الملائكة إنما هو تخييل، يعني وهم وخيال ليس له حقيقة، قالوا: والبعث لا يكون للأبدان إنما يكون للأرواح، وعلى هذا ابن سيناء ومن سار في طريقه من المتفلسفة المنتسبين للإسلام، فإنهم ينكرون ما أخبرت به الرسل من بعث الأرواح والأبدان، وأنه تعاد الأرواح إلى الأجساد، ويقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، وهذا يدل على البعث للجسد والروح، وبهذا البعث يكتمل اقتران الأرواح بالأبدان؛ لأن اقتران الأرواح بالأبدان متفاوت؛ ففي الدنيا الحكم للبدن والروح تابع، وفي البرزخ الحكم للروح والبدن تابع، وفي الآخرة يكتمل اقتران الروح بالبدن، فما يكون من نعيم للبدن ينال الروح منه نفس النصيب، وكذلك العكس، لكمال الاقتران بين الأرواح والأبدان يوم القيامة. هذا البعث ما حكمته؟ ما غايته؟ ما المراد منه؟ هو ما ذكره رحمه الله بقوله: (وجزاء الأعمال يوم القيامة) أي: ونؤمن بجزاء الأعمال يوم القيامة؛ لأن البعث ليس لمجرد البعث، بل هو ليلقى الإنسان مقابل عمله، فقول المؤلف رحمه الله: (جزاء الأعمال) ، جزاء في اللغة هو الغنى والكفاية، وهو ما يكون مقابل العمل، وقوله رحمه الله: [الأعمال] جمع عمل، والعمل يطلق على العمل الصالح والعمل السيئ، {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] ، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه:112] ، فالعمل يطلق على العمل الصالح والعمل السيئ، والغالب في العمل أن يكون مقترناً بنية خلافاً للفعل، فالفعل قد لا يكون بنية؛ ولذلك لم يذكر الله جل وعلا في كتابه الإثابة على الأفعال إنما الإثابة للأعمال، والعمل يصدق على القول وعلى الفعل، وعلى العمل الضار والعمل النافع، وعلى عمل الجوارح، كل هذا يصدق عليه أنه عمل، وجزاء الأعمال أي: ثوابها، ومقابلها الإساءة بمثلها، وذلك يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين، وسمي يوم القيامة بهذا الاسم؛ لأنه تقوم فيه الأبدان لرب العالمين، قال الله جل وعلا: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ، وأيضاً سمي بيوم القيامة لأنه يقوم فيه الأشهاد، فالأشهاد يقومون ويشهدون، ولأنه تقام فيه الموازين، فيوزن فيها الأعمال والعمال كما سيأتي. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 6 العرض يوم القيامة ثم قال: (والعرض) ، أي: ونؤمن بالعرض، والعرض هنا فسره بعض العلماء بالعرض على رب العالمين كما قال الله جل وعلا: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] ، وقوله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف:48] ، فالناس يعرضون على الله جل وعلا، بل الخلق كلهم يعرضون ويحشرون إلى رب العالمين، فيقضي الله جل وعلا فيهم بما يشاء، وقيل: العرض هنا هو ما يكون لأهل الإيمان من عرض أعمالهم عليهم دون محاسبتهم عليها، فيعرض على المؤمن ما يكون من عمله، ولا يؤاخذ على السيئة، بل يقرر بما كان منه من عمل دون مؤاخذة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب) ، فقالت عائشة رضي الله عنها مستشكلة لقوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8] : كيف هذا وقد قلت: من نوقش الحساب عذب؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم (إنما ذلك العرض) ، يعني: يعرض عليه عمله الصالح فيسر به، ويعرض عليه عمله السيء الذي لم يتب منه، أما ما تاب منه فإن التوبة تهدم ما كان قبلها، وهذا من فضل الله ورحمته أنه إذا وقع الإنسان في سيئة ثم تاب منها لم تعرض عليه، وكأنه لم يفعلها وتمحى من كتابه، ففضل الله واسع، لكن مالم يتب منه من الذنوب يعرض عليه، والعرض عرض خفي، ليس عرضاً معلناً، بل يدنيه الله جل وعلا -كما في صحيح مسلم- ويضع عليه كنفه أي: ستره، ويقرره بذنوبه ثم يقول: (سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم) ، وهذا فضل الله، نسأل الله من فضله! ويقابل هذا حال الكافر الذي يشاد بعمله، يشاد أي: يعلن وينادى بعمله السيئ على رءوس الخلائق، فالعرض يحتمل هذا، ويحتمل هذا. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 7 الحساب ثم قال: [والحساب] ، يعني: ونؤمن بالحساب، والحساب مأخوذ من المحاسبة، والمحاسبة أصلها مأخوذ من العد والإحصاء، والمراد بالمحاسبة ما يكون من المناقشة وما يكون من العرض، فإن العرض يطلق عليه حساب كما قال الله جل وعلا: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8] ، فإذا قلنا: نؤمن بالعرض أي: العرض الذي يكون لجميع الخلائق على رب العالمين، كما قال الله: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف:48] ، وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على عرض الخلق على الله عز وجل فيكون الحساب هنا شاملاً لنوعين: الحساب الذي هو الموازنة بين الحسنات والسيئات، والحساب الذي هو العرض للسيئات دون المؤاخذة بها، والحساب الذي بمعنى الموازنة لا يكون إلا لأهل الإسلام، أما أهل الكفر فإنه لا توزن حسناتهم، بمعنى أنها لا توزن أعمالهم كموازنة الأعمال التي فيها حسن وسيئ؛ لأنه لا حسنات لهم قال الله جل وعلا: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، وإنما الحساب المضاف إلى أهل الكفر حساب العرض لأعمالهم السيئة، وتوبيخهم عليها، وتقريعهم بها، هذا الذي يكون من الحساب للكفار، أما حساب الموازنة بين الحسنات والسيئات فلا يكون لأهل الكفر؛ لأنه لا حسنات لهم فتوزن بل قال الله جل وعلا: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، والحساب بمعنى الموازنة بين الحسنات والسيئات يكون لأهل الإسلام، ونؤمن أيضاً بالعرض الذي يكون لأهل الإحسان، وكذا عرض التوبيخ والتقريع الذي يكون لأهل الكفر. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 8 قراءة الكتاب ثم قال رحمه الله: [وقراءة الكتاب] أي: نؤمن بقراءة الكتاب، فكل إنسان يقرأ كتابه يوم القيامة، قال الله جل وعلا: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13-14] ، وقد ذكر الله جل وعلا انقسام الناس في قراءة الكتاب: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] ، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة:25] ، لما فيه من السوء والعذاب الذي يسوءه يوم القيامة، نسأل الله السلامة! فنؤمن بقراءة الكتاب بدلالة الكتاب والسنة على ذلك. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 9 الثواب والعقاب قال: [والثواب والعقاب] ، وهذا يعقب ما تقدم، فالثواب والعقاب مرتب على العرض والحساب وقراءة الكتاب؛ ولذلك أهل اليمين -نسأل الله أن نكون منهم- إذا أخذوا كتبهم فرحوا بذلك فرحاً عظيماً حتى أن أحدهم يقول: هاؤم اقرءوا كتابيه، أي: خذوا أو هلموا اقرءوا كتابيه، وهذا -يا إخواني- له نظير في الدنيا، وهو ما يحصله الناس من الشهادات على دراساتهم وأعمالهم، فإذا كانت الشهادة حسنة، والتفوق فيها ظاهر؛ تجده يبرزها عند كل أحد، ويرغب أن يقرأ كتابه، وإذا كانت الأخرى أخفاها وسترها نسأل الله فوز الآخرة! قوله: (والثواب والعقاب) أي: يوم القيامة، ويكمل الثواب والعقاب بالاستقرار في الجنة أو النار. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 10 الصراط ثم قال رحمه الله: (والصراط و الميزان ) أي: نؤمن بالصراط والميزان، والصراط ككتاب، فعال بمعنى مفعول، وهو ما ضربه الله جل وعلا من الجسر على جهنم، فالصراط هو الجسر المضروب على متن جهنم، يعني ظهرها، ومن هنا نعلم أن المرور على الصراط لا يلزم منه دخول النار، بل هو ورود كما قال الله جل وعلا: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] ، لكن الورود لا يلزم منه الدخول، وهذا الصراط ورد في وصفه أنه أدق من الشعر، وأحد من السيف، وأحر من الجمر، وورد في وصفه أنه مدحضة مزلة، والأصل في الصراط أنه الطريق المستقيم، وعلى كل حال هو جسر على متن جهنم، لا تضر دقته وحدته أهل الإيمان كما أنه لا ينفع سعته -إذا قيل بسعته- أهل العصيان؛ لأن الناس سيرهم في ذلك الموقف وفي هذا الاجتياز على حسب الأعمال ليس على حسب سعة الطريق وضيقه، والناس متفاوتون في اجتيازهم هذا الصراط، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من تخطفه الكلاليب، نسأل الله السلامة والعافية! وهذا التفاوت العظيم في السير هو لتفاوت الناس في سيرهم إلى الله جل وعلا في هذه الدنيا، فبقدر ما مع الإنسان من العلم النافع والعمل الصالح بقدر ما يحصل له من السرعة، فمطايا الناس يوم القيامة أعمالهم، (ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه) ، فمن أخره عمله لن ينفعه شيء، وإنما ذكر النسب لأن النسب يكون معه يوم القيامة، فإنه ينسب إلى أبيه حتى في القيامة، أما المال والمنصب والجاه فكله يزول، فذكر النسب في حديث: (من بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه) ، لأن النسب باق مع الإنسان حتى وهو في النار نسأل الله السلامة والعافية! بمعنى أنه ينسب إلى أبيه، فهذا الذي بقي معه يوم القيامة، وهو أن نسبته إلى قبيلته أو إلى أهله أو إلى أبيه أو إلى عشيرته ما تنفعه يوم القيامة إذا لم يكن له عمل صالح يجوز به. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 11 الميزان ثم قال: (والميزان) أي: ونؤمن بالميزان، والميزان اختلف العلماء رحمهم الله هل هو واحد أو متعدد؟ وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الميزان ميزان حقيقي له كفتان يزن الله به الأعمال، ودلت الأدلة أنه توزن السجلات، وأنه يوزن العمال، فالوزن ورد أنه للعمل وهذا هو الأصل، وورد أنه للسجلات الحاوية للأعمال، وورد أنه للعاملين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في ابن مسعود لما ضحك الصحابة من دقة ساقيه: (إنهما أثقل في الميزان من جبل أحد) ، وهذا الثقل ثقل الأعمال، وأما الكفار فقال الله جل وعلا عنهم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] ، فيأتي الرجل العظيم من أهل الكفر لا يزن عند الله شيئاً؛ لأن الوزن في حقيقته للعمل، وقد أنكر الميزان المعتزلة وأشباههم حيث قالوا: الميزان كناية عن العدل، فالمراد بالميزان عندهم في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ، العدل، وهم في هذا كاذبون محرفون للقرآن. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 12 الأسئلة الجزء: 18 ¦ الصفحة: 13 القياس على الفضائل السؤال هل يقاس على ما ورد من الفضائل؟ الجواب الفضل الخاص ما يلزم منه التعليل والقياس، ومسألة الفضائل والأجور ليست مما يدخل في القياس، فإذا قلنا: إن الشهيد لا يفتن في القبر للأدلة على ذلك، لا يلزم منه أنه لا يفتن الصدِّيق، بل النص ورد في الشهيد، وهذا فضل خاص، والفضائل وأجور الأعمال ليست محل قياس لا في الدنيا ولا في الآخرة، والله تعالى أعلم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 14 شرح العقيدة الطحاوية [19] من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، وأن الخير والشر مقدران على العباد، وأفعالهم خلق الله وكسب من العباد، ودلائل هذه المسائل ظاهر في الكتاب والسنة، وقد خالف فيها كثير من أهل البدع والأهواء. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 1 الجنة والنار مخلوقتان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، وأن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه] . قول المؤلف رحمه الله في بيان عقد أهل السنة والجماعة: (والجنة والنار مخلوقتان) ، الجنة هي دار النعيم الكامل التي أعدها الله جل وعلا لعباده المتقين التي فيها (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ، والنار هي دار العذاب التي أعدها الله جل وعلا للكفار والمشركين، والعصاة من أهل التوحيد. الجنة والنار مخلوقتان أي: أنهما مخلوقتان الآن، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة، ولا خلاف بينهم في ذلك كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، كما أنه يدل على ذلك العقل، فإن في خلقهما وإعدادهما من الحكم ما تقتضيه العقول، وقد جرى على هذا أهل السنة والجماعة وأهل هذه الملة، حتى تكلم في ذلك أهل الاعتزال والقدرية الذين قالوا: إنه ليس من الحكمة خلق الجنة والنار؛ لأنه يجب على الله جل وعلا فعل الأصلح، وليس في خلقهما الآن -قبل الدخول وقبل مجيء الوقت الذي يصير فيه أهل كل دار إليها- حكمة بل هو عبث، تعالى الله عما يقولون، فأوجبوا عدم خلق الجنة والنار، ونفوا أنهما مخلوقتان، وخلق الجنة والنار أمر مستقر وظاهر لكل من قرأ الكتاب أو سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم، فالله سبحانه وتعالى أعد الجنة للمتقين كما قال سبحانه وتعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] ، وأعد النار للكافرين كما قال جل وعلا: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] ، والإعداد يقتضي التهيئة والوجود، أما الأحاديث في السنة فهي مستفيضة ولا إشكال فيها، وإذا كان الأمر واضحاً ظاهراً لا يحتاج الإنسان إلى الإسهاب أو التطويل في ذكر الدليل لظهور ذلك، ومما يدل في السنة على وجودهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الجنة، ورأى النار صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورأى الجنة والنار وهو في صلاة الكسوف مع أصحابه رضي الله عنهم، ولا يمكن أن يرى ما لا وجود له، وما قيل: إنه رأى خيالاً ومثالاً ليس بصحيح؛ لأن الأصل فيما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه حق على حقيقته لا مجاز فيه، المهم أن الجنة والنار مخلوقتان معدتان، ولا يلزم من كونهما مخلوقتين أنه قد تم خلقهما من كل وجه، فإن الله يحدث فيهما ما يشاء؛ ولذلك كان قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، غرس الجنة، فدل ذلك على أنها تهيأ وينشئ فيها الله جل وعلا ما يشاء، لكن من حيث الوجود هما موجودتان، ويكمل الله جل وعلا خلقهما على وجه الاستمرار إلى أن يقضي الله جل وعلا بدخول أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، لكنهما موجودتان قبل أن يخلق الله جل وعلا الإنس والجن، ويدل لذلك حديث عائشة في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم) ، فدل ذلك على تقدم خلق الجنة والنار، ثم إن قول المعتزلة: إنه لا فائدة من خلق الجنة والنار، كذب؛ لأنه وإن كان دخول الأبدان وتنعم الأرواح على وجه الكمال لا يكون إلا في الدار الآخرة، وكذلك النار، إلا أن الأرواح تدخل الجنة، فإن أرواح المؤمنين في الجنة تسرح وتتنعم، وكذلك أرواح الكافرين في سجين، فقولهم لا معنى له، وهو من التحكم، والله جل وعلا هو الحكيم الخبير {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] ، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 2 الجنة والنار لا تفنيان ولا تبيدان يقول رحمه الله: (لا تفنيان ولا تبيدان) ، هذا أيضاً من عقد أهل السنة والجماعة، أن الجنة والنار لا تفنيان، بل هما باقيتان بقاءً أبدياً، ولا تبيدان أي: ولا تزولان، ولا تهلكان، ولا يجري عليهما زوال أو فناء، بل هما باقيتان بقاءً أبدياً سرمدياً، ولا خلاف في أن الجنة باقية، فإن هذا عقد أهل السنة والجماعة، ولا خلاف بينهم في ذلك، فإن الله جل وعلا ذكر تأبيد النعيم في آيات كثيرة، وأما النار فقد ذهب جماعة من السلف من الصحابة ومن بعدهم إلى أن النار تفنى، ولكن الذي عليه جمهور السلف والأئمة على تعاقب العصور أن النار باقية لا تفنى، وما ورد مما ظاهره عدم تأبيد النار تقضي عليه النصوص التي ذكر فيها التأبيد، فإن الذين قالوا: إنها لا تبقى، بل تبيد وتفنى، استدلوا بأدلة من ذلك قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] ، أي: مدداً طويلة، واستدلوا بمثل قوله تعالى لأهل النار: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] ، في حين أنه قال في أهل الجنة: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] ، أي: غير مقطوع، فهذا دل على استمرار وبقاء، لكن هذا وأمثاله لا يجب الاستدلال به، بل هو مفسر بالآيات التي فيها الإخبار بتأبيد النار، وأنها باقية بقاءً لا زوال له، وقد ذكر الله جل وعلا تأبيد تعذيب النار في ثلاثة مواضع من كتابه، في سورة النساء حيث قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:168-169] ، وذكر الله جل وعلا التأبيد أيضاً في سورة الأحزاب في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:64-65] ، وذكر ذلك أيضاً في سورة الجن في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23] ، فهذه ثلاث آيات في القرآن الحكيم تدل على أن النار مؤبدة، فهذا التوضيح والتبيين يقضي على ما يوهمه قوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّك} [هود:108] ، وعلى قوله: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] ؛ ولذلك كان جمهور أهل السنة والجماعة على أن النار لا تفنى ولا تبيد، بل أهلها فيها إلى أبد الآباد، وأما الجهمية فقالوا: إن الله يفني الجنة ويفني النار، وهؤلاء كذبوا بما دلت عليه النصوص، ولم يوفقوا إلى خير، وهناك أقوال أخرى لا داعي للإسهاب في ذكرها، وقد ذكرها أهل العلم رحمهم الله في شرحهم وبيانهم لأقوال المختلفين المخالفين لأهل السنة والجماعة في هذه المسألة، والذي استقر عليه الأمر بدلالة الكتاب والسنة أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً، ولا تبيدان. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 3 من أدخله الله الجنة فبفضله ومن أدخله النار فبعدله ثم قال رحمه الله: (أن الله خلق الجنة والنار قبل الخلق) المراد: قبل خلق الإنس والجن، وليس الجنة والنار هي أول ما خلق الله سبحانه وتعالى، بل الذي دلت عليه النصوص أن الجنة والنار مخلوقتان قبل خلق الإنس والجن، يقول: (وخلق لهما أهلاً) أي: وخلق لهما أهلاً من الجن والإنس، وينشئ الله جل وعلا يوم القيامة خلقاً فيدخلهم الجنة أما النار فإنه لا يدخلها إلا من استحق ذلك، قال: (فمن شاء منهم) من شاء الله جل وعلا (منهم) أي: من الخلق (إلى الجنة فضلاً منه) ، وهذا من أحسن ما ذكر المؤلف رحمه الله في هذه المسألة، حيث بين أن دخول الجنة ليس بعمل الإنسان، بل هو فضل الله جل وعلا، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (واعلموا أنه لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة) ، فالعمل لا يستقل بدخول الجنة، إنما فضل الله السابق واللاحق هو الذي يؤهل الإنسان لدخول الجنة (ومن شاء منهم) أي: من الخلق (إلى النار عدلاً منه) فالنار لا يدخلها إلا من استحقها {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83] ، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} [يونس:44] ، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118] ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ، والنصوص الدالة على نفي الظلم تدل على أنه لا يمكن أن يدخل النار أحد إلا ممن استحقها، ويرى أن الله جل وعلا لم يظلمه شيئاً، فهو إذا دخل النار يؤمن باستحقاقه لها، وأنه مستحق لأن يكون من أهل النار، ومستحق لهذا العقاب الذي هو فيه، وإنما يطلبون التخفيف والرحمة: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] ، وأيضاً يستجيرون بالملائكة ويسألونهم أن يشفعوا لهم إلى الله عز وجل فيقولون: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] ، ولا يقولون: لسنا مستحقين، وظلمنا ربنا بدخولنا، بل يقولون: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] ، فهم يشهدون على أنفسهم باستحقاق الدخول، فلا يدخل أحد النار أبداً إلا وهو أهل لها، نسأل الله عز وجل السلامة منها! ولذلك لا يهلك على الله إلا هالك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 4 كل ميسر لما خلق له قال رحمه الله: (وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له) ، الخلق يعملون لما فرغ لهم، فهم يعملون وفق ما قدر لهم كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما سئل: (ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ، فالله جل وعلا سبق علمه بأهل الجنة وبأهل النار على وجه الكمال، لا نقص ولا زيادة، والخلق كلهم ميسرون لما خلقوا له؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ، وقد ذكر الله جل وعلا تيسير الناس إلى ما قدر لهم في قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] ، أي: مختلف متنوع {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] ، وهذا فيه حث الناس على العمل، وعدم الاتكال والاعتماد على القدر والكتابة والعلم، فإنه لا علم لأحد ما الذي كتب له؟ وهل هو من أهل الجنة أو من أهل النار؟ فلا حجة لأحد في سابق العلم والتقدير، إنما الحجة لله عز وجل على خلقه حيث أمرهم ونهاهم وسهل لهم ومكنهم من الاختيار والعمل، وهذا الكلام صلة ما تقدم فيما يتعلق بالجنة والنار، ومدخل لما سيبحثه في المباحث التالية من الكلام على بعض مسائل القدر. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 5 الخير والشر مقدران على العباد يقول رحمه الله: [والخير والشر مقدران على العباد، والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به تكون مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكين وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب] . قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، يقول رحمه الله: (والخير والشر مقدران على العباد) ، لاشك في هذا، وقد مرت الآيات الدالة على ذلك كقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، فكل شيء في الكون مخلوق لله جل وعلا من خير أو شر، لا يخرج عن تقدير الله جل وعلا شيء من شئون الخلق، بل الجميع تحت قهره وقدرته وخلقه سبحانه وتعالى، وهذا الذي ذكره من تمام الإيمان بالقضاء والقدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) ، والقدر لاشك أن فيه خيراً وفيه شراً، لكن اعلم أن الشر الذي في القدر ليس هو فعل الرب جل وعلا، بل فعل الله جل وعلا خير لا شر فيه، إنما هو في المقدور المقضي المخلوق، ثم إن الشر في المقدور المقضي المخلوق شر نسبي ليس شراً محضاً. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 6 الاستطاعة في التكليف يقول رحمه الله مبيناً فرعاً من فروع ومسائل القدر، وهو الاستطاعة: [والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به؛ فهي مع الفعل -أي: فعل الله- وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكين وسلامة الآلات؛ فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب] ، يشير المؤلف رحمه الله إلى اختلاف الناس في الاستطاعة، والاختلاف هنا بين فريقين، بين المعتزلة القدرية وبين الجبرية الجهمية في تعريف الاستطاعة، وهذا له صلة بمسألة هل يكلف الله جل وعلا الخلق بما لا يطيقون أو لا؟ ننظر إلى الاستطاعة ماهي؟ يقول رحمه الله: (الاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي مع الفعل وأما الاستطاعة) ثم ذكر نوع الفعل من الاستطاعة، فالاستطاعة نوعان: استطاعة سابقة للفعل، واستطاعة مقارنة للفعل، الاستطاعة السابقة للفعل هي التي أناط الله جل وعلا بها التكليف، وتعريفها: هي ما يحصل به القدرة على الفعل دون ضرر راجح، هذا تعريف الاستطاعة: ما يحصل به القدرة على الفعل دون ضرر راجح كالقيام في الصلاة، والصيام الواجب، والاستطاعة هنا أن يقدر الإنسان على فعل هذا دون أن يلحقه ضرر راجح، فإن لحقه ضرر راجح فهو غير مستطيع، هذه الاستطاعة هل هي سابقة للفعل أو ليست سابقة له؟ سابقة للفعل بلا إشكال؛ ولذلك هذا النوع من الاستطاعة لولاه لما حصل التكليف، فهو مناط التكليف، وهو الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله في قوله: (وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب) ، يعني: بها يتعلق الأمر والنهي، والخطاب خطاب الشارع في الأمر والنهي، فهذا النوع به يتعلق أمر الله ونهيه، وهو المذكور في قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) ، فهذا النوع من الاستطاعة سابق للفعل، وبه يصح الأمر والنهي، وهو الذي يقر به القدرية، وينكره الجبريون، لماذا؟ لأنهم يقولون: لا قدرة للعبد على فعل شيء إلا ما أقدره الله عليه، فهم ينفون الاستطاعة؛ ولذلك فالجبرية وقعوا في الخلل في باب الأمر والنهي، فعطلوا الأمر والنهي، فعندهم لا قدرة للعبد ولا استطاعة، إنما الفعل كله لله، والعبد حركاته إنما هي كحركات المرتعش وكحركات الشجر وكنبض العروق لا اختيار له فيها ولا أثر، فهم أنكروا الاستطاعة السابقة للفعل. والذي أقر به القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، هو النوع الثاني من الاستطاعة، وهي الاستطاعة المقارنة للفعل، وهي بمعنى القدرة عليه، وهذا النوع يثبته الجبرية وتنفيه القدرية، فعندهم أن العبد لا يقدر، وعندهم أن هذه القدرة لا تدخل في تقدير الله جل وعلا، ولم يعلق الله بها شيء، أما الجبرية فإنهم يثبتون هذا النوع من الاستطاعة، والذي عليه جمهور السلف والخلف ممن تبع الكتاب والسنة إثبات النوعين من القدرة، إثبات القدرة السابقة للفعل، وهي المصححة للأمر والنهي، وهي التي يتعلق بها الخطاب أمراً ونهياً؛ والاستطاعة المقارنة للفعل، وبهذا تجتمع النصوص، ويبطل قول القدرية نفاة خلق الله لأفعال العباد، وقول الجبرية الذين قالوا: لا فعل للعبد ولا قدرة ولا مشيئة، وإنما هو كالشعرة والريشة في مهب الريح، لا اختيار له ولا قدرة، قال الله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20] ، وقال تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [الكهف:101] . فهذه الآية والتي قبلها نفى الله جل وعلا الاستطاعة، فما هي الاستطاعة المنفية؟ هل الاستطاعة المنفية هي التي بمعنى القدرة على الفعل السابقة لوجوده؟ الجواب لا، وعلى قول من فسر القدرة بالسابقة، والقدرة المقارنة فتكون الاستطاعة المنفية هنا هي القدرة المقارنة للفعل {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [الكهف:101] ، والآية الأخرى {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20] ، فالاستطاعة المنفية هي القدرة، يعني: ما كانوا يقدرون سمعاً وقت الاستماع، وما كانوا يستطيعون سمعاً وقت الاستماع، فنفى القدرة المقارنة لا القدرة التي يحصل بها التثبيت، هذا على قول من فصل في القدرة، وقول جمهور السلف وهو التفسير المشهور عند الأئمة: إن النفي في الآيتين ليس هو نفي القدرة التي يحصل بها التثبيت، ولا القدرة المقارنة، إنما فيه إثبات مشقة ذلك عليهم؛ لفساد قصودهم وإراداتهم وانحراف قلوبهم، فأصبحوا لما في نفوسهم من الفساد ولما في إراداتهم من الانحراف؛ لا يستطيعون سماع الحق، ولا إبصاره، ولا الأخذ به، وأما على قول من يقول بالقدرة المقارنة فإنه يفسرها بقوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20] . ثم اعلم -بارك الله فيك- أن الأدلة دلت على هذين النوعين من الاستطاعة، وأن الاستطاعة التي تسبق الفعل هي التي يقترن بها التثبيت. يقول المؤلف: (والاستطاعة التي يتعلق بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به) يعني: أنها ليست منه، إنما هي من الله عز وجل، فهو الذي وفقه إليه (فهي مع الفعل) يعني: مقارنة له، وهي المنفية في قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20] ، (وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع) ، يعني: القدرة، (والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب) ، وأهل السنة والجماعة يثبتون هذا وهذا، ثم قال: [وهو كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]] أي: إلا ما تسعه وتقدره وتطيقه، فالتكليف المنفي هنا هو التكليف السابق للفعل وليس المقارن له. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 7 أفعال العباد مخلوقة قال رحمه الله: [وأفعال العباد خلق الله، وكسب من العباد، ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم] قال: (وأفعال العباد خلق الله) تقدمت أدلة هذا، وأن أفعال العباد خلق له جل وعلا لا يخرج عن خلقه شيء، ومع كونها خلقه سبحانه وتعالى فهي كسب العباد، أي: مضافة إليهم، وقد أضاف الله جل وعلا الأفعال إلى فاعليها، قال سبحانه: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:14] ، وما إلى ذلك من الآيات الكثيرة في القرآن التي يضيف الله جل وعلا فيها الفعل للعبد، فالفعل خلق الله جل وعلا، وهو كسب للعبد، له عليه قدرة، وله مشيئة، فالعباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وهم وأفعالهم خلق الله جل وعلا، فالعبد ذاته، وفعله، وصفته؛ خلق لله جل وعلا، وأفعال العبد كسبه، فهو الذي فعلها، أي: هو الذي فعلها وباشرها بمشيئته، وإرادته تضاف إليه، وتنسب إليه حقيقة، فالعباد فاعلون لأفعالهم، وتضاف إليهم حقيقة لا على وجه المجاز كما يقوله من يقوله، وهي خلق الله جل وعلا، لا تخرج عن خلقه كما قال الله جل وعلا: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29] ، فأثبت في هذه الآية للعبد مشيئة وفعلاً فقال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] ، فأثبت مشيئة للعبد، وفعلاً للعبد، ثم أخبر أن مشيئة العبد لا تخرج عن إرادة الله عز وجل، بل مشيئته سبحانه وتعالى محيطة بفعل العبد، لا خروج للعبد عن مشيئته عز وجل كما قال سبحانه وتعالى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] . وقوله رحمه الله: (وكسب من العباد) رد على الأشاعرة وعلى الجبرية، الأشاعرة يقولون قولاً عجيباً في هذا الأمر! يقولون: الأفعال خلق للرب، كسب للعبد، وما معنى الكسب؟ قالوا: معنى الكسب أنها تضاف إليه مجازاً، وإلا فإن العبد لا قدرة له على فعله، فهم أثبتوا أنها كسب للعبد، ونفوا قدرة العبد على فعل نفسه، فأتوا بقول من أعجب الأقوال؛ ولذلك عد هذا القول من محالات الأقوال التي تحيلها العقول وهي ثلاثة: كسب الأشعري، وطفرة النظار، وأحوال أبي هاشم. ثم قال رحمه الله: (ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون) ، أي: لم يكلف الله جل وعلا الخلق إلا ما يطيقون ويستطيعون، كما قال الله جل وعلا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، وكما قال: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام:152] ، فأخبر الله جل وعلا بأنه لا يكلف الناس ما لا يطيقون، كما قال سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] ، قال الله جل وعلا: (قد فعلت) ، كما في صحيح مسلم، فإن الله فعل ما دعا به المؤمنون: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] ، فدل ذلك أن الله جل وعلا لم يكلف عباده إلا ما يستطيعونه، ويطيقون حمله. ثم قال: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) هذه الجملة فيها إشكال؛ لأن مفهومها أنهم لا يطيقون إلا ما جرى به التكليف، فالتكليف مساوي وموازي وقد بلغ المنتهى في الطاقة، وهذا ليس بصحيح، بل التكليف دون الطاقة، ويدل لذلك قول الله تعالى:: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، انظر في قوله تعالى: {إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، فهو يفيد معنى السعة، وأنه ليس في التكليف ما يحصل به على الإنسان ضيق أو حرج، بل التكليف فيه سعة وانشراح، ولا يلحق المكلف به ضيق أو حرج؛ ولذلك نفى الله تعالى الحرج على المكلف في الدين فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، فنفى الله جل وعلا الحرج، بل أنفذ التخفيف كما في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28] ، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، والأدلة في هذا كثيرة، بل من أصول الدين نفي الحرج، ولا يمكن مع هذا أن نقول: ولا يطيقون إلا ما كلفهم، بمعنى: لو زاد قليلاً لخرج عن الطاقة، ثم إنه في الواقع أن الإنسان قد يكلف ما يطيقه، لكن يلحقه به مشقة، وهذا ليس في الشريعة منه شيء، فمثلاً لو قيل لك: احمل هذا الدولاب، وأنت تطيق أن تحمله، لكن فيه عليك مشقة وحرج، فهذا لا يخرج عن الطاقة، وتكاليف الشريعة في الجملة ليست من هذا، إنما تكاليف الشريعة في الجملة هي مما يطيقه الإنسان، ولا يلحقه بفعله حرج أو ضيق، وانتبه لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، والوسع يقتضي السعة والراحة والانشراح، فهذه الجملة لعل المؤلف رحمه الله أراد تأكيد معنى: ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، لكنه لم يحرر العبارة، فالعبارة فيها إشكال، على أن بعضهم فسر قوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) فسر الطاقة هنا بالقدرة المقارنة للفعل، لكن هذا فيه تكلف، وقد علق شيخنا الشيخ/ عبد العزيز رحمه الله على هذه العبارة بأن فيها نظراً، والنظر ما بيناه آنفاً. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 8 تفسير: لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال رحمه الله: [وهو تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله، نقول: لا حيلة لأحد، ولا حركة لأحد، ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله؛ ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله، والثبات عليها إلا بتوفيق الله تعالى] . قال رحمه الله: (وهو تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله) ، المشار إليه ما تقدم من تقرير مسائل القدر، ولا شك أن قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، من أعظم الأدلة على إثبات القدر، ومن أعظم الأدلة في الرد على القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه؛ لأن معنى قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ ما قاله المؤلف: لا حيلة لأحد، فالحول اسم للتحول، وهو الانتقال من حال إلى حال، وهذا يشمل كل الأحوال الظاهرة الباطنة، العامة الخاصة، لا تحول لأحد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك التحول إلا بالله العلي العظيم، فكل حركة وسكون، وكل انتقال وتغير، وكل تحول فإنه بمشيئة الله وقدرته، لا قدرة للعبد على ذلك مهما أوتي من القدرة والمكنة والاستطاعة إلا بتقدير الله جل وعلا. يقول: [نقول: لا حيلة لأحد، ولا حركة لأحد، ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله؛ ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله] ، وهذا فيه كمال التفويض لله جل وعلا، وهذه الجملة من الجمل التي لا تخصيص لها، والعموم فيها على إطلاقه ولا مخصص له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في فضلها: (إنها كنز من كنوز الجنة) ، وذلك لما تتضمنه من تمام الإخلاص والتفويض والإيمان بالله جل وعلا، ولما فيها من الخير العظيم لمن اعتقد معناها، وقر في قلبه مقتضاها ومفادها، ومما يعين الإنسان على الانتقال من حال إلى حال استحضار هذا؛ ولذلك لها تأثير عجيب في تحمل المشاق، وفي ركوب الأهوال، وفي تحصيل المطالب، ومن لزمها وفق إلى خير كثير، ويكفي في فضلها أن النبي صلى الله عليه وسلم سماها كنزاً فقال لـ أبي موسى: (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟) والكنز اسم لنفيس المال الذي يخفى على الناس نفعه، وهذا هو المطابق لهذه الكلمة، فإن الكنز لا يطلق على المال الظاهر الذي يراه كل أحد، إنما ما خفي من المال وكان نفيساً، فملازمة هذه الكلمة من أنفع ما يكون للعبد، والمقصود من سياق المؤلف رحمه الله لهذه الكلمة في هذا الموضع هو بيان ما يدل على قوله رحمه الله: (وأفعال العباد خلق الله، وكسب من العباد) فهي مقررة لإثبات القدر. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 9 قضاء الله وقدره ليس فيه ظلم قال رحمه الله: [وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره، غلبت مشيئته المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً، تقدس عن كل سوء وحين، وتنزه عن كل عيب وشين، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون] . هذا فيه تقرير ما تقدم من الإيمان بالقدر، قال رحمه الله تعالى: (وكل شيء في الكون يجري بمشيئة الله تعالى وقضائه وقدره) ، ولا يؤمن أحد بالقدر حتى يؤمن أن كل شيء بعلم الله وكتابته وخلقه ومشيئته، فلا شيء خارج عن هذا، (غلبت مشيئته المشيئات كلها) ، قال جل وعلا: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ، فمشيئة الله محيطة بمشيئة الخلق، (وغلب قضاؤه الحيل كلها) ، فإذا لم يقض الله جل وعلا الأمر فمهما احتال عليه المرء فإنه لا يحصله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، تقدست أسماؤه، وهو غير ظالم أبداً {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44] ، (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) ، [تقدس] أي: تنزه وتطهر وتعالى جل وعلا عن كل سوء، أي: عن كل عيب وعن كل شر وحين، وهو بمعنى السوء والشر والعيب والظلم، فلا شيء مثله تقدست أسماؤه سبحانه وبحمده {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ، بل من سأل الله: لم فعلت كذا؟ فقد اعترض على الرب جل وعلا {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ، وإذا اجتمع في قلب العبد هذه المعاني سلم من كل ما يمكن أن يعرض له في باب القدر. وأحسن المؤلف رحمه الله حيث ختم ما يتعلق بمسائل القدر في هذا المقطع بنفي الظن عن الرب جل وعلا، ونفي لحوق العيب والسوء والشين والحين له سبحانه وتعالى، ثم قال: (لا يسأل) ، حتى يقطع اعتراض المعترضين {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ، وقد جاء رجل إلى أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: (في نفسي شيء من القدر فحدثني حديثاً يذهب به الله عني ذلك) ، فقال رضي الله عنه مقولة عظيمة تبين عظيم فقه الصحابة رضي الله عنهم قال له: (إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، واعلم أنه لو كان لك مثل أحد ذهباً فأنفقته في سبيل الله؛ لم ينفعك حتى تؤمن بالقدر، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) ، قال الديلمي -وهو الذي سأل أبي بن كعب -: فسألت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت عن ذلك، وكلهم أجابني بمثل ما أجابني أبي، وهذا الأثر حسن كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وهو يدل على عظيم فقه الصحابة، وأنه لا سلامة للعبد مما يعلق في قلبه من وساوس الشيطان مما يتعلق بالقدر إلا باعتقاد كمال الله جل وعلا، وأنه سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، ومع هذا يؤمن بالقدر، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه جل وعلا {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ، ويكفي في هذا ما قاله رحمه الله في أول كلامه في القدر: (القدر سر الله في خلقه، لم يطلع عليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 10 شرح العقيدة الطحاوية [20] من عقيدة أهل السنة سلامة صدورهم لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ومعرفة فضلهم وقدرهم، وأنه لم يكن ولن يكون مثلهم، مع تفاوتهم في المرتبة، وتفضيلهم للخلفاء الأربعة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 1 انتفاع الميت بعمل الحي، والخلاف في بعض الأعمال بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات، والله تعالى يستجيب الدعوات، ويقضي الحاجات، ويملك كل شيء ولا يملكه شيء، ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، ومن استغنى عن الله تعالى طرفة عين فقد كفر، وصار من أهل الحين، والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى] . قوله رحمه الله: [وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات] . هذه المسألة صلتها بكتب الفروع ألصق منها بكتب الاعتقاد، لكن ذكرها المؤلف رحمه الله رداً على من قال بأنه لا ينتفع الأموات من عمل الأحياء بشيء، وهذا تكذيب لما أجمعت عليه الأمة من وصول نفع بعض الأعمال إلى الأموات؛ فإن الأمة أجمعت على أن الدعاء ينتفع به المدعو له حياً أو ميتاً وهو ليس من سعيه ولا من عمله إنما من عمل غيره، وقد وقع الخلاف في بعض الأعمال هل ينتفع بها الأموات أو لا، كالصدقات وأشباهها. فذكر المؤلف لهذه المسألة في كتب الاعتقاد لبيان ما يعتقده أهل السنة والجماعة من انتفاع الأموات بدعاء الأحياء وصدقاتهم، رداً على من نفى ذلك مطلقاً من القدرية وغيرهم، حيث قالوا: لا ينتفع الإنسان بعمل غيره مطلقاً. وهذا تكذيب لما دلت عليه النصوص من ثبوت أصل الانتفاع، أما تفاصيل الانتفاع فإن في ذلك خلافاً بين أهل العلم، فمنهم من يرى أن الميت لا ينتفع بغير الدعاء، وأما العمل فإنه لا ينتفع منه الميت بل هو لصاحبه؛ لقول الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، وما أشبه ذلك من الآيات التي فيها نفي ملك الإنسان لعمل غيره، ولكن الصحيح في هذه المسألة الفروعية أن الإنسان ينتفع بعمل غيره دعاءً وصلاة وزكاة وحجاً، وغير ذلك من أعمال البر، وليس في الآية ما يدل على امتناع النفع، وقد جاء ما يدل على انتفاع الإنسان بصدقة غيره وبحجه وبصومه، وكذلك بقية العبادات لعدم المانع؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه المسائل كلها سئل فأجاب بالانتفاع والجواز، فدل على أن كل أعمال البر كذلك، فإنه ينتفع بها الميت وتصل إليه، وأما آية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] فإنها لا تدل على عدم انتفاع الإنسان بعمل غيره، إنما تدل على أن الإنسان لا يملك إلا سعي نفسه، ثم إذا ملك سعي نفسه فإن له أن يتصرف فيه بما شاء كهبته لغيره، فالآية ليس فيها قطع انتفاع الإنسان بعمل غيره، بل فيها أنه لا يملك إلا سعي نفسه ملكاً وانتفاعاً، فإذا وهب ملكه ونفعه لغيره فذلك له، ولا يمنع من ذلك، ودلت الأدلة على جواز هذا. وقوله: [وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات] خص الأموات بالانتفاع مع أن الانتفاع في الدعاء يكون كذلك للأحياء؛ لأن الغالب في ذلك أن يكون للأموات، ولأن الصدقات تكون في الغالب للأموات، والسؤال الذي وجه للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورد عن الصدقة للميت، وكذلك الحج، وكذلك الصوم، فالنصوص وردت في الأموات، ولا يمنع أن ينتفع الأحياء من ذلك، لكن ذكر ذلك لأنه محل الخلاف، ثم إن الخلاف في الأحياء أشد بين أهل العلم، فمن العلماء من يرى أن الحي لا ينتفع بعمل غيره مطلقاً، وإن كان يجيز أن ينتفع الميت بذلك، والصحيح أن كل عمل صالح يفعله الإنسان ويهديه إلى حي أو ميت فإنه يصل إليه، وليس في النصوص ما يدل على المنع، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) فهذا ليس فيه دليل على ما ذهب إليه بعض العلماء من أن العمل لا يصل إلى الميت، وهو مذهب بعض العلماء من المتقدمين وغيرهم، ومن أهل السنة وغيرهم؛ لأن الحديث فيه انقطاع عمل الإنسان نفسه، وليس فيه قطع انتفاعه بعمل غيره، بل في الحديث ما يشير إلى انتفاعه بعمل غيره في قوله: (أو ولد صالح يدعو له) ، فدل ذلك على أنه ينتفع بعمل غيره، لكن هل يوجه الناس إلى إهداء الأعمال وإهداء ثوابها إلى الأموات؟ الجواب لا، فالأصل في العمل أن يكون للإنسان ماعدا الدعاء؛ فإن الدعاء ينتفع منه الطرفان، فينتفع منه الداعي وينتفع منه المدعو له؛ ولذلك وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدعاء في قوله: (أو ولد صالح يدعو له) ، أما العمل من الحج أو العمرة أو الصدقة فالأولى بها الإنسان نفسه، ولا يعني هذا أنه لا يجوز الوهب، بل يجوز لكن الجواز غير الأفضل الذي يوجه إليه الناس، فالذي يوجه إليه الناس أن يعملوا لأنفسهم، وأن يدعوا لغيرهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أو ولد صالح يدعو له) . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 2 إجابة الله تعالى لكل داع وسائل ثم قال رحمه الله: [والله يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات] . الله جل وعلا هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وما من داع يدعو الله جل وعلا إلا وهو موعود بالخير، قال جل وعلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، فأمر الله جل وعلا بالدعاء، ووعد بالإجابة، وهذا وجه قول المؤلف رحمه الله: [والله يستجيب الدعوات] ، لكن تنبه إلى أنه لا يلزم من الاستجابة حصول ما دعوت به، فالله جل وعلا عليم خبير، والله سبحانه وتعالى يعلم ما يصلح العبد، فقد يدعو العبد بما يرى صلاحه فيه، ويكون صلاحه في عدم حصول المطلوب، فيكون من الخير والبر والفضل والإحسان من رب العالمين إلى هذا العبد ألا يحقق له المطلوب، حتى وإن كان يظن أنه خير، ويعتقد أنه صلاح له، فالله عليم خبير لا يقدم لعبده إلا ما يصلحه. ولذلك فما من داع يدعو إلا ويجد الثواب والأجر من رب العالمين هذا أولاً، أما تحصيل مطلوبه وتحقيق دعائه وطلبه فإن هذا ليس بلازم؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد يجيبه إلى ما دعا ويعطيه ما سأل، وقد يمنعه ذلك، لكن إن منعه ذلك فإنه لا يخلو من أمرين: إما أن يدفع عنه من السوء نظير ما دعا، وإما أن يدخرها له في الآخرة، ولاشك إنه إن ادخرها له في الآخرة فهو أعظم إحساناً؛ لأن الإنسان في الآخرة أحوج ما يكون إلى الخير، وأحوج ما يكون إلى ما ينفعه؛ ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحسن الظن بربه، وألا يظن بربه إلا الخير أجيب أم لم يجب، أعطي أم لم يعط؛ فإن الله سبحانه وتعالى إذا عامله العبد بهذا كان الله جل وعلا إليه سريعاً في الخيرات، قريباً في تحقيق المطالب، فمن تمام التسليم لرب العالمين أن يسلم العبد لله عز وجل، وأن يفوض إليه جل وعلا الاختيار في تحقيق الطلب أو عدم تحقيقه، ولا يمنع هذا من أن يلح العبد في دعائه وسؤاله وضراعته وتكرار المسألة؛ فإن الله سبحانه وتعالى أكثر من العبد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من داع يدعو الله عز وجل إلا كان له إحدى ثلاث خصال: فإما أن يعطيه ما سأله، وإما أن يدفع عنه من الشر نظير ما سأل، وإما أن يدخرها له في الآخرة، قال الصحابة: إذن نكثر يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكثر) ، أي: أكثر من العبد، فشأن الله تعالى يختلف، وشأن الله أعظم، فهو يتعرض لعباده بالمسألة، فهو جل وعلا الغني الكريم، وهو المتفضل المحسن على عباده، ولا حاجة به إلى أحد، وهو القيوم الصمد الذي تنزل به الحوائج {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38] ، ومع ذلك ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة يقول: (هل من داع فأجيبه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) ، وانظر إلى هذا التدرج، حيث يبدأ بالدعاء الذي يشمل كل سائل، سواء أكان يدعوه بسؤال، أم بغير سؤال، ثم ما هو أخف (هل من سائل فأعطيه) ، ثم ما هو أخف في المسألة: (هل من مستغفر فأغفر له) ، وهذا كله لبيان سعة الفضل، وعظيم المن، وعظيم العناية من رب العالمين بعباده، فالله سبحانه وتعالى يجيب الدعوات ويقضي الحاجات، لكن ذلك وفق ما تقتضيه رحمته وحكمته، فقد يكون من الحكمة والرحمة أن يمنع الله جل وعلا العبد ما سأل، لا بخلاً منه؛ فالله جل وعلا يده سحاء بالخير، ينفق في الليل والنهار، لا تغيض النفقة ما في يده، فإذا منعك فإنه لا يمنعك بخلاً فهو الغني الحميد، إنما يمنعك إصلاحاً وتربيةً، فإذا عامل العبد ربه بهذا فإنه سينشرح صدره لما يقع من إجابة أو عدمها، ثم يعلم أن ربه سبحانه وتعالى المقدم المؤخر الذي لا يقدم له إلا الخير، ولا يمنع عنه إلا الشر. قال رحمه الله: [ويملك كل شيء ولا يملكه شيء] . وهذا كالجواب على من دعا فلم يعط، وقطع شبهة البخل التي اتهم بها اليهود رب العالمين، وهو جل وعلا الغني الحميد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38] ، وقال الله جل وعلا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] ، ثم قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] ، فالمنع ليس لأنه لا يملك ما تسأل، إنما المنع لحكمة ورحمة، وليس فقط لحكمة إنما أيضاً لرحمة بالعبد؛ فإن الله يرحم العبد بمنعه، كما أنك ترحم الصغير -ولله المثل الأعلى- بمنعه من الرضاع، وهو يبكي ويصيح يريد الرضاع، لكن ترى أن مصلحته في منعه من الرضاع، فتمنعه لأنه إن شب على الرضاع لن تنفطم نفسه، بل سيبقى على هذا الذي لا يقيم بدنه، فإن الرضاع في السنتين الأوليين يقوم به البدن، لكن بعد ذلك إذا استقل بالرضاع واستمر عليه لا يمكن أن يقوم بدنه بالحليب، فكان من الرحمة أن تمنعه هذا، فذلك حال العبد مع ربه، بل الشأن أعظم، فالله جل وعلا أرحم بعبده من الوالد بولده. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 3 نعوت كمال للرب جل جلاله يقول رحمه الله: [ويملك كل شيء] والأدلة على ملك الله عز وجل كثيرة، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] ، وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] ، وقال تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] ، والآيات في ذكر ملك الله جل وعلا لكل شيء كثيرة. قال: [ولا يملكه شيء] ولا إشكال في أنه لا يملكه شيء سبحانه وتعالى، بل هو المالك لكل شيء. قال: [ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين] . هذا أيضاً فيه الرد على من قال: دعوت فلم يستجب لي. فيترك الدعاء ويستحسر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يستجاب للعبد مالم يدع بإثم أو قطيعة رحم) ، فقوله: (يستجاب) أي: يحصل له جواب سؤاله إما بتحقيق المطلوب أو بغير ذلك مما جاءت به النصوص من أوجه الإجابة، فإن من دفع عنه الشر نظير ما دعا فقد أجيب، ومن ادخر له أجر ما دعا فقد أجيب، فالداعي لا يرجع من رب العالمين إلا بخير، فهو الحيي الكريم الذي يستحيي أن يرد يدي عبده صفراً -أي: خالياً من الخير- بل لابد أن يرجع بخير. فقوله: [ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين] أي: لا غنى للعبد مهما كان حتى لو لم يجب فإنه لا غنى له عن ربه، فيلجأ إليه، ويتوسل إليه، ويتضرع بين يديه، ويسأله سبحانه وتعالى، ولا أعظم ولا أيسر في الوصول إلى رب العالمين وإلى فضله من باب الافتقار إلى الله جل وعلا؛ فإن العبد إذا افتقر إلى الله جل وعلا وأظهر افتقاره إلى ربه وأيقن أنه ما من ذرة في بدنه إلا وهي مفتقرة إلى الله جل وعلى؛ كان ذلك من أسباب الخير له، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله كلاماً جيداً في هذا فقال عن نفسه: (أقبلت على الله جل وعلا من أبواب الخيرات والطاعات كلها، فوجدت على الأبواب الزحام- يعني: كثرة من يقبل على الله من هذه الأبواب - فلم أسلم من المزاحمة، فولجت باب الافتقار فوجدت قرب حصول المطلوب مع عدم حصول المزاحمة) ، فإن كثيراً من الناس يغفلون عن هذا الوصف الذاتي لهم، وهو افتقارهم إلى الله عز وجل. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (من رغب في السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية) ، فالسعادة الأبدية الدائمة التي لا تنقطع في الدنيا والآخرة في لزوم عتبة العبودية، كما نقل ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولزوم عتبة العبودية تحصل للعبد بكمال الذل لله جل وعلا، وغاية الحب له سبحانه وتعالى، ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، لا في ليل ولا في نهار، ولا في يقظة ولا في منام، ولا في صحة ولا في مرض واعتلال، ولا في غنى ولا في افتقار، فالعبد مفتقر إلى الله جل وعلا فقراً ذاتياً لا يمكن أن ينفك عنه، لكن الناس يغفلون ويظنون أنهم أغنياء عن الله عز وجل بما مكنهم، والإنسان إذا بلي بداء الاغتناء وشعر أنه غني عن الله عز وجل حصل منه شر عظيم، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، يعني: إذا رأى غنى نفسه عن الله، لكن مادام يرى فقر نفسه إلى ربه جل وعلا فإنه لا يمكن أن يصيبه الطغيان والخروج عن مقتضى العبودية. يقول رحمه الله: [ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين] . الكفر هنا يشمل الكفر الأصغر والكفر الأكبر، لكن الكفر الأكبر يحصل بأن يظن الإنسان ويعتقد أنه لا حاجة به إلى ربه، ولاشك أن هذا كفر، وهو أعظم الكفر؛ لأنه جحد للربوبية؛ لأن من مقتضى الربوبية أن توقن أن كل خير يصل إليك إنما هو من الله جل وعلا، فمن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين. أي: من أهل الهلاك. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 4 الصفات الفعلية ثابتة للرب جل جلاله قال رحمه الله: [والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى] . هذا فيه إثبات صفات الفعل للرب جل وعلا، وصفات الفعل ثابتة لله سبحانه وتعالى بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، قال الله جل وعلا في وصف نفسه: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] ، وأما إثبات الفعل فالأدلة عليه كثيرة، فهو يغفر لمن يشاء، ويحب من يشاء، ويغضب جل وعلا، ويعفو، فالأفعال التي أضافها الله سبحانه وتعالى إليه كثيرة في كتابه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4] ، وقال تعالى: {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] ، فالآيات التي فيها إثبات صفات الفعل أكثر من أن تحصى، وهذا الذي فيه التصريح بالفعل. أما ما دل على الفعل فهو كثير جداً، وكذلك في السنة، فالله جل وعلا موصوف بصفات الفعل، وبعض صفات الفعل هي الصفات التي تتعلق بالمشيئة، فمتى شاء فعل ومتى شاء لم يفعل، ومن ذلك الغضب والرضا، فالغضب صفة كمال لله عز وجل لا نقص فيها، بل هي من كماله سبحانه وتعالى، فإن من الكمال أن يغضب القادر على من يستحق الغضب، وقد دل عليها قول الله تعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93] في حق من قتل مؤمناً متعمداً، ومن أدلة إثبات الغضب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55] ، وأما الرضا فالآيات فيه كثيرة، منها قوله جل وعلا: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة:8] في حق السابقين الأولين والذين اتبعوهم بإحسان، وقال سبحانه وتعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] ، وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] ، والله يغضب ويرضى، والغضب والرضا أنكرهما المئولة المنحرفون عن طريق أهل السنة والجماعة بجميع أصنافهم من أهل الكلام، فأنكرها المعتزلة، وأنكرها الأشاعرة، فأولوا الغضب والرضا إما بإرادة الثواب والعقاب وإما بالثواب والعقاب نفسه، فمثبتة الصفات من أشاعرة ونحوهم قالوا: الغضب والرضا هو إرادة الإثابة وإرادة العقوبة. وأما المعتزلة فأولوا الغضب والرضا بالثواب والعقاب نفسه؛ لأنهم لا يثبتون صفة الإرادة للرب جل وعلا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 5 أهل السنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله: [ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الحق يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان] . يقول رحمه الله: [ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم] . أي: أهل السنة والجماعة يحبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والمحبة هنا محبة قلبية، فنحبهم محبة قلبية لأنهم الذين نقلوا إلينا الخير، ولأنهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولأن الله اصطفاهم وخصهم بهذه الخاصية والميزة، حيث جعلهم أصحاب رسوله، وجعلهم حملة الشرع، ونحبهم لما جرى منهم من الخير للأمة؛ فإنهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم لنشر هذا الدين، فما من خير وصلنا إلا من طريقهم رضي الله عنهم. وقول المؤلف رحمه الله: [أصحاب رسول الله] أصحاب: جمع صاحب، والصحبة تثبت لكل من لقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، ولو ساعة من نهار، لكن اعلم أن المحبة المذكورة في قوله: [ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم] محبة لوصف وهو الصحبة، فكل من تحقق فيه هذا الوصف يزداد نصيباً من المحبة بقدر ازدياد هذا الوصف فيه؛ لأن كل الأعمال والأحكام، والأدلة المعلقة على أوصاف تزداد وتستقر وتثبت بزيادة هذا الوصف، فمحبتنا لـ أبي بكر رضي الله عنه ليست كمحبتنا لـ بلال، فمحبتنا لـ أبي بكر رضي الله عنه أعظم لتحقق الصحبة فيه أكثر من غيره، فمن صحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهراً محبتنا له أعظم ممن صحبه يوماً، ومن صحبه يوماً محبتنا له أعظم ممن صحبه ساعة، فتزداد المحبة بازدياد الوصف وهو الصحبة، ثم الصحبة تعم كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً أو كثيراً، فليست خاصة بطول المدة، بل هي عامة لكل من صاحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فنحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم؛ لأن الله جل وعلا أثنى عليهم في كتابه ثناءً بالغاً في مواضع عديدة، قال الله جل وعلا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] ، وقال الله جل وعلا في ثنائه عليهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] ، ثم ذكر من وصفهم ما يوجب محبتهم، كذلك قال الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] ، فأثبت الله جل وعلا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الرضا مطلقاً، وأما تابعوهم فإن الرضا مقيد بالإحسان، وتأمل الآية، قال الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100] ، فما قيد الرضا عنهم بإحسان، فكفاهم فضلاً سابقتهم، ثم قال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] ، فجعل الرضا عن التابع مقيداً بالإحسان، وأما المهاجرون والأنصار فإنه قد أثبت لهم الرضا، ويكفي في فضلهم أن الله جل وعلا اطلع على أهل بدر فقال: (اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بيعة الرضوان: (لا يدخل النار رجل بايع تحت الشجرة) ، ففضلهم رضي الله عنهم ظاهر؛ ولذلك استحقوا ما استحقوه من المحبة، وقول المؤلف رحمه الله: [ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم] يرد على جميع المنحرفين في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بزيادة أو نقص، بغلو أو جفاء، فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقع الناس فيهم في إفراط وتفريط، وغلو وجفاء؛ ولذلك قال في ضبط وتحرير عقيدة أهل السنة والجماعة: [ولا نفرط في حب أحد منهم] رداً على الرافضة الذين غلوا في محبة علي حتى ألهوه، أو ألهه بعضهم، وقوله: [ولا نتبرأ من أحد منهم] أيضاً رد على الرافضة الذين تبرءوا من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن عقائدهم أنه لا ولاء إلا ببراء، فلا ولاء لـ علي وآل البيت إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر، وأهل السنة والجماعة يحبون أصحاب رسول الله بلا استثناء، مع التفاوت في المحبة على ما فصلنا وذكرنا في السابق، لكن المحبة ثابتة للجميع، بخلاف الرافضة الذين سبوا أبا بكر وعمر وسائر الصحابة، وبخلاف النواصب الذين ناصبوا علياً العداء، فإن النواصب من الخوارج وممن ناصر بني أمية سبوا علياً رضي الله وقدحوا فيه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 6 حب أهل السنة لصحابته صلى الله عليه وسلم يقول رحمه الله: [ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم] . أي: أهل السنة والجماعة يحبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والمحبة هنا محبة قلبية، فنحبهم محبة قلبية لأنهم الذين نقلوا إلينا الخير، ولأنهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولأن الله اصطفاهم وخصهم بهذه الخاصية والميزة، حيث جعلهم أصحاب رسوله، وجعلهم حملة الشرع، ونحبهم لما جرى منهم من الخير للأمة؛ فإنهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم لنشر هذا الدين، فما من خير وصلنا إلا من طريقهم رضي الله عنهم. وقول المؤلف رحمه الله: [أصحاب رسول الله] أصحاب: جمع صاحب. والصحبة تثبت لكل من لقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤمناً به ومات على ذلك ولو ساعة من نهار، لكن اعلم أن المحبة المذكورة في قوله: [ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم] محبة لوصف وهو الصحبة، فكل من تحقق فيه هذا الوصف يزداد نصيباً من المحبة بقدر ازدياد هذا الوصف فيه؛ لأن كل الأعمال والأحكام، والأدلة المعلقة على أوصاف تزداد وتستقر وتثبت بزيادة هذا الوصف، فمحبتنا لـ أبي بكر رضي الله عنه ليست كمحبتنا لـ بلال، فمحبتنا لـ أبي بكر رضي الله عنه أعظم لتحقق الصحبة فيه أكثر من غيره، فمن صحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهراً محبتنا له أعظم ممن صحبه يوماً، ومن صحبه يوماً محبتنا له أعظم ممن صحبه ساعة، فتزداد المحبة بازدياد الوصف وهو الصحبة، ثم الصحبة تعم كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً أو كثيراً، فليست خاصة بطول المدة، بل هي عامة لكل من صاحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فنحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم؛ لأن الله جل وعلا أثنى عليهم في كتابه ثناءً بالغاً في مواضع عديدة، قال الله جل وعلا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] ، وقال الله جل وعلا في ثنائه عليهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] ، ثم ذكر من وصفهم ما يوجب محبتهم، كذلك قال الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] ، فأثبت الله جل وعلا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الرضا مطلقاً، وأما تابعوهم فإن الرضا مقيد بالإحسان، وتأمل الآية، قال الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100] ، فما قيد الرضا عنهم بإحسان، فكفاهم فضلاً سابقتهم، ثم قال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] ، فجعل الرضا عن التابع مقيداً بالإحسان، وأما المهاجرون والأنصار فإنه قد أثبت لهم الرضا، ويكفي في فضلهم أن الله جل وعلا اطلع على أهل بدر فقال: (اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في أهل بيعة الرضوان: (لا يدخل النار رجل بايع تحت الشجرة) ، ففضلهم رضي الله عنهم ظاهر، ولذلك استحقوا ما استحقوه من المحبة، وقول المؤلف رحمه الله: [ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم] يرد على جميع المنحرفين في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، المنحرفين بزيادة أو نقص، بغلو أو جفاء، فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقع الناس فيهم في إفراط وتفريط، وغلو وجفاء، ولذلك في ضبط وتحرير عقيدة أهل السنة والجماعة قال: [ولا نفرط في حب أحد منهم] رداً على الرافضة الذين غلوا في محبة علي حتى ألهوه، أو ألهه بعضهم، وقوله: [ولا نتبرأ من أحد منهم] أيضاً رد على الرافضة الذين تبرأوا من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن عقائدهم أنه لا ولاء إلا ببراء، فلا ولاء لـ علي وآل البيت إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر، وأهل السنة والجماعة يحبون أصحاب رسول الله بلا استثناء، مع التفاوت في المحبة على ما فصلنا وذكرنا في السابق، لكن المحبة ثابتة للجميع، بخلاف الرافضة الذين سبوا أبا بكر وعمر وسائر الصحابة، وبخلاف النواصب الذين ناصبوا علياً العداء، فإن النواصب من الخوارج وممن ناصر بني أمبة سبوا علياً رضي الله وقدحوا فيه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 7 بغض أهل السنة لمن يبغض الصحابة يقول: [ونبغض من يبغضهم] ولا إشكال في هذا؛ فإن من حقهم رضي الله عنهم بغض من أبغضهم، وكراهة من كرههم، وبغير الخير يذكرهم، كالرافضة وأشباههم. قال: [ولا نذكرهم إلا بالخير] وهذا فيه قاعدة فيما يتعلق بالصحابة، وهي أنا لا نذكرهم إلا بالخير، ومن جملة هذا ألا نتكلم فيما شجر بينهم من الخلاف، فإن ذكر ما شجر بينهم من الخلاف يفضي إلى الوقيعة في بعضهم، وإلى إيغار الصدور عليهم رضي الله عنهم، وإلى نزول مقامهم ومكانتهم، فقوله: [ولا نذكرهم إلا بخير] يشمل حفظ اللسان من الكلام فيهم، والكلام فيما وقع منهم من أخطاء، والكلام فيما وقع فيهم من شجار وخلاف؛ فإنهم رضي الله عنهم إما معذورون فيما ثبت، وإما مجتهدون متأولون، وأما غالب ما ينقل فهو كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: كذب، ومنه ما زيد فيه ونقص وغير عن وجهه. يعني: صرف عن الوجه الذي جرى عليه. فإن من أصول أهل السنة والجماعة سلامة ألسنتهم وقلوبهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن تمام السلامة ألا نذكرهم إلا بخير، وقد وقع الكلام في الصحابة منذ العهد الأول، فإن عائشة رضي الله عنها نقل إليها أن أقواماً يتكلمون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى في أبي بكر، فقالت: (لا عجب؛ فإنه قد انقطع عملهم بالموت، وأحب الله وصل عملهم بعد موتهم) وذلك بمن يقع فيهم؛ فإن الإنسان إذا وقع فيه بغير حق كان ذلك حطاً لسيئاته، ورفعاً لدرجاته، ولابد من هذا. يقول رحمه الله: [وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان] قوله: (حبهم دين) أي: عبادة يتعبد الإنسان بها لله عز وجل. (وإيمان وإحسان) أي: من خلال الإيمان وأعماله، ومن خلال الإحسان الذي يجازى به أهل الإحسان، فإن إحسان الصحابة إلينا من أعظم الإحسان، حيث إنهم نقلوا لنا الأخبار، وحفظوا لنا سنة المختار صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونصروا دين رب العالمين، (وبغضهم -أي: بغض الصحابة بالجملة -كفر ونفاق طغيان) فهو كفر لأنه قدح في الشريعة، وتكذيب للقرآن، ونفاق وطغيان؛ لأنه إنما وقع من أهل النفاق، فإن أول ما جرى هذا كان من المنافقين المندسين في صفوف أهل الإسلام الداعين إلى البدعة والفرقة والشر كـ عبد الله بن أبي بن سلول، والطغيان: تجاوز الحق. وبعد أن فرغ مما يجب لمجموعهم انتقل إلى ما يتعلق ببعض أفرادهم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 8 إثبات أهل السنة لخلافة الأربعة والمفاضلة بينهم قال رحمه الله: [ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلاً وتقديماً على جميع الأمة، ثم لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لـ عثمان بن عفان، ثم لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون] . يقول رحمه الله: (ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لـ أبي بكر الصديق) . أبو بكر رضي الله عنه هو عبد الله بن أبي قحافة، وهو خير الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وثبتت له الخلافة بإجماع المسلمين، وقد اختلف العلماء في خلافة أبي بكر رضي الله عنه هل كانت بالنص الجلي أم بالنص الخفي أم بالاختيار؟ ولكن من تأمل وجد من النصوص ما يدل على أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكنها ليست نصوصاً صريحة، بل هي نصوص بمجموعها تدل على أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهد من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد أجمعت الأمة على فضله وتقدمه، وأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأبو بكر ورد له من الفضائل والخصائص ما لم يشاركه فيه غيره، بخلاف الفضائل التي ثبتت في غيره، فإنها فضائل يشارك المفضل فيها غيره، لاسيما ما يذكره الرافضة في فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن الفضائل الثابتة لـ علي رضي الله عنه ليست من الأمور التي يختص بها دون غيره، بخلاف أكثر فضائل أبي بكر، وهذه المسألة مفيدة، وهي: أن الفضائل التي ثبتت لـ أبي بكر غالبها خاصة به لا يشاركه فيها غيره، وكذلك عمر رضي الله عنه، لكن نصيب أبي بكر رضي الله عنه من ذلك أكبر وأعظم وأكثر، فالخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق. يقول المؤلف: [أولاً لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة] . لا إشكال في هذا؛ فهو خير الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم قال: (ثم لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه) وله من الفضائل والخصائص ما لم يشاركه فيه غيره، لكن فضائل أبي بكر أعظم وأجل، ثم قال: (ثم لـ عثمان رضي الله عنه، ثم لـ علي رضي الله عنه] . وترتيب هؤلاء في الفضل كترتيبهم في الخلافة، هكذا استقر الأمر عند أهل السنة والجماعة، ولا خلاف بين أهل السنة والجماعة في تفضيل أبي بكر وعمر، وأن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما، وقد اشتهر بين الصحابة تقديم عثمان بعدهما، كما ذكر ذلك عبد الله بن عمر في المفاضلة، ولم يذكر بعد عثمان أحداً، وقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه -كما جاء في صحيح البخاري- سأله ابنه محمد بن حنفية عن أفضل الأمة بعد نبيها فقال: أو لا تعلم؟ -إنكاراً لهذا السؤال- قال: لا. قال: أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. يقول محمد بن حنفية: قلت: ثم أنت خشية أن يقول: عثمان فقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين ففضل أبي بكر رضي الله عنه وفضل عمر وتقديمهما على سائر الأمة مما حصل عليه الإجماع وما وقع الخلاف فيه، والذي وقع فيه الخلاف هو المفاضلة بين عثمان وعلي، لكن الخلاف في المفاضلة لا في الخلافة، بل الخلافة بعد عمر لـ عثمان رضي الله عنه، وقد نقل عن بعض السلف: أن من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار؛ لأن المهاجرين والأنصار قدموا عثمان رضي الله عنه في الخلافة، وهو دليل على تقديمه في الفضل؛ لأنهم أجمعوا على الأفضل، والأفضل هو عثمان رضي الله عنه، لكن ما انتهت المفاضلة، بل يحتدم فيها الخلاف، وقد ورد فيها الخلاف، فالعلماء منهم من فضل عثمان وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة، واستقر عليه الأمر، ومنهم من توقف في التفضيل بينهما، ومنهم من قدم علياً رضي الله عنهم، ومنهم من فضل أبا بكر وتوقف بعد ذلك، ومسألة التفضيل لا تضليل فيها على الصحيح من أقوال أهل العلم، أما مسألة الخلافة فإن من شك أو طعن في خلافة هؤلاء أو في ترتيب هذه الخلافة فهو أضل من حمار أهله، كذا قال الإمام أحمد رحمه الله، ونقل ذلك شيخ الإسلام رحمه الله. قال: (وهم الخلفاء الراشدون) ، أي: هم الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) . قال: [والأئمة المهتدون] ولو أنه قال المهديون لكان أوفق؛ لما وصفهم به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ووصف الرشد والهداية هل هو وصف واحد أو وصفان؟ الجواب وصفان، فالرشد ضد الغي، والهداية ضد الضلال، والغي يكون في العلم، والرشد يكون في العمل، والهدى يكون في العلم، كما قال الله جل وعلا: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] ، فأثبت له الهداية وأثبت له الرشد؛ لأن نفي الضلال إثبات للهدى، ونفي الغي إثبات للرشد؛ لأن الذي يقابل الرشد الغي، والذي يقابل الهدى الضلال. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 9 شرح العقيدة الطحاوية [21] من مسائل العقيدة التي يجب أن ينطوي عليها قلب المؤمن، الاعتقاد بمكانة النبوة، وأن الولاية دونها بكثير، والاعتقاد بفضل الصحابة الكرام ومن بعدهم من أهل العلم الذين كانوا على صلاح واستقامة، والاعتقاد بأن للساعة علامات كبرى هي أشراطها، والاعتقاد بوحدانية دين الله تعالى، ووسطيته في سائر قضاياه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 1 العشرة المبشرين بالجنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة نشهد لهم بالجنة على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقوله الحق- وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين، ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس؛ فقد برئ من النفاق] . أي: أن من بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم هؤلاء العشرة. والمؤلف رحمه الله اقتصر على العشرة؛ لأنهم أشرف وأعلى وأعظم من بشر بالجنة من هذه الأمة، وإلا فالمبشرون بالجنة من هذه الأمة الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كثيرون. والبشارة بالجنة جاءت على نوعين: بشارة جنس، وبشارة عين، فبشارة الجنس كثيرة، وهي التي بشر الله بها أهل الإيمان وأهل الإحسان وأهل التقوى، وأما البشارة الخاصة بمعينين فهي المقصودة بهذا المقطع، فنشهد بالجنة لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وبشره بها، وأشهر هؤلاء وأعظمهم العشرة الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة) وذكر بقية العشرة، وهذا من أعظم ما خص به الله هؤلاء، حيث عجل لهم البشرى بالجنة في هذه الدنيا، وهذا يوجب محبتهم وتوليهم، واعتقاد أن الله جل وعلا رضي عنهم، فمن قال: إن أحد هؤلاء في النار فهو كافر؛ لأنه مكذب لما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. يقول رحمه الله: [وقوله الحق] . أي: الذي يجب قبوله واعتقاده والتسليم له، فإن الحق ينقاد له المؤمن ولا يعارضه. ثم يقول في بيان هؤلاء العشرة: [وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي] . وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون، وجاء في فضائلهم ومناقبهم الشيء الكثير. قال: [وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح] . هؤلاء شهد لهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالجنة، وشهد أيضاً لغيرهم صلى الله عليه وسلم، كـ ثابت بن قيس بن شماس، وبلال، وغيرهما، وممن شهد لهم بالجنة أزواجه صلى الله عليه وسلم؛ فإن أزواجه في الدنيا أزواجه في الآخرة، وهو في الجنة فهن في الجنة رضي الله عنهن. قال رحمه الله: [وهو أمين هذه الأمة] . يشير إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وخصه بذكر هذه الخاصية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأبعثن عليكم أميناً حق أمين) يريد أبا عبيدة، وقال: (أبو عبيدة أمين هذه الأمة) . ولعل المؤلف ذكر هذه الخاصية له إشارة إلى أن هؤلاء قد ورد في فضائلهم ما اختص به كل واحد، أي: قد ورد الفضل خاصاً في كل واحد من هؤلاء، فلعله أراد ذلك، ولعله ختمهم بذكر خاصية آخرهم رضي الله عنهم أجمعين. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 2 حب الصحابة وأهل البيت براءة من النفاق قال رحمه الله: [ومن أحسن القول في أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم جميعهم] أي: في كل من ثبتت له الصحبة ولو كانت لحظة، [وأزواجه الطاهرات من كل دنس] أي: وأحسن القول في أزواجه ووصفهن بالطاهرات؛ لأن الله جل وعلا طهرهن، قال جل وعلا: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] ، ولا خلاف بين أهل العلم أن المراد بهذه الآية أزواج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهن المقصودات بقوله: (أَهْلَ الْبَيْتِ) في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] ، ولا يمنع هذا أن يدخل معهن غيرهن؛ فإن علي بن أبي طالب لا إشكال ولا شك أنه من أهل البيت، وكذلك زوجته فاطمة، وكذلك الحسن والحسين، فإنهم من أهل البيت بلا ريب ولا شك، ولكن هذا لا ينفي أن يكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ممن وصف بهذا الوصف، بل وصفهن بهذا الوصف جاء في القرآن، وأما وصف علي رضي الله عنه وفاطمة وغيرهما من أهل البيت بهذا الوصف فقد جاء في السنة. قال: [وذرياته المقدسين من كل رجس] ، وهذا ليس ثابتاً لكل ذرية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنما المقصود أن من عرف منهم بالتقوى والإيمان فإنه هو الذي يُحسن فيه القول، وأما من استوجب القول السيئ فإنه يثبت له، لكن من دون أن ينال من نسبه ولا من اتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم. قوله: [فقد بريء من النفاق] أي: سلم من النفاق، وذلك أن من علامات النفاق ودلائله بغض من أحبه الله ورسوله، وبغض الصحابة رضي الله عنهم، فهم أعظم هذه الأمة وأجلها قدراً وأرفعها مكاناً، فمن أبغضهم فإنه منافق، وبالنظر إلى كل من وقع في قلبه بغض لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قلبه غير سالم بل قلبه مشوب بالنفاق. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 3 موقف المسلم من علماء السلف ومن بعدهم قال رحمه الله تعالى: [وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل] . من عقائد أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم على ورثة الأنبياء، وهذا من تمام سلامة قلوب أهل السنة والجماعة، فإن المؤلف رحمه الله ذكر سلامة قلوب أهل السنة والجماعة على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذكر محبتهم وما لهم من الفضل، ثم ثنى ذلك بذكر من لهم الفضل بعدهم، وهم علماء السلف من السابقين -أي: المتقدمين- ومن بعدهم من التابعين، أي: ومن سلك سبيلهم من التابعين، هؤلاء حقهم ألا يذكروا إلا بالجميل. فلا يذكرون بسوء، بل لا يذكرون إلا بالجميل، فلا تذكر سقطاتهم ولا زلاتهم، بل يذكر خيرهم وإحسانهم وفضلهم، وكل من وقع في هؤلاء بسوء -وذلك بالتنقيب عن أخطائهم والتفتيش عن زلاتهم والإشاعة لما خالفوا فيه الدليل- فإنه على غير السبيل؛ لأنه من كان قاصداً الحق عاملاً به داعياً إليه مجتهداً في إصابته فإنه لا وجه للإساءة إليه حتى لو أخطأ؛ فإن الخطأ لا يسلم منه أحد، وكل ابن آدم خطاء، فالخطأ في الاجتهاد واقع، وقد وقع من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالوقوع في الخطأ في الاجتهاد فيما فيه الاجتهاد ليس مسوغاً لإيغار الصدور، ولا لإطلاق الألسنة في هؤلاء، بل الواجب الشفقة والرحمة، وهذا من سمات أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يعظمون الحق ويرحمون الخلق، فيعظمون الحق بالدعوة إليه وبيانه وتوضيحه والذب عنه، ورد الشبه عنه، لكنهم مع هذا ليسوا ممن يظلمون الخلق، بل هم يرحمون الخلق، فيتطلبون للمخطئ العفو، ويبحثون عن الستر، ويطلبون العذر، ولا يطلقون ألسنتهم ولا أقلامهم في أهل الخير الذين عرفوا بالخير ولو كان منهم خطأ، لكن لا يعني هذا ألا ينبه على خطأ المخطئ، بل خطأ المخطئ من إنكار المنكر الذي يجب، لاسيما إذا كان الخطأ مما يحصل به إذلال للخلق، أما الأخطاء الخاصة كأن يخالف أو يقع في معصية صغيرة أو كبيرة فإن هذا ينصح فيه فيما بين الناصح والمخطئ، أما ما يتعلق بالخطأ العام كالخطأ في العلم أو في التأليف أو في القول فإنه ينبغي أن ينصح المخطئ، فإن رجع وإلا بين خطؤه بأسلوب ليس فيه شدة ولا غلظة، بل بأسلوب مليء بالشفقة والرحمة، وهذا من دواعي قبول النصيحة. فعلماء السلف هم السابقون ومن بعدهم من التابعين، ثم ذكر أصنافهم فقال: (أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر) ، وهم المشتغلون بعلم الحديث والمشتغلون بعلم الفقه، فلا يذكرون إلا بالجميل، أي: بالجميل الحسن الذي يجمل به من ذكر، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 4 الولاية دون النبوة قال رحمه الله: [ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء] . المؤلف رحمه الله في هذا المقطع يرد على غلاة الصوفية الذين رفعوا مرتبة الولاية على النبوة، فيقول رحمه الله: (ولا نفضل أحداً من الأولياء) والأولياء: جمع ولي، والولي: هو من تولاه الله سبحانه وتعالى ووفقه إلى الإيمان والتقوى قال سبحانه وتعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] ، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وكل من حقق الإيمان والتقوى نال شرف وفضل الولاية، فلا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء مهما بلغ في الولاية والتقوى؛ لأن الولاية درجة دون النبوة، فالنبوة درجة عالية يقصر دونها كل ولي. يقول: [ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء] . فلا إشكال أن النبي أفضل من جميع الأولياء؛ لأن الله سبحانه وتعالى رفع هؤلاء الأنبياء، وخصهم من الخصائص والفضائل بما لم يحصل للأولياء، وأول من أحدث بدعة رقي الولي على النبي ابن عربي وأشباهه الذين قالوا: مقام النبوة في منزل فويق الرسول ودون الولي. فجعلوا الولاية فوق هذه المنازل كلها، وهم في هذا كاذبون، وإنما أرادوا هذا لأنه قطع عنهم النظر في النبوة؛ فإن الله جل وعلا قد ذكر في كتابه ختم النبوة فقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ، فلما انقطع رجاؤهم ونظرهم في حصول النبوة لهم طلبوا طريقاً آخر يحصل لهم به ما يزعمونه من سقوط التكاليف، فاخترعوا هذا المقام، وجعلوه فوق النبوة ليحصلوا به مآربهم من التسلط على الخلق وإفساد الشرائع والأديان، فهذا هو سبب هذا القول. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 5 الإيمان بكرامات الأولياء قال رحمه الله: [ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم] . هذا أيضاً مما يتعلق بالأولياء، فنؤمن بما جاء من كراماتهم، أي: من كرامات الأولياء، الكرامات: جمع كرامة، والكرامة: هي كل خارق للعادة يجري على يد متق مؤمن. فهي كل خارق للعادة مما يجريه الله على يد تقي مؤمن. وقيدنا هذا بهذا حتى نخرج ما يكون من خوارق العادات التي تجري على أيدي السحرة والكهان والمشعوذين والمبطلين؛ فإنها ليست كرامات، إنما هي خوارق للعادات، لكنها لا يمكن أن توصف أو تسمى بالكرامات. وكذلك نخرج ما يجريه الله على يد الرسل؛ فإن هذا لا يسمى كرامة، إنما هي آيات، وهي أعلى مما يجريه الله عز وجل على أيدي الأولياء من كرامات. فقوله: (نؤمن بما جاء من كراماتهم) أي: بما صح من إثبات ذلك، ولا يلزم الإيمان بكل كرامة ثبتت لكل شخص؛ لأنه فرع عن ثبوت هذه الكرامة، وقد لا تثبت عنه، لكن نؤمن في الجملة بأن لهم كرامات يكرمهم الله سبحانه وتعالى بها، وهذه الكرامات تنقسم إلى أنواع، منها ما هو من جنس العلم، وهي كرامات العلوم، وهو ما يسمى بـ (المكاشفات) ، وذلك بأن يرى ما لا يراه غيره، أو يسمع ما لا يسمعه غيره، أو يفتح له في العلم ما لا يفتح لغيره، أو يوفق لدراسة صادقة لا يوفق لها غيره. القسم الثاني من الكرامات ما هو من جنس القدرة، أي: ما يكون في القدرة، بأن يمكن مما لا يتمكن منه غيره، وهذا كثير جداً، والغالب في الكرامات هو من هذا النوع، وقد جرى للصحابة رضي الله عنهم والتابعين من هذا شيء كثير، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله كثيراً من هذا في كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ومن ذلك أيضاً القسم الثالث من أنواع الكرامات، وهو ما كان من جنس الاستغناء، فيستغني عن كل ما يحتاج إليه الإنسان عادة في المأكل والمشرب وغير ذلك، وهذا يندرج في الحقيقة في النوع الثاني. فالكرامات هي كل خارق للعادة يجريه الله عز وجل على يد الولي، ومما يحصل به الفرق بين الكرامات وشعوذة المشعوذين، وباطل السحرة والكهنة والدجالين أنهما يفترقان في السبب والغاية، ففرق بين ما يجريه الله على أيدي أوليائه الصالحين، وبين ما يكون على أيدي الفسقة من السحرة والدجالين والكهان والمشعوذين، والفرق بينهما في السبب والغاية، فالسبب في الكرامة طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله، والسبب فيما يجري على أيدي الكهان والسحرة والمشعوذين تكذيب الله ورسوله، ومعصية الله ورسوله، فبقدر ما يكون معهم من معصية الله ورسوله بقدر ما يكون معهم من الخارق للعادة. وفي الغاية والمقصد المقصود من الكرامات إقامة الحجة أو دفع الحاجة، فمقصودها تحقيق العبودية لله عز وجل والطاعة والنصر للحق، ومقصودها إظهار دين الله وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أما ما يجري على أيدي الكهان والمشعوذين والسحرة فمقصوده وغرضه الباطل من الفساد في الأرض، وانتهاك الحرمات، وكسب الأموال. فهذا أبرز ما يفرق بين كرامات الأولياء وخوارق السحرة والمشعوذين. ومما يفرق به بين الصنفين أن كرامات الأولياء تزداد بذكر الله عز وجل وتقوى بذكر الله جل وعلا، أما ما يجري من الخوارق على أيدي السحرة والمشعوذين يبطل عند ذكر الله جل وعلا، فإذا ذكر الله عند هؤلاء المشعوذين بطل ما عندهم من الخارق للعادة. ورابع الفروق أن الكرامات لا يمكن أن تعارض ولا أن يؤتى بأقوى منها، بخلاف ما يكون على أيدي السحرة والمشعوذين فمعارضته ممكنة بمثلها أو بما هو أقوى منها، فهذه أربعة فروق بين ما يكون من كرامات الأولياء وشعوذة المشعوذين. فقوله: (نؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم) أي: رواياتهم في العلم. أو رواياتهم في الكرامات. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 6 الإيمان بأشراط الساعة قال رحمه الله تعالى: [ونؤمن بأشراط الساعة من خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض من موضعها] . أشار المؤلف رحمه الله في هذا المقطع إلى أشراط الساعة، فقال: (نؤمن بأشراط الساعة) ، وأشراط الساعة علاماتها، وقد ذكر الله جل وعلا ذلك في قوله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] ، أي: علاماتها، والساعة المراد بها هنا القيامة الكبرى، وليست الساعة الخاصة وهي موت كل إنسان، فإن الله جل وعلا قد جعل للساعة الكبرى التي يقوم فيها الناس لله رب العالمين -وهي إيذان بانتهاء الدنيا- جعل لها علامات، وهذه العلامات أبرزها بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة، قال الله جل وعلا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] ، وانشقاق القمر جرى وقت النبي صلى الله عليه وسلم آية له؛ فإن مشركي مكة طلبوا منه آية فشق الله له القمر فلقتين شهدهما الناس، لكنهم كذبوا وقالوا: سحر مستمر، وسحر ذاهب باطل، وقال بعضهم لبعض: سلوا أهل الأسفار، فإن كانوا قد رءوا ما رأيتم من انشقاق القمر فإنه حق، وإن كانوا لم يروا ذلك فإنه ليس بحق، وإنما سحر سحركم به، فسألوا المسافرين من كل وجه فكلهم أثبت رؤية الانشقاق. ومما يدل على أن الانشقاق وقع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة العيد بـ (ق) و (اقتربت الساعة) ، والناس يسمعون هذا، ويسمعون قوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] ، ولم يقم واحد منهم ينكر ويكذب انشقاق القمر. فمن علامات الساعة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، والعلامات تنقسم إلى قسمين: علامات كبيرة وعظيمة، وعلامات صغرى دون ذلك، فالعلامات الصغرى كثيرة جداً، وأما العلامات الكبرى فهي التي إذا ظهرت آذن ذلك باختلال العالم، وأول هذه الآيات الكبرى العظيمة خروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، فإنها أول الآيات العظمى. وأما خروج الدجال وخروج يأجوج ومأجوج ونزول عيسى ابن مريم من السماء فهذا ليس من الآيات الكبرى؛ لأنه من جنس ما يدركه البشر؛ لأن الدجال من البشر، ويأجوج ومأجوج من البشر، وعيسى ابن مريم من البشر، فهي آيات كبرى لكنها ليست كالآيات التي تؤذن بخروج العالم عن المألوف؛ ولذلك إذا طلعت الشمس من مغربها انقطعت التوبة، وانتهى الأمر، وكذلك الدابة تخرج وتميز المسلم من الكافر، فالأمر منته؛ ولذلك جاء في صحيح مسلم (إن أول الآيات طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة) وأيهما خرجت أولاً فالأخرى في أثرها، والمراد بهذا الحديث أول الآيات التي تخرج عن المألوف والمعتاد، وليس أول ما يجري. فالمقصود الأول الخروج عن المألوف والمعتاد، ثم بعد ذلك تتتابع الآيات التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها. يقول المؤلف رحمه الله: (ونؤمن بأشراط الساعة من خروج الدجال) (وهو شر غائب ينتظر) كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فإنه أشد الفتن على بني آدم، ولذلك ما من نبي إلا أنذر قومه منه، والدجال رجل يبتلي الله سبحانه وتعالى به الناس، يدعي أول الأمر الصلاح، ثم النبوة، ثم الإلهية والربوبية، ويكذبه الله جل وعلا، وآيات كذبه منقولة معه؛ فإنه أعور والله جل وعلا ليس بأعور، ولو كان رب العالمين لدفع عن نفسه النقص، لكنه لا يملك أن يدفع عن نفسه النقص، فهو مربوب مخلوق نسأل الله أن يكفينا شر فتنته، لكن يمكنه الله من القدرة ما تحصل به الفتنة، ولكن هذا التمكين ليس دائماً بل هو زائل مضمحل؛ فإنه يظهر كذبه لكل مؤمن. يقول: (ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء) أي: إنزال عيسى ابن مريم من السماء، كما جاء ذلك في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] أي: علم من أعلام الساعة، وذلك بنزوله في آخر الزمان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنزول عيسى ابن مريم، وأنه ينزل ويحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، فيكسر الصليب إشارة إلى إبطال ما اعتقدته النصارى واليهود في أنه قد قتل، ويقتل الخنزير إشارة إلى إبطال ما استباحه النصارى ونسبوه إليه؛ فإن الخنزير لم يبحه عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وهذا الفعل منه إيذان منه أنه قد انتهى كل دين غير دين الإسلام؛ ولذلك لا يقبل من أحد إلا الإسلام، ويضع الجزية، أي: لا يقبل الجزية. يقول: (ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة من موضعها) . طلوع الشمس من مغربها جاء في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158] ، والمشار إليه في هذه الآية خروج الشمس من مغربها، وأما الدابة ففي قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82] ، وقد تواترت في ذلك الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وينبغي لأهل الإيمان أن يتحروا في مسائل أشراط الساعة، وألا يتعجلوا في إثبات ما جاءت به الأحاديث، أو في تنزيل ما جاءت به الأحاديث على الواقع؛ فإن هذه من الفتن التي صارت في الناس، وخاض فيها من لا علم له، فتجده يحدث بما صحت به الأحاديث من الأخبار على أعيان ووقائع وأحداث ومناطق، وهذا ليس بصحيح؛ لأن هذا يحتاج إلى علم وبصيرة وتأمل ونظر، وهذا في الغالب يفقده من يشتغلون بهذه الأمور. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 7 موقف المسلم من دعوى الغيب ومخالفة الشرع قال رحمه الله تعالى: [ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً، ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة] . يقول رحمه الله: (ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً) لأن تصديق الكهان والعرافين مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد) ، وفي الرواية الثانية: (من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) ، فدل ذلك على تحريم تصديق هؤلاء، وتصديقهم في الإخبار بالمستقبل كفر بالله العظيم، وتصديقهم في الإخبار بالغيب النسبي مهدد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) ، فتصديقهم على درجات، فمنه ما يكون كفراً، وذلك تصديقهم بكل ما يكون في الغيب في المستقبل، كأن يقول الكاهن: سيجري لك غداً كذا أو ستتزوج فلانة ولا تتوفق معها أو سيأتيك ولد، فمن صدقه في هذا فهو كافر بالله العظيم، قال الله جل وعلا: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] ، فمن صدق الكاهن في الخبر المستقبل فهو كافر؛ لأنه مكذب بالقرآن الذي فيه أن الغيب لا يعلمه إلا الله جل وعلا. وأما من صدقه في الخبر الذي في الغيب النسبي الذي يخفى ويعلمه بعض الناس، كالإخبار عن مكان الضالة، وكالإخبار عن مكان المسروق، وما أشبه ذلك فإن هذا لا يكفر، لكنه على خطر عظيم، ويكفي في التحذير منه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) ، ثم من صدقه في هذا يوشك أن يصدقه في خبر المستقبل، فيجب الحذر من هذا. يقول رحمه الله: (ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً) والفرق بين الكاهن والعراف أن الكاهن هو من يخبر عن الغيب في المستقبل، والعراف من يخبر عن المغيبات بأمور يستدل بها، وقد نص شيخ الإسلام رحمه الله على أن الكاهن والعراف اثنان لمسمىً واحد، وهو كل من يخبر بالغيب، لكن الفرق بين الكاهن والعراف هو الطريق التي يتوصل بها إلى معرفة الغيب. قال رحمه الله تعالى: (ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة) . لا إشكال أنه لا يجوز تصديق هذا، والجامع بينه والذي قبله في قوله: (لا نصدق كاهناً ولا عرافاً، ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة) هو أن الجميع مبطل، فالكاهن والعراف مبطلان، ومن ادعى شيئاً يخالف ما جاء في الكتاب والسنة فهو مبطل أيضاً، ولا يجوز تصديقه ولا قبول خبره، فلا يصدق ما خالف الكتاب، وما خالف السنة، وما خالف إجماع الأمة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 8 وجوب الاجتماع مع المسلمين قال رحمه الله تعالى: [ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً] . من عقائد أهل السنة والجماعة أنهم يرون الاجتماع، وهو الاجتماع على الحق، والاجتماع مع أهل الحق، والاجتماع على من ولي أمر المسلمين، فهم ليسوا أهل فرقة وخلاف، بل هم أهل ألفة واجتماع، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ، فالآيات التي أمر الله جل وعلا فيها بالائتلاف والاتفاق والاجتماع كثيرة، والتي ذم فيها أهل الفرقة والخلاف كثيرة جداً، بل جعل من الشرع الذي أوصى به هذه الأمة: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] ، وهو ليس خاصاً بهذه الأمة بل بجميع الأمم، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] ، فالاجتماع على الدين والحق والهدى مما تواترت فيه النصوص، وقد نهى الله جل وعلا عن الفرقة في قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] ، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة، والمراد بالاجتماع الاجتماع على الحق ومع أهل الحق، وأما الاختلاف فهو الخروج عن الحق وعن أهل الحق. يقول رحمه الله: و (نرى الجماعة -أي: الاجتماع والقبول بالإجماع، والاجتماع على ولاة الأمر من المسلمين- حقاً وصواباً، والفرقة -وهي مخالفة أهل الكتاب والسنة، ومخالفة أهل الحق، ومخالفة ولاة الأمور من المسلمين- زيغاً وعذاباً) . أما الزيغ فلأنه مخالف للسنة ومخالف لما أمر الله به ورسوله، وأما قوله: (عذاباً) فهذا فيه بيان ما يئول إليه الافتراق وهو أنه عذاب، وإن كان في نظر صاحبه إصلاح، لكنه في الحقيقة عذاب. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 9 دين الله واحد وهو وسط بين الغلو والتفريط قال رحمه الله تعالى: [ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] ، وقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، وهو بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل، وبين الجبر والقدر، وبين الأمن والإياس] . ليس هناك إشكال في أن دين الله في الأرض والسماء واحد وهو الإسلام، كما قال الله جل وعلا {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] ، والإسلام المقصود به الاستسلام لله جل وعلا بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة؛ فهذا هو الدين الذي جاءت به جميع الرسل، فهو دين آدم، ودين نوح، ودين موسى، ودين إبراهيم، ودين عيسى، ودين جميع الرسل، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] ، وهو دين أشرفهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهذا الدين واحد لا خلاف فيه ولا افتراق، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] . فقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] يعني: الدين المقبول الذي يحصل به للعبد النجاة والفوز، وحصول الرضا والجنة الإسلام. وقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، فقد رضي الله جل وعلا لهذه الأمة ما رضيه للأمم السابقة مع مزيد تخصيص وتفضيل لهذه الأمة بتكثير الشرائع. والمؤلف رحمه الله بين دين الإسلام واقتصر في البيان على دين الإسلام لأنه دين أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة هم أهل الإسلام الحق الصافي، وهم كما قال شيخ الإسلام: هم نقاوة المسلمين، وهم الصفوة، وهم الأخيار، وهم الذين قال الله جل وعلا فيهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ، وهم الذين قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ، وذكر المؤلف رحمه الله وسطية هذا الدين، وهو يثبت بذلك وسطية أهل السنة والجماعة؛ لأن أهل السنة والجماعة وسط في الفرق الإسلامية، كما أن دين الإسلام وسط بين الأديان، والوسطية ليست في جانب واحد، بل هي في جميع الجوانب، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ، فالوسطية في كل شيء، وليست فقط في الاعتقاد، بل في الاعتقاد والعمل والقول، وفي كل أمر من أمور هذه الأمة. يقول: (وهو بين الغلو والتقصير) . الإسلام عند أهل السنة والجماعة بين الغلو والتقصير، والغلو: الزيادة، والتقصير: النقص. فأهل السنة والجماعة طريقهم وسط لا غلو فيه ولا نقص، وقد نهى الله جل وعلا عن الزيادة كما نهى عن النقص، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو. إياكم والغلو. إياكم والغلو) وقال: (هلك المتنطعون. هلك المتنطعون) ، والأحاديث والآثار في النهي عن الغلو كثيرة. وكذلك التقصير، فالنصوص كثيرة في النهي عن المعاصي؛ فإن كل معصية في اعتقاد أو قول وعمل من التقصير الذي نهى الله عنه. قال: (وبين التشبيه والتعطيل) . أهل الإسلام سالمون من هاتين الآفتين، فأهل السنة والجماعة سالمون من هاتين البدعتين، والتعطيل: نفي ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إما نفياً كلياً أو نفياً جزئياً، ويجمع نفي هاتين البدعتين قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] نفي لبدعة التشبيه، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] نفي لبدعة التعطيل. قال: (وبين الجبر والقدر) . أي: بين الذين يقولون بأن الإنسان لا مشيئة له ولا اختيار، وهم الجبرية، والذين يقولون: الإنسان يخلق فعل نفسه، والعبد يخلق فعل نفسه، فليس لله مشيئة ولا اختيار في فعل العبد ولا قدرة في فعل العبد. وأهل السنة والجماعة يقولون كما قال الله جل وعلا: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29] ، فيثبتون للعبد قدرة وكسباً ومشيئة، ويثبتون أن هذه القدرة وهذه المشيئة وهذا الكسب لا يخرج عن تقدير الله جل وعلا ومشيئته، بل الله محيط بالعبد ومشيئته وقدرته، والعبد مخلوق للرب، كما أن ذاته وصفاته مخلوقة للرب جل وعلا. قال رحمه الله تعالى: [وبين الأمن والإياس] . هذا فيه بيان توسط أهل السنة والجماعة بين فريقين ضالين، وهم من عبد الله بالمحبة وحدها، ومن عبد الله بالخوف وحده، فأهل السنة والجماعة يعبدون الله بالمحبة والرجاء والخوف، وتقدم تقرير ذلك. ثم قال رحمه الله تعالى: [فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً، ونحن برآء إلى الله تعالى من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه] . قوله: (فهذا) المشار إليه ما تقدم من العقائد، وقوله: (ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً) ، يعني: الذي ندين الله سبحانه وتعالى به، ديننا: أي: الذي نتعبد الله جل وعلا به، واعتقادنا: أي ما طوينا عليه قلوبنا، وشددنا وربطنا عليه قلوبنا. وقوله: (ظاهراً وباطناً) ، يعني: ليس عندنا ظاهر وباطن كحال الباطنية الذين لهم ظاهر وباطن. ثم قال: (ونحن برآء إلى الله تعالى من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه) . برآء أي: نتبرأ من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه. وهذا هو الواجب، أن يتبرأ الإنسان من كل من خالف عقيدة أهل السنة والجماعة، لكن هذه البراءة كالمحبة في الله والبغض في الله، فالبراءة تتفاوت بتفاوت المخالفة، فلو كانت مخالفته عظيمة كان نصيبه من البراءة عظيماً، ومن كانت مخالفته كبيرة كان نصيبه من البراءة يسيراً، على أن المؤلف رحمه الله ذكر في هذه العقيدة ما خرج به عن عقيدة أهل السنة والجماعة، لاسيما في مسألة الإيمان. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 10 الثبات عزيز لا يطلب إلا من الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به، ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الرديئة، مثل المشبهة، والمعتزلة، والجهمية، والجبرية، والقدرية، وغيرهم من الذين خالفوا السنة والجماعة، وحالفوا الضلالة، ونحن منهم برآء، وهم عندنا ضلال وأردياء، وبالله العصمة والتوفيق] . يقول رحمه الله في ختم هذه العقيدة: [ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان ويختم لنا به، ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الرديئة] ، آمين. بعد أن قال رحمه الله: (فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً) ، لجأ إلى الله جل وعلا في التثبيت على الحق، وهذا هو حال المؤمن التقي الذي يرجو ما عند الله عز وجل، ولا يعتمد على نفسه في الثبات، بل يقرر الحق، ويسأل الله عز وجل الثبات عليه؛ ولذلك قال رحمه الله: (ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان ويختم لنا به) والثبات: هو الاستمرار. والختم: هو أن يكون منتهى ما نعمل به ونغادر هذه الدنيا به هو الإيمان. قوله: (ويعصمنا من الأهواء -أي: يحفظنا ويمنع منا الأهواء- المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الرديئة) الأهواء: جمع هوى، وهو ما تهواه الأنفس، ويطلق على ما تهواه الأنفس في الأعمال، وفي العقائد. والآراء المتفرقة لاشك أنها الآراء المخالفة لأهل السنة والجماعة، وأما ما وافق أهل السنة والجماعة فإنه لا يفترق ولا يتفرق، بل عقيدة أهل السنة والجماعة الاجتماع، كما قال رحمه الله، والمذاهب الرديئة: أي المسالك الرديئة المخالفة، ثم مثل لذلك بالمشبهة والمعتزلة، فبدأ بالمشبهة، ويريد بـ المشبهة الممثلة؛ لأن النفوس ترفض هذه البدعة، فإن كل نفس مفطورة على أن الخالق ليس كالمخلوق، وأنه لا مماثلة بين الخالق والمخلوق، بل الله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية هذه الفرق كلها من الفرق الضالة، وأنواع الضلال فيها مختلفة، فمنها ما هو في الأسماء والصفات، ومنها ما هو في القدر، ومنها ما هو في اليوم الآخر. يقول: (وغيرهم من الذين خالفوا السنة والجماعة، وحالفوا الضلالة) أي: صالحوا الضلالة والتزموها والتحفوها، وكانت مرافقة لهم. قوله: (ونحن منهم برآء) هذا فيه البراءة من كل من خالف أهل السنة والجماعة. قال: (وهم عندنا ضلال أردياء) ولاشك في ذلك؛ فإن هذه الفرق من الفرق الضالة الرديئة المخالفة للكتاب والسنة. ثم قال رحمه الله: (وبالله العصمة والتوفيق) أي: به جل وعلا تحصل العصمة للعبد من الوقوع في شيء من الضلال، والتوفيق إلى طريق أهل السنة والجماعة، وهذا ختم بديع؛ لأنه به يحصل للإنسان السعادة في الدارين، أن يعصمه الله من أهل الشر، وأن يوفقه إلى الخير والعمل به، نسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وبهذا تكون قد انتهت هذه العقيدة المباركة التي نسأل الله عز وجل أن يثيب مؤلفها خيراً، وأن يغفر له ما كان فيها من خطأ، وأن ينفعنا بما فيها من علوم نافعة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 11