الكتاب: دروس للشيخ إبراهيم الدويش المؤلف: إبراهيم بن عبد الله الدويش مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 24 درسا] ---------- دروس للشيخ إبراهيم الدويش إبراهيم الدويش الكتاب: دروس للشيخ إبراهيم الدويش المؤلف: إبراهيم بن عبد الله الدويش مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 24 درسا] غثاء الألسنة اللسان جرم صغير خطره عظيم، لكن ولعظم خطره جاءت النصوص القرآنية والنبوية محذرة من شره؛ لأنه سلاح ذو حدين، فمن حفظه وحفظ فرجه دخل الجنة كما ورد معنى هذا في السنة، وقد كان اللسان من أشد ما يخافه السلف على أنفسهم، وهم من هم في حفظ اللسان، فكيف بنا نحن الذين نعلم من أنفسنا ما نعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 غثاء الألسن معناه وأنواعه إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أحبتي في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذه ليلة الجمعة الموافق للعاشر من شهر الله المحرم للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف من الهجرة النبوية الشريفة، وفي هذا الجامع المبارك، جامع الراجحي بمدينة جدة، نلتقي وإياكم مع موضوع بعنوان: (غثاء الألسنة) . والغثاء بالمد والضم: ما يجيء فوق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره. وغثاء الناس: أراذل الناس وسقطهم. والغث: هو الرديء من كل شيء. وغث حديث القوم: فسد وردأ. وأغث فلان في حديثه: إذا جاء بكلام غث، لا معنى له. وما أكثر الكلام الفاسد الذي يدور في مجالس المسلمين، أياً كانوا كباراً أو صغاراً، رجالاً أو نساءً. إن غثاء الألسنة اليوم يزكم الأنوف، ويصم الآذان، ويصيبك بالغثيان والدوار، وأنت تسمع حديث المجالس اليوم، لا نقول ذلك في مجالس العامة ودهماء الناس فقط، بل -ويا للأسف، وأقولها بكل أسى- حتى في مجالس الصالحين، وفي مجالس المعلمين والمتعلمين. غثاء الألسنة في الكذب والنفاق والغش والخداع. غثاء الألسنة في الغيبة والنميمة والقيل والقال. غثاء الألسنة في أعراض الصالحين والمصلحين والدعاة والعلماء، في الوقت الذي سلم فيه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى، والرافضة والمنافقين. غثاء الألسنة في التدليس والتلبيس، وتزييف الحقائق وتقليب الأمور. غثاء الألسنة في التجريح والهمز واللمز وسوء الظن. غثاء الألسنة في الدخول في المقاصد والنيات، وفقه الباطن. غثاء الألسنة بكل ما تحمله هذه الكلمة من غثائية وغث، وغثيث وغثيان. وما هي النتيجة؟! النتيجة بث الوهن والفرقة والخصام والنزاع بين المسلمين، وقطع الطريق على العاملين، وإخماد العزائم بالقيل والقال. إنك ما إن ترى الرجل حسن المظهر وسيماه الخير، وقد تمسك بالسنة في ظاهره، إلا وتقع الهيبة في قلبك والاحترام والتقدير في نفسك، وما إن يتكلم فيجرح فلاناً ويعرض بعلان، وينتقص عمراً، ويصنف زيداً، إلا وتنزع المهابة من قلبك ويسقط من عينك، وإن كان حقاً ما يقول. نعم! وإن كان حقاً ما يقول، وإن كان صادقاً فيه فلا حاجة شرعية دعت لذلك، وإن دعت تلك الحاجة فبالضوابط الشرعية وبالقواعد الحديثية، فإن لم تعلمها أيها الأخ الحبيب! وإن لم تعلميها أيتها المسلمة! فما نستطيع أن نقول إلا: أمسك عليك لسانك. إن المصنفات في الجرح والتعديل قد بلغت مئات المجلدات، لكن اقرأ فيها وتمعن، وكيف هو الجرح فيها، فشتان بين الجرحين، لقد كان خوف الله عز وجل ميزاناً دقيقاً لألسنتهم رحمهم الله تعالى، وكان هدفهم هو تمييز صحيح السنة من سقيمها. ولكن ما هو الهدف اليوم؟! نعوذ بالله من الهوى، والحسد، والنفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق. أيها الأخ الحبيب! أيتها الأخت المسلمة! إلى متى ونحن نجهل أو نتجاهل، أو نغفل أو نتغافل عن خطورة هذا اللسان؟ مهما كان صلاحك، ومهما كانت عبادتك، ومهما كان خيرك، ومهما كان علمك، ومهما كانت نيتك، ومهما كان قصدك. فرحم الله ابن القيم رحمةً واسعةً، يوم أن قال في الجواب الكافي: (من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم والسرقة وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله، لا يلقي لها بالاً يزل بالكلمة الواحدة أبعد مما بين المشرق والمغرب والعياذ بالله. وقال -أيضاً- في الكتاب نفسه: إن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله تعالى وما اتصل به) . وما أجمل هذا الكلام، ولذلك أقول أيها الأخ الحبيب! ويا أيتها الغالية! احذر لسانك، وانتبهي للسانك، واحبس لسانك، وأمسك عليك لسانك. (أمسك عليك لسانك) هو جزء من حديث نبوي، أخرجه الترمذي في سننه وأحمد في مسنده وابن المبارك والطبراني وغيرهم من حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه، قال: (قلت يا رسول الله! ما النجاة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك) وفي لفظ: (أمسك عليك لسانك) والحديث صحيح بشواهده. وأنا هنا لا أدعوك للعزلة، وإنما أقول: أمسك عليك لسانك إلا من خير، كما في الحديث الآخر: (فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير) والحديث رواه أحمد وابن حبان وغيرهما، وهو صحيح كما سيأتي إن شاء الله. [وحفظ اللسان عن الناس أشد من حفظ الدنانير والدراهم] كما يقول محمد بن واسع رحمه الله تعالى. ولأن كثرة الكلام تذهب بالوقار، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ولأننا نرى الناس أطلقوا العنان لألسنتهم، فأصبح ذلك اللسان سلاحاً لبثَّ الفرقة والنزاع والخصام والشتائم، وفي مجالات الحياة كلها، وبين الرجال والنساء بحد سواء، ولكثرة الجلسات والدوريات والاستراحات، ولأن الكلام فاكهة لهذه الجلسات، كان لا بد من وضع ضابط، ولا بد من تحذير وتذكير للناس في مثل هذه الجلسات، ولأنك ستسمع الكثير إن شاء الله تعالى من الأسباب التي جعلتني أختار مثل هذا الموضوع من خلال هذه العناصر وهي: - أدلة خطر اللسان من الكتاب والسنة . - السلف الصالح مع اللسان. - صور من الواقع. - النتيجة النهائية. واسمع قبل ذلك كلاماً جميلاً جداً للإمام النووي رحمه الله تعالى، في كتاب الأذكار يوم أن قال: فصل: اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلاماً تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة - اسمع لفقههم رحمهم الله تعالى -ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة- يعني: كان قول الكلام أو تركه المصلحة واحدة- فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء) انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 أدلة خطر اللسان من الكتاب والسنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 أدلة خطر اللسان من القرآن هل قرأت القرآن ومر بك قول الحق عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] هل تفكرت في هذه الآية؟! إنها الضابط الشرعي {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] . أسمعت أيها الإنسان؟! أسمعت أيها المسكين؟! إنها رقابة شديدة، دقيقة رهيبة، تطبق عليك إطباقاً كاملاً شاملاً، لا تغفل من أمرك دقيقاً ولا جليلاً، ولا تفارقك كثيراً ولا قليلاً، كل نفس معدود، وكل هاجسة معلومة، وكل لفظ مكتوب، وكل حركة محسوبة، في كل وقت وفي كل حال، وفي أي مكان. عندها؛ قل ما شئت، وحدث بما شئت وتكلم بمن شئت، ولكن اعلم أن هناك من يراقب ويعد عليك هذه الألفاظ {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17-18] . إنها تعنيك أنت أيها الإنسان! إنها تعنيك أنت أيتها المسلمة! {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] هذه الآيات والله إنها لتهز النفس هزاً وترجها رجاً، وتثير فيها رعشة الخوف من الله عز وجل. قال ابن عباس: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] قال: [يكتب كل ما تكلموا به من خير وشر، حتى إنه ليكتب قولك: أكلت، شربت، ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر، وألقي سائره] . واسمع للآيات من كتاب الله، تقرع سمعك، وتهز قلبك؛ إن كان قلباً مؤمناً يخاف من الله عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12] . {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] . {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36] . {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:23-24] . وأخيراً: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] فربك راصد ومسجل لكلماتك، ولا يضيع عند الله شيء. أما أنت أيها المؤمن! أما أنت يا من يقال عنك ويدور عنك الحديث في المجالس! أما أنت أيها المظلوم! فإن لك بهذه الآية تطميناً، فلا تخف ولا تجزع فـ {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} ، لبالمرصاد لمن أطلقوا لألسنتهم العنان في أعراض العباد، لبالمرصاد للطغيان والشر والفساد، فلا تجزع بعد ذلك أيها الأخ الحبيب! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 أدلة خطر اللسان من السنة ولتزدد بينةً في خطر هذا اللسان الذي بين لحييك، فاسمع لهذه الأحاديث باختصار: فعن بلال بن الحارث المزني رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت؛ يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت؛ يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة) والعياذ بالله، والحديث أخرجه البخاري في صحيحه. وكان علقمة يقول: [كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث] أي: هذا الحديث. اسمع لحرصهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم: [كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث] كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره. فأين أنت يا علقمة من أولئك الذين يلقون الكلمات على عواهنها فلا يحسبون لها حساباً؟! كم نلقي أيها الأحبة! وكم نلقي أيتها المسلمة! من الكلمات نظن أنها ذهبت أدراج الرياح، وهي عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى؟ احسب لهذا الأمر حسابه، حتى تعلم أن كل كلمة مسجلة عليك أيها الأخ الحبيب!. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها؛ يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) والحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما. وفي رواية لـ مسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) . أسألك العفو يا إلهي! إن شغلنا الشاغل اليوم في مجالسنا أيها الأحبة! هو بث الكلمات ونشر الشائعات، وكم من كلمة قصمت ظهر صاحبها وهو لا يعلم، ولا شك أن فساد المجالس اليوم بسبب قلة العلم والاطلاع، إذ لو وجد هذا العلم لاستغلت المجالس أحسن استغلال، ولسمعت النكت العلمية، والفوائد الشرعية والمسائل الفقهية، بدلاً عن القيل والقال والغرائب والعجائب؛ ولكن فاقد الشيء لا يعطيه، وهذا أثر من آثار الجهل الذي يتفشى اليوم بين كثير من الناس، إسهال فكري، وإسهال كلامي أصاب كثيراً من مجالس المسلمين اليوم. إنك تجلس المجالس الكثيرة، بل ربما لم يمر عليك يوم من الأيام ولا ليلة من الليالي إلا وجلست مجلساً، فبماذا خرجت من هذه المجالس؟ ما هي النتيجة وما هي الثمرة من هذه المجالس التي جلستها أيها الأخ الحبيب؟! لا شك أن هذا أثر من آثار الجهل الذي يتفشى في صفوف المسلمين اليوم، وقلة البركة حيث أصبح العلم مصدر رزق لكثير من الناس، ولذلك تجد في المجلس الواحد عشرات من المدرسين والمتعلمين، ومع ذلك يذهب المجلس هباءً بدون فائدة، بل ربما ذهب -والعياذ بالله- بالآثام وجمع السيئات. وفي حديث معاذ الطويل قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال معاذ: قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسانه ثم قال: كف عليك هذا، قال: قلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! -بعض الناس قد يجهل أنه سيؤاخذ بكل كلمة تكلمها كانت خيراً أو شراً- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!) والحديث أخرجه الترمذي في سننه، وقال: حديث حسن صحيح. وفي حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه. وفي آخر حديث سفيان بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، قال في آخره: قلت: (يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، والترمذي في سننه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. ثم يوجه المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمته تلك القاعدة الشرعية، والمعيار الدقيق، ولمن اختلطت عليه الأوراق، وليقطع الشك باليقين وليسلم من الحيرة والتردد، فيقول كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) . هذه قاعدة شرعية، تربوية، منهجية، نبوية، ميزان ومعيار دقيق لك أيها المسلم! ولك أيتها المسلمة! يوم أن تجلس مجلساً (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) انظر للتربية ولربط هذه القلوب باليوم الآخر (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ولأن النفوس اليوم غفلت عن اليوم الآخر، وتعلقت بالدنيا وشهواتها ولذاتها، غفلت عن هذه القاعدة الشرعية النبوية، ونسيت الحساب والعذاب باليوم الآخر، ونسيت الجنة والنار أو غفلت عنها، وبالتالي انطلق اللسان يفري في لحوم العباد فرياً بدون ضوابط، وبدون خوف ولا وجل. لماذا هذه القاعدة؟ لأنه لا يصح أبداً أن يؤذي المسلم إخوانه بلسانه، ولأن المسلم الصادق والمحب الناصح هو (من سلم المسلمون من لسانه ويده) كما في حديث أبي موسى الأشعري المتفق عليه، والأحاديث في الباب كثيرة مستفيضة، وكم نحن بحاجة إلى من يردد هذه الأحاديث على مسامع الناس. كم نحن بحاجة أيها الأخيار! يا طلبة العلم! أيها الصالحون! كم نحن بحاجة يا أيتها الصالحات! يا أيتها الخائفات القانتات العابدات الساجدات! كم نحن بحاجة إلى من يردد على المسلمين والمسلمات أمثال هذه الأحاديث ليتذكروها وليعوها، وليفهموها جيداً، حتى تتذكر النفس كلما أراد اللسان أن ينطلق في كلمة يحسب لها حسابها، قبل أن يخرج لسانه بهذه الكلمات؟ واسمع لرواة هذه الأحاديث من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، يوم أن سمعوها علماً وعملاً، وامتثالاً للمصادر الشرعية الكتاب والسنة، وإليك الأدلة من حياتهم العملية رضوان الله تعالى عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 حال السلف الصالح مع اللسان أسوق إليك أيها الأخ الحبيب! مواقف قليلةً جداً، كيف كان حال السلف الصالح مع ألسنتهم: ذكر الإمام مالك في الموطأ: [عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أنه دخل على أبي بكر الصديق وهو يجبذ لسانه -أي: يجره بشدة- فقال له عمر: مه! غفر الله لك، فقال أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد] . من القائل؟! إنه الرجل الأول بعد الأنبياء والرسل، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، القائل هو أبو بكر، فانظر لحرصه على لسانه رضي الله عنه وأرضاه. قال رجل: [رأيت ابن عباس آخذاً بثمرة لسانه -يعني: ممسكاً به- وهو يقول: ويحك قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم، قال: فقال له رجل: يا بن عباس! ما لي أراك آخذاً بثمرة لسانك تقول: كذا وكذا؟! قال ابن عباس: بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنق منه على لسانه] يعني: لا يغضب على شيء من جوارحه أشد من غضبه على لسانه، والأثر أخرجه ابن المبارك وأحمد وأبو نُعيم، وأيضاً أخرجه أحمد في كتاب الزهد، والمتن بمجموع طرقه حسن، والله أعلم. وقال عبد الله بن أبي زكريا: [عالجت الصمت عشرين سنة -انظر للحساب، انظر لحساب النفس- فلم أقدر منه على ما أريد. وكان لا يدع أحداً يغتاب في مجلسه، ويقول: إن ذكرتم الله أعنّاكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم] . انظر للضابط: إن ذكرتم الله أعنّاكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم. والأثر ذكره أبو نُعيم في الحلية. وكان طاوس بن كيسان رضي الله تعالى عنه يعتذر من طول السكوت ويقول: [إني جربت لساني فوجدته لئيماً راضعاً] هؤلاء هم رضي الله تعالى عنهم، فماذا نقول نحن عن ألسنتنا؟! وذكر هناد بن السري في كتابه الزهد بسنده إلى الحسن أنه قال: [يخشى أن يكون قولنا: حُميد الطويل غيبة] لأنهم بينوه أو نسبوه أنه طويل، يخشون أن يكون غيبةً رحمة الله عليهم أجمعين. وأخرج وكيع في الزهد، وأبو نُعيم في الحلية، من طريق جرير بن حازم قال: ذكر ابن سيرين رجلاً فقال: [ذلك الرجل الأسود -يريد أن يعرفه- ثم قال: أستغفر الله، إني أراني قد اغتبته] . وكان عبد الله بن وهب رحمه الله يقول: [نذرت أني كلما اغتبت إنساناً -انظر للمحاسبة مرة أخرى- أن أصوم يوماً فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة] . جرب هذا، كلما اغتبتَ إنساناً أو ذكرته بسوء، ادفع ولو ريالاً واحداً، الله العالم في حالنا الآن، سنجد أنه في آخر الشهر لم يبق من الراتب ريال واحد؛ لأننا أعرف بأنفسنا أيها الأحبة في مجالسنا والله المستعان. قال الذهبي معلقاً في السير على قول عبد الله بن وهب، قال: هكذا والله كان العلماء، وهذا هو ثمرة العلم النافع. قال النووي في الأذكار: بلغنا أن قس بن ساعدة، وأكثم بن صيفي اجتمعا فقال أحدهما لصاحبه: [كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟! فقال: هي أكثر من أن تحصى، والذي أحصيته: ثمانية آلاف عيب، فوجدت خصلةً إن استعملتها سترت العيوب كلها، قال ما هي؟ قال: حفظ اللسان] . قال إبراهيم التيمي: أخبرني من صحب الربيع بن خثيم عشرين عاماً ما سمع منه كلمةً تعاب، الله المستعان! عشرين عاماً ما سمع منه كلمةً تعاب، والأثر ذكره ابن سعد في الطبقات. وقيل له -أي للربيع -: [يا أبا يزيد، ألا تذم الناس؟! فقال: والله ما أنا عن نفسي براض فأذم الناس، إن الناس خافوا الله على ذنوب الناس وأمنوه على ذنوبهم] . وصدق رحمه الله، ألا ترون أيها الأحبة! أننا في مجالسنا نقول: نخشى عذاب الله من فعل فلان، ونخاف من عذاب الله عز وجل من قول علان، ولا نخشى من عذاب الله من أفعالنا وأقوالنا؟! هذا ظاهر في مجالسنا، نتحدث ونقول: والله نخشى من عذاب الله من أفعال فلان وعلان! ولكننا ننسى أن نخاف على أنفسنا من عذاب الله من ذنوبنا وأفعالنا وأقوالنا، ارجع لنفسك وانظر لعيوبها قبل أن تنظر لعيوب الآخرين وتتكلم فيهم. وقال حماد بن زيد: بلغني أن محمد بن واسع كان في مجلس، فتكلم رجل فأكثر الكلام، فقال له محمد: ما على أحدهم لو سكت، فتنقى وتوقى، أي: اختار كلماته ولحسب لها حسابها. وقال بكر بن المنير: سمعت أبا عبد الله البخاري، أمير المؤمنين صاحب الصحيح رضي الله تعالى عنه وأرضاه يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً. اسمع للثقة: أرجو أن ألقى الله لا يحاسبني أني اغتبت أحداً، والبخاري له مؤلفات في الجرح والتعديل. ويقول الذهبي في السير -أيضاً- معلقاً على قول البخاري هذا: صدق رحمه الله ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعفه، فإن أكثر ما يقول -يعني أشد ما يقول البخاري إذا أراد أن يجرح رجلاً- يقول: منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر ونحو هذا، وقل أن يقول: فلان كذاب، أو كان يضع الحديث، حتى إنه قال: إذا قلت فلان في حديثه نظر؛ فهو متهم واهم، وهذا معنى قوله: لا يحاسبني الله أني اغتبت أحداً، وهذا هو والله غاية الورع. انتهى كلام الذهبي. هذه مواقف للسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم مع اللسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 صور من الواقع هي عبارة عن مواقف مبعثرة، وأحداث متعددة تتكرر في مجالسنا كثيراً، اخترت منها عشرة مشاهد، أسوقها إليك فأصغني سمعك وفهمك، وأحسن الظن فيّ، فلعلي لا أحسن التصوير، أو ربما خانني التعبير، وما أريد -يعلم الله- إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 حديث العامة في المجالس حديث العامة أن فلاناً فيه أخطاء، وأن فلاناً الآخر فيه تقصير، والثالث فيه غفلة، والرابع لا يسلم من العيب الفلاني، وهكذا أقاموا أنفسهم لتقييم الآخرين وجرحهم ولمزهم. فيا سبحان الله! نسينا أنفسنا، نسينا عيوبنا وتقصيرنا وغفلتنا وكثرة أخطائنا، ولو أعمل عاقل فكره في الجالسين أنفسهم لوجد فيهم بذاءةً في اللسان وسوءاً في المعاملة والأخلاق، فهو إن حدث كذب، أو وعد أخلف، أو باع واشترى فغش وخداع، وإن جاء للصلاة نقرها نقر غراب، مقصر في الفرائض، مهمل للنوافل، في وظيفته تأخر وهروب، وإهمال واحتيال، وفي بيته وسائل الفساد وضياع للأولاد وقطيعة للأرحام، كل هذه النقائص وهذه المصائب، عميت عليه فنسيها في نفسه وذكرها في إخوانه، فلم يسلم منه حتى ولا الصالحين المخلصين. فيا أيها الأخ! والله إني عليك لمشفق ولك محب، فأمسك عليك لسانك، وكف عن أعراض الناس [وإذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك] كما قال ابن عباس. وقال أبو هريرة: [يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه] . وقال عون بن عبد الله: [ما أحسب أحداً تفرغ لعيوب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه] . وقال بكر بن عبد الله المزني: [إذا رأيتم الرجل مولعاً بعيوب الناس ناسياً لعيبه؛ فاعلموا أنه قد مكر به] . إذا رمت أن تحيا سليما من الأذى ودينك موفور وعرضك صيّن فلا ينطقن منك اللسان بسوءة فكلك سوآت وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك معائباً فدعها وقل: يا عين للناس أعين وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ودافع ولكن بالتي هي أحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 مجالس يحضرها طلبة العلم والصالحون دون نكير صورة ثانية مما في واقعنا: جلسوا مجلسهم، فبدأ الحديث، فذكروا زيداً وأن فيه وفيه، ثم ذكروا قولَ عمرو فأتقنوا فن الهمز واللمز، والعجيب أن معهم فلاناً الصالح العابد الزاهد، القائم الصائم، والأعجب أن من بينهم طالب العلم فلاناً الناصح الأمين، والحمد لله لم يتكلما وسكتا، ولكنهما ما سلما؛ لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس؛ ولأن المستمع شريك للقائل، ما لم يتبع المنهج الشرعي: (من رد عن عرض أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار) هذا هو المنهج الشرعي، (من رد عن عرض أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار) والحديث أخرجه أحمد والترمذي، وغيرهما من حديث أبي الدرداء، والحديث حسن بشواهده. فيا أيها المسلم! إذا وقع في رجل وأنت في ملأ، فكن للرجل ناصراً وللقوم زاجراً، وانصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وقل للمتحدث: أمسك عليك لسانك، فإن استاجبوا لك وإلا فقم عنهم {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] ؟! واسمع لكلام ابن الجوزي الجميل في تلبيس إبليس قال رحمه الله: وكم من ساكت عن غيبة المسلمين إذا اغتيبوا عنده فرح قلبه، وهو آثم بذلك من ثلاثة وجوه: أحدها: الفرح، فإنه حصل بوجود هذه المعصية من المغتاب. والثاني: لسروره بثلب المسلمين. والثالث: أنه لا ينكر. انتهى كلامه رحمه الله. ويقول ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى في الجزء الثامن والعشرين (صفحة 327) يقول: ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى -وانتبه لهذا الكلام النفيس الجميل- تارةً في قالب ديانة وصلاح، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب وإنما أخبركم بأحواله، ويقول: والله إنه مسكين، أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت، وربما يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه وهضمه لجنابه، ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقاً، وقد رأينا منهم ألواناً كثيرةً من هذا وأشباهه. انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 اتهام النيات والدخول في المقاصد صورة ثالثة: اتهام النيات والدخول في المقاصد من أخطر آفات اللسان، يتبعه تبديع الخلق وتصنيف الناس وتقسيمهم إلى أحزاب، وهم منها براء، وقد يتبع ذلك أيمان مغلظة وأقسام وأحلاف بأنه العليم بفلان والخبير بأقواله. فيا سبحان الله! أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم قصده ومبتغاه؟ أين أنت من قول القدوة الحبيب صلى الله عليه وسلم: (إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس، ولا أشق بطونهم) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه ومسلم في صحيحه. ورحم الله ابن تيمية يوم أن قال في الفتاوى في الجزء التاسع عشر (صفحة 192) قال: وكثير من مجتهدي السلف والخلف، قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة فظنوها صحيحةً، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] وفي الصحيح قال: (قد فعلت)) والحديث عند مسلم في كتاب الإيمان. فيا أخي الحبيب! أمسك عليك لسانك، والزم الورع والتقى ومراقبة الله عز وجل، وأشغل نفسك في طاعة الله أنفع لك عند الله. فعن البراء رضي الله تعالى عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (دلني على عمل يدخلني الجنة -انظر للحرص- قال صلى الله عليه وسلم: أطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير) والحديث أخرجه أحمد وابن حبان وغيرهما وهو صحيح. وعند مسلم قال: (تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك) سبحان الله! انظر لفضل الله على عباده، إن كفك شرك عن الناس صدقة تكتب لك عند الله عز وجل. فيا أيها الأخ الكريم! إن أبواب الخير كثيرة، وأعمال البر عديدة، فأشغل نفسك فيها، فإن عجزت فكف لسانك إلا من خير، وإن أبيت إلا أن تكون راصداً لأقوال الناس حارساً لألسنتهم فقيهاً ببواطنهم، فحسبنا وحسبك الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 تقويل الناس ما لم يقولوا وجهل النساء بمعنى الغيبة صورة أخرى: سمع ذلك المتحدث أو بعضاً من كلماته بدون إصغاء جيد، المهم أنه فهم فحوى الكلام وعرف قصد المتكلم، أو هكذا زعم -انتبهوا لهذه الصورة؛ لأنها تحصل لكثير منا- سمع ذلك المتحدث أو بعضاً من كلماته بدون إصغاء جيد، المهم كما يزعم أنه فهم فحوى الكلام، وعرف قصد المتكلم أو هكذا زعم، أو قرأ ذلك الخبر أو الكتاب، ها هو يلتهم الأسطر، نظراته تتقافز بسرعة بين الكلمات التي تساقط منها الكثير لفرط السرعة، المهم كما يزعم أنه فهم فكرة الكاتب وعرف قصده، ثم انتقل إلى المجالس ليؤدي ما تحمله ويزكي علمه، هكذا سولت له نفسه، فذكر حديث فلان وخبر علان، وأنه قال كذا وكذا، فشرق وغرب، وأبعد وأقرب، فقلب الأقوال وبدل الأحوال، وما أوتي المسكين إلا من سوء فهمه، والتسرع في نقله، من سوء الفهم أو التسرع في النقل أو في القراءة، قوّل الآخرين ما لم يقولوا، وقديماً قيل: وما آفة الأخبار إلا رواتها وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم ولكن تأخذ الأذهان منه على قدر القرائح والفهوم صورة أخرى: إننا نغفل أو نتغافل، فنتكلم في المجالس ونذكر العشرات بأسمائهم، فإذا ذكّرنا مذكر أو حذّرنا غيور بأن هذه غيبة قلنا: هذا حق، وما قلنا فيه صحيح، وقد يسرد لك الأدلة والبراهين على ما يقول فيزيد الطين بلة. فيا سبحان الله! أليس النص واضحاً وصريحاً؟ ألم يقل الصحابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه. إذاً: فلا مفر، فإن كان ما ذكرته صحيحاً فهذه هي الغيبة، وإن كان ما ذكرته كذباً فهو ظلم وبهتان، فكلا الأمرين مر؛ ليس لك خيار، فأمسك عليك لسانك. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافر من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) والحديث أخرجه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه وإسناده صحيح. وعن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت امرأة -واسمعي أيتها المسلمة! اسمعي يا من في قلبك خوف من الله عز وجل! - عائشة رضي الله عنها (ذكرت أنها ذكرت امرأةً فقالت إنها قصيرة) وفي رواية (أنها أشارت إشارةً أنها قصيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغتبتيها) وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (اغتبتها) والحديث أيضاً عند أبي داود في سننه وعند أحمد في مسنده وغيرهما وهو صحيح. إذاً: ما بال نسائنا اليوم يجلسن في مجلس فيعرضن لعشرات من النساء: فلانة وعلانة، وتلك فيها، والأخرى فيها، وهكذا! ألا يخشين الله عز وجل؟! ألا يخفن يوم أن تقف المرأة أمام الله عز وجل فيسألها عن قولها؟! يا سبحان الله! ألهذا الحد وصلت الغفلة في نساء المسلمين، أن يغفلن أن مثل هذا القول سيجزين عليه أمام الله سبحانه وتعالى؟! تذكري وقوفك بين يدي الله عز وجل، احرصي أيتها المسلمة! لنحرص على أنفسنا، إننا ابتلينا بقلة الأعمال الصالحة في مثل هذا الزمن، وابتلينا بكثرة الذنوب والتقصير في حق أنفسنا وحق ربنا أيها الأحبة! فلماذا إذن نزيد الطين بلةً ونجمع على ذلك ذنوب الآخرين في غيابهم بغيبتهم وتنقصهم وغير ذلك؟! وليس معنى هذا السكوت عن الأخطاء، إنني لا أطالب أن نسكت عن أخطاء الآخرين أو حتى نتغاضى عن العصاة والفاسقين والمجاهرين. وليس معنى ذلك ألا نحذر منهم وألا نفضحهم، لا، بل هذه أمور كلها مطالبون فيها شرعاً، هذه مطالب شرعية؛ ولكن بالمنهج الشرعي وبالقواعد العلمية كما جاءت عن سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. ولكني على يقين أن أكثر ما يقال في مجالسنا لمجرد التحدث والتفكه، وربما هو الهوى وأحقاد وأضغان عافانا الله وإياكم منها. ورحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت عن سوء فسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ترك المجال للجهلة للخوض في العلماء صورة أخرى: قلت لبعض إخواني: الزم الأدب وفارق الهوى والغضب، أو أمسك عليك لسانك، وابك على خطيئتك، وانظر لحالك، وردد ما ذكرته لك على أمثالك. وقد كنت سمعت منه قيلاً وقالاً، وجرحاً وثلباً، وهمزاً ولمزاً في أناس ما سمعنا عنهم إلا خيراً، وهم من أهل الفضل، فما رأيناهم إلا يعملون الخير ويدعون له، ويسعون للبر وينهون عن الإثم، فما استجاب لي وما سمع مني، فرأيت أن ألزم الصمت معهم، وفيهم ولهم وعليهم، فأقبلت على واجباتي أيما إقبال، وأرحت قلبي من الأحقاد والأغلال، وذهني من الهواجس والأفكار. ثم جاء بعض الفضلاء وقال: يقولون فيك كيت وكيت! فيعلم الله ما التفت إليهم ولا تأذيت، وقلت لهم: رب كلام جوابه السكوت، ورب سكوت أبلغ من كلام، وعلمتني الحياة أن الصفح الجميل من أحسن الشيم. قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم إن الجواب لباب الشر مفتاح الصمت عن جاهل أو أحمق شرف أيضاً وفيه لصون العرض إصلاح أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة والكلب يُخسأ لعمري وهو نباح ونقل الإمام الشاطبي عن أبي حامد الغزالي رحمة الله عليهما كلاماً متيناً يغفل عنه بعض الناس، فقال: (أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جهلة أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإذلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها) انتهى كلامه رحمه الله من كتاب الاعتصام للشاطبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 التلفظ بكلمات لا يحسب لها حساب صورة أخرى من صور الواقع مع اللسان في مجالسنا اليوم: أحدهم جلس مع صاحب له، أو أصحاب فتكلموا وخاضوا، ولم يكن له من الأمر شيء إلا أنه شريك في المجلس، ومن باب المشاركة قالها كلمةً أو كليمات لم يحسب لها حسابها ولم يتبين خطرها، ظنها حديث مجالس، كان يسمع ثم يهز رأسه علامة للرضا ثم قالها، لم يظن أنه يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب. فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه -كما في الحديث الذي أسلفناه- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد يتكلم بالكلمة ما يتبين فيها؛ يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) . اسمع للنصوص الشرعية واستجب لها، فإن فيها حياتك ونجاتك، فقوله صلى الله عليه وسلم (ما يتبين) أي: لا يتأملها، ولا يتفكر فيها ولا في عواقبها، ولا يظن أنها ستؤثر شيئاً، وهو من نحو قوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] هكذا يلقي بعض الناس هذه الكلمات. فيا أخي الكريم! انتبه للسانك، إن خطر اللسان عظيم وآفاته كثيرة، فأمسك عليك لسانك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الجور على الخصوم بغير حق صورة أخرى: كثير من الجلساء إذا ذُكِر له صديقه أثنى عليه، وإن كان يعلم أنه لا يستحق ذلك الثناء، وإذا ذكر له خصمه ذمه، ولو كان يعلم أنه خلاف ما يقول. فيا أيها المؤمن! أسألك بالله، هل تستطيع أن تذكر العيوب الموجودة في أقرب الناس إليك عند الحاجة الشرعية لذلك؟ اسأل نفسك، وهل تستطيع أن تثني بصدق على إنسان تختلف معه في بعض الأمور؟! أنا لا أريد الإجابة، ولكن الواقع يشهد أن أكثر الناس يجورون على خصومهم، فيذمونهم بما ليس فيهم، ويجورون أيضاً على أصدقائهم فيمتدحونهم بما ليس فيهم، فإن من أثنى عليك بما ليس فيك فقد ذمك، نعم. لأن الناس يطلبون هذه الخصلة التي ذكرها فيك، يطلبونها فيك فلا يجدونها فيذمونك على فقدها. لا. بل الأمر أدهى من ذلك وأشد؛ فإن الحقيقة أنه كثير ما تنسينا العيوب القليلة المحاسن الكثيرة -انتبهوا لهذه الكلمة- وننسى القاعدة الشرعية: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) . أفلا نتقي الله عند الجرح والتعديل وننزل الناس منازلهم، أليس قد أثنى صلى الله عليه وسلم على النجاشي ووصفه بأنه (ملك لا يظلم عنده أحد) مع أنه حينها -أي: النجاشي - كان كافراً لم يسلم. فيا أيها المحب! أسمعت رعاك الله! أنصف الناس، وأنصف نفسك، فإن غلب عليك الهوى فأمسك عليك لسانك لا أبا لك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 التشنج والغضب في المجالس عند المناظرة صورة أخرى: تناظر اثنان في مجلس -أي: تجادلا وتناقشا- فارتفعت أصواتهما، وانتفخت أوداجهما، وتقاذفا بالسب والشتام. قلت: إن التشنج والانفعال ليس هو الأسلوب الأمثل لنصرة الحق أبداً. ضع هذه القاعدة في رأسك يا أيها الحبيب! إن التشنج والانفعال ليس هو الأسلوب الأمثل لنصرة الحق أبداً. ولكن كم من هادئ عف اللسان حليم كاظم للغيظ، أقدر على نصرة الحق من غيره. وقد قال أبو عثمان؛ ابن الإمام الشافعي رحمة الله عليهما: (ما سمعت أبي يناظر أحداً قط فرفع صوته) . ولهذا كان الإمام الشافعي رحمة الله تعالى عليه يقول: إذا ما كنت ذا فضل وعلم بما اختلف الأوائل والأواخر فناظر من تناظر في سكون حليماً لا تلح ولا تكابر يفيدك ما استفاد بلا امتنان من النكت اللطيفة والنوادر وإياك اللجوج ومن يرائي بأني قد غلبت ومن يفاخر فإن الشر في جنبات هذا يمني بالتقاطع والتدابر فبعض الإخوة -غفر الله للجميع- يظن أنه من تمام غيرته على المنهج وعظيم نصرته للحق، لا بد أن يقطب جبينه ويحمر عينيه، ويرفع صوته، وتتسارع أنفاسه، وهذا لا يصح أبداً. إن اختلاف الآراء ووجهات النظر لا يدعو إلى الأحقاد والأضغان، فإن المرجو هو البحث عن الحق وطلبه وليس التشفي والانتقام، فينطلق اللسان بالسباب والشتائم ومقاطعة الكلام، فما من الناس أحد يكون لسانه منه على بال، إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله. واسمع للأدب الجم، والخلق الرفيع عند الحوار والمناقشة: قال عطاء بن أبي رباح: [إن الشاب ليتحدث بالحديث، فأسمع له كأني لم أسمعه ولقد سمعته قبل أن يولد] سمعت هذا الكلام الذي يقوله قبل أن يولد هذا الشخص الذي يتحدث ومع ذلك أسكت كأني لم أسمع الكلام إلا الساعة. هكذا يكون الأدب عند الحوار وعند المناظرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 إطلاق العنان للسان بالتحليل والتحريم والسخرية من أعظم الصور في مجالسنا ومن أخطرها على كثير من الناس: إطلاق العنان للسان بالتحليل والتحريم والسخرية والاستهزاء بالدين. هذه من أخطر الصور التي نرى أنها تفشت اليوم في مجالس المسلمين أياً كانوا، رجالاً أو نساءً، كباراً أو صغاراً، وخاصةً بين الشباب وبين العوام، قضية التحليل والتحريم، والسخرية والاستهزاء بالدين، ولذلك إنك تسمع وترى تسرَّعَ فئاتٍ من الناس في إطلاق ألفاظ التحريم والتحليل، وقد نهى الله عز وجل عن ذلك، ونهى عن المسارعة في إصدار التحليل والتحريم فقال: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116] . وكان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم مع سعة علمهم وفقههم، لا يكثرون من إطلاق عبارات التحليل والتحريم، وهذا من شدة ورعهم ومحاسبتهم لأنفسهم. يقول الإمام مالك رحمة الله تعالى عليه: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحداً أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام، ما كانوا يجترئون على ذلك وإنما كانوا يقولون: نكره هذا، ونرى هذا حسناً، ونتقي هذا، ولا نرى هذا، ولا يقولون: هذا حلال ولا حرام) . انتهى كلامه من جامع بيان العلم وفضله. أما نحن فنسمع عبارات التحليل والتحريم على كل لسان، وخاصةً من العامة بدون علم ولا ورع ولا دليل، مما أثار البلبلة عند الناس والتقول على الله بغير علم. بل والمصيبة أن بعض الناس يسخر ببعض أحكام الدين، ويهزأ بالصالحين والناصحين، ربما سخر باللحية أو سخر بالثوب القصير، أو سخر ببعض سنن المرسلين -والعياذ بالله- وهؤلاء والله إنهم لعلى خطر عظيم. ألم يسمع أمثال هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) ؟ ألم يسمع هؤلاء قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] ؟ الهمزة: الطعان في الناس، واللمزة: الذي يأكل لحوم الناس. ألم يسمع هؤلاء قول الحق عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] ؟ ألم يسمع هؤلاء لقول الحق عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ؟ سبحان الله! غابت عليهم هذه النصوص من القرآن والسنة، غفلوا عن خطر ما يتقولونه في الليل والنهار، في السخرية والاستهزاء بالدين، ربما خرج بعضهم -والعياذ بالله- من الدين بسبب كلمة يقولها وهو لا يشعر. فحق على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه، حافظاً للسانه، مقبلاً على شأنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 النتيجة النهائية لإطلاق العنان للسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 النتيجة الأولى: تبديد الحسنات وإهدار العمل الصالح أقول أيها الأخ الحبيب! ويا أيتها الأخت المسلمة! إننا أحوج ما نكون إلى العمل الصالح والحسنات، وأراك تحرص على مجاهدة النفس لعلها أن تعينك على القيام بعمل صالح، من صلاة أو صيام أو صدقة، وقد تنتصر عليها وقد لا تنتصر، وإن انتصرت وقمت بالعمل فلا يسلم من شوائب كثيرة، مثل: الرياء والنقص وحديث النفس، وغيرها من مفسدات الأعمال، مع ذلك كله، فإني أراك تبذر هذه الحسنات في المجالس وتنثرها في المجالس والمنتديات. ماذا تراكم تقولون أيها الأخيار! في رجل أخرج من جيبه عشرات الريالات ثم نثرها في المجلس وبددها؟ أهو عاقل أو مجنون؟ إن من جلس مجلساً ثم أطلق للسانه العنان فهذه علامة أكيدة على إفلاسه في الدنيا والآخرة. فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون من المفلس؟! قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) والعياذ بالله، والحديث أخرجه مسلم في صحيحه. وعن أبي هريرة -أيضاً-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) رواه مسلم، حتى البهائم يفصل بينها يوم القيامة، فاحفظ حسناتك، فأنت بحاجة لها. واسمع لفقه الحسن البصري يوم أن جاء رجل فقال له: [إنك تغتابني، فقال: ما بلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي] . وعن ابن المبارك رحمه الله قال: [لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والدي؛ لأنهما أحق بحسناتي] . ففقها رضي الله تعالى عنهما أن آفات اللسان تأتي على الحسنات، وقد لا تبقي منها شيئاً، فضياع الحسنات نتيجة أكيدة لإطلاق العنان للسان والعياذ بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 النتيجة الثانية: فضحه وبيان عواره وهتك أستاره ذلك الذي أطلق لسانه وأصبح يتكلم بلا ورع في المجالس والمنتديات، وربما أصبح بذيء اللسان، والجزاء من جنس العمل. فعن أبي برزة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تتبعوا عورات المسلمين ولا عثراتهم، فإنه من يتبع عثرات المسلمين يتبع الله عثرته، ومن يتبع الله عثرته يفضحه وإن كان في بيته) والحديث أخرجه أبو داود وأحمد والبيهقي والحديث صحيح بمجموع طرقه. والواقع يشهد بذلك، فكم فضح الله حقيقة أولئك الذين آذوا إخوانهم بألسنتهم؛ حتى عرفهم الناس وانكشف أمرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 النتيجة الثالثة: تجنب الناس له اتقاء فحشه أيضاً من النتائج لإطلاق العنان للسان: أنه يعد من شرار الناس، فيتجنبه الناس ويحذرونه اتقاء فحشه؛ وإن ضحكوا له وجاملوه. هذه حقيقة نشاهدها في مجالسنا كثيراً: أن من أطلق للسانه العنان يعد من شرار الناس، فلذلك تجد أن الناس يتجنبونه، ويحرصون على الابتعاد عنه اتقاء فحشه، وإن جلس معهم في مجالسهم وإن ضحكوا وإن جاملوه؛ فإنما اتقاءً لفحشه. ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (شر الناس منزلةً عند الله يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء شره) والحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 النتيجة الرابعة: البلاء موكل بالقول رابعاً من النتائج أيضاً وهي أخيرة باختصار شديد: البلاء موكل بالقول، فيبلى المتكلم بما كان يذكره في أخيه. واحذر أيها الأخ الحبيب! واحذري أيتها المسلمة! احذري أن تظهر الشماتة بأخ أو بأخت لك فيعافيها الله عز وجل ثم يبتليك بما كان فيها، فالبلاء موكل بالقول. فعن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك) والحديث أخرجه الترمذي في سننه وقال: حسن. وقال إبراهيم التيمي: [إني أجد نفسي تحدثني بالشيء، فما يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أبتلى به] والأثر عند وكيع في الزهد. وقال ابن مسعود: [البلاء موكل بالقول، ولو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً] . هذه نتائج أربع باختصار من نتائج إطلاق العنان للسان. وأخيراً! أقول: أيها المسلم! ويا أيتها المسلمة! في نهاية المطاف: هذه شذرات حول اللسان، حسبي أني اجتهدت فيها، فما كان فيها من صواب فمن الله عز وجل، وما كان فيها من خطأ فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأسأل الله عز وجل أن يصفح وأن يعفو عن هذا الخطأ وعن هذا التقصير. أظن أن الجميع بحاجة ماسة للتذكير فيها، فالعاقل يحرص، والغافل يتذكر، والمبتلى يحذر. فيا أيها السامع! كن المستفيد الأول، يا أيها السامع لهذه الكلمات! كن أنت المستفيد الأول من هذه الكلمات، ثم اعلم أنك تجالس كثيراً من الناس من أحبابك وخلانك وأصدقائك، ولا تخلو المجالس من غثاء قل أو كثر، فمن حقهم عليك أن يسمعوا مثل هذا الكلام، ومن حقهم عليك أن يذكروا بمثل هذه الآيات، وهذه الأحاديث، فإن القلب يغفل وإن النفس تسلو، فما أكثر الاستراحات الآن، وما أكثر الجلسات وما أكثر المنتديات، فاسمع وأسمع، فلمثل هذا كان الموضوع، فاسمع وأسمع، واستفد وأفد، والدال على الخير كفاعله. أسأل الله عز وجل أن يجعله خالصاً لوجهه وأن ينفع به الجميع، ووفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه. اللهم وفقنا يا أرحم الراحمين لما تحبه وترضاه، اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعيننا من الخيانة وألسنتنا من الكذب والمراء والجدال، اللهم طهر ألسنتنا من الغيبة والنميمة، وجنبنا الوقوع في الأعراض، اللهم جنبنا الوقوع في الأعراض، اللهم اجعل ألسنتنا حرباً على أعدائك سلماً لأوليائك. اللهم إنا نسألك سكينةً في النفس وانشراحاً في الصدر، اللهم اجعلنا من الصالحين المصلحين، اللهم انفعنا وانفع بنا، اللهم اجعلنا من الصالحين المصلحين ومن جندك المخلصين، وانصر بنا الدين واجعل لنا لسان صدق في الآخرين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك اللهم ونتوب إليك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 المفتاح تحدث الشيخ حفظه الله عن الإخلاص، مبيناً أنه ركن العمل وأساسه، وأنه قرين المتابعة في اشتراطهما لصلاح العمل وقبوله، وتحقيق هذين الأصلين إنما يكون بالتزام الشرع، وذلك بفعل الأوامر واجتناب النواهي، والاقتداء في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويكون أيضاً بالدفاع عن الدين، والوقوف أمام أهل الأهواء والتحذير منهم، وكشف عوارهم وشبهاتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 الأصلان اللذان عليهما مدار الإسلام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، دين الرحمة والعدالة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الإخوة والأخوات! إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. نعم إخوة الإيمان! إن خير الحديث كتاب الله؛ لأنه يهدي للتي هي أقوم، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الطريق المستقيم الموصل إلى الله، وإلى سعادة الدنيا والآخرة، ونحن نردد كل يوم (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) وهما المفتاح، مفتاح دعوة المرسلين، ومفتاح كل الأعمال لرب العالمين، ومفتاح الدخول في الإسلام لكل الراغبين. فشهادة أن لا إله إلا الله توحيد لله، وتجريد للقلب من التأله والتعبد لأحد سوى الله، وهذا هو الإخلاص وهو من أعظم الأصول، وبعده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالاتباع والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والشهادة بأن محمداً رسول الله هو حقيقة إيمان العبد، فلا يتحقق إسلام عبد ولا يُقْبَلُ منه قول ولا عمل ولا اعتقاد إلا إذا حقق هذين الأصلين: الإخلاص والاتباع، وعمل بمقتضاهما؛ يقول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] . يقول ابن تيمية رحمه الله: وبالجملة فعندنا أصلان عظيمان، أحدهما: ألا نعبد إلا الله، والثاني: ألا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة، وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. انتهى كلامه رحمه الله. وسيكون مدار الحديث عليهما: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 الإخلاص هو ركن العمل وأساسه فالأول: الإخلاص: وهو مسك القلوب وعماد الدين، مدار الفلاح كله عليه، أصل من أعظم الأصول، علمه خير علم، وفقهه هو الفقه كله، فيه رضا الرحمن وراحة القلوب ونجاة النفوس وعلو المنزلة في الدنيا والآخرة، وهو ركن العمل وأساسه. والبيت لا يبتنى إلا بأعمدة ولا عماد إذا لم تبن أركان إنه الإخلاص، صدق النية (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) . اسمعها أخي! رددها، تأملها، أعدها، كررها: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) . سبحان الله! لا قيمة للعمل بدون نية، وليس لك إلا ما نويت، فلنتعلم إذاً النية فإنها أبلغ من العمل، لنتعلم النية فإنها تحول العادة إلى عبادة، ولما غابت النية أصبحت العبادة عادةً، جسداً بلا روح، فمن منا إذا أدى العبادة حمل هم قبولها من عدمه؟ قال مالك بن دينار: الخوف على العمل أن لا يقبل أشد من العمل. فراجع حالك، واسأل نفسك أخي! كم هي الأعمال التي مضت؟ كم منها خلصت وصفت من أعمالنا، وأقوالنا، ووظائفنا؟ هل هي لله؟ أم للناس؟ أم للدنيا؟ كم هي الساعات التي نقضيها كل يوم في وظائفنا؟! كم هي الأعمال التي ننجزها كل يوم؟ كم هي الكلمات التي نتلفظ بها كل يوم؟ ليس لك منها إلا ما نويت شئت أم أبيت. إنك تستطيع يا عبد الله! أن تجعل حياتك كلها لله، نعم. تستطيع أن تجعل ساعات العمل والوظيفة عبادةً تؤجر عليها، تستطيع أن تجعل ابتسامتك وبيعك وشراءك وإطعامك لزوجك وأولادك صدقة تكتب لك، ونهر حسنات يصب في سجلاتك. الله أكبر! ما أحلاها وما أعظمها من نعمة، قال زبيد بن الحارث: أحب أن يكون لي في كل شيء نية، حتى في طعامي وشرابي. إنها السعادة الحقة، جنة الدنيا، فلله ما أروع الإخلاص لله في كل شيء، وفي كل صغيرة وكبيرة، ودقيقة وجليلة {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162-163] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 الإخلاص والمتابعة أساسا قبول الأعمال أيها الإخوة! لقد أخلص الأوائل من -سلف هذه الأمة- فكان نومهم وطعامهم وشرابهم عبادة، نرى ذلك بركةً في أعمالهم، ونوراً في أقوالهم، وقبولاً لمصنفاتهم وكلامهم. سبحان الله! أحياء بأعمالهم وأقوالهم، أموات بأجسادهم، إنه الإخلاص الذي من أجله خلقت أنت أيها الإنسان! {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:1-2] . قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: لنراجع أنفسنا أيها الإخوة! لنقف هذه اللحظات وقفات مع أنفسنا، ولنسأل أنفسنا، هل كل عمل نعمله لله وكما جاء عن رسول الله؟ فإننا نقرأ في كتاب الله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] . فيا عجباً! يا عجباً من أهل الرياء على عمل يبهرجوه وربك يعلم ما تكن صدورهم! يا عجباً لمن يعمل لمخلوقين مثله ضعفاء! هب أن الناس مدحوك وأثنوا عليك ورفعوك وقالوا فيك وقدموك، فإن لم تكن عند الله كذلك فأنت والله صعلوك، أنت أعلم الناس بنفسك فلا يغروك. أيها العقلاء! إنه الرياء، هباء في هباء {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] فقولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى، يوم يقول الغني عنا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك به وأنا منه بريء) كما في صحيح مسلم. وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] قال: كانوا قد عملوا أعمالاً كانوا يرونها في الدنيا حسنات، بدت لهم يوم القيامة سيئات. وقال الثوري على هذه الآية: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم {وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] . لا إله إلا الله! كم نتزين للناس بأشكالنا؟ كم نظهر لهم أعمالنا؟ كم تعجبنا أنفسنا وأقوالنا؟ والله وحده أعلم بسرائرنا وبواطننا، إن الله لا ينظر إلى أجسامنا ولا إلى صورنا ولا إلى أموالنا، ولكن ينظر إلى أعمالنا وقلوبنا، فآه لقلوبنا! وآه لأعمالنا! فإذا كان أول ثلاثة تسعر بهم النار: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدق بماله، الذين فعلوا ذلك ليقال: فلان قارئ، فلان شجاع، فلان متصدق، ولم تكن أعمالهم خالصةً لله، فكيف بمن دونهم؟ كيف بنا ونحن ننتظر ثناء الناس لنا؟ كيف بنا ونحن نطلب الثمن ربما لأعمالنا؟ كيف بنا ونحن نغضب لذكر عيوبنا؟ كيف بنا ونحن نقدم أهواءنا وحظوظنا؟ كيف بنا ونحن نتزين للناس بما ليس عندنا؟ قال الفضيل: كانوا يراءون بما يعملون، وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون. فإنا لله وإنا إليه راجعون! إنه الشرك الخفي الذي هو أخطر ما يكون على الأمة، فما أعظم خطره وما أخوفه خاصةً على الصالحين والصالحات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه) رواه أحمد وابن ماجة وحسنه الألباني. إخوة الإيمان! رياء المرائين صير مسجد الضرار مزبلة وخربة {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} [التوبة:108] ، وإخلاص المخلصين رفع قدر التفث والشعث (رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره) . أخي! قلب من ترائيه بيد من أعرضت عنه، ليصرفه عنك إلى غيرك، فلا على ثواب المخلصين حصلت، ولا إلى ما قصدته بالرياء وصلت، وفات الأجر والمدح. فقولوا للواقفين بغير باب الله: يا طول هوانكم، وقولوا للمؤملين لغير فضل الله: يا خيبة آمالكم، قولوا للعاملين لغير وجه الله: يا ضيعة أعمالكم. لا إله إلا الله! كم بذل نفسه مراء ليمدحه الخلق، فذهبت نفسه فانقلب المدح ذماً، ولو بذلها لله بقيت ما بقي الدهر. اعلم أخي! أن رضا الناس غير مقدور، وتحصيله غير مطلوب، ومن ذا الذي يقدر على إرضاء الناس: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ، فاركن إلى الواحد الجبار واحرص على رضا العزيز الغفار. وإياك إياك! أن تلتفت لأهل الأطمار، أيسرك أخي يوم القيامة أن يقال لك: اذهب فخذ أجرك ممن عملت له، لا أجر لك عندنا. نعم. فالعمل صورة، والإخلاص روح، انتبه أخي! إن لم تخلص فلا تتعب، فشجرة الإخلاص أصلها ثابت، وأما شجرة الرياء فإنها تجتث عند نسمة من كان يعبد شيئاً فليتبعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 حال سلفنا الصالح مع الإخلاص أيها الإخوة والأخوات! اسمعوا شيئاً من حال -سلفنا الصالح- لعل أن يكون في ذلك يقظة لقلوبنا من غفلتها ودعوةً إلى الصدق والإخلاص. قال الربيع بن خثيم: [كل ما لا يراد به وجه الله يضمحل] . ووصى الإمام أحمد ابنه قائلاً: يا بني، انوِ الخير فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير. نعم. يا أخي! انوِ الخير فإنك بخير ما نويت الخير. وقال أيوب السختياني: والله ما صدق عبد إلا سره ألا يشعر بمكانه. سأل رجل شقيق بن إبراهيم: إن الناس يسمونني صالحاً، فكيف أعلم أني صالح أو غير صالح؟! فقال شقيق: أظهر سرك عند الصالحين، فإن رضوا به فاعلم أنك صالح وإلا فلا. أي: أحسن ما بينك وبين الله من أسرار، وإلا فالمؤمن مطالب بالستر على نفسه. وكان محمد بن يوسف الأصبهاني لا يشتري زاده من خباز واحد، ويقول: لعلهم يعرفونني فيحابونني، فأكون ممن يعيش بدينه. وقالت سرية الربيع بن خيثم: كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل، وقد نشر المصحف، فيغطيه بثوبه. وكان إبراهيم النخعي إذا قرأ في المصحف فدخل داخلٌ غطاه. وقال الشافعي: وددت أن الخلق تعلموا هذا على ألا ينسب إليَّ حرف منه. وكان ابن المبارك رحمه الله يضع اللثام على وجهه عند الغزو، قال عبدة بن سليمان: فأخذت بطرفه فمددته، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا-أي يفضحنا-. ودخل ابن محيريز حانوتاً بـ دانق وهو يريد أن يشتري ثوباً، فقال رجل لصاحب الحانوت: هذا ابن محيريز فأحسن بيعه، فغضب ابن محيريز وخرج، وقال: إنما نشتري بأموالنا لسنا نشتري بديننا. وقال خلف بن تميم: رأيت سفيان الثوري بـ مكة، وقد أكثر عليه أصحاب الحديث، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أخاف أن يكون الله ضيع هذه الأمة حيث احتيج إلى مثلي. وقال الإمام أحمد: كان سفيان الثوري إذا قيل له: رؤي في المنام، يقول: خل عنك أنا أعرف بنفسي من أصحاب المنامات. وقال له رجل: رأيت كأنك في الجنة، فقال له: ويحك! أما وجد الشيطان أحداً يسخر به غيري وغيرك؟. وإبراهيم النخعي كان يقول: [تكلمت، ولو وجدت بداً ما تكلمت، فإن زماناً أكون فيه فقيه الكوفة لزمان سوء] . وقال الحسن البصري: [إن الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام] . وقال محمد بن واسع: [لو كان يوجد للذنوب ريحٌ ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي] . ويقول أيضاً: [لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة؛ قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه] . أما حسان بن أبي سنان، فتقول عنه زوجته: كان يجيء فيدخل في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج، ثم يقوم يصلي. وهذا زين العابدين علي بن الحسين رحمه الله، كان يحمل جرابَ الخبز على ظهره في آخر الليل فيتصدق به ويقول: [إن صدقة السر تطفىء غضب الرب عز وجل] . وكان أهل المدينة يقولون: [ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين] . وعمرو بن قيس الملائي أقام عشرين سنةً صائماً ما يعلم به أهله، يأخذ غداءه ويغدو إلى الحانوت فيتصدق بغدائه، ويصوم وأهله لا يدرون، وكان إذا حضرته الرقة -أي: البكاء- يحول وجهه إلى الحائط، ويقول لجلسائه: ما أشد الزكام. سبحان الله! بدم المحب يباع وصلهم فمن الذي يبتاع بالثمن؟ والقصد أيها الإخوة! القصد بيان صور من حرصهم رحمهم الله على خلوص الأعمال مهما كانت، وليس معنى هذا -تنبهوا! - ليس معنى هذا أن الإخلاص صعبُ المنال، بل هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولذا فأمره سهل ميسور على من يسره الله عليه، وجدّ في طلبه، وجاهد نفسه من أجله، فعلى العبد فقط أن يكون مراده بجميع أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة ابتغاء وجه الله تعالى، كما قال تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:19-20] وقال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] وقال الحق عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] ويقول عز وجل: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:11-15]-نعوذ بالله من الخسران-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 الإخلاص هو المعيار والمقياس لتمييز الأعمال الإخلاص لله هو معيار باطن الأعمال الدقيق، ومقياسها الصادق الذي يميز طيبها من خبيثها، وصحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها، ونافعها من ضارها: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] . ولما غاب الإخلاص في حياة الكثير من الناس اليوم، ظهر الشرك والرياء والمراءاة والشهرة، بل الغش والخداع والاحتيال والكذب، والتزلف والتلون، والعجب والكبر، والغرور والمداهنة والنفاق -نعوذ بالله من سيئ الأخلاق-. أيها الإخوة! أين النفوس التي تشتكي قسوة القلوب؟ أين القلوب التي تعلقت بالمخلوقين؟ أين القلوب المريضة التي امتلأت حسداً وانتقاماً؟ عليكم بالإخلاص فإنه شفاء لأدواء القلوب كلها، أي والله! فقلب ذاق الإخلاص لا يعرف الغل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم، وذكر منها: إخلاص العمل لله) . يا طلاب العلم! أيها الدعاة! أيها المعلمون والمعلمات! يا كل العاملين والعاملات! أخلصوا لله وسيروا على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واصدقوا وابذلوا النصح وتناصحوا وتسامحوا وليعذر بعضكم بعضاً، ثم لا يضركم بعد ذلك من خالفكم، أو تعرض لكم من الجراحين الذين لا يضعون إلا على الجروح، بل لا يغركم إن لم يستجب لكم. نعم. اتهموا أنفسكم، وراجعوا إخلاصكم، فأن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة وليس معه أحد؛ المهم أحسنوا البلاغ واصبروا، وحسبكم أن الله يراكم ويعلم ما في نفوسكم، ورددوا {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] . يقول ابن القيم في إغاثة اللهفان: (فإن في القلب فاقةً لا يسدها شيء سوى الله، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده) إلى أن قال: فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها وتصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين إلى آخر كلامه - نسأل الله الكريم من فضله-. إخوة الإيمان! رجلان بجوار بعضهما، يصليان صلاة واحدة، وخلف إمام واحد، وبينهما كما بين الأرض والسماء. فلا إله إلا الله! كم من عمل صغير تكبره النية، وكم تبلغ مجرد النية بأصحابها ولو لم يعملوا (إن ب المدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر) وفي رواية: (إلا شركوكم في الأجر) كما في الصحيحين. وهذا والله هو الفضل أن تثق بنيتك، أن تنوي الخير وتسبق بنيتك، فلا تحرم نفسك هذا الفضل العظيم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال بها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنه انقطع طيلها فاستنت شرفاً أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي كان ذلك حسنات له فهي لذلك أجر، ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر، ورجل ربطها فخراً ورياء ونواءً لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر) كما في الصحيحين. الله أكبر! الخيل دابة لهؤلاء الثلاثة، ولكن النية هي التي جعلت أحدهم يربطها فيؤجر، والآخر يربطها فيأثم، والآخر يربطها فلا يؤجر ولا يأثم. قال معاذ رضي الله عنه: (يا رسول الله! أوصني، قال صلى الله عليه وسلم: أخلص دينك يكفك القليل من العمل) . نعم. فلم يسبق من سبق بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما بشيء وقر في قلوبهم، فلنفتش عنه في قلوبنا لنذوق طعم السعادة، جنة الدنيا، فإن في الدنيا جنةً من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة -نسأل الله الكريم من فضله-. نعم معاشر الإخوة! كم نغفل عن أعمال القلوب!! وهي الأصل، وأعمال الجوارح تبع ومكملة، وإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد من الأعضاء، الذي إذا فارق الروح فموات، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، بل هي آكد وأرجح، وهل يميز المؤمن من المنافق إلا بما في قلب كل منهما؟!! إنه الإخلاص رفع الله به قوماً، ووضع بتركه آخرين، فوصيتي لنفسي ولك أخي: أخلص الأعمال لله، واصدق في الأقوال من أجل الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 أهم الوسائل المعينة على تحقيق الإخلاص اعلم أن من أعظم الوسائل المعينة على تحقيق الإخلاص، أولاً: أن تعرف ما هو الإخلاص؟ وكيف تريد أن تصل لشيء لا تعرفه؟! فكم نتحدث عن الإخلاص ونسأل الله الإخلاص، ونحن قد لا نعرف ما هو الإخلاص؟ والإخلاص: أن يكون العمل لله لا ترى فيه نفسك ولا حظوظها، ولا ترى فيه الخلق؛ وقيل الإخلاص هو: الخلاص عن رؤية الأشخاص. وعلامة الإخلاص: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن -ليس إخفاء العمل- وأما الرياء: أن يكون ظاهره خيراً من باطنه، أما إن كان الباطن أعمر من الظاهر فهذا صدق الإخلاص -نسأل الله الكريم من فضله-. فاحفظ هذه العلامات فإنها ميزان تزن فيه نفسك، ولقد كان الكثير من -السلف- رضوان الله تعالى عليهم يخاف على نفسه من النفاق، قال ابن أبي مليكة: [أدركت ثلاثين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف على نفسه من النفاق] وليس معنى الحديث عن الإخلاص -تنبه يا أخي! وتنبهي يا أمة الله- أن تعذب نفسك بكثرة الوساوس والهواجس، وهل أنت مخلص أم مُرَاءٍ، فتنبه؛ فإن الإفراط في هذا الباب فيه مداخل للشيطان، كم زلت به الأقدام، واختلطت فيه الأفهام، وهلك فيه أقوام. يقول النووي رحمه الله: ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس، والاحتراز من ظنونهم الباطلة، لانسد عليه أكثر أبواب الخير، وضيع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمات الدين، وليس هذا طريق العارفين. انتهى كلامه رحمه الله. وصدق، كم من الناس يحرمون أنفسهم من الأعمال بحجة: نخشى أن نقع في الرياء يتركون الكثير من الأعمال بحجة أن هذا العمل رياء، أو نخشى من الرياء، أو نخاف من الرياء، وهذا مدخل من مداخل الشيطان، إذ ليس علاج الرياء ترك العمل، وإنما تصحيح النية وزيادة العمل، فتنبه، إلا أن يكون الرياء في أصل العمل، أو في عمل يرتبط آخره بأوله ففي هذا تفصيل ذكره أهل العلم. ثانياً: معرفة الله وعظمته وقدرته وفضله {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21] فهل ينظر للخلق من عرف الله بحق؟! لا. وإنما تعرّف على الله حق المعرفة، لك أن تتصور عظمة الله؛ لأنه هو المستحق وحده للعبادة جل وعلا. ثالثاً: معرفة النفس، وأنها جاهلة ظالمة طبعها الكسل وحب الشهوات، وحب التصدر والظهور، ورحم الله رجلاً لم يغره كثرة ما يرى من الناس، ابن آدم إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك،وتحاسب وحدك، -فتنبه- فلا يغرك الناس فأنت أعلم الناس بنفسك، فجاهد النفس، اعرف عيوبها، وتقصيرها. نعم. أنت أعرف الناس بنفسك، لا يغرك الناس بثنائهم عليك، ولا بمدحهم لك، فهم لا يرون منك إلا الظاهر، فاتق الله تعالى في الباطن، اتهم النفس على الدوام، فآفة العبد رضاه عن نفسه، وقد قيل: من شهد في إخلاصه الإخلاص، احتاج إخلاصه إلى إخلاص. وقيل لـ سهل: أي شيء أشد على النفس، فقال: الإخلاص لأنه ليس له فيه نصيب. وقال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه يمقت على لون آخر. إذاً فالقضية تحتاج إلى مجاهدة، لا تتصور أنك تصل إلى الإخلاص وتثبت على هذا الأمر، إنما يحتاج القلب إلى معالجة، تحتاج النفس إلى مجاهدة مستمرة، فتنبه لنفسك وقلبك. وقال الثوري رحمه الله: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي، إنها تتقلب علي. وعلى كلٍ أخلص في مجاهدة النفس تجد عجباً وانشراحاً، فإن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] . رابعاً: اعلم أنك عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضاً ولا أجراً، إذ هو يخدمه بمقتضى عبوديته، فما يناله من سيده من الأجر والثواب، فهو تفضل منه وإحسان إليه، وإنعام منه لا معاوضة، فكل خير في العبد هو من فضل الله ومنته وإحسانه ونعمته، فهل للعبد أن يرى عمله بعد هذا؟ لا والله. خامساً: أنت مخلوق ضعيف، {خُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] فأكثر من الاستعانة بالله، وألح عليه بالدعاء أن يرزقك الإخلاص قبل العمل، وأثناء العمل وبعد العمل، واستعذ بالله من شر نفسك ومن الرياء، فكما قال صلى الله عليه وسلم: (الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره، تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 أمور يجب التنبيه عليها في مسألة الإخلاص إخفاء الأعمال علامة على الإخلاص لكنه ليس شرطاً للإخلاص، المهم ألا تقصد نظر الناس إليك، ولا يهمك نظرهم وقولهم، فالإخلاص استواء الظاهر والباطن -كما تقدم-، بل ربما كان إظهار العمل خير من إخفائه، كمن سن سنةً حسنةً، والله تعالى يقول: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] . وأيضاً: ليس من الرياء نشاط العبد للخير عند مجالسة الصالحين، فإن مجالستهم تبعث على النشاط وعلو الهمة، فليكن عملك لله وليس لهم وإن كانوا سبباً في تشجيعك للعمل. لكن احذر الكسل على الدوام، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [للمرائي علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذم به] . ومنها -أيضاً- من الأمور التي يجب التنبه عليها: ثناء الناس ومدحهم لا ينافي الإخلاص، بل قد يكون عاجل بشرى المؤمن، كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، لكن إياك أن يكون العمل طلباً للثناء، أو حتى انتظار الثناء من المخلوقين، أو أن تغتر بالثناء، فالمخلص يفر من الشهرة، ولكن الله يضع له القبول في الأرض فيسر العبد بفضل الله، وأما المرائي فيركب الصعب والذلول ليحظى بالقبول، لكن هيهات هيهات! قال ابن رجب: (وهنا نكتة دقيقة، وهي أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس، يريد بذلك أن يُري الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء، وقد نبّه عليه -السلف الصالح-. قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: [كفى بالنفس إطراءً أن تذمها على الملأ كأنك تريد بذمها زينتها، وذلك عند الله سفح] انتهى كلامه. ومنها أيضاً: أنه ليس معنى الإخلاص أنك لا تذنب ولا تخطئ. تنبهوا أيها الإخوة لهذه المسألة! ليس معنى الإخلاص أنك لا تذنب ولا تخطئ، فكل بني آدم خطاء. من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط ولكن أن يستوي الظاهر والباطن، وتجاهد نفسك لترضي الله، فيكون لك عمل صالح بالسر، كما كان لك ذنب بالسر، وأن تتوب وتستغفر سراً، كما عصيت وأذنبت سراً، أو تكتم حسناتك كما كتمت سيئاتك. لكن المصيبة أن تظهر الخير وتبطن الشر، ومصيبة المصائب من يظهر الشر ويجاهر بالمعصية، ويمتنع عن الخير بحجة الهروب من النفاق، كمن يعمل السوء ويحلق لحيته حتى لا يظن الناس فيه خيراً، فيكون منافقاً زعم، وهذا من الفقه الذي فتح به إبليس على المفاليس، فإن كتمان الذنوب أمر مندوب (وكل أمتي معافى إلا المجاهرون) . وكما قال الفضيل بن عياض: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما نسأل الله أن يعافينا وإياكم منهما. ومن علامات عدم الإخلاص: أن يميل حيث مال هواه. فاحذر الهوى أخي الحبيب! وأن يتشبث بالمنصب والرئاسة، وأن يستعبده الدرهم والدينار. قال ابن القيم رحمه الله: وقد جرت عادة الله التي لا تبدل وسنته التي لا تتحول، أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق، وإقبال قلوبهم إليه بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويلبس المرائي اللابس ثوب الزور من المقت والمهانة والبغضة ما هو اللائق به. انتهى كلامه. والمؤمن من جمع بين الإحسان وسوء الظن بالنفس، والمغرور من جمع بين الإساءة وحسن الظن بالنفس، ولا يجتمع الإخلاص والغرور، فالغرور قتّال وكذا حب الشهرة والظهور فهو يقصم الظهور. واسمع لهذا الكلام النفيس لـ ابن القيم وتأمله جيداً، يقول رحمه الله: لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص؛ فإن قلت: وما الذي يسهل عليّ ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك، علمك يقيناً أنه ليس من شيء يطمع فيه، إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه، وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس هناك أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده إلى آخر كلامه رحمه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 ميزان الإخلاص والمتابعة وضرورة ملازمتهما أيها الإخوة! اعلموا أن الإخلاص هو ميزان أعمال القلوب، التي لا يطلع عليها إلا علام الغيوب، ويقابله الشرك الأصغر أو الأكبر، والمتابعة هي ميزان أقوال اللسان وأعمال الجوارح الظاهرة، ويقابلها المعصية أو البدعة، والناس شهداء الله في أرضه، وإنما يشهدون للإنسان أو عليه، بما يرون من أعماله ويسمعون من أقواله، والغالب أنهم لا تتفق شهادتهم وثناؤهم للإنسان أو عليه، خاصةً بعد موته إلا وهو كذلك، وفي الحديث: (من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) كما في المسند عند أحمد. فلازموا الإخلاص لربكم، والمتابعة لنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في أقوالكم وأعمالكم ونياتكم، فكل عمل أو قول مما شرع الله لا يراد به وجه الله فهو باطل، لا ثواب له عليه في الآخرة وإن أدرك شيئاً من حطام الدنيا، كما يقول الحق عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] ، ويقول تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:18-19] ويقول تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20] . وعن أنس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راض) اللهم ارض عنا، واغفر لنا وارحمنا، نسأل الله أن يتوفانا على الإخلاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 المتابعة هي أساس دين الإسلام إخوة الإسلام! أما متابعة النبي عليه الصلاة والسلام فهي أساس دين الإسلام، تواترت النصوص الشرعية فيه من السنة والقرآن، وآثار الأئمة الأعلام، ومع ذلك فقد اضطربت فيه أفهام وزلت أقدام، فلا بد إذاً من البيان والإسهام. ولو تأملنا حياتنا، الأقوال والأعمال والعبادات والمعاملات، ومدى اتباعنا لمنهج الحبيب صلى الله عليه وسلم فيها؛ لرأينا التقصير الواضح والغفلة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أصبح المتمسك بالسنة اليوم غريباً، قال صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم زمان صبر، للمتمسك فيه أجر خمسين شهيداً منكم) كما في الطبراني في الكبير وصححه الألباني. بل هاهو العالم يموج بالبدع والمستجدات، والتي تهدم الدين عروةً عروةً، قال عبد الله الديلمي: إن أول ذهاب الدين ترك السنة، يذهب الدين سُنةً سُنةً كما يذهب الحبل قوةً قوةً. وكم هي السنن التي تذهب اليوم تركها الناس، بل ربما استهزئ بأصحابها، حتى كثرت الأقوال والشبهات، والجرأة على الأحاديث والآيات، والقيل والقال في الحلال والحرام، فوقع الناس في حيرة وتردد، وضياع وتخبط، وهذا مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن هذا فقال: (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) فما هو الحل؟ (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) والحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة. فالله الله بسنة نبيكم والعض عليها بالنواجذ، والتمسك بها قولاً وعملاً واتباع منهجه صلى الله عليه وسلم، ففي الاعتصام بالسنة نجاة وأي نجاة، خاصةً في زمن الفتن والهلكات وكثرة القيل والشبهات. وكما قال أبو القاسم الأصبهاني: ليس لنا مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر شيء إلا الاتباع والتسليم، ولا يُعرض على قياس ولا غيره، وكل ما سواها من كلام الآدميين تبعٌ لها، ولا عذر لأحد يتعمد ترك السنة ويذهب إلى غيرها، لأنه لا حجة لقول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح إلى آخر كلامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 حقيقة الاتباع أيها الإخوة! ديننا دين الإسلام مبني على الوحي والنقل الصحيح، فما جاءنا من أمر ونهي في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجب علينا قبوله والمبادرة إلى امتثاله فعلاً كان أو تركاً. أو ليس الإسلام هو الاستسلام لله والانقياد له؟ يجب إن كنا نردد أننا مسلمون مستسلمون لله منقادون لأوامره وأحكامه، يجب إذاً على كل مسلم ومسلمة ألا يقدم على شيء من شئون حياته، إلا ويسأل أهو موافق لأمر دينه أم لا؟ هذا لا بد منه، لابد أن نحيي هذا بيننا أيها الإخوة، كلما أردت أن تقدم على أمر، اسأل هل هذا موافق لدين الله أم لا؟ وهذه حقيقة الاتباع، فالإسلام دين التمام والكمال، فكل ما يحتاجه الناس في أصول الدين وفروعه، وفي أمور الدنيا والآخرة جاءت الشريعة ببيانه وإيضاحه، كما أخبر الله تعالى فقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89] ، وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فهل يصح بعد هذا أن يُترك المجال للهوى أو للعقل والفكر ليتخبط في التشريع ورسم طريق الأمة؟ ثم هب أنه كان ذلك، فأي عقل سنستجيب له؟! وأين ذلك العقل الذي سلم من الهوى وحظوظ النفس، فضلاً عن فساده وضلاله؟! ثم لو سلمنا بسلامة تلك العقول ونصحها وحبها الخير للناس، فهل ستتفق العقول كلها على منهج وطريق واحد؟! {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22] . إذاً: فنحن نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ومع ذلك لا ندعو لتهميش العقل أو الحجر عليه، أو الجمود وعدم التفكير والإبداع، كما يقول المهوشون المشوشون؛ بل لك ذلك كله، فقد كرم الله الإنسان وفضله بالعقل، وامتدح في كتابه ذوي الألباب فقال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:19] وقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] . لكن بضوابط نصوص الوحيين التي هي من الخالق لكل شيء، ومن مخلوقاته العقل. فهل يعترض العقل على خالق من بعض مخلوقاته العقل ولا معارضة أبداً بين العقل السليم والنقل الصحيح، -انتبهوا- لا معارضة أبداً بين العقل السليم والنقل الصحيح، وما لا يفهمه العقل مما صح فلا ينسف ويرد أو يعطل أو يحد، بل يجب فيه التسليم والخضوع، فللعقل حدود وللشرع حمى وسدود؛ ولكن بعض الناس تعدوا الحدود وحطموا السدود، فلم يبقوا العقل في المكانة التي وضعه الله تعالى فيها، بل زلوا فيه على صنفين: 1/ صنف عطله ولم يقم له وزناً، فعبدوا الأشجار والأحجار والأوثان. 2/ وصنف بالغ فيه وجعله مصدراً للتشريع وقدّمه على النقل الصحيح، غفل هؤلاء عن أن للعقول حدوداً تنتهي في الإدراك إليها، وأن الله تعالى لم يجعل لها سبيلاً إلى إدراك كل شيء، كما غفل أولئك أن الله حافظ دينه، وعاصم نبيه من الزلل والانحراف في تبليغ دينه، والله تعالى أمرنا بالتسليم لحكمه، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً مطلقاً، لا بمحاكمة النصوص إلى العقول قبل التسليم بها كما قال تعالى -وتنبهوا لهذه الآية التي يغفل الكثير من المسلمين عنها لما يقدم الهوى على قال الله وقال رسوله-: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] لا يوجد في أنفسهم حرج، لا يوجد في أنفسهم تردد لقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أحسن كلام ابن أبي العز الحنفي حين شرح قول الطحاوي: ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، يقول: أي: لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين وينقاد إليها، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه. فاعلم يا من رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً! أن الاتباع شرط لقبول العبادات، فالأعمال التي تعمل بلا اتباع وتأسٍ لا تزيد عاملها من الله إلا بعداً، وذلك لأن الله تعالى إنما يعبد بأمره الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم لا بالآراء والأهواء؛ قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) مردود عليه. وقال الحسن البصري: [لا يصح القول إلا بعمل، ولا يصح قول وعمل إلا بنية، ولا يصح قول وعمل ونية إلا بالسنة] . أيها النبلاء! شتان بين عقول العقلاء وبين عقول أصحاب الأهواء -فتنبهوا- فليس من المعقول أن نتذاكى على النصوص، ونلوي أعناقها، ونستولد منها الأحكام قصراً؛ بحجة أن العصر تغير، وأن الزمن تطور، فإن لم يحتمل المعنى عمليةً قيصريةً، واستعصت النصوص على عقولهم وتأويلاتهم الباطلة فهي ضعيفة الإسناد، فإن سلم الإسناد فهي ضعيفة لمعناها، وهكذا لم يسلم من الأحاديث إلا ما وافق أهواءهم. يا سبحان الله! عجباً لدين لا ثوابت فيه! أي دين هذا؟! وأي عقيدة تلك التي تميل مع الشهوات وتتغير مع المتغيرات؟! ثم هل نحن أكثر فقهاً وفهماً للأحاديث من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تنزل عليهم القرآن، وعاشوا بين ظهراني نبي الإسلام، وشهدت لهم السنة والقرآن بأنهم خير القرون؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 تعظيم السلف الصالح لسنة النبي صلى الله عليه وسلم اسمعوا أيها الإخوة والأخوات! كيف كان تعظيمهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحترامها والأخذ بها والعمل بمقتضاها. فهذا أبو بكر الصديق أفضل هذه الأمة بعد نبيها يقول: [لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، وإني لأخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ] . قال ابن بطة: هذا يا إخواني الصديق يتخوف على نفسه من الزيغ، إن هو خالف شيئاً من أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، فماذا عسى أن يكون من زمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وأوامره، ويتباهون بمخالفته ويسخرون بسنته؟ هذا في زمانه، في زمان ابن بطة، فماذا نقول نحن أيضاً في زماننا والله المستعان! نسأل الله عصمةً من الزلل ونجاةً من سوء العمل. لقد استلم عمر الحجر الأسود وقال: [والله إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك] كما في صحيح مسلم. وقال علي بن أبي طالب: [لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخفين أحق بالمسح من ظاهرهما، ولكن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهرهما] . وحدث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم، فقال ابنه بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن، قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً سيئاً ما سمعته سبه مثله، وقال: أخبرك عن رسول الله وتقول: والله لنمنعهن) . ورأى عبد الله بن مغفل رضي الله عنه رجلاً يخذف بالحصى فنهاه وقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، وقال: إنه لا يرد الصيد ولا ينكأ العدو، ولكنه يكسر السن ويفقأ العين، فرآه بعد ذلك يخذف، فقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تخذف؟ والله لا أكلمك أبداً) كما في الصحيحين. وحدث ابن سيرين رجلاً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: [قال فلان كذا، -يعني: كأنه معترض عن الحديث بقول فلان- فقال ابن سيرين: أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول قال: فلان وفلان كذا وكذا! والله لا أكلمك أبداً] . وقال أبو حنيفة: إذا صح الحديث فهو مذهبي، ولا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه. وقال مالك: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه. وقال أيضاً: السنة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. وقال الشافعي: كل ما قلت وكان قول رسول صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى ولا تقلدوني. وروى أبو نُعيم في الحلية عن الشافعي رحمه الله: أنه أتاه رجل فسأله عن مسألة فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، فقال الرجل للشافعي: ما تقول أنت؟ فقال الشافعي رحمه الله: سبحان الله! أتراني في كنيسة؟ تراني في بيعة؟ تراني على وسطي زناراً؟ أقول: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وأنت تقول لي: ما تقول أنت؟. وقال أحمد بن حنبل: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذوا من حيث أخذوا. وقال الأوزاعي رحمه الله تعالى: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول. وقال أيضاً: إذا بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فإياك أن تقول بغيره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبلغاً عن الله تعالى. معاشر الإخوة والأخوات! إذاً فاعلموا أن المتابعة هي الاقتداء والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاعتقادات، والأقوال، والأفعال، والتروك، بعمل مثل عمله على الوجه الذي عمله النبي صلى الله عليه وسلم، من إيجاب أو ندب أو إباحة أو كراهة مع توفر القصد والإرادة في ذلك، إذ المراد باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعه في كل ما جاء به من أوامر ونواه في القرآن والسنة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) . قال عطاء: [طاعة الرسول: اتباع الكتاب والسنة، وضد الاتباع المخالفة أو الابتداع] . وكم هم أولئك الذين اليوم يخالفون سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ويبتدعون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 أقسام أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من حيث الاتباع والتأسي اعلموا أيضاً أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من حيث الاتباع والتأسي تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي: أولاً: الأفعال الجبلية: كالقيام والقعود والشرب والنوم وغير ذلك، وهي نوعان من جهة التأسي والاتباع: نوع جاء النص الخارج عن الفعل بإيجابه أو ندبه، كالأكل باليمين والشرب ثلاثاً وقاعداً والنوم على الشق الأيمن، فهنا يشرع التأسي والاقتداء به في ذلك. ونوع لم يأت نص دال على مشروعيته، وهو باق على الأصل من حيث الإباحة للجميع؛ وذلك لأن الأوصاف التي يطبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطلب بدفعها، ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها. وهذا النوع محل خلاف بين أهل العلم، في مشروعية التأسي والاقتداء به صلى الله عليه وسلم فيه على جهة الندب على قولين: الأول: أن التأسي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا النوع مندوب، وقد كان ابن عمر رضي الله عنه يفعل مثل ذلك، وإن كان قد فعله صلى الله عليه وسلم اتفاقاً ولم يقصده. القول الثاني: أنه لا يشرع التأسي والاقتداء بالنبي في هذا النوع، وهذا قول وفعل جمهور الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم الفاروق وعائشة رضي الله عنهما، ويلحق بالأفعال الجبلية الأفعال التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العرف والعادة كلبس الجبة والعمامة وإطالة الشعر ونحو ذلك، إذ لا تدل على غير الإباحة، إلا إذا ورد دليل على مشروعيتها. ثانياً من الأفعال: الأفعال التي علم أنها من خصائصه صلى الله عليه وسلم: ذكر أهل العلم في باب خصائصه أموراً من المباحات والواجبات والمحرمات، بعضها متفق على حكمه بالنسبة له صلى الله عليه وسلم، وبعضها الآخر فيه خلاف. فمن المباح له -مثلاً- الزيادة على أربع نسوة في النكاح، ومن الواجب عليه: وجوب التهجد وقيام الليل، ومن المحرم عليه: الأكل من الصدقة، فهذه خصائص لا يشاركه فيها أحد ولا يقتدى ويتأسى به فيها. قال الشوكاني: والحق أنه لا يقتدى به صلى الله عليه وسلم فيما صرح لنا بأنه خاص به، كائناً ما كان إلا بشرع يخصنا. ويلحق بهذا ويرجع إليه: ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه دون بعض؛ كشهادة خزيمة وأضحية أبي بردة،كما يلحق به ما خص به صلى الله عليه وسلم أهل بيته رضي الله عنهم كالمنع من أكل الصدقة. ثالثاً من الأفعال: الأفعال التعبدية: وهي المقصودة، وهي الأفعال غير الجبلية وغير الخاصة والتي يقصد بها التشريع، فهذه مطلوب الاقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم فيها، وهي الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] إلا أن صفتها الشرعية تختلف من حيث الإيجاب أو الندب بحسب القرائن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 ظهور البدع ومعارضة أهل الأهواء لشرع الله اعلموا أيها الإخوة! أنه ما ظهرت بدعة وفشت، إلا وأماتت معها سنةً من السنن، لأن الأصل في البدعة أنها لم تظهر إلا بعد ترك سنة، فكانت البدعة كالعلامة الدالة على ترك طريق السنة، فتمسكوا بالسنة واتبعوا ولا تبتدعوا، فإن من المعلوم أن من أهم عوامل النجاح للإنسان: التخطيط والتنظيم، فلا بد أن يكون له خط مرسوم ومنهج معلوم، وإلا فالتخبط والفوضوية والفشل. ولذا فنحن نسمع عن الخطط المستقبلية للأحزاب السياسية والمؤسسات الاقتصادية، وفي كل النواحي الحياتية، لماذا نقبل الخطط المرسومة في كل شيء وينادى بها؟ وإذا أردنا أن نسير على منهج معلوم في ديننا، وهو الذي رسمه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أرجف المرجفون وتنادى المبطلون: رجعيون، متخلفون، ظلاميون، فالمتمسكون بالكتاب والسنة أصحاب ظواهر ليس لهم عقول، وصاحب الآراء والأفكار المتهافتة هو المستنير المقبول. سبحان الله! أي قول هذا؟ صدق الله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] . رويدكم يا هؤلاء! أتريدون أن نقبل إبداعكم المزعوم ومنهجكم المرسوم بعقولكم القاصرة، والتي مهما بلغت فهي عرضة للخطأ والنقص والضعف والهوى؛ ونترك المنهج الرباني الذي أنزله الله من فوق سبع سماوات؟ أتريدون أن نتبع خطاكم ونهجر خطا الحبيب المعصوم صلى الله عليه وسلم؟ {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ} [يونس:32] . أي الطريقين أهدى وأقوم أيها الإخوة؟! هيهات! أين السهى من شمس الضحى؟ وأين الثرى من كوكب الجوزاء؟ فالله تعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] ، وأولئك يقولون: اتبعونا واسمعونا، والله تعالى يقول: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] وهم يقولون: أطيعونا! والله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] وهؤلاء يقولون: إلى العقول! وإلا فما معنى هذا الركام من الزكام، في كثرة المناقشات والمجادلات المتكررة بالأقلام والكلام وعبر وسائل الإعلام، تخبط وتأويل وصرف لمعاني النصوص عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات، ولسان حالهم يقول: كل آية أو حديث تخالف أهواءنا وعقولنا فهو مؤول أو منسوخ. فآه على الدين! يوم ندع من يتكلم في دين الله تعالى، ويتخبط في الأحكام؟ آه على الدين! من ينصر سنة سيد المرسلين؟ من يحمل لواء الدفاع عن سنة المصطفى الأمين؟! من يذب عن حديث الحبيب صلى الله عليه وسلم؟ إنها أمية الدين والجهل بمقاصد الشريعة. نعم. هذا الباب ضيعه الكثير من الناس، الشريعة جاءت لمقاصد، النصوص جاءت لمقاصد، لا بد أن ندور مع هذه المقاصد، {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة:78] . ولسنا ندعي أن الدين حكر على أحد، ولا وقف لفئة دون فئة، ولكن كما قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36] ، فإن بعض الناس ما أن يبلغ شأناً في تخصصه، إلا ويظن أنه يصح له أن يلج في كل شيء، بل إن علوم الشريعة عنده أقصر جدار وأوسع باب، فأسهل شيء على بعضهم أن ينقد نصاً صحيحاً أو يرده إذا خالف عقله، فيتلاعب بالنص وينتهك حرمته ويسيء الظن به. يا عجباً! هكذا تنتقد الأحاديث النبوية ويتجرأ على مواجهتها بالعقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وصف أهل الأهواء والآراء الفاسدة والتحذير من شبهاتهم لقد أحسن ابن القيم رحمه الله تعالى حين وصف أمثال هؤلاء بقوله عن المحاذير التي يقعون فيها قال: المحذور الرابع: تلاعبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها، فلو رأيناهم وهم يلوكونها بأفواههم وقد خلت بها المثلات، وتلاعبت بها أمواج التأويلات، وتقاذفت بها رياح الآراء، واحتوشتها رماح الأهواء، ونادى عليها أهل التأويل في سوق من يزيد، فبذل كل واحد في ثمنها من التأويلات ما يريد. وصدق رحمه الله ماذا لو كان في عصرنا الآن وهو يقرأ ماذا يكتبه بعض أصحاب الأقلام، أو يتحدث به بعض أصحاب الأفهام عبر وسائل الإعلام. ويقول أيضاً رحمه الله: فلا إله إلا الله والله أكبر! كم هدمت بهذه المعاول من معاقل الإيمان، وثلمت بها حصون حقائق السنة والقرآن، وكم أطلقت في نصوص الوحي من لسان كل جاهل أخرس ومنافق أرعن إلى أن قال: فلو رأيت ما يصرف إليه المحرفون أحسن الكلام وأبينه وأفصحه وأحقه بكل هدى وبيان وعلم، من المعاني الباطلة والتأويلات الفاسدة، لكدت تقضي من ذلك عجباً وتتخذ في بطن الأرض سرباً، فتارةً تعجب وتارةً تغضب وتارةً تبكي وتارة تضحك، وتارةً تتوجع لما نزل بالإسلام، وحل بساحة الوحي ممن هم أضل من الأنعام إلى آخر كلامه. فإذا كانت هذه هي شكوى ابن القيم لشطار زمانه، فما الظن بزماننا هذا الذي أصبح المرء يمسي فيه على حال، ويصبح وقد رأى حالاً أخرى أوجع وأبشع، فإلى الله المشتكى وهو المستعان وعليه التكلان. أيها الإخوة! اسمعوها وعوها ورددوها وافهموها: إن دين الإسلام قائم على تسليم العبد المطلق للوحي، فلا يغرنكم من قلّت معرفته بالوحي وتعلق بالشبهات، وأخذ يلبس على الناس الحق بما في قلبه وذهنه من باطل وضلالات، فضل وأضل، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من هذا الصنف فقال فيما ترويه عائشة رضي الله عنها: (فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) . وقال صلى الله عليه وسلم: (سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم) كما في مقدمة مسلم في صحيحه. وتواترت أقاويل أئمة -السلف- في التحذير من الشبهات وأصحابها، فقال عمر: [إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله] . وقال أبو قلابة: [لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تحادثوهم، فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون] . ويقول ابن سيرين محذراً: [إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم] . فانظروا عباد الله! عمن تأخذون دينكم، أمن كتاب الله، وحديث رسول الله، وفهم أولياء الله، ممن قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) ، أم من الفضائيات والمجلات، والكتابات المليئة بالضلالات والشبهات، ممن قال الله فيهم: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8] . سبحان الله! ماذا يريد هؤلاء؟ هل هو الجهل بالإسلام وضعف الإيمان؟ أم الهوى وحب الأتباع والشهرة؟ أم هو الإعجاب بأهل الضلال والفلسفة والكلام؟ أم تعظيم العقل والفكر؟ أو الغرور والكبر؟ نعوذ بالله من الشر كله دقه وجله. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [لا تجالسوا أهل الأهواء، فإن مجالستهم ممرضة للقلب] فكيف بمن يجالسهم الساعات أمام الشاشات، ويقرأ لهم الكتب والمقالات؟ فكيف سيسلم له دينه؟ وكيف سيستجيب لربه وخليله؟ يقول تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50] . وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله) كما في المعجم الكبير للطبراني وحسنه الألباني. وكثير من الناس اليوم أصبح إلهه هواه فكان عبداً للهوى. نعم. أيها الإخوة! اسمعوها جيداً، كثير من الناس اليوم أصبح إلهه هواه فكان عبداً للهوى، فهو لا يأخذ من الدين إلا ما يحب ويترك ما لا يحب، نقول له: قال رسول الله، ويقول: لكنّ فلاناً قال، وما يزال يتتبع قول فلان وفلان حتى لا يبقى له من دينه شيء. سبحان الله! فكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله، كما قال الإمام مالك رحمه الله: وما أكثر هؤلاء، بل إن من الناس من نقول له: قال الله وقال رسوله، ويقول: قال الآباء، أو قال الشيوخ والأمراء! {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104] . ولله در ابن عباس حيث يقول: [أيها الناس! توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟] . وقال عمر بن عبد العزيز: [لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم] . وقال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. شرط قبول السعي أن يجتمع فيه إصابة وإخلاص معا لله رب العرش لا سواه موافق الشرع الذي ارتضاه وكل ما خالف للوحيين فإنه رد بغير مين وكل ما فيه اختلاف نصبا فرده إليه قد وجبا فالدين إنما أتى بالنقل ليس للأوهام وحدس العقل فانظر أخي! أين أنت من هذا المفتاح العظيم؟ أسأل الله أن يفتح عليّ وعليك بالاتباع وبالإخلاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 أقسام الناس من حيث تحقيق الإخلاص والمتابعة تأمل قول ابن القيم: (لا يكون العبد متحققاً بإياك نعبد، إلا بأصلين عظيمين: أحدهما: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني: الإخلاص للمعبود، فهذا تحقيق إياك نعبد، والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين إلى أربعة أقسام -انتبه إلى أي قسم أنت أيها الأخ الحبيب! أحدها: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة، وهم أهل (إياك نعبد) حقيقةً، فأعمالهم كلها لله وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله ومنعهم لله، وحبهم لله وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده لا يريدون بذلك من الناس جزاءً ولا شكوراً، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم ولا هرباً من ذمهم، بل قد عدوا الناس بمنزلة أصحاب القبور، لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً. قال: الضرب الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة، فليس عمله موافقاً للشرع، وليس هو خالصاً للمعبود، كأعمال المتزينين للناس المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله، وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل. قال: الضرب الثالث: من هو مخلص في أعماله لكنها على غير متابعة الأمر، كجهال العباد والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر، وكل من عبد الله بغير أمره واعتقد عبادته هذه قربةً إلى الله، فهذا حاله كمن يظن أن سماع البكاء والتصدية قربة إلى الله. إلى أن قال: الضرب الرابع: من أعماله على متابعة الأمر لكنها لغير الله، كطاعة المرائين وكالرجل يقاتل رياءً وحميةً وشجاعةً، ويحج ليقال ويقرأ القرآن ليقال، فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها، لكنها غير صالحة فلا تقبل إلى آخر كلامه. فلنجاهد أيها الإخوة والأخوات! أنفسنا لعلنا نكون من أهل القسم الأول، ولنتق الله ولنخلص كل أعمالنا لله، ولتكن على وفق سنة عبده ورسوله ومصطفاه، فإن ذلك هو سر النجاح والفلاح، واعلموا أن الله مطلع على سرائرنا، وعالم بما أكنته ضمائرنا، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. اللهم اعصمنا بدينك وسنة نبيك من الاختلاف في الحق واتباع الهوى، ومن سبل الضلالة وشبهات الأمور، ومن الزيغ والخصومات. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، واسلك بنا طريق نبينا واحشرنا في زمرته. اللهم إنا نسألك الإخلاص والمتابعة في أمورنا كلها، دقها وجلها، اللهم اجعل أعمالنا خالصةً لوجهك صواباً على سنة رسولك صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى. اللهم احفظنا بحفظك، وتب علينا، واغفر لنا وارحمنا. اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم وحد صفهم، اللهم سدد رميهم، فليس لهم إلا أنت يا رحمن. اللهم عليك بأعداء الدين ومن ناصرهم، واضربهم ببعضهم، وفرق صفهم، وخالف بين قلوبهم. اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين في كل مكان، اللهم أصلحهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم أصلح ولاة أمورنا خاصة وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم ألف بين قلوبهم وقلوب رعيتهم، واجمع كلمتهم على التوحيد والقرآن. اللهم اشف مرضانا وجميع مرضى المسلمين، وارفع عنهم البلاء برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 لماذا نخسر رمضان؟ شهر رمضان منة امتن الله بها علينا؛ لأنه فرصة للمحاسبة، ومراجعة النفس، وموسم لجمع الحسنات وتكفير السيئات، وبالرغم من هذا وغيره فإن من الناس من يخسر هذا الشهر، ويحرم نفسه الخير والطاعة، فلابد من التعقل والتدبر والابتعاد عن كل سبب من أسباب الخسارة فيه، واستغلال أوقاته النفيسة الغالية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 استقبال شهر رمضان إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بالأمس القريب ذرفت عيون الصالحين دموع الحزن على فراق رمضان، وها هي اليوم تستقبله بدموع الفرح. وكأني بك أيها الأخ الحبيب! تطلق العبرات والزفرات والدعوات لعلك أن تكون من أهل هذا الشهر وممن يمتن الله عليهم بصيامه وقيامه، نسأل الله عز وجل أن نكون من أهل رمضان، وممن امتن الله عز وجل عليهم بقيامه وصيامه، وأن يوفقنا للخير والصلاح والفلاح فيه. قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحن، ومن ألم فراقه تئن. وما ضاع من أيامنا هل يقوم فهيهات والأزمان كيف تقوم ويوم بأرواح يباع ويشترى وأيام وقت لا تسام بدرهم وعلى كل حال: فأهلاً وسهلاً بشهر الصيام يسل من النفس أضغانها وأهلاً وسهلاً بشهر الصيام ينقي عن النفس أدرانها رمضان له طعم خاص، وحديثه يجلو القلوب، ومحطة خاصة، وشعور غريب لا يشعر به إلا المحبون العاشقون لهذا الشهر، وما فيه من الخير العظيم العميم: رمضان في قلبي همائم نشوة من قبل رؤية وجهك الوضاء وعلى فمي طعم أحس بأنه من طعم تلك الجنة الخضراء قالوا بأنك قادم فتهللت بالبشر أوجهنا وبالخيلاء تهفو إليه وفي القلوب وفي النهى شوق لمقدمه وحسن رجاء كل هذا الشوق، وكل هذا الحنين، وكل هذه المشاعر والعواطف، ومع ذلك هناك من يفرط في رمضان، ويخسر فضله وأجره -والعياذ بالله- وربما لم يشعر ذلك الخاسر بلذة الصيام والقيام، ولا يعرف من رمضان إلا الجوع والعطش، فأي حرمان بعد هذا الحرمان! نعوذ بالله من الخسران. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 فضل شهر رمضان وعظمته لماذا إذاً نخسر رمضان؟ سؤال يحتاج إلى إجابة، وكلنا بحاجة إلى هذا السؤال، ارجع إلى نفسك واسألها، وكرر عليها السؤال، ثم فكر في الإجابة جيداً فأنت أعلم الناس بنفسك. قل لها: يا نفس! اصدقيني القول. لماذا تخسرين رمضان؟ ألم تعلمي فضائله ومزاياه؟ أحقاً أنك تجهلين أنه شهر عظيم، وأنه شهر التوبة والندم، وأنه شهر المغفرة ومحو السيئات وأنه شهر العتق من النيران، وهو موسم الخيرات، وفرصة لا تعوض، وفيه ليلة خير من ألف شهر. أيتها النفس! أحقاً أنك تجهلين هذه الفضائل أم أنك تتجاهلين؟ أيها الأحبة! في رمضان مقدار الربح والخسارة يتفاوت من إنسان لآخر، فهناك من كسب أرباحاً طائلةً لا تعد ولا تحصى، فهذا والله هو السعيد، فإن كنت منهم فاشكر الله؛ فإنه فضل من الله ومنة، نسأل الله عز وجل من فضله ومنته وكرمه: {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [البقرة:64] . وهناك من خسر خسراناً مبيناً -عياذاً بالله- {وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} [النساء:119] . وهناك من كان بين بين، فتارةً يربح، وتارةً يخسر: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:102] . أيها المحب! رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له، فماذا أعددت لاستقبال رمضان؟ وكيف ستقضي أيام رمضان ولياليه؟ لا بد أنك فكرت وقدرت، ثم أعددت الإجابة، ولا أحب أن أقطع عليك أفكارك، ولكني حباً وتقديراً لك أذكرك وأحذرك من أمور ربما كانت سبباً لخسارة رمضان دون أن تشعر، فإياك إياك أن تخسر رمضان: من فاته الزرع في وقت البذار فما تراه يحصد إلا الهمّ والندما طوبى لمن كانت التقوى بضاعته في شهره وبحبل الله معتصما فكم من شخص تحت الأجداث يتمنى شهر رمضان؟ وكم من عاجز عن الصيام والقيام تتلهف نفسه على رمضان؟ فبلوغ رمضان نعمة كبيرة. كم كنت تعرف ممن صام في سلف من بين أهل وإخوان وجيران أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً فما أقرب القاصي من الداني نسأل الله أن يبلغنا رمضان! ولأن رمضان فرصة للمحاسبة، ومراجعة النفس، وموسم لجمع الحسنات وتكفير السيئات؛ كانت هذه الوقفات مع هذا الموضوع، يعلم الله ما أردت منه إلا الإصلاح، فلعل هذه الوقفات أن تكون لبنةً أولى يضعها كل من سمع هذا الموضوع ليعيد بناء نفسه خلال هذا الشهر. فأدعوك للتذكير والتعقل والتدبر، فحرام أن يمتن الله علينا بهذا الفضل -إدراك رمضان- فنكفر بهذه النعمة بالإسراف والتبذير لساعات أيامه ولياليه. ولأن أسباب الخسارة كثيرة، فمنها ما يخص الرجال ومنها ما يخص النساء؛ قسمت هذا الموضوع إلى قسمين، للنساء وللرجال، وربما اشترك الرجال والنساء في بعض الأسباب، فإياك أن تفقد هذه الصفقة حتى تعرف مقدار الربح. وأبشرك أن الربح في هذا المشروع كبير جداً، لا أستطيع أن أحسبه لك في مثل هذه الدقائق، ولكن خذ هذا المقدار على عجل، يبشرك به حبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وآله وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه) (ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه) (ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه) (استغفار الملائكة للصائمين حتى يفطروا) (شهر العتق من النيران، فلله عتقاء في كل ليلة منه) (رمضان إلى رمضان مكفر لما بينهن) هذه بعض الأرباح وغيرها كثير. لماذا يخسر بعض الناس كل هذه الأرباح؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 أسباب خسارة رمضان وربما سأل سائل: كيف يخسر رمضان؟ وما هي أسباب خسارتنا لرمضان؟ فاسمع رعاك الله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 أسباب خسارة رمضان عند المرأة أولاً: عشرون سبباً أخاطب فيها المرأة وربما شاركها الرجل في بعضها. وأول هذه الأسباب لخسارة رمضان: 1/ الغفلة عن النية، وعدم احتساب الأجر، وأنك تركت الطعام والشراب، وابتعدت عن المعاصي، والشهوات لله وحده؛ طلباً لرضاه، واستجابةً لأمره، لا يهمك ولا يهمكِ أحد من الناس علم أو لم يعلم، فصومكِ وصومك لله، وخوفكِ وخوفك لله، ولهذه المعاني الجميلة قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي) كما في حديث أبي هريرة وهو متفق عليه. إذاً: فالصيام عبادة خفية بينكِ وبين الله لا يعلم بها إلا الله؛ فقد تشربين وتأكلين كيفما شئت لا يعلم بكِ أو بكَ أحد من الناس، ولكن: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] فمن صام بهذه المعاني وجد حلاوة الصيام، وشعر بلذة رمضان، فأقدم على الأعمال أيما إقدام (ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه) . 2/ ومن الأسباب: إهمال الصلوات الخمس، وتأخيرها عن وقتها، وأداؤها بكسل وخمول، وهذا من أعظم أسباب خسارة رمضان عند الرجال والنساء، فمن لم يحرص على الفرائض ولم يقم بالواجبات فكيف يرجى منه النوافل؟ بل كيف يرجى منه استغلال رمضان؟ ربما صلت المرأة في آخر وقت الصلاة فنقرتها نقر الغراب، فكيف يرجى لمن كان هذا حالها استغلال رمضان والفوز فيه! بل هذه يخشى على صيامها ألا يقبل والعياذ بالله. 3/ ومن الأسباب: السهر، فهو من أعظم أسباب خسارة رمضان! وكيف يرجى لمن سهرت طوال ليلها أن تفوز برمضان؟ والسهر -أيها الأحبة- مكروه حتى وإن كان على مباح، فكيف بمن سهرت على حرام؟ أكثر النساء يجلسن طوال الليل للسمر مع الأخوات والقريبات، وتذهب الساعات بالقيل والقال، وربما جلسن حتى وقت السحر خمس ساعات أو أكثر، ليس فيها قراءة للقرآن، أو موضوع لفقه أحكام الصيام، أو استماع لشريط مفيد، أو قراءة من كتاب، فأسألك بالله أليست خسارةً أن تضيع هذه الساعات الطوال من رمضان في كل ليلة بمثل هذه الجلسات؟! أيتها الأخت المباركة! اعلمي أن العين تصوم، وصيامها غضها عن المحارم، ومشاهدة الفواحش والآثام {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] وكم من نظرة كانت سبباً لجريمة وكانت سبباً لشقاء أسرة، فاتقي الله! في ليالي رمضان واعلمي أن الله معك يراك في كل حال. 4/ كثرة النوم والخمول والكسل: وهو حصيلة أكيدة لسهر الليل، ولو نامت بالليل ساعات؛ لجلست بعد صلاة الفجر في مصلاها تذكر الله وتقرأ القرآن، ولأصبحت نهارها طيبة النفس نشيطةً. 5/ ومن الأسباب لخسارة رمضان: ضياع الوقت في التفنن في المأكولات عند المرأة، والمرأة مأجورة مشكورة ولا شك لقيامها على الصائمين وإعداد طعامهم، وهذا فضل عظيم لها تختص به دون الرجال، ولكن يمكنها اختصار الوقت في مطبخها بدون إسراف ولا تبذير، ثم وأنت تعملين يا أمة الله! عليك بكثرة ذكر الله، وبالتسبيح والتحميد، قال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] . وقال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) كما في صحيح مسلم. قال ابن القيم: وفي ذكر الله أكثر من مائة فائدة: يرضي الرحمن، ويطرد الشيطان، ويزيل الهمّ، ويجلب الرزق، ويكسب المهابة والحلاوة، ويورث محبة الله إلى قوله: ويحط الخطايا، ويرفع الدرجات إلى آخر كلامه. وأما كثرة الأكل في رمضان وما فيه من خسارة فحدث ولا حرج. قال الثوري: إن أردت أن يصح جسمك ويقل نومك؛ فأقلل من الأكل. وقيل لـ أحمد بن حنبل: هل يجد الرجل من قلبه رقةً وهو شبع؟ فأجاب: ما أرى. وقال محمد بن واسع: من قل طعامه فهم وأفهم وصفا ورق، وإن كثرة الطعام لتغل صاحبها عن كثير مما يريد. وصدق رحمه الله. 6/ من الأسباب: سماع الغناء: فالأذن تصوم وصيامها عن سماع الفواحش والحرام، وإني لأعجب والله كيف ينتشر الغناء في كثير من بيوت المسلمين، وخاصةً خلال هذا الشهر، شهر القرآن؟!! ثم هل يعقل أن يجتمع في بيت واحد صوت الرحمن وصوت الشيطان؟! وإن اجتمعا، فكيف حال القلب؟ وهل سيتأثر بهذا أو بذاك؟ ولكِ أن تتصوري أيتها المسلمة! الهموم والقلق كيف تمزق القلب وتشتته؛ فهو تارةً يستجيب لنداء الفطرة، لنداء الرحمن وحلاوته، وتارةً يطرب ويسكر للأوتار ومزامير الشيطان، فأي ضياع وأي خسران لسامعة الغناء؟! فكيف حالها في رمضان؟ وكيف تتلذذ بسماع القرآن وهي تسمع قرآن الشيطان ومنبت النفاق في القلب ورقية الزنا؟ أسماؤه دلت على أوصافه تباً لذي الأسماء والأوصاف قال ابن القيم رحمه الله: فمن خواصه -أي الغناء- أنه يلهي القلب، ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبداً لما بينهما من التضاد إلى أن قال: وهو جاسوس القلوب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلوب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب إلى محل التخيل فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة إلى آخر ما قال. برئنا إلى الله من معشر بهم مرض من سماع الغنا وكم قلت يا قوم أنتم على شفا جرف ما به من بنا شفا جرف تحته هوة إلى درك كم به من عنا وتكرار ذا النصح منا لهم لنعذر فيهم إلى ربنا فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في أمرنا فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تنتنا تنتنا 7/ ومن الأسباب وهو مثل الغناء: مشاهدة التلفاز والأفلام والدشوش، وسهر ليالي رمضان عليها، وصدق الله يوم قال: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36] فكيف برمضان وأيامه ولياليه؟ 8/ ومن الأسباب: قراءة المجلات والروايات والجرائد وما شابهها، أفلا نحرص على ترك هذه الفتن وهذه الوسائل على الأقل ولو في رمضان؟! تعالوا واسمعوا لحال السلف، إنهم يتركون طلب الحديث وطلب العلم في رمضان؛ من أجل التفرغ لقراءة القرآن، وليس ترك الجرائد والروايات، ومشاهدة المسلسلات والأفلام. كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عنهم يكثرون من تلاوة القرآن في رمضان في الصلاة وغيرها، وكان الزهري رحمه الله إذا دخل رمضان يقول: إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام. وكان مالك رحمه الله إذا دخل رمضان؛ ترك قراءة الحديث، ومجالس العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف. وكان قتادة رحمه الله يختم القرآن في كل سبع ليال دائماً، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأخير منه في كل ليلة. وكان إبراهيم النخعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان في كل ثلاث ليال، وفي العشر الأواخر في كل ليلتين. وكان الأسود رحمه الله يقرأ القرآن كله في ليلتين في جميع الشهر؛ فاقتدوا رحمكم الله بهؤلاء الأخيار، واتبعوا طريقهم تلحقوا بالبررة الأطهار. 9/ ومن الأسباب: التسويف، وقد قطع هذا المرض أعمارنا، حتى في أفضل الأيام والشهور، حتى ونحن نعلم أننا قد لا ندرك رمضان الآخر، حتى ونحن نعلم أن رمضان شهر المغفرة والتوبة، حتى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر -بثلاث وثمانين سنة وتزيد- لم تسلم من التسويف، فلا حول ولا قوة إلا بالله! ومثال التسويف في رمضان -مثلاً- قراءة القرآن، تريد المرأة أن تقرأه بعد صلاة الفجر؛ ولكنها متعبة من السهر، ثم بعد الظهر؛ ولكنها مرهقة، ثم بعد العصر؛ ولكنها في المطبخ منشغلة، وربما في الليل؛ ولكنها مع القريبات والجلسات ملتزمة، وهكذا فيخرج رمضان ولم تستطع أن تختمه ولو لمرة واحدة؛ فمسكينة تلك المرأة. أرأيت كيف يكون التسويف من أعظم أسباب خسارة رمضان؟ إنه لمن الخسارة والحرمان أن تمر هذه الليالي المباركة على الإنسان وهو يسرح ويمرح. قل للذي ألف الذنوب وأجرما وغدا على زلاته متندما لا تيأسن واطلب كريماً دائماً يولي الجميل تفضلاً وتكرما يا معشر العاصين جود واسع عند الإله لمن يتوب ويندما يا أيها العبد المسيء إلى متى تفني زماناً في عسى ولربما بادر إلى مولاك يا من عمره قد ضاع في عصيانه وتصرما 10/ ومن الأسباب -أيضاً-: الخروج للأسواق: وهو ضياع لليالي رمضان الفاضلة، وفيه فتن عظيمة لا يعلم مداها إلا الله، وقد تضيع فيه الحسنات التي جمعتها تلك المرأة في رمضان من صلاة وقيام، وصدقة وقراءة للقرآن بخروجها للأسواق، فهي خراجة ولاجة، يستشرفها الشيطان؛ فخسرت رمضان وعرضت نفسها للعنة الرحمن. 11/ ومن الأسباب: التبرج والسفور، فالمرأة تدخل وتخرج لوظيفتها، وتخرج للسوق لحاجة، وتذهب لأداء العمرة، فهي في طريقها للحرم وربما نزلت لأسواق مكة، فانظر للباسها؛ فالعباءة ناعمة رقيقة، والثوب ملون، والنقاب ساحر، والعينان كحيلتان، والروائح زكية. فما رأيكم بقبول صيامها؟ بل ما رأيكم بقبول عمرتها وصدقتها وعبادتها؟ وهل هذه رابحة في رمضان أم خاسرة؟ فيا أمة الله! احرصي على الستر والعفاف، فالشيطان حريص، وشياطين الإنس كثيرون، واعلمي أن الله معك يراك. 12/ ومن الأسباب: الهاتف، نعم. فقد يكون الهاتف سبباً لخسارة رمضان لدى بعض الأخوات؛ إذ تقضي الأخت الصائمة وقتاً طويلاً في مكالماتها، لا لأجل تهنئة أخواتها بدخول شهر رمضان، أو لأجل مناقشة في مسائل فقهية في رمضان؛ وإنما للسؤال عن أنواع الأكلات، وأنواع الموديلات، وكيف يقضين ليلهن، وربما تعرضن لف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 أسباب خسارة رمضان عند الرجل هنا أيضاً عشرون سبباً أخاطب فيها الرجل، وربما شاركته المرأة في بعضها: 1/ وأول هذه الأسباب: عدم أداء الصلاة مع الجماعة، والنوم عنها، أو التأخر عنها، والتساهل فيها، وقضاء الفائت منها على عجل، وهذا أمر مشاهد ملموس، وربما شاركه فيه كثير ممن انتسبوا للخير، ومن كان للفرائض مضيعاً أو متساهلاً فهو لما سواها أضيع، وكيف يريد هذا الإنسان أن يفوز برمضان؟ وإنك لتعجب من أمر الصائم، كيف أمسك عن الطعام والشراب وجاهد نفسه، ولم يستطع أن يجاهد نفسه على الحرص على الفرائض والواجبات! وصدق صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) . 2/ من أسباب خسارة رمضان للرجال: الرياضة، نعم الرياضة، سحرت الكبير والصغير، الصالح والطالح، وغريب أن تنشط الدورات الرياضية الرباعيات والسداسيات خلال رمضان، وكان الأولى بالأندية الرياضية أن ترسم البرامج لاستغلال طاقات الشباب وتوجيههم في رمضان، وأن تكون عوناً لهم على طاعة الله عز وجل، وقل مثل ذلك في الاستراحات والأرصفة والطرقات، ونحن نقول: إذا كان ولا بد فساعة أو ساعتين -أي: للرياضة- ثم تنظم المسابقات لتلاوة القرآن وحفظه وفهم معانيه، والاستفادة من الوقت في باقي الأوقات، فإن رمضان شهر القرآن وليس شهر الرياضة. والمصيبة أن تستمر الرياضة وبرامجها حتى في العشر الأواخر من رمضان، فمتى يصلي التراويح؟ ومتى يصلي القيام؟ ومتى يقرأ القرآن؟ ومتى ينام؟ نعوذ بالله من الخسران، ومن موت القلب وشدة الغفلة. أخي! ما بال قلبك ليس ينقى كأنك لا تظن الموت حقا أيا ابن الذين فنوا وبادوا أما والله ما بادوا وتبقى وما أحد بزادك منك أحصى وما أحد بزادك منك أشقى وما للنفس عندك مستقر إذا ما استكملت أجلاً ورزقا 3/ ومن الأسباب: الاستراحات والجلسات والملاحق، فبدل أن تستغل للاجتماع على استغلال رمضان والتعاون على البر والتقوى، أصبحت -وللأسف- عند البعض من أسباب خسارة رمضان، وضياع الزمان، حتى الصالحين -وللأسف- حتى معلمي الخير، نبحث عن الشباب ومشاركاتهم في أعمال البر والخير، وفي أمور الدعوة والتوجيه، فإذا بهم تجمعوا شللاً وأحزاباً في الاستراحات، وإذا بالقيل والقال والغيبة والنميمة؛ فضاعت ليالي رمضان وضاع رمضان، أما أهل الغفلة والضياع فأصبحت الاستراحات بالنسبة لهم مواخير للفساد بأنواعه، بدءاً بالدش ونهايةً بالرذيلة -عافانا الله وإياكم- إلا من رحم الله، نسأل الله لنا ولهم الهداية والصلاح يقول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] . 4/ ومن أسباب خسارة رمضان: التسكع في الشوارع والأسواق، وإيذاء الناس، والجلوس على الأرصفة. غفل كثير من الناس عن أولادهم؛ فتركوهم يسرحون ويمرحون في الشوارع، ويسهرون للعب والسفه، ولا أقول هنا سوى: أين الآباء والأمهات؟ أين التوجيه؟ أين حمل الأمانة؟! أي قلب لك أيها الأب! وأي حنان هذا الذي تدعينه أيتها الأم! والأولاد في الشوارع، وعلى الأرصفة بدون رقيب ولا حسيب، ولا سؤال ولا جواب؟ والله ليأتين يوم يوقف فيه الابن أباه، ويحاسبه على تفريطه وتقصيره في تربيته. 5/ المعاكسات سواءً في الأسواق أو عبر الهاتف، ويعلم الله ما كنت لأضع هذا سبباً من أسباب خسارة رمضان؛ لولا أني سمعت من رجال الحسبة عجباً، ومن التائبين أعجب العجب، والله إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع؛ أن أصبح بعض شبابنا ذئاباً بشرية لا يهمهم سوى شهواتهم، بدون تفكير في مصير ضحيته وحالها، وبدون مراقبة لله عز وجل، جريمة أن يصبح رمضان موسماً للصوص الأعراض، تخرج المرأة بحجة الذهاب إلى السوق، أو بحجة صلاة التراويح، ثم يكون ما يكون على غفلة من الأب المسكين، والأم الحانية، فأي موت للقلب هذا، وأي عبودية للشهوة؟! إن أهل الفضيلة ما حسبوا أن مثل هذا يقع، بل ولا دار -والله- في خلدهم، أما أهل الرذيلة فهم يتفننون ويخططون ويرسمون {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] . سبحان الله! حتى في رمضان؟ بل وفي العشر الأواخر منه -وللأسف- وما كنت لأوجع قلوبكم بمثل هذا؛ لولا الحقائق المرة المؤلمة، فالحذر الحذر قبل وقوع الفأس بالرأس. 6/ ومن الأسباب: جلساء السوء وأصحاب الهمم الدنيئة، وهم من أعظم أسباب خسارة رمضان. وألخص الأمر لك بكلمة: قل لي: من تجالس أقل لك من أنت، وهل ربحت أم خسرت؟ قال مالك بن دينار: [إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجار] والخبيص: نوع من أنواع الحلوى يصنع من التمر مخلوطاً بالسمن. وقال موسى بن عقبة: إن كنت لألقى الأخ من إخواني فأكون بلُقيه عاقلاً أياماً. أي متأثراً به. فكم من إنسان صالح فيه خير كثير ضاع عليه رمضان بسبب جلسائه، والواقع يشهد بذلك. 7/ ومن الأسباب لخسارة رمضان للرجال: الدخان والشيشة، وهما من الأمور المحرمة التي اعتادها الناس واستمرءوها. فقم بزيارة خاطفة للمقاهي في ليالي رمضان، ففيها ضياع المال الذي سيسأل عنه، وفيها ضياع للصحة التي سيسأل عنها، وفوق ذلك إثم ووزر؛ فهي مغضبة للرب، منجسة للفم والصحة. والمضحك المبكي أن بعض المدخنين فور سماعه للأذان يفطر على سيجارة بدل التمرة، نعوذ بالله من غضب الله، ومن الخسران! 8/ ومن الأسباب: أكل الحرام ومنه الربا والغش والسرقة، وفيه حديث أبي هريرة الذي ذكر في آخره قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب له) كما في صحيح مسلم في كتاب الزكاة. كيف يريد الربح في رمضان وهو إن تصدق لم تقبل، وإن دعا رد دعاؤه! والله ما قست القلوب، ولا ضاعت البركة، ولا فسد الأولاد؛ إلا بسبب أكل الحرام، وانطمس النور لما فقدت اللقمة الحلال. 9/ التزييف والخداع والنجش والحلف الكاذب من بعض التجار في رمضان، فرمضان موسم تجاري كبير، ولا بأس بهذا، لكن بعض البائعين غفل عن أنه صائم، أو ظن أن الصيام مجرد إمساك عن الطعام والشراب؛ فوقع في كثير من منكرات البيع والشراء وسوء المعاملة، ومن ذلك ما نجده في الدعايات والإعلانات المبالغ فيها، وربما المكذوب فيها، والملبس فيها على كثير من المسلمين. 10/ ومن الأسباب: الانسياق واللهثان وراء التجارة وطلب المال، والإفراط في ذلك إلى حد التقصير في الواجبات، فهو في السوق منذ الصباح إلى المساء، وربما في ساعات طويلة من الليل أيضاً، أليست هذه خسارة لرمضان؟ وربما صاحب هذا الجلوس إطلاق العنان للبصر ومحادثة النساء، وربما الغيبة. ففي العشر الأواخر أفضل الأيام، الناس في صلاة وقيام، وقراءة للقرآن، ودعاء واستغفار، وبكاء وخشوع. صيام العارفين له حنين إلى الرحمن رب العالمينا تصوم قلوبهم في كل وقت وبالأسحار هم يستغفرونا بينما البائع المسكين في السوق يعرض نفسه لكل فتنة فتنة المال والنساء والبصر، فكان الله في عونهم وغفر لنا ولهم. 11/ ومن الأسباب -أيضاً-: الإهمال في العمل الوظيفي، والتأخر عنه، والخروج قبل نهاية الدوام. كيف يسوغ لمسلم صائم أن يستحل ساعة أو ساعتين من دوامه؟ أو أن يترك عمله، أو يهمل فيه وهو يعلم أن هذا خيانةً للأمانة، ونقصاً للعهد الذي بينك وبين المؤسسة التي تعمل فيها؟ ولهذا فإنك ترى في أمثال هؤلاء قلة البركة والتوفيق، وكثرة الديون، هذا في الدنيا وما عند الله يعلمه الله. ألا تخشى وقد قصرت في عملك وأهملت، أن يرد عليك صيامك أو أن ينقص أجره؟ فالله الله بإتقان العمل وأداء الأمانة، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. أيها الموظف! اسمع هذا الحديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مجاب الدعوة، فقال له صلى الله عليه وسلم: أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة) . إذاً: فربما خسرت رمضان، أو إجابة الدعاء؛ بسبب إهمالك أو تقصيرك في عملك، فاتق الله، وخف منه، واعلم أن الله يراك ومطلع عليك في كل حال. 12/ ومن الأسباب -أيضاً- لخسارة رمضان: التهاون ببعض الذنوب والتعود عليها من غير ندم ولا استغفار ولا تجديد توبة، فالإسبال -مثلاً- وحلق اللحية، وسماع الغناء، وغيرها، هذه ذنوب تتكرر مع البعض مرات ومرات؛ حتى أصبح ذلك المسكين لا يعدها ذنباً، وهي محسوبة عليه كلما عاد إليها، فكان الأولى به تجديد التوبة وكثرة الاستغفار والندم، وأنه وقع فيها عن ضعف نفس وإيمان، وليس عن تكبر وعصيان، وهذه الذنوب كم تؤثر على رمضان وعلى الصيام، وقد تكون سبباً في خسارته لرمضان وهو لا يشعر. لا تحتقروا هذه الذنوب وتتهاونوا فيها، فإنها تجتمع على العبد حتى تهلكه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم ومحقرات الذنوب) . 13/ ومن الأسباب آفات اللسان: كالسباب والشتام، والغيبة وبذاءة اللسان والكذب. فيا أيها الصائم! حتى لا تخسر رمضان أمسك عليك لسانك، واسمع لهذه الآية: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وفي الحديث: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وفيه -أي في الحديث-: (وإن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) . فاللسان إذن يوردك الجنة أو يقذف بك إلى النار، فقد يخسر العمر كله وليس رمضان فحسب، فلنحذر من آفات اللسان في كل وقت وخاصة في رمضان. 14/ ومن الأسباب: التساهل وعدم الجدية، ويتضح هذا في كثرة المزاح، والضحك والتعليق، وربما السخرية والاستهزاء. 15/ ومن الأسباب لخسارة رمضان: الظلم، مهما كان لك من أعمال صالحة، ومهما حرصت على رمضان فما دمت ظالماً؛ أخذت منك هذه الأعمال الصالحة بقدر مظلمتك، وإن لم يكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 مقياس الفوز والخسارة في رمضان لعل البعض يتساءل: إذن فما هو العلاج؟ ولا أطيل في العلاج، ولكني أقول: انظر وانظري إلى كل سبب من الأسباب السابقة، ولنحاول الابتعاد عنه هنا يكون العلاج. وإذا أردنا رجالاً ونساءً أن نرى عظيم خسارتنا لرمضان، فلنجب على هذه الأسئلة السريعة بصراحة تامة ومحاسبة للنفس، فإننا سنقف أمام علام الغيوب الذي يعلم حقيقة القلوب: هل تقرأ القرآن بكثرة؟ وهل تختمه في رمضان بكثرة. على الأقل ولو مرةً واحدةً في رمضان؟ هل تحرص على أداء الصلوات في وقتها بطمأنينة وخشوع، ومع جماعة المسلمين؟ هل تحافظ على السنن الرواتب القبلية والبعدية؟ هل تستحضرين النية في إعداد الطعام والشراب لأهلك، وتحتسبين الأجر على الله عز وجل؟ هل تصدقت وأطعمت الطعام؟ وإذا كانت الإجابة بنعم. فبكم؟ وهل يساوي أو على الأقل يقارب ما يصرف على اللباس والزينة خاصةً في شهر رمضان؟ وأنت أيها الرجل! كم أنفقت في سبيل الله؟ وهل تحمل هم المسلمين والمساكين في كل مكان؟ وهل تحرص على أداء صلاة التراويح بآدابها؟ وأنت أيتها الأخت! هل تحرصين على صلاة التراويح مع المصلين في المساجد، أو حتى لوحدك في البيت؛ فإن خير صلاة المرأة في قعر دارها؟! كم ساعة تنام وكم ساعة تنامين في اليوم في رمضان، في موسم الخيرات والحسنات؟ كم شريطاً نافعاً من قراءة قرآن أو محاضرة سمعتها من خلال رمضان؟ كم ساعة تسهرين، وكم ساعة تسهر، وعلى أي شيء تسهر؟ كم عدد تلك الدقائق التي نقضيها في التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار؟ هل وقفنا يوماً من الأيام في ظلمة ليل أو في مكان خالٍ، ورفعنا أكف الضراعة للدعاء في وقت السحر أو في أي وقت من أوقات رمضان؟ هل تستغلين الزيارات والجلسات بالمناصحة والتفقه والدعوة إلى الله عز وجل؟ هل تجتهدين في طاعة زوجك ورعاية أولادك خلال هذا الشهر؟ هل طهرنا بيوتنا من المنكرات؟ هل طهرنا أموالنا من الربا والحرام؟ الأسئلة كثيرة، ومن خلال الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها سنعرف مدى الخسارة والربح الذي ينالنا في هذا الشهر، فاصدق مع نفسك ما دام في العمر فسحة، وقبل أن تندم فلا ينفع الندم. عليك بما يفيدك في المعاد وما تنجو به يوم التناد فما لك ليس ينفع فيك وعظ ولا زجر كأنك من جماد ستندم إن رحلت بغير زاد وتشقى إذ يناديك المناد فلا تفرح بمال تقتنيه فإنك فيه معكوس المراد وتب مما جنيت وأنت حي وكن متنبهاً من ذا الرقاد يسرك أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد؟! هذه أربعون سبباً لخسارة رمضان، يشترك فيها الرجال والنساء، جمعتها تنبيهاً للغافل، وإعانةً للذاكر، وتعليماً للجاهل، وهي عرضة للخطأ والنسيان والتقصير، ولا شك أنها بحاجة إلى المزيد من الترديد والتأكيد؛ لينتفع بها القريب والبعيد، والنبيه والبليد. فكن لها شاهراً وناشراً وناصحاً وذاكراً، واحذر هذه الأسباب، وتنبه لشرورها، ولا تحرم نفسك الخير ومواسم الطاعة، فكن من الفائزين برمضان، فلو رأيتهم وقد هجروا لذيذ المنام، وأداموا لربهم الصيام، وصلوا بالليل والناس نيام، يتسابقون كل يسأل حاجته، أحدهم العفو عن زلته، وآخر يسأل التوفيق لطاعته، وثالث يستعيذ به من عقوبته، ورابع يرجو منه جميل مثوبته، وخامس يشكو إليه ما يجد من لوعته، وسادس شغله ذكره عن مسألته، فسبحان من وفقهم! وغيرهم خاسر محروم. فإذا أردت المزيد من وصفهم ومعرفة حالهم، فاحرص على سماع الشق الآخر لهذا الموضوع وهو بعنوان: (الفائزون في رمضان) لتعلم أن الخير ما زال في هذه الأمة، لتعلم حال الخير في الخلف كما أن الخير أيضاً في حال السلف رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وإن كنا نسمع ونرى ونقرأ حال الخاسرين الغافلين وما أكثرهم، فإن هناك الصالحين الفائزين الذين تكتحل العيون لرؤيتهم، وتطرب الآذان لأخبارهم، وتنشرح النفوس لأحوالهم، ليسوا من السلف بل هم بقية من السلف من إخواننا وأخواتنا ممن يعيشون بيننا. ولعلك اشتقت لسماع أخبارهم ومعرفة أحوالهم، فارجع لذلك الدرس؛ لتعلم الفرق الكبير بين الربح والخسارة. جعلنا الله وإياك من الفائزين برمضان، وجنبنا وإياك الخسران. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا عارفاً بالحال والشأن، اللهم ارحم ضعفنا، وتب علينا توبة صادقة نصوحاً، اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا من أهل الصلاة والصيام والقيام، اللهم وفقنا لاستغلال رمضان، اللهم اجعلنا فيه من الفائزين ولا تجعلنا فيه من الخاسرين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 أربعون وسيلة لاستغلال موسم الحج الحج موسم عظيم من مواسم الخير والطاعة، وذلك لكثرة أبواب الخير فيه، حتى إنه قلما تجتمع أمهات العبادات في زمان كما تجتمع في موسم الحج، وهو -كذلك- مؤتمر من أعظم المناسبات التي تمر على الأمة الإسلامية، فيه تتجلى عظمة هذا الدين، من خلال مشاعره ومناسكه العظيمة؛ فحري بالمسلم استغلال هذا الموسم والخروج منه بالقدر الأكبر من تزكية النفس، واستغلال الأوقات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 مدخل إلى مواسم الطاعات إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذه ليلة الأربعاء الموافق للخامس من الشهر الحادي عشر للعام (1415هـ) وفي هذا المكان الطيب المبارك في مدينة الرس، ومع هذا الموضوع الذي هو بعنوان: (أربعون وسيلة لاستغلال موسم الحج) وهذه وسائل وتوجيهات، وهي بعض الأفكار والاقتراحات حول استغلال موسم الحج، لم أراع فيها التقديم والتأخير، ولا الترتيب والتنظيم، اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره، والذهن المشغول على نقصه وتقصيره، والقلب بكل واد منه شعبة، والهمة قد تفرقت شذر مذر، لكن حسبي أنها من أخ ناصح غيور، دفعه حبه ونصحه للأمة، فأرجو قبولها على ما فيها من النقص والتقصير، فهي بحاجة لاشك لكثير من المزيد والتطوير، فإذا تقاربت الآراء، وتلاقحت الأفكار، منضبطة بالكتاب والسنة، مشروطة بالإخلاص، مؤديةً للغرض المطلوب منها، عندها تكون الوسيلة صحيحة شرعية إن شاء الله. أيها الأخ الحبيب! ويا أيتها الأخت المسلمة! كم هو جميل أن تكمل هذه الوسائل والتوجيهات، وهذه الأفكار والاقتراحات برأيك الصائب، وبنظرك الثاقب، فإن وجدت فيها خللاً سددته، وإن وجدت فيها نقصاً جبرته، وإن كان هناك مزيد من الوسائل والتوجيهات فأرجو ألا تبخل بها عليّ ولا على إخوانك، فإن الدال على الخير كفاعله. وقبل البداية، وكلي أمل أيها المحب! أن تنظر لهذه الكلمات بعين الرضا: فعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا وأسأل الله أن يغفر لي الخطأ والزلل، وأن يعفو عن النقص والتقصير، وأن يعينك على سماعها والعمل بها، فإن العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. فأقول مستعيناً بالله، مستلهماً منه الصواب والتوفيق، راجياً منه القبول والعون؛ أقول: قبل أن أبدأ بهذه الوسائل فإني أقدم بمدخل أسأل الله عز وجل أن يجد منفذاً للقلب: فأقول أيها المحب! إنني في حيرة من أمرك! وأعجب من شأنك! وأتألم لحالك! فأنت صالح إن شاء الله، وأنت مستقيم على طاعة الله، وتحمل بين جنبيك لا إله إلا الله، فأنت تعرف أنك على حق، وتعرف أنك صاحب مبدأ، وتعلم أنك خلقت لهدف، ولحمل هذا الحق وتبليغه لكل إنسان، ومع ذلك كله فإني أراك تركن إلى الخمول والكسل، وتتعلق بالدنيا وكأنك مخلد فيها. فأين العمل؟! وأين الهمة العالية؟! وأين الهمّ للمبدأ؟! لماذا هذه السلبية المقيتة؟! ولماذا هذا الجمود الذي نراه على كثير من إخواننا وأخواتنا؟! كل أهل المبادئ تحركوا وعملوا وضحوا لكل شيء وبكل شيء وهم على باطل، وأنت صاحب الحق، فإن تعش تعش عزيزاً، وإن تمت تمت شهيداً، فالله معك، والجنة موعدك، فلماذا إذن التردد؟! ولماذا هذا الهوان؟! ولماذا تضيع المناسبات ونخسر المواسم بدون استغلال يناسب هذه المناسبات؟! فموسم الحج مؤتمر إسلامي من أعظم المناسبات التي تمر على الأمة الإسلامية، قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] . إذاً: فهذا الموسم يأتي الناس إليه منذ أذن فيهم إبراهيم عليه السلام بالحج، يفدون إلى بيت الله الحرام في كل عام من أصقاع الأرض كلها، وأرجاء المعمورة جميعها، مختلفة ألسنتهم، متباينة بلدانهم، متمايزة ألوانهم، يفدون إليه وأفئدتهم تتلهف إلى رؤيته والطواف به الغني القادر والفقير المعدم، ومئات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة، لماذا؟ تلبيةً لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم عليه السلام منذ سنين عديدة. إن الحجاج إذ يستبدلون بزيهم الوطني زي الحج الموحد، ويصبحون جميعاً بمظهر واحد، لا يُميَّز شرقيهم عن غربيهم، ولا عربيهم عن أعجميهم، كل لباسهم واحد، وتوجهوا إلى رب واحد، بدعاء واحد (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) وتراهم وقد نسوا كل الهتافات الوطنية، وخلفوا وراءهم كل الشعارات القومية، ونكسوا كل الرايات العصبية، ورفعوا رايةً واحدةً هي راية (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) يطوفون حول بيت واحد، مختلطة أجناسهم وألوانهم ولغاتهم، ويؤدون نسكاً واحداً. فأقول: فمهما اختلفت اللغات، ومهما تعددت الجهات، ومهما تنوعت الجنسيات، فديننا واحد، وربنا واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا واحدة، إذن فنحن أمة واحدة رغم أنف الأعداء، ورغم كل من حاول تشتيت هذه الأمة، فما أحلى استغلال هذه المناسبة لتوحيد كلمة المسلمين! وما أحلى استغلال المناسبة لجمع القلوب وتصفيتها! وما أحلى توجيه الحجاج لهذه المعاني الجميلة! وتكرارها عليهم، وإحياء مثل هذه المفاهيم في نفس كل مسلم ومسلمة لتتقارب هذه القلوب، وتتحابَّ هذه النفوس، وحتى تحب لأخيك ما تحبه لنفسك، فيسرك ما يسره، ويفرحك ما يفرحه، وإذا اشتكى أخ لك أو تألمت مسلمة، أحزنك ما أحزنها وساءك ما أساءها. هنا وبمثل هذه المفاهيم، وإذا اجتمعت القلوب على مثل هذه المبادئ، هنا يتحرك الجميع للعمل، وينطلق الجميع للميدان، ونضع اليد باليد، والكف بالكف، ونرص الصف إلى الصف {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] (والدال على الخير كفاعله) (ومن سن في الإسلام سنةً حسنةً، كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) هنا أستطيع أن أرسم مبدأ يعيش كل مسلم لأجله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 مقترحات ووسائل لاستغلال موسم الحج من هنا ألج إلى هذه الوسائل، فأقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 إخلاص النية لله الوسيلة الأولى: إخلاص النية لله، فما تركت بيتك وأهلك وأولادك، وصرفت مالك، وتكبدت متاعب الطريق ومشقة السفر وحرارة الشمس والزحام وغير ذلك؛ إلا ابتغاء مرضاة الله وقبول العمل. إذاً: فاحرص على كل خير واجتنب كل شر، فما هي إلا أيام معلومات سرعان ما تنقضي هذه الأيام، فتذكر دائماً الإخلاص لله عز وجل، ليكون هذا الأمر معيناً لك على استغلال كل ساعة من ساعات هذا الموسم العظيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 حسن الخلق وخدمة الآخرين الوسيلة الثانية: حسن الخلق، وخدمة الآخرين، والصبر والتحمل خاصةً في أوقات الشدة والزحام من أعظم الوسائل لاستغلال هذا الموسم، وكسب رضا الله عز وجل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أقربكم إليّ منازلاً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (أثقل شيء في ميزان العبد حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ ما لا يبلغه الصائم القائم) . فحسن خلق، وصبر جميل، وتحمل مع حسن اتباع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مناسك الحج، كل هذه كفيلة بمشيئة الله بأن تكون سبباً في رجوعك لأهلك كيوم ولدتك أمك خالياً من الذنوب، وهل هذا الفضل يسير؟! كم يتمنى إنسان منا أن يرجع من بعد هذه الأيام كيوم ولدته أمه خالياً من الذنوب. أما سوء الخلق، والانفعال، والسب والشتم؛ فإنها آفات حالقة للدين، مضيعة للحسنات، مزعجة للنفس، مكدرة للخاطر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 اختيار الرفقة الصالحة الوسيلة الثالثة: وهي من أعظم الوسائل لاستغلال هذا الموسم: أن تحرص على أن تذهب مع أحد طلبة العلم، أو مجموعة من الموثوقين منهم ممن عرف بنصحه وحسن استغلاله للوقت، وكثرة ذكره وعبادته لله؛ فإنه خير معين لك لاستغلال هذا الموسم العظيم، فمنه تتعلم كيفية الحج الصحيح كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه تشعر بزيادة الإيمان وارتفاعه بكثرة توجيهاته وبنصحه وتذكيره، فما أحلى أن يحرص الإنسان على الصحبة الصالحة في مثل هذا الموسم! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 استشعار عظمة أيام الحج الوسيلة الرابعة: استشعار عظمة هذه الأيام وقيمتها، وأنك تؤدي ركناً من أركان الدين ترجع فيه كيوم ولدتك أمك. ومن هذا الاستشعار: استشعار عظمة لبس الإحرام، والتجرد من الملابس، فيذكره هذا العمل بتلك اللحظات، لحظات سكرات الموت، والرداءين بالأكفان، والتجرد من الملابس بيوم يجرد من ملابسه ليغُسَل ويكفن. أيضاً واستشعار عظمة الموقف بـ عرفة بزحامه وحره وشدته، فيذكره بيوم الحساب، يوم يقف الناس عند الله حفاةً عراةً غرلاً، بزحامهم وعرقهم وشدة موقفهم. واستشعار عظمة رمي الجمرات، وما فيه من الحكم من عداوة للشيطان، وعدم الاستجابة له ولوساوسه، وكم من إنسان يرمي الجمرات والشيطان قد تمكن من قلبه، فما أكثر معاصيه! وما أشد فسقه! ولو علم هذا الحاج المعنى الحقيقي لرمي الجمرات، لعلم بعد ذلك أنه بحاجة لرميه من قلبه، والاستعاذة من الشيطان قبل أن يرمي تلك الحصوات مجرد رمي فقط، وإن من حكم رمي الجمرات ذلك الاتباع للخليل ولمحمد عليهما الصلاة والسلام. واستشعار عظمة الذبح يوم أن تقوم بذبح الهدي، وإراقة الدم لله وحده لا شريك له، ولذلك قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] . وهكذا يستشعر عظمة الحج بأركانه وواجباته لمعرفة حكمه وأهدافه، فيزداد حرصاً على استغلاله وتعظيماً لأيامه، ولذلك ذكر الله في آيات الحج قوله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] ثم ذكر في الآية التي تليها، قال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] ومن استشعر عظمة الله هذه الأيام لم يفرط بساعة واحدة منها، وفقنا الله وإياكم للعمل الصالح الخالص لوجهه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 معرفة فضل الحج ومكانته في الدين الوسيلة الخامسة: وهي من أعظم الوسائل التي تدفعنا لاستغلال موسم الحج: سماع الأحاديث في فضائله، فقف مع هذه الأحاديث واسمعها مرات ومرات، وتدبرها جيداً، وتأمل معانيها جيداً؛ لترى فضل هذه العبادة وعظمتها، ولتزداد حرصاً على استغلال أيامها وساعاتها. فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه) والحديث أخرجه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة أيضاً قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟، قال: حج مبرور) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه. إذاً: فالحج أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد. قال النووي رحمه الله: الحج المبرور هو الذي لا يخالطه إثم. وفي حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (وأن الحج يهدم ما كان قبله) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه. وأيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: (يا رسول الله! نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ قال: لا. لكن أفضل الجهاد حج مبرور) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد) والحديث أخرجه ابن ماجة في سننه، وذكره الألباني في صحيح ابن ماجة. فأقول: الحجاج إذن وفد الله، إن سألوه أعطاهم، وإن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم، ونفقتهم مخلوفة عليهم وهي في سبيل الله. فأسألك بالله يا أيها الأخ الحبيب! ويا أيتها المسلمة! ألا تدفعكم هذه الفضائل لاستغلال موسم الحج في كل عمل تقدرون عليه؟! أَلَا يتحرك الإيمان وأنت تسمع هذه الفضائل لتبذل كل ما في وسعك، وبذل الطاقة والجهد لعمل الخير؟! ألا يحدوك الشوق إلى غفران الذنوب ومحوها؟! أَلَا يحدوك الشوق إلى جنة عرضها السموات والأرض؟! وبمجرد الحرص على استغلال هذا الموسم في أعمال الخير وأعمال البر، فإنك سمعت أن (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) والموفق من وفقه الله، فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. فلله ذاك الموقف الأعظم الذي كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم ويدنو به الجبار جل جلاله يباهي به أملاكه فهو أكرم يقول: عبادي قد أتوني محبة وإني بهم بر أجود وأكرم فأشهدكم أني غفرت ذنوبهم وأعطيتهم ما أملوه وأنعم فبشراكم يا أهل ذا الموقف الذي به يغفر الله الذنوب ويرحم فكم من عتيق فيه كمل عتقه وآخر يستسعي وربك أكرم وما رئي الشيطان أغيظ في الورى وأحقر منه عندها وهو ألأم وذاك لأمر قد رآه فغاظه فأقبل يحثو الترب غيظاً ويلطم لما عاينت عيناه من رحمة أتت ومغفرة من عند ذي العرش تقسم فيوم عرفة يوم مشهود، وهو من مفاخر الإسلام؛ لأن المسلمين لا يمكن أن يحتشدوا في مكان كهذا المكان لا يعرف بعضهم بعضاً إلا في يوم عرفة، يوم بكاء وخشوع، ويوم دعاء وخضوع، ويوم خوف من الله، ويوم مغفرة للذنوب وتجاوز عنها، وعتق من النار. ففي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيده من يوم عرفة، ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء) . ولأجل هذه المزايا العظيمة في مثل هذا اليوم أقول: ينبغي للحاج استغلال هذا اليوم والاهتمام به، فيكثر من كل الأعمال الصالحة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 الخلوة بالنفس الوسيلة السادسة: وهنا وسائل وتوجيهات: الحرص كل الحرص على الخلوة بالنفس، وعدم الاختلاط بالآخرين للدعاء، والذكر، وقراءة القرآن، والخشوع، والبكاء، والتضرع، فإنها ساعات قليلة، احرص على أن تختلي فيها بنفسك: فلله كم من عبرة مهراقة وأخرى على آثارها لا تقدم وقد شرقت عين المحب بدمعها فينظر من بين الدموع ويسجم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 كثرة الإنفاق والصدقة الوسيلة السابعة في يوم عرفة: كثرة الإنفاق والصدقة، وبذل المال، وإطعام الطعام في ذلك اليوم، ولا بأس إن كانوا جماعةً أن يطرح فكرة جمع مبلغ من الجميع كلٌ بما تجود به نفسه؛ وذلك ليشترى به سيارة ماء-مثلاً- أو سيارة طعام أو شراب، ومن ثم توقف على المسلمين في ذلك اليوم؛ فهم في شدة وحر وزحام وجوع، فما أعظم الصدقة في مثل ذلك اليوم، وهي أدعى لقبول الدعاء والحج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 استغلال ساعة الغروب الأخيرة الوسيلة الثامنة: وقت انصراف الناس من يوم عرفة ساعة غروب ولحظات أخيرة ليوم عظيم، وهي ساعة استجابة، وفي موسم عظيم، يغفل الناس كثيراً في هذه اللحظات بانشغالهم بالانصراف ومزاحمة الناس، وإن كان هذا لا بد منه لسائق أو لبعض الأفراد كما يدعي البعض فأقول: فلماذا انشغال الجميع؟ ولماذا التعليق والغضب وربما السب والشتم في هذا الوقت، ونسيان الدعاء والتلبية وشكر الله على هذا الفضل العظيم؟! وأقول للإخوة جميعاً: لنحرص على مثل هذه اللحظات في ذلك اليوم على الدعاء، فو الله لقد أقسم بعض الصالحين أنه ما دعا الله عز وجل دعوةً، وطلب من الله طلباً في ذلك اليوم، فما دارت السنة إلا واستجاب الله عز وجل دعوته كما طلبها، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى. فلماذا إذن تضيع علينا هذه الساعات التي من دعا الله عز وجل -إن شاء الله- استجاب له دعاءه فيها خصوصاً إذا قام بآداب الدعاء كاملةً؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 تطبيق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذبح الهدي وتوزيعه - الوسيلة التاسعة: الهدي في الحج دم يراق في سبيل الله في أيام من أعظم الأيام، والحاج إذا دخل المسالخ لا يستطيع أن يمشي على الأرض من كثرة الذبائح المتراكمة على بعضها، والتي تركت على حالها، ومن رأى هذا الوضع يتألم ويحترق قلبه على ضياع مثل هذه الأنعام وعدم استغلالها، وكأنه لا أخوان لنا في كل مكان يتمنون لقمةً يتبلغون بها، وهنا اقتراحات، منها: على الحاج أن يحسن ذبح ذبيحته، وليستغل كل جزء فيها، وليأكل منها وليوزع الباقي، فإنها عبادة عظيمة يؤجر عليها الإنسان، وكلما حرص وأخلص فهي كسائر العبادات، فعلى الإنسان أن يحرص على أن يؤدي هذه العبادة بنفسه، وأن يريق الدم بيده؛ فإن هذه العبادة من أعظم العبادات لله عز وجل. فلماذا إذن هذا الإهمال العجيب من كثير من الناس؟ والله عز وجل يقول آمراً: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] . - الوسيلة العاشرة: على أصحاب الحملات ومن يذهبون جماعات إلى الحج أن يكلفوا خمسةً منهم -أقل أو أكثر- يجمعون المبالغ من الحجاج الذين شاركوهم، ويتجهون للأسواق فيشترون الأغنام أو الإبل، ويشرفون على ذبحها وتقسيمها ووضعها في أكياس، ثم ليسألوا عن الأحياء المحتاجة في مكة وما أكثرها، وليذهبوا بأنفسهم لتوزيعها، فكم من الأجر العظيم في ذلك، وإن كان العدد كبيراً فلا بأس من تقسيمها على مجموعات لتذهب كل مجموعة في كل يوم. وأقول: وقد عمل مثل هذا العمل فوجدنا أن الفقراء في مكة بحاجة ماسة لمثل هذه الصدقة، فلماذا إذن نحرمهم؟ ولماذا نحرم أنفسنا الأجر، مع أن الأمر يسير ولا إشكال في مثل هذا العمل؟ - الوسيلة الحادية عشرة: في الهدي: إن لم يتمكن الحاج من ذلك، ولم يستطع أن يذبح أو يشرف على ذبيحته، فالأولى تسليمها إلى أفراد يثق بهم، أو إلى مؤسسات خيرية تقوم باستلام قيمتها وذبحها وتوزيعها على فقراء المسلمين، فهو أولى من ذبحها ورميها وتراكمها في مثل تلك المشاهد التي نراها. وهنا أنبه كل مسلم، وكل محب للخير إلى إرشاد الناس للاهتمام بالهدي، وعدم إهماله أو اللامبالاة فيه، وأن نتناصح فيما بيننا كمسلمين، ولو عُمِل بعض الوسائل للأعاجم لإرشادهم في هذه القضية، كالإعلان عنها في الصحف والمجلات بمجموعة من اللغات، أو بعمل مطويات من قبل مكاتب الدعوة والجاليات، لكان أولى وأفضل. ونسأل الله أن تتلاشى تلك المناظر المؤلمة من أكوام الذبائح التي تحرق وترمى، والمسلمون بأمس الحاجة لها، ولن يكون ذلك إلا بتعاون الجميع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 توزيع الشريط الإسلامي النافع الوسيلة الثانية عشرة: وهي من أعظم الوسائل وأنجعها، فمما لم يعط حقه في هذه المناسبة: هو توزيع الشريط النافع وبلغات متعددة. فإذا قلنا أيها الأحبة: إن مجموع الحجاج أكثر من مليوني حاج، منهم مليون من الخارج، وهم من بلاد مختلفة، ولغات متعددة، فلماذا لا يحرص على الشريط وينظم العمل له بحيث لا يرجع حاج إلى أهله ومدينته ومكان إقامته إلا ومعه على الأقل شريط واحد؟ فما أحلى أن نهتم بمثل هذا المشروع وأن نحرص عليه! فكم من الناس حرموا من مثل هذه الوسيلة، وأقول هذا الأمر من خلال تجربة معينة، فإن المسلمين في أماكن كثيرة تجد أنهم قد يفقدون مثل هذه الوسيلة، وكم نجد من الدعاة إلى الله عز وجل ممن يحرصون على تبليغ هذا الدين لأهله، لكنهم في كثير من البلاد قلة، وإن وجد من الدعاة من يعمل، فقد لا تخلو عقيدته من شبهة معينة، فلذلك لماذا لا نستغل مثل هذه المادة ومثل هذه الوسيلة في توزيع الأشرطة الموثوقة؟ وهنا تنبيهات على من اقتنع بمثل هذه الفكرة: فأولاً: سلامة موضوع الشريط من الشبهات والعقائد الفاسدة، والتأكد من الملقي ولغته وترجمته إن كان مترجماً، وذلك بالتعاون مع المؤسسات المسئولة، كالجامعة الإسلامية بـ المدينة المنورة -مثلاً- ومكاتب الجاليات، فقد توزع مئات الأشرطة وهي مليئة بالخرافات والأباطيل. ثانياً: الحرص على مواضيع العقيدة الإسلامية وتأصيلها ومحاربة الشرك والسحر -مثلاً- وبعض الكبائر كالزنا -أعزكم الله- والغناء وحكمه، وحقوق المرأة في الإسلام، والمواضيع التي تتحدث عن مثل هذه الأمور، والإكثار منها، فإن المسلمين في كل صقع بحاجة لمثل هذه الأمور. ثالثاً: الاهتمام بالإخراج وجمال الشكل الخارجي، وصفاء التسجيل للشريط وتغليفه؛ ليكون أدعى للقبول، وليناسب الإهداء، وإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ولو قامت وزارة الشئون الإسلامية ووزارة الحج ومكاتب الدعوة والجاليات بمثل هذا العمل والاهتمام به، لنفع الله به نفعاً عظيماً في كل مكان. وقد سمعنا -والحمد لله- قيام وزارة الشئون الإسلامية بمثل هذا العمل فشكر الله سعيها، ووفق العاملين فيها لما يحب ويرضى، ولكن نقول -أيضاً-: مزيداً من التنظيم والتكليف، فإن مثل هذه المناسبة جديرة بالاهتمام بها والحرص عليها، وهنا لا يمنع -أيضاً- من قيام الأفراد والجماعات بمثل هذا المشروع كلٌ بحسب طاقته، فإن الدعوة إلى الله مسئولية الجميع وليست وقفاً على أحد بعينه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 توزيع الكتاب الإسلامي - الوسيلة الثالثة عشرة: قل مثل ذلك في الرسائل والكتيبات، وطباعتها طباعةً فاخرةً جميلةً وتكثيفها، وإن كانت طباعة الكتاب في كثير من البلاد الإسلامية وفي خارج البلاد أمرها يسير بخلاف الشريط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 الاستفادة بدعوة ذوي الخبرات إلى الحق الوسيلة الرابعة عشرة: لماذا لا يقوم بعض الشباب بجمع عدد لا بأس به من إخواننا الوافدين أو من غيرهم، خاصةً أصحاب التخصصات كالأطباء والمهندسين والأساتذة وغيرهم، ثم الحج معهم وتوفير النقل وتجهيز السكن لهم هناك، فهي فرصة لدعوتهم وتوجيههم، وهي فرصة لقيامهم بالحج صحيحاً كما شرع، ومثل هذا العمل جهاد عظيم، فإنه مخالف لحظوظ النفس وشهواتها، فإن النفس تحب السفر مع من تعرف وترتاح إليه، ولو علم بعض أهل الخير بمثل هذه الوسيلة لتولوا تكاليف مثل هذه الرحلات والإنفاق عليها، لما فيها من نفع عظيم. ولو قام أصحاب المؤسسات الكبيرة والشركات بمثل هذه الحملات لعمَّالهم، وشاركهم بعض الشباب، لكانت كذلك فرصةً مناسبةً لمخالطتهم وتنظيم برامج لهم واستغلال أوقاتهم، وربما لم يرجعوا من الحج إلا وقد تبدلت أحوالهم، وصلح شأنهم، وهذا اقتراح ونداء نوجهه لشبابنا، فهل يجد آذاناً صاغيةً وهمماً عاليةً، ونفوساً أبيةً مجاهدةً؟! نرجو ذلك! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 إقامة الدروس الموجهة والموضحة للمناسك - الوسيلة الخامسة عشرة: أن تكون هناك سلسلة دروس خفيفة من بداية رحلة الحج إلى نهايتها، وتتصف هذه الدروس بيسرها وعدم طولها، ووضعها على شكل نقاط سريعة يلخص فيها خطوات العمل لكل يوم من أيام الحج: فمثلاً: في الطريق: الدرس الأول: في إخلاص النية وحكم الحج ومنافعه. الدرس الثاني: في آداب السفر والصحبة والأخوة. الدرس الثالث: في الصبر والتحمل وحسن الخلق. الدرس الرابع: في كيفية الإحرام ومحظوراته وسننه. الدرس الخامس: من الميقات إلى الحرم، في كيفية أداء العمرة وسننها وبعض المخالفات فيها. الدرس السادس: في الجلوس بـ منى، وفي الأذكار، والدعاء وآدابه، وبعض الأدعية المختارة. الدرس السابع: في أعمال اليوم الثامن وسننه. الدرس التاسع: في صباح يوم عرفة يكون هناك أعمال يوم عرفة وبعض التوجيهات لاستغلاله. الدرس العاشر: في أعمال يوم النحر وسننه. الدرس الحادي عشر: في أعمال أيام التشريق وفضلها وكثرة ذكر الله فيها. فأقول: لو عمل بهذه الوسيلة في رحلة الحج، واختصرت هذه الدروس على شكل نقاط سريعة، وكتب كل درس في ورقة واحدة، ووزعت على الحجاج المشاركين، أو وضعت في لوحة بارزة في أمكانهم بخط واضح كبير، لكانت هذه السلسلة خير وسيلة، وأسهل طريقة لتفقيه الحجاج بركنهم، والحرص عليه وحسن استغلاله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 استغلال موسم الحج بدعوة التجمعات في المخيمات - الوسيلة السادسة عشرة: على الشباب والدعاة وطلاب العلم، استغلال هذا الموسم العظيم وهذه المناسبة الدعوية، وذلك بالذهاب إلى المخيمات والحملات، وزيارة الحجاج في خيامهم، والحديث معهم وتوجيههم، وبيان مناسك الحج كما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن الخطأ أن ننتظر تجمع الناس ومجيئهم إلينا للاستفادة، فإن هناك أناس إن لم تذهب إليهم فلن يأتوك، ومن أفضل الوسائل لهم تنظيم الكلمات الوعظية بعد الصلوات، وقد جرب ذلك فكان له أثر عظيم، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد كان يعرض نفسه ودعوته على الحجاج في مواسم الحج المختلفة، وكان يذهب إلى منتديات زعماء قريش فيدعوهم، وقد ذهب وحيداً إلى الطائف ليدعو أهلها، وكان يقال -أيضاً- عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه رجل عامة يخالط الناس ويغشاهم في مجالسهم ومنتدياتهم، ويقضي حوائجهم. فالأولى بشباب وطلاب العلم والدعاة أن يفعلوا ذلك، ويخالطوا الناس ويغشوهم في مجالسهم وخيامهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 توجيه أهل كل بلد لدعوة أهلهم الوافدين - الوسيلة السابعة عشرة: لا شك أن لكل مكتب جاليات مجموعةً من طلبة العلم المتقنين للغات عدة، سواءً من العرب أو العجم، فأقول: لم لا تستغل مكاتب الجاليات هذه الطاقات، وهذه المواهب للاستفادة منهم في عقد الدورات والندوات والدروس في المخيمات الكبيرة للمطوفين في الحج، وفي إلقاء المواعظ والكلمات عليهم بعد الصلوات، ولا بأس -أيضاً- في مكافأة هؤلاء الذين يقومون بهذه الدروس وترغيبهم؟ نرجو أن تهتم مكاتب الجاليات بهذا، وأن يوصل بعض الإخوة مثل هذا الاقتراح للقائمين على مثل هذه المكاتب لعل الله عز وجل أن ينفع بها الأعداد الكبيرة من المسلمين في كل مكان، يوم أن يأتوا لمثل هذه الأماكن فينتظروا منا أن نقدم لهم شيئاً ولو كان يسيراً. أقول: تهتم مكاتب الجاليات لمثل هذه الفكرة وتخطط لها، كأن يُحصَر -مثلاً- هؤلاء في مكاتب الجاليات جميعها، ويوضع لهم جدول مرتب ويرفع إلى وزارة الشئون الإسلامية للإقرار والموافقة عليه، فإنها خير معين لمثل هذه البرامج. وأقول: لو طبقت هذه الفكرة لوجدنا نفعاً عظيماً لهؤلاء المسلمين الذين يفدون إلينا من كل مكان بلغات متعددة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 كثرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الوسيلة الثامنة عشرة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن عظيم من أركان الدين، بتركه تكثر الأخطاء والعيوب، وتنتشر المنكرات ويتفشى الجهل، ويضيع الحق، بل قد يصبح الباطل حقاً، وهو من أعظم صفات المؤمنين والمؤمنات، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71] . والتناصح بين المؤمنين والمؤمنات سبب لنشر الحب والإخاء، وصفاء النفوس، وكل مسلم ومسلمة يريد أن يكون محبوباً عند الآخرين، يريد أن يملك قلوب الآخرين بحسن خلقه، ويريد أن يصل إلى الكمال الخلقي الإنساني، ولن يكون ذلك أبداً إلا بأن نعرف عيوبنا، ونعالج هذه العيوب، ونتقبل هذه العيوب بصدر رحب ونفس راضية، ولا يمكن علاجها إلا بمعرفتها، ومن الصعب أن يرى الإنسان عيب نفسه أو أثر عيوب نفسه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه) والحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود من حديث أبي هريرة وقد حسنه العراقي كما في تخريج الإحياء. - الوسيلة التاسعة عشرة: وهنا اقتراح على كل مخيم وحملة للحج، بوضع صندوق صغير تحت مسمى: صندوق المناصحة أو صندوق التناصح، ويوضع في مكان بارز للجميع، وكل من لاحظ على أخيه أمراً سلباً كان أو إيجاباً فإن من العدل أن نذكر محاسن الشخص كما نذكر مساوئه وأراد أن يكتب لأخيه كلمات ناصحة رقيقة، فإنه يكتبها ويضعها بظرف ويكتب عليها اسم المرسل إليه ويضعها في هذا الصندوق، ويكون هناك شخص أمين يحمل الرسائل إلى أصحابها، ولو وضع بجانب الصندوق -أيضاً- أقلاماً أو أوراقاً وظروفاً لكان أجمل ليسهل على الكاتب الأمر. ولو عُمِل ذلك لرأينا آثاراً جميلةً على أفراد المخيم والرحلة، ولرجع كثير منا وقد سدت تلك العيوب التي ربما تراكمت عليه بدون أن من أحد يناصحه من إخوانه فيها، ولذلك لنجرب ولنقم بمثل هذا الأمر في رحلاتنا وحملاتنا. بل أقول: لو جرب ذلك حتى في مؤسساتنا ومدارسنا وشركاتنا لوجدنا أن التناصح قد يجد له طريقاً؛ لأن كثيراً من الناس ينعقد لسانه عندما يريد أن يناصح أخاً له في منكر أو في عيب أو ملاحظة عليه، لكن إن كان الأمر عن طريق الكتابة والتسجيل فقد يسهل ذلك عليه، فلنجرب ذلك، وقد جُرِّب فآتى ثماراً نافعةً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 إعداد المرأة ما تدعو به في الحج الوسيلة العشرون وهي للمرأة: ألا تذهب الصالحة للحج إلا وقد أعدت على الأقل ثلاثة مواضيع أو أكثر، مع مسابقات ثقافية وأسئلة عن الحج وفقهه، لتنفع الأخريات اللاتي معها؛ فإننا نرى أوقات النساء تضيع هدراً في مثل هذه المناسبة في الجلوس مع بعضهن وكثرة الحديث. ألا تتقي الصالحة ربها، وتزكي صلاحها وعلمها أياً كان، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آيةً) وقال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه، فرب مبلغ أوعى من سامع) . أيتها الصالحة! أنت مسئولة أمام الله عن بنات جنسك، فماذا قدمت لدينك؟! فلا يكفي أن تكوني صالحةً، بل لا بد أن تكوني مصلحةً -أيضاً- ليدفع الله عنك الشرور، ألم تسمعي لقول الحق عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] لم يقل: صالحين! وإنما قال: {مُصْلِحُونَ} ألم تسمعي قول الحق عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا} [الأعراف:165] مَن؟ الصالحين؟! لا. {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165] . فأقول: كوني مفتاح خير لأخواتك المسلمات؛ فإنهن بحاجة لمثل هذه المواضيع، وهن بحاجة لاستغلال أوقاتهن في الحج، فكم شكت كثير من الصالحات من ضياع الساعات بل الأيام في هذا الموسم العظيم. فأقول: كوني مفتاح خير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كما في الحديث الذي أخرجه ابن ماجة في سننه: (من الناس من هم مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومن الناس من هم مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن كان مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وويل لمن كان مفتاحاً للشر مغلاقاً للخير) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 إعداد المرأة هدايا شرعية للنساء - الوسيلة الحادية والعشرون وهي للنساء: هدية للنساء تشتمل على الحجاب وغطاء الوجه وقفازين وجوارب، وشريط بنفس اللغة، مع مطوية بأهمية الحجاب وشرعيته. أقول لكل مسلمة تنوي الذهاب للحج: ما رأيك لو حملت معك مثل هذه الهدية، أو على الأقل عددا من العباءات والجوارب لإهدائها إلى أخواتك اللاتي يشاركنك في الحج؟ وقد تقفين على كثير من المسلمات وربما الأعجميات اللاتي لا يملكن ثمن هذا الحجاب، واللاتي ربما لا يعرفن شيئاً عن حكم هذا الحجاب. ولا تحتقري هذا العمل مهما كان، فقد تأخذه مسلمة منك بدون حرص ولا اهتمام في البداية، ولكن مع الأيام قد تؤتي هذه الهدية ثمارها، وكم وقع مثل ذلك من المواقف، كلمة! أو هدية! وبعد أشهر أو حتى سنوات كان لهذه الكلمة بل كان لهذه الهدية أثر عظيم في نفس المهدى إليه، فلنجرب مثل ذلك وسنجد أثراً طيباً بمشيئة الله ولو لم تؤت ثمارها في الدنيا، فلا شك أنها ستؤتي ثمارها في الآخرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 توجيه المسلمين وإيصال وسائل الدعوة إليهم - الوسيلة الثانية والعشرون: ما أجمل أن يجعل الحاج ضمن أغراض ومستلزمات الحج بعض الأشرطة والكتيبات والرسائل والمطويات المناسبة، ويجعلها بجانبه في السيارة! فما أكثر المحتاجين لها من الحجاج الذين تقابلهم أنت في الطريق، وفي محطات البنزين والاستراحات والميقات وغيرها من أماكنهم في الطريق، فمطوية عن حلق اللحى وحكمه تمدها لحالقها في الميقات وما أكثرهم، تكفيك عن عشرات الكلمات، وتكفيك من ألم الآهات والزفرات لرؤية تلك المنكرات، فها أنت قد بلغت وعملت ما بوسعك، وقل مثل ذلك في التدخين والغناء وغيرها من المنكرات التي نراها على كثير من الحجاج. وكم أعجبتني تلك الزوجة الصالحة التي كتبت لزوجها بعض المشتريات من لوازم الحج، فكان منها عدد كذا من الأشرطة النافعة للتوزيع، وعدد كذا من الرسائل والكتيبات، ثم ذكرت بعض العناوين المناسبة للمرأة. فأقول لتلك المرأة: شكر الله سعيك وبارك فيك، وحجاً مبروراً وسعياً مشكوراً إن شاء الله! فأنت قد حملت في قلبك هم نفع الأخريات وتوجيه المسلمات ولو عبر كتاب أو شريط، فالدال على الخير كفاعله، وكم نحن بحاجة لمثل هذه المسلمة التي تحمل هم نفع الأخريات وإصلاح المسلمات في قلبها، فتحرص على الأقل إن لم تستطع الكلام فما أقل أن تحرص على إيصال الوسائل من كتاب أو شريط أو مطوية أو غير ذلك، فإن ذلك له أجر عظيم في الميزان يوم أن نقدم على الله عز وجل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 الاستفادة من أصحاب التخصصات لنفع الآخرين - الوسيلة الثالثة والعشرون: في حملات الحج تشارك أعداد كبيرة من الرجال والنساء، ويشارك فيها بعض الأعيان، وأصحاب الشهادات العالية من أطباء ومهندسين وغير ذلك. فأقول: لو أعطي هؤلاء مكانتهم وقدرهم، واستُفيد منهم في تخصصاتهم لنفع الآخرين، من خلال عقد اللقاءات والمناقشات معهم. ثم نذكِّر -أيضاً- أصحاب الحملات بحسن التخطيط والتنظيم للبرامج الدعوية والعلمية والثقافية والحرص على مشاركة الجميع فيها، وخاصةً الاهتمام بالمرأة وتكثيف البرامج لها، ولماذا ذلك؟ لأن مشاركة المرأة للحملة فرصة عظيمة، بل قد يشارك بعض النساء اللاتي ربما لم تسمع يوماً من الأيام تذكيراً أو وعظاً، بل هي ربما أسيرة لوسائل الإعلام بأنواعها، والمرأة بطبيعتها مشغولة في بيتها ومع أولادها وقليلة الحضور للدروس ومجالس الوعظ، فلذلك كم هي بحاجة لأن تستغل عندما تذهب لمثل هذه الحملات. -وأيضاً- البرامج الدعوية للمرأة ضعيفة جداً -وللأسف- بل هي معدومة في كثير من المناطق، فوجودها في الحملة فرصة يجب أن تحظى بالاهتمام من أصحاب الحملات، بارك الله فيهم جميعاً ونفع بهم ووفقهم لما يحب ويرضى. ويجب -أيضاً- استغلال جميع الأوقات، حتى أوقات التنقلات من خلال البرامج الخفيفة والمسابقات الثقافية وسماع الأشرطة. وأخيراً أقول لجميع أصحاب الحملات: إن خير وسيلة للدعوة ولاستغلال موسم الحج ونجاح حملتك هي: القدوة الحسنة، وصدق الكلمة، والوفاء بالعهد، فاتصف بهذه الصفات وأبشر بالخير كله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 الانفراد والخلوة بالله الوسيلة الرابعة والعشرون: من أعظم الأسباب لضياع هذا الموسم وضياع أجمل ساعاته -وللأسف- الجلوس جماعات والحديث عن بعض أمور الدنيا، ولا بأس بقليل من هذا من باب الترويح عن النفس، وإدخال الأنس للصحبة، ولكن أن يستغرق ذلك ساعات، وتصاحبه الضحكات والسخرية والتعليقات، وقد رأينا من يفعل ذلك حتى في أعظم الأيام: (يوم عرفة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 زيارة الجيران ومعرفة أحوال المسلمين في بلادهم - الوسيلة الخامسة والعشرون: زيارة جيرانك في مخيمات الحج والتعرف عليهم، خاصةً إذا كانوا من الأعاجم، ومعرفة أحوالهم وأوضاع المسلمين هناك، وقد تتعرف على بعض الدعاة أو طلبة العلم من إحدى البلاد الإسلامية، فتقف معيناً له في دعوته برأي، أو بمال، أو بكتاب، أو بشريط، أو بأي وسيلة من وسائل الدعوة، فإن من منافع الحج بل من أعظمها التعرف على إخوانك ومعرفة أحوالهم وأوضاعهم، ولا تحتقر نفسك أو شيئاً تقدمه، فإن الدعوة في البلاد الإسلامية تحتاج لكل شيء، ولو كان هذا الشيء صغيراً أو قليلاً، حتى ولو كان اقتراحاً أو رأياً؛ تشد به من عضد إخوانك الدعاة هناك، وقد يكون من جيرانك من هو بحاجة لمساعدة إرشادية أو مالية أو فقهية، ولو لم يكن ذلك كله لكفى أنك قمت بالزيارة، والزيارة عبادة عظيمة، ولعلي أذكركم بحديث الرجل الذي زار أخاً له في الله، فأرسل الله عز وجل على مدرجته ملكاً، فإن الزيارة في الله فيها فضائل كثيرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 استغلال الهواتف بوضع عبارات هادفة للمستخدمين - الوسيلة السادسة والعشرون: مجموعة وسائل أو اقتراحات في الهاتف: لماذا لا يستغل المسئولون في الهاتف تجمع أعداد كبيرة من الحجاج عند الهواتف، وذلك بكتابة بعض التوجيهات المناسبة والكلمات الإرشادية، حتى ولو كانت عن طريق التسجيل بصوت هادئ جميل؟ -وأيضاً- لو استغل هذا التجمع لوضع صناديق لجمع التبرعات للمسلمين في كل مكان، كـ البوسنة والهرسك والصومال وغيرها وقامت بعض المؤسسات التي تعتني بمثل هذا الأمر كالهيئة العليا وغيرها من المؤسسات الخيرية، أقول: لو قامت بهذا الأمر لكان لذلك نفعاً عظيماً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 تجهيز بطاقات هاتفية تحمل أرقام أهل الفتوى - الوسيلة السابعة والعشرون: وسيلة أخرى من وسائل هذا اللقاء: وضع بطاقة صغيرة: لو قام المسئولون في الهاتف بوضع بطاقة فيها أرقام الهواتف التي لا يستغني عنها الحاج، كأرقام هواتف بعض العلماء للإفتاء، أو أرقام المرور والدفاع المدني وغير ذلك وتوزيعها على الحجاج، فإن لها نفعاً عظيماً في تلك الأيام، فكثيراً ما نرى من الضالين الذين قد أضاعوا أماكنهم، أو هم بحاجة ماسة لمسألة فقهية أو غير ذلك، فلو وزعت هذه البطاقة بمثل هذه الأرقام لنفع الله بها نفعاً عظيماً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 إعداد الطعام للناس ليلة مزدلفة الوسيلة الثامنة والعشرون: في ليلة مزدلفة يكون الناس متعبون بعد يوم عرفة وقد لا يجدون وقتاً لإعداد طعام العشاء وأيضاً تلك الليلة هي ليلة راحة، فأقول: ما أحلى أن تستغل هذه الليلة من بعض محبي الخير ومن بعض الشباب فيجمع بعض المال لإطعام الناس في تلك الليلة، فإن عشاء الناس قد لا يتوفر في تلك الليلة لانشغالهم -كما ذكرنا- بيوم عرفة، ولقلة الزاد في مثل هذا الوقت، فما أحلى أن تستغل هذه الليلة الجميلة في إطعام الناس وتوزيع وجبات العشاء عليهم، فما أعظم النفع وما أعظم الأجر في ذلك! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 وضع اللوحات الإرشادية والملصقات الدعوية المؤثرة - الوسيلة التاسعة والعشرون: نتمنى أن نرى المشاعر المقدسة -وخاصة منى - وقد ازدانت باللوحات الإرشادية، والكلمات التوجيهية عبر اللوحات المضيئة والمعلقة، وبلغات متعددة، وخاصةً في أماكن تجمع الحجاج في الجمرات وعند الهاتف، وغيرها من الأماكن، وهذا اقتراح نوجهه إلى إخواننا المسئولين في وزارة الشئون الإسلامية، ووزارة الحج، ومكاتب الدعوة، ومكاتب الجاليات، وغيرها من المؤسسات التي يعنيها هذا الأمر، فإنهم لا يألون جهداً في نشر الخير وتوعية المسلمين، جزاهم الله عنا وعن المسلمين خيراً، ووفقهم لما يحب ويرضى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 توزيع الكتيبات في الطرق - الوسيلة الثلاثون: لا بأس بتعليق الصناديق الصغيرة الجميلة في بعض الطرق الرئيسة في المشاعر، يوزع من خلالها بعض الكتيبات والرسائل والمطويات النافعة، ويكتب عليها: خذ نسختك، بعدد من اللغات. لو عملت بعض الملصقات الدعوية الجميلة والمؤثرة، ووضعت على سيارات النقل الكبيرة المتنقلة داخل المشاعر، لكان لذلك أثر كبير في توجيه الحجاج في أمر دينهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 وضع ملصقات إرشادية على المظلات - الوسيلة الحادية والثلاثون: لو استغلت حتى المظلات الشمسية التي تقي الحجاج من الشمس وحرارتها، في بعض الكلمات والتوجيهات والإرشادات المكتوبة عليها عن أهمية النظافة ووضع المخلفات في أماكنها، بلغات متعددة، لكان ذلك -أيضاً- له نفع لغير الحجاج. ولو تم التنسيق في هذه الأفكار -أقصد لوحات الإعلان والإرشادات وغير ذلك- مع بعض المؤسسات التجارية وأصحاب رءوس الأموال، ولا بأس بجعل بعض مساحات للدعاية والإعلان لشركاتهم ما داموا سيقومون بتكاليف مثل هذه اللوحات، ولو تواصل الإخوة الدعاة وطلبة العلم، والشباب مع وزارتي الحج والشئون الإسلامية، والوقوف معهم ومؤازرتهم في الاقتراحات والتوجيهات وغير ذلك، فإن الحجاج ضيوف علينا جميعاً؛ فيجب التعاون والوقوف يداً واحدة؛ لإنجاح هذا الموسم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 الحذر من غش المسلمين في هذا الموسم - الوسيلة الثانية والثلاثون: وهي في التجارة، وهي مجموعة توجيهات، ولا شك أن التجارة تعتبر من أعظم المنافع للمسلمين في الحج، وفيها بعض التوجيهات: الحذر من الغش والتدليس والكذب على المسلمين، فإن كانوا لا يعلمون لأنهم أعاجم فإن الله عز وجل يعلم. فأقول: لماذا لا يستغل هذا الموسم للاستثمار لبعض المؤسسات الخيرية، بأن تقوم ببعض المشاريع هناك، فهو موسم للتجارة؟! فمثلاً: لو قامت بعض المؤسسات -مثلاً- بتجهيز عدد من حافلات النقل لنقل الحجاج من مكان إلى آخر، لكان له دخل ربح على تلك المؤسسات الخيرية، هذا كمثال وما أكثر الاقتراحات والآراء التي يراها المسئولون على تلك المؤسسات، لو أنهم فكروا بمثل هذه الفكرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 زرع الحس الدعوي لدى البائعين - الوسيلة الثالثة والثلاثون: لماذا لا يزرع الحس الدعوي عند البائعين، وسائقي سيارات الأجرة والنقل، وذلك بقيامهم بتوزيع المطويات والأشرطة والرسائل وغير ذلك؟! أو على الأقل بوضعها في مكان مناسب بارز ليأخذها الحجاج، فإن الله يزيدهم بركةً وتوفيقاً في تجارتهم ورزقهم، وعلى الدعاة وطلاب العلم وشباب الصحوة توجيه أمثال أولئك السائقين والتجار الذين يبيعون ولهم أماكن خاصة كما في منى وغيرها لمثل هذا الهم، وتذكيرهم بعظم الأجر في مثل هذه الأيام، وأن هؤلاء الحجاج هم إخوان لنا وضيوف علينا لا يجوز غشهم، ولا خداعهم، بل يجب إرشادهم وتوجيههم وإعانتهم، فإن الله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7-8] وأقول: كم من مثاقيل الذر من الأعمال الصالحة الصغيرة -ولا تحتقر عملاً أبداً- نضيعها ونغفل عنها في مثل هذه المناسبات وغيرها من المناسبات التبعدية العظيمة التي تمر علينا، وقد تذهب على كثير من الناس بدون أن ينتبه لمثل هذا الأمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 التخطيط والتنظيم المسبق لمن أراد الحج الوسيلة الرابعة والثلاثون: من أحسن الوسائل لاستغلال مواسم الحج: التخطيط والتنظيم لمن أراد الحج، وذلك من اختيار الرفقة الصالحة، والمكان المناسب وتهيئته، ووضع البرامج وحسن اختيارها، وتنظيم الوقت، ومعرفة متى الذهاب والإياب والتحرك والوقوف، فكم سمعنا عن مئات من الحجاج تأخروا عن المبيت بـ مزدلفة، بل آلاف الحجاج ربما لم يقفوا بـ عرفة، فأصابهم -أيضاً- التعب والإرهاق والعطش، وضاعت عليهم تلك الساعات العظيمة، ولا شك أن هذا كله بقضاء وقدر، ولكن عمل الأسباب وحسن التخطيط والتنظيم لرحلة الحج أمر مطلوب، بل هو ركن لاستغلال هذا الموسم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 تجهيز مكتبة مشتملة على ما يحتاجه الحاج - الوسيلة الخامسة والثلاثون: تجهيز مكتبة صغيرة فيها ما تحتاجه من مسائل الحج وفتاويه والمناسك وكتب الأدعية وغيرها من المواضيع المناسبة، وحملها معك، وأخرى مثلها -أيضاً- للنساء، وجعلها في مكان بارز للجميع للانتفاع واستغلال الوقت ومعرفة مسائل الحج وفقهه من خلال القراءة والاطلاع، وقل مثل ذلك -أيضاً- في جهاز التسجيل، وبعض الأشرطة المفيدة، فإنك لا تستغني عنها في مثل هذه الرحلة. لا تنس المصحف والسجادة والسواك؛ فإنها من أعظم الزاد لاستغلال الحج وساعاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 وضع أشرطة هادفة في سيارات الأجرة - الوسيلة السادسة والثلاثون: وضع بعض الأشرطة المؤثرة وذات المواضيع الكبيرة، في سيارات الأجرة والنقل الجماعي وخاصةً أشرطة تلاوة القرآن بأصوات بعض القراء ممن عرفوا بحسن الصوت وقوة التأثير. فإننا نلحظ أن أكثر أوقات الحجاج في السيارات ذهاباً وإياباً، ووقوفاً وانتظاراً، فما أجمل أن تأخذ معك أيها الحاج! ويا أيها الأخ الحبيب! شريطاً فإذا ركبت اقترحت على صاحب السيارة وضعه في جهاز التسجيل، فإنه سيكون له أثر جميل على الحجاج ونفسياتهم وهم يتنقلون بين المشاعر وهم يسمعون هذه التلاوة، أو تلك الكلمات الإرشادية والتوجيهية من خلال الشريط، فينتفعون بها نفعاً عظيماً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 تزويد غرف الفنادق بالوسائل الدعوية - الوسيلة السابعة والثلاثون: محاولة تزويد غرف الفنادق والمخيمات - خاصةً مخيمات المطوفين وخيامهم - بجملة من الوسائل الدعوية السابقة الذكر، كالأشرطة والرسائل والمطويات واللوحات الإرشادية وغير ذلك، وبلغات متعددة، فإن لذلك أثر عظيم، ولا تحتقر عملاً، فربما أدى بعض هذه الوسائل نفعاً لا تعلمه، ولكن الله عز وجل يعلمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 تكثيف الزيارات للعلماء والجلوس معهم - الوسيلة الثامنة والثلاثون: وهي لطلاب العلم الحريصين: تكثيف الزيارات للعلماء وطلاب العلم والجلوس إليهم والسماع منهم، ففي الحج يجتمع أعداد كبيرة من العلماء وطلاب العلم من كل مكان، فهي فرصة لا تعوض للحريصين من طلاب العلم والجادين من الدعاة أن يقابلوا هؤلاء ويجلسوا إليهم، ويسمعوا منهم ويتبادلوا معهم الأخبار والكلمات، فإنها فرصة عظيمة لا تعوض، وقد اجتمعت أعداد كبيرة للعلماء من كل أصقاع المعمورة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 استغلال مواهب وقدرات العاملين - الوسيلة التاسعة والثلاثون: أقول لأصحاب الحملات أو من يذهبون إلى الحج جماعات، ولو كانوا جماعةً قليلةً، أقول للمسئول عنهم: اعلم وفقك الله أن لكل إنسان قدرات وله مواهب، وهي تحتاج لاستغلال وتشجيع، فأحسن التعامل مع هذه القدرات وأعطها الفرص للعمل، كل بما يستطيع، فهذا -مثلاً- يحسن إلقاء الكلمة الطيبة، وذاك يحسن الكتابة والخط، وآخر نشيط متحرك يصول ويجول، وصالحة من المؤمنات تحسن وضع المسابقات الثقافية، وأخرى تحسن الخدمة وتقوم على الأخريات، وثالثة تجيد القيادة والتخطيط، وما أكثر الطاقات والمواهب في إخواننا وأخواتنا، لكنها تبحث فقط عمن يعطيها الفرصة للعمل وتوظيف هذه الطاقة. فالله الله يا من توليت المسئولية! فإن حسن القيادة لا أن تكون آمراً ناهياً، إنما حسنها أن تضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وموسم الحج فرصة لإبراز الطاقات والمواهب، كل بما يستطيع، وكل ميسر لما خلق له، وكل على خير إذا أخلص النية لله وكان عمله مشروعاً، فلا يجوز أن نستهين بأحد من الناس وإن كان عمله صغيراً، لا بد أن نشعر الجميع أنهم ينفعون، وأن فيهم خيراً كثيراً، لا بد من غرس الحس الدعوي لدى الجميع، الرجال والنساء والصغار والكبار، للعمل يداً واحدةً لهذا الدين؛ فالعمل لهذا الدين مسئولية الجميع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 استغلال أبواب الخير في الحج الوسيلة الأربعون: الحج موسم تجاري، لكنه تجارة مع الله، فما أكثر أبواب الخير فيه، بل ربما إن أوجه الخير التي أشار إليها صلى الله عليه وسلم في الأحاديث -على سبيل المثال لا الحصر- لا تتوفر كما تتوفر في موسم الحج. وجوه الخير وأبواب الخير التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث ربما لا تتوفر جميعها إلا في هذه المناسبة، ولذلك حاولت بجهد ضعيف أن أجمع بعض الأحاديث التي وقفت عليها مما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبواب الخير. أقول لك هذه الأبواب حتى لا تحتقر نفسك بأنك لا تستطيع أن تقدم؛ فكل إنسان يستطيع أن يقدم ويفعل ما بوسعه، فاسمع إلى أبواب الخير التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في إشارة سريعة، وهي -تقريباً- وصلت إلى أربعين باباً من أبواب الخير: - تعدل بين اثنين. - تعين الرجل في دابته فتحمله عليها. - تحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف. - الكلمة الطيبة. - بكل خطوة تمشيها إلى الصلاة. - إماطة الأذى عن الطريق. - أمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة. - تعين ذا الحاجة الملهوف. - تكف شرك عن الناس. - كل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة. - دفن النخاعة في المسجد صدقة. - يعمل بنفسه فينفع نفسه ويتصدق. - يعطي من قليله وكثيره. - تهدي الأعمى. - تسمع الأصم. - إرشاد الضال. - تسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث. - بيانك عن الأغتم، والأغتم: هو الأعجمي الذي لا يفصح، وما أكثر الأعاجم. - منح منحة لبن، أو أهدى زقاقاً -والزقاق: هي القربة- صدقة. - أن تلقى أخاك بوجه طليق. - أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي. - ما أنفق المرء على نفسه وأهله. - ما وقى به عرضه. - أن تعطي صلة الحبل. - أن تعطي شسع النعل، يعني: سيره، وقطعته. - أن تلقى أخاك فتسلم عليه. - أن تؤنس الوحشان في الأرض. - تعين صانعاً أو تصنع لأخرق. - تنصر مظلوماً. - رد السلام. - إذا مرض فعده. - إذا مات فاتبعه. - إذا دعاك فأجبه. - إذا عطس فحمد الله فشمته. - إذا استنصحك فانصح له. - من يسر على معسر؛ يسر الله له في الدنيا والآخرة. - في كل كبد رطبة أجر. - من ستر على مسلم؛ ستره الله في الدنيا والآخرة. - من نفس عن مسلم كربةً، نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة. - يجزي عن ذلك ركعة الضحى يركعها. أقول: كل هذه الأمور موجودة في الحج، وقد لا تجتمع كلها إلا في مثل هذا الموسم، فما أكثر الجائعين في الحج إن أردت أن تطعم جائعاً، وما أكثر الضالين في الحج إن أردت أن ترشد ضالاً، وما أكثر الأعاجم في الحج إن أردت أن تفصح لأغتم، وما أكثر الأذى في الحج إن أردت أن تميطه عن الطريق، وما أكثر ذوي الحاجات إن أردت أن تعينهم، وما أكثر مجالات الكلمة الطيبة إن أردت أن تتكلم، فليس لأحد عذر مهما كان، كبر في سنه أو صغر، ذكراً كان أو أنثى، فليس لأحد عذراً مهما بلغ ومهما كان، لكن السؤال المهم الذي نسأله بكل أسى وألم نقول: أين من يعمل؟! وأين من يحمل هم العمل ويفكر فعلاً أن يعمل وينفع الآخرين؟! ولذلك أقول: يا أيها المسلم الغالي! ويا أيتها المسلمة الغالية! لا يصح أبداً أن يكون الأعداء خيراً منا وأنت على حق -كما أسلفنا في بداية الأمر- فإن دعوتهم وتشويههم للإسلام دخل إلى كل بيت مسلم إلا ما شاء الله، فها أنت تسمع وتقرأ عن البث المباشر، وها أنت تسمع عن الإذاعات التنصيرية الموجهة إلى بلاد المسلمين، بل إننا لنعجب ونتحسر يوم أن وصلت دعوتهم إلى أوغال الغابات وإلى أدغال أفريقيا، وإلى أواسط الجزر المجهولة والقبائل الوثنية في أدغال أفريقيا!! وقد والله رأينا مثل هذه المواقف ووقفنا عليها بأنفسنا، يوم أن رأينا في جزيرة ليس فيها مقوم من مقومات الحياة، وليس فيها شأن من شئون الدنيا، حتى الكهرباء ولا الماء ولا غير ذلك يوجد فيها، ومع ذلك أبياتهم هي من مجرد مجموعة من الأعواد وغير ذلك، حتى اللباس قد لا يجدون اللباس الذي يسترهم، ومع ذلك وجدنا عندهم بعض الكتيبات والوسائل الدعوية -مع الأسف- عن التنصير، أو الرافضة أو غير ذلك، في أقصى الأرض، وفي مثل هذه الأماكن المجهولة، فلماذا إذن يحتقر المسلم نفسه؟! ولماذا يخجل المسلم مع أنه صاحب حق ومبدأ وهدف، وهو يعلم ذلك؟ فلماذا إذن لا يوصل دعوته إلى كل مكان وإلى كل نفس؟! ووجدنا أولئك كيف صبروا وتحملوا الحر الشديد، والبرد القارس، والأمراض المعدية، والحياة البدائية، فنشكو إلى الله عز وجل عجزنا، ونشكو إلى الله جلد الفاجر وعجز المؤمن، فإنها والله مصيبة يوم أن يقوم صاحب الباطل فيعمل، ويوم أن ينام صاحب الحق فيكسل ويسكن ولا يتحرك. فهذه أربعون وسيلة لاستغلال موسم الحج، أسأل الله عز وجل العلي القدير أن ينفع بها كل سامع لها، وأن يبارك فيها. وكما أسلفت أيها الأحبة! هي عرضة للنقص والخطأ والزلل والتقصير، أسأل الله عز وجل أن يغفر ذلك لي، أحسب أني اجتهدت فيها، فما كان فيها من صواب فهو من الله عز وجل، وما كان فيها من خطأ فهو من نفسي الضعيفة ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان. أقول قولي هذا، وأسأل الله عز وجل أن يغفر لي ولكم، وأن يحفظ المسلمين في كل مكان، وأن يعز الإسلام وأهله، وأن يجعل من أراد للإسلام بسوء أن يجعل كيده في نحره. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 فن التعامل مع الزوجة الزواج كلمة يرقص لها القلب طرباً، وينشرح لها الصدر طلباً، وهي نعمة من أعظم نعم الله عز وجل على عباده. وركنا هذا الزواج هما الزوج والزوجة جمع الله بين هذين القلبين الغريبين، وجعل بينهما مودة ورحمة، وطمأنينة وسكينة، وراحة واستقراراً، وأنساً وسعادة. والحديث هنا إلى صاحب هذه المملكة الصغيرة، نعم. فالزوج ملك لهذه الأسرة الصغيرة، فيا أيها الملك! إن أردت السعادة لهذه المملكة الصغيرة، وأردت الاستقرار والراحة النفسية؛ فلابد من تحقيق قوامتك بأركانها وشروطها وآدابها الشرعية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 عرض لبعض الشكاوى الزوجية وكيفية علاجها إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الأحبة في الله! فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لاشك أيها الأحبة! أن الزواج كلمة يرقص القلب لها طرباً، وينشرح الصدر لها طلباً، وهي نعمة من أعظم نعم الله عز وجل على عباده! قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] . وركنا هذا الزواج هما: الزوج والزوجة، جمع الله بين هذين القلبين الغريبين، وجعل بينهما مودةً ورحمةً، وطمأنينةً وسكينةً، وراحةً واستقراراً، وأنساً وسعادةً. وجعل القوامة بيد الرجل فقال الله عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] . وحديثي هذه الليلة إلى صاحب هذه المملكة الصغيرة، نعم. فالزوج ملك لهذه الأسرة الصغيرة، فيا أيها الملك! إن أردت السعادة لهذه المملكة الصغيرة، وأردت الاستقرار والراحة النفسية؛ فلا بد من تحقيق هذه القوامة بأركانها وشروطها وآدابها الشرعية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 شكاوى الأزواج شكا بعض الإخوة حالهم مع أزواجهم، فقائل يقول: - أين السعادة والراحة النفسية؛ فإني لم أشعر بشيء من ذلك؟ - وقائل يقول: لم أعد أطيق تصرفاتها وحمقها. - وقائل آخر: أزعجتني بكثرة خروجها وزياراتها. - وقائل آخر يقول: أرهقتني بكثرة طلباتها ومصاريفها. - وقائل: تعبت من كثرة هجرها للفراش وتمنعها. - وقائل: لم أعد أرى ذلك الجمال ولا التجمل إلا في المناسبات والأفراح. - وقائل: لا تهتم بأولادها وتربيتهم ومتابعتهم. - وقائل: تعبت من إلحاحها بجلب خادمة أتعورها وأُفتن بها. - وقائل: لا تهتم بي، ولا ترعى خاطري. - وقائل: لم أسمع منها كلمةً طيبةً أو عبارةً رقيقةً. - وقائل: لم أعد أطيق؛ فسأطلق. وغير ذلك مما تسمعون وتقرءون وتشاهدون، وكأن حال لسان كل واحد من أولئك يلقي باللوم كله على الزوجة المسكينة ويبرئ نفسه! وأنا هنا أعرف أنني أوقعت نفسي بموقف حرج، فهل أنتصر لبني جنسي من الرجال؛ فتغضب علي النساء، أو أني أميل لجنس آخر؛ فيغضب علي الرجال؟! وبعد جهد جهيد وتفكير عميق، عرفت أنه لا نجاة لي إلا بالرجوع إلى المصدر الأصلي، إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، إلى الله عز وجل الذي خلق الرجال والنساء، وفضل كلاً منهما بفضائل ومميزات فيكمل كلٌ منهما الآخر، فخرجتُ أن سبب تلك المشاكل كلها يتحملها الرجل والمرأة بحد سواء، فكلٌ عليه تبعات وله مهمات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 شكاوى الزوجات فإن كنت تشكو أيها الرجل فإن المرأة تشكو أيضاً. - فقائلة تقول: الصباح في وظيفته، والليل مع شلته، ولا نراه إلا قليلاً. - وقائلة: لا يسمح لي بزيارة أهلي والجلوس معهم. - وقائلة: لا ينظر إلى أولاده، ولا يهتم بهم ولا بمطالبهم. - وقائلة: يشتمني ويضربني ويسيء إلي أمام أولادي. - وقائلة: آذاني برائحة الدخان، وتركه للصلاة. - وقائلة: كثير النقد والملاحظات، والسباب واللعان. - وقائلة: دائماً يهددني بالطلاق والزواج من أخرى. - وقائلة: أتجمل وأتزين ولم أسمع منه كلمة إعجاب أو غزل. - وقائلة: يمنعني من الدروس والمحاضرات، ولم يحضر لي شريطاً أو كتاباً فيه خير. - وقائلة: كثير السهر والجلوس أمام الأفلام والمباريات. - وقائلة: لا يشاورني ولا يجلس معي، ويثور لأتفه الأسباب. - وقائلة: آذاني بكثرة جلساء السوء، تدخين وغناء وشقاء. - وقائلة: لا يهتم بي وبطلباتي الخاصة ولا حتى بالمنزل وطلباته. - وقائلة: يسافر كثيراً، وليس لنا نصيب ولو عمرة في السنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 مفهوم الحياة الزوجية وأقول: الحياة الزوجية تعاون وتآلف وحب ووئام، وإن أمثل قاعدة للسعادة والراحة أن نفهم جيداً قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) ، وقول أبي ذر لزوجه: [إذا رأيتني غضبت فرضني، وإذا رأيتك غضبى رضيتك، وإلا لم نصطحب] . وقول الشاعر: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا لنفهم المعنى من هذه الكلمات، وعندها نعلم أن كل مشكلة سببها الزوجان وليس واحداً منهما. ولذلك سيكون حديثي لكل منهما إن شاء الله تعالى، أما الليلة فهو خاص بالأزواج. لماذا الحديث عن الرجال أولاً؟ وقد يقول الرجال: لماذا بدأت بنا؟! فأقول: لأمور: أولاً: لأن الرجال أكثر تحملاً وتعقلاً وصبراً. ثانياً: لقوامة الرجل على المرأة، ولأنه السيد، ولأنه الآمر الناهي فلا أحد غيره يملك حق التصرف في مملكته هذه، فهل يعقل الرجال هذا؟! ثالثاً: لأن الرجل لو عرف كيف يتعامل -أي مع زوجه- لعلم أن مفتاح السعادة بيده. ومتى كان التعامل مع الزوجة فناً؟ أقول: نعم. إن التعامل مع الزوجة فن، ويجب علينا نحن معاشر الرجال أن نتعلم هذا الفن، فليس الزواج مجرد متعة وشهوة، وليس الزواج القيام بالبيت وتأثيثه، وليس الزواج هو إنجاب الأولاد والبنات، وليس الزواج هو مجرد إطعامهم الطعام أو إلباسهم الثياب، فإن الكثير من الرجال قادر على ذلك، والرزاق هو الله لا الزوج. لكن الزواج حقوق شرعية، وحسن تعامل ومسئولية، فللمرأة حقوق وواجبات جاء بها الإسلام بالأدلة القرآنية والنصوص النبوية: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] . فلا بد أن يعرفها الرجل جيداً ولا يفض الخاتم إلا بحقه. وهذا الفن لا نأخذه عبر وسائل الإعلام، ولا نأخذه من المجلات الهابطة، وإنما نأخذه بالرجوع إلى سيرته صلى الله عليه وسلم وشتان بين الأمرين، لما لجأ كثير من الناس إلى مثل هذه المصادر؛ رأينا الفرقة والخصام، ورأينا كثرة الأخطار التي تهدد كيان هذه الأسرة، وغفلنا في خِضم هذه الحياة وشهواتها عن أن نرجع حقيقةً إلى سيرته صلى الله عليه وسلم، نستقي منها الدروس والعبر في كل شأن من شئون حياتنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] . ولذلك كيف كان يتعامل مع أزواجه صلى الله عليه وسلم؟! ولذلك أمر الله عز وجل نساء النبي أن يخبرن بكل ما يدور في بيته صلى الله عليه وسلم حتى ولو كانت هذه الأخبار أسراراً زوجية، فقال الله عز وجل، والخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] . أمر من الله عز وجل، فلنتخذ هذه الحياة دستوراً ومنهجاً للتعامل مع الأزواج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 أسباب اختيار موضوع فن التعامل مع الزوجة أما أسباب اختيار الموضوع فكثيرة، منها: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 بيان منهج الإسلام في حسن المعاشرة 1/ بيان منهج الإسلام وشرعه في حسن معاشرة الزوجة وصحبتها، وبيان كثير من حقوقها مما يجهله كثير من الناس وخاصةً بعض الرجال، أو أن بعضهم يتجاهلون هذه الحقوق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 بعض المفاهيم الخاطئة والصور السيئة 2/ تلك الصورة السيئة والمفهوم الخاطئ عند بعض الرجال عن أن المرأة يجب الحذر منها، وأن تُشد عليها الوطأة من أول ليلة يدخل بها الرجل. وقد يتواصى بعض الشباب وبعض الرجال بمثل هذه الوصية، كما يقال في المثل العامي: (العود على أول ركزة) . فيتناقل الناس والشباب والرجال مثل هذه الأمثال ومثل هذه الوصايا، ثم يحدث ما لا تحمد عقباه. ومن الخطأ أن نقول كما قال ذاك الشاعر: رأيت الهم في الدنيا كثيراً وأكثره يكون من النساء فلا تأمن لأنثى قط يوماً ولو قالت نزلتُ من السماء! ولا نقول كما قال الآخر أيضاً: إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين فهن أصل البليات التي ظهرت بين البرية في الدنيا وفي الدين لا نقول كما قال هذا ولا ذاك، وإنما نقول كما قال ذلك الشاعر المنصف: إن النساء رياحين خلقن لنا وكلنا يشتهي شم الرياحين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 شكوى كثير من النساء 3/ شكوى كثير من النساء من سوء معاملة زوجها وقبح أخلاقه معها، وقد يصل الأمر في بعض الأحايين إلى ضربها وحبسها، وقد يتمنى البعض موتها، كما قال أحدهم: لقد كنت محتاجاً إلى موت زوجتي ولكن قرين السوء باق معمر فيا ليتها سارت إلى القبر عاجلاً وعذبها فيه نكير ومنكر وكقول الآخر يخاطب زوجه: تنحي فاجلسي مني بعيداً أراح الله منك العالمينا أغربالاً إذا استودعت سراً وكانوناً على المتحدثينا حياتك ما علمت حياة سوء وموتك قد يسر الصالحينا أقول: ليس هذا هو النهج النبوي في معاملة الزوجة، وإنما هو كما سنتعرض له بعد قليل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 الاتباع والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم 4/ الحياة الزوجية في بيته صلى الله عليه وسلم أنموذج رائع نذكر به الرجال في الاتباع والتأسي. هذه الأسباب الأربعة هي التي جعلتني أتحدث عن مثل هذا الموضوع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 سبل التعامل مع الزوجة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 التلطف والدلال ومن صور الملاطفة والدلال للزوجة: نداؤها بأحب الأسماء إليها، أو بتصغير اسمها للتمليح أو ترخيمه -يعني تسهيله وتليينه- وهذا أيضاً من حياته صلى الله عليه وسلم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لـ عائشة: (يا عائش! هذا جبريل يقرئكِ السلام) . والحديث متفق عليه. وكان يقول لـ عائشة أيضاً يا حميراء! قال ابن الأثير في النهاية: والحميراء تصغير حمراء، يراد بها البيضاء. وقال الذهبي: الحمراء في لسان أهل الحجاز البيضاء بشقرة، وهذا نادر فيهم. إذاً: لقد كان صلى الله عليه وسلم يلاطف عائشة ويناديها بتلك الأسماء مصغرةً مرخمةً. وأخرج مسلم من حديث عائشة في الصيام قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل إحدى نسائه وهو صائم، ثم تضحك رضي الله تعالى عنها) أي تعني أنه كان يقبلها. وأخرج النسائي في عشرة النساء أن عائشة قالت: (هوى النبي صلى الله عليه وسلم ليقبلني، فقلت: إني صائمة، فقال صلى الله عليه وسلم: وأنا صائم) . وأيضا أنها قالت: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يظل صائماً فيقبل ما شاء من وجهي) . ومن حديث عائشة -أيضاً- أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكرت كلمةً معناها (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً، وألطفهم بأهله) . ومن خلال هذه الأحاديث يتبين لنا ملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه، وحسن التعامل معها، أي: مع عائشة رضي الله عنها. ومن صور المداعبة والملاطفة أيضاً: إطعام الطعام، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، ثم ذكر الحديث إلى قوله: (وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى فيّ امرأتك) حتى اللقمة التي ترفعها بيدك إلى فم امرأتك هي صدقة، ليس فقط كسباً للقلب، وليس فقط حسن تعامل مع الزوجة بل هي صدقة تؤجر بها من الله عز وجل. وذكر النووي في هذا الحديث: أن وضع اللقمة في فم الزوجة يقع غالباً في حال المداعبة، ولشهوة النفس في ذلك مدخل ظاهر، ومع ذلك إذا وجه القصد في تلك الحالة إلى ابتغاء الثواب حصل له بفضل الله. قلت -والقائل الحافظ ابن حجر -: وجاء ما هو أصرح من ذلك وهو ما أخرجه مسلم عن أبي ذر فذكر حديثاً فيه (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟! قال: نعم. أرأيتم لو وضعها في الحرام) . إذاً: فمن صور المداعبة والملاطفة للزوجة إطعامها الطعام، وكم لذلك من أثر نفسي على الزوجة. وأنا أسألك أيها الرجل! ماذا يكلفك مثل هذا التعامل؟! لا شيء. إلا حسن التأسي والاقتداء، وطلب المثوبة، وحسن التعامل، وبناء النفس. فالملاطفة والدلال والملاعبة أنت مأمور بها شرعاً؛ لما تفضي إليه من جمع القلوب والتآلف، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ جابر بن عبد الله: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك؟!) إذاً: فالمضاحكة والملاعبة والملاطفة والدلال للمرأة مطلوب منك شرعاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 التجاوز عن الأخطاء الدنيوية التجاوز عن الأخطاء في الحياة الزوجية، وغض البصر عنها، خاصةً إذا كانت هذه الأخطاء في الأمور الدنيوية. فأقول: لا تنس يا أيها الأخ الحبيب! أنك تتعامل مع بشر: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) ولا تنس أنك تتعامل مع امرأة، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (خلقت من ضلع أعوج) . لا تكن شديد الملاحظة، لا تكن مرهف الحس فتجزع عند كل ملاحظة أو خطأ، انظر لنفسك دائماً فأنت أيضاً تخطئ، لا تنس أن المرأة كثيرة الأعمال في البيت، ومع الأولاد والطعام والنظافة والملابس وغيرها، ولا شك أن كثرة الأعمال يحدث من خلالها كثير من الأخطاء. لا تنس أن المرأة شديدة الغيرة، سريعة التأثر، احسب لكل هذه الأمور حسابها، واسمع لهذه الأمثلة التي تدل على الحلم والإنصاف: عائشة رضي الله عنها وأرضاها، كما تُحدث أم سلمة أنها أي - أم سلمة - أتت بطعام في صحفة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة متزرة الكساء ومعها فهر -أي: حجر ناعم صلب- ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة وقال -يعني لأصحابه-: (كلوا، غارت أمكم، غارت أمكم! ثم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة، وأعطى صحفة أم سلمة لـ عائشة) . والحديث أخرجه البخاري والنسائي واللفظ للنسائي. فأقول: انظر لحسن خلقه صلى الله عليه وسلم وإنصافه وحلمه، وانظر لحسن تصرفه وحله لهذا الموقف بطريقة مقنعة، معللاً لهذا الخطأ من عائشة رضي الله عنها بقوله: (غارت أمكم، غارت أمكم!) ؛ فهو يقدر نفسية عائشة اعتذاراً منه صلى الله عليه وسلم لها، ولم يحمل عائشة نتيجة هذا الخطأ ونتيجة هذا العمل، ولم يذمها صلى الله عليه وسلم؛ لأن أم سلمة هي التي جاءت إلى بيت عائشة تقدم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذا الطعام، ولذلك قدر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الموقف، وتعامل معه بلطف وحكمة صلوات الله وسلامه عليه. وقدر ما يجري عادةً بين الضرائر من الغيرة؛ لمعرفته صلى الله عليه وسلم أنها مركبة في نفس المرأة، لم يؤدب النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وبين أنها غارت مع أنها كسرت الإناء، ومع أنها أيضاً تصرفت أمام أصحابه هذا التصرف، ولكن: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] . فانظر للحكمة، وانظر لحسن التعامل، وتصور لو أن هذا الموقف حصل معك، كيف سيكون حالك أيها الزوج؟! بل وربما لو حصل هذا الموقف بينك وبين زوجك مثلاً في المطبخ والرجال موجودون في المجلس، كيف ستكون نفسيتك؟ وكيف سيكون التصرف؟! إذاً: فالعفو والصفح إذا قصرت الزوجة، وشكرها والثناء عليها إن أحسنت، كل ذلك من شيم الرجال ومن محاسن الأخلاق. وبعض الأزواج قد يختلق المشاكل وينفخ فيها، وقد تنتهي هذه المشاكل بحقيقة مرة وهي الطلاق!! واسمع لهذا الموقف: روي أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ليشكو سوء خلق زوجته، فوقف على بابه ينتظر خروجه، فسمع هذا الرجل امرأة عمر تستطيل عليه بلسانها وتخاصمه، وعمر ساكت لا يرد عليها، فانصرف الرجل راجعاً وقال: إن كان هذا حال عمر مع شدته وصلابته وهو أمير المؤمنين، فكيف حالي؟! وخرج عمر فرآه مولياً عن بابه، فناداه وقال: ما حاجتك أيها الرجل؟! فقال: يا أمير المؤمنين! جئت أشكو إليك سوء خلق امرأتي واستطالتها علي فسمعت زوجتك كذلك؛ فرجعت وقلت: إذا كان هذا حال أمير المؤمنين مع زوجته فكيف حالي؟! قال عمر: يا أخي إني أحتملها لحقوق لها علي، إنها لطباخة لطعامي، خبازة لخبزي، غسالة لثيابي، مرضعة لولدي، وليس ذلك كله بواجب عليها، ويسكن قلبي بها عن الحرام؛ فأنا أحتملها لذلك. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين! وكذلك زوجتي. قال عمر: فاحتملها يا أخي! فإنما هي مدة يسيرة. يقول الله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] . هكذا كانت حياتهم الزوجية، ذكر للحسنات، وغض للبصر عن الأخطاء والسيئات. ويقال: إن بدويةً جلست تحادث زوجها، وتطرق الحديث إلى المستقبل كعادة الأزواج، فقالت: إنها ستجمع صوفاً وتغزله وتبيعه وتشتري به بكراً، فقال زوجها: إذا اشتريته فسأكون أنا الذي أركبه، قالت: لا. فألح زوجها، فرفضت، وأصر ولم ترجع هي، حتى غضب زوجها فطلقها. فلا توجد هناك مشكلة، القضية قضية أماني في المستقبل، تقول: لو كان عندي صوف وأغزله ثم أبيعه ثم أشتري بكراً، فتخاصما على من يركبه أولاً؛ فحصل الطلاق. هذا المثل يوضح حقيقة الحال في كثير من الطلاق الذي يحصل بين الرجل والمرأة لأسباب تافهة، وعندما يقف أهل الخير أو القضاة أو غيرهم على بعض أسباب الطلاق، يجدون أن أسباب الطلاق تافهة لا تذكر، وهكذا كثير من المشكلات وهمية تافهة، تنتهي بنهاية الحياة الزوجية وللأسف! ويروى (أن عائشة قالت مرةً للنبي صلى الله عليه وسلم وقد غضبت عليه: أنت الذي تزعم أنك نبي؟! فتبسم رسول صلى الله عليه وسلم) واحتمل ذلك حلماً وكرماً. وما أروع هذا التوجيه النبوي الذي يجعل البيت جنةً! فإذا غضب أحد الزوجين وجب على الآخر الحلم، فحال الغضبان كحال السكران لا يدري ما يقول وما يفعل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 التزين والتجمل والتطيب للزوجة أما الجمال والزينة للرجل فبحدودها الشرعية، فلا إسبال، ولا حلق للحية، ولا وضع للأصباغ والمساحيق كما يفعل بعض شبابنا. (سئلت عائشة بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك) . والحديث أخرجه مسلم. وذكر بعض أهل العلم فائدةً ونكتةً علميةً دقيقةً، قالوا: فلعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك؛ ليستقبل زوجاته بالتقبيل. وعند البخاري أن عائشة قالت: (كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم بأطيب ما أجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته) . وفي البخاري -أيضاً- أن عائشة قالت: (كنت أرجل رأس النبي صلى الله عليه وسلم -يعني أسرح شعره- وأنا حائض) . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب اللباس. وفي البخاري -أيضاً- من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خالفوا المشركين، ووفروا اللحى، وحفوا الشوارب) . وفي هذه الأحاديث كلها وغيرها، بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التجمل والتزين الشرعي الذي يحبه الله، بخلاف ما عليه بعض الرجال اليوم من إفراط أو تفريط في قضية الزينة والتجمل للمرأة، ومن المبالغة في التجمل. ومن أعجب المتناقضات التي يعيشها بعض الرجال أن تجده يحلق لحيته للتجمل والزينة كما يقول، ثم تشم منه رائحةً كريهةً عفنةً وهي رائحة التدخين! فأين أنت والتجمل الذي تريده يوم أن حلقت لحيتك وشربت الدخان؟! وآخرون وقعوا في تفريط عظيم وتقصير عجيب في قضية التجمل والزينة، تبذلٌ في اللباس، وإهمال للشعر، وترك للأظافر والشوارب والآباط، وروائح كريهة! والخير كل الخير في امتثال المنهج النبوي في التجمل والتزين والاهتمام بالمظهر، وهو حق شرعي للمرأة وسبب أكيد في كسب قلبها وحبها، فالنفس جبلت على حب الأفضل والأجمل والأنظف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 حال السلف في التزين والتجمل لنسائهم تعال نسمع لحال السلف رضوان الله تعالى عليهم جميعاً، وكيف كانوا في هذا الباب. قال ابن عباس: [إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستوجب كل حقي الذي لي عليها، ولا تستوجب حقها الذي لها علي؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]] . وقد دخل على الخليفة عمر زوج أشعث أغبر ومعه امرأته وهي تقول: لا أنا ولا هذا، فعرف كراهية المرأة لزوجها، فأرسل الزوج ليستحم ويأخذ من شعر رأسه ويقلم أظافره، فلما حضر أمره أن يتقدم من زوجته، فاستغربته ونفرت منه ثم عرفته فقبلت به ورجعت عن دعواها، فقال عمر: [هكذا فاصنعوا لهن، فوالله إنهن ليحببن أن تتزينوا لهن كما تحبون أن يتزين لكم] . وقال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي: [أتيت محمد بن الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية -والغالية هي خليط أطيب الأطياب- فقلت له: ما هذا؟ قال محمد: إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه منهن] . ذكر ذلك القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القرآن. إذاً: فالمرأة تريد منك كما تريد أنت منها في التجمل والتزين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 القناعة بالزوجة وعدم التطلع إلى غيرها القناعة والرضا بالزوجة وعدم الاستجابة لدعاة التبرج ودعاة الفتنة والسفور، وذلك بالنظر إلى النساء، وهذا حال بعض من الرجال من النظر إلى النساء في الأفلام، والتلفاز، والمجلات، وقد زيفتها الألوان والمكياج وغير ذلك، ونفخ الشيطان ببعض الرجال فقارن وصور زوجته العفيفة الطاهرة بتلك السافرات العاهرات، وأطلق ذلك الرجل لبصره العنان في تتبع هؤلاء النساء يقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] . ولا شك أن ذلك شر مستطير، وسبب أكيد في تدمير كيان الأسرة، وهذا أمر ملموس ومشاهد، وعلاج ذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأةً فأتى زينب وهي تمعس منيئةً لها -أي تدلك جلداً- فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه فقال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأةً فليأت أهله؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه) . أخرجه مسلم في صحيحه. هذا علاج لا نبحث عنه في المجلات الطبية ولا المجلات الأسرية، إنما نبحث عنه في سنته النبوية صلى الله عليه وسلم. والنفس دائماً ترغب في كل جديد، خاصةً عند الرجل، وكما يقال: كل ممنوع مرغوب، ولو ملك الرجل أجمل النساء ثم سمع بامرأة أخرى لتهافتت نفسه ولزه شيطانه، ولم أجد مثل القناعة والرضا حلاً لذلك. ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم الرجل أن يطلب عثرات زوجته، فأخرج مسلم من حديث جابر قال: (نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلاً أن يتخونهم أو يلتمس عثراتهم) . إنما على الزوج أن يغض الطرف، وأن يقنع بما وهبه الله إياه، ولينظر إلى من هو أسفل منه؛ ليزداد قناعةً ورضا، وليشكر نعمة الله عز وجل عليه. ثم إني أقول لك أيضاً: إن بليت بمثل هذه الأمور، وبمثل حديث النفس هذا، فالجأ إلى الله عز وجل بالدعاء ولسان حالك يقول كما قال الحق عز وجل على لسان يوسف عليه السلام: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] . إذاً: ادع الله عز وجل وألح بالدعاء وأنت موقن بالإجابة؛ لأن الله تكفل فيها ليوسف عليه السلام، فقال: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:34] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 الجلوس مع الزوجة والتحدث إليها ومشاورتها إن كثيراً من الأزواج كثير الترحال، كثير الخروج، كثير الارتباطات، بل سمعنا عن الكثير منهم أنه يخرج للبراري والاستراحات كل يوم وليلة، بل سمعنا عن بعض الأزواج أنه يسهر كل ليلة إلى ساعات متأخرة من الليل. فأي حياة هذه؟! وأين حق الزوجة وحق الأولاد والجلوس معهم؟! وانظر مثالاً لهذا الفن في الجلوس مع الزوجة والحديث معها، حديث أم زرع الطويل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع لـ عائشة تحكيه، قال ابن حجر: وفيه -أي: هذا الحديث من الفوائد- حسن عشرة المرء أهله بالتأنيس والمحادثة بالأمور المباحة ما لم يفض ذلك إلى ما يمنع. اهـ. استشارة الزوجة والشكاية لها يشعرها أيضاً بقيمتها وحبها، استشر المرأة ولو لم تكن أيها الأخ الحبيب بحاجة إلى مثل هذه المشورة؛ فإنك تشعر هذه الزوجة بقيمتها وحبك لها، ولن تعدم الرأي والمشورة أبداً -إن شاء الله عز وجل- فربما فتحت عليك برأي صائب كان السبب في سعادتك. ومثال ذلك: انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، فقد كان يستشير أزواجه، ومن ذلك استشارته صلى الله عليه وسلم لـ أم سلمة في صلح الحديبية عندما أمر أصحابه بنحر الهدي وحلق الرأس فلم يفعلوا؛ لأنه شق عليهم أن يرجعوا ولم يدخلوا مكة، فدخل مهموماً حزيناً على أم سلمة بخيمتها، فما كان منها إلا أن جاءت بالرأي الصائب: اخرج يا رسول الله! فاحلق وانحر، فحلق ونحر؛ فإذا بأصحابه كلهم يقومون قومة رجل واحد فيحلقون وينحرون. وأيضاً انظر لاستشارته لـ خديجة رضي الله عنها في أمر الوحي، ووقوفها معه وشدها من أَزره رضوان الله عليها، هكذا المرأة فإنها معينة لزوجها إذا أشعرها زوجها بقيمتها. ولذلك أقول: العلاقة بين الزوجين تنمو وتتأصل كلما تجددت ودارت الأحاديث بينهما، فالأحاديث وسيلة التعارف الذي يؤدي إلى التآلف، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) . - مفتاح السعادة بيدك، فالحذر من تعود الصمت الدائم بينكما؛ فتتحول الحياة إلى روتين بغيض؛ كأنها ثكنة عسكرية فيها أوامر من الزوج وطاعة من الزوجة خذي هاتي كلي اشربي قومي اقعدي تعالي اذهبي نامي استيقظي ماذا تريدين متى تخرجين!! أُسطوانة مكررة مكروهة تجعل الحياة الزوجية بغيضةٌ باهتةٌ باردةٌ! فأين الحب واللطافة؟ وأين المودة والرحمة وما بينهما؟! أين الأحاديث الحسان منك أيها الرجل! عن جمال عيونها، وعذوبة ألفاظها، ورقة ذوقها، وحسن اختيارها للباسها؟! وأين كلمات الشكر والثناء عند الطبخ والغسل والكنس؟! وأين الحديث عن تربية الأولاد وصلاحهم؟ وأين الحديث عن هموم المسلمين ومشاكلهم؟ فيا أيها الرجل العاقل! إن من فن التعامل مع الزوجة أن تخصص وقتاً للجلوس معها تحدثها وتحدثك، وتفضي إليك بما في نفسها، بدلاً من أن تكبت ذلك الحديث الذي في نفسها، فاجعلها تفضفض بما يدور في نفسها بدلاً من ذلك الكبت والحبس الذي سيتضح جلياً على سلوكها وتصرفاتها، ثم ينعكس ذلك على أولادها وأعمالها وأشغالها، ثم ينعكس ذلك على تصرفاتها وسلوكها معك أنت كزوج. أرأيت أيها الأخ الحبيب! إنك تملك مفتاح هذه السعادة وهذه المملكة الصغيرة بحسن تصرفاتك وأفعالك؟! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 مداراة المرأة وعدم التضييق عليها والاعتذار إليها عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيراً؛ فهن خلقن من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً) . أخرجه البخاري ومسلم. لا تطلب المحال، افهم جيداً نفسية المرأة، وافهم جيداً خلقة المرأة. قال البيضاوي: ومعنى استوصوا أي: أوصيكم بهن خيراً، فاقبلوا وصيتي فيهن واعملوا بها. وفي الحديث إشارة إلى ترك المرأة على اعوجاجها في الأمور المباحة، وألا يتركها على الاعوجاج إذا تعدت ما طبعت عليه من النقص، كفعل المعاصي وترك الواجبات، وأيضاً في الحديث سياسة النساء بأخذ العفو منهن، والصبر عليهن وعلى عوجهن. وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث الآخر: (لا يفرك مؤمن مؤمنةً إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) أخرجه مسلم. ومعنى يفرك أي: يبغض منها شيئاً يفضي به إلى تركها. وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم) . انظر للتشبيه انظر للصورة الجميلة: فإنهن عوان عندكم، أي: هن كأسيرات عند الرجال! فهي أشبه بالأسير، كسيرة القلب مهيضة الجناح؛ فوجب على الرجل أن يجبر قلبها، وأن يرفع من معنوياتها، ويحسن إليها ويكرمها. أما الاعتذار إليها عند الخطأ والاعتراف به فهو أدب جم وخلق رفيع، خاصةً عند غضبها. واسمع لهذه الأحاديث، وأرجعكم دائماً إلى حياته صلى الله عليه وسلم حتى نتبين -أيها الأحبة- أن حياته صلى الله عليه وسلم في كل شئون الحياة هي قدوة ونبراس ومرجع، يجب أن نرجع إليه وأن ندرسه يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] . روى النسائي في كتاب عشرة النساء عن أنس قال: (كانت صفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان ذلك يومها فأبطأت بالمسير -أي تأخرت بالمسير عنهم- فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي وتقول: حملتني على بعير بطيء! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بيديه عينيها ويسكتها) . الله أكبر! يمسح صلى الله عليه وسلم بيديه عينيها ويسكتها! فأبت إلا بكاءً؛ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركها، فذهبت صفية إلى عائشة فقالت: يومي هذا لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنت أرضيته عني. فماذا فعلت عائشة؟! انظري واسمعي أيتها المرأة! وإن كان هذا الحديث سيأتيك إن شاء الله، لكن أقول: انظري إلى عقل عائشة رضي الله عنها وانظري إلى تصرفها، كيف تملكين أيتها المرأة مفتاح قلب الزوج، واعلمي أيتها الأخت! أنك ساحرة لقلب الرجل ولذلك قلت: إن موضوع الدرس القادم سيكون بعنوان: (السحر الحلال) لأن المرأة تملك فعلاً هذا السحر بما وهبها الله عز وجل من عذوبة ورقة ونعومة. فماذا فعلت عائشة؟! عمدت عائشة إلى خمارها وكانت صبغته بورد وزعفران، فنضحته بشيء من ماء؛ حتى تخرج رائحته ثم جاءت حتى قعدت عند رأسه صلى الله عليه وسلم فقال لها: مالك؟ -يعني اليوم ليس لك- فقالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء! فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم الحديث، فرضي عن صفية. وانظر واسمع -أيضاً- لمثال آخر لحياته صلى الله عليه وسلم: فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: (جاء أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع عائشة وهي رافعة صوتها على رسول صلى الله عليه وسلم، فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر بالدخول فدخل، فقال أبو بكر وتناولها: يا بنة أم رومان! أترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها -يعني كأنه جعلها خلفه يريد أن يخلصها من أبيها رضي الله تعالى عنه- فلما خرج أبو بكر جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها -يترضاها-: ألا ترين أني قد حلت بين الرجل وبينك؟! قال: ثم جاء أبو بكر فاستأذن عليه فوجده يضاحكها -رجعت العلاقة مرةً أخرى؛ بملاطفة النبي وحسن مداراته لزوجه بالاعتذار منه صلى الله عليه وسلم، انظر إلى قمة الأخلاق {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]- فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالدخول، فقال أبو بكر: يا رسول الله! أشركاني في سِلْمِكُما كما أشركتماني في حربكما) . وفي الحديث بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحلم والتواضع وحسن معاشرة زوجه، فلم تدفعه مكانته أو قوامته للتكبر أو المكابرة عن الاعتذار، بل كان هو البادئ بالإصلاح صلى الله عليه وسلم. فأقول لك أيها الرجل: عليك بكسر حاجز المعاندة والمكابرة، وإن فعلت هذا فإنك أنت بنفسك تعود زوجك على هذا العمل وهذا الأدب، فإذا أخطأت وكان الخطأ منك ذهبت إليها واعتذرت منها، فإنها تأخذ هذا التصرف فإن قصرت أو أخطأت فستذهب هي وترجع إليك بالاعتذار. وأُذكر هنا مرةً أخرى بقاعدة أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه مع أم الدرداء بقوله: [إذا رأيتني غضبان فرضني، وإذا رأيتك غضبى رضيتك، وإلا لم نصطحب] . فتعامل بهذه القاعدة في بيتك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 إظهار المحبة والمودة للزوجة بالقول وبالفعل أما بالقول: فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أم زرع الطويل لـ عائشة: (كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع) أي في الوفاء والمحبة، فقالت عائشة -واسمع أيضاً لحكمة عائشة، واسمع لعقل هذه المرأة رضي الله عنها وأرضاها-: (بأبي أنت وأمي! لأنت خير لي من أبي زرع لـ أم زرع) . وأما إظهار المحبة بالفعل: فهو كثير في حياته صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في صحيح مسلم في كتاب الحيض عن عائشة قالت: (كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ فيشرب، وأتعرق العرقة وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ) . والعرق: العظم عليه بقية اللحم. وأتعرق: أي آخذ عنه اللحم بأسناني، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضع فمه مكان فم عائشة رضي الله عنها في المأكل والمشرب، يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم وعائشة حائض. وهنا نكتة أيضاً أشار إليها بعض أهل العلم فقالوا: لم يكن يفعل ذلك شهوةً صلى الله عليه وسلم، وإنما إظهاراً للمودة والمحبة؛ لأن المرأة حائض. ثم لا بأس أيضاً من تقديم الزوجة عليك بالشرب والأكل، كل ذلك إظهاراً للمودة والمحبة. ومن ذلك أيضاً حديث عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض ويقرأ القرآن) . وذكر ابن كثير في البداية والنهاية هذا الموقف الجميل للمهدي، قال: حجت الخيزران زوجة المهدي في حياة المهدي فكتب إليها وهي بـ مكة يستوحش إليها ويتشوق إليها بهذا الشعر: نحن في غاية السرور ولكن ليس إلا بكم يتم السرور عيب ما نحن فيه يا أهل ودي أنكم غيب ونحن حضور فأجدوا بالسير بل إن قدرتم أن تطيروا مع الرياح فطيروا تصور هذه الكلمات لما يقولها الرجل لزوجه كيف ستكون الزوجة؟! ولذلك لما وصلت هذه الأبيات إلى الخيزران أمرت بمن يجيبه بهذه الأبيات: قد أتانا الذي وصفت من الشوق فكدنا وما قدرنا نطير ليت أن الرياح كن يؤدين إليكم ما قد يكن الضمير لم أزل صبةً فإن كنت بعدي في سرور فدام ذاك السرور هذا من المواقف التي تبين كيف كان أيضاً فن التعامل مع الزوجة، وإظهار المحبة والشوق لها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 التعاون على العبادة من الفن أيضاً، بل ومن أعظم وسائل السعادة للبيت المسلم، تعاون الزوجين على العبادات والنوافل والأذكار؛ ففي ذلك مرضاة لله، وإحياء للبيت، وطرد لروتين الحياة الممل. فما أحلى أن ترى زوجين صالحين يتعاونا على طاعة الله! (فالدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة) . ومثال ذلك: ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرةً حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال: ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم. قال النبي: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضاء نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته) . أخرجه مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده. والشاهد: انظر إلى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إرشاد وتعليم زوجه، وأسألكم بالله -أيها الأحبة- من منا وقف مع زوجه ساعات أو لحظات يعلمها ويذكرها ببعض الأذكار أو النوافل أو العبادات؟!! وأيضاً أخرج البخاري في كتاب الوتر في صحيحه باب: إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم أهله بالوتر، عن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأةً قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها؛ فإن أبى نضحت في وجهه الماء) أخرجه أبو داود، وقال الألباني عنه: حسن صحيح. انظر! فالقضية مبادلة، إن قصرت الزوجة فإذا بالزوج يذكر ويعين، وإذا قصر الزوج فإذا بالزوجة تذكر وتعين، وكل منهما مطالب بتذكير الآخر، فنحن مطالبون بالتعاون مع الزوجات في العبادات والنوافل. وعن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً؛ كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات) . أخرجه أبو داود في سننه، وقال الألباني: صحيح. صلاة النافلة في البيت نغفل عنها كثيراً، فبعض الرجال يحرص كثيراً أن يصلي النافلة في المسجد، مع أن السنة أن تصلي النافلة والسنن الرواتب في البيت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فإن أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة) لماذا؟! ليذكر الأهل ويشجعهم، بل ويربي أولاده وصغاره على هذه الأفعال. وما أجمل البيت يوم أن تغيب شمس ذلك اليوم وقد استعد الزوجان لجلسة الإفطار معاً! ما أحلى هذه الجلسة! وما أسعد هذين الزوجين بالتعاون على مثل هذه العبادات! وقل مثل ذلك في قراءة القرآن، وحضور درس أسبوعي أو محاضرة على الأقل، والقيام على الفقراء والمساكين في الحي، وغيرها من الأعمال الصالحة والخيرة التي لو تعاون الزوجان على مثل هذه الأمور؛ لكان ذلك عماد السعادة الزوجية وحلاوتها وروحها، ومن جرب هذا وجد طعم هذه الحياة. {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 الممازحة والمرح مع الأهل ومن هذا ما أخرجه النسائي في كتابه عشرة النساء من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (زارتنا سودة يوماً، فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم بيني وبينها إحدى رجليه في حجري والأخرى في حجرها، فعملتُ لها حريرةً أو قالت خزيرةً فقلت: كلي، فأبت، فقلت: لتأكلي أو لألطخن وجهك! فأبت؛ فأخذت من القصعة شيئاً فلطخت به وجهها فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجله من حجرها لتستقيد مني، فأخذت من القصعة شيئاً فلطخت به وجهي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فإذا عمر يقول عند الباب: يا عبد الله بن عمر، يا عبد الله بن عمر، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوما فاغسلا وجوهكما فلا أحسب عمر إلا داخلاً) . وأيضاً أخرج النسائي في عشرة النساء من حديث عائشة رضي الله عنها، وعند ابن ماجة أيضاً في كتاب النكاح: (أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهي جارية فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال: تعالي أسابقك، فسابقني فسبقته على رجلي، فلما كان بعد خرجت معه في سفر فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال: تعالي أسابقك، ونسيت الذي كان وقد حملت اللحم، فقلت: كيف أسابقك يا رسول الله! وأنا على هذه الحال؟! فقال: لتفعلن، فسابقته فسبقني فقال: هذه بتلك السبقة!) . {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] . وأيضاً أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء بيني وبينه تختلف أيدينا عليه فيبادرني حتى أقول: دع لي، دع لي، قالت: وهما جنبان) . فالمزاح والمرح حتى أثناء الغسل من الجنابة، فينبغي للزوج أن ينمي في نفسه صفات الفكاهة والمرح في بعض الأحايين مع زوجه؛ لتقوية أواصر المحبة. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، يروى عنه أنه كان يمازح زوجه فدخل عليها يوماً من الأيام فوجد في فيها عوداً من أراك، فأراد أن يمازحها، فنظر إلى عود الأراك يخاطبه بهذين البيتين الجميلين فقال: حظيت يا عود الأراك بثغرها أما خفت يا عود الأراك أراكا؟! لو كنت من أهل القتال قتلتك ما فاز مني يا سواك سواكا! وهذا يبين حالهم التي كانوا عليها مع أزواجهم رضوان الله عليهم، فلا بأس أن ينظم الزوج أوقاتاً خاصةً للمرح واللعب مع الزوجة، فهذه سنة تضفي على الحياة الزوجية البهجة والسعادة، وتقطع الروتين البغيض فيها. وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أن قال لـ جابر -كما أسلفنا-: (ألا أخذتها بكراً تلاعبها وتلاعبك؟!) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 قضاء حوائج الزوجة ومساعدتها ببعض الأعمال فالزوجة بشر تتعب وتمرض، فعلى الزوج أن يراعي ذلك فيقوم بمساعدتها، وقضاء حوائجها، والقيام ببعض أعمال المنزل عنها، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم على خدمة أهله بنفسه (يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويكنس الدار، حتى إذا أذَّن المؤذن كأنه لا يعرفنا) ، كما تقول عائشة. إذاً: فالتواضع والبساطة مع شريكة العمر من أسباب السعادة، والمرأة في البيت ليست هملاً أو متاعاً، بل هي إنسان كالرجل تشاركه وتشاطره الأفراح والأتراح، فعلى الزوج أن يقف مع زوجه ويعينها. واسمع لهذه المرأة وهي تمدح زوجها الوفي المخلص فتقول: (زوجي لما عناني كاف، ولما أسقمني شاف، عرقه كالمسك، ولا يمل طول العهد، إذا غضبت لطف، وإذا مرضت عطف، أنيسي حين أفرد، صفوحاً حين أحقد، إذا دخل الدار دخل بساماً، وإذا خرج خرج ضحاكاً، ما غضب علي مرةً وما حقد، يأكل ما وجد، ويدرك ما قصد، ويفي بما وعد، ولا يأسَ على ما فقد، أديب أريب، حسيب نسيب، كسوب خجول، لا كسول ولا ملول، إذا طلبت منه أعطاني، وإن سكت عنه ابتداني، وإذا رأى مني خيراً ذكر ذلك ونشر، أو رأى تقصيراً ستر ذلك وغفر!) . فهنيئاً لهذه المرأة بزوجها! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 مراعاة شعورها ونفسيتها عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم إذا كنت عني راضيةً وإذا كنت علي غضبى، قلت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال: أما إذا كنت عني راضيةً فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى تقولين: لا ورب إبراهيم، قالت: أجل والله يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك) رواه البخاري ومسلم. وهذا الحديث يبين لنا كيف كان صلى الله عليه وسلم بدقة ملاحظته، ومراعاة شعور نفسية زوجه، حتى عرف عنها هذا الأمر. فإذا استقر الزوجان؛ استقر حال كل منهما، وعرف كل منهما ما يغضب الآخر وما يرضيه، وأسباب كل ذلك، فقد تمكنا بإذن الله من توطيد أسس الحياة الزوجية، والسير بها في الدروب الآمنة المفروشة بالورود والرياحين، وأمكنهما -أيضاً- تجنيب أسرتهما مسالك العسر ومواطن الزلل والنكد. ونلحظ في هذا الحديث دقة عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشاعر عائشة رضي الله عنها حتى صار يعلم رضاها وغضبها من مجرد حلفها. والزوج الذكي يحرص على احترام نفسية زوجته فيغض الطرف، ولا يكثر العتاب إلا في التجاوزات الشرعية فلا بد أن يأخذ على يدها فيها، أما ما عداها فالكمال عزيز، وبعض الخصال جبلة في المرأة يصعب تغييرها؛ فاصبر واحتسب {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 الحذر من شتمها أو ضربها والإساءة إليها قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] وقال الله آمراً الزوج بحسن عشرة زوجه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] . وكلمة العشرة هنا: مشتقة من المعايشة والمخالطة، والمعروف كلمة جامعة شاملة لكل خير. وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أزواجاً يضربون زوجاتهم فقال: (ما أولئك من خياركم، خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله) . وقال صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم) أخرجه أبو داود في سننه، وأحمد في مسنده، وهو صحيح كما في صحيح الجامع. فإن احتجت لشيء من الضرب أومن تأديب المرأة، فبحقه الشرعي: (فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مبرح) كما قال صلى الله عليه وسلم، والحديث عند الترمذي والنسائي. وروي عن شريح أنه قال: رأيت رجالاً يضربون نساءهم فشلت يميني حين أضرب زينبا وزينب شمس والنساء كواكب إذا طلعت لم تبق منهن كوكبا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 التوسيع على الزوجة في المطعم والملبس والنفقة قال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق:6] . وقال صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا الله في النساء! فإنكم أخذتموهن بكلمة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله -إلى أن قال صلى الله عليه وسلم- ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) أخرجه مسلم في صحيحه. وقال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: (إنك إن شاء الله لن تنفق نفقةً إلا أجرت، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك) متفق عليه. فالتوسيع عليها في بعض المباحات أمر مطلوب، وانظر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان إذا هويت زوجته شيئاً لا محذور فيه تابعها عليه -أي: وافقها- فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (دخل الحبشة المسجد يلعبون، فقال صلى الله عليه وسلم: يا حميراء! أتحبين أن تنظري إليهم؟ فقلت: نعم. فقام بالباب وجئته فوضعت ذقني على عاتقه فأسندت وجهي على خده، قالت: ومن قولهم يومئذ أبا القاسم طيباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك، فقلت: يا رسول الله! لا تعجل، فقام لي ثم قال: حسبك، فقلت: لا تعجل يا رسول الله! قالت: وما لي حب النظر إليهم، ولكني أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه) أخرجه النسائي في عشرة النساء، وصححه الحافظ ابن حجر في الفتح، وتابعه أيضاً على تصحيحه الشيخ الألباني في آداب الزفاف، وأصل الحديث في الصحيحين. وأخرج النسائي أيضاً في السنن الكبرى أنه قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل دينار دينار ينفقه الرجل على عياله) إلى آخر الحديث. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب العيال أن ابن عائشة قال: حدثت أن أيوباً كان يقول لأصحابه كثيراً: تعاهدوا أولادكم وأهليكم بالبر والمعروف، ولا تدعوهم تطمع أبصارهم إلى أيدي الناس. قال: وكان له زنبيل يغدو به إلى السوق في كل يوم؛ فيشتري فيه الفواكه والحوائج لأهله وعياله. هكذا كانوا في التوسيع على الزوجة وأولادهم في المطعم والملبس والنفقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 عدم التساهل مع الزوجة فيما يغضب الله قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78-79] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] . وقال جل وعلا: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] . وبعض الرجال -وللأسف- تنازل عن هذه القوامة، وضعف أمام إغراءات المرأة، وأمثلة ذلك: تبرج زوجته أو بناته في المناسبات والأفراح، ولبس الملابس الضيقة والمفتوحة والبنطلونات، وغير ذلك مما نسمعه ويتناقله الناس. وأيضاً من ذلك: خروج نسائه إلى الأسواق بدون محرم فتخاطب البائع وتجادله، وربما تكسرت بكلماتها، وقد يحدث هذا والزوج الضعيف موجود! وأيضاً من ذلك: إدخال الأجهزة والأفلام والمجلات وغير ذلك من وسائل الإعلام الهابطة لبيته بدون أن يحرك ساكناً أو أن يفعل تجاه ذلك شيئاً! وغير ذلك من المحرمات التي استهان بها كثير من الأزواج فغلبته نساؤه عليها؛ وكل ذلك مما جعل حياته جحيماً، والدليل (فمن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس) فلا زوجته ولا أولاده ولا هو راض حتى عن نفسه، فهو في غم وهم. وانتبهوا -واسمع أيها الزوج واسمعي أيتها الزوجة- لهذه الكلمة، أقول: كل خلاف يجري بين الزوجين كبر الخلاف أم صغر؛ إنما هو بسبب معصية الله تعالى قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] . واسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان يتعامل مع أزواجه، ففي صحيح مسلم عن عائشة قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام فيه صورة؛ فتلون وجهه، ثم تناول الستر فهتكه ثم قال: إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله) . فيا سبحان الله! كم من صورة وكم من تمثال في بيوت المسلمين اليوم! وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة) كما في حديث أبي طلحة عند مسلم، والبيت إن لم تدخله الملائكة دخلته الشياطين. ثم نعرف بعد ذلك سبب كثرة المشاكل في كثير من البيوت فقد عشعش الشيطان في هذا البيت؛ بسبب كثرة الصور والمشاكل ووسائل الإعلام المفسدة في البيت؛ فلم يعد هناك وجود للملائكة، ولم يكن هناك تطهير لهذا البيت فلا شك حلت المشاكل والهم والغم بين الزوجين. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -أيضاً-: (كلكم راع ومسئول عن رعيته إلى قوله: والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته) . واسمع لهذا الحديث فإنه مخيف مرعب! قال صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة) . أليس من الغش إدخال وسائل الإعلام، والأفلام، والمجلات الهابطة، أو حتى السماح بدخولها؟! والله إن لم يكن من الغش فما ندري ما هو الغش!! أليس من الغش عدم مراقبة الزوج للباس زوجه وبناته وأولاده عند الخروج للمناسبات والأسواق؟! إن لم يكن هذا من الغش فلا ندري والله ما هو الغش!! وأيضاً في الحديث السابق الذي ذكرناه عن صفية (أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى زينب، فقال لها: إن صفية قد أعيا بها بعيرها فما عليك أن تعطيها بعيرك؟! قالت زينب: أتعمد إلى بعيري فتعطيه اليهودية؛ فهجرها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر فلم يقرب بيتها، وعطلت زينب نفسها، وعطلت بيتها، وعمدت إلى السرير فأسندته إلى مؤخرة البيت، وأيست أن يأتيها الرسول صلى الله عليه وسلم، فبينما هي ذات يوم إذا بوجس رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي بخياله- فدخل البيت فوضع السرير موضعه، فقالت زينب: يا رسول الله! جاريتي فلانة قد طهرت من حيضتها اليوم هي لك، فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم عليها ورضي عنها) . وفي حديث -أيضاً- أخرجه مسلم في صحيحه رواه عبد الله بن مسعود في حديث: (لعن الله الواشمة والمستوشمة، والمتنمصة، والمتفلجة إلى آخر الحديث، قال في آخره: فقالت امرأة: إني أرى من ذلك شيئاً على امرأتك -تقصد عبد الله بن مسعود - قال: اذهبي وانظري، فدخلت على امرأة عبد الله فلم تر شيئاً، فجاءت إليه فقالت: لم أر شيئاً، قال: أما لو كان ذلك لم نجامعها) . أي: لم نصاحبها، ولم نجتمع نحن وهي، بل كنا نطلقها ونفارقها. هكذا كانوا رضوان الله تعالى عليهم، لم يكونوا يرضون عن فعل المرأة إن كان فعلها يغضب الله عز وجل، {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 السعادة تكتمل بالتعاون بين الزوجين اعلم أيها الأخ الحبيب! وأنا أخاطب فيك الرجولة والعقل والحكمة والتروي وحسن الخلق، إن السعادة مفتاحها بيدك فلا تضيعه، وأنت القادر على أن تجعل حياتك نعيماً أو أن تجعلها جحيماً، متى؟! إذا علمت أن التعامل مع الزوجة فن. ويا أيتها المرأة، إني أعلم أنك سوف تحرصين على سماع هذا الموضوع وهو خاص بالرجل، وكما أسلفنا كل ممنوع مرغوب، وستعلمين كيف نخاطب الرجل بمثل هذه الكلمات، فإذا حرصت وسمعت هذه الكلمات؛ فإني أذكرك أيضاً أن لهذا الدرس بقيةً وجزءاً لا يتجزأ عنه، فكما حرصت وسمعت هذا فاحرصي واسمعي البقية حتى تتكامل سعادتك، فإن السعادة لا تتكامل للبيت إلا بالتعاون وقيام كل من الزوجين بحقوقه تجاه الآخر. وكما أن التعامل معكِ فن فإن التعامل مع زوجك فن آخر تسمعينه في درس بعنوان: ( السحر الحلال ) . أسأل الله عز وجل أن ينفع بها كل زوجين، وأن يوفق بيوت المسلمين، وأن يحفظ بيوتهم، وأن يحفظ أحوال المسلمين مع أزواجهم. اللهم يا حي يا قيوم مُنَّ على بيوت المسلمين بعيشة هنية راضية ترضيك يا حي يا قيوم. اللهم وفق المسلمين لكل ما تحبه وترضاه، اللهم من أرادهم بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا حي يا قيوم، أنت ولي ذلك والقادر عليه. وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. وصل اللهم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 السحر الحلال السحر الحلال هو ذاك التعامل المهذب من تلك الزوجة، بما أودعه الله فيها من عذوبة اللفظ، وجميل العبارة، والأنوثة الجذابة، وقد أتى الشيخ حفظه الله هنا بكلمات جمعت أطراف الحديث، وألبسته أجمل حلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 إشارات قبل البدء إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد أيها الأحبة في الله! فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. موضوع هذا اللقاء هو: (السحر الحلال) ، وهو بقية لدرس سابق كان بعنوان: (فن التعامل مع الزوجة) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 سبب طرح الموضوع وقد أسلفت في ذلك الدرس أن التعامل مع الزوجة فن يجهله كثيرٌ من الرجال، وأقول اليوم -أيضاً-: إن التعامل مع الزوج فن يجهله كثيرٌ من النساء، وأقول للزوجين: لو أن أحداً منكما كان ملاكاً بحسن خلقه ولطفه ومعاملته؛ فإن ذلك لا يكفي، فلا بد من قيام كل منكما بحق الآخر، فإن الحياة شركة بينكما. تحملان العبء روحاً ويداً والتقى نعم التقى زاد الطريق نفحة تثمر في النفس الرضا تجعل الأيام كالغصن الوريق فإذا الدنيا شراع هادئ والمنى تسبح في بحر طليق أنتما في رحلة العمر معاً تبنيان العش كالروض الأنيق ومن هنا كان لكل منكما حديث، حديث من قلب محب يتمنى أن يرى السعادة ترفرف على كل بيت مسلم، ويعلم الله أن هذه المحاولة عصارة اطلاع ومشاورات ووقفات وتأملات في بيت النبوة. أسأل الله عز وجل بلطفه ومنه وكرمه أن يجمع بين كل زوجين، وأن يبارك لهما في حياتهما، وأن يرزقهما الصلاح والفلاح والأنس والمحبة. وكم أفرحتني وأسرتني تلك النتائج والآثار للدرس الماضي، فقد كثرت الاتصالات والأحاديث والأخبار، وما كنت أحسب أن تؤتي ثمارها بهذه السرعة، ولكنه فضل الله، فلله الحمد والشكر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 إلى من تبحث عن السعادة أما هذا الدرس فهو رسالة إلى كل زوجة مسلمة تريد السعادة في حياتها الزوجية، وتبحث عن علاج ناجع لكل مشاكلها. فلا يكفي أن تسمع المرأة هذا الحديث مرةً أو مرتين، بل لتسمعه كلما أرادت رأب الصدع الذي وقع في العلاقات الزوجية، لخطأ أو تعجل من أحد الزوجين أو كليهما. فيا أيتها المباركة! اسمعيه مرةً ومرتين وثلاثاً، واحتفظي به للحاجة، بل وأرشدي إليه كل زوجة تشعرين أنها بحاجته، ولا أدعي فيه الكمال فهو كغيره من جهد البشر، فيه الزيادة والنقصان، والصواب والخطأ، بيد أني حرصت على نهله من بيت النبوة مستقرئاً الأحداث بينه صلى الله عليه وسلم وبين أزواجه، فحسبي أني اجتهدت، فما كان فيه من صواب فمن الله وحده لا شريك له، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي الضعيفة والشيطان، والله ورسوله منه بريئان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 المقصود بالسحر الحلال والمقصود بالسحر هنا: الاستعارة، وإلا فإن حقيقة السحر: عزائم ورقى وعقد تؤثر في القلوب والأبدان، فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه أعاذنا الله وإياكم منه، وهذا النوع لا يوجد فيه حلال بل هو حرام وكبيرة من الكبائر، وصاحبه يكفر ويقتل ولا يستتاب. وأما قصدنا هنا: فهو المدح، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (إن من البيان لسحراً) والحديث أخرجه مالك وأحمد والبخاري عن ابن عمر. فيجوز أن يكون في معرض المدح؛ لأنه تستمال به القلوب ويرضى به الساخط ويستنزل به الصعب، كما جاء في لسان العرب. ولا أظن يختلف اثنان فيما تفعله المرأة في قلوب الرجال، فهي بما وهبها الله من جمال ورقة ونعومة وعذوبة ألفاظ قد استمالت كثيراً من قلوب الرجال؛ حتى طارت ألبابهم وعقولهم. ومن هذا قول الكميت: وقاد إليها الحب فانقاد صعبه بحب من السحر الحلال المحبب وهل يشك أحد في أن المرأة فتنة؟! فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تركت بعدي فتنةً أضر على الرجال من النساء) . والله عز وجل يقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] . فجعلهن في أول الشهوات المحببة للناس، فكيف لو استغلت المرأة فتنتها في الحلال، فكانت عوناً لزوجها؟ فإن (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة) {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 وصايا من أمهات إلى بناتهن ليلة الزفاف وخلاصة الدرس في هاتين الوصيتين من أُمَّين فاضلتين عاقلتين. فيا أيتها الزوجة المخلصة! اسمعي لهذه الوصايا الثمينة فأنت أحوج ما تكونين لها، فأصغي سمعك وأوعي قلبك، فإن العاقل من أضاف إلى عقله عقول الآخرين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 الوصية الأولى كانت أمامة بنت الحارث تَغلبية من فضليات النساء في العرب، ولها حكم مشهورة في الأخلاق والمواعظ، لما تزوج الحارث بن عمرو ملك كندة ابنتها أم إياس بنت عوف، وأرادوا أن يحملوها إلى زوجها، أوصتها أمها في ليلة الزفاف إلى زوجها بوصية قيمة قالت فيها: أي بنية! إن الوصية لو كانت تترك لفضل أدب، أو لتقدم حسب؛ لرويت ذلك عنك ولأبعدته منك، ولكنها تذكرة للعاقل ومنبهة للغافل. أي بنية! لو استغنت امرأة عن زوج بفضل مال أبيها لكنت أغنى الناس عن ذلك، ولكنا للرجال خلقنا كما خلقوا لنا. أي بنية! إنك قد فارقت الحمى الذي منه خرجت، والعش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، أصبح بملكه عليك مليكاً، فكوني له أمةً يكن لك عبداً وشيكاً، واحفظي عني خلالاً عشراً يكن لك ذكراً وذخراً: أما الأولى والثانية: فالصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، فإن في القناعة راحة القلب، وفي حسن المعاشرة مرضاة الرب. وأما الثالثة والرابعة: فالمعاهدة لموضع عينيه، والتفقد لموضع أنفه، فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح، واعلمي -يا بنية- أن الكحل أحسن الحسن الموجود، والماء أطيب المفقود. والخامسة والسادسة: التعاهد لوقت طعامه، والتفقد لحين منامه، فإن حرارة الجوع ملهبةً، وتنغيص حاله مكربة. وأما السابعة والثامنة: فالاحتفاظ ببيته وماله، والرعاية لحشمه وعياله، فإن حفظ المال أصل التقدير، والرعاية للحشم والعيال من حسن التدبير. وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشين له سراً، ولا تعصين له أمراً، فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره. واتقي مع ذلك كله الفرح إذا كان ترحاً، والاكتئاب إذا كان فرحاً، فإن الأولى من التقصير والثانية من التكدير، وأشد ما تكونين له إعظاماً، أشد ما يكون لك إكراماً، وأشد ما تكونين له موافقةً، أطول ما يكون لك مرافقةً. واعلمي -يا بنية- أنك لا تقدرين على ذلك حتى تؤثري رضاه على رضاك، وتقدمي هواه على هواك فيما أحببت أو كرهت. والله يضع لك الخير وأستودعك الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 الوصية الثانية هي وصية أم ممزوجة بالفرحة والدموع، نصحت فيها ابنتها المقبلة على حياتها الجديدة قائلةً: يا بنيتي! أنت مقبلة على حياة جديدة، حياة لا مكان فيها لأمك أو لأبيك، أو لأحد من إخوتك، فتصبحين صاحبةً لرجل لا يريد أن يشاركه فيك أحد، حتى لو كان من لحمك ودمك. كوني له زوجةً وأماً. اجعليه يشعر أنك كل شيء في حياته، وكل شيء في دنياه. اذكري دائماً أن الرجل -أي رجل- طفل كبير أقل كلمة حلوة تسعده. لا تجعليه يشعر أنه بزواجه منك قد حرمك من أهلك وأسرتك، إن هذا الشعور نفسه قد ينتابه هو، فهو أيضاً قد ترك بيت والديه وترك أسرته من أجلك، ولكن الفرق بينك وبينه هو الفرق بين المرأة والرجل، المرأة تحن دائماً إلى أسرتها، وإلى بيتها الذي ولدت فيه ونشأت وكبرت وتعلمت، ولكن لابد لها أن تعوّد نفسها على هذه الحياة الجديدة. لابد لها أن تكيف حياتها مع الرجل الذي أصبح لها زوجاً وراعياً وأباً لأطفالها. هذه هي دنياك الجديدة هذا هو حاضرك ومستقبلك هذه هي أسرتك التي شاركتما أنت وزوجك في صنعها، أما أبواك فهما ماض. إني لا أطلب منك أن تنسي أباك وأمك وإخوتك، لأنهم لن ينسوك أبداً يا حبيبتي، وكيف تنسى الأم فلذة كبدها؟! ولكن أطلب منك أن تحبي زوجك وتعيشي له، وتسعدي بحياتك معه. هاتان الوصيتان الجميلتان -كما أسلفت- من أمين فاضلتين عاقلتين. هكذا يغرس أرباب الحجا في حياة النشء غرس الأوفيا ويا ليت أن الأمهات يحرصن على وصية بناتهن بمثل هذه الوصايا الجميلة، خاصةً إذا كانت البنت قد أقبلت على بيت زواجها وعلى الأنس بزوجها، فإنها بحاجة إلى مثل هذه الوصايا. فإذا الدنيا شراع هادئ والمنى تسبح في بحر طليق أنتما في رحلة العمر معاً تبنيان العش كالروض الأنيق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 من أساليب السحر الحلال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 استقبال الزوج والبشاشة في وجهه خرج الرجل من عمله متعباً مرهقاً، فقد قضى يوماً شاقاً مليئاً بصخب المراجعين، ومشاكل العمل وكثرة المعاملات، وزاد الزحام في الشوارع تعبه تعباً، ثم فتح باب بيته يريد الهدوء والراحة والسكن النفسي في مملكته الخاصة، فتح الباب فإذا الساحرة أمامه، دخل ليجد السعادة مع زوجته وأطفاله، فإذا زوجته بجمالها تستقبله وقد ارتسمت ابتسامة جميلة على محياها، وإذا هي تطبع قُبلةً حانيةً على خده مهللةً مرحبةً، فوقع السحر ونسي هموم يومه وذهب التعب والإرهاق، يلتفت يمنةً ويسرةً فإذا البيت جميل ونظيف، وإذا الطعام الشهي قد أعد، وإذا بأطفاله كالورود بجمال لباسهم، وإذا بالروائح الزكية تفوح من أركان البيت، فيا لها من سعادة وأنس ورحابة كل ذلك بفضل الله ثم بفضل تلك اللمسات الساحرة من يدي تلك الزوجة الغالية التي تعدل الدنيا وما فيها. وانظري لزوجة أبي مسلم الخولاني واستقبالها له: فقد كان أبو مسلم الخولاني إذا انصرف من المسجد إلى منزله كبر على باب منزله فتكبر زوجته، فإذا كان في صحن داره كبر فتجيبه امرأته، فإذا بلغ إلى باب بيته كبر فتجيبه امرأته، فانصرف ذات ليلة فكبر عند باب داره فلم يجبه أحد، فلما كان في الصحن كبر فلم يجبه أحد، فلما كان في بيته كبر فلم يجبه أحد، وكان إذا دخل بيته -وهو الشاهد- أخذت امرأته رداءه ونعليه ثم أتته بطعام. قال: فدخل فإذا البيت ليس فيه سراج، وإذا امرأته جالسة منكسة تنكت بعود معها، فقال لها: ما لك؟ فقالت: أنت لك منزلة من معاوية وليس لنا خادم، فلو سألته فأخدمنا -أي جعل لنا خادماً- وأعطاك، فقال: اللهم من أفسد علي امرأتي فأعم بصره -وقد كان معروفاً بإجابة الدعاء-. قال: وقد جاءتها امرأة قبل ذلك فقالت لها: زوجك له منزلة عند معاوية، فلو قلت له أن يسأل معاوية أن يخدمه ويعطيه، قال: فبينا تلك المرأة جالسة في بيتها إذ أنكرت بصرها فقالت: ما لسراجكم أطفئ؟! قالوا: لا، فعرفت ذنبها؛ فأقبلت إلى بيت أبي مسلم تبكي تسأله أن يدعو الله عز وجل لها يرد عليها بصرها، قال: فرحمها أبو مسلم فدعا الله عز وجل لها فرد عليها بصرها. والشاهد أقول: انظري أيتها الأخت الصالحة! كان إذا دخل إلى بيته استقبلته زوجه فأخذت رداءه ونعليه ثم أتته بالطعام. إذاً فالزوجة الذكية هي التي تعرف كيف تكسب قلب زوجها، وأن تكون دائماً زوجةً جديدةً في حياته، فالكلمة الحلوة زينة، والبسمة المشرقة جمال، والرائحة الطيبة بهجة، والفستان الأنيق واللمسات اللطيفة للشعر والاختيار الموفق لبعض الحلي البسيط المنسجم مع لون البشرة والثوب، والنظافة المستمرة طهارة وعبادة، فأنت حورية الدنيا، وسيدة القصور في جنات النعيم بإذن الله. تعلمي -أيتها الزوجة! - من القرآن أخلاق الحور، وتسابقي معهن إلى قلب زوجك، واجعلي دنياه جنةً، البسي له الحرير وضعي له العطور وغني له كما تغني الحور: لزوجة مطيعه عينك عنها راضيه وطفلة صغيره محفوفة بالعافيه وغرفة نظيفه نفسك فيها هانيه ولقمة لذيذه من يد أغلى طاهيه خير من الساعات في ظل القصور العاليه تعقبها عقوبة يُصلى بنار حاميه - صورة بدون تعليق: دخل الزوج إلى بيته، فوجد في المدخل الرئيسي ألعاب وملابس الأطفال مرميةً يمنةً ويسرةً، قابله الأطفال بملابس متسخة وروائح كريهة، وقابلته الزوجة بتكشير وتذمر من الأطفال، وصراخ وشكوى وتبرم وضيق، ووجه عابس غاضب. وجد البيت فوضى، إزعاج وقذارة وهم وغم، أراد وجبة الغداء وبعد زعيق وصراخ أعدت الغداء، ذهب الرجل إلى غرفته ليأخذ قسطاً من الراحة بعد التعب من الدوام، وجد الغرفة مبعثرةً والسرير غير مرتب وعليه بقايا من بسكويت الأطفال، وربما وجد رضاعة أحد الأطفال على الوسادة، وفرشة الغرفة متسخة، فقد سال عليها حليب أحد الأطفال، فتمنى لو أنه عاد من حيث أتى!!! وبدون تعليق!! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 التجمل والتزين له إن المرأة بأنوثتها ونعومتها فقط قادرة على كسب قلب الرجل والتأثير فيه، فكيف إذا أضيف إليه التزين والتحلي؟ عندها وقع السحر فأصبح الرجل أسيراً كسيراً. فعن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنةً هي أضر على الرجال من النساء) . فسماها صلى الله عليه وسلم فتنةً. فيا أيتها الزوجة! إنك تشتكين كثرة خروج زوجك وعدم جلوسه معك، وتشتكين سوء أخلاقه وتصرفاته، وربما أوجع قلبك بكثرة ذكره للنساء والزواج من أخرى، وربما اشتكيت من عدم حبه لك أو عدم قضائه حوائجك، أو اشتكيت من تغيره فلم يعد ذلك الزوج الذي عرفتيه أيام الزواج الأولى، أو غير ذلك من المشاكل. فأقول لك أيتها المباركة: فقط انظري إلى حالك وهيئتك داخل البيت، فمع مرور الأيام والشهور والسنين تركت ذلك السلاح الذي كنت تستعملينه معه، لم يعد يرى ذلك الجمال وتلك الزينة، لم يعد يسمع تلك الكلمات الرقيقة والهمسات الحانية، فهو لا يرى سوى التبذل، ولبس الثياب البالية، والشعر المنفوش، والوجه العبوس، ولا يسمع سوى صراخ الأطفال والسب والشتائم وكثرة الطلبات ورنين الهاتف وكثرة التشكي! فما هذه الأسنان التي فيها بقايا البيض والبقل والمكسرات؟ وما هذه الحموضة التي تنبعث من العنق ساعة الاعتناق؟ حتى إذا أصابه الاختناق وأراد الافتراق ونادى بالطلاق، ذهبت تبحثين عن مشعوذ أو ساحر ليعيد لك الوفاق؟!! وأنت أنت عندك السحر الحلال، ولكن لا تشعرين، أو أنك تهملين! قال الله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] أي: المرأة قد جبلت من صغرها على حب التزين والتحلي، فهي فطرة عند المرأة. أصبح كثير من الأزواج اليوم -واسمعي أيتها الصالحة- لا يرى جمال زوجته إلا عند خروجها للمناسبات والعزائم، فيراها في أبهى صورة وأجمل حُلة، وإذا حدثها ضحكت، وقالت: أنت لست غريباً! حجة شيطانية، ووسوسة إبليسية، كانت سبباً في هدم بيوت كثيرة! إذاً: فعلاج المشاكل كلها بيدك أيتها الساحرة، فأنت تملكين السحر الحلال الذي قد يكون سبباً لدخولك في الجنة! فهل تعقل النساء أنه لا حق عندها أعظم من حق زوجها إلا حق ربها سبحانه وتعالى؟! فليتنبه لهذا نساء زماننا! قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: ومن الناس من يستهين بهذه الأشياء، فيرى المرأة متبذلةً تقول: هذا أبو أولادي، ويتبذل هو؛ فيرى كل واحد من الآخر ما لا يشتهي، فينفر القلب وتبقى المعاشرة بغير محبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 وقفات مع التجمل والتزين الوقفة الأولى: إنفاق الأموال في الزينة طلباً لإطراء النساء: أقف هذه الوقفة وأرجو ألا يسمعها الرجال؛ فهي سر للنساء فقط فأقول: إن أكثر ما تصرفه المرأة من المال اليوم؛ إنما هو لشراء أدوات الزينة من العطورات، ومستحضرات التجميل إلى آخره، وأكثر ما نشاهده في الأسواق هو محلات الخياطة النسائية، ومعارض الملابس النسائية؛ مما يدل على كثرة الإقبال عليها، وأغلب أوقات المرأة ينصرف في الوقوف أمام المرآة والاهتمام بشكلها، كل ذلك يصرف ويضيع، والمصيبة أن الزوج ليس له من هذا نصيب! فلمن إذاً؟! لا يهمها كثيراً إعجاب زوجها، إنما المهم إعجاب صديقاتها ومعارفها، فهي تباهي وتفاخر لانتزاع عبارات الإطراء والإعجاب من أفواه النساء! إذاً فالدافع لتجمل أكثر النساء اليوم هو حب الظهور والبروز، وامرأة تصرف جهدها ووقتها ومالها واهتمامها في مطلب كهذا لا شك أن لديها سفهاً وشعوراً بالنقص. على أن هذه النزعة تختلف من امرأة إلى أخرى، فالنساء لسن سواءً، وغالب من تعمد إلى تلك الأساليب، وإلى تطبيق أحدث الموضات على نفسها، الغالب أن يكون عندها نقص فيما حباها الله به من الجمال، فتبالغ بل وتفرط في أمور الزينة للتعويض عن ذلك النقص. الوقفة الثانية: ضوابط الزينة: إن لهذه الزينة ضوابط وحدوداً يجب أن تراعى، فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله) . فاحذري! سخط الله ولعنته، فهذه الأعمال محرمة، وإذا كان التجمل والتزين فيه تشبه بالكفار أو تشبه بالرجال أو كان لباس شهرة، فكل ذلك محرم، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لبس ثوب شهرة ألبسه الله إياه يوم القيامة ثم ألهب في النار) أخرجه أبو داود في سننه وهو صحيح. أو كان التزين للأجانب، أو للخروج إلى الأسواق، أو غير ذلك، فهو كذلك محرم، مغضب لله تعالى. - ولا أنسى أن أقول: إن أجمل وسائل الزينة السواك، وكثرة المضمضة، والعبادة، فإن كثرة العبادة لها نور وجمال في الوجه، قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة نور) ، نور حسي ومعنوي، وأما الحسي فنور الوجه وجماله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 المرح والمزاح واللطف مع الزوج وهذا أسلوب آخر من أساليب السحر الحلال؛ وذلك لأني أسمع الكثير من الشباب عند البحث عن الزوجة، فإنهم يجمعون على قولهم: أريدها مرحةً! فإنها بكلماتها الرقيقة، وبسماتها العذبة، تملأ أركان البيت سعادةً، وبحركاتها الخفيفة وألعابها الجديدة، تبدد الروتين والملل في حياتها الزوجية. فتذكروا جيداً تلك الكلمات الغالية من قدوتنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم عندما قال لـ جابر رضي الله عنه: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك!) فهي بتوددها لزوجها، والاقتراب منه، والقعود إلى جنبه وملاطفته، تأسر عين زوجها، وتملك قلبه ولبه فلا ينظر إلى غيرها. - فن التعامل مع الزوج: اسمعي لهذا الموقف من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية -أي غضب على صفية - فقالت صفية لـ عائشة: هل لك إلى أن ترضين رسول الله صلى الله عليه وسلم عني وأجعل لك يومي؟! قالت عائشة: قلت: نعم! فأخذت خماراً لها مصبوغاً بزعفران فرششته بالماء، ثم تقول: اختمرت به فدخلت عليه بيومها -أي في يوم صفية - فجلست إلى جنبه فقال: إليك يا عائشة فليس هذا بيومك، فقلت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء! ثم أخبرته خبري) . أخرجه ابن ماجة في سننه، وقال الألباني في الإرواء: رجاله ثقات رجال مسلم غير سمية وهي مقبولة عند الحافظ ابن حجر. أرأيت يا ابنة التوحيد إلى فن التعامل مع الزوج؟! استفيدي من معلمة الرجال والأجيال عائشة رضي الله عنها، تجملاً وتطيباً، واقتراباً للزوج وتكسراً له؛ فتملكين القلب وتأسرين النفس، فسبحان من أودع هذا السحر في المرأة! ولذلك كانت الدعوات الأولى في أول لقاء، وأول نظرة ولمسة: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه) . ومن شرها: مزاج نكد، ونفسية متعكرة، وشكاية، وتبرم وضيق، وهم وغم، وانطواء ووسوسة، وعبوس وتكشير، نعوذ بالله من شرها! {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 الاعتراف بجميل الزوج وشكره وقد قال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر النساء! تصدقن؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة: بم يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: تكثرن اللعن وتكفرن العشير، قالت: وما كفرانه؟ قال: لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط!) أخرجه البخاري في صحيحه. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله تبارك وتعالى إلى امرأة لا تشكر زوجها وهي لا تستغني عنه) أخرجه النسائي والبزار في إسنادين أحدهما رواته رواة الصحيح، وقال الحاكم بعد أن ذكره في المستدرك: صحيح الإسناد. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه) أخرجه الإمام أحمد في المسند والنسائي بإسناد جيد. ورواه ابن أبي شيبة في المصنف والبزار وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد بلفظ آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق الزوج على زوجته لو كانت به قرحة فلحستها أو انتشر منخراه صديداً أو دماً ثم ابتلعته ما أدت حقه) قال المنذري في الترغيب: رواه البزار بإسناد جيدورواته مشهورون. فيا أيتها الزوجة المسلمة! اتقي الله، وأدي الأمانة التي أنت مسئولة عنها، وهي طاعة الزوج والإحسان إليه، والاعتراف بجميله وشكره. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، ولا تجد حلاوة الإيمان حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها وهي على ظهر قتب) أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة وابن حبان. فيا أيتها المباركة! كلمات شكر وثناء، عذبة الألفاظ، رقيقة المعاني؛ سحر تفعل في الرجال الأفاعيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 الاعتذار والرجوع إليه عند الخطأ إن المرأة بشر، وهي عرضة للتقصير في حق زوجها مهما حرصت، فكيف هي إذا أهملت أو غفلت عن هذا الحق؟! ولذلك فمن أعظم الأساليب التي تعوض بها المرأة هذا التقصير: الاعتذار للزوج، والرجوع إليه عند الخطأ. وإني على يقين أن أحلى كلمة يسمعها الرجل من زوجته هي عندما تعتذر إليه مهما كان الخطأ. وهذا ليس إذلالاً للمرأة كما تتصوره بعض النساء، ولا تكبراً من الرجل كما يصوره الشيطان وأعوانه، إذاً فلماذا؟! لأن نفس الرجل جبلت على محبة المرأة والفتنة بكلماتها، وإن كلمة التأسف، والاعتذار من الزوجة لزوجها، لها سحر عجيب وتأثير غريب، مجرد كلمات طيبات، وفجأةً ينقلب الغضب إلى رضا، والعبوس إلى ابتهاج، فيصبح الأسد حملاً وديعاً وتتحول الحمرة من حمرة غضب إلى حمرة خجل! مسكين أنت أيها الرجل! كل ذلك سببه السحر الحلال الذي أنعم الله عز وجل به على المرأة المسلمة. فعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نساؤكم من أهل الجنة الودود الولود العئود على زوجها، التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها وتقول: لا أذوق غمضاً حتى ترضى!) أخرجه النسائي وغيره، وله شاهد أيضاً من حديث أنس أخرجه الطبراني في الصغير وهو حسن بمجموعهما كما في الصحيحة للألباني. قال المناوي في فيض القدير: فمن اتصفت بهذه الأوصاف منهن، فهي خليقة بكونها من أهل الجنة، وقلما نرى فيهن من هذه صفاتها. اهـ. فأين أنت أيتها الصالحة لتكوني من أهل الجنة؟! لماذا تحرمين نفسك أن تكوني من أهل الجنة؟! اسمعي أيتها المباركة! نعيم في الدنيا بالسعادة الزوجية، ونعيم في الآخرة بأن تكوني من أهل الجنة، فقط اتصفي بهذه الصفات: الودود المتحببة إلى زوجها، الولود كثيرة الأولاد، العئود المعتذرة الراجعة لزوجها عند التقصير. أيتها الحانية! إنها كلمات: فقط استعيذي بالله من الشيطان، وجاهدي النفس الأمارة بالسوء، وجاهدي ذلك الكبر الذي قد يحصل في النفس عند الغضب والخلاف، ثم ضعي يدك في يد زوجك وعندها يقع السحر فتصفو الحياة، وهكذا عند كل خلاف، وعند كل غضب، فالعلاج بيدك. وإياك إياك من تفريق الشمل ونكادة العيش، فالبيت السعيد ليس الذي خلا من المشاكل، بل الذي عرف كيفية علاجها والتعامل معها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 معاشرته بحسن السمع والطاعة بشرط أن تكون هذه المعاشرة طاعةً في غير معصية الله عز وجل، وهذا نوع آخر من أنواع السحر الذي تملكه المرأة لكسب قلب زوجها، بل وفوق ذلك كسب رضا ربها، فطاعته من قمة العبادات إذ هي مقرونة بالصلاة والصيام. عن عبد الرحمن بن عوف قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت) . ما أعظم هذا الفضل أيتها المرأة! وروى البزار والطبراني أن امرأةً جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: (أنا وافدة النساء إليك، هذا الجهاد كتبه الله تعالى على الرجال فإن أصيبوا أثيبوا -أي: أجروا- وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن معشر النساء نقوم عليهم، فما لنا من ذلك الأجر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج والاعتراف بحقه يعدل ذلك) يعدل ماذا؟! يعدل أجر الجهاد في سبيل الله! (وقليل منكن من يفعله) . ولا شك أن من طاعته أن تلبي طلبه إذا دعاها إلى الفراش، وكم نسمع من المشاكل في مثل هذا الباب، فإن أعظم غايات الزواج أن يعف الرجل نفسه فلا يقع في الحرام، فإذا دعاها وامتنعت ذهبت هذه الغاية، وكان الرجل معرَّضاً للوقوع في الحرام. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح) متفق عليه. إذاً: فتمنعها في الفراش من أغلظ المحرمات، فإن فعلت ذلك تقلبت في لعنة الله وملائكته والعياذ بالله! وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه؛ إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها) أي: زوجها. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا الرجل زوجته لحاجته، فلتأته وإن كانت على تنور) . وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (وإن سألها نفسها وهي على ظهر قتب لا تمنعه نفسها) . إذاً: فيا أيتها المرأة، لا يجوز للزوجة أن تمنع نفسها عن زوجها ولا يحل لها ذلك باتفاق المسلمين، بل يجب عليها أن تطيعه إذا طلبها إلى الفراش وذلك فرض واجب عليها، فاحذري أيتها الصالحة من غضب الجبار. ثم أيضاً: قبول الأعمال متوقف على طاعة الزوج : فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما: عبد أبق من مواليه حتى يرجع، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع) رواه الطبراني بإسناد جيد والحاكم وله شواهد. وعن ابن أبي أوفى في حديث قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها) أخرجه ابن ماجة وابن حبان والطبراني وإسناده جيد. ومن طاعته: الحرص على إرضائه مهما كان الأمر، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض، دخلت الجنة!) أخرجه ابن ماجة والترمذي وحسنه الحاكم وقال عنه: صحيح الإسناد. ما أسهل دخولكِ الجنة أيتها المرأة! فمتى تعقلين وتنتبهين لمثل هذه الأمور؟! والمرأة تملك وسائل الإرضاء: جمالها عذوبة ألفاظها رقتها كل ذلك من نعم الله عليها، وستسأل عن شكرها واستعمالها في حقها، هل استعملتْها في حقها أم لا؟ ثم إليك سراً من أسرار الرجال، وأعتذر للرجال فقد فضحت أسرارهم في مثل هذا اليوم! إليك سراً من أسرار الرجال أيتها المرأة: الرجل سريع الغضب سريع الرضا، وخاصةً أمام المرأة، فأين سحرك الحلال؟!! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 قبول الأعمال متوقف على طاعة الزوج فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما: عبد أبق من مواليه حتى يرجع، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع) رواه الطبراني بإسناد جيد والحاكم وله شواهد. وعن ابن أبي أوفى في حديث قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها) أخرجه ابن ماجة وابن حبان والطبراني وإسناده جيد. ومن طاعته: الحرص على إرضائه مهما كان الأمر، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض، دخلت الجنة!) أخرجه ابن ماجة والترمذي وحسنه الحاكم وقال عنه: صحيح الإسناد. ما أسهل دخولكِ الجنة أيتها المرأة! فمتى تعقلين وتنتبهين لمثل هذه الأمور؟! والمرأة تملك وسائل الإرضاء: جمالها عذوبة ألفاظها رقتها كل ذلك من نعم الله عليها، وستسأل عن شكرها واستعمالها في حقها، هل استعملتْها في حقها أم لا؟ ثم إليك سراً من أسرار الرجال، وأعتذر للرجال فقد فضحت أسرارهم في مثل هذا اليوم! إليك سراً من أسرار الرجال أيتها المرأة: الرجل سريع الغضب سريع الرضا، وخاصةً أمام المرأة، فأين سحرك الحلال؟!! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 خدمة الزوج والقيام على شئونه فالزوجة الصالحة تتقرب إلى الله جل وعلا بخدمة زوجها، وبعض النساء قد حباها الله عز وجل حسن تصرف، وعقل وتدبير؛ حتى أنها تقوم ببعض الأعمال الخاصة بزوجها نيابةً عنه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فلماذا لا تحرص الزوجة على خدمة زوجها، وهو جنتها ونارها؟! كما في حديث حصين بن محصن: (أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة ففرغت من حاجتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أذات زوج أنت؟ قالت: نعم. قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه -أي لا أقصر في طاعته وخدمته- قال: فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك) أخرجه أحمد في المسند وابن أبي شيبة وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال المنذري في الترغيب: رواه أحمد والنسائي بإسنادين جيدين. قال المناوي في شرح هذا الحديث: (انظري أين أنت منه) أي: في أي منزلة أنت منه، أقريبة من مودته، مسعفة له عند شدته، ملبية لدعوته، أم متباعدة من مرامه، كافرة لعشرته وإنعامه. (فإنما هو جنتك ونارك) أي: هو سبب لدخولك الجنة برضاه عنك، وسبب لدخولك النار بسخطه عليك، فأحسني عشرته، ولا تخالفي أمره فيما ليس بمعصية. اهـ. وأيضاً أذكر هذا المثال من حال نساء الصحابة، وكيف كن يخدمن أزواجهن: فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال، ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وفرسه، فكنت أعلف فرسه، وأستقي الماء وأخرز غربه -أي أخيط دلوه- وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، وكان يخبز لي جارات من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يوماً والنوى على رأسي فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: إخ إخ -كلمة تقال للبعير ليبرك- ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم يكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني) . انظري لـ أسماء رضي الله عنها أيتها الصالحة، ما اشتكت كثرة الخدمة لزوجها مع شدة ما كانت تفعله، وما تبرمت وما تضايقت، ومع ذلك انظري أيضاً لـ أسماء وهي تراعي خاطر زوجها وشعوره، عرفت نفسية الزوج، فالزوجة من خلال حياتها مع زوجها تعرف نفسية زوجها، وتعرف كيف تتصرف مع زوجها فتقدر له حقه حق القدر. اليوم البيوت مليئة بالخادمات وبالسائقين، وربما الأطفال أيضاً يجلس عندهم في الصباح، وكثير من مشاغل البيت يقوم فيها الكثير من الخدم والحشم، والمرأة لا تدري ماذا تفعل! ولذلك كثر وقت الفراغ لدى المرأة، فلما كثر وقت الفراغ كثرت الهموم والمشاكل والوساوس، وبالتالي كثرت المشاكل بين الزوجين، فانظري -أيتها المرأة الصالحة- إلى حال هذه المرأة الصالحة وكيف كانت تقوم بخدمة زوجها وبيتها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 الوظيفة ما لها وما عليها فإياك أن تكون الوظيفة سبباً لزعزعة الأسرة، والكلام هنا يطول ولكن أكتفي بما يناسب الموضوع وأترك بقيته في موضوع آخر، أسأل الله عز وجل أن ييسره بعنوان: (أخطار تهدد المرأة) . وعمل المرأة بالشروط التالية: 1/ أن يكون مباحاً. 2/ أن يناسب المرأة. 3/ أن لا تختلط بالرجال. 4/ أن تلتزم بحجابها الشرعي. 5/ أن تراقب الله فيه. 6/ وهو أهمها: ألا يؤثر العمل سلبياً على مهمتها الأولى. ومهمة المرأة الأولى هي القيام ببيتها وزجها وأولادها. والذي يهمنا هنا هو الأخير، هل تستطيع المرأة حقاً الجمع بين الزوج والأولاد وبيتها وبين الوظيفة؟! الأمر يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأمكنة والأزمان، ولسنا نستطيع أن نذكر ضابطاً تفصيلياً فيه. يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى: إن عمل المرأة بعيداً عن الرجال إن كان فيه مضيعة للأولاد وتقصير بحق الزوج من غير اضطرار شرعي لذلك يكون محرماً، لأن ذلك خروج عن الوظيفة الطبيعية للمرأة، وتعطيل للمهمة الخطيرة التي عليها القيام بها، مما ينتج عنه سوء بناء الأجيال وتفكك عرى الأسرة التي تقوم على التعاون والتكامل والتضامن، ومساهمة كل من الزوجين بما هيأ الله له من الأسباب التي تساعد على قيام حياة مستقرة آمنة مطمئنة، يعرف فيها كل فرد واجبه أولاً وحقه ثانياً. اهـ. فعلى المرأة أن تراجع نفسها، وتراقب ربها، وتتقي الله في حق زوجها وأطفالها، وإن اضطرها ذلك لترك العمل فليس كثيراً، فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، هذا ما أستطيع قوله هنا والموضوع فيه أخذ ورد. ولكن قبل ترك هذا العنصر إليك هذه الصورة: - النساء والمأساة: نهارها بالمدرسة، أطفالها عند الخادمة، طعامهم تعده الخادمة، وربما تطبخ بالليل غداء النهار، في الظهر متعبة جداً، وفي العصر نائمة وربما في زيارة، تحضير للدروس في الليل واهتمام بالرءوس، ثم هي متعبة فترمي بنفسها على فراشها جثةً هامدة، وزوجها المسكين ينظر إليها بعين الشفقة والرحمة، واللوم والعتاب، فلا يملك إلا أن يتجرع الهم وعليه بالصبر، ولا ينسى الصوم؛ فإنه له وجاء، والفتن في كل مكان، ففي الأسواق، والمحلات، والتلفاز، ووسائل الإعلام نساء، ومن فوقه ومن تحته نساء وعن يمينه وعن شماله نساء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تركت بعدي فتنةً هي أضر على الرجال من النساء) . وإياك إياك مجرد التفكير في التعدد؛ فستغضب عليك النساء، إذاً فما العمل؟! عليك بقراءة القرآن لكن احذر أن تمر بسورة النساء!! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 إعانته على طاعة الله وحثه على فعل الخيرات وإليك أيتها الصالحة هذه الوصية فأقول: كل خلاف يجري بين الزوجين؛ إنما هو بمعصية الله، فاحذري المعاصي وطهري بيتك من كل ما يغضب الله، واسمعي قول الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] . فما أعظم نتائج السحر الحلال، وتأثيره يوم أن تكون بجمالها ورقتها وأنوثتها، وعذوبة ألفاظها وحسن تعاملها؛ سبباً في صلاح زوجها وإعانته على طاعة الله، وحثه على الأعمال الصالحة، وإلا فاحذري! فإن من أعطاك هذه النعم قادرٌ على إزالتها (بكن فيكون) فكوني شاكرةً لهذه النعم، وتذكري قول الحق: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] . تذكري وانظري إلى من حولك من النساء، كم من البيوت هدمت بسبب كثرة المعاصي اللاتي يقعن فيها أو اللاتي امتلأت البيوت بها، فانتبهي رعاك الله! - جمعتنا الطاعة وفرقتنا المعصية: واسمعي أيتها الغالية، قالت: كنا معاً في أطيب حال وأهنأ بال، كُنَّا زوجين سعيدين متعاونين على طاعة الله، وعندنا القناعة والرضا، طفلتنا مصباح الدار، ضحكاتها تفتق الزهور، إنها ريحانة تهتز، فإذا جن علينا الليل ونامت الصغيرة قمت معه نسبح الله، يؤمني ويرتل القرآن ترتيلاً، وتصلي معنا الدموع في سكينة وخشوع، وكأني أسمعها وهي تفيض قائلةً: أنا إيمان فلان وفلانة! وذات يوم أردنا أن تكثر الفلوس؛ اقترحت على زوجي أن نشتري أسهماً ربويةً لتكثر منها الأموال فندخرها للعيال، فوضعنا فيها كل ما نملك حتى حلي الشبكة! ثم انخفضت أسهم السوق، وأحسسنا بالهلكة فأصبح الريال قرشاً، وشربنا من الهموم كأساً، وكثرت علينا الديون والتبعات، وعلمنا أن الله يمحق الربا ويربي الصدقات، وفي ليلة حزينة خوت فيها الخزينة؛ تشاجرت مع زوجي فطلبت منه الطلاق، فصاح: أنت طالق أنت طالق! فبكيت وبكت الصغيرة، وعبر الدموع الجارية، تذكرت جيداً يوم أن: جمعتنا الطاعة وفرقتنا المعصية. إذاً: فيا أيتها الزوجة! لا يختلف اثنان على أن المعصية تجلب الهم والغم، وتولد الشقاء والتعاسة، وتجلب سواداً في الوجه وقسوةً في القلب، وتتبدل السعادة إلى شقاء والحب إلى كره إلى غير ذلك. قال أحد السلف: إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق امرأتي ودابتي. وقال ابن القيم: وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن، في الدنيا والآخرة، ما لا يعلمه إلا الله. ومن المعاصي التي انتشرت وكانت سبباً في شقاء كثير من البيوت: أولاً: ترك الصلاة وتأخيرها عن وقتها وخاصةً من المرأة. ثانياً: امتلأت البيوت بوسائل الإعلام الفاسدة: التلفاز، الفيديو، وربما الدش. ثالثاً: مشاهدة الأفلام واستماع الأغاني، وشراء وقراءة المجلات الماجنة. رابعاً: دخول السائق والخادمة إلى المنزل بلا ضرورة. خامساً: الخروج إلى الأسواق بملابس الزينة وبدون محرم. سادساً: الأزياء الفاضحة، والتشبه بالكافرين، وغيرها من الآثام والمعاصي. اعلمي أيتها الزوجة! أن دور الزوجة في تقوى زوجها المسلم، وثباته على دينه، وعطائه لدعوته دور هام وخطير، وإنا نعلم أن عدداً غير قليل من الشباب الدعاة المتحمسين الباذلين، بردت حماستهم، وقل بذلهم بعد زواجهم، حتى إن بعض الإخوة وصف الزواج بمقبرة الدعاة! وعلى هذا فإن دورك -أيتها الأخت المتزوجة- في زيادة إيمان زوجك أو نقصانه دور فعَّال، فاحرصي دائماً على تذكير زوجك بالإشارة اللطيفة، والتوجيه غير المباشر بصلاة الجماعة، وصيام النافلة وفعل الخير والصدقة، وكوني عوناً له على ذلك ولا تكوني عامل صرف وتثبيط، حدثيه عن جاركما الذي يحرص على صلاة الفجر في جماعة في المسجد دون أن تقولي له لماذا لا تفعل مثله! اكتفي بتلك الإشارات غير المباشرة، أخبريه عن زوج صديقتك فلانة وحرصه على صيام الإثنين والخميس دون أن تطلبي منه الصيام، استعملي سحرك للتأثير عليه؛ فإنك قادرة على ذلك. وكم شكى الكثير من النساء حالهن مع أزواجهن، ولكن تغيرت أحوالهن لما عرفن: كيف يتعاملن مع أزواجهن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 أساليب أخرى من السحر الحلال ثم إليك أيتها الساحرة بعض أساليب السحر الحلال، ولكن على عجل لضيق الوقت: 1/ أن تتصرف -أي المرأة- حسب رغبته، فلا تخرج المرأة من بيت زوجها إلا بإذنه، ولا تُدخل للبيت أحداً إلا من يرضى له الزوج، وألا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، وألا تنفق من ماله إلا بإذنه أو برضاه، وأيضاً لا تنفق من مالها إلا بعد مشاورته ورضاه. 2/ أن تكون حافظةً لمال زوجها، فلا ترهقه بكثرة طلباتها. 3/ أن تتعرف على كل ما يفرحه فتكثر منه وكل ما يغضبه فتحاول الإقلال منه. 4/ أن تنتقي ألطف الكلام وأحلاه عند التحدث والجلوس معه. 5/ أن تكون حريصةً على إشعاره بالحب والاحترام والتقدير له. 6/ أن تراعي أقاربه وأهله وتقديرهم وخاصةً والديه وإخوانه وأخواته. 7/ ألا تخرج المرأة من بيت زوجها إلا بإذنه، وألا تدخل البيت أحداً إلا من يرضى له الزوج. 8/ أن لا تصوم تطوعاً وزوجها حاضرٌ إلا بإذنه. 9/ أن لا تنفق من ماله إلاَّ بإذنه أو برضاه. والأحاديث في الأمور الآنفة الذكر كثيرة لا يتسع المجال لذكرها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 قصص ومواقف سريعة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 تحرص على إرضاء زوجها من ليلة زفافها اجتمع ذات مرة الشعبي وشريح القاضي، فنصح شريح الشعبي أن يتزوج من نساء بني تميم. فقال شريح: يا شعبي! عليك بنساء بني تميم؛ فإني رأيت لهن عقولاً! قال الشعبي: وما رأيت من عقولهن؟ فحكى له شريح أنه مر ذات مرة بامرأة عجوز على باب دار، وبجوارها جارية جميلة، فطلب منهما أن تسقياه. فقالت الجارية لـ شريح: أي الشراب أحب إليك؟ قال شريح: ما تيسر. قالت العجوز: ويحك يا جارية! ائتيه بلبن؛ فإني أظن الرجل غريباً. ثم سأل شريح العجوز عن الجارية، وعلم اسمها واسم أبيها وعرف أنها غير متزوجة، فتقدم إلى أهلها وطلب منهم فزوجوه منها. قال شريح: فلو رأيتني يا شعبي وقد أقبل نساؤهم يهدينها حتى أدخلت علي، فقلت: إن من السنة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم فيصلي ركعتين فيسأل الله من خيرها ويعوذ بالله من شرها، فصليت وسلمت فإذا هي من خلفي تصلي بصلاتي، فلما قضيت صلاتي أتتني جواريها فأخذن ثيابي وألبسنني ملحفةً قد صبغت في عطر العصفر، فلما خلا البيت دنوت منها فمددت يدي إلى ناحيتها فقالت: على رسلك أبا أمية كما أنت، ثم قالت خطبةً: الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد وآله، إني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأزدجر عنه، وقالت: إنه قد كان لك في قومك منكح وفي قومي مثل ذلك، ولكن إذا قضى الله أمراً كان، وقد ملكت فاصنع ما أمرك الله به، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك! قال شريح: فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع، فقلت: الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على النبي وآله وسلم. أما بعد: فإنك قد قلت كلاماً إن تثبتي عليه يكن ذلك حظك، وإن تدعيه يكن حجةً عليك، أحب كذا وأكره كذا، ونحن جميع فلا تفرقي، وما رأيت من حسنة فانشريها، وما رأيت من سيئة فاستريها. قالت: كيف محبتك لزيارة الأهل؟ قلت: ما أحب أن يملني أصهاري. قالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك آذن لهم، ومن تكرهه أكره؟! قلت: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء. ثم ذكر شريح للشعبي أنه مكث مع زوجته لا يرى منها إلا ما يحب حولاً كاملاً! وفي نهاية الحول زارته امرأة عجوز هي قريبة زوجته وهي التي قامت بتربيتها في صغرها. قالت العجوز: السلام عليك يا أبا أمية. قال شريح: وعليك السلام، من أنت؟ قالت العجوز: أنا فلانة ختنك. قال شريح: قربك الله. قالت العجوز: كيف رأيت زوجتك؟ قال شريح: خير زوجة. قالت العجوز: يا أبا أمية، إن المرأة لا تكون أسوأ منها في حالتين: إذا ولدت غلاماً أو حظيت عند زوجها، فإن رابك ريب فعليك بالسوط، فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شراً من المرأة المدللة. قال شريح: أما والله لقد أدبت فأحسنت الأدب، وروضت فأحسنت الرياضة. قالت العجوز: أتحب أن يزورك ختانك؟ قال شريح: متى شاءوا. فقال شريح: فكانت تلك العجوز تأتيه في رأس كل حول فتوصيه تلك الوصية. ثم ذكر شريح للشعبي أنه لم يجد من تلك الزوجة ما يغضبه لمدة عشرين سنة، إلا مرةً واحدةً فقط وكان هو المخطئ والسبب في الخطأ الذي أغضبه، وذلك أنه كان إمام الحي يصلي بالناس، فأخذ المؤذن في إقامة صلاة الفجر، فشعر شريح بعقرب تدب وتتحرك فأخذ إناءً فأكفأه عليها، وقال شريح لزوجته زينب: يا زينب! لا تتحركي حتى آتي، فالتزمت زينب المرأة المطيعة لزوجها كلامه، ولم تتحرك كما قال لها، وكان ذلك سبباً في أن خرجت العقرب من تحت الإناء ولدغتها في إصبعها! لك أن تتصوري -أيتها المرأة- وتتأملي مثل هذا الموقف الجميل! خذي العبر والدروس من هذه القصة وانظري فيها؛ فإنك تملكين كثيراً من وسائل ترويض الزوج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 قدرة المرأة على ترويض زوجها اسمعي -أيضاً- لهذا الموقف الأخير والجميل، يحكى أن امرأةً كانت تعيش في خلاف تام مع زوجها، فذهبت ذات يوم إلى صديقة لها، وشرحت لها حالها مع زوجها، عندئذ نصحتها الصديقة أن تذهب إلى حكيم عله يستطيع أن يذهب عن بيتها تلك الخلافات. فذهبت المرأة إلى الحكيم وعرضت عليه مشكلتها، ووعدها الرجل أن يساعدها ولكن على شرط: أن تحضر له ثلاث شعرات من جسم أسد! وخرجت المرأة من عنده وهي تفكر في وسيلة تحضر بها ثلاث شعرات من جسم الأسد، فأخذت حملاً وغدت إلى الغابة وعندما هجم عليها الأسد رمت بالحمل فأخذ يلتهمه وانصرف عنها، وأخذت المرأة تفعل هذا الفعل كل يوم، حتى ألفها الأسد وأصبح يتقرب منها في ود. وذات يوم ركبت المرأة على ظهر الأسد، فوجدت نفسها قادرةً على ثلاث شعرات من لبدته فأخذتها على الفور وذهبت بها إلى الحكيم، فلما رأى الحكيم الشعرات الثلاث، قال لها: إذا كنت استطعت أن تروضي الأسد، أفلا تستطيعين أن تروضي زوجك؟!! فأقول لنساء المسلمين اليوم: إن بمقدورك أن تروضي زوجك كيف شئت، ومتى ذلك؟! إذا أحسنت استعمال السحر الحلال الذي وهبه الله إياك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 نصيحة أخيرة وأخيراً: ليعلم كل من الزوجين أن الحياة الزوجية فن جميل قل من يعرفه، بل هي عبادة لله عز وجل. فليتق الله كل واحد منهما في الآخر، فإن السعادة الزوجية يبنيها كل منكما، فتأملا الأساليب الآنفة الذكر، وكررا سماعها وتعاهدا على المعاشرة بحلوها ومرها، فأنتِ بسحرك الحلال، وأنتِ بفن التعامل وحسن الخلق، وإلا فقد تتعرض الأسرة إلى هزات عنيفة، كثيراً ما تؤدي إلى زعزعة أركانها وتشريد أطفالها. أسأل الله عز وجل أن يجمع بين قلبي كل زوجين على خير، وأن يبارك لهما في حياتهما، وأن يسعدهما في الدنيا والآخرة، هو ولي ذلك والقادر عليه. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 يا سامعاً لكل شكوى! في هذه الدنيا مصائب ورزايا، ومحن وبلايا آلام تضيق بها النفوس، ومزعجات تورث الخوف والجزع كم في الدنيا من عين باكية، وكم فيها من قلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعدومين قلوبهم تشتعل ودموعهم تسيل هذا يشكو علة وسقماً، وذاك حاجة وفقراً، وآخر هماً وقلقاً!! عزيز قد ذل، وغني افتقر، وصحيح مرض وكل له هموم وآلام، فإلى من يشكون؟ وأيديهم إلى من يمدون؟ إلى رب الأرض والسماوات، مجيب الدعوات، ومقيل العثرات، علام السر والنجوى، وسامع كل أنة وشكوى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 الافتقار إلى الله والاعتماد عليه الحمد لله الذي يُطْعِمُ ولا يُطْعَم، منَّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا. الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العري، وهدى من الضلالة، وبصّر من العمى، وفضّل على كثير ممن خلق تفضيلا. الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وللعام (1417هـ) وفي هذا الجامع المبارك جامع الملك فهد، في مدينة بريدة، نلتقي بهذه الوجوه الطيبة المباركة، وفي مجلس من مجالس الذكر. يا سامعا لكل شكوى يا خالق الأكوان! أنت المرتجى وإليك وحدك ترتقي صلواتي يا خالقي! ماذا أقول وأنت تعـ ـلمني وتعلم حاجتي وشكاتي يا خالقي! ماذا أقول وأنت مطـ ـلع على شكواي والأناتِ اللهم يا موضع كل شكوى! ويا سامع كل نجوى! ويا شاهد كل بلوى! يا عالم كل خفية! ويا كاشف كل بلية! يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين! ندعوك دعاء من اشتدت فاقته، وضعفت قوته، وقلّت حيلته، دعاء الغرباء المضطرين، الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت، يا أرحم الراحمين! اكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان. يا سامعاً لكل شكوى! أعن المساكين والمستضعفين، وارحم النساء الثكالى والأطفال اليتامى وذا الشيبة الكبير، إنك على كل شيء قدير. معاشر الإخوة والأخوات! إن في تقلب الدهر عجائب، وفي تغير الأحوال مواعظ، توالت العقبات وتكاثرت النكبات، وطغت الماديات على كثير من الخلق فتنكروا لربهم، ووهنت صلتهم به، اعتمدوا على الأسباب المادية البحتة، فسادت موجات القلق والاضطراب والضعف والهوان، وعمّ الهلع والخوف من المستقبل، بل وعلى المستقبل. تخلوا عن ربهم فتخلى الله عنهم، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] . جميع الخلق مفتقرون إلى الله في كل شئونهم وأحوالهم، وفي كل كبيرة وصغيرة، وفي هذا العصر تعلق الناس بالناس، وشكا الناس إلى الناس، ولا بأس أن يستعان بالناس فيما يقدرون عليه، لكن أن يكون المعتمد عليهم والسؤال إليهم والتعلق بهم فهذا هو الهلاك بعينه، فإن من تعلق بشيء وُكِل إليه. نعتمد على أنفسنا وذكائنا بكل غرور وعجب وصلف، أما أن نسأل الله العون والتوفيق، ونلح عليه بالدعاء، ونحرص على دوام الصلة بالله في كل الأشياء وفي الشدة والرخاء، فهذا آخر ما يفكر به بعض الناس. فقيرا جئت بابك يا إلهي ولست إلى عبادك بالفقير غني عنهم بيقين قلبي وأطمع منك في الفضل الكبير إلهي ما سألت سواك عونا فحسبي العون من رب قدير إلهي ما سألت سواك عفوا فحسبي العفو من رب غفور إلهي ما سألت سواك هديا فحسبي الهدي من رب بصير إذا لم أستعن بك يا إلهي فمن عوني سواك ومن مجيري؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 الفرار إلى الله أيها الأخ! إن الفرار إلى الله واللجوء إليه في كل حال، وفي كل كرب وهمّ، هو السبيل للتخلص من ضعفنا وفتورنا وذلّنا وهواننا. إن في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحناً وبلايا آلام تضيق بها النفوس، ومزعجات تورث الخوف والجزع، كم في الدنيا من عين باكية، وكم فيها من قلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعدومين قلوبهم تشتعل ودموعهم تسيل هذا يشكو علة وسقماً، وذاك حاجة وفقراً، وآخر هماً وقلقاً!! عزيزُ قد ذلَّ، وغنيٌ افتقر، وصحيحٌ مَرِض رجل يتبرم من زوجه وولده، وآخر يشكو ويئن من ظلم سيده، وثالث كسدت وبارت تجارته. شاب أو فتاة يبحث عن عروس، وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس هذا مسحور وذاك مدين، وآخر ابتلي بالإدمان والتدخين، ورابع أصابه الخوف ووسوسة الشياطين. تلك هي الدنيا، تُضحِك وتُبكي، وتجمع وتشتت شدة ورخاء، وسراء وضراء، وصدق الله العظيم: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 الشكوى والتضرع إلى الله وحده أيها الأخ! السؤال الذي يجب أن يكون: هؤلاء إلى من يشكون؟ وأيديهم إلى من يمدون؟ يجيبك واقع الحال: على بشر مثلهم يترددون، وللعبيد يتملقون، يسألون ويلحون، وفي المديح والثناء يتقلبون، وربما على السحرة والكهنة يتهافتون. نعم والله! تؤلمنا شكاوي المستضعفين، وزفرات المساكين، وصرخات المنكوبين، وتدمع أعيننا -يعلم الله! - لآهات المتوجعين وأنات المظلومين، وانكسار الملذوعين. لكن أليس إلى الله وحده المشتكى؟ أين الإيمان بالله؟ أين التوكل على الله؟ أين الثقة واليقين بالله؟ وإذا عرتك بلية فاصبر لها صبر الكريم فإنه بك أرحم وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم ألم نسمع عن أناس كانوا يشكون إلى الله حتى انقطاع شسع نعلهم؟؟ نعم. حتى سير النعل كانوا يسألون الله، بل كانوا يسألون الله الملح. يا أصحاب الحاجات! أيها المرضى! أيها المدينون! أيها المكروب والمظلوم! أيها المعسر والمهموم! أيها الفقير والمحروم! يا من يبحث عن السعادة الزوجية! يا من يشكو العقم ويبحث عن الذرية! يا من يريد التوفيق في الدراسة والوظيفة! يا من يهتم لأمر المسلمين! يا كل محتاج! يا من ضاقت عليه الأرض بما رحبت! لماذا لا نشكو إلى الله أمرنا، وهو القائل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ؟! لماذا لا نرفع أكف الضراعة إلى الله؛ وهو القائل: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [البقرة:186] ؟! لماذا ضعف الصلة بالله وقلة الاعتماد على الله، وهو القائل: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77] ؟! أيها المؤمنون! أيها المسلمون! يا أصحاب الحاجات! ألم نقرأ في القرآن قول الحق عز وجل: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [الأنعام:42] لماذا؟ {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42] ؟! فأين نحن من الشكوى والتضرع إلى الله؟ أين نحن من الإلحاح على الله؟ سبحان الله! ألسنا بحاجة إلى ربنا؟ أنعتمد على قوتنا وحولنا؟ والله ثم والله! لا حول لنا ولا قوة إلا بالله! والله لا شفاء إلا بيد الله، ولا كاشف للبلوى إلا الله، ولا توفيق ولا فلاح، ولا سعادة ولا نجاح إلا من الله. العجيب والغريب -أيها الأخ! - أن كل مسلم يعلم هذا، ويعترف بهذا، بل ويقسم على هذا، فلماذا إذاً تتعلق القلوب بالضعفاء والعاجزين؟ ولماذا نشكوا إلى الناس ونلجأ للمخلوقين؟ سلَّ الله ربك ما عنده ولا تسأل الناس ما عندهم ولا تبتغِ من سواه الغنى وكنْ عبده لا تكنْ عبدهم فيا من إذا بُليت سلاك أحبابك، وهجرك أصحابك! يا من نزلت به نازلة، أو حلّت به كارثة! يا من بُليت بمصيبة أو بلاء! ارفع يديك إلى السماء، وأكثر الدمع والبكاء، وألح على الله بالدعاء، وقل: يا سامعاً لكل شكوى! إذا استعنت فاستعن بالله، وإذا سألت فاسأل الله، وقل: يا سامعاً لكل شكوى! توكل على الله وحده، وأعلن بصدق أنك عبده، واسجد لله بخشوع، وردد بصوت مسموع: يا سامعا لكل شكوى! أنت الملاذ إذا ما أزمة شملت وأنت ملجأ من ضاقت به الحيل أنت المنادى به في كل حادثة أنت الإله وأنت الذخر والأمل أنت الرجاء لمن سدت مذاهبه أنت الدليل لمن ضّلَّتْ به السبل إنا قصدناك والآمال واقعة عليك والكل ملهوف ومبتهل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 الأنبياء والدعاء إن الأنبياء والرسل وهم خير الخلق وأحب الناس إلى الله، نزل بهم البلاء واشتد بهم الكرب، فماذا فعلوا؟! وإلى من لجأوا؟ أخي الحبيب! أختصر لك الإجابة: إنه التضرع والدعاء، والافتقار إلى رب الأرض والسماء، إنها الشكاية إلى الله وحسن الصلة بالله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 نماذج من الاستجابة لدعاء الأنبياء هذا نوح عليه السلام يشكو أمره إلى الله ويلجأ إلى مولاه، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:75-76] . كانت المناداة كانت المناجاة؛ فكانت الإجابة من الرحمن الرحيم. وقال: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:76] وقال عزّ من قائل: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:10-11] . هذا أيوب عليه السلام ابتلاه الله بالمرض ثمانية عشر عاماً، حتى إن الناس ملوا زيارته لطول المدة، فلم يبق معه إلا رجلان من إخوانه يزورانه، لكنه لم ييأس عليه السلام، بل صبر واحتسب، وأثنى الله عليه فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] . أواب، أي: رجاع منيب إلى ربه، ظل على صلته بربه، وثقته به ورضاه بما قسم له، توجه إلى ربه بالشكوى؛ ليرفع عنه الضر والبلوى. قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] فماذا كانت النتيجة؟ قال الحق عز وجل العليم البصير بعباده، الرحمن الرحيم: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84] . هذا يونس عليه السلام رفع الشكاية إلى الله فلم ينادِ ولم يناجِ إلا الله، قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فماذا كانت النتيجة؟ {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] . وزكريا عليه السلام قال الحق عز وجل عنه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] الذين يشكون العقم وقلة الولد: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] فماذا كانت النتيجة؟ {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] . إذاً: لماذا استجاب الله دعاءهم؟ لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات كانوا لا يملون الدعاء، بل كان القلب متصلاً متعلقاً بالله؛ لذلك قال الله عنهم: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] خاشعين متذللين معترفين بالتقصير، فالشكاية تخرج من القلب قبل اللسان. يعقوب عليه السلام قال: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] انظروا إلى اليقين، انظروا إلى المعرفة برب العالمين: {وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] فاستجاب الله دعاءه وشكواه، ورد عليه يوسف وأخاه. وهذا يوسف عليه السلام ابتلاه الله بكيد النساء، فلجأ إلى الله وشكا إليه ودعاه، فقال: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:33-34] . وأخبر الله عن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال:9] استغاثة لجاءة وشكوى إلى الله، صلة بالله سبحانه وتعالى، {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9] . وهكذا أيها الحبيب! إننا حين نستعرض حياة الرسل جميعاً، كما قصها علينا القرآن الكريم، نرى أن الابتلاء والامتحان كان مادتها وماءها، وأن الصبر وحسن الصلة بالله ودوام الالتجاء وكثرة الدعاء وحلاوة الشكوى كان قوامها. وما أشرنا إليه كان نماذج من الاستجابة للدعاء، ومن نظر في كتب السير والتفاسير، وقف على شدة البلاء الذي أصاب الأنبياء، وعلم أن الاستجابة جاءت بعد إلحاح ودعاء، واستغاثة ونداء. إنها آيات بينات، وبراهين واضحات، تقول بل وتعلن: أن من توكل واعتمد على الله وأحسن الصلة بمولاه، استجاب الله دعاه وحفظه ورعاه، فإن لم يكن ذلك في الدنيا، كان في الآخرة، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60] . إنها صفحات من الابتلاء والصبر، معروضة للبشرية لتسجل: أن لا اعتماد إلا على الله، وأن لا فارج للهمِّ ولا كاشف للبلوى إلا الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 الدعاء طريق الاستعلاء هذا هو طريق الاستعلاء، أن ننظر إلى السماء وأن نلح بالدعاء؛ لأن الشكوى إلى الله تشعرك بالقوة والسعادة، وأنك تأوي إلى ركن شديد، أما الشكوى إلى الناس والنظر إلى ما في أيدي الناس، فيشعرك بالضعف والذل والإهانة والتبعية. يا أهل التوحيد! أليس هذا أصلاً من أصول التوحيد؟ إن من أصول التوحيد أن تتعلق القلوب بخالقها في وقت الشدة والرخاء والخوف والأمن والمرض والصحة، بل وفي كل حال وزمان. وإن ما نراه اليوم من تعلق القلوب بالمخلوقين، وبالأسباب وحدها دون اللجأ إلى الله، لهو والله نذير خطر لتزعزع عقيدة التوحيد في النفوس. أيها الأخ! إن الشكوى إلى الله، والتضرع إلى الله، وإظهار الحاجة إليه، والاعتراف بالافتقار إليه، من أعظم عرى الإيمان وثوابت التوحيد، وبرهان ذلك الدعاء والإلحاح في السؤال، والثقة واليقين بالله في كل حال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 الأدعية النبوية عند المرض ولقد زخرت كتب السنة بأنواع من الدعاء تجعل المسلم على صلة بربه، وفي حرز من عدوه يقضى أمره ويكفى همه، في كل مناسبة دعاء في اليقظة والمنام، والحركة والسكون قياماً وقعودا وعلى الجنوب ابتهال وتضرع في كل ما أهمَّ العبد، وهل إلى غير الله مفر؟ أم هل إلى غيره ملاذ؟ ففي المرض -مثلاً- الأدعية كثيرة والأحاديث مستفيضة، وإليك على سبيل المثال ما أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتها) . وأخرج البخاري ومسلم -أيضاً- من حديث عائشة أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقما) أي: لا يترك سقما. وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: (أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم - انظروا إلى رسول الله إلى قدوتنا وحبيبنا يربي أصحابه على الاعتماد واللجاءة إلى الله-: ضع يدك على الذي تألم من جسدك) الإرشاد أولاً إلى الله، التعلق أولاً بالله، لم يرشده أولاً لطبيب حاذق ولا بأس بهذا، لكن التعلق بالله أولاً (ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: باسم الله، باسم الله، باسم الله، ثم يقول سبعاً: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) . وفي رواية: (امسحه بيمينك سبع مرات) وفي رواية قال عثمان: [فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم] . سبحان الله! اسمعوا لحسن الصلة بالله والتوكل على الله: [فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم] . أيها المريض! اعلم أن من أعظم أسباب الشفاء، التداوي بالرقى الشرعية من القرآن والأدعية النبوية؛ ولها أثراً عجيباً في شفاء المريض وزوال علته، لكنها تريد قلباً صادقا وذلاً وخضوعاً لله رددها أنت بلسانك فرقيتك لنفسك أفضل وأنجع، فأنت المريض، وأنت صاحب الحاجة، وأنت المضطر، وليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة، وما حك جلدك مثل ظفرك. فتوكل على الله بصدق، وألح عليه بدون ملل، وأظهر ضعفك وعجزك وحالك وفقرك إليه، وستجد النتيجة العجيبة إن شاء الله، ثقةً بالله. فإلى كل مريض مهما كان مرضه أقول: أخي الحبيب شفاك الله وعافاك! اعلم أن الأمراض من جملة ما يبتلي الله به عباده، والله عز وجل لا يقضي شيئا إلا وفيه الخير والرحمة لعباده، وربما كان مرضك لحكمة خفيت عليك أو خفيت على عقلك البشري الضعيف: {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 الفوائد والحكم من الأمراض والأسقام أيها المحب شفاك الله! هل علمت أن للأمراض والأسقام فوائد وحكماً؟ أشار ابن القيم إلى أنه أحصاها فزادت على مائة فائدة، وانظر كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، صفحة [525] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 تكفير السيئات أيها المسلم! أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ويعافيك، هل سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) والحديث متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وهل سمعت أنه صلى الله عليه وسلم زار أم العلاء وهي مريضة، فقال لها: (أبشري يا أم العلاء! فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة) والحديث أخرجه أبو داود وحسنه المنذري وقال الألباني في الصحيحة: هذا سند جيد. وقال ابن عبد البر رحمه الله: الذنوب تكفرها المصائب والآلام والأمراض والأسقام، وهذا أمر مجتمع عليه. انتهى كلامه رحمه الله. والأحاديث والآثار في هذا مشهورة، وليس هذا مقام بسطها، لكن المراد هنا أننا نرى حال بعض الناس إذا مرض فهو يفعل كل الأسباب المادية من ذهاب للأطباء وأخذ للدواء وبذل للأموال وسفر للقريب والبعيد، ولا شك أن هذا مشروع محمود، ولكنّ الأمر الغريب أن يطرق كل الأبواب، وينسى باب مسبب الأسباب، بل ربما لجأ إلى السحرة والمشعوذين -نعوذ بالله من حال الشرك والمشركين- ألم يقرأ هذا وأمثاله في القرآن: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] ؟ أيها المريض! اعلم أن الشافي هو الله ولا شفاء إلا شفاؤه. أيها المريض! بل يا كل مصاب أيا كانت مصيبته! هل سألت نفسك: لماذا ابتلاك الله بهذا المرض أو بهذه المصيبة؟ ربما لخير كثير، أو لحكم لا تعلمها ولكنّ الله يعلمها. ألم يخطر ببالك أنه أصابك بهذا البلاء، ليسمع صوتك وأنت تدعوه، ويرى فقرك وأنت ترجوه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 استخراج مكنون عبودية الدعاء فمن فوائد المصائب: استخراج مكنون عبودية الدعاء، قال أحدهم: سبحان من استخرج الدعاء بالبلاء، وفي الأثر أن الله ابتلى عبداً صالحاً من عباده، وقال لملائكته: (لأسمع صوته) يعني: بالدعاء والإلحاح. أيها المريض! المرض يريك فقرك وحاجتك إلى الله، وأنه لا غنى لك عنه طرفة عين، فيتعلق قلبك بالله وتقبل عليه بعد أن كنت غافلاً عنه، وصدق من قال: فربما صحت الأجسام بالعلل. فارفع يديك، وأسل دمع عينيك، وأظهر فقرك وعجزك، واعترف بذُلِّك وضعفك. في رواية عن سعيد بن عنبسة قال: بينما رجل جالس وهو يعبث بالحصى ويحذف به، إذ رجعت حصاة منها عليه فصارت في أذنه، فجهدوا بكل حيلة فلم يقدروا على إخراجها، فبقيت الحصاة في أذنه مدة وهي تؤلمه، فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئاً يقرأ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] فقال الرجل: يا رب! أنت المجيب وأنا المضطر، فاكشف عني ضر ما أنا فيه، فنزلت الحصاة من أذنه في الحال. لا تعجب! إن ربي لسميع الدعاء، إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون. أيها المريض! إياك وسوء الظن بالله إن طال بك المرض، فتعتقد أن الله أراد بك سوءاً، أو أنه لا يريد معافاتك، أو أنه ظالم لك، فإنك إن ظننت ذلك فإنك على خطر عظيم. أخرج الإمام أحمد بسند صحيح كما في الصحيحة من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيراً فله، وإن ظن شراً فله) . يعني: ما كان في ظنه فإني فاعله به، فأحسن الظن بالله تجد خيراً إن شاء الله. لا تجزعنَّ إذا نالتك موجعةٌ واضرع إلى الله يسرع نحوك الفرج ثم استعن بجميل الصبر محتسبا فصبح يسرك بعد العسر ينسلج فسوف يدلج عنك الهم مرتحلا وإن أقام قليلاً سوف يدّلج هذا في المرض، وأطلت فيه لكثرة المرضى وحاجة الناس إلى مثل هذه التوجيهات، وهي تحتاج إلى رسالة خاصة، لكن حسبي ما ذكرته الآن؛ لأن الموضوع عام في المصائب والآلام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 الأدعية النبوية لقضاء الدين ومن المصائب والآلام التي يحتاج الناس فيها إلى الشكوى إلى الله: تراكم الديون وكثرة المعسرين. كم من مدين عجز عن الوفاء، وكم من معسر يعيش في شقاء، همٌ في الليل وذلٌ في النهار، أحزان وآلام، لا يغمض في منام، ولا يهنأ في طعام، طريد للغرماء أو مع السجناء، صبية صغار وبيت للإيجار، وزوجة مسكينة لا تدري أتطرق أبواب المحسنين، أو تسلك طريق الفاسقين. هذه رسالة مؤلمة من زوجة إلى زوجها في السجن بسبب الديون، تقول فيها الزوجة: (لم أتمتع معك في حياتنا الزوجية إلا فترة من الزمن، حتى غيبوك في غياهب السجون، كم سنة غبت عني، لا أدري ما فعل الله بك، ولا أدري عنك، أحي فترجى أم ميت فتنعى، ليتك ترى حالي وحال أولادك، ليتك ترى حال صغارك، لست أدري هل أخون أمانة الله وأمانتك، وأطلب الرزق لهؤلاء بطرق محرمة، وأنا في ذمتك وعهدك، أم أطلب الطلاق ويضيع أولادك) إلى آخر الرسالة التي ذكرها صاحب كتاب: نداء إلى الدائنين والمدينين. وأقول -أيها الحبيب! -: تصوّر حال هذا الزوج كيف يكون وهو يقرأ هذه الكلمات، ديون وسجون وهموم وأولاد، ذل وخضوع للناس. واسمع إلى هذا الرجل وهو يشكو حاله فيقول: أنا رجل سجين بسبب مبلغ من المال، وقد صار لي في السجن أكثر من سنة ونصف، ولا يقبل خصمي كفيلا، وأنا معسر وصاحب عائلة، فهل يجوز سجني؟ إلى هؤلاء وأمثالهم أقول: لماذا طرقتم الأبواب كلها ونسيتم باب: (من يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا خائبتين) كما في سنن أبي داود والترمذي وقال ابن حجر: سنده جيد. قال السري السقطي: كنْ مثل الصبي إذا اشتهى على أبويه شهوة، فلم يمكناه قعد يبكي عليهما، فكن أنت مثله، فإذا سألت ربك ولم يعطك فاقعد فابك عليه. كما في شعب الإيمان للبيهقي. ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعا وعند الله منها مخرج ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكان يظنها لا تفرج ومن الأدعية في قضاء الدين، ما أخرجه أبو داود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يوم، فرأى فيه رجلاً من الأنصار، يقال له أبو أمامة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أراك جالساً في المسجد في غير وقت صلاة، قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمك كلاماً -يعلق القلوب بالله صلوات الله وسلامه عليه- أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله تعالى همي وغمي وقضى عني ديني) . وروى البيهقي في فضائل الأعمال، عن حماد بن سلمة أن عاصم بن أبي إسحاق شيخ القراء في زمانه قال: أصابتني خصاصة، -أي: حاجة وفاقة- فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري، فرأيت في وجهه الكراهة، فخرجت من منزله إلى الجبانة-أي: إلى الصحراء- فصليت ما شاء الله تعالى، ثم وضعت وجهي على الأرض، وقلت: يا مسبب الأسباب! يا مفتح الأبواب! ويا سامع الأصوات! يا مجيب الدعوات! يا قاضي الحاجات! اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك -يلح على الله بهذا الدعاء- قال: فوالله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعة بقربي، فرفعت رأسي فإذا بحدأة طرحت كيساً أحمر، فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانون ديناراً وجوهراً ملفوفاً في قطنة، فبعت الجواهر بمال عظيم وأفضلت -أي: أبقيت- الدنانير فاشتريت منها عقاراً، وحمدت الله تعالى على ذلك. لا تعجب أيها الأخ! إن ربي لسميع الدعاء، ومن يتوكل على الله فهو حسبه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 الأدعية النبوية عند الهم والقلق ومن الأدعية عند الهمّ والقلق ما أخرجه أحمد في المسند من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب أحد قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجا) وفي رواية: (فرحا) قال: (فقيل: يا رسول الله! ألا نتعلمها؟! فقال: بلى. ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها) صححه ابن حبان وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية. أيها الأخ! إن الإنسان منا ضعيف، فكيف إذا اجتمعت عليه الهموم والأحزان، وشواغل الدنيا ومشاكلها فزادته ضعفا، وجعلته فريسة للهم والقلق والتمزق النفسي. انظر إلى العيادات النفسية وكثرة المراجعين لها، شباب وفتيات في أعمار الزهور، أين هؤلاء من الاعتصام بالله والاتصال والشكوى إلى الذي قدّر الهموم والغموم، وقضى بالمصائب والأحزان؟ يتصل به متذللا معترفاً بذنبه طارقاً بابه مستعيناً به، مستيقناً بأنه هو القادر على كشفها دون سواه، وما سواه إلا أسباب هو الذي يقدّرها ويهيئها للعبد. إن الله تعالى يقول: {خُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] قال ابن القيم في طريق الهجرتين: فإنه -أي: الإنسان- ضعيف البنية ضعيف القوة ضعيف الإرادة ضعيف العلم ضعيف الصبر، والآفات إليه مع هذا الضعف أسرع من السيل في صيّب الحدور، فبالاضطرار لا بد له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره ويساعده، فإن تخلى عنه هذا المساعد المعين فالهلاك أقرب إليه من نفسه إلى آخر كلامه. إذاً: فلنتعلم هذا الحديث كما أوصى صلى الله عليه وسلم، فإن فيه خضوعاً وخشوعاً لله فيه اعتراف بالعبودية والذل لله فيه توسل واستغاثة بجميع أسماء الله ما يُعرف منها وما لا يُعرف، ما كتب وما أخفى. وأبشر أخي الحبيب! فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) كما في صحيح البخاري وصحيح مسلم. يا صاحب الهم! إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج الله إذا بليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 الأدعية النبوية عند النوازل والفتن والخوف ومن الأدعية عند النوازل والفتن والخوف، ما أخرجه أبو داود والنسائي عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً قال: (اللهم إنّا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم) وكان يقول صلى الله عليه وسلم عند لقاء العدو: (اللهم أنت عضدي وأنت ناصري، بك أصول وبك أجول، وبك أقاتل) كما عند أبي داود والترمذي وأحمد. وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس قال: [حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: إن الناس قد جمعوا لكم] فإذا كان المحيي والمميت والرزاق هو الله، فلماذا التعلق بغير الله؟ ولماذا الخوف من الناس؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك) . أيها المسلم! لا يمكن للقلب أبداً أن يسكن أو يرتاح أو يطمئن لغير الله، فاحفظ الله يحفظك، وردد: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] . رأى موسى البحر أمامه والعدو خلفه فقال: {كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] إنها العناية الربانية، إذا ركن إليها العبد صادقاً مخلصاً. نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الغار، ويرى أقدام أعدائه على الباب -أي: باب الغار- ويلتفت إلى صاحبه ويقول: (لا تحزن إن الله معنا) . والأعجب من ذلك وهو مطارد مشرد، يبشر سراقة بأنه سوف يلبس سواري كسرى، هكذا الإيمان والاعتصام بالله. (كان صلى الله عليه آله وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة) أي: إذا نزل به أمر أو أصابه غم فزع إلى الصلاة يلجأ إلى الله يشكو إلى الله، ويناجي مولاه، إنها الثقة بالله، الثقة بالله عند الشدائد، فهو يأوي إلى ركن شديد. فيا من وقعت في شدة! ارفع يديك إلى السماء، وألح على الله بالدعاء والله يعصمك من الناس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 سهام الليل وإن كنت مظلوما فأبشر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ لما بعثه إلى اليمن: (واتق دعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجاب) كما في صحيح البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه) أخرجه أحمد، وحسنه الألباني كما في الصحيحة. ألا قولوا لشخص قد تقوى على ضعفي ولم يخش رقيبه خبأت له سهاماً في الليالي وأرجو أن تكون له مصيبه أيها الأخ! وأيتها الأخت! إن من أعظم البلايا وأشد الرزايا، ما يصيب المسلمين في كل مكان من غزو واجتياح، وتعديات ومظالم، وفقر وتجويع، حتى أصاب بعض النفوس الضعيفة، اليأس والقنوط، والإحباط وفقدان الثقة والأمل. لماذا أيها الأخ؟! أليس الأمر لله من قبل ومن بعد؟! أليس حسبنا الله وكفى بالله حسيبا؟! أليس الله بقادر؟! أليس هو الناصر وكفى بالله نصيرا؟! ألا يعلم الله مكرهم؟! ألم يقل: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ؟! {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36] {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53] . ألم يقل: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95] ؟! ألم يقل: {فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137] ؟! أيها الأخ الحبيب! اسمع وعِ وأعلِم وأعلِن: إن مصيبتنا ليست بقوة عدونا، إنما هي بضعف صلتنا بربنا، وضعف ثقتنا، وقلة اعتمادنا عليه، لنفتش في أنفسنا عند وقوعنا في الشدائد والمحن، أين الضراعة والشكوى إلى الله؟! أين اللجاءة والمناجاة لله؟! ليس أفضل عند الله من الدعاء؛ لأن فيه إظهار الفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته وغناه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 فن الدعاء والشكوى أيها المسلم! نريد أن نتعلم فنّ الدعاء، والتذلل والخضوع والبكاء، لنعترف بالفقر إليه ولنظهر العجز والضعف بين يديه، أليس لنا في رسول الله قدوة؟ أليس لنا فيه أسوة؟! أوذي أشد الأذى، وكُذِّب أشد التكذيب اتهم بعرضه، وخدشت كرامته، وطرد من بلده عاش يتيماً وافتقر، ومن شدة جوعه ربط على بطنه الحجر قيل عنه كذاب وساحر، ومجنون وشاعر توضع العراقيل في طريقه، وسلا الجزور على ظهره يشج رأسه، وتكسر ثنيته، يقتل عمه، جمّعوا عليه الأحزاب، وحاصره المشركون والمنافقون واليهود. يذهب إلى الطائف؛ ليبلغ دعوته، فيقابل بالتكذيب والسب والشتم، ويطرد ويلاحق ويرمى بالحجارة، فماذا فعل بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه؟! أين ذهب؟ من يسأل؟ على من يشكو؟! إلى ذي الجبروت والملكوت، إلى القوي العزيز. فأعلن صلى الله عليه وآله وسلم الشكوى، ورفع يديه بالنجوى، دعا وألح وبكى، وتظلم وتألم وشكا، لكن اسمع إلى فنِّ الشكوى وإظهار الضعف والعجز والافتقار منه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (اللهم! إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني؟ أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن ساخطاً عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السماوات وأشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحل عليَّ غضبك أو تنزل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك) . هكذا كان صلى الله عليه وآله وسلم ضراعة ونجوى لربه. والحديث أخرجه الطبراني في الكبير وقال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني. وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة ورجاله ثقات. أيها الأخ! لماذا نشكوا إلى الناس، ونبث الضعف والهوان والهزيمة النفسية في مجالسنا، وننسى أو نتكاسل عن الشكوى إلى من بيده الأمر من قبل ومن بعد؟! {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ * قُلْ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام:63-64] . أليس فينا من بينه وبين الله أسرار؟! أليس فينا أشعث أغبر ذو طمرين لو أقسم على الله لأبره؟! أليس فينا من يرفع يديه إلى الله في ظلمة الليل، يسجد ويركع، ينتحب إلى الله، ويرفع الشكوى إلى الله؟! فلنشكُ إلى الله فلنقوِ الصلة بالله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 الأدعية النبوية في الكرب ومن الأدعية في المصيبة والكرب والشدة والضيق، ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم) وفي رواية: (كان إذا أحزبه أمرٌ قال ذلك) . قال النووي في شرح مسلم: هو حديث جليل ينبغي الاعتناء به والإكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة. قال الطبري: كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب. وأخرج أبو داود وأحمد عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت) حسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية، والألباني كما في صحيح الجامع. وأخرج الترمذي وأحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: ((لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ)) [الأنبياء:87] فإنه لم يدع بها رجلٌ مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له) حسنه ابن حجر في الفتوحات وصححه الألباني كما في صحيح الجامع. لما قالها يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت، قال الله عز وجل: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] . قال ابن كثير في تفسيره: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] أي: إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا، ولاسيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء، فقد جاء الترغيب في الدعاء بها عن سيد الأنبياء. انتهى كلامه. وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها، قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: -أي: قالت في نفسها- أي المسلمين خيرٌ من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم) . إذاً: فالاسترجاع ملجأ وملاذ لذوي المصائب ومعناه باختصار: (إنا لله) : توحيد وإقرار بالعبودية والملك. (وإنا إليه راجعون) : إقرار بأن الله يهلكنا ثم يبعثنا. إذاً: فالأمر كله لله، فلا ملجأ منه إلا إليه، والله عز وجل يقول: {وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 صور ومواقف وإليك أيها الحبيب! أمثلة ومواقف للذين لجأوا إلى حصن الإيمان وسلاح الدعاء، وأدركوا أن المفزع بعد الإيمان هو الدعاء، فهو السلاح الذي يستدفع به البلاء، ويرد به شر القضاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 فادع بهذا الدعاء عن أصبغ بن زيد قال: مكثت أنا ومن عندي ثلاثاً لم نطعم شيئا -أي: من الجوع- فخرجت إلي ابنتي الصغيرة وقالت: يا أبتِ! الجوع! -تشكو الجوع- قال: فأتيت الميضأة -انظروا إلى من اللجاءة! انظروا إلى من يلجأون- فأتيت الميضأة، فتوضأت وصليت ركعتين، وأُلهمت دعاء دعوت به، في آخره: اللهم افتح عليّ منك رزقاً لا تجعل لأحد عليّ فيه منة، ولا لك عليّ في الآخرة فيه تبعة، برحمتك يا أرحم الراحمين! ثم انصرفت إلى البيت، فإذا بابنتي الكبيرة وقد قامت إليّ وقالت: يا أبه! جاء رجل يقول أنه عمي بهذه الصرة من الدراهم وبحمال عليه دقيق، وحمال عليه من كل شيء في السوق، وقال: أقرئوا أخي السلام وقولوا له: إذا احتجت إلى شيء فادع بهذا الدعاء، تأتك حاجتك، قال أصبغ بن زيد: والله ما كان لي أخ قط، ولا أعرف من كان هذا القائل، ولكن الله على كل شيء قدير. فقلت للفكر لما صار مضطربا وخانني الصبر والتفريط والجلد دعها سماوية تجري على قدر لا تعترضها بأمر منك تنفسد فحفني بخفي اللطف خالقنا نِعم الوكيل ونِعم العون والمدد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 أتدل العباد على الله ثم تنساه؟! وعن شقيق البلخي قال: كنت في بيتي قاعداً فقال لي أهلي: قد ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع، ولا يحل لك أن تحمل عليهم ما لا طاقة لهم به، قال: فتوضأت -نرجع إلى السبب الذي كانوا يدورون حوله رضوان الله تعالى عليهم- فتوضأت وكان لي صديقٌ لا يزال يقسم علي بالله إن يكن بي حاجة أعلمه بها ولا أكتمها عنه، فخطر ذكره ببالي، فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد، فذكرت ما روي عن أبي جعفر قال: من عرضتْ له حاجة إلى مخلوق فليبدأ فيها بالله عز وجل، قال: فدخلت المسجد فصليت ركعتين، فلما كنت في التشهد، أفرغ عليَّ النوم، فرأيت في منامي أنه قيل: يا شقيق! أتدل العباد على الله ثم تنساه؟! قال: فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني به ربي، فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة، ثم تركت الذهاب لصاحبي وتوكلت على الله، وانصرفت إلى المنزل فوجدت الذي أردت أن أقصد قد حركه الله وأجرى لأهلي على يديه ما أغناهم، إن ربي سميع الدعاء. فلا تعجب أيها الحبيب! {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] واسمع لدعاء ابن القيم بالفاتحة، يقول: ومكثت بـ مكة مدة يعتريني أدواء لا أجد لها طبيباً ولا دواء، فكنت أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيراً عجيبا، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما، فكان كثيرٌ منهم يبرأ سريعا. ذكر ذلك في الجواب الكافي وذكره -أيضاً- في زاد المعاد. وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المتفق عليه، لما قرأ على سيد الحي الفاتحة، قال: (فكأنما نشط من عقال) فهذا يشهد أيضاً بفضل الفاتحة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 ما له؟! قطع الله صوته ومن المواقف الجميلة والطريفة في الدعاء، أنه كان لـ سعيد بن جبير ديك، كان يقوم من الليل بصياحه، فلم يصح ليلة من الليالي، حتى أصبح، فلم يصلِّ سعيد تلك الليلة -أي: لم يصل قيام الليل- فشق عليه ذلك، فقال: [ما له قطع الله صوته؟ -يعني: الديك، وكان سعيد مجاب الدعوة- فما سُمِع لذلك الديك صوتٌ بعد ذلك الدعاء، فقالت أم سعيد: يا بني! لا تدع على شيء بعدها] ذكر ذلك الذهبي في السير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 ساقها لي بدعائي وذكر أحد الدعاة في بعض رسائله: أن رجلاً من العباد كان مع أهله في الصحراء في جهة البادية، وكان عابداً قانتاً منيباً ذاكراً لله، قال: فانقطعت المياه المجاورة لنا وذهبت ألتمس ماء لأهلي، فوجدت أن الغدير قد جفّ، فعدت إليهم ثم التمسنا الماء يمنة ويسرة فلم نجد ولو قطرة وأدركنا الظمأ، واحتاج أطفالي إلى الماء، فتذكرت رب العزة سبحانه القريب المجيب، فقمت فتيممت واستقبلت القبلة وصليت ركعتين، ثم رفعت يدي وبكيت وسالت دموعي وسألت الله بإلحاح وتذكرت قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] قال: والله ما هو إلا أن قمت من مقامي وليس في السماء من سحاب ولا غيم، وإذا بسحابة قد توسطت مكاني ومنزلي في الصحراء، واحتكمت على المكان ثم أنزلت ماءها، فامتلأت الغدران من حولنا وعن يميننا وعن يسارنا فشربنا واغتسلنا وتوضأنا وحمدنا الله سبحانه وتعالى، ثم ارتحلت قليلاً خلف هذا المكان، وإذا الجدب والقحط، فعلمت أن الله ساقها لي بدعائي، فحمدت الله عز وجل. {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 عليك بالثلث الأخير من الليل وذكر -أيضاً- أن رجلاً مسلماً ذهب إلى إحدى الدول والتجأ بأهله إليها، وطلب بأن تمنحه الجنسية، فقال: فأغلقت في وجهه الأبواب وحاول هذا الرجل كل المحاولة واستفرغ جهده، وعرض الأمر على كل معارفه فبارت الحيل وسدت السبل، ثم لقي عالماً ورعاً فشكا إليه الحال، فقال له: عليك بالثلث الأخير من الليل، ادع مولاك فإنه الميسر سبحانه وتعالى. قال هذا الرجل: فوالله لقد تركت الذهاب إلى الناس وطلب الشفاعات، وأخذت أداوم على الثلث الأخير كما أخبرني ذلك العالم، وكنت أهتف لله في السحر وأدعوه فما هو إلا بعد أيام، وتقدمت بمعروض عادي ولم أجعل بيني وبينهم واسطة، فذهب هذا الخطاب، وما هو إلا أيام وفوجئت في بيتي أني أُدعى وأُسلم الجنسية، وكانت في ظروف صعبة. إن الله سميع مجيب ولطيف قريب، لكن التقصير منا، فلا بد أن نلحّ على الله وندعوه وأبشروا: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 الباب الذي لا يغلق وأذكر أن طالباً متميزاً في دراسته حصل له ظرف في ليلة امتحان إحدى المواد، ولم يستطع أن يذاكر جميع المنهج المقرر للمادة إلا بقدر الثلث، فاهتمّ واغتمّ وضاقت عليه نفسه، ولم يستطع الإفادة من باقي الوقت لاضطراب النفس وطول المنهج، فما كان منه إلا أن توضأ وصلى ركعتين، وألحّ على الله بأسمائه وصفاته وباسمه الأعظم، يقول الطالب: فدخلت قاعة الامتحان ووزعت أوراق الأسئلة وقبل أن أنظر فيها دعوت الله عز وجل ورددت بعض الأذكار، ثم قلبت الورقة فإذا الأسئلة أكثرها من ذلك الثلث الذي درسته، فبدأت بالإجابة، ففتح الله عليَّ فتحاً عجيباً لم أكن أتصوره ولكن ربي سميع مجيب. فإلى كل الطلاب والطالبات! أقول: لماذا غفلت عن الدعاء والشكوى إلى الله، وأنتم تشكون إلى بعضكم وتزفرون وتتوجعون؟! لماذا يعتمد الكثير منكم على نفسه وذكائه، بل ربما اعتمد البعض على الغش والاحتيال؟! إن النفس مهما بلغت من الكمال والذكاء، فإنها ضعيفة، وهي عرضة للغفلة والنسيان، نعم. لنفعل الأسباب ولنحفظ ولنذاكر ونجتهد، ولكنها كلها لا شيء إن لم يعنك الله ويفتح عليك، فلا حول ولا قوة إلا بالله في كل شيء، فهل طلبت العون من الله؟ توكل على الله، وافعل الأسباب، وارفع يديك إلى السماء وقل: يا سامعاً لكل شكوى! وأظهر ضعفك وفقرك إلى الله، وسترى النتائج بإذن الله. وأنت أيها المدرس والمُدرسة! بل ويا كل داعية! لماذا نعتمد على أنفسنا الضعيفة في التوجيه والتعليم؟! هب أننا أعددنا الدرس جيداً، وفعلنا كل الأسباب، هل يكفي هذا؟! لعلك تسأل: ماذا بقي؟! أقول: هل سألت الله العون والتوفيق عند تحضير الدرس؟ هل سألت الله أن يفتح لك القلوب، وأن يبارك في كلماتك وأن ينفع بها؟ هل سألت الله العون والتوفيق وأنت تلقي الدرس؟! هل دعوت لطلابك أن يبارك الله لهم، وأن ينفع بهم، وأن يصلحهم وييسر عليهم؟ هذه بعض الأمثلة والمواقف، وما يُعرف ويحكى أكثر وأكثر، ولكننا نريد العمل والتطبيق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 دعاء المضطر وهنا تنبيه مهم: فكثير من الناس إذا وقع في شدة، عمد إلى الحرام، كمن يذهب إلى السحرة والكهان، أو يتعامل بالربا والحرام، فإذا نُصِح أو ذُكِّر قال: إنه مضطر، أو كما يقول البعض: ليس مَن رجلُه في النار كمن رجله في الماء! لعلّي أيها الحبيب! أذكّرك بآية، ربما أنك نسيتها في خضم المصيبة والشدة التي وقعت فيها، إن الله عز وجل يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] والمضطر: الذي أخرجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجأ والتضرع إلى الله، كما يقول الزمخشري. وأنت أيها الأخ! أو أيتها الأخت! تذكر أنك مضطر، والمضطر وعده الله بالإجابة، حتى وإن كان فاسقاً، فإذا كان الله أجاب دعوة المشركين عند الاضطرار فإن إجابته للمسلمين مع تقصيرهم من باب أولى. جاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر، فقال له: فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. إن الله عز وجل قد ذمّ من لا يستكين له ولا يتضرع إليه عند الشدائد، وانتبه أيها الحبيب! لابد من الضراعة والاستكانة لله عند الشدة، كما أخبر الله، فقال عز من قائل: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] أي: لو استكانوا لربهم وتضرعوا لكان أمرا آخر، فكيف بحال من يقع في الشرك والحرام عند البلاء والشدة فيزيد الطين بلة؟! كيف يريد الشفاء، أو انكشاف البلاء، وهو يطلبه من مخلوقين مثله ضعفاء؟! قال بعض السلف: قرأت في بعض الكتب المنزلة يقول الله عز وجل: (يؤمل غيري للشدائد، والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجى غيري، ويطرق بابه بالبكرات وبيدي مفاتيح الخزائن، وبابي مفتوح لمن دعاني، من ذا الذي أملّني لنائبة فقطعت به؟ أو من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاءه؟ ومن ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له؟! أنا غاية الآمال فكيف تنقطع الآمال دوني؟! أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟! أليست الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي؟! فما يمنع المؤملين أن يؤملوني؟! ولو جمعت أهل السماوات وأهل الأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع وبلّغت كل واحد منهم أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قيمه؟! فيا بؤساً للقانطين من رحمتي، ويا بؤساً لمن عصاني ووثب على محارمي) . ذكر ذلك ابن رجب في نور الاقتباس، والإسرائيليات يعتضد بها ولا يعتمد عليها كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 عبودية الدعاء إن الله يحب أن يسأل ويغضب على من لا يسأله، فإنه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه، ويدعوه ويفتقروا إليه، ويحب الملحين في الدعاء، بل وينادي في كل ليلة: (هل من سائل فأعطيه؟ وهل من داع فأستجيب له؟) فأين المضطرون؟ أين أصحاب الحاجات؟! أين من وقع في الشدائد والكربات؟! أيها الأخ الحبيب اقرأ وانظر في حادثة الإفك، وفي حديث الثلاثة أصحاب الغار، وحديث المقترض الذي وضع المال في الخشبة وألقاها في البحر، وحديث الثلاثة الذي خلفوا، وغيرها من القصص النبوي في الصحاح والسنن. فُرِج عنهم بسؤالهم الله، وإلحاحهم بالدعاء، رفعوا أيديهم إلى الله وأعلنوا الذل والخضوع لله، وهذا الذل لا يصلح إلا لله، لحبيبه ومولاه. ذُل الفتى في الحب مكرمة وخضوعه لحبيبه شرف فالعبودية لله عزٌ ورفعة، ولغيره ذل ومهانة. وفي سؤال الله عبودية عظيمة؛ لأنها إظهار للافتقار إليه، واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج. فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا فابذله للمتكرم المفضال كان يحيى بن معاذ يقول: يا من يغضب على من لا يسأله! لا تمنع من قد سألك. وكان بكر المزني يقول: من مثلك يا ابن آدم؟! متى شئت تطهرت ثم ناجيت ربك، ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان. وسأل رجل بعض الصالحين أن يشفع له في حاجة إلى بعض المخلوقين، فقال له: أنا لا أترك باباً مفتوحاً وأذهب إلى باب مغلق. هكذا فلتكن الثقة بالله والتوكل على الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 توجيهات قبل الختام وقبل الختام وحتى نصل إلى ما نريد، من فن الشكوى وحسن النجوى، تنبه لهذه التوجيهات: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 تعلّم آداب وشروط الدعاء الدعاء له آداب وشروط، لابد من تعلمها والحرص عليها، واسمع لهذا الكلام الجميل النفيس لـ ابن القيم رحمه الله حيث قال: وإذا جمع العبد مع الدعاء حضور القلب، وصادف وقتاً من أوقات الإجابة، وخشوعاً في القلب، وانكساراً بين يدي الرب، وذلاً له، وتضرعاً ورقة، واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنى بالصلاة على رسول الله، ثم قدّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله، وألح عليه في المسألة، وتملقه ودعاه، رغبة ورهبة، وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدّم بين يدي دعائه صدقة، فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبداً، ولاسيما إذا صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة، وأنها متضمنة للاسم الأعظم. انتهى بتصرف من الجواب الكافي لـ ابن القيم صفحة (19) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 الصدقة وقد أكّد عليها ابن القيم في كلامه السابق، ولها أثرٌ عجيبٌ في قبول الدعاء، وبل وفعل المعروف أياً كان: [فصنائع المعروف تقي مصارع السوء] . كما قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والله عز وجل يقول عن يونس عليه السلام: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143-144] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 عليك بالصبر، وإياك واليأس والقنوط وفي هذا توجيهات: أولاً: اعلم أن الدعاء عبادة، ولو لم يحصل لك من دعائك إلا الأجر على هذا الدعاء بعد إخلاصك لله عز وجل فيه لكفى. ثانياً: أن تعلم أن الله أعلم بمصلحتك منك، فيعلم سبحانه أن مصلحتك بتأجيل الإجابة أو عدمها. ثالثاً: لا تجزع من عدم الإجابة، فربما دُفِع عنك بهذا الدعاء شراً كان سينزل بك، فعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذاً نكثر، قال: الله أكثر) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم من رواية أبي سعيد وزاد فيه: (أو يدّخر له من الأجر مثلها) . رابعاً: امتحان الصبر والتحمل: ربما كان عدم الإجابة أو تأخيرها امتحان لصبرك وتحملك وجلدك: هل تستمر في الدعاء وفي هذه العبادة أم تستحسر وتملّ وتترك الدعاء؟! ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي) متفق عليه. وفي جزء من رواية لـ مسلم: (قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويَدَعُ الدعاء) . خامساً: أن تلقي باللوم على نفسك: وهي من أهمها، أنت تلقي باللوم على نفسك؛ فقد يكون سبب عدم الإجابة وقوعك أنت في بعض المعاصي، أو التقصير أو إخلالك بالدعاء أو تعديك فيه، فمن أعظم الأمور أن تتهم نفسك وتنسب التقصير وعدم الإجابة إلى نفسك، فهذا من أعظم الذل والافتقار إلى الله. واسمع -أيضاً- لهذا الكلام الجميل النفيس، لـ ابن رجب رحمه الله في نور الاقتباس يقول: إن المؤمن إذا استبطأ الفرج، ويئس منه، ولاسيما بعد كثرة الدعاء وتضرعه، ولم يظهر له أثر الإجابة، رجع إلى نفسه باللائمة، يقول لها: إنما أُتيت من قبلك، ولو كان فيك خيراً لأجبت. وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه واعترافه له بأنه ليس بأهل لإجابة دعائه، فلذلك يسرع إليه حينئذٍ إجابة الدعاء، وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله، وعلى قدر الكسر يكون الجبر. انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة قال سلمان الفارسي: [إذا كان الرجل دعاءً في السراء، فنزلت به ضراء، فدعا الله عز وجل قالت الملائكة: صوت معروف، فشفعوا له. وإذا كان ليس بدعاء في السراء، فنزلت به ضراء فدعا الله، قالت الملائكة: صوت ليس بمعروف فلا يشفعون له] ذكر ذلك ابن رجب. أيها الأخ! وأنا أتأمل في حديث الثلاثة أصحاب الغار، وهم يدعون ويتوسلون إلى الله بصالح أعمالهم وأخلصها لله، أقول في نفسي وأفتش فيها: أين ذلك العمل الصالح الخالص لله الخالي من حظوظ النفس الذي سألجأ إلى الله فيه عند الشدة؟! فلنرجع لأنفسنا ولنسألها مثل هذا السؤال لنبحث في أعمالنا، وعن الإخلاص لله فيها، ولنكن على صلة بالله في الرخاء، وصدق من قال: إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخراً يكون كصالح الأعمال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 الإيمان بالقضاء والقدر إن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان بالله تعالى، وفيه اطمئنان للنفس وراحة للقلب، فاعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وتذكر دائما أن كل شيء بقضاء وقدر، وأنه من عند الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 الحرص على أكل الحلال احرص على أكل الحلال، فهو شرط من شروط إجابة الدعاء وفي الحديث: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. فالله الله بالحلال، فإن له أثراً عجيباً في إجابة الدعاء، ربما قصرنا في وظائفنا، أي نوع من التقصير وكان ذلك التقصير سبباً في رد الدعاء وعدم إجابته، فلننتبه! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 الإكثار من الاستغفار وأخيراً من التوجيهات حتى تكون مجاب الدعوة إن شاء الله: أكثر من الاستغفار في الليل والنهار، فلو لم يكن فيه إلا قول الحق عز وجل: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] . فأين من يشكو الفقر والعقم والقحط عن هذه الآية؟! هذه توجيهات انتبه لها قبل أن ترفع يديك إلى السماء، لتكن إن شاء الله مجاب الدعوة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 ولك في المصابين أسوة إلى كل مصاب ومنكوب، وإلى كل من وقع في شدة وضيق، أقول: اطمئنوا فقد سبقكم أناس في هذا الطريق، وما هي إلا أيام سرعان ما تنقضي وفي الكتب المصنفة، في الفرج بعد الشدة، للتنوخي ولـ ابن أبي الدنيا والسيوطي وغيرهم، مئات القصص ممن مرضوا، أو افتقروا، أو عذبوا، أو شردوا، أو حبسوا، أو عزلوا، فجاءهم الفرج، وساقه لهم السميع المجيب. فلك في المصابين أسوة، قال ابن القيم في زاد المعاد كلاماً جميلاً -أيضاً- فاسمعه: ومن علاجه -أي: علاج المصيبة- أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة، ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة، وأنه لو فتش العالم لن يرى فيهم إلا مبتلى، إما بفوت محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً ساءت دهراً، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً، وما ملأت داراً حبرة -أي: سعادة- إلا ملأتها عبرة، ولا سرّته بيوم سرور، إلا خبأت له يوم شرور. انتهى كلامه رحمه الله. فيا أيها الأخ ويا أيتها الأخت! قصص القرآن والأحاديث في كتب السنة، والقصص والمواقف في كتب الفرج بعد الشدة، والأحداث والعبر في واقعنا المعاصر جميعها تخبرنا أن الشدائد مهما طالت لا تدوم على أصحابها: إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاقت لما به الصدر الرحيب وأوطنت المكاره واطمأنت وأرست في أماكنها الخطوب ولم تر لانكشاف الضر وجها ولا أغني بحيلته الأريب أتاك على قنوط منك غوث يجيء به القريب المستجيب وكل الحادثات إذا تناهت فموصول بها الفرج القريب ولو لم يكن في المصائب والبلايا إلا أنها سبب لتكفير الذنوب، وكسر لجماح النفس وغرورها، ونيل للثواب بالصبر عليها، وتذكير بالنعمة التي غفل عن شكرها. وهي تذكر العبد بذنوبه، فربما تاب وأقلع عنها، وهي تجلب عطف الناس ووقوفهم مع المصاب. بل من أعظم ثمار المصيبة أن يتوجه العبد بقلبه إلى الله ويقف ببابه ويتضرع إليه، فسبحان مستخرج الدعاء بالبلاء! فالبلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين، ويوجب له الإقبال على الخالق وحده، وهذا هو الإخلاص هذا هو الإخلاص والتوحيد. فإذا علم العبد أن هذه من ثمار المصيبة أنس بها وارتاح، ولم ينزعج ولم يقنط. فإلى ذوي المصائب والحاجات، والشدائد والكربات، إن منهج القرآن يقول: {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216] . بل اسمعوا لهذه الآية العجيبة، ففيها عزاء وتطمين لكل المسلمين، قال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] فلماذا التسخط والجزع، والشكوى والأنين؟ فلعل فيما حصل خيراً لك، فتفاءل وأبشر، واعتمد على الله، وارفع يديك إلى السماء وقل: يا سامعا لكل شكوى! وأحسن الظن بالله وقل: صبراً جميلاً ما أسرع الفرجا من صَدَقَ الله في الأمور نجا من خشي الله لم ينله أذى ومن رجا الله كان حيث رجا هذه كلمات؛ لتسلية المحزونين، وتفريج كرب الملذوعين، وهي عزاء للمصابين، وتطييب للمنكسرين، أسأل الله أن ينفع بها المسلمين وأن يغفر لي ولكم أجمعين. فيا سامعا لكل شكوى! ويا عالماً بكل نجوى! يا سابغ النعم! ويا دافع النقم! ويا فارج الغمم! ويا كاشف الظلم! ويا أعدل من حكم! ويا حسيب من ظَلَم! ويا ولي من ظُلِم! يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث ولا الدهور، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما يظلم عليه ليل ويشرق عليه نهار! كم من نعمة أنعمت بها علينا قلّ لك عندها شكرنا، وكم من بلية ابتليتنا بها قلّ عندها صبرنا، فيا من قلّ عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا! ويا من قل عند بلائه صبرنا فلم يخذلنا! اقذف في قلوبنا رجاءك. اللهم! اقذف في قلوبنا رجاءك، واقطع رجاءنا عمن سواك، حتى لا نرجوا أحداً غيرك. اللهم! إنا نسألك إيماناً ثابتاً، ويقيناً صادقاً، حتى نعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتبت لنا، اللهم لا نهلك وأنت رجاؤنا. احرسنا بعينك التي لا تنام، وبركنك الذي لا يرام. يا سامعاً لكل شكوى! ويا عالماً بكل نجوى! يا كاشف كربتنا! ويا مستمع دعوتنا! ويا راحم عبرتنا! ويا مقيل عثرتنا! يا رب البيت العتيق! اكشف عنا وعن المسلمين كل شدة وضيق، واكفنا والمسلمين ما نطيق وما لا نطيق. اللهم! فرج عنا والمسلمين كل همِّ وغمِّ، وأخرجنا والمسلمين من كل حزن وكرب. يا فارج الهم! يا كاشف الغم! يا منزل القطر! يا مجيب دعوة المضطر! يا سامعاً لكل شكوى! احفظ إيمان وأمن هذه البلاد، ووفق ولاة الأمر لما فيه صلاح الإسلام والعباد. يا كاشف كل ضر وبلية! ويا عالم كل سر وخفية! نسألك فرجاً قريباً للمسلمين، وصبراً جميلاً للمستضعفين. يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبداً! ويا ذا النعم التي لا تحصى عدداً! أسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد أبداً، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 عشرون كلمة في العلم وفضله طلب العلم وتعليمه من أجل العبادات، فيجب أن تراعى فيه الآداب الشرعية؛ ولذا كانت هذه الكلمات، وهي توجيهات ووصايا ومختارات حول العلم وفضله وأهله، هتف بها صوت يحبك في الله، على ضعف منه وتقصير، وعلى عجز فيه وقصور، ويعلم الله أنه لمحبته للنصح فاه بهذه العبارات، وقلب الصفحات لتكون هذه الكلمات. والتعليم نقل من الظلمة إلى النور، وسمو النفس إلى المعالي، وخلق وأدب، فحتى تأتي منه كل هذه الثمار لابد من قبول النصح والتوجيه، واتهام النفس والإزراء عليها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 1 سبب اختيار موضوع العلم وفضله إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذا هو الدرس الثالث والثلاثون من سلسلة الدروس العلمية العامة والتي ينظمها المكتب التعاوني بمكتب الرس، وينعقد هذا المجلس في ليلة الأحد أو ليلة الإثنين الموافق (20/ 6/ 1416هـ) وفي هذا الجامع المبارك، وعنوان هذا الدرس هو (عشرون كلمة في العلم وفضله) . فقد اخترت هذا الموضوع في بداية السنة الدراسية توجيهاً وتذكيراً وإرشاداً وتنبيها، وما منا إلا معلم أو متعلم. إن طلب العلم وتعليمه من أجل العبادات، فيجب أن تراعى فيه الآداب الشرعية، ولذا كانت هذه الكلمات، وهي توجيهات ووصايا ومختارات حول العلم وفضله وأهله، هتف بها صوت يحبكَ في الله، على ضعف وتقصير منه، وعلى عجز فيه وقصور، هفواته متتالية، وعثراته متتابعة، ويعلم الله أنه لشعوره بالنقص وحاجته للنصح فاه بهذه العبارات، وقلّب الصفحات لتكون هذه الكلمات، لعل الله أن يرحم ضعفه ويجبر كسره، ويتم نقصه بالعلم والعمل. والتعليم نقل من الظلمة إلى النور، وسمو بالنفس إلى المعالي، وخلق وأدب، فحتى تأتي منه كل هذه الثمار لا بد من قبول النصح والتوجيه، واتهام النفس والإزراء عليها. أسأل الله التوفيق والسداد، والعون والرشاد، ونعوذ به من علم لا ينفع، ونستغفره ونتوب إليه من كل خطأ وزلل. وإليك -أخي القارئ الكريم- عرضاً سريعاً لعناصر وعناوين هذه الكلمات: 1- العلم كنز عظيم وله فضل عميم. 2- للأخوات المعلمات والمتعلمات. 3- الإخلاص لله في العلم والتعليم. 4- إنما يخشى الله من عباده العلماء. 5- العلم والتربية متلازمان. 6- العلم أعمال وسرائر، وليس أقوالاً ومظاهر. 7- من علامات العلم النافع ونواقضه. 8- المجاهدة والصبر سلاح المتعلم. 9- كيف نكسب العلم؟ 10- بالصبر واليقين تنال إمامة الدين. 11- الشبهات والشهوات خطر على العلم وأهله. 12- العقيدة والسيرة صفاء للظاهر والسريرة. 13- فن طلب العلم. 14- قف وتأمل قبل أن يقال: فلان مات!! 15- الابتلاء امتحان لأهل العلم. 16- التواضع ثمرة العلم النافع. 17- يا طالب العلم! إياك والحسد. 18- طريقنا إلى القلوب. 19- وقبل الختام: العمل بالعلم. 20- دعاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 الكلمة الأولى: العلم كنز عظيم وله فضل عميم ولأهله منزلة عالية ودرجة رفيعة، واسمع لهذه النصوص والآثار بتدبر واعتبار، وهي على سبيل الإيجاز والاختصار: قال تعالى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] . وقال عزّ من قائل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] فبدأ سبحانه بنفسه، وثنىّ بملائكته، وثلّث بأهل العلم وكفاهم ذلك شرفاً وفضلاً، وجلالة ونبلاً. وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] . وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] . وقال سبحانه: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وفي القرآن بضعة وأربعون مثلاً، وكان بعض السلف إذا مر بمثل لا يفهمه يبكي ويقول: لست من العالمين. وأما الأحاديث والآثار في العلم وفضله ورفعة أهله فكثيرةٌ جداً، ومن أشهرها: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة) . وما رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقاً يبتغي فيه علما سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر) . وقد رواه الوليد بن مسلم، عن خالد بن يزيد، عن عثمان بن أيمن، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من غدا لعلم يتعلمه فتح الله له به طريقاً إلى الجنة، وفرشت له الملائكة أكنافها، وصلت عليه ملائكة السماء وحيتان البحر، وللعالم من الفضل على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، والعلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ بالعلم أخذ بحظ وافر، وموت العالم مصيبة لا تجبر، وثلمة لا تسد، ونجم طمس، وموت قبيلة أيسر من موت عالم) قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: هذا حديث حسن. وقال ابن حجر: أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم مصححاً من حديث أبي الدرداء، وحسنه حمزة الكناني. وضعفه باضطراب في سنده لكن له شواهد يتقوى بها. انتهى كلام الحافظ. وضعّفه الألباني من رواية عاصم بن رجاء وقال: لكن أخرجه أبو داود من طرق أخرى عن أبي الدرداء بسند حسن. ومن الآثار: ما يروى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال -وانتبه لهذا الكلام-: (تعلموا العلم؛ فإن تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم، ويقتدى بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه؛ لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، والتفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، هو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء) وهذا الأثر أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله من طرق مرفوعاً وموقوفاً، ولا يصح بوجه لا موقوفاً ولا مرفوعاً، وقد قال ابن عبد البر: حديث حسن جداً، ولكن ليس له إسناد قوي، قال العراقي في تخريج الإحياء: قوله: حسن، أراد به الحسن المعنوي، لا الحسن المصطلح عليه بين أهل الحديث، وذكره ابن القيم في مفتاح دار السعادة وقال: هذا الأثر معروف عن معاذ، ورواه أبو نعيم في المعجم من حديث معاذ مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت، وحسبه أن يصل إلى معاذ. وهكذا الآيات والأحاديث والآثار التي تشير إلى العلم وفضله، وأن صاحبه يحمل كنزاً عظيماً يعلو به في الدنيا والآخرة، وأنصحك -أيها المحب! - بالرجوع إلى كلام ابن القيم الجميل في كتاب مفتاح دار السعادة، فقد ذكر ثلاثة وخمسين ومائة وجه في العلم وفضله وشرفه، فهي كنز عظيم، مليئة بالفوائد والنوادر والغرائب والعجائب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 الكلمة الثانية: للأخوات المعلمات والمتعلمات قال صلى الله عليه وسلم: (نِعم نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) أخرجه مسلم وغيره من حديث عائشة. وقال البخاري في صحيحه: باب: هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم. وذكر فيه حديث أبي سعيد الخدري: (قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهنّ يوماً لقيهنّ فيه فوعظهنّ وأمرهن) الحديث. وقال البخاري أيضا: باب: تعليم الرجل أمته وأهله. وقال: باب عِظة الإمام النساء وتعليمهن. ويقال عن عائشة: معلمة الرجال والأجيال، حتى قيل: إن ما نقل عنها ثلث الدين، وكذلك بقية أمهات المؤمنين اللائي أمرن بتبليغ الناس القرآن والسنة بقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] . وهناك العشرات من الصالحات العاملات المعلمات، كـ أم الدرداء، وحفصة بنت سيرين أم الهذيل التي حفظت القرآن وهي بنت اثنتي عشر سنة، واشتهرت فيما بعد برواية الحديث، وكان أخوها محمد بن سيرين إذا أشكل عليه شيء في القرآن يقول: اذهبوا فسلوا حفصة كيف تقرأ. وزينب بنت أحمد المقدسية، تعرف ببنت الكمال، ولدت سنة ست وأربعين وستمائة، قال الذهبي: كانت ديّنة خيّرة، روت الكثير، وتزاحم عليها الطلبة، وقرأوا عليها الكتب الكبار. وعائشة بنت يوسف بن أحمد الباعونية، هي الشيخة الأريبة العالمة الفاضلة، قالت عن نفسها: أهّلني الحق لقراءة كتابه العزيز، ومَنَّ علي بحفظه على التمام ولي من العمر ثمانية أعوام. ولها مؤلفات منها: الفتح المبين في مدح الأمين. ومريم بنت أحمد بن محمد الأذرعي، ولدت سنة تسعة عشر وسبعمائة، شيخة للحافظ ابن حجر، كما ذكر أنه قرأ عليها الكثير من مسموعاتها، وأشياء كثيرة بالإجازة، قال عنها - أي: ابن حجر -: نِعمَ الشيخة! كانت ديانة وصيانة ومحبة في العلم. وكتب السير والتراجم مليئة بأسماء العالمات الفاضلات التي تثبت أن العلم الشرعي لا يقتصر على الرجال، فللنساء دورهنّ في القراءة والمطالعة وتعلُّم شرع الله تعالى، ثم في التعليم والتدريس وإلقاء المحاضرات والمواعظ، فهنّ أبلغ في أداء المهمة، وأعلم بنفسيّات النساء. فيا أيتها الصالحة! أيتها المرأة! من لجماهير النساء إن لم تتحركي أنت؟! ومن للغافلات إن لم تتقدم الصالحات؟ أيتها المباركة! ما هو عذرك وحِلَق العلم معقودة، والندوات مقامة، والمحاضرات معلنة، والكتب والأشرطة ميسرة، وأنت بصحة وفراغ وعافية؟! إذاً: فهذا الحديث ليس خاصاً بالرجال فقط، بل هو لكِ أيضاً أيتها المعلمة والمتعلمة! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 الكلمة الثالثة: الإخلاص لله في العلم والتعليم معاشر طلاب العلم! معاشر الأساتذة والمعلمين! لماذا لا نرى بركة علمنا تعلماً وتعليماً؟! إننا نرى كثرة الأساتذة والمعلمين والمعلمات، وربما كان في المدرسة الواحدة عدد كبير ممن يشار إليه بالبنان بعلمه وصلاحه، ولكن لا ترى أثراً يذكر لهؤلاء إلا ما شاء الله، وربما كان طلابهم أشد غفلة وبعداً عن الله عز وجل، وأنا هنا لا أبرئ الطلاب فربما كانوا سبب ذلك، ولكن لنتهم أنفسنا معاشر الأساتذة والمعلمين والمعلمات! ولنرجع إلى أنفسنا ومقاصدها في التحمل والأداء، أو في التعلم والتعليم. إننا نجد في تراجم السلف وسيرهم رضوان الله عليهم: أن الصالح إذا نزل ديراً أصلح الله به أهل ذلك الدير، فأين أثر الصالحين اليوم في مدارسهم؟! وأين أثرهم في مساجدهم وأحيائهم وبلدانهم؟! بل أين أثرهم في أمتهم جمعاء؟ أخرج أبو داود وابن ماجة وأحمد وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) يعني: ريحها. والحديث صحيح بشواهده. ما رأيكم معاشر الإخوة؟! أترون أنا طلبنا العلم من أجل الدنيا ومن أجل الوظيفة والتكسب وأكل العيش؟ أم أنا طلبناه من أجل نشره والدعوة إلى الله وإصلاح الناس؟ كلٌ أعلم بحاله، ولكن لنتذكر أننا سنقف بين يدي من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. فقد أخرج ابن المبارك في الزهد والطبراني في الكبير عن عبد الله بن عكيم قال: [سمعت ابن مسعود بدأ باليمين قبل الحديث فقال: والله! إن ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، ثم يقول: يا بن آدم! ما غرّك بي؟ يا بن آدم! ما غرّك بي؟ يا بن آدم! ما غرّك بي؟! ما عملت فيما علمت؟ يا بن آدم! ماذا أجبت المرسلين؟!] . فيا أيها الأخ الحبيب! ويا أيتها الأخت! هل أعددنا لمثل هذا السؤال جواباً؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 الإخلاص طريق الخلاص يا طالب العلم! التزم التخلص من كل ما يشوب نيتك في صدق الطلب، كحب الظهور، والتفوق على الأقران، وجعله سلماً لأغراض أو أعراض من جاه أو مال أو تعظيم أو سمعة أو طلب محمدة أو صرف وجوه الناس إليك، فإن هذه وأمثالها إذا شابت النية أفسدتها وذهبت بركة العلم. فعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتحتازوا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار!) أخرجه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك، وقال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد رجاله ثقات على شرط مسلم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وللحديث شواهد. وعند مسلم من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أول الناس يقضى فيه يوم القيامة ثلاثة، وذكر منهم: ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلّمت فيك العلم وعلّمته وقرأت القرآن، قال: كذبت، ولكن ليقال: هو قارئ فقد قيل، ثم أُمِر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار) . وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:18-19] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 أثر الغفلة عن الإخلاص لله في التعلم والتعليم معاشر طلاب العلم! معاشر الأساتذة والمعلمين والمعلمات! إني أهمس إليكم ونفسي بهذا الأثر، فلنقف معه يرعاكم الله. يؤثر عن عمر بن ذر أنه قال لوالده: [يا أبت! مالك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء، وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟ فقال: يا بني! ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة] . ورحم الله ابن القيم يوم قال: كلام المتقدمين قليلٌ كثير البركة، وكلام المتأخرين كثيرٌ قليل البركة. فماذا لو رآنا نحن متأخري هذا الزمن والله المستعان؟! إذاً: فالسر في قلة البركة في العلم، والتعلم اليوم وعدم التأثر والتأثير هو الغفلة عن الإخلاص لله في الطلب الغفلة عن الإخلاص لله في التعليم والتدريس. فيا أيها المدرسون والمدرسات! ويا طلاب العلم! لنطهر نفوسنا، وننقِ قلوبنا، لا من أجل أن ننتفع بالعلم فقط، بل ومن أجل أن ينفع الله بعلمنا ويفتح لنا القلوب. أسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يجعل عملنا خالصاً صواباً، ونعوذ بالله من حظوظ أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 الكلمة الرابعة: إنما يخشى الله من عباده العلماء ُ نقل القرطبي أن الربيع بن أنس قال: من لم يخش الله تعالى فليس بعالم. وقال مجاهد: [إنما العالم من خشي الله عز وجل] . ونقل ابن كثير عن ابن مسعود أنه قال: [ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية] . وقال ابن سعدي: فكل من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي والاستعداد للقاء من يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنه داع إلى خشية الله، وأهل خشيته هم أهل كرامته، كما قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8] . انتهى كلامه. قالت امرأة للشعبي: أيها العالم! أفتني. فقال: إنما العالم من خاف الله. فيا طلاب العلم! ويا أيها المعلمون والمعلمات! كل علم لا يقود صاحبه إلى خشية الله يُخشى على صاحبه، فالزم خشية الله في السر والعلن، فإن أصل العلم خشية الله تعالى. ألم يأن للمعلمين والمعلمات أن تمتلئ قلوبهم هيبةً وخوفاً من الله؟! ألم يأن لطلاب العلم أن تنضبط ألسنتهم خشيةً وخوفاً من الله؟! ألم يأن لنا جميعاً أن يثمر العلم في القلب خشيةً وخشوعاً لله؟! فإن لم يثمر العلم خشيةً وخشوعاً لله، فإنا نعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع. فكلما كان طالب العلم أورع؛ كان علمه أنفع. فيا طالب العلم! ويا أيها المعلم! ويا أيتها المعلمة! إصلاح النفس والخوف من الله، وقوة الصلة به من أهم الأمور التي ينبغي أن يقوم بها من أراد العلم تعلماً وتعليماً، فللنفس شهوات ورغبات إن لم تضبط بالتقوى ومراقبة الله فلن تذعن للخير؛ [فالعلم الخشية] كما قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 الكلمة الخامسة: العلم والتربية متلازمان يا طالب العلم! لماذا نتحمل العلم إلا من أجل أن نرقق قلوبنا ونربي نفوسنا؟ إن تعلم مسائل العقيدة والأحكام لأجل صحة العمل ومعرفة الحلال والحرام إن تعلم مسائل العقيدة والأحكام لأجل بذل المال وكثرة الصيام إن تعلم مسائل العقيدة والأحكام لأجل القيام والناس نيام إن تعلم مسائل العقيدة والأحكام لأجل الصلة والبر وبذل السلام، ومن أجل إمساك اللسان عن بذاء الكلام إن تعلم مسائل العقيدة والأحكام لأجل نشر الحب والإخاء والوئام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 التربية أولا ً يا طالب العلم! إن طلب العلم ليس غاية لذاته مع فضله، بل هو وسيلة للعمل وتربية النفس وحسن الصلة بالله، وإلا ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) ؟! وما معنى أن يُسأل المرء عن علمه: ماذا عمل به؟! فاسأل نفسك -يا رعاك الله! - هل نفعك علمك أم لا؟! هل عملت بعلمك أم لا؟! وانظر إلى قلبك ولسانك فأنت أعلم بحالك. قيل لـ مالك: ما تقول في طلب العلم؟ قال: حسن جميل، ولكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح إلى أن تمسي فالزمه. كان صلى الله عليه وسلم يؤصل العقيدة ويدعو إلى التوحيد ثلاث عشر سنة، لكنه كان موصولاً بربه ليل نهار، يراقب الله في حركاته وسكناته، يذكره في غدواته وروحاته، كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، كان شديد الخشية لمولاه، كان يبكي حتى تتبلل لحيته من الدموع، كان حليماً يحب العفو والصفح، كان متواضعاً يسمع الكبير والصغير والغني والفقير، كان أجود الناس في البذل والعطاء باختصار: (كان خلقه القرآن) بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم. كل ذلك وهو يؤصل العقيدة ويدعو إلى التوحيد، فأين نحن من ذلك أيها المحب؟! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 أثر الرقائق في الرُّقي بنفوس أصحابها يا طالب العلم! لا تغفل عن الرقائق والمواعظ فإن القلب يصدأ. فهذا محمد بن عبادة المعافري يحدث أنه وصحبه كانوا عند أبي شريح المعافري رحمه الله، فكثرت المسائل فقال: قد درنت -أي: وسخت- قلوبكم، فقوموا إلى خالد بن حميد المهري، استقلوا -أي: استبدلوا- قلوبكم، وتعلموا هذه الرغائب والرقائق، فإنها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتجر الصداقة، وأقلوا المسائل؛ فإنها في غير ما نزل تقسي القلب وتورث العداوة. وإليك هذا الضابط الجميل في هذه المسألة: قال ابن الجوزي: فالصواب العكوف على العلم مع تلذيع النفس بأسباب المرققات تلذيعاً لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم. فيا طالب العلم! أين أنت ورقة القلب، وانحدار الدمع، وطيب المناجاة، والشكاية إلى الله؟! ورحم الله سفيان الثوري يوم قال: إنما يطلب الحديث ليتقى به الله. فاحرص على تزكية النفس وتربيتها، فقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 الكلمة السادسة: العلم أعمال وسرائر، وليس أقوالاً ومظاهر اسمع لـ ابن الجوزي وهو يقول في صيد الخاطر كلاماً نفيساً جميلاً: إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة، كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه، أو رجاء لثوابه، أو إجلالاً له، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هندياً على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو، وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبته، أو على قدر مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب ويتفاوت تفاوت العود، فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص، وألسنتهم تمدحه ولا يعرفون لم، ولا يقدرون على وصفه لبعدهم عن حقيقة معرفته، وقد تمتد هذه الأراييح بعد الموت على قدرها، فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم يُنسى، ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفى ذكره وقبره، ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبداً، وعلى عكس هذا من هاب الخلق ولم يحترم خلوته بالحق، فإنه على قدر مبارزته بالذنوب، وعلى مقادير تلك الذنوب يفوح منه ريح الكراهة فتمقته القلوب، فإن قلّ مقدار ما جنى قلّ ذكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه، وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه ولا يذمونه، ورب خالٍ بذنب كان سبب وقوعه في هوة شقوة في عيش الدنيا والآخرة، وكأنه قيل له: ابق بما آثرت، فيبقى أبداً في التخبيط، فانظروا إخواني إلى المعاصي أثرت وعثرت. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر] . فتلمحوا ما سطرته واعرفوا ما ذكرته، ولا تهملوا خلواتكم ولا سرائركم، فإن الأعمال بالنية والجزاء على مقدار الإخلاص. انتهى كلامه من صيد الخاطر رحمه الله تعالى. فيا أيها المعلمون والمعلمات! ويا طلاب وطالبات العلم! الله الله في السرائر وإصلاح الباطن، (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) . كما في حديث أبي هريرة عند مسلم. إننا نحرص على أشكالنا ومظاهرنا كثيراً، ونغفل عن الاهتمام بقلوبنا، وصلاح القلب هو ثمرة العلم والتعلم. فهل حصلنا على هذه الثمرة؟ هل حصلنا على صلاح القلب وهل نسعى له؟! نرجو ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 الكلمة السابعة: من علامات العلم النافع ونواقضه تساءل مع نفسك عن حظك من علامات العلم النافع، ومنها: - العمل به. - كراهية التزكية والمدح، والتكبر على الخلق. - تكاثر تواضعك كلما ازددت علماً. - الهرب من حب الترؤس، والشهرة، والدنيا. - هجر دعوى العلم. - إساءة الظن بالنفس وإحسانه بالناس تنزهاً عن الوقوع بهم، وقد كان عبد الله بن المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد: لا تعرضن بذكرهم مع ذكرنا ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد والنواقض منها: - إفشاء السر. - نقل الكلام من قوم إلى آخرين. - الصلف واللسانة. - كثرة المزاح. - الدخول في حديث بين اثنين. - الحقد. - الحسد. - سوء الظن. - مجالسة المبتدعة. - نقل الخطى إلى المحارم. فاحذر هذه الآثام وأخواتها، واقصر خطاك عن جميع المحرمات والمحارم، فإن فعلت وإلا فاعلم أنك رقيق الديانة، خفيف لعاب، مغتاب نمام، فأنى لك أن تكون طالب علم يشار إليك بالبنان منعماً بالعلم والعمل؟! سدد الله الخطى، ومنح الجميع التقوى، وحسن العمل في الآخرة والأولى. انتهى من كلام العلامة بكر أبو زيد في رسالته الجميلة حلية طالب العلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 الكلمة الثامنة: المجاهدة والصبر سلاح المتعلم قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] . قال ابن سعدي: على أن من جدّ واجتهد في طلب العلم الشرعي؛ فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل مطلوبه أمور إلهية خارجة عن مدرك اجتهاده، وتيسر له أمر العلم، فإن طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل الله، بل هو أحد نوعي الجهاد الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق؛ وهو الجهاد بالقول واللسان للكفار والمنافقين، والجهاد على تعليم أمور الدين، وعلى رد نزاع المخالفين للحق ولو كانوا مسلمين، فلا بد لطالب العلم من مجاهدة النفس والصبر والمصابرة. انتهى كلامه رحمه الله. فبقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى، ومن طلب شيئاً وَجَدَّ وَجَد، ومن قرع الباب ولجَّ وَلَج، ويقول الشاعر: أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا فلا بد من الجد والملازمة، وثني الركب، وسهر الليالي لطلب العلم. بجِدي لا بجَدي كل مجدي فهل جَد بلا جِد بمُجْدي فكم عبد يقوم مقام حر وكم حر يقوم مقام عبد ولا بد لطالب العلم من المواظبة على الدرس والتكرار في أول الليل وآخره، فإن ما بين العشائين وقت السحر، ووقت السحر وقت مبارك. بقدر الكد يكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي تروم العزّ ثم تنام ليلاً يغوص البحر من طلب اللآلي علو القدر بالهمم العوالي وعز المرء في سهر الليالي تركت النوم ربي في الليالي لأجل رضاك يا مولى الموالي! وذكر ابن فضيل عن أبيه أنه قال: كنا نجلس أنا وابن شبرمة والحارث العكلي والمغيرة والقعقاع بن يزيد بالليل نتذاكر الفقه، فربما لم نقم حتى نسمع النداء لصلاة الفجر. وما أحسن ما قال الأصبهاني في محاضرات الأدباء: ما لزم أحد الدعة إلا ذل، وحب الهوينى يكسب الذل، وحب الكفاية مفتاح العجز. انتهى كلامه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 الكلمة التاسعة: كيف نكسب العلم؟ ذكر النووي في كتابه بستان العارفين قال: قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: من أحب أن يفتح الله قلبه ويرزقه العلم فعليه بالخلوة، وقلة الأكل، وترك مخالطة السفهاء، وبغض أهل العلم الذين ليس معهم إنصاف ولا أدب. انتهى كلامه. قلت: أما الخلوة فللاطلاع والنظر في الأصول، وتقييد الفوائد والشوارد. وأما قلة الأكل فنشكو إلى الله حالنا، فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام. وفي المسند عند أحمد والترمذي وغيرهما: (ما ملأ ابن آدم وعاءٌ شراً من بطنه) الحديث. وقال الترمذي: حسن صحيح. وقد قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31] قال بعض العلماء: جمع الله بهذه الكلمات الطب كله. وأما ترك مخالطة السفهاء؛ فلأنهم لصوص الأوقات وأهل الفراغ. قال ابن الجوزي: (فصل: أهل الفراغ بلاء) : قال: أعوذ بالله من صحبة البطالين، لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويُسمون ذلك التردد خدمةً، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني وما يتخلله غيبة، وهذا يفعله في زماننا كثير من الناس إلى أن قال: فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهاؤه بفعل الخير، كرهت ذلك وبقيت منهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان -تنبه إلى العلاج- فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلب قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالاً تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغاً، فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد وبري الأقلام وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي، نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه إلى آخر كلامه النفيس الجميل هناك. وأما بغض أهل العلم الذين ليس معهم إنصاف ولا أدب، فإني لأعجب كيف كانوا من أهل العلم وليس معهم إنصاف ولا أدب؟! وأي علم هذا الذي لم يؤدب صاحبه؟! إنما العلم العمل إنما العلم خشية الله. قال أحمد بن حفص السعدي شيخ ابن عدي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً. وجاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال له: نكتب عن محمد بن منصور الطوسي، قال: إذا لم تكتب عن محمد بن منصور فعمن يكون ذلك؟ فعمن يكون ذلك؟! -كررها مراراً رحمه الله- فقال له الرجل: إنه يتكلم فيك! قال أحمد: رجل صالح ابتلي فينا فما نعمل؟! هكذا العلم؛ إنصاف وأدب حتى مع من يخالفنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 الكلمة العاشرة: بالصبر واليقين تنال إمامة الدين قال ابن القيم في مدارج السالكين: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، ثم تلا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] . قال ابن القيم الوجه الحادي والثلاثون بعد المائة -أي: في مفتاح دار السعادة، أي: في فضل العلم-: أنه لو لم يكن من فوائد العلم إلا أنه يثمر اليقين الذي هو أعظم حياة القلب، وبه طمأنينته وقوته ونشاطه وسائر لوازم الحياة إلى أن قال: وقيل: إذا استكمل العبد حقيقة اليقين صار البلاء عنده نعمة، والمحنة منحة، فالعلم أول درجات اليقين إلى آخر كلامه رحمه الله. فيا كل معلم ومتعلم! الله الله في اليقين بالله، فإن ضعف اليقين بالله آفة أهلكت الكثير من الصالحين فضلاً عن عامة المسلمين. ورد عن عطاء الخراساني أنه كان لا يقوم من مجلسه حتى يقول: اللهم هب لنا يقيناً بك حتى تهون علينا مصيبات الدنيا، وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كُتب لنا، ولا يأتينا من هذا الرزق إلا ما قسمت. انتهى كلامه. وحقيقة اليقين: الصبر والثقة بموعود الله عز وجل. واسمع أيها الحبيب! في سر الضعف والفتور الذي أصاب كثيراً من المسلمين اليوم: قال لقمان لابنه: يا بني! العمل لا يستطاع إلا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعف عمله. إذاً: فلعل ضعف اليقين عندنا هو السر في قلة العمل والفتور والكسل. اللهم نسألك يقين الصادقين، وصدق الموقنين، ونسألك قوة في دين، وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، اللهم إنا نسألك يقيناً تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم احفظنا بحفظك يا أرحم الراحمين! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 الكلمة الحادية عشرة: الشبهات والشهوات خطر على العلم وأهله ومن نظر للواقع علم حقيقة الحال، فمن نجى من الشهوة وقع في الشبهة، والقليل من وفقه الله للاعتصام بالكتاب والسنة. قال ابن القيم في المدارج: والقلب يتوارده جيشان من الباطل، جيش شهوات الغي، وجيش شبهات الباطل، فأيما قلب صغى إليها وركن إليها شربها وامتلأ بها، فينضح لسانه وجوارحه بموجبها، فإن أشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والإيرادات، فيظن الجاهل أن ذلك لسعة علمه، وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه، وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل الإسفنجة، فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات. أو كما قال. قال ابن القيم: فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وسُميت الشبهة شبهة؛ لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تُلبسُ ثوب الحق على جسم الباطل، وأكثر الناس أصحاب حسن ظاهر، فينظر الناظر فيما ألبسته من اللباس فيعتقد صحتها، وأما صاحب العلم واليقين فإنه لا يغتر بذلك، بل يجاوز نظره إلى باطنها وما تحت لباسها، فينكشف له حقيقتها إلى أن قال: وكم قد قتل هذا الاغترار من خلق لا يحصيهم إلا الله. انتهى كلامه. فتنبه يا طالب العلم! للشبهات، فإن لها بهرجاً براقاً سرعان ما يتشربها القلب الضعيف، حتى يعتقدها فيدافع وينافح عنها، نسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 الكلمة الثانية عشرة: العقيدة والسيرة صفاء للظاهر والسريرة كيف يسمي طالب العلم نفسه طالباً وهو لم يتمكن من معرفة العقيدة وغاياتها وأهدافها، بل وتحقيق ثمارها؟! فما معنى أنك صاحب عقيدة؟ وما معنى أنك صاحب غاية وهدف؟ وهل سألت نفسك يوماً من الأيام: لماذا تطلب العلم؟ وهل أنت على استعداد للإجابة يوم تسأل (وعن علمه ماذا عمل به) ؟ قال الدكتور ناصر العقل في كتابه مقدمات في الأهواء: إن قاعدة: {أَن اعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل:36] تعني: تحقيق التوحيد والعقيدة السليمة، وطاعة الله والتزام شرعه، وقاعدة: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] تعني: تجنب الأهواء والافتراق والبدع وما تئول إليه من الشرك والكفر والظلم والفسق والإعراض عن دين الله، وكل الدين جملة وتفصيلاً يدور على هاتين القاعدتين، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَن اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] . يا طالب العلم! كيف يسمي طالب العلم نفسه طالباً وهو لا يعرف كيف كانت سيرة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من الفضل والرحمة والهدى؟! إن أهل العلم من سلفنا رضوان الله تعالى عليهم كانوا يحفظون سيرته عن ظهر قلب ويعتبرونها من أجل القربات، فهذا ابن القيم كتب زاد المعاد في هدي خير العباد وهو من أفضل كتب السيرة كتبه وهو في طريقه للحج. وانظر إليه وهو يقول في المقدمة: هذه كلمات يسيرة لا يستغني عن معرفتها من له أدنى همة إلى معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه، اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره، مع البضاعة المزجاة التي لا تنفتح لها أبواب السدد، ولا يتنافس فيها المتنافسون، مع تعليقها في حال السفر لا الإقامة، والقلب بكل واد منه شعبة، والهمة قد تفرقت شذر مذر، والكتاب مفقود -إذاً فهو يمليها أو يكتبها من قلبه وعلمه رحمه الله- ومن يفتح باب العلم لمذاكرته معدوم غير موجود -يعني: الطلبة- إلى آخر كلامه هناك. فيا طالب العلم! خشية الله والعلم النافع بتكرار النظر في سيرة سيد البشر: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ} [التوبة:109] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 الكلمة الثالثة عشرة: فن طلب العلم طلب العلم فن قد لا يتقنه الجميع، فاحفظ وصايا أهل الخبرة والتجربة من سلفنا الصالح رحمهم الله. ينبغي لطالب العلم أن يستغرق جميع أوقاته، فإذا ملَّ من علم يشتغل بعلم آخر. وكان ابن عباس رضي الله عنه إذا ملَّ من الكلام يقول: [هاتوا ديوان الشعراء] . وكان محمد بن الحسن إذا مل من نوع ينظر في نوع آخر، وكان يضع عنده الماء ويزيل نومه بالماء. ووقت تحصيل العلم من المهد إلى اللحد، وأفضل أوقاته شرخ الشباب -أي: أوله- ووقت السحر، وما بين العشائين. وورد عن الخطيب البغدادي أنه قال: أجود أوقات الحفظ الأسحار، ثم نصف النهار، ثم الغداة، وحفظ الليل أحسن من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع. انتهى كلامه. وقال إسماعيل بن أبي أويس: [إذا هممت أن تحفظ شيئاً فنم، ثم قم عند السحر فأسرج وانظر فيه فإنك لا تنساه بعد إن شاء الله] انتهى كلامه. وكان الشافعي يقسم الليل ثلاثة أجزاء: ثلث للعلم، وثلث للعبادة، وثلث للنوم. وقال ابن سعدي رحمه الله: يتعين البداءة بالأهم من العلوم الشرعية وما يعين عليها من علوم العربية، وتفصيل هذه الجملة كثير معروف، يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص إلى آخر كلامه. وقيل: حفظ المتون يشد المتون. وقيل: من حفظ المتون حاز الفنون. وقيل: من لم يكن علمه في صدره صعب عليه استحضاره. إلى آخر وصايا سلفنا رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 الكلمة الرابعة عشرة: قف وتأمل قبل أن يقال: فلان مات!! وقفت يوماً من الأيام مع آية في كتاب الله، فخفق قلبي واقشعر بدني وأنا أتأمل معناها. يقول الحق عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103-104] . فيا طالب العلم! اسأل نفسك بصدق: هل أنت راضٍ عن نفسك؟! وهل ما تقدمه هو لله حقيقة أم للنفس وحظوظها نصيب؟! هل غيرتك لله أم أن للحسد والغيرة نصيباً؟! إنك سعيد في الدارين إن كان قولك وفعلك وحبك وبغضك خالصاً لله، إنك سعيدٌ كل السعادة في سراء كنت أو ضراء، أصابتك منحة أو محنة، أياً كان حالك فأنت سعيد ما دمت تطلب العلم لله بحق، وتعمل لله بصدق، وتحب في الله وتبغض في الله. إنني أعيذك ونفسي أيها الحبيب! أن نكون ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. قال رجل لـ أبي عبد الرحمن زهير بن نعيم: يا أبا عبد الرحمن! توصي بشيء؟! قال: نعم. احذر أن يأخذك الله وأنت على غفلة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 الكلمة الخامسة عشرة: الابتلاء امتحان لأهل العلم قال ابن الجوزي كلاماً نفيساً في صيد الخاطر: (فصل: محك الحوادث) : سبحان المتصرف في خلقه بالاغتراب والإذلال ليبلو صبرهم، ويظهر جواهرهم في الابتلاء، هذا آدم صلى الله عليه وسلم تسجد له الملائكة ثم بعد قليل يخرج من الجنة، وهذا نوح عليه السلام يضرب حتى يغشى عليه، ثم بعد قليل ينجو في السفينة ويهلك أعداؤه، وهذا الخليل عليه السلام يلقى في النار ثم بعد قليل يخرج إلى السلامة، وهذا الذبيح يضطجع مستسلماً ثم يسلم ويبقى المدح، وهذا يعقوب عليه السلام يذهب بصره بالفراق ثم يعود بالوصول، وهذا الكليم عليه السلام يشتغل بالرعي ثم يرقى إلى التكليم، وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقال له بالأمس اليتيم، ويقلب في عجائب يلاقيها من الأعداء تارة، ومن مكائد الفقر أخرى، وهو أثبت من جبل حراء، ثم لما تم مراده من الفتح، وبلغ الغرض من أكبر الملوك وأهل الأرض نزل به ضيف النقلة فقال: وا كرباه! فمن تلمح بحر الدنيا، وعلم كيف تتلقى الأمواج، وكيف يصبر على مدافعة الأيام، لم يستهول نزول بلاء، ولم يفرح بعاجل رخاء. انتهى كلامه رحمه الله. والله عز وجل يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 الكلمة السادسة عشرة: التواضع ثمرة العلم النافع قال وكيع: لا يكون الرجل عالماً حتى يحدث عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه. تواضع وخذ العلم النافع من الجميع ولا تتكبر، فرب مسألة يفتح الله بها على طويلب علم لم يفتح بها على عالم من العلماء الأفذاذ، فما تحلى طالب العلم بحلية أجمل ولا أحسن من التواضع. قال الفضيل بن عياض: [ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحد بخير] . وقال أبو نعيم: والله ما هلك مَن هلك إلا بحب الرئاسة. فينبغي لطالب العلم ألا يستنكف أن يستفيد ما لا يعلمه ممن هو دونه منصباً أو نسباً أو سناً، بل يكون حريصاً على الفائدة حيث كانت، والحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها. قال سعيد بن جبير: [لا يزال الرجل عالماً ما تعلم، فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده، فهو أجهل ما يكون] . وكان جماعة من السلف يستفيدون من طلبتهم ما ليس عندهم: قال الحميدي وهو تلميذ للشافعي: صحبت الشافعي من مكة إلى مصر فكنت أستفيد منه المسائل وكان يستفيد مني الحديث. وقال أحمد بن حنبل: قال لنا الشافعي: أنتم أعلم بالحديث مني، فإذا صح عندكم الحديث فقولوا لنا حتى نأخذ به. وقد روى جماعة من الصحابة عن التابعين. وأبلغ من ذلك كله قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُبي رضي الله تعالى عنه وقال له: (أمرني الله أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة:1] ) كما عند مسلم في صحيحه. قالوا: ومن فوائده: ألا يمتنع الفاضل من الأخذ عن المفضول. إن التواضع من خصال المتقي وبه التقي إلى المعالي يرتقي ومن العجائب عجب من هو جاهل في حاله أهو السعيد أم الشقي قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: [تغفلون عن أفضل العبادة، تغفلون عن أفضل العبادة؛ التواضع] . وكان ابن المبارك يكتب عمن هو دونه، فقيل له -أي: كأنه أُنكر عليه- فقال رحمه الله: لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تقع إلي. وقال إبراهيم بن الأشعث: سألت الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: [أن تخضع للحق وتنقاد له ممن سمعته، ولو كان أجهل الناس لزمك أن تقبله منه] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 الكلمة السابعة عشرة: يا طالب العلم! إياك والحسد يا طالب العلم! إياك والحسد؛ فإنه اعتراض على قدر الله. ألم تسمع لقول الله عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] ؟ والحسد إحراق للنفس وتعطيل لها، فلا هم لها إلا تتبع الزلات، وتصيد العيوب، والاشتغال بالمحسود، وقد يتعدى إلى أذى المحسود والكيد له، وهذا من أشنع الظلم الذي نهى الله عنه. أخرج الحاكم وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيصيب أمتي داء الأمم، قالوا: يا نبي الله! وما داء الأمم؟ قال: الأشر والبطر، والتكاثر والتنافس في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكون البغي ثم الهرج) صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وجوّد إسناده الحافظ العراقي كما في تخريج الإحياء. قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: وقد يبتلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله لعلم نافع أو عمل صالح، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم. واسمع لهذا الكلام الجميل النفيس: قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: ومن أهم ما يتعين على أهل العلم معلمين أو متعلمين، السعي في جمع كلمتهم وتأليف القلوب على ذلك، وحسم أسباب الشر والعداوة والبغضاء بينهم، وأن يجعلوا هذا الأمر نصب أعينهم يسعون له بكل طريق؛ لأن المطلوب واحد، والقصد واحد، والمصلحة مشتركة، فيحققون هذا الأمر بمحبة كل من كان من أهل العلم، ومن له قدم فيه واشتغال أو نصح، ولا يدعون الأغراض الضارة تملكهم وتمنعهم من هذا المقصود الجليل، فيحب بعضهم بعضاً، ويذب بعضهم عن بعض، ويبذلون النصيحة لمن رأوه منحرفاً عن الآخر، ويبرهنون على أن النزاع في الأمور الجزئية التي تدعوا إلى ضد المحبة والائتلاف لا تقدم على الأمور الكلية التي فيها جمع الكلمة، ولا يدعون أعداء العلم من العوام وغيرهم يتمكنون من إفساد ذات بينهم وتفريق كلمتهم، فإن في تحقيق هذا المقصد الجليل والقيام به من المنافع ما لا يعد ولا يحصى، ولو لم يكن فيه إلا أن هذا هو الدين الذي حث عليه الشارع بكل طريق لكفى إلى أن قال رحمه الله: وإذا كان كل طائفة منهم منزوية عن الأخرى منحرفة عنها، انقطعت الفائدة وحلّ محلها ضدها من حصول البغضاء والتعصب والتفتيش من كل منهما عن عيوب الطائفة الأخرى وأغلاطها، والتوسل به للقدح، وكل هذا مناف للدين والعقل ولما عليه السلف الصالح، حيث يظنه الجاهل من الدين إلى آخر كلامه النفيس الجميل هناك في الفتاوى السعدية. اسمع لهذه الكلمة العجيبة؛ حيث يقول الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم الجدل ومنعهم العمل. وقال ابن يحيى الوشاء في كتابه الظرف والظرفاء: على أنه لا بد للحاسد وإن لم يجد سبيلاً إلى وهن ولا سبباً إلى طعن أن يحتال لذلك بحسب ما ركب عليه طبعه وتضمنه صدره، حتى يخلص إلى غفلة أو يصل إلى زلة، فيتشبث بالمعنى الحقير، ويتسبب بالحرف الصغير إلى ذكر المثالب وتغطية المناقب، إذ من طبع أهل الحسد وأرباب المعاندة والنكد تغطية محاسن من حسدوه، وإظهار مساوئ من عاندوه، ثم ذكر هذه الأبيات: عين الحسود عليك الدهر حارسة تبدي المساوئ والإحسان تخفيه يلقاك بالبشر يبديه مكاشرة والقلب مضطغن فيه الذي فيه إن الحسود بلا جرم عداوته فليس يقبل عذراً في تجنيه فيا طالب العلم! الله الله فتوحيد الصف ووضع الكف بالكف، وإياك إياك والحسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وإن وجدت شيئاً منه في نفسك فاستعذ بالله منه، وجاهد نفسك واستعن بالله، وادع للمحسود أن يبارك الله له فيما آتاه، واطلب الله أن يزيدك ويزيده من فضله فإنه هو الرزاق ذو القوة المتين، وتذكر أن (من دعا لأخيه بظهر الغيب قال له الملك الموكل به: ولك مثله) كما في صحيح مسلم. نعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن شر حاسد إذا حسد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 الكلمة الثامنة عشرة: طريقنا للقلوب قال بعض الدعاة: طالب العلم بشوش، طلق المحيا، بادي الثنايا، يكاد يذوب رقة وخلقاً، أما الفظاظة والغلظة فمن أخلاق جفاة الأعراب وجنود البربر {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] . وذكر ابن القيم أسباب انشراح الصدر وقال: ومنها: العلم؛ فإنه يشرح الصدر ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدراً، وأوسعهم قلوباً، وأحسنهم أخلاقاً، وأطيبهم عيشا. انتهى كلامه من زاد المعاد. تعلّم فإن العلم زين لأهله وفضل وعنوان لكل المحامد وكن مستفيداً كل يوم زيادة من العلم وسبح في بحار الفوائد تفقه فإن الفقه أفضل قائد إلى البر والتقوى وأعدل قاصد هو العلم الهادي إلى سنن الهدى هو الحصن ينجي من جميع الشدائد فإن فقيهاً واحداً متورعاً أشد على الشيطان من ألف عابد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 الكلمة التاسعة عشرة: وقبل الختام العمل بالعلم قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: الله الله في العمل بالعلم، فإنه الأصل الأكبر، والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة، فقدم مفلساً مع قوة الحجة عليه. ونقل ابن عبد البر في الجامع قول أُبي بن كعب: [تعلموا العلم واعملوا به، ولا تتعلموه لتتجملوا به، فإنه يوشك إن طال بكم زمان أن يتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بثوبه] والله المستعان. ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: [العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل] . وقال ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور -يعني: أنه لا بد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة انشراح، وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول-. انتهى كلامه. إذاً: فمجرد العلم يبقى حجة عليك، فإذا عملت به أصبح حجة لك، فالأعمال تشفع لصاحبها عند الله، وتذكر به إذا وقع في الشدائد. وتذكر قول الحق عز وجل عن ذي النون: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143-144] . فيا طالب العلم! الله الله في العمل بالعلم، تجمع خيري الدنيا والآخرة. وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: وكان السلف يستعينون بالعمل على العلم، فإن عمل به استقر ودام، ونما وكثرت بركته، وإن ترك العمل به ذهب أو عدمت بركته، فروح العلم وحياته وقوامه إنما هو بالقيام به عملاً وتخلقاً وتعليماً ونصحاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وقال أيضاً: فمن شح بعلمه مات علمه بموته، وربما نسيه وهو حي، كما أن من بث علمه كان حياة ثانية، وحفظاً لما علمه، وجزاه الله من جنس عمله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 الكلمة العشرون: دعاء اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن نفس لا تشبع. اللهم يا معلم آدم علمنا، ويا مفهم سليمان فهمنا، ويا مؤتي لقمان الحكمة آتنا الحكمة وفصل الخطاب. ربنا زدنا علماً ووفقنا لما تحبه وترضاه. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، اللهم أشغله بنفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه يا حي يا قيوم، اللهم اكفناهم بما شئت. اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك يا حي يا قيوم. اللهم وفق أولياء أمورنا لما تحبه وترضاه، ووفقهم لما فيه خير الإسلام والمسلمين، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة. اللهم أرنا وأرهم الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 الأسئلة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 حكم الإعراض عن الدعوة خوف الرياء السؤال ما رأيك فيمن يعرض عن الوعظ والإرشاد في بيوت الله مع أن الله أعطاه علماً يؤهله لأن يدعو وينصح الناس ويذكرهم، لكنه يعرض ادعاء للورع، وأنه لم يحن وقت ذلك بعد، فهل يكون ممن كتم علماً ويعاقب على ذلك؟! وجزاكم الله خيراً. الجواب هذا مما ابتلي به كثير من طلبة العلم وللأسف في مثل هذا الزمن، الورع البارد أو الورع الكاذب، فتجد أن طالب العلم قد تعدى مرحلة الجامعة ولديه حصيلة طيبة من العلم درسها في خضم سنوات، وربما أنه ما زال طالباً للعلم بثنيه ركبه عند العلماء وفي حلقات العلم، ومع ذلك تجد أنه لا يعمل بعلمه ولا يقوم بالعمل بعلمه، وكلما حُدِّث أو طلب منه أمر تجده يبادر بالاعتذار مظهراً التواضع أو الورع لنا. ونحن نقول لهذا وأمثاله: إن لم تعمل بعلمك الآن فمتى أيها المحب؟! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) ولا شك أنك تعلم خيراً كثيراً، فنحن نقول لكل إنسان يعلم شيئاً: بلغ هذا العلم بقدر ما عندك، لا نطلب منك فوق طاقتك ولا نطلب منك ما لا تطيق، إنما الذي نطلبه أيها المحب! أن تبلغ ما لديك بقدر ما تستطيع. إذاً: لا حجة لك، وأخشى والله عليك أن تقدم على الله عز وجل ولك علم بلا عمل، والله أعلم بحالك. مع الأسف أصبح الورع والتواضع شماعة يعلق عليها كثير من طلبة العلم كسلهم وفتورهم وقعودهم عن العمل وربما خوفهم وغير ذلك، وهذه مصيبة. ونقول لأمثال هؤلاء: الله أعلم بحالكم، وإن تظاهرتم لنا بالورع والتواضع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 علاج الكسل في طلب العلم السؤال بعض طلبة العلم يبدأ في الطلب وحفظ المتون ثم يصيبه الكسل فيترك الحفظ والطلب، فهل من علاج لذلك؟ الجواب العلاج الاستعانة بالله عز وجل وترك المعاصي والذنوب: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] . ووالله! ما ظهر ضعفنا إلا بسبب كثرة ذنوبنا ومعاصينا وضعف الصلة بالله عز وجل، وهذا الجانب ينقص كثيراً من الصالحين وللأسف! فالله الله في تقوية الصلة بالله، الله الله في أن يراقب الإنسان ربه سبحانه وتعالى. أيها الأخ الحبيب! كم نضعف؟! وانظر إلى واقعنا وحالنا وحال كثير من الصالحين فضلاً عن عامة المسلمين، انظرهم والطاعات والنوافل وطهارة القلب وطهارة اللسان -والله المستعان- ولا نشكو إلا إلى الله عز وجل. انظر إلى قيام الليل، كم تلك الليالي التي وقفتها أنت في ظلمة ليل تناجي فيها ربك، وتشكو فيها إلى الله حالك، وحال الأمة الإسلامية وضعفها؟! إننا بأمس الحاجة إلى أن نقوي صلتنا بالله إننا نشكو ربما إلى البشر كثيراً ويلجأ الإنسان منا في مواقف ضعف وعجز كثيراً إلى الناس، وننسى -وللأسف- أن نشكو عجزنا وضعفنا وحالنا إلى الله سبحانه وتعالى. لنرفع أكف الضراعة، ولنجعل بيننا وبين الله أسراراً، وليكن بيننا وبين ربنا خلوات، لنحسن الصلة بالله عز وجل صياماً وقياماً وذكراً وطهارة قلب وسلامة صدر، وسنجد أن كلماتنا لها قبول، وأن أثرنا في المجتمع له ما له في نفوس الناس. بعد ذلك انظر إلى نفسك وحفظ المتون، انظر إلى نفسك وتدبر آيات الله عز وجل انظر إلى نفسك وكثرة العلم وكثرة النفع، والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 طريقة التعامل مع القرآن السؤال القرآن الكريم من أفضل العلوم، فكيف تنصحنا بطريقة التعامل مع كتاب الله حفظاً ومراجعةً وعملا؟ وكيف يربي الواحد منا نفسه ويرغبها على حب العلم وطلبه؟ الجواب أظن أننا مما ذكرنا ضمن الدرس شيئاً كثيراً من هذا. أما القرآن -فكما أسلفت- فنشكو إلى الله عز وجل حالنا معه، فربما مر بطالب العلم اليوم واليومان والثلاثة ولم يفتح كتاب الله عز وجل، ونقرأ في سير السلف والعلماء رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أن الإنسان منهم له ورد في كل يوم وليلة، وربما كان هذا الورد أن يختم القرآن في ليلة ولا نتعجب. وقد كنا والله نتعجب ونقول: لا يستطيع الإنسان أن يختم القرآن في ليلة، وسألنا ووجدنا كثيراً من الصالحين أنهم يستطيعون أن يختموا القرآن فعلا، وإن كان يصاحبه عدم التدبر والخشوع، هذا حق، ولكنهم يختمونه. المهم: أنه كان لكثير من السلف ورد وحزب من كتاب الله عز وجل ربما كان حزبه هذا هو القرآن كاملاً. فما هو حزبنا نحن وما هو وردنا أيها الأحبة! في اليوم والليلة؟! كما أسلفت ربما يمر على الواحد منا اليوم واليومان والثلاثة وربما الأسبوع ولم يقرأ فيها كتاب الله عز وجل، والله المستعان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 الطريقة الناجحة لطلب العلم السؤال هل يكتفى بمطالعة الكتب فقط، على سبيل المثال: كتب ابن القيم والماوردي وابن رجب وغيرهم من العلماء، دون ثني الركب عند العلماء، أم هما متلازمان؟! الجواب أقول: هما متلازمان، ولا بد من الاستفادة من العلماء وطلبة العلم، ولا بد من ثني الركب، فإن حضور حلقات العلم وثني الركب عند العلماء فيه خير كثير وفيه فوائد جمة، ولو لم يكن فيه من الفوائد إلا أن من جلس أمامك من العلماء أو طلبة العلم أو غيرهم، إنما جاء لك بخلاصة وقته وبخلاصة عمره، فتح الكتب ونظر في الصفحات وقلب وقضى على كثير من وقته من أجل أن يحضر لك مادة علمية تسمعها وتستفيد منها. أقول: لو لم يكن لحضور مثل هذه الحلقات إلا أن تستفيد من هذه العصارة التي قضى ذلك العالم أو طالب العلم وقته ليجمع لك مثل هذه المادة، هذا لوحده كاف، فضلاَ عن تعويد النفس الصبر، فضلاً عن فضل مجالس الذكر، فضلاً عن مجالسة الصالحين، وخذ وعدد من فوائد حضور حلقات العلم. ولا يمكن أن يعتمد الإنسان على الكتاب فحسب، فمن كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه، فلا يكفي أن تتعلم من الكتب، إنما لا بد أن تستشير وأن ترجع وأن تثني الركب عند العلماء وعند طلبة العلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 علامات الإخلاص السؤال ما هي علامات الإخلاص التي تظهر وتعرف على طالب العلم؟ الجواب الإخلاص أمر قلبي، والإنسان الصالح يحرص أن يخلص عمله لله عز وجل، وألا يكون فيه مراءاة للناس ولا حظاً من حظوظ النفس. وإذا حرص على ذلك، فلا بأس أن يظهر العمل للناس أحياناً، خاصة إن كان من أصحاب القدوة أو من أهل القدوة وممن ينظر إليهم ليس من أجل أن يحمده الناس وإنما لأنه قدوة. وليس كل عمل لا يظهر للناس أخلص صاحبه، كما أنه -أيضاً- ليس كل عمل أظهره صاحبه للناس إنما هو منافق ومراءٍ فيه، وإنما الإخلاص يعرف صاحبه متى حققه. وعلى الإنسان أن يراقب ربه عز وجل وأن يلحظ نفسه في مثل هذا الباب، والله المستعان! . وصلى الله على نبينا محمد. ذ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 الفائزون في رمضان إن من نعم الله عز وجل على العباد، الإنعام عليهم بشهر رمضان الذي يتزود فيه الإنسان من أعمال الخير، والذي ينقسم فيه الناس إلى فائز وخاسر، والفائز إنما يكون فوزه بكثرة أعمال الخير من الإنفاق في الخير والدعوة إلى الله، والإكثار من النوافل والسنن الرواتب، أما الخاسر فهو من يمر عليه رمضان مرور الكرام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1 تهنئة لمن فاز وعزاء لمن خسر إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذه ليلة الإثنين الموافق للثامن والعشرين من الشهر التاسع شهر رمضان المبارك للعام (1415هـ) ، وفي هذا المكان الطيب المبارك في مدينة الرس، نلتقي بهذه الوجوه في هذا المجلس، وعنوان هذا الموضوع: (الفائزون في رمضان) . يومٌ أو يومان ثم تعلن النتائج، وتوزع الجوائز، فيفرح الفائزون برمضان، سبق قومٌ ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، بعد غدٍ يفوز المحسنون، ويخسر المبطلون. غداً توفى النفوس ما كسبت ويحصد الزارعون ما زرعوا إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم وإن أساءوا فبئس ما صنعوا من هذا الفائز منا فنهنيه؟ ومن هذا الخاسر فنعزيه؟ أيها الفائز برمضان! هنيئاً لك، أيها الخاسر! جبر الله مصيبتك، بعد غدٍ تعلن أسماء الفائزين برمضان في مصليات الأعياد، يوم رجعوا إلى بيوتهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، اللهم اجعلنا من الفائزين برمضان. ولعلكم أيها الأخيار! تتساءلون عن هؤلاء الفائزين برمضان، من هم؟ وما صفاتهم؟ وما أعمالهم؟ تعالوا لنحلق اليوم وإياكم إلى عالم الفائزين برمضان، إلى عالم الحب والإخاء، عالم المجتهدين والمتهجدين والمستغفرين، عالم الرقة والخشوع، والذلة والخضوع، عالم الحرص والاستزادة، والتمرغ في أنواع العبادة. كأني بك تقول: هذه صفاتٌ عرفناها في سلفنا الصالح، فنعم العالم عالمهم، ونعم الصفات صفاتهم، فأقول: إي والله فأنا معك؛ ولكن عالمنا اليوم هم فئةٌ من أهل زماننا، وأحباءٌ لنا، فبهم تفرح قلوبنا، وبالنظر إلى وجوههم تكتحل عيوننا، وبمجالستهم تأنس نفوسنا، وبالحديث معهم تحلو ساعاتنا، إنهم من آبائنا وإخواننا، وهم من أمهاتنا وأخواتنا، إنهم التالون لكتاب الله، الراكعون الساجدون، المتأثرون الباكون، المتصدقون المنفقون، المتحدثون الناصحون، العاملون المخلصون، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] . من قال أيها الأحبة: إن أعمال الخير والبر وقفٌ على السلف فقط؟ من قال: إن الرقة والبكاء حكرٌ على بشر الحافي، ومالك بن دينار، ورابعة العدوية رحمة الله عليهم أجمعين؟ من قال: إن المتصدقين هم فقط أبو بكر وعمر، وعائشة وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين؟ انظروا لبيوت الله! هذه الأيام صلاةٌ وقيام، وركوعٌ وسجود وإطعامٌ للطعام، وبذلٌ وإحسان، وتذكيٌر بأطيب الكلام، وتدبرٌ وترتيلٌ، وأزيزٌ وخنين، عندها تذكرت قول النبي صلى الله عليه آله وسلم في ذلك الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الطهارة من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: أرأيت لو أن رجلاً له خيلٌ غرٌ محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض -أي قائدهم- ألا ليذادن رجالٌ عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً، بعداً بعداً) . اللهم اجعلنا من إخوان نبيك الذين ذكرهم في هذا الحديث، اللهم اجعلنا ممن يرد حوضه، ويشرب منها شربةً هنيةً لانظمأ بعدها أبداً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 2 صور ومواقف للفائزين في رمضان أيها الأحبة! إن الذي دعاني لمثل هذا الحديث مواقف وصور رأيتها بأم عيني هذه الأيام، وما لم أر أكثر، ومالا نعلمه لا يحصر، فأسوقها إليكم لأسباب منها: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 أسباب ذكر هذه الصور والمواقف لأعطر الأسماع، ولنعلم أن لصالحي زماننا سيرٌ ومواقف. ومنها: تنبيه الأمة لعلو الهمة، وقوة الإرادة، وصدق العزيمة. ومنها: ذكر الفضل لأهل الفضل والإحسان، فحرامٌ أن يبخس حقهم أو ينقص قدرهم ومنها: تنبيهٌ وتذكيرٌ لإخواني معلمي الخير، وصناع الحياة ألا يبخس حق المحسنين، فمن العدل أن نقول للمحسن أحسنت، كما نقول للمسيء أسأت. ثم -أيضاً- من واجبنا أن نتلمس الخير في صفوف الناس، فينشر ويشهر، فهو نسمة الصباح الذي ننتظره، وبريق الأمل الذي نرجوه، بمثل هذا تكسب النفوس، فالتعامل مع النفوس فن يجب أن نتعلمه، لماذا ننسى خير الخيرين، وصلاة العابدين، وصدقة المنفقين، وبكاء المخبتين؟ لماذا نغفل عن جهد العاملين، وتضحية المصلحين، وصدق المخلصين، ودمعة التائبين؟ لماذا لا نذكر صلاح المؤمنات، وقيام القانتات، وصدق الصادقات، وصبر الصابرات؟ لماذا لا نتحدث عن عطاء المتصدقات، وعفاف الحافظات، ودعاء الذاكرات، وبكاء الخاشعات؟ لماذا ننسى الحديث عن هؤلاء وما أعد الله لهم من الأجر والثواب، وقد أعلن الرحيم الرحمن ذلك في القرآن، فقال جل وعز وهو الكريم المنان: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] نسأل الله عز وجل أن نكون منهم. أيها الأحبة! هذه الصور وهذه المواقف، وقفت عليها بأم عيني، فإلى هذه الصور: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 الهمة العالية للصلاة والقيام الصورة الأولى: في صلاة التراويح والقيام: كنت في طريقي لأحد المساجد لصلاة التراويح، وقبل الأذان بدقائق مررت بمسجد آخر، ورأيت ذلك الرجل الكبير يتكأ على عكازتين، ويدب على الأرض بمهل شديد، يسحب قدميه فتخط في الأرض خطاً، كان واضحاً أن المرض قد أنهكه، وأن التعب بلغ منه مبلغه، ومع ذلك خرج، لماذا؟ كل ذلك من أجل صلاة الجماعة، ومن أجل صلاة التراويح، فذكرت عندها قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عند مسلم وفيه: (ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين، حتى يقام في الصف) . ولا أنسى تلك العجوز محدودبة الظهر، متقاربة الخطى، متسارعة الأنفاس، وهي تزحف إلى المسجد زحفاً، والعجب أنها صلت واقفة، ورفضت الجلوس. إيه أيتها النفوس! أليس لك بهذا معتبر؟! فما ملكت نفسي إلا ودمعةٌ تسيل على الخد، وأنا أردد: اللهم أعنها، اللهم يسر عليها، اللهم تقبل منها، اللهم إن لم يكن هؤلاء من الفائزين برمضان، فمن؟! نحن الكسالى؟! نحن الشباب أصحاب السواعد الفتية؟ أين أنت يا بن العشرين؟! أين أنت يا بن الثلاثين والأربعين من هؤلاء؟! هذه صورة، وما أكثر صور تلك الآباء والأمهات الذين نعجب من حرصهم، على الرغم من الأيدي المرتعشة، والأقدام المهتزة، والعظام الواهنة، والله إن الإنسان ليحتقر نفسه وعمله، وهو يرى هؤلاء الكبار من رجال ونساء، وكيف يتحاملون على أنفسهم على عجز وثقل، ومرض ولأواء، وقد عذرهم الله، ومع ذلك قلوبهم متعلقة بالمساجد، فهم إن شاء الله (في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله) كما في حديث السبعة. ربما أصاب الإنسان منا التعب والإرهاق في صلاة التراويح أو القيام، فإذا شاهد حال هؤلاء الآباء ونشاطهم على ما هم فيه، كأنما نشط من عقال. أفلا تسجل مواقفهم، وتسطر لتعيها الأجيال؟ اللهم تقبل منهم، واجعلهم من الفائزين برمضان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 رمضان والإنفاق الصورة الثانية: رجلٌ وسع الله عليه بماله، وحسن سمته، ودماثة خلقه، فهو ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر، بحثت عنه عصراً من رمضان، توجهت إلى محلاته فلم أجده، سألت عنه فلم أجد جواباً، غير أن أحد العاملين قال: ربما وجدته في الجامع، دخلت الجامع فوجدت العجب، وجدت الموائد ممدودةً بالطول والعرض، حتى أنك لا تجد مكاناً لموضع قدميك، وفيها ما لذ وطاب من أنواع المأكولات والمشروبات، بحثت عن صاحبي فوجدته يصول ويجول، لحظاتٌ قبل الغروب، فإذا بمئات العمالة تتوافد على الجامع من كل صوب ألفاً أو يزيدون، قلت: سبحان الله! في الوقت الذي انشغل أهل الأموال ببيعهم وشرائهم، فعصر رمضان موسمٌ تجاريٌ لا يعوض، أما هذا الرجل فهو في تجارة أخرى، تجارة مع الله، فلم يكفه أن دفع المال لتفطير الصائمين، بل وقف بنفسه وعمل بيده، ولم يعتذر يوم أن دعي للإنفاق في مشروع ثان، بل وفي مشروع ثالث، وربما في رابع وخامس وعاشر، مما لا نعلمه ولكن الله يعلمه. عندها ذكرت حديث أبي كبشة عمرو بن سعد الأنماري، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثةٌ أقسم عليهن، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه؛ ما نقص مال عبد من صدقة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. حدثت صاحبي والأنس والبشر على محياه -يعلم الله- ما فقدت الابتسامة على وجهه يوماً من الأيام، الجميع يشهد له بالفضل والإحسان، والورع وحسن الخلق وكثرة العبادة، هكذا نحسبه ولا نزكي على الله أحداً، خرجت من الجامع بصعوبة بالغة لكثرة المتوافدين من الصائمين والمساكين، خرجت وأنا أردد عند الغروب: اللهم تقبل منه، اللهم وسع عليه بماله وولده، اللهم بارك له وزده، وأعطه ولا تحرمه. فإن لم يكن هذا من الفائزين برمضان فمن أيها الأحبة؟! هل هم أولئك الذين يكنزون الأموال، ويقبضون أيديهم؟! عندها ذكرت قول الحبيب صلى الله عليه وسلم لـ أسماء بنت أبي بكر: (لا توكي فيوكي الله عليك) -أي: لا تمنعي ما في يديك فيقطع الله عليك مادة الرزق، وذكرت قول الملكين اللذين ينزلان في كل صباح (فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) كما في الحديث المتفق عليه، وذكرت قول الحق عز وجل كما في الحديث القدسي: (أنفق يا بن آدم ينفق عليك) وهو متفق عليه، فقلت في نفسي: الموفق من وفقه الله، مع علمي أن هناك من تذهب نفسه حسرات أن لو كان يملك لينفق ويتصدق، ولكنه لا يجد أو يجد القليل القليل فينفقه، مع أنه أحوج الناس إليه. وبعضهم يسمع هذه الفضائل فلا يجد ما يتصدق به سوى الدمعة تسيل على الخدين أن لو كان ذا مال فيتصدق، عندها ذكرت قول الحق عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:91-92] اللهم اجعلنا وإياهم من الفائزين برمضان، ومن عتقائك من النار برحمتك يا رحيم يا رحمن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 الخشوع والبكاء في صلاة التراويح والقيام الصورة الثالثة: تصلي التراويح والقيام، فتسمع آيات القرآن، وتسمع الخنين والبكاء ينبعث في جنبات المسجد، فيسجد المصلون فإذا بأزيز كأزيز المرجل ينبعث من الصدور، غلبهم خوف الله وخشيته، فوجلت القلوب، وذرفت العيون، عندها ذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار رجلٌ بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. في صلاة القيام وفي ثلث الليل الأخير يركعون، ويسجدون، ويدعون ويتضرعون، يبكون ويتأثرون، منكسرةً قلوبهم، دامعةً عيونهم، شاحبةً وجوههم، هجروا الفراش ولذة النوم، من أجل أي شيء؟ طلباً لمرضاة الله، طلباً لرحمة الله {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16-17] . القانتون المخبتون لربهم الناطقون بأصدق الأقوال يحيون ليلهم بطاعة ربهم بتلاوة وتضرع وسؤال وعيونهم تجري بفيض دموعهم مثل انهمار الوابل الهطال بوجوههم أثر السجود لربهم وبها أشعة نوره المتلالي إن لم يكن هؤلاء من الفائزين برمضان، فمن؟! الذين ينامون، أو يذهبون ويجيئون؟ أم أولئك الذين يلعبون ويلهون؟! اللهم لا تحرمنا أجر الصيام والقيام، واجعلنا ممن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، اللهم اجعلنا من الفائزين المقبولين يا رحمن يا رحيم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 النساء وحالهن في رمضان الصورة الرابعة رأينا وسمعنا حرص بعض النساء على الصدقة، ورمضان الخير يشهد للنساء بحسن السخاء، والبذل والعطاء، سمعت عن تلك التي جمعت رواتبها فتصدقت بها دفعةً واحدةً، وسمعت عن تلك التي كفلت يتيماً، وأعطت مسكيناً، ووزعت شريطاً، وفطرت صائماً، حتى قلت في نفسي: ماذا بقي لها؟ فأجابت بلسان حالها تقول: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60] فذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر النساء! تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار) . فقلت: أبشرن أيتها الصالحات، فإن هذا لمن أكثرت السب واللعن، ونسيت نعمة الله عز وجل عليها، أما أنت فإني أحسبك إن شاء الله من الفائزين برمضان. ثلة فتيات عرفت فيهن الخير كله، الهاجس في نفوسهن إصلاح الأُخريات ودعوتهن، يسألن وبكثرة عن المواضيع، والعناصر، والمسائل الرمضانية المناسبة للطرح في مثل هذا الشهر، يسألن وبإلحاح عن المناسب من الأشرطة والرسائل للإهداء والتوزيع، ولما انتهت المكافأة الشهرية اقترضن حتى لا ينقطع هذا الخير. يا سبحان الله! تركن اللباس والموديلات وآخر الصيحات وأدوات الزينة، لا لعدم الرغبة فهي جبلة المرأة، بل لأن همّ الإصلاح والغيرة على الدين كان أكبر، ولسان حالهن يقول: رمضان فرصة لا تعوض، فالقلوب منكسرة، والشياطين مصفدة، والإيمان يزيد. وعلمت أنهن يجتمعن لقراءة القرآن، وبحث بعض مسائل الصيام، ويحرصن على النوافل والسنن الرواتب، وصلاة القيام، ويقمن ببر الوالدين وصلة الأرحام، وخدمة الأهل والإخوان وإعداد الطعام، هذا كله بعد صلاة الفرض في وقتها، والقيام بحق زوجها، فنالت رضا ربها وفازت في شهرها، فهنيئاً لها، ثم هنيئاً لها. الحياة يبنيها صناع، كل منهم يؤثر في جانب منها، ومن جد وجد، وإما أنا وإما الفاسق، فإن الفاسق يصنع الحياة على طريقته، وكلٌ منا له موهبةٌ يحبها فيحب أن ينميها، ويبرع فيها ويبتكر لها، لكي يستطيع أن يجمع الناس حوله في تخصصه ومهارته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 الدعوة إلى الله وأهميتها في رمضان الصورة الخامسة: في رمضان هذا العام رأيت إقبال الشباب والفتيات من صناع الحياة، ودُلَّال الخير، ودعاة الهدى، وكلٌ منهم على خير، هؤلاء يصولون ويجولون من حي إلى حي، ومن مسجد إلى مسجد لإرشاد الناس وتذكيرهم، حرموا أنفسهم لذة العبادة خلف إمام واحد، تذهب أنفسهم حسرات لختم القرآن مرات ومرات، لكن هيهات هيهات، فالوقت ينصرف في البحث والاطلاع في تفسير آية، أو شرح حديث، أو بحث مسألة، فلسان حالهم يقول: رمضان فرصةٌ للتوبة، وموسمٌ للإقبال على الله والندم على ما فات، فكم من ضال فرح بكلمته؟ أو جاهل اهتدى بعبارته؟ أو تائب نور الله به بصيرته؟! وهؤلاء قاموا على تفطير العمالة في مسجدهم، حرموا أنفسهم فرحة الإفطار مع أهلهم وأزواجهم، ضاعت اللغات، وتلاشت الجنسيات، لا كفيلٌ ولا مكفول {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] إخوةٌ في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم. وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة فعند اللقاء بالكد يصبح زائلا فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا وأولئك يجمعون المال لشراء الأشرطة والرسائل والمطويات، وتوزيعها على المصلين والمصليات، وآخرون حملوا الطعام والأرزاق، وقطعوا الفيافي والمسافات، وهم صيامٌ تحت حرارة الشمس المحرقة، والرمال الملتهبة، ليقفوا مع المحتاجين والمساكين والأرامل واليتامى، فيطعموا الطعام، ويلبسوا اللباس، مع كلمة طيبة، وشريط نافع. من كان حين تصيب الشمس جبهته أو الغبار يخاف الشين والشعثا ويألف الظل كي تبقى بشاشته فسوف يسكن يوماً راغماً جدثا في ظل مقفرة غبراء مظلمة يطيل تحت الثرى في غيها اللبثا تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا أما حراس الفضيلة وأعداء الرذيلة رجال الحسبة الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. فحدث ولا حرج! فنحن في صلاة وقيام وتدبر وقرآن، أما هم ففي معظم الأيام تبرجٌ وسفور، ومشكلاتٌ ومعاكسات، ومنكراتٌ وسيئات، وكأني بهم والألم يعصر قلوبهم على ليالي رمضان، ولكن أبشر أيها الأخ الحبيب! فأنت على خير عظيم. إن لم تكن للحق أنت فمن يكون والناس في محراب لذات الدنايا عاكفونا أيها الأخ الحبيب! أبشر فأنت على خير، ولن يضيع الله جهدك أبداً، فإن شاء الله أنت من الفائزين برمضان. ذكرت حينها بعد هذه الصور حديث أبي ذر رضي الله عنه عند ابن حبان في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقةٌ في كل يوم طلعت فيه الشمس، قيل: يا رسول الله ومن أين لنا صدقة نتصدق بها؟ قال: إن أبواب الخير لكثيرة، التسبيح والتحميد، والتكبير والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق، وتسمع الأصم، وتهدي الأعمى، وتدل المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك) . فأبواب الخير كثيرة، فلله در شبابنا وفتياتنا، فلسان حالهم يردد في كل لحظة: أنا مسلمٌ، أنا مسلمةٌ، فلم لا أكون محور حق، ومركز إشعاع، ومشعل هداية؟ عندها قلت: إن لم يكن أمثال هؤلاء من الفائزين برمضان، فمن إذاً؟ ذلك الذي لا يفكر إلا في نفسه ووظيفته وماله وولده؟ {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 وقفة مع حال الناس في العشر الأواخر الصورة السادسة: في العشر الأواخر، وفي صلاة القيام في آخر الليل، وفي جلسة الاستراحة، أنظر للمصلين وأحوالهم، هذا يقرأ القرآن، وهذا لسانه يلهج بالذكر والاستغفار، وذاك رفع يديه بالدعاء وعلامات الانكسار والتذلل على محياه، ورابعٌ قد سالت دموعه على خديه، وخامسٌ يركع ويسجد، وسادسٌ يغالب النوم، هجر فراشه، وحرم عينيه. أرواحهم خشعت لله في أدب قلوبهم من جلال الله في وجل نجواهم ربنا جئناك طائعة نفوسنا وعصينا خادع الأمل إذا سجى الليل قاموه وأعينهم من خشية الله مثل الجائد الهطل هم الرجال فلا يلهيهم لعب عن الصلاة ولا أكذوبة الكسل رياح الأسحار تحمل أنين المذنبين، وأنفاس المحبين، وقصص التائبين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 وقفة مع غافل عن الله الصورة السابعة: شابٌ في زاوية من المسجد، وقد عرفته بفسقه وشدة غفلته، وضع وجهه بين يديه، والدمع يسيل على خديه، وقد أجهش بالبكاء، لعله تلطخ بمعصية، أو تذكر ما سلف من الذنوب والمعاصي. أثار التذكر أحزانه فثار وأبدى لنا شانه وقام وستر الدجى مسبل فأسبل بالدمع أجفانه وبكى ذنوباً له قد مضت فأبكى عداه وخلانه ومن لم يكن قلبه جمرة فهذا لعمرك قد كان هو ومن ذا أحق بها من جهول تحقق لله عصيانه وأخلق في اللهو جثمانه كما أخلق الذنب إيمانه فلولا تفضل من فضله عرفناه قدماً وعرفانه لعنى -أي ظهر- على وجهه آية تكون على الخزي عنوانه شدني إليه شدة مناجاته لربه، علم أن له رباً يغفر الذنب فاستغفره، سارع يقرع الباب لعلمه أن الله سريع الحساب، فذل وانكسر لغافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، تمنيت لو ضممته فقلت له: هنيئاً لك بالتوبة والاستغفار، هنيئاً لك بعينيك اللتين ذرفت الدموع من خشية الله، هنيئاً لك بصيامك وقيامك، وأسأله وهو صاحب الفضل والمن أن يلحقك بركاب الفائزين برمضان. تمنيت لو ذكرته قول الحق عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] . يا رب عبدك قد أتاك وقد أساء وقد هفا يكفيه منه حياؤه من سوء ما قد أسلفا حمل الذنوب على الذنوب الموبقات وأسرفا وقد استجار بذيل عفوك من عقابك ملحفا يا رب فاعف وعافه فلأنت أولى من عفا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 حال بعض النساء مع صلاة القيام الصورة الثامنة: حريصةٌ على صغارها، فهي معهم ترقبهم وتلحظهم، تعلم هذا، وتوجه ذاك، ومع هذا فقلبها يهفو لصلاة التراويح مع المسلمين، لكن هيهات هيهات فتصلي في بيتها، تريد أن تخشع، أن يرق قلبها، أن تشعر بلذة المناجاة لربها، لكن الأصوات والضحكات، والتعلق بثوبها من صغارها، حرمها كل ذلك، فما ملكت سوى الدمعات والعبرات على ليالي رمضان، ثم جاءت العشر الأخيرة، فإذا بها تهدهد صبيانها، وتخادع صغارها، حتى ناموا، ثم قامت فانسلت بهدوء وحذر، فجهزت سحورها، ورتبت أمورها، ثم توضأت وتلحفت بجلبابها، ثم سارت إلى مسجد حيها والظلام يلفها، فركعت وسجدت، وقامت فبكت وخشعت، وربما تذكرت صغارها، فخافت عليهم ووجلت، فلا تدري قلبها لصلاتها أو على صغارها، فرجعت وصلت في بيتها بجوار صغارها، وهي تسمع صوت الإمام يردد: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61] فانخرطت في البكاء أن لو كانت من السابقين. فقلت لها: أبشري أيتها الصالحة! فأنت على خير، لكن احرصي وأخلصي واحتسبي الأجر على الله، ولن يخيب ظنك وهو أعلم بحالك، ثم إني أهمس إليك بهذا الحديث المتفق عليه: (من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن، كن له ستراً من النار) . فأسأل الله اللطيف المنان أن يجعلك من الفائزين برمضان، فإن لم تكوني أنت فمن؟ تلك الولاجة الخراجة، الجوالة في الأسواق، التي لم ترع حق ولد ولا تلد عن تلك السافرة الساهرة أمام الأفلام والمسلسلات العاهرة؟ فكم بين مشغول بطاعة ربه وآخر بالذنب الثقيل مقيد فهذا سعيد بالجنان منعم وذاك شقي في الجحيم مخلد كأني بنفسي في القيامة واقف وقد فاض دمعي والمفاصل ترعد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 المرأة الصالحة ووفاؤها وإخلاصها الصورة التاسعة: ثناءٌ لتلك المرأة الصالحة التي عرفت فضائل هذا الشهر، فحرصت على استغلال ساعاته، فهي محافظةٌ على الصلوات في أوقاتها، جالسةٌ بعد الصلوات في مصلاها تقرأ القرآن، وقد تنتقل إلى الذكر والتسبيح، والتحميد والتهليل والتكبير، وتقديرٌ لها يوم أن كانت خلف كل عمل صالح في بيتها، فهي خلف أولادها وإخوانها بالمحافظة على الصلوات، فتوقظ هذا، وتنبه ذاك، وهي خلفهم بدفعهم وتشجيعهم لقراءة القرآن، وصلاة القيام، واستغلال رمضان، تلهب الحماس، وتقوي العزائم، بالكلمة الطيبة تارة، وبالشريط النافع وبالهدية المشجعة تارةً أخرى. ووفاء لتلك الزوجة الوفية يوم أن كانت لزوجها حقاً وفية، أصبحت وجه سعد على زوجها، أنارت جنبات بيتها، فهي وراء زوجها بالتذكير والتنبيه إن نام أو غفل، وهي معينةٌ له إن ذكر، فلا تقطع عليه ساعات الطاعة في الشهر بكثرة طلباتها، ولا تعرضه لفتن المتبرجات السافرات في شهر الفضل والإحسان، وفي أعظم الأيام العشر الأواخر بكثرة دخولها وخروجها للأسواق، وهي وفيةٌ لزوجها يوم أن قالت: إن الذكر، وقراءة القرآن، واستغلال رمضان، لا يجتمعان أبداً في بيت مع ملاهي الشيطان، فقم وتوكل على الله وطهر البيت لتحل علينا ملائكة الرحمن، ويرحل مردة الجان، وما هي إلا عزيمة وإرادة، وخوفٌ وتوبة، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه. إعجابٌ وإكبارٌ لك أيتها الصالحة! وأنت في المدرسة والعمل، فها أنت قد حرصت كل الحرص على إتقان العمل وإخلاصه لله ليتم صومك، فأنت تخافين من خيانة الأمانة التي وكلها الله لك، فكلنا إعجابٌ وإكبارٌ يوم أن جاءت بناتنا وأخواتنا ليحدثن أنك تكلمت عن فضائل هذا الشهر، وكيفية استغلاله والحرص عليه، وأنك قمت بوضع مسابقة رمضانية لتفقيه الطالبات بأحكام الصيام، وأنك أهديت لكل واحدة منهن شريطاً لتعليم آداب الصيام وأحكامه، وأنك ما تفتئين تذكرين بثمرة الصيام وسره العظيم، تقوى الله ومراقبته في السر والعلن، وأنها العبادة الوحيدة التي خصها الله لنفسه، لأنها عبادة خفية بينك وبينه، فلا أحدٌ يعلم عن حقيقة صومك. إنك أيتها المخلصة! لا تتصورين عظيم فرحتي وأنا أسمع هذه الكلمات، إعجابٌ أسطره لك أيتها المعلمة! وأنا أرى أختي وابنتي وقد حرصن على رمضان، وعلى الصلاة والقيام وكثرة الأعمال، فيحضرني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله) وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خيرٌ لك من حمر النعم) وقوله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنةً حسنةً كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) فما أملك إلا أن أرفع يدي إلى السماء قائلاً: اللهم لا تحرم تلك المعلمة أجر تلك الأعمال. فتتوارد الأدعية لك أنت أيتها الصادقة! وتفيض تلك الدمعة لحسن رعايتك للأمانة، وحملك هم إصلاح الأُخريات فشكر الله سعيك، وبارك فيك، وأجزل الأجر والمثوبة لك، فأنت أهلٌ لذلك. فأبشري بالقبول بإذن الله، قبول الصيام والقيام، والعتق من النيران ودخول الجنان والفوز برمضان، كل ذلك بفضل ورحمة من الكريم المنان، ثم بفضل ما فعلت وقدمت ابتغاء وجه الله، وهكذا فلتكن المرأة المسلمة في رمضان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 الحزن على انتهاء رمضان الصورة العاشرة والأخيرة: رأيته وسلمت عليه، وفجأةً أجهش بالبكاء، وفاضت عيناه بالدمع، أوجست في نفسي خيفة، قلت: ابتلي بموت قريب، أو حبيب له أصيب، فقال بصوت كئيب: جبر الله مصيبتك بخروج رمضان. انكسر قلبه، وهطل دمعه، وانتحب صوته، فقلت: يا سبحان الله! لكل محب حبيب، ورمضان حبيب الصالحين. يا شهر رمضان ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق. بين الجوانح في الأعماق سكناه فكيف أنسى ومن في الناس ينساه في كل عام لنا لقيا محببة يهتز كل كياني حين ألقاه بالعين والقلب بالآذان أرقبه وكيف لا وأنا بالروح أحياه ألقاه شهراً ولكن في نهايته يمضي كطيف خيال قد لمحناه في موسم الطهر في رمضان الخير تجمعنا محبة الله لا مال ولا جاه من كل ذي خشية لله ذي ولع في الخير تعرفه دوماً بسيماه قد قدروا موسم الخيرات فاستبقوا والاستباق هنا المحمود عقباه صاموه قاموه إيماناً ومحتسباً أحيوه طوعاً وما في الخير إكراه فالأذن سامعة والعين دامعة والروح خاشعة والقلب أواه وكلهم بات بالقرآن مندمجاً كأنه الدم يسري في خلاياه فوداعاً يا رمضان! وإلى أن نلقاك في عام قادم إن شاء الله، اللهم تقبل منا رمضان، واجعلنا من الفائزين برمضان. هذه صورٌ ومواقف للفائزين برمضان، ولعلها تكفي لضيق الوقت، وخشية الإملال، وإنما هي على سبيل المثال، والحصر يصعب، وهي غيضٌ من فيض، فمحبو الخير كثر، وأبواب الخير كثيرة، ولكنها مشاهد ومواقف لبعض الصالحين والصالحات ذكرناها لأسباب سبقت. فيا باغي الخير أقبل! فرمضان فرصةٌ قد لا تتكرر، وموسمٌ قد لا يعوض، فالبدار البدار قبل فجأة موت أو مصيبة مرض، وعندها لا ينفع الندم {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] . أيها الأحبة! السعيد من أدرك رمضان فغُفر له {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133-134] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 أمور تعين على الفوز بالحسنات في رمضان وقبل الختام أذكر لكم أموراً تعينكم على الفوز برمضان، واستغلال أيامه ولياليه، أعددها لكم تعداداً بدون تعليق للذكرى {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] . أولاً: المجاهدة: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] . تريد الهداية؟ تريدين الهداية؟ نريد الاستقامة؟ لنجاهد هذه النفس، لنقبل على الأسباب، فإن أقبلنا، أقبل الله عز وجل علينا. ثانياً: الهمة والعزيمة: قال ابن الجوزي: من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دنيء. ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام ثالثاً: معرفة فضائل الشهر ومزاياه: فإن من عرف شيئاً اهتم به، وحرص عليه، ولو لم يكن فيه سوى ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر لكفى. رابعاً: قلة أيامه، وسرعة ذهابه: وصدق الله عز وجل يوم أن قال: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] . بالأمس القريب نهنئ بعضنا بعضاً بدخول الشهر، واليوم نعزي بعضنا بعضاً بخروجه، وهكذا هي الأيام، فالبدار البدار، انتبه للعمر أيها الحبيب!. الصالحون تسابقوا للخيرات، وفازوا بالحسنات، وأنت أيها المسكين! ما زلت أسيراً للشهوات وعبداً للذات، وصدق الله يوم أن قال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] . خامساً: تذكر الموت، والحذر من فجاءته: فقد لا تدرك رمضاناً آخر، فانتبه لنفسك. هذه مناجاة متهجد، ونفثات صدر، وأشجان قلب، وخلجات نفس، وكلمات ناصح، ودمعات محب، وهي حديث أُنس، وصدقة قائم، ومشاعر صائم، بل هي والله آهات متوجعٌ، وأنات مذنب، وزفرات مقصر. سبحانك خالقي، فأنا تائبٌ إليك فاقبل توبتي، واستجب دعائي، وارحم شبابي، وأقل لي عثرتي، وارحم طول عبرتي، ولا تفضحني بالذي قد كان مني. اللهم لا تفضحني بالذي قد كان مني، اللهم استر علي عيوبي يا حي يا قيوم، اللهم ارحمنا برحمتك، اللهم اجعلنا من الفائزين برمضان، اللهم اجعلنا ممن قام رمضان إيماناً واحتساباً فغفرت له ما تقدم من ذنبه، اللهم اجعلنا ممن صام رمضان إيماناً واحتساباً فغفرت له ما تقدم من ذنبه، اللهم اجعلنا ممن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً فغفرت له ما تقدم من ذنبه، اللهم اجعلنا من الفائزين برمضان. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 رمضان والرحيل المر رحل رمضان ويا لها من أيام، ولكن يا ترى ما هو الفرق بين حالنا في رمضان وحالنا بعد رمضان؟ كل يسأل نفسه: كيف حالك أيتها النفس بعد رمضان؟! فالعاقل اللبيب من جعل رمضان مدرسة لبقية الشهور بالاستمرار والمداومة على الطاعات والواجبات، ولو كانت قليلة؛ فقليل دائم خير من كثير منقطع. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 1 ألم الفراق إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذه ليلة الثلاثاء الموافق للسادس عشر من شهر شوال للعام (1416هـ) وفي هذا الجامع المبارك في مدينة الرس، ومع هذا الموضوع والذي هو بعنوان: (رمضان والرحيل المر) . وها هو نصف شهر -أيها الأحبة- يمضي بعد رحيلك أيها الحبيب رمضان، ويا لها من أيام مرة المذاق! ليسأل كل إنسان منا نفسه: كيف حالكِ أيتها النفس بعد رمضان؟! أيها الإخوة والأخوات! لقد تعمدت تأخير هذا الموضوع إلى هذه الأيام؛ لنقارن بين حالنا في رمضان وحالنا بعد رمضان، رغم أنه لم يمض عليه سوى أيام. إيه أيتها النفس! كنت قبل أيام في صلاة وقيام، وتلاوة وصيام، وذكر ودعاء، وصدقة وإحسان، وصلة للأرحام، قبل أيام كنا نشعر برقة القلوب واتصالها بعلام الغيوب، كانت تتلى علينا آيات القرآن؛ فتخشع القلوب وتدمع العيون، فنزداد إيماناً وخشوعاً وإخباتاً لله سبحانه وتعالى، ذقنا حلاوة الإيمان، وعرفنا حقيقة الصيام، ذقنا لذة الدمعة، وحلاوة المناجاة في السحر كنا نصلي صلاة من جعلت قرة عينه في الصلاة، وكنا نصوم صيام من ذاق حلاوته وعرف طعمه، وكنا ننفق نفقة من لا يخشى الفقر، كنا وكنا مما كنا نفعله في هذا الشهر المبارك العظيم الذي رحل عنا. وهكذا نتقلب في أعمال الخير وأبوابه، حتى قال قائلنا: يا ليتني مت على هذه الحال؛ لما يشعر به من حلاوة الإيمان ولذة الطاعة. فتذكرت حينها قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لما بكى في مرض موته، فسئل: ما الذي يبكيك؟ فقال رضي الله عنه: [إنما أبكي؛ لأنه أصابني في حال فترة -أي الموت- ولم يصبني في حال اجتهاد] كما في مجمع الزوائد للهيثمي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 2 تقصير النفس وتفريطها بعد رمضان وهكذا مضت الأيام ورحل رمضان، ثم ماذا؟ رحلت يا رمضان! ولم يمض على رحيلك سوى ليالي وأيام، ولربما رجع تارك الصلاة لتركه، وآكل الربا لأكله، وسامع الغناء لسماعه، ومشاهد الفحش لفحشه، وشارب الدخان لشربه. رحلت يا رمضان! ولم يمض على رحيلك سوى ليالي وأيام، ولربما نسينا لذة الصيام، فلا الست من شوال ولا الخميس والاثنين ولا الثلاثة الأيام. رحلت يا رمضان! ولم يمض على رحيلك سوى ليالي وأيام، ولربما لم نذق فيها طعم القيام. سبحان الله! أين ذلك الخشوع، وتلك الدموع في السجود والركوع؟ أين ذلك التسبيح والاستغفار؟ وأين تلك المناجاة لله الواحد القهار؟ رحلت يا رمضان! ولم يمض على رحيلك سوى ليالي وأيام، ولربما هجرنا القرآن، وقد كنا نقرأ بعد الفجر وبعد الظهر وبعد العصر وفي الليل والنهار، وها هو نصف شهر مضى فكم قرأنا فيه من القرآن؟ خليلي شهر الصوم زُمَّت مطاياه وسارت وفود العاشقين بمسراه فيا شهر لا تبعد لك الخير كله وأنت ربيع الوصل يا طيب مرعاه نشرق بدموع الفراق أيها الأحبة! فلا نستطيع أن نبث المشاعر والآلام والأحزان، لما نجده من فقد لذة الطاعة، وحلاوة الإيمان، هكذا حال الدنيا اجتماع وافتراق، ومن منا لا تؤلمه لحظات الفراق ودموع العناق؟! رمضان أيها الصديق! أيها الجليس الصالح! أيها الحبيب! أحس بجرحي يا صديقي كأنه يدب إلى أعماق قلبي ويوغل ونفسي أمام المغريات قوية ولكنها عند الأحبة تسهل كأن فؤادي لو تأملت ما به بما فيه من شتى المشاعر معمل رمضان كيف ترحل عنا وقد كنت خير جليس لنا؟! بفضل ربنا كنت عوناً لنا، ونحن بين قارئ وصائم ومنفق وقائم، وباكٍ ودامع، وداعٍ وخاشع. رمضان فيك المساجد تعمر، والآيات تذكر، والقلوب تجبر، والذنوب تغفر، كنت للمتقين روضةً وأنساً، وللغافلين قيداً وحبساً، كيف ترحل عنا وقد ألفناك وعشقناك وأحببناك؟! رمضان ألا تسمع لأنين العاشقين وآهات المحبين؟! اسمع أنين العاشقين إن استطعت له سماعا راح الحبيب فشيعته مدامع ذرفت سراعا لو كلف الجبل الأصم فراق إلف ما استطاعا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 كلمات مضيئة في رحيل رمضان قال ابن رجب في وداع رمضان، واسمعوا لقلوب السلف رضوان الله تعالى عليهم كيف كانت تتخرق لفراق هذا الشهر: يا شهر رمضان ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفة الوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترقع من الصيام ما تخرق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق، عسى وعسى من قبل يوم التفرق إلى كل ما نرجو من الخير نرتقي فيجبر مكسور ويقبل تائب ويعتق خطاء ويسعد من شقي انتهى كلامه رحمه الله. رحلت يا رمضان! والرحيل مر على الصالحين، فابكوا عليه بالأحزان وودعوه، وأجروا لأجل فراقه الدموع وشيعوه. دع البكاء على الأطلال والدار واذكر لمن بان من خل ومن جار وذر الدموع نحيباً وابك من أسف على فراق ليال ذات أنوار على ليال لشهر الصوم ما جُعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار يا لائمي في البكاء زدني به كلفاً واسمع غريب أحاديث وأخبار ما كان أحسننا والشمل مجتمع منا المصلي ومنا القانت القاري الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 أحوال الناس بعد رمضان الناس بعد رمضان فريقان: فائزون وخاسرون، فيا ليت شعري من هذا الفائز منا فنهنيه؟ ومن هذا الخاسر فنعزيه؟! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 حال الصالحين الفائزين رحل رمضان ورحيله مر على الجميع، الفائزين والخاسرين، الرحيل مر على الفائزين؛ لأنهم فقدوا أياماً ممتعة، وليالي جميلة، نهارها صدقة وصيام، وليلها قراءة وقيام، نسيمها الذكر والدعاء، وطيبها الدموع والبكاء، شعروا بمرارة الفراق؛ فأرسلوا العبرات والآهات، كيف لا وهو شهر الرحمات، وتكفير السيئات، وإقالة العثرات؟! كيف لا والدعاء فيه مسموع، والضر مدفوع، والخير مجموع؟! كيف لا نبكي على رحيله ونحن لا نعلم أمن المقبولين نحن أم من المطرودين؟! كيف لا نبكي على رحيله -أيها الأحبة- ونحن لا ندري أيعود ونحن في الوجود أم في اللحود؟! الفائزون من خشية ربهم مشفقون! نعم. هم فائزون ولكنهم من خشية ربهم مشفقون {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] على رغم أنهم في نهاره في صيام وقراءة قرآن وإطعام وإحسان، وفي ليله سجود وركوع وبكاء وخشوع، وفي الغروب والأسحار تسبيح وتهليل وذكر واستغفار. الفائزون شمروا عن سواعد الجد؛ فاجتهدوا واستغفروا وأنابوا ورجعوا، ما تركوا باباً من أبواب الخير إلا ولجوه، ولكن مع ذلك كله، قلوبهم وجلة خائفة بعد رمضان؛ أقبلت أعمالهم أم لا؟ أكانت خالصةً لله أم لا؟ أكانت على الوجه الذي ينبغي أم لا؟ كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يحملون همّ قبول العمل أكثر من همّ القيام بالعمل نفسه، قال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوا وقع عليهم الهم! أيقبل منهم أم لا؟ لا يغفلون عن رمضان، فإذا فعلوا وانتهوا يقع عليهم الهمّ أيقبل منهم أم لا؟ وقال علي رضي الله تعالى عنه: [كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا لقول الحق عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]] . وقال مالك بن دينار: [الخوف على العمل ألا يتقبل أشد من العمل] . وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان ينادي في آخر رمضان: [يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه؟ ومن هذا المحروم فنعزيه؟] . وعن ابن مسعود أنه قال: [من هذا المقبول منا فنهنيه؟ ومن هذا المحروم منا فنعزيه؟] . أيها المقبول هنيئاً لك! أيها المردود جبر الله مصيبتك! ليت شعري من فيه يقبل منا فيهنى يا خيبة المردود من تولى عنه بغير قبول أرغم الله أنفه بخزي شديد فيا ليت شعري -أيها الأحبة- بعد هذه الأيام مَن مِنا أشغله هذا الهاجس وقد مضى نصف شهر على رحيل رمضان؟ من منا أشغله هاجس هل قبلت أعماله أم لا؟ هل نحن من الفائزين في رمضان أم لا؟! من منا لسانه يلهج بالدعاء أن يقبل الله منه رمضان؟! إننا نقرأ ونسمع أن سلفنا الصالح كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يقبل الله منهم رمضان، ونحن لم يمض على رحيله سوى أيام فهل دعونا أم لا؟ أم أننا نسينا رمضان وغفلنا عنه وكأننا أزحنا حملاً ثقيلاً كان جاثماً على صدورنا؟! نعم. رحل رمضان، لكن ماذا استفدنا من رمضان؟ وأين آثاره على نفوسنا وسلوكنا وأقوالنا وأفعالنا؟ هكذا حال الصالحين العاملين، فهم في رمضان صيام وقيام، وتقلب في أعمال البر والإحسان، وبعد رمضان محاسبة للنفس، وتقدير للربح والخسران، وخوف من عدم قبول الأعمال، لذا فألسنتهم تلهج بالدعاء والإلحاح بأن يقبل الله منهم رمضان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 حال المفرطين الخاسرين أما المفرطون -نعوذ بالله من حالهم- فهم نوعان: أناس قصروا فلم يعملوا إلا القليل، نعم. صلوا التراويح والقيام سراعاً، فهم لم يقوموا إلا القليل، ولم يقرءوا من القرآن إلا القليل، ولم يقدموا من الصلوات إلا القليل، الصلوات المفروضة تشكو من تخريقها ونقرها، والصيام يئن من تجريحه وتضييعه، والقرآن يشكو من هجره ونثره، والصدقة ربما يتبعها مَنٌّ وأذى، الألسن يابسة من ذكر الله، غافلة عن الدعاء والاستغفار، فهم في صراع مع الشهوات حتى في رمضان، لكن فطرة الخير تجذبهم، فتغلبهم تارةً ويغلبونها تارات، فهم يصلون التراويح، لكن قلوبهم معلقة بالرياضة، ومشاهدة المباريات، ورمضان هذا العام يشهد بمثل ذلك. سبحان الله! حتى في رمضان، حتى في العشر الأواخر وهي أفضل الأيام! سبحان الله! كيف أصبحت الرياضة تعبد من دون الله؟! -لا حول ولا قوة إلا بالله- هم يقرءون القرآن في النهار، لكنهم يصارعون النوم بعد ليالي من السهر والتعب والإرهاق من الدورات الرياضية والجلسات الفضائية، أما الصلاة: فصلاة الظهر عليها السلام، وربما العصر بل وربما الفجر؛ كل ذلك بسبب التعب والإرهاق -كما يقولون- فهؤلاء لم ينتبهوا إلا والحبيب يرحل عنهم؛ فتجرعوا مرارة الرحيل، بكاء وندماً، حزنوا، ولكن بعد ماذا؟ بعد فوات الأوان، بعد أن انقضت أفضل الأيام. أما النوع الثاني من المفرطين فهم الخاسرون -نعوذ بالله من الخسران- فهناك من لم يقم رمضان، ولم يقرأ القرآن، وربما لم يصم في رمضان، فنهاره ليل وليله ويل، لا الأواخر عرفوها ولا ليلة القدر قدروها، فمتى يصلح من لا يصلح في رمضان؟! متى يصح من كان من داء الجهالة والغفلة مَرْضان؟! متى يزرع من فرط في وقت البذار، فلم يحصد غير الندم والخسار؟! مساكين هؤلاء! فاتهم رمضان وفاتهم خير رمضان؛ فأصابهم الحرمان وحلت عليهم الخيبة والخسران، قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع، لا صيام ينفع ولا قيام يشفع، قلوب كالحجارة أو أشد قسوة، حالها في رمضان كحال أهل الشقوة، لا الشاب منهم ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينزجر فيلحق بالصفوة. أيها الخاسر! رحل رمضان وهو يشهد عليك بالخسران؛ فأصبح لك خصماً يوم القيامة! رحل رمضان وهو يشهد عليك بهجر القرآن؛ فيا ويل من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان! فيا من فرط في عمره وأضاعه! كيف ترجو الشفاعة؟ أتعتذر برحمة الله؟ أتقول لنا: إن الله غفور رحيم؟ نعم. لكن {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] العاملين بالأسباب الخائفين المشفقين. سئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد الجمعة والجماعات، فقال رضي الله تعالى عنه: [هو في النار] . وفي صحيح ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، فقال: (آمين آمين آمين قيل: يا رسول الله! إنك صعدت المنبر فقلت: آمين. آمين. آمين. قال: إن جبريل أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له؛ فدخل النار فأبعده الله -فكم هم أولئك المبعدين عن رحمة الله؟ - قل: آمين. فقلت: آمين) إلى آخر الحديث. فيا أيها الخاسر! نعم. رحل رمضان وربما خسرت خسارةً عظيمة، ولكن الحمد لله، فما زال الباب مفتوحاً والخير مفسوحاً، وقبل غرغرة الروح، ابكِ على نفسك وأكثر النوح، وقل لها: ترحل الشهر وا لهفاه وانصرما واختص بالفوز في الجنات من خدما وأصبح الغافل المسكين منكسراً مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما من فاته الزرع في وقت البذار فما تراه يحصد إلا الهم والندما طوبى لمن كانت التقوى بضاعته في شهره وبحبل الله معتصما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 توجيهات ونصائح بعد رحيل رمضان يا من بليت بالتفريط في صلاة الجماعة! ها هو نصف شهر يمضي بعد رحيل رمضان، فما هو حالك والصلاة؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 توجيه لمن فرط في صلاة الجماعة يا من بليت بالتفريط في صلاة الجماعة! ها هو نصف شهر يمضي بعد رحيل رمضان، فما هو حالك والصلاة؟ يا من بليت بالتفريط في صلاة الجماعة وبالإفراط في المعاصي والشهوات! شهر كامل وأنت تحافظ على صلاة الجماعة مع المسلمين، تركع مع الراكعين وتسجد مع الساجدين، فما هو شعورك وأنت ترى المصلين عن يمينك ويسارك؟ إنهم بشر مثلك، اسأل نفسك، يحرصون على صلاة الجماعة كل الشهور وأنت لا. لماذا؟ جاهدوا أنفسهم وتغلبوا عليها وأنت لا. لماذا؟ يتقدمون وأنت تتأخر. لماذا؟! والله لا أشك أنك تحب الله كما يحبون، وترغب في الجنة كما يرغبون، فلماذا يتقدمون وأنت تتأخر؟! ويواظبون وأنت تهمل؟! حدثنا عن الراحة والسعادة يوم وطئت قدماك عتبة المسجد، حدثنا عن اللذة والحلاوة يوم سجدت مع الساجدين، وركعت مع الراكعين، تسلم عليهم ويسلمون عليك، تحدثهم ويحدثونك. إن الله لم يعذر المجاهد في سبيله في ترك الجماعة وهو في ساحة الجهاد يقاتل العدو، فقال الله سبحانه وتعالى: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء:102] والرسول صلى الله عليه وسلم لم يعذر الأعمى فبيته بعيد، وبينه وبين المسجد واد فيه سباع وهوام، وليس له قائد يقوده إلى المسجد، كل هذه الظروف ولم يعذره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يسمع النداء (أجب! فإني لا أجد لك عذراً) . فيا أيها المفرط في صلاة الجماعة! هل تجد لك عذراً بعد هذا؟ نعوذ بالله من العجز والكسل والخمول. إذاً: فلتكن هذه الأيام، وليكن نصف الشهر هذا فرصةً وانطلاقةً للمحافظة على الصلاة والجماعة، وكل شيء يهون إلا ترك الصلاة، فهو كفر وضلال والعياذ بالله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 توجيه لمن ابتلي ببعض الذنوب يا من بليت ببعض الذنوب! إياك إياك بعد رمضان أن تعود، شهر كامل وأنت تجاهد النفس وتصبرها، وتجمع الحسنات وتحسبها، فهل بعد هذا تراك تنقضها؟ فالله عز وجل يقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} [النحل:92] . فيا من أعتقه مولاه من النار! إياك أن تعود إلى الأوزار، أيبعدك مولاك من النار وأنت تتقرب منها؟ وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها؟! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 توجيه لمن ابتلي بالتدخين يا من بليت بالتدخين! شهر كامل وأنت تفارقه ساعات طويلة، وإذا حدثناك عن أخطاره وحكمه قلت: لم أستطع تركه، فمن أين لك هذه الإرادة وهذه العزيمة في رمضان وقد صبرت عنه حوالي اثنتي عشرة ساعة أو أكثر؟ إذن فاعلم أن رمضان فرصة للإقلاع عنه. وقد جاءني أحد الإخوة في آخر رمضان، يبشرني بتركه للتدخين، فقلت: أخشى عليك من العودة، قال: لا. فأنا تركته بعزيمتي وإرادتي، قلت: ابتعد عن أسبابه وأهله، قال: والله إني أرى المدخن يدخن وكأني لم أر الدخان في حياتي، فأنا تركته برغبتي وإرادتي إلى غير رجعة إن شاء الله، قلت: الحمد لله، وكنت أعلم أن خلفه زوجةً صالحةً تذكره، تارةً بالكلمة الطيبة، وتارةً بالكتاب والشريط، وتارةً بتخويفه بالله. فيا كل مدخن ومبتلى! رمضان فرصة، ونصف الشهر هذا فرصة لمقارنة الحال، ولكنها الهزيمة النفسية، والهمة الدنية؛ يوم يهزمك عود سيجارة. قيل لبعض العباد: من شر الناس؟ قال: من لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً. وربما أيها المدخن! أشعلت سيجارتك أمام الناس؛ فرأوك مسيئاً. أيها المدخن! إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يمسك بعود سيجارة يعصي بها الله. أيها المدخن! أيها الحبيب! هل تعلم أن التدخين مفتاح لكل شر وفجور؟ لا تقل: لا. فإن من رآك تدخن تجاسر عليك في كل بلاء وفتنة، وربما يدعوك للواط والزنا، والمخدرات والربا، إلا من عصم الله، أسأل الله أن يحفظك ويرعاك من كل سوء. أيها الحبيب! اسأل نفسك: ما الفرق بين من بيده عود سواك، ومن بيده عود هلاك؟! أجب بكل صراحة، أجب واترك الهوى، واعلم أن هذه الأيام فرصة لا تعوض لترك هذا البلاء، وخاصةً أنك نجحت في رمضان، فاستعن بالله وتوكل عليه، وكن صاحب همة عالية وعزيمة صادقة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 توجيه لمن ترك قيام الليل أيها المسلم! شهر كامل وأنت في ركوع وسجود، تصلي في الليلة ساعات لا تمل ولا تكل، ثم بعد رمضان تتغير أحوالنا وتنقلب صلاتنا -سبحان الله- أنعجز أن نصلي ساعةً أو نصف ساعة، وقد كنا نصلي الثلاث والأربع الساعات في رمضان؟ أيها الصالح! لست غريباً عن قيام الليل، فقد ذقت حلاوة الدمعة عند السحر في رمضان، ولذة المناجاة، وحلاوة السجود، ورأيت بنفسك كيف استطعت أن تروض نفسك ذلك الترويض العجيب في رمضان، همة وعزيمة وإصرار -فيا سبحان الله- أين هذا في غير رمضان؟ إنك قادر! فقد حاولت ونجحت، بل وشعرت بالأثر العجيب والأنس الغريب وأنت تناجي الحبيب، فما الذي دهاك وأنت تذكِّر الغافلين أن رب رمضان رب غيره من الشهور؟ فلماذا تركت قيام الليل؟ عاهد نفسك أيها الحبيب! ألا تترك قيام الليل ليلةً واحدةً، وإن حدثتك بالتعب والإرهاق، فذكرها بلذة وحلاوة القيام في رمضان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 توجيه لمن هجر القرآن أيها المسلم! شهر كامل وأنت تقرأ وتبكر للصلاة، فتقرأ قبلها وبعدها وتحرص على ختمه مرات. نعم. خرج رمضان، والقرآن هو القرآن، والأجر هو الأجر، والرب هو الرب، فما الذي حدث للنفوس أيها الأحبة؟! هجر غريب عجيب لقراءة القرآن وختمه! ربما قرأ الإنسان منا في يومه أكثر من خمسة أجزاء في رمضان، ويجلس الساعات، أفلا نستطيع أن نجلس ثلث ساعة في اليوم الواحد لقراءة جزء واحد، فنختم القرآن كل شهر مرةً على الأقل؟! إنها ثلث ساعة في غير رمضان، فإذا ثقل ذلك فتذكر الساعات التي تقرأها في رمضان. أي شهر قد تولى يا عباد الله عنا حق أن نبكي عليه بدماء لو عقلنا كيف لا نبكي لشهر مر بالغفلة عنا ثم لا نعلم أنا قد قبلنا أو طردنا ليت شعري من هو المحروم المطرود منا ومن المقبول ممن صام منا فيهنى كان هذا الشهر نوراً بيننا يزهر حسنا فاجعل اللهم عقباه لنا نوراً وحسنى اللهم آمين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 توجيه لمن ترك الدعاء أيها المسلم! شهر كامل وأنت تدعو وتلح على الله بالدعاء، مرات بالسجود، ومرات عند السحر والغروب لماذا؟ تسأل الله رضاه والجنة، وتعوذ به من سخطه والنار، فهل ضمنت الجنة يوم تركت الدعاء بعد رمضان؟! وتسأله العفو والغفران عن الذنوب والتقصير، فهل ضمنت الغفران؟! أم انتهت الغفلة والتقصير يوم تركت الدعاء بعد رمضان؟! أيها الأحبة! إن من ندعوه في رمضان هو من ندعوه في غير رمضان، وإن من نسأله في رمضان هو الذي نسأله في غير رمضان، فما الذي حدث؟! ولماذا نتوقف ونفتر عن الدعاء؟ نعم. رمضان وقت إجابة للدعاء، لكن أدبار الصلوات، وعند الغروب، وآخر الليل، وساعة الجمعة، وفي السجود، وبين الأذانين، كلها أوقات إجابة، بل ودعاء المظلوم، والمسافر، والوالد لولده، والأخ لأخيه بظهر الغيب، كلها لا ترد بفضل الله، فما الذي جرى؟ ما الذي دهانا؟ والمدعو هو المدعو، والحاجات هي الحاجات، والمسلمون بأمس الحاجة لدعواتك الصادقة التي لا تنقطع في كل مكان. كيف يقطع العبد صلته بالله واستعانته بمولاه، وهو يعلم أن لا حول ولا قوة له إلا بالله؟ كيف يفتر العبد عن الدعاء وهو أفضل العبادة، وربه يقول: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [البقرة:186] ولم يقل في رمضان فقط، بل في رمضان وغيره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 توجيه لمن ترك الصيام أما الصيام أيها الأحبة! الصيام وما أدراك ما الصيام، العبادة التي اختصها الله لنفسه فقال: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) فلا يعلم جزاء الصائمين إلا الله، وإن غفر لهم ما تقدم من الذنوب، وإن اختصوا بالدخول للجنة من باب الريان، وإن باعد الله بينهم وبين النار سبعين خريفاً، وإن جاء الصيام شفيعاً لأصحابه يوم القيامة، فإن هذه وغيرها من ثمرات الصيام، أما جزاء الصائمين فلا يعلمه إلا الله. قال ابن حجر: المراد بقوله وأنا أجزي به، أي أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته. انتهى كلامه رحمه الله. وقال المناوي: (وأنا أجزي به) إشارة إلى عظم الجزاء عليه وكثرة الثواب؛ لأن الكريم إذا أخبر بأنه يعطي العطاء بلا واسطة، اقتضى سرعة العطاء وشرفه. انتهى كلامه رحمه الله. كل هذه الفضائل للصوم وهي أخروية، فما بالك بثمراته وفوائده الدنيوية، ومع ذلك فإن بعض الناس وخاصةً من الصالحين والصالحات لا يعرف الصيام إلا في رمضان، يعتذر لنفسه تارةً بالعمل، وتارةً بالتعب، وتارةً بشدة الحر، فإذا برمضان الآخر أتى، وهكذا تذهب الأيام وتفنى الأعمار. أخي الحبيب! صُمْتَ شهراً كاملاً متتابعاً، فهل تعجز عن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو يومي الإثنين والخميس؟! فاتق الله وكن حازماً مع نفسك عارفاً حيلها. إن بعض الناس كلما هم أن يسمو إلى المعالي ختم الشيطان على قلبه: عليك ليل طويل فارقد، وكلما سعى في إقالة عثرته والارتقاء بهمته عاجلته جيوش التسويف والبطالة والتمني وعثَّرته، ونادته نفسه الأمارة بالسوء: أنت أكبر أم الواقع؟! قال ابن القيم -اسمع إلى هذه الكلمة الجميلة-: والنفس كلما وسعت عليها، ضيقت على القلب حتى تصير معيشته ضنكاً، وكلما ضيقت عليها وسعت على القلب حتى ينشرح وينفسح. انتهى كلامه رحمه الله. ورمضان يشهد بهذا، وما كنا نشعر به من رقة القلب واتصاله بالله سبحانه وتعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 توجيه للمرأة المسلمة أما أنت أيتها المرأة! فالكلام للرجال وهو لك أيضاً، وإن كنت أعجب من حرصك في رمضان على التراويح، وقراءة القرآن، وقيام الليل، أسأل الله عز وجل أن يقبل منا ومنكِ! ولكني أقول: ما بالنا إذا طلبنا منك هذه الأمور في غير رمضان اعتذرت بالأولاد، وأعمال المنزل، وغيرها من الأعذار؟ مع أن كل هذه الأعذار لم تتغير في رمضان، فالأولاد هم الأولاد، وأعمال المنزل هي أعمال المنزل، بل ربما أكثر في رمضان، فما الذي يجعلك تحرصين على القيام، وقراءة القرآن، والصلاة في وقتها، والصيام في رمضان، وينقطع كل هذا في غير رمضان؟! وتتعذرين بكثرة الأعذار إذا طلبنا منك ذلك في غير رمضان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 توجيه للمجتمع بالمداومة على الأعمال هذا حال النساء، وحال الرجال -كما أسلفت- في هذه الأيام القصيرة التي مضت بعد رحيل رمضان، فما هو سر نشاطنا في رمضان؟ وما هو سر فتورنا وربما انقطاعنا في غيره أيها الأحبة؟! سألت هذا السؤال واستنطقت الأفواه لمعرفة السر، قالوا: رمضان له شعور غريب ولذة خاصة. قلت: لماذا له هذا الشعور وهذه اللذة؟ قالوا: لأن الناس من حولك كلهم صائمون، وقائمون، ومتصدقون، وقارئون، ومستغفرون. قلت: أحسنتم. إذاً: فالسر صلاح المجتمع من حولنا، والمجتمع هو نحن، هؤلاء الأفراد، أنا وزوجتي وأولادي وأبي وأمي وإخواني وأخواتي، فلماذا لا يصلح هؤلاء الأفراد؟ لماذا لا نربي في أنفسهم استمرار الطاعة ومراقبة الله؟ لماذا لا نشجعهم على صيام التطوع وصلاة الليل وقراءة القرآن؟ فنصوم البيض -مثلاً- ونجتمع على الإفطار، ونوقظ بعضنا ونجتمع على القيام ولو لوقت يسير، ونخصص ساعات نجلس فيها لقراءة القرآن، وهكذا في سائر الأعمال، عندها ألا تشعرون أن السنة أصبحت كلها رمضان؟ وأن المجتمع يشجع بعضه بعضاً؟! وليس معنى هذا أن نكون كما كنا في رمضان، مع أننا نتمنى هذا، نحن لا نقول: كونوا كما كنتم في رمضان من الاجتهاد والحرص على الخيرات، فالنفس لا تطيق ذلك، ورمضان له فضائل وخصائص، ولكنا نقول: لا للانقطاع عن الأعمال الصالحة، فلنحرص ولو على القليل من صيام النفل، ولنداوم ولو على القليل من القيام، ولنقرأ كل يوم ولو القليل من القرآن، ولنتصدق ولو بالقليل من المال والطعام، وهكذا في سائر الأعمال، ولنحيي بيوتنا ولنشجع أولادنا وأزواجنا. وفي الحديث الصحيح المتفق عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قَلَّ) . [وقد كان عمله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ديمة] كما كانت تقول عائشة رضي الله تعالى عنها. فهل تعلمنا من رمضان الصبر والمصابرة على الطاعة وعن المعصية؟ وهل عودنا أنفسنا على المجاهدة للهوى والشهوات؟ هل حصلنا على التقوى التي هي ثمرة الصيام الكبرى، واستمرت معنا حتى بعد رمضان، فإن الصلة بالله وخوف الله هي السر في حياة الصالحين والصالحات؟! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 توجيه لمن أصابه العجب والغرور أيها المحب! إياك والعجب والغرور بعد رمضان، ربما حدثتك نفسك أن لديك الآن رصيد كبير من الحسنات كأمثال جبال تهامة، أو أن ذنوبك غُفرت فرجعتَ كيوم ولدتك أمك، فما يزال الشيطان يغريك والنفس تلهيك، حتى تكثر من المعاصي والذنوب، ربما تعجبك نفسك وما قدمته خلال رمضان، فإياك إياك والإدلال على الله بالعمل، فإن الله عز وجل يقول: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] فلا تمن على الله بما قدمت وعملت، فما الذي يدريك أن أعمالك قبلت؟ وهل قدمتها كما ينبغي؟ وهل كانت لله أم لا؟ ألم تسمع لقول الحق عز وجل: {وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فاحذر مفسدات الأعمال الخفية، نعوذ بالله من الشقاق والنفاق والرياء ومساوئ الأخلاق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 توجيه لمن أصابه الفتور أيها الإخوة والأخوات! إن من خالط الإيمان بشاشة قلبه؛ لا يمكن أن يهجر الطاعات، كيف وقد ذاق حلاوتها وطعمها، وشعر بأنسها ولذتها في رمضان؟ إن هرقل لما سأل أبا سفيان عن المسلمين: أيرجعون عن دينهم أم لا؟ قال أبو سفيان: لا. قال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب. إن هرقل يعلم أن من ذاق حلاوة الإيمان، وعرف طعمه لا يمكن أن يرجع عن دينه أبداً مهما فُعل به. إن طعم الإيمان، ولذة الطاعة هما السر في الاستمرار وعدم الانقطاع، نعم. يفتر المسلم ويتراخى، ويمر به ضعف وكسل، خاصةً بعد عمل قام به، وذلك مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة، والشرة إلى فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل) . والحديث أخرجه أحمد في مسنده وإسناده صحيح، وقد صححه الألباني كما في الصحيحة، وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، وأيضاً أخرج من وجوه كما في الترمذي، وقد قال عنه الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، كما في صحيح الجامع للألباني. إذاً: فالمسلم يفتر ويضعف لكنه لا ينقطع، واسمع لهذا الكلام الجميل لـ ابن القيم رحمه الله: تخلل الفترات -أي الفترة والكسل- للسالكين أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم، رجي له أن يعود خيراً مما كان. انتهى كلامه رحمه الله. فلعلنا أيها الأحبة! نقارن بين حالنا في رمضان بعد سماع هذا الكلام، وبين حالنا خلال هذه الأيام؛ لنشعر بما فقدناه من اللذة والطاعة وحلاوة الإيمان، والله المستعان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 همسة لصناع الحياة يا صناع الحياة! يا دعاة الهدى! ويا دلاَّل الخير! رمضان كشف عن الخير في نفوس الناس مهما تلطخ بعضهم بالمعاصي والسيئات، حتى الفاسق، فكم من المرات رأيناه انتصر على نفسه فتخطى عتبة المسجد ليركع مع الراكعين في صلاة التراويح والقيام -أي والله- رأينا ممن ظاهرهم الفسق يركعون ويسجدون، وربما تدمع عيونهم ويبكون، وقد يصلون ساعات طويلة مع المسلمين في آخر الليل، هذه دلالات على فطرة الخير في نفوس الناس، لكن أين من يحسن التعامل معهم؟ نعم. يا شباب الصحوة! نعم. يا دعاة الخير! نعم. أيتها الفتيات! كأني برمضان يصرخ هذا العام فينا فيقول: إن الدعوة إلى الله فن وأخلاق، فيا ليت شعري من يجيد هذا الفن؟! ومن يتمثل هذه الأخلاق؟! فلماذا نعتذر بصدود الناس وغفلتهم، لنبرر فتورنا وعجزنا وكسلنا؟ ولكني لا أقول إلا: اللهم إنا نشكو إليك جلد الفاسق وعجز الثقة، فكم من الثقات استجابوا لخمولهم وكسلهم! إنا لله وإنا إليه راجعون! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 رمضان والعيد رمضان والعيد: انتهت أيام العيد -أيها الأحبة- وللعيد فقه يجهله كثير من الناس حتى من الصالحين، فعيد رمضان عيد الفطر، يوم فرح وحزن معاً، فرح بتوفيق الله لنا بإكمال شهرنا وإتمام صيامنا، وليس فرحاً بسبب إنهاء الصيام وخروج رمضان كما يظن بعض الناس. ويوم العيد يوم حزن -أيضاً- على فراق رمضان، وأيامه الغُر، ولياليه الزاهرة، ولكن من يتقن فن الحزن والفرح معاً؟ وكيف كان عيدنا الذي مضى؟ بعض الناس ربما قادته فرحته بالعيد إلى المعصية والغفلة والبعد عن الله عز وجل، فليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن إيمانه يزيد، وخاف يوم الوعيد، واتقى ذا العرش المجيد. وهل تعلمون -أيها الأحبة- أن العيد يحزن؟ نعم. يحزن خاصةً إذا جاء هلال العيد في مثل هذا الواقع المرير للأمة. فمتى يحزن العيد؟ يحزن العيد عندما نلبس الجديد، ونأكل الثريد، ونطلب المزيد، ونقول لبعضنا: عيد سعيد، وإخوان لنا عراة في الجليد، ودماء وجروح وصديد، طفل شريد، وأب فقيد، وأم تئن تحت فاجر عنيد، صراخ وتهديد ووعيد، ونحن نقول لبعضنا: عيد سعيد، ولسان حالهم يقول: لماذا جئت يا عيد؟! أقبلت يا عيد! والأحزان أحزان وفي ضمير القوافي ثار بركان أقبلت يا عيد! والظلماء كاشفة عن رأسها وفؤاد البدر حيران أقبلت يا عيد! والأحزان نائمة على فراشي وطرف الشوق سهران من أين نفرح يا عيد الجراح! وفي قلوبنا من صنوف الهمّ ألوان؟ من أين نفرح والأحداث عاصفة وللدمى مقل ترنو وآذان؟ من أين والمسجد الأقصى محطمة آماله وفؤاد القدس ولهان؟ من أين نفرح يا عيد الجراح! وفي دروبنا جدر قامت وكثبان؟ من أين والأمة الغراء نائمة على سرير الهوى والليل نشوان؟ من أين والذل يبني ألف منتجع في أرض عزتنا والربح خسران؟ من أين نفرح والأحباب ما اقتربوا منا ولا أصبحوا فينا كما كانوا؟ كيف حال إخواننا -أيها الأحبة- في هذا العيد الذي مضى؟! يا ترى ما هو شعورهم؟ وكيف كانت فرحتهم بالعيد؟ هل كانوا يلبسون الجديد؟ هل كانوا يجلسون مع الآباء والأمهات؟ هل كانت الأزواج تجلس وتفرح بالهدايا من الأزواج؟ لعلنا نكتفي بمشاعر هذه الطفلة المتشردة وهي تخاطب هلال العيد، وتتمنى أنه لم يأت، فتقول له: غب يا هلال! إني أخاف عليك من قهر الرجال قف من وراء الغيم لا تنشر ضياءك فوق أعناق التلال غب يا هلال! إني لأخشى أن يصيبك حين تلمحنا الخبال أنا يا هلال! أنا طفلة عربية فارقت أسرتنا الكريمة لي قصة دموية الأحداث باكية أليمة أنا يا هلال! أنا من ضحايا الاحتلال أنا مَن وُلدت وفي فمي ثدي الهزيمة شاهدت يوماً عند منزلنا كتيبة في يومها كان الظلام مكدساً من حول قريتنا الحبيبة في يومها ساق الجنود أبي وفي عينيه أنهار حبيسة وتجمعت تلك الذئاب الغبر في طلب الفريسة ورأيت جندياً يحاصر جسم والدتي بنظرته المريبة ما زلت أسمع يا هلال! ما زلت أسمع صوت أمي وهي تستجدي العروبة ما زلت أبصر خنص خنجرها الكريم صانت به الشرف العظيم مسكينة أمي فقد ماتت وما علمت بموتتها العروبة إني لأعجب يا هلال! يترنح المذياع من طرب وينتعش القدح وتهيج موسيقى المرح والمطربون يرددون على مسامعنا ترانيم الفرح وبرامج التلفاز تعرض لوحةً للتهنئة: عيد سعيد يا صغار! والطفل في لبنان يجهل منشأه وبراعم الأقصى عرايا جائعون واللاجئون يصارعون الأوبئة غب يا هلال! قالوا: ستجلب نحونا العيد السعيد عيد سعيد! والأرض ما زالت مبللة الثرى بدم الشهيد والحرب ملت نفسها وتقززت ممن تبيد عيد سعيد في قصور المترفين عيد شقي في خيام اللاجئين حرمت خطانا يا هلال! ومدى السعادة لم يزل عنا بعيد غب يا هلال! لا تأت بالعيد السعيد مع الأنين أنا لا أريد العيد مقطوع الوتين أتظن أن العيد في حلوى وأثواب جديدة؟ أتظن أن العيد تهنئة تسطر في جريدة؟ غب يا هلال! واطلع علينا حين يبتسم الزمن وتموت نيران الفتن اطلع علينا حين يورق بابتسامتنا المساء ويذوب في طرقاتنا ثلج الشتاء اطلع علينا بالشذى بالعز بالنصر المبين اطلع علينا بالتئام الشمل بين المسلمين هذا هو العيد السعيد وسواه ليس لنا بعيد غب يا هلال! حتى ترى رايات أمتنا ترفرف في شَمم فهناك عيد أي عيد وهناك يبتسم الشقي مع السعيد اللهم ارحم المستضعفين المسلمين في كل مكان، اللهم كن ناصراً لهم يوم تخلى عنهم الناصر، وكن معيناً لهم يوم تخلى عنهم المعين، اللهم ارحم الأطفال اليتامى، والنساء الثكالى، وذي الشيبة الكبير! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 وداعاً رمضان وهذه صورة مودع -أيها الأحبة- وهو يودع رمضان في آخر ليلة من رمضان، كأني بمودع مفجوع وهو يراقب بعينيه رحيل الحبيب، وقد تلاشى خياله من بعيد، يصرخ فيقول: شهر رمضان، وأين هو شهر رمضان؟ ألم يكن منذ أيام بين أيدينا؟ ألم يكن ملء أسماعنا وملء أبصارنا؟ ألم يكن هو حديث منابرنا؟ ألم يكن هو زينة منائرنا؟ ألم يكن هو بضاعة أسواقنا، ومادة موائدنا، وحياة مساجدنا؟ فأين هو الآن؟ ارتحل وخلفنا، كسيرة أنفسنا، دامعة أعيننا، ثم أخذ ينوح فيقول: أيا شهرنا الكريم! وموسم خيرنا الوسيم، أيا شهر المكرمات! انجابت فيك الظلمات وتضاعفت فيك الحسنات، وفتحت أبواب السماوات، فآه ثم آه على الفراق، أيا شهرنا الذي هيم نفوسنا، وخرق قلوبنا، وأدمع عيوننا، ثم أجهش بالبكاء وفاضت عيناه بالدموع. فقلت: سبحان الله! لكل محب حبيبٌ، ورمضان حبيب الصالحين. تذكرت أياماً مضت ولياليا خلت فجرت من ذكرهن دموع ألا هل لها يوم من الدهر عودة وهل لي إلى يوم الوصال رجوع وهل بعد إعراض الحبيب تواصل وهل لبدور قد أفلن طلوع؟ أيها المسلمون! بعد رحيل شهركم أكثروا من الاستغفار فإنه ختام الأعمال الصالحة، فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار. ويروى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: [الغيبة تخرق الصيام، والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقع فليفعل] . أكثروا من الشكر لله، فإن الله قال في آخر آية الصيام: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] وقال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] وقال: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] فاشكروا الله على إتمام رمضان، وعلى حسن الصلاة والقيام، وعلى الصحة والعافية في الأبدان، وليس الشكر باللسان أيها الأحبة! وإنما هو بالأقوال والأعمال معاً، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. سلام من الرحمن كل أوان على خير شهر قد مضى وزمان سلام على شهر الصيام فإنه أمان من الرحمن أي أمان ترحلت يا شهر الصيام بصومنا وقد كنت أنواراً بكل مكان لئن فنيت أيامك الزهر بغتة فما الحزن من قلبي عليك بفان عليك سلام الله كن شاهداً لنا بخير رعاك الله من رمضان رمضان كان نهارك صدقةً وصياماً، وليلك قراءةً وقياماً، فإليك منا تحيةً وسلاماً، أتراك تعود بعدها علينا، أو يدركنا المنون فلا تئول إلينا، رمضان سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر. ها هو شهر رمضان، رحل عنا بعد أن انقضت أيامه وتصرمت لياليه، ولسان حال الصائم منا يقول: فيا شهر الصيام فدتك نفسي تمهل بالرحيل والانتقال فما أدري إذا ما الحول ولى وعدت بقابل في خير حال أتلقاني مع الأحياء حياً أو أنك تلقني في اللحد بالي أيها الأحبة! هذه مشاعر وتوجيهات عن رحيل رمضان، قصدت تأخيرها بعد رمضان بأيام؛ لنرى ونشعر بالفرق الكبير بين حالنا في رمضان وحالنا هذه الأيام على قلتها، فكيف يا ترى بحالنا بعد شهر وشهرين وأكثر؟! والعاقل اللبيب من جعل رمضان مدرسة لبقية الشهور، رغم أنني أكرر وأؤكد أننا لا نطالب النفوس أن تكون كما هي في رمضان، ولكننا نطالبها بالاستمرار والمداومة على الطاعات والواجبات، وتذكر الله وخوفه والصلة به، ولو كانت هذه الطاعات قليلة، فقليل دائم خير من كثير منقطع. اللهم يا حي يا قيوم إن كان بسابق علمك أن تجمعنا في مثل هذا الشهر المبارك، فاجمعنا فيه يا حي يا قيوم، وإن قضيت بقطع آجالنا وما يحول بيننا وبينه، فأحسن الخلافة على باقينا، وأوسع الرحمة على ماضينا. اللهم تقبل منا رمضان، واعف عنا ما كان فيه من تقصير وغفلة، واجعلنا فيه من الفائزين. اللهم ارحم ضعفنا وتقصيرنا، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، لا حول لنا ولا قوة لنا إلا بك. اللهم لا حول لنا ولا قوة لنا إلا بك فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 أربعون وسيلة لاستغلال رمضان رمضان فرصة عظيمة لطاعة الله؛ سواء من قبل عامة الناس، أو أئمة المساجد والدعاة، أو النساء والصغار؛ ذلك لما له من فضائل وخصائص ومزايا عن غيره من سائر الشهور، ولكن لابد من معرفة الوسائل المعينة على استغلاله، فيا ترى ما هي هذه الوسائل؟ هذا ما ستجده في هذه المادة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 1 أسباب اختيار الموضوع إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أحبتي في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نلتقي في يوم الإثنين الموافق للسابع والعشرين من الشهر الثامن لعام (1414هـ) ومع موضوع بعنوان: ثلاثون وسيلة لاستغلال رمضان، ولعل هذه الوسائل ازدادت بعد الإعلان وتواصل الإخوة بارك الله فيهم جميعاً، فأصبح العنوان: (أربعون وسيلة لاستغلال رمضان) ولعلنا لا نخرج من هذا المكان إلا وقد زيدت هذه الوسائل وهذه الأفكار من قبلكم -إن شاء الله- باقتراحاتكم وآرائكم إلى الخمسين أو فوق ذلك. وهذه الوسائل هي عبارة عن جمع عدد من التوجيهات والأفكار والمقترحات لاستغلال رمضان، ولابد لهذه الوسائل من شرطين حتى تكون الوسيلة صحيحة: أولاً: أن تكون وسيلةً مشروعةً، أي: مباحة. وثانياً: أن تؤدي هذه الوسيلة الغرض المطلوب والمقصود منها. أما أسباب اختيار الموضوع، فمن هذه الأسباب: أولاً: كيف نستغل رمضان؟ وماذا نفعل في رمضان؟ سؤال نسمعه كثيراً من الحريصين والحريصات، ومن بعض أئمة المساجد، ووجود هذا السؤال من المبشرات، فتبقى الإجابة، ومن هذه الإجابة هي جمع هذه الوسائل. سبب ثانٍ: تضييع ليالي رمضان باللهو والسهر، ونهاره بالنوم والكسل، فذكر هذه الوسائل وحصرها توجيهات لمثل هؤلاء، وتشجيعاً لاستغلال رمضان. وسبب ثالث: وهو ترشيداً لهذه الصحوة المباركة، وتوجيهاً لطاقاتها للعمل والعبادة والدعوة إلى الله من خلال هذه الأفكار والوسائل. وسبب رابع: يمر على الإنسان رمضان تلو رمضان، وهكذا تمر الرمضانات بدون رصد للأعمال والمواضيع والمشاريع، وبدون تدارك للأخطاء والتقصير، مما يجعلنا في كل رمضان يأتي نبدأ من جديد، ولا شك أن هذا مضيعة للأوقات والأعمار، فكان هذا الرصد لهذه الوسائل. سبب خامس: لو لم يكن في شهر الصوم إلا أنه أحد أركان الإسلام التي لا يتم إسلام المرء إلا بها، ثم أيضاً أنه العمل -أي: الصيام- الذي اختصه الله سبحانه لنفسه من بين عمل ابن آدم كله، ثم أيضاً فيه ليلة هي أفضل من ألف شهر، وأنه الشهر الذي اختصه الله بنزول القرآن، وأنه شهر المغفرة ومحو الذنوب والسيئات، لو لم يكن في هذا الشهر إلا هذه الأمور لكفاه شرفاً ومنزلة، ولكفانا حرصاً وإصراراً على استغلال أيامه وساعاته وكل لحظة من لحظاته. وهذا الاستغلال منطلق من سنته صلى الله عليه وآله وسلم، فاسمع لـ ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يقول في زاد المعاد في الجزء الثاني صفحة [32] : (فصل: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل عليه الصلاة والسلام يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن، والصلاة والذكر والاعتكاف، وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً؛ ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة) إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. إذاً: فاستغلال هذا الشهر المبارك، بل أقول: استغلال كل لحظة من لحظاته وساعة من ساعاته هو أمر وسنة نبوية، كان صلى الله عليه وآله وسلم يحرص عليها كل الحرص وكان يحث أصحابه. هذه الأسباب الخمسة وغيرها جعلتني أختار مثل هذا الموضوع. وهذه الوسائل -كما ذكرت- هي أربعون وسيلة، وقد قسمت هذه الوسائل إلى أقسام، منها ما هو توجيهات وأفكار عامة، ومنها ما هو وسائل وتوجيهات لأئمة المساجد، ومنها توجيهات وأفكار للجادين فقط، ومنها توجيهات وأفكار في الاهتمام بالقرآن، ومنها توجيهات للمرأة، ومنها وسائل وأفكار للصغار. وتنبيهات قبل أن أبدأ بعرض هذه الوسائل: أولاً: سيكون العرض بالاختصار الشديد في طرح الأفكار والتوجيهات بقدر الإمكان، فأكتفي في بعض الأحيان بذكر المضمون فقط لوضوح الفكرة ولضيق الوقت، فلعلكم -بارك الله فيكم- تعذروننا في سرد هذه الأفكار والتوجيهات، والقصد منها المعرفة والبيان، أما التفصيل فلا شك أن كل فكرة وتوجيه يحتاج إلى درس خاص، وإذا كانت الأفكار أربعين فكرة أو وسيلة، فلو أعطينا كل وسيلة أو فكرة دقيقتين فقط، لرأيتم كيف سيذهب علينا الوقت بدون أن نشعر. التنبيه الثاني: من هذه التوجيهات ومن هذه الوسائل ما هو مكرر ومعلوم ومشهور، لكن ذكرها من باب التذكير والإرشاد ولتكامل الموضوع، ثم للتأكيد عليها في هذا الشهر الكريم الذي تضاعف فيه الحسنات. تنبيه ثالث: هذه الوسائل والأفكار هي للنشر ويجوز فيها الزيادة والنقصان، فحقوق الطبع والنشر فيها ليست محفوظةً، بل هي وقف لله تعالى، فعلى كل داع للخير أن ينشرها ويذكر بها، والدال على الخير كفاعله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 2 توجيهات وأفكار ووسائل عامة نتوجه الآن لهذه الوسائل: توجيهات وأفكار ووسائل عامة، أي: للناس عامة: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 تفطير الصائمين أول هذه الوسائل: هل تحب أن تصوم رمضان مرتين؟ الإجابة تكمن في حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء) رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، والحديث قال عنه الترمذي: حسن صحيح، وهو صحيح كما قال. ولهذا -أي: لهذا الأجر- ولصيام رمضان مرتين كما فهم من تفطير الصائمين صور، من هذه الصور: تفطير الصائمين من المسلمين في الخارج فهل تصدق يا أخي الحبيب! أن عشرة ريالات تفطر صائماً في اليوم الواحد؟ إذاً ففي الشهر ثلاثمائة ريال، فإذا أردت أن تصوم رمضان مرتين فعليك أن تدفع ثلاثمائة ريال وتنال أجر تفطير صائم. ثم صورة أخرى: تفطير الجاليات المسلمة الموجودة في البلد أو المدينة من خلال مساجد الأحياء، وهذه مشهورة في كثير من مساجد وأحياء هذه المدينة، ولكننا نريد المزيد، ونريد أيضاً التخطيط والتنظيم، فلو رافق هذا التفطير التوجيه والإرشاد، وعقد الدروس قبل الإفطار على الأقل بساعة؛ لكان هذا شيئاً جيداً يضاف إلى هذا الإفطار وإلى هذا العمل العبادي. ثم أيضاً لو قامت مكاتب دعوة الجاليات مشكورةً بتبني هذه الفكرة، أقصد بتبنيها عموماً بتخطيط وتنظيم مجدول، يشرف عليها المكتب في جميع مساجد أحياء المدينة، وأيضاً يشرف على الدروس وتوفير المدرسين باللغات المختلفة أو الترجمة، ويصاحب هذا توزيع الأشرطة والرسائل والكتيبات التي تناسب لغة أولئك القوم، ولا شك أن هذا متوفر في هذا الزمن ولله الحمد وبكثرة بجميع اللغات. ثم أيضاً صورة ثالثة: قد يكون التفطير للأقارب والأسر والجيران، وفي هذا صيام -كما ذكرنا- لرمضان مرتين، وفيه صلة رحم وبر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 الإحسان والتصدق الوسيلة الثانية: يكثر المحسنون والمتصدقون في هذا الشهر، والقلوب مهيئة بجميع أبواب الخير، وفي رمضان خاصةً تكثر المناسبات، خاصةً في الإفطار لكثير من الأسر، وهذه المناسبات تجمع أعداداً كبيرةً من الرجال والنساء فلم لا يستغل هذا الجمع؟ كيف؟ يستغل بالبذل والعطاء، ولجمع الصدقات من خلال صناديق صغيرة توضع عند الرجال وعند النساء، ولا شك أن هذا باب عظيم لو جرب لكثير من الأسر والعوائل لوجدنا خيراً كثيراً. وقد جربه -كما أشرت في بعض الدروس- أحد الشباب ونجح نجاحاً باهراً مع أسرته، فجمع أموالاً، نسأل الله جل وعلا أن يجزيه عنا وعن المسلمين خير الجزاء. فلعل هذا الأمر أن يجرب، فإن حال المسلمين اليوم في كل مكان وفي كل صقع من أصقاع المعمورة حالة يرثى لها، وإن كان هناك كثير من المبشرات ولله الحمد والمنة، ولكننا أيضاً نريد أن نشعر بالجسد الواحد، وأن نقف مع المسلمين وقفةً صادقةً؛ لنكون كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك المثل في (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) . ولا بأس أن يكتب حتى تتجه النية للمتصدق على هذه الصناديق، إما للفقراء والمساكين في الداخل، أو يكتب عليها -أيضاً- للمسلمين في الخارج، أو ما شابه ذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 استغلال آخر كل أسبوع من رمضان الوسيلة الثالثة: استغلال آخر كل أسبوع من رمضان، فرمضان أربعة أسابيع، نريد من الشباب أصحاب السواعد الفتية والعضلات القوية، نريد منهم في نهاية كل أسبوع من أسابيع رمضان أن يتجهوا للقرى والهجر لتوزيع الإعانات وإطعام الطعام والقيام على المساكين في تلك القرى والهجر، وتوعية أهلها عبر الكلمات وخطب الجمع، وتوزيع الأشرطة والرسائل. نتمنى حقيقةً أن نجد من أصحاب الهمم والسواعد الفتية، ومن شباب الإسلام، وممن تعلق قلبه بالجنان؛ ألا يترك أسبوعاً من أسابيع رمضان في هذا الشهر إلا وتنطلق فئات الشباب محملون بكل خير، ولو نظم هذا الأمر أيضاً وخطط له وطرح بقوة، ورتب له من قبل مكاتب الدعوة والجمعيات الخيرية؛ لرأينا شبابنا أفواجاً، فإننا نحسن الظن كثيراً ولله الحمد والمنة بهم، وقد رأينا كثيراً من نشاطاتهم. ولكننا نريد أن نستغل توجه القلوب إلى الله جل وعلا في هذا الشهر المبارك، فلا نريد الخمول والكسل، والجلوس بين الأولاد والأزواج، وترك هذا الأمر العظيم، وندع كثيراً من المسلمين ومن أهل البادية في جهل عظيم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 زيارة أماكن تجمع الشباب من قبل الدعاة الوسيلة الرابعة -وهي من الاقتراحات العامة-: الزيارات من قبل الدعاة وطلبة العلم والصالحين ومحبي الخير من شباب الصحوة للأرصفة وتجمعات الشباب، والجلوس معهم، وتقديم الهدايا والأشرطة والكتيبات لهم، فإن هؤلاء الشباب يشكون هجركم أيها الأحبة! بل ويتهمونكم بالتقصير، بل وأنكم سبب كبير في غفلتهم وبعدهم عن الله، كما ذكر ذلك كثير منهم، ويعتذرون بالخجل والحياء منكم، وإلا لجاءوا بأنفسهم إليكم كما قال كثير منهم أيضاً. وأتمنى كذلك لو قامت مكاتب الدعوة والإرشاد بالإعلان عن مثل هذا المشروع قبل رمضان، وتسجيل الأسماء وترتيب جدول للزيارات، ويكون ذلك -كما ذكرت- قبل دخول شهر رمضان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 إبعاد الأهل عن وسائل الإعلام وسيلة خامسة: -وهي من التوجيهات العامة أيضاً-: إذا كنت ممن ابتلي ببعض وسائل الإعلام في بيته، فلماذا لا تفكر يا أخي الحبيب! ويا ولي الأمر! لماذا لا تفكر بعقد هدنة مع أهلك وأولادك خلال هذا الشهر المبارك بهجرها والابتعاد عنها وعزلها؟ وذلك بالترغيب، وبالكلمة الطيبة، وبالتذكير بعظمة هذه الأيام، على الأقل خلال هذا الشهر، ولعلها -إن شاء الله- أن تكون بداية الهداية، ولا شك أن رمضان من أعظم المناسبات لتربية النفوس، وإن لم تستطع خلال هذا الشهر أن تعزل أهلك ولو لشهر واحد من السنة، فمتى إذن؟ خاصةً وأن النفوس -كما ذكرنا- مهيئة والشياطين مصفدة. فحاول يا أخي الحبيب! واستعن بالله تعالى، وكن صادقاً من قلبك، ستجد -إن شاء الله- العون وستجد الإجابة والإعانة من الأهل والأولاد، بل وستجد -إن شاء الله- الإعانة ممن يكونون حولك من أهل الحي، فعلَّنا نرى هذه صفة مميزة؛ خاصة وأننا نرى في شهر رمضان تخطيط أعداء الإسلام لأولادنا ونسائنا، لا أعلق ولكني أقول: انظروا إلى البرامج المنشورة في وسائل الإعلام هذه الأيام؛ أقصد برامج شهر رمضان؛ فسوف تجدون عجباً. وأيضاً أتمنى أن تفكر كثيراً بأن تتوقف في هذا الشهر المبارك عن شراء المجلات والجرائد، حتى ولو كانت مباحة، فإن السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، ومن سار على نهجهم كانوا يهجرون حلق التحديث والتعليم؛ ليتفرغوا في رمضان لقراءة القرآن والنظر فيه والعبادة ولقيام الليل أفلا نستطيع أن نهجر الجرائد والمجلات خلال هذا الشهر فقط؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 استغلال أفضل الأوقات للدعاء الوسيلة السادسة: أوقات الإفطار وقبل الأذان بدقائق لحظات ثمينة ودقائق غالية، هي من أفضل الأوقات للدعاء وسؤال الله سبحانه وتعالى، وهي من أوقات الاستجابة كما تعلمون، والعبد صائم مقبل على الله منكسرة نفسه، ومع ذلك يغفل كثير من الناس عن هذه اللحظات؛ خاصةً الأسر عند الاجتماع على الإفطار، بالحديث وبالذهاب والإياب وتجهيز وجبات الإفطار. فلماذا لا نتذاكر -أيها الأحبة- بفضل استغلال هذه اللحظات والحرص عليها، برفع الأيدي والأكف والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى؟ راقب هذه اللحظات وستجد الغفلة العجيبة من كثير من الناس، والعجيب -أيضاً- أننا نرى التجمعات والجلسات في الطرقات وعند الأبواب من بعض الشباب، بل أقول: أيضاً من بعض الآباء، وإذا مررت بأحد الشوارع فانظر يمنةً ويسرةً ستجد تلك التجمعات، وتستمر وللأسف هذه التجمعات حتى قبيل الغروب إن لم يكن إلى الأذان سبحان الله! هذه اللحظات الغالية، أوقات الدعاء والاستجابة والتفرغ يغفل عنها أهل التوحيد، وكلنا بحاجة إلى الله جل وعلا وسؤاله سبحانه وتعالى، والموفق من وفقه الله تعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 بر الوالدين والقرب منهما الوسيلة السابعة: بر الوالدين والقرب منهما في هذا الشهر، وقضاء حوائجهما وطاعتهما، ومحاولة الإفطار معهما، فبعض الشباب تجده كثير الإفطار في بيته أو عند أصحابه، ولا يجلس مع والديه أو يفطر معهما إلا قليلاً، ولا شك أن برهما من أعظم القربات والعبادات إلى الله تعالى، كيف لا وقد قرن سبحانه وتعالى حقهما بتوحيده وعدم الإشراك به جل وعلا؟ ومن صور التقصير -أيضاً- في حق الوالدين خلال هذا الشهر المبارك، أنك قد تجد الفتاة تكثر من النوم في النهار والسهر في الليل، أو حتى في الخروج، أو نقول: حتى في قراءة القرآن، والأم لوحدها في المطبخ لإعداد الوجبات للفطور والسحور، وربما لو أن الأم أمرت أو نهت تلك الفتاة، لوجدت أن تلك الفتاة صاحت وانهالت على أمها بالكلام، ونغفل عن هذه العبادة العظيمة التي يجب أن نحرص عليها لاستغلال هذا الشهر المبارك، ولا شك أن الأجر مضاعف في هذا الشهر، فلعل مثل هذا الأمر ينتبه إليه إن شاء الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 النوم المبكر لاستغلال الأوقات الفاضلة الوسيلة الثامنة: النوم في ليالي رمضان يعين كثيراً على استغلال كثير من الأوقات الفاضلة؛ كبعد صلاة الفجر مثلاً، أو قبل السحر، ونحن نرى المساجد بعد صلاة الفجر بدأت تهجر، بعد أن كانت في رمضانات مضت تمتلئ بالتالين والذاكرين، مما يشجع كثيراً من الناس على المكث بعد صلاة الفجر في المسجد مع الناس، لكننا نرى المساجد في مثل هذا الوقت وهي شبه خاوية، لسرعة خروج المصلين، ولو أن الإنسان نام شيئاً في ليالي رمضان لكسب الكثير من الأوقات، ولأحيا هذه السنة المباركة في الجلوس بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 11 مجاهدة النفس على ترك المعاصي الوسيلة التاسعة -وما زلنا في التوجيهات والأفكار والوسائل العامة-: إذا كنت ممن ابتلي بمعصية أو فتنة، واعتادت عليها النفس وألفتها، وأصبح الفراق عليها صعباً وثقيلاً؛ فإن رمضان فرصة عظيمة للصبر والمصابرة، ومجاهدة النفس عن تلك الفتنة، فالشياطين مصفدة، والنفس منكسرة، والروح متأثرة، والناس من حولك صيام قيام، إذاً فالأجواء والظروف كلها مهيئة للابتعاد وهجر هذه الفتنة وهذه المعصية. فمثلاً: التدخين، فرمضان فرصة عظيمة للمدخنين في هجر وترك التدخين وتدريب النفس على الابتعاد عنه، وكذلك العادة السرية التي يشكو منها كثير من الشباب، وكذلك مشاهدة الحرام، أو الغيبة، أو النجوى، أو استماع الغناء، أو بذاءة اللسان، أو غيرها من الابتلاءات، نسأل الله جل وعلا أن يحفظنا وإياكم، وأن يعين أصحابها على هجرها وتركها. فأقول لك يا أخي الحبيب: استعن بالله سبحانه وتعالى، وكن صاحب عزيمة وهمة عالية، فلا تغلبك تلك الشهوة أيجوز أن تكون مسلماً موحداً وتغلبك سيجارة؟! والله إن هذه هي الدناءة، نسأل الله العافية! ثم أيضاً عليك بالإكثار من الدعاء والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى فإنه خير معين، واصبر وصابر واحتسب، وحاسب النفس، وستجد -إن شاء الله- أنك تغلبت على هذه الشهوات المحرمة. واسمحوا لي -كما ذكرت- بأن أواصل وباختصار وبسرعة لهذه الوسائل وهذه الأفكار، وكما ذكرت أنها بلغت أربعين، لعلنا -إن شاء الله- أن نأتي عليها وبدون أن يضايقنا الوقت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 12 استعمال السواك الوسيلة العاشرة: السواك سنة مؤكدة في كل وقت في رمضان لعموم الأدلة، لكنها كغيرها من العبادات في مضاعفة الأجر وطلب الثواب لمناسبة الزمان، وهي من أهم أبواب الخير التي يغفل عنها أيضاً في رمضان. ومنافع السواك كثيرة، وفيه من الأجر والثواب العظيم، ولكن -كما ذكرنا- يغفل عن هذا الكثير خاصةً من النساء، فإنك لا تكاد ترى أو تسمع هذه السنة بين النساء، وأنت تنظر لزوجك أو بناتك أو أخواتك، وترى قلة وجود السواك بين الأصابع، وقد كانت كثير من الصالحات من الصحابيات رضوان الله تعالى عليهن، وأيضاً من غيرهن ممن سار على نهج سلفهن يداومن على هذه السنة. ومن الطريف أن علياً بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه دخل يوماً على زوجه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوجد في فيها عوداً من الأراك، فأراد أن يداعبها، والشاهد أنها كانت تستاك رضي الله عنها، وهذه قصة ومثال نسوقه لأخواتنا من الصالحات ومن بناتنا لعلهن -إن شاء الله- أن يقتدين بتلك الصالحات؛ فأراد أن يداعبها رضي الله تعالى عنه، فقال لها هذين البيتين الجميلين وهو يخاطب عود الأراك: [ لقد فزت يا عود الأراك بثغرها أما خفت يا عود الأراك أراكا؟ لو كنت من أهل القتال قتلتك ما فاز مني يا سواك سواكا ] وهذه من مداعبة الأزواج لزوجاتهم. ولو قام بعض أهل الخير والمحسنين بتوفير أعداد كبيرة من السواك في هذا الشهر المبارك وتوزيعها على المساجد بين المسلمين خلال هذا الشهر؛ لكان ذلك إحياء لسنة غفل عنها كثير من الناس. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 13 العمرة في رمضان أيضاً من الوسائل العامة: العمرة في رمضان، فالعمرة في رمضان تعدل حجةً -أي: في ثوابها- ومع ذلك يصر كثير من المسلمين أو من الناس على أن تكون في العشر الأواخر من رمضان، ولا شك أن هذا يضاعف الأجر، إلا أننا بالنظر إلى بعض الأحوال؛ كالغلاء الفاحش في المساكن هناك، ووجود النساء وتبرجهن، والازدحام في الحرم، وكثرة المتسكعين بالأسواق المجاورة للحرم، وأيضاً ازدحام الناس بشدة، كل هذه الظروف تجعلنا نقول: لعلنا أن نحرص على العمرة في أوائل أيام شهر رمضان دفعاً لهذه الأمور، ولا شك أنه من الأنسب، خاصةً إذا نظرنا لهذه الظروف أن تبتعد عن العشر الأواخر في العمرة. ثم -أيضاً- قضاء العمرة في العشرين الأولى يتيح لك فرصة استغلال العشر الأواخر بالاعتكاف، أو نفع المسلمين، أو القيام على الأهل وحاجاتهم والوالدين والجلوس معهما، أو حتى -كما ذكرنا- في نفع المسلمين في الوقت الذي ارتحل فيه كثير من الدعاة والمصلحين وطلبة العلم عن أحيائهم وتركوا مساجدهم بدون موجه أو مرشد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 14 إمامة الناس في القرى والهجر ودعوتهم وتوجيههم الوسيلة الثانية عشرة من الأفكار والاقتراحات العامة: توجه بعض الشباب ليؤموا الناس في القرى والهجر، وللدروس والتوجيه، وهذه تختلف عن الوسيلة الأولى؛ لأن الوسيلة الأولى فقط في نهاية الأسبوع للتوزيع وإطعام الطعام، ولا بأس بالخطب كما ذكرنا، ولكن هذه الفكرة هي أن يتوجه عدد كبير من الشباب إلى القرى والهجر خلال هذا الشهر ليؤموا الناس هناك، ولإلقاء الدروس، وإرشاد الناس وتوجيههم، فإن الجهل هناك عظيم كما تعلمون، فكم من المسلمين في هذه الأماكن لا يجدون حتى من يصلي بهم، وإن وجدوا فخذ اللحن والأخطاء الجلية في كتاب الله جل وعلا، وإن وجدوا أيضاً من يقرأ ويصلي بهم فإنهم لا يجدون الموجه الذي يبين لهم كثيراً من الأحكام ومن الفقه في أمور دينهم. ولو نظرنا لسيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل مكثوا في المدينة؟ لا. بل إنك تجد أنه ما مات منهم بـ المدينة إلا عدد قليل، كلهم توجهوا شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً لبث الدعوة، ونشر الإسلام وتفقيه الناس، فقد يتثاقل بعض الشباب عن مثل هذا الأمر، فأقول: لا بأس بالتعاون؛ بالتناوب بين بعض الشباب لسد هذه الأماكن وحاجاتها، ولو في القرية الواحدة والهجرة الواحدة، يتناوب عليها ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو أقل أو أكثر. ولو قامت -أيضاً- مكاتب الأوقاف لشئون المساجد بالتعاون مع مكاتب الدعوة والإرشاد؛ بالتخطيط والتنظيم لهذه الفكرة، وقام المحسنون أيضاً برصد المكافآت المالية لأولئك الشباب المحتسبين، لوجدنا ورأينا أثر هذا الأمر على تلك المناطق. وقد سمعت -ولله الحمد- أن وزارة الشئون الإسلامية ممثلةً بمكاتب الأوقاف وشئون المساجد، قد وضعت مكافأةً ماليةً قدرها ألفا ريال لأولئك الذين يؤمون الناس في تلك المساجد الشاغرة، سواءً في داخل المدينة أو في غيرها. فما هو عذركم أيها الشباب أمام الله والسبل كلها مهيئة؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 15 استغلال عصر كل خميس من رمضان للدعوة الوسيلة الثالثة عشرة والأخيرة من التوجيهات والوسائل العامة، وهو اقتراح آخر لمكاتب الدعوة أيضاً، وعندما أقول: لمكاتب الدعوة راجياً أن ينتفع من هذه الوسائل الناس عموماً؛ سواء في هذه المدينة أو في غيرها، فأقول: هذه الوسيلة أو هذه الفكرة هي: استغلال عصر الخميس من كل أسبوع من رمضان، وكيف يكون هذا الاستغلال؟ يكون مثلاً في إقامة المحاضرات العامة، أو الندوات، أو المسابقات الثقافية الكبرى. ولماذا عصر الخميس بالذات؟ لأن الناس في إجازة، وقد أخذوا قسطاً كبيراً من الراحة، ثم الناس أيضاً في عصر الخميس تجد أنهم متفرغون لا شغل لهم، فيقبلون -لا شك- على مثل هذه المشاريع عندما يسمعونها، وعندما تتبنى من مكاتب الدعوة ويعلن عنها، فهل نرى ذلك قريباً؟ إن شاء الله! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 16 توجيهات وأفكار ووسائل لأئمة المساجد ندخل الآن في توجيهات وأفكار ووسائل لأئمة المساجد، وهذه التوجيهات والأفكار لأئمة المساجد عددها تقريباً إحدى عشرة وسيلة، فلينتبه أئمة المساجد بارك الله فيهم، فإن المسئولية عليهم عظيمة، ووالله يا أيها الأحبة! لو أن أئمة المساجد قاموا بشيء من واجبهم لوجدنا التحول الكبير، لا أقول في المدن، بل في كل مكان. ويتصور بعض أئمة المساجد أن الوظيفة هي الصلاة بالناس وينتهي الأمر، لا والله، بل إن الأمر عظيم، والمسئولية أشد، ولذلك على هؤلاء الأخيار أن يتموا هذا العمل، ولعل هذه الأمور أن تعينهم إن شاء الله. فهذه التوجيهات لأئمة المساجد في استغلال هذا الشهر المبارك لنفع الناس بكل وسيلة، ومنها: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 17 الحديث إلى الناس بعد صلاة العصر والاهتمام به الوسيلة الرابعة عشرة: الاهتمام بالحديث بعد صلاة العصر؛ وذلك بتنويعه والتجديد فيه، فتارةً مثلاً بأحكام الصيام، وتارةً في الرقائق، وتارةً بأخطاء يقع فيها الناس، وتارةً بفتح الحوارات مع المصلين والآباء وكبار السن، وليس شرطاً أن يكون الحديث دائماً من الإمام، بل يكون أحياناً باستضافة بعض طلبة العلم أو الدعاة في بعض الأيام. وأقول: لماذا يا أيها الإمام! يا من توليت هذه المسئولية! لماذا لا تضع خطةً كاملةً لشهر رمضان في المواضيع والمشاريع التي ستعملها خلال هذا الشهر؟ بدلاً من اللامبالاة وعدم الاهتمام والتخبط في المواضيع التي يقرؤها بعض الأئمة على جماعتهم، أو القراءة من أي كتاب قريب لديه، بدون إعداد ولا تعليق، بل تعال واسمع لكثرة الأخطاء واللحن في كثير من النصوص. ولا تجزع إذا لم تعط طاعةً، وإذا لم يكن يقدر لك قدر أيها الإمام! مادمت لا تبالي ولا تهتم بهؤلاء الناس الذين أمامك، لكن افعل ذلك وستجد التكريم والتقدير من جماعة المسجد، والاحترام الذي فرضه عليهم حبك لله سبحانه وتعالى ونشر هذا الدين، فضلاً عن الأخلاق وما يرونه من نشاط ومن عمل تقوم أنت به. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 18 تعليم الناس أحكام الصيام الوسيلة الخامسة عشرة، وهي الثانية بالنسبة للأئمة: لم لا يقرأ الإمام على جماعته كتاب الصيام من أحد كتب الفقه المعتمدة؛ كـ الزاد مثلاً أو المغني، أو العدة، أو غيرها من كتب الفقه المتعمدة؟ فالناس بحاجة عظيمة للتفقه في شهرهم، وهذا ركن عظيم من أركان الإسلام، وكثيراً ما يجهل الناس كثيراً من الأحكام، فلماذا لا تأخذ عهداً على أن تبدأ من أول يوم في رمضان إلى آخر يوم بتقسيم كتاب الصيام؟ ولا بأس من بعض التوجيهات أو الشروح عليه من خلال بعض الشروح الموجودة. وليس شرطاً أن يكون بعد صلاة العصر، فاجعل ما بعد صلاة العصر للمواضيع العامة، وقد يكون بعد صلاة الفجر؛ خاصةً أنه بعد الصلاة، ومن أراد أن يجلس فليجلس، ومن أراد أن يذهب فليذهب، ولو لم يبق بعد صلاة الفجر إلا واحد أو اثنان معك لكفى؛ فهو تفقيه للنفس، وجلوس في المسجد إلى شروق الشمس، وعلم ينتفع به. أو بعد صلاة الظهر، أو ما شئت من الأوقات، ولكن هذا مجرد اقتراح، فنسأل الله أن نراه قريباً في مساجدنا من خلال أئمتنا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 19 وضع صندوق للفتاوى والأسئلة عند الرجال والنساء الوسيلة السادسة عشرة: وضع صندوق للفتاوى والأسئلة عند الرجال والنساء؛ خاصةً في هذا الشهر، ثم جمعها وإعداد الإجابات عليها كل فترة، فإن لدى الناس كثيراً من الأسئلة؛ لتفقيههم في أمور دينهم، لكنهم لا يجدون من يسألون، أو يتهاونون ويتكاسلون في ذلك. ومثل هذه الصناديق، لا شك أنها ستكون -إن شاء الله- عوناً وميسراً لهم لكثير من المسائل والاستفسارات، وجرب هذا وستجد أثر ذلك لا شك من خلال جمع الأسئلة والاستفسارات من خلال هذه الصناديق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 20 الاهتمام بلوحة الإعلانات والتوجيهات بالمسجد الوسيلة السابعة عشرة: الاهتمام بلوحة الإعلانات والتوجيهات بالمسجد، أقول: الاهتمام بها والتجديد فيها، والإثارة بالمواضيع، والدعاية والإعلان الملون وغيره، فإن هذه من أهم الوسائل لتوجيه وتفقيه الناس. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 21 توزيع الأشرطة والكتيبات الوسيلة الثامنة عشرة: توزيع الأشرطة والكتيبات، ولو ليوم واحد في الأسبوع، واستغلال المناسبات التي يكثر فيها المصلون، وإن لم يكن هذا دائماً وفي كل أسبوع؛ فلا أقل من أن تقدم هديةً تسمى بهدية رمضان لأهل الحي، مكونةً من شريط ورسالة أو كتيب، وبعض الأحكام والنشرات لعلمائنا الموثوق بهم، ترسل إلى بيوت الأحياء، معنوناً لها ب (هدية رمضان) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 22 إقامة مسابقات رمضانية للأسرة المسلمة الوسيلة التاسعة عشرة: إقامة مسابقة الأسرة المسلمة، وتعلن في بداية شهر رمضان، وتوزع الجوائز في آخر ليلة وهي ليلة العيد -وسيأتي أيضاً بعض مثل هذه الاقتراحات التي ستجمعها ليلة العيد- فأقول: لماذا نجعل وسائل الإعلام من جرائد ومجلات وتلفاز وغيرها تسيطر على عقول وأفكار بناتنا وإخواننا وشبابنا بأسئلة أنتم أعلم بها، انظروا للجرائد، وانظروا واسمعوا الأسئلة التي تدار في وسائل الإعلام بأنواعها، وستجدون عجباً في صرف الناس عن أمر دينهم، إلا من بعض الأسئلة. فأقول: لماذا لا يستغل المسجد أيضاً لطرح مثل هذه المسابقات؟ بعنوان: (مسابقة الأسرة المسلمة) توزع على أهل الحي، ويشارك فيها الجميع كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، ثم تعلن النتائج في آخر ليلة من رمضان. ولا بأس أن يشارك المأمومون من الناس في الحي أو في المسجد كل بما يستطيع هذا بإعداد الأسئلة، وهذا بتوزيعها من الصغار، وبعض التجار والمحسنين برصد مبالغ للجوائز في ليلة رمضان، وهكذا يتكاتف المسلمون في إحياء شهرهم، وأيضاً في تحريك وتوجيه وتفقيه أولادهم وبناتهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 23 استضافة الدعاة لإلقاء خواطر بعد الصلوات الوسيلة العشرون: استضافة بعض الدعاة وطلبة العلم في بعض الأحيان، لتوجيه كلمات يسيرة لبضع دقائق، وذلك كبعد التراويح مثلاً، أو بعد صلاة العصر، أو غيرها من الأوقات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 24 دعوة أهل الحي للاعتكاف في المسجد الوسيلة الحادية والعشرون: دعوة أهل الحي أو جماعة المسجد للاعتكاف ولو ليوم واحد؛ لإحياء هذه السنة، وللألفة والترابط بين جماعة المسجد الواحد، فيحدد يوم في بداية العشر ويقال لجماعة المسجد: من أراد أن يشارك في الاعتكاف فإننا -إن شاء الله- ننوي أن نعتكف في مسجدنا ليلة كذا، فإن هذا فيه خير عظيم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 25 دعوة أهل الحي للإفطار في المسجد الوسيلة الثانية والعشرون: دعوة أهل الحي وجماعة المسجد للإفطار في المسجد، ولو ليوم أيضاً واحد خلال الشهر، فإن هذا يزيد الألفة والمحبة والترابط بين جماعة المسجد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 26 دعوة المتهاونين في صلاة الجماعة في غير رمضان الوسيلة الثالثة والعشرون: اغتنام فرصة وجود المتأخرين عن صلاة الجماعة، أي: المتأخرين في غير رمضان، لأنهم يحافظون على الصلاة في رمضان، وبئس رجل لا يعرف الله إلا في رمضان. فأقول: إن اغتنام فرصة وجود هؤلاء والذين لا نراهم إلا في رمضان، وذلك بكثرة السلام عليهم، والتودد لهم بزيارتهم وبإهدائهم بعض الهدايا، لإبعاد الوحشة والنفرة التي يظنونها، أو التي يوقعها الشيطان في قلوبهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 27 إقامة حفل مصغر بمناسبة العيد لأهل الحي الوسيلة الرابعة والعشرون: إقامة حفل مصغر بمناسبة العيد لأهل الحي، ليكن مثلاً في ليلة العيد، أو في أي وقت يراه جماعة المسجد، وذلك لأهل الحي، وتوزع فيه جوائز المسابقات المعلنة والتي ذكرنا منها شيئاً، وسنذكر بعد قليل شيئاً منها، والهدايا على الصغار والكبار، ولا شك أن إقامة مثل هذا الأمر ستجد فيه إحياءً لأهل الحي وترابطاً عجيباً، وألفةً ومحبةً بين جماعة المسجد الواحد. وسائل وأفكار وتوجيهات في الاهتمام بالقرآن، وهي تقريباً أربع وسائل: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 28 وسائل ومقترحات للاهتمام بالقرآن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 29 إقامة حلقات لتصحيح قراءة القرآن الوسيلة الخامسة والعشرون: نسمع كثيراً ممن يقرءون القرآن في المساجد من العامة، بل ومن الموظفين وغيرهم، وهم كحاطب ليل في القراءة، وقد يسمعه من بجواره يخطئ ويلحن، ومع ذلك يخجل من تقويمه والرد عليه، فيظل كثير من الناس على حالهم مع كتاب الله في لحنهم وأخطائهم. فأقول: لماذا لا تقوم جماعات المساجد وأئمة المساجد بإحياء حلقات للكبار لتحسين التلاوة، لا نقول للحفظ وإنما لتحسين التلاوة، ويكون ذلك بعد صلاة الفجر أو الظهر أو العصر، أو غيرها من الأوقات المناسبة التي يتفقون عليها، وإعلان ذلك لجماعة المسجد وحثهم على المشاركة خلال شهر رمضان، وستكون هذه بداية خير لكثير ممن يشارك في مثل هذه الحلقات فهل نرى ونسمع هذه الإعلانات من أئمة المساجد لتطبيق هذه الفكرة؟ فلا شك أن في ذلك خيراً كثيراً لو وجدنا مثل هذه الأمور منتشرة في مساجد أحيائنا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 30 توجيه الآباء لعقد حلقات قرآنية مع أهلهم الوسيلة السادسة والعشرون: نحن نرى أيضاً كثيراً من الآباء يجلسون بعد صلاة العصر لتلاوة القرآن، وهذا لا شك أنه أمر محمود، نسأل الله عز وجل ألا يحرمهم الأجر، ولكن لو سألته وقلت له: أين أولادك الآن؟ ماذا تفعل بناتك الآن في البيت؟ ربما لا يعلم، وربما أنهم نيام، وربما أنهم أمام التلفاز، وربما في الشارع، أو في غيرها، فنقول: لم لا يتوجه الأب بعد صلاة العصر مباشرةً إلى بيته، فيعقد حلقةً لتلاوة القرآن مع أولاده وبناته، ويرصد للاستمرار فيها - أي: الاستمرار في هذه الحلقات الخاصة مع أولاده وبناته- يرصد لأولاده ومن يرى منهم حرصاً عليها وعلى الاستمرار فيها جوائز وهدايا تشجيعاً لهم. وبهذا العمل تحصل مكاسب عظيمة، من هذه المكاسب: أولاً: حفظ الأولاد من البرامج المسمومة الموجهة لهم، وقتل أعظم أيامهم وأفضلها. ثانياً: مشاركة البنات اللاتي يذهبن ضحية الغفلة عن تربيتهن والمحافظة على أوقاتهن. ثالثاً: إحياء البيت بذكر الله، وملؤه بالجو الإيماني الروحاني، بدل إماتته وملئه بالأغاني وبرامج التلفاز ومسلسلاته. رابعاً: الارتباط الأسري الوثيق بين الأب وأولاده وبناته. خامساً: محاولة ختم القرآن لأهل البيت جميعاً، واستغلال رمضان من جميع أهل البيت، وغيره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 31 قراءة القرآن بتدبر مع الرجوع إلى التفسير يمر علينا رمضان تلو رمضان، وربما ختمنا القرآن كثيراً بالقراءة، وربما كان هم أحدنا متى يصل لنهاية السورة، ومتى يصل إلى نهاية القرآن، فأقول: لماذا لا أضع خطةً خلال هذا الشهر أن أقرأ القرآن بتدبر ونظر، والوقوف مع آياته بالرجوع إلى كتب التفسير، وتقييد الخواطر والفوائد منها، فنتمنى أن نرى شبابنا في المساجد يقرءون القرآن وبجوارهم كتب التفاسير، ينظر لهذا تارةً ولهذا تارة. ونغفل أيضاً عن الأحاديث الرمضانية والنظر فيها، وفي شروحها، وتقييد الشوارد والفوائد منها، فإنه يفتح على الإنسان في الشهر ومناسبة الزمان ما لا يفتح عليه في غيره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 32 استخدام برامج ووسائل دعوية في أماكن تجمعات الشباب الوسيلة الثامنة والعشرون: وهي مقدمة للتجمعات والشلل الشبابية، سواءً على الأرصفة، أو في الاستراحات، أو في الخيام أو في غيرها، والتي تقضى ساعات الليل في لعب الورق تارةً، وفي لعب الكرة تارةً أخرى، وفي الاسترخاء ومشاهدة التلفاز تارة، وفي الأحاديث والثرثرة تارةً، وهكذا تقتل ليالي رمضان بدون أي استشعار لعظمة هذه الأيام وفضلها. فأقول لهؤلاء الشباب: لماذا لا يفكر هؤلاء الشباب ولو في ليالي رمضان من إدخال بعض البرامج النافعة؟ نتمنى أن يغير البرنامج كاملاً، ولكن لن يستجاب لنا بهذا الطلب؛ فأقول: لماذا إذاً لا يفكر بإدخال بعض البرامج النافعة؟ ولا ينكر على هؤلاء الشباب أيضاً بإدخال بعض هذه البرامج. مثلاً: لماذا لا يكون من البرنامج الليلي الذي سمعتوه قبل قليل؛ ما بين لعب كرة، ولعب ورقة، وثرثرة، ومشاهدة تلفاز أو غيره، لماذا لا يكون على الأقل ولو لمدة نصف ساعة قراءة القرآن، وضع من ضمن البرنامج قراءة قرآن لمدة نصف ساعة؟ أم أننا نقول كما يقول بعض الشباب: إن قراءة القرآن لا تصلح إلا للمطاوعة!! أذكر أنني طرحت هذه الفكرة على طلابي في الكلية، وقلت: لماذا لا يتجرأ أحدكم على زملائه ويقول: لنحرص يا شباب على أن نجلس نصف ساعة مع كتاب الله سبحانه وتعالى نقرأ؟ القرآن ليس حكراً على الصالحين، القرآن دستور الله جل وعلا، وكتاب الله سبحانه وتعالى، وهو لنا جميعاً، وإن عصينا وأذنبنا، وإن وقعنا في كبائر الذنوب، فإن من يقع في ذلك أيضاً يقرأ القرآن وينظر فيه، فإذا كنا نريد أن نضع في برنامجنا ولو شيئاً قليلاً من الفائدة، فلماذا لا نقترح على هؤلاء الشباب، أو يقترح بعضهم على بعض أن يكون من البرنامج ولو لنصف ساعة قراءة القرآن، أو استماع شريط، أو غيرها من البرامج الجادة النافعة، فإنه -كما ذكرنا- حب القرآن وقراءته والإقبال عليه ليس حكراً على الصالحين فقط، فهل نرى ذلك -إن شاء الله- بين شبابنا قريباً؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 33 وسائل وتوجيهات للجادين من التوجيهات أيضاً ومن الوسائل وهي الآن توجيهات ووسائل للجادين فقط، من هذه التوجيهات لهؤلاء الجادين نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياهم ما يأتي: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 34 الالتزام والجدية في تصحيح الخطأ نقول: لو نظرنا لأنفسنا وحرصنا على الصلاة والتبكير إليها، لوجدنا التقصير الواضح بل أقول المخجل والله، خاصةً منا نحن ممن يدعي الجدية والالتزام، فلم لا يكون رمضان فرصةً عظيمةً للمحاولة في تصحيح هذا الخطأ، وذلك بمعاهدة النفس ألا تفوتني تكبيرة الإحرام أبداً خلال هذا الشهر، ثم حاول أن تحسب -إن فاتتك- كم من المرات فاتتك تكبيرة الإحرام في شهر رمضان، ولعلك أن تنجح -إن شاء الله- في تصحيح هذا الخطأ. ثم أيضاً: لماذا لا نحرص على تطبيق اليوم الإسلامي الكامل خلال رمضان؟ وذلك بالحرص على النوافل، والطاعات، وإحياء السنن، فلا تفوت عليك السنن الرواتب خلال هذه الثلاثين يوماً أبداً، احرص على ألا تفوت عليك سنة من السنن الرواتب خلال هذا الشهر كاملاً. ولا تغفل عن لسانك وحبسه من الغيبة والنجوى وغيرها، وأيضاً لا تغفل عن صلاة الليل وقيامه، وقراءة جزء واحد من القرآن على الأقل، أو الحرص على الصدقة، وصلة الرحم، وقضاء حاجات الناس؛ خاصةً الفقراء والمساكين، وزيارة المرضى والمقابر، والاستغفار والدعاء في كل لحظة، بل أقول: في كل ساعة، فإن هذه غنيمة باردة، وهذا الشهر فرص ومواسم تذهب ولا ترجع. وباختصار أقول لك يا أخي الحبيب! احرص على كل عمل صالح، وإن كنت تفعل ذلك في غير رمضان فإنه يتأكد في شهر رمضان لمضاعفة الحسنات ولمناسبة الزمان، وفقنا الله وإياك للعمل الصالح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 35 الدعوة بين الطلاب والزملاء الوسيلة الثلاثون هي للجادين فقط: أقول: لماذا لا يستغل تصفيد الشياطين، وفتح أبواب الجنان، وإغلاق أبواب النيران، وانكسار النفوس، ورقة القلوب في هذا الشهر في توجيه طلابنا وزملائنا في الفصول والقاعات الدراسية، وذلك بعد صلاة الظهر مثلاً، أو في أماكن العمل والدراسة؟ فأين الكلمة الصادقة الناصحة في نهار رمضان من المدرس لطلابه، أو من الطالب أو الموظف لزملائه؟ أين الجلسات الانفرادية بالزملاء الغافلين، والتحدث معهم ونصحهم باستغلال شهر رمضان هذه الأيام، وإهداؤهم الشريط أو الكتاب، أو غير ذلك من الهدايا النافعة؟ فإن النفوس -كما ذكرنا- مهيأة، ورغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك رمضان فلم يغفر له! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 36 الصدقة في رمضان الوسيلة الحادية والثلاثون وما زلنا للجادين فقط: الصدقة في رمضان لها مذاق خاص عند المسلمين، وهي من دواعي القبول للأعمال والعبادات، وأنت يا أخي الحبيب! بحاجة ماسة شديدة لنفعها وأجرها وظلها يوم القيامة، فلم لا تجعل لك مقداراً من الصدقة تعاهد نفسك على إخراجها كل ليلة، وتداوم عليها، ثم أيضاً تنوعها؛ فتارةً مالاً، وتارةً أخرى طعاماً، وليلةً ثالثةً لباساً، وليلةً رابعةً فاكهةً أو حلوى، وتتحسس بيوت المساكين والفقراء بنفسك لتوصلها إليهم. وأنصحك -أيضاً- بألا يعلم بهذا العمل أحد غيرك، فإنك بحاجة إلى عمل السر بينك وبين الله، فكم من الأجر العظيم سينالك بهذا الفعل، وقد ورد مثل هذا عن كثير من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، بتحسس بيوت الفقراء والمساكين، وهذا العمل السري بينهم وبين الله جل وعلا، فهل تفعل ذلك وتحرص على هذه العبادة العظيمة في السر بينك وبين الله؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 37 استغلال وقت السحر في العبادة الوسيلة الثانية والثلاثون: السحر من أجمل الأوقات، وفيه نزول المولى جل وعلا، وفي رمضان لا شك نستيقظ في السحر للسحور، فأين أنت من ركعتين تركعهما في ظلمة الليل تناجي فيهما ربك؟ فكثير من الناس عن هذا غافلون أو متهاونون، وبعض الناس يتصور أنه إذا صلى التراويح مع الناس وأوتر في أول الليل انتهت صلاة الليل واكتفى بذلك، وحرم نفسه من هذه الأوقات الثمينة والدقائق الغالية. فالله الله في استغلال السحر مادمت فيه مستيقظاً، فإن من صفات أهل الجنة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17] . ثم ذكر سبحانه وتعالى في الذاريات صفات المتقين أصحاب الجنات والعيون فقال: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] فهذه من صفات المتقين. ثم هل تستغل هذه الأوقات بكثرة الاستغفار؟ فإن قلت: نعم. فأقول: إذن عليك بسيد الاستغفار، وعليك أيضاً بكثرة التكرار للمائة والسبعين كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل ليلة وقت من أوقات السحر خلال هذا الشهر المبارك. وأخيراً لا تنس أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه. فاحرص يا أخي الحبيب! على هذا الوقت الثمين، واحرصي يا أختي المسلمة! على هذا الوقت العظيم؛ ألا يفوت علينا، خاصةً وأننا في شهر رمضان، وخاصة وأننا ممن قام للسحور، فجميعنا يقظان في هذه اللحظات، فلنستغل هذه الدقائق بمثل هذه العبادة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 38 وسائل وتوجيهات للمرأة الوسيلة الثالثة والثلاثون، وهي وسائل وتوجيهات وأفكار موجهة للمرأة في رمضان: فالمرأة في رمضان تصرف الكثير من وقتها في هذا الشهر المبارك في مطبخها، خاصةً في الساعات المباركة، كساعة الغروب مثلاً في أوقات الاستجابة، وكذلك ساعة السحر في وقت السحور. وأنا قلت: -ولله الحمد- (تصرف) ولم أقل (تضيع) كما يتهمها الكثير بمثل هذا، لكن وحتى لا تعتبر هذه الساعات الطويلة ضياعاً عليها أن تنتبه لهذه الأمور، على المرأة أن تنتبه لهذه الأمور، وعلينا نحن أن ننبه زوجاتنا وبناتنا ونساءنا على مثل هذا الأمور؛ حتى يكتب لها وقتها ولا يضيع عليها، ومن هذه الأمور: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 39 استحضار المرأة للنية والإخلاص في إعداد السحور والإفطار فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار، وأكثرنا ظلاً صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، فسقط الصوَّم وقام المفطرون فضربوا الأبنية -وهذا هو الشاهد- وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر) الحديث أخرجه البخاري ومسلم. فيا أيتها المسلمة! إن عملك لن يضيع أبداً، بل هل تصدقين إن قلت لك أن هذا العمل حرم منه كثير من الرجال؟ لأن القائم على الصائم له أجر عظيم، فما بالك وأنت صائمة، ثم أنت أيضاً تعدين هذا الطعام وتقضين كثيراً من وقتك في إعداده، والمهم استحضار النية في هذا العمل، ولن يضيع -إن شاء الله- عليك لحظة من اللحظات باستحضار هذه النية. ثم أمر آخر: يمكنها استغلال هذه الساعات في الغنيمة الباردة، وهي كثرة الذكر والتسبيح والاستغفار والدعاء، وهي تعمل لا بأس أن تستغفر مائة مرة في اليوم، لا بأس أن تذكر وتهلل وتسبح بدل أن يضيع عليها وقتها أو كثير من أوقاتها في رمضان بدون فائدة. أيضاً أمر ثالث هو الاستماع إلى القرآن والمحاضرات عبر جهاز التسجيل الخاص بالمطبخ، وأقول الخاص بالمطبخ لأحث الرجال والإخوان على الحرص على توفير جهاز التسجيل الخاص بالمطبخ، لماذا؟ لأنه كما ذكرت أن المرأة تقضي كثيراً من وقتها في مطبخها فلعلها أن تستغل وقتها بمثل هذه الأمور، تارةً باستماع شريط، وتارةً بالتسبيح والاستغفار والتهليل والتكبير، وأيضاً بالاحتساب واستحضار النية الخالصة في إطعامها وعملها وتعبها لأهلها وأولادها وزوجها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 40 قضاء حاجيات العيد قبل العشر الأواخر للتفرغ للعبادة الوسيلة الرابعة والثلاثون من الوسائل والأفكار: شراء وتفصيل حاجيات العيد من الآن، وفي ذلك مكاسب، من هذه المكاسب: استغلال أيام وليالي رمضان وخاصةً في العشر الأواخر، ما الذي يحدث؟ يضيع وقت كثير من النساء، بل وأقول من أولياء النساء اذهب للخياط اذهب للمعارض ادخل إلى السوق إلخ. ثم أيضاً الاختيار الحسن وقلة التكاليف، الآن -والحمد لله- الأسواق شبه فارغة، فلماذا إلا في أوقات الازدحام وغلاء البضاعة؟ أيضاً أمر آخر وهو تفريغ الزوج وعدم إشغاله في أعظم الأيام وأفضلها العشر الأواخر. وأيضاً لماذا أفتن ولدي أو زوجي أو غيره بمخالطة النساء المتبرجات في مثل هذه الأيام الفاضلة، خاصةً وأننا نعلم أنه كما أن الحسنات تضاعف في شهر رمضان أيضاً السيئات تضاعف في شهر رمضان؟ فلعلنا من خلال هذه الأسباب نقترح ونقول: لماذا لا يبكر بشراء وتفصيل الملابس وحاجيات العيد من الآن؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 41 خروج المرأة لصلاة التراويح الوسيلة الخامسة والثلاثون، وهي الثالثة الخاصة بالمرأة: صلاة التراويح من السنن الجميلة، ومن الآثار النبيلة، التي تعطي هذا الشهر ولياليه روحانيةً متميزةً، فتجد صفوف المسلمين والمصلين متراصةً، وتسمع التسبيح والتكبير والبكاء والنشيج، إلا أن هذا الخير قد تحرمه بعض نسائنا؛ لا إهمالاً وإنما انشغالاً بالأولاد والجلوس معهم، وهي بهذا بين أمرين كلاهما ثقيل: إما الذهاب إلى المسجد وأخذ صغارها، وقد يؤذون المصلين وتنشغل بهم، أو بين الجلوس في البيت وحرمان النفس من المشاركة مع المسلمين، وربما حاولت الصلاة في بيتها وبمفردها، لكنها تشكو من ضعف النفس، وقلة الخشوع، وكثرة الأفكار والهواجس والشوارد، فماذا تفعل إذن؟ أسوق هذا الاقتراح، فأقول: لم لا تتفق مع أخواتها -شقيقاتها- أو رفيقاتها وصاحباتها بالاجتماع في أحد البيوت للصلاة جماعةً مع اهتمام إحداهن بالصغار، أو تجلس إحداهن مع الصغار والأخريات يذهبن لحضور الصلاة بالمسجد؟ وهكذا إذا اتفقت الأخوات على أن تقوم واحدة منهن كل ليلة بالاهتمام بالصغار؛ فإنها على الأقل ستكسب كثيراً من ليالي وأيام رمضان والصلاة مع المسلمين، أما أن تخسرها بهذه السهولة فلا، ولا نؤيد ذلك؛ بل وأقول: على الأزواج والآباء الحرص والحث لأزواجهم وأخواتهم وبناتهم بأخذهم معهم إلى المساجد. فإلى متى ونحن نترك المرأة أيها الأخيار! لوحدها في البيت، ونحرمها من الدروس والتوجيه والروحانية في الصلاة مع المسلمين وسماع الخير الكثير؟ فإن في ذهابها خيراتٍ حساناً، فمن المسئول عنها أمام الله سبحانه وتعالى؟ ولا تنسوا أنه بصلاح النساء صلاح للمجتمع؛ فلذلك نحث الآباء والإخوة على الحرص على أخذ أزواجهم وأخواتهم وبناتهم إلى المساجد، وألا يتركوا في البيت؛ لأنها بلا شك ستكون أمام التلفاز، أو أمام غيره في ضياع الأوقات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 42 تنويع الطعام مع عدم الإسراف وهي الرابعة الخاصة بالمرأة: إذا رأينا كثرة المأكولات والمشروبات، وتنوع أصنافها عند سفرة الإفطار، فإنك تضطر إلى أن تقول: لماذا يا أيتها المرأة المسلمة! لا تجعلين جدولاً غذائياً منتظماً في تقسيم هذه الأصناف على أيام الأسبوع؟ فهل يشترط أن نرى جميع أنواع المقليات -مثلاً- من السنبوسة، أو اللقيمات، أو البطاطس أو غيرها في كل يوم؟ لا يشترط هذا. وهل يشترط أن نرى -مثلاً- جميع أنواع العصيرات والمشروبات في كل يوم؟ أيضاً هذا لا يشترط. فأقول للأخوات: لماذا لا تضع جدولاً غذائياً منتظماً تقسم فيه هذه الأصناف على مدار الأسبوع؟ ولا شك أننا بهذا العمل نكسب أموراً كثيرة منها: أولاً: عدم الإسراف في الطعام والشراب. ثانياً: قلة المصاريف المالية وترشيد الاستهلاك. ثالثاً: التجديد في أصناف المأكولات والمشروبات، وإبعاد الروتين والملل الموجود بوجود الأصناف في كل يوم. رابعاً: حفظ وقت المرأة وطلب راحتها، واستغلال وقتها بما ينفع، خاصةً في هذا الشهر المبارك. فهذا شيء من الثمار والفوائد في تطبيق هذا الاقتراح. فيا ليت المرأة أو بعض الأخوات يفعلن ذلك الجدول، ولعلهن أن ينفعن بعض أخواتهن في توزيعه في مدارسهن وأماكن اجتماعهن، فإن فعل ذلك -كما ذكرنا- فيه فوائد جمةً. ثم أختم هذا الاقتراح بتذكير المرأة أنها المسئولة أمام الله سبحانه وتعالى عن الإسراف في بيتها، هي المسئولة الأولى عن الإسراف في بيتها؛ في الطعام والشراب، وتعداد الأنواع وغيرها، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته -ثم قال- والمرأة راعية ومسئولة في بيت زوجها) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 43 حرص المرأة على أداء الصلاة في وقتها الوسيلة: السابعة والثلاثون: الصلاة في وقتها من أعظم الوسائل لاستغلال رمضان، والملاحظ خاصةً عند المرأة ولعدم ارتباطها بالجماعة، تأخير الصلاة عن وقتها، والتكاسل عنها، ثم نقرها كنقر الغراب؛ وذلك إما بحجة العمل في المطبخ، أو التعب في الدراسة، أو التعب من الصوم، أو غيرها من الأعذار، فعلى المرأة أن تحرص على المحافظة على الفرائض الخمس في وقتها، وفي أول وقتها وبخشوع؛ خاصةً في هذا الشهر المبارك الذي -كما ذكرنا- تتضاعف فيه الحسنات وتتنوع فيه العبادات. وأيضاً بعض النساء إذا حاضت أو نفست تركت الأعمال الصالحة، وأصابها الفتور؛ مما يجعلها تحرم نفسها من فضائل هذا الشهر العظيم ومن خيراته، فنقول لهذه الأخت: وإن تركت الصلاة والصيام فهناك -ولله الحمد- خير كثير، مثل الدعاء، والتسبيح، والاستغفار، والذكر بأنواعه، والصدقة، والقيام على الصائمين وتفطيرهم، وغيرها من الأعمال الصالحة الكثيرة، ثم أبشرك أنه يكتب لك مثل ما كنت تعملين وأنت صحيحة شحيحة. كيف ذلك؟ في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال فيه: (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له من الأجر مثلما كان يعمل صحيحاً مقيماً) أخرجه البخاري ومسلم. إذاً: فأبشري، المهم هو استحضار النية الصادقة والخالصة، والحرص على كثير من الخير والعبادات التي تستطيعينها. ثم أيضاً قراءة القرآن للحائض والنفساء على خلاف مشهور بين العلماء، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى جواز قراءة القرآن للحائض والنفساء بدون شرط أو قيد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 44 وسائل وتوجيهات للصغار أخيراً من الوسائل والأفكار للصغار والخاصة في رمضان ثلاث وسائل: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 45 تشجيع الصغار وتعويدهم على الصلاة وغيرها الأولى: وهي الثامنة والثلاثون بالعدد العام: اقتراح لأئمة المساجد للاهتمام بالصغار، وتشجيعهم على المحافظة على الصلوات، والتبكير للمسجد، وتعويدهم على صلاة التراويح، كيف ذلك؟ يكون ذلك بأن يعلن إمام المسجد لأهل الحي من أول يوم في رمضان أن هناك عشر جوائز -تقل أو تكثر- لأحسن وأفضل عشرة صغار يحافظون على صلاة الجماعة ويبكرون لها، ويحرصون على صلاة التراويح. ولا بأس بمشاركة بعض جماعة المسجد بالتشجيع، كبعض التجار بالجوائز القيمة، ولا بأس أيضاً بمشاركة بعض الآباء بطرح بعض المبالغ المالية لشراء جوائز قيِّمةٍ لتشجيع هؤلاء، ولا بأس بالتعاون من الشباب مع إمام المسجد؛ بمتابعة هؤلاء الصغار، أو تكوين لجنة خاصة تتابعهم لتفرز في نهاية الشهر عن هؤلاء العشرة أو العدد الذي يحدد. ثم في نهاية الشهر -أي: في ليلة العيد- توزع الجوائز على هؤلاء الصغار، ولك أن ترى أثر ذلك على الصغار؛ بل وأقول الكبار؛ بل الحي كله، ولو كان في المسجد لوحة للمثاليين كل شهر، لرأيت عجباً من الأبناء بل ومن الآباء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 46 وضع مسابقة رمضانية للصغار الوسيلة التاسعة والثلاثون: وهي أيضاً اقتراح للصغار: وذلك بطرح مسابقات رمضانية لهم، إما بحفظ بعض الأحاديث، أو الأجزاء من القرآن، أو بمعرفة سيرة أحد من الصحابة معرفةً شاملةً، أو غيرها من المسابقات، وأيضاً تعلن في بداية رمضان، وتوزع الجوائز في الليلة الأخيرة من رمضان، ولك أيضاً أن ترى أثر ذلك على الصغار واستغلال أوقاتهم، وحفظهم من الشوارع، ومن أجهزة التلفاز، وانشغالهم بالبحث والقراءة والنظر والحفظ من خلال هذه المسابقات المطروحة. ولعلك تسمع كثرة توزيع الجوائز من خلال هذه المسابقات في ليلة العيد، فأصبحت ليلة عيد حقاً، ففي ليلة العيد وفي ختام شهر رمضان -نسأل الله أن يبلغنا ذلك- تجد أن المسجد الذي قامت فيه هذه الأنشطة أصبح مسجداً نشيطاً وحياً، ترى أثر ذلك كاملاً على أهل الحي جميعاً، لا أقول على الصغار فقط، ولا أقول على الآباء؛ بل حتى والله على النساء في البيوت. وإننا لنسمع تشجيع كثير من الأمهات ومن الأخوات لكثير من الصغار في مثل هذه الأمور إذا طرحت من جماعة المسجد، فهل نرى أيضاً ذلك قريباً إن شاء الله؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 47 تعويد الصغار على الصيام والقيام الوسيلة الأربعون والأخيرة: تعويد الصغار على الصيام والقيام، وتشجيع الأب بصحبته لهم للمسجد، بالثناء تارة بالكلمة الطيبة، وبالجوائز، بل وتعويدهم على الصدقة، وبذل الطعام وتوزيعه على الفقراء والمساكين، مثل المجاورين، عندما تعطي الطفل الصغير أن يوزع هو بنفسه للجيران، وللفقراء والمساكين، وتذكره بالأجر وفضل هذه الأعمال، فإن ذلك ينشئه تنشئةً صالحةً. تقول إحدى الأمهات لصغيرها بعد أن وزع بعض الأشياء على بيوت بعض جيرانهم، قالت له -وكان في وجبة الغداء- تغديت؟ قال: نعم تغديت أجراً. فنتمنى حقيقةً أن يعيش صغارنا في مثل هذه المعاني الجميلة التي تربيهم وتنشئهم تنشئةً صالحةً. وتقول الربيع بنت معوذ عن رمضان: (فكنا نصومه بعد ونُصَوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن -أي: من القطن- فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك -أي: اللعبة التي من العهن- حتى يكون عند الإفطار) أخرجه البخاري في صحيحه. تقول رضي الله عنها: حتى يتم صومه ذلك اليوم نشغله بهذه اللعبة. وفي ذلك -كما ذكرنا- تمرين لهم، وقد أقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الفعل؛ لأنه فعل في حضرته، فهو أيضاً من السنن التقريرية عنه صلى الله عليه وآله وسلم. هذه أربعون وسيلة لاستغلال شهر رمضان، وكما ذكرت أن هذه الوسائل منها ما هو معلوم، ومنها ما هو جديد، وما بقي -أيها الأحبة- إلا أن نستغل هذه الوسائل، وننشرها بين الناس عموماً، ومحاولة الوقوف مع أئمة المساجد، ومع الشباب الصالحين لإحياء مساجدنا وأحيائنا بمثل هذه الأفكار وهذه الاقتراحات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 48 الأسئلة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 49 تضاعف الحسنات والسيئات في رمضان السؤال ذكرت أن السيئات تضاعف في رمضان، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] فما معنى تضاعف السيئات في رمضان؟ الجواب ذكر كثير من أهل العلم أنه كما أن الزمان له شرف في الأعمال الصالحة، فأيضاً له شرف في الخطأ والمعصية فيه، فإنه تتضاعف السيئة فيه كما تتضاعف الحسنة، كما أنه إذا قلنا أن الحسنة تتضاعف في الحرم فإن السيئة أيضاً تتضاعف في الحرم، فإن مناسبة الزمان أو مناسبة المكان لها حرمتها، وقد نص كثير من أهل العلم على هذا الأمر. نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما قيل، وأن يوفقنا للعمل الصالح النافع، ونسأله جل وعلا أن يبلغنا شهر رمضان، اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا من الصائمين القائمين فيه يا أرحم الراحمين. اللهم اجعلنا من الصالحين المصلحين، اللهم انفعنا وانفع بنا، أنت ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 50 أفتش عن إنسان عن الإنسان الذي يفتش عنه ملايين المسلمين في كل بلد جريح عن صاحب القلب الرحيم الذي يمسح رأس اليتيم، ويطعم المسكين عمن يحمل هموم المسلمين في فؤاده، ويبذل لهم نفسه وأمواله عمن يعادي الكفار الحاقدين عمن يشعر بشعور المسلمين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1 لماذا أفتش عن إنسان؟! إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا. أما بعد: أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذا هو الدرس الواحد والأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، والتي ينظمها المكتب التعاوني بمدينة الرس، وينعقد في هذه الليلة المباركة، ليلة الثلاثاء الموافق 7 من شهر ذي القعدة للعام (1416هـ) ، وعنوان هذا الدرس: واجبنا تجاه المسلمين، أو إن شئت فقل أفتش عن إنسان. لماذا أفتش عن إنسان، ذلك ما قاله الفيلسوف اليوناني ديوجين حينما سئل: ما يصنع بمصباحه؟ وكان يدور به في بياض النهار، فقال: أفتش عن إنسان! لماذا هذا الموضوع؟ أولاً: عندما يسمع المسلمون بالمصائب والمحن التي تقع على المسلمين يتساءل الكثير منهم: ما دورنا؟ نسمع هذه الكلمة كثيرا: ما دورنا؟ وهذا الطرح محاولة للإجابة عن هذا السؤال. ثانياً: لحال المسلمين في كل مكان، وما يلاقونه من ذل وهوان، وضياع وفرقة، وقتل وتشريد وجوع وتنصير، وما نعيشه نحن من ترف وإسراف وبذخ وتبذير، فهل يصح شرعا أو عرفاً، بل في كل المعايير الإنسانية من شفقة ورحمة وإحسان ورأفة أن يموت أناس بالتخمة والبطنة، وآخرون بالجوع؟! لا والله!! ثالثاً: الإعذار إلى الله: ونحن نسمع عن أنهار الدماء وأكوام الأشلاء ونحن نسمع صرخات العذارى وأنين الثكالى الإعذار إلى الله ونحن نرى دموع الأرامل وعيون اليتامى، ولن نعذر -والله! - إلا بالقيام بواجبنا، ومن واجب طلاب العلم، التوجيه والبلاغ بقدر المستطاع. رابعاً: كان هذا الطرح دلالة وتوجيها؛ ليقوم كل منا بواجبه تجاه المسلمين، فيتحرك القادرون ويهتم الموسرون؛ لنساعد المعنيين، ونضع أيدينا بأيدي المسئولين، فإن أرض هذه الجزيرة قد أنعم الله عليها نعماً لا تحصى -والحمد لله- ومن كثرت نعم الله عليه كثر تعلق الناس به، فإن قام بما يجب عليه لله فيها فقد شكرها وحافظ عليها، وإن قصَّر وملَّ وتبرم فقد عرضها للزوال، فقد أخرج الطبراني في الأوسط وابن أبي الدنيا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله أقواما يختصهم بالنعم لمنافع العباد، يقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم) . والحديث حسن بمجموع طرقه، وله شاهد من حديث ابن عباس مرفوعاً بلفظ: (ما من عبد أنعم الله عليه نعمة، فأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرّم، فقد عرّض تلك النعمة للزوال) . قال المنذري وتبعه الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده جيد. أيها القارئ الكريم! فلنقم بنعمة الله علينا، ولنحذر من التبرّم والملل والتقصير، لذا حري بنا أن نحرص على هذه التوجيهات، وأن نُسمِعها كل الفئات؛ ليعمل الجميع من أجل رضا الله، وبالطاعة تدوم النعم، نسأل الله أن يحفظها علينا وعلى بلادنا وسائر بلاد المسلمين. إن المواساة والرحمة والإحسان منبعها قلب الإنسان؛ ولذلك قلت: أفتش عن إنسان! فمن لي بقلب هذا الإنسان؟ فعنه أفتش، وعنه يفتش ملايين المستضعفين. وقبل أن أبدأ بما أريد، اسمع ما قاله ابن رجب رحمه الله عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قدوتنا وحبيبنا ومرشدنا، بأبي هو وأمي عليه أفضل الصلاة والتسليم، قال ابن رجب: وكان جوده بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم، ولم يزل صلى الله عليه وسلم على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ، ولهذا قالت له خديجة في أول مبعثه: [والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق] ثم تزايدت هذه الخصال فيه بعد البعثة وتضاعفت أضعافا كثيرة. انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 2 كشمير جرح ينزف أفتش عن إنسان، وأنا أطالع خبرا في مجلة الدعوة السعودية بتاريخ [12] من شهر رمضان لعام (1416هـ) تقول فيه المجلة -وأختصر الخبر-: مسلسل هدم المساجد في الهند مستمر صواريخ هندية على رؤوس المصلين في كشمير في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، وأثناء أداء المصلين لصلاة الجمعة مما أدى إلى مقتل أكثر من عشرين شخصا. وقال الخبر: إن عدد القتلى يزيد عن عشرين شخصا وهناك عشرات من الجرحى، وإن صاروخا أصاب المسجد بينما سقط الصاروخ الثاني في السوق الواقع خلف المسجد. هذا هو الخبر مختصراً والتفصيل هناك. لكني أترك تحليلات هذا الخبر لكم وأقول: لو كان هذا المسجد كنيسة، هل تتجرأ الهند على هدمه، وتسليط صواريخها نحوه؟! ولا أقول إلا: إنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل!! ما خالط العمر يوم فيه متكأ لفرحة القلب إلا شابه كدر ولا سألت زماني فرحة وغدت في الروح تبحر إلا غالها خبر كأن فرحة قومي لم تزل وهجاً بين السراب فلا غيث ولا مطر دم الأحبة يجري في مساجدنا ونحن ندعو على الكفار مذ كفروا لن يقبل الله منا زيف أدعية وفي القلوب أمانٍ لفها خور الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 أسرة شيشانية بين الحقيقة والخيال أفتش عن إنسان! وأنا أسمع حديث أحد الإخوة -وقد كان في الشيشان - فأخبرنا بما رأته عيناه وما وقفت عليه قدماه من الدمار والمآسي التي يعيشها المسلمون هناك. لقد حدثني عن قصص الأسر والأمهات والأطفال، ومآسٍ وأحزان وأهوال، حتى لم تعد الآذان تسمع له؛ فقد أصابها الصمم من فزع القلب، واضطراب النفس، وحشرجة الصدر! ضاقت علي نفسي حتى لم أعد أسمع من حديثه شيئا، وكان آخر ما سمعته منه قصة تلك الأسرة المكونة من اثنتي عشرة نفسا، رضيع وصِبية صغار وفتاة وأم وأب. قال محدثي: كنت وصاحب لي في سيارة في أحد المدن الشيشانية، وبينما نحن نسير في أحد شوارعها وقد سلكنا المنعطف الأيمن لشارع آخر، وفجأة سمعنا صوتا هادرا مزعجا على بعد أمتار قليلة من فوق رءوسنا، فإذا بانفجار مدوٍ مفزعٍ، فأوقفنا السيارة ونزلنا، فإذا بمكاننا الذي مررنا فيه منذ ثوان قليلة قد أصبح حفرة كبيرة قطرها أكثر من عشرة أمتار! - سبحان الله! -. منظر مفزع! طائرة روسية تسبق صوتها، ألقت صاروخا وقع على بيت تلك الأسرة المسكينة، فجعلتهم وأثاثهم أشلاء ممزقة في كل مكان. قال محدثي: فبدأنا بجمع الجثث، الرضيع لا تكاد ترى شيئاً من وجهه! الصبية الصغار فقدوا بعض أطرافهم وأجزاء من أجسادهم! الفتاة لا تكاد تعرفها! الوالدان كل منهما في جهة! وبعد ساعة من الزمن، جاء جَدُّ هذه الأسرة، فقد خرج في الصباح الباكر من البيت وقد ترك أحفاده على خير حال، وإذا به يرجع فيجد نفسه بلا أبناء ولا أحفاد ولا منزل ولا طعام. يقول محدثي: فأخذ يبكي بكاء الأطفال، قال: فتأثرنا والله من بكائه أكثر من تأثرنا بالحادث نفسه، فمن الصعب أن ترى أمامك رجلا في السبعين من عمره يبكي بهذه الصورة. إلى هذا الحد سمعتُ وأدركتُ من حديث صاحبي، ثم بدأت خلجات النفس ودقات القلب في الاضطراب، وأنا أفكر بحال هذه الأسرة وجَدِّها، فلم أعد أسمع شيئا مما قاله بعد ذاك -سبحان الله! - أسرة كاملة تنتهي في لحظة واحدة! قبل الحادث بلحظات تُراهم ماذا كانوا يفعلون؟! وبماذا كانوا يتكلمون؟! أهم مستيقظون أم نائمون؟؟ وهل كانوا يأكلون أو يضحكون أو يبكون؟! نعوذ بالله من موت الفجأة!! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 فاعتبروا يا أولي الأبصار أيها المسلم! أيتها المسلمة! أعرفتما لماذا أفتش عن إنسان؟! هذه حال أسرة شيشانية واحدة! علمناها؛ لأن صاحبنا رآها فحدثنا وحدّثناها، فكيف بحال الأسر التي لم نرها، ولم نسمع من رواها، ولم تجد أحدا يحدث عن حالها وأساها؟! هذه حال أسرة شيشانية، فما حال الأسر البوسنوية والأسر الصومالية، والأسر الكشميرية، والأسر الفلبينية، والأسر الطاجيكية، والأفغانية، والجورجية والكردية وغيرها من الصرخات والاستغاثات الجماعية من أسر إسلامية؟! ولكن: يموت المسلمون ولا نبالي ونهرف بالمكارم والخصال ونحيا العمر أوتاراً وقصفا ونحيا العمر في قيل وقال وننسى إخوة في الله ذرّت بهم كفُّ الزمان على الرمال تمزقهم نيوب الجوع حتى يكاد الشيخ يعثر بالعيال! يشدون البطون على خواء ويقتسمون أرغفة الخيال وتضربهم رياح الموت هوجا وفي أحداقهم نزف الليالي وناموا في العراء بلا غطاء وساروا في العراء بلا نعال كأن البيد تلفظهم فتجري بهم بيد إلى بيد خوال يسيل لعابهم لهفا وتذوي عيونهم على جمر السؤال وليت جراحهم في الجسم لكن جراح النفس أقتل للرجال يمدون الحبال وليت شعري أنقطع أم سنمسك بالحبال؟! وقبل الجوع تنهشهم كلاب من الإفرنج دامية النصال يؤدون الضريبة كل يوم بما ملكوا ودين الله غالي صلاب، إنما الأيام رُقط ويفني الجوعُ أعناق الرجال! أتوا للشرق علَّ الشرق درء إذا بالشرق ينفر كالثعال لماذا كل طائفة أغاثت بنيها غيركم أهل الهلال؟! ترى الصلبان قد نفرت وهبّت يهود بالدواء وبالغلال هبوهم بعض سائمة البراري هبوهم بعض سابلة النمال نسيتم واتقوا يوما ثقيلا به النيران تقذف كالجبال تفور وتزفر الأحشاء زفرا كأن شرارها حمر الجمال ونحن المسلمون ننام حتى يضيق الدهر بالنوم الخبال جلستم والأرائك فاخرات وأوجفتم على الفرش الغوالي ورصعتم قصوركم مرايا لتنطق بالبهاء وبالجمال وماج العطر وائتلقت جنان كأن العمر ليس إلى زوال ننام على الريال وإن صحونا فإن الفجر فاتحة الريال نعم. أفتش عن إنسان! ونحن نرى ونسمع ونقرأ عن التنكيل بالإنسان في الشيشان وغير الشيشان، وربما كان ذلك باسم حقوق الإنسان. أين من يتألم لحال المسلمين؟ أين من يحترق للمنكوبين؟ أين من يمسح على رأس اليتيم ويطعم المسكين؟! بل أين من يتابع أخبار المسلمين؟! إن الكثير من المسلمين بل من الصالحين -وللأسف! - لا يعلمون شيئا عن أخبار المسلمين، فلا يقرءون ولا يسمعون ولا يحرصون، ولسان حالهم يقول: تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد؟! ففي كل بقعة مأساة، وفي كل مكان مصيبة! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 هذا واقعنا فما العمل؟! أيها المسلم! أيتها المسلمة! هذا واقعنا وهذا حالنا فما العمل؟ ما هو الحل؟! هل الحل أن نتغافل وندس رءوسنا في التراب، وننشغل بأكلنا وشربنا وبيعنا وشرائنا، بل وفرقتنا وأكل لحوم بعضنا، بحجة كثرة المآسي والمصائب على المسلمين؟! هل الحل أن تموت أخوة الدين، وينعدم الشعور بالجسد الواحد بسبب كثرة الجراح؟! هل الحل أن ننسى الأحداث، وهي تطحن الجسد المسلم في الشرق والغرب؟! إنه الجسد الواحد، وربما أتى عليك الدور، أسأل الله أن يحفظك ويرعاك وكل مسلم. ما هو الحل؟ وما هو العمل؟! لعلك لا تعجب من العنوان، إذاً: فأنا أفتش عن إنسان! وربما قلت: لماذا لم تقل: أفتش عن مسلم؟! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 نداء للإنسانية والأخوة الإسلامية فأقول: هب أن أخوة الدين قد تلاشت من القلب، وهب أن الشعور بالجسد الواحد مات، وهب أن الهمّ للمسلمين عدم، أليس في قلبك رحمة؟! أليس فيه عطف وشفقة؟! ألست إنساناً؟! ألا تحمل بين جنبيك مضغة لحم تسميها قلباً؟! أين قلبك أيها الإنسان! وأنت بعينيك ترى الأشلاء والدماء متناثرة مبعثرة؟! أين قلبك وأنت ترى الرضع الصغار، وقد اخترقت أجسادهم الطرية رصاصات الغدر والخيانة؟! أين قلبك وأنت تسمع عن نصف مليون مسلم تفنن الصرب في قتلهم وذبحهم بالسكاكين والمناشير ودفنهم أحياء في مقابر جماعية؟! لقد نقلت محطات التلفزيون العالمية مؤخرا صور العديد من المقابر الجماعية التي حفرها الصرب في أنحاء مختلفة على أرض البوسنة، ودفنوا فيها آلاف الضحايا المسلمين المدنيين الأبرياء، وقالت جريدة الشرق الأوسط في (17) من شهر رمضان لعام (1416هـ) ويتبين بعد جمع الشهادات والتحقيقات الصحفية بصورة شبه أكيدة أن هناك خمسة عشر موقعا لهذه المقابر، وتعتبر منظمات لحقوق الإنسان أن ثمة مائتي مقبرة جماعية تقريبا في أنحاء مختلفة من البلاد تحتوي على جثث تمّ دفنها بسرعة إلى جانب الآلاف من جثث المسلمين إلى آخر الخبر. أين هذا القلب وهو يسمع أن مائة ألف شيشاني قتلهم الروس الشيوعيون حتى الآن، وما يزال الآلاف يتساقطون؟! ما وقع هذه الأخبار على قلبك أيها الإنسان؟! أين هذا القلب وهو يسمع أنين وصرخات أكثر من ستين ألف مسلمة انتهك عرضها، وضاع شرفها، وملئت بأولاد الكافرين أحشاؤها؟! هي تصرخ وتئن من تحت ذلك العلج الكافر فمن يسمع صراخها، ومن يجيب نداءها؟! أين قلبك؟ وكيف حالك وأنت تسمع هذا الخبر الذي نشرته جريدة عكاظ في (2/2/1414 هـ) ، حيث تقول الجريدة: هرّبت إسرائيل عشرين ألف طفل صومالي إلى إسرائيل خلال شهر يوليو للعام (1992م) بهدف تربيتهم في المستعمرات الإسرائيلية وضمهم للجيش الإسرائيلي مستقبلا، وتمت عملية التهريب بعد أن قام وفد رفيع المستوى يمثل الحكومة والكنيست بزيارة إلى الصومال والالتقاء بمسئولين صوماليين؟! أين قلوبنا؟ وماذا عملنا لإخواننا ونحن نسمع مثل هذه الأخبار؟! عذراً أيها المسلمون المستضعفون في كل مكان، فها نحن نبلغ إخوانكم شيئا من أحوالكم. عذراً ربى المجد إن القوم قد هانوا وإنهم في أيادي المعتدي لانوا عذراً فما ردهم عما يحاك لهم وعي ولا ردهم دين وقرآن عذراً فأروقة الأحزان حافلة وساحة الفرح المقتول قيعان عذراً فبحر المآسي لم يزل لجباً يموج في مائه قرش وحيتان عذراً فإن بلاد العرب لاهية تضج في صدرها عبس وذبيان أقف عند هذا الحد، فالأخبار والأرقام عن مآسي المسلمين وأحوالهم لا تنتهي!! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 الراحمون يرحمهم الرحمن ما زلت أفتش عن ذلك الإنسان صاحب القلب الرحيم، الذي يمسح على رأس اليتيم ويطعم المسكين، وتدمع عينه لصرخات المكلومين، ويخفق قلبه لأنين المتوجعين، ويلهج لسانه بالدعاء لرب العالمين أن ينصر المستضعفين ويهلك المعتدين. أيها المسلمون! إنما يرحم الله من عباده الرحماء: (أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا، أو تقضي عنه دينا، أو تطعمه خبزا) كما في قضاء الحوائج لـ ابن أبي الدنيا وإسناده حسن. (ومرّ رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله! لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم؛ فأدخل الجنة) كما في صحيح مسلم. أُدخِل الجنة؛ لأنه أبعد غصن شجرة كانت في طريق المسلمين، فما رأيك بمن يحمل همّ المسلمين ويتحسس أحوال المساكين؟! (وخير الناس أنفعهم للناس) كما في الطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب وهو حسن. (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار) كما في صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد وغيرهم. هذه أصول في المنهج الشرعي لك أيها المسلم! فأنت رحيم أنت رحيم تصنع السرور للآخرين تنفع الناس، وتطعمهم الطعام، وتسعى على الأرملة والمسكين، وتمسح رأس اليتيم، تنفس عن مسلم، وتيسر على معسر، وتفرج الكرب. هذا هو ديننا، وهذا هو إسلامنا، وهذه هي عقيدتنا، ديننا دين الشفقة والرحمة والعطف والإحسان رقة في القلوب، وشفافية في النفوس، ليس مع الإنسان فقط، بل مع الحيوان أيضاً! فإن بغيا من بني إسرائيل غفر لها؛ لأنها سقت كلبا كاد يقتله العطش، وإن امرأة دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. أيها المحب! هذا في كلب وهرة؛ فما ظنك بالإنسان الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟! أيها الإنسان! لن تكون ذلك الإنسان الذي يفتش عنه مئات الآلاف من الثكالى واليتامى إلا بهذا المنهج وهذه العقيدة، فأحيي قلبك وامتثل شرعك. أيها المسلم! في رمضان تجوع وتعطش، والصوم حرمان مشروع، وتأديب بالجوع، وخشوع لله وخضوع، فهل عرفت الجوع كيف يقع؟! وهل شعرت بألم الجوع إذا لذع؟! واسمع لهذه المختارات للمنفلوطي من كتاب النظرات، قال: لو أعطى الغني الفقير ما فضل عن حاجته من الطعام ما شكا واحد منهما سقما ولا ألما. وقال: إن الرحمة كلمة صغيرة، ولكن بين لفظها ومعناها من الفرق مثل ما بين الشمس في منظرها والشمس في حقيقتها. وقال: لو تراحم الناس لما كان بينهم جائع ولا عار ولا مغبون ولا مهضوم. وقال: ليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزون أو مفئود، فنبتسم سرورا ببكائك واغتباطا بدموعك؛ لأن الدموع التي تتحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطور من نور تسجل لك في تلك الصحيفة البيضاء أنك إنسان. انتهى كلامه. أيها المسلم! مراد الله من الناس رقة قلوبهم، رقة قلوبهم وأكرم بها من نعمة، فرقة القلب وغزارة الدمع من أسباب السعادة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير) كما في صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث أبي هريرة. فأين رقة القلب فيك وغزارة الدمع في عينيك مما يجري للمسلمين الآن؟! إذاً: فأول ما يطالبك به الملايين من المسلمين المجروحين في كل مكان: أن تحمل همهم في قلبك أن تشعر بشعورهم، فتحس بجوعهم وهم جوعى، وبفقرهم وهم حفاة عراة، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 حينما يفتقد الطفل الأمان وأنت تنظر إلى أطفالك تذكّر الأطفال في البوسنة والهرسك، ومشردي بورما والصومال، فكم من يتيم ينشد عطف الأبوة الحانية، ويلتمس حنان الأم الرءوم، ويرنو إلى من يمسح رأسه ويخفف بؤسه. وأنتِ مع زوجكِ تهنئين بالعيش والراحة، تذكري كم من أرملة توالت عليها المحن، وفقدت عشيرها بعد أن كانت تحت كنف زوج عطوف. واسمع لهذا الشاعر المرهف وهو يخاطب طفلته الصغيرة، فيقول: آه! لو أبصرت طفلا في ربوع القدس يشكو غربته وصغيرا في ربى كابول، يلقي نظرته ويداري دمعته لو رأيت المدفع الثرثار يلقي خطبته آه لو أبصرت طفلا في حماة وحلبجة ودعايات عن التحرير فجة! آه لو أبصرت أطفال الفلبين الضحايا وجراحا في أريتريا وصيحات صبايا كيف لو أبصرت طفلًا حين يرميه الجبان برصاص ودخان كيف لو أبصرت طفلاً لم يذق منذ رأى دنياه طعما للحنان لم يذق إلا الأسى المر ولم يسمع سوى صوت الطعان يا ابنتي قولي معي: أيها العالم! سحقا حينما تغدو حياة الناس ميدان رهان حينما يفتقد الطفل الأمان تذكر وأنت تصلي في المسجد بأمن وأمان، وراحة وسلام، حال أولئك المصلين وقد فرقهم صاروخ يهودي، أو هندوسي أو روسي أو صربي، فأصبح المسجد بركاً من الدماء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 كيفية الشعور بآلام ومحن المسلمين إننا نريد أن نشعر بشعور الجسد الواحد الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) . وفي الحديث الآخر: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه) . إن دمعة من عينيك، وزفرة من صدرك؛ لهي دليل على صدق الانتساب إلى هذا الدين، بل هي عبادة تؤجر عليها، فالدمعة والزفرة علامة للشعور بالجسد الواحد. إنك حينما تحمل همّ المسلمين في قلبك، يتأوه القلب وتدمع العين ويتحدث اللسان، فهل نسمعك تتحدث عن المسلمين وما يجري لهم؟! هل نسمعك أيتها الأخت المسلمة! وأنت تقرئين وتنقلين أخبارهم للأمهات والجدات والأولاد؟! هل نسمعك أيها الشاب! وأنت تنقل الأخبار والأحداث للأهل والآباء والأصحاب؟! هل نسمعك أيها الأب! وأنت تحدث أبناءك عما سمعته عبر المذياع، أو قرأته عبر المطبوعات عن أخبار المسلمين؟! نعم. مجرد الحديث فيه خير كثير، نريد أن نسمع الجميع يتحدث عن مصائب المسلمين؛ فإن في هذا الحديث أثراً على القلب ورقته، وأثراً على النفس؛ فهي تحزن لحزنهم وتفرح لفرحهم. إنهم -أعني المسلمين- في كل مكان يطالبوننا ولو بدموع العيون وآهات الصدور، فإن في ذلك تسلية لهم وعزاء لمصابهم. إننا نريد أن تسيل دموع المسلمين، وأن تزفر صدورهم لحال إخوانهم، فإذا نجحنا فإن أول السيل قطرة. ولكن! كم يحز في النفس ويملأ القلب أسىً وكمداً أن كثيراً من ذوي الكفاءات والمواهب البارزة من الصالحين قعدوا عن هذه المهمة: يثقلون الأرض من كثرتهم ثم لا يغنون في أمر جلل ولو سألتهم عن السبب؛ لذكروا فساد الأحوال، وقلة الرجال، وكثرة الأدعياء، وخلو الساحة! فيا سبحان الله! لمن تركتم الساحة؟! إذاً: أيجوز أن يقتصر الدور على الحوقلة والاسترجاع؟! بل ربما لم تدمع أعينهم، ولم تخفق قلوبهم، بل ربما لم يعلموا عن أخبار وأحوال إخوانهم المسلمين شيئا! إن ثروة الأمة بحق، هو ذلك الإنسان الجاد الذي يشعر بالمسئولية وعظم الأمانة، فمن يحمل هم المسلمين إذاً أيها الصالحون؟! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 مطالب وواجبات لنصرة المسلمين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 احمل الهم إذاً: هذا أولاً، نحن نطالبك أيها المسلم! ويا أيتها المسلمة! أن تشعر بشعور المسلمين وتعلم حالهم وتتألم لمصابهم، ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نَفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نَفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) . وفي الصحيحين -أيضاً-: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) . ففي الحديث الأول تنفيس وفي الثاني تفريج، قال أهل العلم: إن تفريج الكروب أعظم من تنفيسها، إذ التفريج إزالتها أما التنفيس فهو تخفيفها، والجزاء من جنس العمل، فمن فرج كربة أخيه فرج الله كربته، والتنفيس جزاؤه تنفيس مثله. إذاً: أيها المسلم! اشعر بشعور المسلمين تعرّف على أحوالهم تألّم لمصابهم، وتحدث عن أخبارهم أحرق القلب وانثر الدمع من أجلهم. هذا أولاً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 12 الدعاء لهم ثانياً: أنت مطالب بالدعاء لإخوانك والتضرع إلى الله عز وجل والإلحاح عليه، فهو سلاح الخطوب وهو سلاحك أيها المؤمن! يستدفع به البلاء ويرد به شر القضاء، وهل شيء أكرم على الله من الدعاء؟! لكنه يحتاج إلى لسان صادق، وقلب خافق، يعتصره الألم ويحرقه الهم. أيها الأخ! اعلم أنه سبحانه بفضله ومنّه وكرمه يجيب الدعاء، ويحقق الرجاء، ويكشف البلاء، لكننا نريد حقيقة الدعاء وحقيقة الالتجاء وحقيقة التضرع والشكوى (فإن الله لا يقبل دعاءً من قلب غافل لاه) . إن للدعاء أثراً في تحقيق الرغائب، ودفع المصائب، وحصول الطمأنينة والسكينة، فأين أثر دعائنا؟! إننا لا نستعجل الإجابة، ولكننا نريد الصدق في الدعاء نريد من يرفع يديه في ظلمة الليل من أجل إخوانه! سبحان الله! أليس فينا أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره؟! إن إخواننا بشر مكلفون، وهم مسلمون وفيهم الصالحون والمؤمنون، فإلى كل مسلم ومسلمة يريد نصرة إخوانه أقول: الله الله في الدعاء، الله الله في الدعاء كما ينبغي. وإلى كل بلد أصيب ببلاء وضراء أقول: الله الله في التضرع والإلحاح على الله، فإن الله يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42-43] . إياك إياك والملل من الدعاء أو استبطاء الإجابة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، ويقول: قد دعوت فلم يستجب لي) . إننا لا نحمل هم الإجابة؛ فإن الله وعدنا بها، ولكننا نحمل هم الدعاء بآدابه وشروطه، فهل من مجيب؟ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 13 البذل والإحسان ثالثاً: نطالبك بالبذل والإنفاق والإحسان من مال الله الذي أعطاك، فأنت بنفسك تذكر كثرة المصائب والمحن على المسلمين، وأن في كل مكان مأساة، فلماذا إذاً تبخل؟! فإن هذا داعٍ لك للإكثار. لماذا يضيق بعض الناس ويتبرّم من كثرة الهيئات الخيرية، والمؤسسات الدعوية التي تطالبه بالبذل والعطاء؟! إنها ظاهرة صحية، ودليل على صحوة الأمة وقيامها بواجباتها تجاه المسلمين في كل مكان. إن الجميع يشهد بالخير لهذه البلاد بهيئاتها ومؤسساتها الخيرية، ويذكرها بالفضل والإحسان لمد يد العون للمسلمين في كل مكان، وفّق الله القائمين عليها لما يحبه ويرضاه، وأعانهم على ما فيه خير للإسلام ونصرة لهذا الدين. ولكن الخرق اتسع على الراقع، ومن حق إخواننا في الهيئات والمؤسسات الوقوف معهم وبذل المال لهم، والذب عن أعراضهم، والدعاء لهم، فأنت تدفع المال فقط، وهم ينظمون ويخططون ويسافرون ويتعرضون للأخطار، قاموا بواجب النصرة ومد يد العون على قدر ما يجدون ويستطيعون، فهل بعد هذا نضيق بكثرة طلباتهم؟! إنهم لا يطلبون لأنفسهم شيئا، ولا يعملون بمقابل، إنما هو لك يصل لمستحقيه؛ لتعذر أمام الله {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60] . ثم لماذا هذا الإمساك العجيب عندما ينادي منادي الإنفاق للمسلمين؟! يا سبحان الله! هل حدثتك نفسك وأنت تدفع مائة ريال أو ألف ريال أنك دفعت ثلث مالك؟! هنا يأتي الدليل على صدق الانتساب إلى هذا الدين، والدليل على حمل هم المسلمين، والصدق لنصرة المسلمين، وصدق الدمعة التي تسيل. {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92] . أيها الأخ! إن أبا بكر تبرع بماله كله، وعمر بنصفه، وعثمان جهز جيشا للمسلمين، هكذا فلتكن النصرة للمسلمين، وهذا هو صدق اليقين بما عند رب العالمين: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60] . هكذا فلتكن النصرة، بمثل هذه الصراحة مع أنفسنا، وبمثل هذا التفكير نجد الإجابة عن الذل الذي نعيشه والهوان الذي أصابنا، نجد الإجابة عن حال المسلمين ومآسيهم في كل مكان إنه حب الدنيا وكراهية الموت، والإسراف على الشهوات والإمساك في الواجبات. انظر إلى نفسك عند شراء الطعام والشراب، بل عند شراء الجرائد والمجلات انظر إلى نفسك عند بناء البيت وتأثيثه. انظري إلى نفسك أيتها الأخت! عند شراء اللباس وأدوات الزينة، وملابس الأطفال وألعابهم، كم ننفق على أنفسنا وشهواتها، وكم ننفق لنصرة ديننا وعقيدتنا؟! {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] لنغير ما بأنفسنا، ولنقوِ الصلة بيننا وبين ربنا لنحي قلوبنا بكثرة ذكر الله؛ لتكون لينة رقيقة رحيمة شفيقة، لنبذل أموالنا وأنفسنا من أجل ديننا وعقيدتنا. أيها الحبيب! إن من منع ماله في سبيل الله منع نفسه من باب أولى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] أفلا تريد الجنة؟ لماذا إذاً هذا الصيام؟ لماذا هذا القيام؟! إن الأمر إعداد للقلوب لتتصل بعلام الغيوب، ليس تجويعاً وتعطيشاً أو تعبا أو سهراً، بل لتعويد هذه القلوب على الصبر والمرابطة، والسهر من أجل الله، عندها يهون عليها بذل المال، بل حتى بذل النفس في سبيل الله، لهذا كان الرجل ينفق ماله كله أو نصفه في سبيل الله، وما قيمة المال وقد بذل نفسه من قبل؟! فإياك والبخل {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] . وإن كنت فقيراً معدماً، أو لم تجد ما تنفقه على إخوانك فهناك وسيلة أخرى، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الدال على الخير كفاعله) فلماذا لا تجمع المال من أهلك وجيرانك وأحبابك وخلانك؟! نعم. كن حصالة للمسلمين، تجد الخير العميم والأجر العظيم من رب العالمين. اسمع لهذا الموقف؛ عله أن يهز كيانك ويحرك أركانك للعمل لهذا الدين والولاء للمسلمين والبراءة من الكافرين. ذكر لي أحد الإخوة أنه قبض على مزارع في أحد المزارع هنا، هندوسي لا يقرأ ولا يكتب، وكان يدور على المزارعين الهندوس في المزارع القريبة منه ويجمع التبرعات، أتدري لماذا؟! إنه يجمع الأموال من أجل بناء المعبد الهندوسي مكان المسجد البابري، بعد أن تنادى الهندوس لجمع التبرعات لبناء هذا المعبد، وقبل ذلك تجمّع آلاف الهندوس وهم يحملون فئوسهم ومعاولهم لهدم المسجد، وهُدم حجراً حجراً، وقتلوا آلاف المسلمين الذين تحركوا لحماية مسجدهم، لكنهم ضعفاء لا حول لهم ولا قوة، ثم تنادوا لجمع التبرعات لبناء المعبد الوثني على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي بأسره. إنه رجل وثني عامي جاهل كبير في السن، جاء يبحث عن لقمة العيش ليسد بها جوعته، وهو في غربة بعيد عن الأهل والزوج والولد، ومع ذلك ما شغله ذلك كله عن أن يتحرك لنصرة وثنيته، وحمْل الهمِّ لحجر لا يضر ولا ينفع يعبد من دون الله. فأين أنتم يا أهل التوحيد! يا من تسجدون وتركعون لله وحده؟! أين أنتم من نصرة دينكم؟ وأين الهمُّ لإخوانكم المستضعفين المضطهدين في كل مكان؟ أين أنتم يا من تنعمون بمال الله؟! إن من يبخل اليوم بماله يبخل غداً بنفسه، وبئس القوم نحن إذ لم نقدم أموالنا وأنفسنا من أجل ديننا وعقيدتنا. صور مشرقة لنفوس مسلمة: إن ثمة صوراً نسمعها تتردد هنا وهناك، تحكي جانباً مشرقاً لنفوس مسلمة، نجد فيها ذلك الإنسان الذي نفتش عنه، أذكر منها: ذلك الغلام الصغير يوم أن جاء لمناسبة عائلية يحمل بين يديه علبة حليب فارغة، وقد كتب عليها (تبرعوا لإخوانكم المسلمين) أخذ يدور بها على الرجال فرداً فرداً، فلما انتهى نقلها إلى النساء، فلما سألته: من أين لك هذه الفكرة؟ ذكر أن أستاذه تكلم اليوم عن أطفال الصومال الجائعين، وما يجب لهم علينا كمسلمين!! فهل نعجب من هذا الطفل الصغير، أم من أستاذه الكبير؟! وسمعت عن ذلك العامل المصري الذي جاء يبحث عن لقمة العيش، لما سمع منادي الصدقة وحال إخوانه، لم يجد ما يتصدق به إلا ساعة كانت تلف معصمه، مدها لإمام المسجد وهو يقول: والله الذي لا إله غيره! لا أملك سواها، فلما علم به تاجر غيور اشتراها بألف ريال. وأولئك الأطفال الذين تبرعوا بكرتهم لأطفال الصومال -كما يقولون-. وتلك الفتاة المعوقة التي تبرعت بعربتها لمعوقي البوسنة والهرسك. وتلك المرأة التي جمعت حليها فتصدقت بثمنه لمسلمي البوسنة والهرسك. وذلك الطفل الصغير في الصف الأول الابتدائي يدفع فسحته -ريالاً واحداً- لأستاذه نصرة منه لأطفال البوسنة. وتلك الطفلة الصغيرة التي جاءت لأبيها تدفع له حصالة العمر تبرعاً للمسلمين. وذلك التاجر الذي ما كفاه دفع الآلاف للمسلمين، بل سافر بنفسه ليرى بعينه، ويمد بيده، ويقيم المساجد والمشاريع. والصور والمواقف كثيرة، وليست غريبة على قلوب خالط الإيمان شغافها. إنها عواطف ومشاعر ذلك الإنسان الذي نفتش عنه لو صاحبها همُّ دائم، ودعاء لا ينقطع، وجهد مستمر مستطاع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 14 البراءة من الكفر وأهله رابعاً: نطالب كل مسلم صاحب مكتب استقدام للعمالة، أو صاحب مؤسسة أو تجارة، وكل محتاج، خادم وسائق للسيارة، أن يعلن البراءة من الكافرين والوثنيين، وأن لا يأتي إلا بالمسلمين، فإن هذا أقل شيء تعلن فيه غضبك واستنكارك لما يفعلونه بإخوانك في العقيدة والدين. أيها التاجر المسلم! إنك ترى وتسمع ما يفعله الكفار بالمسلمين، وترى وتسمع أنين الأرامل واليتامى وصرخات الضعفاء والثكالى، وإني على يقين أنك لا ترضى أبداً أن تأتي بالهندوسي ليقتل المسلمين في الهند بأموال المسلمين بالشرق، ويهدم مساجد رب العالمين ليقيم بأموال المسلمين معابد للشياطين. إنك سمعت قصة المزارع الهندوسي، أعد سماعها مرة أخرى ومرتين لترى كيف انتصر لإلهه وهو صنم من حجر! أفلا تنتصر لربك وهو رب بر رحيم ينعم عليك بالسر والعلن؟! هل فكرت كيف يعامل التاجر الهندوسي العامل المسلم؟! فما تراك تفعل وأنت تحمل (لا إله إلا الله) فيغضبك ما يغضب الله، ويسرك ما يسره؟ أفلا يغضبك هدم بيت من بيوت الله، وقتل المصلين الساجدين لله؟! يقول أحد زعماء الجمعيات الإسلامية في الهند -نقلاً عن مجلة الدعوة -: لا يمر أسبوع واحد إلا ويدمر في الهند العديد من المساجد، وهناك وثيقة سرية تمّ الكشف عنها بوجود ثلاثة آلاف مسجد في الهند مطلوب هدمها لإقامة معابد للإله الهندوسي المزعوم (راما) ، وبعد نشر الوثيقة لم تكذب الجماعات الهندوسية المتطرفة ذلك، بل أكدت أنها ماضية في سياسة هدم المساجد، والدور القادم على المسجد الذي يصلي فيه المسلمون صلاة العيدين، ثم تتوالى القائمة. انتهى الخبر. فيا كل مسلم يتعامل مع الهندوس! ألا يهزك هذا الخبر، ويحرك فيك مشاعر التوحيد لله فتعلنها غضبة لله، فيوسع الله فيها عليك في الدنيا والآخرة؟! إن من واجبنا أن نذكر كل أخ وقريب يتعامل مع الكافرين بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا نمل ولا نكل، فإذا رحل كافر حل محله مسلم، ولا شك أن هذا نوع من أنواع نصرة المسلمين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 15 واجبنا تجاه المسلمين المستضعفين بيننا ثم إن من واجبنا تجاه المسلمين المستضعفين الذين يعيشون معنا وبيننا من العاملين والخدم والسائقين: حسن الخلق والمعاملة الطيبة، وإعطاءهم حقوقهم بدون ظلم ولا مماطلة. إنهم إخوان لنا في الدين يعيشون أياماً قاسية، تغربوا عن الأوطان وتركوا الأهل والإخوان، وتشردوا في كل صقع، وثقلت عليهم أعباء الحياة، وتوالت عليهم نوائب الدهر، واشتد عليهم شظف العيش، تراكم كل ذلك على ظهورهم الضعيفة، وملأ نفوسهم الحزينة، فتساقطوا في طريق الحياة؛ فأصبحوا عرضة لأرباب الجشع والطمع. أخبرني قبل أيام فقط أحد الإخوة عن عامل أصيب بالشلل النصفي يرقد الآن في المستشفى لكثرة مماطلة وظلم كفيله له! هذه صورة من ظلم العمال أعرف أنها تتكرر عشرات المرات مع عشرات الأشخاص، من ذا يسمع هذه الأنباء فلا يذوب قلبه حزناً؟ كيف يصلح الحال وأنت ترى في الناس من يقف موقف المتفرج؟ يسمع الأنين ولا يكترث، ويرى الدمع فلا يلتفت، بل يأبى بعضهم إلا أن يجرعهم غصصاً من الذل والهوان! إننا نخوف هؤلاء بالله الذي يقول: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] نخوفهم بالله الذي يقول: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:42] . أيها الإنسان! اتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، احذر دعوة المظلوم أن تصيبك في نفسك أو زوجك أو ولدك أو مالك. في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟! فقال صلى الله عليه وسلم: وإن كان قضيباً من أراك) . الله أكبر! ولو عوداً من سواك! إنها عدالة السماء {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123] . أيها الأخ! بدل أن يرجع إلى بلده لينقل الصورة المضيئة للمسلمين وحسن تعاملهم في بلاد التوحيد، رجع وهو يحمل انطباعات سيئة، وذكريات مؤلمة، يحدث بها كل من قابله بسبب أمثال هؤلاء، وهم قلة إن شاء الله. أيها الحبيب! كيف لو استفدنا من مجيء هؤلاء إلينا، أخلاقاً ومعاملة، ودعوة للدين الصحيح؛ لكسبنا الدين والدنيا معاً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 16 الدعوة والتعليم خامساً: نطالب كل مستطيع من المسلمين القيام بواجب الدعوة والتعليم بين المسلمين المستضعفين في كل مكان، فهم بين جوع وقتل وتشريد وجهل جهل شديد بأركان الدين ومبادئه. فأين الأساتذة والمعلمون، وأين شباب المسلمين، والمؤسسات الدعوية والهيئات الإغاثية تنادي في كل صيف، بل وفي كل مناسبة؟ من يحتسب أجره على الله ليعلم الجاهل، ويمسح على رأس اليتيم، ويكفكف دموع المنكوبين؟! ومن لا يستطيع بنفسه فبماله، يطبع كتاباً، وينسخ شريطاً، فهم في تعطش شديد لكتاب وشريط، بل والله يقدمونه على الطعام والشراب في كثير من الأحيان. إننا نطالب الجميع -كلاً بحسب تخصصه ومواهبه- بنصرة إخوانه المسلمين، فنقول للطبيب -مثلاً-: أين أنت عن إخوانك والأمراض بأنواعها تفتك بالصغير والكبير؟! كم كنا نتمنى أن نراك مكان صاحب العيون الزرقاء، والشعرات الشقراء في أدغال أفريقيا، حيث الجوع والجفاف والشمس الحارقة، تحمل أطفال المسلمين بين يديك، تداوي جراحهم فترسم البسمة على وجه أم منكوبة، فأنت أحق بإخوانك من ذلك الصليبي. إنهم بحاجة للمدرس وللطبيب، وللتاجر وللمهندس، إنهم بحاجة إلى الصحفي الأمين الذي يسخر قلمه لخدمة الإسلام والمسلمين، وهم بحاجة إلى الشاعر الإنسان الذي يصور المأساة ويحرك المشاعر، ولكل من فتح الله عليه بنعمة من عنده، فالطريق واضح، والأمر سهل ميسور، لكنه يحتاج إلى عزم وإيمان، وتحمل واحتساب. طريقنا واضح كالشمس تعرفه أجيالنا بابه عزم وإيمان آمالنا لم تزل خضراء يانعة في القلب منتجع منها وبستان ولينا الله لا نرضى به بدلا وكيف ييأس من مولاه رحمن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 17 تشجيع الاقتصاد الإسلامي سادساً: أيها المسلم! إن من واجبنا تجاه المسلمين تشجيع منتجات البلاد الإسلامية وتقوية اقتصادها، وذلك بشراء السلع المنتجة في تلك البلاد وتسويقها، وبث الدعاية والإعلان لها، وفي هذا خير كثير وله مردود كبير على الإسلام والمسلمين في كل مكان، وهو أمر يستطيعه كل أحد وبمقدور كل فرد، فهل نحمل هم المسلمين وإصلاح معيشتهم ولو بأكلنا وشربنا وأثاثنا ولباسنا؟! وقل مثل هذا في تشجيع الصحف والمجلات التي تهتم بشئون المسلمين، وتنقل أخبارهم وأحوالهم بأمانة وإخلاص لشرائها ونشرها والإعلان عنها، وفي هذا تشجيع واستمرار لها، وفيه -أيضا- متابعة وتعريف للناس بأخبار المسلمين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 18 اعرف عدوك! سابعاً: من واجبك تجاه المسلمين أن تعرف أعداءك الحقيقيين الذين يحملون الحقد والضغينة للإسلام والمسلمين، فبعض الناس -وللأسف! - اختلطت عليه الأوراق، واشتبهت عليه المفاهيم؛ فلا يعرف الأعداء من الأصدقاء. بل ربما وصل الحال بهم كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) فلا يسلم إخوانهم من ألسنتهم، ولا المستضعفون المحتاجون من التشكيك بهم والتخذيل والتثبيط من عونهم. أخرج الترمذي في السنن في كتاب الفتن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقف على ناس جلوس فقال: (ألا أخبركم بخيركم من شركم؟ فسكتوا. فقال ذلك ثلاث مرات. فقال رجل: بلى يا رسول الله! أخبرنا بخيرنا وشرنا، فقال صلى الله عليه وسلم: خيركم من يرجى خيره، ويؤمن شره) وقال: هذا حديث حسن صحيح. فيا أخا الإسلام! إن من أهم ركائز العقيدة والإيمان: الولاء والبراء، وقد أوضح الله عز وجل الأعداء بجلاء فقال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] والتاريخ القديم والمعاصر أكبر شاهد على ذلك. فعلى كل مسلم ومسلمة، وبخاصة العاملين في حقل الدعوة والتعليم، غرس القيم والمبادئ الإسلامية في نفوس الناس -خاصة الطلاب والطالبات- ونقل أخبار المسلمين لهم، وإشعارهم بالجسد الواحد للأمة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 19 تنبيهات وتوجيهات أخي الحبيب! زيادة على هذه المطالب إليك هذه التنبيهات الأربعة: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 20 مساكين في بلدك أولاً: كما أن هناك ملايين المستضعفين في الخارج، فلا ننس إخواناً لنا في الداخل انقطعت بهم السبل، وضاقت بهم الحيل. تفقَّد رجلاً فقيراً أسيراً لمرض كثير العيال، أو أرملة ضعيفة كثيرة العيال شديدة الحال، وأيتاماً يبحثون عمن يؤنس وحشتهم ويمسح دمعتهم، أو مغترباً أتى يبحث عن لقمة العيش ترك بلده وزوجه وأهله، يعرق جبينه من كثرة العمل، وتدمع عينه من شدة الظلم والإهانة. أقول: كل هؤلاء وأمثالهم يفتشون عن ذلك الإنسان، صاحب القلب الرقيق، والضمير الحي، صاحب القلب الذي يخاف الله ويخشاه، يمد يده البيضاء لكل مسلم أثقلته الهموم وأوهنته الحاجات. كل هؤلاء وأمثالهم يفتشون عن ذلك الإنسان، ينظرون إلى عينه هل تدمع، وإلى شفتيه هل تبتسم، وإلى الكلمة الطيبة من لسانه، وإلى يده يشد بها على يد الضعيف والمحتاج. أيها الإنسان! إياك وحيل النفس ومداخل الشيطان، فلربما قيل لك: إن هذا يخدعك ويدلس عليك، وإن هذا يكذب عليك! نعم. هناك من يكذب، وهناك من يخدع، وهناك من يتلبس بلباس الفقراء والمساكين نشكو أمرهم إلى الله، وهذا يدعوك للتثبت والتحقق والبحث عن المحتاجين الصادقين، وسؤال العارفين المخلصين، لكنه لا يدعوك إلى الإمساك وعدم البذل والعطاء، ونشر قصص الكاذبين المدلسين وإساءة الظن بالجميع. هذا أمر. واسمع لحال هذا الأخ، وقد هده الفقر والعوز في العيد: أخ في العيد قد مدت يداه وفوق الخد تدمى مقلتاه بدا في العيد في هم وغم كأن الناس قد قتلوا أباه ويوم العيد والدنيا سرور فتى قد هان تسنده عصاه يصارع وطأة الأيام حتى رنا للأفق فاسودّت رؤاه ويحمل فوق عاتقه هموما ينوء بها وقد ثقلت خطاه يسير هناك متئدا هزيلا فهل تدري لما خارت قواه؟! يعاني الفقر لا يدري لماذا يغالبه ويمعن في أذاه؟! تعامى الناس عنه فلم يواسوا وقد صموا فما سمعوا نداه فسار وفي حناياه دموع وفي عينيه نار من لظاه وقد سلك الطريق بدون وعي فلا يدري إلى أين اتجاه؟ وبين ضلوعه ألم دفين تردد في جوانحه صداه وجاء العيد والدنيا ضياء وكل الناس أبهجهم لقاه وجاء العيد فامتلأت قلوب بنور فاض يرسله سناه وهذا البائس المسكين أضحى بلا أمل وطال به أساه وبين الناس صنف ذو ثراء وفي الدنيا يحقق مشتهاه فيرتع في النعيم بلا حساب ويعمى عن أخيه فلا يراه وما أدري، ولست أخال أدري لماذا ينكر الهاني أخاه؟! ويوم الدين والأعمال تدنو سيلقى المرء ما صنعت يداه أخا الإسلام إن البرَّ شيء يسرّك في القيامة أن تراه أخوك البائس المسكين يبدو بلا مال ويخجله حياه فجد بالخير واستبق العطايا فيوم الدين يجزيك الإله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 21 قل خيراً أو اصمت ثانياً: أمر آخر نسمعه في حديث المجالس خاصة عندما ينادي منادي الإنفاق والصدقة للمسلمين في الخارج، فقائل يقول: إنهم ليسوا مسلمين، وقائل يقول: لا يصلون حتى الصلاة، وآخر يقول: انظر إلى التبرج والسفور والفساد عندهم، وآخر يقول: انظر إلى البدع والخرافات وفساد العقيدة لديهم. وهكذا نسمع القيل والقال من البعض، فلا هم قاموا بواجبهم، ولا تركوا غيرهم يقوم بالواجب؛ فأصبحوا قطاع طريق على الآخرين. عجيب أمر أولئك! أين عقولهم؟ لماذا ينظرون بعين واحدة؛ إن كانوا فعلا يريدون النصح للمسلمين؟! أيها المشككون! إن هؤلاء الذين تتكلمون عنهم غُيّب عنهم دين الله عشرات السنين، حرب شعواء على كل أمر له صلة بالإسلام، حتى أعدم من وجد في بيته نسخة من القرآن، أو تسمى باسم شرعي، أو حتى ذكر الله في بيته، بل صدرت قوانين رسمية تعاقب كل من يؤدي شعائر تعبدية، وزوجت المسلمات من غير المسلمين، وتسلّط الولد على والده، حتى خاف الآباء أن يعلموا أبناءهم كلمة التوحيد، فقد كانت المعلمة تسأل التلاميذ: ماذا تقول والدتك وجدتك؟! هدمت مساجدهم، وحرفت مناهجهم، حتى تخرّج جيل ممسوخ الهوية مسخاً تاماً إلا ما شاء الله تعالى منهم. ومع ذلك كله، وبعد هذا الكيد المرير، وهذا العمر الطويل، لما جاءهم من يدلهم على الإسلام ويعلمهم الأحكام، اجتمعوا عليه بالمئات والآلاف وكلهم شوق ورغبة في التعلم والتعليم، بل منهم من يسمع حقيقة الإسلام، فيبكي -والله العظيم- حرقة وألما؛ لأنه لم يجد من يعلمه قراءة القرآن وكيفية الصلاة على الأقل. ثم يأتي بعضنا، يجلس في المجالس وعلى الموائد العامرة، وقد فرط في كثير من أمور دينه رغم كثرة الدروس والكتب والأشرطة والعلماء والمساجد، ثم نسمع من القيل والقال والتشكيك والتثبيط، فلنتق الله ولنقل خيرا أو لنصمت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 22 بناء المساجد في الخارج ثالثاً: وأمر ثالث إلى من يشترط بناء المسجد هنا ويرفض بناءه في بلد إسلامي، إنك ترى عشرات المساجد في الحي الواحد هنا -والحمد لله- أما هناك ففي عشرات المدن ومئات القرى لا يوجد بها مسجد واحد، والمسجد إذا بني هناك أصبح مركز إشعاع، ومنبع خير، ومركز اتصال لأهل المدينة كلهم، فما رأيك؟! وهناك لا يكلف بناء المسجد مائة ألف ريال، فأيهما أعظم أجراً وأكثر خيراً؟ أيها المسلم! إنك تبني مسجداً وغيرك يبني عشرات الكنائس، فاتق الله! واعلم أن المسلمين في كل مكان يفتشون عمن يأخذ بأيديهم ويعلمهم دينهم، ويشعر بشعورهم، فكن أنت ذلك الإنسان. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 23 حتى يغيروا ما بأنفسهم! رابعاً: لنعلم أنه لن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهو الرجوع إلى الله بقوة، فلنراجع أحوالنا، ولنغير ما بأنفسنا حتى يغير الله حالنا إلى سيادة وعزة ورفعة. لماذا هذا الإفراط العجيب في الشهوات والملذات؟ لماذا هذا الإسراف والتبذير؟ لماذا هذا التهاون والتكاسل بفرائض الدين؟! لماذا نحتقر الآخرين ونبخس جهدهم؟! لماذا هذه الأنا العجيبة عند بعض المسلمين؟! لماذا نعادي ونبغض إخواناً لنا من المسلمين وربما نحب ونوالي الكثير من الكافرين والمشركين؟! أيها الأخ الحبيب! لا يكفي أن نكون صالحين، بل لا بد أن نكون مصلحين، فلماذا لا نحرص على صلاح المسلمين في كل مكان؟ فالوسائل والفرص متاحة بجميع اللغات والجنسيات -والحمد لله- فلا عذر لأحد. واسمع لهذه الآية جيداً، قال الله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170] . قال: {الْمُصْلِحِينَ} ولم يقل: (الصالحين) وقال: {يُمَسِّكُونَ} بالتشديد، ولم يقل: (يمسكون) فهل نعتبر؟! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 24 صفات الإنسان الذي نفتش عنه؟ وخلاصة القول: إليك عرضاً سريعاً لصفات ذلك الإنسان الذي نفتش عنه، وهي: أولاً: صدق الإيمان وقوة اليقين بالله: إيمان يلهب القلب، ويقين يحرك العبد وهو واثق بنصر الله، فإن هذه المصائب والبلايا والمحن والرزايا التي تضيق بها النفوس تحتاج إلى يقين وإيمان بالله، فكم من محنة في طيها منح ورحمات، ومن فقد الثقة بربه اضطربت نفسه، وساء ظنه، وكثرت همومه، وضاقت عليه المسالك، وعجز عن تحمل الشدائد، فلا ينظر إلا إلى مستقبل أسود، ولا يترقب إلا الأمل المظلم. ثانياً: الشعور بشعور المسلمين، والتعرف على أحوالهم، والتألم لمصابهم، والتحدث عن أخبارهم. يحكى عن محمد رشيد رضا رحمه الله: كانت أمه إذا رأت عليه علامات الأسى والحزن قالت له: مالك يا بني! أمات مسلم في الصين اليوم؟! لما تعلم من حمله هم المسلمين! وأعرف أشخاصاً لا ينامون الليل -والله- إذا سمعوا خبراً عن مآسي المسلمين. ثالثاً: مما نطالبك به الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل والإلحاح فيه، فهو سلاحك أيها المؤمن! فداوم عليه وثق بالله. رابعاً: البذل والإنفاق في سبيل الله بدون مَنٍّ ولا مللٍ ولا استكثار. خامساً: تحقيق عقيدة الولاء والبراء بنفع وحب وجلب للمسلمين، وحسن الأخلاق والتعامل معهم، وبغض الكافرين الحاقدين والبراءة منهم. سادساً: تشغيل الطاقات والمواهب لخدمة الإسلام والمسلمين، كالمعلم والطبيب والشاعر والصحفي وغيرهم، فكل قادر على إعانة إخوانه في كل مكان من خلال عمله وتخصصه، ومن عرف قدر الحاجة له عرف كيف يعمل، وكما قيل: (الحاجة أم الاختراع) . سابعاً: الحرص على شراء وتشجيع كل منتجات البلاد الإسلامية، وبث الدعاية لها. ثامناً وأخيراً: اعرف عدوك من صديقك من خلال الكتاب والسنة، لا من خلال الهوى وحظوظ النفس. هذه أهم الصفات التي نفتش عنها فيمن يحمل الهم للمسلمين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 25 رسالة إلى كل مسلم ومسلمة وأخيراً: فإني أفتش عن إنسان يحمل في قلبه هذه المطالب، يترجمها لواقع وعمل، وإني على يقين أن صاحب هذا القلب لن يكون إلا ذلك المسلم الصادق بإيمانه. فإلى كل مسلم ومسلمة أقول: لتكن ذلك الإنسان الذي يفتش عنه الملايين من المسلمين المنكوبين، عندها نعذر أمام الله أن قمنا بما نستطيعه تجاه إخواننا. واعلم أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء؛ فإن الأمن والإيمان والنعمة التي نعيش فيها اليوم ربما هي رحمة من الله بسبب أيد أمينة مخلصة محسنة امتدت لإخواننا، وإننا نخشى والله أن تنقطع أو تقطع -والحال كما نرى- فلنقدر نعمة الأمن حق التقدير، ولنرعها حق رعايتها، {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:81-82] ولنعلم أنه بالشكر تدوم النعم، فالله الله في الجدية في حياتنا، فكيف سينفع غيره من لم ينفع نفسه؟! ومن لم يكن جاداً صادقاً وهو يرى حال أمته وما يحل فيها من النكبات والمصائب والذل والهوان، فأحسن الله عزاءه في نفسه، وسيعلم هؤلاء أي منقلب ينقلبون!! أما أنت أيها الصادق! فإذا قمت بهذه المطالب خير قيام فارفع بعدها يديك إلى السماء وقل: اللهم إنك تعلم حال إخواننا، وتعلم حالنا وضعفنا وقلة حيلتنا، اللهم إنا بذلنا جهدنا وما بوسعنا، فارض اللهم عنا، وأعنا على القيام بحق إخواننا على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والقسوة والغفلة، والذلة والمسكنة، واجعلنا مفاتيح للخير في كل مكان. اللهم احفظ المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين المنكوبين في كل مكان، اللهم أعنهم وأطعمهم واسقهم واكسهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم انصرهم على من بغى عليهم، اللهم انصرهم على من بغى عليهم، وانتقم لهم من الظالمين يا قوي يا عزيز! اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واجمع كلمتهم على التوحيد يا أرحم الراحمين! اللهم ارحم الأطفال اليتامى، والنساء الثكالى، وذا الشيبة الكبير. اللهم أصلح ولاة أمورنا ووفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم من أرادنا والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، وتدبيره تدميراً عليه، اللهم اكفناهم بما شئت، اللهم اكفناهم بما شئت فإنهم لا يعجزونك أنت ولي المؤمنين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 26 الفتاة ألم وأمل الفتاة المسلمة تكون ألماً عندما تكون ألعوبة تتأرجح، وسلعة رخيصة لا هم لها سوى اللذات والشهوات، وتكون أملاً عندما تكون مستقيمة طاهرة عفيفة أصيلة، تصارع طوفان الفساد وتبتعد عن الرذيلة، وترفض كل ما يعرض عليها من زيف التمدن والحضارة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 1 فتياتنا بين الألم والأمل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أما بعد: فهذا هو يوم السبت الموافق للخامس والعشرين من الشهر السابع للعام التاسع عشر بعد الأربعمائة والألف، وفي هذا المكان المبارك في مدينة الرس ألتقي بأخواتي الكريمات في موضوع بعنوان: (الفتاة ألم وأمل) . ما إن تفوهت بكلمات (الشباب ألم وأمل) إلا ووجدت نفسي غارقاً بسيل منهمر من العتاب: لماذا الحديث خاص بالشباب؟ ولماذا هذا التهميش للمرأة والغفلة عن مشاكلها وقضاياها؟ وها هو أُخيتي! (الفتاة ألم وأمل) بين يديك؛ علماً بأني -يعلم الله- قد طويت النية من تلك اللحظات التي أهديت فيها الشباب تلك الكلمات أن أوجه مثلها للفتيات. أما سبب التأخير فهو ذلك السيل الهادر والبحر الكاسر من أكوام الورق والأخبار، والصور والمواقف والمشاكل والعقبات عن حال بعض بنات اليوم، حتى أنني وقعت في حيرة وتردد، وإقدام وإحجام عن الحديث للفتاة، فهل أكون صريحاً فأتهم؟ أم تكفي الإشارة والتلميح؟ فأخشى أن يأتي العلاج بارداً باهتاً لا لون له ولا طعم. فآثرت التوسط بين التصريح والتلميح، وهنا يعذرني الكثير من الإخوة والأخوات بترك ما ذكروه من بعض الصور والمواقف من باب: (حدثوا الناس بما يعقلون) ولعل مثل هذه المظاهر شواذ، فالكثير من أخواتنا وإن بعدت عن الله فإن فيها خيراً كثيراً، وفيها حباً لله ولرسوله؛ ولكنها الغفلة. ورسالتي هذه ليس لها حدود لا بجنس ولا سِن بل هي تنبيه لكل أخت أسرفت على نفسها بالمعاصي والذنوب، وتذكير لكل بنت أصابها شيء من الغفلة والتقصير، وأعرف بدءاً أن الأبوين يشاركان الفتاة في بعض مشاكلها، لكن ليس لهما نصيب من حديثي هذا، ولعله يكون حديثاً خاصاً في مستقبل قريب إن شاء الله تعالى. وقد اعتمدت بعد الله على استبانة قام بها بعض الباحثات، وكان عدد العينة في الاستبانة (759) فتاة، واستفدت أيضاً من عدد من الاستبانات التي قامت بها بعض المجلات (كـ الدعوة) و (تحت العشرين) ومن المشاركات من كثير من الإخوة والأخوات، فشكر الله الجميع، وجزاهم عني وعن المسلمين خير الجزاء، وأساله التوفيق والسداد والعون والقبول والصواب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 2 نداء للفتاة لتكون أملا ً أيتها الأخت! أقلِّب طرفي لأتأمل، فيتألم القلب ويأمل، ويحزن ويفرح، ويسعد ويشقى من أجلك أنت، فأنا كغيري من الناصحين أحمل همك في الليل والنهار، واليقظة والمنام: إي والله. فما طوفته القلب مني سحابة من الحزن إلا كنت منها على وعد ولا رقصت في القلب أطياف فرحةٍ فغنّت إلا كنت طالعة السعد أثرت ابتساماتي وأحييت لوعتي فمن أنت يا أنسي ومن أنت يا وجدي إنها أنت أيتها الأمل! فالقلب يشقى ويحزن، ويتألم عندما أراك ألعوبة تتأرجح، وسلعة رخيصة وفتاة لعوباً، لا همّ لها سوى اللذات والشهوات، ويسعد القلب ويفرح ويعقد الآمال وأنت تصارعين طوفان الفساد وتصرخين في وجه الرذيلة، أنا مسلمة مستقيمة، وبنت أصيلة أعرف أن للمكر ألف صورة وحيلة. أختاه أيتها الغالية! يا نسمة العبير! أنت بسمتنا المنشودة، وشمسنا التي تبدد الظلام، فاسمعي هذه الكلمات، إنها ليست مجرد كلمات بل، هي وربي آهات قلب المؤمن الغيور. فيا أيتها الأمل! تعالي قبل فوات الأوان، فاسمعي هذا النداء، فربما عرفتي الداء والدواء. تعالي هذه الأيام لا ترجع ولا تصغي لنا الدنيا ولا تسمع ولا تجدي شكاة الدهر أو تنفع تعالي نحن بعثرنا السويعات وضحينا بأيام عزيزات فيا أختاه يكفينا حماقات أجل يا أخت ما قد ضاع يكفينا فعودي ها هو العمر ينادينا فلا نخربه يا أخت بأيدينا أخيتي! اسمعي هذه الكلمات بعيداً عن إله الهوى والشهوات، فربما رق القلب فانقلب بعواطفه وأشجانه، وربما صحا الضمير فيحس بآلامه وآماله، وربما تنبه العقل ليتحرر بأفكاره وآرائه. إنها إشراقة لتشرقي في سمائنا يا شروق! وهي الحنان من نبع لا يجف يا حنان! إنها الأمل الذي نرجوه يا أمل! فهل أنت أمل فنعقد عليك الآمال؟ أم أنت ألم فتزيدين الآلام آلاماً؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 رسائل توحي بالألم كتبت فتاة رسالة بعد سماعها لشريط (الشباب ألم وأمل) وكانت رسالتها [26] صفحة، وعنونت لها (الفتاة ألم بلا أمل) وقد كتبتها بدم قلبها، ووقعتها باسم (أمل) ، وهي أمل -إن شاء الله- رغم كل ما كتبته، فقلب يشتعل حرقة وندماً سيصل في النهاية مهما طال الطريق. ومما قالت فيها: المثيرات تحاصرني من كل مكان: قنوات فضائية أفلام هابطة أغان وأشرطة تحوي كلاماً ساقطاً، إلى من ألجأ في مثل هذه الظروف ارحموني! نهايتي تقترب أوجدوا حلاً لمعاناتي اسمعوا صرخاتي من قلبي من أعماقي أسرعوا في إيجاد الحل، فها أنا أقفل حقائبي وألملم شتات نفسي للرحيل، لقد عزمت على الرحيل إلى آخر كلامها الذي سأعود إلى بعضه في هذا الدرس وغيره. وتتحسر أخرى فتقول: أبحث عما يريح نفسي من الهم الذي أثقلها، لم أجد في الأفلام أو الأغاني أو القصص ما ينسيني ما أنا فيه لا أدري ما الذي أفعله وما نهاية هذا الطريق الذي أسير فيه. وثالثة تبث همومها وأحزانها وتقول: أعيش في موج من الكدر يحرم عيني المنام، فأنا دائماً أفكر في حالي، وكيف أبحث عن السعادة؟! فأنا كما يقولون: غريبة، والغربة هنا ليست غربة المكان؛ ولكنها غربة الروح، وغربة المشاعر الحزينة التي تشتكي بين ضلوعي لما أفعله تجاه ربي ونفسي والناس، فلقد طال صبري كثيراً على حالي، فمتى وقت رجوعي. ورابعة تصرخ فتقول: أقسم بالله أن أياماً مرت عليّ حاولت فيها الانتحار، ولكن كل محاولة تفشل، لا أعلم لماذا؟ هل الله يريد أن يطيل عذابي؟ أم أن أجلي لم يحن بعد؟ ولكن ما أعرفه أنني أموت كل يوم وليلة. وهكذا تتوالى الآهات والحسرات من الكثير والكثير من الفتيات الغافلات. أيها الإخوة والأخوات! ارحموا الفتيات! أيها المجتمع! رويداً رويداً بالفتاة. أيها الآباء والأمهات! حناناً وعطفاً للفتاة. أيها الإعلاميون! رفقاً بالقوارير! أيها الشباب! اتقوا الله في الأزهار والورود! لم يبق من ظل الحياة سوى رمق وحطام قلب عاش مشبوب القلق قد أشرق المصباح يوماً واحترق جفت به آماله حتى اختنق هذه حال الفتاة، فالمشاكل والأخطار تفترسها، فراغ وسهر انحراف وفساد عشق وغرام تبرج وسفور عجب وغرور عقوق للوالدين ترك للصلاة تبذير للأموال، تقليد للغرب ضياع للشخصية سفر لبلاد الكفر والإباحية جلساء السوء الكذب والغيبة وبذاءة اللسان التدخين والمخدرات العادة السرية التشبه بالرجال أفلام وقنوات فحش وروايات غناء ومجلات معاكسات ومقابلات جنس وشهوة وإثارة للغرائز وغيرها من مشاكل الفتاة، إنه الألم الذي تعيشه الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية، وشتان بين الألم والأمل. معاشر الأخوات! لماذا بعض الفتيات حياتها من وحل إلى وحل، ومن مستنقع إلى مستنقع؟!! مرة مع القنوات الفضائية، ومرة مع المجلات الهابطة، ومرة في المعاكسات وربما الزنا، فهي غارقة في أوحال الفساد والشهوات. تقول صاحبة الرسالة: لم أجد باباً إلا طرقته، ولا معصية وخطيئة إلا جربتها، والنهاية أسوأ من البداية، ألم وضياع، وحرقة واكتئاب. أيتها الأخوات! قلب تفرق بين هذه المشاكل، فإذا مَلَّ هذه انتقل إلى تلك، قلب في الشهوات منغمس، وعقل في اللذات منتكس، همته مع السُفليات، ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات كيف حاله؟! كيف سيكون؟! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 4 المراد من الفتاة المسلمة وما يراد لها فيا أختاه: شدي وثاق الطهر لا تتغربي عن عالم الدين الحنيف الأوحد شدي وثاق الطهر سيري حرة لا تخدعي بحديث كل مخرب لك من رحال المجد أخصب بقعة ولغيرك الأرض التي لم تخصب لك من عيون الحق أصفى مشرب ولعاشقات الوهم أسوأ مشرب هزي إليك بجذع نخلتنا التي تعطي عطاء الخير دون تهيب وقفي على نهر المروءة إنه يروي العطاش بمائه المستعذب وإذا رأيت الهابطات فحوقلي وقفي على قمم الهدى وتحجبي إن الحجاب هو التحرر من هوى ولاّدة ذات الهوى المتذبذب وهو الطريق إلى صفاء سريرة وعلو منزلة ورفعة منصب ولعلك تتسائلين ماذا نريد؟ فأقول: إن لك تأثيراً كبيراً في المجتمع، وقد يكون التأثير سلباً أو إيجاباً، فإن كنت ذا عقل ناضج كان لك تأثيرك البناء الفعال، وإن كنت ذات عقل خفيف طائش، أو عقل فاسد منحرف، كنت بؤرة فساد وإفساد للمجتمع وهدمه. أُخيتي! أرجوك لا تزعجك صراحتي، فو الله إننا نستطيع كغيرنا أن نتلاعب بالعواطف، وأن ندغدغ المشاعر بكلمات الحب والغرام، وأن نجعلك تعيشين في عالم الأحلام. نعم. لا تعجزنا كلمات الغزل، ولا همسات العشاق، بل نتحدى كل من يعزف على أوتار المحبين! ولكن ماذا بعد؟ شتان بين من يريدك لشهوته، وبين من يريدك لأمته، نعم. نريدك أن تكوني أكبر من هذا، نريدك أن تنفعي وتساهمي في بناء المجتمع ونهضته، لا كما يريدك الآخرون للغزل والحب والشهوة، والغناء والرقص والطرب، ألهذا خلقت فقط؟! وهل الحياة حب وعشق فقط؟! لماذا ننام على الشهوة ونصحو عليها؟! إن من النساء من لا تنام ولا تقوم إلا على غناء العاشق الولهان، أوقات لمشاهدة لقطات الحب والتقبيل، وأوقات لقراءة روايات العشق والغرام، وأوقات لتصفح مجلات الفن والغناء، وأوقات للهمسات والمعاكسات، لماذا عواطف فقط؟ أين العقل؟! أين الإيمان؟! أين المروءة؟! بل أين البناء والتربية والفكر والمبادئ والأهداف في حياة المرأة؟! أيتها الأخت! هل تعلمين وتفهمين أن هناك من يريد إبعاد المرأة عن دينها، وصدها عن كتاب ربها؟! وإن كنت لا تعلمين فيكفي ما تشاهدين من ذاك الركام الذي يزكم الأنوف من المجلات والأفلام والقنوات والأقلام والروايات، والتي لا هم لها إلا عبادة جسد المرأة من فن وطرب، وشهوة وجنس ومساحيق وموضات، فلماذا الاهتمام بالصورة لا بالحقيقة؟! وبالجسد لا بالروح؟! كم أتمنى أخيتي أن تفرقي بين من يحترم عقلك لا جسدك، ويهتم بملء الفراغ الروحي والفكري لديك، وبين من يهتم بالشهوة والجسد والطرب، فهل عرفت ماذا نريد؟! وأنت تقرئين القرآن قفي وتأملي قول الحق عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:7] . فهل عرفت إذاً؟ إنه ابتلاء وامتحان، فاسألي نفسك هل نجحت أم رسبت في الامتحان؟! إنني ممن يطالب وبقوة بحقوق المرأة، وبالعدل بينها وبين الرجل، نعم بحقوق المرأة التي جاء بها الإسلام ليكرمها، وبخسها بعض الرجال بجهله وبظلمه وتسلطه، أقول بالعدل لا بالمساواة! أتدرون ما تعني المساواة؟! أن نجعل المرأة رجلاً، والرجل امرأة، وهذا انتكاس بالفطرة وجهل بحقيقة الخلقة لكل منهما، فإن الله تعالى خلقهما وجعل لكل منهما وظيفة وأعمالاً، لكل منهما دور في الأسرة والمجتمع يجب أن يقوم به في الحياة، وقد سبقت المرأة المسلمة غيرها في الإسهام الحضاري بمئات السنين، لكنها لم تخرج عن وظيفتها ولا طبيعتها، ولم تطلب أن تتشبه بالرجال أو تتساوى بهم في الطبيعة والوظيفة؛ لأن ذلك غير ممكن، وغير مستطاع، بل محال إلا إذا انتكست الفطرة، وانقلبت الموازين وتداخلت الأدوار، وفي هذا اضطراب للمجتمع، وتفكك وشقاء. وإياك إياك أن تنسي الوظيفة الأولى والأصلية التي جعلها الله لك وهي أن تكوني ملكة بيت ومربية أجيال ورجال، فالزمي بيتك لتسعدي، ولنهب لك قلباً تحبينه ويحبك، فيريحك من النفقة، ويشبع غريزتك ويصونك من الذئاب المسعورة، وإذا كان لديك فضل من وقت ونشاط وهمة، فالمجتمع وبنات جنسك بأمس الحاجة إليك وإلى مواهبك، وبشرط الستر والعفاف، لكن تذكري وكرري دائماً (بيتي أولاً) . أما جعل الوظيفة أولاً، وإهمال البيت والأولاد والتبرج والسفور والاختلاط وباسم الحرية المزعومة، فهذا والله خلل في المفاهيم وانتكاس في الفطر، وتجربة البلاد المجاورة تصدق ما يكذبه سفهاء الأحلام، فما أعظم الخطب! وما أشد المصيبة إذا اختل المنطق، وانتكست المفاهيم، وأصبحت العبودية والشهوات واللذات حرية ندعو لها. هذا ما نريد باختصار، وإذا أردتِّ أن تعرفي ماذا يريدون؛ فاقرئي كتاباً نفيساً جداً بعنوان: ماذا يريدون من المرأة لـ عبد السلام بسيوني وهو أحد كتاب مجلة الأسرة، وهي مجلة جميلة أنصح بقراءتها إضافة إلى مجلة الشقائق، فهما شمعتان مضيئتان في طريق المرأة، وكتاب آخر بعنوان: يا فتاة الإسلام اقرئي حتى لا تخدعي لفضيلة الشيخ صالح البليهي رحمه الله، اقرئي أمثال هذه الكتب والمجلات لتتضح لك الحقيقة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 أسباب مؤثرة في صناعة العقل والفكر أيتها الغالية! اسألي نفسك بصراحة: من يصنع أفكارك ويبنيها؟ أهو العلم والثقافة والتربية الصالحة وتوجيه الأبوين؟ أم هو الإعلام ومجلات وروايات ومسلسلات الحب والغرام؟ أجاب: (32%) من فتيات الاستبانة بأن توجيه الأبوين والأسرة هو الذي يصنع العقل والفكر، وأجاب (30%) بأنه العلم والتعليم، وأما التربية الذاتية فـ (26%) وقال (12%) بأن الذي يصنع الفكر هو الإعلام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 أثر الإعلام في صناعة العقل والفكر وعن سؤال آخر أجاب (50%) أن للإعلام والمجلات ومسلسلات الحب والغرام أثراً في حياتهن وعلى أفكارهن وعقولهن، وقال: (46%) أنه ليس لذلك أثر في حياتنا ولا على الفكر والعقل، وربما استغرب البعض وهو يسمع هذه النسب الخاصة بالإعلام، فإن المشهور أن للإعلام اليوم أثراً كبيراً في حياة الناس، ولعل السر هنا أن الكثير من الناس لا يشعرون أن ما يشاهدونه ويقرءونه عبر وسائل الإعلام له أثر كبير في حياتهم، أو أن البعض يشعر لكنه يتصنع الشخصية المستقلة التي لا تتأثر خوفاً من الاتهام بالتبعية والتقليد، والعجيب أنك لو سألت هؤلاء: هل للإعلام أثر على الآخرين؟ لأجاب وبسرعة: بنعم، وهذا ما حصل، فقد أجاب (60%) بـ (لا) عندما سئلن: هل للقنوات تأثير عليك؟ وعندما سئلن هل للقنوات تأثير على الآخرين؟ أجاب (93%) بـ (نعم) سبحان الله! (55%) ذكرن أن الآثار سلبية و (38%) ذكرن أن الآثار سلبية وإيجابية، وهكذا فنحن نجيد فن اتهام الآخرين، أما اتهام النفس، والشجاعة في مواجهتها ومصارحتها، فآخر ما يفكر به الحيارى وضعاف النفوس. أما البحوث والدراسات فقد أثبتت أن الذين يتعرضون لفترات طويلة لوسائل الإعلام يتصور لديهم عالم خاص من صنعهم، وهو في الواقع عالم مزيف مليء بالحقائق والأرقام الوهمية، وأما الاعترافات بأن للإعلام أثر في الحياة، وعلى الفكر والعقل فاسمعي بعضاً منها ومن مجلة تحت العشرين في عددها [27] تقول فتاة: أحلم أن أصبح فنانة مشهورة تملأ صوري الصحف والمجلات، ويشير المجتمع إلي في كل مكان، ولهذا فإنني أتابع بحرص شديد كل أخبار فنانتي المفضلة، والتي اعتبرها مثلي الأعلى، وأراقب بدقة حركاتها وأسلوبها، سواء في التمثيل أو الحياة، ومن يدري قد أصبح يوماً في مثل شهرتها. وتقول فتاة أخرى: إنها تحب هذا الفنان كثيراً، فصوره تملأ كل مكان في غرفتي، وأرفض أن ينتقده أي إنسان؛ ولو كانت صديقتي المقربة. وتقول ثالثة: أنا أعشق عالم الموضة والأزياء، وتبهرني كثيراً عارضات الأزياء لرشاقتهن وطريقتهن في الحركة والمشي، وأحاول قدر الإمكان تقليدهن في حركاتهن حتى أنني أتبع رجيماً قاسياً لأصل لنفس القوام الذي يتمتعن به. ولا أدري أقرأت هذه وأمثالها توبة فابيان أشهر عارضة أزياء فرنسية؟ وهل هي سمعت قولها: إن بيوت الأزياء جعلت مني مجرد صنم متحرك، مهمته العبث بالقلوب والعقول، فقد تعلمت كيف أكون باردة قاسية مغرورة، فارغة من الداخل، لا أكون سوى إطار يرتدي الملابس، فكنت جماداً يتحرك ويبتسم ولكنه لا يشعر، كنا نحيا في عالم الرذيلة بكل أبعادها والويل لمن تعترض عليها وتحاول الاكتفاء بعملها فقط إلى آخر حديثها، من جريدة المسلمون عدد (238) . فهل نستيقظ؟! وهل نستفيد من تجارب الآخرين الذين سبقونا في مثل هذا الطريق؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 الآثار السلبية للقنوات الفضائية وحول سؤال عن الآثار السلبية للقنوات الفضائية ذكر (38%) الانحراف والانحلال الخلقي وذكر (25%) التقليد، و (21%) ضياع الوقت، أو (15%) البعد عن الدين الإسلامي و (13%) عدم احترام المجتمع وزرع الأفكار السيئة، (6%) أنها تلهي عن الصلاة و (4%) أنها تثير الغرائز الجنسية، وغير ذلك من الآثار السلبية التي ذكرت على لسان الفتيات من عينة الاستبانة. وكل ما نراه الآن من الآثار التخريبية للحرب الفضائية أو الفضائحية إنما هي مقدمات فقط ستتضح آثارها المدمرة على المجتمعات الإسلامية والعربية في الأجيال القادمة، بل أقول في الجيل القريب، نسأل الله أن يحفظ المسلمين من كل سوء، وأن يرد كيد الكائدين في نحورهم! إذاً: فصياغة الإعلام للأفكار والمفاهيم لا ينكره عاقل، حتى كاد العيب أن يختفي من قاموس القيم والتقاليد العربية والآداب الإسلامية النقية، واسألي نفسك بكل صراحة: لماذا سلمت أفكارك وعواطفك لتجار الفن ودعاة الرذيلة يتلاعبون بها لمصالحهم وشهواتهم كيف شاءوا؟! لم لا تَزِنين ما تقرئين وتشاهدين وتسمعين في ميزان شرعنا وعقيدتنا، فما وافقه قبلناه وما أنكره رفضناه. أتقبلين يا أختاه أن يجعلوك أداة لهو لهم، وتتركي لهم الصدارة في العلم والتربية، والثقافية والأدب والفكر؟! إن صلاح المرأة من أهم العناصر لبناء المجتمع. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 أسئلة وردود موجهة إلى دعاة التحرير اسألي نفسك أنت وفكري، أين هؤلاء عن توجيه المرأة لصلاح دينها ودنياها؟! أين هم عن المرأة فوق الأربعين وهمومها ومشاكلها؟! لم لا نقرأ أو نسمع من يحمل همها ويشاطرها أحزانها ويطالب بحقوقها؟! وكذلك الفتاة الصغيرة ذات السبع والتسع والثنتي عشر، لماذا لا يهتم أولئك بهن؟! أين هم عنها معاقة ومطلقة ومسجونة؟! أم أنهم يحملون همَّ فتاة الخامسة عشر والعشرين والثلاثين، وربما أيضاً بشرط: أن تكون جميلة وبيضاء وطويلة وأنيقة؟! نعم. هذه هي المرأة التي يطالبون بحقوقها وتحريرها، حتى هذه أين هم من فكرها وأدبها وخلقها وثقافتها؟! حتى المحتشمة والتائبة لم يتركوها! أليسوا يطالبون بحريتها -كما يزعمون- ها هي تريد وأن تتوب، أن تحتشم، أفلا يرحموها ويتركوها، أليست هذه حرية؟ أم أنها الحرية التي يرسمونها هم؟! ولهؤلاء قال المنفلوطي: إنكم لا ترثون لها بل ترثون لأنفسكم، ولا تبكون عليها بل على أيام قضيتموها في ديار يسيل جوها تبرجاً وسفوراً، ويتدفق خلاعة واستهتاراً، وتودون بجذع الأنف لو ظفرتم هنا بذلك العيش الذي خلفتموه هناك إلى آخر كلام المنفلوطي في العبرات. هذا خطاب المنفلوطي لهم، وخطابي ليس لهم بل لك أنت أيتها الفتاة! فتنبهي وأفيقي وفكري. أخيتي! أتذكرين يوم كنت بنت تلك القرية الصغيرة؟! أتذكرين يوم كنت تلعبين وتمرحين مع أبناء الحي ببراءة الصغار وطهارة القلب؟ أتذكرين يوم كنت تستحين أشد الحياء من استعمال الأصباغ والعطور والزينة، قبل أن يأخذ الزوج بيدك؟ ما أجمل نعمة الحياء ووازع الدين والخلق، وما أحسن عادات وتقاليد البيئة العربية الأصيلة، فلماذا تتنكرين لها؟! ولماذا التعالي عليها بحجة اتباع الموضات والصيحات؟! ولماذا نترك الآداب الإسلامية الأصيلة بعفتها وطهارتها ونتجه إلى التقليعات الغربية الدخيلة بنتنها ونجاستها؟! أنستبدلُ الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ يا ابنة الإسلام! يا ابنة العرب! أيتها العفيفة الطاهرة! لماذا هذا التميع؟! أين قوة الشخصية؟! ولماذا الهزيمة النفسية؟! أين العزة بالآداب الإسلامية؟! والفخر بالتقاليد العربية؟! اصرخي بأعلى صوتك وقوليها وبكل فخر واعتزاز: نعم أنا مسلمة عربية مستمسكة بديني وآدابي وأخلاقي. قولي للمرأة الغربية: إن كنت تفخرين بالمخترعات والتقنيات والحضارة العلمية، فإني أفخر بالآداب والأخلاق والحضارة الإسلامية والعادات العربية. قولي لها: إن هان عليك دينك أو كنت بلا دين فأنا أعز شيء عليَّ ديني وعقيدتي. قولي لها: إن كنت جارية كالمجاري لكل الرجال هناك، فأنا ملكة لمملكتي الصغيرة، عفيفة حصينة بزوج يرعى لي حقي وحق أولادي. قولي لها: إنَّ ما أنت فيه من عبودية للشهوة والإباحية، حررني منها حبيبي وقدوتي محمد صلى الله عليه وسلم وجعلها عبودية لله بيضاء نقية. قولي لها: أنا في بلادي وشبابي ملكة للقلوب أنعم بزوجي وينعم بي، وإذا كبرت وذبلت فسيدة للمنزل لا يصدر أحد في البيت إلا عن أمري، يتسابق الجميع لإسعادي وكسب ودي، أما أنت ففي شبابك أسيرة للشهوة والمعامل والمصانع، خادمة في المطاعم والفنادق، حمالة في الأسواق والطرقات، سائقة للعربات والعجلات، وفي الشيخوخة فمكدودة منبوذة مهجورة! هكذا المرأة الغربية تبدو حرة وهي مقيدة، نعم والله لا أقول حُدِّثت بل رأيتها بأم عيني، تُرى معززة وهي مهانة، حتى قالت إحداهن: إن ثمن عنقود العنب في باريس يفوق ثمن امرأة. ذكر أحد الأدباء أنه كان يتكلم عن المرأة المسلمة في إحدى محاضراته في أمريكا، وذكر فيها استقلال المرأة المسلمة في شئون المال وأنه لا ولاية عليها في مالها، وإن تزوجت كُلف زوجها بنفقتها، ولو كانت تملك الملايين ولو كان زوجها عاملاً لا يملك شيئاً، إلى غير ذلك مما نعرفه نحن كمسلمين ويجهلونه هم عنا، قال: فقامت سيدة أمريكية من الأديبات المشهورات وقالت: إذا كانت المرأة عندكم على ما تقول فخذوني أعيش عندكم ستة أشهر ثم اقتلوني. هكذا هن يتحسرن ويرغبن أن يعشن كما تعيشين. ففكري أختاه!! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 فتك الفضائيات بعقول الفتيات هل تشاهدين القنوات الفضائية؟؟ هذا سؤال من الأسئلة المطروحة في الاستبانة، وقد أجاب (63%) بـ (نعم) ويحرصن على مشاهدة الأفلام والمسلسلات والأغاني وأخبار الفن منهن (59%) و (12%) على كل شيء، أما نسبة اللاتي يحرصن على البرامج الثقافية فـ (6%) وعلى البرامج الدينية فـ (4%) وأما الأخبار والبرامج العلمية والثقافية والوثائقية (9%) ولعل هذه الأرقام تكشف لك أختي الفاضلة عن المصدر الأساسي لثقافة المرأة اليوم: الأفلام والأغاني وأخبار الفن. وأنا أسأل: أفكار ومفاهيم بالإضافة إلى أغاني ساقطة، وأفلام آثمة، وسهرات فاضحة، وقصص داعرة، وملابس خالعة، وعبارات مثيرة، وحركات فاجرة، كيف ستعيش زوجة؟! وكيف ستكون أماً؟! وهل تصلح مربية ومعلمة؟! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 10 دور الفضائيات في صناعة الأفكار والمفاهيم ولنا أن نتخيل أمهات ومعلمات وزوجات هن من تربية قنوات فضائية، إنها رحلة الخداع إلى دنيا الضياع، وأما المسلسلات المكسيكية المدبلجة والتي أقصر مسلسل فيها يزيد على (50) حلقة، فحدث ولا حرج عن دورها في ضياع الحياة وتمزيق الأسرة، فهي تقوم كل ليلة بغسيل المخ للكثير من بنات عقيدتنا. تقول مجلة تحت العشرين في عددها الرابع، قمنا بإجراء استبيان لتسعين فتاة تحت سن العشرين حول هذه المسلسلات وقد أظهرت نتائج هذه الاستبيان أن (70%) من الفتيات يحرصن على مشاهدتها يومياً، ولما سئلن عما يعجبهن في هذه المسلسلات؟! وجدنا أن القصة والحوار والأحداث، إلى جانب الأزياء التي ترتديها الممثلات هي أهم ما تعجب به الفتيات، وتراوحت نسبة الإعجاب بهذه الأشياء ما بين (75%) إلى (80%) انتهى الخبر من المجلة. وأقول: هذه المسلسلات تطبيع تدريجي تستمرئه العقول والأفكار على مدار الليالي والأيام، نعم. فهي مسلسلات مليئة بالخيانة، والتعري والخمور والاغتصاب والعنف، والعلاقات الجنسية فيها مباحة للجميع حتى بين المحارم كالأخ وأخته وزوجات الأصدقاء، وهي تؤكد أنه لا يمكن للمرأة أن تعيش بدون عشيق وصديق، وتعرض على الشاشات العربية على أنها عواطف ومشاعر وحب وإعجاب، وعلاقات ورغبات، حتى تثور براكين العواطف لدى الفتاة، وتتفجر الغرائز وتتصادم مع القيم العربية والآداب الإسلامية، فيجن جنون الفتاة وتعيش في صراع وقلق وأوهام اليقظة وأحلامها وربما تلعب بالنار، نعم. ربما تلعب بالنار لتحرق كل شيء بعد ذلك، إنه تدمير للقيم العربية والأخلاق الإسلامية. أختاه! وأنت تتحدثين مع الزميلات عن أحداث هذه المسلسلات والأفلام، هل نسيت أنها تتحدث عن واقع مجتمعاتهم الكافرة؟! وأنك مسلمة ذات أخلاق وآداب، هل سألت يوماً: لماذا تعرض هذه المسلسلات ولمصلحة من؟! فكري بعقلك لمصلحة من تعرض هذه المسلسلات كل ليلة وهي بعيدة كل البعد عن المجتمعات الإسلامية والعربية؟! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 11 مستنقعات ترسم لها زينة الجنات أختاه! لماذا النظر لنساء قذرات دنسات سيئات الأخلاق؟! لماذا لم نعد نفرق بين مسلمة وكافرة، وبين صالحة وفاسقة؟ سبحان الله! الألبومات لكثير من الأخوات مليئة بالصور لكثير من الكافرين والكافرات، لماذا بعض الأخوات لم تعد تفرق بين الفضيلة والرذيلة؟! حتى تعلقت قلوب الكثير من الفتيات بما يعرض ويشاهد على الشاشات من مناظر الجمال والخضرة، ومشاهد الزينة والفتنة المزيفة بالمساحيق والمكايج؛ حتى اقتنع الكثير من الأخوات أن أولئك يعيشون في جنة الدنيا، وأنهم في غاية السعادة والأنس والانبساط، ونسينا أن اسم هذا تمثيل، وأنه فقط لبضع لحظات وقت الوقوف خلف الشاشات، وأنها أجساد تشترى، وصور تنتقى ببضع ريالات، فربما أعوزهم لهذا الفقر والحاجة أو فساد الدين والمعتقد. اسمعي إن كنت تعقلين كتبت إحدى الكاتبات في صحيفة الأيام في عددها (3300) تقول تحت عنوان: (جواري الفيديو كليب) فقالت: قرأت تحقيقاً مصوراً حول سوق لفتيات فيديو كليب، كان تحقيقاً مخزياً بمعني الكلمة، كان عبارة عن سوق للرقيق -سوق نخاسة- يمارسه البعض تحت اسم الفن والإعلام إلى أن قالت: فذكروا أن هناك أسعاراً متنوعة للفتيات، وهناك قوائم مصنفة للفتيات، وكتلوجات جاهزة للعرض، فالسمراء لها سعر، والشقراء لها سعر، والطول الفارع له سعر، والسن له سعر، ونسبة الجمال لها سعر، والجنسيات لها سعر، وإجادة الرقص لها سعر، وهناك فتيات رخيصات التكلفة للتصوير السريع، وللميزانية التي على قدر حالها كما تقول الصحيفة إلى آخر المقال. أرأيتِ أخيتي! إنه سوق لبيع الجواري، إنه امتهان واحتقار لكرامة المرأة، والأمثلة كثيرة والوقت يضيق، ولا أحب أن أوذي مشاعرك بكثرة الغثاء. فتنبهي أيتها الغافلة! أفيقي أيتها العاقلة! شتان بين الواقع والخيال، وبين الوهم والحقيقة، هل سألت نفسك بصدق: هل تلك النسوة اللاتي يعرضن أنفسهن بالليل والنهار على صفحات المجلات والشاشات، وهن يظهرن الأفخاذ والنحور ويبتسمن وكأنهن أسعد الخلق، هل هن في حياتهن بسعادة حقيقية ولا يعرفن المشاكل والهموم والأحزان؟! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 12 هيهات هيهات لو فطنتِ للحقيقة هي لو علمت ضحية لعصابة ذهبت لجمع المال أسوأ مذهب هي صورة لمجلة هي لعبة لعبت بها كف القصي المذنب هي لوحة قد علقت في حائط هي سلعة بيعت لكل مخرب هي شهوة وقتية لمسافر هي آلة مصنوعة لمهرب هي رغبة في ليلة مأفونة ترمى وراء الباب بعد تحبب هي دمية لمسابقات جمالهم جلبت ولو عصت الهوى لم تجلب يا ربة البيت الكريم لواؤها بالطهر مرفوعاً عظيم الموكب البيت مملكة الفتاة وحصنها تحميه من لص العفاف الأجنبي لا تركني لقرار مؤتمر الهوى فسجية الداعي سجية ثعلب لا تخدعنك لفظة معسولة مزجت معانيها بسم العقرب فما بالك أخيتي تخدعين بمعسول الكلام، وتلهثين خلف وسائل الإعلام بدون عقل ولا تفكير؟! وأسمعك ترددين: هذه هي الحياة، أتمنى أن أسافر إلى كذا هكذا الدنيا وإلا فلا من يخرجني مما أنا فيه طفش وضيق وغيرها من العبارات التي نسمعها من بعض الغافلات. إليك أختاه هذه الدراسة، فقد قامت مجلة ماريكير الفرنسية باستفتاء للفتيات الفرنسيات من جميع الأعمار والمستويات الاجتماعية والثقافية، شمل مليونين ونصف من الفتيات، عن رأيهن في الزواج من العرب ولزوم البيت؟! فكانت الإجابة المذهلة أجابت (90%) منهن بـ (نعم) للزواج من العرب ولزوم البيت، والأسباب كما قالتها النتيجة هي كالآتي: ملت المساواة مع الرجل. ملت حالة التوتر الدائم ليل نهار. ملت الاستيقاظ عند الفجر للجري وراء القطار. ملت الحياة الزوجية التي لا يرى الزوج زوجته فيها إلا عند النوم. ملت الحياة العائلية التي لا ترى الأم فيها أطفالها إلا حول مائدة الطعام. ولقد كان عنوان الاستفتاء: (وداعاً عصر الحرية، وأهلاً بعصر الحريم) . يا ابنة الإسلام! هذه هي الفتاة التي تحلمين أن تكوني مثلها، هي تحلم أيضاً وتتمنى أن تكون مثلك، فأيكما على الحق؟! أخيتي أيتها الغالية! كوني عاقلة فطنة واعلمي أن ما أنت فيه من أمن وإيمان، ومال وخيرات حسان، وقرب من الوالدين والأهل والإخوان، وبيت وزوج وولد في المستقبل أو الآن، وستر وعفاف، ودين وأخلاق، وراحة واستقرار في هذه البلاد المباركة لهي أمنية، إي والله هي أمنية للكثيرين! هذا أولاً. وثانياً: هل نسيت أنك في الدنيا، وأنها مليئة بالهموم والآلام، وأنها حقيرة لا تساوي عند الله جناح بعوضة، هل نسيت أن هناك شيء اسمه الزهد والورع، وترك الشبهات فضلاً عن ترك المحرمات، وأن هناك آخرة وموت، وقبر وحسن أو سوء خاتمة، وجنة ونار، وجزاء وحساب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 13 تحذيرات قبل الانزلاق في الهاوية أخيتي! تمني ما شئت واعملي ما شئت، ولكن اعلمي أن الله يراك، وأن اللحظات معدودة والأنفاس محسوبة، والذي يذهب لا يرجع، ومطايا الليل والنهار بنا تسرع. اسألي نفسك ماذا قدمت لحياتك قبل أن يفاجأك الموت؟! وأنت أخيتي كيف تقضين يومك؟! أجاب على هذا السؤال (36%) أمام الدش والتلفاز والفيديو و (30%) في قراءة الكتب النافعة، و (21%) متابعة كل جديد، و (20%) بقراءة الصحف والمجلات وغيرها مما ذكر هناك. فأقول: اعلمي أختي أن النظر رائد الشهوة ورسولها، فلماذا أطلقت لبصرك العنان ينظر لكل شيء؟ أو ما علمت أن أخطر شيء على القلب إطلاق العنان للنظر؟! فالنظرة تجرح القلب جرحاً، وأكثر ما تدخل المعاصي على العبد من هذا الباب، والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، ألم تقرئي في القرآن قول ربك: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] وكم استحل من الفروج والسبب إطلاق العنان للنظر {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36] . فاتقي الله! اتقي الله في سمعك وبصرك، واشكري الله عليها، فهما نعمتان عظيمتان فربما ابتليت بفقدهما أو أحدهما. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 14 أسباب الانحراف عند الفتيات أجاب (37%) أن السبب الرئيس في انتشار مثل هذه الظواهر من المعاكسات، والإعجاب، والعشق، والتعلق: هو الفراغ العاطفي، وذكر (30%) : إنه الجهل وعدم الخوف من الله، وقال (19%) : إن السبب هي وسائل الإعلام، وقال (5%) : انشغال الأهل عن المراقبة، وقال (4%) : التقليد والشعور بالنقص. والفراغ أقسام أربعة: فراغ عاطفي، وزمني، وفكري، وروحي أو إيماني، وسأتحدث -بمشيئة الله- عنها وعن ظاهرة المعاكسات والتعلق والإعجاب، بالتفصيل في درس قادم بعنوان (عاطفة أم عاصفة) . فالمعاكسات من نتائج الفراغ العاطفي والفراغ الإيماني -كما أسلفت- فهل هذه الظاهرة موجودة وبكثرة، أجاب (78%) بـ (نعم) و (21%) بلا أدري، وأجاب بلا أقل من (1%) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 15 مكالمة عفوية أصبحت قصة حب وهمية أيتها الفتاة! هل صحيح ما يدعيه بعض الشباب أن الهاتف يقول: هيت لك في كل لحظة، وأنك أنت التي تبدئين؟!! ولو لم تبدئي هل صحيح أنك مهما غضبت في المكالمة الأولى أو الثانية فإن بشاراً يقول لا تيأس؟!! أخيتي! لا تأمني على نفسك الفتنة مهما بلغت، فإن كانت النظرات سهماً من سهام إبليس فإن الكلمات من سهام شياطين الإنس. قالت وهي تذرف دموع الندم: كانت البداية مكالمة هاتفية عفوية، ثم تطورت إلى قصة حب وهمية، أوهمني أنه يحبني وسيتقدم لخطبتي، وطلب رؤيتي، وعندما رفضت هددني بالهجر، وبقطع العلاقة، فضعفت وأرسلت له صورتي مع رسالة وردية معطرة، وتوالت الرسائل، وطلب مني أن أخرج معه فرفضت بشدة، فهددني بالصور وبالرسائل المعطرة وبصوتي في الهاتف، وقد كان يسجله، فخرجت معه على أن أعود في أسرع وقت ممكن، لقد عدت ولكن وأنا أحمل العار. قلت له: الزواج الفضيحة. قال لي بكل احتقار وسخرية: إني لا أتزوج من فاجرة إلى آخر كلامها. إيه أيتها الفتاة! إن من يمشي وراء قلبه يضله، فإذا لم يكن في قلبك خوف من الله فأين عقلك؟! فأنت تريدين أن تكوني زوجة وأماً وسيدة لبيت، فهل الطيش والعبث الذي تفعلينه الآن يؤهلك لهذا؟! أجزم بأن الإجابة لا؛ لأنه لا يمكن أن يرضى بك أحد وأنت على هذه الحال حتى هذا الذي يدعي محبتك، فهو أول من يحتقرك ويسخر بك، خاصة عندما يعلن البحث عن شريكة الحياة، فهو يعلم أنك لا تصلحين زوجة ولا أماً، وقد قالها أحدهم لما عرضت عليه الجمع بينه وبين محبوبة الهاتف في الحلال، أتعلمين ماذا قال؟!! اسمعي يا أختي! قالها بالحرف الواحد وبهذا اللفظ: (أعوذ بالله، والله لو تقولي لي بلاش) ، وآخر قال لها لما عرضت عليه الزواج: أريدها عذراء العواطف وأنت لست كذلك، وكيف أثق بك وقد أخذت رقمك من الشارع؟ إلى هذا الحد فقط يريدونها بنتاً لهواه ومحطة مؤقتة لشهوته، فأين العقل؟! وهكذا هم الذئاب، يريدوها سافرة متبرجة خراجة ولاجة وقت نزواتهم وشهواتهم، وذات دين وخلق بل ومحافظة وقت جدهم وحياتهم، لسان حاله يقول: إنها تكلمني وتضحك معي، وربما تخرج معي وليس بيني وبينها أي رابط، فما الذي يضمن لي غداً ألا تكلم غيري وألا تخرج مع غيري؟ لا. فأنا ألهو معها اليوم، وغداً أظفر بذات الدين، ولن أخسر شيئاً كما قال أحدهم: ليس عندي أي استعداد للزواج من فتاة كنت أعاكسها؛ لأنني على يقين تام بأنها كما استجابت لي فقد سبق لها أن استجابت لغيري وستستجيب لآخر، فضلاً عن أني أحتقر كل فتاة تسمح لنفسها بالمعاكسة، وأنا أكلمها في الهاتف لأحقق غرضي ولكن في داخلي أنظر إليها بكل احتقار، ذكر ذلك في تحقيق لـ مجلة الدعوة في العدد (1622) . وقال شاب آخر بكل وقاحة: أنا شاب عمري (25سنة) بكل صراحة وأنت تقرأ ورقتي ولا تعرف اسمي، إن في المعاكسة بديل عن الزواج، أي بإمكاني أن أتزوج عشر فتيات من غير تكاليف. انتهى كلامه القبيح. وهذا شاب يستهزئ فيقول: إنه مرتبط بعلاقات مع نصف (درزن) فتيات. أسمعت أيتها المعاكِسة؟! أسمعت جيداً للذل الذي وصلت إليه؟ أترضين أن تكوني بعد هذا كله أداة لهو وعبث؟! أو من بنات الهوى لأمثال هؤلاء؟! اسأليه فقط بصدق: هل يرضى هذا لأخته؟! قال أحدهم: عندما أتخيل أن شقيقتي هي التي تقوم بذلك أشعر بأنني سأُجنَّ. انتهى كلامه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 16 نداء إلى الفتيات المعاكسات الغافلات الغريب أن بعض المعاكسات تعرف أنه يخدعها ويكذب عليها؛ ولكنها تواصل العبث بالنار بحجة التسلية وإضاعة الوقت أو أنه سُعار الشهوة المحموم. تقول صاحبة الرسالة: في خمسة أشهر فقط عقدت صداقة وأقمت علاقة مع قرابة 16شاباً إلى آخر كلامها. ولها ولكل معاكِسة أقول: هبي أن الخوف من الله غاب، أو حتى الحياء والخوف من الناس غاب، وهبي أن الخوف من الفضيحة وعلى الشرف والمستقبل غاب أيضاً، كل هذه التضحيات من أجل ماذا؟! من أجل عبث وطيش، من أجل صديقة سوء، من أجل شهوة مؤقتة، أنتِ التي أوقعت نفسك فيها بالاستسلام لجميع وسائل الإباحية والشهوة من قنوات ومجلات وأفلام وصور وروايات، المهم الشهوة وتلبية رغبات النفس، المهم إعجاب الآخرين بي، إنه شعور بالنقص وعبادة للهوى حتى رضيت أن تكوني من بنات الهوى والمعاكسات، بل ربما وصل الأمر أن تكوني جارية كالمجاري، كل يقضي فيها وطره وشهوته أعزك الله. أيتها الغافلة! لماذا هذا التهور واللامبالاة؟! أهو الجهل وعدم العلم؟! أم هو عدم الخوف من الله وموت الضمير؟! أم هي المراهقة وخفة العقل وطيش الشباب؟ أم هو الشعور بالنقص وضعف الشخصية؟ أسألك: ألا تشعرين بالأسى وتأنيب الضمير؟! ألا تشعرين بالألم والحزن؟! اختفيت عن أعين الأبوين، فهل اختفيت عن عين الجبار الذي يغار؟! ألا تخافين من الله أن ينتقم من جرأتك عليه؟! عجباً لك أيتها المعاكِسة المشاكسة! كيف تجرأت على خيانة أبوين فاضلين سهرا وتعبا من أجلك ووثقا فيك؟! كيف تجرأت على خيانة زوج قرع الباب وأخذك بحق الله؟! كيف تغامرين بالعرض والشرف والذي هو ملك للأسرة كلها وليس لك وحدك؟! إنها أنانية إنها خيانة أن تفكري بنفسك فقط! يا محضن الآلام! رضعت صدر أم حنون لم تعرف إلا الستر والعفاف والحياء، فهل ترضين أن ترضعي طفلك الخيانة والتبرج والسفور؟! يا محضن الآلام! رضعت صدر أم لا يفتر لسانها من ذكر الله، ولا جسدها من ركوع وسجود، فهل ترضين أن ترضعي طفلك كلمات الغناء والمجون؟! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 17 الغناء وأثره في المعاكسات وإثارة العواطف من أكثر الأسباب المشجعة على المعاكسات وإثارة العواطف والتلاعب بالمشاعر: الغناء والطرب الذي أهلك الفتيات، ألم تسمعي أنه بريد الزنا وداع من دواعيه؟! لاسيما إذا صاحبته كلمات الحب والغرام وقد أجاب وللأسف: (67%) بأنهن يسمعن الغناء، واعترف بعضهن بأنه يورث العاطفة والغريزة والميل إلى الجنس الآخر، والتفكير بالعشق والهيام وأنه يشجع على المعاكسات، وقالت: (41%) أنهن يعلمن حرمة الغناء ويبتعدن عنه، وأما (57%) فيعلمن حرمته ويسمعنه، وماذا عساي أن أقول لمثل هؤلاء؟ ولكن اسمعي قول الحق عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:22-24] فهل تستجيبين لله؟! وهل تسمعين وتطيعين ربك أم تطيعين هواك ورغباتك؟! وأخيراً في المعاكسات أقول: أيتها الفتاة! ليس حل المشاكل والهموم الاجتماعية هو الهروب إلى المعاكسات كما تقول كثير من الفتيات، والشكوى إلى الذئاب الحانية البشرية، فالذئب يأكل كل شاة صادها في خفية، والحل للمشاكل هو مواجهتها بشجاعة والاستعانة بالله ثم بمن تثقين فيها من الناصحات. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 18 خطورة اتباع الموضة في اللباس والشكل سؤال في الاستبانة يقول: هل تتتبعين الموضة في اللباس والشكل؟ فأجابت: (56%) بـ (نادراً) و (32%) بـ (نعم) ، وبنحو (12%) بـ (لا) . وكيف تعرف الفتاة الجديد في عالم الموضة؟! أجاب: (32%) عن طريق وسائل الإعلام، و (27%) عن طريق المناسبات، و (27%) عن طريق الزميلات، وذكرت أسباباً أخرى بنسب ضئيلة جداً كالسفر للخارج وما يستجد في السوق والابتكار والتصميم الذاتي وغيرها. وأنا أقول: الأناقة صفة جميلة في الفتاة، لكنها لا تعني التعدي على الآداب الإسلامية والقيم العربية الأصيلة، ولا تعني الغرور والعجب بالنفس واحتقار الآخرين، ولا تعني التقليد لكل جديد وتعطيل العقل وضياع الشخصية، لكن بحدود وضوابط ديننا وعقيدتنا، وأقول هذا وأؤكد عليه وخاصة حين أرى في الاستبانة ما يقرب من (48%) من فتيات الاستبانة تراعي العادات والتقاليد فقط، أو ما يتناسب مع حياتها وقدراتها فقط بدون أي مراعاة لضوابط الشريعة، بينما أجابت (52%) أنها تراعي ضوابط الشرع عند اتباعها للموضة. وتنبهي أخيتي لقضية ربما تغفل عنها الكثير من نسائنا اليوم وهي: أن اللباس له آداب وأحكام في الإسلام، فانظري مثلاً لكتاب اللباس في صحيح البخاري أو صحيح مسلم وغيرهما من كتب السنة، ارجعي إليها قبل أن تنظري لبرامج الموضة في القنوات، أو في مجلات الأزياء؛ لتعلمي كيف جاء الإسلام بأعظم الآداب والأحكام في اللباس، ليرفع من قيمتك ويحفظ حياءك وعفتك. إذاً: فأنت تنطلقين عن دين يأمرك بالستر والعفاف، ولا يمنعك من التجمل والاعتناء بالمظهر، أما الذين ينطلقون عن عبادة الدينار والدرهم والشهوات والجنس، ويسخرون بالمرأة فيتعاملون مع شعرها وجسدها وجفونها، بالأقمشة والألوان والأصباغ، وكأنها دمية تتقاذفها الأيدي حتى شكا القبح من قبح شكلها، ثم يدفعونها للجمهور لتعرض جنونهم وهوسهم أمام الأعين والشاشات، فالمرأة بالنسبة لهم مصدر ثراء وربح. أسألك بالله وبكل صدق وإخلاص: أليس هذا احتقار وإهانة للمرأة؟! لا تتعجلي الإجابة، فكري فأنت بنفسك الحكم، وأنا على يقين أن نداء الفطرة والعقل سينتصر في النهاية، ثم اسألي نفسك هل لك شخصية مستقلة؟ وهل لك عقل وهوية؟! لا تتعجبي من سؤالي، فكم تمارس بعض الأخوات قتل شخصيتها وتأجير عقلها وبيع هويتها بتفاهات لا قيمة لها. فماذا تقولين إذاً عن العشرات اللاتي يتهافتن وبجنون على ذلك الموديل، أو طريقة ذلك اللباس؟ لمجرد أن مطربة أو فنانة أو مذيعة لبست ذلك اللباس أو تلك الحركة، يقول الكثير من تجار الملابس: لا تتخيل حين تظهر إحدى المذيعات بأي فستان تجد الفتيات يتهافتن على المحل يسألن عن نفس الفستان، وإذا كان لدينا نفس الموديل نبيع كل الكمية في يوم واحد. انتهى من مجلة المنار الكويتية. بل إن من المضحك المبكي: أن نسمع من بعض تجار الملابس، أن بعض النساء يسألن وبإلحاح عن إحدى الملابس الداخلية لفنانة ما؛ لأنها ظهرت فيها بإحدى القنوات لتبرز مفاتنها، ولكثرة الطلب ارتفع سعر تلك القطعة إلى ثلاثة أضعاف قيمتها الأصلية! فنانة نسي المكابر أنها كبهيمة جر البغاة خطامها مشوارها الفني رحلة عَزَّة قد حكمت في عقلها أوهامها ما الفن إلا خطة مشئومة نار يرى المستبصرون ضرامها أخيتي! إن الحديث عن عالم الموضات والملابس والإكسسوارات غريب وعجيب، والأغرب والأعجب خفة العقل والطيش، وتبذير الأموال وقلة الحياء لدى بعض النساء، ومن مختلف الأعمار والطبقات. ويعلم الله يأبى علي الحياء أن أذكر المواقف والأحداث التي سطرتها، أو حكتها بنات جنسك، أو أن أصف لك تلك الملابس العارية التي رأيتها بأم عيني، والخلاصة: من النقاب والبنطال والعباءة الفرنسية إلى اللثام، وكشف الوجه وإظهار الساقين والركبتين والكاب، والعباءة المطرزة والشفافة، إلى موضة اللف والغجري والثياب القصيرة والشفافة كالشيفون والدانتير والجوبير، والفتحات السفلية والعلوية والوسطى؛ لإظهار البطن والظهر أو الصدر، أو بدون أكمام، حتى أصبحت حفلات الأعراس وصالات الولائم والمناسبات والملاهي والتجمعات العائلية أماكن لعرض الأجساد العارية من قبل بعضهن، وإن كن قلة ممن بعن الحياء والدين، والمبادئ والعادات والتقاليد؛ لكنه مرة أخرى الشعور بالنقص والتقليد وضياع الشخصية وتعطيل العقل. مسكينة تلك الأخت! تظن أنها تخطف نظرات الإعجاب والإطراء من الحاضرات، وما عملت أنها نظرات الاحتقار والازدراء والشفقة على قلة العقل والإيمان، إنه لباس الشهرة الذي قال عنه الحبيب صلى الله عليه وسلم (من لبس ثوب شهرة ألبسه الله إياه يوم القيامة ثم ألهب بالنار) كما في السنن لـ أبي داود وهو صحيح. ولم يقف العبث والجنون عند الملابس والإكسسوارات، بل تعداه إلى الصفات الخلقية، فقد قيل لي -ولعله ليس صحيحاً- عن تلك التي تحلق الحاجبين وتضع مكانه خطاً بالقلم الأسود، وتأخذ من رموشها لتضع الرموش الصناعية، وتضر عينيها من أجل العدسات الملونة، وتقص أظافرها لتضع أظفاراً صناعية، أو تقص شعر رأسها لتصله بعد ذلك بشعر مستعار، أو تقشر جلد وجهها ليكون أبيضاً ناصعاً، أسمعُ هذا القول مبهوتاً، فإن كان حقاً ما يقولونه كله أو بعضه فرحمة الله عليك! أخيتي أهذا صحيح؟! أيعقل هذا؟! ما رأيك هل أتركه بدون تعليق، أم أعلق وماذا سأقول؟! أظافر صناعية، شعر مستعار، رموش صناعية، عدسات لاصقة ملونة، وعمليات لتضخيم الشفاه، ورسم الحواجب، تكبير أو تصغير للصدر، وَشْمٌ وعمل حبة الخال، عمليات تجميل لا نهاية لها، أهو تجميل أم تزييف؟! أهو فن وذوق أم كذب وحمق؟ أهو انتكاس في الفطرة أو تبديل لخلق الله؟ أهو خفة في العقل أم تقليد أعمى؟ لقد حكاها القرآن نعم وربي! لقد حكاها القرآن على لسان إبليس فقال: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] ولعنهن الله، فقال على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) كما في صحيح البخاري ومسلم. ويلعن الحبيب صلى الله عليه وسلم (القاشرة والمقشورة والواصلة والموصولة) كما في المسند لـ أحمد، والقاشرة هي: التي تقشر وجهها أو وجه غيرها ليصفو لونها، واسمعيها أختي -وبدون مجاملة- إن من ينظر إليك بهذا الشكل الغريب عن طبيعتك يسخر بك ويزدريك، لقد أصبحت أضحوكة للحاضرات دون أن تشعرين، إنها الحيرة والازدواجية والتردد وضياع الهوية لدى الكثير من بنات المسلمين. من أين هذا الزي ما عرفت أرض الحجاز ولا رأت نجد هذا التبذل يا محدثتي سهم من الإلحاد مرتد ضدان يا أختاه ما اجتمعا دين الهدى والفسق والصد والله ما أزرى بأمتنا إلا ازدواج ما له حد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 19 الحجاب بين الواقع والمأمول أما الحجاب فإنه العبادة العظيمة، ونهر الحسنات الجاري ما تمسكت به الجواري، عزنا وفخرنا نحن المسلمين رجالاً ونساءً، أما الحجاب الذي نزل به الأمر من السماء فشرق به الأعداء، وغص به السفهاء، السلاح الذي هز الأرض وأرعب الغرب، أما الحجاب الذي جعل المرأة درة مصونة وجوهرة مكنونة، حتى جن جنون أهل النظرات الجائعة للظفر بنظرة ولو لبنان تلك اللؤلوة الثمينة الحجاب القضية الكبرى والمسألة العظمى التي جهلها بعض النساء، فظنت أن الأمر لباس يلبس، وأن لها الحرية في اختيار شكله! أو لها الحرية في نزعه! وغفلت أو تغافلت عن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59] ، ونسيت أو تناست {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31] ثم عدد المحارم لها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 20 نساء السلف وحالهن مع الحجاب هل سمعت لـ عائشة رضي الله عنها وهي تقول: [رحم الله نساء المهاجرين الأول لما نزل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] شققن أزرهن فاختمرن بها] كما في صحيح البخاري، وهل جهلت أو تجاهلت قول عائشة: [كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه] كما في مسند أحمد وأبي داود وابن ماجة، وقول فاطمة بنت المنذر: [كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق] كما في الموطأ لـ مالك، هل قرأت أو تعاميت عن قول ابن عباس وعبيدة السلماني رضي الله عنهما: [أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة] انتهى كلامهما من تفسير الطبري. إنها الدلائل البينات والبراهين الواضحات للمسلمات العاقلات اللاتي رضين بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، أما التي في قلبها مرض فقد أغلقت قلبها وسمعها عن نداء الكتاب والسنة (لقد تركت فيكم أمرين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي؛ كتاب الله وسنتي) كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت! أيها الغيد! إنه الحجاب الأمر السماوي نزل من السماء وليس من فرنسا، عز وفخر لكل مسلم ومسلمة، إنه الإسلام الذي لا يتغير بتغير الحدود، ولا يهتز بركوب طائرة اتجهت للغرب أو للشرق، مسكينة تلك التي في الطائرة ركبت، وحجابها نزعت، وعن شعر رأسها حسرت، إنها الحضارة والتطور زعمت، وهي ليست بالطائرة فقط بل أصبحنا نراها وللأسف في الأسواق والمناسبات وإن كانت نشازاً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 21 توجيهات للمرأة المسلمة بشأن الحجاب أختاه! من قال لك إنك لن تبلغي قمة المجد، ولن ترقي سلم الحضارة، ولن تحققي السعادة حتى تخوني الحجاب، وتكسرين الباب، وتصرخين ها أنا يا شباب؟! أختاه! من كان يعبد الله فإن الله معه في كل مكان يراه ويطلع عليه، ومن كان يعبد البلاد والعادات فهو التردد والحيرة وعدم الثبات. أختاه وبكل صراحة! هل نريد شرع الله أم نريد اتباع أهوائنا؟ فقط تأملي في فتاة تضع على رأسها منديلاً فتهتز أكبر دولة في أوروبا، ألا تهزك هذه الحادثة؟! ألا تؤثر فيك؟ فقط تأملي فتاة صغيرة تمشي في وسط شوارع لندن بحجابها بكل ثقة وفخر. ألا يدعوك هذا لتصحيح المفاهيم، وإعادة النظر في حياتك؟! يا شعري ليلانا خرجت كاشفة اللبة والنحر قصت بالوهم ظفائرها وانطلقت كالهائم تجري بسمتها الصفراء بيان عن قبح البسمات الصفر ليلانا ما عادت ترضى أن تلحق بذوات الخدر ليلانا باعت طرحتها في سوق الوهم بلا سعر غايتها أن تصبح وجهاً مصبوغاً يصلح للنشر تركت شاطئها وانطلقت لعبور البحر بلا جسر ألقت في البحر قلائدها وانتظرت عالمها السحري أيتها المرأة! ماذا يعني لك الحجاب؟ أُسرُّ وأفرح -يعلم الله- كثيراً عندما أجاب (94%) من فتيات الاستبانة أنه عقيدة ودين، و (85%) يرفضن تماماً دخول الموضة في شكل الحجاب، و (18%) ينتقدن دخول الموضة في شكل الحجاب، ويراه حرية شخصية نحو (20%) ، و (5%) يرين أن الحجاب لا علاقة له بالدين وإنما هو من العادات والتقاليد، وقال: (2%) أنهن يشعرن بالضيق معه، وكما أننا نفرح ونسر بتمسك الكثير من أخواتنا بالحجاب، وعدم المساومة عليه بحال من الأحوال، فإننا نحزن ونخاف ونحن نرى الحال الذي وصل إليه تخريق وتمييع الحجاب باسم الموضة والموديل. متى تفهمين أيتها العفيفة أنها معركة الحجاب؟! هدفهم نزعه وإحراقه كما قال الصليبي غلادستون: لن يستقيم حال الشرق ما لم يرفع الحجاب من وجه المرأة ويغطى به القرآن. ألا تثير فيك هذه الكلمات مشاعر التحدي والمسئولية؟ ألا تحرك فيك العزة والفخر بالعقيدة الإسلامية؟ ها هي البداية في تمييع الحجاب كلبس الحرير والرقيق والشفاف، والمزركش والملون ثم رفع النقاب واللثام، وعندها فقط يرفعون راية الانتصار، فهل تكوني أنت الجندي الجبان وبوابة الهزيمة؟! أبداً. فثقتي فيك أكبر. يا أخت فاطمة وبنت خديجة ووريثة الخلق الكريم الطيب إن العفاف هو السماء فحلقي وبطيب أخلاق الكرام تطيب فكوني شجاعة وقوليها بصراحة: حجابي عبادة أتقرب به إلى ربي، وهذه العبادة لها شروط: أن يكون ساتراً واسعاً متيناً، ليس فيه زينة ولا طيب ولا يشبه لباس الرجال، أو الكفار أو لباس شهرة، وإنما لباس ستر وعفاف، هذه شروط الحجاب الشرعي، والأدلة على هذا متظافرة في الكتاب والسنة، ليس هذا مقامها وهي في مظانها معلومة، والكلام عن الحجاب ولباس المرأة وعالم الموضات يطول، وحسبي ما ذكرت هنا للعاقلات. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 22 ثالوث السعادة بين الوهم والحقيقة يتوهم الكثير من الناس أن السعادة في (المال والشهرة والجمال) ثالوث السعادة -كما يقال- فاندفعن الكثير من الفتيات وراء بريقه وتسعى وراء تحقيقه، وربما غرها حصول الكثير من الشهيرات الجميلات الغنيات على هذا الثالوث، لكن هل وجدن السعادة الحقيقة؟! أيتها الفتاة! اسمعي الإجابة منهن نطقنها بألسنتهن وكتبنها بأيديهن، فهذه إحداهن كتبت رسالتها، من هي؟!! إنها مارلين مونرو، امرأة وصلت لحد الشهرة العالمية، اسمعيها في النهاية تقول: (احذري المجد، احذري كل من يخدعك بالأضواء، إني أتعس امرأة على هذه الأرض، لم أستطع أن أكون أماً، إني امرأة أفضل البيت والحياة العائلية على كل شيء، إن سعادة المرأة في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة، بل إن هذه الحياة لهي رمز سعادة المرأة إلى آخر كلامها. أخيتي! كوني فتاة عاقلة، استفيدي من تجارب الآخرين، اسمعي لأقوال بعض الفنانات التائبات، فهذه تقول: لأول مرة أذوق طعم النوم، قريرة العين، مطمئنة البال، مرتاحة الضمير. وتلك تقول: لم أكن أحيا قبل أن يهديني الله، لقد عرفت الحياة الحقيقية بعد الهداية! وثالثة تقول: ما أحلى حلاوة الإيمان، وعلى من تذوقتها أن تدل الناس عليها، أشعر الآن بالأمان الحقيقي في ظل الإيمان! هؤلاء الممثلات وصلن للشهرة والمال وما تحلم به كثير من الفتيات، فهل وجدن السعادة؟! وهل وجدن الرضى والطمأنينة؟! أبداً والله، إلا بالإيمان حياة الروح وروح الحياة. أيتها الأمل! إن السعادة أمامك وأنت تبحثين عنها، وطريقها سهل واضح لصاحبة الهمة والعزيمة، إنها في القرآن، ألم تقرئي في القرآن: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] . فالسعادة ليست بالمال والشهرة والسفر والطرب، إن الحياة الطيبة في الإيمان والعمل الصالح، هكذا أخبر الرحمن في القرآن. أيتها الأمل! إن من أعظم أسباب السعادة: المحافظة على الصلاة؛ لأنها صلة بين العبد وربه، وحال الفتاة مع الصلاة حال يرثى لها ليس بتركها، فقد أجاب (91%) أنهن من المحافظات على الصلاة -والحمد لله- ولكن بإهمالها وتأخيرها عن وقتها ونقرها كنقر الغراب وعدم الطمأنينة فيها، وهذه كلها من أسباب ردها وعدم قبولها، فقد تقدمين على الله وليس لك منها ركعة، ومتى تشعرين بقيمة الصلاة وأهميتها لحياتنا؟ فأنت تعلمين أنك ضعيفة وعرضة للأمراض والعاهات، وتحتاجين ولا شك لخالقك أن يحفظك ويشفيك ويوفقك، وأنت تبحثين أيضاً عن السعادة والراحة النفسية وتشترينها بمال الدنيا كلها. ولو ألقيت نظرة على العيادات النفسية وأماكن قراءة الرقى الشرعية؛ لوجدت عجباً من حالات الاكتئاب والضيق والهموم والغموم. النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الصلاة نور) فهي نور للقلوب والوجوه والله تعالى يقول {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] فهل بعد هذا كله نقطع الصلة بصلاتنا، أو نتهاون فيها وهي مصدر سعادتنا في الدنيا والآخرة؟! اسألي نفسك أخيتي! كم هي الصلوات التي خشع فيها قلبك له؟!! كم دمعت فيها عيناك خوفاً من الله؟! وكم هي اللحظات التي اقشعر فيها جلدك من خشية الله؟! إنها الصلاة مفتاح السعادة من حافظ عليها فهو على خير مهما وقع منه. آه من قسوة قلوبنا ويا لله ما أشد غفلتنا! وإلا فكم قد سمعنا عن تلك التي اشتعل عليها قبرها ناراً! والتي انقلب بياضها سواداً! والتي جحظت عيناها ونتنت ريحها وثقلت جثتها! وهذه كلها صور لسوء الخاتمة لمن تهاونت بالصلاة وأخرتها عن وقتها، فكيف حال من تركها، نسأل الله العفو والمغفرة وحسن الخاتمة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 23 صديقات الشر والسوء أعتذر إليك أيتها العفيفة! فما قادني لهذا العنوان إلا ما نسمعه عن بعض الصديقات مع الزميلة، فهي تدلها كل صباح على كل شر، فمرة خذي هذا الرقم وجربي، ولا تكوني معقدة ومتخلفة، وهي مجرد تسلية، ومرة انظري لصورة هذا الشاب، كم هو جميل، هل تحبين أن تكلميه؟ ثم بعدها: هل تحبين أن تقابليه؟ ومرة خذي هذه الهدية، شريط غناء أو فيلماً أو مجلةً ساقطة، ومرة دعوة على مأدبة الدش الفاضح، أو التسكع في الأسواق، أو استراحة الراقصة، أو مناسبة آثمة وهكذا. هكذا انتهت الدلالة على الفساد بوسائله، علمت أو لم تعلمي، أصبحت مفتاحاً للشر، هي مفتاح للشر كل يوم وكل صباح وربما في محاضن التعليم وللأسف. عجباً لك يا ابنة الإسلام! كيف تستخدمين صلة العلم التي هي أشرف الصلات وأكرمها في المدارس والكليات لتبادل الأرقام والأفلام؟! كيف تجرأت على القلم الذي هو أفضل أداة للخير، وأعظم وسيلة للفضيلة، وواسطة للآداب والكمال، فخططت به الأرقام ورسائل الحب والغرام ونشر الحرام؟! ألم تسمعي للحبيب صلى الله عليه وسلم يقول (ويل لمن كان مفتاحاً للشر مغلاقاً للخير) . فيا ويلك من الله! هل تستطيعين أن تتحملي وزرك لوحدك يوم حملت أوزار الأخريات؟! أنا على يقين أنك لم تقفي وتفكري بقول الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25] . اسألي نفسك الآن: كم فتاة كنت السبب في دلالتها على الضلال؟ فبادري بالتوبة واستغفري وكفري بالدلالة على الخير ووسائله، والتحذير من الشر وأبوابه قبل فوات الأوان، فيكفيك ذنبك وضعفك. أيتها الفتاة الطيبة! فتشي في صداقاتك، واحذري رفيقات السوء، فإنهن لا يقر لهن قرار، ولا يهدأ لهن بال، حتى تكوني مثلهن وأداة طيعة في أيديهن، إما لكراهيتهن امتيازك عنهن بالخير، وإما حسداً لك، فإن الله تعالى أخبر عن المنافقين فقال: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وقال عثمان رضي الله عنه: [ودت الزانية لو زنا النساء كلهن] . فإياك وقطاع الطريق إلى الآخرة اللاتي يصددن عن ذكر الله كما قال الله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] . اعلمي أخيتي! أن رفقة السوء بداية كل شر، وهي النقطة الأولى للانحراف والضياع، فكم من الفتيات هلكن بسببهن، وكانت النهاية فضائح وسجون، وهل ينفع حينها الندم؟! بل هل ينفع الندم يوم القيامة عندما تقولين: {يَا وَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] لماذا وهي صاحبة الشِلل والجلسات؟! لماذا وهي صاحبة المرح والمزاح؟! فتأتي الإجابة: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:29] نعم. لأنها ما أعانتني يوماً على ذكر الله، بل كلما انتبهت أو تذكرت، أو نصحني ناصح سخرت مني واستهزأت، نسأل الله أن يحفظ بنات المسلمين أجمعين. أيتها الأخوات أبشركن أن: (85%) من فتيات الاستبانة قلن: نعم نفكر في طريق الاستقامة، وذكر (11%) أنهن مترددات، ولم يقل (لا) سوى (4%) ، وقال (82%) بأن الشخصية المستقيمة ممتازة، وأتمنى أن أكون مثلها. فأقول: لم لا تتحول الأمنية إلى حقيقة؟ ما الفرق بينك وبين تلك المستقيمة؟ إلى متى وأنتن تحرمن أنفسكن السعادة والراحة؟ ما الذي يمنعكن من الاستقامة. أجاب (60%) هوى في النفس، و (11%) البيت والأسرة، و (10%) الصديقات وغيرها من الأسباب. وأقول: كل هذه الأسباب هي كبيت العنكبوت أمام الهمة والعزيمة الصادقة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 24 دعوة لمراجعة النفس ومحاسبتها أخيتي! استعيني بالله ثم بصحبة الصالحات، واصدقي مع الله وألحي عليه بالدعاء، ومن يحول بينك وبين التوبة بعد ذلك. اعلمي أن أعظم دلالات صدق التوبة الندم، إي والله الندم الذي يجعل القلب منكسراً أمام الله وجلاً من عذاب الله، هل سمعت يا أختاه قصة الغامدية العجيبة؟ أصلها في صحيح مسلم، فاسمعي لهذه المرأة المؤمنة، لقد زنت، نعم. أخطأت وغفلت عن رقابة الله للحظات، لكن حرارة الإيمان وخوفها من الرحمن أشعلت قلبها، وأقضت مضجعها، فلم يهدأ بالها ولم يقر قرارها. عصيت ربي وهو يراني كيف ألقاه وقد نهاني {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] . حَرُّ المعصية تأجج ناراً في قلبها وأقلقها كبر الكبيرة في عينها وقبح الفاحشة يستعر في صدرها حتى لم تقنع بالتوبة بينها وبين ربها، فقالت: أصبت حداً فطهرني عجباً لها ولشأنها هي محصنة، وتعلم أن الرجم بالحجارة حتى الموت هو حدها، فينصرف عنها الحبيب صلى الله عليه وسلم يمنة ويسرة ويردها، وفي الغد تأتي لتقدم له الدليل على فعلها، لم تردني؟! لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً!؟ فو الله إني لحبلى من الزنا، فقال لها: اذهبي حتى تلدي، فيا عجباً لأمرها، تمضي الشهور والشهور ولم تخمد النار في قلبها فأتت بالصبي في خرقة تتعجل أمرها، ها قد ولدته فطهرني، عجباً لها، قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه، واهاً لها سنة! سنتان! ولم يطفأ حرها، فلما فطمته أتت بالصبي وفي يده كسرة خبز دليلاً لها، وقالت: قد فطمته، وأكل الطعام برهانها، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها، فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس برجمها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها، فتنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال: (مهلاً يا خالد، فو الذي نفسي بيده! لقد تابت توبة لو تم قسمها على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم) ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت أفلا نعجب من حالها حولين كاملين وحرارة المعصية تلسع فؤادها وتحرق قلبها، وتعذب ضميرها، فهنيئاً لها إنه الخوف من ربها. من لم يبت والحب حشو فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكباد إنها قصة عجيبة تعلمنا أن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، لكنها التوبة الصادقة من القلب الصادق. وأنت أخيتي مسلمة عربية لك عادات وتقاليد ومن مجتمعات محافظة، فمهما حاولت التمرد على كل هذا، نعم مهما ابتعدت، حتى ولو تركت الصلاة، حتى لو أفطرت في نهار رمضان، ولو خلعتِ جلباب الحياء والعفة، ولو استرجلت، فإنك أبداً لا يمكن أن تقتلي بذرة الخير في نفسك، فهي تنازعك وسيبقى نداء الفطرة يناديك من أعماق النفس، وستبقى بذرة الأنوثة برقتها وطيبتها. فكم من فتاة طيبة القلب فيها حب لله ولرسوله، نشأت في أسرة صالحة وبين أبوين صالحين، لكن بريق الدنيا وزيف الفن والغناء والطرب والتحضر والموضات أخذها بعيداً عن ربها ودينها؟! إن في الدنيا فتناً كثيرة تعصف بقلوب فتياتنا، تلك القلوب البريئة البيضاء، فكم في قلوب بناتنا من الخير، وها هي تمد يدها وتصرخ بفيها فمن يأخذ بيدها؟! إلى من تلجأ؟! وأين تذهب؟! أخيتي! ليس لك إلا هو، نعم. والله ليس لك إلا الله، إنه الله الرحيم اللطيف، إنه السد المنيع حصن الإيمان والأخلاق فقوليها ولا تترددي: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) قوليها من قلب تراكمت عليه الهموم والغموم (اللهم إني ظلمت نفسي كثيراً فإن لم تغفر لي وترحمني لأكونن من الخاسرين) قوليها بصدق لتنظفي عنه ظلم المعاصي والغفلة، فقد أخبر الحبيب صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه ذلك الران الذي ذكر الله عز وجل في القرآن: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] ) . فهل تغسلين عن قلبك هذا الران، لتذوقي بصدق صفاء الإيمان والحب الحقيقي للرحمن، أم أنك تترددين وتضعفين من أجل نزوة وشهوة؟! لا لا أخالك تفعلين وبين جنبيك اعتراف مقصر متندم فلأنت أسمى من سفاسف نزوة ولك المكانة بين تلك الأنجم ولأنت أكبر من غواية حاسد يرميك في نزق فيدميك الرمي فتفطني للمكر كي لا تقرعي في الناس كالكسعي سن تندم وتسنمي عرش العفاف فإنه عز به تحلو الحياة وتسلمي أختاه قولي لنفسك حدثيها وحاسبيها وصدقيها: يا نفس ويحك قد أتاك هداك أجيبي فداعي الحق قد ناداك كم قد دعيت إلى الرشاد فتعرضي وأجبت داعي الغي حين دعاك قولي لها يا نفس إلى متى؟ أما آن لك أن ترعوي؟ أما آن لك أن تنزجري؟ أما تخافين من الموت فهو يأتي بغتة؟ أما تخشين من المرض فالنفس تذهب فلتة؟ أختاه أخبريني! لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك، أكان يسرك حالك وما أنت عليه؟! أختاه! كيف بك لو نزل بجسمك عاهة، فغيرت جمالك وبهجتك؟! أختاه! إن للموت سكرات، وللقبر ظلمات، وللنار زفرات، فاسألي نفسك ماذا أعددت لها؟!! أختاه! إنها الحقيقة لا مفر منها فإن الله يقول: (وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [القصص:77] فلماذا أصبح نصيبك أنت كله للدنيا؟! لماذا نسيت الآخرة؟!! لماذا نسيت الجنة وما فيها من نعيم وخضرة، وأنهار وقصور وجمال وخمر، وغناء وفيها مالا يخطر على القلب؟!! أخيتي الغالية! الهوى يقسي القلب، فكرري المحاولات، أكثري الاستغفار والتوبة، حاولي جاهدي واصبري ولا تيأسي ولا تستعجلي النتائج، فإن لهذه المحاولات المتكررة آثار ستجدينها ولو بعد حين. أخيتي الغالية! {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ} [الحديد:16] قولي: بلى والله لقد آن، قولي: كفاني ذنوباً وعصيان، قوليها قبل فوات الأوان، فرغي قلبك من الشهوات {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:27-28] . انتصري على نفسك الضعيفة، ولا تستجيبي لدعاة الرذيلة، واستعيذي بالله من الشيطان الرجيم، ارجعي إلى قلبك، توبي إليه، انهضي فتوضئي وصلي ركعتين، ابكي على ذنوبك وتقصيرك في حق ربك، اسمعي للبشارة من الغفور الرحيم: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70] ما أعظمها من بشارة، كل الذنوب تبدل حسنات، فما الذي تنتظرين؟! فهيا أبدلي الانحراف بالاستقامة، والأغاني بالذكر والتسبيح، وسارعي لحلق القرآن، وانكسري بين يدي الله، وأظهري له الذل والخضوع وانثري له الدموع، رددي وقولي: يا إلهي يا إلهي جاء بي حر ذنوبي جاء بي خوف مصيري ساقني يا رب تأنيب ضميري ألهبت قلبي سياط الخوف من يوم رهيب كادتا عيناي أن تبيض من فرط نحيبي آه يا مولاي ما أعظم حوبي يا إلهي أنا سافرت مع الشيطان في كل الدروب غير درب الحق ما سافرت فيه كان إبليس معي في درب تيه يجتبيني وأنا يا لغبائي أجتبيه كان للشيطان من حولي جند خدعوني غرروا بي وإذا فكرت في التوبة قالوا لا تتوبي ربنا رب قلوبي آه يا مولاي ما أعظم حوبي غرني يا رب مالي وجمالي وفراغي وشبابي زين الفجار لي حرق حجابي يا لحمقي كيف قصرت ومزقت ثيابي؟! أين عقلي حينما فتحت للموضة شباكي وبابي؟! أنا ما فكرت في أخذ كتابي بيميني أو شمالي أنا ما فكرت في كي جباه وجنوب آه يا مولاي ما أعظم حوبي يا إلهي أنا ما فكرت في يوم الحساب حينما قدمني إبليس شاة للذئاب يا لجهلي كيف أقدمت على قتل حيائي؟! وأنا أمقت قتل الأبرياء يا إلهي أنت من يعلم دائي ودوائي يا إلهي اهد من سهل لي مشوار غيي فلقد حيرني أمر وليي أغبي ساذج أم متغابي لم يكن يسأل عن سر غيابي عن مجيئي وذهابي لم يكن يعنيهما نوع حجابي كان معنياً بتوفير طعامي وشرابي يا إلهي جئت كي أعلن ذلي واعترافي أنا ألغيت زوايا انحرافي وتشبثت بطهري وعفافي أنا لن أمشي بعد اليوم في درب الرذيلة جرب الفجار كي يردونني كل وسيلة دبروا لي ألف حيلة فليعدوا لقتالي ما استطاعوا فأمانيهم بقتلي مستحيلة يا إلهي يا مجيب الدعوات يا مقيل العثرات اعف عني فأنا عاهدت عهد المؤمنات أن تراني بين تسبيح وصوم وصلاة أيتها الفتاة! وبعد هذا كله كوني شجاعة واتخذي القرار ولا تترددي، كوني ممن وصفهن الله فقال: (( الجزء: 13 ¦ الصفحة: 25 المحرومون إذا سولت لك نفسك اتباع شهواتها فانظر إلى أحوال من سبقوك إليها: فكم أبكت هذه المغريات من عين! وكم أدمت من قلب! وكم خلفت من أنين لأشخاص كواهم لهيبها ولو أصغت السمع لسمعتْ: ضياع لعب حيرة شهوات رغبات ضحك تيه سهرات إلى متى؟ إنها شهوات حيوانية، فمن يخصلنا؟! ثم إذا اطلعت على أرصدتهم تجد لسان حالهم يقول: خسرت الجنة! خسرت السعادة! خسرت الراحة! اشتريت النار! واحسرتا! نحن المحرومون، فهل من فرصة للعمل والتعويض عما فات؟! الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1 أحوال المحرومين إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ينعقد هذا المجلس في ليلة السبت الموافق للحادي عشر من الشهر السادس للعام (1416هـ) وموضوع هذا اللقاء بعنوان: المحرومون. وعفواً أيها الأحبة! وأعتذر أيضاً للأخوات، فلا نجزع من كلمة (محروم) بالرغم من قساوتها، فالكثير منا يشعر بالحرمان، وينال الإنسان من الحرمان بقدر بعده عن طاعة الله، وسأوجه خطابي إلى المحرومين، وسأنادي المحرومين كثيراً فلا نجزع؛ فقد يكون المحروم أنا وقد تكون أنت، وقد يكون فلاناً أو فلانة، وقد نكون جميعاً، فالحرمان يتفاوت من شخص لآخر، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. فقد تحرم الراحة والسعادة، وقد تحرم لذة السجود والركوع، وقد تحرم قراءة القرآن وتدبر آياته، وقد تحرم كثرة الذكر والاستغفار، وقد تحرم لذة الخشوع والبكاء من خشية الله، وقد تحرم بر الوالدين والأنس بهما، وقد تحرم لذة الأخوة في الله، وقد تحرم السعادة الزوجية، وقد تحرم أكل الحلال ولذته، وقد تحرم التوبة والندم على ما فات. وقد تحرم حسن الخاتمة. فيا أخي الحبيب! ويا أختي الغالية! قد نحرم هذه الأمور كلها، وقد نحرم الكثير منها، وقد نحرم القليل، والسعيد من جمعها ووفق إليها وقليل ما هم، فإن كنت منهم فاذكر نعمة الله عليك واشكره، واعلم أن من تمام شكره النصح والتوجيه للمسلمين، فلا تحرم نفسك أجر التبليغ، فالدال على الخير كفاعله. إذاً: فقد يصيبك من الحرمان ولو القليل، فاحتمل خطابي واحتمل مناداتي لك بـ (يا أيها المحروم!) فإنما قصدت بها الشفقة والرحمة والحب والنصح، وأعوذ بالله أن أكون من الشامتين، فأنا أول المحرومين، أسأل الله عز وجل أن يحيينا حياة طيبة، وأن يتوب علينا توبة صادقة. كثير ممن ظاهرهم الصلاح محرومون، فهم لم يذوقوا حلاوة الإيمان ولا حقيقة الهداية والاستقامة، فليست الاستقامة أشكالاً ومظاهر، بل هي أعمال وسرائر. وأنتم أيضاً يا أصحاب المناصب وأهل المال والتجارة! ويا كل مهندس وطبيب وكاتب! أقول لكم جميعاً: أحسنتم يوم سهرتم وعملتم ونجحتم، ولا شك أنكم جميعاً من صناع الحياة، ومن أصحاب الأيادي البيضاء؛ لكن ما هو رصيدكم من السعادة والراحة وانشراح الصدر؟ ما حقيقة الصلة بينكم وبين الله؟ ما هو نصيبكم من حلاوة الإيمان، ولذة السجود والمناجاة، ولذة الدمعة من خشية الله عز وجل؟ إذاً: فقد يكون لكم نصيب من الحرمان، فاسمعوا يا رعاكم الله! هذه الكلمات، وإذا كان هذا هو واقع بعض الصالحين والجادين العاملين، فكيف بحال الغافلين اللاهين؟! فمن الناس من كسب الدنيا والآخرة -نسأل الله عز وجل أن نكون منهم- ومنهم من كسب الدنيا وضيع الآخرة، ومنهم من ضيع الدنيا والآخرة، وهؤلاء هم المحرومون حقاً. يحدثني أحدهم: أنه لم يركع لله ركعة، ولم يشعر بلذة الصيام يوماً من الأيام، وأنه لا يعرف عن رمضان سوى السهر والمعاكسات والنوم بالنهار. ويهمس لي آخر عن أحواله وأحوال أصحابه وجلساتهم في الليل وما يدور فيه من الخنا والفساد والضياع. وقال آخر: إنه يجلس الساعات، بل الليالي ينتقل من قناة إلى قناة لقضاء الفراغ وقتل الوقت -كما يقول- يقول عن نفسه: والحق أنني أبحث عن الشهوة وتلبية رغبات النفس الأمارة، فإذا انتهيت شعرت بندم وضيق وهم لا يعلمه إلا الله، ولا أدري إلى متى سأظل على هذه الحال من قتل العمر وتضييع الأيام، يقول: أضعت نفسي ورجولتي وإيماني ووظيفتي، وباختصار: إنني أعيش بدوامة التعاسة والشقاء، وإن كنت في الظاهر في سعادة وهناء إلى آخر ما قال. قلت في نفسي: صدق الله يوم أن قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124] . ويصارحني آخر ودمعته تسيل على خده فيقول: إنكم مسئولون عنا أمام الله، أدركوا الشباب، مخدرات أفلام معاكسات سهر وغناء، ولواط وزنا، ثم يجهش في البكاء -هذه حاله والله العظيم- ويضع وجهه بين يديه وهو يقول: لقد فكرت بالانتحار عدداً من المرات! وكتب إلي أحدهم رسالة طويلة، قال في مقدمتها: قضية الشباب قضية كبيرة ومهملة وللأسف، مهملة من الجميع إلا ما شاء الله، فلا أدري من أين أبدأ في مشاكلهم المعاصرة، هل أبدأ بتضييعهم لأوقاتهم وأموالهم أو لأنفسهم أو لأمتهم. ثم عدد بعض أسرار الشباب إلى أن قال: هذا فيض من غيض مما يدور في أوساط الشباب من الفساد والإفساد، فضلاً عن حلق اللحى وسماع الغناء وإسبال الثياب وتبادل الأشرطة والأفلام المدمرة، وشرب الدخان ولعب الورق وتبادل أرقام الهواتف، وسباب ولعان وغيبة ونميمة وكذب، ناهيك عن ترك الصلاة، وإني بمقامي هذا -والكلام ما زال له- وإني بمقامي هذا بعد إذ نجاني الله من شبكة أعداء الإسلام التي ينصبونها لأبناء هذه الأمة وليس الخبر كالمعاينة، أقول: هذا واقع الشباب فاذهبوا وشاهدوا العجائب إلى آخر رسالته. وحدثتني بعض الأخوات، فتبين لي العجب من الضياع والحرمان الذي تعيشه بعض بنات المسلمين وللأسف. تقول إحداهن وقد كانت غافلة عابثة بالهاتف: أنا أعيش في محنة كبيرة شديدة لا يعلمها إلا الله، فأنام وأصحو وأنا أبكي، وقلبي يكاد يتقطع، أحس أن الدنيا ضيقة، أبكي في كل وقت وأخاف أن يكون ذلك الإحساس بضيق الدنيا قنوطاً أو يأساً من رحمة الله وأنا لا أريد ذلك، تقول: فأنا أريد أن أحقق صدق توبتي بالصبر والثقة بالله والتوكل عليه والاستعانة به، والثقة بأنه سينجيني من تلك المعصية، ويغفر لي ويعوضني خيراً، وحتى لحظة كتابتي هذه الكلمات أبكي من شدة ما أجد من ألم وتعب وضيق؛ لأن كل شيء يذكرني بالماضي، ولا أجد الراحة والاطمئنان إلا في الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن، وهذه من الصعوبات التي تواجهني في هذه الفترة، وأسأله تعالى أن يغفر ذنوبي فقد فرطت في جنب الله وتهاونت في المعصية إلى أن قالت: كنت أقول في نفسي: أمعقول أن يوجد من يتوب ويرجع إلى الله بسبب محاضرة واحدة أو شريط واحد أو موقف بسيط، فالحمد لله، وأسأله أن لا يزيغ قلبي بعد إذ هداني وقد هداها الله بسبب حضورها لمحاضرة لإحدى الأخوات في كليتها إلى آخر قصتها من رسالة لطيفة بعنوان: دموع ساخنة من فتاة عائدة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 2 هدية إلى المحرومين أهدي هذا الموضوع (المحرومون) إلى المحرومين من نعمة الإيمان، الفاقدين حلاوته وأنسه وطعمه. أهديه إلى المحرومين من لذة الدمعة والبكاء خشيةً وخوفاً من الله. أهديه إلى المحرومين من لذة السجود ومناجاة علام الغيوب. إلى المحرومين من لذة قراءة القرآن وتدبر آياته وتذوق معانيه. إلى المحرومين من لذة الأخوة والحب في الله. إلى المحرومين من بركة الرزق وأكل اللقمة الحلال. إلى المحرومين من بركة العمر وضياعه في الشهوات واللذات. إلى المحرومين من انشراح الصدر وطمأنينته وسعادته. إلى المحرومين من بر الوالدين والأنس بهما، والجلوس إليهما. وجماع ذلك كله أقول: أهدي هذا الموضوع إلى المحرومين من الاستقامة والطاعة والالتزام. إلى أولئك الذين أصابتهم الوساوس والشكوك، واستبد بهم الأسى والشقاء، واجتاحهم القلق والظلام، ونزلت بهم الهموم والغموم. إلى الذين حرموا زاد الإيمان ونور الإسلام. إلى البائسين ولو عاشوا في الرغد والنعيم. إلى الذين حرموا نعمة الإيمان، لقد فقدتم كل شيء، وإن وجدتم المال والجاه. إلى الذين حرموا لذة الاطمئنان وبرد الراحة. لقد فقدتم كل شيء وإن ملكتم الدنيا بأسرها. إلى الذين حرموا السعادة والأنس، وأضاعوا الطريق. إلى أولئك جميعاً أقول: اسألوا التائبين يوم ذاقوا طعم الإيمان، يوم اعترفوا بالحقيقة، والله ثم والله ما رأيت تائباً إلا وقالها، ولا نادماً إلا وأعلنها، صرخات متوجع وزفرات مذنب وآهات نادم، اختصروها بكلمات فقالوا: نشعر بالسعادة لحظات، وقت الشهوة فقط، وعند الوقوع في المعصية واللذة، وبعدها قلق وحيرة وفزع واضطراب، وضياع وظلام وشكوك وظنون، وبكاء وشكوى، وعُقَد وأمراض نفسية، وصدق الله عز وجل يوم أن قال: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] . إذاً: فهو في أمان من الضلال والشقاء، متى؟ بالهداية، بالاستقامة، باتباع هدي الله، والشقاء ثمرة الضلال، ولو كان صاحبه غارقاً في متاع الدنيا بأسرها، فما من متاع حرام إلا وله غصة تعقبه وضيق يتبعه، ولذلك قال الله عز وجل بعد هذه الآية مباشرة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124] . قال ابن كثير: أي: في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة. انتهى كلامه رحمه الله. فإلى المحرومين لماذا أعرضتم عن ذكر الله؟ لماذا حرمتم أنفسكم سماع المواعظ ومجالس الذكر؟ تدعون فلا تأتون، وتنصحون فلا تسمعون، تغفلون أو تتغافلون، بل ربما تسخرون وتهزءون؛ ولكن اسمعوا النتيجة، اسمع للنهاية المرة، اسمعي للنهاية التي لا بد منها، قال الحق عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124] هذا في الدنيا، أما في الآخرة: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124-126] . فنسيتها أعرضت عنها أغفلتها تناسيتها إذاً: فالجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126] . {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف:51] {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} [السجدة:14] . {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 3 أيها المحرومون أيها المحرومون لماذا نسيتم لقاء ربكم؟ لماذا هذا الإعراض العجيب؟! إنكم حرمتم أنفسكم، فحرمتم السعادة والراحة والاستقرار النفسي، لماذا نسيتم وتناسيتم ما قدمت أيديكم؟ لماذا غفلتم؟ ولماذا غفلنا عن المعاصي والذنوب؟ اسمع لقول الحق عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف:57] . ونسي ما قدمت يداه أين النفس اللوامة؟ أين استشعار الذنب؟ أين فطرة الخير؟ أين القلب اللين الرقيق؟ أين الدمعة الحارة؟ اسمعوا وعوا: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] . يقسم بعض التائبين -كما أسلفت- أنه ما ركع لله ركعة، وما سجد لله سجدة، فأي حرمان بعد هذا الحرمان؟! أي حرمان بعد هذا الحرمان؟!! عفوك اللهم عنا خير شيء نتمنى رب إنا قد جهلنا في الذي قد كان منا وخطينا وخطلنا ولهونا وأسأنا إن يكن رب خطئنا ما أسأنا بك ظنا فأنلنا الختم بالحسـ ـنى وإنعاماً ومنا أيها المحرومون! لا راحة للقلب ولا استقرار إلا في رحاب الله، إلا في الهداية، إلا في الاستقامة والالتزام بأوامر الله، يتصور بعض المحرومين والمحرومات أن الراحة والسعادة في المال والمنصب والسفر إلى الخارج. ذكرت جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 21/4/1415هـ نقلاً عن مذكرات زوجة الرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش) ، قالت: إنها حاولت الانتحار أكثر من مرة، وقادت السيارة إلى الهاوية تطلب الموت، وحاولت أن تختنق للتخلص من همومها وغمومها. ويذكر التاريخ لنا أن علي بن المأمون العباسي، ابن الخليفة، كان يسكن قصراً فخماً وعنده الدنيا مبذولة ميسرة، فأطل ذات يوم من شرفة القصر فرأى عاملاً يكدح طيلة النهار، فإذا أضحى النهار توضأ وصلى ركعتين على شاطئ دجلة، فإذا اقترب الغروب ذهب إلى أهله، فدعاه يوماً من الأيام فسأله، فأخبره أن له زوجة وأختين وأماً يكدح لهن، وأنه لا قوت له ولا دخل إلا ما يتكسبه من السوق، وأنه يصوم كل يوم ويفطر مع الغروب على ما يحصل، قال ابن الخليفة: فهل تشكو من شيء؟ قال العامل: لا، والحمد لله رب العالمين، فترك ابن الخليفة القصر، وترك الإمرة وهام على وجهه ووجد ميتاً بعد سنوات عديدة، وكان يعمل في الخشب جهة خراسان. فيا سبحان الله! من الإمارة إلى النجارة، لأنه وجد السعادة في عمله هذا، ولم يجدها في القصر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 4 أنواع المحرومين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 5 محرومون من لذة الصلاة إن من المحرومين من قال الله عنهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] فأي حرمان بعد إضاعة الصلاة؟ أقسم لي شاب: إنه لم يسجد لله سجدة إلا مجاملة أو حياء. فأقول: أيها المحروم! إنه الكفر والضلال: (إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) كما عند الترمذي والنسائي وأحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) كما عند مسلم في صحيحه. مسكين أنت أيها المحروم! يوم أن قطعت الصلة بينك وبين الله، إنها مفتاح الكنز الذي يفيض سعادة وطمأنينة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود، إنها زاد الطريق، ومدد الروح، وجلاء القلوب، إن ركعتين بوضوء وخشوع وخضوع كفيلتان أن تنهي كل هذا الهم والغم والكدر والإحباط. إن من أسباب سعادة المؤمنين ما أخبر الله عنه بقوله: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109] . وقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] . من أجمل لحظات الدنيا وأسعدها يوم أن يسجد العبد لمولاه؛ يدعوه ويناجيه يخافه ويخشاه قيام وسجود، وبكاء وخشوع، فيتنور القلب، وينشرح الصدر، وتشرق الوجوه، قال عز وجل: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] . أما المحروم فظلام القلب، وسواد الوجه، وقلق في النفس، هذا في الدنيا، وفي الآخرة يقول الله عنهم: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:42-43] حرموا من السجود في الآخرة؛ لأنهم كانوا يدعون إلى السجود في الدنيا فيتشاغلون ويتكبرون ويسخرون، أي فلاح وأي رجاء وأي عيش لمن انقطعت صلته بالله، أو قطع ما بينه وبين وليه ومولاه الذي لا غنى له عنه طرفة عين؟! فلا تعلم نفس ما في هذا الانقطاع من أنواع الآلام والعذاب. مسكين أيها المحروم! كيف تريد التوفيق والفلاح، والسعادة والنجاح، وأنت لا تصلي، قد قطعت الصلة ما بينك وبين الله؟! اسمع لقول الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] واسمع لقول الحق عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2] سجود المحراب، واستغفار الأسحار، ودموع المناجاة سيماء يحتكرها المؤمنون، ولئن توهم المحروم جناته في الدينار والنساء والقصر المنيف، فإن جنة المؤمن في محرابه. إن من المحرومين من إذا ذُكِّر بالصلاة سخر واستهزأ، وفي هؤلاء يقول الحق عز وجل: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:58] ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] أي: في الدنيا {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:30] ولكن السعيد من يضحك في النهاية، ولذلك قال الله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34] . إن المتهاون بالصلاة حرم خيراً كثيراً، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له برهان ولا نور ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأُبي بن خلف) والحديث أخرجه أحمد والدارمي وقال الهيثمي في المجمع: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد ثقات، وقال المنذري: إسناده جيد، قلت: فيه رجل لم يوثقه إلا ابن حبان. أيها المحروم! حرمت نفسك أجمل لحظات الدنيا؛ لحظات السجود وتمريغ الجبين للرب المعبود، حرمت نفسك أعظم اللذات، لذة المناجاة، لذة التذلل والخضوع، إنك تملك أغلى شيء في هذا الوجود، تملك كنزاً من كنوز الدنيا! الصلوات الخمس، الثلث الأخير من الليل، ساعات الاستجابة اسأل المصلين الصادقين، اسألهم ماذا وجدوا، اسألهم ولا تتردد، سيجيبونك بنفوس مطمئنة راضية ذاقت حلاوة الدنيا وأجمل ما فيها، سيقولون: أكثر الناس هموماً وغموماً وكدراً المتهاونون المضيعون للصلاة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 6 لا تيأس أيها المحروم أبشر أيها الأخ الحبيب! فإن الله عز وجل يقول: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم:60] . التائب أعتق نفسه من أسر الهوى، وأطلق قلبه من سجن المعصية. التائب يجد للطاعة حلاوة، وللعبادة راحة، وللإيمان طعماً، وللإقبال لذة. التائب يجد في قلبه حرقة، وفي وجهه أسى، وفي دمعه أسراراً. التائب منكسر القلب، غزير الدمع، رقيق المشاعر. التائب صادق العبارة؛ فهو بين خوف وأمن، وقلق وسكينة. اليوم ميلادي الجديد وما مضى موت بليت به بليل داجي أنا قد سريت إلى الهداية عارجا يا حسن ذا الإسراء والمعراج أيها المحروم! تب إلى الله، ذق طعم التوبة، وذق حلاوة الدمعة، اعتصر القلب وتألم؛ لتسيل دمعة على الخد تطفئ نيران المعاصي والذنوب اخل بنفسك اعترف بذنبك، ادع ربك وقل: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ابك على خطيئتك، وجرب لذة المناجاة، اعترف بالذل والعبودية لله، تب إلى الله بصدق، ناج ربك وقل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. جرب مثل هذه الكلمات كما كان صلى الله عليه وآله وسلم يرددها. أيها المحروم! (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً) كما عند مسلم في صحيحه. اسمع لملك الملوك وهو يناديك أنت، اسمع إلى جبار الأرض والسماوات وهو يخاطبك أنت، وأنت من أنت؟! اسمع للغفور الودود؛ للرحيم الرحمن وهو يقول: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] . ويقول سبحانه في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم تذنبون في الليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم) كما عند مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر. ويقول الله في الحديث القدسي الآخر: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) كما عند الترمذي من حديث أنس وهو صحيح. إذاً فيا أيها المحروم! ما هو عذرك وأنت تسمع هذه النداءات من رب الأرض والسماوات. إن أسعد لحظات الدنيا يوم أن تقف خاضعاً ذليلاً خائفاً باكياً مستغفراً تائباً، فكلمات التائبين صادقة، ودموعهم حارة، وهممهم قوية، ذاقوا حلاوة الإيمان بعد مرارة الحرمان، ووجدوا برد اليقين بعد نار الحيرة، وعاشوا حياة الأمن بعد مسيرة القلق والاضطراب، فلماذا تحرم نفسك هذا الخير وهذه اللذة والسعادة! فإن أذنبت فتب، وإن أسأت فاستغفر، وإن أخطأت فأصلح، فالرحمة واسعة والباب مفتوح. قال ابن القيم في الفوائد: ويحك لا تحقر نفسك، فالتائب حبيب، والمنكسر صحيح، إقرارك بالإفلاس عين الغنى تنكيس رأسك بالندم هو الرفعة اعترافك بالخطأ نفس الإصابة. انتهى كلامه رحمه الله. إذاً: العبودية لله عزة ورفعة، ولغيره ذل ومهانة. أيها الحبيب، أيتها الغالية! إننا نفرح بتوبتك، ونسر لرجوعك إلى الله، وليس لنا من الأمر شيء. عين تسر إذا رأتك وأختها تبكي لطول تباعد وفراق فاحفظ لواحدة دوام سرورها وعد التي أبكيتها بتلاقي عِدنا بالرجوع إلى الله، عِدنا بتوبة صادقة ونحن معك بكل ما تريد، نسر ونفرح، نمدك بأموالنا وأيدينا ودعائنا وليس لنا من الأمر شيء، إنما هو لنفسك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 7 محرومون من لذة قراءة القرآن ومن المحرومين من حرم لذة قراءة القرآن، وتدبر آياته والبكاء من خشية الله. عن عطاء قال: (دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله تعالى عنها فقال عبيد بن عمير: حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي، قالت: قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، قالت: قام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذن بالصلاة الفجر، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال صلى الله عليه وآله وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:190] آخر الآيات من سورة آل عمران) رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وإسناده جيد، وابن حبان في صحيحه وصححه الألباني. إذاً فمن المحرومين من لم يقرأ القرآن، وربما قرأه في رمضان بدون تدبر ولا خشوع. اسأل نفسك أيها المحب! كم آية تقرأ في اليوم؟ بل كم مرة تقرأ في الأسبوع؟ كم مرة دمعت عيناك وأنت تقرأ القرآن؟ إن من الناس من لم تدمع عينه مرة واحدة، مرة واحدة عند سماع أو قراءة آيات القرآن! وربما دمعت مراراً ومدراراً عند سماع كلمات الغناء في الحب والغرام والهجر والحرام، والعياذ بالله! مساكين الذين ظنوا الحياة كأساً ونغمةً ووتراً مساكين الذين جعلوا وقتهم لهواً ولعباً وغروراً مساكين الذين حسبوا السعادة أكلاً وشرباً ولذة. ليل المحرومين غناء وبكاء، وليل الصالحين بكاء ودعاء. ليل المحرومين مجون وخنوع، وليل الصالحين ذكر ودموع. أيها المحروم من لذة البكاء! اعلم أنه متى أقحطت العين من البكاء من خشية الله فاعلم أن قحطها من قسوة القلب، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي، والعياذ بالله. فقل أيها المحروم! قل لنفسك: وا أسفاه! وا حسرتاه! كيف ينقضي الزمان وينفد العمر والقلب محجوب محروم ما شم رائحة القرآن، دخل الدنيا وخرج وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزاً وكسلاً، وموته غبناً وكمداً. ألم تسمع أيها المحروم! ألم تسمعي أيتها المحرومة! لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) فأيهما تختار وأيهما تختارين، لك أو عليك؟! قال أحد الصالحين: (أحسست بغم لا يعلمه إلا الله، وبهم مقيم، فأخذت المصحف وبقيت أتلو فزال عني -والله- فجأة هذا الغم، وأبدلني الله سروراً وحبوراً مكان ذلك الكدر) . فيا أيها الأخ الحبيب! ويا أيتها المسلمة! إن هذا القرآن رحمة، وهو هدى ونور وشفاء لما في الصدور كما وصفه الله سبحانه وتعالى، فاسمع أيها المحروم! من قراءة القرآن، إن قراءة القرآن بتدبر وتمعن من أعظم أسباب السعادة، ومن أعظم أسباب انشراح الصدر في الدنيا والآخرة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 8 محرومون من لذة الأخوة في الله ومن المحرومين من حرم لذة الأخوة في الله، حرم الرفقة الصالحة التي تذكره الخير وتعينه عليه، إن الجليس الصالح لا تسمع منه إلا كلاماً طيباً، أو دعاءً صالحاً أو دفاعاً عن عرضك. فيا أيها المحروم من الأخوة في الله! إنك بأمس الحاجة إلى دعوة صالحة وإلى كلمة طيبة، إنك بأمس الحاجة إلى من تبث له أشجانك وأحزانك، إنك بأمس الحاجة إلى صادق أمين وناصح مخلص، إنك بأمس الحاجة إلى أخ يتصف بالرجولة والشهامة. أتراك تجد هذه الصفات بصديق الجلسات والضحكات والرحلات والمنكرات؟! أيها المحب! أعد النظر في صداقاتك، استعرض أصدقاءك واحداً بعد الآخر، اسأل نفسك ما نوع الرابط بينكما؟ أهي المصالح الدنيوية؟ أو الشهوات الشيطانية؟ أم هي الأخوة الإسلامية؟ كل أخوة لغير الله هباء، وفي النهاية همٌّ وعداء، لاشك أنه مر بك قول الحق عز وجل: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] . أيها المحروم من لذة الأخوة في الله! راجع صداقاتك قبل أن تقول يوم القيامة: {يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:28-29] . راجع أحبابك وخلانك، فإنك ستحشر معهم يوم القيامة، فقد قال حبيبك صلى الله عليه وآله وسلم: (يحشر المرء مع من أحب) فمن أي الفريقين أحبابك؟ قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدها فأنت قرين لي بكل مكان فإن كنت في دار الشقاء فإنني وأنت جميعاً في شقا وهوان أيها المحروم، كم كسبت من صفات ذميمة، وكم خسرت من صفات حميدة بسبب أصحابك. تقول لي: لماذا؟ أقول لك: لأن الطبع سراق: (وقل لي: من تصاحب؟ أقول لك: من أنت) والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) . ابل الرجال إذا أردت إخاءهم وتوسمن أمورهم وتفقد فإذا وجدت أخا الأمانة والتقى فبه اليدين قرير عين فاشدد إن للأخوة في الله حلاوة عجيبة ولذة غريبة لا يشعر بها إلا من وجدها، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، وذكر منها: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) . وفي الأثر المشهور: (لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا، وذكر منها: مجالسة إخوة ينتقون أطايب الكلام كما ينتقون أطايب التمر) فكم من محروم حرم الأخوة في الله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 9 محرومون من لذة الأكل الحلال ومن الناس من حرم أكل الحلال، ومن ثم حرم إجابة الدعاء، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!) . كم من الناس حرموا لذة الأكلة الحلال، وحرموا بركة المال، وحرموا صلاح العيال بسبب أكل الحرام من رباً وغش وخداع وسرقة وحلف كاذب، مسكين أنت أيها المحروم! ربما أنك تركع وتسجد وترفع يديك بالدعاء، فأنى يستجاب لك؟! أيها الإخوة! أخشى أن نكون من المحرومين ونحن لا نشعر، فنحن نرفع أيدينا بالدعاء، ونلح على الله فيه، وربما سالت الدمعات على الخدين، انظر لحال المصلين ودعاء القنوت في رمضان، فربما لا نرى أثراً لدعائنا وبكائنا {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] اسمع لقول الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] لنراقب أموالنا، ولنحرص على أكلنا وشربنا ولبسنا، وربما دخلنا من إهمالنا في أعمالنا ووظائفنا. فيا أيها المحروم! إن لأكل الحلال أثراً عجيباً على القلب وراحته وسعادته، وإن لأكل الحلال أثراً كبيراً على صلاح الأولاد وبرهم بآبائهم، بل إن لأكل الحلال أثراً كبيراً على سعة الرزق ونماء المال، فكم من المحرومين بسبب المعاصي والذنوب؟! ففي المسند من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) والحديث أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه. فكم من المحرومين بسبب المعاصي والذنوب! وانتبه أيها المحب! فليس كثرة المال عند بعض الناس دليلاً على بركته، بل قد يكون شقاء على صاحبه، وكم سمعنا عمن ملك المال والقصور يعيش في تعاسة وهموم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا قول الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44] ) والحديث أخرجه أحمد والطبري وابن أبي الدنيا في كتاب الشكر، وقال الألباني في المشكاة: إسناده جيد. واسمع لـ ابن القيم رحمه الله وهو يقول عن أثر الذنوب والمعاصي: ومن عقوباتها -أي المعاصي والذنوب- أنها تمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة، وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا، فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله، وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] وقال تعالى: {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن:16-17] وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 10 محرومون من لذة ذكر الله تعالى ومن الناس من حرم كثرة ذكر الله تهليلاً وتسبيحاً وتحميداً، فلسانه يابس من ذكر الله، رطب ببذيء الكلام والسباب واللعان -والعياذ بالله- وإذا أردت أن تعرف شدة الحرمان والخسارة للغافل عن ذكر الله، فاسمع لهذه الأحاديث والربح العظيم فيها: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: (ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال، يحجون ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدقون، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين) . قال أبو صالح الراوي عن أبي هريرة لما سئل عن كيفية ذكرهن قال: [يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاثا وثلاثين] متفق عليه. وزاد مسلم في روايته: (فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) . وأهل الدثور هم أهل المال الكثير. وعنه -أي عن أبي هريرة رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، والأحاديث في مثل هذه الفضائل كثيرة جداً ومستفيضة. أسألك بالله، أليس محروماً من ترك مثل هذه الأذكار؟ فمن منا لا يرغب أن تغفر خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر؟ ومن منا لا يرغب أن يكسب ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة؟ ولكن بعض الناس لم يسمع بهذه الأحاديث قط، فضلاً على أن يحرص على فضلها، أليس هذا من الحرمان؟! إنها كلمات قصيرة في أوقات يسيرة مقابل فضائل كثيرة، وهي سلاح للمؤمن تحفظه من شياطين الإنس والجان، وهي اطمئنان للقلب وانشراح للصدر كما قال عز وجل: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] والله عز وجل يقول: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] ولكن سبق المفردون، وتأخر وخسر المحرومون، والمفردون هم الذاكرون الله كثيراً والذاكرات كما أخبر بذلك صلى الله عليه وآله وسلم عند مسلم في صحيحه. فيا أيها المحروم من ذكر الله! احرص على تلك الأذكار، لعلها أن تمحو عنك السيئات، وإياك إياك وبذاءة اللسان، والسب واللعان فتزيد الطين بلة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 11 محرومون من لذة السعادة الزوجية ومن الناس من حرم السعادة الزوجية، والعيشة الهنية، فهو لا يجد السكن النفسي، يعيش في قلق واضطراب، وشجار وخصام، كم شكا هؤلاء لنا؛ كم شكوا حياتهم مع أزواجهم وفي بيوتهم! يعيش بدون مودة ولا رحمة، بدون لذة ولا متعة، بينه وبين زوجه وحشة، فلماذا كل هذا؟! اسمع يا رعاك الله! قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وزوجتي. أيها الزوجان! ربما تحرما السعادة الزوجية والراحة النفسية بسبب الذنوب والمعاصي منكما أو من أحدكما، انظرا إلى البيت وما فيه من وسائل إفساد تغضب رب العباد، انظرا إلى حرصكما على الفرائض والطاعات والاهتمام بها والصلاة في أوقاتها، قفا مع بعضكما وستجدان أن السبب معصية الله لا شك، قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] إنه ما من مشكلة تقع بين زوجين إلا بمعصية أو ذنب، فكم في البيوت من المحرومين بسبب معصية رب العالمين؟ وأقف هنا؛ فقد سبق الحديث عن هذا الموضوع بدرسين بعنوان: (السحر الحلال) فمن أراد فليرجع لهما. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 12 محرومون من لذة بر الوالدين والأنس بهما ومن الناس من حرم بر الوالدين والأنس بهما، والجلوس معهما وقضاء حوائجهما، حرم المسكين من فضل عبادة قرنت بتوحيد الله عز وجل. فقد ثنى بهما فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] ويدل هذا على فضلهما وعظم القيام بحقهما. اسمع يا من حرمت برهما! قال صلى الله عليه وسلم: (الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه) والحديث في الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ويروى عن عبد الله بن المبارك أنه بكى لما ماتت أمه، فقيل له؛ فقال: [إني لأعلم أن الموت حق، ولكن كان لي بابان للجنة مفتوحان فأغلق أحدهما] . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة) كما في مسلم. وقال صلى الله عليه وآله وسلم (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه) والحديث متفق عليه، فأي فضل حرمه بعض الناس بغفلته عن بر والديه؟! ومن برهما ميتين: الدعاء لهما وزيارة صديقهما وإنفاذ وعدهما. إن قصص العقوق التي نسمعها لينفطر لها الفؤاد أسى، وتذوب لها النفس حسرة. أيها المحروم برهما، إن العقوق من الكبائر، بل لا يدخل الجنة عاق، ويحرم التوفيق بالدنيا، وربما عجلت له العقوبة، وربما ابتلي بأولاده فالجزاء من جنس العمل. أبو هريرة كان لا يخرج ولا يدخل حتى يسلم على أمه، وكان يحملها وينزلها، فقد كانت كبيرة مكفوفة. وابن الحنفية يغسل رأس أمه ويمشطها ويقبلها ويخضبها. وكان علي بن الحسين من أبر الناس بأمه، وكان لا يأكل معها، فسئل فقال: [أخاف أن تسبق عينها إلى شيء من الطعام وأنا لا أعلم به فآكله فأكون قد عققتها] . وطلبت أم مسعر ماء في ليلة، فجاء بالماء فوجدها نائمة، فوقف بالماء عند رأسها حتى أصبح. وسئل عمر بن ذر عن بر ولده به فقال: [ما مشى معي نهاراً قط إلا كان خلفي، ولا ليلاً قط إلا كان أمامي، ولا رقى على سطح أنا تحته] فنستغفر الله من حالنا مع آبائنا، ونعوذ بالله من الحرمان. إليك أيها السامع هذه العناوين السريعة أنقلها لك من رسالة صغيرة بعنوان (أبناء يعذبون أبناءهم) قصص واقعية: ابن يتهرب من المستشفى حتى لا يتسلم والده! وآخر يتخلص من أمه برميها بجوار القمامة! وآخر يأتي بأبيه الذي بلغ الثمانين إلى دار النقاهة ويقول: خذوا أبي عندكم، وإذا أردتم شيئاً اتصلوا عليّ! وآخر يبخل على أمه بمائة ريال ثمناً لخاتم أعجبها، بل أخذ الخاتم من يدها ورماه على طاولة البائع! وابنة تطرد والدتها من منزلها. وأخرى غضبت بعد أن علمت أن والدتها ستعيش معها. هذه عناوين لقصص واقعية، وتفاصيلها تدمي القلوب وتقرح الأكباد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، نعوذ بالله من حال هؤلاء، محرومون ومعذبون في الدنيا والآخرة. اللهم اغفر لنا ولوالدينا واجزهم عنا خير الجزاء، اللهم أعنا على برهما، اللهم ارفع درجتهم وأسكنهم الفردوس الأعلى برحمتك يا أرحم الراحمين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 13 محرومون من حسن الخاتمة ومن المحرومين من حرم حسن الخاتمة نسأل الله عز وجل حسنها-: عجيب أمرك أيها المحروم! إنك تعلم أن الموت حق، وأنه نهاية الجميع، ومع ذلك تصر على حالك وأنت تسمع هذه الكلمات مراراً وتكراراً. أيها الأخ! ويا أيتها الأخت! ليس العيب أن تخطئ، ولكن العيب الاستمرار على الخطأ، أيهما تريد: أن تموت على خير أو على شر؟! أقول هذا لأننا نرى ونسمع نهاية بعض المحرومين، نسأل الله حسن الخاتمة. قال ابن القيم في الجواب الكافي: ثم أمر أخوف من ذلك وأدهى وأمر، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار، والانتقال إلى الله تعالى! فربما تعذر عليه النطق بالشهادة كما شاهد الناس كثيراً من المحتضرين ممن أصابهم ذلك. ثم ذكر رحمه الله صوراً لبعضهم، منها: قيل لبعضهم: قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، ويقول: تان تنا تن تنا. وقيل لآخر: فقال: كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها إلى آخر الصور التي ذكرها رحمه الله تعالى إلى قوله: وسبحان الله! كم شاهد الناس من هذا عبراً، والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم. ونحن اليوم نشاهد ونسمع ونقرأ صوراً كثيرة لسوء الخاتمة ومنها: أن رجلاً ذهب إلى أحد البلاد المعروفة بالفساد، وهناك في شقته شرب الخمر -أعزكم الله- قارورة ثم الثانية ثم الثالثة، وهكذا حتى شعر بالغثيان، فذهب إلى دورة المياه -أعزكم الله-ليتقيأ، أتدري -أيها المحب- ماذا حدث له؟ مات في دورة المياه، ورأسه في المرحاض -أعزكم الله-! ومنها أن شاباً كان لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، وكان لا يصلي، أضاع طريق الهداية، وعندما نزلت به سكرات الموت قيل له: قل لا إله إلا الله -يا لها من لحظات حرجة، وكربات وشدائد وأهوال- أتدرون ماذا قال؟ أخذ يردد أنه كافر بها؛ نسأل الله حسن الخاتمة! ومنها: أن شاباً حصل له حادث على إحدى الطرق السريعة، فتوقف بعض المارة لإسعافه فوجدوه يحتضر والموسيقى الغربية تنبعث بقوة من مسجل السيارة، فأطفئوه وقالوا للشاب: قل لا إله إلا الله، فأخذ يسب الدين ويقول: لا أريد أن أصلي، لا أريد أن أصوم، ومات على ذلك والعياذ بالله! يقول أحد العاملين في مراقبة الطرق السريعة: فجأة سمعنا صوت ارتطام قوي، فإذا سيارة مرتطمة بسيارة أخرى، حادث لا يكاد يوصف، شخصان في السيارة في حالة خطيرة، أخرجناهما ووضعناهما ممددين، وأسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية فوجدناه قد فارق الحياة، عدنا للشخصين فإذا هما في حالة الاحتضار، هبَّ زميلي يلقنهما الشهادة، ولكن ألسنتهما ارتفعت بالغناء، أرهبني الموقف، وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت، أخذ يعيد عليهما الشهادتين وهما مستمران في الغناء، لا فائدة! بدأ صوت الغناء يخفت شيئاً فشيئاً، سكت الأول وتبعه الثاني، فقدا الحياة! لا حراك، يقول: لم أر في حياتي موقفاً كهذا، حملناهما في السيارة، قال زميلي: إن الإنسان يختم له إما بخير أو بشر بحسب ظاهره وباطنه، قال: فخفت من الموت، واتعظت من الحادثة، وصليت ذلك اليوم صلاة خاشعة. وبعد مدة حصل حادث عجيب: شخص يسير بسيارته سيراً عادياً، وتعطلت سيارته في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة، ترجل من سيارته لإصلاح الخلل في أحد العجلات، جاءت سيارة مسرعة وارتطمت به من الخلف، سقط مصاباً إصابات بالغة فحملناه معنا في السيارة، وقمنا بالاتصال بالمستشفى لاستقباله -شاب في مقتبل العمر متدين، يبدو ذلك من مظهره- عندما حملناه سمعناه يهمهم فلم نميز ما يقول، ولكن عندما وضعناه في السيارة وسرنا سمعنا صوتاً مميزاً إنه يقرأ القرآن وبصوت ندي -سبحان الله- لا تقول: هذا مصاب، الدم قد غطى ثيابه وتكسرت عظامه، بل هو على ما يبدو على مشارف الموت، استمر يقرأ بصوت جميل، يرتل القرآن، فجأة سكت التفتُّ إلى الخلف فإذا به رافع إصبع السبابة يتشهد ثم انحنى رأسه قفزت إلى الخلف، لمست يده، قلبه، أنفاسه، لاشيء فارق الحياة نظرت إليه طويلاً، سقطت دمعة من عيني، أخبرت زميلي أنه قد مات، انطلق زميلي في البكاء، أما أنا فقد شهقت شهقة وأصبحت دموعي لا تقف، أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثراً!! وصلنا إلى المستشفى، وأخبرنا كل من قابلنا عن قصته، الكثير تأثروا، ذرفت دموعهم، أحدهم بعد ما سمع قصته ذهب وقبل جبينه، والجميع أصروا على الجلوس حتى يصلى عليه، اتصل أحد الموظفين بمنزل المتوفى، كان المتحدث أخاه الذي قال عنه: إنه يذهب كل إثنين لزيارة جدته الوحيدة في القرية، كان يتفقد الأرامل واليتامى والمساكين، وكانت تلك القرية تعرفه، فهو يحضر لهم الكتب والأشرطة، وكان يذهب وسيارته مملوءة بالأرز والسكر لتوزيعها على المحتاجين، حتى حلوى الأطفال كان لا ينساها، وكان يرد على من يثنيه عن السفر ويذكر له طول الطريق، كان يرد عليه بقوله: إنني أستفيد من طول الطريق بحفظ القرآن ومراجعته، وسماع الأشرطة النافعة، وإنني أحتسب إلى الله كل خطوة أخطوها. يقول ذلك العامل في مراقبة الطريق: كنت أعيش مرحلة متلاطمة الأمواج، تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه لكثرة فراغي وقلة معارفي، وكنت بعيداً عن الله، فلما صلينا على الشاب، ودفناه واستقبل أول أيام الآخرة، استقبلت أول أيام الدنيا، تبت إلى الله عسى أن يعفو عما سلف، وأن يثبتني على طاعته، وأن يختم لي بخير. انتهت القصة بتصرف من رسالة لطيفة بعنوان: الزمن القادم. قلت: صدق ابن القيم رحمه الله بقوله: وسبحان الله! كم شاهد الناس من هذا عبراً، والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم. أقول: كيف يوفق لحسن الخاتمة من حرم نفسه الاستقامة والطاعة لله، فقلبه بعيد عن الله غافل عنه، عبد لشهوته وهواه، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. وهذا موقف آخر، قال أبو عبد الله: لا أعرف كيف أروي قصتي التي عشتها منذ فترة، والتي غيرت مجرى حياتي كلها، والحقيقة أنني لم أقرر الكشف عنها إلا من خلال إحساسي بالمسئولية تجاه الله عز وجل، ولتحذير بعض الشباب الذي يعصي ربه، وبعض الفتيات اللاتي يسعين وراء وهم زائف اسمه الحب. يقول: كنا ثلاثة من الأصدقاء يجمع بيننا الطيش والعبث. كلا، بل أربعة؛ فقد كان الشيطان رابعنا، فكنا نذهب لاصطياد الفتيات الساذجات بالكلام المعسول ونستدرجهن إلى المزارع البعيدة، وهناك يفاجأن بأننا قد تحولنا إلى ذئاب لا ترحم، لا نرحم توسلاتهن بعد أن ماتت قلوبنا ومات فينا الإحساس، هكذا كانت أيامنا وليالينا في المزارع وفي المخيمات والسيارات وعلى الشواطئ. إلى أن جاء اليوم الذي لن أنساه، ذهبنا كالمعتاد للمزرعة، كان كل شيء جاهز، الفريسة لكل واحد منا الشراب الملعون شيء واحد نسيناه هو الطعام، وبعد قليل ذهب أحدنا لشراء طعام العشاء بسيارته، كانت الساعة السادسة تقريباً عندما انطلق، ومرت الساعات دون أن يعود، وفي العاشرة شعرت بالقلق عليه، فانطلقت بسيارتي أبحث عنه، وفي الطريق شاهدت بعض ألسنة النار تندلع على جانب الطريق، وعندما وصلت فوجئت بأنها سيارة صديقي، والنار تلتهمها وهي مقلوبة على أحد جانبيها، يقول: أسرعت كالمجنون أحاول إخراجه من السيارة المشتعلة ذهلت عندما وجدت نصف جسده وقد تفحم تماماً، لكنه كان ما يزال على قيد الحياة!! نقلته إلى الأرض وبعد دقيقة فتح عينيه وأخذ يهذي: النار النار! فقررت أن أحمله بسيارتي وأسرع إلى المستشفى، لكنه قال لي بصوت باكٍ: لا فائدة، لن أصل، فخنقتني الدموع وأنا أرى صديقي يموت أمامي، وفوجئت به يصرخ: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ نظرت إليه بدهشة وسألته: من هو؟ فقال بصوت كأنه قادم من بعيد: الله! أحسست بالرعب يجتاح جسدي ومشاعري، وفجأة أطلق صديقي صرخة مدوية ولفظ آخر أنفاسه! ومضت الأيام، لكن صورة صديقي الراحل ظلت وهو يصرخ والنار تلتهمه: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟! ووجدت نفسي أتساءل: وأنا ماذا سأقول له؟! وليتساءل كل محروم ماذا سيقول لله؟ يقول: ففاضت عيناي واعترتني رعشة غريبة، وفي نفس اللحظة سمعت المؤذن لصلاة الفجر ينادي: الله أكبر، الله أكبر، حي على الصلاة، فأحسست أنه نداء خاص بي يدعوني لأسدل الستار على فترة مظلمة من حياتي، يدعوني إلى طريق النور والهداية، فاغتسلت وتوضأت وطهرت جسدي من الرذيلة التي غرقت فيها لسنوات، وأديت الصلاة. ومن يومها لم يفتني فرض واحد، لقد أصبحت إنساناً آخر؛ فسبحان مغير الأحوال!! انتهت من رسالة لطيفة للشباب فقط. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 14 علاج لكل محروم لعل كثيراً من المحرومين يتساءلون: أين الطريق؟ وما هو العلاج؟ وأقول: العلاج ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـ سفيان بن عبد الله الثقفي لما قال له سفيان: (يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم) . فيا أيها المحروم ويا أيتها المحرومة! لنقل كما قال صلى الله عليه وسلم: آمنا بالله، ثم لنستقم على طاعة الله، لنؤد ما طلب الله عز وجل منا، لزوم الصراط المستقيم من غير ميل عنه يمنة ولا يسرة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 15 التفكير الجاد بطريق الاستقامة يظن بعض السامعين لهذا الكلام أن الاستقامة نفل، فمن أرادها كان مستقيماً ومن لم يرد فلا بأس عليه، وهذا مفهوم خاطئ، فإن كل مسلم مطالب بالاستقامة، قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112] . وثمرات الاستقامة ثمرات عظيمة تدفع صاحبها إلى الالتزام بشرع الله ومجاهدة النفس، يقول الحق عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30-32] . ويقول عز وجل: {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [الجن:16-17] . فكم من المحرومين المعذبين؟! كم من المحرومات المعذبات من شبابنا ورجالنا وإخواننا وأخواتنا؟ نسأل الله عز وجل لهم الهداية. لقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف حتى استقاموا على الطريقة ففتحت لهم الأرض التي يغدقون فيها الماء، وتتدفق فيها الأرزاق، ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتها استلاباً. يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] وكل ما سبق أيها الحبيب! من صور الحرمان إنما هو بسبب البعد عن الاستقامة، وينال الإنسان من الحرمان بقدر بعده عن طاعة الله. أخي الحبيب! أيتها الأخت الغالية! قف مع نفسك لحظات بعيداً عن الدنيا بذهبها ومناصبها وقصورها، اجلس مع نفسك بعيداً عن الأصحاب والأولاد، اخل بنفسك واسألها: لماذا أعيش؟ وماذا أريد؟ وما هي النهاية؟ من أين أتيت؟ وأين سأذهب؟! ولكن إياك أن تكون كذلك البائس المحروم، الشاعر النصراني الذي يقول: جئت لا أعلم من أين، ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمضيت وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري! إلى آخر تلك الطلاسم والأسئلة التي يثيرها في قصيدته؛ حيرة وتردد. ذهول يشعر به المحرومون من نعمة الإيمان، أما نحن المسلمون المؤمنون فلا تقلقنا هذه الأسئلة ولله الحمد والمنة، فإننا نجد في ديننا الإجابات المفصلة عليها، إننا نجد في قرآننا وفي أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام الكلام الشافي الصادق عنها، إن قرآننا علمنا أننا نعيش لغاية وهدف: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فهل أنت تعيش لهدف أيها الأخ الحبيب؟ وعلمنا أن كل شيء في حياتنا إنما هو لله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162-163] فهل كل شيء في حياتك لله، فلا نعمل إلا ما يرضي الله، ولا نتكلم إلا بما يرضي الله، فلا نرضي إلا الله ولو سخط الناس كلهم، فنحن نردد كل لحظة: لا إله إلا الله، ونعلم أن من عاش عليها صادقاً مخلصاً عاش عزيزاً سعيداً، وأن من مات عليها صادقاً مخلصاً، مات شهيداً في جنة عرضها السماوات والأرض. إذاً: فاسمع واعلم أيها المحروم! إن من يعيش لهدف ومبدأ، يتحرك ويعمل ويركع ويسجد ويذهب ويجيء ويحرص على وقته، ولا يجعل دقيقة للفراغ، فإن الفراغ قاتل والعطالة بطالة، وأكثر الناس هموماً وغموماً العاطلون الفارغون، إنك يوم تفرغ يدخل عليك الهم والغم والوساوس والهواجس، وتصبح ميداناً لألاعيب الشياطين. أيها الأخ! أيتها الأخت! اجعلوا الهمّ هماً واحداً، همّ الآخرة، همّ لقاء الله عز وجل، همّ الوقوف بين يديه: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] اجعل عملك خالصاً لوجه الله، احرص على رضا الله، لا تنتظر شكراً من أحد. أيها الأخ! ويا أيتها الأخت! ماذا قدمت لنفسك؟ وماذا قدمتِ لنفسك؟ والله تعالى يقول: {وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة:223] إن من ركب ظهر التفريط والتواني، نزل بدار العسرة والندامة. إذاً: فأول العلاج: التفكير الجاد بطريق الاستقامة والالتزام، فكن صاحب هدف، ومبدأ لتشعر بقيمة الحياة، واجعل همك دائماً رضا الله وحده لا رضا غيره، وطاعة الله لا طاعة غيره. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 16 فعل العبد أسباب الهداية ومن أسباب الاستقامة: إرادة الله الهداية للعبد، قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] . وبعض الجهال والجاهلات يقولون: ماذا أفعل إذا لم يرد الله هدايتي؟! وأقول: هذه شبهة وحيلة نفسية، ومدخل شيطاني لدى كثير من المحرومين. والإجابة على هذا نقول: لا بد من فعل الأسباب، فاطلب الهداية واسع لفعل أسبابها وجاهد النفس، وسترى إن شاء الله النتائج، وهكذا في كل أمر تريده لا بد معه من فعل الأسباب. أتراك أيها المحروم! إذا طلبت النجاح في الامتحان تدرس وتقرأ وتحفظ وتسهر، فلو قلنا لك -مثلاً-: لا تدرس ولا تقرأ ولا تسهر، وإن كان الله أراد نجاحك فستنجح، أتوافق على هذا؟ أتوافقين على هذا؟ بالطبع لا. إذاً: لا بد من فعل الأسباب، من ترك جلساء السوء، وترك وسائل الفساد والحرص على مجالس الصالحين وكثرة الذكر، والإلحاح بالدعاء أن يفتح الله على قلبك، وأن يثبتك على طريق الحق، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يكثر في سجوده من قول: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فكيف بي وبك وبمن شابهنا من ضعاف الإيمان؟ ادع الله بصدق وبإلحاح أن يرزقك طريق الاستقامة، وها أنت تدعو في اليوم أكثر من سبع عشرة مرة، إن كنت ممن يحافظ على الصلوات المفروضة تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، ولكن مع الأسف بدون حضور قلب، أو تدبر للمعنى، فاصدق مع الله بطلب الهداية، وجاهد النفس فإن الله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] . إذاً فقبل مرحلة الهداية لا بد من مرحلة المجاهدة وحبس النفس عن شهواتها، تذكر حلاوة الصلة بينك وبين الله يهن عليك مر المجاهدة، واعلم أن شراب الهوى حلو ولكنه يورث الشرق، فاطلب الهداية من الله بصدق، واحرص على فعل أسبابها لعلك أن تشعر بالسعادة والراحة في الدنيا والآخرة. وأسباب الهداية كثيرة لعلي ألخصها لك بالنقاط التالية لتحرص على فعلها: أولاً: كن صاحب هدف وعش لمبدأ، واعلم لماذا خلقت. ثانياً: اعلم أن إرادة الله فوق كل شيء، لكنها في علم الغيب، فما عليك إلا أن تحرص على الخير وفعل الأسباب للوصول إليه، مع التنبه لحيل النفس ومداخل الشيطان. ثالثاً: الإلحاح الشديد في الدعاء وكثرة ذكر الله. رابعاً: الحرص على مصاحبة الصالحين ونبذ أهل الفسق والفجور، فإنهم لا يهدءون حتى تكون مثلهم، وصدق من قال: [ودت الزانية أن النساء كلهن زواني] . خامساً: مجاهدة النفس ومحاسبتها وهل أنت مستعد للموت أم لا. سادساً: أتبع السيئة الحسنة تمحها، وكلما وقعت بذنب أو معصية فأكثر من فعل الخيرات تصدق أطعم المساكين صل ركعتين أحسن إلى الوالدين احرص على كل خير، فإن الله عز وجل يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) . سابعاً: تب كلما وقعت في ذنب أو معصية، وإياك إياك والملل من التوبة، ولو تبت من الذنب الواحد ألف مرة، واحذر من ضعف النفس وحيل الشيطان، فربما يحدثك الشيطان أنك منافق أو مخادع لله بكثرة توباتك، والمهم أن تكون صادقاً في التوبة والندم والإقلاع، وكلما رجعت للذنب بضعف النفس ارجع للتوبة، قال الإمام النووي: (باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة) وأنصحك بقراءة كتاب التوبة في صحيح مسلم لترى الأحاديث في عظم رحمة الله وفرحه بتوبة عبده، وهو غني عني وعنك وعن العالمين جميعاً؛ لكن إياك والاغترار بسعة رحمة الله مع الإصرار على المعاصي، واعلم أن الله شديد العذاب كما أنه غفور رحيم. فالخلاصة: أكثر من الاستغفار والتوبة، واعلم أن خير البشر حبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وآله وسلم صح عنه: (أنه كان يستغفر الله في اليوم سبعين مرة) وفي رواية: (مائة مرة) فكيف بي وبك أيها الحبيب! على كثرة ذنوبنا وضعف نفوسنا؟! فيا أيها المحب! يا أيها الإخوة! أيتها الأخوات! لنكثر من التوبة مهما تكرر الذنب، ففي الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة أن الله عز وجل قال لذلك الرجل الذي تكرر منه الذنب فكرر التوبة فقال الله له: (علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، غفرت لعبدي، غفرت لعبدي فليفعل ما شاء) والحديث متفق عليه. وعن عقبة بن عامر أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أحدنا يذنب، قال صلى الله عليه وسلم: يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: يغفر له ويتاب عليه، قال: فيعود فيذنب، قال: يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: يغفر له ويتاب عليه، قال: فيعود فيذنب، قال صلى الله عليه وسلم: يكتب عليه ولا يمل الله حتى تملوا) أخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وأخرجه الطبراني في الكبير، وقال في المجمع: إسناده حسن. فيا أخي الكريم! إياك وإهمال التوبة مهما كانت معاصيك، والمهم أن تكون جاداً في التوبة صادقاً فيها، فأغلق أبواب الشيطان، وسد المنافذ، وافعل الأسباب وستجد أثر ذلك على قلبك. حفظك الله ورعاك من كل سوء وأعانك ووفقك للتوبة النصوح! الجزء: 14 ¦ الصفحة: 17 قبل الهاوية أيها الأخ الحبيب! ويا أيتها الأخت الغالية! لست بعيدة، وإنك قريب جداً، إن السعادة والراحة في الاستقامة وأنت قريب منها، المهم أن يكون عندك العزم والهم الصادق. قال ابن القيم في الفوائد: اخرج بالعزم من هذا الفناء الضيق المحشو بالآفات إلى ذلك الفناء الرحب الذي فيه ما لا عين رأت، فهناك لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب. انتهى كلامه. فيا أيها المحب! ارجع إلى فطرتك وإلى الخير في نفسك، ستجد أنك قريب من الهداية، والهداية قريبة منك. فإذا استقام على الهداية ركبنا يخضر فوق هضابنا الإقدام وترف أغصان السعادة فوقنا وتزول من أصقاعنا الأسقام إن الدنيا بأموالها ومناصبها وقصورها لا تستحق قطرة دمعة منك، أو حتى هماً أو زفرة من زفراتك، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً) كما عند الترمذي، والله عز وجل يقول: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] . فيا أيها المحب! إن نفسك غالية، وربما اليوم أو غداً أو بعد غدٍ قالوا: مات فلان، والموت حق، ولكن شتان بين من مات على صلاح وهداية وبين من مات على فسق وغواية، فإياك والغفلة وطول الأمل والاغترار بالصحة. فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر ربما تضحك، وتسعد وتنام مسروراً، وقد لا تصبح: يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا فيا أيها الأخ! ويا أيتها الأخت! بادرا إلى الفضائل وسارعا إلى الصفات الحميدة والأفعال الجميلة، وكل ذلك بالإيمان الصادق بالله عز وجل. نسأل الله عز وجل أن يتوب علينا جميعاً، وأن يغفر لنا جميعاً، وأن يجعلنا من الصادقين الصالحين المصلحين، اللهم تب علينا توبة صادقة نصوحاً، اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين! سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 18 الأسئلة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 19 طرق ووسائل لدعوة العصاة والمنحرفين السؤال ما هي الطريقة المثلى في دعوة الشباب الذين أصبحت الرياضة همهم الأكبر مع حبهم للدين؟ الجواب طبعاً رسم الخطة يطول لمثل هؤلاء، ولكن هو فقه يؤتيه الله عز وجل من يشاء، وهي الحكمة يؤتيها الله عز وجل من يشاء. ولكني أقول للأحبة وللشباب الصالحين: رفقاً رفقاً بإخوانكم، فربما كنتم يوماً من الأيام أمثالهم، وربما سرتم في يوم من الأيام على طريقهم، فهوينى عليهم، وكلمة طيبة وإرشاداً، مرة بشريط، ومرة بكلمة، ومرة برحلة، ومرة بغير ذلك؛ حتى تجد أنهم بدءوا الطريق وعرفوه، المهم أن تسعى لربط هذا القلب بالله عز وجل، قلبك وقلب أخيك أن يكون لنا صلة بالله سبحانه وتعالى. إذاً: ليس من المناسب أن نأتي لأمثال هؤلاء الشباب الذين تعلقت قلوبهم بالرياضة -مثلاً- فنقطع عليهم الطريق، أو نريد منهم الانتقال مباشرة من حب الرياضة إلى حب الدين، أو من الجلوس الملاعب إلى الجلوس في المساجد والحلق. أقول: هذا يبدو صعباً، ولكن علينا أن نكون رفقاء، وأن نسعى مع إخواننا بتؤدة وحكمة وكلمة طيبة، وسنجد أثر ذلك معهم، لكن من المؤسف أنني أسمع كثيراً من بعض الرياضيين ومن بعض الشباب المحبين للرياضة -مثلاً- كلامهم على بعض الشباب الطيبين، أو انتقاداتهم على بعض الصالحين، وقد تكون هذه الانتقادات خاطئة -والكثير منها خاطئ إن شاء الله- ولكن منها ما هو صواب إذا أردنا أن نقف على العلاج، فهناك بعض الانتقادات التي توجه إلى بعض الصالحين، فعلى الصالح أن يراجع نفسه، وأن يعلم عندما يسمع أمثال هؤلاء أو غيرهم من إخوانه أنه لا يمثل نفسه فقط وإنما يمثل هذا المنهج وهذه الشريعة التي يدين الله عز وجل بها، ومن استعان بالرفق، واستعان بالله عز وجل، وسأل الله عز وجل أن يعينه على هداية فلان أو أن يهدي فلاناً، أعانه الله؛ فإن مما لا شك فيه أن الدعاء واللجوء إلى الله سيفتح الطريق لكل مسلم. ونتمنى أن نحمل همّ إيصال الخير لإخواننا، يقسم بعض الناس أنه ما سمع في يوم من الأيام موعظة، ولم يسمع ذكر الله عز وجل، لماذا؟ مع أنه -ما شاء الله- ما أكثر الصالحين والخيرين في الحي من الشباب والفتيات. مسئولية من هذا الأمر؟ إنه مسئولية الصالحين والصالحات أمثالكم بارك الله فيكم، أن نوصل الخير للناس بقدر ما نستطيع، إن إهداءك شريطاً واحداً لشاب من الشباب ولأخ من إخوانك بأي طريقة ربما يفتح الله عز وجل به قلوباً عمياً وليس قلباً واحداً. وأذكر أن إحدى التائبات تقول عن نفسها: أنها كانت مغرمة جداً بالأغاني خاصة الغربية، حتى إن حجرتها مليئة بالصور للموسيقيين الغربيين، تقول: فمرة نزلت من السيارة في المدرسة وإذا بقدمي ترتطم بشيء قاسٍ فنظرت إليه فأخذته، فإذا به شريط أبيض، فوضعته في شنطتي ظناً مني أن فيه مادة -أي موسيقى غربية- تصلح لي، تقول: ثم وصلت إلى غرفتي وبعد أيام وأنا أقلب في شنطتي وجدت ذلك الشريط فأخذته فإذا به موعظة عن الموت، تقول: فانقلب حالي، واستمعت إلى الشريط وتغيرت نفسي، وعلمت أني على خطأ، تقول: بعد ذلك قمت على جميع الأشرطة التي عندي فاستبدلتها، وعلى جميع الصور فأحرقتها، وقد هداني الله عز وجل، وأصبحت من الأخوات النشيطات في الدعوة إلى الله عز وجل. هذا بسبب شريط وجدته ملقى على الأرض. فلماذا نحرم أنفسنا الخير، والدال على الخير كفاعله (ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ؟!! فالله الله بإيصال الخير للإخوة أو للناس جميعاً بقدر ما نستطيع، فأنتم شهداء الله في الأرض أيها الأحبة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 20 قصة موت أحد الصالحين هذه قصة من أحد الإخوة يحب المشاركة فيها فلا بأس أن نختم بها، يقول: أحد أقاربي مات بالمستشفى، وقد كان رجلاً صالحاً حافظاً لكتاب الله يعمل في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أهل قيام الليل، يقول الطبيب: كان يتكلم وهو في غيبوبة ولا أعلم ماذا يقول، وعندما تثبت الطبيب فإذا به يقرأ القرآن وهو في الإنعاش ومات على ذلك. نسأل الله عز وجل أن يتقبله عنده، وأن يرحمنا برحمته، وأن يحسن خاتمتنا جميعاً، إنه هو الولي على ذلك والقادر عليه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 21 الرجل الصفر هو ذلك الرجل الذي يتصف بالسلبية ودنو الهمة، ذلك الداء الخطير الذي أصاب الكثير من المسلمين؛ رجلالاً ونساءً، شباباً وفتيات. إنك إن بحثت عن شبابنا وجدتهم على الأرصفة وفي الاستراحات، وفي الصيد والرحلات، وعلى المدرجات الرياضية وخلف الشاشات، حتى بعض الصالحين قد ابتلوا بمثل هذه الأمور، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فإلى كل من ابتلي بهذا الداء تهدى هذه الكلمات والتوجيهات، وهذه الوصايا والإرشادات، على اختصار شديد، وتقصير أكيد، نفع الله بها آمين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1 حقيقة الرجل الصفر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه ليلة السبت الموافق للحادي عشر من شهر الله المحرم للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف من الهجرة النبوية الشريفة والأصل أن يكون عنوان هذا اللقاء: (الخائفون) كما هو معلن، لكن نظراً لعدم اكتمال الموضوع ولبعض الظروف؛ سيكون هذا اللقاء بمشيئة الله بعنوان آخر وهو: (الرجل الصفر) . وأعني بالرجل الصفر ذلك الرجل الذي يتصف بالسلبية ودنو الهمة، ذلك الداء الخطير الذي أصاب الكثير من المسلمين وخاصة الشباب والفتيات، وكما أن هناك رجلاً صفراً، فإن هناك أيضاً امرأة صفراً، وكل ما قيل في هذا الموضوع يشمل الرجال والنساء معاً، إلا فيما يختص به الرجال من مجال، ولذلك على النساء أن ينتبهن وأن يتابعن مثل هذا الموضوع؛ فإنها تشارك الرجل في كل كلمة تقال فيه. إنك إن بحثت عن شبابنا كأمة إسلامية، وجدتهم -وللأسف- على الأرصفة وفي الاستراحات وفي الصيد والرحلات، وعلى المدرجات الرياضية وخلف الشاشات؛ حتى بعض الصالحين -أيضاً- هم كذلك -وللأسف- ابتلوا بمثل هذه الأمور، فبدل أن يكونوا مشاعل هداية ودلال خير، فإذا بالتيار يجرفهم فيزعزع التزامهم وصلاحهم: وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت وكانت على الآمال نفسي عزيزة فلما رأت عزمي على الترك ولّت وإذا بحثت عن فتياتنا ومهج قلوبنا، فإذا بهن في الأسواق خلف الخرق والأقمشة، أو خلف سماعات الهاتف يمزقن الفضيلة، أو مع مجلات وروايات تنشر الرذيلة، أو أمام الشاشات والأفلام حتى أصبحن بلا هوية وبلا هدف وبلا مبدأ ولا عزيمة ولا همة، شهوات في شهوات، ولذات في لذات، وآهات وزفرات وحسرات، إلا ما شاء الله من النخبة القليلة. وإني لأعجب أيها الإخوة! ألم يمل أولئك هذه الحياة؟! ألم يسألوا أنفسهم: هب أننا حصلنا على كل ما نريد، ثم ماذا؟ ألم يسألوا أنفسهم هذا السؤال ثم ماذا في النهاية؟! الموت والحساب والعذاب، والقبر والصراط والنار. إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم إن الموت نهاية الجميع، لكن شتان بين من مات في أمر حقير، وبين من مات في أمر عظيم شتان بين من يموت وهو على طاعة الله، وبين من يموت وهو على معصية الله شتان بين من يموت وهو يحمل هم الإسلام ويحترق قلبه لصلاح المسلمين، وبين من يموت وهو يحمل هم شهوات الدنيا ولذاتها. ألم يأن لشبابنا ولفتياتنا أن يعلموا حقيقة الحياة، والغاية التي من أجلها خلقوا؟ ألم يأن للران أن ينقشع عن القلوب، قبل أن يجمدها هاذم اللذات؟ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:16-17] . اللهم أحي قلوب المسلمين، اللهم أحي قلوب شبابنا وفتياتنا، اللهم أحي قلوب الشباب الصالحين، اللهم ردها إليك رداً جميلاً، اللهم انفعها وانفع بها يا حي يا قيوم! أيعقل أن يصل الأمر بمسلم -أو بمسلمة- يحمل في قلبه (لا إله إلا الله) إلى مثل هذا الحد من الغفلة والضياع والحيرة والتردد؟ أيها الأخ الحبيب! أيتها الأخت الغالية! إن لـ (لا إله إلا الله) نوراً في القلب، فهل انطفأ هذا النور؟ اسمع لكلام ابن القيم الجميل يوم أن قال: اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور وتفاوت أهلها في ذلك النور قوةً وضعفاً لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف. ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علماً وعملاً ومعرفةً وحالاً، وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهةً ولا شهوةً ولا ذنباً إلا أحرقه. وهذا حال الصادق في توحيده، الذي لم يشرك بالله شيئاً، فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها. فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه، استنقذه من سارقه أو حصل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبداً مع لصوص الجن والإنس ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. فأقول إلى كل من ابتلي بهذا الداء أو بشيء منه -أقصد السلبية ودنو الهمة-: أهدي هذه الكلمات وهذه التوجيهات، سائلاً المولى عز وجل أن ينفع بها الجميع، وأن يجعلها خالصة لوجهه، مع علمي أن الهمم والعزائم تتفاوت، فلا نريد من أحد إلا ما يقدر عليه ويستطيع، لكن على شرط أن يعلم أن بيده الكثير وأنه قادر على خير وفير، متى؟ إذا علم أنه يحمل لا إله إلا الله في قلبه، وأنه على المبدأ الحق، وأن الله معه يحفظه ويرعاه، وأن الجنة موعده إن توفاه، فإن عاش عاش عزيزاً وإن مات مات شهيداً، عندها أقول: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم ولقد جعلت لهذا الداء مظاهر وأسباباً وعلاجاً، على اختصار شديد وتقصير أكيد، فما هو إلا وجهة نظر واجتهاد بشر يعتريه الصواب والخطأ، أسأل الله عز وجل أن يغفر لي الخطأ وأن يلهمني الصواب، فما أردت إلا الإصلاح وما توفيقي إلا بالله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 2 أهم مظاهر السلبية ودنو الهمة من أهم مظاهر السلبية ودنو الهمة أو من أهم صفات ذلك الرجل الصفر أو المرأة الصفر: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 3 الخمول والكسل أولاً: الخمول والكسل: الرجل الصفر أو المرأة الصفر لا يكلف نفسه القيام بشيء، حتى في مصالحه الشخصية، بل ربما في ضروريات حياته كالدراسة أو الوظيفة أو حتى بيته وطلباته، فماذا نقول إذن في حاله مع العبادات والطاعات من قيام ليل، وصلاة وتر، ومن السنن الرواتب، ومن صيام النفل، وقراءة القرآن وغيرها من العبادات ومن النوافل؟ بل انظر لحاله مع الفرائض والتثاقل فيها حتى أصبحت حاله شبيهة بحال المنافقين الذين قال الله عنهم: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:142] {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] . فكيف حاله مع قضايا المسلمين والاهتمام بها؟ وكيف يحمل همّ هذا الدين والدعوة إلى الله عز وجل؟ (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، ومن الجبن والبخل) هكذا كان صلى الله عليه وسلم يردد هذا الدعاء علاجاً لهذه الظاهرة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 4 الرضا بالدون مع القدرة على ما هو أفضل وأحسن ثانياً: من مظاهر الرجل الصفر: الرضا بالدون مع القدرة على ما هو أفضل وأحسن، قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دنيء. ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام والله أيها الأحبة! إني على ثقة أن في شبابنا وفتياتنا ورجالنا ونسائنا خيراً كثيراً، وأن في وسعهم وطاقاتهم الكثير الكثير، ولكن السلبية تلك الداء العضال -أعاذنا الله وإياكم منها- إن الله يربي المؤمنين على التطلع إلى أعلى المقامات، فيقول سبحانه على لسانهم: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] . انظر {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] لم يقل سبحانه وتعالى: واجعلنا من المتقين! ولكنها تربية على الهمة العالية والعزيمة الصادقة {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] . إن الله عز وجل يريد منك أيها الأخ الحبيب! ويريد منك أيتها المسلمة! أن تكون ذا همة عالية، لا أن تكون من المتقين فقط، بل أن تكون إماماً للمتقين، وأن تكوني إمامة للمتقيات، هكذا يريد الله عز وجل أن يربي هذه النفوس، واسمع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى) لماذا هذا الأمر؟! (فاسألوه الفردوس الأعلى) لأن المسلم صاحب مبدأ، وهو على الحق فإن عاش عاش عزيزاً، وإن مات مات شهيداً، والله معه مؤيداً وحافظاً، والجنة مستقره وموعده. إذاً: فهو يملك جميع المقومات لأن يكون سيداً على وجه هذه الأرض، وأن يكون إماماً للمتقين، فما الذي يردك أيها الأخ الحبيب؟! ما الذي يردك وأنت على عزة حياً كنت أو ميتاً؟ هكذا يربي الله، وهكذا يربي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وأمته، أن يسألوا الله الفردوس الأعلى، إن أقصى همة أحدنا إذا ذكرت الجنة أن يسأل الله الجنة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يربي فينا التطلع إلى أعلى المقامات، وعدم الرضا بالأمور الدنية، ولذلك: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 5 التقيد بروتين الحياة وعدم التطلع إلى الجديد ثالثاً: من مظاهر الرجل الصفر: التقيد بروتين الحياة وعدم التطلع إلى الجديد: اعتاد بعض المسلمين على نمط معين من الحياة ودرج عليه، فيثقل عليه المشاركة، ويصعب عليه العمل، وكلما حدث بأمر كان الرد منه سلباً، حتى أصبح المسكين لا قيمة له ولا ينظر إليه، ولا يسمع لكلمته، ربما مع سعة علمه وعلو مركزه رضي بالدون ورضي برتابة الحياة، حتى ملها هو بنفسه، وأصبح يعيش في هامش الحياة لا معنى له، فكيف تريد من الآخرين أن يحترموك أو يستجيبوا لك أو حتى يسمعوا كلمتك؟ مع ما أوتيت من علم ومن مركز مرموق، فإن الناس ينظرون إلى علو همتك، وينظرون إلى صدق كلمتك، وينظرون إلى عملك يا أيها الأخ الحبيب!. إن بعض الناس إذا مات لا يبكيه أهله ومدينته فقط، بل تبكيه الأمة بكاملها؛ لأن الأمة فقدته، لم يفقده أهله لوحدهم، ولم تفقده مدينته لوحدها، بل فقدته الأمة بكاملها، كل الأمة تبكي عليه، من أجل أي شيء هذا؟ لأن الرجل كان رجلاً ممتازاً، كان رجلاً معطاءً، كان رجلاً عاملاً نشيطاً، وبعض الناس إذا مات بكاه أهله أياماً، وربما قالوا في قرارة أنفسهم: الحمد لله الذي أراحنا منه، فهو كلٌ عليهم، بل ربما ضاقت به نفسه التي بين جنبيه بهمومها وغمومها وقلقها ومرضها ونفسيتها، نفسه ربما ضاقت عليه، لماذا؟ لأنه لا همّ له إلا في شهواته وملذاته؛ فضاقت عليه نفسه، وضاق به أهله، وضاق به أهل مدينته، فكم من رجل وكم من امرأة، يتعوذ الناس من شره ومن شرها. لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد فذ يموت بموته خلق كثير وشتان بين هذا وذاك، فإن من الناس من همته في الثرى -أي: في التراب- وإن من الناس من همته في الثريا، ولذلك كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله يردد هذه الأبيات الجميلة، واسمع له أيها المحب! واسمعي له أيتها الأخت الغالية، كان يقول رحمه الله: إذا ما مات ذو علم وتقوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمه وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمه وموت فتى كثير الجود محل فإن بقاءه خصب ونعمه وموت العابد القوام ليل يناجي ربه في كل ظلمه وموت الفارس الضرغام هدم تشهدت له بالنصر عزمه فحسبك خمسة يبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمه وباقي الخلق هم همج رعاع وفي إيجادهم لله حكمه أترضى أن تكون من التخفيف والرحمة؟! أترضين أيتها الأخت المسلمة الغالية! أن تكوني من الهمج الرعاع؟! والله لا نرضى نحن لمسلم أن يكون تخفيفاً ورحمة، فضلاً على أن يكون من الهمج الرعاع، كيف يرضى مسلم عاقل أن يقتله روتين الحياة ورتابتها؟ كيف يرضى مسلم عاقل أن تذهب الأيام والليالي والشهور والسنون وهو على حاله بدون تطور ولا تقدم؟! اسأل نفسك: كم عمرك الآن؟ كم بلغت من العمر الآن؟ عشرون سنة؟ ثلاثون سنة، أربعون سنة؟ أسألك بالله هل أنت راض عن نفسك أيها الأخ الحبيب؟! ماذا قدمت خلال هذه السنوات؟ وهل أنت في تطور أم أنك ما زلت على حالك، وعلى ما أنت فيه منذ سنوات طويلة؟ إن المسلم العاقل صاحب المبدأ، وصاحب اليقين لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار حتى يقدم ما في وسعه، وحتى يتقدم، وحتى يكون غده أفضل من أمسه. اسمع لـ ابن الجوزي وهو يقول رحمه الله تعالى: ولله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يبالغون في كل علم ويجتهدون في كل عمل، ويثابرون على كل فضيلة، فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبة وهم لها سابقون، وأكمل أحوالهم إعراضهم عن أعمالهم، فهم يحتقرونها مع التمام، ويعتذرون من التقصير، ومنهم من يزيد على هذا فيتشاغل بالشكر على التوفيق لذلك، ومنهم من لا يرى ما عمل أصلاً؛ لأنه يرى عمله ونفسه لسيده. وبالعكس من المذكور عن أرباب الاجتهاد حال أهل الكسل والشره والشهوات، فلئن ارتدوا بعاجل الراحة لقد أوجبت ما يزيد على كل تعب من الأسف والحسرة، ومن تلمح صبر يوسف عليه السلام، وعجلة ماعز -أي في التوبة- بان له الفرق وفهم الربح من الخسران، ولقد تأملت نيل الدر من البحر، فرأيته بعد معاناة الشدائد، ومن تفكر فيما ذكرته -مثلاً- بانت له أمثال، فالموفق من إذا تلمح قصر الموسم المعمول فيه، وامتداد زمان الجزاء الذي لا آخر له، انتهب -أي: حرص- حتى اللحظة، وزاحم على كل فضيلة، فإنها إذا فاتت فلا وجه لاستدراكها، أوليس في الحديث يقال للرجل: (اقرأ وارق فمنزلك عند آخر آية تقرؤها) فلو أن الفكر عمل في هذا حق العمل حفظ القرآن عاجلاً. انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 6 الاستجابة للنفس الأمارة بالسوء رابعاً: من مظاهر الرجل الصفر: الاستجابة للنفس الأمارة، الاستجابة لشهواتها ولذاتها، بل وتمكينها قيادة العقل وتغييبه، حتى لم يعد يصبح للنفس اللوامة مكاناً، فمات الشعور بالذنب، ومات الشعور بالتقصير، لذلك ظن الكثير من المسلمين أنه على خير، بل ربما لم يرد على خاطره أنه مقصر، فبمجرد قيامه بأصول الدين، وبمجرد محافظته على الصلوات، بل ربما والتزامه في الظاهر ظن في نفسه خيراً عظيماً، رأى نفسه فظن فيها خيراً عظيماً، ولكن ما كيفية هذا القيام؟ وما حقيقة هذا الالتزام؟ وهل قبل الله منه أم لا؟ بل لماذا نسي مئات بل آلاف من الصغائر التي تجمعت عليه من الذنوب والمعاصي؟ ففي حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود، حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يأخذ بها صاحبها تهلكه) أخرجه أحمد بسند حسن. فأعجبتنا أنفسنا وأعمالنا، فرضينا بما نحن عليه، وأعلنا الاكتفاء وعدم المزيد، فكانت النتيجة: السلبية ودنو الهمة، وعدم التطلع لما هو أفضل وأحسن، وربما نظر أحدنا إلى من هو دونه في العبادات فأعجبته نفسه، وتقاعس عن الكثير من أبواب الخير. واسمع لشعر هذا الكناس وعزته، قال الأصمعي: مررت بكناس -يكنس الشوارع- في البصرة ينشد يقول: فإياك والسكنى بأرض مذلة تعد مسيئاً فيها إن كنت محسنا ونفسك أكرمها وإن ضاق مسكن عليك بها فاطلب لنفسك مسكنا هذا الذي يقوله الكناس، فقلت -أي: الأصمعي -: والله لن يبقى بعد هذا مذلة، وأي مذلة بعد الكنس؟ فقال الكناس: والله لكنس ألف مرة، أحسن من القيام على باب مثلك. هكذا تكون عزة المسلم أياً كان ذلك العمل الذي يقوم به، مادام أنه يقوم به لله عز وجل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 7 كثرة الجلسات وضياع الأوقات خامساً: من المظاهر أيضاً: كثرة الجلسات والدوريات وضياع الأوقات، وهذا من أخطر المظاهر التي ظهرت وانتشرت أخيراً، فإنك تبحث عن شبابنا ورجالنا وربما عن فتياتنا ونسائنا، فتجدهم مساء كل يوم ربما في الاستراحات والدوريات وعلى الأرصفة وعلى الشاطئ، وليس الخطر في الاجتماعات ذاتها، بل في كثرة الكلام دون عمل يفيد الأمة وينفع الأجيال، وكثرة الجدال والمراء، هذا إن سلمت الجلسات من الغيبة والنميمة والجرح والثلب وتنقص الآخرين، وسلمت من وسائل اللهو المحرم، وإلا فإن الطامة أعظم. إنك لتتألم أشد الألم وأنت تعلم أن في تلك الجلسات أعداداً هائلة من أصحاب الطاقات والمواهب والعقول والأفكار، يلتقون على الأقل في الأسبوع مرة واحدة، أي: في السنة ما يقرب من ثمان وأربعين لقاء، واللقاء الواحد لا يقل عن خمس ساعات، ربما تزيد أو تقل، فما هي النتيجة؟ بماذا خرجوا بعد هذه الاجتماعات الطويلة؟ وماذا قدموا لأنفسهم؟ وماذا قدموا لعقيدتهم؟ وما هي حصيلة العلم التي كسبوها من هذه الجلسات؟ والموضوع يحتاج لا شك إلى دراسة وتأمل وتوجيه مفيد لاستغلال مثل هذه الجلسات، ومثل هذه الدوريات والاجتماعات. لكن هذه إشارة سريعة لنعلم حجم السلبية في مجتمعنا المسلم، وبالتالي حجم الخسارة لكثير من طاقاتنا ومواهبنا وعقولنا وأفكارنا، بل لأوقاتنا حتى وأعمارنا، فقد نمى إلى علمي أن هناك شباباً لهم جلسات ودوريات في كل يوم، حتى أصبحت همه وشغله الشاغل، فلماذا هذا التنصل من الواجبات؟ ولماذا هذا الهروب من الواقع؟ أيعقل أنهم لا يعلمون أنهم مسئولون عن هذا الواقع المرير للأمة الإسلامية؟ أيعقل أيها الأحبة! أن هذه الأعداد الغفيرة التي تجلس على الأرصفة وفي المجالس وفي الدوريات والاستراحات وغيرها، أنهم لا يعلمون أنهم مسئولون أمام الله عز وجل عن هذا الواقع المرير عن حال الأمة الإسلامية؟! قد يقول قائل منهم: ماذا باستطاعتنا أن نقدم؟ أقول: والله إن باستطاعتك الكثير لو فكرت أنت وأصحابك أن تستغلوا هذه الجلسات أولاً: لنفع أنفسكم، وثانياً: لنفع أولادكم وأهليكم، ثم بعد ذلك لنفع أمتكم، إن من فكر وجد، وإن من حرص وحمل الهمّ عرف كيف يعمل، أما الجلوس في المجالس وعلى الأرصفة والاستراحات والكلام والقيل والقال بما لا ينفع، فإن هذا ضياع للأعمار والأوقات والطاقات والمواهب والأفكار والعقول. والله أن كل فرد منا عليه حجم من المسئولية مهما كان: لا تلم كفي إذا السيف نبا صح مني العزم والدهر أبى مرحباً بالخطب يبلوني إذا كانت العلياء فيه السببا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 8 التهرب من الأعمال الجدية سادساً: من مظاهر السلبية القاتلة في صورها المتعددة: عدم الاستعداد للالتزام بشيء، التهرب من كل عمل جدي، خداع النفس في الانشغال وهو فارغ. كم من الناس إذا كلف بأمر قال: مشغول، وحقيقة أمره أنه غير مشغول، أو أنه مشغول بمثل هذه الجلسات ومثل هذه اللقاءات، أو الانشغال في شهوات النفس وملذاتها، أو التسويف والتأجيل وتأخير الأعمال والغفلة والنسيان المستمر لما كلف به، والأخطر من ذلك كله النقد المستمر لكل عمل إيجابي، وتضخيم الأخطاء، كل ذلك تبرير لعجزه وسلبيته القاتلة، بعض الناس لا يعمل، ويا ليته لم يعمل فقط، بل جعل نفسه راصداً لأعمال إخوانه، مرة بالنقد، ومرة بالجرح، ومرة بالتثبيط والتخذيل والتنصل للمشاركة والعمل، فكلما طلبناه في مكان، قال لنا: مشغول، وكلما كلفناه في مشاركة قال: لا أستطيع، بل كلما حدثناه في أمر كان لنا مثبطاً ومخذلاً. ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا وبالهمة العلياء ترقى إلى العلا فمن كان أعلى همة كان أظهرا ولم يتأخر من أراد تقدما ولم يتقدم من أراد تأخرا إذاً فلكل شيء سبب، فإذا أردت أن تجعل نفسك في مكانها فلتتخذ ما ترضاه أنت لها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 9 تعطيل العقل سابعاً: تعطيل العقل. وتعطيل العقل موضوع يطول ولعلكم تسمعونه قريباً -إن شاء الله- بدرس خاص بهذا العنوان: تعطيل العقل. تعطيل العقل وعدم التفكير، وإن فكر كثير من المسلمين والمسلمات واستخدم عقله فإذا هو يفكر فيما يحبه ويشتهيه كالرحلات والصيد والجلسات والملذات، وكأنها الهدف الذي خلق لها، فهبطت اهتماماته وسفلت غاياته، فلا قضايا المسلمين تشغله، ولا مصائبهم تحزنه، ولا شئونهم تعنيه، وإن حدث شيء من ذلك فعاطفة سرعان ما تبرد ثم تزول. نرى كثيراً من الشباب والفتيات وكثيراً من المسلمين أصحاب عقول وأفكار، فعطلوها حتى أصبحوا أصفاراً على الشمال، فإما تقليد وإما تبعية للآخرين عمياء، وإما سكر للعقل بشهواته وحتى وإن كانت مباحة، هذا كلام للجميع، للرجال والنساء ملتزمين أو غير ملتزمين، فلكل حظ ونصيب من تعطيل عقله، ولعلي أقف هنا مشيراً إلى أن تحرص على أن تسمع ذلك الموضوع بعنوان: تعطيل العقل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 10 عقدة المستحيل ولا أستطيع ثامناً: من مظاهر الرجل الصفر أو المرأة الصفر: عقدة المستحيل ولا أستطيع، ولا أقدر، مظهر من مظاهر السلبية ودنو الهمة. كم من المرات نضع بأنفسنا العقبات والعراقيل أمام كثير من مشاريعنا!! نحن بأنفسنا نصنع العقبات ونصنع العراقيل، والواقع يشهد بهذا، فلماذا عذر المستحيل وعذر عدم الاستطاعة وعدم القدرة هي الورقة التي نلوح بها دائماً، فنغلق نحن بأيدينا الأبواب في وجوهنا؟ والله يا أيها الإخوة! لو فكرنا وحاولنا لوجدنا أن كثيراً من العقبات والعراقيل التي تقف أمامنا إنما هي عراقيل وعقبات وهمية، وما هي إلا حيل نفسية، فكر جيداً وارجع لنفسك وحاسبها وستجد أننا بأنفسنا نعيق أنفسنا عن العمل، فكل أمر بمقدور البشر أن يفعله لا يمكن أبداً أن يكون مستحيلاً، وكل أمر بمقدورك أنت أيها الإنسان! أن تفعله لا يمكن أن يكون مستحيلاً أبداً. سئل نابليون: كيف استطعت أن تولد الثقة في أفراد جيشك؟ فأجاب: كنت أرد بثلاث على ثلاث، من قال: لا أقدر، قلت له: حاول، ومن قال: لا أعرف، قلت له: تعلم، ومن قال: مستحيل، قلت له: جرب. هكذا إذاً. فأقول لك: لا تيئس اجعل هذه الكلمة شعاراً لك لكل عمل تقوم به، فلكل مجتهد نصيب، وإن من أدمن قرع الباب ولج. كن رابط الجأش وارفع راية الأمل وسر إلى الله في جد بلا هزل وإن شعرت بنقص فيك تعرفه فغذ روحك بالقرآن واكتمل وحارب النفس وامنعها غوايتها فالنفس تهوى الذي يدعو إلى الزلل قال ابن الجوزي: فصل: نشدان الكمال -أي: طلب الكمال-. قال فيه: "فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السماوات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، فلو كانت النبوة تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية، ولو كانت تحصل بالاجتهاد رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض، غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يطلب الممكن، أو تصور أن يكون -مثلاً- خليفة لم يحسن به أن يقتنع بإمارة، ولو صح له أن يكون ملكاً لم يرض أن يكون بشراً، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم والعمل. انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 11 التثبيط والتيئيس للآخرين تاسعاً: من مظاهر السلبية ودنو الهمة ومن صفات الرجل الصفر: التثبيط والتيئيس للآخرين: فإن الرجل الصفر لا يكتفي -كما أسلفت- بعدم المشاركة، بل أصبح قاطع طريق، وعوناً للشيطان وحزبه، فتجده يخلق الأعذار والأسباب، وربما ألبسها الصبغة الشرعية لتبريره لعجزه وعدم مشاركته، وصدق الأحمر النحوي بقوله: لنا صاحب مولع بالخلاف كثير الخطأ قليل الصواب ألج لجاجاً من الخنفساء وأزهى إذا ما مشى من غراب فليس لديه شجاعة الاعتراف بالخطأ والتقصير، وليس -أيضاً- لديه الاستعداد للعمل والمشاركة، ولكنه على أتم استعداد للنقد والتجريح، والثلب والتقبيح، فإلى الله وحده نشكو أمثال هؤلاء، ألا فليتق الله أولئك الإخوة الذين نصبوا أنفسهم مثبطين ومخذلين لإخوانهم، ونصبوا أنفسهم قاطعي طريق للأعمال الخيرية في كل مكان، ولذلك فنحن نقول لأمثالهم: كن عوناً لإخوانك، أو على الأقل اعمل ولو لوحدك، فإن الهدف واحد والغاية واحدة، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فما أجمل الصمت (فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت) وإن المثبط لإخوانه ليخشى عليه والله أن يبوء بإثمه وإثم الآخرين، وأذكر هنا بقول الحق عز وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25] فلينتبه وليحذر أولئك النفر. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 12 الضعف والفتور مظهر عاشر وأخير: من مظاهر الرجل الصفر في مثل هذا الواقع: الضعف والفتور أثناء أوقات العافية، أو في مراحل العمل الجاد، فإنك تكاد لا ترى للرجل الصفر نشاطاً ولا تعرف عنه جداً، فإذا ما وقعت مصيبة أو وقعت فتنة أو كان الخلاف، رأيته وأصحابه ينشطون وحول الحرص على الدعوة يتحدثون، وفي التخطيط ومعرفة العمل هم يلهجون، وفي الناس يصنفون ويقسمون، وصدق الشاعر يوم أن قال: وإخوان عهدتهم دروعا فكانوها ولكن للأعادي وخلتهم سهاماً راميات فكانوها ولكن في فؤادي وقالوا: قد صفت منا قلوب لقد صدقوا ولكن عن ودادي ولكني أقول كما قال الآخر أيضاً: عداتي لهم فضل عليّ ومنة فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا والوقائع والأحداث والفتن هي التي تميز بين أناس وأناس، فإن لكل من الحق والباطل رجالاً، كما أن الحق يحمله رجال وينافحون عنه، فكذلك الفتن لها رجال يحملونها ويدعون الناس لها، ويتحملون كبرها، ولكن بين حملة الحق والصابرين عليه ودعاة الفتنة جمهور يتنازعهم الخير والشر، ومن هنا ينبغي الحذر من دعاة الفتن ومن يتأثر بهم من الرعاع، وضعاف النفوس وأتباع الهوى، وما أجمل ذلك القول لـ علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه الذي نقله الشاطبي في كتاب الاعتصام، فقال -أي: علي -: [إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، أف لحامل حق لا بصيرة له، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، شغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به] إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى ورضي الله تعالى عنه. هذه عشرة مظاهر من مظاهر الرجل الصفر. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 13 أسباب السلبية ودنو الهمة ثم إني أسوق إليك أيها المحب! أسوق إليك أيضاً أسباباً للسلبية ودنو الهمة، لماذا الرجل الصفر أصبح رجلاً صفراً؟ لماذا كثير من المسلمين والمسلمات أصبحوا فعلاً أصفاراً لا قيمة لهم على هامش الحياة، لا معنى لهم، لا قيمة لهم، لا يقدمون شيئاً لأنفسهم فضلاً على أن يقدموا شيئاً لعقيدتهم ودينهم وهدفهم ومبدئهم؟ لماذ؟ اسمع إلى هذه الأسباب التي اجتهدت فيها وأسأل الله أن يوفقني للصواب. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 14 الجهل والغفلة عن الغاية التي خلق من أجلها أول هذه الأسباب: الجهل أو الغفلة عن الغاية التي من أجلها خلق. فأقول لكل إنسان ولكل إنسانة: ألست مسلماً؟ أو لستِ مسلمة؟ ألم ترض بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً؟ ألا تعلم أن الغاية التي من أجلها خلقنا هي تحقيق العبودية لله عز وجل في الأرض؟ هذا هو الهدف الذي من أجله خلقنا: عبودية الله، تحقيق العبودية لله تعالى على هذه الأرض. ألا تعلم أن العبادة هي الغاية التي من أجلها خلقت أيها الحبيب؟! إن بعض الناس قد يجهل الهدف الذي من أجله خلق، وبعض الناس قد يعلم ولكنه يغفل وتغفله شهوات الدنيا ولذاتها عن ذلك الهدف. ألا تعلم أن المعنى الصحيح لذلك الهدف الذي من أجله خلقنا وهي عبادة الله عز وجل كما عرفها أهل العلم، لا كما يريدها أعداء الله عز وجل. إذاً: فالغاية التي من أجلها خلقنا هي عبادة الله؛ ولكنها ليست العبادة فقط في المسجد، وليست الصلاة والصيام والحج والزكاة، لا وألف لا، وإنما العبادة التي يريدها الله عز وجل: العبادة بمفهومها الشامل، العبادة التي عرفها أهل العلم يوم أن قالوا هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. هكذا يريد الله عز وجل أن تكون العبودية، يوم أن تكون العبودية في كل شأن من شئون حياتك أيها المسلم! تكون العبودية لله عز وجل في مسجدك، وفي بيتك، وفي وظيفتك، وفي شارعك، وفي تجارتك، وفي كل مكان {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] هكذا هي العبودية، هكذا هو الهدف الذي من أجله خلقنا، وهكذا يريده الله عز وجل، عندها يعلم الإنسان أن كل حركة وكل سكنة وكل نفس، كل شيء يعمله، يؤجر عليه إن أخلص النية لله عز وجل فيه، ويصير عبادة لله عز وجل، حتى وأنت تجامع أهلك، ألم يقل صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة) . حتى وأنت تمارس الرياضة، ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم: (وإن لجسمك عليك حقاً) حتى وأنت تخرج مع إخوانك وأصدقائك للجلسات والاستراحات، فإنه لإدخال الراحة والاستجمام والانبساط إليهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ابتسامك في وجه أخيك صدقة) . المهم أخلص النية في ذلك لله عز وجل، واحتسب ذلك عند الله سبحانه وتعالى، والمهم أن يكون ذلك العمل مُرضٍ لله عز وجل، أن يكون الله سبحانه وتعالى راض عن هذا العمل. إذاً: بعد ذلك اعمل ما شئت، وقل ما شئت بهذين الشرطين: أن يكون خالصاً لله، وأن يكون الله عز وجل راض عنه، اعمل وتابع في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه هي العبادة. ألا تعلم أن العبادة غاية الذل لله مع غاية الحب له، فأي حب لله هذا الذي أقعدك؟ أين البينة على هذه المحبة؟ فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي، فلا تقبل الدعوى إلا ببينة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] فإذا غرست شجرة المحبة في القلب وسقيت بماء الإخلاص، ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، أثمرت أنواع الثمار، وهذا ما نريده. اسمع لأمنية ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه قال: (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سل، فقلت -يقول ربيعة رضي الله تعالى عنه- فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة) انظر للأمنية وانظر للهمة العالية، فإن ربيعة رضي الله تعالى عنه وأرضاه كما يقول أيضاً الحديث في لفظ عند أحمد في مسنده يقول ربيعة: (أنظرني يا رسول الله! حتى أنظر في أمري، يقول: ففكرت في نفسي فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وأن فيها رزقاً سيكفيني ويأتيني، فقلت: أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي، فإنه من الله عز وجل بالمنزل الذي هو به، قال: فأتيت رسول الله، فقال لي: ما فعلت يا ربيعة؟ فقلت: أسألك أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أمرك بهذا يا ربيعة؟ -وقد كان ربيعة شاباً- من أمرك بهذا يا ربيعة؟ قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد، ولكنك قلت سلني أعطك، وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به، ففكرت في أمري وعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة وأن لي فيها رزقاً سيكفيني، فقلت: أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي. قال: فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود) . هذه هي أمنية ربيعة، وهذا هو الهدف الأول عند ربيعة رضي الله عنه وأرضاه. إذاً: فالهدف دائماً يكون في مخيلة كل مسلم، الهدف الذي من أجله خلقت هو الفيصل في كل أعمالك وأقوالك وأفعالك وتصرفاتك، فلا بد أن يكون الهدف واضحاً لكل مسلم فهو الضابط له في أعماله، وهو الضابط لحبه وبغضه، لأكله وشربه، لشكله ولبسه، لذهابه ومجيئه، لقيامه وجلوسه، لزوجه وأولاده، لأصحابه وخلانه، لكل شئون الحياة صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، أما إذا ضاع الهدف أولم يتضح له فإن الإنسان يتخبط، فمرة في ضياع، ومرة في هموم، ومرة في صلاح، ومرة في شقاء، وهكذا لا يدري من يرضي ذلك المسكين، حتى وإن كان له عقل وبصر، هكذا إذا ضاع الهدف من الإنسان. إذاً: فأول أسباب السلبية ودنو الهمة هو ضياع الهدف، أو الجهل بالغاية التي من أجلها خلقت أيها الأخ الحبيب! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 15 صحبة ذوي العزائم الواهية والهمم الدنيئة السبب الثاني: صحبة ذوي العزائم الواهنة والهمم الدنيئة: وهذا السبب من أكثر الأسباب تأثيراً، فالإنسان سريع التأثر بمن حوله، ولهذا كان التوجيه النبوي: (الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) والحديث أخرجه الترمذي في كتاب الزهد وأحمد في كتاب الأدب وقال الترمذي عنه حسن غريب وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع. أقول: إن هذا من أهم أسباب السلبية ودنو الهمة حتى وإن كان أصحابك من الصالحين، لا تعجب! نعم. حتى وإن كان أصحابك من الصالحين ومن أهل الخير، فما داموا أصحاب همم ضعيفة وعزائم واهنة ولا يهمهم إلا مصالحهم الشخصية، والأنس والضحك وقضاء الأوقات بدون فائدة فلا خير فيهم، بل إن صلاحهم حجة عليهم يوم أن يقفوا بين يدي الله عز وجل، فعلى العاقل ألا يغتر بصحبة الصالحين تاركاً عيوب نفسه، بل هذه حيلة نفسية يجب التنبه لها. قال عمر بن عبد العزيز: [إن لي نفساً تواقة، لقد رأيتني وأنا بـ المدينة غلام مع الغلمان، ثم تاقت نفسي إلى العلم وإلى العربية والشعر فأصبت منه حاجتي وما كنت أريد، ثم تاقت نفسي وأنا في السلطان إلى اللبس والعيش والطيب فما علمت أن أحداً من أهل بيتي ولا غيرهم كان في مثل ما كنت فيه، ثم تاقت نفسي إلى الآخرة والعمل بالعدل فأنا أرجو ما تاقت نفسي إليه من أمر آخرتي] انتهى كلامه رحمه الله تعالى. هكذا تكون النفس التواقة، هكذا تكون النفس المؤمنة، كلما رغبت بأمر استطاعت أن تحصل عليه، هكذا تكون النفوس مجاهدة صابرة متحملة، حتى تنال ما تريد. فجاهد نفسك يا أخي الحبيب! جاهدي نفسك أيتها المسلمة! لا نستطيع أن نصل إلى ما يريده الله عز وجل من العزة والتمكين إلا بمجاهدة هذه النفوس، لنجاهد أنفسنا ولنقل لها: ذريني أنل ما لا ينال من العلا فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 16 نسيان الذنوب وقتل الشعور بالخطأ السبب الثالث: نسيان الذنوب، الغفلة عن الذنوب وقتل الشعور بالخطأ، أو إن شئت فقل: ضياع الوازع الديني أو النفس اللوامة، أو إن شئت فقل -أيضاً-: قلة الخوف من الله عز وجل، سبب من الأسباب التي جعلت كثيراً من الناس صفراً، أصبح ذلك الرجل الصفر أسيراً لذنوبه فهو لا يستطيع التخلص منها، فلا هي -أي: الذنوب والمعاصي- دفعته إلى العمل الصالح والإكثار منه لعلها تكون سبباً لمحوها وغفرانها، وهذا هو الأصل، الأصل في المسلم أنه إذا أذنب ووقع في السيئات أن يسارع ليعمل صالحاً لعلها أن تمحو تلك الذنوب والسيئات، ولذلك قال الحق عز وجل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) هذا هو الأصل، ولكن الرجل الصفر كان أسيراً لذنوبه فلا هي التي دفعته للعمل الصالح، ولا هي -أيضاً- التي جعلته ينظر لنفسه، بل جعلته أسيراً مسكيناً ضعيفاً خامل النفس أسيراً لها. الرجل الصفر أسير للمعاصي والذنوب، قيدته وكبلته، فإذا حدثته بالعمل والتحرك شكا لي ضعفه وكثرة ذنوبه، بل ربما ظن بعض الصالحين لكثرة ذنوبه بنفسه النفاق، حتى وإن تحرك وعمل قال: أنا منافق، وهو ما زال على ذنوبه ومعاصيه، وهذه شبهة أحرقت علينا كثيراً من الطاقات والعقول والأفكار. نرى كثيراً من الشباب صاحب معاصٍ وصاحب ذنوب، فإذا قلنا له: اعمل وأكثر من النوافل، قال: أنا أخشى أن أكون منافقاً، لماذا؟ قال: لأني آتي المسجد وأدخل وأصلي وأنا صاحب ذنوب ومعاصٍ كثيرة. إذاً: فالحل في نظره أن يقعد عن العمل وأن يبتعد عن الساحة، وأن يبقى داخل قفص الشيطان وأوهامه مع الذنوب والمعاصي، وغفل هذا المسكين عن أن خير علاج للذنوب، وخير علاج للسيئات والتقصير هو العمل وكثرة التوبة والاستغفار، فإن أبى فإني أخشى عليه من الانحراف، فالنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 17 الزهد في الأجر وعدم الاحتساب السبب الرابع: الزهد في الأجر وعدم الاحتساب، والغفلة عن أهمية الحسنة الواحدة، وهذا لا شك نتاج الغفلة عن الموت ونسيان الآخرة، وإلا فإن المؤمن مجزي على مثقال الذرة، إن المؤمن مجزي على مثقال الذرة، كما أنه محاسب عليها -أيضاً- {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7-8] إن قلب المؤمن والمؤمنة ذلك القلب الحي يرتعش لمثقال ذرة من خير أو شر، وفي الأرض قلوب لا تتحرك من الذنوب والمعاصي. لماذا نعمل؟ لنسأل أنفسنا، اسأل نفسك أيها الأخ الحبيب! واسألي نفسك أيتها الغالية! لنسأل أنفسنا جميعاً، لماذا نعمل؟ لماذا نتحرك؟ لماذا نحبس أنفسنا عن الشهوات مع أن الله عز وجل جبل هذه النفس على الشهوات وحبها، فلماذا إذاً نحرمها من الشهوات؟ لماذا نحرم أنفسنا من الجلسات؟ لماذا نجاهد أنفسنا؟ لماذا تبح أصواتنا؟ لماذا نصرف أموالنا؟ لماذا نغض أبصارنا؟ لماذا نحفظ أسماعنا عن سماع الحرام والغناء وغيره؟ لماذا نمسك اللسان عن الكلام؟ لماذا نطعم الطعام؟ ولماذا نكثر الخيرات، ونكثر السلام؟ لماذا نحرص على القيام والصيام؟ لماذا كل هذا؟! الإجابة واحدة، قول الحق عز وجل: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:10] . يظن أصحاب الشهوات والمعاصي أنه ليس في أنفسنا توقاً ولا شوقاً إلى هذه الشهوات، بل والله إن في أنفس الصالحين شوقاً إلى كثير من الشهوات، أياً كانت هذه الشهوات: شهوة المال، أو شهوة الفرج، أو شهوة البطن أو غيرها من الشهوات؛ لكن ما الذي يردنا؟ وما الذي يمنعنا؟ إنه خوف الله عز وجل: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] لعلنا أن نسمع النتيجة بفرح وسرور يوم أن يقول الحق عز وجل: {فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} [الإنسان:11-22] جزاءً على ما صبرتم، جزاءً على ما حبستم النفس عن شهواتها، جزاءً على ما تكلمتم ونصحتم وأنكرتم وأمرتم، جزاءً على ما بذلتم من أموالكم وفعلتم وتقدمتم وتحركتم، جزاءً على كل خير كان كلمة أو فعلاً، جزاءً على كل شيء قمتم به في هذه الدنيا {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} [الإنسان:22] . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 18 الخوف والأوهام السبب الخامس: الخوف والأوهام: فالخوف أكل قلب الرجل الصفر، أكل قلوب الكثيرين وهم أحياء، فهم يرون ما يجري لبعض الدعاة، ولأجل هذا تعطلت الأعمال بزعمهم وتوقفت الدعوة، فهو يخاف على نفسه تارة، وعلى ولده وعلى عمله، وربما ظن أن كل الناس يراقبونه ويلاحقونه، وهكذا تستمر الأوهام والتخيلات حتى وقع فريسة لها وقعد عن العمل. ونحن نقول: نعم. إن طريق الدعوة إلى الله مليء بالعقبات والأشواك، ولولا والله هذه العقبات وهذه المعوقات لشككنا في طريقنا، ولكن أن نعطل أعمالنا ونحسب كل صيحة علينا ونغلق كل الأبواب حتى وإن كانت مفتوحة فلا، بل هي والله وسوسة شيطان، اسمع لقول الحق عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] وإذا سمع المؤمن أقوال المثبطين الخائفين ذكر قول الحق مباشرة: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] . ورحم الله أصحاب تلك الهمم العالية يوم أن كانوا يطلبون الموت ويبحثون عنه في كل ساحة. أخرج النسائي في (كتاب الجنائز باب الصلاة على الشهداء) من حديث شداد بن الهاد (أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة، غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبياً فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قسمته لك، قال الأعرابي: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا -وأشار إلى حلقه- ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا فأموت فأدخل الجنة) الله أكبر! هكذا كانوا يطلبون الموت رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم (ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا فأموت فأدخل الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قالوا: نعم. قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته -أي: في دعائه-: اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً، أنا شهيد على ذلك) والحديث صحيح كما قال الألباني في صحيح النسائي. وانظر إلى تأثير بنات المحدث الثقة عاصم بن علي بن عاصم أحد شيوخ الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما، ومن أقران شعبة بن الحجاج، وكيف صبر في محنة الإمام أحمد وتقوى على الثبات عندما كتبت إليه بناته بتثبيته على الحق، اسمع ماذا قلن البنات، اسمعي أيتها المرأة! كيف تكون الصالحة معينة لزوجها الصالح؟ قالت البنيات: يا أبانا! إنه بلغنا أن هذا الرجل أخذ أحمد بن حنبل فضربه على أن يقول القرآن مخلوق، فاتق الله ولا تجبه، فو الله لئن يأتنا نعيك أحب إلينا أن يأتينا أنك أجبت. ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه. فأي أثر ستبقيه هذه الكلمات في نفس عاصم بن علي؟ إن هذه الكلمات لم تأت من فراغ، بل من تربية جادة على الهمة العالية والغاية المنشودة. فأين نحن من ذلك مع أزواجنا وأولادنا وبناتنا؟ إن همة بعضهم لا تتعدى شهوات الدنيا ولذاتها، فأي تربية هذه التي يعيشها المسلمون مع أولادهم وبناتهم وأنفسهم؟ -والله المستعان-. قال ابن القيم رحمة الله تعالى عليه: واحمل بعزم الصدق حملة مخلص متجرد لله غير جبان واثبت بصدرك تحت ألوية الهدى فإذا أصبت ففي رضا الرحمن والحق منصور وممتحن فلا تعجب فهذه سنة الرحمن لكنما العقبى لأهل الحق إن فاتت هنا كانت لدى الديان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 19 التردد والتذبذب والحيرة والارتياب السبب السادس: التردد والتذبذب والحيرة والارتياب: هذا السبب جعل كثيراً من الناس سلبياً، وجعل كثيراً من الناس صفراً، فهو لا يدري من يرضي ولا يدري من يتبع، ولقلة علمه وضعفه أصبح كالريشة في مهب الريح، تؤثر فيه الأقوال المزخرفة. وأقول لمثل هذا وأشكاله: إن منهج أهل السنة والجماعة وهدي السلف الصالح رضوان الله عليهم، واضح بين لا غموض فيه ولا تزلف لأحد، يشع في النفس راحة واطمئناناً، والالتزام به عامل مؤثر في الاستقرار والاستمرار، فعض عليه بالنواجذ، وانبذ أهل الهوى وجرح الناس ولمزهم، وعليك بالعمل الجاد، عليك بالعمل فإنه خير دليل على سلامة المنهج. فإن الله يطالبنا بالعمل وليس بالجدال والمراء وتتبع الزلات والأخطاء، فاثبت بارك الله فيك، واترك التردد والحيرة، وأكثر بل ردد دائماً قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد) فإذا حصل الثبات أولاً والعزيمة ثانياً أفلح كل الفلاح {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] . إياك والتردد، فإذا عزمت على أمر فتوكل على الله. إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 20 عدم الثقة بالنفس السبب السابع: عدم الثقة بالنفس، والورع الكاذب الذي أصيب به عدد من المسلمين، فتجده يعتذر عن إلقاء كلمة، لأنه لا يستطيع، وهو قادر؛ لكنه الخوف من الفشل والتهيب من المواجهة وهكذا في كل أمر يعرض عليه، فتقتل الطاقات، وتموت المواهب ولا شك أنه مسئول عنها أمام الله، فأعد للسؤال جواباً. إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع أما أن تجلس وأما أن تقعد وأن تتسكع بين شهوات النفس ولذاتها فلن نرضاه لك أبداً، فمتى تتخلص من عقدة (لا أستطيع ولا أقدر) ؟ وإذا قلنا له مثل ذلك قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] . وأقول: إن في وسعك الكثير، فحاول وجرب وإن لم تنجح، أليس في هذا معذرة إلى ربكم؟ {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [يس:17] ثم إني أنبهك لأمر نغفل عنه كثيراً وهو مهم للغاية ألا وهو: أن الأخيار والنبلاء والعلماء ما برزوا إلا بالشجاعة والثقة بالنفس، وإلا فإن عند غيرهم بضاعة وكنوزاً، ولكنهم تخوفوا وجبنوا فما شعوا وما لمعوا: حب السلامة يثني عزم صاحبه عن المعالي ويغري المرء بالكسل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 21 وجود أمراض القلب كالحسد وغيره السبب الثامن والأخير: أمراض القلب كالحسد وسوء الظن والغل، فإذا أصيب القلب بهذه الأمراض انشغل بالخلق عن الخالق، وزادت همومه وكثر كلامه، فلا تسمعه إلا متنقصاً للآخرين مغتاباً لهم، لا همّ له سوى الكلام والقيل والقال، بل هو يحزن لفرح أخيه ويفرح لحزنه، وبلية البلايا أن يرى أنه على حق وكل من خالفه فهو على باطل {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] وربما عرف أنه أخطأ واكتشف الخلل، ولكنها الشهوة الخفية -أعاذنا الله منها- في التصدر والترفع وحب الرياسة، أهلكته وأصمته -نعوذ بالله من ذلك-: قبيح من الإنسان ينسى عيوبه ويذكر عيباً في أخيه قد اختفى فلو كان ذا عقل لما عاب غيره وفيه عيوب لو رآها بها اكتفى وأقول: هل أنت رجل صفر أم لا؟ وهل أنت امرأة صفر أم لا؟ امتحان يسير لمعرفة النفس، أجب بينك وبين نفسك على هذه الأسئلة السريعة: انظر لنفسك عند قراءة كتاب بل رسالة من الرسائل الصغيرة. انظر لنفسك عند حفظ شيء من القرآن والاستمرار عليه. انظر لنفسك عندما تريد الإنفاق أو التردد في المقدار. انظر لنفسك عند قيام الليل، بل عند المحافظة على الوتر. انظر لنفسك وتقصيرك في الدعوة إلى الله والشح في الوقت لها. انظر لنفسك عند طلب العلم، والمواصلة والاستمرار على ذلك. انظر لنفسك والشجاعة في إنكار المنكرات وتحمل الأذى في سبيل الله. انظر لنفسك والاشتياق إلى الجنة والسعي لتكون من أهلها. انظر لنفسك واهتمامها بالمسلمين وأحوالهم، وهل تحزن لمصابهم؟ وضابط ذلك: الدعاء لهم. انظر لنفسك في الأعمال الخيرية، والمشاريع الدعوية ومدى حرصك عليها والرغبة فيها. أجب على نفسك عن هذه الأسئلة السريعة وغيرها، حتى تعلم هل أنت رجل صفر، أم أنك رجل ممتاز؟ أجب على نفسك بصراحة، فإن أول العلاج أن تعرف الداء، وأن تعرف أنك أخطأت، فاتهم النفس وقف معها وصارحها، وعندها سينطلق الإنسان. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 22 علاج السلبية ودنو الهمة أخيراً: ما هو العلاج؟ وما هو الطريق؟ أقول: العلاج يتلخص في هذه النقاط السريعة: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 23 وضوح الهدف والغاية أولاً: وضوح الهدف والغاية والمبدأ -وقد أسلفت الحديث عن هذا-. ماض وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطف وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطرف فرحم الله حرام بن ملحان يوم أن عرف هدفه في الحياة، حرام بن ملحان أرسله النبي صلى الله عليه وسلم مع القراء لقبيلة من قبائل مشركي قريش، فكان يعرض عليهم رسالة رسول الله ويبلغهم الرسالة، فأشاروا إلى رجل منهم أن اطعنه من خلفه، فأنفذ الرمح من ظهره فطعنه من ظهره حتى أنفذ الرمح من صدره، فإذا بـ حرام رضي الله عنه وأرضاه يلتفت إلى القاتل ويقول: [الله أكبر الله أكبر! فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة] سبحان الله يا حرام! إنك تغادر الدنيا وشهواتها، تغادر الزوجة والأولاد، فأي فوز هذا الذي فزت فيه؟! ولكنه يعلم رضي الله تعالى عنه لماذا يعيش؟ إن أسمى أمانيه أن يموت في سبيل الله، وإن أعظم أمانيه أن يصيبه أمر في سبيل الله، وإنه يقرأ في كتاب الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] . ورحم الله خبيب بن عدي يوم أن كان مصلوباً على جذع وكان المشركون يقولون له: أترضى يا خبيب أن يكون رسول الله في مكانك الآن؟ فماذا قال رضي الله تعالى عنه؟! قال: [والله لا أرضى أن يكون محمد بين أهله الآن تصيبه شوكة، ثم قال هذه الأبيات -واسمع إلى الرجل الممتاز يوم أن يعرف الغاية التي من أجلها خلق- قال: لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم وقربت من جذع طويل ممنع إلى الله أشكو كربتي بعد غربتي وما جمع الأحزاب لي حول مصرعي فذا العرش صبرني على ما يراد بي وقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي وقد خيروني الكفر والموت دونه وقد ذرفت عيناي من غير مجزع وما بي حذار الموت أني لميت ولكن حذاري جحيم نار ملفع وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي ] الجزء: 15 ¦ الصفحة: 24 الخوف من الله ثانياً: من العلاج: الخوف من الله خير زاد لعلو الهمة. احرص على خوف الله، املأ قلبك بخوف الله، راقب الله، اعلم أن الله يراك، استعن بالله سبحانه وتعالى، واعلم أنه معين لك في كل أمر، وأنه مطلع عليك في كل حال وفي كل مكان وفي كل مقام، فكر بهذه الأمور حتى يمتلئ قلبك تعظيماً لله، فإن من كان بالله أعرف كان لله أخوف. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 25 مصاحبة أصحاب الهمة العالية ثالثاً: مصاحبة أصحاب الهمم العالية: إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي وقل لي: من تصاحب؟ أقل لك: من أنت. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 26 النظر في سير المجتهدين رابعاً: النظر في سير المجتهدين، وفي سير السلف الصالح، وفي أصحاب الهمم والعزائم، اقرأ في السير والتراجم، فلا تترك فضيلة وقفت عليها ويمكن تحصيلها إلا حصلتها فإن القعود عن الفضائل حالة الأراذل. فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 27 التنافس على الخيرات خامساً: التنافس على الخيرات والشعور بألم الفوات، اسأل نفسك بحق كم يفوتك من الحسنات؟ كم من الناس اهتدوا فكانوا في موازين الآخرين؟ اسأل نفسك لماذا لم يكن هؤلاء الذين اهتدوا في موازين أعمالك أنت؟ لماذا لم تكن أنت الذي مد يده بشريط أو مد يده بكتاب، أو لسانه بكلمة طيبة، أو عقله بفكرة أو طرح؟ فالله عز وجل يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] ويقول: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] . إن مجرد فكرة تقولها أيها الأخ! وتطرحها في مجلس من المجالس يعمل بها لك أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. من قال أن الوقف لله يجب أن يكون مالاً أو عقاراً؟! يمكن أن تطرح فكرة للمسلمين عامة فيعمل بها، فتكون هذه الفكرة وقفٌ لله تعالى، أنت صاحب الوقف تؤجر عليها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 28 البحث عن أسباب أخرى للعلاج سادساً: فتش عما وراء الأكمة، أي: ربما كانت هناك أسباب أخرى خفية لسلبية بعض الناس، فربما كان فلان شاباً قوياً جلداً نشيطاً، صاحب مواهب وابتكارات؛ لكنه صفر، لماذا؟ بسبب سوء التخطيط أو سوء التوجيه، فليتنبه لذلك المربون والموجهون، فقد يكون سبباً رئيساً في سلبية كثير من تلاميذه ومن تحت أيديهم، وليس في هذا تبرئة للرجل الصفر، إن عليه الحرص والاجتهاد، وأنه يجب عليه ألا ينتظر الفرص بل يبحث عنها، وألا ينتظر الموجه، فإن وجد وإلا فالتجربة خير برهان، فليتوكل على الله ولينطلق. وأخيراً أقول: وإني لمشتاق إلى كل غاية من المجد يكبو دونها المتطاول بذول لمال حين يبخل ذو النهى عفيف عن الفحشاء قرن حلاحل والحلاحل هو: السيد في عشيرته، الأمير في مجلسه. نعم أيها الإخوة في الله! فوصيتي لنفسي ولكل مسلم ومسلمة يؤمن بالله واليوم الآخر ألا تضيع عليه ساعات عمره إلا بنفع وفائدة، فأنت والله مسئول أمام الله عز وجل أن تعمل ما بوسعك وألا تحتقر نفسك. إن تلك المرأة السوداء استطاعت أن تكسب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستطاعت أن تجعل التاريخ يسجل اسمها. اسأل نفسك: لماذا حصلت على هذا وكيف؟ لأجل أنها عملت للإسلام عملاً هو قدرتها وهو وسعها، وهو عمل في ميزاننا اليوم عمل حقير، إنها كانت تقم المسجد. ما أحقر هذا العمل في ميزاننا اليوم؛ ولكن ما أرفعه عند الله يوم أن كان هو وسعها وهو قدرتها. فأين أنت أيها الأخ الحبيب؟! وأين أنت أيتها المسلمة؟! سجل اسمك في التاريخ، ليكن قلبك كبيراً يتسع لهموم الآخرين، وليكن همك حاراً لإصلاح الجميع، أحسن النية واجعلها سباقة فإنك تؤجر عليها، ولو لم يتيسر لك العمل، فرق كبير بين قولك: (اللهم اجعلني من الصالحين) وبين قولك: (اللهم اجعلني من الصالحين المصلحين) . فرق كبير بين قولك: (اللهم انفعني) وبين قولك: (اللهم انفعني وانفع بي) . إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام ولكل جسم في النحول بلية وبلاء جسمي من تفاوت همتي متى يستيقظ الأخيار إن لم يستيقظوا الآن؟ متى يتحرك الصالحون إن لم يتحركوا الآن؟ متى يستيقظ المسلمون إن لم يستيقظوا الآن؟ أليس في قلوبنا غيرة؟ أليس فينا حياة؟ متى نشعر بالتحدي وأعداء الله عز وجل يشمتون بهذه العقيدة ليل نهار؟ جعلوا الباطل حقاً، والحق باطلاً، وجعلوا الوضيع شريفاً والشريف وضيعاً. كل المصائب قد تمر على الفتى فتهون غير شماتة الأعداء اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد رب تقبل عملي ولا تخيب أملي أصلح أموري كلها قبل حلول الأجل سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 29 التوحيد وأثره في النفوس التوحيد هو رأس الأمر، والوظيفة التي خلق من أجلها الإنسان، والناس فيه يتفاوتون ويتفاضلون، وقد ذكر الشيخ في هذه المادة أهمية التوحيد وماهيته وآثاره العظيمة على الفرد والمجتمع الموحد. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1 كلمة التوحيد وتفاوت أهلها فيها الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذه هي ليلة الأربعاء الموافق للرابع عشر من الشهر الثالث للعام التاسع عشر بعد الأربعمائة والألف، وفي هذا المكان الطيب المبارك الجامع الكبير بمدينة الطائف نلتقي وإياكم في موضوع بعنوان: (التوحيد وأثره في النفوس) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 2 مكانة التوحيد عند الله تعالى فاعلم رحمني الله وإياك أن التوحيد هو: إفراد الله تعالى بالعبادة، وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده، بل هو أعظم سلاح يتسلح به المسلم، فهو سلاح العقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة وما عليه سلف هذه الأمة، فأصل ما تزكوا به القلوب والأرواح هو التوحيد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى: ولهذا كان رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وهي متضمنة عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين ديناً سواه. انتهى كلامه رحمه الله. فلا إله إلا الله هي كلمة التوحيد وهي الكلمة التي قامت بها الأرض والسماوات لا إله إلا الله فطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة، وجردت سيوف الجهاد لا إله إلا الله محض حق الله على جميع العباد، والكلمة العاصمة للدم والمال والذرية في هذه الدار، والمنجية من عذاب القبر ومن عذاب النار، والمنشور الذي لا يدخل أحد الجنة إلا به. لا إله إلا الله الحبل الذي لا يصل إلى الله من لا يتعلق بصدده لا إله إلا الله كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، ينقسم بها الناس إلى شقي وسعيد، ومقبول وطريد، وانفصلت دار الكفر من دار الإيمان، وتميزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان بلا إله إلا الله، وهي العمود الحامل للفرض والسنة (ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) نسأل الله الكريم من فضله. قال ابن القيم كلاماً جميلاً عن التوحيد في الفوائد، قال رحمه الله: التوحيد أشرف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه، وأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كأبيض ثوبٍ يكون، يؤثر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جداً، أدنى شيءٍ يؤثر فيها ولهذا -وتنبهوا- تشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية، فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده، وإلا استحكم وصار طبعاً يتعسر عليه قلعه. إلى آخر كلامه رحمه الله. وكثير من الناس يغفل عن حقيقة التوحيد، فيتصور أن التوحيد هو قول لا إله إلا الله فقط، أو أنه الاعتراف بربوبية الله فقط، يردد أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، ويجهل شمولية هذه العقيدة لجميع جوانب الحياة، لذلك ربما تزعزعت عقيدة التوحيد في نفوس كثير من المسلمين، فلا إله إلا الله في كل صغيرة وكبيرة، ولا إله إلا الله في كل حركة وسكنة، لا إله إلا الله في البيت والمسجد والوظيفة والشارع وكل مكان، هنا -باختصار- يتبين لنا جميعاً أثر لا إله إلا الله على نفوسنا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 3 مظاهر زعزعة التوحيد في قلوب الناس وتناقصه يا أهل التوحيد! إليكم أمثلةً سريعةً على أن العقيدة والتوحيد ربما تتزعزع في قلوب بعض الناس: فانظروا -مثلاً- إلى الحلف بغير الله والتوسل والاستعانة بالمخلوقين دون الله، بل والاحتكام إلى الأعراف والعادات والتقاليد، وتقديمها على حكم الله ورسوله عند البعض من الناس. انظروا إلى تقديم القرابين والنذور، والهدايا للمزارات والقبور وتعظيمها. بل انظروا إلى التشبه بالكافرين في أخلاقهم وعاداتهم السيئة وموالاتهم. انظروا إلى لجوء الناس عند الشدائد للأسباب المادية، نعم. فتعلقهم بالأسباب المادية فقط من دون الله. انظروا لانتشار السحرة والمشعوذين، والكهان والعرافين، والتمائم والرقى غير الشرعية. بل انظروا إلى ادعاء علم الغيب بقراءة الكف والفنجان، والتنجيم وعالم الأبراج التي تملأ صفحات بعض المجلات اليوم والإذاعات. انظروا للاحتفالات بالمناسبات الدينية كالإسراء والمعراج، والهجرة النبوية، وبدعة المولد وغيرها مما لا أصل له في الشرع. انظروا إلى الاستهزاء بالدين، والسخرية بأهله، والاستهانة بحرماته، وأنه تأخر ورجعية، ووصف أهله بالتطرف والتشدد. انظروا إلى التمسك بأقوال الرجال، حتى أصبحت تفوق الكتاب والسنة عند كثير من الناس وللأسف! بل انظروا إلى ضعف اليقين، نعم. إلى ضعف اليقين بالله وإلى دخول اليأس والقنوط لقلوب كثير من المسلمين. انظروا إلى الخوف والرعب، ممن؟ من المخلوقين عند حدوث الفتن والمصائب. انظروا إلى تمجيد الغرب والخوف منه، حتى وُصف ببعض الصفات الإلهية، كالقوة والقدرة وإدارة الكون كما نسمع ونقرأ. انظروا إلى نظرة الناس المادية للحياة مما ابتلي به المسلمون اليوم، تحصيل اللذات والشهوات، وتعليق أهداف الأمة واهتماماتها بأشياء لا قيمة لها كاللهو والطرب والغناء والمتعة الحرام، والله عز وجل يقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] . هذه من مظاهر زعزعة التوحيد في قلوب الناس وتناقصه، والأمثلة كثيرة تلك التي توضح حال عقيدة التوحيد في نفوس المسلمين اليوم، ولهذا غفل كثيرٌ من الناس عن آثار التوحيد وحقيقته، بل جهل كثير من المسلمين هذه الآثار فأصبح يردد: لا إله إلا الله في اليوم عشرات المرات؛ لكن تعال وانظر لحاله مع نفسه وأهله، وانظر لحال بيته وما فيه، وانظر لحاله في البيع والشراء، وانظر لأقواله وأفعاله وتصرفاته، فربما ليس لكلمة لا إله إلا الله أثر في حياته -والله المستعان- مع أنه مسلم ويردد أن لا إله إلا الله! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 4 المراد من كلمة التوحيد ومعناها فيا أمة التوحيد! المراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها، الكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو: إفراد الله بالتعلق، والكفر بما يعبد من دون الله، نعم. إفراد الله: هذا معنى التوحيد، إفراد الله بالتعلق والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه، فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: (قولوا لا إله إلا الله) ماذا قالوا؟ كما أخبر الحق عز وجل عنهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام من أهل الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن معنى ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني. والحاذق اليوم من هؤلاء من ظن أن معناها فقط أنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا الله، هكذا يفهم بعض الناس معنى لا إله إلا الله، فلا خير في رجلٍ جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله. لا نعجب أن نجد من الكفار من هم أصحاب مبادئ وعقيدة، لكنهم يحترمون عقيدتهم ومبادئهم، ويقفون عندها ويخدمونها، بينما ذلك المسلم يردد أن لا إله إلا الله، لكن ليس لهدف، ليس لمبدأه ولا لعقيدته شيء من الإخلاص الحقيقي في ذلك. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 5 تفاوت الناس في التوحيد الناس يتفاوتون في التوحيد، ويتفاوتون في فهم معنى هذه الكلمة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى: فإن المسلمين وإن اشتركوا في الإقرار بها، فهم متفاضلون في تحقيقها تفاضلاً لا نقدر أن نضبطه. انتهى كلامه رحمه الله. ويقول تلميذه ابن القيم في طريق الهجرتين: فالمسلمون كلهم مشتركون في إتيانهم بشهادة أن لا إله الله، وتفاوتهم في معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم بحقها باطناً وظاهراً أمرٌ لا يحصيه إلا الله. انتهى كلامه رحمه الله. ويقول -أيضاً- في الداء والدواء: فإن من الناس من تكون شهادته ميتة -انتبهوا يا أحبة- ومنهم من تكون نائمة، إذا نبهت انتبهت، ومنهم من تكون مضطجعة، ومنهم من تكون إلى القيام أقرب، وهي -أي: الشهادة- في القلب بمنزلة الروح من البدن، فروح ميتة، وروح مريضة إلى الموت أقرب، وروح إلى الحياة أقرب، وروح صحيحة قائمة بمصالح البدن إلى آخر كلامه الجميل هناك رحمه الله تعالى. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 6 آثار التوحيد وثماره فيا أمة التوحيد! أيها الإخوة! أيتها الأخوات! إن للتوحيد ثماراً عظيمة، وآثاراً جميلة ذاق حلاوتها ذلك الصادق في توحيده، وحرمها ذلك المسكين الذي لم يعلم حقيقة التوحيد وأثره في الحياة، ومن أهم هذه الآثار، ولعلي أختصر بعضها لكثرتها: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 7 تحقيق معرفة الله عز وجل أولاً: تحقيق معرفة الله سبحانه وتعالى وهي من أعظم الآثار. لكن قد يقول قائل كيف نعرفه؟ قال ابن القيم في الفوائد -وأنقله بتصرف-: ولهذه المعرفة بابان واسعان. وانتبهوا لهذا؛ لأن الكثير من المسلمين اليوم لم يؤت لضعفه وفتوره وقلة آثار التوحيد في نفسه، إلا لقلة معرفته بالله حق المعرفة، يقول ابن القيم رحمه الله: ولهذه المعرفة بابان واسعان، الأول: التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها، والثاني: الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها، وكمالها وتفرده بذلك إلى آخر كلامه. فمثلاً: أنت تعرف فلاناً وتحبه وتبغضه من خلال اسمه وصفاته وأفعاله، ولله المثل الأعلى. فالفقه في معاني أسماء الله وصفاته، ومقتضياتها وآثارها، وما تدل عليه من الجلال والكمال، أقرب طريق لمعرفة الله، والإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا الواردة في كتابه العزيز، الثابتة عن رسوله الأمين من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، بل يجب أن تُمرَ كما جاءت بلا كيف، مع الإيمان بما دلت عليه من المعاني العظيمة، هذا الغائب عند الكثير من المسلمين اليوم، مع الإيمان بما دلت عليه من المعاني العظيمة، هذه عقيدةٌ لـ أهل السنة والجماعة، وكما قيل: من كان بالله أعرف كان لله أخوف. فيا أيها المسلم الموحد! إنك لا تعبد مجهولاً، بل تعبد الواحد الأحد الذي تقرأ أسماءه وصفاته في كل حين في القرآن والسنة. إن توحيد الأسماء والصفات الذي يردده بعض المدرسين على أبنائنا، وعلى المسلمين بدون فهم لحقيقة هذا التوحيد، لهو من أعظم الطرق لمعرفة الله سبحانه وتعالى؛ فمعرفة الله من خلال أسمائه وصفاته هي نقطة البداية في حياة الإنسان، البداية الحقة في تحقيق التوحيد، فإذا وفق العبد لهذه المعرفة، فقد أوتي خيراً كثيراً، واهتدى إلى ربه، ووضع قدميه على الطريق الصحيح، فمن كان بالله وأسمائه وصفاته أعرف وفيه أرغب وأحب، وله أقرب، وجد من حلاوة الإيمان في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه، ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حب غيره، وكلما ازداد له حباً ازداد له عبودية وذلاً، وخضوعاً ورقاً. فمثلاً: نقرأ في القرآن: أن الله سميع وبصير وعليم، فهل فكرت يا أخي الحبيب! في معانيها؟! وهل لها أثر في نفسك يوم أن قرأتها في كتاب الله؟ السميع:الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات، سميعٌ بما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات، يسمع سرها وعلنها، وكأنها لديه صوت واحد، لا تختلط عليه الأصوات ولا تختلف عليه جميع اللغات، القريب والبعيد، السر والعلانية عنده سواء سبحانه وتعالى، وأنت تقرأ القرآن وتتدبره بمثل هذه المعاني، يمتلئ القلب ثقة وخوفاً وإجلالاً لله تعالى. البصير: الذي يبصر كل شيء وإن دق وصغر، ويبصر ما تحت الأراضين السبع كما يبصر ما فوق السماوات السبع، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وجميع أعضائها الباطنة، وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، يرى سريان الماء في أغصان الأشجار وعروقها، وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها، يرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة، وأصغر من ذلك، فإذا علمت أنه يرى ذلك بهذه الصفة امتلأ قلبك إجلالاً وهيبةً من الله وتحقق في النفس مبدأ عظيم، مبدأ المراقبة لله سبحانه وتعالى. يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى نياط عروقها في صدرها والمخ في تلك العظام النحل امنن عليّ بتوبة تمحو بها ما كان مني في الزمان الأول وكذلك في جميع أسماء الله وصفاته: العزيز، الجبار، العليم، الخبير، القدير هكذا يكون لتوحيد الأسماء والصفات أثر عجيب في نفوسنا، نعم. إن علمنا بالله ومعرفتنا به يصلنا بالله ويزكي نفوسنا، ويصلحها، وهذا هو الطريق الذي أضاعه كثير من المسلمين اليوم. أيها المسلم! إن الله عز وجل يقول: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] وأنا أسمعك تدعو الله، وتتوسل إليه بأسمائه وصفاته، لكن وأنت تردد هذه الأسماء والصفات هل تستشعر معانيها؟ هل تفهم مقاصدها؟ إنك إن فعلت هذا تزداد تعلقاً بالله وحباً وهيبةً وإجلالاً له، ولذلك أثرٌ كبير على القلب، بل والله له أثر كبير على استجابة الدعاء وقبوله، فلنعلم حقيقة توحيد الأسماء والصفات كيف يكون، ولنتعرف على الله عز وجل حق المعرفة من خلاله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 8 راحة النفس واطمئنانها وسعادتها ثانياً: من آثار التوحيد في النفس: راحة النفس الموحدة واطمئنانها وسعادتها، فهي لا تقبل الأوامر إلا من واحد، ولا تمتثل النواهي إلا من واحد، وبهذا راحة للنفس، ولذلك ترتاح النفس وتطمئن ويسكن القلب ويهدأ، ومن المعلوم لكل عاقل أن النفس لا تحتمل الأوامر من جهات متعددة، فلا يعقل أن يكون للعبد أكثر من سيد، ولا للعامل أكثر من كفيل، وإلا سيقع عندها ضحية الأهواء، فكلٌ يأمر وكلٌ ينهى، وعندها لا يدري ماذا يعمل، فيصبح القلب شذر مذر، وفي هم وغم لا يدري من يرضي. قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد: وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة غيره سبحانه لفسدتا كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى فسد فساداً لا يرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود منه، ويكون الله تعالى وحده إلهه ومعبوده الذي يحبه ويرجوه، ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه. انتهى كلامه رحمه الله. إذاً: فلا يعمل الموحد ولا يحب إلا لله، ولا يغضب ولا يكره إلا لله، وهنا يشعر القلب بالراحة والسعادة؛ فهو مطالب بإرضاء الله ولو غضب عليه أهل الأرض قاطبة، هذه هي حقيقة التوحيد، بل هذا هو الإخلاص لله في كل شيء {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] هل سألنا أنفسنا يوماً من الأيام ما هو هدفنا في الحياة؟ ولماذا خلقنا؟ كثير من المسلمين اليوم ممن يتلفظ بلا إله إلا الله، لو سئل عن هدفه في الحياة ربما لم يجب، وربما أجاب لكنها إجابة فيها تردد وحيرة! وربما تذكر تلك الأسئلة التي درسها يوم أن كان صغيراً في المراحل التعليمية الأولى، لماذا خلقنا الله؟ فكانت الإجابة: خلقنا الله لعبادته، وما هو الدليل؟ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وما هو تعريف العبادة؟ اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. أظننا لا نجهل هذا، الكبير منا والصغير يعرفه، الذكر والأنثى يعلمه. بل حفظه عن ظهر قلب، العجيب أن الكثير من الناس لا يفكر بهذه الكلمات التي حفظها وقرأها ورددها يوم أن كان صغيراً، بل لم يفهم معناها، وإن فهم معناها لم يعمل بمقتضاها، لماذا الفصل بين العلم والعمل؟ فالعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. في حياتنا ندرس ونقرأ ونسمع، فإذا خرجنا من مدارسنا أو مساجدنا تغيرت الأحوال، وتركنا العلم جانباً، وحكمنا الأهواء والمصالح الشخصية، والله المستعان! أيها الأخ! يقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: أن هدفك في الحياة هو عبادة الله عز وجل، تلك العبادة التي أخطأ كثير من المسلمين اليوم في فهمها، ولذلك ربما يقول قائل: الله عز وجل يريد منا دائماً أن نركع ونسجد ونصلي ونصوم ونحج ونقرأ القرآن فقط. هذه هي الحياة، هكذا تريدون منا، لماذا؟ لأنه فهم الحياة على أنها هكذا فقط، أو أن العبادة على أنها فقط مقيدة بتلك العبادات الأربع المشهورة عند الناس، الصلاة والصيام والحج والزكاة هكذا يفهم بعض المسلمين الإسلام. أيها المحب! ليس هذا هو مفهوم العبادة التي يريدها الله عز وجل منا، فنحن نردد أن العبادة -كما أسلفنا-: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة على الجوارح والباطنة في القلب. إذاً: فكل فعل وقول وحركة وسكون في حياتك هي عبادة لله عز وجل بشرط: أن يحبها الله ويرضاها، وأن تكون خالصة لله، وكما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو هدف المسلم في الحياة، هدف المسلم في الحياة رضا الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل حركة وسكون، فإذا اتضح الهدف للمسلم ارتاح قلبه واطمأنت نفسه وشعر بالسعادة؛ لأنه يعيش من أجل هدف سامٍ وغايةٍ واضحة ومبدأٍ عظيمٍ هو: رضا الله. وبهذا المفهوم الصحيح للعبادة، فكل شيء في الحياة مع النية الخالصة لله يكون عبادة يؤجر عليها العبد، ولو أردنا أن نأخذ الأمثلة لطال بنا المقام، ولكن خذوا على سبيل المثال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة) إذاً وأنت تقضي وطرك وشهوتك تؤجر عليها (وإن لأهلك عليك حقاً) وأنت تجالس أهلك وأولادك وتقضي شأنهم وتعولهم تؤجر، حتى اللقمة تضعها في فيّ امرأتك وأنت تسعى لكسب الرزق لأولادك تؤجر، (ابتسامتك في وجه أخيك صدقة) بل حتى النوم تؤجر عليه بشرط أن يكون ذلك النوم على هيئة يرضاها الله عز وجل. ألم يقل بعض السلف: [إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي] إذا عشت بهذا المفهوم تشعر بالاطمئان والسعادة والراحة؛ لأن كل حياتك ترضي الله عز وجل فتؤجر عليها، تقدم يوم تقدم على الله وكل صغيرة وكبيرة قد كتبت وسجلت في حسناتك. الله أكبر! ما أحلى هذه الحياة، ما أحلى الدنيا بهموها وغمومها إذا عاش المسلم بمثل هذا المفهوم الواضح البين في حياته، حتى الهمّ -سبحان الله! - في حياة المسلم الموحد الصادق حتى الهمّ والمرض والتعب يؤجر عليها إذا كانت في رضا الله عز وجل، ألم يقل الحبيب صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من همٍّ ولا غمٍّ ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها المسلم إلا كفر الله بها من خطاياه) . لا إله إلا الله: ما أحلاها في حياتنا قولاً وعملاً، لا كما يريد أعداء الله عز وجل، فيصوروها للناس أنها في المسجد فقط، وأنها في شهر رمضان وموسم الحج فقط، أما ما عداه فلا، ولذلك ربما سمعنا من بعض المسلمين وللأسف كلمةً أو عبارة تقول: أَدخلَوا الدين في كل شيء، ونقول له ولأمثاله: نعم الدين في كل شيء؛ فنحن مسلمون، والإسلام هو: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخروج من الشرك، حفظناها يوم أن كنا صغاراً، تسليم واستسلام لله تعالى في كل شئون حياتنا. لا حرية لك إلا في حدود الشريعة، لا حرية لك بلباسك ولا بقولك ولا ببيعك ولا بشرائك، ولا بذهابك ولا بمجيئك، إلا في هذه الحدود، نعم أيتها المسلمة! الإسلام حقيقةً يضبط حتى لباسك وفعلك وصفتك، إذا رضي الله عز وجل عن هذا الفعل وعن هذه الصفة فتوكلي على الله. هنا تتضح حقيقة الإسلام في أن تستسلم لله عز وجل، إلا -والعياذ بالله- لو قال قائل: إنه خرج من الإسلام نقول له: افعل ما أردت بالحرية المزعومة التي ينادي بها كثير من الناس اليوم، كما قال تعالى للمشركين الذين تمردوا على دينه وشرعه مهدداً لهم: {قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:14-15] . هناك يوم للحساب وللجزاء لا يمكن أن يغفل عنه الموحد أبداً، أما أنت أيها المسلم! فلك حرية، لكن بحدود الشريعة، فأنت أسلمت وجهك لله، وخضعت لدين الله، فعليك أن تلتزم الأوامر، وتجتنب النواهي كما يريد الله سبحانه وتعالى، قلت بلسانك: رضيت بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبياً، فلماذا أراك تخالف هذا الرضا بفعلك وحياتك؟ والله المستعان. يا ليتنا نردد هذا المفهوم الصحيح للعبادة على نسائنا وصغارنا وطلابنا وزملائنا، بل على كل من نقابل مسلماً كان أو كافراً، ولماذا نردد ذلك على الجميع؟ لتتضح حقيقة هذا الدين ويسره وسهولته وسعته وفضل الله عز وجل علينا. واسمعوها يا أحبة! والله ثم والله! لو عاش المسلمون بهذا المفهوم، لما كان هناك انفصام في شخصيات كثير من المسلمين، يأتي للمسجد يركع ويسجد، وربما بكى وسالت الدمعة على الخد خوفاً من الله، بل ربما كان في الصف الأول؛ لكن تعال وانظر لبيعه وشرائه، وانظر لتعامله في الربا، تعال وانظر للسانه، تعال وانظر لبيته وما فيه من وسائل الفساد، تعال وانظر لتلك المرأة في لباسها وفعلها وتبرجها -يا سبحان الله- أين أثر التوحيد وحقيقة التوحيد في نفوسنا؟! بل إن للتوحيد أثراً عجيباً في سعادة الزوجين في حياتهما، نعم والله. هذا سر من أسرار الحياة الزوجية، للتوحيد أثر عجيب في سعادة الزوجين في حياتهما، فالقاعدة الأساسية للبيت السعيد: (أهلاً وسهلاً بما يرضي الله، وبعداً وسخطاً لما يغضب الله) فلو سار البيت على هذه القاعدة لوجد والله! السعادة والراحة، يتفق الزوجان على هذه القاعدة الجميلة فكل ما يرضي الله فأهلاً وسهلاً به في بيتنا، وكل ما يغضب الله فبعداً له وسخطاً؛ لأنه يغضب الله. يا أهل التوحيد! لنحقق التوحيد كما يريده الله سبحانه وتعالى في نفوسنا، ولنراجع أنفسنا ونحاسب أنفسنا، أين أثر التوحيد في نفوسنا؟ لماذا بدأ يتناقص ويتراجع؟ ويظهر هذا النقص وهذا التراجع على بعض المسلمين الموحدين اليوم -وللأسف- نسأل الله عز وجل أن يحيينا حياة طيبة، وأن يميتنا على التوحيد، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 9 تواضع النفس وخوفها وانكسارها لخالقها ثالثاً من آثار التوحيد: تواضع النفس الموحدة وخوفها وانكسارها لخالقها بل وافتقارها إليه سبحانه وتعالى، لماذا؟ لشعورها أنها بحاجة إليه في كل لحظة، فهو مالكها، ومدبرها. مما يزيد العبد افتقاراً والتجاء إليه عز وجل، ويزيده ترفعاً عن المخلوقين ومما في أيديهم، فالمخلوق ضعيف فقير عاجز أمام قدرة الحق عز وجل، الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، هنا يشعر الموحد بأنه يأوي إلى ركنٍ شديد، وأنه في سعادةٍ عظيمة، كيف لا وهو يشعر بذله وانكساره وافتقاره، وعبوديته لملك الملوك! والكثير من أهل التوحيد غفل اليوم عن هذا الأثر، (الافتقار والانكسار) . أيها الإخوة! أيها المسلمون! بل أيها المسلمون المستقيمون! إننا ضعفاء ومساكين لا حول لنا ولا قوة لأنفسنا إلا بربنا جل وعلا، إلا بالواحد الأحد، فمن منا جعل له ساعةً يخلو بها مع ربه؟ من منا جعل له ساعةً يخلو بها مع ربه ويعترف له بضعفه، وذله وفقره، فيرفع يديه، ويناجي ربه بتواضع؟! فالنفس منكسرة لله، القلب يخفق، والعين تدمع، واللسان يلهج فيقول: أنت الذي صورتني وخلقتني وهديتني لشرائع الإيمان أنت الذي علمتني ورحمتني وجعلت صدري واعي القرآن أنت الذي أطعمتني وسقيتني من غير كسب يد ولا دكان وجبرتني وسترتني ونصرتني وغمرتني بالفضل والإحسان أنت الذي آويتني وحبوتني وهديتني من حيرة الخذلان وزرعت لي بين القلوب مودة والعطف منك برحمة وحنان ونشرت لي في العالمين محاسناً وسترت عن أبصارهم عصياني وجعلت ذكري في البرية شائعاً حتى جعلت جميعهم إخواني والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام عليّ من يلقاني ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوان لكن سترت معايبي ومثالبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوارحي ولساني ولقد مننت عليّ ربي بأنعم مالي بشكر أقلهن يدان أيها الإخوة والأخوات! هذه الثمرة من أعظم ثمرات التوحيد على النفوس، حُرِمها الكثير منا، فراحة النفس وسعادة القلب -والله الذي لا إله غيره- هي في الذل والانكسار للخالق سبحانه وتعالى، والافتقار إليه والانكسار بين يديه، فلنلجأ إلى الله عز وجل، ولنعلن ضعف أنفسنا لله وحده، هنا سيشعر الموحد بالقوة العجيبة، وبالصبر والثبات؛ لأنه يعلم أنه يأوي إلى الذي بيده ملكوت السماوات والأرض الذي يدفعه، ويحوطه ويحفظه كما سيأتي من آثار التوحيد إن شاء الله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 10 اليقين والثقة بالله عز وجل رابعاً من آثار التوحيد: اليقين والثقة بالله عز وجل: فصاحب التوحيد على يقينٍ من ربه، مصدق بآياته، مؤمن بوعده ووعيده كأنه يراها رأي العين، فهو واثق بالله متوكل عليه راضٍ بقضائه وقدره، محتسب الأجر والثواب منه. النفس الموحدة تمتلئ بالطمأنينة والسكينة حتى في أشد المواقف، وأصعب الظروف، ألم نقرأ في القرآن: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] . يقول ابن تيمية رحمه الله: والناس وإن كانوا يقولون بألسنتهم لا إله إلا الله، فقول العبد لها مخلصاً من قلبه له حقيقة أخرى. ما هذه الحقيقة؟ يقول تلميذه ابن القيم عن شيخ الإسلام ذلك الذي ذاق هذه الحقيقة كما نحسبه والله حسيبه يقول: وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها، وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها إلى آخر كلامه رحمه الله. هكذا النفس الموحدة مهما أصابها في الدنيا، ومهما كانت الابتلاءات والامتحانات، ومهما كانت الشدائد على تلك النفس، فإنها تعلم أنها قد تجازي بسيئاتها في الدنيا بالمصائب التي تصيبها، ولذلك (لما سأل أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7-8] قال أبو بكر: يا رسول الله! وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به نعمة الله على عباده) إذاً: فما يصيبك أيها الموحد من بلاءٍ أو مرض، أو نصب أو تعب، فإنك مأجور مخلوف عليك عند الله سبحانه وتعالى، التوحيد يسليك عند المصائب، ويهون عليك الآلام، وبحسب مقدار ما في القلب من لا إله إلا الله يكون الصبر والتسليم والرضا بأقدار الله سبحانه وتعالى المؤلمة. يقول ابن القيم رحمه الله كلاماً جميلاً في إغاثة اللهفان: إن ابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) إذاً: هذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته إلى آخر كلامه رحمه الله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 11 اليقين بنصرة الله وتحقيق وعده خامساً: من آثار التوحيد اليقين بنصر الله وتحقيق وعده، فقد تكفل الله لأهل التوحيد بالفتح والنصر والعزة والشرف، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] هذا هو الشرط، فالتوحيد: (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 12 تفريج الكربات سادساً: من آثار التوحيد تفريج الكربات، فالتوحيد الخالص هو السبب الأعظم لتفريجها في الدنيا والآخرة، وقصة يونس عليه السلام من الأدلة على ذلك، قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء:87] بماذا نادى؟ بم استغاث؟ بماذا لجأ؟ بكلمة التوحيد {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فماذا كانت النتيجة؟ {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] بل حتى المشركين يعلمون أن في التوحيد تفريجاً للكربات، قال الله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] . يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في القواعد الأربع -وانتبهوا لهذا الكلام-: القاعدة الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين؛ لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركو زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدة. انتهى كلامه رحمه الله. ويقول ابن القيم رحمه الله: فما دفعت شدائد الدنيا -انتبهوا يا أهل المصائب والآلام والأحزان- بمثل التوحيد، ولذلك كان دعاء الكرب في التوحيد، ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه في التوحيد، فلا يُلقي في الكرب العظام إلا الشرك، ولا ينجي منها إلا التوحيد، فهذا مفزع الخليقة، وملجؤها وحصنها وغياثها، وبالله التوفيق إلى آخر كلامه رحمه الله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 13 الحزم والجد في الأمور سابعاً: الحزم والجد في الأمور: فإن الموحد جاد حازم؛ لأنه عرف هدفه، وعرف لماذا خلق، وما المطلوب منه، وهو توحيد الله والدعوة إليه، فلذلك حرص على عمره، فاستغل كل يوم وشهر، بل والله استغل كل ساعة في عمره، فلا يفوت فرصة للعمل الصالح إلا واستغلها، ولا يفوت شيئاً فيه رجاء لثواب الله إلا وحرص عليه، ولا يرى موقع إثمٍ إلا وابتعد عنه خوفاً من العقاب؛ لأنه يعلم أن من أسس التوحيد الإيمان بالبعث والجزاء على الأعمال، والله عز وجل يقول: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:132] وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الغاية -أي: على الحزم والجد والقوة- فقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) أخرجه مسلم في صحيحه. لكن شتان بين المؤمن الجاد الحازم الذي يستغل اللحظات، ويقضي العمر في رضا الله والعمل الصالح، وبين المؤمن الضعيف الذي يصارع النفس والشهوات ومغريات الحياة، نعم. ابتلي الكثير من المسلمين اليوم -بل حتى من الصالحين- بمصارعة النفس والشهوات، هكذا المؤمن بين أمرين: بين رضا الله وثوابه، وبين الدنيا وشهواتها، وتنبهوا: فكلما ضعف أحدهما قوي الآخر واشتد. أيها الموحد! كن جاداً حازماً، فأنت صاحب عقيدة تحمل همها في الليل والنهار، واليقظة والمنام، هكذا المسلم إن حزن فللتوحيد، وإن ابتسم فلتوحيده، وإن حب فلعقديته، وإن أبغض فلعقيدته، وإن ذهب وجاء فلها، حياته كلها جد وعمل، فهي وقف لله تعالى. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 14 تحرر النفوس من رق المخلوقين ثامناً: أن التوحيد هو الذي يحرر النفوس من رق المخلوقين، ومن التعلق بهم وخوفهم ورجائهم، والعمل لأجلهم، وهذا والله هو العز الحقيقي والشرف العالي، فيكون بذلك متألهاً متعبداً لله، فلا يرجو سواه، ولا يخشى غيره، ولا ينيب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وبذلك يتم فلاحه، ويتحقق نجاحه، فإن العبودية لله عزٌ ورفعة، والعبودية لغير الله ذلٌ ومهانة. فيا عجباً! ممن يخاف من المخلوقين كالسحرة والمشعوذين وغيرهم ويحسب لهم حساباً، فيطلب من عطائهم، ويلجأ إليهم، ويخاف منعهم، وقد شرع له أن يردد بعد كل صلاة: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، فأين حقيقة التوحيد؟ وأين حقيقة هذه الكلمة؟ يرددها كثير من المسلمين بعد كل صلاة، لكن ربما بدون تدبر لمعناها، ولا عمل بمقتضاها، واسمع لهذا الكلام الجميل لـ شيخ الإسلام رحمه الله يقول: المشرك يخاف المخلوقين ويرجوهم، فيحصل له رعب كما قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [آل عمران:151] أما الخالص من الشرك فيحصل له الأمن كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم هنا بالشرك كما في الحديث. انتهى كلامه. فكان من آثار التوحيد القوة والشجاعة. واسمع لهذا المثل العجيب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73-74] . وأذكر لكم مثلاً واحداً لعزة المسلمين يوم أن تعلقوا بالله ولم يخافوا إلا الله، ذكر جليب بن حبة قال: [ندب عمر واستعمل علينا النعمان بن مقرن حتى إذا كنا بأرض العدو خرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمانٌ فقال: ليكلمني رجل منكم، وفي رواية للطبري: أن كسرى قال له: إنكم معشر العرب أشد الناس جوعاً، وأبعد الناس من كل خير، وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة أن ينتظموكم بالنشاب -أي: يقتلوكم- إلا تنجساً لجيفكم، فقال المغيرة رضي الله تعالى عنه: ما أخطأت شيئاً من حقنا، نحن أناس من العرب كنا في شقاء وبلاءٍ شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلت عظمته إلينا نبياً من أنفسنا نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا ورسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيمٍ لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم] . هكذا يكون التوحيد الخالص عزة ورفعة وثقة بالله، وقوة في الدين والعقيدة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه من محبته لغيره، ليس عند القلب أحلى ولا ألذ، ولا أطيب ولا ألين، ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له وإخلاص الدين له. انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 15 تسهيل فعل الخيرات وترك المنكرات تاسعاً: من آثار التوحيد في النفوس: أنه يسهل عليها فعل الخيرات وترك المنكرات: فالمخلص في توحيده تخف عليه الطاعات لما يرجوه من الثواب، ويهون عليه ترك المنكرات، وما تهواه نفسه من المعاصي؛ لما يخشى من سخط الله وأليم عقابه، وكلما حقق العبد الإخلاص في قول لا إله إلا الله خرج من قلبه تألّه ما يهواه، وتصرف عنه المعاصي والذنوب، نعم إن صدق العبد في توحيده صرف عنه الكثير من الذنوب والمعاصي، ألم يقل الحق عز وجل في القرآن: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] فعلل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عبادنا المخلصين، ويقول الحق عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] . فالمسلم بقدر ما في نفسه من التوحيد يكون إقدامه وحرصه على فعل الخيرات، والعكس بالعكس، ولما عدم تحقيق التوحيد في قلوبهم -أي: في قلوب المنافقين- ثقلت عليهم الطاعات وكرهوها، كما أخبر الله عز وجل عنهم في القرآن. واسمع إلى ابن القيم رحمه الله تعالى يقول في مدارج السالكين كلاماً جميلاً: اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر ذلك الشعاع وضعفه، وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفاً لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس -نسأل الله الكريم من فضله- ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف، ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، وبحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علماً وعملاً، ومعرفة وحالاً، وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد، أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته. انتهى كلامه رحمه الله. فأهمس في أذن أولئك العاجزين هذه الكلمة إلى أسرى الذنوب والشهوات والمعاصي الذين إذا ذُكِّروا تعللوا بالمشقة والعجز، فإذا قيل لأحدهم: اترك يا أخي تلك المعصية! قال: لا أستطيع، أقول لأولئك كما يقول ابن القيم رحمه الله: إنما يجد المشقة في ترك المعوقات والعوائد من تركها لغير الله، أما من تركها صادقاً مخلصاً من قلبه لله، فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلةٍ ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب. انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 16 إنارة القلب وشرح الصدر عاشراً: من آثار التوحيد: أنه ينير القلب، القلب يستنير بنور التوحيد وينشرح الصدر، ويجعل للحياة معنى وحلاوة، بل إن لا إله إلا الله! إذا خرجت من قلب صادق تقلب الحياة رأساً على عقب، تجعل النفس من لا شيء إلى كل شيء، انظر لصحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم، وخاصةً الموالي. هذا بلال عبد حبشي ليس له من الأمر شيء، فأصبح بلا إله إلا الله المؤذن الأول، ورجلاً من أهل الجنة، وسيداً من سادات الإسلام تهتز له القلوب، ذكر عمر فضل أبي بكر فجعل يصف مناقبه ثم قال: [وهذا سيدنا بلال حسنة من حسناته] سبحان الله! بأي شيء ارتفع ووصل بلال إلى هذه المرتبة؟ بلا إله إلا الله، بكلمة التوحيد، تلك الكلمة التي وقرت في قلبه التي كان يعبر عنها بقوله: [أحد أحد] وهو يسحب على رمضاء مكة، فكان يقول عندما يسئل عن شدة العذاب وتحمله -واسمعوا لكلمته الجميلة- كان يقول رضي الله تعالى عنه: [كان عندي حلاوة الإيمان ومرارة العذاب، فامتزجت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، فاستعذبت العذاب في ذات الله] سبحان الله! كان مولى من الموالي، فلما آمن بالله، وقف في وجه أسياد مكة يتحداهم بلا إله إلا الله، فرضي الله تعالى عنه وأرضاه يوم أن نصر ذلك العبد، ورفع اسمه، وأعلى مكانته بلا إله إلا الله. وانظروا لحال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فلننظر في سيرته، ألم يتقلد سيفه -كما في بعض السير- ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، امتلأ قلبه حقداً وبغضاً لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وإذا به بعد لحظات فيشهد أن لا إله إلا الله، فينقلب ذلك القلب ويتغير الحال -فيا سبحان مقلب القلوب! - يصبح الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من كل شيء، بل حتى من نفسه كما قال، ويتحول ذلك القلب القاسي المتجبر إلى قلب لين رقيق كثير الخشية والبكاء، ومن لا شيء إلى ثاني رجل بعد أبي بكر رضي الله عنهما. إنها شمس التوحيد لامست شغاف القلوب؛ فتجلت بها ظلمات النفس والطبع، وحركت الهمم والعزائم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 17 حفظ النفوس من القتل حادي عشر: من آثار التوحيد في النفوس: حفظ هذه النفوس. أيها الإخوة! بم حفظت دماؤنا، وبم حفظت أعراضنا وأموالنا؟ إلا بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) فمن قال هذه الكلمة حرم ماله ودمه فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله) كما في صحيح مسلم. بل اسمع لهذا الموقف العجيب الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات -وهي موضع في بلاد جهينة - قال: فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله -أي أنه مشركاً- فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: أقال لا إله إلا الله وقتلته، قال أسامة: يا رسول الله! إنما قالها خوفاً من السلاح، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ قال: فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني ما أسلمت إلا يومئذ) بماذا حفظت هذه النفس؟ بتوحيد الله بلا إله إلا الله، ولذلك ترجم النووي لهذا الحديث فقال: (باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله الله) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 18 تربية النفس على العدل ثاني عشر: من الآثار: الإنصاف وتربية النفس على العدل: فمن أظلم الظلم أن يكون الله هو الذي أوجدك، فيخلق ويحسن الخلق، وينعم ويحسن الإنعام، ويتفضل سبحانه عليك بكل شيء {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:18] ثم بعد ذلك كله نقابل ذلك بالنكران والجحود، فنجعل له نداً نمتثل لأمره ونحبه من دون الله، بل نخافه من دون الله، ونرجوه أو نرجو عنده الشفاء، بل ربما صُرف له شيء من العبادة من دون الله، فأين من يعبد الحجر؟ وأين من يطوف بالقبر؟ وأين من يتوسل بالضعفاء والمساكين؟ بل أين من يذهب للسحرة والمشعوذين؟ بل أين من ملكت الدنيا قلبه؟ سبحان الله! الذل والانكسار لأمثال هؤلاء، الطواف وصرف الأموال واللجوء والاستغاثات لهؤلاء، وتنصرفون عن الخالق -سبحانه وتعالى- الذي أنعم وقدر، وخلق وأحسن وتفضل عليك، أليس هذا هو الظلم العظيم؟ {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] ؟ ولذلك كان أعظم ذنب عصي الله به هو الشرك بالله {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وكما قال الحق عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] . وفي بعض الآثار الإلهية أن الله عز وجل قال: (إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري على العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي) وهذا واقع كثير من المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فانظر إلى من تعلق قلبه بالمال، وانظر لمن تعلق قلبه بالقبور، وبالأشجار والأحجار، وانظر إلى من تعلق قلبه بالنساء والشهوة، وانظر إلى من تعلق قلبه بالأموال والشهوات، كالمتعة الحرام والغناء والرياضة وغير ذلك، ملكت عليه قلبه -والله المستعان- انظر لمن تعلق قلبه بالصور، وربما أصبحت مثل هذه الوسائل أصناماً تعبد من دون الله، ليس شرطاً أن يسجد لها وأن يركع، فهو يغضب ويفرح لها، ويبكي لها ويحب ويعادي، ويبغض لها، أليست هذه صور من صور الشرك والله المستعان؟ ولله در ابن القيم رحمه الله وهو يقول في المدارج: فلا إله إلا الله كم في النفوس من علل وأمراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 19 عدم الحيرة والتردد ثالث عشر: من آثار التوحيد في النفوس: عدم الحيرة والتردد، وهذا مما ابتلي به الكثير من المسلمين اليوم، كالقلق والحيرة والتردد والهمّ والاكتئاب النفسي، وانظروا في العيادات النفسية لتروا الدليل على ذلك، كلما كان الإنسان موحداً مخلصاً لله منيباً إليه؛ كلما كان أكثر اطمئناناً وراحة وسعادة، وكلما كان الإنسان بعيداً عن الله كلما كان أكثر حيرةً وضلالاً وتردداً، اقرأ إن شئت قول الحق عز وجل: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71] نقل ابن كثير في التفسير عن ابن عباس قال: [هو الذي لا يستجيب لهدى الله، وهو رجل أطاع الشيطان، وعمل في الأرض بالمعصية، وحاد عن الحق وضل عنه، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى، ويزعمون أن الذي يأمرونه به هو الهدى. ] إلى آخر كلامه رحمه الله. لكن الهدى هدى الله، فأهل التوحيد أكثر الناس نوراً ويقيناً وطمأنينةً وإيماناً، وأبعدهم عن الحيرة والاضطراب والتخبط والتناقض، أما الكفار وأهل البدع والخرافات، فلا تسأل عن بؤسهم وشقائهم فالحيرة والقلق، واليأس والفراغ والملل والضيق والاكتئاب، كلمات تترد كثيراً في كتاباتهم ومؤلفاتهم وعلى ألسنتهم، بل في حياتهم وواقعهم وما ذلك الشباب الضائع الذي يعيش حياة البهائم، وقد دمر نفسه بالمخدرات والجنس والشذوذ والجرائم والانتحار؛ إلا من الدلائل والبراهين لتلك الحيرة، ولذلك التخبط والضلال الذي مزق الإنسان هناك في بلاد الكفر، والخرافات والبدع، بل إن من أبناء المسلمين -للأسف- من يقع فريسةً لهذه الأفكار والتصورات، نعم، انطفأت شعلة التوحيد في نفوسهم، فامتلأت حيرةً وشكاً، واضطراباً وتردداً، فهي تبحث عن السعادة تبحث عن النور تبحث عن الحق، وليس ذلك والله إلا بالتوحيد الخالص لله، بالتوحيد تعرف من أنت؟ ومن أين أتيت؟ ولماذا أتيت؟ وماذا يريد الله منك؟ ولولا الله ما كنت موجوداً في الوجود: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6-8] بالتوحيد تعلم أنه خالق الكون، وموجد هذه النعم، وأنه سخرها لسعادتك وراحتك، فلا يمكن أبداً أن توجد الشمس أو القمر أو النجوم، وكل هذه الأمور المسخرات لك أنت أيها العبد! لا يمكن أبداً أن توجد هذه المخلوقات نفسها، ولا أن توجَد صدفة، فتعين إذاً أن يكون لها موجدٌ، وهو الله رب العالمين. ولهذا لما سمع جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقرأ في سورة الطور، فبلغ هذه الآيات: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور:35-37] قال جبير -وكان مشركاً يومئذ-: كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي) والحديث رواه البخاري. فدعوة لأحبابنا وإخواننا الذين أصابتهم الحيرة والتردد، دعوة إلى أن ينظروا فيمن حولهم ويتفكروا في خلق الله وقدرة الله، وهذا الكون العجيب، ليجدوا الراحة والسعادة بتوحيد الله عز وجل، ولا يمكن أبداً أن يكون ذلك إلا إذا كان هدفك أيها المسلم! هو رضا الله لا رضا غيره. أما الحائرون المترددون الغافلون الضائعون، فيعبِّر عن ضياعهم أحدهم في قصيدة له سماها طلاسم، وهي طلاسم تسجل أفكار الضائعين، وخواطرهم وقلقهم، وحيرتهم واضطرابهم، وتورد نماذج لسؤالاتهم واستفساراتهم، يقول فيها: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمضيت وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري؟! أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود؟ هل أنا حر طليقٌ أم أسير في قيود؟ هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود؟ أتمنى أنني أدري! ولكن لست أدري؟ وطريقي ما طريقي أطويل أم قصير؟ هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور؟ أنا السائر في الدرب أم الدرب يسير؟ أم كلانا واقفٌ والدهر يجري؟ لست أدري؟ إلى أن قال: ألهذا اللغز حلٌ؟ أم سيبقى أبدياً؟ لست أدري؟ ولماذا لست أدري؟ لست أدري؟ أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور؟ فحياة فخلود أم فناء فدثور؟ أكلام الناس صدقٌ؟ أم كلام الناس زور؟ أصحيح أن بعض الناس يدري؟ لست أدري هذه الأسئلة التي أثارها في قصيدته هي أسئلة يرددها المحرومون من نعمة الله، الفاقدون حلاوة التوحيد، وأُنسه وطعمه ورائحته، إن هذه الأسئلة عند الموحدين المؤمنين لا تقلقهم بفضل الله تعلى ومنته، ففي ديننا الإجابة مفصلة عليها، وفي قرآننا وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام الكلام اليقيني الصحيح الصادق عنها، فهذه الأسئلة ليست طلاسم في تصور المسلم الموحد، بل على العكس، هذه الأسئلة وإجابتها هي مصدر اطمئنان المسلم، وثباته وسعادته وراحته، بل هي التي والله تحرك مشاعره، وتجري مدامعه، وتزيده استقامة وتوحيداً، فلا قلق في النفس، ولا اضطراب في الفكر، فالمنهج واحد والمبدأ واضح ثابت لا يتغير، فأنا أعلم من خلقني ولماذا خلقني؟ وإلى أين سأذهب؟ فهذه أسئلة مصدرها اطمئنان المسلم أو مصدر اطمئنان المسلم وراحته. ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يقول: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية. ويقول -أيضاً-: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. نسأل الله الكريم من فضله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 20 جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم رابع عشر: ومن آثار التوحيد في النفوس: جمع كلمة المسلمين الموحدين وتوحيد صفوفهم: جمع الله بالتوحيد القلوب المشتتة والأهواء المتفرقة، فما اتحد المسلمون وما اجتمعت كلمتهم إلا بالتوحيد، وما تفرقوا واختلفوا إلا لبعدهم والله عنه، فربهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد، وقبلتهم واحدة، ودعوتهم واحدة، هي لا إله إلا الله، ولا معبود بحق إلا الله. أهل التوحيد لا يختلفون في أصول الدين وقواعد الاعتقاد، يرون السمع والطاعة لولاة أمورهم بالمعروف ما لم يأمروا بمعصية، ولا يجوز الخروج عليهم وإن جاروا إلا أن يُرى منهم كفر بواح عليه من الله برهان. أهل التوحيد تتفق في الغالب وجهات نظرهم وردود أفعالهم مهما تباعدت الأمصار والأعصار، فالمصدر واحد. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 21 الجود بالنفس والمال لنصرة الإسلام خامس عشر: ومن آثار التوحيد جود نفوس الموحدين بالمال، والنفس في سبيل الله ونصرة دينه، فأمة التوحيد أمة قوية، تبذل كل غالٍ ونفيس من أجل عقيدتها، وتثبيت دعائمه، غير مبالية بما يصيبها في سبيل ذلك، يقول الحق عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] لم يدخلهم شك ولا ريب، ولا خوف ولا يأس ولا قنوط في حقيقة توحيدهم وعقيدتهم، بل في حقيقة نصرة الله لهم: {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] الصادقون في قول لا إله إلا الله، أهل التوحيد أمة واحدة، يأمرهم ربهم بقوله: {انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41] . فأسألكم بالله! أيها الموحد! أيتها الموحدة! هل جعلت نفسك ومالك وولدك وكل ما تملك في خدمة هذه العقيدة في سبيل لا إله إلا الله؟ ماذا قدمت لدينك وعقيدتك؟ ماذا قدمت لهذا المبدأ العظيم؟ نعجب ونتحسر يوم أن يضحي الكافر من أجل دينه وعقيدته، وهو على باطل، ويوم أن يسخر ويهمل ذلك المسلم من أجل عقيدته وتوحيده وهو على حق. إنما المؤمنون هم أولئك الصادقون في توحيدهم، وفي قولهم لا إله إلا الله، لا يستطيع ذلك إلا من ذاق طعم الإيمان وحقق التوحيد صادقاً من قلبه. مثالٌ واحد أسوقه لكم والأمثلة كثيرة: أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، انظروا لحياة هذا الرجل؛ أسرة كاملة. أولاده عبد الله ومحمد، وبناته عائشة وأسماء وماله وجهده ووقته كلها في سبيل الله، ونصرة دين الله؛ فلما نصروا دين الله بأموالهم وأنفسهم وأولادهم نصرهم الله، ومكنهم وأعلى شأنهم، وصدق الله: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] . أما الخذلان أيها الأحبة! الخذلان والبخل والكسل والفتور، فهي من صفات المنافقين، فلما عدم تحقيق التوحيد في قلوبهم، تركوا الجهاد، وفرحوا بالتخلف عنه، ورضوا بشهوات الدنيا، وبخلوا بأموالهم وتقلبت مواقفهم وردود أفعالهم تبعاً لأهوائهم، فذمهم القرآن بسبب ذلك. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 22 شعور النفس الموحدة بمعية الله تعالى سادس عشر: من آثار التوحيد: شعور النفس الموحدة بمعية الله عز وجل. قال ابن القيم في الفوائد: فإن قلت بأي شيء أستعين على التجرد من الطمع والفزع؟ قلت: بالتوحيد والتوكل على الله والثقة بالله، وعلمك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، وأن الأمر كله لله ليس لأحد مع الله شيء. انتهى كلامه رحمه الله. قال الحق عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] وقال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36] وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] وقال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:62-64] . وقال جل وعلا في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) فأي فضل يناله صاحب التوحيد؟ فالله معه يحفظه وينصره ويدافع عنه، مما يزيده قوةً وشجاعة وإقبالاً على الله عز وجل. وابن رجب في رسالته الجميلة الإخلاص قال كلاماً جميلاً فاسمعوه: من صدق في قول لا إله إلا الله، ولم يحب سواه، ولم يرج سواه، ولم يخش أحداً إلا الله، ولم يتوكل إلا على الله، ولم يبق له بقيةً من آثار نفسه وهواه، ومع هذا فلا تظن أن المحب مطالب بالعصمة، وإنما هو مطالب كلما زل أن يتلافى تلك الوسمة. انتهى كلامه رحمه الله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 23 العلم والبصيرة سابع عشر: من آثار التوحيد في النفوس: العلم والبصيرة فمن عرف التوحيد وحقيقته عرف عكسه من الشرك وحقائقه وأباطيله، بل عرف احتيالات أهل الشرك ومكرهم، فيجزم الموحد بكفرهم وعدواتهم، ولذلك قال الإمام محمد بن عبد الوهاب ذاكراً الناقض الثالث من نواقض الإسلام: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم. إذاً: فالعلم والبصيرة من آثار التوحيد على النفوس أو في النفوس، وفي صحيح مسلم من طريق أبي مالك سعد بن طارق عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم دمه وماله وحسابه على الله) فلا يكفي إذاً لعصمة دم المسلم أن يقول لا إله إلا الله، بل لا بد أن يضيف إليها الكفر بما يعبد من دون الله، فإن لم يكفر بما يعبد من دون الله لم يحرم دمه وماله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 24 محبة أهل الإيمان وبغض أهل الكفر ثامن عشر: محبة أهل الإيمان وموالاتهم وبغض المشركين ومعاداتهم، فالتوحيد يظهر الأعاجيب في النفوس الموحدة، فمن حقد وبغض وعداء إلى حب ومودة وإخاء، وما صنعه التوحيد في نفوس المهاجرين والأنصار من مواقف يجب ألا تنسى، بل لا بد أن تروى وتروى لنرى الأثر النفسي العجيب بالتوحيد الصادق. أخرج البخاري في صحيحه في كتاب المساقاة: باب كتاب القطائع عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ليقطع بـ البحرين، فقالوا: يا رسول الله! إن فعلت فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها، فلم يكن ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني) . قال ابن حجر: وفي الحديث فضيلة ظاهرة للأنصار لتوقفهم عن الاستئثار بشيء من الدنيا دون المهاجرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فحصلوا بالفضل على ثلاث مراتب: إيثارهم على أنفسهم، ومواساتهم لغيرهم، والاستئثار عليهم. انتهى كلامه رحمه الله. وأخرج البخاري -أيضاً- في صحيحه في كتاب المناقب مناقب الأنصار (باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار) عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: (لما قدموا المدينة -أي: المهاجرين- آخى رسول صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد بن الربيع -أي: بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع - قال سعد لـ عبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك أين سوقكم؟!) الحديث. سبحان الله! أي حب هذا الذي أحدثه التوحيد في نفوس المؤمنين؟! أي مودة بين المسلمين الموحدين الصادقين؟! هكذا التوحيد يفعل بأهله! أما بغض المشركين فنحن وإياهم على طرفي نقيضٍ، فقد يتساءل البعض: لماذا نبغض المشركين؟ ولماذا يأمرنا الإسلام ببغض المشركين؟ فأقول: لأننا وإياهم على طرفي نقيضٍ، فنحن أهل توحيدٍ وهم أهل شرك، وبيننا وبينهم عداوة وبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده، كما قال تعالى، بل العجب أنهم إن آمنوا بالله وحده كانوا من إخواننا ومن أحب الناس إلى قلوبنا، كما قال الحق عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] فكيف بمن ينصرونهم من أهل التوحيد؟ وكيف بمن يعينونهم أو يعاونونهم على المسلمين في بعض الأحايين؟ بل كيف بمن يحبهم ويقربهم؟ والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] كيف بمن يأتي بهم وربما يقدمهم على المسلمين؟ فأين هم عن حقيقة التوحيد؟ وصدق ابن الجوزي رحمه الله: إنما يتعثر من لم يخلص. ولا شك أن هذا كله بسبب الإعراض عن تعلم العلوم الشرعية، وعدم الفقه في دين الله، خاصة في التوحيد والعقيدة، ولو أن المسلمين صاروا يداً واحدة، وحققوا معاني التوحيد كما يريدها الله عز وجل، وتناصروا فيما بينهم لصار لهم شأن غير ما نحن فيه الآن، ولصار الكفار أذلاء ونحن نرى حال الناس، وكيف تنقض عرى إسلامهم عروة عروة! ومما انتقض من عُراه: الحب في الله والبغض في الله، والمعاداة لله وفي الله، كما جاء في الحديث المشهور: (إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) وأنت ترى حال الكثير حبه لهواه، وبغضه لهواه، ولا يسكن إلا لمن يلائمه في طبعه وهواه، وإن غره وأغراه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أيها الأحبة! إن للتوحيد آثاراً على النفس الموحدة، لا بد أن تظهر عليها، فمن لم يجدها فليراجع توحيده، وليحاسب نفسه، وذكرنا من الآثار ما ذكرناه وتركنا ما تركناه لحال المقام، فالمقام هنا مقام تذكير وإرشاد وليس تعليم وتحصيل وتأصيل. أسأل الله عز وجل أن ينفع بما قيل، وأن يغفر لنا الزلل والخطأ والتقصير، اللهم لك الحمد على نعمة الإيمان، ولك الحمد على نعمة التوحيد، ولك الحمد على ما أنعمت به علينا من نعم تترى، اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا من بيده ملكوت السماوات والأرض! اللهم احفظ أمننا وإيماننا، اللهم احفظ توحيدنا، اللهم احفظ عقيدتنا في قلوبنا ونفوسنا، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام، وأراد هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين بسوء اللهم فاجعل كيده في نحره، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم اجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، اللهم اكفناهم بما شئت فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز! اللهم اهد أهل البدع والضلالات، اللهم اهدهم إليك وردهم إليك رداً جميلاً، اللهم افتح على قلوبهم، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه. اللهم يا قوي يا عزيز اللهم قوِ إيماننا وأعنا على أنفسنا، اللهم أصلح ولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم وفقهم وأعنهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين. اللهم يا حي يا قيوم! مُنَّ علينا بتوبة صالحة صادقة تمحو بها فساد قلوبنا، وتصلح بها نفوسنا، اللهم أصلح أزواجنا، وأصلح أولادنا، وأصلح بناتنا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم أنت ولي ذلك والقادر عليه، اللهم لا تحرمنا أجر هذا المجلس، اللهم لا نخرج من مجلسنا هذا إلا وقد قلت لنا بمنك وفضلك يا كريم: قوموا مغفوراً لكم، اللهم اغفر لنا وتب علينا لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 25 طريقنا للقلوب حسن الخلق هو شعار هذا الدين، وميزة النبي صلى الله عليه وسلم بل هو أقصر طريق يصل بك إلى أبعد القلوب. وقد حرص الشيخ حفظه الله على إبراز أهم خصائص هذا المعلم، منبهاً على وجوب التزام أهل الإسلام به، وخاصة الدعاة، ضارباً أمثلة لذلك من أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وأخلاق سلفنا الصالح رضوان الله عليهم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 1 توطئة في الأخلاق الحسنة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذه هي ليلة الثلاثاء الموافق للرابع عشر من شهر محرم من عام (1418هـ) وبهذا الجامع المبارك في مدينة الرس، وهذا هو الدرس الأول من سلسلة الدروس الشهرية في مكارم الأخلاق والآداب، وهو الرابع والأربعون في التسلسل العام، وعنوان هذا الدرس: (طريقنا للقلوب) . وطريقنا أعني به: كل مسلم ومسلمة يحب أن تشيع الألفة والمحبة بين أفراد المجتمع الإسلامي، وكل مسلم ومسلمة يحب الخير والبر والمعروف والإحسان ومكارم الأخلاق. أما القلوب فهي: قلوبنا جميعاً. فنحن بحاجة لفن التعامل مع بعضنا لبعض، بحاجة إلى تعميق روابط الأخوة الإسلامية ومعانيها نحن بحاجة أيها الأحبة! إلى تحقيق القاعدة الشرعية: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) كما في حديث أنس المتفق عليه. بحاجة إلى الحوار الهادئ، والتعامل المهذب، والاحترام المتبادل، إلى أن نظهر محاسن هذه العقيدة؛ لنصبح نحن المسلمين قدوات لبعضنا، ومفاتيح خير لغيرنا من أهل الملل والنحل، بحاجة إلى أن نكسب قلوب بعضنا، وأن نكسب قلوب أهل الأديان الأخرى بصدق التوحيد، وحسن المعاملة، وجميل الأخلاق؛ لتذوق طعم الإيمان، ولتعرف حقيقة الإسلام. نريد أن نكسب القلوب ليس بالمجاملة ولا بالمداهنة، ولا بتمييع ديننا ولا بتمزيقه، ولا بالتنازل عن المبادئ والأهداف، وإنما بمكارم الأخلاق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) والحديث عند أحمد في المسند والبزار، وهو من بلاغات مالك في الموطأ، قال ابن عبد البر: هو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره. انتهى كلامه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 2 الغاية من كسب القلوب ولماذا كسب القلوب؟ ليس من أجل الدنيا، ولا متاعها ولا زخرفها، ولا من أجل أنفسنا وإظهار محاسنها وتواضعها، لا والله! بل ولا من أجل تملق الناس وطلب محامدهم وثنائهم؛ إنما من أجل ربنا تعبداً وتقرباً (فإن الله يحب معالي الأخلاق، ويبغض سفسافها) كما في المعجم الكبير للطبراني وإسناده صحيح كما قال العراقي. واتباعاً لحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، فقد كان أحسن الناس خلقاً، وكسباً لحب وقرب نبينا يوم القيامة كما قال صلوات الله وسلامه عليه: (إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً) والحديث أخرجه الترمذي وحسنه. وتطبيقاً لتعاليم شرعنا وآداب ديننا قولاً وعملاً، وسراً وعلناً، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (وخالق الناس بخلق حسن) وشوقاً للجنان وتثقيلاً للميزان يوم أن نلقى الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (فأكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق) كما عند الترمذي وقال عنه: صحيح غريب (وما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن) كما في الترمذي وأبي داود، وتخلقاً وتأدباً وإيماناً (فأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) كما في الترمذي وقال: حسن صحيح. والله عز وجل يقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] . إذاً: فهذه الفضائل وأمثالها مما يحثنا ويشجعنا على اكتساب محاسن الأخلاق، وتطبيع نفوسنا عليها، إخلاصاً لوجه الله، وطلباً لرضاه فهي عبادة عظيمة وقربة من أجَلِّ القربات (فإن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم) كما عند أبي داود من حديث عائشة وصححه الألباني كما في الصحيحة. إذاً: فهذا هو طريقنا للقلوب، خططته لكثرة شكاية الناس بعضهم من بعض، فالزوج يشكو من سوء تعامل زوجه، والطالب يتظلم من أخلاق أستاذه، والموظف يتسخط من رئيسه ومديره، والمكفول يئن ويتوجع من سوء تصرف كفيله، حتى الصاحب لم يسلم من صاحبه وخليله، فبحثت عن العلاج فكان هذا الموضوع. إذاً: فهو رسالة إلى كل مسلم ومسلمة إلى كل الطيبين والطيبات إلى كل المعلمين والمعلمات إلى كل الأزواج إلى كل موظف إلى كل مسلم يسافر خارج البلاد إلى كل أحد يحب أن يرى الألفة والمحبة ترفرف على المجتمع الإسلامي. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 3 أسباب تعين على حسن الخلق أيها المسلمون! لنحرص على مكارم الأخلاق والتحلي بها، وذلك بالصبر ومجاهدة النفس وترويضها. هذا أولاً. وثانياً: بصحبة الصالحين، والنظر في سيرهم وأخلاقهم. ثالثاً: بمداومة القراءة والاطلاع في كتب الأخلاق، كـ الأدب المفرد للبخاري، ومكارم الأخلاق لـ ابن أبي الدنيا وللخرائطي، وكتب الشمائل وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أجمل الكتب المعاصرة التي وقفت عليها في هذا الموضوع: الأخلاق الفاضلة للرحيلي، وهو كتاب جميل، وهذه أخلاقنا للخازن دار، وسوء الخلق للحمد وغيرها كثير. إذاً: فلنحرص على التحلي بالأخلاق، ومن يتصبر يصبره الله، فإن أردت الوصول للقلوب، بل إلى رضا علام الغيوب سبحانه وتعالى، فتنبه لهذه النقاط الثلاث الماضية، ثم احرص على سماع هذا الموضوع مرات ومرات، فإنما العلم بالتعلم، واستعن بالله وأكثر الدعاء والتضرع إليه (أَنْ كما أحسنت خَلقي فأحسن خُلقي) كما كان صلى الله عليه وسلم يقول، كما عند أحمد وصححه الألباني. وقل: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) كما في الترمذي وهو صحيح. وقل أيضاً بل وردد في كل وقت: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) كما في صحيح مسلم. فهذا أحسن الناس خلقاً، والذي أثنى الله عليه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] لا يترك صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء والتضرع إليه أن يعينه على تهذيب نفسه والتحلي بأحسن الأخلاق، فكيف بي وبك؟ بل كيف بنا جميعاً؟ فإنه لا حول ولا قوة لنا إلا بالله جل وعلا. وبعد هذه التوطئة، إليك عرضاً لعناصر الموضوع وهي: - العقيدة والأخلاق . - واقعنا ومكارم الأخلاق. - الدعاة الصامتون. - الأخلاق تصنع الأعاجيب. - همسة في أذن موظف. - وأخرى للمعلمين والمعلمات. - هل يمكننا تغيير أخلاقنا. - سهام للصيد. - الازدواجية في الأخلاق. - أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم. - خلاصة الدرس. فأبدأ مستعيناً بالله، سائلاً إياه الصدق والإخلاص في الأقوال والأعمال. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 4 العقيدة والأخلاق للأخلاق صلة وثيقة بالإيمان والعقيدة، قال ابن القيم يرحمه الله: الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين. يقول صاحب رسالة جميلة بعنوان: صلة الأخلاق بالعقيدة والإيمان يقول فيها: إن المتمعن في أحوال الناس يجد كثيراً من المسلمين يغفل عن الاهتمام والاحتساب في هذا الجانب، وقد يجهل الصلة الوثيقة بين محاسن الأخلاق وقضية الإيمان والعقيدة، فبينما تجد الشخص يظن أنه قد حقق التوحيد ومحض الإيمان، تراه منطوياً على ركام من مساوئ الأخلاق والنقائص التي تخل بإيمانه الواجب، أو تحرمه من الكمال المستحب، كالكبر والحسد وسوء الظن والكذب والفحش والأثرة وغير ذلك، وقد يكون مع ذلك جاهلاً بضرر هذه الأمور على عقيدته وإيمانه، أو غافلاً عن شمولية هذا الدين لجميع مناحي الحياة، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] . إن تحقيق التوحيد -والكلام ما زال لصاحب الرسالة- وتكميل الإيمان ليس باجتناب الشرك الأكبر فحسب، بل باجتناب كل ما ينافي العقيدة، وكل ما يخل أو يقدح في كمال التوحيد والإيمان إلى آخر كلامه هناك. إذاً: فليست العقيدة متوناً تردد، ونصوصاً تحفظ، بل لا بد أن تتحول إلى واقع عملي في الحياة والتعامل بين الناس، ولما حصل هذا التصور عند بعض الناس ظهر انفصام نكد، وازدواجية بين مفهوم الإيمان ومقتضياته، وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 5 واقعنا ومكارم الأخلاق إن الناس اليوم في عرض الأرض وطولها بحاجة إلى من يقف معهم ويعينهم، ويزيل عنهم الهمّ والقلق، ويدلهم على طريق السعادة والراحة النفسية، ويأخذ بأيديهم إلى طريق النجاة والأمان، حتى وإن قامت الحضارات، وصنعت المخترعات، وتوالت الإنجازات، فكل ذلك من أجل سعادة الإنسان وتكريمه، لكن -وللأسف- البشرية تغرق اليوم تغرق في بحر الدنيا، ويلهث الكثير منهم وراء المال والتجارة، والشهوات واللذات، والرياسة والسيادة بأي طريق وبأية صورة ومهما كان الثمن، المهم الوصول للمراد، وهذا هو الواقع الغالب على الناس اليوم إلا ما شاء الله. في خضم هذا اللهثان، وفي وسط هذا الإغراق، يتلفت البعض ليبحث عن المثل والمبادئ والأخلاق والآداب في صفوف الناس، وربما سمع عن التبشير، وهو شعار أعلنه المنصرون وتسموا به، بل وتمثلوه للأسف! يقول أحد الإخوة: في يوم من الأيام كنت أراجع طبيباً في أحد المستشفيات، وكنت أرى حسن تعامله، وإظهار حرصه بالمريض وحالته، تبادر إلى ذهني أنه أحد المنصرين، فقد كنت أقرأ وأسمع عن وسائلهم وأساليبهم، يقول: لكني قطعت هذا الخاطر أخذاً بحسن الظن، خاصةً وأنه عربي، وفي بلد مسلم، لكني عرفت فيما بعد أنه يدين بـ النصرانية، وربما كان منصراً أو مبشراً -كما يقولون- انتهى كلامه. أيها الإخوة والأخوات! أليس المسلمون أولى بهذه التسمية (التبشير) وبهذه الأخلاق؟ ألم يقل الحق عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [الأنعام:48] ؟ ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) كما في البخاري؟ ألسنا كمسلمين أولى بهذا التلطف والتودد للناس؟! ألسنا أولى بالتحلي بالأخلاق وبث الأمل في النفوس؟ لماذا هذا الجفاء والإعراض؟! وهذا التنفير والانقباض عند بعض المسلمين؟! لقد أثرت الماديات والحضارات على أخلاقنا، وتعاملنا مع بعضنا بشكل كبير، حتى ظن البعض أنه لا يمكن الجمع بين التقدم الحضاري والكسب المادي، وبين التحلي بالأخلاق والآداب، حتى قال أحدهم: لئن كانت الدنيا أنالتك ثروة وأصبحت منها بعد عسر أخا يسر لقد كشف الإثراء عنك خلائقاً من اللؤم كانت تحت ستر من الفقر فإننا لا نكاد نسمع عن ذي شرف أو تاجر أو جاه أو منصب وقد تحلى ببعض الأخلاق والآداب، إلا ويتذاكره الناس إطراءً ومدحاً وتعجباً أن يكون بمثل هذا المكان، ويتمتع بمثل هذه الأخلاق. أيها الإخوة! إن من ينظر ويقرأ عن دين الإسلام خاصةً في باب الأخلاق والآداب والمعاملة، ليعجب أشد العجب من عظمة هذا الدين، ودقة مراعاته للمشاعر والعواطف، وحرصه على نشر المحبة والمودة! اسمعوا لهذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف) والحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد وهو صحيح. لماذا يأخذ بأنفه؟ وما علاقة الأنف بما صنع؟ إنها عظمة هذا الدين، ودقة عنايته بمشاعر النفس، والحفاظ على أحاسيسها، يأخذ بأنفه؛ ليوهم من بجواره أن به رعافاً فلا يفتضح أمره فيحرج ويخجل. قال الخطابي في بذل المجهود شرح سنن أبي داود: إنما أمره أن يأخذ بأنفه؛ ليوهم القوم أن به رعافاً، وفي هذا الباب من الأخذ بالأدب في ستر العورة، وإخفاء القبيح والتورية بما هو أحسن، وليس داخلاً في باب الرياء والكذب، وإنما هو من باب التجمل واستعمال الحياء، وطلب السلامة من الناس. ارض للناس جميعاً مثل ما ترضى لنفسك إنما الناس جميعاً كلهم أبناء جنسك غير عدل أن توخى وحشة الناس بأنسك فلهم نفس كنفسك ولهم حس كحسك إن من ينظر للواقع يرى العجب في الإفلاس الأخلاقي الذي تعيشه كثير من المجتمعات الإسلامية اليوم! بل هناك من انبهر بالحضارة الغربية فنقلها للمسلمين بقضها وقضيضها وإيجابها وسلبها. ونحن مع دعاة التقدم والحضارة في الاستفادة من التكنولوجيا والصناعة، وكسب المهارات والخبرات، لكننا نقول وعلى لسان كل مسلم صادق وغيور: لا وألف لا لاستيراد العادات والتقاليد الغربية، والانحلال الخلقي باسم الحرية وحقوق المرأة، أما إقحام الفضيلة والستر والعفاف ومكارم الأخلاق في التقدم والتخلف المزعوم فخدعة مكشوفة، لا تنطلي إلا على غافل ساذج في فكره دخن، أو في قلبه مرض. إن في أخلاقنا وآدابنا كمسلمين، بل وعاداتنا وتقاليدنا كعرب، ما يملأ قلوبنا بالفخر والاعتزاز والرفعة والسيادة، فالله اختار لنا مقاماً عزيزاً ومكاناً شريفاً، فقال جل وعز: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] . فأسألكم بالله! هل هذا المقام يناسب ما يفعله بعض الغافلين والغافلات من تشبه وتقليد بأهل الكفر والشرك في عاداتهم ولباسهم وسيئ أخلاقهم؟ فأنت أيها المسلم! يجب أن تكون متبوعاً لا تابعاً، وقائداً لا منقاداً، بصفاء عقيدتك، وثبات مبدئك، وتعاليم دينك السمحة، وحسن أخلاقك، فلم لا نعتز بالشخصية الإسلامية؟ ولم لا نعلن للعالم كله أننا أهل دين وخلق؟! وأن لنا صبغةً خاصةً تميزنا عمن سوانا هي: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138] ؟! الجزء: 17 ¦ الصفحة: 6 الدعاة الصامتون أيها الإخوة! إننا نملك كنزاً عظيماً هو كنز الإيمان، لكنه الإيمان حقيقةً لا صورةً، الإيمان الذي لامست حلاوته شغاف القلوب، فظهرت تلك الحلاوة على جوارح ذلك المسلم في أقواله وأفعاله وصفاته، فيوم ذاق طعم الإيمان؛ عرف حقيقة الاستقامة والالتزام، وأثر ذلك في سلوكه وصدقه ومعاملته. يذكر التاريخ لنا أن الإسلام وصل إلى جنوب الهند وسيلان وجزر المالديف وسواحل الصين والفلبين وإندونيسيا وأواسط إفريقيا عن طريق تجار مسلمين، لكنهم مسلمون بحق، لم يؤثر عليهم بريق ولمعان الدينار والدرهم، بل تجسد الإسلام في سلوكهم وأمانتهم وصدقهم، فأُعجب الناس بهذه الأخلاق، فبحثوا وسألوا عن مصدرها، فدخلوا الإسلام عن رغبة واقتناع. إن من أكبر وسائل التأثير على القلوب والنفوس هو التميز في الأخلاق المتمثل في القدوة الصالحة، بل هو أعظم وسيلة لنشر الإسلام في كل مكان، ومن تتبع سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام وجد أنه كان يلازم الخلق الحسن في سائر أحواله، وخاصةً في دعوته إلى الله تعالى؛ فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجاً بفضل الله تعالى ثم بفضل حسن خلقه عليه الصلاة والسلام. فكم دخل في الإسلام بسبب خلقه العظيم! فهذا يسلم ويقول: [والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليّ] وذاك يقول: [اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً] تأثر بعفو النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتركه على تحجير رحمة الله التي وسعت كل شيء بل قال له: (لقد تحجرت واسعاً) والآخر يقول: [فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه] والرابع يقول: [يا قومي أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة] والخامس يقول: [والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ] والسادس يقول بعد عفو النبي صلى الله عليه وسلم عنه: [جئتكم من عند خير الناس] ثم يدعو قومه للإسلام فأسلم منهم خلق كثير، والأمثلة كثيرة في سيرته صلى الله عليه وسلم. كل الأمور تزول عنك وتنقضي إلا الثناء فإنه لك باقي ولو أنني خيرت كل فضيلة ما اخترت غير محاسن الأخلاق ذكر لي أحد الإخوة: أن شباباً من العرب في إحدى الدول الغربية استأجروا غرفاً من عجوز غربية، فلما انتهت مدة الإيجار رفضوا التسديد، وهربوا بحجة أنها كافرة، وأنهم -أي الكفار- هم الذين نهبوا أموالنا كعرب. سبحان الله! بأي منطق وأي عقلية يتعامل أمثال هؤلاء؟ إنه الهوى والجهل بتعاليم وآداب هذا الدين، ألم يعقد العلماء أبواباً في كتب العقيدة والفقه في معاملة المسلم لغير المسلم؟ ومعاملة المحارب للمسلمين وغير المحارب؟! كيف نريد أن نفخر بالإسلام ونحن أول من جهل أحكامه وتخلى عن آدابه؟! قال محدثي: وكنت أرغب الإيجار من هذه العجوز فرفضت، خاصةً عندما علمت أنني مسلم، وقالت: أنتم أيها المسلمون لصوص، يقول: وسألتها عن سبب هذا الاتهام، فحدثتني بقصتها مع هؤلاء الشباب، قال: فحرصت على تغيير هذه الصورة عنا كمسلمين، وبعد محاولات وإغراءات وتعهدات بالدفع مقدماً، وافقت على تأجيري، ووافقت رغم ارتفاع السعر، وسكنت ولا زلت أقدم لها العون، وأظهر لها آداب الإسلام، وأجاهد نفسي على التحلي بالفضائل مع تذكيرها في بعض الأحيان بأن هذا من آداب الإسلام، وأن ديننا يحثنا على هذه الأخلاق. يقول: فلما حان رحيلي وعند لحظة الوداع، فإذا بها تقول لي ودمعتها على خدها: يا بني! وصيتي لك أن لا تموت إلا على هذا الدين. رحم الله علي بن أصمع لما حضرته الوفاة جمع بنيه، فقال: يا بني! عاشروا الناس معاشرةً، إن عشتم حنوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم. أيها الأخ! إنما الدنيا حديث، فإن استطعت أن تكون منها حديثاً حسناً فافعل، إننا بحاجة إلى من يجسدون مبادئ الإسلام في سلوكهم، ويترجمون فضائله وآدابه في حركاتهم وسكناتهم حتى مع الكفار. فمن أهم مظاهر علاقة المسلم بالكافر غير المحارب للمسلمين: كف الأذى والظلم، وعدم التعدي عليه وعلى حقوقه، والتزام مكارم الأخلاق معه من الصدق والأمانة، وغيرها من أخلاق الإسلام الحميدة، وجواز إيصال البر والمعروف إليه. ففي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب [أهدى حلةً له إلى أخ له مشرك بـ مكة كانت قد جاءته من النبي صلى الله عليه وسلم] . وفي البخاري -أيضاً- أن ابن عمر ذُبحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: (أهديتم لجارنا اليهودي؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) . وليس القصد هنا بيان تفصيل هذه المسألة، وإنما الإشارة لها لارتباطها بالأخلاق، لكن تنبه واحذر كل الحذر أن تختلط عليك الأمور، ففرق بين حسن المعاملة ومكارم الأخلاق والبر والإحسان للكافر غير المحارب، وبين الموالاة والمحبة والمودة له، أو تفضيله على أحد من المسلمين، أو مجاملته على حساب دينك وعقيدتك، كتهنئتهم أو إهدائهم بمناسبة أعيادهم ونحو ذلك، فإن ذلك كله حرام لا يجوز، وضابط ذلك النصوص من الكتاب والسنة، وأقوال أئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين. فإنما عنيت بهذا الموضوع معاملة المسلم للمسلمين، أما معاملته للآخرين من أهل الملل والنحل فله أصوله وضوابطه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 7 الأخلاق تصنع الأعاجيب إن النفس أياً كانت ومهما بلغت من الانحلال والفساد والتجبر والعناد فإن فيها خيراً كثيراً قد لا تراه العيون أول الأمر، فقط شيء من العطف على أخطائهم، وشيء من الود الحقيقي لهم، وشيء من العناية بهم. لنحاول أيها الإخوة! تلمس الجانب الطيب في نفوسهم، ابدأهم بالسلام، ابتسم لهم، اثن على الخير الذي فيهم، وقبل ذلك كن صادقاً ومخلصاً غير متصنع ولا مجامل، عندها ستتفجر ينابيع الخير في نفوسهم، وسيمنحوك حبهم وثقتهم مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك، ولقد جُرِّب ذلك كثيراً. أذكر أنني قابلت أحد هؤلاء، فسلمت وابتسمت وأثنيت على صفة طيبة فيه، وأنا صادق، فلن يعدم إنسان مزية حسنة تكون مفتاحاً لقلبه، فانكشف لي قلب لين رقيق سرعان ما سالت دمعات على وجه تلطخ بسواد المعصية والشهوة، وكان قد شكا جفاء بعض الناصحين وتعجلهم عليه. أيها الإخوة! كم نخطئ عندما نحكم على الآخرين بمجرد النظر للظاهر. فهذا عمرو بن العاص يحدث عن نفسه فيقول: [لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله مني، ولا أحب إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته] وبعد أن أسلم وعرفه عن قرب، انقلب الحال فقال: [وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه] كما في صحيح مسلم. إننا نظلم أنفسنا ونظلم الآخرين عندما نحقد على هؤلاء ونتخوف منهم، والحل هو: أن تنمو في نفوسنا بذرة الحب والعطف على الآخرين، والصبر عليهم، وباختصار: إنها الأخلاق وفن التعامل مع الناس. يا أهل القرآن! ألم نقرأ في القرآن قول الحق عز وجل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] ؟ ألم نقرأ قول الحق: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] ؟ في الآية الأولى: (قولٌ حسن) وفي الثانية: (أحسن) فأين نحن من قول الحسن فضلاً عن قول أحسن الحسن ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) كما في صحيح مسلم؟! فإن كانت الرحمة والإحسان تصل إلى هذه الدرجة من الرفق، وحسن التعامل حتى مع الحيوان، فكيف بالرحمة والإحسان مع بني الإنسان؟ قال أحد الإخوة: في موسم للأمطار وأنا على سيارتي مررت بغدير ماء لم أنتبه له، فتراشقت المياه على الجانبين، كان النصيب الأكبر منها لشباب جلسوا على عتبة أحد الأبواب، ويا ليت شعري لو رأيت حالهم وقد تبدلت، فالثياب البيضاء كأنها سوداء، والشعرات السوداء خضبت بالطين والماء، فرجعت إليهم، يقول: ولم أنتبه إلا على أصوات السب واللعان، ومناداتي للرفس والطعان، يقول: فرجعت إليهم مسلماً معتذراً متأسفاً، فيا سبحان مقلب القلوب! تحول السب واللعان إلى ترحيب وسلام، ودعوة إلى الطعام، بل إلى إخاء ووئام. انتهى كلامه. فيا أيها الأحبة! أقول باختصار: إنها الأخلاق تصنع الأعاجيب، نخطئ كثيراً عندما نعتزل بعض الناس؛ لأننا نشعر أننا أطهر منهم روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أزكى منهم عقلاً. قال رجل لـ عبد الله بن المبارك: عظني، قال ابن المبارك: [إذا خرجت من منزلك، فلا يقعن بصرك على أحد إلا رأيت أنه خير منك] . (وليس معنى هذا أن نتخلى عن مبادئنا ومثلنا السامية، أو نتملق أو نجامل، لا. ولكنها الحكمة والموعظة الحسنة وفن التعامل مع الآخرين) . مقتبس من رسالة بعنوان أفراح الروح. أيها المحب! انظر لفن التعامل ومحاسن الأخلاق ماذا تفعل؟ هذا عكرمة بن أبي جهل ورث عداوة الإسلام عن أبيه، وقاتل المسلمين في كل موطن، وتصدى لهم يوم فتح مكة، ثم فر إلى اليمن، بعد أن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، فتأتي زوجه أم حكيم بعد إسلامها لرسول الله تطلب الأمان لزوجها فيقول لها -بأبي هو وأمي- صلى الله عليه وسلم: (هو آمن) ويقول لأصحابه: (يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً، فلا تسبوا أباه؛ فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت) فيأتي عكرمة بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيقول عكرمة: [أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، وأنت أبر الناس وأصدق الناس وأوفى الناس، أما والله يا رسول الله! لا أدع نفقةً كنت أنفقها في الصد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قاتلت قتالاً في الصد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله] . لمسة حانية من نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم نقلت ابن فرعون هذه الأمة إلى صف أولياء الرحمن، وجعلته يندم هذا الندم، ويعزم هذا العزم، ويتحول هذا التحول، إنها الأخلاق تصنع الأعاجيب! الجزء: 17 ¦ الصفحة: 8 همسة في أذن موظف أيها الموظف! أيّاً كان موقعك، وفي أي مكان كنت، إنك لم تجلس على هذا الكرسي الذي أنت عليه إلا من أجل خدمة الناس، وقضاء حوائجهم، وأداء الأمانة التي تحملتها. أفلا ترى أنك بحسن الاستقبال والابتسامة، وإظهار الاهتمام بالمراجع وحاجته، تملك قلوب الآخرين؟ حتى وإن لم تقض حاجتهم، وربما خرجوا من عندك بنفس راضية، ولسان يلهج بالثناء والدعاء، بل ربما أثنوا عليك ورفعوا ذكرك بكل مجلس، كل هذا وأنت لم تقض حاجتهم، بل ملكتهم بحسن الأخلاق، فكيف لو استطعت قضاء حاجتهم وتيسير أمرهم؟ أيها الحبيب! انظر للنتيجة التي وصلت إليها: كسبت القلوب، والذكر الحسن، وقبل ذلك كله كسبت رضا الله تعالى، ألم يقل صلى الله عليه وسلم: (وابتسامتك في وجه أخيك صدقة) ؟ ألم يقل صلى الله عليه وسلم: (والكلمة الطيبة صدقة) ؟ ألم يقل صلى الله عليه وسلم: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) ؟ ألم يقل صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) ؟ ألم يقل صلوات الله وسلامه عليه: (خير الناس أنفعهم للناس) ؟ إذاً: فأنت أيها الموظف! في عبادة وأنت على مكتبك، فقط استعن بالله وأخلص النية لله، واتصف بمكارم الأخلاق، واحرص على نفع الناس؛ ستجد التوفيق في الدنيا والآخرة، ذكر حسن وجميل وحب وتقدير، هذا في الدنيا، وأجر كبير من العليم الخبير في الآخرة، كل هذا من خلال عملك ووظيفتك -أجر وغنيمة- والموفق من وفقه الله. وربما قلت: الناس لا يرضيهم إلا تلبية رغباتهم، وتنفيذ ما يريدون، بل ربما قلت: إن ميزان الناس اليوم في الحكم على الآخرين هو مصالحهم الشخصية. فأقول لك: نعم. هذا هو واقع الحال، ونحن لا نبرئ أنفسنا، ولكن أخي الحبيب! هب أنك بذلت لهم ما استطعت وتخلقت معهم بأحسن الأخلاق ولم يرضوا عنك، أليس حسبك أن يرضى الله عنك؟ فإنه يعلم أنك قدمت وبذلت ما بوسعك إذاً فأجرك على الله، وإن لم يرض الناس فتذكر دائماً (أن من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس) . فاحرص على فضائل الأخلاق وفن التعامل مع الناس، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (خياركم أحاسنكم أخلاقاً) كما في البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو. يا من رزقه الله مكانةً ووجاهةً! اعلم أن زكاتها الشفاعة والإعانة للمحتاجين، على أن لا يبخس بها حق الآخرين، فإن الشفاعات من أعظم العبادات إذا قصد بها وجه الله عز وجل. كتب الحسن بن سهل لرجل كتاب شفاعة؛ فجعل الرجل يشكره، فقال الحسن: يا هذا علام تشكرنا؟ إنا نرى الشفاعات زكاة مروءتنا، ثم أنشد يقول: فرضت عليّ زكاة ما ملكت يدي وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا فإذا ملكت فجد فإن لم تستطع فاجهد بوسعك كله أن تنفعا الجزء: 17 ¦ الصفحة: 9 همسة في أذن المعلمين والمعلمات أيها المعلمون والمعلمات! (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها ليصلون على معلم الناس الخير) كما في الترمذي. (ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) كما في صحيح مسلم. وإني لأظنك أيها المعلم! وأنت أيتها المعلمة! من معلمي الناس الخير، وممن يدعوا إلى الهدى، فأنتم تجلسون الساعات بل الأيام والشهور والسنوات مع أولاد وبنات المسلمين، ولله در ابن المبارك وهو يقول: [نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم] وأفضل وأيسر وأحسن طريق عرفته في التعليم هو التواضع، وفن التعامل ومكارم الأخلاق مع الطلاب والطالبات، ولا يستطيعه إلا من رزقه الله الإخلاص بعلمه وتعليمه نسأل الله الكريم من فضله. احترام الطلاب والطالبات، وإشعارهم بالحب والاهتمام بمشاكلهم وهمومهم، والتجاوز عن أخطائهم، والابتسامة، والصبر، والرفق بالتوجيه مع قوة المادة العلمية، كلها من علامات الشخصية الناجحة للمعلم والمعلمة، أما الشدة وكتم الأنفاس، وشد الأعصاب، ورفض المناقشة، والتمسك بالرأي، وعدم التنازل عنه بحجة قوة الشخصية أمام الطلاب والطالبات، فهي أوهام لا تزيد الطين إلا بله (فإن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف) كما في صحيح مسلم. أيها المعلمون والمعلمات! رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) كما في صحيح مسلم. والقلوب التي تجلس أمامكم كل نهار مهما بلغت من الغفلة والقسوة فهي أحوج ما تكون إلى الرفق والعطف، فإن الرفق وحسن الأخلاق واللمسات الحانية والكلمات العذبة، مفاتيح عجيبة في التأثير والتوجيه، فكم عبرة أجهشتها، ودمعة أسالتها! ولكنه -وأقوله مرةً وثالثةً وعاشرةً- الإخلاص لله، فمن يؤتاه فقد أوتي خيراً كثيراً، فليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، واللبيب بالإشارة يفهم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 10 هل يمكننا تغيير الأخلاق؟! ربما قال البعض: لقد شببت على الشيء فلا أستطيع أن أغير أخلاقي، وهناك من يرى أن الأخلاق ثابتة في الإنسان لا تتغير، فهي غرائز فطر عليها، وطبائع جبل عليها، وهناك من يرى أنها تتغير فليس ذلك صعباً ولا مستحيلاً، والحق أن الأخلاق على نوعين: فمنها: ما هو غريزي فطري، ومنها: ما يكتسب بالممارسة والمجاهدة، ولو كانت الأخلاق لا تتغير؛ لبطلت الوصايا والمواعظ، ولما قال الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] ولما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرى الخير يعطه، ومن يتوقى الشر يوقه) . ومن نظر إلى الحيوان وحاله قبل التدريب وبعده، أدرك أن الأخلاق عند الإنسان سهلة التغيير لمن رزق الهمة والعزيمة، وحمل نفسه على مكارم الأخلاق وفضائلها. يقول ابن حزم رحمه الله متحدثاً عن تجربته مع نفسه: كانت فيَّ عيوب فلم أزل بالرياضة والاطلاع على مقالة الأنبياء صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وآداب النفس، أعاني مداواتها حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بالأمور هو الإقرار بها -أي: الإقرار بالعيوب- ليتعظ بذلك متعظ يوماً إن شاء الله. ثم أخذ رحمه الله يعدد بعض العيوب في نفسه، لولا خشية الإطالة لذكرتها لعظيم الفائدة، من أرادها فلينظر في كتابه: الأخلاق والسير في مداواة النفوس. قال: ومنها -أي: العيوب- حقد مفرط قدرت بعون الله تعالى على طيه وستره، وغلبته على إظهار جميع نتائجه، وأما قطعه ألبتة فلم أقدر عليه، وأعجزني أن أصادق من عاداني عداوة صحيحة أبداً. انتهى كلامه رحمه الله. ويقول أحد الإخوة: وقع في قلبي شيء عظيم على أحد إخواني لخير أعطاه الله إياه، فما زال الشيطان بي ونفسي الضعيفة، وكنت أهتم وأغتم وأكثر التفكير والخواطر خاصةً وأنني كنت متهيئاً لهذا الخير الذي آتاه الله أكثر منه. يقول: فما زلت مع نفسي أدفع الخواطر والأفكار الرديئة تارةً، وأؤنبها وألومها تارة، وأذكرها بفضل سلامة الصدر وتمني الخير للآخرين، وأني أحب لهم ما أحب لنفسي تارةً أخرى، وتارةً أذكرها بخطر الحسد وأضراره، وما زلت أستعين بالله وأدعوه حتى انتصرت على نفسي واستطعت ترويضها، وما زلت مع نفسي بكثير من هذه المواقف، حتى وجدت أنها اعتادت على سلامة الصدر وحسن الظن بالآخرين وتمني الخير لهم، عندها شعرت بسعادة ولذة عجيبة، وأقبلت على شئوني وأعمالي بقلب سليم، وفتح الله عليّ بأمور كثيرة فتحاً عجيباً ولله الحمد والمنة، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. انتهى كلامه. إذاً: فلا بد من رياضة النفس وتدريبها أيها الأحبة! وذلك بالمجاهدة والصبر وقوة الملاحظة والنظر في عواقب الأمور قبل الإقدام، وطلب النصح من الآخرين، ونحو ذلك مما يعين على تغيير الأخلاق والطبائع للأحسن، هداني الله وإياك لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا هو. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 11 سهام للصيد أي: صيد القلوب، أعني تلك الفضائل التي تُستَعطَف بها القلوب، وتستر بها العيوب، وتستقال بها العثرات، وهي صفات لها أثر سريع وفعال على القلوب، وإلا فإن فضائل ومكارم الأخلاق كثيرة. إليك أيها المحب! سهاماً سريعةً ما إن تطلقها حتى تملك بها القلوب، فاحرص عليها وجاهد نفسك على حسن التسديد للوصول للهدف، واستعن بالله. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 12 السهم الأول: الابتسامة قالوا هي كالملح في الطعام، وهي أسرع سهم تملك به القلوب، وهي مع ذلك عبادة وصدقة، (فتبسمك في وجه أخيك صدقة) كما في الترمذي، وقال عبد الله بن الحارث: [ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم] أخرجه أحمد والترمذي وقال: سند حسن. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 13 السهم الثاني: البدء بالسلام سهم يصيب سويداء القلب، ليقع فريسةً بين يديك، لكن أحسن التسديد ببسط الوجه والبشاشة، وحرارة اللقاء، وشد الكف على الكف، وهو أجر وغنيمة (فخيرهما الذي يبدأ بالسلام) . قال عمر الندي: [خرجت مع ابن عمر فما لقي صغيراً ولا كبيراً إلا سلم عليه] وقال الحسن البصري: [المصافحة تزيد في المودة] . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) كما في صحيح مسلم. وعند مالك في الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم قال: [تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء] قال ابن عبد البر: هذا يتصل من وجوه شتى حسان كلها. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 14 السهم الثالث: الهدية ولها تأثير عجيب! فهي تذهب بالسمع والبصر والقلب، وما يفعله الناس من تبادل الهدايا في المناسبات وغيرها أمر محمود، بل ومندوب إليه على أن لا يكلف نفسه إلا وسعها. قال إبراهيم بن محمد الزهري: خرجت لأبي جائزته فأمرني أن أكتب خاصته وأهل بيته، ففعلت، فقال لي: تذكر هل بقي أحد أغفلناه؟ قلت: لا. قال: بلى. رجل لقيني فسلم عليّ سلاماً جميلاً صفته كذا وكذا، اكتب له عشرة دنانير. انتهى كلامه. انظروا! أثر فيه السلام الجميل فأراد أن يرد عليه بهدية ويكافئه على ذلك. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 15 السهم الرابع: الصمت وقلة الكلام إلا فيما ينفع وإياك وارتفاع الصوت وكثرة الكلام في المجالس، وإياك وتسيد المجالس، وعليك بطيب الكلام ورقة العبارة (فالكلمة الطيبة صدقة) كما في الصحيحين، ولها تأثير عجيب في كسب القلوب والتأثير عليها حتى مع الأعداء، فضلاً عن إخوانك وبني دينك! فهذه عائشة رضي الله تعالى عنها قالت لليهود: (وعليكم السام واللعنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله) والحديث متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك بحسن الخلق، وطول الصمت؛ فوالذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما) أخرجه أبو يعلى والبزار وغيرهما. قد يخزن الورع التقي لسانه حذر الكلام وإنه لمفوه الجزء: 17 ¦ الصفحة: 16 السهم الخامس: حسن الاستماع وأدب الإنصات وعدم مقاطعة المتحدث فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو الذي يقطعه، ومن جاهد نفسه على هذا؛ أحبه الناس وأعجبوا به، بعكس الآخر كثير الثرثرة والمقاطعة، واسمع لهذا الخلق العجيب عن عطاء قال: [إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه وقد سمعته قبل أن يولد] . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 17 السهم السادس: حسن السمت وجمال الشكل واللباس وطيب الرائحة فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله جميل يحب الجمال) كما في مسلم. وعمر بن الخطاب يقول: [إنه ليعجبني الشاب الناسك نظيف الثوب طيب الريح] . وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: إني ما رأيت أحداً أنظف ثوباً، ولا أشد تعهداً لنفسه وشاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوباً وأشده بياضاً من أحمد بن حنبل. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 18 السهم السابع: بذل المعروف وقضاء الحوائج سهم تملك به القلوب، وله تأثير عجيب صوره الشاعر بقوله: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان بل تملك به محبة الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس) والله عز وجل يقول: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] . إذا أنت صاحبت الرجال فكن فتى كأنك مملوك لكل رفيق وكن مثل طعم الماء عذباً وبارداً على الكبد الحرى لكل صديق أيها الإخوة والأخوات! عجبت لمن يشتري المماليك بماله كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه، ومن انتشر إحسانه كثر أعوانه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 19 السهم الثامن: بذل المال فإن لكل قلب مفتاح، والمال مفتاح لكثير من القلوب، خاصة في مثل هذا الزمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه؛ خشية أن يكبه الله في النار) كما في صحيح البخاري. صفوان بن أمية فر يوم فتح مكة خوفاً من المسلمين، بعد أن استنفذ كل جهوده في الصد عن الإسلام، والكيد والتآمر لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعطيه الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان ويرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه أن يمهله شهرين للدخول في الإسلام، فقال له الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل لك تسير أربعة أشهر) وخرج مع رسول الله إلى حنين والطائف كافراً، وبعد حصار الطائف وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في الغنائم رأى صفوان يطيل النظر إلى واد قد امتلأ نعماً وشاءً ورعاءً، فجعل عليه الصلاة والسلام يرمقه ثم قال له: (أيعجبك هذا يا أبا وهب؟ قال: نعم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هو لك وما فيه) فقال صفوان عندها: [ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله] . أيها الأحبة! لقد استطاع الحبيب صلى الله عليه وسلم بهذه اللمسات، وهذا التعامل العجيب أن يصل لهذا القلب بعد أن عرف مفتاحه، فلماذا هذا الشح والبخل؟ ولماذا هذا الإمساك العجيب عند البعض من الناس؟ حتى كأنه يرى الفقر أمام عينيه كلما هم بالجود والكرم والإنفاق. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 20 السهم التاسع: إحسان الظن بالآخرين والاعتذار لهم فما وجدت طريقاً أيسر وأفضل للوصول إلى القلوب منه، فأحسن الظن بمن حولك، وإياك وسوء الظن بهم، وأن تجعل عينيك مرصداً لحركاتهم وسكناتهم، فتحلل بعقلك التصرفات ويذهب بك كل مذهب، واسمع لقول المتنبي: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم عوّد نفسك على الاعتذار لإخوانك جهدك، فقد قال ابن المبارك: [المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم] ومن علامات شقاء الأمة: أن تشغل بنفسها عن أعدائها. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 21 السهم العاشر: أعلن المحبة والمودة للآخرين فإذا أحببت أحداً، أو كانت له منزلةً خاصةً في نفسك فأخبره بذلك، فإنه سهم يصيب القلب ويأسر النفس، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته بمنزله فليخبره أنه يحبه) كما في صحيح الجامع، وزاد في رواية مرسلة: (فإنه أبقى في الألفة وأثبت للمودة) . لكن شرط المحبة: أن تكون لله، وليس لغرض من أغراض الدنيا كالمنصب والمال، والشهرة والوسامة والجمال، فكل أخوة لغير الله هباء، وهي يوم القيامة عداء {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] و (المرء مع من أحب) كما قال صلى الله عليه وسلم، يعني: يوم القيامة. إذاً: فإعلان المحبة والمودة من أعظم الطرق للتأثير على القلوب، فإما مجتمع مليء بالحب والإخاء والائتلاف، أو مجتمع مليء بالفرقة والتناحر والاختلاف، لذلك حرص صلى الله عليه وسلم على تكوين مجتمع متحاب، فآخى بين المهاجرين والأنصار، حتى عرف أن فلاناً صاحب فلان، وبلغ ذلك الحب أن يوضع المتآخيين في قبر واحد بعد استشهادهما في إحدى الغزوات، بل أكد صلى الله عليه وسلم على وسائل نشر هذه المحبة، ومن ذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) كما في صحيح مسلم. أيها الإخوة! إن المشاعر والعواطف والأحاسيس الناس منها على طرفي نقيض -وللأسف- فهناك من يتعامل مع إخوانه بأسلوب عقلي جامد جاف مجرد من المشاعر والعواطف، وهناك من يتعامل معهم بأسلوب عاطفي حساس رقيق ربما وصل لدرجة العشق والإعجاب، والتعلق بالأشخاص. والموازنة بين العقل والعاطفة يختلف بحسب الأحوال والأشخاص، وهو مطلب لا يستطيعه كل أحد لكنه فضل الله يؤتيه من يشاء. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 22 السهم الحادي عشر والأخير: المداراة فهل تحسن فن المداراة؟ وهل تعرف الفرق بين المداراة والمداهنة؟ روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها (أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل، قالت له عائشة: يا رسول الله! حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! متى عهدتني فاحشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة؛ من تركه الناس اتقاء فحشه) . قال ابن حجر في الفتح: وهذا الحديث أصل في المداراة. ونقل قول القرطبي: والفرق بين المداراة والمداهنة: أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معاً، وهي مباحة وربما استحبت، والمداهنة: ترك الدين لصلاح الدنيا. إذاً: فالمداراة لين الكلام والبشاشة للفساق وأهل الفحش والبذاءة: أولاً: اتقاءً لفحشهم. وثانياً: لعل في مداراتهم كسباً لهدايتهم، بشرط عدم المجاملة في الدين، وإنما في أمور الدنيا فقط، وإلا انتقلت من المداراة إلى المداهنة. فهل تحسن فن المداراة بعد ذلك؟ كالتلطف والاعتذار، والبشاشة، والثناء على الرجل بما هو فيه لمصلحة شرعية، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مداراة الناس صدقة) أخرجه الطبراني وابن السني من حديث جابر وصححه ابن حبان. وقال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة. انتهى كلامه رحمه الله. إذاً: هذه أسهم للصيد، فأحسن التسديد، وهي على سبيل المثال، وذكرت منها ما أشرت إليه آنفاً وإلا فهي كثيرة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 23 الازدواجية في الأخلاق لقد شكا الكثير من التقلب والمزاجية، والازدواج في الشخصية، وهو ما يعيشه بعض الناس اليوم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 24 الازدواجية في الأخلاق داخل البيت وخارجه فمثلاً: الزوجة المسكينة تسمع عن أخلاق زوجها، وسعة صدره وابتسامته وكرمه، ولكنها لم تر من ذلك شيئاً، فهو في بيته سيئ الخلق، ضيق الصدر، عابس الوجه، صخاب لعان، بخيل ومنان، أين هذا وأمثاله من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) كما عند ابن ماجه وابن حبان والحاكم. وأين هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم) كما عند الترمذي وابن حبان بسند صحيح؟! قال سلمة بن دينار: السيئ الخلق أشقى الناس به نفسه التي بين جنبيه، هي منه في بلاء، ثم زوجته، ثم ولده، حتى إنه ليدخل بيته وإنهم لفي سرور، فيسمعون صوته فينفرون منه فرقاً -أي: خوفاً منه- حتى إن دابته تحيد مما يرميها بالحجارة، وإن كلبه ليراه فينزو على الجدار، حتى إن قطه ليفر منه. انتهى كلامه. وقل مثل ذلك مع الوالدين، فكم أولئك الذين نسمع عن حسن أخلاقهم وكرمهم وابتسامتهم وجميل معاشرتهم للآخرين، أما مع أقرب الناس إليهم وأعظم الناس حقاً عليهم، الوالدين، فجفاء وهجر وبعد، ويكفي بلاغةً وقوةً ورقةً، قول الحق عز وجل: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] ومن نظر لحالنا مع آبائنا وأمهاتنا، علم ضعف إيماننا وتقصيرنا بأعظم الحقوق علينا بعد توحيد الله، والله المستعان. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 25 الازدواجية في أخلاق المرأة بين جمال الداخل والخارج ومن الازدواجية -أيضاً- ربما ترى المرأة متعلمةً مثقفةً جميلةً أنيقة، بل ربما حرصت على صفاء وجهها وبياض أسنانها، وتبذل الغالي والنفيس من أجل جمالها وأناقتها، فإذا عرفتها عن قرب وعاشرتها، فإذا هي سيئة الأخلاق سريعة الغضب، تتذمر وتتسخط، ترفع صوتها على زوجها، وتعبس في وجه أختها، آه لو حرصت النساء على أخلاقهن كحرصهن على جمالهن. فليس الجمال بأثواب تزيننا بل الجمال جمال العلم والأدب اعلمي أخيتي في الله! أن الجمال الحقيقي هو: جمال الأخلاق والأدب، فأف ثم تف لجمال اللباس والشكل مع قلة الحياء، والتكشف والعري، وضياع القيم والمبادئ. مررت على المروءة وهي تبكي فقلت علام تنتحب الفتاة فقالت: كيف لا أبكي وأهلي جميعاً دون خلق الله ماتوا أيتها الأخت! إن الله جعل للإنسان عورتين، عورة الجسم، وعورة النفس، وجعل للأولى ستراً هو: اللباس، وللثانية ستراً هو: الأخلاق، ونبه على الأهم وهو الثاني؛ لأن لباس الإنسان لا يغني عن أخلاقه ألبتة، فقال عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] . أخيتي! إن المرأة العاقلة: إذا نطقت جاءت بكل ملاحة وإن سكتت جاءت بكل مليح فاتقي الله أيتها المرأة! واستري عورة النفس بلباس التقوى، والحياء، ومكارم الأخلاق. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 26 الازدواجية في الأخلاق والمعاملات ومن الازدواجية في الأخلاق: ما نراه من بعض الناس من حسن الكلام، وسعة الصدر، والابتسامة، فإذا جاء البيع والشراء والتعامل بالدينار والدرهم تراه مماطلاً مماكساً، يجادل ويخاصم، وربما ضاعت وتلاشت معاني الأخوة وحقوقها. وقيل لـ محمد بن الحسن ألا تصنف كتاباً في الزهد قال: صنفت كتاباً في البيوع. يعني رحمه الله: أن الزاهد هو من يتحرز عن الشبهات والمكروهات في التجارات وفي سائر المعاملات، وهذا من فقه وذكاء محمد رحمة الله تعالى عليه. ويروى أن مسروقاً كان عليه دين ثقيل، وكان على أخيه خيثمة دين، فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم. وقال مطرف بن عبد الله لبعض إخوانه: يا أبا فلان! إذا كانت لك حاجة فلا تكلمني، واكتبها في رقعة، فإني أكره أن أرى في وجهك ذل السؤال. إذا أعسرت لم يعلم رفيقي وأستغني فيستغني صديقي حيائي حافظ لي ماء وجهي ورقي في مطالبتي رفيقي ولو أني سمحت بماء وجهي لكنت إلى العلا سهل الطريق عن رباح بن الجراح قال: جاء فتح الموصلي إلى منزل صديق له يقال له: عيسى التمار، فلم يجده في المنزل، فقال للخادم: أخرجي لي كيس أخي، فأخرجته، ففتحه فأخذ منه درهمين، وجاء عيسى فأخبرته الخادمة، فقال: إن كنت صادقةً فأنت حرة، فنظر فإذا هي صادقة فعتقت. وعن جميل بن مرة قال: مستنا حاجة شديدة، فكان مورق العجلي يأتينا بالصرة فيقول: أمسكوا هذه لي عندكم، ثم يمضي غير بعيد، فيقول: إن احتجتم إليها فأنفقوها. وقال سفيان بن عيينة: [سمعت مساوراً الوراق يقول: ما كنت لأقول لرجل إني أحبك في الله فأمنعه شيئاً من الدنيا] . مواقف أغرب من الخيال، لكنها مكارم الأخلاق عند سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم، وصدق الأخوّة والمحبة في الله، نسأل الله الكريم من فضله، ونسأل الله عز وجل حسن التأسي بهم رضوان الله عليهم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 27 الازدواجية في الأخلاق بين حسن المظهر ووحشة المخبر ومن مظاهر الازدواجية -أيضاً-: أن ترى بعض الشباب يعجبك حسن مظهره، ويجذبك سحر عطره، وتصفيف شعره، ولولا الحياء لأطنبت في الوصف مما يرى ويشاهد على بعض شبابنا هذه الأيام من حرص على المظاهر والأشكال، ومع ذلك انحراف في السلوك والأخلاق، فلا مانع لديه أن يكذب، وأن يلعن ويشتم، وربما يزني ويسرق، أو يغش ويخدع، لا مانع لديه أن يتخلى عن دينه وأخلاقه من أجل شهوة، فأفسد المسكين جمال الظاهر وجمال الباطن. أيها الشاب! ليس الإنسان إنساناً بجسمه وصورته، لا والله! ولا بثيابه ومظهره! بل هو إنسان بروحه وعقله وخلُقه. يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان أيها الشاب! هل ينفع الفتيان حسن وجوههم إذا كانت الأخلاق غير حسان؟ إن في قلبك فطرة الخير ففتش عنها وأشعل جذوة الخير فيها. أيها الشاب! إن من تمام سعادتنا أن نتمتع بمباهج الحياة وشهواتها، لكن في حدود الشرع: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [القصص:77] . أيها الشاب! فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا وتجمل بمكارم الأخلاق والآداب فإنها زينة الرجال. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 28 الازدواجية في الأخلاق عند بعض الصالحين ومن الازدواجية في الأخلاق -أيضاً-: أولئك الذين نرى عليهم آثار الصلاح وسيما الخير، ثم نراهم في أفعالهم وتصرفاتهم يناقضون تلك السمات والآثار، حتى أصبحوا فتنةً لغيرهم، فأنت لا تسيء لنفسك فقط، بل لنفسك ولغيرك، وربما لدينك، فإن من يرى سوء الأخلاق منك فسيقول: هذه أخلاق الصالحين، وهذا هو الالتزام الذي يذكرون، فعلى هذا وأمثاله أن يراجعوا صلاحهم، فقد لا يكون لهم من الصلاح إلا الاسم والرسم. مدحوا عند الفضيل بن عياض رجلاً وقالوا: إنه لا يأكل الخبيص، فقال رحمه الله: [وما ترك أكل الخبيص؟ انظروا كيف صلته للرحم، انظروا كيف كظمه للغيظ، انظروا كيف عطفه على الجار والأرملة واليتيم، انظروا كيف حسن خلقه مع إخوانه] انتهى كلامه. قل لي بربك أيها القدوة! هل الاستقامة مظهر فقط؟ أم هي حسن تعامل مع فئة من الناس فقط؟ أم أنها سلوك منك وحسن تعامل مع الناس في كل شيء وفي جميع الأحوال؟ ففي الحديث الصحيح: (أعظم ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق) أخرجه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: صحيح غريب. قال ابن القيم في الفوائد: جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق في هذا الحديث؛ لأن تقوى الله يصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته. انتهى كلامه رحمه الله. ويجب التنبه هنا لأمر مهم، اختلط على كثير من الناس إما جهلاً وهو الغالب، أو بقصد من قلب فيه دخن ودغل، وهو قليل جداً إن شاء الله. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 29 وقفة للنظر في الازدواجية أيها الإخوة! إن تخلى المسلمون عن أخلاقهم ومبادئ عقيدتهم فليس معنى هذا أن نتهم الإسلام، أو نتردد بالالتزام بتعاليمه وشرائعه، وإلا فما معنى أن يحكم أناس مسلمون على الإسلام وعلى أهل الصدق منه بالغلو والتطرف، والغلظة والفظاظة، وسوء الخلق، لمجرد أن منتسباً للإسلام أخطأ في تصرفه، أو قوله، أو تلبس لباس الصادقين من المسلمين؟ إن من أشنع أنواع الظلم أن يؤاخذ الإنسان بخطأ غيره فإن الله عز وجل يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] . أين الإنصاف؟ وأين العدل؟ والله عز وجل يقول: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] . لماذا نتسرع بالحكم على الجميع ونعمم الأخطاء لمجرد أخطاء فردية؟! أين هؤلاء الشانئون عن مئات وآلاف من المسلمين والمسلمات ممن نَبُلت أخلاقهم، وعزت نفوسهم؟! إنني أعرف وتعرف، وأسمع وتسمع، وأرى وترى أعداداً ليست بالقليلة، ممن ملكوا القلوب بجمال ألفاظهم، وأسروا النفوس بحسن أفعالهم، قلوب صافية، وأيد حانية، وألسن عفيفة، علم وعمل، وحب للدين والوطن، فلماذا لا يذكر هؤلاء ويشهر أمرهم ويتحدث عن نبلهم؟ لماذا ننظر بعين واحدة ونقع على الجروح فقط؟ انظر لنفسك أيها الأخ الحبيب! أيها الشاب! وأنت تشكو من هؤلاء، ألست مسلماً؟ أو لست تخطئ؟ ألست تزل؟ فلربما شكا منك الناس، فأنت تشكو وأنت تُشكى، ولكن ما أجمل أن يعذر بعضنا بعضاً، وأن نعفو عن الزلات ونستر السيئات، ونشهر الحسنات، تناصح وتغافر يطفئ نار الفرقة والاختلاف. عامل الناس جميعاً على أنهم بشر يصيبون ويخطئون، غض الطرف وتغافل واصبر. ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي ولك أن تسرح بخيالك لترى المجتمع وهو يعيش بهذه المعاني الجميلة، فهي من أعظم مكارم الأخلاق، فإن أبيت فاتهم ذلك الشخص ولا تعمم واتق الله! فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 30 أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق بأن تشعر الجميع أنك تحبهم، بل كل واحد يشعر أنه أحب الناس إلى قلبك، فهل تستطيع هذا؟! إنك تملك القلوب بأيسر الطرق وأفضلها، هكذا كانت أخلاق قدوتنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم. فعن عمرو بن العاص قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه عليّ، حتى ظننت أني خير القوم، فقلت: يا رسول الله! أنا خير أو أبو بكر؟ فقال: أبو بكر، فقلت: يا رسول الله! أنا خير أم عمر؟ فقال: عمر، فقلت: يا رسول الله! أنا خير أم عثمان؟ فقال: عثمان، فقال عمرو بن العاص: فلما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقني، فلوددت أني لم أكن سألته) كما في الشمائل للترمذي. إذاً: فـ عمرو بن العاص، ظن أنه أحب وأقرب الناس لقلب رسول صلى الله عليه وسلم. أخي الحبيب! لعلك تسأل كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم كسب القلوب إلى هذا الحد، بل كسب حتى قلوب أعدائه. إليك شيئاً من شمائله وأخلاقه بإيجاز، رزقني الله وإياك حسن الاقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم. كان أشد الناس حياءً، لا يثبت بصره في وجه أحد، ولا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذرين إليه، يمزح ولا يقول إلا حقاً، يضحك من غير قهقهة، ترفع الأصوات عليه فيصبر، لا يحتقر مسكيناً لفقره، ما ضرب بيده أحداً قط إلا في سبيل الله، وما انتقم من شيء صنع إليه قط إلا أن تنتهك حرمة الله، ما كان يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، يبدأ من لقيه بالسلام، وكان إذا لقي أحداً من أصحابه بدأه بالمصافحة، ثم أخذ بيده فشابكه ثم شد قبضته عليها، كان يجلس حيث انتهى به المجلس، وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه ليجلس عليه، كان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته، فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل، وكان يعطي كل من جلس إليه نصيبه من وجهه وسمعه وبصره وحديثه، وكان يدعو أصحابه بكناهم إكراماً لهم واستمالةً لقلوبهم، وكان أبعد الناس غضباً وأسرعهم رضاً، كان أرأف الناس بالناس، وخير الناس للناس. فعن أنس رضي الله عنه أن امرأةً جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: (إن لي إليك حاجة، فقال: اجلسي في أي طريق المدينة شئت أجلس إليك) متفق عليه. وبكلمة جامعة مانعة كان خلقه القرآن، ولذلك أثنى الله عليه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] . إذاً: فمن أراد أن يرى هدي هذا الدين واقعاً يعاش فلينظر في سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وليدرسها دراسة فهم وتدبر -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- يكفي أن كل أحد يقول يوم القيامة: نفسي نفسي، وهو يقول: (أمتي أمتي) . يا من يذكرني بعهد أحبتي طاب الحديث بذكرهم ويطيب أعد الحديث عليّ من جنباته إن الحديث عن الحبيب حبيب ملأ الضلوع وفاض عن أجنابها قلب إذا ذكر الحبيب يذوب ما زال يخفق ضاربا بجناحه يا ليت شعري هل تطير قلوب الجزء: 17 ¦ الصفحة: 31 خلاصة الدرس أولاً: ليس مراد المسلم الصادق من حسن تعامله وأخلاقه والإحسان للناس هو كسب القلوب أو رضا المخلوقين، أو انتزاع صيحات الإعجاب والمدح والثناء منهم، فمن القبيح أن نتحلى بالأخلاق من أجل كسب القلوب فقط، فلا يظن ظان عند سماعه لعنوان الدرس هذا الظن، بل هدفنا دائماً هو رضا الله، والله هو الذي أنزل القرآن وأرسل الوحي اللذان منهما نستمد الأخلاق والآداب، ومن أرضى الله، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، فتقدير الناس وحبهم له حاصل بحرصه على رضا الله وإخلاص الأمر له، وقليلٌ أولئك الذين يحرصون على كسب القلوب لنشر المحبة والإخاء وجمعها على حب الله، وكثير أولئك الذين يحرصون على كسب القلوب، ومودة الآخرين من أجل مصالح الدنيا والشفاعات وتسهيل المهام، وهذا النوع من الكسب تبتذل فيه النفوس، ويذبح الحياء، وربما يباع الدين بالدنيا من أجله، نعوذ بالله من حال هؤلاء. ثانياً: إن لم تكن الأخلاق أصيلةً في نفسك، فلتحرص على اكتسابها والتحلي بها وتداوم على تزكية النفس وتهذيبها، ولا تتصنع الأخلاق أبداً، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وإن نجحت مرةً أو مرتين فسرعان ما تسفر الأحداث والمواقف عن زيوف النفس وتصنعها، وما تخفيه من نوايا ومآرب وأغراض. أما بحثنا عن طريق القلوب فمن أجل علام الغيوب من عفو وصفح ونفع، وصبر وطلاقة وجه، وطيب كلام، ليصبح البعيد قريباً والعدو صديقاً، فيحبك الناس، ومن أحبه الناس ملك قلوبهم وأثر في أفعالهم، وإلا فكيف نريد أن يقبل الناس منا وفي قلوبهم لنا جفوة وفي نفوسهم نفرة؟ أيها الإخوة والأخوات! لا يمكننا التأثير على نفوس الناس أبداً وكسب قلوبهم، إلا بتلمس الخير فيهم، والحرص على مكارم الأخلاق معهم. إذاً: لنملك القلوب لتحبنا القلوب، وحينها سترون النتيجة والتأثير، فإن من أحبه الناس ملك قلوبهم، وليس معنى هذا أن نترك النصح للآخرين والإنكار عليهم، ولا أن نجاملهم في معاصيهم وأخطائهم. معاشر الإخوة! اسمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق) . قال ابن حجر: أخرجه البزار بسند حسن من حديث أبي هريرة رفعه. انتهى كلامه. قد لا يستطيع أحدنا أن يملك قلوب الناس بماله ولا بجاهه، وإن تملق الناس له وتصنعوا، فربما أن قلوبهم تمقته، بينما أنت يا صاحب الأخلاق! تملك الناس بحسن الأخلاق، يحبك الناس، ويرفعونك ويقدرونك، فقط: (وخالق الناس بخلق حسن) كما وصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل. قال ابن المبارك: [والخلق الحسن هو: بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى] . وقال الإمام أحمد: الخلق الحسن أن لا تغضب ولا تحقد. وقيل: حسن الخلق: بذل الندى، وكف الأذى، واحتمال الأذى. وقيل: هو بذل الجميل، وكف القبيح. وقيل: هو التخلي عن الرذائل، والتحلي بالفضائل. ويكفي في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البر: حسن الخلق) كما في صحيح مسلم. قال ابن القيم رحمه الله: وهذا يدل على أن حسن الخلق هو الدين كله، وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، ولهذا قابله بالإثم في الحديث. انتهى كلامه. ثالثاً: لا تغتر بحسن أخلاقك في الرخاء، بل جرب نفسك في أوقات الشدة والغضب، وكل الأحوال التي يحتاج فيها للأخلاق فعلاً، فالإيثار عند قلة الزاد، والحلم عند الغضب، والعفو عند المقدرة، أما في الرخاء فلا فخر ولا فضل. رابعاً: انظر للناس فما كرهته فيهم من أخلاق فابتعد عنه، فإنهم يكرهون منك ما تكرهه منهم. خامساً: اسأل نفسك، هل أنت كالنحلة لا تقع إلا على الورود والأزهار، أم أنت كالذباب لا يقع إلا على الأوساخ والأقذار؟! سادساً: مدار الموضوع كله في آية في كتاب الله تعالى، وهي قاعدة في فن التعامل والإحسان للخلق، هي قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] لكن هل كل أحد يوفق لهذا؟ لا. فإن الله تعالى يقول: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] وقد جمع الله مكارم الأخلاق في آية أخرى، فقال: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] . سابعاً: الأخلاق الإسلامية معك في كل زمان ومكان، مع ربك، ومع الناس، وفي بيتك، وفي عملك، وفي البيع والشراء، وفي الجلوة والخلوة، مع الكبير والصغير، والرئيس والمرءوس، فهي أصيلة في نفسك في كل الأحوال، ومع كل الأشخاص، وفي كل مكان. ثامناً: أركان حسن الخلق أربعة: الصبر والعفة والشجاعة والعدل. وسوء الخلق أركانه أربعة: الجهل والظلم والشهوة والغضب. تاسعاً: ونحن نطالب الناس بمكارم الأخلاق، لا ننسى أنهم بشر، ومهما جهدوا فلا بد من الهنات والغفلات، فلا نطالب بالمثاليات، خاصة في مثل هذه الأوقات، ولكن انظر إلى نفسك وعامل الناس كما تحب أن يعاملوك. عاشراً وأخيراً: يقول ابن المقفع في الأدب الصغير هذه الجملة الجميلة: وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساوئها في الدين وفي الأخلاق وفي الآداب، فيجمع ذلك كله في صدره أو في كتاب، ثم يكثر عرضه على نفسه ويكلفها إصلاحه، ويوظف ذلك عليها توظيفاً من إصلاح الخلة والخلتين والخلال، في اليوم أو الجمعة أو الشهر، فكلما أصلح شيئاً محاه، وكلما نظر إلى محو استبشر، وكلما نظر إلى ثابت اكتأب. انتهى كلامه رحمه الله. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. اللهم إنك ترى مكاننا وتسمع كلامنا وتعلم سرنا وعلانيتنا، ولا يخفى عليك شيء من أمرنا، نحن البؤساء الفقراء المستغيثون المستجيرون، والوجلون المشفقون، المقرون المعترفون، نسألك مسألة المساكين، ونبتهل إليك ابتهال المذنبين، وندعوك دعاء الخائفين، دعاء من خشعت لك رقابهم، وذلت لك أجسادهم، وفاضت لك عيونهم، ورغمت لك أنوفهم. اللهم أصلح فساد قلوبنا، وارحم ضعفنا، وحسن أخلاقنا، اللهم إنا لأنفسنا ظالمون، ومن كثرة ذنوبنا خائفون، ولا يغفر الذنوب إلا أنت يا أرحم الراحمين، فاغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 32 تعال نتعاتب العتاب مخاطبة ومذاكرة وحل، وهو طلب المسيء الرجوع عن إساءته، وهو مخاطبة الأخلاء بعضهم بعضاً، طالبين حسن مراجعتهم، ومذاكرة ما كرهوه، وإذا تعاتب الصديقان أصلح ما بينهم العتاب، وإنما يعاتب من ترجى عنده العتبى، أي: الرجوع عن الذنب والإساءة. والعتاب وارد في القرآن والسنة، وله شروط وأسباب مبينة في هذه المادة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 1 المقصود بالمعاتبة ومعنى العتاب إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أحبتي في الله! أهلاً وسهلاً بأهل هذه البلدة الصالح أهلها، ولا نعلم والله عنكم إلا خيراً، وقد ملكتم قلوبنا بحسن أخلاقكم، وسخاء أنفسكم، وطيب قلوبكم، هذه ظواهركم والله تعالى يتولى السرائر. أيها الأحبة! في ليلة الجمعة من الشهر السابع لعام (1414هـ) وفي مدينة المذنب في جامع الجمل، نستمع وإياكم إلى هذه المحاضرة والتي هي بعنوان: تعال نتعاتب. وكما سمعت من الإخوة كثير يسأل عن هذا العنوان؟ وماذا نقصد بالتعاتب؟ بارك الله فيكم، وجزاكم عني خيراً عندما أجبتم دعوتي بقولي: (تعال) ، وهأنا أرى وجوهاً منيرة طيبة أسأل الله أن يجمعني وإياها في جنات النعيم. الموضوع ينقسم إلى قسمين اثنين: أما القسم الأول: فهو العتاب معناه وشرعيته وشروطه وأسبابه، وسيكون على سبيل الاختصار والإيجاز؛ حتى يتبين أولئك الذين يستفسرون عن معنى العتاب؟ وماذا أقصد بهذا الموضوع؟ والقسم الثاني: وهو المقصود في هذه المحاضرة، وهو عبارة عن: صور ومواقف للحوارات بيني وبين صاحب لي، وستعلمونها إن شاء الله. أما العتاب معناه: فالعتاب والمعاتبة إذا ذكر كل واحد منهما صاحبه ما فرط منه إليه من الإساءة، وقال الخليل: العتاب مخاطبة إدلال، ومذاكرة وحل، والاستعتاب: طلبك إلى المسيء الرجوع عن إساءته، والتعتب والمعاتبة والعتاب، كل ذلك مخاطبة الأخلاء بعضهم بعضاً، طالبين حسن مراجعتهم، ومذاكرة ما كرهوه. والعتب هو: الرجل الذي يعاتب صاحبه أو صديقه في كل شيء إشفاقاً عليه ونصيحةً له، ويقال: إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب، وإنما يعاتب من ترجى عنده العتبى، أي: الرجوع عن الذنب والإساءة، وهذا هو حسبنا فيكم أيها الأحبة! وفي كل من يسمع هذا الكلام. وقد قال الحق سبحانه وتعالى عن أهل النار: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنْ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24] . وقد ورد هذا اللفظ (العتاب) بتصاريفه في القرآن في أكثر من آية، ورد في هذه الآية في سورة فصلت وكرر فيها -أيضاً-، وورد في سورة النحل والروم والجاثية، وقد قال ابن كثير عن هذه الآية {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنْ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24] قال: وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا -والآية تتكلم عن أهل النار- أعذاراً فما لهم أعذار، ولا تقال لهم عثرات، والعياذ بالله. قال البخاري في صحيحه في كتاب الأدب (باب من لم يواجه الناس بالعتاب) أي: حياءً منهم، ثم ذكر بعد ذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فرخص فيه فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ثم قال-انظر العتاب-: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فو الله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشيةً) وكان من عادة رسول صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يعاتب بعض أصحابه قال: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) . وأيضاً أخرج البخاري في كتاب الأدب (باب ما ينهى عن السباب واللعن) من حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سباباً ولا لعاناً ولا فحاشاً، وكان يقول عند المعاتبة -إذاً المعاتبة واردة هنا منه صلى الله عليه وآله وسلم- وكان يقول عند المعاتبة، وفي لفظ: عند المعتبة، ما له ترب جبينه) وهي كلمة جارية على لسان العرب ولا يراد بها الدعاء عليه. وأخرج البخاري -أيضاً- في كتاب التيمم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت في قصة نزول آية التيمم: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق -أي: أبوها- فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟! أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام -تقول عائشة - فقال -أي أبو بكر -: حبستِ -يقصد عائشة - رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء! فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن حضير: ما هي أول بركاتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته) . والشاهد من الحديث قول عائشة رضي الله تعالى عنها: (فعاتبني أبو بكر فقال ما شاء الله أن يقول) . إذاً: فالعتاب وارد في القرآن والسنة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 2 شروط المعاتبة أما شروط العتاب فمن أهمها: الجزء: 18 ¦ الصفحة: 3 أولاً: عدم إكثار العتاب فلا تعتب على أخيك بكل كبيرة وصغيرة. قال موسى بن جعفر: من لك بأخيك كله، لا تستقصي عليه فتبقى بلا أخ. وقال أسماء بن خارجة: الإكثار من العتاب داعية إلى الملل. خذ من صديقك ما صفا لك لا تكن جم المعائب إن الكثير عتابه الإخوان ليس لهم بصاحب إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه وذكر الأصبهاني في كتابه الزهرة، الباب السابع عشر فقال: من عاتب على كل ذنب أخاه، فخليق أن يمله ويقلاه. والناس ليسوا على قلب رجل واحد، فمنهم سريع الفيئة عند العتاب، ومنهم من تغلغله فلا يرعاك، فالإقلال والإكثار -أي: من العتاب- مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال: أقلل عتاب من استربت بوده ليست تنال مودة بقتال الجزء: 18 ¦ الصفحة: 4 ثانياً: الإنصاف فعند العتاب لا بد أن تذكر محاسن أخيك وتشير إلى فضائله، وفي ذكر المحاسن والإشارة إلى الفضائل فوائد كثيرة، من هذه الفوائد: أولاً: أن ذكر المحاسن والفضائل هو مدخل لتقبل العتاب، وتطييب لنفس صاحبك بما هو فيها. ثانياً: أن من الظلم أن تذكر المساوئ والأخطاء، وتوجع قلب أخيك بتكرارها عليه، ولا تشير إلى فضائله ومحاسنه، ولا شك أن هذا ظلم للعباد، أن تنقل عنهم شرهم وتخفي خيرهم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على سوء الطوية نحو المسلمين، وعدم حبهم وإنصافهم، فليس من العدل أن يسرد الجرح والثلب وبيان المساوئ، ويسكت عن التوثيق وبيان المحاسن، فالإنسان يؤخذ بحسناته وسيئاته، ولا شيء مثل الورع والسكوت عن الناس. ثالثاً: من فوائد ذكر المحاسن ونشر الفضائل: ليس من شرط الله سبحانه وتعالى أن يكون أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين، (فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) والخطأ في بعض الأشياء خطأ مغفور، بل ليس من شرط المتقين ترك الصغائر مطلقا، وأيضاً ليس من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة. وهذا ما ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال وقال -أيضاً-: بأنه ليس من شرط الثقة أن يكون معصوماً من الخطأ والخطايا. فالكامل إذاً الذي ليس فيه شيء عزيز ونادر الوجود، ومن لطيف ما ذكر ابن الأثير رحمه الله قال: إنما السيد من عدت سقطاته، وأخذت غلطاته؛ فهي الدنيا لا يكمل فيها شيء. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 5 ثالثاً: سلامة المقصد أن يكون القصد من العتاب مقصداً شريفاً، لأجل النصح والتوجيه، وليس لتتبع الزلات والسقطات، فإن بعض من يعاتب صاحبه من أجل أن يعد عليه سقطاته وزلاته، وبعض الناس يفعل ذلك تشفياً وانتقاماً للنفس -والعياذ بالله- وهنا إذا حصل ذلك يخرج العتاب عن معناه الصحيح، ويصبح هذا العتاب هو الشرارة الأولى للعداوة والبغضاء، وهو الذي عبر عنه الشاعر بقوله: فدع العتاب فرب شر هاج أوله العتاب اللهم أخرجنا من سجن الهوى إلى ساحة الهدى، واهدنا إلى صراطك المستقيم. ثم لماذا العتاب؟ وما هو سبب العتاب؟ ولماذا دعوتكم للعتاب أيها الأحبة؟! اعلموا السبب -بارك الله فيكم- حتى تخرجوا وقد استفدتم من عتابنا لبعضنا. لا يكون العتاب إلا بين الأصحاب والأحباب، اعلموا هذا جيداً، ولا أعاتب إلا من أحب ومن له في مكنون القلب ود. أعاتب من يحلو بقلبي عتابه وأترك من لا أشتهي لا أعاتبه إن قلوبنا أيها الأحبة! مضغة من اللحم، وإننا بشر ويجتمع على قلوبنا ما قرب وبعد، وهي عرضة للحمل والوجد وللشحن والبغضاء مهما كان الإنسان، وهنا أمامنا أمران: الأمر الأول: إما إهمال القلب وتركه عرضةً لهذه السهام حتى تجتمع عليه فتهلكه؛ فيصبح أسود مرباداً، لا يعرف معروفاً، ولا يعرف إلا الحقد والتشفي، والعياذ بالله. الأمر الثاني: وهو أعاتب ذا المودة من صديق إذا ما رابني منه اجتناب إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتاب إذاً: لولا المحبة في القلوب، والحرص على صفاء النفوس، وبقاء الود، ما كان العتاب: إني أعاتب إخواني وهم ثقتي طوراً وقد يصقل السيف أحيانا هي الذنوب إذا ما كشفت درست من القلوب وإلا صرن أضغانا وكما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [معاتبة الأخ خير من فقده] . وقال بعض الحكماء: من كثر حقده قل عتابه. وهذا دليل أن العتاب لا يكون إلا بين الأصحاب والأحباب. وقال أبو بكر محمد بن داود الأصبهاني، في كتابه الزهرة -الذي ذكرناه قبل قليل- في الباب السادس عشر، قال: من لم يعاتب على الزلة فليس بحافظ للخلة. ثم ذكر هذه الأبيات في لذة العتاب وحلاوته، وعدم الملل منه، خاصةً إذا كان بين عاشقين، ونحن نعوذ بالله من العشق، وإنما نريد المحبة والأخوة في الله، واقتراب القلوب وصفاء النفوس، قال: فلا عيش كوصل بعد هجر ولا شيء ألذ من العتاب تواقف عاشقان على ارتقاب أرادا الوصل من بعد اجتناب فلا هذا يمل عتاب هذا ولا هذا يمل من الجواب الجزء: 18 ¦ الصفحة: 6 صور ومواقف لحوارات بين متعاتبين وهنا نأتي للقسم الثاني: وهو المقصود كما ذكرنا في موضوع هذه الليلة، ولعلكم بعد أن عرفتم العتاب ومعناه وشرعيته وشروطه وأسبابه نأتي للعتاب الذي سيدور بيننا أو بيني وبين صاحب لي، والقسم الثاني عبارة عن صور ومواقف لحوارات بيني وبين عزيز عليّ وحبيب إلى نفسي، وكل فرد منكم عزيز عليّ وحبيب إلى نفسي. وعتابي هذه الليلة ليس لأي أحد، فهو خاص لفئة من رجالات هذه الأمة، التي لا تعدم الخير أبداً ما دام فيها أمثال هؤلاء الرجال. إذا سيد منا خلا قام سيد قئول لما قال الكرام فعول فعتابي إذاً خاص لشباب الصحوة ورجالاتها، لأولئك الدعاة المخلصين الناصحين، ومهما كانت كلمات عتابي فهي لا شيء بجانب حسناتهم وخيراتهم، فلا أعلم والله عنهم باب خير إلا ولجوه، ولا باب شر إلا وجاهدوه، ويعلم الله أني أتقرب إليه بحبهم، ولا تلوموني في حبهم فقد تعلمت منهم الكثير؛ ولكن أنت عيني وليس من حق عيني طبق أجفانها على الأقذاء فلا بد من التناصح والتعاتب إذاً. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 7 أمور قبل العتاب ليس مثلي يا أخي الحبيب! من يبدأ العتاب، فأنا الملوم وأنا المتهم، فهو لي ولمن شاكلني من المقصرين، وأنت تسمع هذه الحوارات وتنتقل بين هذه الصور انتبه لأمور: الأمر الأول: قد تتصور بعض النساء أنهن غير مقصودات بهذا الحديث، لا. بل كلامي للصالحين والصالحات الذين نذروا أنفسهم للدعوة إلى الله وإبلاغ الكلمة من رجال أو نساء. والأمر الثاني: انظر لنفسك وكن صادقاً معها، وأنت أعرف بنفسك، فلربما كانت الصور كلها فيك -أي: التي سنذكر- ولربما كان بعضها أو أحدها، والاعتراف بالخطأ فضيلة، وتشخيص المرض بداية العلاج. والأمر الثالث: فإن لم يكن فيك شيء من هذه الصور وهذه الحوارات، فما أقل أن يكون لك صاحب عزيز وحبيب إلى قلبك تعلم هذا من حاله، فتوصله هذا العتاب، وإن شاء الله برقة قلبه، وسلامة صدره، وحبه للخير، سيُجني الثمار إن شاء الله تعالى. ولا أظنك بحاجة إلى تعليق، وإلى بيان مع كل صورة، فلا تنتظر هذا مني، ولكن كن فطناً وافهم المقصود رعاك الله. إذاً: فلكل سامع لهذا الحوار أن يتصوره مع صاحبه وخليله، وليختر مما ذكر من الملاحظات ما يناسب، فإنها قد لا تجتمع في شخص، وقد يكون فيك أو في صاحبك شيء منها، وقد لا يكون، وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 8 الصورة الأولى: تتبعك لعثراتي وسقطاتي تعال نتعاتب وأقول لك يا أخي الحبيب! لماذا أصبحت تفرح بسقطاتي، وتتبع عثراتي، وتعد ألفاظي، بل وتحسب عليّ أنفاسي؟! أنسيت أني بشر، وأنني أخطئ وأصيب، وأن لي نفساً تغضب وترضى؟! وأنا لا أبريء نفسي {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] ، ومع ذلك كله فإني في جهاد معها، فأقِلَ عليّ لا أبا لك، وكن لي عوناً عليها. لي ذنوب ولست أنكر فاغفر فالتجني على المقر اعتداء لي حقوق أيضاً عليك ولكن ذكر مثلي لمثل هذا جفاء ولا تنس أنك أنا، وأنا أنت، فأحب لي ما تحب لنفسك: وإذا شئت أن تدعى كريماً مكرماً حليماً ظريفاً ضاحكاً فطناً حرا إذا ما بدت من صاحب لك زلة فكن أنت محتالاً لزلته عذراً الجزء: 18 ¦ الصفحة: 9 الصورة الثانية: سماعك لكلام الناس في ّ أخي! تعال نتعاتب فعجيب أمرك، إنك أخي وصفيي وصديق عمري، فكم ذهبنا وجئنا، وأكلنا وشربنا، ونمنا وقمنا وضحكنا وحزنا، فعرفتني وعرفتك، ثم فجأةً إذا بك تسمع كلام الناس فيّ، فتردد ما يقولون: ولا خير في خل يخون خليله ويلقاه من بعد المودة بالجفا ومنك وعيشاً قد تقادم عهده ويظهر سراً كان بالأمس قد خفا واسمع لـ ابن الجوزي رحمه الله تعالى وهو يقول في صيد الخاطر (فصل: أين الخل الوفي؟) : كان لنا أصدقاء وإخوان أعتد بهم، فرأيت منهم من الجفاء وترك شروط الصداقة والأخوة عجائب، فأخذت أعتب ثم انتبهت لنفسي فقلت: وما ينفع العتاب، فإنهم إن صلحوا فللعتاب لا للصفاء، فهممت بمقاطعتهم، ثم تفكرت فرأيت الناس بين معارف وأصدقاء في الظاهر وإخوة للباطن، فقلت: لا تصلح مقاطعتهم إنما ينبغي أن ننقلهم من ديوان الأخوة إلى ديوان الصداقة الظاهرة، فإن لم يصلحوا لها نقلتهم إلى جملة المعارف وعاملتهم معاملة المعارف، ومن الغلط أن تعاتبهم فقد قال يحي بن معاذ: بئس الأخ أخ تحتاج أن تقول له اذكرني في دعائك. انتهى كلام ابن الجوزي. ويقصد هنا أنَّ الأصل أن الأخ يدعو لأخيه بدون أن يوصيه إن كان أخ صادق. لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب وإن كثرت في الأقاويل ومن يطع الواشين لا يتركوا له صديقاً وإن كنت الحبيب المقربا وأخيراً أقول لك: لو لم تكن لي في العيون مهابة لم يطعن الأعداء فيّ ويقدحوا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 10 الصورة الثالثة: يوم أن اغتبتني وتنقصتني لمجرد اختلاف وجهات النظر تعال نتعاتب فبالأمس القريب يوم أنت وزيد، يوم ذكرتني وتنقصتني، ودارت النجوى بينكما فزدت وزاد، وقلت وقال، وطارت الكلمات بكل مطار، وسارت بها الركبان، فأصبحت على كل لسان، وما ذاك إلا أنني عملت بخلاف رأيك، وخالفتك في وجهة نظرك، وأنت ممن يقول: إن الخلاف لا يفسد للود قضيةً. فيا عجباً! ما أسهل الكلمات، ولكننا بحاجة للعمل والتطبيق. قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة؟! أو تذكر يوم غضبت عليّ، واتهمتني بالسطحية، وعدم فهم الواقع، فقط لأنني وقفت أمامك ألا تغتاب فلاناً، وقلت لك: اتركه، فذكرت أن فيه وفيه وأن ما تقوله حق، سبحان الله! أتراك غفلت أن الغيبة ذكرك أخاك بما يكرهه مما هو فيه؟! أعلم أنك شيخ لي في أحاديث الغيبة والنميمة والنجوى وأضرارها وشدة تحريمها، أو أنك تقول: ولا بد من نجوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع والبيت صحيح بقول الشاعر: ولا بد من شكوى. ولعل الصور واضحة، وكما ذكرت لا داعي للتعليق على كل صورة، ولكن لكل إنسان أن يختار ما شاء من هذه الصور إن اجتمعت وإن تفرقت. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 11 الصورة الرابعة: نصحتك فغضبت وحقدت تعال نتعاتب أتذكر يوم أن نصحتك تلك النصيحة، وأنكرت عليك ذلك المنكر؟! تذكر جيداً، هل ذكرته؟! إنني لا أنسى ذلك اليوم أبداً، فقد كنت أبحث عن الكلمات الرقيقة والعبارات اللطيفة فتعبت أيما تعب في اختيار الألفاظ، كل ذلك حرصاً على مشاعرك وتقديراً لنفسيتك وتحرياً لآداب النصيحة، فماذا كانت النتيجة؟ قبلت ذلك على مضض وأخذت تكيد لي، وترصد حركاتي، وربما فرحت الأُذن بما تسمع في غيبتي، والعجيب أنني أسمعك تردد دائماً (المؤمن مرآة أخيه) وتردد دائماً (رحم الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي) فما دهاك غفر الله لك؟! ورويّ أن رجلاً صحب رجلاً، فلما أراد أن يفارقه قال له: أخبرني عن عيوبي، فقال: سل غيري، فإني كنت أراك بعين الرضا. وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا الجزء: 18 ¦ الصفحة: 12 الصورة الخامسة: قلة زيارتي وجفوتي لك أيها الصديق! أيها الخل الوفي! تعال نتعاتب ولك الحق أن تعتب عليّ بجفوتي لك وهجري إياك -كما تقول- فتشكو قلة زيارتي، ولكن لو كنت آتيك على نحو ما تستحق لأتيتك كل يوم، وأقول لك كما قال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: إن لي إخواناً لا ألقاهم إلا في كل سنة مرةً، لأنا أثق بمودتهم ممن ألقى كل يوم. وإن زرتنا فبفضلك، وإن زرناك فلفضلك، فلك الفضل زائراً ومزوراً يا نسيم الروض في السحر ومثال الشمس والقمر إن من أسهرت مقلته لقرير العين بالسهر فمثلك يعتذر لمثلي، وتعلم انشغالي في أمور لا تتسع معها أوقات الزيارة. قال أبو الحسن بن قريش: حضرت إبراهيم الحربي وجاءه يوسف القاضي ومعه ابنه أبو عمر فقال له: يا أبا إسحاق! لو جئناك على مقدار واجب حقك لكانت أوقاتنا كلها عندك، فقال: ليس كل غيبة جفوةً ولا كل لقاء مودةً، وإنما هو تقارب القلوب. فيا أيها الحبيب! إن صبرت وعذرت فحسبي أن تكون كمن قال: مسني من صدود إلفي ضر فبنات الفؤاد ما تستقر مسني ضره فأوجع قلبي غير أني بذاك منه أسر الجزء: 18 ¦ الصفحة: 13 الصورة السادسة: إساءة الظن بالآخرين أخي وعزيزي! تعال نتعاتب فلا ينبغي لك أن تسيء الظن بالآخرين بما ترى من تصرفاتهم، أو تسمع من أقوالهم، أو تعتقد صدوداً أو إعراضاً منهم بمجرد الظن والتخمين، فليس هذا عدلاً، فربما خفيت عليك الحقيقة، ولربما أرادوا وقصدوا أمراً آخر، ولربما أن ذلك الفعل أو الكلام لا مقصود له، ولو أنك ناقشت هؤلاء لتبين لك خلاف ما تظن، فالناس بشر يحصل لهم الخطأ والسهو والغفلة، فلا تدخل في مقاصد الناس ونياتهم، فإني أراك أسهبت -رعاك الله- في مثل هذا، واحمل الناس على محمل الخير ليستريح قلبك من الهموم، ومع ذلك كله فاعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار جاره وهو يهودي مع شدة أذاه له، واعلم -أيضاً- أن ابن تيمية رحمه الله تعالى حزن جداً لوفاة أشد أعدائه. يقول ابن القيم رحمه الله: جئت يوماً مبشراً له -أي ابن تيمية - بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوةً وأذىً له، فنهرني وتنكر لي، واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهل عدوه فعزاهم وقال لهم: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسروا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحالة منه، فرحمه الله تعالى ورضي الله عنه. انتهى كلام ابن القيم. إذاً: فمن ضاق صدره على ما عند الآخرين من خير، فلينصف نفسه فلن يجني إلا الكدر، والحقد، والحسد. إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه تكن مثل ما أعجبك فليس عن الجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك الجزء: 18 ¦ الصفحة: 14 الصورة السابعة: تقصيرك في النوافل يا أخي! إني أراك من الشباب الصالحين وفي عداد القدوات، ويشار إليك بالبنان، هذا كله فيما أسمع وأعرف عنك، ولكني أرى من فعالك عجباً! فأراك أول المقصرين في النوافل، حتى في السنن الرواتب، فكم من المرات تركتها وتثاقلت عنها، رأيتك مراراً مفطراً في الأيام البيض قلت: لعله من أهل الاثنين والخميس، فأثبتت المناسبات، وكئوس الشاي والقهوة في كل مرة خلاف ذلك، بل واحتمل عتابي، فإني لا أكون ظالماً لك إذا قلت لك: إن الفريضة يعتريها كثير من النقص والتقصير، فإني أراك آخر المصلين دخولاً للمسجد وأول الخارجين منه، أين التسبيح والتحميد؟ أين التهليل؟ أين ذكر الله؟! القرآن يشكو هجرك، فلربما مر اليوم واليومان بل والأسبوع ولم تقرأ شيئاً منه، والعياذ بالله. فأُحسن الظن فأقول: أعماله الدعوية كثيرة وانشغالاته التربوية كبيرة، ولكننا ننسى أو نغفل أن من أعظم وسائل الدعوة والتربية القدوة الحسنة، فالأمة في أزمة قدوات. وقبل أن أتركك تفكر بما قلت لك، أذكرك بحديث جندب رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه) رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن إن شاء الله تعالى. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 15 الصورة الثامنة: ماذا قدمت للمسلمين؟ تعال نتعاتب فأقول لك: كم من المرات سمعتك تتألم لأحوال المسلمين، وتتوجع لحاجات المساكين؟ وسمعتك تتحدث عن كيد أعداء الدين وصور أذاهم للمسلمين، ثم تختم كلامك بقولك: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] فماذا قدمت؟ وماذا فعلت؟ وإن في وسعك الكثير الكثير! [وإني لأبغض الرجل أراه فارغاً ليس في شيء من أعمال الدنيا ولا عمل الآخرة] كما قال ابن مسعود رحمه الله تعالى. ولكن ما زلت في ذهابك، وإيابك، وجلساتك، ورحلاتك، وتضييع أوقاتك. إذاً: لماذا تلوم الأعداء بأنهم يعملون ويخططون ويدبرون؟! أم أنك تريدهم أن ينصروا الدين ويفتحوا البلاد للمسلمين؟ أيها المؤمن! أنت فرد ولكنك أمة؛ بقوة إيمانك تقوى الأمة، وبصلاحك وعملك تصلح الأمة، وأنت في المستقبل القريب -إن شاء الله- عالم جليل، أو مسئول كبير، أو من رجال التربية والتعليم، أو قائد محنك، أو طبيب ماهر، ولكن لا بد من الصبر وبذل النفس والمال، فسجل اسمك في التاريخ، أيها الشاب! أيها الأخ! سجل اسمك في التاريخ فساهم ولو بالقليل، فإنك لا تدري بماذا يغفر لك. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 16 الصورة التاسعة: عدم ثبات شخصيتك تعال نتعاتب يا أخي الحبيب! فإنني في حيرة من أمرك، فكل يوم لك فكر ولك وجهة، فاليوم لك منهج وغداً لك منهج آخر، وبعد أيام لا هذا ولا ذاك، فهل أصفك بأنك أُذن؟! -والأُذن: هو المستمع القابل لما يقال له- فلماذا تتبع كل ما تسمع وتسير خلف كل ناعق؟ فأصبحت تحكم على الآخرين بانحراف، وقصور في منهجهم، أو صفاتهم، أو أخلاقهم بمجرد سماع قصة، أو قراءة خبر، أو استماع شريط، أو حديث مجلس. فأين ثبات الشخصية؟ وأين العقل المدرك؟ لماذا أصبحت كالريشة في مهب الريح تكفؤها أينما اتجهت بدون مبدأ ولا بصيرة تستنير بها؟! ثبات الشخصية يا أخي الحبيب! تعني قوة الثبات في وجه التيارات المنحرفة، والتمسك بالدين القويم، والنصح الصحيح، فاستمسك -بارك الله فيك- بما أنت عليه من الحق المبين، ولا يحركك تهيج المرجفين، فلا تبتئس بما يقولون ولا تحزن بما يفعلون. فالثبات الثبات متوكلاً على مولاك، والله يتولى الصالحين {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد:17] . واحذر! من المنشقين الجراحين المبذرين للوقت والجهد والنشاط في قيل وقال وكثرة السؤال عن تصنيف العباد، فهو ذنب تلبسوا به وبلوى وقعوا فيها، وادع لهم بالعافية، واحذر يا رعاك الله! عافانا الله وإياك، ووقانا الفتن ما ظهر منها وما بطن. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 17 الصورة العاشرة: الانقطاع وعدم الاستمرار أيها الأخ العزيز! تعال نتعاتب لقد شكوت لي حالك، وقلة بضاعتك في العلم والعمل، وذكرت لي أنك بدأت بحفظ القرآن فانقطعت، وبدأت بحضور درس الشيخ فلان فانقطعت، وذكرت لي أنك هممت بقراءة بعض الكتب فبدأت فانقطعت، وذكرت -أيضاً- أنك بدأت بعمل دعوي مع إخوة لك ثم انقطعت، وذكرت -أيضاً- أنك بدأت بنشاط للحي ومسجده ثم انقطعت، ثم ذكرت لي -أيضاً- أنك بدأت بمشروع خيري مع إخوانك فانقطعت، وبدأت بحفظ المتون فانقطعت وهكذا أنت مع كل مشروع في حياتك كما تزعم. فأقول: يا سبحان الله! لقد أصبحت ذواقاً، فكيف ستبني شخصيتك، أو ستربي نفسك؟! وهذه بلوى كثير من شبابنا، فما أن يسلُك أمراً ويبدأ فيه إلا ويمله ويتركه، وما يبدأ بأمر فيعرف طريقه ويستوي على ظهره إلا وسرعان ما يصيبه الإملال، ثم هكذا يبدأ بعمل ثم ينتقل لعمل آخر، وهكذا يمضي العمر وتمضي الأوقات وهو في مكانه لا يتقدم بل يتأخر. فالله الله! بالاستمرار والمداومة فكل نتاج بشري يبدأ أوله صغيراً، ثم مع الدوام والعزيمة يكبر ويكبر حتى يكون كما أريد له، والعاجز من بدأ ثم وقف متعللاً ببعد الطريق ووعورة المقصد، فرضي لنفسه بيومه، أي: رضي لها بالدعة والإهمال، فهو في عداد الموتى قبل أن يموت؛ لأن الحي الموفق من بدأ وتابع واستثمر كل ما يملك حتى ينجز ما نشد ورام. وقل لي بالله يا أخي الحبيب؟! أكان يمكن أن يكون لمثل أبي حاتم الرازي أن يصنف كتابه المسند في ألف جزء، والجزء يساوي خمسة وعشرين صفحةً؟! أو يكون لمثل الإمام الطبري أن يزيد عدد أوراق مصنفاته الجليلة على نصف مليون ورقة؟! أو يكون لمثل الإمام ابن عقيل الحنبلي أن يصنف كتابه الفنون في ثمانمائة مجلد؟! أو يكون لمثل الحافظ ابن عساكر أن يصنف كتابه تاريخ دمشق في ثمانين مجلدة كبيرة؟! أو يكون لمثل شيخ الطب في زمانه ابن النفيس، أن يصنف كتابه الطبي الذي سماه الشامل -أيضاً- في ثمانين مجلدة؟! أو حتى يكون لمثل الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى التي أربت مصنفاته على أربعمائة مصنف من نخب العلم ودقاقه؟! وسواهم في سواها مما لا يحيطه حصر ولا عدد، لولا العزيمة الماضية، والهمة العالية، ومتابعة العمل، ودوام العطاء، ورصف المسألة بجوار المسألة، وتقييد الخاطرة تلو الخاطرة ووضع النظير مع النظير، وهكذا مع محاسبة للنفس على دقائق العمر وثوانيه، متوجاً ذلك كله بصدق النية وصدق التوكل؛ لما كانت هذه ثمرتهم. إذاً: فخاطب نفسك يا أخي الحبيب! واقض على هذه المشكلة وقل لها: ذريني أنل ما لا ينال من العلا فالصعب في الصعب والسهل في السهل تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل لتكن صاحب همة عالية وعزيمة صادقة، وتذكر بذلك الأسلاف رحمهم الله تعالى. وما أصدق الشاعر الأديب بهاء الدين ابن النحاس الحلبي في قوله: اليوم شيء وغداً مثله من نخب العلم التي تلتقط يحصل المرء بها حكمة وإنما السيل اجتماع النقط إن العمل مطلوب، والهمة مرجوة، والمتابعة والمداومة شرط لنجاح العمل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دوم عليه وإن قل) أخرجه البخاري ومسلم. وذكر ابن حبان في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (كان عمله صلى الله عليه وآله وسلم ديمةً) أي: دائم مستمر غير منقطع، وكما يقال: قليل دائم خير من كثير منقطع فهل وجدت لهذا الأمر ولهذا الانقطاع حلاً -رعاك الله وبارك فيك- حتى نكسب شخصاً ونكسب داعيةً بوقته وعلمه وعمله. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 18 خاتمة المطاف وفي الخاتمة: وأخيراً: أعتذر إليك يا أخي الحبيب! فقد أثقلت وأكثرت العتاب ولكن إكثاري بجانب عفوك وحلمك قليل، ولكن صدقت الخلة فزالت الكلفة، وقد كان السلف رضوان الله عليهم إذا غضبوا غفروا وصفحوا؛ طلباً لفضيلة العفو وكظم الغيظ. من لي بإنسان إذا ما أغضبته وجهلت كان الحلم رد جوابه وإذا طربت إلى الحديث شربت من أخلاقه وسكرت من آدابه وتراه يصغي للحديث بقلبه وبسمعه ولعله أدرى به فأنا أعلم أنكم أدرى بمثل ما قلت، وأن ما عندكم خير مما عندي، ولكنه العتاب الذي يكون بين الأحباب والأصحاب، خلجات قلب وهمسات صدر أحببت أن أبثها لإخواني. ولما انتهى العتاب بيني وبين صاحبي واتجهت إلى الباب، عمد صاحبي إلى العناق وأكثر من البكاء والانتحاب. وقفنا وثالثنا عبرة فيشكو إليّ وأشكو إليه وولى يخوض دموعاً جرين من مقلتي ومن مقلتيه ويستودع الله ما في يدي وأستودع الله ما في يديه اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأفعال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وارزقنا صلاح الظاهر والباطن وصدق النية وحسن الخاتمة. وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 19 الأسئلة هذه مجموعة من الأسئلة، وبعض الاقتراحات من بعض الإخوة، وبعضهم يقول: لو أرسلت رسالة عتاب ومجاملة أو رسالة عتاب إلى ذاك الشاب المجامل حتى لحساب دينه، ثم آخر يقول: وما أجمل أن ترسل معاتبة إلى ذلك الشاب الذي إن جاء مع الصالحين فهو صالح، وإن جلس مع المنحرفين فهو منحرف. ولا شك أن هذه الرسائل وأن مثل هؤلاء يجب أن يوجه إليهم مثل هذه الرسائل، ولكني أقول لهؤلاء الإخوة الذين اقترحوا ووجهوا مثل هذه الأسئلة: أنت سمعت بارك الله فيك مثل هذه الرسائل القصيرة، وأنا ما ذكرتها من أجل أن تسمعها فقط، وإنما ذكرتها من أجل أن تسمعها وتستفيد منها عملاً في حياتك ثم أن تسمعها لإخوانك، ثم أقول: أيضاً ذكرت مثل هذا الدرس من أجل أن يتولى كل شخص منا معاتبة أخيه الذي يحبه ويجله ويعزه فإن هذا لا بد أن يكون، وكما ذكرنا إن لم تكن المعاتبة بين الإخوة وبين الأحباب فإنها ستجتمع الشحناء والبغضاء -والعياذ بالله- على القلب واحدة تلو الأخرى حتى نجد أن القلب -كما ذكرنا- أصبح أسوداً مرباداً لا يعرف إلا الحقد والعياذ بالله. فلذلك نداء أوجهه إلى جميع الإخوة، كباراً كانوا أو صغاراً، رجالاً كانوا أو نساء أن نتولى مثل هذا الأمر بيننا، ولا أفضل من المصارحة والمجالسة، وبث الهموم والعتاب المثمر الجاد، وليس عتاب المحبين والعاشقين -نسأل الله أن يحفظنا وإياكم- وإنما ذلك العتاب المثمر الجاد الذي يدفعنا إلى العمل، وإلى النشاط لأمتنا ولأنفسنا. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 20 الطريق للاستمرار في الطاعة السؤال إنني مِن مَن اتصف بكثير من هذه الأخطاء، وخاصة الأخيرة: وهي الانقطاع وخاصة عن حفظ القرآن، ولكن لما استمعت إلى كلامك -جزاك الله خيراً- زادني حماساً، ولكن ما يلبث أن يزول هذا الحماس بعد أسبوع أو أسبوعين أو أكثر فأنقطع مرة أخرى، فما الحل وجزاكم الله خيراً؟ الجواب بارك الله فيك ورعاك وحفظك، فإن الاعتراف بالحق فضيلة، ويا ليتنا يا أحبة! كل منا يخرج من هذا المكان الطاهر الطيب وهو يقول: فيّ من الخصال التي ذكرت كذا وكذا، إن لم يكن فيّ كلها، ثم يحاول علاجها والاستفادة منها، كلنا يحب أن يكون محبوباً عند الآخرين، وأن يكون حسن الأخلاق، كلنا يريد ذلك، وكيف الوصول والسبيل لهذا؟ إن الوصول لمثل هذا بمحاسبة النفس، ومعرفة الأخطاء، وقيل لـ لقمان الحكيم: كيف تعلمت الحكمة؟ قال: تعلمت الحكمة من الجهلاء. سبحان الله! كيف؟ قال: كنت أنظر إلى عيوبهم وأخطائهم فأتجنبها. فنقول: أنظر لأخطائك وعيوبك فحاول أن تتجنبها، ثم انظر -أيضاً- لأخطاء الناس وعيوبهم، ثم حاول قبل أن تنتقدهم على هذه الأخطاء أن تتجنبها، وهكذا يكون العاقل ويكون اللبيب، و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] . وأقول: إن هذه المشكلة وهي قضية الانقطاع يصلح أن تكون عنوان لمحاضرة أخرى مستقلة، ولا أخفيكم سراً فقد وضعت لها كثيراً من النقاط، ولعلكم تسمعونها قريباً إن شاء الله؛ لأنها بلوى كما ذكرت، عمت كثير من شبابنا ورجالاتنا وللأسف، أو تدرون ما السبب؟ الأسباب كثيرة، لكن من أهمها: أننا ندخل في مشاريعنا وأعمالنا بدون تخطيط ولا تنظيم، اجتهاد وحماس، والحماس سرعان ما يخبو، كاحتراق سعفة النخلة تشعلها لحظات ثم تنطفئ، ومن سار على هذا الأمر لم يسر على هدى، وسيحصل له عدم الاستمرار والانقطاع في أي عمل كان، ولذلك تعال وانظر لبعض الأعمال المنظمة، والمخطط لها تجد أنها تستمر سنة وسنتين وثلاث وأربع وعشر، وهكذا نريد أن يكون شبابنا ورجالاتنا على هذا المستوى من الفهم والإدراك لمثل هذا الأمر. فأنا أقول: لماذا يا أخي الحبيب! ببناء شخصيتك لا يكون لك خطة وتنظيم تسير عليها طوال حياتك؟! ثم لا بأس أن يكون هناك وقفات عند الفتور وعند الملل؛ لتمتع النفس بشيء ما، ثم كما يقال: إذا شحنت هذه النفس سارت مرة أخرى في طريقها. فأقول: نحن بحاجة إلى التخطيط والتنظيم، وانظر لأثر المداومة، ولنضرب مثلاً واقعاً ننظره دائماً، بل قد أقول في كل لحظة، ألا ترون صنبور الماء ينقط نقطة تلو أخرى هذه النقط يسيرة جداً فماذا أحدثت في الأرض؟ ألم تحدث أثراً؟ أليس لها أثر؟ بلى أثر، هذا الأثر لو أنك فتحت خزان الماء كله على الأرض ما أحدثه هذا الأثر أبداً؛ ولكن لأن النقطة متصلة ومستمرة ودائمة حدث هذا الأثر. الآن المبرد أول ما تضع المبرد هل تحصل النتيجة مباشرة من أول بردة؟ لا أبداً، إنما تحصل النتيجة من البردة الأولى والثانية والثالثة والرابعة حتى تصل مبتغاك، وهكذا في قضية الاستمرار والمداومة. ونحن حقيقة نشكو كثيراً من شبابنا الذواقون، فكل يوم في عمل، وكل يوم مع فلان أو علان، وكل يوم له تجارة معينة، وهكذا حتى ضاع عمره بدون ثمرة. ثم أذكر أبيات جميلة لـ إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى يقول فيها ويحث على قضية الهمة والحماس، وأن يكون الإنسان مثمر في أعماله ونتائجه فيقول رحمه الله: إذا ما مات ذو علم وتقوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمه وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمه وموت فتىً كثير الجود محل فإن بقاءه خصب ونعمه وموت الفارس الضرغام هدم تشهد له بالنصر عزمه وموت العابد القوام ليل يناجي ربه في كل ظلمه فحسبك خمسة يبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمه وباقي الخلق همج رعاع وفي إيجادهم لله حكمه هل ترضى أن تكون من تخفيف الرحمة أو من همج رعاع؟ لا والله. لا أرضاه لك أبداً، فضلاً أن ترضاه لنفسك. ولذلك أقول على شبابنا: ومن أراد ثبات الشخصية والتربية الجادة في حياته أن يخطط وينظم، وأن يسعى -أيضاً- أن يرمي نفسه بين أحضان الصالحين والجادين منهم، حتى يسير على هدى، هذا ما أقول باختصار حول قضية الانقطاع وعدم المداومة والاستمرار. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 21 أهم أسباب الصلاح والهداية السؤال هؤلاء إخوة يقولون: نحن شباب أتينا من خارج المِذْنَب، وكلنا مذنبون، ولأول مرة يحضر بعضنا مثل هذه الدروس، أرجو من الله ثم منك أن تدعو لنا بالهداية والتوفيق، والعمل لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين؟ ثم يقول: أشكرك بعد شكر الله على هذه النقاط المضيئة والتي تجعل الطريق لنا ميسراً، ثم يقول: ذكرت الداء حبذا لو ذكرت لنا شيئاً يسيراً من الدواء، حفظك الله ورعاك، وسدد على طريق الحق خطاك، اللهم آمين، وجزاك الله خيراً؟ الجواب اللهم اهدهم وثبتهم ووفقهم وارزقهم الثبات في الدنيا والآخرة، واستعملهم في طاعتك يا أرحم الرحمين! واجعلهم خيراً لأمتهم، وأشركنا بالأجر والثواب معهم يا رحمن السماوات والأرض! وفقنا الله وإياكم وثبتنا وإياكم على طريق الحق والاستقامة. لعلي إن كنت فطناً أشرت لبعض الدواء من خلال هذه النقاط وهذه الصور التي عرضتها، والحمد لله أن المادة مسجلة، وأنا لا أخفيكم سراً أنني قد اهتممت بالموضوع ليس فقط من أجل المحاضرة؛ وإنما أيضاً من أجل تسجيلها والاهتمام بها؛ لأنني أشعر أن كثيراً منا بحاجة لمثل هذه النقاط، ولذلك كانت هذه الصور قصيرة، وأعلم يقيناً أن كثيراً منا قد تمر الكلمات سريعة في مخيلته فلا يدرك أن يقف ويفكر فيها جيداً، ولكن لعلك ترجع إلى هذه المادة المسجلة، وتسمعها مرة، وخذ كل صورة وموقفاً على حدة ثم أعدها مرة ومرتين، وستجد كثيراً من المعاني والخفايا في هذه الصور لعلها أن تكون دواءً إن شاء الله. ولكن أقول لهؤلاء الإخوة: ما دمتم في بداية هذا الطريق أقول لكم: أهم أسباب الصلاح والهداية أهمها هي: أن ترمي نفسك في أحضان الصالحين، احرص على الأخوة الصالحة؛ لأن (الإنسان على دينه خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل) . وقل لي من تجالس أقول لك من أنت؟ فلذلك أوصي هؤلاء ونفسي وإخواني جميعاً بالحرص على الجليس الصالح الطيب الذي إذا أخطأت رعاك ونصحك، وإذا وفقت سددك وأعانك. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 22 طرق لسلامة الصدر السؤال أنا شاب ملتزم وأخالط أناساً ملتزمين، ولكن يراودني دائماً وأحس وأشعر أنني لا أرتاح لبعض هؤلاء الملتزمين، وحاولت جاداً أن أُكيف نفسي لكي أرتاح لهم، ولكني لا أستطيع أن أرتاح لهم، لا أدري ما السبب هل هو لبعض أخلاقهم وطباعهم التي لا أستسيغها؟ أم هي لأسباب نفسية؟ أم هي لطبيعة فيّ أنا شخصياً؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب أقول: أحسنت على سؤالك، ويبدو أن الصور أثرت تأثيراً طيباً في كثير من الإخوة، وهذا -إن شاء الله- ما نرجوه؛ لأنه عرض السؤال ثم لم يتهم أناس معينين في سؤاله، بل قال: ربما هم، وقال: ربما بطباعي، وربما لنفسي، وربما أكون أنا السبب شخصياً، إلى غيره، وهذا أمر طيب حقيقة أن الإنسان يعترف وينظر لنفسه أنه قد يكون مقصراً، وقد يكون هو السبب. وأنا أقول: لا أعلم حقيقة هؤلاء الملتزمين الذي أنت تتكلم عنهم، ولا أعلم حالك؛ ولكن ربما يكون منهم، وربما يكون منك أنت، وربما يكون أيضاً من الشيطان -والعياذ بالله- فهو لا يزال يصد الصالحين وأهل الخير عن خيرهم وصلاحهم؛ حتى يغويهم -والعياذ بالله- والشيطان لا يستريح حتى يفوز من المسلم بالكفر -والعياذ بالله- أسأل الله أن يثبتنا وإياكم. فأقول: استعذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم إن لم يتحول هذا الشعور إلى فعل وحقد في القلب، فاستغفر الله سبحانه وتعالى منه واستعذ بالله من الشيطان، واسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقك الصلاح والهداية وحب الصالحين. وأحيلك، وقد نسيت أن أذكر لكم هذا الأمر أن هذا الدرس وهذه المحاضرة هي حلقة ثانية من حلقات تسمى بـ (الإصلاح على طريق الصحوة) وقد كانت الأولى بعنوان: (سلامة الصدر مطلب) وألقيت بمدينة الزلفي قبل فترة، فأنصحك بالرجوع إليها، وأنصح حقيقة الجميع بالنظر واستماع مثل هذا الموضوع؛ لأننا كلنا يا أحبة! بحاجة لسلامة الصدر، فنحن بطبعنا بشر -وكما ذكرنا- يجتمع على قلوبنا أشياء كثيرة فقد نبغض ونحب، وقد نحقد -والعياذ بالله- وقد يصل الحقد إلى الفعل والهمّ في إيذاء الآخرين، نسأل الله العافية. فأقول ارجع لمثل هذا الدرس لعله -إن شاء الله- أن ينفعك كثيراً هذا الأمر، وأيضاً لهذا الدرس أو لهذه الحلقة حلقة ثالثة ستكون إن شاء الله في نهاية الشهر في مدينة الدوادني وسيكون عنوانها: (السر العجيب) . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 23 ترتيب الأولويات في أفعال الخير السؤال أيهما أفضل حضور المحاضرات والدروس أو قراءة القرآن في المنزل؟ الجواب كِلا الأمرين فاضل، فنحن نريد منك هذا وذاك والموازنة، وهنا تأتي قضية التخفيض والتنظيم، فلا نقول لك: احضر المحاضرات والدروس العلمية فقط؛ لأن هذا لا يكفي، ولا أقول لك: اجلس في مكتبتك واقرأ الكتب، وهذا لا يكفي، وإنما هذا وذاك، ومن كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه -كما يقال- أما الشيخ وثني الركب عند العلماء وطلبة العلم والمشايخ، فهذا فضل كبير لماذا؟ لأنك قبل أن تستفيد علماً تستفيد خبرة وتجربة، مرت بهذا المتكلم الذي أمامك وجلس لك، ثم هو -أيضاً- يسر عليك السبيل في البحث والنظر في الكتب، وإخراج دقائق العلم ومسائله، وجمعها لك في لحظات فهذا مكسب، ولكن -أيضاً- لا بد من الرجوع إلى الكتب والإدمان على قراءتها وذلك بعد الاستشارة لأهل العلم ومن تثق فيهم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 24 معاتبة الوالدين السؤال هل يجوز معاتبة الوالدين، وكيف يتم ذلك؟ الجواب الحقيقة الأخ جزاه الله خيراً متفاعل، يبدو أنه حتى سيعاتب والديه. أما معاتبة الوالدين، فالوالدان -أسأل الله أن يحفظهما ويرعاهما- فإن لهما حقوقاً كثيرة، وهذا موضوع قصرنا فيه كثيراً، ولو علمنا ما كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يفعلونه مع أمهاتهم وآبائهم لرأينا عجباً، وهم على ما هم عليه من تقى وصلاح وورع. وسبحان الله! ويبدو أن الدنيا وشهواتها وملذاتها تؤثر فينا كثيراً. فأقول: مهما كان من الوالدين من الخطأ، بل حتى أن الله سبحانه وتعالى أخبر ولو وصل الأمر بدرجة الكفر، فعليك أن ترعاهما وتحفظ حقهما، فكيف بأخطاء يسيرة، ولكن إن كان ما يقع من الوالد أو الوالدة -على سبيل المثال، يعني شيئاً يسيراً- فلك أن تعتب عتاب المحب وعتاب المذل -أي: الذي أصابه إذلال- لوالديه، واخفض جناح الذل لهما، فإن رأيت أنَّ الوالد والوالدة وقع منهما شيء فلا بأس من التنبيه والنصيحة وبيان الخطأ في أسلوب رقيق رفيق لين محبب للقلوب، فإن رأيت أنك أثقلت، فكف عن هذا؛ فإن حق الوالد أو حق الوالدين عظيم وكبير. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 25 البعد عن الحسد وإساءة الظن السؤال أكثر ما يكون سبباً للكلام في الناس وإساءة الظن فيهم هو الحسد أريد توجيه كلمة في ذلك؟ الجواب لعلك ترجع -بارك الله فيك- إلى (سلامة الصدر مطلب) ففيه خير كثير في مثل هذا الأمر. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 26 طرق العمل لنصرة المسلمين السؤال أحس بالهمّ والغم وقلبي والله يحترق على واقع المسلمين وتكالب أعداء الدين على المسلمين في شتى أنحاء العالم، فما هو الحل، وكيف العمل من أجل ديننا الحنيف افتونا بارك الله فيكم؟ الجواب أعوذ بالله من الهم والغم، هي ليست فتوى وإنما همّ -أيضاً- نشارك فيه، فأحسنت -بارك الله فيك- عندما أحسست بهذا الهمّ، ثم إن هذا الهمّ هو المطلب الأول لكل مسلم، أن يشعر بالهمّ تجاه إخوانه وما يحصل لهم؛، لكن أن تتقلب في بيتك برغد العيش وشهوات الدنيا، وتنسى إخواناً لك في كل مكان وما يحصل لهم؛ فهذا ليس من كرم الكرام، وليس من أخلاق الرجال، فضلاً على أن يكون من أخلاق المسلم أن يهتم بإخوانه المسلمين، والمسلمون مؤمنون في تواد (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. مثلاً: في فصل الشتاء، كلٌ منا يا أحبة! في بعض الأحيان قد يشكو البرد، فأقول: سبحان الله! نحن نشكوا البرد وقسوته، ونحن لدينا الملابس الكثيرة، وفي بيوتنا وتحت المكيفات الحارة، والدفايات الساخنة، والطعام متوفر، وما أحوج الإنسان إلى الطعام في فصل الشتاء، والسيارات متيسرة، وكل أمور الرخاء بفضل الله سبحانه وتعالى ومنته -نسأل الله أن يعيننا على شكرها- متيسرة، ومع ذلك قد لا نرى أحداً يفكر في أحوال المسلمين سواء في الداخل أو الخارج، أقول: الداخل؛ لأنك لو تبصرت في حيك وفي جيرانك لوجدت الأرملة المسكينة التي تبحث عن من يعينها، ومن يقضي حوائجها، بل وربما وجد في بيتها صبية لا يملكون ما يلبسون في فصل الشتاء، وأقول: أدر بصرك -بارك الله فيك- يمنة ويسرة، ودقق النظر في أحوال حيك ستجد شيئاً كثيراً من هذا، ثم انظر مرة أخرى إلى هؤلاء المساكين من العمالة الذين جاءوا إلينا وسخرهم الله سبحانه وتعالى لنا انظر لحالهم ولباسهم في الشتاء، فأين أنت منهم؟ فضلاً عن إخوانك الذين يعانون الحرب والبرد والجوع والزلازل والفتن في كل مكان. فلذلك أقول: أول العمل هو الهمّ، ومشاركة هؤلاء، ثم أمر آخر وكلٌ قادر عليه، ومع الأسف لا يفعله إلا القليل. أقول: يا أخي الكريم! تعلم أن المال هو عصب الحياة، وأن السبب الرئيسي الذي يعين المسلمين في كل مكان هو المال، فلماذا لا تكن أنت حصالة للمسلمين في كل مكان؟ وقد أعجبني موقف صبي صغير أظنه في أول متوسط -والله حصل هذا الموقف- هذا الصبي جاء في يوم من الأيام بعلبة الحليب النيدو، جاء بها إليّ وكان قد شمعها من الأعلى ثم فتح فتحة من الوسط، وكتب عليها: تبرعوا لإخوانكم المسلمين، فقال: افتحها، قلت: ما فيها؟ قال: فيها مال، قلت: من أين؟ قال: كنت أجمعه من أقاربي وأهلي فإذا كان هناك مناسبات للرجال وضعته عند الرجال، وإذا كانت مناسبة عند النساء وضعته عند النساء، وهكذا حتى جمعت هذا. سبحان الله! يا ليتنا كلنا نشعر بشعور هذا الطفل الصغير، ونحس بإحساسه. ويذكر لي أحد الدعاة يقول: تكلمت في مسجد من مساجد الكويت عن أحداث الصومال، يقول: فلما خرجت وجدت مجموعة من الصبية قد اجتمعوا عند باب المسجد ومعهم كرة، فقالوا لي: يا شيخ! نحن ما معنا فلوس ولكن خذ الكرة أعطها أولاد الصومال يلعبون بها. سبحان الله! هكذا نربي صغارنا يا أحبة! فضلاً عن كبارنا الذين نرجو أن يفعلوا شيئاً للمسلمين، فأقول: لماذا لا تهب نفسك وتجاهد بأن تكون حصالة للمسلمين؟ اجمع مرة يميناً ومرة يساراً، من فلان ومن علان، من قريب ومن بعيد، ثم ضعها في يد ثقة تعلم أن له بضعة في هذا الأمر، يوصلها بطريقته الخاصة، وفي مؤسسة موثوقة، أما أنت نقول: والله ما ندري ماذا نفعل؟ ونأكل ونشرب وننشغل في دنيانا فلا، ويعلم الله أن الله سائلنا عن حالنا وحال رخائنا وعن حال المسلمين وما يصيبهم، وكلٌ سيسأل وكلٌ إن قدم شيئاً سيجده عند الله جل وعلا فلا تحتقر نفسك. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 27 قضية التعدد في النكاح السؤال أنا فتاة ملتزمة ولله الحمد، ولا أريد أن يكون ارتباطي إلا بمن يعينني على الطاعة والعبادة، ولكني أجد نفسي مخالفة بين التزامي بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الواقع، وكثيراً ما أعاتبها، فإنه يتقدم لي شباب ملتزمون، ولكنهم يقابلون بالرفض؛ لأنني الزوجة الثانية، وأشعر بالغيرة في قلبي، ولا أتصور أنني سأعيش مع نصف رجل رغم اقتناعي بالتعدد، ويقيني أن التعدد بما جاء به الرسول، وأن من نواقض الإسلام بغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنني عجزت أن أنتزع الغيرة من نفسي، ولكم أتمنى ذلك مع نصحكم لي، وجزاكم الله خيراً؟ الجواب أولاً: نحن نريد ألا ننتقل إلى موضوع آخر، والحقيقة أن الوقت لا يسع قضية التعدد، ثم أخشى أن يغضب علينا أيضاً إن تكلمنا عن هذا الأمر، وشرع الله لا يغضب؛ ولكننا نراعي النفوس، وجزى الله خيراً الأخت أنها ذكرت أنها لا تعارض هذا الأمر بقدر ما تجد في نفسها غيرة، أو تصور ما في نفسها غيرة عندما تشارك امرأة أخرى في رجل. وأنصح الأخوات والنساء عموماً بمثل هذا الأدب الجم مع كتاب الله ومع شرع الله، أن نؤمن أن هذا من عند الله سبحانه وتعالى، وأن هذا لحكم ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، وذكرها كثير من أهل العلم في مؤلفاتهم، ولم ينفع التعدد تعذيب للمرأة كما تتصور المرأة أو إيذاء لها، لا والله. ومع الأسف أن كثيراً من الأخوات إذا أعطيت كتاب عن التعدد تقرأه رفضت، وإذا جاء الزوج في رسالة أو كتيباً عن التعدد تجد أنها قد تنهره وتوبخه، لماذا؟ هذا إعراض عن الحق، نحن لا نقول عددي، ولا نقول تزوجي من معدد، ولكن نقول اقرئي، وتثقفي، واعلمي حقيقة الأمر حتى تعلمين. ثم نقول لهذه الأخت: أولاً: أعانك الله أنت وأمثالك وإخواننا جميعاً على الالتزام بطاعته، ووفقنا على طريق الهدى وسددنا إلى الرشاد، ثم نقول: إن الغيرة طبع في النفس خاصة في نفس النساء، ولك أن تقرئي في السيرة معلمة الرجال والأجيال عائشة رضي الله تعالى عنها، والأحاديث في صحيح البخاري ومسلم كثيرة حول غيرتها، ولكن لم تمنعها غيرتها رضي الله تعالى عنها من إحقاق الحق، فنقول: ثقي بالله جل وعلا، وطمئني نفسك (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) وإن تقدم لك صالح ملتزم فعضي عليه بالنواجذ، أما ما يثيره أعداء الإسلام حول أنك تتخذين نصف رجل -كما يقال- أو غيرها من الإثارات والشبهات حول هذه القضية، فإنما هي مداخل دخلها علينا أعداء الإسلام عبر الإعلام ووسائله. وكما ذكرت الموضوع يحتاج إلى تفصيل وذكر في أشياء كثيرة، ثم لا ننس أن الرجل قد يكون عليه ذنب بعض الأحيان أو شيء من الخطأ في الصور التي تنقل عن التعدد وآثاره؛ لأنه قد يكون الرجل متجبر، وقد يسيء التعامل، وقد لا يعدل مما يجعل من مثل هذه الأمور تنتشر بين النساء، وإن كنت أثق أن ثلاثة أرباع ما ينتشر بين النساء هو من البهتان والباطل، ولكن أيضاً الإنصاف يدعوني إلى أن أقول: أيضاً قد يكون الرجل مشارك في هذا الأمر بأنه قد لا يعدل بين الزوجتين، وقد يفضل إحداهما على الأخرى، ونعلم من هذا الكثير، ولكن -ولله الحمد والمنة- هناك أيضاً أناس صالحون متقون يخافون الله جل وعلا، ونعلم من قصصهم الكثير، وهم في عيشاتهم مع زوجاتهم مطمئنون مرتاحون بفضل الله، وليس معنى انتشار قصة أو حادثة أو حادثتين أن الجميع بهذه الصورة، لا. بل إن كثيراً من النساء شبه الأخوات، وقد سارت حياتهن بسعادة عظيمة أفضل من الزوجة الواحدة، ثم إن رأيت في نفسك أنك لا تقدرين على الأخذ من زوج معدد فلا أحد يلومك لا تأخذيه، ولكن نقول أيضاً: لا تحرقي أوراقك وتحرقي نفسك من انتظار الأزواج، وتذهب الأيام والليالي والسنون وأنت على وضعك، ثم أنت الخسرانة في البداية والنهاية. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 28 طلب دعاء بالصلاح والهداية السؤال أحد الشباب الحضور لأول مرة يحضر لمثل هذه الدروس بعد سنوات عجاف قضاها في عالم الظلمة، أرجو أن تدعو له بالهداية وجزاك الله خيراً؟ الشيخ: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهديه، وأن يفتح على قلبه، وأن يرزقنا وإياه الثبات، وأن يوفقنا إلى طريق الخير والصلاح. ونقول له: أبشر يا أخي الكريم! ويا أخي الحبيب! ما دمت عرفت هذا الطريق، فإن الله سبحانه وتعالى أراد بك خيراً كثيراً، وتصور لو أنك مت على حالك السابقة، وعلى جهالتك وضلامتك كيف سيكون حالك في قبرك ويوم القيامة والدار والآخرة؟ وهذه هي محطتنا وهي مآلنا، ولكن السعيد من وفقه الله، وقذف في قلبه نور الهداية، وأعانه إلى هذا الطريق. فنقول: شد أزرك واتكل على الله سبحانه وتعالى، وابحث عمن يعينك في هذا الطريق، ولا يهمك قول القائلين، وإشاعة المبطلين والمثبطين، وإنما سر على بركة الله، واستعن بإخوانك الصالحين ليدلوك على كثير من وسائل الهداية ووسائل الثبات، وفقنا الله وإياك وثبتنا على طاعته. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 29 الأتقياء عذراً أيها القلب أعرفتني؟ لا تقل إنك لا تعرفني؛ فقد وقفت على مشارف أسوارك، وقرعت أبوابك كثيراً، وكنت أحوم لأجد منفذاً أنفذ إليك منه. إنني السر العجيب في حياة القلوب في ترك الفتور والهوان إنني أريدك أن تحيا حياة السعداء أريدك أن تكون علماً من الأعلام وصالحاً من الصالحين. فهل عرفتني أيها القلب؟ لا شك أنك عرفتني إنني مراقبة الله، والخشية والخوف من الله سبحانه وتعالى فاتق الله حيثما كنت. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 1 سبب الحديث عن الأتقياء إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: أحبتي في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذه ليلة الثلاثاء الموافق للثاني والعشرين من شهر ذي القعدة للعام (1414) من هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا الجامع المبارك، جامع العجلان في مدينة (الخضراء) والذي يؤم المسلمين فيه فضيلة الشيخ/ عبد الله السلامة حفظه الله ورعاه، وحيا الله هذه الوجوه الطيبة النيرة، التي أسأل جل وعلا أن ينفعنا وإياهم بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا. موضوع هذا اللقاء أيها الأحبة! هو بعنوان: (الأتقياء) . فقد كنت أتأمل حديثاً أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الزهد من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) فأخذت أتأمل في هؤلاء الذين نالوا هذا الشرف العظيم: محبة الله سبحانه وتعالى، أولئك الأتقياء الأغنياء الأخفياء، فقلت: وما الذي يمنع أن نتتبع صفات هؤلاء ونتحدث عنهم لأنفسنا؟ ويعلم الله أنني أستغفر الله من جرأتي على الكلام عن هؤلاء، فحينما أتحدث عن الأخفياء أو الأتقياء أو الأنقياء، ليس معنى ذلك أننا نتصف بصفاتهم، لا والله! فنحن أعلم بأنفسنا، ولا نقول هذا تواضعاً، فكل إنسان أعلم بنفسه، ولذلك كان الحديث عن هؤلاء من باب: أحب الصالحين ولست منهم وأرجو أن أنال بهم شفاعة ولعلنا بالحديث عنهم نلزم أنفسنا بتعلقها بشيء من صفاتهم رحمهم الله تعالى. ثم -أيضاً- ونحن نسمع مواقف هؤلاء الأتقياء نعرف عندها حقيقة أنفسنا وبعدنا عن المنهج الذي أراده الله جل وعلا لنا، وكما قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال؛ مخافة الوقوع في الحرام. ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نلحق بركاب المتقين في أكثر من آية في كتابه، وقد وردت مادة (وقى) بتصاريفها في كتاب الله عز وجل ثمان وخمسين ومائتي مرة في القرآن الكريم. وقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بها في قوله: -وكما سمعتم في خطبة الحاجة التي كان صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ بها في أحاديثه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] . وقد روى البخاري عن مرة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر) . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [ألا يعصى طرفة عين] . وذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: (يارسول الله! ومن منا يقوى على هذا؟) فكأنها شقت عليهم رضوان الله تعالى عليهم، فأنزل الله الرحيم الرحمن بعباده قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فنسخت تلك الآية كما ذكر ذلك المفسرون. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 2 السر في حياة الأتقياء لست هنا لأتكلم عن ثمرات التقوى، وإنما لأتكلم عن السر العجيب في حياة هؤلاء. وثمرات التقوى كثيرة، ذكرها الله جل وعلا في كتابه كثيراً، وترددت في أكثر من سورة، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4] ويقول سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} [البقرة:282] ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:5] . وكما ذكرت ما السر العجيب في حياة هؤلاء الأتقياء؟ ما الذي جعلهم بصورة تجعلنا ونحن نقرأ مواقفهم وننظر في أحوالهم نتعجب أشد العجب؟! فإذا نظرنا إلى أنفسنا قلنا: لعل هذه أساطير الأولين، لولا أنها رويت لنا بالأسانيد الصحيحة، وفي أمهات الكتب التي كتبها أولئك الأتقياء رضوان الله تعالى عليهم. فما هو السر العجيب في حياة أولئك حتى وصلوا إلى مثل هذه الثمرة، فأصبحوا من أحباء الله الذين نالوا شرف هذه المحبة؟ اسمع للسر العجيب قبل أن أفصح عنه وهو يتحدث إلى القلب: عذراً أيها القلب أعرفتني؟ لا تقل إنك لا تعرفني؛ فقد وقفت على مشارف أسوارك، وقرعت أبوابك كثيراً، وكنت أحوم لأجد منفذاً أنفذ إليك منه. إيهٍ أيها القلب لقد أصبحت أقسى من الحجر، لماذا تحاول الهروب مني؟! ولماذا هذا الصدود عني؟! فكلما هممت بأمر سوء حاولت الوقوف أمامك لتراني لتذكرني لترجع عن همك، لكنك تتجاهلني وكأنك لا تراني!! ويحك أيها القلب إنني السر العجيب في حياة القلوب إنني السر العجيب في ترك الفتور والهوان إنني أريدك أن تحيا حياة السعداء أريدك أن تكون علماً من الأعلام وصالحاً من الصالحين أريدك أن تكون مباركاً في أعمالك وأقوالك. تعال أيها القلب! تعال واسمع لحياة النبلاء، وسير الرجال، يوم أن كنتُ أتربع على العرش في قلوبهم، وأصول وأجول في صدورهم: كانوا جبالاً في الجبال وربما ساروا على موج البحار بحارا بمعابد الإفرنج كان أذانهم قبل الكتائب يفتح الأمصارا كانوا يروا الأصنام من ذهب فتهدم ويهدم فوقها الكفارا لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتهم والأرض تقذف نارا اسمع أيها القلب! يوم أن فتح لي أولئك الرجال قلوبهم، فأصبحوا سادة في كل شيء نعم. في كل شيء. ذكر الذهبي في السير أن الحسن بن علي مولى ابن المبارك قال: اجتمع جماعة فقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه: إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نورها وجمالها إذا ذكر الأخيار في كل بلدة فهم أنجم فيها وأنت هلالها أسمعت أيها القلب؟! بفضل الله ثم بفضلي كان كل ذلك، فهل عرفتني؟ بل تعال واسمع، وقبل أن أفصح عن نفسي وعن هويتي، تعال واسمع لعلم ثان من هؤلاء الأعلام. إنه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، مؤرخ مفسر محدث مقرئ فقيه أصولي من أكابر الأئمة المجتهدين، قال الخطيب البغدادي في تاريخه: كان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه؛ لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في التفسير لم يصنف في التاريخ أحد مثله. أسمعت أيها القلب؟ ألا تسأل إذاً ما هو السر في حياة النبلاء؟! إنه أنا السر، السر العجيب! فأين أنت من أولئك؟! هل تذكر لي -يا أخي! - منقبة واحدة لك من تلك المناقب التي عددناها لأولئك الأعلام؟! مسكين أنت أيها القلب! غرقت في الشهوات والملذات أصابك الخمول والكسل أصابك الفتور والهوان أصبحت عبداً للدنيا دون أن تشعر، كل ذلك يوم هجرتني!! أيها القلب! إن الأمثلة في حياة النبلاء كثيرة وطويلة، ولكن خذ مثلاً ثالثاً وأخيراً لتقتنع: أسمعت بـ ابن تيمية؟! لا شك نعم. إذاً: فاسمع كلام ابن سيد الناس فيه، يقول عنه رحمه الله تعالى: كاد يستوعب السنن والآثار حفظاً، إذا تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وروايته، أو حاضر بالملل والنحل لم تر أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين مَن رآه مثله إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى. وابن تيمية هو العالم المجاهد العابد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، فعجيبٌ أمر أولئك كيف جمعوا تلك الخصال كلها!! بينما تنظر إلى حالك أيها القلب! فلربما لم تجد خصلة واحدة فيك. لكنه السر العجيب! الذي حولهم إلى أعلام وأبطال. فافتح لي أبوابك أيها القلب! وتذكرني جيداً واجعلني ملازماً لك؛ تنل الخير كله في الدنيا والآخرة. فهل عرفتني أيها القلب؟ أو أنك ما زلت تتجاهلني؟ لا شك أنك عرفتني فالآن أتركك وسأرجع إليك بعد حين، حتى تعد لي منزلاً، في سويداء قلبك!! الجزء: 19 ¦ الصفحة: 3 أهمية التقوى في بناء صحوة الأمة لا شك أن الجميع بحاجة إلى هذا السر العجيب كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء، علماء ومتعلمين، مع شدة غفلتهم عنه، لكنه مهم جداً، ومؤثر فعال في حياة شباب الصحوة والدعاة إلى الله، وما أكثرهم والحمد لله. ولكنَّ كثيراً منهم تعجبك أجسامهم وأشكالهم وأحوالهم، لكنك تبحث عنهم في الميادين فتجد الخمول والكسل والهوان، فتسأل عن السبب؛ فإذا هو غياب هذا السر العجيب. نقرأ الآيات فلا قلب يتأثر إلا من رحم الله منا! نسمع الأحاديث فلا عين تدمع! ننظر للقصص والعبر فلا جسد يقشعر ويخشع! نحمل الموتى وندخل المقابر ونخرج والقلب هو القلب! نسمع أنين الثكالى، وصرخات اليتامى، والأحداث في كل مكان والقلب هو القلب!! لا إله إلا الله! ماذا أصابك أيها القلب؟! نسأل عن السبب ونبحث عن العلاج؛ فإذا هو مرة أخرى هو ذلك السر. أصبحنا -إلا من رحم الله منا- نكذب ونغتاب ونأكل الشبهات، لا. بل ونقع في المحرمات!! فنسأل -أيضاً- عن السبب، فإذا هو غياب هذا السر في كثير من قلوب الناس. هذا السر أقضَّ مضاجع الصالحين، وأزعج قلوبهم، وأسال دموعهم، فعرفوا حقيقة هذه الحياة. هذا السر يحفظ الأمن والأمان، وبه تكثر الخيرات، وتتنزل البركات، وبغيبته ينتشر الفساد، ويعق الأولاد. فهل عرفتني أيها الأخ الحبيب؟! لابد أن تعرفني؛ لأنني أنا الحارس الأمين لقلبك المسكين، إنني المراقب، ولكني لست المراقب الإداري ولا المراقب الصحي، فأنا المراقب الشرعي. إنني مراقبة الله، أو إن شئت فقل: الخشية والخوف من الله سبحانه وتعالى، فلا بأس؛ فكلنا من عائلة واحدة، والمهم أن تعرف أنك بحاجتي حاجةً ماسةً في كل لحظة، فاتق الله حيثما كنت، وانتبه لقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123] {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة:235] . وردد في كل لحظة: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} [الأحزاب:52] وتذكر أنه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] . فيا أخي الحبيب! أين المفر {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] ؟ وويل لذلك العاصي {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] !! وداوِ ضمير القلب بالبر والتقى فلا يستوي قلبان قاسٍ وخاشعُ {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} [النور:52] . إذاً: عرفت السر العجيب -يا أخي الحبيب! ويا أختي المسلمة! - في حياة أولئك النبلاء رحمهم الله تعالى، فما باب من أبواب الخير إلا وقد ولجوه، ولا صفة من صفات الفلاح والصلاح إلا وقد عُرفوا بها رضوان الله تعالى عليهم. ثم ننظر إلى أنفسنا فنبحث عن صفة واحدة، ومن كان صادقاً مع نفسه ربما لا يجد، ولذلك تعال لأسوق إليك آثار هذا السر العجيب في حياة أولئك النبلاء رحمهم الله تعالى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 4 من آثار التقوى أسوق إليك خمسة من الآثار، ولا شك أن الآثار كثيرة. كيف كانت خشية الله تفعل الأفاعيل في قلوب أولئك الرجال؟! لا أقول الرجال فقط، بل حتى النساء، ولا أقول الكبار فقط، لا. بل حتى الصغار أيضاً. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 5 الخشية أول هذه الآثار عندما عرفوا هذا السر -وهو خشية الله ومراقبة الله في كل حال- هو: استشعار عظم الذنب مهما كان صغيراً أو كبيراً. فمن كان مراقباً لله جل وعلا، ومن كان في قلبه خشية وخوف من الله؛ استشعر ذنبه أياً كان، سواء كان هذا الذنب صغيراً أو كبيراً! إذا وقع العبد الصالح المراقب لله جل وعلا في معصية، فما زالت هذه المعصية وما زال هذا الذنب يحرق قلبه. المهم: المبدأ، فصاحب المبدأ وصاحب الرسالة الذي يعيش لخدمة عقيدته ومبدئه ورسالته لاشك أنه متصف بهذه الصفة وهي استشعار الذنب، لا يهمه إن كان الذنب كبيراً أو صغيراً ما دام يعيش على مبدأ (لا إله إلا الله) ، فيحرص أن تكون حياته في رضا الله. فهذا هو التوحيد وهذه حقيقته، فإن وقع في الذنب مرة أو مرتين استشعر هذا الخطأ، فأقلع واستغفر وندم وتاب. عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه -كما أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات باب التوبة- أنه قال: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه -انظر إلى استشعار الذنب عند المؤمن- وإن الكافر أو الفاجر ليرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا فطار) كما قال راوي الحديث أبو شهاب. فهو لا يستشعر الذنب؛ لأنه لا يعرف عظمة من وقع في معصيته، ولو كان هذا القلب مراقباً لله؛ لأصبحت الدمعة سيالة على الخد، ولأصبح القلب رقيقا ليناً خائفاً خاشعاً لله جل وعلا. - خشية النبي صلى الله عليه وسلم: تعال واسمع لهذا المنهج الشرعي في حياة أولئك الأتقياء رحمهم الله تعالى، حيث كانت مراقبة الله معهم في كل لحظة، وفي كل أمر، سواء كان كبيراً أو صغيراً. ولنبدأ بحبيبنا وقدوتنا -بأبي هو وأمي- رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ذكر لنا البخاري في صحيحه في كتاب اللقطة: باب إذا وجد تمرة ساقطة، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها) . سبحان الله! (ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها) . هكذا يكون الخوف من الله، القضية عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شبهة؛ فهذه التمرة ليس من المؤكد أنها من تمر الصدقة، فلربما كانت من تمر الصدقة، ولربما كانت من تمر بيته!! ثم يخرج لنا الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تضور ذات ليلة -ومعنى تضور: أي: جزع وسهر صلى الله عليه وآله وسلم- فقيل له: ما الذي أسهرك يا رسول الله؟ -وتصور يا أخي الحبيب ما هو الشيء الذي أسهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما هو هذا الأمر الذي أقضَّ مضجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوال ليله- فقال صلى الله عليه وسلم: إني وجدت تمرة ساقطة فأكلتها، ثم ذكرت تمراً كان عندنا من تمر الصدقة، فما أدري أمن ذلك كانت التمرة أو من تمر أهلي؛ ذلك الذي أسهرني) . سبحان الله! تمرة تُسْهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه أكلها وهي شبهة. ولكنه المبدأ الذي يعيش عليه صاحب العقيدة، الذي يعيش عليه صاحب: (لا إله إلا الله) رضا الله فوق كل شيء، وخوف ومراقبة الله سبحانه وتعالى. - خشية الصحابة رضوان الله عليهم: ثم -أيضاً- تعال وانظر إلى التربية لأولئك الأصحاب الذين ساروا على هذا المنهج النبوي العظيم، فيخرج لنا البخاري في صحيحه -أيضاً- في كتاب مناقب الأنصار: باب أيام الجاهلية، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: [كان لـ أبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ فقال الغلام: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أُحسن الكهانة، إلا أني خدعته فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه -فماذا فعل أبو بكر الصديق؟! - تقول عائشة: فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه] . لا إله إلا الله! القضية عند أبي بكر -أيضاً- شبهة، فهو أكل الطعام وهو لا يعلم مصدره، ثم إن الغلام تكهن لهذا الرجل في الجاهلية والإسلام يجبُّ ما قبله. وفي رواية: [أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان بحضرته بعض أصحابه فقالوا: يا أبا بكر! ارحم نفسك! فقال: والله! ما أزال أخرج الطعام حتى لو ظننت أن روحي تخرج معه لفعلت] . الخشية والخوف من الله جل وعلا، فأين أولئك الذين يتعاملون بالربا، ويأكلون الحرام وهم يعلمون أنه حرام؟! أين هم من تلك المواقف؟! ولكنه السر العجيب، فخوف الله ومراقبة الله متى ما كانت في القلب نجا صاحبه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 6 الورع أما الأثر الثاني من آثار هذا السر في حياة النبلاء رحمهم الله تعالى، فهو: بيوت تتربى على الورع ومراقبة الله. لما امتلأت قلوبهم خشية لله وأصبحت هذه القلوب مراقبةً لله جل وعلا في كل صغيرٍ وكبير، تربت بيوتهم على هذا المبدأ البيت كله أصبح يعيش على خوف الله وخشية الله: الزوجة الأولاد الصغار الكبار أصبح ذلك البيت كله يتربى على الورع وعلى خشية الله وخوف الله. واسمع أمثلة على هذا الأمر: - من بيتكم يخرج الورع. ذكر القسطلاني في كتابه إرشاد الساري، أن امرأة جاءت إلى الإمام أحمد فسألته سؤالاً، هذا السؤال جعل الإمام أحمد يبكي. تقول المرأة للإمام أحمد: إننا نغزل على سطوحنا فيمر بنا مشاعل الظاهرية -أي: الحرس- فيقع الشعاع علينا، أفيجوز لنا -يا إمام! - الغزل في شعاعها؟! سبحان الله! تسأل تلك المرأة الإمام أحمد: أيجوز لها أن تستغل هذا النور الذي يقع عليها للحظة من نور الحرس في غزلها؟! وفي لفظ آخر لهذه القصة، ذكره عبد الله بن المبارك في كتابه الزهد والرقائق: أن المرأة قالت للإمام أحمد: يا إمام! إنني أغزل على ضوء السراج، وربما انطفأ السراج، فأغزل على ضوء القمر، أيجب عليَّ -يا إمام! - عند بيع غزلي أن أفرق للبائع ما غزلته تحت ضوء السراج مما غزلته تحت ضوء القمر؟! سبحان الله! إلى هذا الحد يصل الورع والخشية والخوف في قلوب المؤمنين متى ما تحقق هذا المبدأ، وهو خوف الله ومراقبة الله. فاسمعي أيتها الأمة! واسمعي أيتها الصالحة! يوم أن كانت بيوت المسلمين تتربى على الورع. فقال لها الإمام أحمد متعجباً لورع هذه المرأة: من أنت يا أمة الله؟! من أنت عافاك الله؟! فذكرت أنها أخت لـ بشر الحافي، فبكى الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق. متى؟ يوم أن كانت بيوت المسلمين تتربى على الورع، وعلى خشية الله يوم أن كان الرجل يخرج من بيته مخلِّفاً وراءه امرأة صالحة ساجدة خاشعة باكية دامعة لله جل وعلا. هكذا يا أخي الحبيب! وهكذا أيتها المسلمة! كانت بيوت المسلمين تتربى على الورع وعلى خشية الله وخوف الله. وأسألك بكل تجرد عن الهوى: على أي شيء تتربى بيوت المسلمين اليوم؟ وكن صادقاً مع نفسك، فنحن نريد الحق ولا شيء غير الحق. على أي شيء تتربى بيوت المسلمين اليوم؟ كم من رجل أدخل جهاز التلفاز إلى بيته، فأصبحت تلك الفتاة المراهقة تجلس ساعات طوال من الليل أمام هذه الشاشة، فما الذي تسمعه؟! وما الذي تراه؟! وكيف سيكون حالها؟! وكيف هي مشاعرها؟! وكيف قلبها؟! تقوى لله، وخوف من الله، وخشية لله؟! من أي طريق ستصل هذه المبادئ لذلك القلب؟! أنت خرجتَ ربما لسهراتك أو لمشاغلك ومواعيدك، أو أنك نمت في ليلك فتركت أولادك وبناتك أمام هذا الجهاز، وكلنا يريد الصلاح لذريته، وكلنا تقرّ عينه عندما يرى ولده صالحاً سباقاً إلى بيت من بيوت الله حافظاً لكتاب الله، أو يرى فتاته صالحة ملتزمة، كلنا يحب ذلك، لكن أين ذلك الرجل الذي فعل الأسباب وهيأ ذلك الجو المناسب داخل البيت حتى يصل خوف الله وخشية الله إلى تلك القلوب الرقيقة؟! - راقبت ربها وحفظت زوجها: وتعال واسمع -أيضاً- لتلك المرأة عندما كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه يعسّ في شوارع المدينة كعادته في الليل، فاتكأ على جدار من جدران بيوتات المدينة، فإذا به يسمع تلك الهمهمة من تلك المرأة امرأة لوحدها في بيتها وفي ظلمة الليل مع ضعف نفسها وقوة شيطانها، زوجها قد سافر مع جيش المسلمين طويلاً، وهي لا تعلم أن أحداً يسمعها فتتمثل بهذه الأبيات وتقول: تطاول هذا الليل واسودّ جانبه وأرقني ألا خليل ألاعبه فوالله لولا الله لا شيء غيره لحرّك من هذا السرير جوانبه ولكن تقوى الله عن ذا تصدني وحفظاً لبعلي أن تنال مراكبه الله أكبر! يوم أن تخرج -يا أخي الحبيب! - من بيتك وقد خلفت امرأة صالحة تراقب الله وتخشى الله، فتحفظك في نفسها، وفي بيتها ومالها، وفي ولدك وبناتك. ما أحلى أن تتصف المرأة المسلمة بهذه الصفة!! بخشية الله وخوف الله. لكن رب أمير المؤمنين يرانا!! بل تعال واسمع لبنات المسلمين يوم أن تربوا على خشية الله كيف أثّر هذا السر في حياتهم، قصة بائعة اللبن قصة مشهورة معروفة، وكلنا يعرفها: لما كان عمر يعس -أيضاً- في شوارع المدينة يسمع هذا الحوار بين الأم وابنتها، تقول الأم: يا بنية! أمزجت اللبن بالماء؟ -حتى يكثر ربح هذا البيع- فتقول البنية: يا أماه! أوَ ما علمت أن أمير المؤمنين نهى أن يمزج اللبن بالماء؟ فتقول الأم بقلب المرأة التي غفلت عن ذكر الله وغفلت عن رقابة الله: يا بنية! وما يدري أمير المؤمنين بنا الآن؟! نعم. فالذي يراقب الناس ويخشى الناس ويخاف الناس هو داخل في بيته متقوقع لا يعلم عنه أحد، هو داخل أسوار بيته، فما الذي يُدري أمير المؤمنين بنا الآن؟!! ولكن تأتي الإجابة من قلب تلك الفتاة الصغيرة البريئة التي تربت على خشية الله، وانظر يا أخي الكريم! كيفية ثمرة التقوى وخشية الله إذا ربيت صغارك عليها، تأتي الإجابة من قلب تلك الفتاة الصغيرة لتقول: يا أماه! إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فإن رب أمير المؤمنين يرانا. هكذا هو القلب المتعلق بالله، الذي يراقب الله جل وعلا. فأقول: من منا وقف مع هذا الموقف؟ وكما أسلفت كلنا يعرفه؛ فهو موقف مشهور، ولكن من منا وقف معه وحدّث به أهل بيته بل وحدث به صغاره؟ فكم من المرات جاءت بنياتك الصغيرات يقلن: يا أبتِ! أو يا أمي! قصّي لنا قصة أو احكي لنا حكاية. أين أنتم من هذه المواقف؟! أين من أراد أن يربي الصغار على خشية الله وخوف الله؟! كم من والد وكم من أم سالت الدمعة على الخد من عقوق أبنائها وبناتها، وكم من والد شكا أولاده لكثير من الصالحين. وأقول: يداك أوكتا وفوك نفخ، فأنت الذي أهملت، ولو غرست هذه النبتة الصالحة -خوف الله وخشية الله- منذ الصغر في قلوب هؤلاء؛ لوجدتهم على خير ما تريد وعلى صلاح وفلاح. - هل يبقى في الجدار تبن؟!! اسمع للإمام حماد بن زيد رضي الله تعالى عنه وأرضاه يقول: كنت صغيراً مع أبي، فمررنا على جدار فيه تبن، فأخذت من الجدار عود تبن، فوقف أبي ونظر إليَّ كأنه ينهرني، فقال لي: لمَ أخذت؟! هكذا بشدة: لمَ أخذت؟!! يقول حماد: فقلت ببراءة الصغير: يا أبتاه! إنه عود تبن!! فقال الأب -واسمع لأولئك الآباء-: يا بني! لو أن كل أحد مرّ على الجدار أخذ عود تبن هل كان يبقى في الجدار تبن؟! تربية على أصغر الأشياء وأحقرها وإن كان عوداً من التبن، حتى إذا كبر الصغير وعقل وفهم لا تمتد يده على أي شيء حتى لو كان كبيراً أو صغيراً. هكذا هي التربية، وهكذا هو الخوف من الله سبحانه وتعالى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 7 كثرة الخلوة بالنفس والدمعة المباركة الأثر الثالث من آثار هذا السر في حياة النبلاء: كثرة الخلوة بالنفس والدمعة المباركة، فما زالت خشية الله، وما زالت مراقبة الله في قلوب الصالحين حتى اختلوا بالله سبحانه وتعالى، مناجاة له جل وعلا في ظلمة ليل أو خلاء أو مكان لا يراه فيه أحد، وربما سالت الدموع على الخدود تذكراً لعظم ذنب أو لتقصير في حق الرب جل وعلا. وهذا الأثر يوضحه لنا صلى الله عليه وآله وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) . واسمع! (ورجل ذكر الله خالياً) لوحده في ظلمة ليل أو في مكان لا يراه فيه أحد، وتذكر عظم ذنبه وتقصيره في حق ربه، وتذكر منّة الله جل وعلا عليه وإنعام المولى سبحانه وتعالى، فسالت الدمعة على الخد خوفاً وخشية لله جل وعلا، فكان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. أسألكَ بالله وأسألكِ بالله! كم من المرات حدث لنا مثل هذا الموقف؟ كم من المرات اختليت بالله جل وعلا فتذكرت ذنبك وتقصيرك في حق ربك؛ فسالت الدمعة على الخد؟! إن جرّبت ذلك فزدْ، وإن لم تجرّب فجرّب، قف هذه الليلة في ظلمة الليل. اختفِ عن أعين الناس وسترى أثر الإيمان وحلاوته وخشية الله ومراقبته في قلبك كيف يكون. - خلوة الفاروق ومراقبته لنفسه: عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ما قرأت يوماً في سيرته إلا وتعجبت من مواقفه رضي الله عنه ورحمه، ولا أظن -والله! - يوماً أن دمع العين أخطأ مجراه عند قراءة سيرة هذا الرجل، ولا تقل -يا أخي الحبيب! - إن عمر مشهور، فوالله! مهما عرفت من قصصه ومواقفه فإنك تجهل الكثير الكثير في حياته. هذا الرجل حياته عجب أيما عجب! ومواقفه كثيرة، وانظر مواقفه في خشية الله ومراقبة الله يوم أن كان صاحب قلب قاس متحجر، وقصته -وإن كانت تروى بأسانيد ضعيفة- في إسلامه، يوم أن حمل السيف، لماذا؟! ليقتل رسول الله، ولا أظن قلباً يحمل السيف لقتل رسول الله إلا وقد امتلأ هذا القلب بغضاً وحقداً وتكبراً وتجبراً، فسبحان الله! ولا إله إلا الله! يوم أن فعلت الأفاعيل في قلب هذا الرجل، فحولته من هذا القلب المتجبر القاسي إلى قلب رقيق لين خاشع باك خائف من الله جل وعلا. يذكر الذهبي في سيرة عمر، وأبو نُعيم في حلية الأولياء، أن من صفة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كان في خديه خطان أسودان؛ من أثر كثرة البكاء من خشيته لله وخوفه من الله. ويحكى أنه كان يوماً من الأيام يقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] حتى انتهى إلى قوله تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير:10] فخر مغشياً عليه رضي الله تعالى عنه وأرضاه. وكان يمر بالآية في ورده فتخنقه العبرة، فيبقى في البيت أياماً يُعاد يحسبونه مريضاً، كما ذكر ذلك الإمام أحمد في كتابه الزهد. واسمع لموقفه العجيب مع امرأته! يوم اشتهت يوماً من الأيام حلوى، فأرادت أن يشتري عمر لها حلوى، ويا ليتها تريد من عمر أن يشتري حلوى من بيت مال المسلمين، لا. وإنما من مال خاص بها، فاسمع لهذا الحوار بينها وبينه في هذه الأبيات: فمن يباري أبا حفص وسيرته أو من يحاول للفاروق تشبيها يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها لا تمتطي صهوات النفس جامحة فكسرة الخبز عن حلواك تجزيها وهل يفي بيت مال المسلمين بما توحي إليك إذا طاوعت موحيها قالت: لك الله إني لست أرزؤه مالا لحاجة نفس كنت أبغيها يعني: المال خذه. فقال لها: ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى فقومي لبيت المال رديها قد فر شيطانها لما رأى عمراً إن الشياطين تخشى بأس مخزيها هذي مناقبه في عهد دولته للشاهدين وللأعقاب أحكيها في كل واحدة منهن نابلة من الطبائع تغدو نفس راعيها لعل في أمة الإسلام نابتة تجلو لحاضرها مرآة ماضيها حتى ترى بعض ما شادت أوائلها من الصروح وما عاناه بانيها وحسبها أن ترى ما كان من عمر حتى ينبه منها عين غافيها هكذا كانت حياة الفاروق رضي الله تعالى عنه وأرضاه كثرة خلوة بالنفس وبكاء وخشية لله. ويوم أن كان على فراش الموت قال لولده عبد الله وقد رفع رأسه: [ضع رأسي على التراب، يا ليت أم عمر لم تلد عمر، يا ليت عمر كان شجرة تعضد] . لا إله إلا الله! إنها خشية الله عندما تكون في قلوب الصالحين. - إمام أهل السنة يخفي الدمعة: أحمد بن حنبل ناصر السنة إمام أهل السنة والجماعة قامع البدعة رضي الله تعالى عنه وأرضاه صاحب الزهد والورع، له كتاب مؤلف اسمه: كتاب الزهد، مطبوع وموجود في المكاتب، يروى في سيرته أنه كان يوماً من الأيام جالساً مع تلاميذه يحدثهم، فشعر في نفسه برقة ولين قلبٍ -وهكذا كانوا رحمهم الله يخفون دمعاتهم- فقام من المجلس، تأخر على التلاميذ، فذهب أحد التلاميذ ليبحث عن الإمام وينظر لماذا تأخر، فلما أقبل على باب الغرفة فإذا به يسمع الإمام أحمد يتمثل هذين البيتين ويبكي رضي الله تعالى عنه وأرضاه: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقلْ خلوتُ ولكن قلْ عليَّ رقيب ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب يردد هذين البيتين ويجهش بالبكاء رضي الله تعالى عنه وأرضاه. هكذا كانت الخلوة وخوف الله في قلوب أولئك النبلاء رحمهم الله تعالى. وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع) فهذا فضل لأولئك البكائين. فيا أيها الإخوة! ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فها هي نيران المعاصي والغفلة تأتي على قلوبنا فتحيل بينها وبين الخشوع والخشية لله، فهل نطفئها بالدموع الغالية ونبدأ المسير إلى الله جل وعلا؟! يا شيخ إنه الله! واسمع لموقف تربوي يحكيه لنا بعض أهل التربية في كتبهم، وفيه عبرة ونظرة للمربين وللمدرسين والمدرسات: يقال أن أحد المربين قال لصغاره: يا أبنائي! إذا كان من الغد فلا يأتي أحدٌ منكم إلا وبيده دجاجة قد ذبحها في مكان لا يراه فيه أحد، فلما كان من الغد، جاء الغلمان الصغار كلهم وقد علّق كل فرد منهم بيده دجاجة قد ذبحها في مكان لا يراه أحد، كما هي وصية شيخه، إلا تلميذاً واحداً، فقال له المربي: لماذالم تفعل كما فعل زملاؤك؟ وأين دجاجتك؟ قال الصغير: يا شيخ! إنك قلت لي أن أذبح الدجاجة في مكان لا يراني فيه أحد، وإنني صعدت السطح فوجدت أن أحداً يراني، ودخلت الغرفة فوجدت أن أحداً يراني، وما تركت مكانا في البيت إلا وكان هذا الأحد معي يراني. فقال الشيخ: من هذا الأحد يا غلام؟! فقال الصغير -الذي تربى على خشية الله ومراقبة الله-: يا شيخ إنه الله! إن الله معي في كل مكان يراني! فضمه الشيخ وقال: أحسنت أحسنت، أنت ابني إذاً. هكذا تكون التربية لأبناء المسلمين، وأقول هنا للمدرسين والمدرسات: أين أنتم من هذا المبدأ وغرسه في نفوس الصغار؟ أين أنتم من حمل الأمانة التي ضيعها كثير من أولئك؟! إن صغار المسلمين وأبناء المسلمين أمانة في أعناق كل مسلم ومسلمة، فمتى فكرت يوماً من الأيام أن تربي أو أن تخوّف هؤلاء الصغار بالله جل وعلا، وأن تغرس مثل هذا المبدأ في نفوسهم؟ ومتى وقفت أيتها الأم! أو أيها الأب! لتربي ابنك أو صغيرتك على هذا المبدأ؟! كثير من الأمهات إذا أرادت أن تخوف صغارها تخوفهم بأبيهم، ولذلك ينشأ الصغير على خوفه من أبيه، فإذا غاب الأب أصبح الصغير يفعل كل أمر تمليه عليه نفسه، وبسبب هذا الخطأ التربوي وجدنا أن كثيراً من الصغار -مثلاً- لا يحرص على صلاة الجماعة إلا إذا كان والده موجوداً. ولو أننا حرصنا على تربية الصغار أو تخويفهم بالله جل وعلا وإذا فعلوا شيئاً قلنا: إن الله يراك إن الله يغضب عليك، وخوفناهم بالنار، ورغبناهم في الجنة، فلا علينا إذا أطلقنا بعد ذلك العنان لهذا الصغير يذهب أينما شاء؛ لأنه كلما حدثته نفسه بمعصية تذكر رقابة الله وخوف الله، وبدأ قلبه الذي تربى على هذا المبدأ يفعل فعله، فيصبح سداً منيعاً أمام الشباب، وأمام الصغار بينهم وبين المعصية، وبينهم وبين وساوس الشيطان. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 8 حمل همِّ الآخرة وتعلق القلوب بها من آثار السر العجيب -مراقبة الله-: حمل همَّ الآخرة، وتعلّق القلب دائما بالآخرة وهمومها. وتعال واسمع للحسن البصري رحمه الله تعالى -وله كتاب أيضاً في الزهد مطبوع- عندما يروي لنا تلميذ من تلامذته وهو صالح بن حسان هذه القصة، قال: أمسى الحسن صائماً فجئناه بطعام عند إفطاره، قال: فلما قرّب إليه، عرضت له هذه الآية: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:12-13] قال: فقلصت يده عنه، فقال: ارفعوه، فرفعناه، قال: فأصبح صائماً فلما أراد أن يفطر -أي: في اليوم التالي- ذكر تلك الآية ففعل ذلك أيضاً، فلما كان اليوم الثالث انطلق ابنه إلى ثابت البناني ويحيى البكاء وأناس من أصحاب الحسن، فقال لهم: أدركوا أبي؛ فإنه لم يذق طعاماً منذ ثلاثة أيام، كلما قربنا إليه ذكر قوله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:12-13] قال: فأتوه فلم يزالوا به حتى أسقوه شربة من سويق. والحسن رحمه الله تعالى هنا لا يترك الطعام تزهداً، وإنما غلبه همّ الآخرة وتذكّر أهوالها؛ فجعله هذا الهم لا يشتهي طعاماً. هكذا كان هم الآخرة مع الصالحين. وقد أخرج ابن ماجة بسند صحيح قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كانت همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة. ومن كانت همه الدنيا فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له) . نسمع مثل هذا الحديث، ثم نرى تلك الهموم الدنيوية التي هي حديث مجالسنا، فتارة عن مشاريع تجارية، وتارة معمارية، وتارة وظيفية، وأخرى عن المركب أو عن الملبس أو المشرب، وهكذا حتى الصالح منا لم يسلم من هذه الهموم، فتجد أن هموم كثير حتى من الصالحين كثيراً ما تتعلق بدنياه. لكن أين هم الآخرة؟! ذلك الهم الذي غلب على قلوب أولئك الرجال. هكذا كان همّ الآخرة وتعلق القلوب بها في حياة أولئك الرجال. - بهذه الخشية فُضِّل ابن المبارك: وانظر إلى ابن المبارك رحمه الله تعالى، يقول القاسم بن محمد: كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر ببالي، فأقول في نفسي: بأي شيء فُضِل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة؟! إن كان ليصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو إنا لنغزو، وإن كان يحج إنا لنحج. قال: فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ انطفأ علينا السراج، فقام بعضنا لإصلاح السراج، فكانت هُنيهة -أي: لحظة من اللحظات- ثم جاء السراج، فنظرت إلى وجهه رحمه الله تعالى وقد ابتلت لحيته من كثرة الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فُضِّل هذا الرجل علينا، ولعله عندما فقد السراج وصار إلى الظلمة ذكر القيامة فتأثر. هكذا القلب عندما يتعلق بالله جل وعلا، فهذه لحظة من اللحظات غاب منها السراج، ظلمة من الظلمات، فتذكر ظلمة القبر، وتذكر أهوال يوم القيامة، وهكذا القلب المتعلق بالله، إذا رأى ظلمة تذكر ظلمة القبر، وإذا رأى ناراً تذكر نار جهنم وسعيرها، وإذا رأى خضرة ونعيماً تذكر نعيم الجنة، فهو متعلق بالله دائماً. ولذلك ذكر الإمام أحمد في كتابه الزهد، أن ابن مسعود مرَّ على هؤلاء الذين ينفخون الكير، فوقع مغشياً عليه. وذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة أن مطر الوراق وصاحبه هرم بن حيان كانا يصطحبان أحياناً بالنهار، فيأتيان سوق الرياحين فيسألان الله الجنة ويدعوان، ثم يأتيان الحدادين فيعوذان من النار، ثم يتفرقان إلى منازلهما. هكذا كانت القلوب تتعلق بالله خشية وخوفاً، وهكذا كان همّ الآخرة يفعل بقلوب أولئك الرجال. ب- يا سفيان! اذكر وقوفك بين يدي الله: بل تعال واسمع لهذا الموقف العجيب، وهو من أعجب المواقف التي قرأتها ووقفت عليها في سيرة الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى، يقول أحد تلامذته: كنت أتعجب من حياة الإمام! وكنت من عجبي به أتبعه في خلواته وجلواته، ثم رأيت منه عجباً، رأيت أنه يقف في اليوم مرات يخرج من جيبه رقعة فينظر إليها ثم يعيدها، يفعل ذلك في اليوم مرات، يقول: فازددت إصراراً في معرفة السر على الورقة، فما زلت خلف الإمام أتبعه، وألحظه في خلواته وجلواته حتى وقعت الورقة في يدي، فنظرت فيها فإذا مكتوب فيها ماذا تتوقع -يا أخي الحبيب! - أن يكون مكتوباً في هذه الورقة؟! ولماذا سفيان ينظر إلى هذه الورقة كل لحظة أو يفعل ذلك في اليوم مرات؟! يقول التلميذ: فإذا مكتوب في هذه الورقة: يا سفيان! اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل. سبحان الله! أمير المؤمنين في الحديث، سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه وأرضاه، صاحب الخشية والورع، علم أن هذه النفس تغفل، فأراد أن يؤدبها وأن يربيها، فكتب هذه العبارة في هذه الورقة، فكلما همت نفسه بمعصية أو غفلت، أخرجها فنظر إليها وقرأها فتذكر الآخرة، وتذكر وقوفه بين يدي الله عز وجل، فأين نحن من هذا الفعل؟ نحن قد نتثاقل كثيراً إذا سمعنا واعظاً يعظ، أو مذكراً يذكّر، أما أولئك فهكذا كانوا يفعلون رحمهم الله تعالى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 9 هضم النفس مهما بلغت من الصلاح الأثر الخامس والأخير من آثار هذا السر العجيب في حياة أولئك الرجال: هضم النفس والإزراء عليها مهما بلغت من الصلاح. وانتبه! لأن هذه آفة كادت تعصف بكثير حتى من الصالحين والأخيار: العُجب والغرور بالعمل. أما أولئك الرجال فكانوا يتصفون بهذه الصفة: الإزراء على النفس وازدرائها مع ما كان فيها من صلاح. سبحان الله! إذا كانوا يهضمون أنفسهم ويزدرونها وهم أولئك الذين سمعنا أفعالهم وصفاتهم في أول الحديث، فماذا نقول نحن إذاً عن أنفسنا؟! إن كثيراً من أهل الخير والصلاح ومن عامة الناس غفل قلبه حتى ظن أنه يذكر ولا يذكر، ويحدث ولا يحدث، وأنه ليس بحاجة إلى موعظة وتذكير فلا يسمع، وإن سمع فللانتقاد والملاحظات، ولا يقرأ وإن قرأ فللتدريس والتعليم. ولاشك أن هذا آفة كما ذكرنا، فمن آثار استشعار مراقبة الله جل وعلا عند أولئك الأخيار وأولئك السلف أنهم عرفوا حقيقة أنفسهم، مع ما بلغت من فعل الخيرات والصلاح. ولذلك اسمع للإمام الذهبي عندما يقول عن الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى: هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، كان سفيان رضي الله عنه من شدة تعلقه بالآخرة واستيلاء همها عليه، فكأنه جاء منها فهو يحدثك عنها رأي العين. ويقول أبو نُعيم: كان سفيان إذا ذكر الموت لم يُنتفع به أياماً. ويقول ابن مهدي: كنا نكون عنده فكأنما وقف للحساب. - إني إخاف الله: واسمع -أيضاً- لذلك الموقف الآخر الذي ذكره لنا صلى الله عليه وآله وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله! قال في إحدى الصور: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال) اسمع! (ورجل) بما جعل الله فيه من حب للنساء، (دعته امرأة) المرأة تدعوه، لم يذهب هو ليبحث عنها لم يسافر من أجلها لم تداعب أنامله أرقام الهاتف حتى يصيد فريسته، إنما المرأة تدعوه. (ذات منصب) حتى إذا افتضحت الجريمة فهي كفيلة بأن تلملمها، وأن تستر على هذا الرجل بمنصبها. (وجمال) والمرأة ذات جمال، وقلوب الرجال تهفو إلى الجمال. إذاً فظروف الجريمة مهيأة من جميع الجوانب، فما الذي يردك أيها الرجل؟! ما الذي يرد هذا الرجل اسمع: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال -فتأتي الإجابة- فقال: إني أخاف الله) . مهما كانت الظروف، ومهما تيسرت السبل، فإني أخاف الله. ولذلك كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: كنا قلادة جيد الدهر وانفرطت وفي يمين العلا كنا رياحينا كانت منازلنا في العز شامخة لا تشرق الشمس إلا في مغانينا فلم نزل وصروف الدهر ترمقنا شزراً وتخدعنا الدنيا وتلهينا حتى غدونا ولا جاه ولا نسب ولا صديق ولا خِلّ يواسينا واسمع لكلمات ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه تحقيق الإخلاص، في صفحة [48] عندما قال: يا قوم! قلوبكم على أصل الطهارة، وإنما أصابها رشاش من نجاسة الذنوب، فرشوا عليها قليلاً من دموع العيون وقد طهرت، اعزموا على فطام النفوس عن رضاع الهوى، ذكروها مدحه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] عرفوها اطلاع من هو أقرب إليها {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ؛ لعلها تستحي من قربه ونظره، {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]- إن الله يراك! راود رجل امرأة في فلاة ليلاً فأبت، فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب، فقالت المرأة: ولكن أين مكوكبها؟! أكره رجل امرأة على نفسها وأمرها بغلق الأبواب، فقال لها: هل بقي باب لم يغلق؟ قالت: نعم. الباب الذي بيننا وبين الله تعالى! فلم يتعرض لها. انظر إلى القلوب يوم أن كانت رقيقة، إذا خوفت بالله خافت. كان الصالحون رضوان الله تعالى عليهم من السلف الصالح إذا أراد أحدهم أن ينصح أخاه أو يذكره قال له: اتق الله! إن الله يراك. كانت هذه الكلمة كفيلة بأن تفعل الأفاعيل في قلب صاحبها: (إن الله يراك!) . ولذلك يقول ابن رجب: رأى بعض العارفين رجلاً يكلم امرأة فقال: إن الله يراكما، سَتَرَنا الله وإياكما. كأن رقيباً منك يرعى خواطري وآخر يرعى ناظري ولساني فما أبصرت عيناي بعدك منظراً لغيرك إلا قلت قد رمقاني ولا بدرت من فيَّ بعدك لفظة لغيرك إلا قلت قد سمعاني ولا خطرت من ذكر غيرك خطرة على القلب إلا عرّجا بعناني الجزء: 19 ¦ الصفحة: 10 سبيل الوصول إلى هذا السر أخيراً قد يقول قائل: وكيف الوصول إلى هذا السر العجيب؟ كيف الوصول إلى مراقبة الله؟ كيف أكون خائفاً؟ كيف أملأ قلبي خشية لله؟! أقول لك -يا أخي الحبيب! -: بهذه الخطوات السريعة: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 11 المعرفة الحقيقية بالله جل وعلا ولذلك قالوا رحمهم الله تعالى: من كان بالله أعرف، كان لله أخوف. ولا يمكن أن تخاف من رجل من الرجال إلا إذا عرفت جبروته وهيمنته؛ فهنا تخافه، ولله المثل الأعلى، فإذا أردت أن تخاف الله، وأن تخشى الله، وأن تزرع في قلبك خشية لله، فاملأ قلبك بعظمة الله ومعرفة الله معرفة حقيقية، وهذا هو التوحيد هذا هو توحيد الله جل وعلا. فاعرف الله من خلال أسمائه وصفاته، كم نحفظ توحيد الأسماء والصفات؟! قرأناه وحفظناه في صفوف الابتدائي، ولكن مع الأسف نقرأه على أنه نصوص، أما تطبيقاً عملياً في حياتنا فأين مَن فكّر في تطبيقه؟ بل أين ذلك المدرس الذي قرّبه لتلاميذه من خلال تعريف أولئك التلاميذ بعظمة الله من خلال أسمائه وصفاته؟! وهذا هو التعبد الحقيقي بأسماء الله وصفاته. أليس من أسماء الله عز وجل الرقيب والعليم والحفيظ والسميع والبصير؟! فمن عقل هذه الأسماء وتعبد الله بمقتضاها حصلتْ له المراقبة. فالمراقبة -كما ذكر أهل العلم- هي: ثمرة علمك بأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليك ناظر إليك سامع لقولك مطّلع على عملك كل وقت، وفي كل لحظة، ونفس، وطرفة عين. هذه هي المراقبة. ولذلك أقول: حقِّق معرفة الله معرفة حقيقية في نفسك، واسمع لـ ابن القيم رحمه الله تعالى عندما يذكر في كتابه طريق الهجرتين وباب السعادتين، في صفحة (79) عند كلامه عن أثر أن الله بصير، فيقول: وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير جلّ جلاله الذي يرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في حندس الظلماء، ويرى تفاصيل الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها، ويرى مَدَّ البعوضة جناحَها في ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية، بحرس حركاتها، وسكناتها، وتيقن أنه بمرأى منه سبحانه، ومشاهدةٍ لا يغيب عنه منها شيء إلى آخر كلامه الجميل رحمه الله تعالى. هكذا يتصور العبد رقابة الله عندما يتعبد الله حقيقة بمعرفة توحيد الأسماء والصفات، ولذلك يقول جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] عندما تمر علينا هذه الآية أو غيرها من الآيات التي تبيّن عظمة الله، فإن صاحب القلب الرقيق، وصاحب القلب الخاشع لله الخائف من الله، ليرق، وإنه لتدمع العين عندما يسمع هذه الآيات. لماذا؟! لأنه يعرف عظمة الله، ويعرف من هو الله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67] . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 12 الإكثار من ذكر الموت وأحوال الآخرة تذكر الموت وسكراته وشدته، وتذكر القبر وسؤاله وعذابه ونعيمه وضيقه وظلمته وضمته، وتذكر أهوال القيامة وشدتها وأهوالها وطول هذا اليوم، والعرض على الله جل وعلا، وتذكر تطاير الصحف، والميزان والصراط، وتذكر حيرة الخلق وذهول العباد. تخيل! انصراف الناس إلى الله جل وعلا من الموقف، فمنهم من يساق إلى الجحيم وتسحبهم الملائكة إلى أبوابها، ومنهم من يدخل الجنة -نسأل الله جل وعلا أن نكون من أهلها-: {تَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] . إن تذكّر ذلك كله يدفع الإنسان إلى العمل الجاد المتواصل، ويدفع القلب إلى التعلق بالله جل وعلا. وهذه الأمور إن لم يقترن علمها وحقيقتها بالعمل الصالح فلا خير فيها إذاً. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 13 شهود المنة والفضل وهو أن تتذكر فضل الله ومنته عليك، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل، فانظر لنعمة الإسلام وحدها، ويتضح ذلك عندما ترى أهل الكفر والبدع، وقد خصك الله بنعمة الإسلام من بينهم. وانظر -أيضاً- إلى نعمة الهداية، ويتضح ذلك عندما ترى أحوال الفساق والفجار، فهم في معاصيهم غرقى عبودية للشهوات وللدرهم والدينار: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) نعم. تعاسة وذل وحقارة لأولئك العبيد، الذين عبدوا الدنيا بشهواتها وملذاتها. أما عبودية الله فنفخر أننا عبيد لله جل وعلا، ففيها -والله! - العزة والرفعة، فنتذكر منة الله جلّ وعلا علينا بالهداية والصلاح. تذكّر نعمة العافية، ويتضح لك ذلك عندما ترى أحوال المرضى وأصحاب العاهات، فكم من مسكين على السرير الأبيض الآن يرقد! وكم من إنسان فَقَدَ عضواً من أعضائه! وكم من إنسان لا يطعم الطعام إلا بشق الأنفس! وكم من إنسان لا يقضي حاجته إلا بعد جهد جهيد! أما أنت فقد أنعم الله عليك بعافية، أفلا تشكر هذه العافية؟ إن العافية كما سماها بعض العلماء: المُلك الخفي، فاحفظ هذا الملك، بارك الله فيك ورعاك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 14 تقوية القلب بصحبة الأتقياء تقوية القلب بالجلوس إلى أصحاب القلوب الرقيقة، والدمعة الدفيقة، الذين يخشون الله ويهابونه. ومجالسة الصالحين على نوعين: إما بالمخالطة والمجالسة الحسية، فإذا ظفرت بأحد الصالحين في هذه الدنيا ممن كان قلبه رقيقاً وصاحب دمعة، فعض عليه بالنواجذ، وأكثر من مصاحبته ومرافقته. فإن لم تجد فاحرص -بارك الله فيك- على الجلوس مع الصالحين، مع السلف الصالح من خلال الاطلاع على كتبهم والنظر في سيرهم، فاقرأ، وإن سماعك لمثل هذه المواقف ليدفعك كثيراً إلى العيش بتلك الصفات والاتصاف بها، وهكذا يكون القلب، إن القلب ليتأثر بحسب ما يقرأ وينظر ويسمع وبحسب ما يكون حوله. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 15 أنواع رقابة الله وأخيراً: اعلم -يا أخي بارك الله فيك! - أن رقابة الله جل وعلا عليك متنوعة، فلا مفرّ من رقابة الله سبحانه وتعالى. فرقابة الله تكون تارة بالملائكة، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:10-11] . وتارة تكون بالكتب، فقال سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً} [الإسراء:13] . وتارة تكون هذه الرقابة بالجوارح، تلك الجوارح التي تسعى أنت إلى إنعامها، وإلى تلبية رغباتها وشهواتها، يوم القيامة تكون شاهدة عليك، يقول سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24] . ورقابة الجلود: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] . ورقابة الأرض التي أنت تعصي الله عليها، وتمشي عليها، يوم أن تشهد عليك هذه الأرض كما ذكر ذلك أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عندما قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزلزلة، فلما وصل إلى قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] قال لأصحابه: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: فإن أخبارها يوم أن تشهد على كل عبد وأمة ماذا عمل على ظهرها، تقول: عمل عليّ يوم كذا، كذا وكذا، فهذه أخبارها) والحديث أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب. وأخرجه الحاكم وصححه، وتعقبه الذهبي بأن فيه يحيى بن سليمان وهو منكر، وقد ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي. إذاً: فهذه الرقابة رقابة متنوعة، فأين المفر -يا أخي الحبيب! - من رقابة الله جلّ وعلا عليك؟! وبما أنك علمت يقيناً أن الله رقيب عليك، مطلع عليك في أي حال، فاستح من الله، واجعل الله جل وعلا عظيماً في قلبك في كل لحظة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 16 كيف تربي إنساناً؟ وأقول أخيراً لنختم هذا الموضوع: علينا أن نعلم أن من أراد أن يربي إنساناً، أو يخوّف إنساناً، أو ينصح إنساناً، أن يربيه على خوف الله، وليذكره بخوف الله، ورقابة الله. الوازع الديني كما يذكره علماء التربية هو رقابة الله، فمتى كانت رقابة الله موجودة في النفس، إذاً فأطلق للإنسان العنان في أي مكان كان، فإنه دائماً سيراقب الله. ولذلك أقول: أولا: تعجب: -يا أخي الحبيب! - من ذلك الإنسان المسافر في الطريق لوحده، والطريق طويل وشاق، ومع ذلك ينظر إلى ساعته، فإذا بوقت الصلاة قد حان، فيوقف السيارة على جانب الطريق، ثم ينزل فيتوضأ فيحسن الوضوء ويستقبل القبلة ثم يصلي لله خاشعاً ساجداً راكعاً. سبحان الله! يفعل ذلك لمن؟! لا يطلع عليه أحد من الناس، لكنه يعلم أنه يفعل ذلك من أجل الله. المرأة في مطبخها في نهار رمضان، أمام أصناف المأكولات والأشربة، ومع ذلك لا تمتد يدها لتأكل شيئاً منه، لماذا؟ ما الذي منعها؟! لا يراها أحد تستطيع أن تأكل كيفما شاءت، وأن تشرب كيفما شاءت، لكنها رقابة الله، وخوف الله، فهي تعلم أن الله مطلع عليها. المؤمن عندما يتوضأ في نهار رمضان تجده يتمضمض، ويحرص كل الحرص على ألا يدخل إلى أقصى حلقه قطرة واحدة من الماء، لماذا؟! خوف الله وخشية الله، وهكذا هو المبدأ العظيم إذا تربى عليه الصالحون. أسأل الله جل وعلا أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، اللهم بارك لنا في أنفسنا وأولادنا وذرارينا، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، اللهم احفظنا بحفظك، اللهم إنا نسألك خشيتك وخوفك في السر والعلن، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه تسليماً كثيراً. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 17 الأنقياء سلامة الصدر وطهارة القلب من الأمور التي نكاد نفتقدها في واقعنا رغم أهميتها، حتى صار ورود هذه الصفة من الغرائب، أما من يقرأ في سير سلفنا الصالح فإنه يجد الدرجة السامية التي بلغوها في سلامة الصدر ونقاوته!! وهذا يرجع لمعرفتهم بما يدعو إليه القرآن والسنة في ذلك. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 1 من أحوال الأنقياء إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه ليلة الأحد الموافق للرابع من شهر ذي الحجة لعام (1414هـ) وفي هذا المسجد المبارك في مدينة الرس، وقبل أن أبدأ في موضوعي الذي بين يدي أوجه الشكر الجزيل لجماعة هذا المسجد، وحقيقة أننا نعترف لهم بالعرفان الجميل ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل؛ فإننا نسمع عن نشاطاتهم وأعمالهم الخيرة ومنتدياتهم وملتقياتهم، فنسأل الله جل وعلا أن يبارك فيها وأن يجمع قلوبهم وأن يوفق ويسدد خطاهم، وأتمنى لمساجد أحياء هذه المدينة وغيرها من المساجد أن تحتذي بحذوهم وشكر الله لهم سعيهم. أيها الأحبة: فعنوان هذا اللقاء وهذا الموضوع هو: (الأنقياء) أو إن شئت فقل: (سلامة الصدر مطلب) وهذا الموضوع هو ثالث ثلاثة، فقد سبقه درس بعنوان: (الأخفياء) وسبقهما درس آخر بعنوان: (الأتقياء) . وإن كان درسا الأتقياء والأخفياء منبعهما هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) ، كما تقدم بيانه في الموضوعين السابقين؛ فإن أصل هذا الموضوع -أيضاً- هو حديث أخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب الزهد باب: الورع والتقى، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال صلى الله عليه وسلم: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد) . قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات. والحديث أيضاً أخرجه الطبراني في معجمه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب وفيه زيادة، وذكره الألباني في الصحيحة وصحيح الجامع. ومعنى مخموم: من خممت البيت إذا كنسته، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث أن النقي هو: الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد. فقلت في نفسي وأنا أتدبر هذا الحديث: ما أحوجنا لمثل هذا النقي في مثل هذا الزمن الذي اتصف بكثرة الخلاف والنزاع والفرقة، فامتلأت النفوس وأوغرت الصدور، فلا تسمع إلا كلمات التنقص، والازدراء، وسوء الظن، والدخول في النيات والمقاصد! فما هي النتيجة؟! إن خوطبوا كذبوا أو طولبوا غضبوا أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا على أرائكهم سبحان خالقهم عاشوا وما شعروا ماتوا وما قبروا! فالنتيجة أن أصبح المسلمون أحزاباً {كُلُّ حِزْب بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53] وكل حزب من الآخر ينتقصون، فلا نسمع سوى تقسيم الناس وتصنيفهم، ففرح المنافقون وهم لها باذرون وساقون وراعون، وصدق الله عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] . وأستغفر الله أن أعم، ولكنها فتنة وبلاء طمت وعمت، فأقول: ما أحوجنا لمثل هذا النقي، فأخذت أقلب صفحات السير والتراجم للوقوف على حياة أولئك الأنقياء وتتبع أحوالهم وصفاتهم، فوجدت العجب! ومن العجب الذي وقفت عليه أن من صفاتهم أنهم حرصوا -رضوان الله تعالى عليهم- على تنقية قلوبهم من الحقد والحسد. فالأنقياء لا يعرفون الانتقام ولا التشفي، ويتجاوزون عن الهفوات والأخطاء. الأنقياء: يتثبتون ولا يتسرعون. الأنقياء: سليمة قلوبهم نقية صدورهم. الأنقياء: يحبون العفو والصفح وإن كان الحق معهم. الأنقياء: ألسنتهم نظيفة فلا يسبون ولا يشتمون. الأنقياء صفاء في السريرة ونقاء في السيرة، دعاؤهم: اللهم قنا شح أنفسنا، اللهم قنا شح أنفسنا، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] . وستقرأ كثيراً من المواقف التي تبرهن على ما أقول، ولكن خاطب النفس وقل لها: ويحك يا نفس احرصي على ارتياد المخلص وطاوعي وأخلصي واستمعي النصح وعي واعتبري بمن مضى من القرون وانقضى واخشي مفاجأة القضا وحاذري أن تخدعي! ويحك يا نفس احرصي على استماع القصص وطاوعي وأخلصي للواحد الصمد الجزء: 20 ¦ الصفحة: 2 سبب الحديث عن الأنقياء لماذا الحديث عن الأنقياء؟ ولماذا الحديث عن سلامة الصدر؟ أيها الأخ المسلم! يا من نلتقي وإياك على لا إله إلا الله! أدعوك وأنت تقرأ هذه الكلمات إلى التجرد من الهوى وترك حظوظ النفس، تجرد من حب التصدر والزعامة، ومن التعالم ومن الكبرياء والغرور، ومن الحقد والحسد، ومن كل الأمراض القلبية، فإنني أريدك أن تقرأ كلماتي بقلب سليم، بقلب ذلك المسلم الطيب التقي النقي، أنسيت أنك خلقت لعبادة الله ومرضاته، وطلباً لجنات الفردوس، أيجوز -يا أخي الحبيب- لمن كان هذا هو هدفه ومقصده من هذه الدنيا أن يغفل عن قلبه؛ فيطلق لهذه المضغة العنان في البغضاء والشحناء، والحمل على الآخرين والانتقام والتشفي؟! أخي الحبيب: أيها المسلم! لماذا أصبحنا نسمع كلمات الذم أكثر من سماعنا لكلمات الثناء؟! لماذا أصبحنا نسمع كلمات التنقص أكثر من سماعنا لكلمات التثبت إلا ماشاء الله؟! كيف غفلت عن هذه المضغة التي (إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) ؟! - كلمات لم تعد تسمع: سلامة الصدر، طهارة القلب، صفاء النفس، كلمات نادرة الاستعمال وعزيزة الذكر، لا نكاد نسمعها في مجالسنا ومنتدياتنا، موضوعات كثيرة تلك التي نتحدث عنها لكنها لا تخلو من غيبة ملبسة بلباس النصيحة، أو من حديث يشفي الغليل ويرضي الخليل، أو من هم فيه همز ولمز وانتصار للنفس! فيا من في قلبك خوف من الله جل وعلا، إننا نريد أن نسمع كلمات الحب والإخاء، والصدق والوفاء، والنصح والصفاء، وأن نسمع كلمات الشكر والعرفان، وذكر الفضل والإحسان، وأن نسمع عن جمع القلوب، وعن توحيد الكلمة، وعن الإصلاح بين الناس، وكل ذلك وللأسف في مجالسنا عزيز! إنني أصغي سمعي لعلي أسمع إلى التماس الأعذار وذكر محاسن الأبرار، فيرتد سمعي خاسئاً وهو حسير إلا ما شاء الله، ولكني كلي أمل فيكم يا من تقرأون كلماتي، وأملي في الله ثم في مشايخي وأساتذتي وإخواني الدعاة وشباب الصحوة خاصةً وجميع المسلمين عامةً، كلي أمل أن نهضم أنفسنا ونعرف قدرها، وأن نحمل على عاتقنا نشر هذا الموضوع -سلامة الصدر- وإكثار الحديث عنه وتكراره في كل مكان وعلى كل لسان، ولا نمل من الحديث عنه أبداً، بل نجعله شعاراً لنا في كل ميدان: في ميدان العلم وميدان البيع والشراء، وبين الرجال والنساء، والعامة والخاصة، في مدارسنا وجامعتنا، وفي أسواقنا ومجالسنا وبيوتنا. فلنملأ قلوبنا بخوف الله عز وجل، ولتمتلئ قلوبنا بذكر الله عز وجل، فإننا نشعر بقسوة القلب، وامتلاء النفس، وجفاف العين من الدمع. وليكن هجير كل واحد منا: اللهم إني أسألك قلباً سليماً! ولنردد كثيراً وفي كل لحظة بل وفي كل ساعة وفي كل سجدة وركعة: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] . - عناصر هذا الموضوع: - ثلاثة قبل البداية . - القرآن يدعوك. - صور مشرقة في عالم الصفاء والنقاء. - تكامل الشخصية في حياة السلف. - نتائج سلامة الصدر ونقاوة القلب وآثاره. - أسباب امتلاء الصدر وغل القلب. - السبيل إلى سلامة الصدر وتنقية القلب. - ثلاثة قبل النهاية. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 3 ثلاثة قبل البداية أما ثلاثة قبل البداية فتنبه لها جيداً، وأرعني قلبك بارك الله فيك. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 4 الأمر الأول: التواضع وهضم النفس راجع نفسك بعد قراءة هذه الكلمات، واعلم أن الكلام موجه إليك لا لغيرك، وأرجوك ألا تبرر ساحة نفسك من التقصير، واحسب أن الآخرين من المسلمين خير منك عند الله تعالى، (فرب أشعث أغبر ذي طمرين؛ لو أقسم على الله لأبره) . لا تنظر إلى نفسك بنظرة الزهو والفخر والارتفاع، فكم من مسكين خير منك عند الله، ومن عامي هو خير منك عند ربك، ومن إنسان استجاب الله دعاءه وفتح على قلبه، بينما أنت مازلت تنظر لنفسك في خيلاء وفي كبر والعياذ بالله. يا أخي الحبيب! أما سمعت لقول بكر بن عبد الله المزني وهو واقف بـ عرفة ينظر إلى الناس: -لا إله إلا الله! -[لولا أني فيهم لقلت قد غفر الله لهم!] . يقول الذهبي معلقاً على هذه العبارة في السير: كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها ا. هـ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 5 الأمر الثاني: سلامة الصدر وتنقية القلب اعلم أن سلامة الصدر وتنقية القلب مطلب عزيز، والحرص عليه واجب، وبذل الأسباب إليه وسلوك طريقه متعين، ولكن لا تنس أن الناس بشر وأن النفس ضعيفة، فلا بد من الخطأ ولا بد للنفس أن تتأثر، فتنبه لهذا وعامل الآخرين بحسبه. ولهذا يقول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: [إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله] . سامح أخاك إذا خلط منه الإصابة والغلط وتجاف عن تعنيفه إن زاغ يوماً أو قسط واعلم بأنك إن طلبت مهذباً رمت الشطط من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط الجزء: 20 ¦ الصفحة: 6 الأمر الثالث: الحذر من الأعداء [لست بالخب ولا الخب يخدعني] ، لا ينافي سلامة القلب والأخذ بالظاهر، ولكنه يعني الحيطة والحذر، فإن هناك من الناس من يستدرج الناس ويستغفلهم ويلبس عليهم، فعليك أن تكون فطناً متنبهاً، فالله سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 7 القرآن يدعوك بعد هذه الثلاثة والتي أرجو أن تتنبه لها جيداً لتراجعها في نفسك، فكلنا بحاجة لها. إن القرآن يدعونا جميعاً، وفي أكثر من سورة وأكثر من آية لمثل هذا الموضوع، متى؟ إن تدبرنا القرآن ونظرنا فيه. إن قرآننا هو كلام ربنا، ودستور حياتنا، ومنبع صفائنا، وميزاننا الذي نحتكم إليه عند خلافنا، بل وفي كل حياتنا وأمورنا. فالقرآن يدعوك لبراءة القلب من الغل للذين آمنوا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] . والقرآن يدعوك فيقول: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] . والقرآن يدعوك فيقول: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109] . والقرآن يدعوك فيقول: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:13] . والقرآن يدعوك فيقول: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14] . والقرآن يدعوك فيقول: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85] . والقرآن يدعوك فيقول: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَة يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263] . والقرآن يدعوك فيقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] . والقرآن يدعوك فيقول: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْب سَلِيم} [الشعراء:88-89] . وأخيراً! القرآن -يا أخي الحبيب- يدعوك فيقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] . {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] ؟ [بلى والله إنا نحب أن يغفر لنا ربنا] قالها أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، مع سخاء نفسه وسلامة صدره ونصحه للأمة، فماذا نقول نحن وهذه حالنا مع قلوبنا؟! أخي الحبيب: هلا وقفت مع هذه الآيات وتدبرتها جيداً؟! إن القرآن يدعوك! {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ؟! أسمعت جيداً لهذه الآيات؟! تدبرها وقف معها طويلاً! كم من المشاجرات والخصومات تقع بيننا وبين الناس؟ وإذا رجعنا للقرآن وجدنا هذه الآيات تحدونا إلى العفو والصفح عن المؤمنين وعن الناس {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ! تدبر قوله: {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ! فما أعظم هذا الأجر، فهو من مالك الملك جل وعلا، فلم تحرم نفسك هذا الأجر؟! الجزء: 20 ¦ الصفحة: 8 صور مشرقة في عالم الصفاء والنقاء قلبت صفحات التاريخ، ونظرت في كتب السير والتراجم، فوجدت عجباً! فيعلم الله أن العين لتدمع والإنسان يقرأ مثل هذه المواقف! يا للعجب! أهؤلاء بشر؟! كيف كانت قلوبهم؟! وأين قلوبنا من هذه القلوب؟! وقبل أن أبدأ وإياك بذكر هذه الصور، لا ننسى أن من أراد فهم هذه الدرجة من تنقية القلب وسلامة الصدر كما ينبغي، فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس؛ يجدها مليئةً بل يجد هذه الدرجة بعينها، ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 9 الصورة الأولى: مثال لسلامة الصدر الصورة الأولى، وهي التي لا تطاق: روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس قال: (كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه وقد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى. فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو -أي: تبع الرجل- فقال للرجل: إني لاحيت أبي -أي: وقع بيني وبين أبي خصومة- فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت؟ قال الرجل: نعم. قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعار -تقلب على فراشه- ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله! لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال -أي الرجل-: ما هو إلا ما رأيت. قال عبد الله: فلما وليت دعاني فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: فهذه التي بلغت بك وهي التي لا تطاق!) . قال ابن كثير: رواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به، وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس، فالله أعلم. إن قلب المؤمن المطمئن بذكر الله، النابض بحلاوة الإيمان؛ لا يحتمل أبداً أن يحمل بين جنباته حقداً على أحد من المسلمين. إن من كان في قلبه إيمان صادق، لا يحتمل أبداً أن يحمل حقداً على أحد من إخوانه. أرأيت أخي الحبيب! كيف أن تنقية القلب وتنقية الصدر من الغل والأحقاد ومن الحسد والغش للمسلمين؛ كيف كان سبباً لدخول الجنة؟! هذا الرجل لم يكن يقوم الليل ولم يكن له كبير عمل، ولكن العمل الذي كان سبباً في دخوله الجنة: هو أنه لا يجد في نفسه حسداً لأحد، وليس في قلبه غش على أحد من المسلمين! الله أكبر! متى تتحقق هذه الصفة في المسلم الذي يركع ليله ونهاره طالباً مرضاة الله وطالباً جنان الفردوس؟! أين العباد؟ أين الزهاد من هذا الفعل؟ كم نجاهد أنفسنا على الصلوات والصدقات والصيام وغيرها من الأعمال والعبادات؟ ولكن الأمر ليس بكثرة صيام ولا صلاة ولا صدقة، إنما بشيء وقر في القلب، فنالوه رحمهم الله تعالى، سلامة الصدر وتنقية هذا القلب من الغل والحقد والغش للمسلمين! الجزء: 20 ¦ الصفحة: 10 الصورة الثانية: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ أخرج أبو داود في الأدب باب: في الرجل يحل الرجل قد اغتابه، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق باب: فضل كظم الغيظ، وأخرجه أيضاً ابن السني في عمل اليوم والليلة باب: ماذا يقول إذا أصبح، ثلاثتهم من حديث قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أيعجز أحدكم أن يكون كـ أبي ضمضم، قالوا: ومن أبو ضمضم يا رسول الله؟ قال: رجل كان إذا أصبح يقول: اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي، فلا يشتم من شتمه، ولا يظلم من ظلمه، ولا يضرب من ضربه) . هذا لفظ الطبراني وابن السني وهو ضعيف، وأخرجه أبو داود من وجه آخر موقوف على قتادة وأخرجه البخاري أيضاً في التاريخ في ترجمة محمد بن عبد الله العمي. وقال ابن حجر: وقد أخرجه أبو بكر البزار في مسنده والعقيلي -أي في الضعفاء - وكذلك الساجي والبيهقي في الشعب. وقال الألباني في الإرواء عن هذا الحديث: والمحفوظ عن قتادة، وإسناده صحيح إلى قتادة. ثم ذكره في صحيح أبي داود، وقال: صحيح مقطوع. أرأيت صفة أبي ضمضم هذا؟! اسمع ماذا قال عنه ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين: والجود عشر مراتب، ثم ذكرها، فقال: والسابعة: الجود بالعرض كجود أبي ضمضم من الصحابة رضي الله عنهم، كان إذا أصبح قال: اللهم لا مال لي أتصدق به على الناس وقد تصدقت عليهم بعرضي فمن شتمني أو قذفني فهو في حل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يستطيع أن يكون منكم كـ أبي ضمضم، وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه اهـ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 11 الصورة الثالثة: التصدق بالعرض أخرج البزار في كشف الأستار في كتاب الزكاة باب: فيمن تصدق بعرضه -وانتبه أيضاً للترجمة! باب: فيمن تصدق بعرضه- أخرجه من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث يوماً على الصدقة فقام علبة بن زيد فقال: ما عندي إلا عرضي، فإني أشهدك يا رسول الله أني تصدقت بعرضي على من ظلمني، ثم جلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين علبة بن زيد؟ قالها مرتين أو ثلاثاً، قال: أنت المتصدق بعرضك؟! قد قبل الله منك) . قال الهيثمي: رواه البزار وفيه كثير بن عبد الله وهو ضعيف. وأيضاً رواه البزار من حديث صالح مولى التوأمة عن علبة بن زيد قال: (حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة فقام علبة فقال: يا رسول الله! حثثت على الصدقة وما عندي إلا عرضي، فقد تصدقت به على من ظلمني، قال: فأعرض عنه، فلما كان اليوم الثاني قال: أين علبة بن زيد، أو أين المتصدق بعرضه؟ فإن الله تبارك وتعالى قد قبل ذلك منه) ، أو نحو ذلك. وهذا أيضاً قال عنه الهيثمي: رواه البزار وفيه محمد بن سليمان بن مسمول، وهو ضعيف، كما في مجمع الزوائد. إذاً انظر لحال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبو ضمضم وهذا علبة بن زيد وغيرهم كثير كانوا يتصدقون بأعراضهم رضوان الله تعالى عليهم، يعفون ويصفحون عمن سبهم أو شتمهم أو ضربهم أو اغتابهم، أو ذكرهم في شيء لا يرضونه، فماذا نقول عن أنفسنا؟ الجزء: 20 ¦ الصفحة: 12 الصورة الرابعة: الذب عن الأعراض [والله ما نعلم إلا خيراً] هذه المقالة قالها معاذ بن جبل رضي الله عنه دفاعاً عن كعب بن مالك في قصة تخلفه في غزوة تبوك، قال كعب: (لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم تبوك ذكرني وقال: ما فعل كعب؟ فقال رجل من قومي: خلفه يا نبي الله برداه والنظر في عطفيه، فقال معاذ بن جبل وكان حاضراً: بئس ما قلت! والله ما نعلم إلا خيراً!) . أسمعت هذا الموقف؟! لقد كان بإمكان معاذ رضي الله تعالى عنه السكوت تأدباً أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن يعيب عليه النبي صلى الله عليه وسلم سكوته، ولكنه أعلن الحق الذي امتلأ به قلبه، لم يطق معاذ أن يسمع هذه الكلمات بأخيه كعب، فأعلن الحق الذي في قلبه انتصاراً لـ كعب بن مالك رضي الله عنهما جميعاً. إنه الدفاع والذب عن عرض أخيه، فمن منا وقف مثل هذا الموقف؟! كم نسمع في مجالسنا وفي منتدياتنا من يذكر فلاناً وعلاناً من إخواننا من المسلمين؛ ممن يصلي ويصوم ويشهد أن لا إله إلا الله؛ نسمع الكلمات التي تذكر في عرضه، فمن منا وقف مثل هذا الموقف؟! بل ربما أن البعض يتلذذ بالسماع ويأنس بمثل هذه الكلمات عياذاً بالله، ولكن صحابة رسول الله تربوا على هذا المنهج، إنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل المسلم على المسلم حرام: عرضه ودمه وماله) ، فعلموا حرمة ذلك. وعن أبي الدرداء أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) ، كما أخرجه الترمذي في سننه في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الذب عن المسلم، وإسناده صحيح. واسمع لهذا الموقف: قال حنبل بن إسحاق: سمعت ابن معين يقول: رأيت عند مروان بن معاوية لوحاً فيه أسماء شيوخ: فلان رافضي، وفلان كذا، ووكيع رافضي! فقلت لـ مروان: وكيع خير منك! قال مروان: مني؟! -استفهام وتعجب- قلت: نعم. قال: فسكت، ولو قال لي شيئاً لوثب أصحاب الحديث عليه!. قال -أي يحيى -: فبلغ ذلك وكيعاً فقال وكيع: يحيى صاحبنا، وكان بعد ذلك يعرف لي ويرحب. انظر أثر الدفاع عن العرض في قلب وكيع رحمه الله تعالى، أصبح يحيى بن معين حبيباً إلى قلبه، أصبح يرحب به كثيراً! هكذا يكون جمع القلوب، هكذا إذا أردنا أن نحبب النفوس بعضها ببعض، هكذا إذا أردنا أن نرص الصفوف في وجه أعدائنا، أن يعلم كل فرد منا أنه محام عن أعراض إخوانه المسلمين في كل مكان، وفي أي مجلس كان، وأمام أي كائن من كان، مهما بلغ من المرتبة والشرف، مادام أنه تجرأ على عرض أخ من إخواننا المسلمين يجب أن أقف وأذب عن عرض هذا المسلم، هكذا يكون الإنسان محبوباً عند الناس، لا. بل هكذا يكون محبوباً عند الله قبل كل شيء، ومن أحبه الله أحبه الناس. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 13 الصورة الخامسة: طيب قلب بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الذهبي في السير بسنده إلى عوف بن الحارث أنه قال: سمعت عائشة تقول: [دعتني أم حبيبة -أي: زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم- عند موتها فقالت: قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت -أي: عائشة -: غفر الله لك كله وحللك من ذلك، فقالت أم حبيبة: سررتني سرك الله، تقول عائشة: وأرسلت أم حبيبة إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك] . انظر إلى تصافي القلوب في صفوف النساء! ما أحلى هذه القلوب إذا اجتمعت على المحبة وحرصت على تنقية القلوب من الغل والحقد والحسد. أقول: كم نسمع نساءنا يتحدثن في المجالس عن فلانة وعلانة ولربما كالت لها كثيراً من السب والشتم عياذاً بالله، وكأنها تتكلم عن كافرة من الكفار، لا تشعر أنها تتكلم عن مسلمة، وعائشة رضي الله عنها لما أشارت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها فقط عن صفية أنها قصيرة قال: (ألا إنك قلت كلمةً لو مزجت بماء البحر لمزجته) ! فقط تعني: أنها قصيرة، فهلا تنبه لهذا الأمر نساؤنا؟! فكم من الحسنات تذهب في مثل هذه الكلمات. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 14 الصورة السادسة: انشغال قلب الحاقد بما لا ينفع صورة قصيرة لكنها كبيرة المعاني: قال رجل لـ عمرو بن العاص رضي الله عنه: والله لأتفرغن لك! يعني بالكيد والتشفي والانتقام وغير ذلك، فماذا كان رد عمرو؟! فقال عمرو بن العاص بذكائه وعقله: [إذن تقع في الشغل إذن تقع في الشغل!] . نعم. إن الذي يتفرغ لينال من الناس ويشتم الناس لا يكون فارغاً أبداً، إنما تشغله نفسه وحقده بالناس، فيضيع عمره فيما لا ينفع، ولا شك أن قول عمرو هو الصواب {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] كم نحب أن نسمع مثل هذه الكلمات لمن وقع بينه وبين أحد خصومة أو من هدده وتوعده، (إذن تقع في الشغل) ؛ لأن القلب الذي امتلأ بالحسد والانتقام من الناس، وتتبع زلاتهم والتشفي منهم، قلب مشغول دائماً، أما القلب السليم الذي امتلأ بسلامة الصدر وحب الناس وجمع القلوب فهو لا يفكر إلا فيما ينفعه: كطلب علم أو عمل خير ونحوهما، أما أعراض الناس فهو بريء منها؛ لأنه عاهد الله أن يترك مثل ذلك. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 15 الصورة السابعة: تواضع جم ّ أيضاً موقف قصير ولكنه كبير بمعانيه. في سيرة سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم: [أن رجلاً زاحمه في منى -وأنتم تعلمون حال الناس في منى كيف يكون؟ وكيف تبلغ النفوس مبلغها في مثل هذه المواقف نظراً للزحام الشديد؟ - فالتفت الرجل إلى سالم -وسالم هذا علامة التابعين رضي الله عنه، فقال الرجل لـ سالم: إنني لأظنك رجل سوء! فبماذا أجاب سالم رضي الله عنه؟! قال كلمتين: قال: ما عرفني إلا أنت!] . سبحان الله! هكذا كان إزراؤهم بأنفسهم رضوان الله عليهم؛ مع سعة علمهم وكثرة عبادتهم وجهادهم، وكثرة خوفهم وبكائهم من الله جل وعلا إلا أنهم يحتقرون ذواتهم رضي الله تعالى عنهم، أين العجب والغرور الذي يصيب أنفسنا؟ إذا فعل الإنسان منا فعلاً أو عبادة أو قام بعمل خير أعجبته نفسه وأصبح عند نفسه زاهد الزهاد. لا إله إ لا الله! الجزء: 20 ¦ الصفحة: 16 الصورة الثامنة: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ذكر الذهبي في السير في ترجمة البخاري محمد بن إسماعيل، صاحب الصحيح رضي الله عنه، قال: -أي الذهبي -: وكان كثير من أصحابه يقولون له -أي البخاري -: إن بعض الناس يقع فيك! - لو قيلت هذه الكلمة لأحدنا ماذا سيقول؟ ربما يبادر ويقول مباشرةً: ماذا يقولون؟! ومتى؟! ومن هم؟! أما الإمام البخاري رحمه الله تعالى لما قيلت له هذه الكلمة: إن بعض الناس يقع فيك، قال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] ، ويتلو أيضاً قوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر:43] . هذا والله هو الفقه، وهذه والله هي البصيرة والحكمة، ولكن من يؤتى هذه البصيرة؟! ومن يؤتى هذه الحكمة؟! ولذلك إذا قلنا للناس تعلموا واقرؤوا في سير الرجال واستفيدوا منها، رأينا كثيراً منهم يعرض عن هذا، وما علم أولئك المساكين أنه في النظر حياة الأولين وتراجمهم حياة للقلوب، فإذا سمعت الناس يغتابونك أو يذكرونك بسوء وأنت أعلم بنفسك وأعلم بما بينك وبين الله جل وعلا، فاعف عنهم واصفح، وسترى أثر ذلك ومن كاد لك، فإن الله تعالى يقول: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر:43] . فقال عبد المجيد بن إبراهيم للبخاري: كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك ويبهتونك؟! فقال البخاري: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اصبروا حتى تلقوني على الحوض) ، وقال أيضاً: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دعا على ظالمه فقد انتصر) . إنه رحمه الله لا يفكر بمجرد الدعاء على من ظلمه وبهته، فضلاً عن أن يشغل نفسه أو يضيع وقته في التقصي وتتبع الزلات منهم، فرضي الله عن أولئك الأنقياء ورحمهم الله رحمةً واسعةً. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 17 الصورة التاسعة: هضم النفس وحقوقها ذكر الذهبي في السير قال: عن أبي يعقوب المدني أنه قال: كان بين حسن بن حسن وبين علي بن الحسين -يعني زين العابدين - بعض الأمر، فجاء حسن بن حسن إلى علي بن الحسين زين العابدين وهو جالس مع أصحابه في المسجد، فما ترك حسن شيئاً إلا قاله له -يعني ما ترك سباً ولا شتماً إلا قاله لـ زين العابدين وهو جالس مع أصحابه-، قال -أي أبي يعقوب المدني -: وعلي ساكت، فانصرف حسن فلما كان من الليل أتاه في منزله - زين العابدين ذهب إلى حسن بن حسن - فقرع عليه بابه فقال له: يا أخي! إن كنت صادقاً فيما قلت لي فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، السلام عليكم! هذا الموقف! وهل انتهى؟! لا. فانظر لنتيجة الصبر وحسن الخلق! وكيف يكون الإنسان داعية وقدوة لغيره دون أن يشعر: قال: فإذا بـ الحسن يتبعه ويلزمه من الخلف ويبكي بكاءً شديداً، حتى رثى زين العابدين لحاله، فقال الحسن لـ زين العابدين: لا جرم لا عدت في أمر تكرهه، فقال زين العابدين: وأنت في حل مما قلت لي. ا. هـ. وإذا تشاجر في فؤادك مرة أمران فاعمد للأعف الأجمل وإذا هممت بأمر سوء فاتئد وإذا هممت بأمر خير فافعل! أيها الأحبة: إنه الصبر على أذى الخلق، وهضم النفس حتى ولو كان الحق معها، وهذه صفة الرجال، وهكذا من أراد العلياء وعزة النفس! طلقت تطليق الثلاث رغائبي وكتبت للعلياء عقد نكاح وانظر أيضاً لإنصاف الذهبي رحمه الله تعالى لـ ابن حزم عندما ترجم له في السير، قال الذهبي عن ابن حزم: قد أخذ المنطق -أبعده الله من علم- عن محمد بن الحسن المذحجي وأمعن فيه، فزلزله في أشياء، ولي أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته في الحديث الصحيح ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال، والعلل، والمسائل البشعة، في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكن لا أكفره ولا أضلله وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين، وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه. اهـ. هكذا يكون المؤمن الذي يأتمر بأمر الله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] فهل سمع شبابنا مثل هذا الموقف؟! وهل اقتدى شبابنا غفر الله لنا ولهم بسلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم؟! لا تبخسوا جهود بعضكم بعضاً، ولا تحقروا أعمال بعضكم لبعض، فكل منكم على ثغر، وعلى خير، والميدان يتسع للجميع، بل هو بأمس الحاجة لكل عمل وكلمة طيبة وجهد وافق الكتاب والسنة، مهما كان صاحبه، فهلا سمعنا وعقلنا؟! وانظر لهذا الموقف أيضاً وتدبره جيداً، فكم نحن بحاجة إليه! قال الذهبي: قال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد: هذا كتبته من حفظي وغاب عن أصلي: أن عبد الله بن عبد العزيز العمري العابد كتب إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر. اهـ. فيا شباب الأمة! نحن بحاجة للجميع، فهذا يحفظ القرآن ويعلمه، وهذا يطلب العلم وينشره، وهذا يعظ الناس في المساجد والقرى، وهذا ينكر المنكرات في الأسواق وفي الأماكن العامة، وهذا على منبره وذاك بقلمه والآخر بماله، وهذا بتوزيع الشريط والكتاب، وذلك بتوزيع الطعام واللباس، وهذا بالرحلات والمخيمات، وهذا بالدعوات الصادقات، ولا يخلو الجميع أبداً من خطأ، (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ، فهذا يصحح لهذا وهذا يوجه هذا، وهذا يعين هذا بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، مع التماس الأعذار والعفو والصفح. هكذا يجب أن نكون ويجب أن نتعامل، بل يجب أن ننشر في مجالسنا ومنتدياتنا هذه المفاهيم لدى الكبار والصغار، والرجال والنساء، ليشرق أعداء الإسلام بتراص الصفوف، وبجمع القلوب، وبتوحيد الكلمة. فإن قال قائل: لا! فنقول: على أقل تقدير إن لم تكن من هؤلاء فقل خيراً أو اصمت، واعلم يا أخي الحبيب! أن (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) ، فكف عن المسلمين لسانك ويدك واتركهم يعملون كل بما يستطيع، فالله جل وعلا مطلع على عباده وهو وحده يعلم ما تكن القلوب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 18 الصورة العاشرة: كلام الناقد الورع نصح لدين الله قال أبو الربيع محمد بن الفضل البلخي: سمعت أبا بكر محمد بن مهرويه سمعت علي بن الحسين بن الجنيد سمعت يحيى بن معين يقول: إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من أكثر من مائتي سنة! قال ابن مهرويه: فدخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم وهو يقرأ على الناس كتاب الجرح والتعديل، فحدثته بهذا فبكى وارتعدت يداه حتى سقط الكتاب من يده، وجعل يبكي ويستعيدني الحكاية. سبحان الله! والله إن القلب ليقشعر ونحن نقرأ مثل هذه المواقف، بكى رضي الله عنه وأرضاه لماذا؟! يقول الذهبي معلقاً على هذا الموقف: أصابه على طريق الوجل وخوف العاقبة، وإلا فكلام الناقد الورع في الضعفاء من النصح لدين الله والذب عن السنة. اهـ. وهذا مطلوب منه يؤجر عليه، ومع ذلك ترتعد يداه ويبكي رضي الله تعالى عنه؛ لأنه تكلم في رجال في أمر واجب، فماذا نقول ونحن في المجلس، بل ربما في الساعة الواحدة نتكلم عن عشرات الناس؟! ماذا نقول ونحن نسمع كثيراً من إخواننا -عفا الله عنهم وصفح لهم وغفر لهم- وما يذكرونه في كثير من المشايخ والعلماء وطلبة العلم بل والصالحين؟! سبحان الله! ما وجدنا إلا هؤلاء نخوض في أعراضهم ونتكلم عنهم؟! أين أنت عن المنافقين؟ وأين أنت من اليهود ومن النصارى من أعداء الدين الذين يكيدون للدين ليلاً ونهاراً؟! رحم الله ابن المبارك يوم أن جاءه ذلك الرجل فذكر له قولاً في إخوانه، فقال له ابن المبارك: عجباً! سلم منك اليهود والنصارى، ولم يسلم منك إخوانك! كلمات تكتب بمداد الذهب! وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام الجزء: 20 ¦ الصفحة: 19 تكامل الشخصية في حياة السلف رضوان الله تعالى عليهم في العنصر السابق تكلمنا عن صور ومواقف متناثرة، وإليك في هذا العنصر وقفة سريعة لحياة علمين فاضلين. فإنك إذا نظرت لحياة هؤلاء الرجال؛ وجدتها مدرسةً في جميع الجوانب: في العلم، في الجهاد، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في العبادة، في الحرص على النوافل، في الخوف من الله، في الزهد، في الورع، في التواضع، في حسن الخلق، في كل شيء! حدث بما شئت من حلم ومن كرم وانشر مآثرهم فالباب متسع أما اليوم، فتعال وانظر لحالنا! فإن ظاهرنا الصلاح وقد نحسب في القدوات والسادات، والله وحده أعلم بسرائرنا، نعجب بأقوالنا وأفعالنا وأحوالنا وانتصارنا لأنفسنا وتصدرنا وعجبنا بذواتنا، وإذا وقفت مع حالنا مع النوافل والطاعات؛ أصابتك الحسرات والآهات، وقل مثل ذلك في طلبنا للعلم وفي أمرنا ونهينا عن المنكر، وإهمالنا لقلوبنا وحملنا على الآخرين وجرحهم ونبزهم، وأستغفر الله أن أعمم، ولكن كل منا أعلم بنفسه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] ، {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} [هود:88] . أخي الحبيب! تعال أقف وإياك للنظر في جانب سلامة الصدر فقط، وطهارة القلب في حياة هذين الرجلين في أكثر من موقف في حياتهما، إنهما: الإمامان أحمد بن حنبل، وابن تيمية رحمهما الله تعالى جميعاً، ففي حياتهما مثل أعلى للعاملين والدعاة المصلحين والعباد المخلصين، فمع كثرة الأذى لهما والنيل منهما وسجنهما وجلدهما، والتعرض للفتن بل وللتكفير والتفسيق والتبديع عياذاً بالله، ومع ذلك كله فاقرأ وتفكر لتعرف من أنت أيها المسكين! اقرأ وصارح نفسك وكن لها من الناصحين، فأنت إذا رماك أحد بتهمة ما تركت صغيرةً ولا كبيرةً إلا وذكرتها في قائلك! الجزء: 20 ¦ الصفحة: 20 مواقف من حياة الإمام أحمد بن حنبل ذكر عبد الغني المقدسي في كتابه محنة الإمام أحمد بسنده إلى أبي علي حنبل قال: حضرت أبا عبد الله -أي أحمد بن حنبل -، وأتاه رجل في مسجدنا، وكان الرجل حسن الهيئة كأنه كان مع السلطان، فجلس حتى انصرف من كان عند أبي عبد الله، ثم دنا منه فرفعه أبو عبد الله لما رأى من هيئته، فقال الرجل: يا أبا عبد الله! اجعلني في حل، قال أحمد: من ماذا؟! قال: كنت حاضراً يوم ضربت، وما أعنت ولا تكلمت، إلا أني حضرت ذلك. فأطرق أبو عبد الله ثم رفع رأسه إليه فقال: أحدث لله توبةً ولا تعد إلى مثل ذلك الموقف، فقال له: يا أبا عبد الله! أنا تائب إلى الله تعالى من السلطان، قال له أبو عبد الله: فأنت في حل وكل من ذكرني إلا مبتدع، قال أبو عبد الله: وقد جعلت أبا إسحاق - المعتصم - في حل، ورأيت الله عز وجل يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قضية مسطح. ثم قال أبو عبد الله: العفو أفضل، وما ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك، لكن لتعف وتصفح عنه فيغفر الله لك كما وعدك. اهـ. أيها الأخ! إن سمعت أحداً قال فيك قولاً أو حتى آذاك، فلا شك أن النفس ببشريتها تغضب وتفكر في الانتقام، لكن اعلم أن صدق الأخلاق لا يظهر إلا في المواقف العصيبة الشديدة، أما في المواقف الهينة اللينة فلا فخر ولا فضل. ساق المقدسي رحمه الله بسنده إلى أبي علي الحسن بن عبد الله الخرقي قال: بت مع أحمد بن حنبل ليلةً، فلم أره ينام إلا يبكي إلى أن أصبح، فقلت: يا أبا عبد الله كثر بكاؤك الليلة فما السبب؟ قال أحمد: ذكرت ضرب المعتصم إياي ومر بي في الدرس قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] فسجدت وأحللته من ضربي في السجود. ا. هـ. رحم الله الإمام أحمد، إمام أهل السنة والجماعة، هكذا والله هي القلوب، وهكذا والله هو التعلق بالله عز وجل، والتدبر لهذا الكتاب، فما منا أحد إلا ويريد أن يعفو الله عنه ويصفح الله جل وعلا عنه. ذكر ابن رجب في طبقات الحنابلة عن أبي محمد فوزان قال: جاء رجل إلى الإمام أحمد فقال له: نكتب عن محمد بن منصور الطوسي؟! فقال: إذا لم تكتب عن محمد بن منصور فعمن يكون ذلك؟! قالها مراراً، فقال الرجل: إنه يتكلم فيك، فقال أحمد رحمه الله تعالى: رجل صالح ابتلي فينا فما نعمل؟!. وما أعجب! مواقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، اقرؤوا هذا الكتاب محنة الإمام أحمد بن حنبل، انظروا مواقفه مع من عاداه ومع من ضربه ومع من سبه وشتمه، فرحم الله الإمام أحمد. أضحى ابن حنبل محنةً مأمونةً وبحب أحمد يعرف المتنسك فإذا رأيت لأحمد مستنقصاً فاعلم بأن ستوره ستهتك الجزء: 20 ¦ الصفحة: 21 مواقف من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ومن مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مع مخالفيه بالرغم من إيذائهم له وتعديهم عليه بالباطل، إلا أنه لم يقابل ذلك رحمه الله تعالى إلا بالإحسان. فها هو يقول في الفتاوى: وأنا والله من أعظم الناس معاونةً على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها -يقصد الفتنة التي حصلت في وقته- وإقامة كل خير، وابن مخلوف - الذي يقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية: هو عدوي، ولما بلغه أن الناس يترددون لـ ابن تيمية في سجنه قال ابن مخلوف عن ابن تيمية: يجب التضييق عليه وإن لم يقبل وإلا فقد ثبت كفره- لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خيرٍ إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هذه نيتي وعزمي، مع علمي بجميع الأمور، فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين، ولن أكون عوناً للشيطان على إخواني المسلمين. اهـ. ويقول -أيضاً- في موضع آخر: هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية: فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتماً بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدىً للناس، حاكماً فيما اختلفوا فيه. اهـ. ويقول رحمه الله أيضاً: فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي، وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم وإلا فحكم الله نافذ فيهم، فلو كان الرجل مشكوراً على سوء عمله، لكنت أشكر كل من كان سبباً في هذه القضية لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة، ولكن الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه التي لا يقضي للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له. اهـ. ويقول ابن القيم عن شيخه ابن تيمية رحمه الله تعالى: وما رأيت أحداً قط أجمع لهذه الخصال -يعني: سلامة الصدر وتنقية القلب والعفو عن الناس- من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، بل كان يدعو لهم، وجئته يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوةً وأذىً له فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه فرحمه الله ورضي الله عنه. كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي هكذا هم -رضوان الله تعالى عليهم- في مواقفهم، وفي حياتهم، وفي أحوالهم مع من عاداهم أو حتى كفرهم أو فسقهم أو بدعهم أو آذاهم، هكذا تكون القلوب المؤمنة المتعلقة الخائفة الراجية من الله العفو والصفح، والتي تنظر للدنيا أنها دار ممر لا دار مقر، هكذا التعلق بالله جل وعلا وطلب العفو ومرضاته سبحانه وتعالى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 22 نتائج سلامة الصدر ونقاوة القلب وآثاره لو لم يكن من آثار سلامة الصدر وتنقية القلب إلا أنه سبب لدخول الجنة -كما ذكرنا في حديث أنس - لكفى، فإن سلامة الصدر من أعظم أسباب دخول الجنة، قال ابن القيم في مدارج السالكين: وهاهنا للعبد أحد عشر مشهداً فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم ثم قال: المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم، فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته، لم يعدل عنه إلا لعشىً في بصيرته، فإنه (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) ، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم بالتجربة والوجود، وما انتقم أحد لنفسه إلا ذل، هذا وفي العفو والصفح والحلم من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام؛ ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام. اهـ. ويقول أيضاً رحمه الله تعالى في المشهد السادس: مشهد السلامة وبرد القلب، وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق حلاوته، وهو ألا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه، بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه، فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه، فيكون بذلك مغبوناً، والرشيد لا يرضى بذلك، ويرى أنه من تصرفات السفيه، فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوسواس وإعمال الفكر في إدراك الانتقام. اهـ. ثم أثر آخر ونتيجة أخرى من نتائج تنقية القلب من الغل والحسد، وهي: لو لم يكن في هذا القلب -كما أشار ابن القيم رحمه الله- إلا الطمأنينة والأمن وراحة البال لصاحبه لكفى به شرفاً ونتيجةً، فصاحب القلب الخالي من الأحقاد والظنون تجده مطمئناً مرتاحاً هادئاً. ولا ينشغل إلا بطاعة أو بعمل خير. فمتى نتحرر من هذا الأسر أيها الإخوة؟ قال زيد بن أسلم: دخلت على أبي دجانة رضى الله تعالى عنه وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى: كان قلبي للمسلمين سليماً. ويقول سفيان بن دينار: قلت لـ أبي بشر -وكان من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه-: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا، قال: [كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً -ليست العبرة بكثرة صلاتهم ولا صيامهم وصدقاتهم- قال: قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم] . وذكر هذا الأثر هناد بن السري في كتابه الزهد. وذكر ابن رجب في كتابه جامع العلوم: قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: لم يدرك من عندنا من أدرك بكثرة صيام ولا صلاة، وإنما أدرك بسخاء الأنفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 23 سبب لدخول الجنة لو لم يكن من آثار سلامة الصدر وتنقية القلب إلا أنه سبب لدخول الجنة -كما ذكرنا في حديث أنس - لكفى، فإن سلامة الصدر من أعظم أسباب دخول الجنة، قال ابن القيم في مدارج السالكين: وهاهنا للعبد أحد عشر مشهداً فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم ثم قال: المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم، فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته، لم يعدل عنه إلا لعشىً في بصيرته، فإنه (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) ، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم بالتجربة والوجود، وما انتقم أحد لنفسه إلا ذل، هذا وفي العفو والصفح والحلم من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام؛ ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام. اهـ. ويقول أيضاً رحمه الله تعالى في المشهد السادس: مشهد السلامة وبرد القلب، وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق حلاوته، وهو ألا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه، بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه، فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه، فيكون بذلك مغبوناً، والرشيد لا يرضى بذلك، ويرى أنه من تصرفات السفيه، فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوسواس وإعمال الفكر في إدراك الانتقام. اهـ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 24 الطمأنينة والأمن ثم أثر آخر ونتيجة أخرى من نتائج تنقية القلب من الغل والحسد، وهي: لو لم يكن في هذا القلب -كما أشار ابن القيم رحمه الله- إلا الطمأنينة والأمن وراحة البال لصاحبه لكفى به شرفاً ونتيجةً، فصاحب القلب الخالي من الأحقاد والظنون تجده مطمئناً مرتاحاً هادئاً. ولا ينشغل إلا بطاعة أو بعمل خير. فمتى نتحرر من هذا الأسر أيها الإخوة؟ قال زيد بن أسلم: دخلت على أبي دجانة رضى الله تعالى عنه وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟، فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى: كان قلبي للمسلمين سليماً. ويقول سفيان بن دينار: قلت لـ أبي بشر -وكان من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه-: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا، قال: [كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً -ليست العبرة بكثرة صلاتهم ولا صيامهم وصدقاتهم-، قال: قلت: ولم ذاك؟، قال: لسلامة صدورهم] . وذكر هذا الأثر هناد بن السري في كتابه الزهد. وذكر ابن رجب في كتابه جامع العلوم: قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: لم يدرك من عندنا من أدرك بكثرة صيام ولا صلاة، وإنما أدرك بسخاء الأنفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 25 أسباب امتلاء الصدر وغلّ القلب أسباب امتلاء الصدر وغل القلب تنقسم قسمين: أسباب مباشرة. وأسباب غير مباشرة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 26 الأسباب المباشرة فمن الأسباب المباشرة وعلى رأسها: الشيطان: فإن الفرقة والخلاف وملء الصدر بالشحناء وضيق الصدر غاية من غاياته، كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، كتاب المنافقين باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس، وأن مع كل إنسان قريناً: من حديث جابر رضى الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم) . أي: بالخصومات وبالشحناء والحروب والفتن وغيرها، ومن نظر لحال المسلمين اليوم عرف كيف نجح الشيطان في التحريش بين المسلمين في كل مكان؟ وسبب ثان مباشر هي أمراض القلوب بأنواعها: بدءاً بسوء الظن، والنجوى، والحسد، والغرور، والهوى، وحب التصدر وغيرها كثير، وجماع ذلك: الغفلة عن القلب وإهماله، ونشكو إلى الله حالنا مع قلوبنا وإطلاق العنان لها، فإننا نهتم بمظهرنا ومركبنا وأكلنا وشربنا، ونغفل كثيراً عن قلوبنا فتجتمع عليها النكت نكتةً نكتةً، (حتى يصبح القلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً) عياذاً بالله. ولذلك أقول: إن المسلم لو اهتم بقلبه أكثر مما يهتم حقيقة بمظهره وبيته وأكله وشربه؛ لوجد أن الله سبحانه وتعالى وفقه في كل صغيرة وكبيرة. فخذ مثلاً: سوء الظن! وهو ترجيح ما يخطر في النفس من احتمال السوء، ويبدأ سوء الظن بخاطرة تنقدح في الذهن، ثم لا يزال الشيطان ينفخ فيها حتى ينزلها منزلة الحقيقة، فنقول مثلاً: فلان يريد كذا، ويقصد من كلامه كذا، فدخلنا في النوايا والمقاصد، وكأننا أصبحنا نعلم الغيب بما يدور في صدور هؤلاء وفي نفوسهم. وما أجمل قول محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: [إذا بلغك عن أخيك شيء، فالتمس له عذراً، فإن لم تجد له فقل: لعل له عذراً لا أعلمه!] . الجزء: 20 ¦ الصفحة: 27 الأسباب غير المباشرة أولاً: الاختلاف في وجهات النظر وطريقة سير العمل: فقد يؤدي الخلاف في الآراء والتصورات إلى اختلاف القلوب وجفوتها وامتلائها بالشحناء، فليس شرطاً -أخي الحبيب- أن يوافقك الناس بكل ما تريد: فإما أن توافقني وإلا فأنت عدوي! وأنت معي وإلا فأنت ضدي! خطأ أن نأخذ هذه القاعدة في حياتنا؛ لأن كل إنسان له وجهة نظر، المهم أن نتفق في الأصول، أما في الفروع والخلاف فيها، واختلاف وجهات نظر، وطريقة سير العمل هذا يدعو على كذا، وهذا يدعو على كذا، فهذا لا يدعي أبداً إلى أن نملئ قلوبنا بغضاً وحقداً وشحناءً على بعض -والعياذ بالله- بل ننصح أخانا وننبه على ما وقع فيه من خطأ، فهذا هو واجبنا، أما أن نظلمه فنحقد عليه ونهجره، فلا. ذكر الذهبي في السير قال: قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟!. انظروا للنفوس! ألا يسعنا ما وسعهم؟! وقال أحمد بن حفص السعدي شيخ ابن عدي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس مازال يخالف بعضهم بعضاً. هكذا كانوا رحمهم الله تعالى. إذاً فالخلاف في المسألة الفرعية لا يفسد للود قضيةً أبداً، فقد كان يعذر بعضهم بعضاً فيقول: لعل له تأويلاً، ويقول: لعل ذلك الحديث لم يبلغه أو لم يصله، أو غير ذلك من الأعذار التي كانوا يبحثونها لبعضهم رحمهم الله تعالى. ولذلك قال الذهبي في السير: مازال الأئمة يخالف بعضهم بعضاً ويرد هذا على هذا، ولسنا ممن يذم العالم بالهوى والجهل. ثانياً: التنافس: ولاشك أن التنافس أمر محمود، لكنه قد يتعدى إلى الحسد والغل على الآخرين، خاصةً بين الأقران، ولذلك يقول الذهبي: استفق ويحك وسل ربك العافية، فكلام الأقران بعضهم في بعض أمر عجيب وقع فيه سادة، فرحم الله الجميع. ويقول أيضاً: كلام الأقران يطوى ولا يروى. ويقول أيضاً: كلام الأقران بعضهم في بعض يحتمل، وطيه أولى من بثه، إلا أن يتفق المعاصرون على جرح شيخ فيعتمد قولهم. إذاً فالتنافس مطلوب، ولكن بطبيعة البشر قد يصل إلى قلب قرينك أو زميلك شيء من الحقد عليك، فانتبه لهذا الأمر! وليس هذا الكلام على إطلاقه، فهناك من الأقران من يهتم بقرينه بل ويفضله على نفسه، فهذا هشام بن يوسف يقول: كان عبد الرزاق أعلمنا وأحفظنا. فهذه صورة جميلة لحال الأقران المنصفين، بل وهناك صور كثيرة ولله الحمد والمنة. ثالثاً: التناصح: وكيف يكون التناصح سبباً للحسد والحقد؟! فبعض الناس لا يحتمل النصيحة، فيبدأ بالكيد للناصح والتفتيش عن عيوبه وبثها، مع أنك حرصت على أن تكون الوسيلة صحيحةً: بانفراد بينك وبينه، وبالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، ومع ذلك وجد في نفسه شيئاً عليك، ولا يزال يتحرى ويبحث عن أخطائك، حتى يرد الصاع صاعين. رابعاً: التجارة والبيع والشراء والتعامل مع الآخرين: (ورحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى وإذا اقتضى) كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ذكره البخاري في باب السهولة والسماحة في البيع والشراء. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 28 السبيل إلى سلامة الصدر وتنقية القلب الجزء: 20 ¦ الصفحة: 29 الدعاء أن تدعو الله بصدق وإلحاح أن يرزقك قلباً سليماً محباً للآخرين، فقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك قلباً سليماً) وردد يا أخي الحبيب! {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] واسأل الله حسن الخلق، (فإن العبد ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم) ، وما وصل أولئك الرجال إلى ما وصلوا إليه إلا بسخاء الأنفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة كما ذكرنا. فاحرص على الدعاء لإخوانك، وما أجمل العفو، فقل قبل منامك: اللهم من سبني أو شتمني أو ضربني فإني قد عفوت عنه لوجهك الكريم، ما أجمل أن تردد هذه الكلمات في نفسك كل ليلة، فإذا نمت نمت بقلب سليم، وإذا مت مت بقلب سليم. ثم أتبع هذه الكلمات بقولك: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني، أسألك بالله يا أخي الحبيب! هل ستكون أحلم من الله جل وعلا؟! فكما عفوت أنت عن خلقه فسيعفو الله عنك إن شاء الله، ثقةً بالله، فالله أحلم وأعظم وأكرم، فاعف عن عباد الله يعف الله عنك، طهر قلبك من الحقد والغل على الآخرين؛ تجد أن الله سبحانه وتعالى يحفظك ويوفقك ويعلي درجتك. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 30 الحذر من غفلة القلب احذر! الغفلة عن القلب، وراقبه مراقبةً جيدةً، واعلم أن تنقية القلب من الغل والحقد يحتاج إلى ترويض نفس وطول مجاهدة ومراقبة، فإذا وجدت في قلبك على أحد، فابحث عن الأسباب، وصارح نفسك ولا تستجب لباعث الهوى فيها، وعليك بهضم النفس، واسأل الله العون والتوفيق. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 31 إحسان الظن بالآخرين أحسن الظن بالآخرين والتمس لهم الأعذار، فإن لم تجد فقل: لعل لأخي عذراً لا أعلمه. قيل: إن أبا إسحاق نزع عمامته يوماً وكانت بعشرين ديناراً، وتوضأ في دجلة فجاء لص فأخذها وترك عمامةً رديئةً بدلها، فطلع الشيخ فلبسها وما شعر حتى سألوه وهو يدرس في درسه! فقال: لعل الذي أخذها محتاج! أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع الجزء: 20 ¦ الصفحة: 32 الصبر والتحمل فإن الاحتمال مقبرة المتاعب، وتمثل قول الشاعر: إذا أدمت قوارصكم فؤادي صبرت على أذاكم وانطويت وجئت إليكم طلق المحيا كأني ما سمعت ولا رأيت الجزء: 20 ¦ الصفحة: 33 العفو والصفح {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] . ومن علامته -كما ذكرنا- الدعاء لإخوانك، خاصةً من كان بينك وبينه جفوة أو شحناء، حاول أن تدعو له مع أنني أعلم أن هذا لا يطاق، لكن جرب وحاول أن تدعو لإخوانك، وأرغم نفسك والشيطان على الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة والتوفيق والهداية. وكما يقول عبد الله بن أحمد: ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم. وإني لأعجب أن ينام المسلم ملء جفنيه، وبينه وبين أخيه شحناء أو جفوة، وقد تأتيه المنية تلك الليلة، وما أجمل قول المقنع الكندي: وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جداً فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم وإن هم هووا غيي هويت لهم رشداً ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس كريم القوم من يحمل الحقدا الجزء: 20 ¦ الصفحة: 34 ثلاثة قبل النهاية الجزء: 20 ¦ الصفحة: 35 ضرورة تصحيح الأخطاء بالضوابط الشرعية إن ما تقدم لا يعني أننا ننهى عن تصحيح الأخطاء وتقويم الآراء، ونأمر بالتغاضي عن الزلات وعدم التنبيه عليها وتقويم الآراء، بل إننا نطالب بذلك، ولكن بالضوابط الشرعية المقررة عند سلفنا الصالح وعلمائنا الأفاضل رحمهم الله، وليكن القصد الوصول للحق، لا الانتصار للنفس والهوى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 36 تربية الأجيال على سلامة الصدر هذا الموضوع رسالة إليكم جميعاً، وإلى العلماء وإلى طلاب العلم والمدرسين والآباء والمربين وجميع من يعنيهم الأمر، فلنحرص على تربية الشباب والأجيال والنفوس على صفاء النفس، وطهارة القلب، وصدق العمل وتقدير العلماء والدعاة وسلامة الصدر، وإن أهم أساليب التربية هي القدوة الحسنة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 37 سلامة الصدر أمانة في أعناقكم إن هذا الموضوع دعوة عامة لطهارة القلب، وسلامة الصدر وصفاء النفس، فهو أمانة عند كل من قرأه، لنشره وبثه بين الناس في جميع طبقاتهم ومختلف أحوالهم، لننشر مثل هذا الموضوع، ولنتحدث عنه كثيراً، ليحصل الحب والمودة وجمع القلوب، وتوحيد الكلمة بين المسلمين، فيشرق بذلك أعداء الإسلام من المنافقين وغيرهم. فبادر بنشره، وليكن حديث مجالسنا ومدارسنا وأسواقنا، ورب مبلغ أوعى من سامع. اللهم إني بلغت؛ اللهم فاشهد! ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين، ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 38 جاري العزيز جاري العزيز! رسالتي إليك مقطوفة من بستان الرحمة الإلهية، وما أنا إلا رسول يبرئ ذمته مما أمر به (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) . ألم تعلم أنك بتهاونك بالصلاة قد تركت شعيرة عظيمة حتى هدمت بها دينك كله؟! هلا عرفت قدرها كما عرف الشيطان قدرها فحرص على جعلها غريبة حتى بين أوساط المسلمين، فصاروا بسببها يتصفون بصفات المنافقين، بل ويستهزئون بمن يقيم لها قدراً وحقاً! بل وخرج بعضهم عن دائرة الإسلام لما ضاعت منه! فهل آن الندم على ما فات؟! الجزء: 21 ¦ الصفحة: 1 أحوال المسلمين مع عماد الدين الحمد لله الذي جعل الصلاة كتاباً موقوتا على المؤمنين، وأمر بإقامتها والمحافظة عليها وأدائها مع جماعة المسلمين، أحمده على نعمه، وأشكره على جزيل منه وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، توعد من تخلف عن صلاة الجماعة بأشد الوعيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بسنته وسار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الناس! اتقوا الله واعلموا أن مقام الصلاة عظيم، وقد نوه الله بشأنها في كتابه الكريم، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الفارقة بين المسلم والكافر، وهي عمود الإسلام، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة. أيها المسلمون! إن الشيطان يحرص كل الحرص على صرف المسلم عن هذه الصلاة؛ لعلمه أنه إذا انصرف عنها انصرف عن بقية أحكام الدين من باب أولى، فإنه لا دين لمن لا صلاة له، ولا حظ له في الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (آخر ما تفقدون من دينكم الصلاة) . وإن الشيطان يأتي لصرف المسلم عن هذه الصلاة من طرق كثيرة، فإن تمكن من منعه منها بالكلية، فإنه يبذل لذلك كل ممكن، وإن لم يتمكن من منعه منها احتال عليه بمنعه من الصلاة مع الجماعة، ثم بمنعه من أدائها في وقتها، فإن لم يستطع عن منعه عن الجماعة أغراه بالتكاسل والتأخر عن الحضور إلى المسجد حتى يفوته بعضها ويحرمه فضيلة السبق إلى المسجد، وحضور الصلاة من أولها. وهذا هو الواقع اليوم من كثير من المسلمين، فمنهم أعداد كثيرة من جيران المساجد لا يدخلون المساجد للصلاة فيها، أو يدخلونها لبعض الصلوات ويتركون بعضها، وأعداد كثيرة تحضر إلى المساجد متأخرة لا تدرك إلا بعض الصلاة مع الإمام، أو لا تدرك منها شيئاً. فما عذرك يا من تسمع النداء! وقد يكون المسجد إلى جانب بيتك وأنت صحيح البدن آمن من الخوف ثم لا تحضر لصلاة الجماعة؟! هل أنت ممن لم يسمع الآيات والأحاديث؟ أو سمعتها وقلت: سمعنا وعصينا؟! أيها الإخوة! إن حالتنا اليوم مع الصلاة حالة سيئة؛ خف ميزانها لدينا، وتساهلنا في شأنها، وصار التخلف عنها أمراً هيناً، بل أمراً عادياً، فالأسرة الكبيرة في البيت لا يحضر منها إلا الأفراد، وبعض البيوت لا يحضر منها أحد، والذين يحضرون لا ينكرون على المتخلفين، وقد يكونوا من أولادهم الذين كلفوا بأمرهم بها وضربهم عليها. فأنت ترى البيوت والأسواق مكتظة بالناس، ولا يرتاد المساجد منهم إلا الأفراد، والغالبية رضوا بأن يكونوا مع الخوالف رضوا بالعقوبة رضوا بوصف النفاق؛ فإن من أبرز صفات المنافقين التي وصفهم الله بها في كتابه العظيم: التكاسل عن صلاة الجماعة، حيث قال الله تعالى في وصفهم: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء:142] وقال سبحانه: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة:54] وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها -أي صلاة الجماعة- إلا منافق معلوم النفاق] . فهل ترضى أخي الحبيب! أن تكون في زمرة المنافقين الذين هم أشد الناس عذاباً يوم القيامة؟! {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:145-146] . إن التخلف عن صلاة الجماعة دليل على ضعف الإيمان، وخواء القلب من تعظيم الله وتوقيره واحترامه، وإلا فكيف يليق بمسلم صحيح آمن يسمع منادي الله كل يوم خمس مرات وهو يناديه: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) ثم لا يجيبه، ويسمع منادي الله وهو يقول: (الله أكبر) ثم يكون اللعب عنده أكبر، ومشاهدة الأفلام والمباريات أكبر، والبيع والشراء أكبر، ومشاغل الدنيا الفانية أكبر، ويسمعه وهو يقول: (الصلاة خير من النوم) ثم يكون النوم عنده خير من الصلاة. يقول أحد مغسلي الموتى: جيء بميت يحمله أبوه وإخوانه، ودخلنا لغسله فبدأنا بتجريده من ملابسه، ها هو جثة نقلبها بأيدينا! لقد آتاه الله قوة في جسمه، وفتوة في عضلاته، وبياضاً ناصعاً في بشرته، وبينما نحن نقلب الجثة، وفجأة وبدون مقدمات انقلب لونه كأنه فحمة سوداء، فتجمدت يداي وشخصت عيناي خوفاً وفزعاً، فخرجت من مكان التغسيل وأنا خائف، فسألت أباه: ما شأن هذا الشاب؟ فقال: إنه كان لا يصلي، يقول المغسل: فقلت لهم: خذوا ميتكم فغسلوه. فرفض المغسل أن يغسله، ورفض إمام المسجد أن يصلي عليه إنا لله وإنا إليه راجعون! لا إله إلا الله! لا يغسل ولا يصلي عليه المسلمون، ولا يدفن في مقابر المسلمين، هذا حكم الله فيه. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 2 حكم تارك الصلاة سئل الشيخ العلامة ابن عثيمين: ما حكم تارك الصلاة؟ فأجاب -حفظه الله تعالى- بقوله: إن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة، فالذي لا يصلي كافر خارج عن الملة، وإن كان له زوجة انفسخ نكاحه منها، ولا تحل ذبيحته، ولا يقبل منه صوم ولا صدقة، ولا يجوز أن يذهب إلى مكة فيدخل الحرم، وإذا مات فإنه لا يجوز أن يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين، وإنما يخرج به إلى البر ويحفر له حفرة يرمس فيها، ومن مات له قريب وهو يعلم أنه لا يصلي فإنه لا يحل له أن يخدع الناس ويأتي به إليهم ليصلوا عليه؛ لأن الصلاة على الكافر محرمة لقوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:84] . انتهى كلامه مختصراً حفظه الله. وسئلت اللجنة الدائمة للإفتاء: هناك أناس لا يصلون الفرائض الخمس مطلقاً إلا صلاة الجمعة، فما حكم الميت منهم؟ وهل يجب على المسلمين دفنه والصلاة عليه؟ فأجابت اللجنة بقولها: إذا كان الواقع كما ذكر؛ فإن تركها جاحداً لوجوبها عليه فهو كافر بإجماع المسلمين، أما إن تركها كسلاً مع اعتقاد وجوبها فهو كافر على الصحيح من أقوال العلماء، للأدلة الثابتة الدالة على ذلك، وعلى هذا القول الصحيح: لا يغسل، ولا يصلي عليه المسلمون صلاة الجنازة، ولا يدفن في مقابر المسلمين. انتهى كلامهم. فأي خاتمة سيئة لهذا العبد، وأي عار وفضيحة لأهله وإخوانه! هذا في الدنيا، وما عند الله أشد: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 3 تحذير من الاستهزاء بالمصلين فيا أخي الحبيب! أيها المتهاون في الصلاة! يا تارك الجماعة! اسمع قبل ألا يصلى عليك اسمع قبل ألا يترحم عليك اسمع ما دمت تسمع، واستجب ما دمت في مهل، واسمع لهذه الكلمات، واستمع لهذه التوجيهات من قلب أحبك ويخشى عليك من غضب الجبار، فلا يغرنك حلم الله وإمهاله لك. إن بعض الناس قد يسخر بالمصلين، ويستهزئ بهم ويلمزهم إن نصحوه وأمروه بالصلاة مع الجماعة، وقد يتفوه البعض بكلمات الفسق والفجور، كلمات تتزلزل لها الأرض والسماوات، وتتقطع لها قلوب المؤمنين والمؤمنات، فلا إله إلا الله ما أحلم الله على عباده! وما أوسعه وأصبره على أولئك! {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16-17] . يا من تتكلم بتلك الكلمات وتسخر بالصالحين الناصحين! ألم تحسب لغضب الله حساباً؟ أليس الله قادراً عليك؟ أو ليس الله قادراً أن يشل جسدك أو يوقف أركانك أو يخرس لسانك؟ ألم يكفك ترك الصلاة لتتفوه بهذه الكلمات وتبارز بها جبار الأرض والسماوات؟ ولكن صدق الله حيث قال: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 4 عظم قدر الصلاة في الدين أخي الكريم! أخي الحبيب! يا من فقدناه في مسجد حيناً! يا من تخلف عن صلاة الجماعة! ألم يأن لك أن تندم على سيئاتك وتقلع عنها؟! ألم يأن لقلبك أن يخشع لذكر الله وما نزل من الحق؟ إلى متى وأنت بعيد عنا؟ فلو مرضت أو مت ما علمنا؟ ألم تعلم أننا نحزن إذا فقدناك ونفرح والله إذا رأيناك؟ وليس لنا من الأمر شيء؛ من اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها. إلى متى وأنت تحرم نفسك الراحة والسعادة والأمن والاطمئنان؟ إننا نسمع ونقرأ قصص التائبين والتائبات، وبعضهم يقول: لم نركع لله ركعة ولم نسجد لله سجدة -سبحان الله- أيعقل أن مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله وهو لا يصلي؟! أيها الحبيب! كل شيء إلا الصلاة، أيها الأخ! اسمعها واحفظها: كل شيء إلا الصلاة، فإنها العهد الذي بيننا وبين الكافرين (وبين الرجل والكفر ترك الصلاة) أترضى أن يقال لك كافر؟! لا والله فإننا لا نرضاه لك، نعوذ بالله من حال الكافرين. أخي الحبيب! إنك إن حافظت على الصلاة فأنت على خير مهما وقع منك، إنها الصلة بينك وبين الله، فهل استغنيت عن الله يوم أن قطعت الصلة بينك وبينه؟ إن لك رباً براً رحيماً يفرح بتوبتك، فأقبل عليه، إن حلم الله أوسع من إقرارك، ورحمته أعظم من ذنبك، فتب إلى الله تب إلى الله قبل أن يحال بينك وبين التوبة. أسألك بالله العظيم؛ أيسرك أن تموت وأنت على هذه الحالة مع الصلاة؟ اسأل نفسك، حاسب نفسك، كن عاقلاً، ارجع لنفسك، ألم تسمع المجرمين عندما يسألون: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42] فأول الإجابة {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] . فكر بحالك يوم القيامة يوم تدعى إلى السجود فلا تستطيع: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:42-43] كانوا يدعون بحي على الصلاة، حي على الفلاح، ويسمعون فلا يستجيبون. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 5 وعيد النبي صلى الله عليه وسلم لتارك صلاة الجماعة أخي الكريم! يا جارنا العزيز! يا من فقدناه في مسجدنا! ألم تسمع بهذا الوعد والوعيد والتهديد الشديد من النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم عندما قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) . وفي رواية للإمام أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لولا ما في البيوت من النساء والذرية؛ أقمت صلاة العشاء، وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار) . إن الرسول همّ أن يحرق على هؤلاء المتخلفين عن صلاة الجماعة تلك البيوت التي تؤويهم عن أداء هذا الواجب العظيم، فيذهب الحريق بنفوسهم وأموالهم عقاباً لهم على ترك هذه الشعيرة، وهذه عقوبة غليظة لا تكون إلا على جريمة عظيمة، إنه لو أحرق بيتاً على من فيه بالنار لفزع الناس من ذلك فزعاً شديداً، ولو فعل ذلك بمن يترك الجماعة لكان هذا جزاؤه شرعاً. وقد كان الصحابة يهتمون بصلاة الجماعة وينكرون بشدة على من تخلف عنها ويصفونه بالنفاق، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: [من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو أنكم تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف] . هذا ما قاله عبد الله بن مسعود عن مكانة صلاة الجماعة عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمهم على من تخلف عنها، إنه عندهم منافق معلوم النفاق ينبذونه ويهجرونه. والمتخلف عن الصلاة اليوم أخ عزيز لدينا نكرمه ونخالطه ونعاشره، ما كأنه ارتكب جريمة، وما كأنه عصى الله ورسوله، وهذا مما يدل أن ميزان الصلاة لدينا خفيف، وأمرها هين. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 6 وجوب مناصحة تارك الصلاة تبين لنا من القرآن الكريم والسنة المطهرة والصحابة وعمل المسلمين إلى يومنا هذا وجوب صلاة الجماعة، ووجوب الإنكار على من تخلف عنها ومعاقبته، ويتعين ذلك على ولي أمره وإخوانه، وعلى إمام المسجد وجماعته، فإنهم يشتركون في الإثم إن سكتوا عنه. فالله الله في تارك الصلاة بنصحه والإنكار عليه، فإن لم يستجب فالتضييق عليه وهجره، ورفع أمره للهيئات والمحاكم، وعدم قبوله في الحي حتى يرحل عنه أو يصلي مع جماعة المسلمين، ولا يجوز تركه بحال من الأحوال، وويل لأولئك الآباء الذين يرون أبناءهم على هذا المنكر العظيم فلا يحركون ساكناً، بل ويجلسون ويشربون ويأكلون معهم فلا ينصحون ولا يضربون ولا يهجرون؛ وكلها وسائل شرعية، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بالنصح تارة، وبالضرب تارة، وبالهجر تارة، ويل لأولئك الآباء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة) . فتنبه يا ولي الأمر! انتبه لأبنائك وبناتك ونسائك، واهتم بأمر الصلاة فإن شأنها عظيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 7 أعذار لم تبح لأهلها ترك الصلاة الحمد لله القائل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] وهو نص في وجوب صلاة الجماعة ومشاركة المسلمين في صلاتهم، ولو كان المقصود إقامتها فقط لاكتفى بقوله في أول الآية {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} . أخي الحبيب! يا من فقدناه في مسجد حينا! أرجوك أن تسمع هذه الكلمات، وأن تفكر بهذه الدلائل والبراهين الواضحات؛ إن كنت تريد الحق ونبذ الهوى. ألم تعلم أن الله لم يعذر المسلم في حال الحرب بتركه للجماعة، بل أمره بها في وقت عصيب، يواجه المسلمون فيه عدوهم، فقال جل وعلا: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] . فهل تظن يا أخي الحبيب أن صلاة الجماعة تجب على هؤلاء في هذه الظروف الحالكة، ولا تجب على رجل يتقلب في فراشه الوثير آمناً مطمئناً معافى؟! ألم تعلم أن الله لم يعذر الأعمى بتركه للجماعة، بل أمره بها رغم ظروفه العصيبة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (أتى النبي رجل أعمى فقال: يا رسول الله؛ إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب) وفي رواية لـ أبي داود قال: (إني ضرير البصر شاسع الدار) . وفي رواية لـ أبي داود أيضاً والنسائي قال: (يا رسول الله؛ إن المدينة كثيرة الهوام والسباع) . أتظن -يا أخي الحبيب-: أن صلاة الجماعة تجب على هذا الصحابي الذي جمع بين فقد البصر وبعد الدار وخوف الطريق وعدم القائد، ولا تجب على المقصر المجاور للمسجد الذي يسمع عند كل صلاة أكثر من عشرين مؤذناً كلهم ينادي: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) ؟! حتى المريض لم يعذره الله بترك الصلاة، بل أمره بها على أي حال وأي صفة قدر عليها. فيا من فقدناه في صلاة الجماعة! هل تجد لك رخصة بعد هذه الأدلة؟! فإن لم يعذر هؤلاء فما هو عذرك غداً أمام الله؟! وما هي إجابتك في أول سؤال ستسأله؟! فإن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة عن الصلاة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 8 فوائد الصلاة ثم تعال وانظر لحكم الصلاة وفوائدها العظيمة، فإن منها: أولاً: أنها سبب للمودة والألفة والترابط بين جماعة المسلمين: فنحن نراك خمس مرات في اليوم والليلة، فلم حرمت نفسك من المحبة والترابط؛ فأنت بحاجة لإخوانك وجيرانك؟! ثانياً: هي سبب لتحصيل الأجور والحسنات وتكفير الذنوب ومحو السيئات: فبكل خطوة ترفع لك درجة، ويحط عنك خطيئة، وهي كفارة لما بينها، والملائكة تصلي عليك وتستغفر لك ما دمت في مصلاك، أفتراك استغنيت عن هذا كله بترك الصلاة في المسجد؟! ثالثاً: هي سبب للسعادة والاطمئنان وطرد الهموم والقلق: فإن الصلاة نور لصاحبها في قلبه ووجهه وقبره، وقد مزقت الهموم والغموم قلوب كثير ممن هجروا المساجد، فتعال وانظر لحالهم، فإن سيماهم في وجوههم من أثر المعاصي والذنوب. رابعاً: فوائد الصلاة كثيرة جداً، ولو لم يكن منها إلا أنها طاعة لله الذي خلقك فأحسن خلقتك، وأنعم عليك ورزقك، وامتن عليك بصحة وعافية، أفيجوز أن يعطيك هذا كله ثم يأمرك فتعصي؟! إنها صفة اللئام، وإنها الدناءة والخفة والفجور أن ينعم عليك فتعصيه. إن الإصرار على المعصية قد يكون سبباً في سوء الخاتمة، فإن الذنوب ما تزال بالرجل العظيم حتى تميت قلبه وتورده جهنم، عياذاً بالله. فاصدق مع الله وحاسب نفسك، ارجع إلى نفسك قبل غرغرة الروح، تضرع إلى الله بالدعاء، خذ بالأسباب المادية من النوم مبكراً ووضع منبه، وجاهد النفس وتذكر {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12] . هذه رسالة إلى أخينا وجارنا الذي فقدناه في صلاة الجماعة، فهل بعد هذا البيان من عذر؟ وهل لهم حجة أمام الله؟ هذه الرسالة أمانة في عنق كل مصل لإيصالها إلى كل تارك لصلاة الجماعة، فلنجتهد في نصحهم، ولنجتهد في إيصال مثل هذه الرسالة لهم، ولنذكرهم بالله، ولنخوفهم بالله، ولنعذر أمام الله، ولنبرئ أنفسنا أمام الله. اللهم إني بلغت اللهم فاشهد. وأسأل الله الكريم المنان أن يمنَّ علي وعليك وعلى جميع المسلمين بهداية وتوفيق دائمين حتى نلقاه. اللهم اهد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أعنا على أنفسنا. اللهم صل وسلم وبارك أطيب وأزكى صلاة وسلام وبركة على نبينا محمد الصادق الأمين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين وخلفائه الراشدين وسائر الصحابة أجمعين. اللهم اجمع كلمة المسلمين على التوحيد يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحبه وترضاه، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم اجعلهم هداة مهتدين، صالحين مصلحين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 9 بشائر ومبشرات في مثل هذا الوقت العصيب، وفي مثل هذه الظروف تذكر البشائر والمبشرات؛ لترسم أشعة الفجر الجديد، ولتملأ النفوس المسلمة بالثقة واليقين، ولتشعر القلوب المؤمنة الحية بالعزة والتمكين، وليشْرَقَ بها أعداء الدين، وليغص بها المنافقون المبطلون. إن ميلاد الأمة قريب، ولابد للميلاد من مخاض، ولابد للمخاض من آلام، ومن رحم الظلام يخرج النور. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 1 الشعور بالعزة والتمكين في وقت الضعف عند المسلمين إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذه ليلة الإثنين الموافق للتاسع عشر من الشهر العاشر للعام (1415هـ) وفي هذا الجامع المبارك بمدينة عيون الجوى يتجدد اللقاء مع هذه الوجوه الطيبة المباركة، وموضوع هذا اللقاء هو بعنوان (بشائر ومبشرات) . وفي وقت تكالبت فيه المصائب والمحن على المسلمين، والجراح تنزف في كل جزء من جسد هذه الأمة، وتحشرجت فيه النفوس، وضاقت فيه القلوب، حتى أصاب كثيراً من الناس اليأس والقنوط، فما إن تذكر الأمة الإسلامية حتى تسمع الزفرات والآهات والحوقلة والاسترجاع وكأن الأسباب تقطعت، والآمال تدثرت. أيها الأحبة: في هذا الوقت العصيب، وفي مثل هذه الظروف أزف إليكم هذه البشائر وهذه المبشرات. أزفها إليكم لترسم أشعة الفجر الجديد، ولتملأ النفوس المسلمة بالثقة واليقين، وأزفها إليكم لتشعر القلوب الحية بالعزة والتمكين، وليشْرَق بها أعداء الدين، وليغُصَ بها المنافقون والمبطلون. أسوق إليكم هذه البشائر والمبشرات، وأزفها إليكم تذكيراً للغافل، وتنشيطاً للذاكر أزف إليكم هذه لتحيا بها النفوس الأبيّات. بشراكم أيها الأحبة! إن ميلاد الأمة قريب، ولا بد للميلاد من مخاض ولا بد للمخاض من آلام، ومن رحم الظلام يخرج النور. والليل إن تشتد ظلمته فإن الفجر لاح أبشر فهذا الفجر لاح ها نحن جئنا يا صلاح قد أدبر الليل العميل وجاء للدنيا صباح ما دام عرقي نابضاً لن تعرف النفس ارتياح حتى أرى شعبي وليس له عن الأقصى براح إن العالم الإسلامي بأسره يعيش لحظات عصيبة، وساعات حرجة يخطها القلم، ويسجلها التاريخ، وما عليك فقط إلا أن تقرأ إن كنت ممن يقرأ صحيفة، أو تنظر في مجلة، أو تسمع لنشرة أخبار لتقف بنفسك على حال المسلمين في كل مكان، وما لم يذكر ويغفل فهو أكثر. ففي البوسنة والهرسك ملايين القتلى والمشردين الأطفال اليتامى، والنساء الثكالى، والمساجد مهدمة، والدماء تسيل، أكثر من خمسين ألف مسلمة ينتهك عرضها في البوسنة والهرسك فقط، فما بالك بـ كشمير والفلبين وطاجكستان والشيشان والصومال وأفغانستان وأراكان وألبانيا وكوسوفو، بل في كل بقعة يذكر فيها اسم الله تعالى. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 2 أسباب اليأس والقنوط عند كثير من المسلمين أيها الأحبة! إنه التحدي السافر لهذه الأمة في عقيدتها، وفي تاريخها، وفي إسلامها، ومستقبلها. أمر مفزع مروع هذا الواقع الذي جعل الكثير من المسلمين عرضة لليأس والقنوط، ومن ثم للخمول والقعود. وأقول: إن اليأس في قلوب أمثال هؤلاء ناتج عن الأسباب التالية وباختصار شديد: أولاً: ما يرونه من جهود الأعداء في محاربة الإسلام، ومواجهة أهله مستخدماً -أي هذا العدو- كل طاقاته من تقدم تكنولوجي في العدة والعتاد، وكل وسيلة من وسائل الاستعمار الفكري. ثانياً: بُعد الناس عن دين الله، وموت الإحساس لدى الكثير منهم، فهو لا يعلم عما يجري لإخوانه، وإن علم فكأن الأمر لا يعنيه، المهم نفسه وماله، وهذا هو الهوان الذي أشار إليه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم: (حب الدنيا وكراهية الموت) . ثالثاً: من أسباب اليأس والقنوط عند بعض الناس: يقظة الأعداء ومواجهتهم لأي جهد يبذله المسلمون مما حدى بكثير من المسلمين والمسلمات إلى الاستسلام، والخمول والتثبيط عند بذل أي جهد، فالخوف والرعب يأكل قلوبهم يحسبون كل صيحة عليهم. رابعاً: ومما سبق من هذه الأسباب فإنها تقودنا إلى سبب رابع من أسباب اليأس، وهو سبب مهم جداً غفل أو تغافل عنه كثير من الناس، ألا وهو الجهل بالغاية التي خلق من أجلها الإنسان، إن كثيراً من الناس لا يعلم لماذا خلق؟ وإن علم فإنه يتغافل عن الهدف الحقيقي الذي من أجله خلق. فيا أيها الإنسان! أنت خلقت لهدف، ولغاية عظيمة نبيلة، وهي عبادة الله عز وجل بمفهومها الحقيقي الذي عرفه أهل العلم: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. هذا هو تعريف العبادة، هذه هي العبادة الحقيقية التي يريدها الله سبحانه وتعالى من عباده، لا كما يرسم الأعداء العبادة على أنها تلك العبادات الكبيرة: الصلاة والصيام والحج والزكاة؛ فما هكذا يريد الله أيها الأحبة! إن العبادة التي يريدها الله بمفهومها الحقيقي هي ذلك المعنى العام الذي يشمل كل نواحي الحياة. فاسأل نفسك: لماذا خلقت؟ أمن أجل أن تأكل وتشرب وتنام وتقوم؟! أم من أجل الملذات والشهوات؟! هذا والله هو شأن الحيوان، بل إن ذلك الإنسان أضل من الحيوان، اسمع لقول الحق عز وجل يوم أن قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] غفلوا عن الهدف والحقيقة التي من أجلها خلقوا، فعاشوا أضل من الأنعام -عياذاً بالله- لمجرد اللذات والشهوات والبيع والشراء لمجرد أن يحيا الإنسان ويذهب في هذه الدنيا بئست الحياة إن كانت هي هذه الحياة التي يعيشها المسلم. إنك خلقت لهدف أسمى، إنك خلقت لرضى الإله، أيها الأخ الحبيب! فكر بنفسك وارجع لنفسك واسألها بصدق: هل أنت راضٍ عن نفسك؟ الآن هل أنت راضٍ لهذا العمر الطويل الذي أمد الله عز وجل به إلى يومك هذا؟! ماذا قدمت لله؟! ماذا قدمت لدينك؟! ماذا قدمت لنفسك يوم أن تقدم على الله عز وجل؟! عندها تقول بملء فيك لا. وألف لا لعبادة العباد, لا وألف لا لعبادة الشهوات والملذات (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) هذه هي عبادة الدنيا كما تبعها كثيرٌ من الناس. خامساً: الجهل بطبيعة هذا الدين. هذه الأمور وهذه الأسباب الخمسة وغيرها جعلت كثيراً من الناس يصيبه اليأس، وتداخله الشكوك لنصرة هذا الدين، وتمكينه في هذه الأرض، وحتى نقطع الطريق على هؤلاء المخدرين اليائسين الخائفين، فإني أقول وبكل قوة وبكل ثقة ويقين: أبشروا أيها الأحبة! أبشروا بنصر الله، فإن البشائر والمبشرات كثيرة -ولله الحمد- المهم أن نتفاءل، ولنملأ أنفسنا بالتفاؤل. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 3 أسباب التفاؤل بنصر الله وقد يقول قائل: لماذا وكيف نتفاءل وواقع المسلمين كما ذكرت وكما نرى ونسمع؟ فأقول: يجب أن نتفاءل لأسباب كثيرة منها ومن أهمها: الجزء: 22 ¦ الصفحة: 4 أن القرآن الكريم حرم اليأس، وندد باليائسين وهذه من أولى البشارات، ومن أول البشائر: أن القرآن حرم اليأس وندد باليائسين، فعالج هذا المرض الخطير بالتحريم القاطع لينقطع دابره من النفوس، فلا يجوز للمسلم أن ييأس أبداً فاليأس قرين للكفر، واسمع لقول الحق عز وجل: {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] فاليأس صفة للكافرين واليأس قرين الضلال، قال تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر:56] . حذر الله عز وجل من اليأس والقنوط، إذاً نقول لليائسين المخذلين: إن اليأس في دين الله لا يجوز، فحذر من اليأس، واحذر من التيئيس! فإنها أول علامة للهزيمة، والفتور، والخور النفسي، إن أول علامة للهزيمة النفسية التي أصابت كثيراً من المسلمين اليوم هي في قضية اليأس والقنوط عياذاً بالله. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 5 بشائر القرآن بالنصر والتمكين لمن أقام الدين ولو لم يكن سوى هذه البشائر لكفى فهي نصوص ووعود مِن مَن؟ ممن بيده ملكوت السموات والأرض، وبيده الأمر كله، فلماذا إذاً الضعف والهوان؟! ولماذا الخوف والخور والله سبحانه وتعالى معك مؤيداً وناصراً؟ أين الثقة بالله أيها الأحبة؟! أين اليقين بقدرة الله وقوته؟ اسمع! لهذه الآيات وتدبرها عندما قال الحق عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] إظهار دين الله أمر تكفل به الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] . إذاً: فهذا هو عهد الله، واسمع لقول الحق عز وجل يوم أن قال: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} [الحج:40-41] هذا هو الهدف، هذا هو الذي يريد الله عز وجل من عباده {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] وقال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] . في هذه الآيات أخبر سبحانه وتعالى أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين لكن متى؟ إذا قاموا بنصرة دينه، إذا قاموا بما كلفوا به، إذا قاموا بواجب الدعوة إلى الله، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فقد وعد الله المؤمنين باستخلافهم في الأرض، وأن يمكن لهم دينهم، وأي أمل للمسلم فوق وعد الله عز وجل، وأي رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق يوم أن وعده الحق سبحانه وتعالى، هذه بعض نصوص القرآن. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 6 بشائر السنة باستخلاف المسلمين تعال واسمع! لبعض نصوص السنة النبوية، فقد روى الإمام أحمد والبزار والطيالسي وقال الهيثمي عن الحديث: ورجاله رجال الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أول دينكم نبوة ورحمة، وتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ماشاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله جل جلاله، ثم يكون ملكاً جبرياً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله جل جلاله، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، تعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويلقي الإسلام بجرانه في الأرض، يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدراراً، ولا تدع الأرض من نباتها ولا بركاتها شيئاً إلا أخرجته) . وروى الدارمي وأحمد وابن أبي شيبة عن أبي قبين قال: (كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص وسئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أم رومية -والقسطنطينية هي الآن عاصمة تركيا اسطنبول وقد فتحت، أما رومية فهي عاصمة إيطاليا الآن والتي فيها مقر الصليبية، والتي فيها دولة الفاتيكان التي تقود الأمة النصرانية في مثل هذا الوقت- فدعا عبد الله بصندوق له حلق قال: فأخرج كتاباً فقال: عبد الله بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً؟ فقال: مدينة هرقل -يعني القسطنطينية -) والحديث حسنه المقدسي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه. وقد تحقق الفتح الأول على يد الخليفة العثماني محمد الفاتح رحمه الله تعالى، وذلك عام ثلاثة وخمسين وأربعمائة وألف للميلاد، أي: بعد تقريباً ثمانمائة سنة من وعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن ننتظر الآن صدق الوعد الآخر، وهو سقوط رومية أو روما بفضل من الله وبمشيئة منه تعالى، وهذا وعد منه صلى الله عليه وسلم لابد صائر بمشيئة الله. وأيضاً روى مسلم وأحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله زوى لي الأرض -أي ضمها وجمعها- فرأيت مشارقها ومغاربها، وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) وفي الحديث الذي رواه ابن حبان: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر) . وأيضاً هذان الحديثان يؤكدان: حتمية رجوع الإسلام إلى مركز الريادة، وموضع القيادة، ومقام السيادة من شرق الدنيا إلى غربها، لتتحقق إرادة الله التي اقتضاها للأمة الإسلامية منذ الأزل. وروى الشيخان -والأحاديث كثيرة ولكني أختصرها- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! هذا يهودي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) وهذا الحديث يشير إلى أن اليهود سيجتمعون في مكان، ثم يتسلط عليهم المسلمون، وهذا هو الواقع الكائن، والدلائل تشير إلى هذا، فإن اليهود يجمعون أعوانهم وأهلهم من كل مكان في فلسطين. وأيضاً لا ننس أحاديث الطائفة المنصورة، وقد وردت عن عدد من الصحابة منها: حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه عند مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) . وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره) والحديث رواه أحمد والترمذي وقال الترمذي: حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح الترمذي. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب) . والحديث رواه أحمد وابنه عبد الله في زوائده وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي على ذلك، وقال الألباني في أحكام الجنائز: إن إسناد عبد الله صحيح على شرط البخاري. من هذه النصوص من القرآن والسنة يتبين لنا أن هذه النصوص كلها بشائر لنصرة الإسلام وتمكينه، ألا فليثق الدعاة إلى الله عز وجل بهذه المبشرات مهما كان في الطريق من عثرات {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] ولو لم يكن من البشائر والمبشرات سوى هذه النصوص لكفت، فكيف والتاريخ يشهد لذلك؟ وكيف والواقع يتفجر عن ينابيع الإسلام؟ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 7 بشائر الصراع القائم بين الحق والباطل أيها الأحبة! الواقع الآن يتفجر عن ينابيع الإسلام، وعن قدومه في كل يوم، ففي كل يوم نسمع عن حرب للإسلام والمسلمين قادمة من بقاع لم نكن نعرفها ولم نسمع بها وإليك تفصيل ذلك. فصولات الباطل وانتفاش أهله الآن، دليل على قوة الحق وقدومه وتململه، فقبل سنوات قليلة لم يكن للمسلمين صوت لا في البوسنة ولا في طاجكستان ولا في الفلبين ولا في الشيشان ولا في غيرها من بلاد المسلمين. أما الآن فإننا نسمع تلك الأمور وتلك الصولات والجولات للمسلمين في كل مكان، وفي كل صقع من أنحاء المعمورة، هذه الأمور إننا نعتبرها أيها الأحبة! ينابيع للإسلام تتفجر عن قدومه وبقوة، فماذا قدمنا؟! وما هو دورنا؟! فالإسلام ماضٍ في طريقه للعزة والتمكين سواء بنا أو بغيرنا. فيا أيها المسلم ويا أيتها المسلمة! سجل لنفسك موقفاً يشهد لك عند الله عز وجل، كن ممن شارك في نصرة هذا الدين ولو بكلمات صادقة ناصحة من قلب يحترق ويتألم، كن مِن مَن شارك لنصرة هذا الدين، ولو بشريط أو كتاب يفتح الله به قلوباً عمياً أو آذاناً صماً، كن مِن مَن شارك في نصرة هذا الدين، ولو بريالات قليلة تعين بها ملهوفاً، وتنصر بها مظلوماً. المهم أن تعمل، وتشعر أنك تقدم، فكر وابحث وقلب الأمور، وستجد أن بيدك الخير الكثير الكثير، فلا يقل قائل: ماذا أقدم؟ ماذا أعمل؟ فإننا تعدينا مرحلة هذا السؤال، والوقوف عنده بكثير. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 8 خوف أعداء الإسلام من وحدة المسلمين أيها الأحبة! ومن البشائر أيضاً: ذلك الخوف الرهيب والرعب الشديد من الإسلام، فلماذا يتعرض الإسلام في هذه الأيام لهجمات مسعورة؟! ولماذا تزداد هذه الهجمات شراسة كلما ظهرت صحوة إسلامية في بلد ما؟! لماذا يتفق أصحاب الشعارات والمبادئ المتناقضة على عدائهم للإسلام وأهله؟! لماذا تثار الشبهات حول الإسلام ومبادئه ومناهجه وعقائده وأحكامه؟! لماذا تثار الحملات الشعواء التي تشنها صحافة الغرب والشرق على الإسلام وأهله؟! لماذا تغزى بلاد الإسلام بوسائل الشهوات والمخدرات، ووسائل الخلاعة والمجون المحطمة لقوى الشباب والمستنزفة لطاقاتهم وأفكارهم وعقولهم؟! الإجابة واحدة: إنهم يخافون الإسلام إنهم يخافون من رجعة قوية للإسلام والمسلمين إنهم يخافون من وحدة المسلمين، لقد درس أعداؤنا من الكافرين وأذنابهم الإسلام وعقيدته، فعرفوا أنه يربي الرجال والنساء على تقديم كل غالٍ ونفيسٍ في سبيل الله، حتى ولو كان المقدم هو الروح فهي رخيصة من أجل الإسلام وفي ذات الله، علموا هذه الحقيقة، رأوها واقعاً في ساحات الجهاد، فلذلك خافوا وهلعوا وأصابهم الرعب الشديد من الإسلام. ولتعلم حقيقة هذا الرعب وهذا الفزع الشديد الذي أصابهم اسمع لبعض أقوالهم: فالحق ما شهدت به الأعداء كما يقال وإني أسوق إليك نزراً يسيراً قليلاً مما قالوه عن الإسلام، والصور والمقالات التي تترجم عن خوفهم ورعبهم الشديد من هذا الدين: هذا قولٌ لـ مور بيجر في كتابه العالم العربي المعاصر، يقول: (إنّ الخوف من العرب واهتمامنا بالأمة العربية، ليس ناتجاً عن وجود البترول بغزارة عند العرب، بل لسبب الإسلام يجب محاربة الإسلام بالحيلولة دون وحدة العرب التي تؤدي إلى قوتهم؛ لأن قوة العرب تتصاحب دائماً مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره) . ونحن نسمع مثل هذه المقالة نقول: أين شبابنا ليعلموا أن تمزيق وحدة الصف المسلم، وبث الفرقة والنزاع، وتقسيم المسلمين إلى جماعات وأحزاب إنما هو هدف خَلَّفه من خَلَّفه، ألا فليتق الله ذلك المسلم الذي قد يكون وسيلة لتنفيذ مخططات الأعداء وهو لا يشعر، باسم الغيرة على الدين، وتأصيل العقيدة، فافهم العقيدة جيداً، وطبقها على الواقع كما يريد الله عز وجل ذلك فإنها صالحة لكل زمان ومكان، وإياك إياك أن تكون وسيلة بأيدي أعداء الدين لبث الفرقة والنزاع، وتمزيق صف وحدة المسلمين. وها هو فيليب ونداسي يصرح في كتابه المسمى (الاستعمار الفرنسي في أفريقيا السوداء) يقول: (إن من الضروري لـ فرنسا أن تقاوم الإسلام في هذا العالم، وأن تنتهج سياسةً عدائيةً للإسلام، وأن تحاول على الأقل إيقاف انتشاره) . ويقول المستشرق الفرنسي كيمون في كتابه (باثلوجيا الإسلام) يقول: (وأعتقد أن من الواجب إبادة خُمس المسلمين والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة، ووضع محمد وجثته في متحف اللوفر) . ويقول المرمرشادور يقول: (إن هذا المسلم الذي نام نوماً عميقاً مئات السنين، قد استيقظ وأخذ ينادي: هأنذا لم أمت، إنني أعود إلى الحياة لا لأكون أداة طيّعة أو ثقلاً من البشر تسيره العواصم الكبرى، ويقول -أيضاً معقباً هو نفسه-: ومن يدري ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الإفرنج مهددة بالمسلمين، فيهبطون من السماء لغزو العالم مرة ثانية في الوقت المناسب، ثم يقول: لست أدعي النبوءة ولكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة، لا تقوى الذرة ولا الصواريخ على وقف تيارها) انتهى كلامه هنا. ثم تعال واسمع إلى تلك الرسالة السريّة التي أرسلها رئيس الوزراء البريطاني جون ميجر حين أرسلها إلى الوزير البريطاني للشؤون الخارجية يخبره بأنهم لن يوافقوا أبداً على تزويد مسلمي البوسنة والهرسك بالسلاح أو تدريبهم عليه مهما كانت الظروف. وهذه الرسالة نشرتها مجلة الرابطة عدد محرم وصفر وربيع الأول من عام (1414هـ) من السنة الماضية، والرسالة نشرتها المجلة باللغتين العربية والإنجليزية. وإليك النص الأصلي واعذرني ألا أقرأ عليك النص كاملاً لطول الرسالة إنما وأقرأ عليك مقاطع من هذه الرسالة، يقول في بداية الرسالة: مكتب رئيس وزراء، ثم يقول: السيد دوجلاس هوك مكتب الشئون الخارجية والمملكة المتحدة لندن، وتاريخ الرسالة (11/ 11/ 1413هـ) يقول: السيد دوجلاس المحترم: (أشكرك على التقرير المفصل حول الأوضاع الماضية والحالية في جمهورية البوسنة والهرسك التي كانت جزءاً من يوغسلافيا السابقة، ثم يقول: كما تعرف جيداً من خلال الأحاديث السابقة في المكتب والمناسبات الأخرى فإن حكومة جلالة الملكة لم تغير موقفها تجاه حل القضايا السياسية التالية: 1- لا نوافق كما أننا لن نوافق في المستقبل على تزويد مسلمي البوسنة والهرسك بالسلاح أو تدريبهم على استخدامه، إننا سنواصل دعمنا الحازم لإبقاء حظر بيع السلاح المفروض من قبل الأمم المتحدة على دول هذه المنطقة رغم معلوماتنا الموثقة الواردة عن دعم دول اليونان وروسيا وبلغاريا للجيش الصربي وقيامها بتدريبه، والمعلومات أيضاً عن قيام ألمانيا والنمسا واستوفينيا وحتى الفاتيكان بالدور المماثل لدعم كرواتيا والقوات الكرواتيه في البوسنة والهرسك، ومن المهم جداً أننا نعلم يقيناً أن جميع الجهود المماثلة المبذولة من قبل الدول والمنظمات الإسلامية لدعم المسلمين قد باءت بالفشل التام، ثم يقول: إنه يتعين علينا اتباع هذه السياسة حتى لحظة الوصول إلى الهدف النهائي -وما هو الهدف؟ - وهو تقسيم جمهورية البوسنة والهرسك ومنع قيام دولة إسلامية في أوروبا، وهو الأمر الذي لا يمكن أن نسمح به أبداً، وإنه من غير المسموح أن نرتكب مرة أخرى في البوسنة والهرسك أو في أي مكان في العالم الخطأ الذي ارتكبناه بتسليح، وتدريب المقاتلين الأفغانيين أثناء قتالهم مع الاتحاد السوفيتي. وأترك كثيراً من كلامه في الرسالة إلى أن يقول: 2- من نقاط الرسالة: يجب أن نؤكد ضرورة إخفاء حقيقة التحركات السياسية الغربية وبأي ثمن عن كل الدول التي يمكن أن نسميها بالإسلامية، وبالذات عن تركيا فيما يتعلق في هذه المنطقة إلى أن تهدأ الأمور في يوغسلافيا السابقة، ومن أجل هذا السبب نفسه يتعين علينا الاستمرار بالخدعة التي سميناها (بوانس أوين) لإحلال السلام بهدف عرقلة كل التحركات إلى أن نقضي على دولة البوسنة والهرسك، ويتم تهجير المسلمين منها إلى مختلف دول العالم، ثم يقول: قد يظهر للبعض أن هذه السياسة قاسية، إلا أنه من واجبي أن أطالب بها كل العاملين في مكتب الخارجية لشئون المجموعة الأوروبية، الذين لهم صلة مباشرة، بصنع القرارت السياسية والعاملين في الأجهزة العسكرية، ولكني متأكد أن هذه السياسة في حقيقة الأمر السياسة الوحيدة الناجحة من أجل المصلحة العليا، وهي مستقبل الأمن الأوربي) … إلى آخر كلامه في رسالته. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 9 واقع الحضارات المادية الغربية الآيلة للانهيار ومن هذا انهيار الشيوعية، فإن انهيار المذهب الشيوعي في ذاته لابد أن يوضع من المبشرات، فقد كانت الشيوعية فتنة لكثير من الشباب في العالم العربي، ومن كان يصدق أن تنهار الامبراطورية الروسية ثم ها هي تلتمس الأعطيات والمساعدات من بقية الدول الأخرى، فأين من يعقل ويتدبر؟ روسيا القوة الثانية في العالم التي كانت تنافس الرأسمالية أصبحت اليوم تتلمس المساعدات والأعطيات؟! وأما الرأسمالية التي تمثلها اليوم أمريكا، فإن واقع المجتمع الأمريكي في كل مجالاته الدينية والسياسية والثقافية والاقتصادية والإعلامية والتعليمية والاجتماعية وغيرها، واقع مفزع مخيف بالنسبة لهم. ليس أنا من يقول هذا الكلام، ولكي أختصر عليك الوقت، وأوثق المعلومات لك فإني أطالبك بالرجوع إلى كتاب بعنوان (يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة) ارجع لهذا الكتاب واقرأ فيه، وانظر الأرقام والإحصاءات فيه، وهذا الكتاب تأليف جيمس بتروسون وبيتر كيم، وترجمه باللغة العربية الدكتور/ محمد بن سعود البشر، صدر الكتاب بالإنجليزية عام (1991م) يقع في (270 صفحة) من القطع المتوسط. وهذا الكتاب هو دراسة قامت على إحصاءات واستبانة وأرقام من واقع المجتمع الأمريكي، ونتائج هذا الكتاب نتائج مفزعة مخيفة بالنسبة للأمريكيين، واسمعوا ماذا يقول الأمريكيون أنفسهم عن هذا الكتاب؟ يقول إلكس هيلي مؤلف كتاب (الجذور) عن هذا الكتاب كتاب يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة يقول: كتاب مفزع عندما أنهيت قراءته لم أعرف ماذا أفعل؟! هل أصدع بالحقائق -أي: التي فيه- أم أركض للتلال وأختبئ؟! إنه يعرض لنا حقائق عن أنفسنا لم أشاهدها في أي دراسة، أو في أي استطلاعات للرأي، ولا حتى في الأحاديث الشخصية. تقول صحيفة نيويورك ديني نيوز عن الكتاب كلمة واحدة قالت عن الكتاب: نتائج مفزعة. وأيضاً يقول سيبني جيمز نائب الرئيس التنفيذي لشركة كولومبيا للإنتاج السينمائي يقول: كتاب باترسون وكيم -أي المؤلفان-: قد يكون نقطة الالتقاء حتى تجنب الولايات المتحدة نفسها من كارثة محققة الحقائق المفزعة التي يقدمانها في هذا الكتاب تلح على هذا الأمر الآن، وإلا فلا جدوى. هذا ما قالوه عن هذا الكتاب الذي يُعلن عن التصدع الكبير في بنية مجتمعهم، وانظر إن شئت كتاباً آخر بعنوان (السقوط من الداخل ترجمات ودراسات في المجتمع الأمريكي) للدكتور/ محمد بن سعود البشر -أيضاً- وهو عبارة عن مناقشات للقضايا والمشكلات الراهنة التي يعاني منها المجتمع الأمريكي في جميع النواحي. أقول: إن الحضارة المادية الغربية تتهالك اليوم وتسقط، سقطت الشيوعية والنذر قادمة لسقوط الرأسمالية. أيها الأحبة! العالم اليوم بجميع أحواله يشكو من إفلاس الأنظمة البشرية، ويتجرع ويلات ومرارة هذه النظم التي دمرت حياتهم، فما أكثر الانتحارات، وما أكثر اللجوء للخمر، والضياع، والفساد، والشهوات في تلك المجتمعات، وقضت هذه النذر على كل جوانب الخير في ذلك الإنسان، وها هو ذلك الإنسان يتطلع اليوم إلى المنقذ الذي يخلصه من ذلك، وليس المنقذ أبداً إلا الإسلام، فهو الذي يتوافق مع الفطرة، ويحقق للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة، ويكفي الأنظمة البشرية قصوراً وفشلاً أنها من صنع البشر، وأن دين الإسلام من صنع خالق البشر سبحانه وتعالى. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 10 الصحوة الإسلامية وأثرها الملاحظ في واقع الأمة ومن البشائر: واقع الأمة الإسلامية، هذا الواقع الذي بدأت تصحو الأمة فيه على نداءات المخلصين، إن ما نشاهده اليوم في أنحاء العالم الإسلامي من صحوة مباركة، ومن رجوع صادق إلى دين الله يزداد ولله الحمد والمنة يوماً بعد يوم مما يدل دلالة صادقة على إقبال هذه الشعوب عن بكرة أبيها على الالتزام بحقيقة دينها، والنهوض بأمتها، ناهيك عن إقبال غير المسلمين على الدخول في دين الله عز وجل، اقرءوا الصحف والمجلات، وانظروا في اليوم الواحد كم يسلم من المشركين والكفار! كم أعداد أولئك الذين يدخلون في الإسلام سواء من الرجال أو النساء؟ هذا ما يذكر في الصحف والمجلات، وما لم يذكر فهو أكثر. فأقول: هذا كله رغم قلة الإمكانات، وقلة الجهود المبذولة للدعوة، فكيف لو تحرك المسلمون الصادقون؟ كيف لو تألمت القلوب، وعرفت الهدف الذي من أجله تعيش، فتتحرك للدعوة إلى الله عز وجل؟ كيف لو عاشرنا أولئك العمالة من الكفار والمشركين الذين يعيشون معنا في تجاراتنا ومؤسساتنا؟ كيف لو عاشرناهم بخلق حسن؟ وكيف لو دللناهم على دين الله عز وجل بحق؟ كيف لو وجهنا هذه الأمة؟ كيف لو نصحنا وأمرنا بمعروف ونهينا عن منكر بكلمة طيبة لينة؟ لوجدنا أثر ذلك أيها الأحبة! هذه النتائج نراها رغم قلة العاملين. فالله الله أن تكون ممن سلك نصرة هذا الدين، فإن الدين منصور بك أو بغيرك أيها الأخ الحبيب! الجزء: 22 ¦ الصفحة: 11 شهادة التاريخ للمسلمين بالانتصارات ومن البشائر: التاريخ الذي برهن على انتصارات الأمم المغلوبة على أعدائها، ونحن لسنا أمة مقطوعة إن لنا تاريخاً نستلهم منه الدروس والعبر، وما أكثر تلك اللحظات الحرجة، وأوقات الفتن والمحن التي مرت بالأمة الإسلامية، فقط ما عليك إلا أن تقلب صفحات التاريخ لتقف على تلك اللحظات، ففي التاريخ عجائب الأمور، وفيه تقلبات الزمن، وتصاريف القدر، وفيه سنة الصراع بين الإيمان والجاهلية. اقرأ التاريخ لتربط هذه الأحداث اليوم بتاريخنا العريق يوم أن يبين لنا الدروس والعبر، فيه ما يصيب الدعاة من المحن والبلاء، وعاقبة الصبر على الطريق. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 12 لحظات حرجة في يوم الأحزاب لحظات رهيبة وعصيبة من حياة المسلمين: تعال أيها المسلم! لأُقلب وإياك صفحات ثلاث فقط من تاريخنا، كانت هذه الصفحات لحظات رهيبة وحرجة عصيبة على المسلمين، فكيف تعامل معها المسلمون، وكيف نجَّى الله سبحانه وتعالى الصادقين، ولماذا ينتصر أعداء الدين على المسلمين، ويحصل لهم التمكين في بعض الأحايين؟ الصفحة الأولى: إنها تلك اللحظات الحرجة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في غزوة الأحزاب، ذلك الرعب الذي روّع أهل المدينة وأفزعهم، خلاصة حالة المسلمين في هذه اللحظات، أعددها لكم بالنقاط التالية: أولاً: تجمع الأحزاب من كل مكان: قريش، غطفان، وبنو أسد، وبنو سليم، وبنو مرة، وقبيلة أشجع، وفزارة، ومن اليهود أيضاً بنو قريظة، وبنو النضير؛ تجمعت هذه الأعداد وضرب حصار محكم منها على المدينة، وهذا يذكرنا بتجمع أعداء الدين اليوم كلهم على هذا الدين وعلى الأمة الإسلامية. ثانياً: غدر اليهود وخيانتهم ونقضهم للعهد في المدينة: وهذا هو ديدنهم الذي أخبر الله عز وجل عنهم في الكتاب، وستظل هذه الصفات إلى يوم القيامة لأنها إخبار من الله عز وجل في القرآن، وإخبار منه صلى الله عليه وآله وسلم في السنة. ثالثاً: مكائد المنافقين وتسللهم لواذاً متعللين بالأكاذيب، وتثبيطهم للنفوس، وبثهم للرعب والفزع في القلوب المريضة فقط: وقد قال منافق منهم ويدعى معاتب بن قشير قال في هذه اللحظات: كان محمد يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. كلمات تثبيط وتخذيل، كما يفعله الكثير اليوم من المنافقين. رابعاً: الجوع المقعد، وفقدان الزاد: حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجراً من شدة الجوع، وكما جاء في حديث أنس رضي الله تعالى عنه عند البخاري قال: (يؤتون بملء كف من الشعير فيصنع لهم في الإهاله -والإهاله هي ودك يتحلب من دسم اللحم -وشحمه سنخة- أي: متغيرة فاسدة الطعم- توضع بين يدي القوم، والقوم جياع وهي بشعة في الحلق، ولها ريح منتنة، ثم قال في الحديث: وقد لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً ولا نطعم شيئاً ولا نقدر عليه) . خامساً: نقطة من وصف حال المسلمين في تلك اللحظات: حفر الخندق والأحوال الجوية: فالبرد شديد ونقلهم التراب على أكتافهم وظهورهم، كما في حديث البراء قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبرّ بطنه) . وفي لفظ: (حتى وارى عني التراب جلدة بطنه صلى الله عليه وسلم) . سادساً: الخوف على النساء والعجزة والأطفال، وهم من وراء المجاهدين في آطام المدينة والسعي لحمايتهم بعد غدر اليهود من ورائهم. سابعاً: قلة المسلمين وقلة السلاح والعتاد أمام تجمع الأحزاب، وقوتهم وكثرة عتادهم. كل هذه الظروف تجمعت على المسلمين في تلك اللحظات، وفي تلك الساعات الحرجة العصيبة، وتعال واسمع لوصف الحق عز وجل اسمع لوصف الله سبحانه تعالى وهو يصف حال المؤمنين في هذه اللحظات الحرجة يقول سبحانه وتعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10-11] هذا وصف الله سبحانه وتعالى للموقف: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10-11] ثم يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:12-13] انظر التثبيط والتخذيل، وقد يقع في ذلك كثير من ضعاف المسلمين اليوم: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} [الأحزاب:13] إنها صورة الهول الذي روَّع المدينة، والكرب الذي شملها، والذي لم ينج منه أحد من أهلها، وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة، من كل جانب من أعلاها ومن أسفلها. قال محمد بن مسلمة وغيره: [كان ليلنا ونهارنا بالخندق، وكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوماً، ويغدو خالد بن الوليد -يوم كان مشركاً- يوماً، ويغدو عمرو بن العاص -يوم كان مشركاً- يوماً، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوماً، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوماً، ويغدو ضرار بن الخطاب يوماً حتى عظم البلاء، وخاف الناس خوفاً شديداً] وتقول أم سلمة رضي الله عنها: [شهدت -أي مع النبي صلى الله عليه وسلم- معه مشاهد فيها قتال وخوف المريسيع وخيبر، وكنا بـ الحديبية وفي الفتح وحنين، لم يكن من ذلك أتعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أخوف عندنا من الخندق، وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري فـ المدينة تحرس حتى الصباح، نسمع فيها تكبير المسلمين، حتى يصبحوا خوفاً، حتى ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً] . كيف تعامل المسلمون مع هذه اللحظات الحرجة، ومع هذا الموقف؟ وكيف كان حالهم في وقت الفتن والشدة؟ ماذا فعلوا في هذه الساعات العصيبة؟ لم يترددوا لحظة في نصرة الله عز وجل ولا نصرة دينه، بل كانت هذه الشدائد والفتن والمحن مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين. لقد كانوا رضوان الله تعالى عليهم ناساً من البشر يفزعون، ويضعفون، ويضيقون بالشدة، لكنهم كانوا مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله عز وجل وتمنعهم من السقوط، وتجدد فيهم الأمل وتحرسهم من اليأس والقنوط، ولذلك اسمع لموقفهم كما يصفه الله تعالى، اسمع لموقف المؤمنين الصادقين في الفتن ومواقف الشدة يوم أن تمسكوا بالعروة الوثقى، يوم أن تمسكوا بلا إله إلا الله فعرفوا أنه ما قادر على شيء في هذا الكون إلا الله، وبعد إذن الله سبحانه وتعالى، يقول سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] الفتنة والشدة ليس فيها تراجع، بل هذه دلائل وهذه بشائر ومبشرات على أن هذه نصرة للإسلام، ولذلك {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22] لما رأوا الأحزاب تجمعت عليهم من كل ناحية وتكالبت عليهم الظروف التي ذكرناها قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] . هذه صورة الإيمان الواثق المطمئن، هذه صورة مشرقة مضيئة للمؤمنين الصادقين وهم في مواجهة المحن والشدائد، ولا عجب فهم تلامذة المدرسة المحمدية، ففي هذه اللحظات الحرجة وفي هذه الشدائد والمصائب التي تجمعت على المسلمين فإذا به صلى الله عليه وآله وسلم يبشرهم بسقوط حكم كسرى وقيصر، في هذه اللحظات العصيبة فإذا به صلى الله عليه وسلم يقول: عندما يضرب الحجر يقول: (الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة -سبحان الله- ثم يضرب الثانية ويقول: الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصور المدائن، ثم يضرب الثالثة فيقول: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء بمكاني هذه الساعة) والحديث أخرجه أحمد والنسائي من حديث البراء بن عازب وإسناده حسن، وأصل الحديث عند البخاري في صحيحه في كتاب المغازي. والأعجب من هذا أنه لما وصله صلى الله عليه وسلم غدر اليهود من بني قريظة ونقضهم للعهد، وهي مصيبة أخرى على تلك المصائب التي تجمعت عليه وعلى أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ومع ذلك كله اسمع لليقين قال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! أبشروا بنصر الله وعونه، إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق، وآخذ المفتاح، وليهلكن كسرى وقيصر ولتنفقن أموالهما في سبيل الله) هذا في اللحظات التي يأتيه الخبر أن اليهود قد غدروا. قال صاحب الظلال رحمه الله: وحين نرانا ضعفنا مرة أو زلزلنا مرة أو فزعنا مرة أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق فعلينا ألا نيأس من أنفسنا، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبداً، ولكن علينا في الوقت ذاته أن لا نقف إلى جوار ضعفنا؛ لأنه من فطرتنا البشرية، ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا هنالك العروة الوثقى عروة السماء، وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة، ونسترد الثقة والطمأنينة، ونتخذ من الزلزال بشيراً بالنصر، فنثبت ونستقر ونقوى ونطمئن ونسير في الطريق، وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام. فأقول الجزء: 22 ¦ الصفحة: 13 الصليبيون وتسلطهم على المسلمين قبل معركة حطين الصفحة الثانية: لما استولى الصليبيون على كثير من البلاد الإسلامية، والمسجد الأقصى ما يقارب قرناً من الزمن؛ حتى ظن الكثير من المسلمين وغيرهم أنه لا أمل في انتصار المسلمين على الصليبيين، وأنه لا رجاء في رد أرض فلسطين مع المسجد الأقصى إلى حوزة المسلمين، ولاسيما بعد أن فتكوا في الأنفس، وذبحوا من المسلمين في يوم واحد فقط أكثر من ستين ألفاً حتى إن الدماء سالت أنهاراً في شوارع القدس وقد بلغت حد الركب. واسمع لـ ابن كثير وهو يقول في البداية والنهاية: لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة أخذت الفرنج -لعنهم الله- بيت المقدس -شرفه الله- وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألفاً من المسلمين، وجاسوا خلال الديار، وتبروا ما علو تتبيراً. قال ابن الجوزي: وأخذوا من حول الصخرة اثنين وأربعين قنديلاً من فضة زنة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنوراً من فضة زنة أربعون رطلاً بالشامي، وثلاثة وعشرين قنديلاً من ذهب، وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة، والسلطان منهم القاضي أبو سعد الهروي، فلما سمع الناس بـ بغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك، وتباكوا وقد نظم أبو سعد الهروي كلاماً قرئ في الديوان، وعلى المنابر فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد، فخرج ابن عقيل وغير واحد من أعيان الفقهاء، فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئاً إذا ماتت قلوب الناس وأصابها الخوف والهلع والعياذ بالله ماتت،فإنا لله وإنا إليه راجعون. حتى إنَّ أرياط أمير الكرك، ولم يكن في الفرنج أشد منه عداوة للمسلمين سطا على قافلة ذاهبة من مصر إلى الشام فأخذ أموالهم وضرب رقابهم وهو يقول: أين محمدكم! دعوه ينصركم!! من كان يظن أن هذه البلاد ستحرر في يومٍ من الأيام على يد البطل صلاح الدين في معركة حطين الحاسمة، ويصبح للمسلمين من الكيان والقوة والعزة والسيادة ما شرف التاريخ. قال ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثاني عشر: فتواجه الفريقان، وتقابل الجيشان، وأسفر وجه الإيمان، واغبر وأقتم وجه الكفر والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان، وذلك عشية الجمعة، فبات الناس على مصافهم، وأصبح صباح يوم السبت الذي كان يوماً عسيراً على أهل الأحد، وذلك لخمس بقين من ربيع الآخر فطلعت الشمس على وجوه الفرنج، واشتد الحرب وقوي بهم العطش، وكان تحت أقدام خيولهم حشيشٌ قد صار هشيماً، وكان ذلك عليهم مشئوماً، فأمر السلطان النفاطة أن يرموه بالنفط فرموه فتأجّج -أي: ذلك الحشيش- ناراً تحت سنابك خيولهم، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال، وتبارز الشجعان، ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة، فحملوا وكان النصر من الله عز وجل فمنحهم الله أكتافهم، فقتل منهم ثلاثون ألفاً في ذلك اليوم، وأسر ثلاثون ألفاً من شجعانهم وفرسانهم، وكان في جملة من أُسر جميع ملوكهم سوى قومس قرابلس فإنه انهزم في أول المعركة، واستلبهم السلطان صليبهم الأعظم، وهو الذي يزعم أنه صلب عليه المصلوب، وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفيسة، ولم يسمع لمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله ودمغ الباطل وأهله حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفاً وثلاثين أسيراً من الفرنج، وقد ربطهم بطنب خيمة، وباع بعضهم أسيراً بنعل ليلبسها في رجله، وجرت أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فلله الحمد دائماً كثيراً طيباً مباركاً انتهى كلامه رحمه الله. من كان يظن أنها ستحدث مثل هذه الأحداث، وستحرر هذه البلاد بعد هذه الأمور التي سمعتموها من تسلط الصليبيين ومن أذاهم للمسلمين. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 14 التتار والعالم الإسلامي صفحة ثالثة وأخيرة من صفحات التاريخ التي تبرهن على أنه مهما كان حال المسلمين إلا أن العزة والتمكين سيكون نصر للمؤمنين. وهذه الصفحة هي لما خرب المغول والتتار العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ونهبوا الأموال، وداسوا القيم، وفتكوا في الأنفس والأعراض فتكاً ذريعاً حتى قيل: إن جبالاً شامخة وأهرامات عالية أقامها هولاكو من جماجم المسلمين. واسمع لـ ابن الأثير وهو يروي لنا الخطب والحدث في كتابه الكامل في الجزء التاسع يقول: ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة، ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام، لقد بقيت عدة سنين -هذا كلام ابن الأثير - معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجْلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟! ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمن الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. إلى أن وصف هذا الحدث، وهذا الخطب، بصفات عجيبة غريبة، من أراد أن يرجع إليها فليرجع إليها هناك، إلى أن قال: وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة -كأنه يسوق لنا ما يدور الآن في العالم الإسلامي- فإنا لله وإنا إليه راجعون! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! لهذه الحادثة التي استطار شرها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين وقصدوا بلاد تركستان مثل كاشور وبلد سوغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكاً وتخريباً وقتلاً ونهباً، ثم يتجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل، وما فيه من البلاد إلى حد العراق ثم بلاد أذربيجان وأرانية، ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج إلا الشريد النادر، كل هذا في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله. إلى أن قال أيضاً: ففعلوا فيها -أي في بلاد الهند وسجستان وكرمان وغيرها، ففعلوا فيها مثل ما فعل هؤلاء أو أشد ما لم يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشرين سنة، ولم يقتل أحداً إنما رضي من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمورة في الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلاً وأعدل أهل الأرض أخلاقاً وسيرة في نحو سنة -شاهد إذا سلط الله عز وجل الأعداء والعياذ بالله- ولم يبت أحد من البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم، ويترقب وصولهم إليه، ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل وغير ذلك. إلى أن قال: ولقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم منها. ثم قال في آخر الأمر: فإنا لله وإنا إليه راجعون، نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصراً من عنده، فإن الناصر والمعين والذاب عن الإسلام معدوم، وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال. أقول: نحن نسمع هذا الوصف من ابن الأثير رحمه الله تعالى نتعجب ونفرغ أفواهنا اندهاشاً ونحن نسمع مثل هذه الكلمات، فنقول: من كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد هذه الأحداث التي وصفها ابن الأثير رحمه الله تعالى!! كل هذه الصفحات والتاريخ مليء بمثل ذلك وغيرها من مواقف الشدة والمحن التي أصابت المسلمين. أقول: كل هذه بشارات وبشائر تدل على أن ما يحدث للمسلمين اليوم من ضيق وشدة ومحن أن بعدها فرج، وأن بعدها نصر، لكن المهم أن ننصر نحن دين الله، أن نقوم بواجبنا كما سأبين بعد قليل. أقول: مفهوم خاطئ يجب ألا يفهم: من كان يظن أننا نقصد بالتفاؤل إذا طلبنا التفاؤل مجرد الفرح والاطمئنان، وبالتالي الركون ودنو الهمة ووهن العزائم والانشغال في الدنيا والتغني بهذا التفاؤل ليل نهار، وذكر مثل هذه البشائر، وأعداء الإسلام يخططون ويعملون ويكيدون فهو مخطئ، أو من كان يظن أننا نقصد بذلك مجرد السرور والاطمئنان المؤدي للثقة المفرطة، والحماس المؤدي بدوره إلى التهور والانفعال اللذان يؤديان إلى عاقبة غير مرضية، ونتائج محرجة فهو مخطئ أيضاً، إنما نقصد بالتفاؤل: الثقة بنصر الله والفوز والنجاح، وعدم تأثر المسلمين جميعاً بما يوضع لهم من عراقيل، بل إن ذلك يزيدهم طموحاً وتفاؤلاً لأنهم واثقون بنصر الله، الثقة واليقين بنصر الله هذا هو ما نقصده بالتفاؤل، والأمل بنصر الله وتأييده لجنده، هو سبيل الراشدين والفائزين بالنصر {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] فالمؤمنون وحدهم هم المتفائلون، وغيرهم هم اليائسون. فاسلك أخي المسلم رعاك الله طريق المؤمنين العاملين المتفائلين، فالفوز حليفك إن شاء الله، وتذكر قول الحق عز وجل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] . الجزء: 22 ¦ الصفحة: 15 حكمة جعل الأيام دولاً بين المسلمين وبين أعدائهم سؤال قد يرد على الخاطر يسأله كثير من الناس اليوم في مجالسهم ومنتدياتهم، لماذا يمكِّن الله الكافرين من المسلمين؟! ولماذا ينصرهم عليهم؟! ولماذا ينتصر أعداء الله عز وجل على المسلمين؟! هذا سؤال قد يرد على خاطر كثير من الناس. أقول: الإجابة أسوقها إليك من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان الجزء الثاني صفحة (273) ، وانتبه لهذا الكلام فإنه كلام نفيس جميل جداً، الأصل أن نتناقله وأن نردده على مسامعنا وعلى الناس حتى يتبين لنا لماذا يبتلينا الله عز وجل بمثل هذه المصائب؟ يقول: الأصل الثامن: أن ابتلاء الله بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحياناً فيه حكمة عظيمة لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل، فمنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله وانكسارهم له وافتقارهم إليه وسؤاله نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائمين منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين منصوراً عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة، ولا كان للحق دولة، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين، أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غُلِبوا تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه وخضعوا له وانكسروا له وتابوا إليه، وإذا غَلَبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه. ومنها -أي من الحكم- أنهم لو كانوا دائماً منصورين غالبين قاهرين لدخل معهم من ليس قصده الدين، ومتابعة الرسول، فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائماً لم يدخل معهم أحد فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة، فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه. إذاً: التمييز بين الصادق من غيره، من حكم ابتلاء الله المؤمنين، تمييز الخبيث من الطيب {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] هذا هو الأصل {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ} كيف نكتشف إسلام هذا الإنسان إلا بالابتلاءات والفتن والشدائد، هنا يتضح المؤمنون الصادقون، ويتضح المنافقون الذين أصابوا قلوبهم بالخوف، والهلع عند الشدائد والمحن. يقول ابن القيم: ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في تلك الحالتين عبودية بمقتضى تلك الحال، لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم قلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والجوع والعطش، والتعب والنصب وأضدادها تلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني، والاستقامة المطلوبة منه، ووجوه الملزوم بدون لازمه ممتنع. يقول: ومنها أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم، يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم، كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد قال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:139-140] إذاً من الحكمة {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140-141] يخلصهم من ذنوبهم، من غفلتهم، مما تراكم عليهم من الغفلة والذنوب، فإن في هذه الابتلاءات تمحيص وتخليص وتهذيب لهم من الله عز وجل، وأيضاً اتخاذ للشهداء منهم في مثل هذه الأمور، ثم يقول سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:142-144] . يقول ابن القيم: فذكر سبحانه أنواعاً من الحكم التي لأجلها أديل عليهم الكفار بعد أن ثبتهم، وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح بطاعته وطاعة رسوله، فقد مس أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله. يا أخي الحبيب! أنت على حق وعلى مذهب صادق، وعلى عقيدة واضحة وعلى مبدأ لا إله إلا الله، إن مت فبالجنة، وإن حييت ففي عزة وكرامة، أما أعداء الله عز وجل فهم على أي حال خسروا الدنيا والآخرة، فكر بمثل هذا حتى تقوم، حتى تعمل، حتى تتحرك لنصرة هذا الدين بما تستطيع. ثم يقول ابن القيم رحمه الله: ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولاً بين الناس، فيصيب كل منه نصيبه منها كالأرزاق والآجال. ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم، وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه، وبعد كونه، ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين ومشاهدين، فيعلم إيمانهم واقعاً، ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء، فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة لا تنال إلا بالقتل في سبيله، فلولا إدالة العدو لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه وأنفعها للعبد، ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين، وأن تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفارهم من الذنوب التي أُديل بها عليهم العدو، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم وعدوانهم إذا انتصروا، ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر، وأن حكمته تأبى ذلك فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائماً منصورين غالبين لما جاهدهم أحد، ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم، فهذه بعض حكمه في نصرة عدوهم عليهم وإدالته في بعض الأحيان) انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وهذا الكلام كما ذكرت كلام جميل يجب أن نرجع إليه وننظر فيه، ونتناقله بين المجالس ونبينه للناس حتى يعلم الناس حقيقة هذه الابتلاءات التي تحصل للمسلمين. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 16 وصايا ونتائج ولكي تتم الفرحة بهذه البشائر، ولكي تلحق بالركب، ولتنال شرف نصرة هذا الدين فإليك هذه الوصايا التي لا يتم الموضوع إلا بها. أولا ً: يتعجب بعض الناس من هيمنة الغرب ودوره القيادي، فأقول: لا تعجب أيها الحبيب! فإن من سنة الله عز وجل في خلقه أن من عمل وسعى وبذل جهده، وطاقته في تحصيل مقصد أو هدف وصل إليه ما لم تقم بعض الموانع والأسباب الحائلة دون ذلك، فالمسلمون حين يستجمعون قوتهم، وحين يستجمعون أسباب التوفيق والتمكين المادية والمعنوية فإنهم يصلون إلى ما وصل إليه الغرب وأكثر -أقصد في القيادة والريادة- فهم مع ذلك -أي: المسلمون- يملكون العون من الله والتوفيق لأنهم حملة دينه، وحماة شريعته. إذاً: فالغرب وصل إلى ما وصل إليه الآن بالجد والعمل والمثابرة، ولو عمل المسلمون بهذه الأسباب لنالوا ذلك لأننا نتفوق على الغرب بالعقيدة -بلا إله إلا الله- فإن تخلينا عن لا إله إلا الله، وتخلينا عن هذا الدين انخفضنا وارتقى الغرب علينا، وأصبحت القيادة والريادة بيده كما هو حال الناس اليوم. ثانياً: متى يكون هذا النصر للإسلام؟! اليوم أو غداً أم بعد سنوات هذا السؤال ربما خطر على بعض الناس، فأقول: المهم أن تثق بنصرة هذا الدين، وقد لا تشهد أنت هذه النصرة، ولكن اسأل هل أنت ممن صنع هذه النصرة؟ هل أنت ممن شارك في هذه النصرة؟ ما هو رصيدك من العمل والدعوة والعبادة؟ ما هو رصيدك من البذل والتضحية والصبر في سبيل الله ومن أجل هذا الدين؟ إن النصر لا ينزل كما ينزل المطر، وإن الإسلام لا ينتشر كما تنتشر أشعة الشمس من حين تشرق، ألم تقرأ في القرآن قول الحق عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110] بعد الشدة وبعد وصول الأمر منتهاه جاء الفرج وجاء النصر، ألم تقرأ في القرآن قول الحق عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة:214] بلغ الأمر منتهاه {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] . إذاً: فالأمر يتطلب منا أن نبذل ما نستطيع من جهود مالية وبدنية وفكرية لنشر الخير، ابذل يا أخي الحبيب! ما تستطيع من أي جهد مالي أو فكري أو بدني لنشر الخير، فالصور كثيرة وأبواب الخير كثيرة جداً، والدعوة في هذا المجتمع، وإصلاح ما نراه فيه من خلل مهما بذل الإنسان من جهد فإنه قليل في ذات الله عز وجل. ثالثاً: الاستمرار بالدعاء والإلحاح فيه وعدم الانقطاع، خاصة عند حدوث الفتن ونزول المصائب، وهذا الأمر مطلب شرعي تركه والغفلة عنه سبب للعذاب، اسمع لقول الحق عز وجل يوم أن قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42-43] نعوذ بالله من قسوة القلب. رابعاً: موتانا في الجنة وموتاهم في النار، الدنيا لهم والآخرة لنا، حقيقة نسيها المسلمون حتى أصبحت الدنيا لكثير من المسلمين غاية وهدفاً، فأصابهم الهوان والذل، وهذا هو واقع كثيراً من المسلمين، والله يقول {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] والهوان قد يكون للالتفات للدنيا وملذاتها وشهواتها. خامساً: لا ننس ضعف كيد الكافرين مهما كان عملهم، ومهما كانت قوتهم، فإن سعيهم في ضلال مهما كان هذا الكيد، ومهما كان هذا الجهد لحرب الإسلام والمسلمين، ومهما اتبعوا من وسائل فإن الله يقول عز وجل يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) [النساء:76] انظر المبادئ انظر العقيدة!! {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ويكفي هذا فخراً ونصرة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] . الله عز وجل يخبرنا أن كيد الشيطان وأولياؤه كان ضعيفاً، لكن هذا الكيد المهم أنه كيد مادام أنه وجد ضعفاً من المسلمين فسيكون الأعلى مع ضعفه وهوانه وحقارته ما دام وجد من المسلمين هواناً وضعفاً فإن هذا الكيد الضعيف ما دام كيداً وعملاً يرتقي ويصبح عالياً على المسلمين، وإلا فكيد الشيطان وأولياء الشيطان كيد ضعيف، وقال عز وجل: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:18] المهم اعمل تحرَّك فكِّر ابذل لهذا الدين، ادع لله عز وجل كيفما استطعت، سجل في موازين أعمالك وفي حسناتك أعمالاً صالحة، سجل فيها أناساً اهتدوا وصلحوا على يديك، وستجد أثر ذلك، تحرك إلى الله عز وجل، ابذل ما تستطيع، حَرِّك الأمة معك، فكر بحال الأمة، احمل همّ الدنيا وهمّ هذه الأمة، ستجد بعد ذلك نصرة الله عز وجل وستجد التوفيق من الله عز وجل؛ لأن الله عز وجل أخبرنا أنه موهن كيد الكافرين، مهما كان هذا الكيد ومهما بلغ، وقال عز وجل: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [غافر:25] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] . هذه هي الحقيقة بعد ذلك توكل على الله عز وجل، وقم يا أخي الحبيب! ولا يصيبك الهوان ولا يصيبك الخمول ما دمت واثقاً بنصرة هذا الدين، وواثقاً بهذه البشائر وبهذه المبشرات. اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ربَّ كل شيء ومليكه، اللهم إنا نسألك للإسلام نصراً مؤزراً في كل مكان، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، اللهم انصر عبادك المخلصين في كل مكان، اللهم أعلِ مكانتهم، اللهم احفظهم بحفظك يا حي يا قيوم، اللهم إنك خير حافظاً وأنت أرحم الراحمين، اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً فأشغله بنفسه، اللهم أشغله بنفسه، اللهم اجعل كيده كيداً عليه، اللهم اجعل كيده تدبيراً تدميراً عليه، اللهم من كاد للإسلام بأمر سوء فكده يا حي يا قيوم، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم اجعلنا من جندك المخلصين، اللهم اجعلنا من الصالحين المصلحين، اللهم انفع بنا، اللهم انفعنا وانفع بنا، اللهم أقر أعيننا بعزة الإسلام والمسلمين. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 17 الأخفياء من هو هذا العبد الخفي؟! ومن هم الأخفياء؟! إنهم أولئك الذين عرفوا ربهم، فأحبوه وأحبهم إنهم الأنقياء الأتقياء إنهم الجنود المجهولون الناصحون العاملون إنهم الراكعون الساجدون في الخلوات إنهم الذين يسعون في ظلمة الليل ليتمسسوا أحوال الضعفاء المساكين، والأرامل والأيتام؛ لإطعام الطعام وبذل المال إنهم أولئك الذين لا يعرف الناس أعمالهم، ولكن الله يعرفهم وكفى بالله شهيداً. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 1 حقيقة الأخفياء إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وهذه ليلة الإثنين (23/10/ 1414هـ) وعنوان هذا اللقاء: (الأخفياء) . ولقد كنت قد تأملت ونظرت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الزهد قوله: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) ولقد تأملت قوله صلى الله عليه وسلم: (الخفي) ، فما زالت تلك الهواجس والأفكار والأسئلة تدور في الخاطر المكدود، من هو هذا العبد الخفي الذي أحبه الله سبحانه وتعالى؟! فقلت: لربما أنهم الذين عرفوا ربهم، وعرفهم سبحانه وتعالى، فأحبوه وأحبهم وحرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار، والله سبحانه وتعالى يعلم إسرارهم فكان خيراً لهم. وقلت: ولربما أنهم الأنقياء الأتقياء، فما اجتهدوا في إخفاء أعمالهم؛ إلا لخوفهم من ربهم وخوفهم من فساد أعمالهم بالعجب والغرور، وهجمات الرياء، وطلب الثناء والمحمدة من الناس. وقلت: فلربما أنهم هم الجنود المجهولون، الناصحون العاملون، الذين قامت على سواعدهم هذه الصحوة المباركة، فكم من ناصح ومن مرب وداع للحق لا يعرف، وكلمة ورسالة وشريط طار في كل مطار، فسارت به الركبان، كان خلفه أخفياء وأخفياء، فهنيئا لهم! وقلت: فلربما أنهم أيضاً هم الساجدون الراكعون في الخلوات، فكم من دعوة في ظلمة الليل شقت عنان السماء، وكم من دمعة بللت الأرض، وبهذه الدمعات وهذه السجدات حفظنا وحفظ أمننا، ورزقنا وسقانا ربنا. وقلت: فلربما أن الأخفياء هم الذين يسعون في ظلمة الليل، ليتحسسوا أحوال الضعفاء والمساكين والأرامل والأيتام؛ لإطعام الطعام وبذل المال؛ ليفكوا بها كربة مكروب، وليفرجوا بها هم أرملة ضعيفة شريدة الحال كثيرة العيال. وقلت: فلربما أن الأخفياء هم أولئك الذين لا يعرفهم الناس، أو الذين لا يعرف أعمالهم الناس ولكن الله سبحانه وتعالى يعرفهم، وكفى بالله شهيداً فهنيئاً لهم. ثم قلت: وما الذي يمنع أن يكونوا أولئك جميعاً، وأن تكون هذه الصفات كلها صفات لأولئك الأخفياء؟! ولذلك ترددت كثيراً في الحديث عن هذا الموضوع، فما كان لمثلي أن يتحدث عن مثلهم، وأستغفر الله جل وعلا، ونحن أعرف بأنفسنا من جرأتنا مع قصورنا وتقصيرنا، وقد قالها عبد الله بن المبارك: لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد!! رحمك الله يا بن المبارك عندما قلت هذا البيت تعني به نفسك، فماذا نقول إذاً نحن عن أنفسنا؟! ورحم الله القائل: أحب الصالحين ولست منهم وأرجو أن أنال بهم شفاعه وأكره من سجيته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعه الجزء: 23 ¦ الصفحة: 2 سبب الحديث عن الأخفياء الجزء: 23 ¦ الصفحة: 3 أولاً: الأسوة والاقتداء بالأخفياء كان الحديث عن الأخفياء؛ لأنني ولربما لأنك أيضاً نظرت لحال أولئك الرجال الذين نسمع قصصهم بل ونرى آثارهم ومصنفاتهم، ونرى أنهم أحياء بذكرهم وبعلمهم وبنفعهم وإن كانوا في بطن الأرض أمواتاً بتلك الأجساد الطيبة الطاهرة فأسأل وتتساءل معي: ما هو السر في حياة أولئك الرجال؟! والسر هو توجه القلب كل القلب لله جل وعلا، توجهت قلوب أولئك الرجال فنالوا ما نالوا، ووصل سمعهم إلى عصرنا الحاضر، فكان القلب عمله وعلمه لله سبحانه وتعالى، وكان حبه وبغضه، وقوله وفعله وحركاته وسكناته ودقه وجله وسره وعلانيته لله. يوم أن كانت الآيات هي الشعارات التي تُرفع، والكلمات التي تتردد في القلب قبل اللسان وفي كل مكان، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] هكذا كانت الآيات ترفع فامتلأت بها القلوب أما اليوم؛ فتعال وانظر لحالنا -يا أخي الكريم- كأفراد، فقلوبنا شذر مذر، ونفوسنا عجب وكبر، وأفعالنا تزين وإظهار، وأقوالنا لربما كانت طلباً للاشتهار. همومنا في الملذات، وحديثنا في الشهوات، وصدق صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال) ، إلا من رحم الله منا. وانظر لحالنا كأمة ذل ومهانة وهوان واحتقار، ولا داعي إلى أن أواصل الكلام عن حال هذه الأمة في هذا العصر، ولكني أسوق لك دليلاً قريباً: في شهر رمضان؛ ثلاث مذابح للمسلمين، مذبحة السوق في سراييفو، ومذبحة الإبراهيمي في فلسطين، ومذبحة في السودان! أكان يكون ذلك -يا أخي الحبيب- لو كانت القلوب متوجهة إلى الله بصدق؟! أقولها ثقة بالله سبحانه وتعالى: لا والله، لا يكون هذا الذل وهذا الاحتقار لهذه الأمة لو توجهت قلوب أصحابها وتوجهت قلوب المسلمين جميعا إلى الله جل وعلا: رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم إذاً فالسر في حياة أولئك هو: التوحيد لله. وليس التوحيد قولاً فكلنا يقول: لا إله إلا الله، ولكنه التوحيد القلبي؛ يوم أن تكون الأفعال والأقوال وحركات القلب وسكناته كلها لله سبحانه وتعالى، عرف هذا السر أولئك الأخفياء، فكانت الدنيا لهم والآخرة دارهم. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 4 ثانياً: لأهمية الإخلاص وخطر الرياء ثم أيضاً سبب آخر ومهم جداً للحديث عن الأخفياء -فيا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة-: إن فقدت الأعمال والأقوال -أياً كان نوعها- خلوص النية لله جل وعلا؛ انتقلت من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات والعياذ بالله. ألم تسمع! لذلك الحديث المفزع للقلوب؛ الذي كلما أراد أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن يرويه لأصحابه وقع مغشياً عليه، يفعل ذلك ثلاث مرات أو أربع لهول ذلك الحديث المفزع: (أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدق بماله) ! أفضل الطاعات، وأفضل القربات إلى الله جل وعلا، يوم صرفت لغير الله أصبحت أحط المخالفات، بل أصبحت هي التي تقود أصحابها إلى النار والعياذ بالله. وهذا الحديث لما سمعه معاوية رضي الله عنه وأرضاه قال: [قد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بعدهم، أو فكيف بمن بقي من الناس؟! ثم بكى معاوية رضي الله عنه وأرضاه بكاءً شديداً، يقول الراوي: حتى ظننا أنه هالك!] انظروا صحابة رسول الله يخشون على أنفسهم عندما يسمعون هذا الحديث، فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟! يقول الراوي: حتى ظننا أنه هالك، ثم أفاق معاوية ومسح وجهه ودمعه بيده رضي الله تعالى عنه وقال: [صدق الله ورسوله، صدق الله ورسوله] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] . لأنهم فعلوا ذلك ليقال: قارئ! وليقال: متصدق! وليقال: جريء! ولا شيء يحطم الأعمال مثل الرياء والتسميع، بأن يقول فلان: سمعت وعلمت وسألت وجئت وذهبت؛ مسمعاً للناس بأفعاله عياذاً بالله. فالتزم رعاك الله! التخلص من كل الشوائب التي تشوب هذه النية، كحب الظهور، أو التفوق على الأقران، أو الوصول لأغراض وأعراض من جاه أو مال أو سمعة، أو طلب لمحمدة وثناء الناس، فإن هذه وأمثالها قاصمة للظهر متى شابت النية. ولذلك كان النظر لحياة الأخفياء ولأحوالهم ومدارسة أمورهم من أعظم الأسباب للوصول إلى طريق المقسطين، جعلني الله وإياك منهم. لأهمية الإخلاص، ولخطر الرياء، ولرجوع الناس إلى الله جل وعلا، ولكثرة أعمال البر والخير والدعوة إلى الله من الرجال والنساء بحد سواء، ولإقبال الناس عموماً على العبادات، وحرصهم على الخيرات -والحمد لله- مما نراه من الناس في هذه الفترة المتأخرة، كان لا بد من طرح هذا الموضوع لئلا تذهب هذه الأعمال والعبادات عليهم سدى من حيث لا يشعرون، وكان لزاماً أن نتحدث في مثل هذا الموضوع. وقد كان أهل العلم يحبون أن يتخصص أناس للحديث عن النية وبيانها للناس، لذلك تكلمنا عن هذا الموضوع تذكيراً وتنبيهاً وتحذيراً لشدة الحاجة إليه. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 5 الخفاء في الكتاب والسنة الخفاء منهج شرعي، لذلك اسمع -أيها المحب- لقول الحق عز وجل في الصدقة: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] فهو خير لكم! فهذه الآية كما يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ظاهرة في تفضيل صدقة السر وإخفائها. ويقول سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] . ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قال: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه) انظر لدقة الخفاء في هذه الصدقة، فقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وقال أيضاً الحافظ ابن حجر: وهو من أقوى الأدلة على أفضلية إخفاء الصدقة. وفي الحديث نفسه صورة أخرى يذكرها صلى الله عليه وسلم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) . ثم حديث الرجل الذي تصدق ليلاً على سارق وعلى زانية وعلى غني وهو لا يعلم بحالهم، والحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، ووجه الدلالة من هذا الحديث على أن الخفاء منهج شرعي، هو: أن الصدقة المذكورة وقعت بالليل، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فأصبحوا يتحدثون) بل وقع في لفظ صريح كما في مسلم بقوله صلى الله عليه وسلم على لسان الرجل: (لأتصدقن الليلة) فدل ذلك على أن صدقته كانت سراً في الليل، إذ لو كانت هذه الصدقة بالجهر نهاراً لما خفي عنه حال الغني، بخلاف حال الزانية والسارق، فالغني ظاهر حاله، فلذلك كانت الصدقة سراً في الليل. وأيضاً حديث صلاة النافلة في البيوت، فمن حديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه وإسناده صحيح. وروى الطبراني من حديث صهيب بن النعمان رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل الفريضة على التطوع) . انظر الشاهد: (حيث يراه الناس) ، إذاً فالاختفاء عن أعين الناس في صلاة النافلة لا شك أنه أفضل. ومن حديث جندب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، كما أخرج البخاري ومسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به) . ومن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سمع الناس بعمله سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقره) أخرجه أحمد في مسنده والطبراني والبيهقي وإسناده صحيح. -الخفاء عند السلف: وذكر الذهبي في السير في ترجمة عبد الله بن داود الخريبي، أنه رضي الله تعالى عنه قال: كانوا يستحبون -أي: السلف الصالح - أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها!! وذكر الإمام وكيع بن الجراح في كتابه الزهد، والإمام هناد بن السري في كتاب الزهد أيضاً أن الزبير بن العوام قال: [من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل] . وسنذكر بمشيئة الله صوراً عديدةً لحياة كثير من السلف تدل على أن هذا الأمر كان منهجاً لهم، وكانوا يحرصون عليه ويتمسكون به. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 6 أزمان يستحب فيها إخفاء الأعمال قد يقول قائل بعد سماع ما تقدم: وهل نخفي أعمالنا دائما فلا نظهر منها شيئاً أبداً؟! الإجابة على هذا السؤال يتفضل بها شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين عندما قال: فصل: قوله ولا مشاهداً لأحد فيكون متزيناً بالمراءاة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا فيه تفصيل أيضاً؛ وهو أن المشاهدة -والمشاهدة يقصد بها مشاهدة الناس لك أثناء العمل- فالعمل لغير الله نوعان: أولاً: مشاهدة تبعث عليه أو تقوي باعثه -تبعث على العمل أو تقوي هذا العمل- فهذه مراءاة خالصة أو مشوبة، كما أن المشاهدة القاطعة عنه أيضاً من الآفات والحجب، أي: كما أن المشاهدة التي تجعلك تقطع العمل بتاتاً أيضاً هي من الآفات والحجب. ثم يقول: ومشاهدة -أي أخرى- لا تبعث عليه ولا تعين الباعث، بل لا فرق عنده -أي: صاحبها- بين وجودها وعدمها، لا يهمه يراه الناس أو لا يراه، فهذه لا تدخله في التزين والمراءاة، ولا سيما عند المصلحة الراجحة في المشاهدة إذا كان هناك مصلحة راجحة. يقول ابن القيم: إما حفظاً ورعاية كمشاهدة مريض أو مشرف على هلكة يخاف وقوعه فيها، أو مشاهدة عدو يخاف هجومه كصلاة الخوف عند المواجهة، أو مشاهدة ناظر إليك يريد أن يتعلم منك فتكون محسناً إليه بالتعليم وإلى نفسك بالإخلاص، أو قصداً منك للاقتداء وتعريف الجاهل، فهذا رياء محمود، والله عند نية القلب وقصده. ثم يقول رحمه الله تعالى: فالرياء المذموم أن يكون الباعث قصد التعظيم والمدح، والرغبة فيما عند من ترائيه، أو الرهبة منه، وأما ما ذكرنا من قصد رعايته أو تعليمه أو إظهار السنة وملاحظة هجوم العدو ونحو ذلك؛ فليس في هذه المشاهد رياء، بل قد يتصدق العبد رياءً وتكون صدقته فوق صدقة صاحب السر. مثال ذلك يقول ابن القيم: رجل مضرور سأل قوماً ما هو محتاج إليه فعلم رجلٌ منهم أنه إن أعطاه سراً حيث لا يراه أحد لن يقتدي به أحد، ولم يحصل له سوى تلك العطية، وأنه إن أعطاه جهراً، اقتدي به واتبع، وأنف الحاضرون من تفرده عنهم بالعطية، فجهر له بالعطاء وكان الباعث له على الجهر إرادة سعة العطاء عليه من الحاضرين، فهذه مراءاة محمودة، حيث لم يكن الباعث عليها قصد التعظيم والثناء، وصاحبها جدير بأن يحصل له مثل أجور أولئك المعطين. اهـ. وينقل لنا الحافظ ابن حجر أيضاً في فتح الباري، لما تكلم عن صدقة الفرض وصدقة النفل، وهل الأفضل إعلانهما أو إخفاءهما، قال رحمه الله تعالى ينقل عن الزين بن المنير: لو قيل إن ذلك يختلف -أي الإخفاء أو الإظهار- باختلاف الأحوال لما كان بعيداً، فإذا كان الإمام مثلاً جائراً ومال من وجبت عليه -أي: الزكاة صدقة الفرض- مخفياً؛ فالإسرار أولى، وإن كان المتطوع ممن يقتدى به ويتبع وتنبعث الهمم على التطوع بالإنفاق وسلم قصده، فالإظهار أولى. اهـ. ومن هنا نعلم أنه ليس دائماً تخفى الأعمال، بل قد يظهر الإنسان أعماله لمصلحة راجحة كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 7 أخفياء ولكن! يكثر في هذا الزمن الأخفياء، ولكنهم أخفياء من نوع آخر، أخفياء يختفون عن أعين الناس، ويحرصون كل الحرص ألا يطلع أحد من الناس على أعمالهم. هؤلاء الأخفياء هم الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثوراً) نعوذ بالله! يقول راوي الحديث ثوبان رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله، صفهم لنا، جلهم لنا، ألا نكون منهم ونحن لا نعلم!) . اسمع ثوبان الصحابي الجليل هو الذي يقول: (ألا نكون منهم ونحن لا نعلم) !! فرحمك الله يا ثوبان ورضي الله تعالى عنك! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) . أخرجه ابن ماجة من حديث ثوبان بسند صحيح. وأخفياء من نوع آخر، وهم المقصرون الفاترون، أهل الخمول والكسل، فلو أنك نصحت أحدهم وصارحته بحاله وسألته عن أعماله، فقلت له مثلاً: ماذا حفظت من القرآن؟! وهل تحرص على صيام النوافل أم لا؟! أنت تريد الخير بنصحه وتريد مكاشفته بحاله حتى يرى حاله على حقيقتها، فتسأله هذه الأسئلة ليجيب هو على نفسه، وتقول له: ماذا قدمت للإسلام؟! وهل تنكر المنكرات؟! وهل وهل إلى غيرها من الأسئلة التي تبين حقيقته أمام نفسه؛ لأجابك هذا الشخص بقوله: هذا بيني وبين الله!! وهل كل عمل أعمله لا بد أن أطلعك عليه؟؟!! انظر هو الآن يظهر لنا الإخلاص، لكنه يخفي الحقيقة ما هي الحقيقة؟! أنه قصّر في أعماله وأنه قد لا يكون عنده شيء، ولا حفظ من القرآن شيئاً وإن حفظ فالقليل، قد لا يكون قدم للإسلام شيئاً وإن قدم فالقليل القليل، وهو يستحي أن يصارح الآخرين بهذه الأعمال التي هي لا شيء حقيقة، فبالتالي لا يملك حتى يبرئ ساحته في هذه اللحظة إلا أن يقول لك: هذا بيني وبين الله، وهل كل عمل أعمله لا بد أن تطلع عليه؟!! فانظر كيف وقع هذا المسكين، أظهر لنا الإخلاص وأخفى حقيقة النفس وتقصيرها، فوقع في الرياء من حيث لا يشعر، وما أكثر أولئك وللأسف، وهذا لا شك خداع للنفس، وتشبع بما لم يعط، وهكذا التصنع والتزين والتظاهر. أما الحقيقة التي أخفاها اليوم فإنه لا يستطيع أبداً أن يخفيها {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] فنعوذ بالله من حالهم، ونستغفر الله لحالنا. ويقول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، واسمع لكلام المحدث الملهم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، يقول: [فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله] . ذكر ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 8 عقبات في طريق الأخفياء وانتبه لهذه العقبات! والعقبات في طريق الأخفياء -يا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة- كثيرةٌ جداً. فالحديث عن الرياء والعجب وغيرهما مما ينافي الإخلاص طويلٌ جداً، ولكني أسوق هنا عقبتين من هذه العقبات للاختصار: الجزء: 23 ¦ الصفحة: 9 العقبة الأولى: الرياء الخفي هو ما ذكره أبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء رحمه الله تعالى، حيث قال أثناء ذكره للرياء الخفي، قال: (وأخفى من ذلك أن يختفي العامل بطاعته بحيث لا يريد الاطلاع عليه، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير، وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه، وأن يسامحوه في البيع والشراء، وأن يوسعوا له في المكان، فإن قصر مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعاداً في نفسه، كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها، كأنه يريد ثمن هذا السر الذي بينه وبين الله احترام الناس، وهو لم يظهر العمل والعمل خفي بينه وبين ربه، ولكنه -يريد مادام أنه عمل- نظر لنفسه فيريد أن يكسب هذه الأمور من الناس، فإن قصر الناس في هذه الأمور، إذن استبعد نفسه ونظر لحاله، ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه إلى آخر كلامه. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 10 العقبة الثانية: ذم النفس عند الناس صورة أخرى من العقبات في طريق الأخفياء، وهي ما أشار إليها ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه شرح حديث ما ذئبان جائعان قال: وهنا نكتة دقيقة، وهي: أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء، وقد نبه عليه السلف الصالح، قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: [كفى بالنفس إطراء أن تذمها على الملأ كأنك تريد بذمها زينتها، وذلك عند الله سفه!] . الجزء: 23 ¦ الصفحة: 11 الضابط الصحيح للإخلاص والرياء ما هو المعيار في الإخلاص والمعيار في الرياء؟! ولا بد أن ننتبه لهذا الأمر، ولعلكم تتساءلون، فالقضية حساسة وقد تصيب النفس بالخواطر والهواجس، وقد ينشغل الإنسان لملاحظة نفسه في هذا الباب! إذاً ما هو المعيار والميزان الدقيق والضابط الصحيح في معرفة أنني مخلص أو غير مخلص؟! - استواء الظاهر والباطن:- ذكر ذلك أهل العلم، فبينوا أن الضابط في الإخلاص هو: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن. أي: أن تستوي أعمالك في ظاهرك وباطنك، هذا معيار الإخلاص. وأما الضابط في الرياء هو: أن يكون ظاهرك خيرٌ من باطنك. وأما صدق الإخلاص: أن يكون الباطن خيرٌ من الظاهر، ليست القضية أن يستوي الظاهر والباطن، فهذا هو الإخلاص. - ترك العمل خوفاً من الرياء أمام الناس:- وهنا تنبيه هام جداً لا بد أن ننتبه له عند الحديث أو الكلام عن الإخلاص أو الرياء كما ذكرت، لأنه مسلك شائك، ولا ينبغي للإنسان أن يترك كثيراً من أعمال الخير بحجة الخوف من الرياء. انتبه يا أخي الحبيب! وانتبهي أيتها الأخت المسلمة! لا ينبغي لكَ ولا ينبغي لكِ أن تترك كثيراً من الأعمال بحجة الخوف من الرياء، أو حتى أن تفتح على نفسك باب الهواجس والوساوس فيقع الإنسان فريسة لهذا الأمر، فيدخل الشيطان على القلب فيصبح الإنسان دائماً في وساوس وهواجس حول هذا الباب. ولذلك اسمع للإمام النووي رحمه الله تعالى، وهو يقول كلاماً جميلاً جداً حول هذا الأمر المهم في كتاب الأذكار: فصل: الذكر يكون بالقلب ويكون باللسان، والأفضل منه ما كان بالقلب واللسان جميعاً، فإن اقتصر على أحدهما فالقلب أفضل، ثم لا ينبغي أن يترك الذكر باللسان مع القلب خوفاً من أن يظن به الرياء، بل يذكر بهما جميعاً، ويقصد به وجه الله تعالى، وقد قدمنا عن الفضيل رحمه الله تعالى: أن ترك العمل لأجل الناس رياء، ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس والاحتراز من تطرق ظنونهم الباطلة لانسد عليه أكثر أبواب الخير، وضيع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمات الدين، وليس هذا طريقة العارفين. انتهى كلامه رحمه الله تعالى، وهو كلامٌ نفيسٌ جداً. واسمع لكلام ابن تيمية رحمه الله عندما يقول: ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحى أو قيام ليل أو غير ذلك، فإنه يصليه حيث كان، ولا ينبغي له أن يدع ورده المشروع لأجل كونه بين الناس إذا علم الله من قلبه أنه يفعله سراً لله، مع اجتهاده في سلامته من الرياء ومفسدات الإخلاص. وبعض الناس يدخل على بعض الناس من باب أن ينهاه عن أمر لا يفعله أمام الناس. لماذا؟! يقول: خشية الرياء! يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومن نهى عن أمر مشروع بمجرد زعمه أن ذلك رياء، فنهيه مردود عليه من وجوه: الأول: أن الأعمال المشروعة لا ينهى عنها خوفاً من الرياء، بل يؤمر بها وبالإخلاص فيها، فالفساد في ترك إظهار المشروع أعظم من الفساد في إظهاره رياءً. الثاني: أن الإنكار إنما يقع على ما أنكرته الشريعة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم) . الثالث: أن تسويغ مثل هذا يفضي إلى أن أهل الشرك والفساد ينكرون على أهل الخير والدين، فإذا رأوا من يظهر أمراً مشروعاً قالوا: هذا مراءٍ!! فيترك أهل الصدق إظهار الأمور المشروعة حذراً من لمزهم، فيتعطل الخير. الرابع: أن مثل هذا -يعني إنكار الناس على عمل مشروع بحجة أنه رياء- من شعائر المنافقين، وهو الطعن على من يظهر الأعمال المشروعة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79] . انتهى كلامه مختصراً من الفتاوى. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 12 صور من حياة الأخفياء نأتي الآن وبعد هذا المشوار للب هذا الدرس، وهو صور من حياة الأخفياء. وأسوق إليكم -أيها الأحبة- هذه الكوكبة والمواقف والأحداث في حياة أولئك الأخفياء، وهي مليئة بالدروس والعبر لمن تفكر وتدبر ونظر، فسير الصالحين المخلصين مدرسة تخرج الرجال والأجيال، ولعلي أكتفي بسرد هذه الصور، أولاً: طلبا للاختصار، وثانياً: حتى لا أقطع عليك لذة هذه المواقف والعيش معها برفعة إيمان وسمو روح ورقة في القلب، فاسمع لهذه القصص ولهذه الأحداث: الجزء: 23 ¦ الصفحة: 13 الأخفياء وحالهم مع الصدقة على الفقراء والمساكين - أمير المؤمنين عمر في ظلمة الليل: خرج عمر بن الخطاب يوماً في سواد الليل وحيداً حتى لا يراه أحد، ودخل بيتاً، ثم دخل بيتاً آخر، ورآه رجل لم يعلم عمر أن هذا الرجل رآه، رآه طلحة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فظن أن في الأمر شيئاً، أوجس طلحة في نفسه، لماذا دخل عمر هذا البيت؟! ولماذا وحده؟! ولماذا في الليل؟! ولماذا يتسلل؟! ولماذا لا يريد أن يراه أحد؟! ارتاب طلحة في الأمر، والأمر عند طلحة يدعو للريبة. ولما كان الصباح، ذهب طلحة فدخل ذلك البيت، فلم يجد إلا عجوزاً عمياء مقعدة، فسألها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟! وكانت المرأة لا تعرف أن الرجل الذي يأتيها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قالت العجوز العمياء المقعدة: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا بما يصلحني ويخرج الأذى عن بيتي. أي يكنس بيتها ويقوم بحالها ويرعاها عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه. ولا نعجب! لا نعجب أن رئيس الدولة وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يفعل ذلك، فكم من المرات فعل ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، فهذه المواقف ليست عجباً في حياة عمر، ولكننا نعجب من شدة إخفاء عمر لهذا العمل حتى لا يراه أحد، وفي الليل، في سواد الليل، ويمشي لواذاً خشية أن يراه أحد فيفسد عليه عمله الذي هو سر بينه وبين الله. - زين العابدين وصدقة السر:- ومثل ذلك سار عليه أيضاً زين العابدين رضي الله تعالى عنه وأرضاه، علي بن الحسين، فقد ذكر الذهبي في السير وابن الجوزي في صفة الصفوة: أن علي بن الحسين كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل، فيتصدق به ويقول: (إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل) . وهذا الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة لا تخلو أسانيدها من مقال، ولكنها بمجموع الطرق صحيحة، وقد صحح ذلك الألباني رحمه الله في الصحيحة. وعن عمرو بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين فغسلوه، جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره، فقالوا: ما هذا؟! قالوا: كان يحمل جرب الدقيق -يعني: أكياس الدقيق- ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة. وذكر ابن عائشة قال: قال أبي: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه وأرضاه. - ابن المبارك يفك أسر صاحبه:- وعن محمد بن عيسى قال: كان عبد الله بن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس، وكان ينزل الرقة في خان -يعني في فندق- فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث، قال: فقدم عبد الله الرقة مرة فلم ير ذلك الشاب، وكان مستعجلاً -أي عبد الله بن المبارك - فخرج في النفير -أي: في الجهاد- فلما قفل من غزوته ورجع إلى الرقة سأل عن الشاب فقالوا: إنه محبوس لدين ركبه، فقال عبد الله: وكم مبلغ دينه؟ فقالوا: عشرة آلاف درهم، فلم يزل يستقصي حتى دل على صاحب المال فدعا به ليلاً ووزن له عشرة آلاف درهم وحلفه أن لا يخبر أحداً ما دام عبد الله حياً، وقال: إذا أصبحت فأخرج الرجل من الحبس، وأدلج عبد الله -أي: سار في آخر الليل- وأخرج الفتى من الحبس، وقيل له: عبد الله بن المبارك كان هاهنا وكان يذكرك وقد خرج، فخرج الفتى في أثره فلحقه على مرحلتين أو ثلاث من الرقة، فقال عبد الله بن المبارك للفتى: أين كنت؟! لم أرك في الخان! -انظر عبد الله يتصانع رضي الله عنه أنه ما علم عن حال الفتى- قال: نعم. يا أبا عبد الرحمن! كنت محبوساً بدين، قال: وكيف كان سبب خلاصك؟! قال: جاء رجل وقضى ديني ولم أعلم به حتى أخرجت من الحبس، فقال له عبد الله: يا فتى! احمد الله على ما وفق لك من قضاء دينك. فلم يخبر ذلك الرجل أحداً إلا بعد موت عبد الله. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 14 الأخفياء وحالهم مع العبادة - الأخفياء والصلاة ففي الصلاة مثلا: قالت امرأة حسان بن سنان: كان يجيء فيدخل معي فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أني نمت، سل نفسه فخرج ثم يقوم يصلي، قالت: فقلت له: يا أبا عبد الله! كم تعذب نفسك، ارفق بنفسك! فقال: اسكتي ويحك! فيوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زماناً. وعن بكر بن ماعز قال: ما رئي الربيع متطوعاً في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة. - الأخفياء والصيام وفي الصيام: من أعجب المواقف ما ذكره الذهبي في السير قال: قال الفلاس: سمعت ابن أبي عدي يقول: صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان خزازاً يحمل معه غداءه فيتصدق به في الطريق. وكان بعضهم إذا أصبح صائماً ادهن ومسح شفتيه من دهنه حتى ينظر إليه الناظر فلا يرى أنه صائم. - الأخفياء وقراءة القرآن وفي قراءة القرآن: ذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة عن سفيان قال: أخبرتني امرأة الربيع بن خثيم قالت: كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه. أي: إذا قدم الرجل على الربيع قام الربيع فغطى المصحف بثوبه حتى لا يرى الرجل أنه يقرأ القرآن. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 15 الأخفياء والبكاء من خشية الله قال محمد بن واسع: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه على رأس امرأته على وسادة واحدة قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته. ويقول رحمه الله تعالى: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم، ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه! وذكر الذهبي في السير عن حماد بن زيد رضي الله تعالى عنه ورحمه قال: كان أيوب السختياني في مجلس فجاءته عبرة، فجعل يمتخط ويقول: ما أشد الزكام! يظهر رحمه الله تعالى أنه مزكوم لإخفاء البكاء. هكذا كان حرصهم على هذه الصفة، صفة الخفاء في الأعمال، تلك الصفة التي عشقوها رحمهم الله تعالى، فإذا فشل أحدهم في إخفاء دمعته أو بكائه أو اصطناع المرض لإخفاء هذه الدمعة؛ كان يقوم من مجلسه مباشرة خشية أن يكشف أمره، ذكر ذلك الإمام أحمد في كتابه الزهد يوم قال: إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 16 قمة الخفاء عند السلف واسمع لهذه القصة العجيبة الغريبة، ووالله لقد أدهشتني هذه القصة -واسمع لها يا أخي الحبيب- وهي قصة طويلة، فسر مع أحداثها وفصولها، وقد ذكر هذه القصة ابن الجوزي في صفة الصفوة، وذكرها أيضاً الذهبي في سير أعلام النبلاء، عن محمد بن المنكدر وفي ترجمته قال -أي محمد بن المنكدر -: كانت لي سارية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلس أصلي إليها الليل، فقحط أهل المدينة سنة فخرجوا يستسقون فلم يسقوا، فلما كان من الليل صليت عشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جئت فتساندت إلى ساريتي، فجاء رجل أسود تعلوه صفرة متزر بكساء، وعلى رقبته كساء أصغر منه، فتقدم إلى السارية التي بين يدي وكنت خلفه، فقام فصلى ركعتين ثم جلس فقال: أي رب أي رب! خرج أهل حرم نبيك يستسقون فلم تسقهم، فأنا أقسم عليك لما سقيتهم -يعني إلا أن تسقيهم- يقول ابن المنكدر: فقلت: مجنون! قال: فما وضع يده حتى سمعت الرعد، ثم جاءت السماء بشيء من المطر أهمني الرجوع إلى أهلي -يعني: من كثرة المطر- فلما سمع المطر حمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها قط، قال: ثم قال: ومن أنا وما أنا حيث استجبت لي ولكن عذت بحمدك وبطولك. ثم قام فتوشح بكسائه الذي كان متزراً به، وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه، ثم قام فلم يزل قائماً يصلي حتى إذا أحس الصبح سجد وأوتر وصلى ركعتي الصبح ثم أقيمت صلاة الصبح فدخل في الصلاة مع الناس ودخلت معه، فلما سلم الإمام قام فخرج وخرجت خلفه حتى انتهى إلى باب. فلما كانت الليلة الثانية صليت العشاء في مسجد رسول الله ثم جئت إلى ساريتي فتوسدت إليها، وجاء فقام فتوشح بكسائه وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه وقام يصلي، فلم يزل قائماً حتى إذا خشي الصبح سجد ثم أوتر ثم صلى ركعتي الفجر وأقيمت الصلاة فدخل مع الناس في الصلاة ودخلت معه، فلما سلم الإمام خرج من المسجد وخرجت خلفه، فجعل يمشي وأتبعه حتى دخل داراً عرفتها من دور المدينة، ورجعت إلى المسجد. فلما طلعت الشمس وصليت؛ خرجت حتى أتيتُ الدار فإذا أنا به قاعد يخرز، وإذا هو إسكاف -يعني: يرقع الأحذية- فلما رآني عرفني وقال: أبا عبد الله مرحباً، ألك حاجة؟ تريد أن أعمل لك خفاً؟ فجلست فقلت: ألست صاحبي بارحة الأولى؟! فاسود وجهه وصاح بي وقال: ابن المنكدر ما أنت وذاك؟! قال: وغضب ففرقت والله منه -أي خفت والله من غضبه- وقلت أخرج من عنده الآن، فلما كانت الليلة الثالثة صليت العشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتيت ساريتي فتساندت إليها فلم يجئ، فقلت: إنا لله ما صنعت! إنا لله ما صنعت! فلما أصبحت جلست في المسجد حتى طلعت الشمس، ثم خرجت حتى أتيت الدار التي كان فيها فإذا باب البيت مفتوح، وإذا ليس في البيت شيء، فقال لي أهل الدار: يا أبا عبد الله ما كان بينك وبين هذا أمس؟! قلت: ما له؟ قالوا: لما خرجت من عنده أمس بسط كساءه في وسط البيت ثم لم يدع في بيته جلداً ولا قالباً إلا وضعه في كسائه، ثم حمله ثم خرج فلم ندر أين ذهب، يقول ابن المنكدر: فما تركت في المدينة داراً أعلمها إلا طلبته فيها فلم أجده رحمه الله. خشية أن يفتضح عمله ولأجل أنه عرف خرج من المدينة كلها، فهو يريد أن يكون السر بينه وبين الله. يا أخي الحبيب ويا أختي المسلمة! أترك لكم هذه القصة العجيبة، أتركها لكم لتعيشوا معها ولتقفوا معها، وانظروا إليها وإلى أنفسكم لنرى من أنفسنا عجباً. وذكر الذهبي في السير بإسناده إلى جبير بن نفير: [أنه سمع أبا الدرداء وهو في آخر صلاته وقد فرغ من التشهد يتعوذ بالله من النفاق! - أبو الدرداء يتعوذ بالله من النفاق! - فأكثر التعوذ فقال له جبير: وما لك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟! فقال أبو الدرداء: دعنا عنك دعنا عنك، فوالله إن الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيخلع منه] . وقال الذهبي: إسناده صحيح. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 17 الأخفياء وحالهم مع الجهاد ذكر الذهبي أيضاً عن أبي حاتم الرازي قال: حدثنا عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فقتله ثم آخر فقتله ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل من المسلمين فطارده ساعة فطعنه فقتله -أي: الرجل من المسلمين قتل وطعن الرجل من العدو- فقتله فازدحم إليه الناس، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت من طرف كمه فمددته فإذا هو هو، فقال -أي عبد الله بن المبارك لـ عبدة بن سليمان المروزي -: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا! يعني: يفضحنا. وعن عبيد الله بن عبد الخالق قال: سبى الروم نساءً مسلمات، فبلغ الخبر الرقة وبها هارون الرشيد أمير المؤمنين، فقيل لـ منصور بن عمار -أحد العلماء-: لو اتخذت مجلساً بالقرب من أمير المؤمنين فحرضت الناس على الغزو، ففعل منصور بن عمار، وبينما هو يذكر الناس ويحرضهم، يقول: إذ نحن بخرقة مصرورة مختومة قد طرحت إلى منصور بن عمار، وإذ بكتاب مضموم إلى الصرة، ففك الكتاب فقرأه فإذا فيه: إني امرأة من أهل البيوتات من العرب، بلغني ما فعل الروم بالمسلمات وسمعت تحريضك الناس على الغزو وترغيبك في ذلك، فعمدت إلى أكرم شيء من بدني وهما ذؤابتي -يعني جديلتي- فقطعتهما وصررتهما في هذه الخرقة المختومة، وأناشدك بالله العظيم لما جعلتهما قيد فرسٍ غاز في سبيل الله، فلعل الله العظيم أن ينظر إلي على تلك الحال فينظر إلي نظرة فيرحمني بها. قال: فبكى منصور بن عمار وأبكى الناس، وأمر هارون أن ينادى بالنفير، فغزا بنفسه فأنكى بالروم وفتح الله عليهم. وقد كان عبد الله بن المبارك يردد هذه الأبيات دائما يقول: كيف القرار وكيف يهدأ مسلم والمسلمات مع العدو المعتدي الضاربات خدودهن برنة الداعيات نبيهن محمد القائلات إذا خشين فضيحة جهد المقالة ليتنا لم نولد ما تستطيع وما لها من حيلة إلا التستر من أخيها باليد أسوق هذا الموقف لنسائنا الصالحات، لينظرن أن المرأة المسلمة إذا أخلصت لله وكان همها العمل لله، فإنها دائما تبحث عن العمل أياً كان هذا العمل، لا يقف أمامها ذلك السؤال ماذا أعمل وماذا أفعل وماذا بيدي أن أصنع؟! فإن من اهتم لأمر عمل وفكر بالعمل ووجد ماذا يعمل، هذه المرأة علمت وسمعت واهتمت واحترق قلبها، فما كان منها إلا أن قدمت جديلتيها، أكرم شيء في بدنها، حتى يصنع من هاتين الجديلتين قيد لفرسٍ غازٍ في سبيل الله. وأقول: ماذا قدمت أيتها المسلمة للمسلمات وأنت تسمعين الروم الآن كيف يفعلون بهن؟! وماذا قدمت يا أخي الحبيب؟! وماذا فعلنا وماذا فعلت للمسلمين في كل مكان والروم وغيرهم ترون وتسمعون بل وعلى مسامع العالم كله ماذا يفعلون بالمسلمات؟! الجزء: 23 ¦ الصفحة: 18 الأخفياء وحالهم مع العلم جاء في ترجمة الإمام الماوردي رحمه الله تعالى كما ذكر ذلك ابن خلكان في كتابه: وفيات الأعيان قال: إن الماوردي لم يظهر شيئاً من تصانيفه في حياته، وإنما جمعها كلها في موضع، فلما دنت وفاته قال لشخص يثق إليه: إن الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإن عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي، فإن قبضت عليها وعصرتها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها فاعمد إلى الكتب وألقها في نهر دجلة ليلا، وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك فاعلم أنها قبلت وأني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة، قال ذلك الشخص: فلما قارب الموت وضعت يدي في يده فبسطها ولم يقبض على يدي؛ فعلمت أنها علامة القبول فأظهرت كتبه بعده. وقبله كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إلي شيء منه أبداً، فأؤجر عليه ولا يحمدوني. فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى يظن أن حمد الناس له منقصة في الأجر، ونقص في صفة الخفاء، تلك الصفة التي عشقت منهم رحمهم الله تعالى. وينقل الذهبي أيضاً في السير قول هشام الدستوائي يقول: والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوماً قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل! سبحان الله! القائل هشام الدستوائي! يقول الذهبي معلقاً على هذا الكلام: والله ولا أنا! فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولاً؛ لا لله وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، إلى آخر كلامه في السير لمن أراد أن يرجع إليه. فإذا كان هذا كلام هشام وكلام الذهبي رحمهما الله تعالى ورضي عنهما، فماذا يقول إذاً طلاب العلم اليوم؟! بل ماذا يقول المتعالمون أمثالنا في مثل هذه المواقف منهم رحمهم الله تعالى؟! ويصل الخفاء منتهاه عند أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى ورضي الله عنه، قال محمد بن منصور: كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري، فرفع إنسان قذاة من لحيته وطرحها إلى الأرض -يعني: في المسجد- فرأيت البخاري ينظر إليها وينظر إلى الناس، فلما غفل الناس عنه رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها إلى الأرض. سبحان الله!! حتى القذاة وإخراجها من المسجد كانوا يريدون إخفاءها بدقة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم. هذه المواقف وهذه الصور من حياة أولئك الأعلام وأولئك الأخفياء الذين حرصوا أن يكون لهم خبيئة من عمل، الذين حرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار، وتلك الأعمال هي المنجية يوم أن تقدم على الله جل وعلا فتكشف الأعمال وتكشف الصحف، فإذا الصحف مليئة بتلك الأعمال، وتلك الأسرار بينك وبين الله عز وجل. أيها الأخ الصالح! هذه القصص والصور ليست لمجرد القص والحديث، بل هي للعبرة والعظة -يا أخي الحبيب - أنت تجلس في المجالس وتتحدث مع الآخرين، ما بال مجالسنا في هموم الدنيا وملذاتها، أو في الغيبة والنميمة والكلام عن فلان وعلان؟! يا أختي المسلمة لنعلم مثل هذه المواقف، ولنحفظ شيئاً منها وإن كان قليلاً، ولنملأ مجالسنا بذكرها حتى يعلم الناس حقيقة هذه الأمور، ويرتبط الناس وترتبط قلوبهم بقلوب أولئك الرجال، فيتخرج الأجيال من مدارسهم رحمهم الله تعالى بالنظر إلى سيرهم وأحوالهم. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 19 الأخفياء في كلمات قال ابن المبارك رحمه الله تعالى: ما رأيت أحداً ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة. إذاً فالقضية ليست قضية كثرة صيام ولا صلاة، وإنما بالإخلاص والإخفاء في هذه الأعمال. وقال ابن وهب: ما رأيت أحداً أشد استخفاء بعمله من حيوة بن شريح، وكان يعرف بالإجابة، أي: بإجابة الدعاء. وقال يوسف بن حسين: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر. واسمع لقوله رحمه الله: وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، فالاجتهاد في البعد عن الرياء والتسميع وطلب محمدة الناس وثنائهم أمر كانوا يعانون منه رحمهم الله تعالى. وقال ابن القيم: أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالإخلاص، وعن نفسك بشهود المنة، فلا ترى فيه نفسك ولا ترى الخلق. وقال الأخفياء رحمهم الله تعالى وصاحوا بملء أفواههم لمن لا يخلص نيته ولمن غفل عن هذا الأمر، صاحوا بقولهم كما يقول مالك بن دينار: قولوا لمن لم يكن صادقاً لا يتعنى. فقولوا -أيها الأحبة- لمن لم يكن صادقاً بعمله ومخلصاً لعمله لله سبحانه وتعالى لا يتعنى، لا يتعب نفسه، فقد رأيتم وسمعتم أولئك الثلاثة وتلك الطاعات العظيمة التي أصبحت وبالاً على أصحابها فكانوا أول ثلاثة تسعر بهم النار يوم القيامة -والعياذ بالله-، فقولوا ورددوا وصيحوا بأعلى أصواتكم لمن لم يكن صادقاً في عمله وفي دعوته وفي أفعاله كلها لا يتعنى، لا يتعب نفسه! الجزء: 23 ¦ الصفحة: 20 الطريق الموصل إلى حياة الأخفياء ما هو الطريق للوصول إلى حياة الأخفياء؟! ما هو العلاج؟! والوصول لطريق الأخفياء رحمهم الله تعالى ألخصه بالنقاط التالية: الجزء: 23 ¦ الصفحة: 21 الدعاء والإلحاح فيه مواصلة الدعاء وتحري ساعات الإجابة، وأهمه الاستمرار في الدعاء، والإلحاح فيه، لا تملّ ولا تكلّ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم وعلمنا في الحديث الذي يذهب عنا كبار الشرك وصغاره عندما قال: (الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره، تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم) احفظ هذا الدعاء وكرره كثيراً، واسأل الله بصدق أن يرزقك الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 22 الإكثار من مصاحبة المخلصين الناصحين الصادقين إن وجدت عليهم في هذا الزمن فعض عليهم بالنواجذ، وإن لم تجد فالجأ لحياة الأخفياء، والجأ لمصاحبة المخلصين من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، بقراءة أقوالهم والنظر في الكتب والتراجم، للاطلاع على تلك الأحوال، ولا شك أن القلب فيه حياة بالنظر لحياة أولئك. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 23 معرفة عظمة الله تعالى من خلال أسمائه وصفاته اعرف من تعبد، ولمن تعمل، وعظمة الله جل وعلا، واملأ قلبك بتوحيد الأسماء الصفات تطبيقاً عملياً حتى تعظم الله، وقديماً قالوا: (من كان بالله أعرف كان لله أخوف) ومن عظم الناس خاف من الناس وعمل للناس وسمع للناس وطلب ثناء الناس ومحمدة الناس، ولكن الله هو الذي سيجازيك وهو الذي يحاسبك. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 24 الحرص على خبء من عمل صالح احرص دائماً أن يكون لك سر بينك وبين الله جل وعلا، لا يعلمه أحد من الناس، إن استطعت حتى ولا زوجك! إن استطعت أن تفعل عملاً بينك وبين الله لا يعلم عنه أقرب الأقربين إليك، فلا شك أن هذه الأعمال هي المنجية يوم تسود وجوه وتبيض وجوه. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 25 الخوف من عدم قبول العمل دائماً كن خائفاً على عملك أن لا يقبل، وأن يخالط هذا العمل رياءٌ أو سمعةٌ، مع الانتباه لذلك التنبيه المهم الذي أشرنا إليه أثناء الموضوع، وقد تقدم الكلام عن ذلك، وأخشى أن تقدم على الله تعالى بتلك الأعمال الكثيرة والأقوال الكثيرة فتكون ممن قال الله عز وجل فيهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] ، عافانا الله وإياك من حال أولئك. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 26 تذكر ثمرات الإخلاص تذكر هذه الثمرات، وحلاوة القلب، وحب أهل السماء للمخلص، ووضع القبول له في الأرض، ومحبة الناس له، وطمأنينة القلب، وحسن الخاتمة، واستجابة دعائه، والنعيم له في القبر وفي الآخرة. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 27 الأسئلة الجزء: 23 ¦ الصفحة: 28 أهم علامات الإخلاص التي تظهر على العبد المؤمن السؤال ما هي أهم علامات الإخلاص في الإيمان والتي تظهر على المؤمن الحق خاصة في هذا الزمان التي يظهر فيه الفتن من كل جانب؟ الجواب محبة الناس له، المحبة القلبية من الناس، لا ينظر للناس إنما ينظر لله، ظاهره وباطنه سواء، تجد أن الكلمة مباركة منه، حديثه من القلب للقلب، وهكذا علامات كثيرة مما ذكرتها وغيرها كثير. ولكن إياك أن تخضع للوساوس والهواجس التي قد تقطع عليك حلاوة العمل، وقد تترك كثيراً من أعمال الخير، وأؤكد وأكرر لأهميتها ولوقوع كثير من الناس فيها: قد تقطع على نفسك كثيراً من أبواب الخير بسبب أنك لم تخلص في هذا العمل! وهذا غير صحيح ولا يوافق عليه أبداً! الجزء: 23 ¦ الصفحة: 29 من مداخل الشيطان على الناس السؤال إذا كان الإنسان لا يتصدق أمام الناس مخافة من الرياء، وهو بهذا العمل لا يقصد الرياء والسمعة، هل الشيطان يدخل في هذا الباب؟ الجواب نعم. لا شك في أن الشيطان يدخل في هذا الباب، ويحرص دائماً أن يفوز من الإنسان بأي شيء ولو كان قليلاً، فهو لا شك يريد من الإنسان الكفر، فإن لم يحصل على ذلك فهو ينزل بالتدريج حتى ولو بالوسوسة في قلب الإنسان لإخراج حلاوة العمل وحلاوة الإيمان منه. أما قولك إذا كان لا يتصدق أمام الناس مخافة من الرياء، فلا شك أن صدقة السر أولى وخير -كما سمعنا- ولكن لا يعني هذا أننا لا نتصدق، فقد يكون الحال الآن لا نستطيع أن نخفي الصدقة كما لو أن إنساناً سأل هنا، وكان السائل بحاجة وبحق فلا نملك أن نرد أو أن نقول إذاً: نخفي الصدقة، فلا يمكن أن نخفيها الآن، فيخرج ويذهب ويخفي الصدقة. لا. بل يتصدق ويحاول أن يخفيها بقدر ما يستطيع. وإن كان هناك مصلحة راجحة -كما ذكرنا- لإظهار هذه الصدقة تعليماً أو قدوة أو غيرها مما ذكر فلا بأس، وهذا من الرياء المحمود، بل قد ينالك أجر من تصدق، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) ، فكيف يكون ذلك لولا أنك تفعل ذلك أمام الناس؟ تقوم وتفعل ذلك الفعل ظاهراً أمام الناس فيقوم الناس ويفعلون ذلك، فلا شك أن هذه الأدلة وغيرها مما ذكرنا قبل قليل دليل على أن إظهار الأمر في بعض الأحايين يكون أفضل من إخفائه، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص كما ذكر ذلك ابن المنير كما تقدم. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 30 الأفضل في أعمال من هو قدوة حسنة السؤال ما رأيك في قدوة يقتدى به؛ هل الأفضل له الإسرار أم الإعلان؟ الجواب أجبنا وتكلمنا عن هذا، ولكن ليس للقدوة دائماً أن يُظهر أعماله من أجل أن يقول: إنه قدوة، أما الأعمال التي تظهر والتي تعود أن يظهرها من السنن وغيرها أمام الناس، أو أن يفعلها في الخفاء والسر فلا يمنعه أن يفعلها أمام الناس، لأن بعض الناس قد تعود مثلاً أن يصلي ركعتي الضحى ولا يجلس في المجلس حتى يصلي الركعتين، فيقول: المسجد اليوم فيه ناس، فأخشى إن فعلت ذلك يقولون: هذا فيه وفيه!! لا! تعودت أن تفعل ذلك سواء كنت أمام الناس أم خافياً عن أعين الناس فافعل ذلك ولا يهمك -وهذه النقطة أكررها كثيراً- لا يهمك ملاحظة الناس وإياك أن تفتح على نفسك باب ملاحظة الناس -كما ذكر الإمام النووي ذلك- لا تفتح على نفسك باب ملاحظة الناس والنظر إلى أقوالهم وأفعالهم أو نظراتهم إليك؛ فتغلق على نفسك باب العمل! لا! بل اعمل! أما إن كان قدوة فلا بأس أن يفعل بعض الأعمال إن كان الناس يرونه، وإن كان الناس يفعلون بفعله، ولكن بشرط أن الله عند نية العبد وقصده، لا يهمه نظر الناس إليه أم لم ينظروا، لا يهمه فعل ذلك ظاهراً أم خافياً عن أعين الناس، الأمر عنده سواء، فإن وجد في نفسه شيئاً فليترك العمل، وإن أدخل الشيطان على قلبه مداخل فليترك العمل أمام الناس ولا يقول إنني قدوة! وليخف كثيراً من الأعمال بينه وبين ربه، حتى القدوة يجب أن يكون بينه وبين ربه أسرار وأسرار -كما ذكرنا- وقد سمعت كثيراً من القدوات الذين من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أخفوا أعمالهم بينهم وبين ربهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله جل وعلا أن يعفو عنا جميعاً، وأن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يعيذنا وإياكم من الرياء والتسميع، إنه ولي ذلك والقادر عليه. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 31 حكم صن 400 إن مما غزانا به أعداء الإسلام كثرة اللعب والملهيات، ومن هذه اللعب (البلوت) التي ألهت كثيراً من شباب المسلمين وأضاعت أوقاتهم حتى في شهر (رمضان) مما جعلهم لا ينتبهون لآثارها وشرها العظيم، من ضياع الوقت والليالي الطويلة، وتضييع الصلوات المفروضة، وإهمال النوافل والطاعات، وما يحصل فيها من السب، والشتم، واللعان، والتنازع، وإهمال الحقوق الزوجية، والتقصير في تربية الأولاد إلى غير ذلك من المفاسد. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 1 أهمية الموضوع إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أحبتي في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وهذا هو المجلس الخامس عشر من سلسلة الدروس العلمية والتي ينظمها المكتب التعاوني بمدينة الرس، وهذه الليلة ليلة الإثنين الموافق للخامس عشر من شهر شعبان للعام (1415هـ) . وموضوع هذا اللقاء كما هو معروف من خلال الإعلان بعنوان: (حكم صن 400) وأقصد (بحكم) هنا الحكم الشرعي، وليس ما تعارف عليه لاعبي البلوت من أنه (صن حكم 400) كما يقولون. وهذا الموضوع أيها الأحبة! كان قد أُلقي قبل ثلاث سنوات تقريباً، وبالضبط في اليوم الحادي عشر من الشهر السادس للعام (1412هـ) وأذكر تلك الجموع الكبيرة التي حضرت ذلك الدرس، حتى صرح بعض الشباب أنهم لأول مرة يدخلون المسجد، وكانت ولله الحمد والمنة النتائج سريعة وفعالة بفضل الله عز وجل، فما أن خرجنا من المسجد حتى أعلن أعداد من الشباب توبتهم من هذه اللعبة، وهذا هو حسبنا بشبابنا أنهم إذا علموا الحق رجعوا إليه. ومنذ ذلك الوقت والطلبات تتكرر لإعادة هذا الموضوع وتسجيله بوضوح، والحقيقة أنني أجدني مضطراً لإعادته الآن مع علمي بتطور هذه اللعبة والتفنن بطرقها، ونظراً لانتشارها وفشوها بين صفوف الشباب، فإن واجبنا التذكير والتنبيه مرات ومرات. ويؤسفني حقيقة أيها الأحبة! أن مثل هذا الموضوع -وهو طاعون العصر كما يسمى- لم يأخذ حقه من الدراسة والطرح والتكرار من قبل المتخصصين، ومن قبل الدعاة إلى الله عز وجل، كغيره من مواضيع الشباب المهملة على الرغم من خطورتها، والانحدار الذي يعيشه شبابنا كما تعلمون. وعناصر هذا الموضوع أعدها سريعاً. 1- أهمية الموضوع. 2- اعتذار. 3- مصادر البحث . 4- البلوت متى وكيف؟ 5- قبل أن أبدأ. 6- حجج المؤيدين للعبة. 7- آثار وشرور هذه اللعبة. 8- أحداث ومواقف وحقائق مذهلة. 9- مواقف طريفة وغريبة. 10- الحكم الشرعي. 11- خاتمة. يعلم الله أيها الأحبة! أنني لم أصدق نفسي أنه سيأتي اليوم الذي أتكلم فيه عن مثل هذا الموضوع؛ لأنني بفضل الله عز وجل لم يسبق أن مست أناملي هذه الورقات، ولم أعرف قواعد هذه اللعبة ولا أصولها لا من قريب ولا من بعيد، وهذا من فضل الله عز وجل. وعندما جاء أعداد من الشباب يطرحون مثل هذا الموضوع للطرح في مثل هذه الدروس، في البداية كنت مستنكراً متعجباً أن يطلب مثل هذا الطلب، ولكن إصرار الشباب وتكفلهم -جزاهم الله عنا خيراً- بإجراء المقابلات واللقاءات والاستبيانات مع أعداد من لاعبي البلوت، ثم إحضارهم للنتائج المذهلة العجيبة الغريبة، التي لما وقفت عليها وقرأتها ما كان مني استجابة لهذه الإصرارات إلا أن أطرح مثل هذا الدرس. وبعد الجمع، والوقوف على كثير من الأحداث، عرفت حقيقةً أن البلوت يجب أن يسمى: طاعون العصر! ومن خلال الأحداث والمواقف التي جمعها الإخوة وهي أحداث عجيبة غريبة -كما ستسمعون- جعلني أقف مع هذا الموضوع وقفات كثيرة. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 2 مصادر البحث مصادر هذا البحث هي ثلاثة مصادر، وتعلمون أن هذا البحث ليس بحثاً شرعياً حتى نرجع لأمهات الكتب والأصول الشرعية لنستقي منها هذا العلم، وإنما كانت المصادر والمراجع هي: اللقاءات والجلسات والاستفتاءات مع كثير من اللاعبين، وقد قام بهذا بعض الإخوة فليس لي -يعلم الله- سوى طرح مثل هذا الموضوع بين أيديكم. ثم أيضاً اطلعت على كتاب مصنف اسمه (البلوت) لـ فؤاد عبد الحميد عنقاوي وهو تقريباً بحجم متوسط يقرب من خمسين ومئتي صفحة، ومرجع ثالث وهو استفتاء أجرته مجلة الدعوة السعودية في العدد (1315) ، بتاريخ: (1/5/ 1412هـ) . هذه المراجع تقريباً هي مراجع هذا البحث. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 3 اعتذار واعتذاراً لأحبائنا وإخواننا الأفاضل متابعي الدرس العام أن نقطع عليهم لذة الدروس الإيمانية لنفاجئهم بهذا الموضوع، ولعل في حضورهم لهذا الموضوع فوائد كثيرة، منها: أولاً: أن يعلموا أن لإخواننا وشبابنا الذين يعيشون في العالم الآخر -وأقول: العالم الآخر أي: عالم الشهوات والمغريات- ليعلموا أن لهم حقوقاً كثيرة، فإن من واجب الدعاة إلى الله عز وجل، ومن واجب شباب الصحوة مشاركة إخوانهم مشاكلهم وهمومهم والوقوف معهم للأخذ بأيديهم لطريق الاستقامة، خاصة وأن الكثير منهم يشكو هجر الصالحين لهم، بل كما صرح بذلك أعداد كبيرة منهم يلقون باللائمة عليكم أنتم وأنهم -كما يدعون ويذكرون- يستحيون منكم، مع أن (98%) منهم صرح بحبه للصالحين، ورغبته وأمنيته لو أنه كان منهم. ولعل طرح مثل هذا الموضوع مشاركة منا لحل مشكلة هي من أخطر وأكبر المشاكل على شبابنا، فهي البوابة لكل رذيلة، وهي البداية للانحراف والضياع، وعالم المخدرات والشهوات، وهذا كله من نتائج هذا البحث المتواضع. ثانياً: أيها الأحبة! أنتم تسمعون هذا الموضوع، وعند سماعكم تعرفون فضل الله عز وجل عليكم يوم أن هداكم وفضلكم على كثير ممن خلق تفضيلاً، ونجاكم من مثل هذه الأخطار، فلله الحمد والمنة أولاً وآخراً. ثالثاً: التعرف والوقوف على عالم الشباب عالم العجائب والغرائب عالم التفنن في المعاصي والشهوات عالم الفتوة والقوة والهمم العالية، لكنها للأسف همم عالية في الفساد والضياع، سيندهش الكثير منكم مما يسمع، وسيتعجب مما يقال، ولكني أقول: إن ما سأذكره هو شيء يسير جداًَ من الحقيقة، فهذه الدراسة على فئة قليلة، وفي مكان محدود، وعلى عجل وبدون تخطيط ولا تنظيم، فكيف لو تجمعت هذه الأسباب كلها؟ لتفطرت الأكباد، وتحرقت القلوب، وطاشت الألباب من النتائج العجيبة. هذا وهو موضوع واحد في عالم الشباب وهو: البلوت، فكيف لو أننا تطرقنا ونظرنا ووقفنا على الغناء والفن والرياضة والتشجيع واللواط -أعزكم الله- والمخدرات والسفر إلى الخارج والزنا، وغير ذلك من مواضيع الشباب المتعددة، وكيف بإضاعة الصلاة والأوقات والمروءات وعالم الرجولة وغيرها من مشاكل الشباب. لعلكم بعد هذا أيها الأخيار! وأنتم تسمعون الكلام عن مثل هذا الموضوع تعذرون وتشجعون على إلقاء مثل هذه المواضيع والحرص عليها، بل أقول: لعلكم تنشطون وتتحمسون للدخول في أوساط الشباب وانتشالهم مما هم فيه، لعلنا أن نترك الخلاف بيننا ولنبدأ العمل ولنحمل الهم، فإن الميدان بحاجة للجميع. أيها الأحبة! إن إخواننا من الشباب أمانة في أعناقنا، أنتم هداة ضلال، ودلال خير، فقوموا بواجبكم بارك الله فيكم، وعندها أبشروا بوعد الله وبالنصر والتمكين. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 4 البلوت متى وكيف؟ اختلف الرواة في كيفية ظهور البلوت في الحجاز، غير أن أكثر الروايات تشير إلى أنه ظهر في النصف الثاني من القرن الهجري الماضي، أي: في نهاية العهد العثماني، وفي أواخر أيام حكم الأشراف الذين حكموا الحجاز وما جاورها. ويعتقد أنها لعبة أوروبية وصلت إلى الحجاز عن طريق الهند بما كانت تمثله العلاقة بين البيوت التجارية في مدينتي مكة وجدة وبين الهند. ونلاحظ في مسميات ومصطلحات البلوت، والتي لا تزال تستعمل حتى الآن بعض الكلمات الإنجليزية والفرنسية، غير أن الشيخ أبا تراب الظاهري العلامة المؤرخ المعروف يتحفظ على هذا الرأي ويقول: إن ورق اللعب -ومن ضمنه لعبة البلوت- ترجع أصولها إلى الهند شكلاً ومضموناً، والدليل على ذلك أن أسماء أنواع الورق: (الكالة، والشيرية، واللال، والشوكت) كلمات كلها هندية الأصل، وقد لاقت هذه اللعبة -وللأسف- رواجاً كبيراً، وطغت على بقية الألعاب الأخرى التي كانت سائدة آنذاك، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه كما تسمعون وترون بأعينكم. ومن العجائب أن القصائد لم تسلم من البلوت، ولذلك أسوق لكم على سبيل الطرفة هذه القصيدة التي جاءت على لسان أحد اللاعبين، قبل الدخول في الموضوع. يقول هذا الشاعر -إن صحت تسميته شاعراً- يقول: يا لا عب الصن هذا كشفكم جاري لكم عليكم ولا داع لسمسار فاختر رفيقك حريفاً وكن يقظاً إن قيل حكماً فخذه صناً بإجبار وخل بالك من تنفير صاحبكم أعطيه مطلوبه حتماً بإصرار ولا يفوتك أن تنسى الصر أبداً من الشرارة تأتي شعلة النار أما إذا قيل أربعمائة حصلت من الغريم فخذ بشتك ورح جاري وإن غلبتم فلا داع لشوشرة فالوقت لا يحتمل تصنيف أعذار الجزء: 24 ¦ الصفحة: 5 قبل أن أبدأ قبل البداية وقبل الدخول في حقائق ومواقف هذا الموضوع، أقول: يا أخي الحبيب! لعلك أن تفتح لي قلبك، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الدين النصيحة) ويعلم الله أن هذه الكلمات هي من قلب محب، وأخ يخاف عليك ويود لك الخير، أهديها لك مع باقة من الأماني والأمل والدعاء الأماني بأنك سوف تسمع كلماتي إليك والأمل بأنك سوف تفتح لها قلبك وعقلك والدعاء بأن توفق إلى العلم بما فيها والعمل به. ولا ترج فعل الصالحات إلى غد لعل غداً يأتي وأنت فقيد أخي الحبيب! اسمع لهذه الكلمات، ولا تهملها. ألا رب نصح يغلق الباب دونه وغش إلى جنب السرير يقرب الجزء: 24 ¦ الصفحة: 6 وجوب التزام أوامر الشرع فلك مني يا أخي الحبيب! هذه الكلمات الأخوية من قلب يحبك ويحترق من أجلك، ووالله ثم والله لولا حبي وخوفي عليك ما تفوهت بهذه الكلمات، وما أضعت الأوقات والساعات وذهبت أقلب الصفحات بحثاً عن الحق في مثل هذا الموضوع. أخي الحبيب! أعرف أنك مسلم أباً عن جد، وأنك تعتز بإسلامك وتفخر بدينك، ولا ترضى أن يمس بسوء لا من قريب ولا من بعيد، وأنك أعلنتها صرخة قوية من قلب حار، وقلت بكل صدق -إن شاء الله-: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً. وأعلم وتعلم أنت أيها العزيز! أن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، فمن ذا الذي يسلم من الخطأ؟ ومن ذا الذي يسلم من الغفلة منا نحن البشر؟ إذاً: فالخطأ والتقصير والوقوع في المعصية هي صفة لنا، ولكننا نحمد الله كثيراً على أن فتح الباب على مصراعيه، فأرشدنا إلى التوبة والرجوع عند الغفلة والتقصير، بل قال صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) والحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. إذاً: فيا أيها الحبيب! أنا وأنت نبحث عن الحق، ونريد الوصول إليه، ولو كان يخالف أهواءنا وشهواتنا. أخي الحبيب! أنت مسلم، فهلا أسلمت نفسك لله، وأخضعتها لأمره وحكمه؟! أخي الحبيب! رضيت بالله رباً، فهل ترضى بحكمه واختياره وشرعه، أم ترضى بحكم نفسك واختيارها؟! أخي العزيز! أنت رضيت بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً نبياً، فهل خضعت لأمره، واعتصمت بقوله؟! إذاً: فيا أيها العزيز! إذا رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً، فاعلم أن كل فعلٍ تفعله، وكلمة تقولها، ولباس تلبسه، وشربة تشربها، بل وحركة وسكنة تصدر منك، لابد أن تكون كما أمر الله ورسوله، وإلا فما معنى قولك إذاً: إنك رضيت بالله رباً؟؟ وما معنى قولك: إنك رضيت؟؟ وما معنى قولك: إنك مسلم؟ ألم تعلم أن الإسلام: هو الاستسلام والخضوع لله؟! إذاً فليس لك اختيار مع أمر الله ونهيه، اسمع هذه الآية جيداً، وافتح لها قلبك، وأرع لها سمعك: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] . إذاً: فالإسلام ما ترك خيراً إلا وأمرك به، ولا شراً إلا ونهاك عنه. أخي الحبيب! تعال بقلب مؤمن مسلم معظم لأمر الله، تعال بنفس رضية للبحث عن الحق في مثل هذه القضية، نسأل الله عز وجل أن يرينا وإياك الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 7 البلوت ورمضان رمضان فرصة لكل مسلم للاستثمار، وللاتجار مع الله عز وجل، وهو فرحة لكل مذنب للمحاسبة والتوبة والرجوع والتعويض، حتى أن الفاسقين يحرصون على رمضان وعلى الخيرات فيه، من صلوات وصدقات وقربات، وهذا أمر مشاهد ومحسوس. إلا أنك تجد في السنوات الأخيرة كثيراً من شبابنا غفلوا عن أهمية رمضان وقيمته، وعن فضل ساعاته ولياليه، فلم تعد تؤثر فيهم تلك الروحانيات، ولا ذلك الجو الإيماني الجميل الذي يعيشه المجتمع المسلم من حولهم، ففقد أولئك المساكين لذة رمضان، ولذة مناجاة ربهم، ولذة التضرع والانكسار والافتقار إلى الله عز وجل، ولذلك ما أقول إلا: قم لزيارة إلى الأرصفة في كل مدينة من مدننا لتجد مئات الشباب يتناثرون طوال الليالي من رمضان على امتدادها، ولتقف على الحلقات المعقودة لصفقات البلوت وما يصاحبها من صرخاتٍ وسبابٍ وشتامٍ، والنتيجة فرقة ونزاع وخصام، هذه كلها أوزار يحاسب عليها العبد، وهذه كلها تضييع للأوقات والأعمار، خاصة خلال هذه الليالي الفاضلة. ومن خلال هذه الدراسة تبين أيها الأحبة! أن أكثر الليالي احتداماً لحلبات الصراع -أي: صراع البلوت- هي ليالي رمضان وللأسف، وربما عقدت هذه الحلبات من بعد صلاة الفجر إلى ما يقرب من صلاة الظهر أو العصر عياذاً بالله. في رمضان الناس يركعون ويسجدون، وأولئك في صراخ وخصام. في رمضان الناس يقلبون صفحات القرآن، وأولئك يقلبون صفحات البلوت. في رمضان الناس تلهج ألسنتهم تسبيحاً لله، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، وأولئك تلهج ألسنتهم بـ (شيريا) و (سبيت) و (سبيل) و (بنت) و (شاكوش) و (ولد) ، وغيرها من ألفاظ وألقاب تلك الورقة. في رمضان الناس يسألون الله عز وجل العفو والعافية والفردوس الأعلى، وأولئك يسألون الله (صن حكم 400) والعياذ بالله. أين أنتم يا شباب؟ أين عقولكم؟ لماذا لا نفكر؟! أسألكم بالله، ألستم بحاجة إلى العمل الصالح؟ ألستم بحاجة لمحو السيئات؟ أو نقرأ أيها الشباب! سير أجدادنا وسلفنا الصالح رضوان الله عليهم أنهم هجروا حلق العلم والدروس، لماذا؟ من أجل التفرغ للعبادة وقراءة القرآن وكثرة الذكر في هذا الشهر، أما أنتم فقد هجرتم العبادة، وهجرتم قراءة القرآن وتركتم الذكر، من أجل ماذا؟ من أجل البلوت والجلوس على الأرصفة والرياضة وغير ذلك، فرمضان يشكو هجركم أيها الشباب! رمضان شهر القرآن والغفران والجنان رمضان شهر العتق من النيران رمضان شهر الصيام والقيام رمضان شهر التذلل والافتقار، والخضوع والانكسار، رمضان الشهر الذي يفخر ويعتز فيه كل مسلم على وجه الأرض، وشبابنا يضيعونه بالجلوس على الأرصفة، ولعب البلوت، والرياضة والغناء. لا وألف لا أيها الشباب! إنكم أكبر من ذلك وأعقل، فقط وقفة صادقة مع النفس، ولحظة محاسبة للنفس ومراجعة، وبعدها ستجد نداء الفطرة، ستجد الخير في نفسك، وعندها ستعلم أن رمضان لا يمكن أن يباع ولو بأغلى الأثمان. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 8 حجج المؤيدين لهذه اللعبة أيها الأحبة! إن كل من جلس معه، وكل من نوقش حول البلوت، وجدنا أنهم يحتجون بحجج، بل ويذكرون أن للبلوت فوائد كثيرة، ولعلي لخصت هذه الفوائد والحجج بهذه النقاط سريعاً: أولاً: يقولون: إن من أكبر فوائد البلوت القضاء على وقت الفراغ. ويقولون أيضاً: إنها تحفظ الإنسان من الخوض في القيل والقال والغيبة والنميمة. وثالثاً: يذكرون أن من فوائد البلوت أنها تثير الحماس والتحدي. ورابعاً: يقولون: تعتبر وسيلة من وسائل اللهو البريء. وخامساً: يقولون: هي تنفيس من مهام المسئوليات ومتاعب العمل. وسادساً: أنها عاملٌ مهمٌ في تغذية أواصر الصداقة بين أفراد المجتمع وطبقاته كما يقولون. وسابعاً: أنها رياضة ذهنية تنمي الذهن والفكر والانتباه. وثامناً: يقولون: إن في البلوت الهروب من مشكلات اجتماعية، ومن هموم الحياة، وهو تبرير غريب لمواجهة هموم الحياة، فهم يناقضون السلوك الاجتماعي القويم في مواجهة المشكلات بمشكلات أخرى. أقول: هذه تقريباً ثمان حجج يحتج بها لاعبي البلوت، وذكرتها بأمانة وصدق حتى يكون هذا العرض بأمانة. يقول أحد الإخوة - ولا داعي من ذكر الأسماء وهو ممن أجرت معه مجلة الدعوة استبياناً أو استفتاء- يقول: عمره ثلاثون سنة وهو زوج وأب، يقول: تسألني عن البلوت، تعلمته في سن التفتح وفي عمر سبع عشرة سنة، وكان السبب في تعثري في الدراسة وأحياناً في العمل، أنا الآن -وبفضل الله- مدير، وأصارحك بأنني أدمنت البلوت لسبب وحيد، أنني أهرب فيه من رتابة الحياة وزحف الهموم اليومية. وقيل له: مع من تلعب البلوت؟ فقال: ألعب الآن مع زملائي، والبلوت يكشف لي أخلاقهم، ومشكلتي أنني لا أعرف كيف أتخلى عنه؟ وبسببه أتعرض لمشاكل كثيرة. ثم قيل له: لماذا لا تتخلى عنه؟ قال: حاولت ولم أستطع، فأصدقائي مدمنون، وقد جروني لهذا الإدمان. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 9 أهم حجة لديهم وردها وأقف مع حجة واحدة، وهي من أهم الحجج التي يحتج بها لاعبو البلوت. تاسعاً: قولهم: نقضي على الفراغ؛ أوجه سؤالاً فأقول: أسألكم بالله، وهل يوجد في وقت المسلم الجاد فراغ؟! وعلى فرض موافقة هؤلاء على وجود الفراغ، فأسأل وأقول: كم وقت الفراغ لدى هؤلاء؟! أقصد من يحتج بلعب البلوت بالقضاء على الفراغ، كم الوقت الذي يعتبرونه فراغاً بالنسبة لهم؟ ساعة أو ساعتان أو ثلاث، أم أن حياته كلها فراغ؟! ثم أيضاً سؤال آخر: وهل وقت الفراغ يقضى بمثل هذه اللعبة؟! فأصبح يقضى على مشكلة الفراغ بمشكلة أخرى، وهي قتل الزمن وإضاعة العمر بلا فائدة، إلا إن قال قائلهم: إن في البلوت فائدة، وستأتي الإجابة على هذا. ثم نقول أيضاً لهؤلاء الذين يشتكون من الفراغ، أجب على هذه الأسئلة بصدق وصارح نفسك ولا تخادعها: أولاً: كم تقرأ القرآن في اليوم؟ بل أسألك قبل ذلك هل تجيد قراءة القرآن أصلاً أو تحفظ شيئاً منه؟! ثم أيضاً أسألك فأقول: أسألك بالله هل قمت بصلة الرحم، وزيارة أقربائك؛ لأن ذلك واجب عليك؟! ثم أقول لك أيضاً: هل جلست مع والديك ومع إخوانك؟ بل هل جلست مع زوجك وأولادك للتحدث معهم ومعرفة أحوالهم وحوائجهم؟! كم درساً أو محاضرة تحضر خلال الأسبوع، أو خلال الشهر؟! كم شريطاً مفيداً تسمعه في الأسبوع؟! كم كتاباً تقرؤه خلال الأسبوع أو الشهر؟! هل فكرت في قضاء هذا الفراغ الذي تدعيه بما يعود عليك بالفائدة من التحاق بالدورات العلمية، أو حتى بدورات الكمبيوتر أو اللغة الإنجليزية أو غير ذلك؟! هل قمت بزيارة المرضى بالمستشفيات؟ هل فكرت بزيارة المقابر للاتعاظ والاعتبار؟! بل هل أعطيت عملك الوظيفي حقه من الأمانة والصدق؟! كل هذه الأسئلة وكثيرة هي تلك الأسئلة، فأقول بعد ذلك: أين الفراغ -أيها الحبيب- الذي تشكو منه، والذي تدعي أنك تقضيه بهذه اللعبة؟! إذا فكرت بعقل وفكر ناضج ستجد أن الواجبات أكثر من الأوقات. ثم أقول أيضاً بعد كل هذه الأسئلة: لا تنس يا أخي الحبيب! أنك خلقت لهدف، وأن الله عز وجل خلقك للدعوة إلى الله عز وجل، وخلقك لعبادته، فإني أراك قد ضيعت الهدف الذي من أجله خلقت، أصبحت بدون مبدأ وبدون همّ، إن كثيراً من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ينتظر منك أن تقوم بإعانته، وبتوجيهه، وبإرشاده، فلماذا إذاً نخسرك؟! لماذا نخسرك وتخسر أنت نفسك؟ اعلم أيها الحبيب! أن الثروة الحقيقية هي الوقت، وأن الوقت هو العمر، وأنه أثمن ما تملك، وأنك ستحاسب على كل دقيقة تمر من عمرك، وستسأل عنها، ألم تسمع لقول الحق عز وجل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] ؟! ستسأل عن عمرك فيما أفنيته، وعن شبابك فيما أبليته، فماذا ستقول؟ في حلقات وحلبات البلوت. ألا تعلم أن أهل الجنة -وهم أهل الجنة- يتحسرون على ذهاب ساعة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لن يتحسر أهل الجنة على شيء، إلا على ساعة مرت عليهم في غير ذكر الله عز وجل) فكم من الساعات تقضى لأولئك اللاعبين في غير ذكر الله؟! بل أقول: في معصية الله! وفي سب وشتام عياذاً بالله. إذاًَ: إذا أردنا الحق والتجرد من الهوى فالمسألة ليست مسألة فراغ، بل هي والله فتنة وشهوة، وهي والله ابتلاء ومحنة، فالساعات والليالي التي تضيع وتمضي من أجل البلوت خيالية لا تصدق، وخذ أمثلة على ذلك: الجزء: 24 ¦ الصفحة: 10 من قصص من ابتلي بضياع الوقت في لعبة البلوت يقول أحد الإخوة: ذهب شباب في رحلة برية، فجلسوا يلعبون الورقة من الساعة السابعة مساءً، حتى صرفتهم أشعة الشمس المحرقة. ويقول بعض اللاعبين: أحد الدوريات في البلوت أخذت تلعب هذه اللعبة عند أحد الإخوة -ولا تتعجبوا من الزمن- من مغرب الأربعاء حتى صباح الجمعة. وقد استغربت هذا الأمر من الأخ القائل، لكنه أكد لي وقد وجدت علامة الصدق في وجهه أيها الأحبة! ويقول آخر: إن أحد الدوريات تجتمع في شهر رمضان للعب وتبدأ من الظهر حتى قبل آذان المغرب، وأكثر ما يكون ذلك في العشر الأواخر. ويقول أحد الإخوة -أيضاً- ممن أجرت معهم مجلة الدعوة استفتاء يقول: حتى تعلم خطورة البلوت، إليك ما حدث في شهر رمضان، يقول: دعيت إلى الإفطار عند أحد الجيران، وبعد الإفطار مباشرة بدأ المدعوون مهرجان اللعب دفعات، حتى صلاة العشاء، وصلوا العشاء في البيت بينما توجهنا إلى المسجد، وعدنا بعد صلاة التراويح، واكتشفت أنهم لم يصلوا التراويح، وظللت أراقبهم عن بعد واستمروا حتى السحور، ومن يدري ربما واصلوا أيضاً حتى بعد السحور. أليس هذا أمراً مؤسفاً؟! لقد أضاعوا بهجة هذه الأيام، وأضاعوا هذا الموسم العظيم في عبث تحت مسمع ومرأى من الأهل والأولاد، فنقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، حتى في رمضان يسيطر البلوت على عقول الشباب! ويقول أيضاً أحد الإخوة وهذه هي كتابته بخط يده: أذكر قبل أن ألتزم أنا كنا نلعب البلوت بعد صلاة الفجر في شهر رمضان حتى العاشرة صباحاً، وبعد ذلك ننام حتى المغرب، ثم نأخذ الشاي والفرشة ونذهب إلى الرصيف في وقت صلاة العشاء والتراويح، نلعب البلوت والناس تصلي حتى موعد السحور، ثم تدخل شلة وتخرج شلة -أي من الفرق التي تلعب البلوت- وفي بعض الأيام العادية وخاصة في الصيف عندما يأتي الليل، نلعب حتى خروج الشمس، وما يقيمنا إلا حرارتها. والعجيب أنه قال: فإذا لم يغالبنا النعاس بعد صلاة الفجر من السهر طوال الليل، فإننا نكمل تحت الجسور، وكثيراً ما تحدث المشاكل بيننا، وتجدنا نجلس مع بعضنا ونحن حاقدون على بعض بسبب هذه اللعبة. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 11 آثار هذه اللعبة وشرورها الجزء: 24 ¦ الصفحة: 12 ضياع الوقت في اللعب الأول: ضياع الوقت بالساعات الطويلة، بل والليالي والأيام كما سمعتم. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 13 تضييع الفرائض والواجبات الثاني: تضييع الفروض والواجبات كالصلوات والتساهل بها، وقد اعترف أعداد كبيرة من اللاعبين بهذا كما تقدم. والعجيب أيها الأحبة! أن شبابنا لا أدري هل هم يعلمون أن الله عز وجل لم يعذر حتى المجاهدين في سبيله في المعركة بترك الصلاة أو تأخيرها؟! بل أمرهم أن يؤدوا الصلاة، وبين لهم سبحانه وتعالى كيف يؤدونها، وهم في أشد اللحظات الحرجة، فعجباً من أولئك الشباب الذين يعقدون الساعات تلو الساعات، وتضييع الصلوات وهم في لعب والعياذ بالله! يقول أحدهم: لا بد للاعب البلوت من السهر، لأن اللعبة عادة ما تكون بعد صلاة العشاء، مما يترتب عليه إضاعة صلاة الفجر، فإذا قرب الأذان أو بقي عليه نصف ساعة تفرقوا للنوم قبل الصلاة. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 14 كثرة اللعان والسباب والشتم الثالث من آثارها: اللعان والسب والشتم: اللعان والسب والشتم والكلام البذيء والحلف بالله كذباً، والحلف بالطلاق، وغيرها من الكلمات التي يقولها صاحبها ولا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً؛ عياذاً بالله. يقول أحدهم: يحدث في اللعب ما يسمونه بالحرب النفسية، وتقوم كل فرقة بإصدار أقبح الألفاظ وأسوأ التشبيهات، مثل -وأعيذ أيها الأحبة مسامعكم أن أتكلم بمثل هذه الألفاظ ولكنه الواقع- يقول مثل: زنديق، نمرود، ديوث؛ ويبررون ذلك بأنها على سبيل المزاح، هذا خلاف الأيمان المغلظة من الطرفين، فلا ندري أيهما الصادق. ويقول آخر: اشتد النزاع بين أفراد الفرقة فقال أحد أفرادها: عليّ الطلاق ما ألعب معك مرة ثانية. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 15 التنازع الموصل إلى الضرب بالأيدي الرابع من الآثار: الضرب والتنازع بالأيدي وبالأدوات مما يحيط بهم (كزمزميات) الشاي مثلاً أو الفناجين، وقد يصل في بعض الأحيان إلى التنازع بالسكاكين، والأمثلة كثيرة. يقول أحدهم: أذكر قصة رأيتها، يقول: اجتمع بعض الشباب وبدءوا باللعب، وأخذ اللعب يشتد وبدأ الحماس، ثم وصل إلى حد الغضب، فبدأ التنابز بالألقاب، فقام أحدهم فتناول دلة القهوة التي كانت بقربه، وضرب بها الآخر، فقام الآخر وأحضر السكين وأراد أن يضرب بها زميله، فحاول الآخرون منعه فضرب أحدهم وقطع يده. ويقول آخر: مجموعة تلعب، وحصل بين اثنين منهم مشادة كلامية وصلت إلى المضاربة بينهم، وتم التفريق بينهم بعد تدخل الجميع، وانكسار أصبع أحدهم، ثم صارت الشحناء بينهم، واستمرت إلى وقت طويل. ويقول آخر: في أحد مباريات البلوت، وعندما أخطأ أحد أفراد الفرقة، قام الآخر وشتم أباه وجده، وآخر قام وضرب الورقة بوجه زميله، فحدث بينهما خلاف شديد. وفي الاستفتاء الذي عملته مجلة الدعوة، أكد أن (99%) من جلسات البلوت تنتهي بخصام ومشاجرات، فأين القائلين إذن أن جلسات البلوت عامل مهم في تغذية أواصر الصداقة بين أفراد المجتمع وطبقاته؟! فنقول لهؤلاء الأحبة: لا يعميكم حب اللعبة عن الحقيقة المرة. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 16 الابتلاء بالمعاصي كشرب الدخان والشيشة الخامس من آثارها: شرب الدخان -أعزكم الله- والشيشة والإفراط فيها، هذا لمن كان مدخناً، وتعلم بعض اللاعبين شرب الدخان والشيشة من خلال جلسات البلوت المستمرة، فكثير من المدخنين وشاربي الشيشة بل ومن متعاطيي المخدرات ذكروا أن بدايتهم كانت من خلال جلسات البلوت والكنكان والتركس وغيرها، وهي بداية النهاية والعياذ بالله! أما من يستطيع أن يتغلب على نفسه ولا يدخن ويقوي نفسه فلا يسلم من الروائح الكريهة ورائحة ثيابه، ناهيك عن الأمراض التنفسية من سحب الأدخنة المتراكمة في المكان، وقد ذكرت الدعوة في استفتائها أن (67%) يدخنون بشراهة أثناء اللعب من باب التسلية وإضاعة الوقت، وانتهى به الحال بالتدخين والشيشة وقد يصل الحال بعض الأحيان لبعض الأفراد إلى المخدرات، كما حصل في بعض الحالات، ومن أراد الوقوف على مثل هذه القصص الواقعية فليرجع إلى قصص التوبة، مثل (العائدون إلى الله) في أجزائه الخمسة ليقرأ بنفسه كيف أن البداية لكثير من أصحاب المخدرات كانت بسبب جلسات البلوت. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 17 عدم الاهتمام بحقوق الزوجة والرعية السادس: الخلافات العائلية والتقصير الواضح في حق الزوجة والأولاد، وقد اتضح من خلال البحث أن جميع زوجات اللاعبين للورقة يشكين همهن بالليل والنهار، فهو يسهر ليلاً ويذهب لوظيفته نهاراً، وقد يصل الحال في بعض الأحيان إلى الطلاق. ويعلم الله أن زوجة أحد اللاعبين صرحت لي فقالت: إنها الآن تطلب الطلاق منه بسبب أنه يسهر الليل كله مع أصحابه في البلوت، والنهار في وظيفته. وتتلخص شكاوى الزوجات في التالي: السهر الطويل إلى ساعات متأخرة بالليل، والانتظار الممل من قبل الزوجة المسكينة. يقول أحد التائبين: وقد لعبت البلوت عشرين سنة، ليتصور الرجل أنه هو الذي ينتظر زوجته، أو أنها تخرج كل ليلة إلى أهلها أو مناسبة، فماذا سيحصل؟ هل سيصبر؟! وهل سيطيق الانتظار؟! ثم ثانياً: اللعن والسب والضرب أحياناً للزوجة المسكينة عند رجوع الزوج في ساعات متأخرة من الليل، وعند سؤاله عن سبب التأخر أو معاتبته، وويل لها خاصة إن كان الزوج مهزوماً. ثم أيضاً التأذي من رائحته إن كان مدخناً، أو من رائحة ملابسه لمجالسة المدخنين. ثم: إهمال البيت وحوائج البيت، وعدم إحضار اللوازم الضرورية، ويقابل ذلك بكل تساهل بقوله:نسيت. وهذه علامات بارزة للاعب البلوت، وقد شكت كثير من النساء من هذه الأمور. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 18 التقصير والإهمال في تربية الأولاد السابع: التقصير والإهمال للأولاد وتربيتهم، ومراجعة الدروس ومتابعة أحوالهم، بل إنه أصبح قدوة سيئة لهم، فيفعلون ما يفعل، فكم من شاب عرف البلوت عن طريق أبيه أو عن طريق أخيه، بل وعرف التدخين. تقول مجلة الدعوة في استفتائها: وكثير من شباب الاستفتاء قالوا: إنهم شاهدوا آباءهم أو إخوانهم الكبار يلعبون البلوت، فقاموا بتقليدهم، وهو تكريس للمثل الشائع: الكبار -يعني: في كثير من الأحوال- سبب سقوط الصغار، والإنسان نتيجة طبيعية للبيئة التي ينشأ فيها. هذا قول المجلة. وبافتقاد القدوة الحسنة تضيع الأجيال الجديدة، فهل يتعظ هؤلاء الآباء؟ وخذ مثالاً: رجل يلعب، ويلعب ضده في نفس اللعبة ابنه، وفي شدة حماسه والابن منتصر أخذ الأب يسب ويلعن ويقول لابنه: الله يلعن أبوك -والعياذ بالله- بهذا اللفظ يلعن نفسه، وهو لا يشعر هذا المسكين. بل في إحدى جلسات البلوت أيضاً -وكما في النتائج التي جاء بها الإخوة وهي أمامي- يقول أحدهم: إن في إحدى جلسات البلوت جاء الوالد بابنه ليلعب أمامه، وبعد أن اشتد اللعب وزاد الحماس، إذا بالوالد المسكين يخطىء في إحدى المرات، فما كان من هذا الولد إلا أن أخذ الورق من الأرض وجمعها في يده، ثم ضرب بها وجه أبيه أمام الحاضرين، بل أكثر من ذلك فقد أخذ يسبه ويشتمه ويصفه بالغباء والبلاهة أمام الحاضرين. ونقول لمثل هذا الأب: يداك أوكتا وفوك نفخ! فأنت الذي صنعت هذا الابن. وأيضاً في الاستفتاء الذي قام به عنقاوي في كتابه: (البلوت) سأل سؤالاً ورقم هذا السؤال الرابع عشر في صفحة (59) تقريباً من الكتاب، قال: هل تسمح لابنك بأن يلعب معك البلوت؟ فكانت الإجابة -في صفحة (113) - (60%) -وجري الاستبيان على مائة تقريباً- لا يسمحون بلعب البلوت مع الأبناء، و (30%) يسمحون، و (10%) ليس عندهم أبناء في سن يسمح لهم باللعب معهم. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 19 المخاصمة والهجر والعداء والمقاطعة بين اللاعبين الثامن من الآثار: المقاطعة والتخاصم والعداء، وقد يطول الهجر والبعد بين الإخوة وبين اللاعبين إلى سنين، وقد تستمر حتى وفاتهم -والعياذ بالله- وتقدم ذكر بعض الأمثلة، وخذ إن أردت زيادة أمثلة وهي كثيرة: يقول أحدهم: شباب يقضون إجازة نصف السنة في خيمة، وكانوا يلعبون البلوت فتجادلوا في إحدى المرات وتخاصموا، فقاموا جميعاً وأنزلوا خيمتهم وعادوا إلى بيوتهم، وظل الخصام بينهم لمدة شهرين أو أكثر. ومثال آخر يقول: جماعة يلعبون البلوت، فتجادل اثنان منهم فتخاصما، ولا يزالا متخاصمين حتى الآن، ولهما الآن أكثر من سنتين وهما على هذه الحال. ويقول أيضاً آخر: ولا يقف الخصام والمقاطعة بسبب البلوت بين الشباب فقط، بل هناك رجال تصل أعمارهم إلى الأربعين والخمسين يتجادلون، ويصل الأمر إلى التشابك بالأيدي والعصي، كما ثبت ذلك من خلال الاستبيانات. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 20 تكاسل من ابتلي بهذه اللعبة من الصالحين عن الصلوات التاسع من الآثار: التثاقل والكسل من بعض الصالحين، وأقول: الصالحين وللأسف؛ لأنه ثبت أن بعض الصالحين يلعبون البلوت، ثبت أن بعض الشباب الملتزمين ما زالوا على صلة بهذه اللعبة، فتجد التثاقل والكسل عند القيام للصلاة، أو للذهاب إلى بيته مبكراً، أو النوم مبكراً وغير ذلك، ولو أراد فعل ذلك لو كان عنده همّ وأراد أن يقوم إلى الصلاة مثلاً فإن جلساءه يقومون بتثبيطه وبالاستهزاء به. يقول أحد اللاعبين -وعمره تقريباً ثلاثون سنة-: إن من آثار البلوت -وهذا بخطه أيضاً يقول- عدم الصلاة والتكاسل عنها وتثبيط بعضهم لبعض، فإذا كان مع الذين يلعبون إنسان فيه خير -هكذا كلامه- وقال: الصلاة، أخذوا بتثبيطه كقولهم (يا أخي تو ما أذن) ، أو (لاحقين عليها) ، أو (خايف من الهزيمة) فتنهزم نفسيته، ويجلس ليكمل معهم لعبتهم تاركاً الصلاة ومؤخراً لها إن أداها فيما بعد، وإذا كان الذين يلعبون من أصحاب المخدرات أو المنبهات فقد يستغرق بهم اللعب إلى يوم أو يومين أو يوم ونصف، حتى يصيبهم الإعياء والتعب، عند ذلك ينتهون من هذه اللعبة لعدم استطاعتهم الإكمال، هكذا يقول. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 21 التدهور العلمي والدراسي عند كثير من الطلاب الأثر العاشر: تدهور المستوى العلمي والفشل الدراسي لدى أعداد كبيرة من الطلاب الذين يمارسون هذه اللعبة، وأكثر المتضررين هم من طلاب الجامعة، وإن أردت الدليل ما عليك إلا أن تقوم بزيارة لسكن الطلاب في الجامعات لتجد العجب العجاب في الليالي، فأقول: أكثر المتضررين هم طلاب الجامعات، حيث السهر حتى الصباح، وترك المذاكرة والمحاضرات. وفي استفتاء مجلة الدعوة قال أحد الطلاب واسمه زايد من جامعة الملك سعود: حاول زملائي إغرائي بلعب البلوت؛ لكني رفضت، فقد شاهدت منذ طفولتي الزمن الهائل الذي يضيعه الكبار في البلوت ساعاتٍ طويلة لا تصدق، وينتهي اللعب دائماً بمعركة أو مشادة كلامية حادة المأساة أنه تقليد في بيوت كثيرة ويسمح به الآباء، ويستهلكون فيه كميات خرافية من المنبهات كالشاي والقهوة، ثم الإفراط بشراهة هذا المرض الخبيث بتدخين الشيشة، وعندما دخلت الجامعة رأيت العجب في سكن الطلاب، فالوقت المفروض للمذاكرة والراحة تحول إلى صخب هائل، وإذا أردت مشاهدة جانب من المسرحية الهزيلة عليك أن تتوجه بعد الثامنة مساء إلى صالات النادي في المدينة الجامعية، ستجد مجموعات ضخمة من الطلاب في دوائر البلوت الجهنمية، وإذا كان لديك وقت فستجدهم يستمرون حتى الصباح، ويتحركون إلى قاعات المحاضرات ليناموا هناك، لا يفقهون شيئاً مما يقال، وربما في أحيان كثيرة يضربون بالمحاضرات والدراسة عرض الحائط ويستمرون في اللعب حتى يسقطوا من الإعياء ولا حول ولا قوة إلا بالله. وسئل هذا الطالب فقيل له: ألا تلعب البلوت؟! قال: أعوذ بالله، فأنا لا أكاد أجد الوقت اللازم لآداء ما فرضه الله عليّ، ثم المذاكرة والقيام بالمبادئ الأسرية. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 22 التقصير الكبير في صلة الأرحام وبر الوالدين الأثر الحادي عشر: تدهور العلاقات الاجتماعية من بر بالوالدين، وصلة للأرحام، وزيارة للأصدقاء المخلصين، وفي استفتاء الدعوة اعترف (80%) من لاعبي البلوت بأن علاقاتهم الاجتماعية وصلت إلى حد الصفر، فهم مشغولون دائماً، بعيدون عن البيت والأسرة، وتنحصر صداقاتهم في المجموعة التي تلعب البلوت في أي مكان، لا وقت للأسرة، لا وقت للأقارب، لا وقت لعيادة المرضى، لا وقت حتى للقيام بواجبات العمل والأسرة. بل إن أحد الشباب -وهو لم يتزوج بعد- يقسم بالله العظيم أنه ما جلس مع أهله على وجبة طعام إلا بعد أن هداه الله عز وجل. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 23 اكتساب الأخلاق السيئة من المجالسة للاعبين الأثر الثاني عشر: اجتماع الأجناس المختلفة، فتجد فروقاً عديدة في أفكار أولئك الذين يلعبون البلوت في مجلس واحدٍ، في أخلاقهم وأفكارهم ومستوياتهم العلمية والثقافية، فيؤثر ويتأثر كل منهم بالآخر، وكذلك اجتماع الصغار بالكبار، والمدخنين بغيرهم، مع كثرة اختلاطهم لا شك يتأثر بذلك من لا يرغب بتلك الأشياء -كالتدخين مثلاً- بحكم جلوسه معهم، ولا شك أنه سيصبح منهم، فإن لم يكن فما أقل من أن يرضى بمثل هذا. ولا يمكن حصر المجلس على عدد معين أو أفراد بعينهم؛ لأن هذه اللعبة تطلب عدداً معيناً من الأفراد يمارسونها، فإذا نقص منهم أحد فسوف يضطرون إلى إكماله بأي شخص -وفي كثير من الأحيان- مهما كان. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 24 الآثار الصحية من طول المكث مع لاعبي البلوت الأثر الثالث عشر: الآثار الصحية من آلام في الظهر والعمود الفقري من طول الجلسة، والأمراض الصدرية، فالذي يلعب البلوت في معظم الأحيان يكون مع المدخنين، وبسبب أن هذه اللعبة تطلب وقتاً طويلاً، فإن الغرفة التي يكونون فيها تكون ملوثة بيئياً، وكلما زاد عدد اللاعبين -خاصة المدخنين- فإن الضرر يزداد بالإضافة إلى من به علة صحية من ضغط أو سكر أو ربو أو غيرها، فإنه يسبب له أضراراً مضاعفة خطيرة، كما أثبتت التقارير الطبية ذلك. وقد أجاب جميع الأفراد الذين أقيم عليهم استبيان في مجلة الدعوة عن السؤال هل سبق أن أحسست بألم في ظهرك نتيجة استمرارك في هذه اللعبة لمدة طويلة؟ فأجاب الجميع بنعم، وأنهم كلهم حصدوا آلاماً في ظهورهم، وربما نتج عنها أمراض وتشوهات. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 25 إهمال القراءة ومطالعة الكتب الأثر الرابع عشر: عزوف الشباب عن القراءة الجادة، ومطالعة الكتب والنظر فيها، فتجد عند كثير من لاعبي البلوت والمدمنين عليه ضحالة في الفكر، وقصراً في الرؤية، وركاكة في التعبير والكتابة، وهبوطاً في البحث والإبداع واستغلال المواهب والطاقات التي رزقهم الله إياها. فإذن أين من يقول: إن البلوت ينمي الذهن والفكر؟! وأين هذا الذهن والفكر واستعماله لصالحه واستعماله أيضاً للأمة؟!! الجزء: 24 ¦ الصفحة: 26 ضعف الشعور بالمسئولية الأثر الخامس عشر: ضعف الشعور بالمسئولية والإحساس بالواجب الملقى على الأكتاف -خاصة الشباب منهم- مما أثر في عدم الانضباط الاجتماعي، وشدة الإقبال على وسائل الترفيه والتسلية من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والرياضة وغيرها من الوسائل التي أصبحت غايات، والتي قذفت بها حضارة الغرب المادية، فأفقدت السلوك الاجتماعي والمهني توازنه لكثير من قطاعات المجتمع، وأضعفت الإنتاج الفكري والعملي والصناعي والعائلي للموظفين والطلاب وأساتذة الجامعة والدارسين في المعاهد وربات البيوت وغير ذلك، فإن من أعظم آثار البلوت أنه ضيع علينا طاقات ومواهب كثيرة. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 27 المقامرة المحرمة الأثر السادس عشر: وصول التحدي والإثارة -في بعض الأحيان- إلى حد المقامرة، وقد ثبت ذلك، واسألوا رجال الهيئات عما يجدونه في كثير من المواقف، وذلك بأن يجعلوا هناك مبلغاً من المال أو وليمة طعام أو غير ذلك. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 28 ترك النوافل والطاعات الأثر السابع عشر: نسيان هؤلاء اللاعبين وإهمالهم لكثير من النوافل في الطاعات والعبادات، من صلاة وصيام وصدقة وعمرة وقراءة للقرآن، فحرموا أنفسهم من خير كثير. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 29 الجهل بما يخططه أعداء الإسلام الأثر الثامن عشر والأخير: الابتعاد عن الواقع الذي تعيشه الأمة، والجهل بما يريده الأعداء ويخططون له ليل نهار، وأرجو ألا يأتي أحد من لاعبي البلوت، فيقول: إنه لا يوجد لنا أعداء، وإن العالم الآن يعيش في مرحلة سلام ووئام بين الجميع. أيها الأحبة! يا لاعبي البلوت! يا من تلعبون هذه اللعبة! إنكم تحملون عقيدة ومبدأ، فماذا قدمتم لهذه العقيدة؟! حرام أن تبحث الأمة عن شبابها، فتجدهم منتثرين في النوادي والأرصفة والمقاهي والمنازل والاستراحات، الإسلام بحاجة إلى شبابك وإلى فتوتك وإلى نشاطك، فهل فكرت أن تخدم الإسلام؟ لا تقل لي: كيف؟ فالمجال لا يتسع للإجابة، ولكني أقول: ابحث واسأل وستجد إن أردت ذلك. هل ترضى يا أخي الحبيب أن تعيش على هامش الحياة لا فائدة منك، ولا قيمة لك؟! فكر جاداً بنفسك، وبمستقبلك، وبآخرتك فإنك محاسب، وسُتسأل عن كل كبيرة وصغيرة. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 30 أحداث ومواقف وحقائق مذهلة ولعلي أسردها سريعاً خشية أن يضيق علينا الوقت. فأقول أولاً: في الاستفتاء الذي عملته الدعوة جاءت النقاط التالية: - (80%) أجابوا بأنهم تعلموا البلوت في سن السابعة عشرة والثامنة عشرة، وقالوا إنهم اضطروا إلى تعلم هذه اللعبة لمجاراة أصدقائهم. -أيضاً أجاب (10%) تقريباً أو أكثر بأنها لعبة مفيدة، ولما سئلوا عن الفوائد عجزوا عن شرح هذه الفوائد. -أيضاً أجاب (30%) بأنها لعبة سيئة، وأنهم تورطوا فيها. -وأجاب أيضاً (51) فرد تقريباً يعني: أكثر من (50%) أجابوا بأنها لعبة تسلية، بينما قال ثلاثة أفراد فقط: بأنها تنمي الذكاء، وأي ذكاء هذا؟! ثانياً: العجيب أن هناك فرقاً معروفة للبلوت على شكل فريق دائم، تقوم هذه الفرق بمباريات ووضع دوري خاص على مستوى المدينة أو المنطقة، فتجده مثلاً الليلة في مدينة الرس، وغداً في عنيزة، وبعد غدٍ في حائل وهكذا. فهذا الفريق الرياضي للبلوت يتنقل من مدينة إلى أخرى، وقد كنت حذرت عندما أُلقي هذا الموضوع قبل ثلاث سنوات تقريباً، قلت: أخشى أن يوجد هناك فرق رسمية تتبناها الأندية وغير ذلك لتكون هذه اللعبة على مستوى الأندية، وفوجئت بعد ذلك بأحد الإخوة يحضر قصاصة من جريدة الرياضية والعنوان يقول: البلوت تدخل عالم الدورات الرياضية، ويقول المقال: البلوت لعبة الورق الشهيرة تسللت إلى الدورات الرياضية بجانب تنس الطاولة والتنس الأرضي والشطرنج والبلياردو والبولينج، وذلك في دورة نظمها أحد البنوك في المنطقة الشرقية، لعبة البلوت سحبت الأضواء -من خلال هذه الدورة- من الألعاب الرياضية الأخرى، وحظيت منافساتها بالسخونة والإثارة والمتابعة الجيدة من جماهير الدورة. وهذا في جريدة الرياضية في العدد (1520) تاريخ: (22/5/ 1414هـ) . وأيضاً سمعنا أن بعض الأندية قد قامت بوضع دورات رياضية في رمضان الماضي على الأرصفة للعبة البلوت. ثالثاً: بعضهم تظل الورقة مصاحبة له في كل مكان، فهي دائماً في جيبه أو سيارته لا تفارقه لحظة واحدة، حتى إن بعضهم قد يدخل للمسجد ويصلي وهي معه، وهي مليئة بالصور كما تعلمون. أيضاً إن أصدقاء البلوت هم أصدقاء جلسات البلوت فقط، ولا يمكن أن يزورك أو أن تعتمد عليه في أمر أو في ملمة، ويقول أحد التائبين: كان يجتمع عندي في بيتي أقاربي ثلاث مرات يومياً من أجل لعبة البلوت، فلما التزمت وتركتها انقطعوا، فأصبحت لا أراهم إلا قليلاً مع أنهم أقرب الأقرباء لي، فانظروا الرابط بين هؤلاء؛ إنه هو البلوت، فلما انقطعت انقطعت العلاقات، ولو كانوا أقرباء له من نسبه أو دمه. أيضاً من هذه الحقائق والأحداث من الفتنة والإدمان عليها، أن بعض اللاعبين يبحث عن لاعبين لهذه اللعبة طوال يومه حتى ولو كان لا يعرفهم ولو كانوا من الفساق أو المدخنين المهم أن يلعب، حتى إن بعضهم وقفوا على الخط السريع لإيقاف سيارة ليكتمل العدد بالنسبة لهم، فلم يجدوا سوى عاملاً مسكيناً فأغروه بالمال حتى أقنعوه فنزل ليلعب معهم ليكمل الفريق. أيضاً من الحقائق حول هذه اللعبة أن (85%) من اللاعبين يخجلون من الاعتراف بممارستها، ونقول لأولئك كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) ونقول أيضاً: (الله أحق أن يستحيا منه) . الجزء: 24 ¦ الصفحة: 31 مواقف طريفة وغريبة حول هذه اللعبة أيها الأحبة: من المواقف الطريفة حول هذا الأمر: أن هناك إدارياً وصل إلى منصبٍ جيدٍ، وهذا الإداري يحتفظ بورقة الحسابات التي فاز بها بالتركس على أحد زملائه منذ عام (1403هـ) تقريباً، وزميله يعمل إدارياً في مدينة أخرى، فكان الإداري الأول يرسل تلك الورقة كل شهر له بالفاكس. أيضاً أحد كبار السن والذين ابتلوا بهذه اللعبة يلتقط الورقة من الأرض ثم يرفعها وينظر إليها بإمعان لضعف بصره، ونقول: نسأل الله عز وجل حسن الخاتمة. وأيضاً من المواقف: مجموعة من كبار السن أيضاً أعمارهم من الخمسين فما فوق، يجلسون من بعد صلاة المغرب إلى الساعة الثانية عشرة يسمعون الأذان ولا يتحركون من أماكنهم، وربما تسمع صراخهم وتتعجب من حركاتهم وقد بلغوا هذا العمر وهم يلعبون هذه اللعبة. ويقول آخر: ولا يقف الخصام والنزاع لدى الشباب فقط، بل هناك رجال تصل أعمارهم إلى الأربعين والخمسين تجدهم يتجادلون، وقد يصل الأمر إلى التشابك بالأيدي والعصي كما حدث ذلك في إحدى الدوريات. كبار في السن تصور يتجادلون بالعصي والكلمات والخصام والشتام -والعياذ بالله- من أجل هذه اللعبة. وأيضاً من المواقف أن أحد كبار السن ممن ابتلوا بهذه اللعبة وعند دخوله للمسجد كان قد نسي الورقة في جيبه الأعلى، فلما سجد إذ بالورقة تنساب من جيبه أمام المصلين، وإذا به يشعر بالخجل فيقوم أمام أعين المصلين وقد وضح الارتباك عليه ليجمع هذه الورقة. ولا نقول لأولئك الكبار إلا أن نذكرهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة) . وأيضاً من المواقف الطريفة: فإن أكثر الشباب خاصة من لاعبي البلوت يحذرون من العليمي يسمونه العليمي أو الغشيم، أو الفطيس وهو اللاعب البدائي الجديد، فإن هذا اللاعب ضحية مسكين لأولئك اللاعبين، فهو دائماً مغضوب عليه من الجميع وعرضة للتوبيخ وللسب والشتام، فإياك أن تكون لاعباً جديداً فقد تكون عليمياً، ثم تنال ما تنال من أولئك. وأيضاً من الطرائف: أن أحدهم يقول: إننا نحرص أن نُصلي كلنا -أي: كل الفرقة يحرصون أن يصلوا صلاة العشاء- في المسجد الذي بقرب المعزب كما يقول -أي: الذي عنده الجلسة- لأجل التسابق على (السرا) وليس التسابق على الصف الأول. وأيضاً من الطرائف: أنها تفرقت إحدى الدوريات في حوالي الساعة الواحدة ليلاً -انتهى اللعب وتفرقوا- فلما وصل المهزوم إلى منزله وخلع ثوبه، أخذ يراجع ورقة قيد الحساب للعبة فوجد أن المقيد قد نسي تقييد سر له، وهو يفرق بالعدد ويجعله -بدل أن يكون مهزوماً- فائزاً، فماذا فعل؟! وقد كانت الساعة ما يقرب الثانية ليلاً فقام ولبس ثوبه مرة أخرى ثم شغل سيارته وذهب وطرق على صاحبه في الساعة الثانية ليلاً، ثم أخبره أن تقييد الحساب خطأ، وأنه هو الفائز -نعوذ بالله من مضلات الفتن-. ومن الطرائف العجيبة أن بعض النساء عندما قرأت هذا العنوان (حكم صن 400) فبدأنا نسمع التحليلات العجيبة الغريبة من بعض النساء، والحمد لله بفضل الله أن كل التحليلات ليست قريبة من لعبة البلوت نهائياً، وهذا لعله من بشائر الخير، ليدل على أن النساء لا يعلمن شيئاً عن هذه اللعبة، ونسأل الله أن يكون ذلك. أيضاً من الطرائف أن هناك أرجوزة نظمها أحد لاعبي البلوت في بعض فصول اللعبة يقول فيها: إن البلوت يا صديقي فن فبعضه حكم وبعض صن فالحكم فيه ولد فالتسعه أكبرها فافهم حديثي وافقه ثم تليها الإكة المعتبره وبعدها كذاك تأتي العشره فالملك الكبير ثم الملكه واسمها البلوت فيها البركه ثم تجيء سبعة ثمانيه لكنها في العد تبقى لاغيه والصن فيه أكبر الأوارق إكتها فاعلم بلا شقاق عشرة تتلوه ثم الشائب فالبنت هكذا الكلام الصائب ثم غلام بعدها فتسعه ثم ثمان بعدها فسبعه إلى أن قال: وأول الأوراق في الترتيب إكتها فالشيخ ذو المشيب فالبنت فالغلام ثم العشره فالتسع فالثمان ثم السبعه ثلاثة منها على الترتيب هن الصرا على الفتى الأريب وإن تكن أربعة المتابعه فإنها خمسون لا مراجعه إلى أن قال: فالولد الحكم له عشرونا معدودة كذاك علمونا وقيمة التسعة أربع عشره وقيمة الإكة إحدى عشره إلى آخر أرجوزته. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 32 الحكم الشرعي للعبة البلوت أخيراً نأتي لحكم هذه اللعبة شرعاً: وهذا الذي نريده من شبابنا، وأقول لشبابنا وإخواننا وأحبائنا لاعبي البلوت: أسأل الله عز وجل أن ينجيكم من هذه اللعبة ومن كل بلاء. أقول اسمعوا بارك الله فيكم فإننا نستجيب لنداء الله عز وجل. سئل الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى هذا السؤال الذي يقول: هل يجوز لعب الورق البلوت، وما حكم لعب الشطرنج مع العلم أنهما لا يلهيان عن الصلاة؟ يقول الشيخ حفظه الله تعالى: لا تجوز هاتان اللعبتان وما أشبههما، لكونهما من آلات اللهو، ولما فيهما من الصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وإضاعة الأوقات في غير حق، ولما تفضي إليه من الشحناء والعداوة، هذا إذا كانت هذه اللعبة ليس فيها عوض، أما إن كان فيها عوض مالي فإن التحريم يكون أشد؛ لأنها بذلك تكون من أنواع القمار الذي لا شك في تحريمه ولا خلاف فيه، والله ولي التوفيق. وسئل أيضاً فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى هذا السؤال الذي يقول: ما حكم اللعب بالورقة والشطرنج؟ فقال الشيخ حفظه الله تعالى: قد نص أهل العلم -رحمهم الله- أن اللعب بهما حرام كما ذكر ذلك مشايخنا، وذلك لما فيهما من الإلهاء الكثير والصد عن ذكر الله سبحانه وتعالى؛ ولأنهما ربما يؤديان إلى العداوة والبغضاء بين اللاعبين، وكثيراً ما يكون اللعب على عوض، ومعلوم أن العوض لا يجوز بين المتسابقين إلا فيما نص عليه الشرع وهي ثلاثة أشياء: النصل والخف والحافر، ومن تأمل أحوال لاعبي الشطرنج والورقة تبين أنه قد ضاع عليهم أوقات كثيرة يمضونها في غير طاعة الله وفي غير الفائدة التي تعود عليهم في أمر دنياهم، يقول بعض الناس: إن لعب الورقة والشطرنج يفتح الذهن وينمي الذكاء، ولكن الواقع خلاف ما يدعيه هؤلاء، بل إنه يبلد الذهن ويجعل الذهن مقصوراً على هذا النوع من الذكاء بحيث لو أن الإنسان استعمل فكره في غير هذه الطريقة ما وجد شيئاً، وعلى هذا فإن تبليد الفكر وقصره على هذا النوع من الذكاء يوجب للإنسان العاقل أن يبتعد عن فعلهما. انتهى كلامه حفظه الله تعالى. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 33 نداء للدعاء إلى الله الخاتمة في كلمة للدعوة تقول فيها: أين الدعاة؟! يزعم بعض الشباب أنهم يزاولون البلوت على مرأى ومسمع من مدرسيهم وآبائهم وذويهم، وأن المدارس تسمح بلعب البلوت في المعسكرات والرحلات الترفيهية، وهو أمر صعب التصديق، لكنه واقع للأسف. الأمر إذاً يحتاج لحملة دعوية مكثفة، علينا أن ننبه أبناءنا إلى خطورة هذه الممارسة الخاطئة، والدور الآن للمعلمين والآباء ووسائل الإعلام في بحث هذه الظاهرة المرضية، نحن نعلم أن الأمة الإسلامية مستهدفة بإمكاناتها وقدراتها وشبابها وثرواتها، وأيضاً في وقتها وهو العامل الحاسم في تقدم الأمم، فهل نتحرك ونمنع هذا الدمار؟ إن المسئولية جسيمة وتستحق وقفة تأمل مع النفس، تستحق أن نوليها وقفة اهتمام، فالإنسان المسلم لا يعاني من الفراغ أياً كان، فالفراغ وقتل الوقت ذو مضامين خطيرة تغزو المجتمع الإسلامي وتدمره، وعلينا أن نتصدى له بقوة فالحياة أغلى من أن نضيعها عبثاً في جلسات سقيمة تعرضنا للتهلكة، والبلوت لعبة غربية صدروها لنا وهم يتفرجون علينا فهل نفيق؟ انتهى كلام المجلة. وأذكركم أخيراً بهذه الحادثة التي ذكرها أحد الإخوة يقول: رجل عندما كان يلعب لعبة البلوت، وفي عز حماسه انحنى إلى الأرض ليأخذ ورقة اللعب وهو يقول ويردد: صن صن، فكانت الانحناءة الأخيرة له ومات وهو على هذه الحال، والعياذ بالله. نسأل الله عز وجل أن يحسن لنا ولكم الخاتمة. يا من بدنياه اشتغل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل فهل يتنبه الشباب وغيرهم إلى هذا الأمر؟! لقد ذكرنا لك أيها الحبيب! المواقف والأحداث، وأشرنا إلى الأدلة العقلية والنقلية، فهل تستجيب لأمر الله عز وجل؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] . فهل من توبة صادقة؟ هل من توبة صادقة؟ فقطار العمر يجري، والموت يفجأ. اللهم إني بلغت. اللهم فاشهد! وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 34