الكتاب: سلسلة إيمانيات المؤلف: محمد بن إبراهيم بن إبراهيم بن حسان مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 10 دروس] ---------- سلسلة إيمانيات محمد حسان الكتاب: سلسلة إيمانيات المؤلف: محمد بن إبراهيم بن إبراهيم بن حسان مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 10 دروس] سلسلة إيمانية - أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم آية من آيات الله، وعجيبة من عجائب الكون، فهو نبي الرحمة، والنعمة المهداة إلى الأمة، صاحب الخلق الفاضل الرفيع، وقد شهد الله تعالى له بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، فحري بنا أن نتعرف على أخلاقه صلى الله عليه وسلم لنقتدي بها في جميع شئون حياتنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 بيان حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة والأخوات، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذه اللحظات الطيبة على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة! قد يكون من اليسير جداً أن تنجذب إلى زهرة وحيدة فريدة وسط صحراء مقفرة، لكن ماذا أنت صانع لو وقفت في بستان ماتعٍ مليءٍ بالزهور والرياحين التي تعددت ألوانها، وتنوعت أشكالها، وشدك عبيرها، فأنت تنتقل من زهرة إلى زهرة؛ لتقف في غاية المتعة واللذة والسعادة والسرور؟! ذلكم البستان الماتع هو بستان أخلاق الحبيب صلى الله عليه وسلم، فها نحن ننتقل من خلق إلى خلق، وتتصور وأنت تتحدث عن خلق واحدٍ من أخلاق الحبيب صلى الله عليه وسلم أن هذا الخلق هو الأبرز. فإذا ما أنهيت الحديث على قدر ما منّ الله به عليك من علم وفضل، وانتقلت من هذا الخلق للحديث عن خلق آخر؛ وجدت نفسك في بستان ماتع آخر، وهكذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الرفق بالحيوان الرسول صلى الله عليه وسلم آية من آيات الله جل وعلا، وعجيبة من عجائب الكون، ولا ينبغي على الإطلاق أن نجهل أو نتجاهل هذا التاريخ المشرق المضيء؛ لأننا نعيش الآن زماناً قد انحرفت فيه الموازين، وتغيرت فيه الحقائق وتبدلت. فنسمع الآن من يزعم أن الغرب هو أول من أصَّل وأسس جمعيات الرفق بالحيوان، ونحن لا ننكر أن الغرب يفعل ذلك الآن، لكن لا يجوز البتة أن يدعي أحد أن الغرب أسبق منا في هذا الأمر، فإن أول من أصَّل وأسس الرفق بالحيوان هو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، محمد صلى الله عليه وسلم. تدبروا جميعاً هذه الكلمات النبوية الرقراقة، روى مسلم من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) . إلى هذا الحد! (إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) ليس من الرحمة أبداً أن تأتي بشاةٍ لتذبحها على مرأى ومسمع من مجموعةٍ أخرى من الأغنام، فهذا ليس من الرحمة، ونرى هذا المشهد في كل عيد من أعياد الأضحى في الشوارع والطرقات. ترى الرجل من إخواننا يقدم الشاة ليذبحها على مرأى ومسمعٍ من بقية الأغنام، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) وأود أن أنبه بأنكم إذا وجدتم مخالفةً؛ فلا ينبغي أن ننسب المخالفة لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم، ولا لدينه، وإنما المخالفة تنسب لنا؛ لأننا نحن الذين انحرفنا عن منهج رسول الله وعن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 بغي تدخل الجنة في كلب سقته الحبيب صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن بغياً -زانية من زواني بني إسرائيل- دخلت الجنة في كلب، وأن امرأة دخلت النار في هرة والحديثان في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بينما بغي من بغايا بني إسرائيل تمشي، فمرت على بئر ماء فشربت، وبينما هي كذلك مر بها كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فعادت إلى بئر الماء؛ فملأت موقها، -أي: خفها- ماءً، فسقت الكلب فغفر الله لها) كلب عطشان، وهي امرأة زانية، لكنها رحمته فغفر الله لها. يقول المصطفى الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صاحب الخلق العظيم: (فغفر الله لها) الله أكبر! ديننا هو دين الرحمة، والرحمة في ديننا ليست بالإنسان فحسب، بل حتى بالحيوان بالكلاب بالقطط بالعصافير؛ قارن هذه بالقسوة، والغلظة، والفظاظة التي نراها الآن في زماننا، وفي عالمنا المادي الوحشي القاسي، قارن بين هذه المعاني الرقراقة؛ تشعر أننا نعيش في زمانٍ آخر، وفي عالم آخر. أنت ترى الآن عالماً دمغ بالقسوة، عالم قاسٍ، عالم منّ الله عز وجل عليه بهذه التكنولوجيا، وبهذا العلم، وبهذه المخترعات؛ ليحولها هذا العالم إلى وسائل إبادة للجنس البشري، فما من يوم يمر علينا إلا وترى الدماء تسفك، وترى الأشلاء تمزق في كل مكان على وجه الأرض، عالم مجنونٌ بالفعل؛ يصنع القنبلة، والصاروخ، والطائرة؛ ليدمر المصانع ليحرق المزارع ليهلك الحرث والنسل. يبيد الجنس البشري، ثم بعد ذلك تراه يدعو أهل الفضل وأهل الخير هنا وهنالك لجمع التبرعات؛ لإعادة التشييد والتعمير، عالم غريب عجيب!! النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن زانية من زواني بني إسرائيل دخلت الجنة لأنها رحمت كلباً؛ فغفر الله عز وجل لها بذلك. أقول: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟ أعيدها مرة ثانية وثالثة: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟ كيف يكون فضل الله عليك أيها الطبيب إن رحمت مريضاً؟ كيف يكون فضل الله عليكِ أيتها الطبيبة والممرضة إن رحمت مريضاً أو مريضة؟ كيف يكون فضل الله عليك إن رحمت فقيراً، أو أرملةً، أو يتيماً، أو مسكيناً، أو طفلاً؟ هذه رحمة الله بالبغي التي رحمت كلباً، فكيف تكون رحمةُ الله جل وعلا لمن رحم مسلماً، مؤمناً، موحداً، فقيراً، مستضعفاً، يتيماً؟ انظر إلى فضل الله، حبذا لو أطلنا النفَس مع هذه المعاني الرقراقة؛ لتفيء أمتنا والعالم إلى هذه اللمحات واللمسات الرقيقة المحمدية النبوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 امرأة دخلت النار في هرة في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة) ، أي: في قطة. انظر! بغي تدخل الجنة في كلب، وامرأة تدخل النار في قطة، لماذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: (حبستها -أي: حبست القطة- فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض) ، حبستها، فلم تقدم لها الطعام والشراب، ولم تطلقها لتأكل من رزق الله في أرض الله جل وعلا؛ فدخلت النار. فالأمر في غاية الخطورة. فو الله ما صلى المصلون، وما وحد الموحدون، وما زكى المزكون، وما حج الحاجُّون، وما خاف الخائفون، وما قام القائمون، وما ابتعد عن الحرام المبتعدون؛ إلا من أجل أن يفوزوا بالجنة، ومن أجل أن ينجيهم الله من النار، فتختزل هذه القضية العظيمة بهذه البساطة والسهولة في الرحمة. بغيٌ ترحم كلباً؛ فيدخلها الله الجنة، ويغفر لها الذنب، وامرأة تقسو على قطة وتعذبها حتى الموت، وتحرمها من الطعام والشراب، فتدخل النار، ثم بعد ذلك يدعي من يدعي أنه أول من أصَّل وأسس قضية الرفق بالحيوان! كلا، كلا، نحن لا ننكر أنهم يفعلون ذلك، لكن ينبغي أن تعلم أمتنا، وينبغي أن يعلم العالم كله أن محمداً صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن بغياً دخلت الجنة في كلبٍ، وأن امرأةً دخلت النار في هرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 هدي النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة مخالفيه مداخلة: ذكرت أن هذا العالم عالم مجنون، تسفك فيه الدماء، وغرور القوة مسيطر تماماً على العالم كله، والأعداء يحاربون بكل ما هو محرم في كل مجال، يقتلون الأطفال، والنساء، والشيوخ، ويهدمون البيوت، ويحرقون الأشجار، فنريد أن نعرف خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا؟! الشيخ: ما شاء الله، هذه لمحةٌ جميلة، وأتمنى أن العالم كله يقرأ التاريخ من جديد؛ فما زالت صفحات التاريخ مفتوحة، واسمح لي أن أستهل الجواب على سؤالك الجميل بقولةٍ لهذا المفكر الشهير بستاف لفن حينما قال: ما عرف العالم في التاريخ القديم والحديث ديناً سمحاً كالإسلام، وما عرف العالم في التاريخ القديم والحديث فاتحين متسامحين كالمسلمين، هذه حقيقة. مع أن رؤية الدم تثير الدم، وتحرك الشهوة للانتقام، لكن مع كل ذلك انظر إلى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى أخلاق الدين حتى مع الأعداء. وأنا أود أن أقول: حينما نتحدث الآن عن خلق الحبيب صلى الله عليه وسلم مع أعدائه؛ فنحن لا نريد بذلك أن نتحدث حديثاً ذهنياً بارداً باهتاً، وإنما نود أن نذكر العالم بصفةٍ عامة، وأمتنا المسلمة بصفةٍ خاصة، بأنه لا قيمة لهذه الأخلاق إلا إذا تحولت في حياتنا من جديد إلى واقع عملي، ومنهج حياة، وإلا فسيظل هذا المنهج المشرق حبراً على الورق. النبي صلى الله عليه وسلم استطاع أن يقيم للإسلام دولة، واستطاع أن يربي جيلاً قرآنياً فريداً لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً، وذلك يوم أن نجح بطبع عشرات الآلاف من النسخ من المنهج التربوي الإسلامي الخلقي، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يطبعها بالحبر على صحائف الورق، وإنما طبعها على صحائف قلوب أصحابه بمداد من التقى والهدى والنور؛ فحولوا هذه الأخلاق النبوية العظيمة في حياتهم إلى واقع عملي ومنهج حياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 حرص النبي عليه الصلاة والسلام على هداية قومه انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أحرج الأوقات، وفي أشد الأزمات، عن عائشة رضوان الله عليها- والحديث رواه البخاري ومسلم أنها قالت: (يارسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟!) ، ويوم أحد كان يوماً عظيماً، نزف فيه دم النبي صلى الله عليه وسلم من جسده، وشج وجهه، وكسرت رباعيته، وتعرض النبي صلى الله عليه وسلم للموت الحقيقي، بل لقد انتشر بالفعل في الميدان خبر قتل النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ألقى بعض الصحابة السلاح وقالوا: وماذا نصنع بالحياة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقام أنس بن النضر رضي الله عنه -وحديثه في الصحيحين- فقال لهم: (قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، ونزل في هذه المعركة قول الله جل وعلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] . فالسيدة عائشة قالت له: (هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك ما لقيت يا عائشة، وكان أشد ما لقيت يوم عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال) ، وهو رجل من أشراف أهل الطائف، فحينما خرج الحبيب صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف، ولم يخرج ليطلب مالاً، ولا ليطلب دنيا ولا جاهاً، ولا وجاهة، ولا شهرةً، ولا منصباً، وإنما ليخرجهم من ظلام الشرك والوثنية إلى أنوار التوحيد والإيمان برب البرية جل وعلا. تصور معي أنه صلى الله عليه وسلم مشى من مكة إلى الطائف على قدميه أكثر من سبعين كيلو، لا توجد سيارة، ولا دابة، بل مشى على قدميه المتعبتين الداميتين، وتحت حرارة شمسٍ محرقة يعلمها كل من سافر إلى مكة للحج والعمرة، شمس انعكست أشعتها على الرمال؛ فكادت الأشعة المنعكسة أن تحرق الأبصار. طريق غير ممهدة، لم يركب حماراً، ولا بغلاً، ولا جواداً، ولا ناقة، ومع ذلك لما وصل إلى الطائف سلط الأشرافُ السفهاءَ والصبيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلوا به ما لا يتصور البتة أن يفعله إنسان صاحب مروءة بإنسان غريب؛ رموه بالحجارة، سبوه، شتموه، وعاد النبي صلى الله عليه وسلم حزيناً كئيباً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلما لم يجبني إلى ما أردت -أي: ابن عبد ياليل بن عبد كلال، وهو شريف الطائف- عدت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب) ، وقرن الثعالب مكان يبعد عن الطائف حوالي خمسة كيلو. أريد منك أخي أن تتصور، فكان من الهم الذي يحطم فؤاده، ومن الألم الذي يفتت كبده؛ لا يعرف أين هو، عاد وهو مهموم على وجهه دعوة مطاردة أصحابٌ مشردون في الحبشة، وصاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم يُضرب، ويُسب، ويُشتم، ويُرمى بالحجارة. أريد منك أن تتصور الحالة النفسية التي كان يعيشها النبي عليه الصلاة والسلام في هذه اللحظات، يقول: (فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فإذ بسحابة قد أظلتني) -هذه هي التي شدت انتباهه، وهي التي أخرجته من الهموم والآلام والأحزان-: (فنظرت فرأيت جبريل عليه السلام -والحديث في الصحيحين- فنادى جبريل على النبي الجليل صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، وإن الله تعالى قد أرسل إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت -بالله عليك افترض أي بشر في هذا الموقف؛ دماؤه تنزف مطرود مهان سبوه شتموه تصور كيف يكون الرد! - وإذ بملك الجبال ينادي عليّ: السلام عليك يا رسول الله! لقد أرسلني الله عز وجل إليك لتأمرني بما شئت فيهم، لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت) . ما هما الأخشبان؟ الأخشبان: جبلان عظيمان، يقال للأول: أبو قبيس، ويقال للجبل للثاني: الأحمر، ووالله الذي لا إله غيره لو كان الحبيب صلى الله عليه وسلم ممن ينتقمون لأنفسهم وذواتهم وأشخاصهم، ولو كان الحبيب ممن خرج لذاته أو لمجد شخصي أو لانتفاع دنيوي حقيرٍ زائل؛ لأمر النبي ملك الجبال أن يحطم هذه الرءوس الصلدة، والجماجم العنيدة، ولسالت دماء من الطائف ليراها أهل مكة بمكة، لكن اسمع ماذا قال صاحب الخلق الرفيع؟ اسمع ماذا قال الرحمة المهداة لملك الجبال؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل أرجو الله عز وجل أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) لم يبعث لعاناً ولا فحاشاً، وإنما كما قال هو عن نفسه صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت رحمة) ، وكما قال ربه جل جلاله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ، وكما قال ابن عباس: هو رحمة للفاجر والبار؛ فمن آمن به فقد تمت له النعمة، ومن كفر به أمن من العذاب في الدنيا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 نبي الرحمة يطلق ثمامة من أجمل ما ثبت في هذا الباب: ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (بعث خيلاً قبل نجد -بعث سرية من أصحابه- فجاءت هذه السرية برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، وكان من أعدى أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتفنن في إيذائه، ويتفنن في تأليب القوم على النبي وعلى الإسلام، فلما أسره أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام انطلقوا به إلى المسجد النبوي، فربطوه في سارية من سواري المسجد حتى يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام المسجد، فوجد ثمامة بن أثال مربوطاً في عمود من أعمدة المسجد النبوي؛ فاقترب الحبيب المصطفى من عدوه برحمة وود، وقال: (ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي خير يا محمد؛ إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال؛ فسل تعطَ من المال ما شئت) ، وهذا رد فيه قوة. الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: (ماذا عندك يا ثمامة؟) قال: عندي خير: (إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: إن قتلتني اعلم بأنك ستقتل رجلاً له قوة وقبيلة وعشيرة، ولن تدع دمه يضيع هدراً على الإطلاق، (وإن تنعم تنعم على شاكر) يعني: إن أحسنت إليّ وأنعمت علي، وأطلقت سراحي فلن أنسى لك هذا الجميل أبداً ما حييت. (سل تعطَ من المال ما شئت) أي: إن كنت تريد مالاً فسل تعط، فتركه الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر بقتله، وهو عدوه!. وفي غير رواية الصحيحين: (أمر النبي الصحابة أن يحسنوا إليه) ؛ لكن لحكمة نبوية أبقى النبي ثمامة في المسجد؛ ليطلع بنفسه على حال النبي مع أصحابه، وليسمع القرآن غضاً طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعايش الإسلام؛ لأن المسجد كان بيئةً حيةً للدين كله: (فدخل عليه في اليوم الثاني فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دمٍ، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد مالاً؛ فسل تعطَ من المال ما شئت. فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دخل عليه في اليوم الثالث وقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال؛ فسل تعطَ من المال ما شئت؛ فقال صاحب الخلق الكريم: أطلقوا ثمامة) . أطلقوه، لا نريد مالاً ولا شكوراً ولا ثناءً. إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإذا أنت أكرمت اللئيم تمردا ثمامة سيد أهل اليمامة، سيد قومه، رجل عربي أصيل، لما أطلق النبي سراحه؛ انطلق إلى بستان نخل قريب من المسجد النبوي فيه بئر، فاغتسل ثم عاد مرة أخرى إلى المسجد النبوي، فوقف بين يدي الحبيب صلوات الله وسلامه عليه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله. اسمع وأصغ للحوار الجميل الذي دار بين ثمامة وبين النبي عليه الصلاة والسلام، نظر ثمامة إلى النبي فقال له: (والله ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبغض إلي من وجهك -مصارحة شديدة- فأصبح وجهك الآن أحب الوجوه كلها إلي -صلى الله عليه وسلم-، والله ما كان دين على وجه الأرض أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك الآن أحب الدين كله إلي، والله ما كان على وجه الأرض بلدٌ أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك الآن أحب البلاد كلها إليّ. يا رسول الله! لقد أخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة) . ذهب يعتمر على شركه، وكانوا يلبون، ويحجون، ويعتمرون، ويقولون: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) ، سبحان الله قال له: (لقد أخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة، فبماذا تأمرني؟) فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن حجر: (فبشره) أي: بالجنة، أو بمحو السيئات؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، ولأن التوبة تجب ما قبلها؛ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر. وفي رواية مسلم: (أنه أول ما وصل إلى مكة لبى، وجهر بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) . ففزع القوم! من هذا الذي يتحدانا ويعلن التوحيد بهذه الصورة؟! أول من جهر بالتلبية في مكة هو ثمامة بن أثال. فتساءلوا: من الذي لبى بمكة معلناً للتوحيد برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم؟ اقترب منه المشركون وقالوا: أصبأت -يعني: أكفرت؟ - قال: لا، بل تبعت محمداً صلى الله عليه وسلم على دينه، ثم قال: والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة -يعني: حبة قمح- إلا أن يأذن فيها رسول الله. وانظر إلى هذا الرجل حين أسلم؛ بدأ يُسخِّر كل طاقاته، وقدراته، وإمكاناته لدين ربه جل وعلا، يوم أن خلع على عتبة الإيمان رداء الشرك والكفر؛ وظَّف كل ما يملك لدين الله سبحانه وتعالى، ففرض حصاراً اقتصادياً -على سبيل التحقيق لا على سبيل المجاز- على مكة وأهلها. وفي رواية ابن إسحاق: (حتى اشتدت المجاعة بهم بالفعل) ؛ لأن القمح كان يصل إليهم من اليمامة، وهو سيد أهل اليمامة؛ فمنع كل حبة قمح تصل إلى مكة وأهلها، إلا بعد أن يأذن رسول الله. يقول ابن هشام في روايته: (حتى أكل أهل مكة العلهز) ما هو العلهز؟ العلهز صوف يشوى، ويضاف إليه بعض الأشياء، يؤكل في وقت المجاعات حين لا يوجد شيء، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنك تدعو إلى صلة الرحم، وتأمر بصلة الرحم، وأنت قد قطعت أرحامنا حينما أمرت ثمامة بن أثال؛ فاؤمر ثمامة بن أثال ألا يحول بيننا وبين الميرة؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة بن أثال وقال: خلِّ بينهم وبين الميرة. انظر كيف حول إحسان النبي صلى الله عليه وسلم البغض الكامن الدفين في قلب ثمامة إلى حب مشرق، فبالإحسان تأسر القلوب، وبالرفق وباللين تحول البغض إلى حب، وتحول الكراهية إلى قرب. فالعنف يهدم ولا يبني، والشدة إذا استخدمت في غير موضعها تفسد ولا تصلح، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) . انظر إلى إحسانه وأخلاقه الكريمة مع ثمامة، ما قال: اذبحوه، اقتلوه، اصلبوه، عذبوه، فهو هو، وإنما أمر الصحابة رضوان الله عليهم أن يحسنوا إليه؛ وتأثر هذا الرجل بالإحسان، وهذا هو شأن أهل الكرم في كل زمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 نبي الرحمة مع وهب بن عمير روى ابن إسحاق بسند جيد -وإن كان بعض أهل العلم قد ضعف السند من باب الأمانة العلمية- (أن عمير بن وهب جلس مع صفوان بن أمية بعد غزوة بدر في حجر إسماعيل في بيت الله الحرام، فتذاكرا ما كان في بدر، وتذكرا هزيمتهم المنكرة في بدر، فقال عمير لـ صفوان: والله لولا دين علي، وعيال عندي أخشى عليهم الضيعة بعدي؛ لركبت إلى محمد لأقتله؛ وكان ابن وهب بن عمير أسيراً في المدينة بعد غزوة بدر، فالتقطها صفوان وقال: دينك علي، وعيالك عيالي، أواسيهم بمالي، ولا أمنع شيئاً عنهم، واركب إلى محمد فاقتله، فقال له: فاكتم هذا الخبر، ولا تخبر به أحداً، وتعاهدا على ذلك، وعاد عمير بن وهب إلى بيته؛ فشحذ سيفه، وأغرقه في السم، وانطلق إلى المدينة ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما وصل إلى باب المسجد النبوي أناخ راحلته، وشد سيفه، وانطلق، فرآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو صاحب الفراسة وصاحب الفطنة والذكاء، فقال عمر رضي الله عنه: هذا عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشر؛ فلببه عمر بثيابه -خنقه-، وجره بثيابه حتى أوقفه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وظل عمر ممسكاً بمجامع ثوبه حتى قال النبي لـ عمر: أرسله يا عمر -اتركه- فوقف عمير بن وهب بين يدي الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ فقال له النبي: ما الذي جاء بك يا عمير؟ قال: ولدي أسير عندكم، وجئت إليكم لتحسنوا إلي في فدائه، فقال له النبي: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف؛ وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اصدقني يا عمير ما الذي جاء بك؟ قال: ما جئت إلا لهذا، فقال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: بل جلست مع صفوان في حجر إسماعيل، وذكرتما بدراً، وقلت لـ صفوان: لولا دين علي، وعيالٌ أخشى عليهم الضيعة بعدي؛ لركبت إلى محمد لأقتله. فقال لك صفوان: دينك علي، وعيالك عيالي، أواسيهم بمالي، ولا أمنع شيئاً عنهم، واركب إلى محمدٍ فاقتله، وتعاهدتما على الكتمان، فشحذت سيفك، وأغرقته في السم، وأتيت إلى هنا لتقتلني، لكن الله حائل بينك وبين ذلك، فقال: أشهد أنك رسول الله، والله لا يعلم بهذا الخبر أحد إلا أنا وصفوان؛ فأحمد الله الذي ساقني هذا المساق، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذوا أخاكم وعلموه القرآن ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ضرورة جعل أخلاقه صلى الله عليه وسلم منهج حياة مشاهد السيرة مشاهد رقراقة، وأنا لا أسوقها لمجرد الاستمتاع السلبي؛ لأنه يؤلمني جداً أن كثيراً من أحبابنا وإخواننا حينما يستمعون إلى مثل هذه النماذج الفريدة من أخلاق الحبيب يقول: يا سلام، كان يا مكان، على عهد النبي عليه الصلاة والسلام. قد استمعنا إلى قصة عنترة بن شداد أو إلى قصة الزير سالم أو إلى قصة أبي زيد الهلالي، وكأننا لسنا ملزمين بأن نحول هذه الأخلاق الراقية الرائعة في حياتنا إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة. حبر من أحبار اليهود، أي: عالم من علمائهم اسمه زيد بن سعنة، روى قوله الطبراني بسند رجاله ثقات، ذكر هذا الرجل أنهم يعرفون أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة، ويعرفون صفته؛ لأن التوراة بشرت برسول الله وذكرت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146] ، وكذا ذكر عبد الله بن سلام، حبر اليهود الأعظم، الذي أسلم حينما وصل النبي من مكة إلى المدينة مهاجراً، يقول عبد الله بن سلام: (فلما نظرت إلى وجه النبي عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب) ، وسأل النبي عليه الصلاة والسلام أسئلة غيبية -والحديث في الصحيحين- قال: (إن أجبتني عنها؛ عرفت أنك نبي؛ لأنه لا يعرف الجواب عنها إلا نبي، قال: سل! قال: ما هو أول طعام لأهل الجنة؟ وما هي أول علامات الساعة؟ ومتى ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ -يعني: متى يكون المولود ذكراً، ومتى يكون المولود أنثى؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن سلام: لقد أخبرني بالجواب جبريل آنفاً، أما أول طعام لأهل الجنة: فزيادة كبد الحوت، وأما أول علامات الساعة فنار تخرج من المشرق؛ لتطرد الناس إلى محشرهم، ثم ذكر متى ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه) ؛ وهذه المعلومة الأخيرة لم يعرفها العلم الحديث إلا في السنوات الماضية، وقد أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل مئات السنين عليه الصلاة والسلام، وصدق ربي إذ يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3-5] ، قال في الحديث: (إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة كان ذكراً بإذن الله، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل كانت أنثى بإذن الله) ، وفي لفظٍ: (إذا علا ماء الرجل ماء المرأة؛ أذكرا بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل؛ آنثا بإذن الله) . قال عبد الله بن سلام: (والله إني لأقر لمحمدٍ بالنبوة أكثر مما أقر لابني بالبنوة) ، عبارة عالية جداً: (والله إني لأقر لمحمد بالنبوة أكثر مما أقر لابني بالبنوة) ؛ لأن الذي شهد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو الله جل وعلا، وهو أصدق القائلين: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] ، لا أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 النبي عليه الصلاة والسلام يسبق حلمه غضبه زيد بن سعنة كان حبراً مثل عبد الله بن سلام، عرف أوصاف النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (والله ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد رأيته في محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنني لم أعرف من العلامات علامتين: الأولى: يسبق حلمه جهله، والثانية: لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً) يعني: حلمه أسبق، ولو جهل عليه ازداد بهذه الجهالة حلماً. قال: (فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الحجرات، ومعه علي بن أبي طالب، فاستوقفه رجل، فقال: يا رسول الله! إن قومي من بني فلان في قرية كذا قد دخلوا الإسلام، وقد وقع بهم شدة، وكنت قد وعدتهم إن دخلوا في الإسلام أن يأتيهم رزقهم رغداً، وأخشى اليوم أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا في الإسلام طمعاً، فإن رأيت أن تغيثهم بشيء من المال فعلت، وجزاك الله خيراً، فالتفت النبي عليه الصلاة والسلام إلى علي وكأنه يريد أن يسأله عن مال، فقال علي: والله ما بقي منه شيء يا رسول الله. قال زيد بن سعنة: فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا محمد! بعني تمراً معلوماً في حائط بني فلان إلى أجلٍ معلوم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسم حائط بني فلان، قال: قبلت، قال: فأعطيت النبي ثمانين مثقالاً من ذهب، فدفعها كلها إلى هذا الرجل، وقال: أغث به قومك، وانطلق. قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي على جنازة، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فجلس إلى جوار جدار في المدينة من شدة الحر، قال زيد بن سعنة: فانطلقت إليه وأنا مغضب، وأخذت النبي من مجامع ثوبه، وقلت له: أدِ ما عليك من حق يا محمد، فوالله ما علمتكم يا بني عبد المطلب إلا مطلاً يعني: في سداد الحق، تصور هذا المشهد وسط الصحابة! فانقض عمر رضوان الله عليه، وقال: يا عدو الله! تقول هذا لرسول الله، وتفعل به ما أرى؟! والله لولا أني أخشى غضبه لضربت رأسك بسيفي هذا، فماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: يا عمر! والله لقد كان من الواجب عليك أن تأمرني بأداء الحق، وأن تأمره بحسن الطلب، خذه يا عمر فأعطه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمرٍ جزاء ما روعته، فأخذه عمر رضوان الله عليه فأعطاه حقه وزاده عشرين صاعاً من تمر؛ فقال له زيد بن سعنة: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله أن أدفعها لك جزاء ما روعتك، قال له: ألا تعرفني يا عمر؟ قال: لا أعرفك، قال: أنا زيد بن سعنة، قال: حبر اليهود؟ قال: نعم، قال: وما الذي حملك أن تفعل برسول الله ما فعلت، وأن تقول له ما قلت؟ قال: يا عمر لقد نظرت في علامات النبوة؛ فوجدت كل العلامات فيه، لكنني أردت أن أختبر فيه هاتين العلامتين: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهالة عليه إلا حلماً، وهأنذا قد جربتهما اليوم فيه؛ فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصدق بشطر ماله للفقراء والمساكين، وجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد معه معظم الغزوات، وقتل شهيداً مقبلاً غير مدبر في غزوة تبوك) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 أعظم خدمة للإسلام هي العمل بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام مداخلة: في هذا الوقت نرى صراع الإسلام والغرب، وعرفنا أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ما أكثر الذين هجروا خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، وهجروا الغاية التي من أجلها بعث، فيجب علينا إذا كنا نريد أن نقول للعالم شيئاً، وننشر الإسلام، ونظهر صورة الإسلام على حقيقتها؛ أن نتمثل أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن ننشرها. الشيخ: أنا دائماً أقول لإخواني: إن أعظم خدمةٍ نقدمها اليوم للإسلام؛ هي أن نشهد للإسلام على أرض الواقع شهادة عمليةً بأخلاقنا وسلوكنا، بعدما شهدنا له جميعاً بألسنتنا شهادة قولية، فيجب علينا -أيها الأفاضل- أن نرجع إلى خلق الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ لنحوله في حياتنا إلى واقع عملي، ومنهج حياة. فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 سلسلة إيمانية - أسلوب النبي في الدعوة لقد اجتمع في النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الصفات الخَلقية والخُلقية التي لم يؤتها الله عز وجل عبداً من عباده غيره، وجماع أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن الذي أنزله الله عليه، وجميع الناس وخاصة العلماء والدعاة إلى الله بحاجة إلى أن يستقوا من رحيق خلقه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الناس وحكمته في الدعوة إلى الله، فإن منهجه في الدعوة هو المنهج الذي يجب اتباعه وعدم مخالفته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 صفة النبي الخَلقية والخُلقية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته أيها الإخوة الكرام، وأيتها الأخوات الفاضلات! وأسأل الله عز وجل الذي جمعني بكم جميعاً في هذه اللحظات الطيبة على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة، وإمام النبيين، وسيد المرسلين، في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. لقد أحسن الله عز وجل لنبينا صلى الله عليه وسلم الخَلْق والخُلُق، بل وأكمل له المحاسن خَلْقاً وخُلُقاً. فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكرت قبل ذلك- عجيبة من عجائب الكون، وآية من آيات الله تبارك وتعالى، كان أحسن الناس وجهاً، وكان إذا سر وسعد استنار وجهه كأنه فلقة قمر! بل كان صلى الله عليه وسلم إذا غضب يحمر وجهه، حتى تشعر وكأنك قد فقأت في وجهه حب الرمان، صلى الله عليه وسلم. كان أبيض مليحاً كأنما صيغ من فضه، كانت لحية الحبيب صلى الله عليه وسلم تملأ صدره، كان كث اللحية، وكان واسع الصدر عظيم المنكبين، وكان صلى الله عليه وسلم إذا تكلم كأن النور يخرج من بين ثناياه صلى الله عليه وسلم. يقول علي رضوان الله عليه، وهو الذي تربى في حجره: (والله لم أر قبله ولا بعده أحسن منه) ، عليه الصلاة والسلام، وانظر إلى ما يقول سيدنا البراء بن عازب، والحديث في الصحيحين: (ما رأيت من ذي لمة -اللمة: بكسر اللام وتشديد الميم، هو الشعر الذي يجاوز شحمة الأذنين- في حُلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، ويقول أبو هريرة رضوان الله عليه -والحديث في مسند أحمد وسنن الترمذي بسند صحيح -: (والله ما رأيت أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه) أتمنى أن نعيش في هذه اللحظات مع النبي عليه الصلاة والسلام، وفي لفظ: (إذا نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن الشمس طالعة) ، الله! وانظر إلى التعبير الجميل، والوصف البديع الذي يصف به سيدنا أنس خادم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصفه وصف محب لحبيبه، والحديث في الصحيحين، ماذا قال؟ قال: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين -أي: أنه كان مع النبي عليه الصلاة والسلام ليلاً ونهار، إلا في الأوقات الخاصة به عليه الصلاة والسلام- فما قال لي: أف قط، وما قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ وما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله، وما شممت مسكاً ولا عنبراً أطيب من ريح رسول الله) ، بأبي هو وأمي وروحي! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 كان عرق النبي صلى الله عليه وسلم أطيب من المسك نعم كان عرق الحبيب صلى الله عليه وسلم أطيب من المسك، روى مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده وغيرهم: (عن أم سليم رضوان الله عليها أن النبي عليه الصلاة والسلام كان عندها في وقت الظهيرة يوماً، وكان الجو شديد الحر، فعرق رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فجاءت أم سليم رضي الله عنها بقارورة (زجاجة) ، لتسلت العرق في هذه الزجاجة، فاستيقظ النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: ما تصنعين يا أم سليم؟! قالت: عرقك أطيب طيبنا يا رسول الله!) . وتعال انظر إلى أم معبد رضوان الله عليها، التي شرفت وكرمت بأن دخل الحبيب صلى الله عليه وسلم خيمتها يوم الهجرة، وهي لا تعرف رسول الله عليه الصلاة والسلام، ودخل الخيمة، وكانت لا تملك شيئاً إلا الشاة التي كانت لا تحمل لبناً؛ لأنه لم ينز عليها الفحل بعد، ولما سألها الصديق رضوان الله عليه هل من طعام أو شراب؟ قالت: والله! لا أملك إلا هذه الشاة التي لم يسر اللبن في ضرعها بعد، ومسح النبي صلى الله عليه وسلم على ظهر هذه الشاة، وسال اللبن، وتحرك الضرع بهذا اللبن الغزير الوفير؛ فتعجبت هذه المرأة من هذه البركات التي حلت عليها وعلى خيمتها!! من هذه الإشراقات والأنوار الربانية التي حلت بدخول سيد البشرية في خيمتها!! فلما انصرف النبي عليه الصلاة والسلام ورجع زوجها؛ وجد أن الأمر فيه شيء، وأن الوضع متغير. يا أخي! لو دخل مصعب بن عمير رضوان الله عليه شارعاً من الشوارع وطريقاً من الطرقات، كان أهل الطريق يعرفون أن مصعبا قد دخله لطيبه وريحه، فما ظنك بطيب الطيب صلى الله عليه وسلم!! ونحن قد قلنا: إن عرقه أطيب من الطيب عليه الصلاة والسلام، فلما عاد زوج أم معبد سألها، فقصت عليه، قال: لعله الرجل الذي خرج في مكة -وهو لا يعرفه- صفيه لي يا أم معبد! وانظر إلى المرأة العربية البدوية، تصف الحبيب صلى الله عليه وسلم وصفاً عجيباً، فتقول ببساطة: (رجل ظاهر الوضاءة، مليح الوجه، حسن الخلق، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم علاه البهاء -عليه الصلاة والسلام- أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً) تعبير عجيب؛ غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً! قال الشاعر: أغر عليه للنبوة خاتم من نور يلوح ويشهدُ وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهدُ وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمدُ صلى الله عليه وسلم. لا أريد أن أطيل النفس في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنحتاج إلى لقاءات ولقاءات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 رحمة النبي صلى الله عليه وسلم مداخلة: نحن مشتاقون في الحقيقة إلى الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الزمان قد أصبح العالم فيه مادياً وقاسياً وظالماً، ونحن محتاجون إلى الرحمة، فكلنا محتاجون إليها، فليتك تكلمنا عن رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم!! الشيخ: صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام رحمة لكل العالمين، وليس كما يفهم البعض من أنه صلى الله عليه وسلم كان رحمة للمسلمين فحسب، كلّا، هو رحمة للمسلمين ولغير المسلمين، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: (رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للفاجر والبار) ، ما هذا؟ رحمة للبار؟ نعم. مقبول، لكن النبي عليه الصلاة والسلام رحمة للفجار للكفار؟! لماذا؟ لأنه بمجرد أن بعثه ربه تبارك وتعالى، وعده بألا يعذب القوم ما دام رسول الله فيهم، قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] . فمن آمن به تبارك وتعالى فقد اكتملت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن كفر به رحم في الدنيا، ونجا من عذاب الدنيا، وبعد ذلك يعاقبه أو يحاسبه ربه بما شاء وكيف شاء في الآخرة. ومن ثم كان الحبيب صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين: للفجار للكفار للأبرار الموحدين والمؤمنين المصدقين به صلى الله عليه وسلم. فرسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه ربه عز وجل رحمة، ولذلك قال سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا رحمة مهداة ... ) الحديث، وإن كان قد روي مرسلاً، إلا أن الحاكم قد رواه موصولاً بسند صحيح، وأقر الحاكم الذهبي وغيره. وفي صحيح مسلم: (قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: ادع الله على المشركين! فقال: إني لم أبعث لعاناً، إنما بعثت رحمة مهداة) ، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. انظر إلى رحمته بالأمة عليه الصلاة والسلام: النبي عليه الصلاة والسلام جلس يوماً فقرأ قول الله تبارك وتعالى في سورة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36] ، انظر إلى كلام سيدنا الخليل، هذا كلام إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، يقول: (رب إنهن أضللن كثيراً من الناس) ، يعني: الأصنام والآلهة المكذوبة المدعاة، (فمن تبعني فإنه مني، ومن عصاني) لم يقل: فانتقم منه فأهلكه، بل قال: (فإنك غفور رحيم) . (فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية في حق خليل الله إبراهيم، وقرأ قول الله في عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] ، بكى، فقال الله عز وجل لجبريل عليه السلام: يا جبريل! انزل إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- فسله: ما الذي يبكيك؟ فنزل جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله: ما الذي يبكيك؟! فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: أمتي! أمتي! يا جبريل، أمتي! أمتي! يا جبريل، فصعد جبريل إلى الملك الجليل، فقال: يبكي على أمته -وهو أعلم جل جلاله- فقال الله تبارك وتعالى لجبريل: انزل وقل لمحمد -صلى الله عليه وسلم-: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) . فوالله ما كرمت هذه الأمة إلَّا لكرامة الله للمصطفى. قال الشاعر: ومما زادني فخراً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا (انزل إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) ولذلك روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة مستجابة) ، أي: كل نبي له دعوة، وعده الله تبارك وتعالى أن يستجيبها، (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته إلا أنا، فإني قد اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئاً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 صفة النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب السماوية السابقة لقي عطاء بن يسار -كما في صحيح مسلم- عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقال له: (أخبرني بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة) ؛ لأن عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام بشر بنبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وكذلك نبي الله موسى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6] . فـ عبد الله بن عمرو رضوان الله عليه يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفس صفته التي وردت في التوراة: كتاب موسى، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، فقال عطاء بن يسار: (صف لي رسول الله بصفته التي وصف بها في التوراة، فقال عبد الله بن عمرو: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، بل يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، فيقول: لا إله إلا الله، حتى يفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 كان خلقه القرآن كان النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً متحركاً في دنيا الناس كما قالت الفقيهة الحَصان الرزان الصديقة بنت الصديق عائشة رضوان الله عليها وهي تصف الحبيب صلى الله عليه وسلم هذا الوصف البليغ العجيب حين قالت: (كان خلقه القرآن) . نعم، لقد كان الحبيب قرآناً متحركاً بين الناس، وهذا هو السر الحقيقي الذي جعل القلوب تتعلق به، وتشتاق إليه، وتهفو إليه، وتحن إليه، بل وتحترمه مع أنها قلوب أعدائه، فقلوب الأعداء أجلته وأحبته وأكرمته، لماذا؟ لأنه كان قرآناً متحركاً بين الناس، كان إذا أمر فهو أول من يأتمر، وكان إذا نهى فهو أول من ينتهي، وكان إذا حد فهو أول من يقف عند حدود الله تبارك وتعالى. لما أمر بالعبادة قام متعبداً خاشعاً خاضعاً بين يدي الله حتى تورمت قدماه، فلما سئل عن ذلك قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً؟!) . ولما أمر بالبذل؛ أنفق كل ما يملك، حتى جاءه رجل ليسأله الصدقة؛ فأعطاه الحبيب غنماً بين جبلين، فعاد هذا الرجل إلى قومه ليقول: (يا قوم! أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر) . أمرهم بالجهاد وبذل النفس؛ فكان في مقدمة الصفوف، لا يجبن ولا يتأخر، بل كان إذا اشتد الوطيس وحميت المعارك، وفر الشجعان، وصمتت الألسنة الطويلة، وخطبت السيوف والرماح على منابر الرقاب؛ قام الحبيب ينادي بأعلى صوته ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) صلى الله عليه وسلم. من هنا تعلقت به القلوب؛ لأنه كان قرآناً متحركاً في دنيا الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة مداخلة: طيب، كلنا نرى الناس هذا الوقت فيهم بعض القسوة، والدعوة لهذا فن وخلق وأسلوب، فليتك تكلمنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلقه في الدعوة. الشيخ: ما شاء الله، جميل، أود في البداية أن أقول: ليس كل من ينشغل بالدعوة إلى الله عز وجل يتصف بمثل ما تفضلت به، ولكنني أتفق مع حضرتك تماماً في أن بعض إخواننا ممن يتحركون لدين الله ولدعوة الله لا يعرفون شيئاً عن خلق صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، في كيفية وفن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى. نعم أخي الحبيب، وجزاك الله خيراً؛ لأننا في أمس الحاجة الآن إلى أن يتربى شبابنا، وإلى أن يتعلم دعاتنا من سيد الدعاة، وإمام التقاة، وسيد النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم. أيها الأفاضل! إننا لا نتعامل في دنيا البشر مع ملائكة بررة، ولا مع شياطين مردة، ولا مع أحجار صلدة، إنما نتعامل مع بشر، وفيهم الخير والشر فيهم الحلال والحرام فيهم الحق والباطل فيهم الإقدام والإحجام فيهم الطاعة والمعصية. فيجب علينا أن نعلم يقيناً أن لهذه النفوس البشرية مفاتيح محددة، يجب علينا أن نمسك بها؛ حتى نستطيع أن نسبر أعماق هذه النفوس البشرية؛ لنصل إليها من أقصر طريق، وأفضل وأقصر طريق لنصل من خلاله إلى قلوب الناس هو طريق محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ينطلق من منطلقات ثابتة حددها له ربه تبارك وتعالى، إن المنهج الدعوي منهج توقيفي، ليس برغبتك ولا برغبتي، منهج الدعوة إلى الله عز وجل منهج توقيفي له ضوابط، وله أصول. صحيح قد تختلف وسيلة الدعوة من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان؛ قد تختلف من دعوة إلى الله بالأشرطة بالكتيبات بأي وسيلة من الوسائل، لكن المنهج توقيفي، لا يجوز لأي داعية -أياً كان- أن يختار لنفسه المنهج الذي يريد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 قصة: صلِّ يا حمار! والله الذي لا إله غيره، لقد رأيت -وأنا في طريقي إلى مسجد من المساجد- رجلين التقى كل منهما بالآخر، ويبدو أن أحدهما كان على سفر، فتعانقا وتصافحا في ساحة المسجد، في المكان الذي يتوضأ فيه الناس. فقد دخل الرجلان بيت الله للصلاة، وبعد ذلك وقفا وتكلما: كيف الحال؟ وأنت فعلت ماذا وطال الوقوف، وإذ بأحد الإخوة أراد أن يذكر الرجلين بالدخول إلى المسجد حينما سمع المؤذن يقيم الصلاة، فوجدت هذا الرجل، ودخلت بقدر الله في هذا التوقيت، وإذ بهذا الأخ يقول للرجلين: صلّ يا حمار أنت وهو؛ فاقتربت منه، وأسكته آخذاً بكتفه وقلت له: لن يصليا، قال: كيف يا شيخ؟ قلت: لن يصليا يا أخي، قال: كيف لن يصليا؟ قلت له: هل فرض ربنا الصلاة على الحمير؟! الحمير لا تصلي؛ فاستحيا، قال: معذرة، قلت: اعتذر لهما يا أخي، لا تعتذر لي!! هذه ليست طريقة دعوة إطلاقاً، نحن بذلك نخسر! أهل الباطل يتفننون في جذب القلوب إلى باطلهم، فيجب على أهل الحق أن يوصلوا الحق الذي معهم إلى القلوب بالحق بالحكمة بالرحمة بالتواضع بالأدب؛ هذه أخلاق سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم. الزم هذا المفتاح تدخل به إلى البشرية! مداخلة: معناه أن النفس البشرية مختلفة. الشيخ: نعم، مختلفة، وهل تعرف ما المفتاح؟ حكمة، رحمة، تواضع، أدب، لا ينبغي على الإطلاق أن أخاطبك ولسان حالي يقول: أنا التقي وأنت الشقي، أنا الطائع وأنت المذنب، أنا المطيع وأنت العاصي، أنا العالم وأنت الجاهل! لا، {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] ، تذكر: إن كنت عالماً فمن الذي علمك؟ {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 قصة الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد هيا بنا نرجع لصاحب المنهج، لخلق الحبيب صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، بالله عليك ماذا نفعل الآن لو دخل علينا رجل مسجدنا الذي نصلي فيه، وعلى مرأى ومسمع من الحضور قام هذا الرجل في جانب من جوانب المسجد، وتبوَّل -أعزكم الله-؟!! مداخلة: سنقوم عليه كلنا. الشيخ: أنا أتصور أنه لن يخرج من المسجد إلا محمولاً على نقَّالة، بل والله يا أخي أنا لا أبالغ إن قلت لك: لو فعل هذه الفعلة طفل لضرب! لكن انظر إلى خلق الحبيب انظر إلى المنهج الدعوي، رجل أعرابي ليس له في (الأتيكيت) ولا يفهم في هذه المسائل، أراد أن يبول، وهو في المسجد النبوي، ولاحظ: أن المسجد ما كان خالياً، فسيدنا النبي موجود فيه وجالس مع أصحابه. فقام هذا الأعرابي في طائفة -جانب من جوانب- المسجد، ووقف ليتبول، فقال الصحابة: مه! مه! ماذا تفعل؟ فيرد عليهم صاحب الخلق، والرحمة المهداة، الذي قال الله في حقه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ، يقول لهم: (دعوه لا تزرموه) يا ألله (لا تزرموه) يعني: لا تقطعوا عليه بولته، دعوه يكمل تبوله، الله أكبر! وتبول الرجل، ورسول الله جالس، وإذ بصاحب الخلق الكريم ينادي عليه بعدما انتهى: تعال، لكن هل شتمه، نهره، ضربه، جرح مشاعره؟ لا والله: فهل استهزأ به، سخر منه، تهكم عليه؟ لا والله! فانظر ماذا قال صلى الله عليه وسلم. قال: (إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا) ، اسمعوا كيف الأدب؟! كيف التواضع والرحمة والحكمة والخلق؟ (إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا، إنما جعلت للصلاة، ولذكر الله، ولقراءة القرآن) . وأمر النبي صحابياً من أصحابه، فأتى بدلو من الماء وصبه النبي صلى الله عليه وسلم على الموضع الذي تبول فيه هذا الأعرابي؛ فأزال النجاسة بالماء الطاهر، وانتهت القضية. أريد من حضرتك أن تتصور حجم الأذى والضرر لو أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصحابة يوقفون هذا الأعرابي، فلو تركهم لفزع الأعرابي وقام؛ ونجس جلَّ المسجد، ولربما تعرض لشيء من الضرر والأذى، لكنه صلى الله عليه وسلم بحلمه ورفقه وأدبه وحكمته ورحمته وتواضعه قال: (لا تزرموه) ؛ فتركز البول في موطن واحد، فكان من اليسير أن يطهر هذا المكان. وهذا في رواية صحيح البخاري، والحديث في الصحيحين، وجاءت رواية أخرى في كتاب الأدب في صحيح البخاري، أن هذا الأعرابي تأثر بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، وبهذا الحلم والرفق، فأول ما دخل الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يدعو الله عز وجل، فقال: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً) . تأثر بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً) . طيب! فهل تركه رسول الله؟ لا، علمه درساً آخر وبأدب -يعلمه ثانية وثالثة- فماذا قال له عليه الصلاة والسلام؟ (لقد تحجرت واسعاً!) أنت تضيق ما وسعه ربنا، لماذا؟ ربنا يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] ، لماذا تضيق رحمة الله عز وجل؟! لماذا تقصر الرحمة على النبي صلى الله عليه وسلم وعليك؟! (لقد تحجرت واسعاً) أي: ضيقت ما وسع الله تبارك وتعالى. انظر إلى هذا الخلق! هذه دروس عظيمة نستطيع أن نخرج بها من هذا الحديث الواحد!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 قصة الذي تكلم أثناء الصلاة روى مسلم في صحيحه أن رجلاً من الصحابة يقال له: معاوية بن الحكم السلمي رضوان الله عليه، هذا الصحابي دخل الصلاة يوماً خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الصحابي لم يعلم بعد أن حكم الكلام في الصلاة قد نسخ؛ لأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة في أول الأمر، ولم يعلم هذا الصحابي بحكم النسخ، وليس في ذلك من حرج ولا إثم، فبعض الصحابة رضوان الله عليهم كان لا يبلغه الدليل في المسألة أو في كثير من المسائل. فلما دخل هذا الصحابي الجليل معاوية بن الحكم السلمي الصلاة، وعطس رجل من القوم في الصلاة، فقال له معاوية: يرحمك الله وهو يصلي، ولم يردوا عليه؛ لأنهم تعلموا أن قضية الكلام بغير ما ثبت عن النبي في الصلاة قد نسخ. فماذا قال سيدنا معاوية قال: (فرماني القوم بأبصارهم) نظروا إليه وهو يصلي، فقال: (واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟!) ، أي: لماذا تنظرون إليَّ هكذا؟! قال: (فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم يصمتونني -يعني: يريدون أن يسكتوني- قال: فسكت) -انظر ماذا يقول- يقول: (فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، فبأبي هو وأمي، والله ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن منه صلى الله عليه وسلم، والله ما كهرني -يعني: لم ينهرني- ولا ضربني ولا شتمني وإنما قال لي: إن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) ، انتهت القضية وانتهت المشكلة! فأتمنى من أحبابنا وإخواننا ممن شرفهم الله جل وعلا بالسير على طريق النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحركوا لدعوة الناس، نعم. تحرك؛ لأنه لا يصلح أن نجلس في مساجدنا وفي مكاتبنا وبيوتنا، ونصدر الأحكام على الناس بالتكفير والتفسيق والتبديع والتضليل، فهذا لن يغير من الواقع شيئاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 أصول المنهج الدعوي لكن يجب علينا أن نتحرك كما تحرك سيد الدعاة، وإمام النبيين وسيد المرسلين، يجب علينا أن نتحرك بين الناس لنبدد جهلهم، ولنحول الشرك إلى توحيد، والمعصية إلى طاعة، والجهل إلى علم، والفجور إلى تقوى، والشر إلى الخير، والباطل إلى الحق، والحرام إلى حلال، ولكن بالحكمة و الرحمة . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 الرحمة انظر ماذا يقول رب العزة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] . (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي: هذه رحمة أودعها الله قلبك، (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) لو كان معي حق وكلمتك بقسوة فستقول لي: لا أريدك يا أخي، ولا أريد الحق الذي معك، فرب العزة يقول لسيدنا النبي: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ، نعم، لانفضوا من حولك {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 الحكمة فهذه هي الأصول الدعوية للمنهج، وقال الله عز وجل لسيد الدعاة صلى الله عليه وسلم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] ، فلو سألنا سائل: ما هي هذه الحكمة، فالحكمة يدعيها كل أحد؟ فنقول: يقول ابن القيم رحمه الله في تعريفها: الحكمة هي: قول ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي. وفي لفظ: فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي- على الوجه الذي ينبغي) ، وقال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] ، فالحكمة: هي فعل ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، وأركانها: العلم والحلم والأناة -عدم العجلة- وآفاتها وأضدادها ومعاول هدمها: الطيش والعجلة والجهل. فالحكمة نعمة، ومن أعظم عطاءات الله لمن تحرك في الدعوة إلى الله، فيجب أن نتحلى بها، فرب العزة يقول لسيد الدعاة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] ، (ادع) فعل أمر، متى تشتد، متى تلين، متى ترفع صوتك، متى تخفض صوتك، متى يعبس وجهك، متى تبتسم، لا بد أن تعطي لكل موقف ما يحتاج إليه، وهذا كله لا يتأتي إلا بالعلم، والعودة إلى منهج سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم للتعرف عليه، لا من أجل الثقافة الذهنية الباردة، ولا من أجل الاستمتاع السالب، فكثير من أحبابنا وأخواتنا الآن عندما يستمعون لخلق النبي العظيم عليه الصلاة والسلام يقول: ياسلام! ياسلام؟ وبعد ذلك نخرج. كان يا ما كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، كأننا نحكي قصة أبي زيد الهلالي مثلاً، لهذا يجب علينا أن نحوله في حياتنا إلى واقع إلى منهج إلى عمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 الموعظة والجدال بالتي هي أحسن كل من سار على طريق الدعوة إلى الله يجب عليه أن يتحلى بخلق سيد الدعاة، فرب العزة يأمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] ، ياسلام! هي الموعظة في ذاتها بليغة، فهي تعظ وتذكر، لكن ليست أي موعظة، لابد أن تكون حسنة. طيب عندما نتعرض لموقف في الجدال فلا بد أن تجادل بالتي هي أحسن: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] . ويأمر الله جل وعلا نبيين كريمين عظيمين، ألا وهما: نبي الله موسى، ونبي الله هارون على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، رب العزة يأمر موسى وهارون أن يذهبا إلى أكبر أهل الأرض في زمانه إلى فرعون، لماذا؟ للدعوة. عجيب! لدعوة فرعون؟! وهو الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، وهو الذي يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ، فهذا لا يحتاج إلى حكمة ولا يحتاج إلى لين، هذا يحتاج إلى عنف ويحتاج إلى قسوة، هذا أكفر الناس في الأرض، ولكن تنبه! فأنت في مقام دعوة، وأريد أن أقول لإخواننا وأحبابنا وشبابنا: لا بد أن نفرق بين مقام الدعوة ومقام الجهاد؛ لأن الخلط بينهما خطر. مقام الدعوة ولو كانت لمشرك كافر يجب أن تكون بالحكمة واللين، أما مقام الجهاد فهو القوة والرجولة والغلظة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] ، لكن الدعوة ولو كانت لفرعون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] ، انظر إلى الأمر (اذهبا) . {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لينًا} سبحان الله! قولاً ليناً لفرعون! {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43-46] ، جل وعلا. سيدنا قتادة رضوان الله عليه لما قرأ هذه الآية الكريمة قال: (سبحانك ربي ما أحلمك! تأمر موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولاً ليناً، إن كان هذا هو حلمك بفرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، فكيف يكون حلمك بعبد قال: سبحان ربي الأعلى!) انظر إلى الفهم! هذه رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله، وهذا خلقه وهذا منهجه، فما أحوجنا أن نرجع إليه وأن نفيء إليه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 سلسلة إيمانية - النبي وتكريم المرأة لم يراع دين أو نظام كرامة المرأة مثل الإسلام، فقد أعزها بعد أن كانت ذليلة، وأكرمها بعد أن كانت مهانة، ونعق الغرب -كما هي عادته- في ديار الإسلام بتحرير المرأة، وهو في الحقيقة يريد سلخها من الدين والقيم والعفة، حتى تنساق وراء شهواتهم وما يريدون، فهم في الحقيقية لا يريدون لها الخير ولا السلامة، إنما يريدون لها أن تكون دمية بأيديهم يقلبونها كما يريدون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 تكريم المرأة في الإسلام الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد: فحيا الله إخواني وأخواتي، وأسأل الله عز وجل الذي جمعني بكم على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته؛ إنه وليُّ ذلك ومولاه. أيها الأحباب! إننا نشهد اليوم هجوماً شرساً من أعداء الله على الإسلام، لا على الفرعيات والجزئيات، بل على الثوابت والأصول والكليات، ويعلنون حرباً شرسة على المرأة بدعوى أن الإسلام قد ظلمها، وهم يدعونها الآن إلى التحرر من ضوابط وقيود الإسلام، فالزوج سجان قاتل -هكذا يزعمون- والأمومة تكاثر حيواني، والبيت سجن مؤبد، والإسلام قيد حركة المرأة إلى آخر هذه الدعاوى. ومن خلال هذا المنطلق فأنت ترى الآن حرباً على الإسلام؛ لأنه ظلم المرأة، ومن ثمَّ ترى دعوات بعد دعوات؛ لتتحرر المرأة ولتتفلت من هذه الضوابط، ومن هذا الدين بالكلية، فأرجو من أختي المسلمة الفاضلة أن ترجع سريعاً إلى التاريخ- وما زالت صفحات التاريخ مفتوحة-؛ لتقرأ سريعاً تاريخ المرأة عند اليهود، وتاريخ المرأة عند الهنود والإغريق، والرومان، بل لتقرأ تاريخ المرأة في الجاهلية عند العرب أصحاب الشهامة والرجولة قبل الإسلام، وستعلم يقيناً أن المرأة كانت مهانة، بل وستعلم أن العرب -أصحاب المروءة كان بعضهم يقتلها ويدفنها وهي حية خشية الفقر والعار، قال الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8-9] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 أدلة تكريم المرأة لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليرفع قدر المرأة، وليعلي شأنها، وليجعلها في مكانتها التي تليق بها، فهي درة مصونة، ولؤلؤة مكنونة، بل جعلها صنو الرجل، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما النساء شقائق الرجال) ، بل وستعجب أن الله تبارك وتعالى قد خص النساء بسورة كاملة من كبار سور القرآن سماها باسم النساء، بل وفي أعظم المحافل التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عرفات في هذا اليوم العظيم المهيب الكريم يتكلم النبي عليه الصلاة والسلام عن حرمة الدماء، ويتكلم عن حرمة المال والعرض، وفي هذا اليوم وفي هذا الموقف المهيب الجليل، ولم ينس أبداً أن يبين قدر المرأة ومكانتها، كما في مسلم من حديث جابر بن عبد الله -وهو حديث طويل- وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) . بل ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بتكريم المرأة في هذا السن، بل كرّمها بنتاً صغيرة، وكرمها زوجة، وكرمها أماً؛ وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي أو صحبتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك) ، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم حق الأم على حق الوالد، وكرمها صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، بل ولم يكتف النبي بتكريم المرأة أماً، وإنما كرمها زوجة فقال: (اتقوا الله في النساء) ، وقال: (استوصوا بالنساء خيراً) ، وقال: (إنما النساء شقائق الرجال) ، وقال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) . ولم يكتف الحبيب صلى الله عليه وسلم بتكريم المرأة زوجة، وإنما كرمها بنتاً صغيرة، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت علي امرأة ومعها ابنتان لها تسألني الصدقة، فلم تجد عندي إلا تمرة واحدة -ومع ذلك لم تبخل بهذه التمرة الواحدة على السائلة وابنتيها- فأعطيتها التمرة، فقسمت الأم التمرة بين ابنتيها، ولم تأكل منها شيئاً -فتأثرت عائشة رضوان الله عليها بهذا المشهد الحنون الرقراق- فلما خرجت المرأة مع ابنتيها ودخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة! قصت عليه ما رأت، فقال: يا عائشة! من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار) . وقد يقول أحدنا: لماذا قال النبي: (من ابتلي) ؟ يقول علماء الأصول: خرجت هذه اللفظة النبوية مخرج الغالب؛ لأن غالب الناس في ذاك الزمان كانوا يعتبرون البنات ابتلاءً، فخرجت اللفظة النبوية مخرج الغالب، ولذا قال: (من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار) ، وفي رواية مسلم وسنن الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من عال جاريتين حتى تبلغا -أي: من ربى ابنتين حتى تبلغا، ولا شك أن التربية التي يبلغ بها صاحبها هذه الدرجة تكون على منهج المصطفى صلى الله عليه وسلم- كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بالسبابة والوسطى) . فانظر أيها الفاضل! يا من تتألم لأن الله رزقك بالبنات، انظر إلى هذه الدرجة وإلى هذه المكانة، فأنت رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة كالسبابة والوسطى إن أحسنت تربية ابنتيك، فما ظنك لو رزق الله أحد أحبابنا وإخواننا بثلاث بنات أو بأربع أو بخمس وأحسن تربيتهن على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله، وعلى الفضيلة والعفة والحياء والمروءة والشرف؟! إذاً: فهو رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 هوان المرأة في بلاد الغرب وهنا وقفة مع الغرب الذي يدعي الآن أنه كرم المرأة، فانظر إلى المرأة في بلاد الغرب- وأنا أخاطب كل منصف وكل منصفة- وسترى المرأة في بلاد الغرب مهانة، يتسلى ويستمتع بها وهي جميلة حسناء، ثم ترمى بعد ذلك في دور العجائز والمسنين. ولقد رأيت ذلك بعيني عندما كنت في زيارة للمجر، ودعاني الإخوة لإلقاء خطبة الجمعة في قاعة استأجروها بالمال في (بودباست) ، وأنا في الطريق إلى القاعة قبل الجمعة بساعات رأيت امرأة مجرية تجاوزت السبعين من عمرها تلاعب كلبها، ولم يلفت نظري مثل هذا؛ لأن هذا أمر متكرر! لكن الذي لفت نظري أنني دخلت وخطبت الجمعة، وألقيت درساً، وتناولت الغداء مع إخواني، وأجبت على أسئلتهم، ومكثت ما يزيد على خمس ساعات، فلما خرجت رأيت نفس المرأة جالسة تلاعب كلبها، فتعجبت وقلت للأخ المترجم معي: أريد أن أتحدث مع هذه المرأة قليلاً، وقلت له: اسألها منذ متى وهي تلاعب كلبها؟ قالت: منذ سبع ساعات. قلت: اسألها أليست عندها أسرة؟ فضحكت، وقالت: لقد تركني أولادي منذ سنوات طويلة، وأنت تعلم أن الابن والبنت بعد سن السادسة عشرة في هذه الأسر يخرج، وقالت: تركني أولادي منذ سنوات طويلة، ومات زوجي. قلت: اسألها: لماذا تعيش؟ قالت: من أجل أن ألاعب الكلب! انظر إلى الغاية! من أجل أن تلاعب الكلب وأن تستمتع بجمال الطبيعة، فقلت: اسألها: أين أولادها؟ قالت: خرجوا، قلت: ألا يأتي الأولاد لزيارتك؟ قالت: يأتون في كل عام مرة، فيما يسمونه احتفالات عيد الميلاد. قلت: فهل أتى أولادك إليك في هذا العام؟ قالت: لا، انشغلوا بأعمالهم واتصلوا عليَّ بالتلفون. قلت: صلى الله على محمد وعلى آله الذي بين لنا أن المرأة ما كرمت إلا في دينه، وما رفع قدرها إلا في الإسلام. وقد تتصور أخت فاضلة أن الله فرض عليها الحجاب للتشكيك في أخلاقها، أو أن الله حرم عليها الخلوة بالرجال الأجانب؛ لأننا لا نثق في عفتها، وهذا فهم مقلوب. وأنا أسأل وأقول: لو أنك امتلكت أيها الفاضلة جوهرة ولؤلؤة، ففي أيِّ مكان ستضعين هذه الجوهرة واللؤلؤة؟ لا شك أن الأخت الفاضلة عن آمن أماكن البيت، وربما تلف هذه الجوهرة واللؤلؤة بقطعة من الحرير، ويليها قطعة من الحرير، وتضع هذه اللؤلؤة بعد ذلك في آمن الأماكن في البيت. وأقول: أنتِ عندنا أغلى من اللؤلؤة، وأنت عندنا أغلى من الجواهر. يا درة حفظت بالأمس غالية واليوم يبغونها للهو واللعب يا حرة قد أرادوا جعلها أمة غربية العقل غريبة النسب هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب فلا تبالي بما يلقون من شبه وعندك الشرع إن تدعيه يستجب هما سبيلان يا أختاه ما لهما من ثالث فاكسبي خيراً أو اكتسبي سبيل ربك والقرآن منهجه نور من الله لم يحجب ولم يغب وكنت في إحدى الزيارات في ألمانيا، فجاءت أخت ألمانية لتعلن إسلامها، فقلت: قبل أن تعلني الشهادة أيتها الفاضلة! أود أن أسألك: ما سبب إسلامك، وحالنا -نحن المسلمين- لا يسر عدواً ولا حبيباً؟ فردت عليَّ هذه الأخت رداً عجيباً جداً، فقالت: يا أخي! أنا أسلمت؛ لأن الإسلام دين العفة. فقلت: أنا أعلم أن الإسلام دين العفة، لكن ماذا تقصدين أيتها الأخت الفاضلة بأن الإسلام دين العفة؟ فقصت عليَّ أمراً عجيباً، قالت: إنها كانت في جولة في هولندا، ورأت جمعاً كبيراً جداً من الناس في ميدان عام، وسمعت ضوضاء وجلبة وصياحاً فاقتربت فرأيت في هذا الحلقة الضخمة رجلاً يزني بامرأة على مرأى ومسمع من الجميع. قالت: فاتصلت بالتلفون مباشرة على صديقة ألمانية مسلمة، وقلت لها: هل في الإسلام يفعل الرجل بالمرأة هذه الفعلة الشنعاء بهذه الصورة؟ فقالت: بل لا يجوز للزوج أن يأتي زوجته أمام ولده أو أمام ابنته، فكيف أمام الناس؟! قالت: فعلمت أن الإسلام هو دين العفة. وفي أمريكا شرح الله صدر أخت أمريكية كنيتها أنا بـ أم عمر، ويسر الله لها أن تزوجت أخاً مسلماً، وبعد سبعة أيام أصرت هذه الأخت الفاضلة أن أذهب إلى البيت لأتناول الغداء معها ومع زوجها، وجلست هذه الفاضلة لتسألني وأنا أجيب، فقلت لها: يا أم عمر! أود أن أتعرف -الآن- على مشاعرك نحو الإسلام. فقالت لي: والله! يا شيخ! أود الآن أن أصرخ بأعلى صوتي؛ لأسمع كل امرأة أمريكية أنني أخيراً وجدت ديناً يحفظ للمرأة كرامتها. فلا ينبغي أيتها الأخوات! أن نغالط أنفسنا، ويجب على الأخت الفاضلة أن ترجع إلى التاريخ لتعلم يقيناً أنها ما كرمت ولا شرفت إلا في دين النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنا أقترح أن نفرد حلقة كاملة لنتكلم عن حق المرأة في الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 تربية الأولاد في الإسلام لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحمة متجسدة في الناس لاسيما مع الأطفال، وأتمنى أن ينتبه إخواني وأخواتي في البيوت لأخلاق المربي الأول وأستاذ البشرية الأعظم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كان يتعامل مع الأطفال؟ وكيف كان يرحم الطفل؟ وكيف كان يربي الطفل؟ وهذا أمر مهم؛ لأننا الآن بكل أسف إذا أردنا الآن أن نربي أطفالنا وأولادنا نبحث عن كتب تربية غربية لا تتفق مع عقيدتنا ولا مع أخلاقنا، بل تصطدم اصطداماً مباشراً مع الدين والقرآن وخلق النبي عليه الصلاة والسلام. ونحن لا نمنع على الإطلاق أن نربي أولادنا على كل ما هو جديد في عالم العلوم والتكنولوجيا، بل نحن نشجع أيَّ شيء يربي أولادنا على التقدم العلمي ما دام هذا لا يصطدم اصطداماً مباشراً أو غير مباشر مع عقيدتنا وقيمنا وديننا وأخلاقنا، بل إن أمتنا هي أمة العلم، ويجب على أولادنا وإخواننا أن يعلموا علم اليقين أنه في الوقت الذي كان فيه المسلمون ينطلقون انطلاقاً في الجانب العلمي كانت أوروبا ما زالت تعيش في الظلام، واقرءوا تاريخ الأندلس لتعلموا ذلك، لكن في الوقت الذي قفز فيه الأوروبيون بحضارتهم على هذه الأصول والجذور، تخلف المسلمون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! فأنا لا أنكر على الإطلاق أن نربي أولادنا على كل ما هو حديث في عالم التكنولوجيا وفي عالم التقدم والعلوم؛ بشرط ألا يصطدم ذلك مع قيمنا وأخلاقنا وديننا، لكنني أقول: الذي يؤلم القلب أننا قد نبحث في كتب التربية التي تصطدم مع عقيدتنا وأخلاقنا؛ لنربي على هذه الكتب أولادنا وأطفالنا، مع أن الأصل أن الله عز وجل قد رزقنا بمنهج تربوي كامل متكامل، كيف لا، والمربي الأول والأعظم محمد صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن؟! وكان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال في غاية الود والرحمة والرقة، وكانت وسيلة العقوبة آخر وسيلة يستعملها النبي صلى الله عليه وسلم. وأذكر لكم قصة وهي: أن رجلاً من الأفاضل اشترى أنتريهاً جديداً، وكان فاتح اللون، ولما وصل إلى البيت وضع (الأنتريك) في الصالة، وهو في غاية السعادة به والفرح، وذهب إلى عمله، وعاد في نفس اليوم فوجد (الأنتريك) قد تحول إلى كاريكاتير؛ لأن ولده البالغ من العمر أربع سنوات أمسك القلم الجاف -وهو لا يعي ولا يدرك- وحول (الأنتريك) إلى ألوان؛ بقي أربع ساعات يرسم رسومات وأشكال، ولما رأى الرجل المشهد ظل يصرخ ويصرخ، وقبل أن يعاقب الطفل عاقب أمه، ثم عاقب الطفل فضربه ضرباً شديداً، وليته اكتفى، وإنما ربط يد الطفل في رجل كرسي، ويده الأخرى في رجل الكرسي الأخرى بقسوة شديدة، وظل الطفل يصرخ ويصرخ، وأمه لا تجرؤ أن تقترب منه؛ لأنه أغلظ لها القول، وظل جالساً في غضب شديد حتى انقطع صراخ الطفل تماماً، فظنوا أنه نام! فأقبلت الأم فرأت عجباً!! رأت أن يد الطفل قد تحولت إلى اللون الأزرق الداكن، وقد أغمي على الطفل، فصرخت، فجاء المسكين أبوه يجري، وفك يده وحمله على كتفه، وأسرع به إلى أقرب مستشفى، وهنالك في المستشفى قرر الأطباء بتر الكفين!! وأنا أتمنى أن تتصوروا العذاب والألم والضنك الذي عاش فيه هذا الوالد وعاشت فيه هذه الأم بعد أن خرج الطفل بلا كفين. إن هذا خلل في المنهج التربوي، وقد يأتيك مثلاً أحد إخوانك ومعه طفل أو طفلة، وتسأله: كم عمرك يا بني؟! قد يقول: عشر سنوات. فتقول: ما شاء الله، كم تحفظ من القرآن؟ فيقول: الحمد لله؛ أحفظ عشرين جزءاً، فتنظر إلى ولدك وتقول: تسمع يا خايب! أنت وأبوك، انظر هذا يحفظ عشرين جزءاً، وأنت لا تحفظ إلا جزءاً وبمجرد ما ينصرف هذا الأخ الصديق وولده تضرب ولدك ضرباً مبرحاً، وتريد أن تختزل تقصيرك أنت في حق ولدك في سنوات مضت في دقيقة واحدة أو في ساعة واحدة! وهذا خلل في المنهج التربوي، فلماذا لا نرجع إلى المربي صلى الله عليه وسلم؛ لننظر كيف ربى الأطفال؟ وكيف تعامل مع الأطفال؟ فالطفل يحتاج إلى الرحمة والحنان والود، ولا حرج على الإطلاق أن تستخدم وسيلة التأديب، لكن اجعل هذه الوسيلة آخر وسيلة من وسائل التربية وبرحمة، ويكون العقاب متفقاً مع الجرم والخطأ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للأطفال روى الإمام مسلم في صحيحه-: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عنده رجل اسمه الأقرع بن حابس رضي الله عنه، وكان شديداً -يعني: مجبولاً على الشدة والقسوة، فرأى الأقرع بن حابس النبي عليه الصلاة والسلام يقبل الحسن والحسين، فقال: تقبلون أولادكم؟ والله إن لي عشرة من الأولاد ما قبلت أحداً منهم، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: وما أملك لك إن نزعت الرحمة من قلبك؟!) . إذاً: الانطلاقة الأولى: الرحمة، فعليك أن تنطلق من الرحمة، وتؤدب برحمة. وهذا الحسن بن علي وهو ابن فاطمة رضوان الله عليهم امتدت يده إلى تمرة من تمر الصدقة وهو طفل، وأراد أن يضعها في فمه، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم من يده وقال (كخ كخ، ألا تعلم أننا لا نأكل من الصدقة؟) ، ولم يضرب يده، بل أخذها برحمة عجيبة. وهذا جابر بن سمرة وهو طفل صغير -والحديث في صحيح مسلم - يقول: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة -كان يصلي مع النبي في المسجد صلاة الصبح- فخرج النبي بعد الصلاة من المسجد فقابله الصبيان، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام يمسح خد كل واحد منهم واحداً واحداً، قال: ومسح النبي صلى الله عليه وسلم على خدي، فشممت ليديه ريحاً كأنما أخرجها من جونة عطار) فلم ينس أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على خده. جاءني رجل من الأفاضل وقال لي: أنا عندي طفل عمره عشر سنوات، يحفظ سورة يوسف والرعد وإبراهيم من شريط لك، وأنا أحبه، قلت: الحمد لله. قال: لكنني سأحضره لأول مرة إلى المسجد في الجمعة المقبلة، قلت: مرحباً به، وهذا أمر عادي. قال: لا، ليس عادياً. قلت له: لماذا؟ قال: هذه اللعبة هدية، أرجو منك أن تضعها في منبر المسجد، وإذا أحضرت ولدي في الأسبوع المقبل في صلاة الجمعة، سأقدمه لك فسلم عليه، وادع له، وقدم له هذه الهدية على أنها منك؛ ليزداد تعلقه بك وبالدين وبالمسجد -انظر إلى هذا الفهم الراقي- وبالدعوة وبالدعاة وبالعلماء. وهكذا إذا سلم الطفل على الشيخ أو على رجل من أهل العلم سيرجع إلى البيت وهو يقول: سلمت على الشيخ يا أمي وأمه تقول له: ما شاء الله، وهو فرحان سعيد، فلذلك الصحابي لم ينس أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على خده، وكذلك لم ينس رائحة يد النبي عليه الصلاة والسلام. وروى مسلم في صحيحه: أن عمر بن أبي سلمة -وهو ممن تربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم- قال: (كنت غلاماً في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت يدي تطيش في الصحفة -الإناء الذي يوضع فيه الطعام- فقال لي: يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) فما أحوجنا الآن إلى أن نرجع إلى درة تاج الجنس البشري، وإلى أعظم مرب عرفته الأرض، وإلى أستاذ البشرية ومعلم الإنسانية ورسولها ونبيها صلى الله عليه وسلم؛ لنتعلم من هذا المربي الأعظم كيف نتعامل مع أولادنا، لا سيما ونحن نعيش الآن زماناً قد اختلط فيه الحابل بالنابل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 معاملة النبي عليه الصلاة والسلام للفقراء كان النبي صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن، بل كان قرآناً متحركاً بين الناس في دنيا الواقع، وهذا هو السر الذي جعل القلوب تنجذب إليه صلى الله عليه وسلم وتتعلق به وقد كان صلى الله عليه وسلم يكرم اليتامي والفقراء غاية التكريم، فقد أخبر أن كافل اليتيم في منزلته في الجنة، كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى) . بل جاء في الحديث الذي رواه أبو يعلى بسند حسن، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من يفتح باب الجنة) ، فأرى امرأة تبادرني -تسابقه تريد أن تدخل مع النبي عليه السلام الجنة -فأقول: ويحك! من أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي) . انظر إلى مكانة هذه المرأة التي مات زوجها؛ فتفرغت لتربية الأولاد على الفضيلة والشرف والعفة، وأبت أن تتزوج لتتفرغ لتربية أولادها. وهذا أبو سفيان وهو السيد الشريف العظيم الكريم، ورد في صحيح مسلم: أنه مر يوماً على بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الفقراء -كـ صهيب وعمار رضوان الله عليهم جميعاً -وكان يجلس معهم في ذلك الوقت أبو بكر رضوان الله عليه- فلما رأى الصحابة رضوان الله عليهم أبا سفيان قالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها؛ فغضب أبو بكر رضي الله عنه، والتفت إلى الصحابة وقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ وغضب وترك المجلس وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقص عليه ما قال الصحابة وما قاله. فقال الرسول لـ أبي بكر رضي الله عنه؛ (يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم؟ -يعني: بلالاً وعماراً وصهيباً - فوالله! لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك عز وجل) ، فانطلق يجري إليهم وقال: إخوتاه! أوغضبتم مني؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي! انظر إلى مكانة هؤلاء الفقراء، وهم الذين عوتب فيهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل عليه قول الله جل وعلا حينما أراد أن يفرغ نفسه لدعوة السادة من أهل الشرك، وأن يخصهم بمجلس بعيداً عن صهيب وعمار وبلال، فنزل قول الله جل وعلا: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] ، عوتب في هؤلاء بهذه الكلمات الشديدة (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ! هذه الكلمة تقال لسيدنا رسول الله، ويأتي الأمر واضحاً: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] ، وأعلنها بكل قوة وصراحة: {وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] ، فالله جل وعلا غني عن كل خلقه، فعوتب الحبيب صلى الله عليه وسلم مع أنه أراد بذلك دعوة هؤلاء السادة، وهو يعلم يقيناً أن قلوبهم لو ذاقت حلاوة الإيمان لعادوا بأنفسهم إلى هؤلاء الفضلاء الشرفاء، لكن الله جل وعلا عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] ، فلقد كرم النبي صلى الله عليه وسلم اليتيم تكريماً عظيماً وعامل الفقراء بتواضع جم. وقال ربنا جل وعلا لنبينا: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:1-11] ، فما أحوجنا إلى هذه الرحمة! وما أحوجنا إلى التواضع. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قد أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يبغي أحد على أحد، وحتى لا يفخر أحد على أحد) ، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6-7] . فيجب عليك -أيها الحبيب- يا من منّ الله عليك بالعلم! ويا من منّ الله عليك بالمال! ويا من منّ الله عليك بالجاه والسلطان! أن تتواضع لربك جل وعلا، وأن تتواضع لخلق الله وعباد الله، فلقد زكى ومدح ربنا المؤمنين وأصحاب سيد المرسلين بأنهم رحماء بينهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 معاملة النبي عليه الصلاة والسلام للعصاة أود أن أذكر أحبابي وإخواني بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غاية الرحمة مع المذنبين والعصاة، وأنا أسأل: لو أن طبيباً فتح عيادة خاصة، وأنفق عليها وأعدها وهيأها، وفي أول يوم بدأت فيه العيادة في العمل دخل إليها المرضى، فهل يمكن لهذا الطبيب أن يطرد هؤلاء؛ لأنهم أتوه وهم مرضى وهو لم يفتح عيادته إلا للمرضى؟! فالرجل العاصي والمذنب مريض يحتاج إلى صدر حنون، ويحتاج إلى قلب واسع ليذكِّره بالله تعالى، فنحن نبغض المعاصي ونبغص الذنوب، لكن يجب علينا أن نفتح قلوبنا للمذنبين والعصاة؛ لنذكرهم بالله، ولنأخذ بأيديهم إلى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم مَن مِن البشر لم يذنب؟ ومَن مِن الخلق لم يخطئ؟ لقد انتهى زمن العصمة بموت الحبيب صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ، والله جل وعلا وهو الرحيم الكريم خالق الخلق يفرح إذا عاد عبده إليه بالتوبة والأوبة، فلماذا ننظر إلى العصاة هذه النظرة؟ ولماذا نحكم عليهم ونتعجل بتكفيرهم وتفسيقهم وتبديعهم؟ حتى إن بعضهم يقول: فلان في جهنم، وفلان في الدرك الأسفل من النار، وأقول: يا أخي! أنت ما جلست على باب جهنم ولا على باب الجنة؛ لتدخل من أردت وتمنع من شئت، وإنما هذا الأمر لله وحده، ولا يستطيع أحد ألبتة أن يحكم لأحد بجنة أو أن يحكم لأحد بنار. ونحن نبغض المعصية يقيناً، لكن يجب علينا أن نفتح طريق الأمل وباب التوبة الذي فتحه ربنا وفتحه نبينا صلى الله عليه وسلم للمذنبين والعصاة من أمثالي. فهذا صحابي ارتكب كبيرة الزنا -وهي أكبر كبيرة بعد الشرك والقتل- فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم -والحديث في صحيح مسلم، واسم هذا الرجل ماعز بن مالك - فقال: يا رسول الله! طهرني، يا رسول الله! طهرني، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل: أغلقوا الأبواب. اقبضوا عليه امسكوه، لم يقل شيئاً من ذلك، وهو المشرع صلى الله عليه وسلم، وذهب الرجل إليه معترفاً، والاعتراف سيد الأدلة. اسمع ماذا قال الحبيب الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والرءوف الرحيم بالمؤمنين: (ويحك! ارجع استغفر الله، وتب إليه) فيرجع ماعز بن مالك، لكن قلبه يتحرك فيه الإيمان، فيحرك القلب الجوارح، فيرجع ماعز بن مالك إلى النبي ويقول: يا رسول الله! طهرني للمرة الثانية؛ فيرد عليه الحبيب صلى الله عليه وسلم: (ويحك! ارجع استغفر الله، وتب إليه) فيرجع ماعز بن مالك، لكن الإيمان في قلبه يحركه، وحبه لله وخوفه من الله يحركه؛ فيأتي ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! طهرني -للمرة الثالثة- فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك! ارجع استغفر الله، وتب إليه، فيقول له: يا رسول الله! طهرني وأخبره بأنه زنى) ومع كل ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل شرب خمراً؟) ، أي: هل شرب خمراً فلعبت الخمر برأسه، فلا يعي ما يقول؟ (فقام أحد الصحابة فاستنكهه -أي: شم نكهة ورائحة فمه- فقال: لا يا رسول الله! لم يشرب الخمر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أبه جنون؟ قالوا: لا يا رسول الله! لا نعرف عنه جنوناً؛ فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ فرجم، ثم بعد ثلاثة أيام يقول صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- للصحابة رضوان الله عليهم: استغفروا لأخيكم ماعز بن مالك) ، ولم يخرجه من دائرة الأخوة، ويأمر الصحابة أن يستغفروا له، وقال صلى الله عليه وسلم: (لقد تاب إلى الله توبة لو قسمت بين سبعين رجلاً لوسعتهم، أو لو قسمت بين أهل المدينة لوسعتهم) مع أنه ارتكب جريمة الزنا؛ لكنه جاء تائباً مقبلاً إلى الله. إذاً: لا نكفر أحداً بالكبائر فهذا من فعل الخوارج، ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب أو بكبيرة؛ لأن الله جل وعلا يغفر كل الذنوب ما دام العبد يوحد علام الغيوب، اقرأ معي قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، وقال جل وعلا في صفة عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:68-70] ، فالله جل وعلا يبدل الذنوب والسيئات حسنات، فلماذا نتعامل مع الناس بهذه القسوة؟ وسبحان الله! لماذا عند ما أرى إنساناً وقع في معصية أفرح أنه وقع في المعصية؟!! لماذا أعامله بهذه الغلظة والقسوة؟! ولو أنك تحمل في قلبك شيئاً من الرحمة ونظرت إلى هذا الرجل على المعصية؛ لبكت عينك، وارتجف قلبك لأمرين: الأول: أن الله جل وعلا قد سترك، وحفظك، ووفقك، ولم يدعك تقع في هذه المعصية، فالفضل فضله، والستر ستره. الأمر الثاني: أنك تخشى على أخيك وعلى نفسك، تخشى على أخيك إن خُتم له، وهو على هذه المعصية أن يكون من أهل النار والعياذ بالله! وتخشى أيضاً على نفسك أن يختم لك بغير الطاعة. فالإنسان سائر إلى الله بين أمرين: بين مطالعة المنة، ومطالعة فضل الله وستره وحلمه عليه، وبين مطالعة عيب النفس، فكل ما أنا فيه من خير إنما هو محض فضل الله، وكل ما أنا فيه من شر إنما هو من النفس الأمارة بالسوء، فالنفس مجبولة على السوء: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53] ، فإذا نظرت إلى هذا فتذكر ما كنت فيه أنت، وتذكر ستر الله عليك، وحلم وفضله عليك، واقترب من أخيك العاصي فذكّره بالله وذكره برسول الله برحمة وأدب وتواضع وحب لله وخوف من مكر الله جل وعلا؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. وتصور معي هذا الشاب الذي تجري دماء الشهوة في عروقه -والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده بسند جيد- يأتي إلى الرسول الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم ويقول له: (يا رسول الله! ائذن لي في الزنا -يا سبحان الله! يستأذن النبي أن يأذن له في الزنا- فقال الصحابة: مه مه؟ -أي: ماذا تقول؟ - فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ادن، فاقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم -وبلغه الأبوة الحانية، والأبوة الرحيمة الرءوفة- قال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: أترضاه لأمك؟ -أي: أترضى الزنا لأمك؟ -قال: لا، والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال: وكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم. أترضاه لأختك؟ قال: لا، والله يا رسول الله جعلني الله فداك. قال: وكذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم. أترضاه لعمتك؟ أترضاه لخالتك؟ والشاب يقول: لا. والله يا رسول الله! جعلني الله فداك. والمعلم صلى الله عليه وسلم يقول: وكذلك الناس لا يرضونه لخالاتهم وعماتهم ويمد الحبيب صلى الله عليه وسلم يده المباركة الشريفة؛ ليضعها على صدر هذا الشاب وهو يتضرع إلى الله جل وعلا بالدعاء لهذا الشاب فيقول: اللهم اغفر ذنبه، واشرح صدره، وحصن فرجه، فيخرج هذا الشاب -من المدرسة المحمدية المباركة- ولا يوجد على وجه الأرض شيء أبغض إليه من الزنا) . إذاً: كان النبي عليه الصلاة والسلام يفتح الباب للعصاة والمذنبين من أمثالي. فلو نظر كل واحد إلى نفسه لعلم يقيناً أن بيته من الزجاج، وما منا أحد وإلا فيه عيب، بل عيوب وذنوب، وسبحان علام الغيوب! الذي يرى عباده على الذنوب ويسترهم، فلا ينبغي على الإطلاق أن نحمل قلوباً في صدورنا قاسية. يا أخي! قد أزل أنا في لحظة وأنا بشر، ولست نبياً مرسلاً، ولا ملكاً مقرباً، فإن زل العبد فلبشريته وضعفه، وإن كان من أهل الصلاح وجب على المسلمين أن يستروا عليه، وأن يذكروه بالله تبارك وتعالى، أما الفاجر الذي يجاهر بمعصيته، ويفرح ويفتخر بها، ويختال بها، وإن ذكر بالله لا يتذكر فلا حرج أن تبكته بما فيه؛ كي يحذره الناس، هذا هو التأصيل العلمي، لكن إن وجدت رجلاً من إخوانك على معصية فذكره بالله، وكذلك إن وجدتِ أختاً من أخواتكِ على معصية فذكريها بالله تبارك وتعالى، وذكريها بالحجاب، وذكريها بالصلاة، بحكمة ورحمة وأدب وتواضع، كما علمنا نبينا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 سلسلة إيمانية - حق الزوج لقد أمر الله سبحانه وتعالى المرأة بطاعة زوجها، وحرم عليها عصيانه ومخالفة أمره، وأوجب له عليها حقوقاً من أعظمها: حسن الخلق، وطيب العشرة، ولقد قرن الشارع الحكيم طاعة المرأة لزوجها بالصلاة والصيام وإحصان الفرج، ورتب على ذلك الجزاء العظيم وهو دخول الجنة، أما العقوبة العظيمة فهي غضب الرب سبحانه عند عصيانه ومخالفة أمره، فعلى المرأة أن تدرك واجبها تجاه زوجها وأن تقوم به خير قيام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 حقوق الزوج على زوجته الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. بالفعل لقد وفينا حق الزوجة في اللقاء الماضي، وبدأنا به تأدباً منا بأمر نبينا صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيراً) ، ونحن اليوم على موعد مع حق الزوج، ويجب على كل زوجة مسلمة أن تفتح قلبها قبل أن تفتح أذنها؛ لتتعرف على حق زوجها عليها إن كانت تريد رضوان الله عز وجل عليها في الدنيا والآخرة، فسفينة الحياة الزوجية التي تخوض بحر الحياة بسكينة وهدوء، يقودها حتماً زوج صالح، وتقف وراءه وإلى جنبه في آن واحد زوجة صالحة عاقلة، بل دعني أؤكد أن السكن والاستقرار والأمن النفسي وراحة البال؛ وراءه زوجة صالحة عاقلة وفية، عرفت حق الله سبحانه وتعالى، وعرفت حق النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك عرفت حق زوجها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 حسن الخلق والعشرة الطيبة إن أول وأعظم حق للزوج على زوجته: أن تكون الزوجة حسنة الخلق والعشرة مع زوجها، فحسن الخلق من الزوجة بلسم يداوي كل الجراح، ودواء لكل داء يصيب الحياة الزوجية من آن لآخر. من حسن العشرة الكلمة الطيبة إلجام اللسان عن الكلمة البذيئة الكف عن الجدال والمراء والمناقشة الصاخبة بصوت مرتفع الكف عن العناد الكف عن تكسير طلبات وأوامر الزوج بسبب وبدون سبب. هذا من حسن العشرة، وإلا فما قيمة جمال المرأة، وما قيمة شهادتها العلمية، وما قيمة نسبها، إن كانت لا تحسن المعاملة الطيبة مع الزوج إن كانت لا تحسن الخلق الحسن مع الزوج، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا، كما في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وابن حبان وغيرهما من حديث أبي الدرداء، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق) . وكذلك المؤمنة، فكل حكم للرجل هو في نفس الوقت حكم للمرأة المسلمة، ما لم يأتِ دليل خاص يبين أن هذا الحكم للرجل وحده أو للمرأة وحدها. وفي الحديث الذي رواه أبو داود وابن حبان وغيرهما بسند صحيح، من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) . فأول حق للزوج على زوجته: أن تعامله معاملة كريمة، وأن تحسن عشرته، والتخاطب معه، وأن تحسن الرد عليه، فقد تعكر الزوجة صفو البيت، ولا يجد الزوج في بيته سكينة ولا سكناً ولا راحة ولا هدوءاً؛ لأن الزوجة تعكر عليه صفو هذا البيت بردودها بسوء خلقها بلسانها، فاللسان خطير، بل ربما تتقدم الزوجة لتعتذر -كما سأبين إن شاء الله تعالى- للزوج، فتعتذر بأسلوب منفر، يستشعر فيه الزوج الكبرياء والخيلاء، وأنها لا تريد أن تتنازل أبداً، وتتعامل معه كأنها تتعامل مع شخص غريب، أو أنها تتعامل مع ند أو نظير أو مثيل أو شبيه لها، وهذا لا يجوز أبداً. إذاً: أول حق للزوج على زوجته: أن تعامله معاملة كريمة طيبة، وأن تكون حسنة الخلق حسنة العشرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 الرضا والقناعة مقدم البرنامج: نحن في عصر كثرت فيه الملهيات من تلفاز ودش وغيرها من مظاهر الحياة الصاخبة، وكثرت مطالب الزوجات بتوفير هذه الأشياء وغيرها، والزوج يلاقي من المرأة ضغوطاً بسبب ذلك، فما الحل؟! الشيخ: الرضا كنز ثمين، ولن تشعر الزوجة بالسعادة ولا بالراحة مع زوجها إن كان فقيراً أو متواضعاً في جماله أو ماله أو وجاهته أو جاهه أو علمه، لن تشعر الزوجة بالسعادة ولا بالطمأنينة إلا بالرضا، فالرضا كنز ثمين، وهذا من حق الزوج على زوجته، فالأيام دول، فكم من زوج كان غنياً فأصبح فقيراً؟! وكم من زوج كان قوياً فأصبح ضعيفاً؟! وكم من زوج كان صحيحاً فأصبح مريضاً؟! إن الزوجة الصالحة تعلم يقيناً أن كل شيء بقدر، وتتضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يرزقها الرضا، وترضى بما قسم الله عز وجل لها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في الحديث الذي رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر -: (قد أفلح من رزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه) . أيها الأحبة: القناعة والرضا كنز لا يفنى، فلا تنظر الزوجة إلى من منّ الله عز وجل عليهم من أموال وعمارات ووجاهات، فهذه أرزاق قسمها الله بين خلقه وعباده، بحكمته وعدله سبحانه وتعالى؛ لذلك يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا نشعر بشيء من الهم والحزن. يأمرنا أن ننظر في أمر الدنيا إلى من هو أسفل منا، ويأمرنا أن ننظر في أمر الدين إلى من هو أعلى منا، فقال صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (انظروا إلى من هو أسفل منكم في أمر الدنيا، وانظروا إلى من هو أعلى منكم في أمر الدين؛ فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عز وجل) . فالزوجة الصالحة عليها بالرضا لتشعر بالسعادة، فالرضا يذهب الهموم والأحزان والآلام، بل ويوسع العيش إن كان العيش ضيقاً، ويوسع البيت إن كان البيت ضيقاً. وأنا لا أقصد المعنى المادي، وإنما أقصد المعنى المعنوي، فالسعة والضيق لا تكون في المكان، وإنما تكون في الصدور، فإذا شعرت الزوجة بالرضا وبالطمأنينة، ورضيت بما قسم الله عز وجل لها، عاشت وزوجها في سعادة، وشعر الزوج هو الآخر بسعادة غامرة مع زوجة راضية رضية، تقبل أي شيء، ولا تدفعه دفعاً إلى الحرام من أجل أن يأتي لها بكل ما تحتاج إليه من رغبات ولو هذه الرغبات خارجة على قدراته وطاقاته. كم من زوجة تدفع زوجها إلى الحرام من أجل أن يوفر لها المال ليأتي لها بكماليات قد لا تحتاج إليها؟! وكم من زوجة تحول بين زوجها وبين الحرام برضاها وقناعتها وبغضها للحرام! وتقول له: يا أبا فلان! اتق الله فينا، لا تدخل علينا الحرام أبداً، فإن الحرام يدخل إلى الحلال ليبعثره، ولو كان قليلاً. وترضى الزوجة بما قسم الله عز وجل؛ فتعيش سعيدة آمنة مطمئنة، ويعيش الزوج هو الآخر في غاية السعادة والرضا مع هذه الزوجة، التي تذوقت طعم الرضا وحلاوته فالرضا يوسع العيش إن كان ضيقاً. انظري أيتها الزوجة إلى من حرمت من الزوج إلى من حرم من الأولاد، إلى من حرم من البيت، إلى من حرم من الصحة والعافية، فما دام الله سبحانه وتعالى قد رزقك زوجاً، وقد رزقك بيتاً يؤويك، وقد رزقك أولاداً؛ فاحمدي الله سبحانه وتعالى على هذه النعم التي حرم منها كثير من الناس، قال الله عز وجل: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] . فالزوج يعيش سعيداً غاية السعادة، وتستطيع الزوجة أن تفتح قلب الزوج، بل تستطيع أن تملك قلب الزوج إن أشعرته بأنها راضية بما قسم الله سبحانه وتعالى. إن الرضا بقضاء الله وقدره من أعظم نعم الله سبحانه وتعالى على الزوج والزوجة على السواء، وأصول الرضا أن يقول العبد للرب سبحانه: يا رب! إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 الوفاء مع الزوج مقدم البرنامج: الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن أكثر أهل النار النساء؛ وذلك بأنهن يكفرن العشير، فما معنى يكفرن العشير؟ الشيخ: إنه عكس الوفاء، ما أحلى الوفاء، وما أجملها وأروعها من كلمة، وهذا هو الحق الثالث للزوج المسلم على زوجته المسلمة، أن تكون زوجته وفية، فقد يصير الزوج الغني فقيراً، وقد يصير الزوج القوي ضعيفاً، وقد يصير الزوج الصحيح مريضاً، ويذهب مرضه وتذهب همومه وأحزانه وآلامه إذا وجد زوجة وفية تقف إلى جواره، لا تنسى ما كانت تعيش فيه معه من نعيم، فتشعره بأن الأيام دول، وتبين له أن الدنيا إلى زوال، وكما أنعم الله عز وجل علينا فإنه يختبرنا، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] ، ويقول: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] . تذكّره بأن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة ما دام أن ربنا سبحانه وتعالى قد منّ عليها بنعمة الدين ونعمة الإيمان، ونعمة الأولاد، وما دام الله عز وجل قد منّ عليها بقلب حي شاكر، وبلسان ذاكر، وما دام الله عز وجل قد رزقها الرضا، ورزقها زوجاً ما بخل عليها يوماً مما أعطاه الله كل هذه المعاني تحول ألم الزوج العضوي والنفسي إلى راحة، يشعر أنه في هذا البيت في واحة غنَّاء، يستشعر قيمة الوفاء وعظمته إذ رأى في هذه الهموم والأحزان زوجته وفية له، ولا تتنكر لفضله ولعطائه، ولم تنسَ قوته يوم كان قوياً، ولم تنسَ غناه يوم كان غنياً، ولم تنسَ رجولته وفحولته وإن حبسه المرض الآن، لم تنسَ كل هذا، فترد الزوجة بهذا الوفاء لزوجها كل معنى جميل، وتذكره بكل المعاني الجميلة، فيستشعر الزوج أصالة هذه الزوجة. إن مما يحطم أي زوج ويقصم ظهره إذا كان كريماً مع امرأته سخياً في كل شيء، في كل لون من ألوان الحياة، إن تبدلت به الأيام وتحول الغنى إلى فقر، والقوة إلى ضعف، والصحة إلى مرض فإذا بامرأته هي الأخرى قد تحولت مع هذا التحول الخطير فتكون القاصمة. قد لا يتأثر الزوج بكل ما سبق بقدر ما يتأثر إذا تغيرت زوجته هي الأخرى فتنسى كل صور الإحسان! انظر إلى هذه الصورة التي تناقض تماماً صورة الوفاء، فلا يشعر الزوج بشيء من الأمان، ويفقد الثقة في كل شيء؛ لأنه لم يجد هذا الوفاء وهذه الثقة في أقرب الناس إليه فيمن منحها كل ما يملك، من حب ووفاء وعطاء وسخاء ورجولة وبذل، فتتنكر له وتنسى كل شيء. انظر بهذه النظرة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث زينب قالت: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت النار ورأيت أكثر أهلها النساء. قالوا: يا رسول الله، يكفرن بالله؟ قال: بل يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان) . أود من أحبابنا الذين ينظرون إلى الأحاديث النبوية نظرة عقلية متجردة، أن ينظروا إلى هذا الحديث من هذا المنظور، وأود أن لو خاطب كل واحد منهم نفسه بهذا الخطاب الذي ذكرت، ماذا يقول لو أعطى امرأته كل ما يملك ولم يبخل عليها بشيء، وفي لحظة من اللحظات لما تداولت به الأيام، وتحول غناه إلى فقر، وقوته إلى ضعف، ورأى امرأته هي الأخرى تتنكر له، وتنسى كل صور الإحسان التي بذلها إليها قبل ذلك؟! أرجو أن ينظر إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا المنظور؛ حتى لا يرد أحد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد النظرة العقلية المجردة، (يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان) ، فالمرأة التي تكفر العشير وتكفر الإحسان امرأة لم تذق طعم الوفاء، ولم تعرف شيئاً عن الوفاء، وإن لم تتب إلى الله سبحانه وتعالى فهذا مصيرها الذي أخبر عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. لماذا يكفرن العشير ويكفرن الإحسان؟ قال: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط) ؛ إنه اللؤم إنه خلق قبيح ذميم، يقصم ظهر أي زوج لكن إذا رأى الزوج زوجته وفية كريمة، صاحبة أصل كريم؛ فإنها تذهب آلامه وأحزانه، وتضمد جراحه. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا جميعاً الوفاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 صور من طاعة الزوجة لزوجها وضوابطها مقدم البرنامج: هناك أزواج كثيرون يفهمون أن طاعة الزوجة طاعة مطلقة في كل ما يطلبه الزوج، حتى ولو كانت الطاعة في معصية الله سبحانه وتعالى، فهل الزوجة لها حق في أن ترفض هذه الطاعة المطلقة؟ الشيخ: طاعة الزوجة لزوجها واجب عليها، وهو حق مطلق للزوج ما دام لم يأمرها الزوج بمعصية الله جل وعلا، لكن الحياة الزوجية تنبني على المودة والرحمة، فيجب على الزوج بالمقابل إذا أمر زوجته أن يأمرها بأسلوب مؤدب، وبالخلق الذي تعلمناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أقول: شتان بين زوج يطلب من زوجته ما يريد بأسلوب يجبر به الزوجة أن تفعل له ما يريد بنفس راضية، وبين زوج آخر يصدر الأوامر لامرأته، وكأنه يسوق أمامه أمة من الإماء؛ فلا تقبل الزوجة، فينطلق الزوج ليشكو زوجته بعد ذلك. أقول: إن طاعة الزوج واجبة على الزوجة، وحق للزوج على زوجته ما لم يأمرها بمعصية الله، وأود أن أهمس في آذان أحبابنا من الرجال والأزواج وأقول: الزوج العاقل هو الذي يعلم الوقت الذي يأمر فيه زوجته فتطيعه. اختر الوقت فهذه مسألة في غاية الأهمية، فلا تأتِ في وقت ترى فيه الزوجة غاضبة ومنفعلة ثم تصدر لها الأوامر، افعلي كذا وكذا وكذا وإلا فأنت طالق، فهذا أسلوب لا يمكن على الإطلاق أن يضمن للحياة الزوجية السعادة والأمن والهدوء والاستقرار، بل ربما ينفعل الزوج على امرأته لأتفه الأسباب. وأود أن أحذر بأن أخطر ما يحدث في كثير من بيوت المسلمين: أن يشهر الزوج سيف الطلاق لأي خطأ، ولأي تقصير من الزوجة. إذاً: يجب على الزوجة أن تطيع زوجها ما لم يأمرها بمعصية الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن حبان والطبراني وغيرهما، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها؛ قيل لها يوم القيامة: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت) . ودعنا نكرر الحديث مرة ثانية لجلاله وجماله، فلتستمعي أيتها الزوجة الفاضلة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها) حافظي على الصلاة، ولا تضيعي الصلاة لأي سبب، ولو كان لإعداد الطعام لزوجك، فحق الله عز وجل مقدم على حق الزوج، ولا ينبغي أن تعتذر الزوجة بتأخير الصلاة بدعوى أنها تعد الطعام للزوج وللأولاد، لا، بل تقدم حق الله سبحانه وتعالى. (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها) ما لم يكن عندها عذر شرعي معلوم. (وحصنت فرجها) حفظت نفسها من الوقوع -والعياذ بالله- فيما يغضب الله جل وعلا. (وأطاعت زوجها) أي: في غير معصية الله. (قيل لها يوم القيامة: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 الطاعة في فراش الزوجية ومن أعظم صور الطاعة التي يجب على الزوجة المسلمة أن تحققها لزوجها: إذا أمرها أن تأتيه لفراش الزوجية أن تطيعه، كم من الرسائل والشكاوى والاتصالات والأسئلة، يشكو فيها كثير من الأزواج امتناع الزوجات عن الفراش، قد تتدلل الزوجة على زوجها بالامتناع، وهذا حرام، وقد تمتنع لتجبر الزوج على أن يفعل لها أمراً تريده، أو على أن يقدم بالطلب الذي طلبته منه، وهذا حرام لا يجوز للزوجة المسلمة أن تفعله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فأبت؛ باتت والذي في السماء غاضب عليها حتى يرضى عنها زوجها) . مقدم البرنامج: حتى لو كانت مريضة أو مرهقة؟ الشيخ: لا، وهذا تنبيه جميل ومداخلة هادفة، وأود أيضاً أن أبينها للزوج، فإن كثيراً من الأزواج قد لا يعذر امرأته لأي سبب، وهذا أيضاً من الظلم، فينبغي على الزوج المسلم أن يكون عادلاً منصفاً، فإذا رأى الزوج امرأته مريضة بالفعل، ولا تتعذر لتدلل أو لأي أمر من الأمور التي ذكرت؛ وإنما تمتنع لأنها لا تستطيع ذلك، فيجب على الزوج أن يعذر امرأته، وأن يعاملها بالرحمة. وقد بينت أن الحياة الزوجية تنبني على الحب والرحمة، فإذا ذبلت وردة الحب فتبقى الرحمة لتظلل سماء البيوت لتستمر الحياة، فيرحم الزوج زوجته وترحم الزوجة زوجها، لكن لا ينبغي للزوج أن يقف لامرأته وقفة شديدة، فليست هذه هي أخلاق الرجال، فضلاً عن أخلاق الأزواج المسلمين الصالحين الذين ينطلقون في حياتهم الزوجية امتثالاً لرب العالمين، ولأمر سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. إذاً: من أعظم حقوق الزوج على زوجته: أن تطيع الزوجة المسلمة زوجها في كل ما يطلبه منها ما لم يأمرها بمعصية الله سبحانه وتعالى بالضوابط والشروط التي ذكرت بعضها الآن. مقدم البرنامج: قلت: إن على الزوجة أن تطيع الزوج في غير معصية الله، فما حدود هذه الطاعة وضوابطها؟ الشيخ: نعم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يحل لامرأة أن تصوم إلا بإذن زوجها) والمراد بالصيام هنا: صيام النفل، وليس صيام الفريضة (ولا يحل لها أن تدخل بيته إلا من يريد) ، لا يحل للزوجة أن تدخل أو أن تأذن في بيته إلا لمن يريد الزوج فقط، فطاعة الزوجة لزوجها مطلقة في غير معصية الله سبحانه وتعالى. أي: إذا طلب الزوج من امرأته معصية كأن طلب أن يأتيها في غير ما أمر الله عز وجل فلترفض، ورفضها ذلك ليس معصية للزوج؛ لأنها طاعة لله سبحانه وتعالى، وإن طلب الزوج من امرأته أن تعري جسدها فلترفض، ورفضها ذلك ليس معصية للزوج بل هو طاعة لله جل وعلا. مقدم البرنامج: حتى لو هددها بالطلاق؟ الشيخ: هذه مسألة ينبغي على الزوجين أن يعرضاها بعينها على رجل من أهل العلم؛ ليقدر المسألة تقديراً دقيقاً، وليوازن موازنة دقيقة بين المفاسد والمصالح، وتكون الفتوى هنا فردية وليست جماعية، فنحن نتكلم بصفة عامة، وأنه لا يجوز أبداً للزوج أن يأمر زوجته بمعصية الله ولو قلَّت، ولو عصت الزوجة زوجها في هذا الأمر الذي هو مخالف لأمر الله ورسوله؛ فليست بذلك عاصية لله ولا عاصية لزوجها، وإنما هي مطيعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 الاعتذار عند الخطأ ومن صور الطاعة أيضاً: إن غضب الزوج فعلى الزوجة الوفية إن كان الخطأ منها، وكان هذا الخطأ سبباً في غضب الزوج أن تعجل وتبادر بالاعتذار بأسلوب جميل حتى يستشعر منه الزوج الأسف والندم الحقيقي، ولا يستشعر فيه الكبرياء والاستعلاء، أو أنها تريد أن تحصل حصيلة فقط، ولا يعنيها أن يرضى أو لا يرضى، فهذا الفعل منها ربما يغضب الزوج بسببه غضباً يفوق غضبه الأول، فإن كان الخطأ من الزوجة وكان هذا الخطأ سبباً في غضب الزوج؛ فلتبادر الزوجة بتواضع ورفق، فهذا زوجها وأقرب الناس إليها، بل ربما لا تستطيع المرأة أن تتجرد من ثيابها أمام أمها بعد الزواج وأمام أبيها، لكنها تعطي كل شيء وكل ما تملك لزوجها، وهذا هو الذي قال الله فيه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] ، هذا هو الميثاق الغليظ بين الزوج وزوجه، فالعلاقة الزوجية علاقة لا يستطيع عالم مهما أوتي من البلاغة والأدب والفصاحة والبيان أن يصفها؛ لأنها علاقة في غاية السمو في غاية الرقة. إذاً: إن أخطأت الزوجة وأغضبت زوجها، فلتبادر بالاعتذار بأسلوب رقراق جميل، يستشعر منه الزوج فعلاً أن الزوجة حزينة لما بدر منها، أما إذا كان الخطأ من الزوج نفسه، وأنا أتصور أن الزوجة العاقلة المسلمة إن أخطأ الزوج لا تعاتبه في وقت غضبه؛ لأنها ستخسر القضية مرتين، لكن فلتصبر، بمعنى: أن تترك له المكان، وأن تخرج من الغرفة التي دار الحوار فيها واشتد وأخطأ الزوج بهذه الكلمات في حق زوجته، فلتترك المكان ولتنتظر قليلاً، وأنا على يقين أن الزوج إن كان مسلماً منصفاً عاقلاً فإنه بعد قليل جد سيراجع نفسه؛ لأن المؤمن سريع الغضب سريع الرضا، يغضب سريعاً ويرضى سريعاً، فسرعان ما يرجع هذا الزوج المسلم الوفي العاقل إلى زوجته بكلمات رقيقة: سامحيني يا أم فلان. وإن عاد الزوج مغضباً وهي لا تعرف ما السبب، فعلى الزوجة العاقلة أن لا تتعمد وأن لا تلح على زوجها لتعرف سر غضبه، وما الذي حصل؟ لأن هذه الأسئلة ربما تزعجه وتغضبه، بل وربما تكون هذه الأسئلة بهذا الطرح سبباً جديداً من أسباب غضبه وانفعاله على الزوجة مرة أخرى، ولتتعلم الزوجة المسلمة العاقلة من أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، يوم أن عاد إليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتعد ويرتجف جسده: (زملوني زملوني) ، (دثروني دثروني) ، بعدما عاد من الغار ونزل عليه جبريل بأولى كلمات السماء: (اقرأ) ، فغطته ودثرته، ولم تتكلم حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه وهدأت نفسه، واستقرت جوارحه، وبدأ يقص هو عليها ما حدث، يقول: (إني خشيت على نفسي يا خديجة، تقول له: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً) . فـ خديجة رمز الوفاء، وسكن سيد الأنبياء، فيجب على كل مسلمة أن تتعلم من هذه القمة الشامخة، ومن زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الصالحات في كل زمان وفي كل حين, وأمة النبي صلى الله عليه وسلم أمة معطاءة، لا تخلو أبداً من هذا الفضل والخير والنساء الصالحات القانتات المؤمنات. إذا كات الزوجة لا تعرف سر غضب زوجها فلتصبر قليلاً، حتى إذا هدأ فسيبدأ هو بنفسه؛ لأنه في أمس الحاجة إلى من يخاطبه ويحدثه، ويريد أن يتحدث مع نفسه، وأنتِ نفسه إن استشعر الزوج في زوجته العقل وسداد الرأي فإنه يأنس جداً بالحديث إليها، بل ويخرج لها كل ما في جوفه، وكل ما في صدره، ويبثها همومه وأحزانه وأشجانه وآلامه؛ لأنه ينتظر منها الكلمة الوقورة الهادئة الهادفة التي تبدد كثيراً من أحزانه وهمومه وآلامه. تصوري لو أن زوجاً حدث بينه وبين رئيسه في العمل إشكال، وعاد إلى زوجته وهو مهموم، ودخل إلى فراشه، فصمتت واستقبلته بكلمات طيبة وابتسامة حانية، وتركته حتى ينام، ثم استيقظ من نومه فوجدها قد أعدت له طعامه وشرابه الذي يحب أن يشربه، ثم جلست إليه وقد هيأت نفسها بثوبها الحسن وطيبها الجميل، وجلست إلى جواره في لحظات تشعر فيها أنه قد استقر، وقالت له: يا أبا فلان! ما لي أراك مهموماً حزيناً؟ فسيبدأ الزوج في إخراج كل ما عنده. هذه هي حدود الطاعة للزوج. وأسأل الله سبحانه أن يرزق الأزواج والزوجات الطاعة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 حكم طاعة الزوجة في منع أهلها من دخول بيت زوجها مداخلة: لو أن الزوج -مثلاً- وقع في مشاحنة مع أهل الزوجة، وطلب منها أن لا تدخلهم بيته: هل امتثالها لأمره يكون طاعة؟ الشيخ: يجب على الزوجة في هذه الحالة أن تطيع زوجها، ولو وجد الزوج في زوجته الطاعة في الصورة الودودة المشرقة التي ذكرت؛ فسيتغير حتماً إن شاء الله، ولكن لا يجوز للزوج في هذه الحالة أن يمنع زوجته من أن تذهب إلى أهلها، وإن امتنع هو عن زيارة أهلها، فليس من حقه أن يحول بينها وبين أهلها؛ لأن هذه قطيعة رحم، ولا يقبل الزوج المسلم لنفسه أبداً أن يكون قاطعاً للرحم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 أهمية تجمل الزوجة وتطيبها لزوجها في دوام المحبة والألفة مقدم البرنامج: الأزواج يقولون: إن الزوجة في بداية الزواج كان منظرها جميلاً ورائحتها طيبة ولطيفة، لكن بعد الزواج بفترة لم تعد تهتم بجمالها ولا بنظافتها فما رأيكم في هذا؟ الشيخ: هذا أيضاً من أعظم حقوق الزوج على زوجته، فينبغي أن تكون الزوجة باستمرار متجملة متطيبة؛ فالأنوثة والزينة والطيب من آكد حقوق الزوج على زوجته، وقد ذكرت أن الزوجة قد تقول: زوجي لن يطلقني، فنقول: لا، ولو لم يطلق فإنه قد يهجر البيت، فكم من الأزواج يشكون من هذا، لأن الزوجة تظن أنه بمجرد أنه صار زوجاً فهو لا يحتاج أن تتزين له أو تتطيب أو تتجمل، وبالفعل فإن كثيراً من المسلمات لا تضع الزينة ولا تضع الطيب إلا إذا أرادت أن تخرج، ولا حول ولا قوة وإلا بالله، وإذا ما جلست مع زوجها في البيت لا يراها دوماً إلا بثياب المطبخ، أو بثوب عادي تنبعث منه رائحة الثوم والبصل، فيتألم الزوج، مع أن المرأة قد جبلت أصلاً على حب الزينة، يقول سبحانه: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] ، جبلت المرأة على حب الزينة والجمال، وهذا أمر فطري، فتصر المرأة أن تعكس هذه الفطرة فلا تتزين لأقرب الناس إليها، الذي يجب عليها أن تتزين له في كل وقت وحين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله جميل يحب الجمال) . قد تقول لي زوجة الآن: يا أخي! أنا لا أملك الثياب، ولا أملك الطيب والعطور، أنا امرأة فقيرة، فأقول: يا أختاه! والله ما كانت الزينة والجمال بهذا الثراء، فقد تظهر الزوجة لزوجها بثوب متواضع لا يزيد ثمنه عن عشرين جنيهاً، لكنه جميل، مكوي معطر مطيب يظهر جمالها، تظهر بتسريحة جميلة لشعرها جمال وجهها، تضع أي لون من ألوان الطيب، وتقبل على زوجها برائحة جميلة لفمها ولجسدها ولشعرها ولثوبها؛ فيشعر الزوج دوماً بالانجذاب إليها، لكن إذا نظر الزوج إلى زوجته فرآها لا تعيره اهتماماً، ولا تهتم بالثوب، ولا بالطيب، ولا بتسريحة الشعر؛ فلتثق الزوجة تماماً أنه سيهجر البيت وسيفر منه، وهي تعلم يقيناً أنه سيخرج إلى الشوارع والطرقات؛ ليرى فتناً بكل أشكالها وألوانها، فلا تلومن الزوجة حينئذ إلا نفسها إن وجدت قلب الزوج قد تغير، ولتفتش هي عن الأسباب الحقيقية التي جعلت زوجها يتغير. أسال الله عز وجل أن يرزق أخواتنا الفهم لهذه الجزئية؛ فإنها من أخطر الأسباب التي تعكر صفو البيوت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 إكرام الزوجة لأهل زوجها سبب في سعادته مقدم البرنامج: في وقتنا الآن تجد أن الصراع قائم بين أم الزوج والزوجة، والزوجة دائماً تشعر أن الأم هي المسيطرة على الزوج، والأم أيضاً تشعر أن ابنها قد امتلكته الزوجة، ويبقى الصراع قائماً، ويصل إلى مرحلة قطع الرحم من الزوج مع أهله، فما الحلول لمثل هذه المشاكل؟ الشيخ: قد بينا أن من حقوق الزوجة على زوجها أن يكرم الزوج أهل الزوجة، وكذلك من حق الزوج على زوجته أن تكرم الزوجة أهل الزوج، ولا ينبغي أبداً للزوجة المسلمة أن تكون فتنة على زوجها، أو أن تكون سبباً في أن يقطع هذا الزوج رحمه، وأن تقول له في كل لحظة من اللحظات: (أمك أمك، أبوك، إخوانك، أهلك) لا ينبغي أبداً للزوجة المسلمة أن تكون كذلك، وفي المقابل لا ينبغي للزوج أن يظلم زوجته لصالح والديه أو لصالح أهله إطلاقا، بل يجب على الزوج أن يعطي كل ذي حق حقه، بعدل وإنصاف، ولتكرم الزوجة أهل الزوج، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الذي رواه الحاكم والبزار بسند حسن، من حديث عائشة قالت: (قلت: يا رسول الله! أي الناس أعظم حقاً على المرأة؟ قال: زوجها) ، وأنا أريد من الزوجة أن تعي وتفهم هذا الحديث. فـ عائشة رضوان الله عليها تريد أن تعرف الحقوق والواجبات، تقول رضي الله عنها: (قلت: يا رسول الله! أي الناس أعظم حقاً على المرأة؟ قال: زوجها، قالت: يا رسول الله! وأي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ قال: أمه) ، فالزوجة المسلمة لا ينبغي أبداً أن تجعل من نفسها نداً للأم، فبهذا ستفسد الحياة، وسيفسد البيت، وربما تزداد المشكلة إن كان الزوج قد تزوج امرأته في بيت والديه، وهنا تكون المشكلة أكبر، ولكنني أنصح الزوج في هذه الحالة أن يعقد اتفاقاً مع زوجته في غرفتهما، وأن يصير هذا الاتفاق سائداً وأصيلاً بينهما، فيقول: اسمحي لي أيتها الزوجة الحبيبة إن دخلت يوماً واشتكت منك أمي لي أن أرضي أمي بكلمات، وثقي تمام الثقة أن مكانتك في القلب كبيرة، وأن صمتك في هذه اللحظات يزيد من مكانتك وقدرك عندي، ولتكن هذه الكلمات بمثابة اتفاق، ولتعلم الزوجة أن زوجها بهذه الكلمات لا يريد أن يجرح مشاعرها، وإنما يريد أن يرضي أمه، فإذا ما دخل الزوج العاقل الوفي إلى غرفته مع امرأته؛ فليكن بينهما ما يكون بين زوجين حبيبين وفيين، يحرص كل واحد منهما أن يكرم الآخر، وألا يحرجه ويضع كل واحد منهما الآخر في أعلى مكانة، وبهذا الوصف الذي وصفت قبل ذلك لكثير من إخواننا وأخوتنا زالت كثير من المشكلات، أما إن دخل الزوج وسمع كلمات قليلة من أمه في حق زوجته؛ فآذى زوجته أمام أمه بكلمات ظالمة متهورة، بدعوى أنه يريد أن يرضي أمه، ولو على حساب ظلم امرأته؛ فهذا لا يجوز أبداً ولا يليق، وإنما يجب عليه أن يعطي حق والديه وأن يعطي حق زوجته بلا إفراط ولا تفريط، ومن الحق على الزوجة المسلمة الوفية أن تكرم أهل زوجها، كما كان من حقها على زوجها أن يكرم أهلها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 تربية الأبناء مسئولية مشتركة بين الزوجين مقدم البرنامج: هناك خلاف قائم ما بين الزوج والزوجة على تربية الأولاد، فالزوج يتهم الزوجة بعدم تربيتها للأبناء التربية الصحيحة، والزوجة تتهم الزوج بعدم تربية الأبناء التربية الصحيحة، فيظل الخلاف والصراع قائماً فما الحل؟ الشيخ: ذكرت أن تربية الأولاد مسئولية مشتركة تضامنية بين الزوج وزوجته، ومن حقوق الزوج على زوجته: أن تهتم الزوجة هي الأخرى بتربية الأولاد، ولا ينبغي أن تهمل الزوجة تربية الأولاد؛ فهذه أمانة عظيمة ستسأل عنها بين يدي الله، بل دعنى أؤكد لحضرتك ولأخواتنا الفضليات أن الأم هي الأصل، وأن أول من يخط على هذه الجوهرة الغالية -على قلب الطفل- هي أمه، فالطفل قلبه خال من كل نقش، فأول من ينقش فيه الأم، ولا يجوز البتة للأم أن تظن أن أمومتها تتمثل في أنها أنجبت فحسب، وتتخلى بعد ذلك عن مسئولية الأولاد، فتتركهم يجوبون الأسواق بدون حاجة أو ضرورة, أو يخرجون هنا وهناك، وتتركهم يتربون على كثير من الوسائل المختلفة التي لا تضمن لهم أبداً النصح والتوجيه والتربية السليمة الرشيدة، فقد يشعر الولد باليتم مع وجود والديه؛ لأن الوالدين تخليا عنه. ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلّفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا فيجب على الزوجة المسلمة أن تعلم أنها مسئولة مسئولية كبيرة عن الأولاد، وأذكرها بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) ، وأذكرها بحديث آخر كما في الصحيحين من حديث معقل بن يسار أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 وصية أم لابنتها أرى عقارب الساعة تطاردنا بسرعة مذهلة، وأوشك اللقاء على الانتهاء، لكن اسمحوا لي أن أذكّر بوصية جامعة لأخواتي الفضليات المسلمات، إنها وصية أم عاقلة، إنها وصية أمامة بنت الحارث لابنتها أم إياس بنت عوف الشيباني، قالت هذه الأم العاقلة لابنتها ليلة زفافها، وقدمت لها هذه الوصية الغالية والهدية الثمينة، فقالت لها: أي بنية لو تركت الوصية لفضل أدب لتركت ذلك لك، ولكنها معونة للعاقل، وتنبيه للغافل. أي بنية: اعلمي أنك ستفارقين العش الذي فيه درجت، إلى بيت لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة يكن لك عبداً، واحفظي له خصالاً عشراً تكن لك ذخراً: أما الأولى والثانية: فالخضوع له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة. وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لمواطن عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح، وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه؛ فإن تواتر الجوع ملهبة، وإن تنغيص النوم مغضبة. وأما السابعة والثامنة: فالرعاية لماله وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التدبير، وفي العيال حسن التقدير، وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفرحي إن كان مغتماً، ولا تحزني إن كان فرحاً. ما أحوج النساء إلى مثل هذه الوصية الغالية؛ لتحيا بيوتنا حياة سعيدة. أسأل الله جل وعلا أن يسعد بيوت المسلمين، وأن يملأها رضاً وسعادة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أعتقد أيها الأزواج والزوجات بعد ما علمنا حق الزوج و حق الزوجة ، أن حياة البيت ستكون حياة هنيئة سعيدة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 سلسلة إيمانية - حق الزوجة الحياة الزوجية مملكة إيمانية كريمة، لا يعرف قدرها كثير من الأزواج، ولأجل ذلك كثرت المشاكل، وكثر الطلاق، وانتشر الفساد في كثير من الأسر المسلمة، ولا علاج لذلك ولا مخرج إلا برجوع الزوجين إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فبهما يسعد الزوجان، ويعرف كل منهما الحق الذي عليه فيؤديه، والحق الذي له فيجده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 حقوق الزوجة على الزوج الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً من أهل السعادة في الدارين، وأستهل هذا اللقاء الجليل بهذا الدعاء الكريم المبارك: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] . الحياة الزوجية مملكة إيمانية كريمة، لا يعرف قدر هذه المملكة كثير من الأزواج، فالزوجان معاً في هذه المملكة لهما قدر كبير، ومكانة عظيمة، أما الزوج فبما جعل الله عز وجل له من قوامة، كما في قوله سبحانه وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] ، وأما الزوجة فملكة متوجة كريمة في هذه المملكة الإيمانية، فهي شريكة الحياة، ورفيقة الدرب، وقرة العين، قال الله جل وعلا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] . ولاحظ أن الرعية في هذه المملكة الإيمانية الكريمة هم ثمرة الفؤاد، ولب الكبد، وزهرة الحياة الدنيا، هم الأولاد، قال جل وعلا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46] . هذه المملكة الإيمانية إن ظلل سماءها في البيت منهج رب البرية، ومنهج سيد البشرية، وارتوى نباتها بماء الحب والمودة والرحمة الندية، آتت هذه المملكة ثمارها كل صبح وعشية، وإذا ظهر يوماً في أرضها نبتة سوء لمشكلة يومية أو أسرية، فإنها حتماً ستذبل أو ستموت؛ لأنه لا يمكن على الإطلاق أن تنبت مثل هذه النبتة في هذه الأرض التقية النقية الزكية، فالحياة الزوجية حياة جليلة كريمة، الزوج والزوجة فيها ملكان متوجان، وما وقعت هذه المشاكل إلا لما غاب عن هذه الأسر منهج الله، ومنهج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف كل من الزوجين ما له وما عليه من الحقوق والواجبات. واسمح لي أن نستهل الحديث اليوم في هذا اللقاء عن حق الزوجة وذلك تأدباً منا بأدب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا بقوله: (استوصوا بالنساء خيراً) ، فامتثالاً منا لهذا الأمر النبوي الكريم، نبدأ بالحديث عن حق الزوجة المسلمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 حسن العشرة وطيب الخلق أعظم حق للزوجة على زوجها: حسن الخلق، وإحسان العشرة. ما قيمة المال عند الزوج، وما قيمة المنصب، وما قيمة الجاه، وما قيمة الشهادة التي حصلها الزوج ما قيمة ما يقدمه الزوج لزوجته من طعام وشراب وثياب، ووجاهة وجاه ومنصب، إن كان سيئ الخلق، بذيء اللسان، كثير السب واللعن والطعن؟! ما قيمة هذا بالنسبة للزوجة؟! لا شيء. ما قيمة أن يقدم الزوج لزوجته كل ما تشتهيه من أمور الدنيا وهو في الوقت ذاته مملوء بالكبر والغرور، لا يعامل زوجته إلا بقسوة وغلظة وفظاظة فلا تسمع منه إلا الكلمة السيئة البذيئة؟! مداخلة: اعتقاداً منه أن هذه رجولة. الشيخ: أبداً، كما سيتضح لإخواننا جميعاً من الأزواج، وكما سنتعرف على خلق أعظم زوج وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، فالزوجة تحتقر زوجها الذي يكثر السب واللعن والطعن والكلام البذيء والكلام الفاحش، فمن أعظم المفاتيح التي يفتح بها الزوج قلب زوجته: أن يكون حسن الخلق، ولا قيمة لكل ما يقدمه إن كان سيئ الخلق، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -: (استوصوا بالنساء خيراً) ، أمر من رسول الله لكل زوج: (استوصوا بالنساء خيراً) . بل وتدبر معي أنه في جبل عرفات في هذا اليوم الجليل الأغر المبارك الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم ليبين حرمة الأعراض وحرمة الدماء والأموال، ومع ذلك لم ينسَ أن يبين حرمة الزوجة المسلمة ومكانتها فقال عليه الصلاة والسلام، والحديث حديث طويل رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله، وفيه قال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) ، وفي الحديث الذي رواه ابن حبان والحاكم والترمذي وغيرهم بسند صحيح من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ، (وخياركم خياركم لنسائهم) . أيها الأحبة! مَن مِن الأزواج لا يقدر إذا دخل على زوجته أن يلقي عليها السلام، فهو أمر لا يكلفه شيئاً على الإطلاق، حتى ولو فعل ذلك امتثالاً منه لأمر ربه وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم. قال الله جل وعلا: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61] ، فمن السنة إن دخلت بيتاً -حتى ولو لم تجد فيه أحداً- أن تلقي السلام، فإذا دخل الزوج على أهله فمن السنة أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله. وفي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره بسند حسن، أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ أنس رضي الله عنه: (يا بني! إذا دخلت على أهلك فسلم؛ يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك) ، مهما كان حجم المشكلة بين الزوج وزوجه -أي: وزوجته- إذا دخل وقال: السلام عليكم ورحمة الله؛ حتماً ستبدأ العقدة الأولى من عقد المشاكل في الحل، فإذا خرج مرة ثانية وعاد وألقى السلام ستحل العقدة الثانية، وهكذا. يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا أنس! إذا دخلت على أهلك فسلم؛ يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك) . مَن مِن الأزواج لا يقدر على أن يلقى امرأته إذا دخل عليها بوجه طلق؟ روى الإمام مسلم في الصحيح من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) وأولى الناس بطلاقة الوجه من الرجل هي امرأته؛ فهي أقرب الناس إليه. وهناك من الأزواج من إذا دخل البيت اكفهر وجهه، ولا بد أن تقوم المرأة، ولا بد أن يستيقظ النائم، ويقف الجالس, وأن تحدث حالة من الطوارئ لمجرد أن الزوج قد دخل؛ بدعوى أن هذه هي الرجولة! كلا، ما كان هكذا نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو خير زوج عرفته الدنيا، بل بالعكس، كان رحيماً رقيقاً مؤدباً مهذباً، بل لقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه ما أحل الله له؛ إرضاءً لنسائه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على زينب رضوان الله عليها يطيل المكث عندها، فدبت الغيرة في قلب عائشة وحفصة؛ فاتفقتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالتا: إن دخل رسول الله على واحدة منا، فلتبتعد عنه ولتقل: إني أجد منك رائحة مغافير، والمغافير: نبتة كانت تنبت في أرض المدينة لها رائحة ليست طيبة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على حفصة، فابتعدت عنه وقالت: إني أجد منك رائحة مغافير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما أكلت شيئاً، والله ما أكلت إلا العسل عند زينب، ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عند حفصة ليدخل على عائشة رضوان الله عليهن، فابتعدت عنه وقالت: يا رسول الله! ماذا أكلت؟ إني أشم منك رائحة مغافير، يعني: أنها تشم رائحة كريهة! وهو الطيب الذي كان عرقه أطيب من المسك بأبي هو وأمي وروحي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم ومسند أحمد بسند صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ -يعني: نام في وقت القيلولة- عند أم سليم، فاستيقظ النبي عليه الصلاة والسلام وأم سليم تسلت عرقه في قارورة -في زجاجة- فقال: ما تصنعين يا أم سليم؟ قالت: عرقك أطيب طيبنا يا رسول الله) . وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال: (خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي: أف قط، وما قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ يقول أنس: ووالله ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله، وما شممت مسكاً ولا عنبراً أطيب من ريح رسول الله) ،ومع ذلك السيدة عائشة تقول له: (إني أجد منك رائحة مغافير، قال: والله ما أكلت شيئاً، والله ما أكلت إلا العسل عند زينب، ثم يقول: والله لا آكل العسل بعد اليوم) ؛ من أجل أن يرضي عائشة وحفصة رضوان الله على الجميع؛ فنزل عليه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} لماذا تحرم ما أحل الله لك؟ {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] . انظر إلى هذا الخلق! فهناك من الزوجات من تستجدي من زوجها الكلمة الطيبة، وتتسول منه الابتسامة الحانية، في الوقت الذي تراه زوجته مع أهله وأقربائه وأصدقائه وأحبابه لطيفاً ظريفاً، ودودواً، لكنها إذا عاملته أو عاشرته وجدت منه الفظاظة والغلظة والقسوة، فأولى الناس بأن تلقاه أيها الزوج بوجه طلق هي زوجتك وامرأتك. أيها الأحبة! مَن مِن الأزواج لا يستطيع أن يخاطب زوجته بالكلمة الطيبة؟ يا أخي! الكلمة الطيبة صدقة، كما جاء في الصحيحين من قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة) . أخي! تستطيع بكلمة طيبة أن تحرم نفسك على النار بإذن العزيز الغفار، وأولى الناس بهذه الكلمة الطيبة هي رفيقة دربك، وشريكة حياتك، وهي الزوجة المسلمة، فهي أولى الناس بأن تسمعها الكلام الطيب الذي تسمعه لأصحابك وإخوانك وأقاربك وأهلك وأولادك، هي من أولى الناس بأن تسمع الكلمة الطيبة الحنونة الظريفة الرقيقة الرقراقة من الزوج، بل ستعجب إذا علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداعب السيدة عائشة، يعني: يخاطبها بالكلمة التي تحبها، يقول لها: يا عائش، فيجب على الزوج المسلم أن يختار أرق الكلمات، وأجمل العبارات التي تسعد قلب امرأته. ودعني أقول: المرأة هي المرأة، وأنا لا أقلل بذلك من قدرها على الإطلاق، وإنما أود أن أؤكد لإخواني من الرجال والأزواج أن المرأة مهما كان قدرها، ومهما كان شأنها؛ فإنها تحب على الدوام أن تسمع الكلمة الطيبة من زوجها، حتى ولو بثنائه على شراب تقدمه طعام تقدمه ثوب ترتديه، تنتظر المرأة من الزوج أن يعلق على فستانها، أن يعلق على تسريحة شعرها، أن يعلق على عطرها، أن يعلق على شرابها، أن يعلق على طعامها؛ فالكلمة الطيبة صدقة، فما ظنك إن كنت ستتصدق بهذه الكلمة على أقرب الناس إليك. أيضاً: الزوج المؤمن الصالح هو الذي لا يخاطب امرأته بكلمات جارحة نابية، وهو الذي لا يتصيد الخطأ الصغير من أجل أن يجعل منه مشكلة ضخمة كبيرة؛ ليعنف ويوبخ ويقرع، وشتان بين زوج صالح ذكي يداعب زوجته ويقول لها: إن النساء رياحين خلقن لنا وكلنا يشتهي شم الرياحين وبين زوج عبوس يقول لامرأته: إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين فأعظم حق وأول حق للزوجة على زوجها: أن يكون الزوج حسن الخلق، حسن العشرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 العون على الطاعة مداخلة: العلاقة الزوجية اليوم عبارة عن صراع، وكل من الزوجين يريد أن يسيطر على الآخر، ويوجد من شباب هذه الأيام من يبحث عن زوجة صالحة ولا يفكر أنه يبحث عن زوجة تعينه على دينه وهو كذلك يعينها على طاعة الله. الشيخ: هذا هو الحق الثاني -بلا نزاع-: وهو أن يكون الزوج عوناً لزوجته على طاعة الله سبحانه وتعالى، فالحياة الزوجية ليست مكاناً للطعام والشراب، والاستمتاع الجسدي فحسب، وإنما ينبغي أن نبحث عن الغاية التي من أجلها أنشئت الأسرة، فنحن بكل أسف نبحث عن الغاية من خلق كل شيء وجد من أجلنا، وننسى أن نبحث عن الغاية التي وجدنا نحن من أجلها. قال الله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ، فهذه الأسرة المسلمة لبنة عظيمة في صرح الأمة الإسلامية، فينبغي أن تعي الأسرة الغاية التي من أجلها أنشئت، فليست مرتعاً للطعام والشراب والاستمتاع الجسدي فحسب، وإنما يجب أن يكون الزوج عوناً لزوجته على طاعة الله سبحانه، يا حبذا لو أمرها بالإنفاق يا حبذا لو أطلق يدها لتنفق في سبيل الله، ولا حرج على الإطلاق إن أخبرها بأنه قد سامحها لو أنفقت شيئاً من ماله في مرضاة الله سبحانه، حتى ولو كانت النفقة على أهلها إن كانوا يستحقون هذه النفقة يعاونها على قراءة القرآن يأخذ بيدها إلى بيوت الله سبحانه وتعالى يستمع معها شريطاً أو يرى معها شيئاً يذكرهما بالله عز وجل. يا حبذا لو جلس مع امرأته يوماً وجمع أولاده وقال: هيا بنا لنجعل لنا ورداً يومياً مع كتاب الله سبحانه وتعالى هيا بنا لنجعل لنا ورداً يومياً مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على الأقل لو اجتمع معها ومع أولاده في الأسبوع مرة ليجتمعوا جميعاً على كتاب الله، أو على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على أي ذكر من الأذكار، حتى ولو خرج بها في الخلاء وفي أماكن المنتزهات أو في أماكن جميلة، وقضى معها وقتاً جميلاً، وبعد ذلك قال: هيا بنا لنجلس مثلاً مع كتاب الله، لنستمع إلى شريط من أشرطة أهل العلم. إلى غير ذلك. ينبغي أن يكون الزوج عوناً لزوجته على طاعة الله سبحانه وتعالى، ففي الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى فأيقظ امرأته -يعني: لتصلي معه- فإن أبت نضح في وجهها الماء) ، الرسول يقول (نضح) وليس أغرقها في الماء! فقد أرسلت إلي الأسبوع الماضي أخت فاضلة رسالة تقسم لي بالله فيها أن زوجها إذا أراد أن يوقظها لصلاة الفجر وتلكأت بعض الشيء لتعبها أو لمرضها، تقسم لي بالله أنه يذهب إلى الثلاجة ليأتي بزجاجة كاملة ويصب الزجاجة كاملة عليها! بدعوى أنه يوقظها لصلاة الفجر! أهذا خلق؟! ليس هذا من خلق النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن الزوج بهذا الفعل يكون سبباً رئيساً في أن تبغض هذه الزوجة صلاة الفجر، بل في أن تبغض الصلاة، بل في أن تبغض الدين كله. فينبغي أن يكون الزوج رقيقاً لطيفاً، وأن يحب لزوجته ما يحب لنفسه، ولا يمكن على الإطلاق أن الزوج هذا يقبل أن توقظه امرأته لصلاة الفجر يوماً بنفس الطريقة التي أراد أن يوقظها بها لصلاة الفجر، والله لا يقبل هذا، وربما طلقها في التو واللحظة، وألقى عليها يمين الطلاق، فعلى الزوج المؤمن أن يعامل امرأته برفق وإحسان، وكثيراً ما أنصح إخواننا وأحبابنا ممن مَن الله عليه بالالتزام والهداية وهو يريد أن يحول امرأته في التو واللحظة إلى ما صار عليه مع أنه لم يكن كذلك، أذكرهم بقول الله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] ، وأذكرهم أيضاً بقول الله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] . ولا تغفل عن قول الله عز وجل: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] ، فيجب على الزوج أن يكون عوناً لزوجته على طاعة الله، كما يجب أن تكون زوجته هي الأخرى عوناً له على طاعة الله عز وجل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 الإنفاق وعدم البخل مداخلة: بعض الشباب إذا تقدم للعرس تجده يكثر من الهدايا لزوجته وينفق ببذخ وتبذير حتى بعد الزواج مباشرة، ثم بعد ذلك يبدأ يبخل ويقتر على زوجته في المصروف الضروري. الشيخ: الإنفاق على الزوجة حق من أعظم حقوقها، فلا ينبغي على الإطلاق للزوج بعد الزواج أن يتقاعس عن هذا الحق الذي عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) ، وأود أن أبين لإخواني الأزواج أن الزوجة تبغض من كل قلبها الزوج البخيل، لا سيما إذا علمت أن الله عز وجل قد وسع عليه وأعطاه من فضله ولو كان صاحب وجاهة، ولو كان صاحب منصب، ولو كان صاحب شهادة مرموقة، ولو كان ممن يقف بين يديه الرجال، فإذا أصيب بمرض البخل فإن زوجته تبغضه غاية البغض. إذاً: الإنفاق بلا إسراف ولا تقتير، وبلا إفراط أو تفريط من آكد حقوق الزوجة على زوجها، يقول الله سبحانه وتعالى: (لينفق) واللام هنا لام الأمر {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} ، يعني: من ضيق عليه رزقه {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً} [الطلاق:7] ، هذه رحمة الله سبحانه، الله لا يكلفك أن تنفق إلا في حدود قدراتك، لكن ليس معنى ذلك أن تبخل على امرأتك أو على أولادك، والنبي صلى الله عليه وسلم يبشرنا معاشر الأزواج بأن النفقة على الزوجة مع أنها واجب على الزوج لو احتسبها فهي له عند الله صدقة. بشرى عظيمة نفقتي على زوجتي واجب علي، ومع ذلك لو احتسبت هذه النفقة وصححت النية فأنا مأجور عليها من عند الله جل وعلا. يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه: (إذا أنفق الرجل نفقة على أهله يحتسبها فهي له عند الله صدقة) . وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار أنفقته على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها عند الله أجراً دينار أنفقته على أهلك) . كثير من الأزواج لا يجدد النية في النفقة، فينبغي أن تجدد النية في كل شربة وفي كل طعمة تقدمها لامرأتك وأولادك، فلك بها أجر مع أنها واجب وفرض عليك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) ، فالنفقة على الزوجة من أعظم وآكد حقوق الزوجة على زوجها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 حق الفراش أيضاً من حقوق الزوجة على زوجها: حق الفراش، وأود أن أؤصل أيضاً لأخواتي الفضليات أننا لا نستحيي من لفظة ذكرها من كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكرها فنحن نذكرها بدون أدنى حياء أو خجل أو وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، فحق الفراش من أعظم حقوق الزوجة على الزوج، وكثير من الأزواج يضيع هذا الحق، وأنا أنكر عليه، وإن كان معذوراً بمرض، فأسأل الله عز وجل أن يشفي مرضى المسلمين، لكن هذا الزوج الذي يضيع هذا الحق الكبير لامرأته ويذر المرأة كالمعلقة، ولا يفكر في هذا الحق، في الوقت الذي لو أراد أو طلب امرأته للفراش وأبت عليه يغضب أشد الغضب، وهو حق من حقوقه أيضاً بلا شك كما سنبين إن شاء الله تعالى في اللقاء المقبل في حق الزوج على زوجته، لكن من علمائنا من يرى أنه يجب على الزوج أن يأتي زوجته في الفراش في كل طهر مرة، وهذا على أقل تقدير، وذهب إلى ذلك الإمام ابن حزم وفهمه من قوله عز وجل: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] ^، وهذا أمر صريح في كتاب ربنا: (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله) فالله جل وعلا يأمر كل زوج بقوله: (فإذا تطهرن) ، يعني: الزوجات (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) ، ومن علمائنا من يرى أنه يجب على الزوج أن يأتي امرأته على أقل تقدير في كل أربعة أشهر مرة إن كان معذوراً، لكن الذي أود أن أؤكده -وهذا ما يعنيني- أن أبين للزوجة وللزوج المسلم أن اللقاء بين الرجل وامرأته في الفراش ما هو إلا خلوة في لحظات كريمة جليلة، يستمتع فيها كل زوج بالآخر في الحلال الطيب، فإذا ظلل بآداب الهدي النبوي الكريم، واستفتح الزوج هذا اللقاء بالاستعاذة، وجدد النية بمعنى: أن يعف نفسه، وأن يعف امرأته، وأن يتضرع إلى الله أن يرزقه الذرية الصالحة، ومهد لهذا اللقاء بالكلمة الندية، والمداعبة اللطيفة الحنونة، كما علمنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا استحضر كل هذه النوايا صار هذا اللقاء من أعظم الأسباب التي تقوي أواصر المحبة والمودة بين الزوجين، وصار هذا اللقاء سبباً رئيسياً من الأسباب التي تذيب الجليد والبرود الذي ينتاب الحياة الزوجية من آن لآخر حتماً، فشتان بين زوج مسلم ذكي صالح تنتظر زوجته هذه اللحظات التي تخلو فيها بزوجها، وبين زوج آخر تبغض زوجته هذه اللحظات لرائحة فم زوجها الكريهة أو لرائحة عرقه المنفرة، أو لأنها مقبلة على جولة من جولات المصارعة الحرة! نعم. أود أن أؤصل أن اللقاء كله مودة ورحمة، ومتعة في الحلال الطيب، ولو وظف هذا التوظيف لكانت هذه اللحظات من أعظم اللحظات التي تذيب كثيراً من الخلافات والمشكلات والأزمات، التي تحدث من آن لآخر في كل بيوت المسلمين، ونسأل الله عز وجل أن يستر نساءنا وبناتنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 التطيب والتجمل مداخلة: ما رأيك في الزوج الذي يتقدم إلى زوجته وهو في ريحة عمله ومع ذلك لو أن الزوجة ما تطيبت وتجملت تكون هناك كارثة؟ الشيخ: هذا أيضاً من حقوق الزوجة على زوجها وهو التطيب والتجمل والتزين، لا في وقت الفراش فقط، بل كما يريد الزوج أن تتزين وتتطيب وتتجمل له امرأته في كل وقت، بل ويغضب جداً وربما يعلن الشكوى، ويقول: إن امرأتي لا تتطيب ولا تتجمل إلا إذا أرادت أن تخرج، وإذا ما جلست معي لا تجلس إلا بثياب المطبخ التي عطرتها رائحة الثوم والبصل، فيجب عليه هو الآخر أن يكون متطيباً متجملاً متزيناً لزوجته. من أين ذلك؟ من كتاب الله سبحانه وتعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] . وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (إني لأحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي امرأتي) . أمر جميل فهم راق. (إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي امرأتي) ومحال أن يظن الزوج العاقل الألمعي أنها لمجرد أنها زوجة ستقبله على أي حال، فهذا مرفوض مستحيل، بل ستبغض لقاءه، وهذا من أخطر الأسباب التي تجعل كثيراً من الزوجات يمتنعن عن الأزواج، فيجب على الزوج أن يتطيب, وأطيب الطيب الماء، وأن يضع قليلاً من طيبه، من أي عطر إذا أراد أن يقبل على امرأته، وتصور خلق الحبيب صلى الله عليه وسلم الذي كان عرقه أطيب من المسك، ومع ذلك كان يكثر من وضع الطيب، ويكثر من استعمال السواك ليغير رائحة فمه، ويكثر من وضع الطيب حتى قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والنسائي وغيرهما من حديث أنس قال: (حبب إلي من دنياكم الطيب) . إذاً: كما يحب الزوج أن تتطيب وتتزين له زوجته فمن حقها عليه أن يتزين ويتطيب هو الآخر لها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 الأمانة وعدم إفشاء أسرار البيت مداخلة: ما رأيك في الأزواج الذين عندهم دناءة فتجدهم يقعدون مع أصدقائهم في الشغل فيتكلم أحدهم على أدق التفاصيل مما حصل بينه وبين زوجته؟ الشيخ: نعم، هذا من أخطر ما يفسد العلاقات الزوجية، وكثير من الأزواج لا يشعر بهذا، فمن حقوق الزوجة أيضاًَ على زوجها أن يكون الزوج أميناً على أسرار البيت، ولا يوجد بيت من بيوت المسلمين إلا وتحدث فيه المشاكل، وربما تشتد المشكلة، وما دامت المشكلة داخل حدود البيت فإنها ستحل إن شاء الله تعالى ما دام كل زوج من الزوجين يريد الآخر، لكن إن خرجت المشكلة من البيت حتى وإن كانت المشكلة في بيت أهل الزوج أو في بيت أهل الزوجة فثق تمام الثقة أن المشكلة ستشتعل نارها وربما يستعصي بعد ذلك على كل من الزوجين أن يحل هذه المشكلة، مع أنها كانت في أول الأمر يسيرة لو أنها ظلت داخل جدران بيت الزوجية، وتزداد الخطورة إذا كان الزوج مفشياً لأسرار الفراش، وهذا من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم والحديث رواه أبو داود وغيره بسند صحيح من حديث أبي سعيد قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته والمرأة تفضي إلى زوجها، ثم يفشي أحدهما سر صاحبه) ، يتصور أنها عنترية، أن يجلس مع أصحابه وزملائه فيقول: لقد فعلت كذا، وفعلت معي زوجتي كذا وكذا! هذه من أقبح صور الخيانة أن يفشي الرجل سر امرأته. ومن أجمل وأرق ما قرأت على الإطلاق: أن رجلاً من سلفنا الصالح حدث بينه وبين امرأته إشكال، وذهب إليه بعض الصالحين فقال له: ما الذي بينكما؟ فقال هذا الزوج الصالح: العاقل لا يهتك ستر بيته، ثم قدر الله عز وجل وطلقها، فذهبوا إليه وقالوا: ما الذي كان يريبك منها؟ فقال هذا الرجل الصالح: مالي ولامرأة غيري! هذه هي الأخلاق، وهذا هو الدين! إن من أخطر الأمور التي أحذر منها إخواني الرجال أن يحرص الزوج على أن يظل الإشكال داخل حدود بيته، وألا يفشي سر البيت لا سيما سر الفراش، فهذه خيانة للأمانة، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] ، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الأمانة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 الإحسان إلى أهل الزوجة مداخلة: توجد ظاهرة عجيبة في هذا العصر في أغلب البيوت، وهي: أن الزوجة تريد أن تفصل الزوج عن أهله، والزوج يريد أن يفصل الزوجة عن أهلها، ويبقى هذا صراع دائم ليس له أول ولا آخر. الشيخ: هذا لأننا لم نعد نعرف الغاية التي من أجلها أقيمت الأسرة المسلمة، وصار كثير من الأزواج يريد أن يضرب حصاراً حديدياً على زوجته، وأن يفصلها فصلاً تاماً من أسرتها. أين صلة الرحم التي من أجلها أقيمت هذه الأسرة، مع عبادة الله سبحانه وتعالى كما أصلت في أول اللقاء؟ إن الزوج المسلم يجب عليه أن يعلم أن من حق زوجته عليه أن يكرم أهلها، فإكرام الزوج لزوجته بإكرامه لأهلها، بإكرامه لوالديها، وليعلم الزوج المسلم العاقل يقيناً إن كانت الزوجة أصيلة حتماً ستبالغ هي الأخرى في إكرام أهله، فما منا من زوج إلا وهو يتمنى إذا أقبل إليه والده أو دخلت عليه أمه أو دخل عليه أهله أن تقوم زوجته ولا تقعد، وأن تقدم أطيب ماعندها، وأن تبالغ في الترحيب والتكريم، كذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، وبالمقابل إذا أقبلت أم الزوجة التي صورها إعلامنا بصورة قبيحة جداً، وأنها إذا أقبلت دخلت النار إلى البيت وإلى غير ذلك من الألفاظ التي صورت أم الزوجة على أنها عدو لدود شرس للزوج! وهذا خلل وخطأ في الطرح، ينبغي أن يفطن إليه القائمون على أمر التربية والتوجيه، فواجب على الزوج المسلم أن يكرم والد زوجته وأن يكرم أم زوجته، وأن يكرم أهلها، وتعجب إذا علمت أن السيدة عائشة رضي الله عنها والحديث في الصحيحين تقول: (والله ما غرت على أحد من زوجات رسول الله ما غرت على خديجة، مع أنني لم أرها قط) . السيدة عائشة لم تر السيدة خديجة، ومع ذلك ما كانت تغار من زوجة من زوجات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كغيرتها من خديجة. لماذا؟ من كثرة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها، تقول عائشة: (لقد كان يأمر بذبح الشاة ويقول: أرسلوا منها إلى صديقات خديجة) ، ليس إكرام الأهل المباشرين فحسب، بل وحتى الصديقات. هذه أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام وهذا مدخل رقيق جداً، ومفتاح لا يعرفه كثير من الأزواج، مفتاح يستطيع أن يفتح به الرجل قلب امرأته، بل سيرى منها بعد ذلك مبالغة كريمة في إكرامها لأهله إذا اجتهد هو في أن يكرم أهلها، وهذا حق للزوجة على الزوج أن يبالغ في إكرام أهلها، وليجدد النية فله بذلك أجر إن شاء الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 الغيرة على الزوجة مداخلة: ما رأيك فيمن يدخل البيت ويفتح بهدوء، ثم يفتح الأبواب مرة واحدة فجأة، ثم يقول: أنا عندي غيرة؟ الشيخ: هذا جميل! ومن حق الزوج أن يغار على زوجته، بل دعني أؤصل لك أن الزوج الذي لا يغار على زوجته أو يقر الخبث في بيته فإنه رجل ديوث، لا يدخل الجنة إلا إذا شاء الله وتاب عليه كما أخبرنا رسول الله، فنحن لا نتألى على أحد، ولا نستطيع أن نحكم على أحد بجنة أو نحكم على أحد بنار، حاشى لله، لكن اسمع إلى ما يقوله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وغيره-: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث -أي: الرجل الذي يقر الخبث في أهله ولا يغار على أهله - والمسترجلة من النساء) ، يعني: المرأة التي تتشبه بالرجال في كل شيء، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى، فمن حق الزوج أن يغار، لكن فليعلم أن الغيرة نوعان: غيرة محمودة، وغيرة مذمومة، كما في الحديث الذي رواه أحمد والنسائي بسند حسن من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله) ، فأما الغيرة التي يحبها الله سبحانه فالغيرة في ريبة، الغيرة التي لها أسباب صريحة، ولها أدلة ومستندات واضحة، فهذه غيرة يحبها الله جل وعلا، وأما الغيرة التي لا يحبها الله سبحانه وتعالى فالغيرة في غير ريبة، والتي تبنى على الظن والأوهام والشكوك، وهذه الغيرة تخرب البيوت، وتدمر الأسر، وإذا أطلق الزوج لنفسه الخيال والعنان ربما اتهم زوجته بأبشع التهم، فلا بد أن تكون الغيرة منضبطة، بلا إفراط أو تفريط؛ حتى تستمر الحياة وتظل بيوت المسلمين مستورة، أسأل الله أن يسترها، وأن يجعلها دائماً عامرة بالسعادة والإيمان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 الحلم والكرم مداخلة: أغلب الزوجات تقول: إن الزوج خلقه غير جيد، يعني: مجرد كلمة تتكلم يرد الزوج بغضب ورفع صوت، وبالإضافة إلى ذلك يهجرها في الفراش، يعني: يجعل من الشيء الصغير أمراً كبيراً وعظيماً. الشيخ: نعم. من حق الزوجة على زوجها أن يكون الزوج حليماً عفواً كريماً، فالكمال لله وحده، والعصمة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد انتهى زمنها، وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. تذكر معي الآية التي ابتدأنا بها لقاءنا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] . وهناك فرق كبير بين المودة والرحمة، فالمودة: الحب، فإذا ذبلت وردة الحب بين الزوجين بقيت الرحمة؛ لتظلل البيوت وتستمر الحياة، فإن أخطأت الزوجة واعترفت بخطئها فليعف الزوج، ولا يفتخر ولا يتكبر، ولا تنتفخ أوداجه، فهذا ليس من خلق الرجال فضلاً عن أخلاق الأزواج الصالحين المؤمنين الصادقين. ما من بيت -أخي الحبيب- إلا وتحدث فيه المشاكل، لقد وقعت المشاكل في أطهر وأشرف بيت، في بيت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل خذ هذا الحديث الذي رواه البخاري من حديث عائشة: أنه حدث بينها وبين رسول الله شيء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ألمعياً ذكياً عبقرياً صاحب قلب كبير، كان يعرف متى تكون عائشة راضية عنه، ومتى تكون غاضبة عليه، فيقول لها: (يا عائشة! والله إني لأعرف متى تكونين راضية ومتى تكونين علي غاضبة. تقول: كيف يا رسول الله؟ فيقول: إن كنت عني راضية قلت: ورب محمد. وإن كنت غاضبة قلت: ورب إبراهيم. فقالت عائشة المحبة الفقيهة: أجل، والله لا أهجر إلا اسمك يا رسول الله) ، إنما أنت في القلب، فحدث بينها وبين رسول الله شيء مع أنها أحب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إلى قلبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أترضين أن يكون أبوك حكماً بيننا؟! فقالت: نعم. فيدخل الصديق رضوان الله عليه على رسول الله وعائشة في بيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لـ عائشة: تكلمي أو أتكلم أنا. فقالت عائشة: تكلم أنت ولا تقل إلا حقاً! فلم يتحملها الصديق فقام إلى السيدة عائشة فلطمها حتى أدماها، فقامت لتختفي خلف ظهر رسول الله، والرسول يقول لـ أبي بكر: (لا يا أبا بكر! والله ما لهذا دعوناك) ، والله ما أردنا هذا منك! صلى الله عليه وسلم وعفا عن عائشة. كثير من إخواننا يظن أنه إن عفا عن امرأته فهو ضعيف مهزوز الشخصية، ولا يعلم أن الحلم من شيم الرجال، والعفو عند المقدرة من شيم الرجال، ولتعلم أن هذه زوجة ضعيفة مسكينة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني أحرج عليكم حق الضعيفين: اليتيم والمرأة) . من من الأزواج يتحمل أن يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم خصماً له يوم القيامة؛ لأنه ظلم امرأته؟! سيكون خصمك يوم القيامة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ظلمت هذه الضعيفة في بيتك، (فخياركم خياركم لنسائهم) ، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله جل وعلا، قال: ما هما يا رسول الله؟ قال: الحلم والأناة) ، قال: أكانا فيَّ قديماً أم حديثاً؟ قال: بل قديماً، فقال هذا الرجل الفقيه: الحمد لله الذي جبلني على خصلتين أو خلتين يحبهما الله سبحانه وتعالى. وليعلم الزوج أن العفو عند المقدرة من شيم الرجال، فمن حق الزوجة إن أخطأت واعتذرت أن يقبل الزوج عذرها ويعفو عنها لتستمر الحياة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 تربية الأبناء واجب مشترك بين الأبوين مداخلة: هل على الزوج الإنفاق فقط لا غير، يعني: يشتغل ويصرف وينفصل عن تربية الأولاد وتبقى الزوجة هي المتحملة لمسئولية التربية؟! الشيخ: هذا حق جليل، ودعنا نختم به لقاءنا الكريم، وما أخرناه لقلة شأنه، وإنما أخرناه ليظل في عقل وقلب كل زوج، فليعلم كل زوج أن مسئولية التربية مسئولية تضامنية مشتركة بين الزوج وزوجته، ولا يجوز أبداً له أن يتخلى عن هذه المسئولية العظيمة بدعوى أنه ممثل فقط لوزارة المالية في البيت، إذا احتاج الأولاد طعاماً شراباً ثياباً وما يحتاجون إليه فهو يبذله، وهو يتصور بذلك أنه قد قدم كل ما عليه تجاه زوجته، لا، فليعلم الزوج المسلم العاقل أن تربية الأولاد مسئولية تضامنية سيسأل عنها مع زوجته بين يدي الله جل وعلا، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] ، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وفيه: الرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) ، وفي الصحيحين من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) . فمن أعظم حقوق الزوجة: أن تشعر أن زوجها يحمل معها هم الأولاد، فكم تتحطم الزوجة وتتألم حينما يكبر أولادها ويستعصي عليها أن تقود زمامهم، وتزداد المصيبة ويزداد همها إذا رأت الزوج قد انحرف وانصرف بعيداً عن هذه المسئولية الضخمة، وتركها تحمل هذا الحمل الضخم الثقيل، فيجب على كل زوج مسلم أن يعلم أن أولاده أمانة سيسأل عن هذه الأمانة بين يدي الله تبارك وتعالى، كما ستسأل الزوجة، وأتألم غاية الألم حينما يستقيل كثير من الآباء تربوياً، يستقيل من أبوة التربية ومن أبوة التوجيه، ومن أبوة الحنان، ومن أبوة الموعظة، ومن أبوة النصح، ويظن أن الأبوة فقط هي أنه كان سبباً لهؤلاء الأولاد، وهو لا يتخلف ولا يتأخر عن إحضار طعامهم وملابسهم وشرابهم، متناسياً أن التربية مسئولية تضامنية. إن من أعظم حقوق الزوجة على زوجها: أن يحمل معها هذا الحمل الثقيل، وأن يشاركها هذه الأمانة الضخمة. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يملأ بيوت المسلمين سعادة ورحمة وبركة، وأن يبارك في زوجاتنا وفي نسائنا وبناتنا، وأن يصلح شبابنا، وأن يهدي أولادنا. ودعنا نختم بالدعاء الذي استفتحنا به اللقاء: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] . وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 سلسلة إيمانية - دلائل صدق النبي صلى الله عليه وسلم دلائل صدق النبي صلى الله عليه وسلم متعددة، منها: المعجزات التي أتى بها، ومنها -وهو أعظمها- القرآن، ومنها ما أخبر به من حقائق كونية وعلمية جاء العلم الحديث بتصديقها، والواجب علينا أن نصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، وأن نطيعه فيما أمر، وأن ننتهي عما نهى عنه وزجر، كما كان حال الصحابة مع رسول الله، ولهم في ذلك شأن عجيب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 دلائل النبوة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذه اللحظات الطيبة على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته، ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ما زلنا نتحدث عن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا، وقلنا: إن من أعظم حقوقه علينا صلى الله عليه وسلم أن نصدق قوله؛ لأنه الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، وبينت في اللقاء الماضي أن الذي شهد بصدق نبينا صلى الله عليه وسلم هو الله، وشهد الواقع بصدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به من الماضي والحاضر والمستقبل، فما من شيء أخبر به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى إلا ووقع كما أخبر به دون زيادة أو نقصان. وكنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند من يرد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى أن العقل ينكر هذا القول! أو بدعوى أننا نعيش الآن عالماً علمياً متقدماً في جانب التكنولوجيا، فقد لا يصدق الواقع هذا القول! اللهم إلا إذا جاءنا الدليل على صدق كلام النبي صلى الله عليه وسلم من الشرق أو من الغرب، فحينئذ ترى الناس يعودوا مرة أخرى لتصديق كلام رسول الله!! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 النظريات العلمية تثبت صدق النبي عليه الصلاة والسلام روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب أو إحداهن بالتراب) والروايتان صحيحتان، وفي لفظ: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) ، فيأتي من يقول: أي تراب هذا الذي تتكلم عنه في عصر الذرة والإنترنت، وعصر أتوبيس الفضاء ديسكفري، وفي عصر المنظفات تقول: نغسل الإناء بالتراب إذا ولغ فيه الكلب؟! فينكر العقل هذا الكلام النبوي صلى الله على صاحبه، بدعوى أنه لا يمكن على الإطلاق أن نقول ذلك، بل ربما ترى من أحبابنا وإخواننا من يستحلفنا بالله ألا نردد مثل هذه الكلمات؛ حتى لا نتهم بأننا ما زلنا نعيش في العصور الوسطى، وحتى لا نتهم بالتخلف والجمود والرجعية والتأخر إلى آخر هذه التهم المعلبة التي تكال لمن يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الأحاديث. فيخرج علينا عالم إنجليزي -وما زال هذا العالم حياً يرزق، وهو من أعضاء اللجنة التي تمنح الزمالة البريطانية لمن يحصل على هذه الشهادة- ببحث علمي هائل ويقول: لقد اكتشفنا في مجال علم الطفيليات أن الكلب يفرز مع لعابه كماً هائلاً جداً من الجراثيم والميكروبات، تسبب أكثر من خمسين مرضاً. قال: واكتشفنا في الوقت ذاته أن القطط -التي قال في حقها النبي صلى الله عليه وسلم: (هن من الطوافين عليكم والطوفات) ، ولم يشدد فيهن مثلما شدد في شأن الكلاب- لا تفرز في لعابها أيَّ نوع من أنواع الجراثيم، وما ينتج عن القطط من أنواع الأمراض إنما هو بسبب الجلد أو البراز، وليس من اللعاب. قال: فلما طهرنا الإناء الذي ولغ فيه الكلب بكل وأحدث ما وصل إليه العلم الحديث من المطهرات والمنظفات، وجدنا أن كل هذه المنظفات لم تقض على كل الجراثيم التي أفرزها الكلب في لعابه في هذا الإناء. قال: فجربنا ما بلغنا عن محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- وغسلنا هذا الإناء بالتراب مرة، قال: ثم نظرنا بعد ذلك في البحث العلمي وقمنا بالتجربة؛ فلم نجد أثراً لميكروب أو لجرثومة واحدة في هذا الإناء الذي طهرناه بالتراب! فمن الذي علم محمداً صلى الله عليه وسلم ذلك؟! أولم يقل ربنا جل وعلا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] . بل خذ هذا البحث العلمي الآخر، وهو في غاية الروعة والجمال: روى الإمام البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم لينزعه، فإنه يحمل في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاءً) ، وفي لفظ صحيح: (دواء) . (شفاء ودواء وداء) . فقد اكتشف عالم ألماني يقال له: بريفلد من جامعة هال بألمانيا: أن الذباب حينما يسقط في السائل على أحد جناحين يفرز نوعاً من أنواع الجراثيم والميكروبات، ووجد أيضاً أن الذباب في الوقت ذاته يحمل على بطنه وعلى الجناح الآخر نوعاً من أنواع الفطريات سموه: (أميوزموسكي) ، واكتشفوا أن هذا الفطر يحمل نوعاً من أنواع المواد المضادة للجراثيم والميكروبات التي تفرزها الذبابة حين تلامس السائل بجناحها الأول، بل وستعجب إذا علمت أنهم اكتشفوا أن جرامين اثنين من هذا الفطر يحمي ألفين لتراً من اللبن من الجراثيم! بل اعجب أنهم قالوا: ولا تفرز الذبابة هذه المواد المضادة التي تقضي على هذه الجراثيم والميكروبات إلا إذا غمست كلها في السائل!! فمن الذي علم الصادق الذي لا ينطق عن الهوى هذه الحقيقة العلمية التي لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية، مع أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قد أخبر بها قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، فلنعلم يقيناً أنه لا ينطق عن الهوى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 صحيح العقل لا يعارض صريح النقل الذي يؤلم القلب أن الوحي حينما جاءنا ابتداء عن رسول الله أنكرناه بدعوى أن العقل لا يصدق هذا، وبدعوى أن العلم ينكر هذا، وبأننا نعيش عصر الذرة وعصر النووي إلى آخره؛ فلما جاءنا البحث العلمي من إنجلترا ومن ألمانيا يصدق ما أخبر به الصادق النبي صلى الله عليه وسلم صدقناه وقبلناه، ولم نعد ننكر هذا، وهذا هو الخطر العظيم. فأنا أناشد أحبابنا وإخواننا ممن يقدمون العقل على صحيح النقل وصريحه أن يعلموا أن للعقل مجالاً، وأن للعقل دوره الذي يجب عليه أن يبدع فيه بشرط ألا يتخطاه، وألا يتجاوزه وإلا وقع في خطر عظيم. المهم أن تسأل: هل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؟ هل هذا ثابت بالدليل القاطع الصحيح عن رسول الله؟ لا حرج عليك أن تسأل مثل هذا، فإن تبين لك بالأدلة المعلومة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بذلك وقد قال ذلك؛ فلا يجوز على الإطلاق أن ترد قول الحبيب بدعوى أن عقلك لا يدرك مثل هذا الطرح، وبدعوى أنك لا تحسن أن تفهمه، لا يجوز ذلك على الإطلاق، فاسأل أهل العلم من المتخصصين في العلم الشرعي وفي العلم الطبي وفي العلم الجيولوجي إن كنت لم تفهمه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] . وأود أيضاً أن أبين لأحبابنا أنه قد يلتبس الأمر على بعض فيقول رجل: يا أخي! أنا لا أقدر أن أشرب السائل الذي وقع فيه الذبابة، فأقول له: لا حرج عليك في ذلك، فأنت بذلك ما كذبت رسول الله، وما أنكرت حديثه، وما رددت قوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عرض عليه لحم الضب فرده ولم يأكل منه شيئاً، فقالوا: (أحرام هو يا رسول الله؟! قال: لا، غير أني أجدني أعافه) . فلا حرج عليك على الإطلاق ألا تشرب هذا السائل، لكن الحرج -كما ذكرت- أن ترد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى أن العقل لا يصدق هذا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 حقائق علمية قررها القرآن قبل (1400) عام من الذي علم محمداً صلى الله عليه وسلم أن القمر كان مشتعلاً مضيئاً ثم انطفأ ومحي ضوءه، وأن هذا النور الذي ينبعث منه الآن إنما هو انعكاس لكوكب آخر ألا وهو الشمس؟ من الذي علم محمداً هذه الحقيقة العلمية الهائلة التي لم تكتشف إلا في هذه الأيام الماضية، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أسماع أهل ذلك الزمان قول الرحيم الرحمن: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12] ، آية الليل هي: القمر، وآية النهار هي: الشمس. {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء:12] وهذه حقيقة علمية كبيرة جداً. من الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم أن الجبال تتغلغل الآن في أعماق الأرض كالأوتاد؟ من الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الجبل له سن مدبب في الأرض كالوتد؟ هذه الحقيقة العلمية لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية، وأخبر عنها الصادق الذي لا ينطق عن الهوى من مئات السنين، حينما علم الدنيا كلها قول رب العالمين: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:7] ، {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:31] . من الذي علم محمداً صلى الله عليه وسلم أن الأعصاب التي توجد في الجلد هي التي تتأثر فقط بالحرارة والبرودة، مع أن هذه الحقيقة لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية؟ من الذي علم المصطفى ذلك حينما أسمع الدنيا كلها قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] ؟ فهذه الأعصاب التي توجد في الجلد هي فقط التي تتأثر بالبرد وبالحر وبالعذاب وغير ذلك، هذه الحقيقة أخبرنا بها نبينا صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، مع أنها لم تكتشف -كما ذكرت- إلا في السنوات القليلة الماضية. من الذي أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم وعلمه بأن موج البحر إذا انعكس عليه الضوء، فإن هذا الضوء ينكسر على هذا الموج فيكون خلفه ظلمة حالكة كالسحاب حينما تحجب نور القمر عن الأرض؟ من الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة العلمية الهائلة يوم أسمع الدنيا قول الله جل وعلا: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ} [النور:40] ؟ انظر إلى التعبير القرآني: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] ، هذه الحقائق العلمية المذهلة التي لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية، أخبر عنها الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، فوقع ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 حقوق النبي الكريم علينا يا من تقدمون العقول على صريح وصحيح المنقول، أذكركم بقول ابن القيم رحمه الله: لا يستقل العقل دون هداية بالوحي تأصيلاً ولا تفصيلا كالطرف دون النور ليس بمدرك حتى يراه بكرة وأصيلا نور النبوة مثل نور الشمس لعين البصيرة فاتخذه دليلا فإذا النبوة لم ينلك ضياؤها فالعقل لا يهديك قط سبيلا طرق الهدى محدودة إلا على من أم هذا الوحي والتنزيلا فإذا عدلت عن الطريق تعمداً فاعلم بأنك ما أردت وصولا يا طالبا درك الهدى بالعقل دو ن النقل لن تلقى لذاك دليلاً فيجب علينا أن نصدق رسول الله وإن لم تستوعب عقولنا ما أخبر به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، ولنعلم يقيناً أنه ما دام يبلغ عن الله، فكل ما يبلغه عن ربه صدق وحق، وأنه علم اليقين الذي لا مجال للشك فيه على الإطلاق، فمن حق النبي صلى الله عليه وسلم أن نصدقه في كل ما أخبر به عن ربه جل وعلا. ومن أعظم حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا: ألا نقدم أقوالنا ولا أفهامنا على قول وفعل الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأود أن أبين لإخواني أننا لا نريد بذلك أن نقلل من شأن العقل إطلاقاً، بل إن نور الوحي لا يطمس نور العقل أبداً، بل يباركه ويزكيه ويقويه، بشرط أن يعرف العقل حده، وأن يعرف العقل دوره، وألا يتخطى العقل مجاله، فأنت لا تستطيع أن تقدم فهمك على فهم أستاذك! بل تستحي من ذلك، ولا تجرؤ أن تقدم قولك على قول والدك إن كنت ممن يحترم الوالد، لا يمكن لمرءوس أن يقدم قوله على قول رئيسه؛ فكيف يجرؤ أحدنا أن يقدم قوله على قول درة تاج الجنس البشري كله محمد صلى الله عليه وسلم وقد أخبر ربنا تبارك وتعالى أنه لا ينطق عن الهوى؟ كيف ندعي حب لله وندعي الحب لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نقدم أقوالنا على قوله، ونقدم أفهامنا على فهمه، ونقدم أفعالنا على فعله؟! هذا لا يجوز، تدبر معي قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:1] هذا نداء لأهل الإيمان، وإذا سمعت في القرآن الكريم كله قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك، فهذا النداء إما خير سيأمرك به وإما شر سينهاك عنه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] ، ما معنى هذه الآية؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) أي: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، اعرض قولك وفعلك على القرآن والسنة، هل قولك موافق لقول الله؟ هل قولك موافق لقول الصادق رسول الله؟ هل فعلك موافق لفعل الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن قدمت قولك على قول الله، وقدمت قولك وفعلك على قول وفعل رسول الله؛ فقد خالفت القرآن والسنة! قال مجاهد -وهو إمام من أئمة التفسير- في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله على لسانه، وقد صرنا في هذا الزمان نرى فيه كل أحد يفتي في دين الله! مع أنه في الوقت ذاته لو قلت له: يا فلان! نريد منك أن تجري جراحة لهذا المريض في القلب، يقول: لا، أنا لست طبيباً، بل لو كان طبيباً لقال: أنا طبيب، لكنني لست متخصصاً في جراحة القلب، ولو قيل لآخر: يا فلان! صمم لنا هذا المسجد تصميماً هندسياً وإنشائياً، سيقول لك: لا، أنا لست مهندساً، هذا ليس من تخصصي، لكنك ترى وتسمع كل أحد يتكلم في دين الله بغير دليل وبغير علم. إن كنت تحفظ دليلاً من القرآن والسنة بفهم الصحابة والسلف الصالح فبين الحق بدليله، فالإسلام ليس فيه كهنوتية، فكل من يحسن أن يتكلم عن الله وعن رسول الله بفهم السلف الصالح رضوان الله عليهم من أصحاب النبي ومن سار على طريقهم فليبين الحق بالدليل من كتاب الله ومن كلام الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أن يتقدم كل أحد ليتكلم في دين الله بغير علم وبغير دليل، فهذا لا يليق في دين الله تبارك وتعالى. جاء رجل إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فسأله في مسألة، فقال عبد الله بن عمر: والله إني لا أحسن جواب مسألتك، فقال السائل: أنت ابن عمر وتقول: لا أحسن جواب مسألتك؟! قال: نعم يا أخي! اذهب إلى العلماء فاسألهم، فوالله لا أحسن جواب مسألتك، فانطلق السائل متعجباً، فلما انصرف السائل قبّل عبد الله بن عمر يد نفسه، ثم قال لنفسه: نِعْم ما قال أبو عبد الرحمن، سئل عما لا يدري فقال: لا أدري. وقال الإمام القرطبي في كتابه الماتع الجامع لأحكام القرآن الكريم في تفسير قول رب العالمين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) : أي لا تقدموا قولاً على قول الله، ولا قولاً أو فعلاً على قول وفعل رسول الله، فإن من قدم قوله أو فعله على قول وفعل رسول الله، فإنما قدمه على الله؛ لأن الرسول لا يأمر إلا بما أمر به الله عز وجل. أولم يقل ربنا تبارك وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] ؟ أولم يقل ربنا تبارك وتعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:38-43] ؟ أولم يقل ربنا جل وعلا في شأنه وحقه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44-47] ؟ فمن حق سيد النبيين صلى الله عليه وسلم علينا ألا نقدم فهمنا وعقلنا وقولنا وفعلنا على فهمه وقوله وفعله، بل إن سوء الفهم عن الله جل وعلا وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديماً وحديثاً، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والروافض وسائر طوائف أهل البدع فيما وقعوا فيه إلا سوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ فنسأل الله عز وجل أن يفهمنا وأن يعلمنا، وأن يردنا إلى سنة نبيه المصطفى رداً جميلاً، إنه على كل شيء قدير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 الأدب مع النبي عليه الصلاة والسلام من أعظم حقوق النبي عليه الصلاة والسلام علينا أن نتأدب معه بأبي هو وأمي وروحي، وأرجو ألا يظنن أحد أن التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم كان في حضرته فقط! بل إن الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته واجب من أعظم الواجبات، يجب على كل من آمن بالله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يتأدب مع الحبيب، تدبر معي واسمح لي أن أكرر بما كنت قد ذكرته لك في لقاء سابق حينما قلت: بأننا لم نر نبياً من الأنبياء إلا وقد ناداه ربنا جل وعلا باسمه المجرد، إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال الله: {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود:48] . {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104-105] . {يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه:11-12] . {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] . {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] . {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26] . {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ} [مريم:7] . إلا المصطفى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45] ، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] ، وينادي عليه بصفته: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1-2] ، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1-2] . وما ذكر الله اسم النبي مجرداً قط إلا مقترناً بصفة النبوة والرسالة: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] . {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144] . {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب:40] . فهذا هو خطاب ملك الملوك وجبار السموات والأرض لنبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم الله جل في علاه الصحابة رضوان الله عليهم -بل وأهل الأرض جميعاً- كيف يتأدبون مع الحبيب؟ وكيف ينادونه؟ وكيف يتكلمون في حضرته؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] ، إلى هذا الحد؟ نعم. ثم يقول ربنا بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3] ، وعاب ربنا جل وعلا على أولئك الذين ينادون الحبيب صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته: يا محمد! يا محمد! اخرج إلينا، اخرج إلينا، عاب الله عليهم ذلك وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:4-5] . هذه دروس في التربية، دروس من رب العزة إلى الصحابة وإلى البشر جميعاً في التأدب مع رسول الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 أدب الصحابة مع رسول الله كيف كان الصحابة يتعاملون مع حبيب الله جل جلاله؟ كيف كانوا يتعاملون مع أكرم نفس خلقها ربنا تبارك وتعالى؟ قال ابن عباس: ما خلق الله نفساً وما برأ نفساً هي أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، من أجل ذلك ترى القرآن يعلم الصحابة كيف يخاطبون رسول الله؟ كيف يتكلمون معه؟ كيف يتأدبون معه؟ كيف يستأذنونه؟ كيف يدخلون بيته؟ كيف يجلسون عنده؟ إن دل هذا فإنما يدل على أن قدر نبينا عند ربنا عظيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات:2] . ستعجب وسيعجب إخواني إذا علموا أن هذه الآية الكريمة الجليلة قد نزلت في حق الخيرين الجليلين الكبيرين العظيمين أبي بكر وعمر، والدليل ما رواه البخاري عن ابن أبي مليكة قال: (كاد الخيران أن يهلكا) ، لارتفاع أصواتهما في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما أقبل على النبي وفد بني تميم في عام الوفود، وكان في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر والصحابة رضوان الله عليهم، فأراد الصديق أن يختار النبي صلى الله عليه وسلم على وفد بني تميم أميراً، وأراد عمر بن الخطاب أن يختار النبي على وفد بني تميم أميراً آخر. فقال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أمر عليهم القعقاع بن معبد) . وقال عمر رضوان الله عليه: (لا يا رسول الله! بل أمر عليهم الأقرع بن حابس) ، فالتفت الصديق إلى عمر، وقال له: ما أردت إلا خلافي يا عمر! فالتفت عمر إلى الصديق وقال: والله ما أردت خلافك يا أبا بكر! هذا هو الحوار كله دون زيادة أو نقصان، فأنزل الله الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] . قال الصديق رضوان الله عليه بعدما سمعها: (والله لقد آليت على نفسي يا رسول الله! ألا أكلمك بعد اليوم إلا كأخي السرار) أي: كمن يكلم آخر بسر لا يسمعه من بجواره، أما عمر فقد جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يكلم عمر بعد ذلك حتى يستفهمه لانخفاض صوت عمر. انظر إلى الأدب! وانظر إلى الإجلال والتوقير من الصحابة رضوان الله عليهم للبشير النذير صلى الله عليه وسلم. وهناك صحابي آخر -وحديثه في الصحيحين- اسمه ثابت بن قيس رضوان الله عليه، ظن أن هذه الآية نزلت فيه! وكان ثابت بن قيس لا يسمع إلا بصعوبة، ومن المعلوم أن من يسمع بعسر يرفع صوته، ويخيل إليه أنه لا يسمع الآخرين إلا بنفس ما يريد أن يسمعوه به، فكان يرفع صوته، فحبس نفسه في البيت اختياراً، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين ثابت بن قيس؟ قالوا: يا رسول الله! نأتيك بخبره، وذهب أحد الصحابة إليه فأخبره، فقال: لقد حبط عملي، وحبط جهادي، وهذه الآيات قد نزلت فيّ؛ لأنني أرفع صوتي على رسول الله، فعاد هذا الصحابي الجليل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بما قال ثابت، فقال له النبي: (لا، بل ارجع إليه وقل له: لست منهم) ، وبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، (قل له: يقول لك رسول الله: أنت لست منهم، ويبشرك رسول الله بالجنة) . بل ستعجب -أخي الحبيب- إذا علمت أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا لا يجيبون على النبي صلى الله عليه وسلم بما يعرفون خشية أن يخطئوا! ففي حجة الوداع سأل النبي الصحابة وهم في منى -والحديث رواه البخاري ومسلم - فقال لهم: (أيَّ يوم هذا؟ فقال الصحابة: الله ورسوله أعلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى أي: نحن نعرف ذلك- لكن خشوا أن يجيبوا فيخطئوا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس ذا الحجة؟ قالوا: بلى، قال عليه الصلاة والسلام: أيُّ بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس البلد الحرام؟ قالوا: بلى، فقال صلى الله عليه وسلم: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) ، إنه الأدب الجم من أصحاب رسول الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم! روى الإمام البخاري رحمه الله عن السائب بن يزيد رضي الله عنه أنه قال: كنت في المسجد -أي: المسجد النبوي- فحصبني رجل بحصاة -يعني رماني بحصاة في المسجد النبوي- قال: فنظرت فرأيت عمر بن الخطاب، فأشار إليّ فذهبت إليه، فقال عمر للسائب بن يزيد: ائتني بهذين الرجلين، وأشار له عمر على رجلين، فذهب السائب بن يزيد وطلب من الرجلين أن يحضرا إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه، فسألهما عمر بن الخطاب وقال: من أين أنتما؟ قالا: من الطائف، قال: والله لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، أترفعان الصوت في مسجد رسول الله؟! لا ينبغي على الإطلاق أن يظن أحد أن رسول الله بعد موته لا يرد صلاتنا عليه وسلامنا، لا كما سأبين ذلك إن شاء الله تعالى في اللقاء المقبل بإذنه جل جلاله، بل لا ينبغي لأحد أن يرفع الصوت أو أن يسيء الأدب أو أن يجهل في المسجد النبوي بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا لا يليق بأحد يحب الله ويحب الصادق رسول الله، فالتأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في حياته واجب، والتأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته واجب، بل ومع سنته: مع قوله، مع فعله، مع أمره، مع نهيه، مع حده. أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا التأدب مع نبينا وحبيبنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 حب النبي عليه الصلاة والسلام دين حب النبي صلى الله عليه وسلم دين، بل لا يصح لنا دين إلا بحبه، ومحبة الحبيب صلى الله عليه وسلم تابعة لازمة لمحبة الله جل جلاله، تزيد وتنقص في القلب بزيادة ونقصان محبة الله في القلب، فكلما زادت في القلب محبة الله، زادت في القلب محبة سيدنا رسول الله. وإذا نقصت في القلب محبة الله نقصت بالتالي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي محبة تابعة لازمة لمحبة الله جل جلالة، لا يصح لنا دين إلا إذا أحببنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] . روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما -أي: من كل شيء معك: من نفسك، من ولدك، من والديك، من مالك، من جاهك، من شهرتك، من منصبك، من دنياك- وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله -يعني: أحبك لله وتحبني لله- وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 سلسلة إيمانية - شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم علينا حقوق عظيمة يجب امتثالها، ومنها: محبته، واتباعه والاقتداء به، والعمل بسنته والدعوة إليها، ولا يجوز الاستغناء عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي الموضحة للقرآن، المفصلة له، المبينة لمجمله، فيجب العمل بها كما يجب العمل بالقرآن الكريم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 محبة النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذه اللحظات الطيبة على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة، وإمام النبيين، وسيد المرسلين في جنته، ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. مازلنا نتحدث عن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا جميعاً، وقلت: إن من أعظم الحقوق للنبي صلى الله عليه وسلم علينا: أن نحبه، وحبنا للنبي صلى الله عليه وسلم دين لا يكتمل إيمان المرء إلا به، ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله -أن يكون الحب في الله، وأن يكون البغض في الله- وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) . بل لا يكتمل إيمان المرء إلا إذا كان حبه للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من حبه لوالديه، وولده، بل ولنفسه التي بين جنبيه؛ ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده، وولده، والناس أجمعين) . (لا يؤمن أحدكم) ، أي: لا يكمل إيمانه. وفي صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه قال يوماً للحبيب النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي) . انظر إلى هذه المصداقية العالية، يقول له: أنا أحبك أكثر من كل شيء إلا من نفسي: (لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك؛ فقال عمر: والذي نفسي بيده لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي يا رسول الله) . أود أن أقف هنا وقفة لطيفة؛ لأبين مفهوم هذا الحديث، عمر رضوان الله عليه يقول: أنا أحبك؛ لكن ليس أكثر من نفسي، ثم بعد قليل، قال له: أنا أحبك أكثر من نفسي! ماذا حصل؟! يقول الإمام الخطابي رحمه الله تعالى في تعليق بديع، وفهم جليل دقيق لهذا الحديث: حب الإنسان لنفسه طبع -يعني: كل واحد جبل على أن يحب نفسه- وحب الإنسان لغيره اختيار بتوسط الأسباب. أي: لا أحبك، ولا تحبني، إلا إذا كانت بيننا أسباب، أعرفك، وتعرفني في التعامل، في الود، في الخلق، أما إذا كنت لا أعرف لك اسماً، ولا رقماً، فكيف أحبك، أو كيف أبغضك؟! قال: حب الإنسان لنفسه طبع، وحب الإنسان لغيره اختيار بتوسط الأسباب -انظر ماذا يقول! - وما طلب النبي صلى الله عليه وسلم من عمر حب الطبع؛ إذ لا سبيل إلى قلب الطباع عما جبلت عليه، وإنما طلب منه النبي حب الاختيار، فلما نظر عمر في توسط الأسباب -أي: في حب الاختيار- علم أن النبي كان سبب نجاته من النار؛ وحينئذٍ قال: (والله لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي يا رسول الله) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 حقيقة محبة النبي عليه الصلاة والسلام مداخلة: قد يقول قائل: في ذلك الزمان كان الرسول صلى الله عليه وسلم موجوداً بين أظهرهم، ونحن الآن الرسول صلى الله عليه وسلم غير موجود فينا فلابد أن نحول حبنا للرسول صلى الله عليه وسلم كأنه بيننا، ولكن ما الأسباب؟ الشيخ: الحب مختلف؛ الحب ليس كلمةً تقال لإنسانٍ فقط، ولكن الحب حقيقةٌ كبيرةٌ ذات تكاليف، وأمانةٌ عظيمةٌ ذات أعباء، كلنا يزعم أنه يحب النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هل من الممكن أن نقف وقفة صادقة، ويسأل كل واحد منا نفسهُ هذا السؤال: أنا أحب النبي عليه الصلاة والسلام بصدق أم مجرد كلام؟! مثال: يستيقظ طفل عمره أربع سنوات، أو خمس سنوات، ويصرخ الساعة الثالثة في الليل، فتوقظك امرأتك، وتقول: يافلان، يافلان! استيقظ؛ الولد يموت، الولد في النزع الأخير! فتستيقظ من نومك في غاية الفزع، وتستجيب استجابةً سريعةً فوريةً دون تعقل أو تدبر لأمر ولدك ولرقة زوجتك؛ فتحمل طفلك على صدرك، وتنطلق مسرعاً إلى أقرب طبيب؛ فيكتب لك دواء؛ فتذهب إلى أقرب صيدلية؛ لتحضر الدواء لولدك، وترجع بالولد مرةً أخرى إلى بيتك؛ بعد ساعةٍ واحدةٍ من هذا التوقيت؛ ينادي عليك المؤذن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة خيرٌ من النوم، قم لصلاة الفجر؛ فهل تكون استجابتك لنداء ولدك كاستجابتك لنداء نبيك؟ أتمنى من الجميع أن يسأل نفسه هذا السؤال؛ انظر إلى الاستجابة الأولى كيف كانت للولد سريعة جداً! بدون تفكير، ليس فيها طلب تقديم الدليل، أو اقنعني، والمنطق والفلسفة، استجابة عاطفية لأمر الولد، وهذه رحمة تؤجر عليها، أنا لا أنكرها عليك، لكنني أقول لهذا المحب الذي يقول: إنني أحب رسول الله، وقد غطى أذنيه حتى لا يسمع قول المؤذن بأمر رسول الله: الصلاة خير من النوم، لا يريد أن يسمعها؛ يخشى أن يسمعها وهو مفرط ومضيع لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، في الوقت الذي يدعي فيه أنه يحب رسول الله. من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء وقد ذكرنا قصة طالب علم نجيبٍ نبيل؛ سمع أن أستاذه يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا؛ فذهب إليه، وقال: يا سيدي! لقد علمت أنك ترى رسول الله في رؤياك، قال: ماذا تريد يا غلام؟! قال: يا سيدي! أريد أن أراه، أريد أن أرى حبيبي رسول الله، هذه أمنيتي في الدنيا، أن أراه بعيني؛ قال: احضر هذه الليلة لتتعشى معي، وبعد العشاء سوف أعلمك كيف ترى حبيبك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلبى التلميذ نداء أستاذه، وخرج في غاية السعادة والفرح؛ لأنه سيتعلم كيف يرى النبي عليه الصلاة والسلام. فلما ذهب التلميذ لأستاذه، وأحضر الأستاذ لتلميذه العشاء؛ أكثر الأستاذ في العشاء من الملح، والموالح، ومنع الماء تماماً عن التلميذ، وكلما ألحَّ التلميذ في طلب الماء، قال الأستاذ: لا يوجد ماء، قال: أنا عطشان يا أستاذي، قال: لا، لا يوجد ماء. وهو يريد أن يربيه ويعلمه، قال: حسناً علمني! قد أكلت وامتلأت، قال: نم الآن، وإذا استيقظنا إن شاء الله تعالى لصلاة الفجر علمتك كيف ترى حبيبك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنام التلميذ في غاية السعادة والفرح وهو يريد أن يرى النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه في الوقت ذاته نام وهو يتلوى من شدة العطش. فلما استيقظ قال له الأستاذ: يا بني! قبل أن أعلمك؛ هل رأيت الليلة شيئاً في نومك؟ قال: نعم يا سيدي، قال: ماذا رأيت؟ قال: رأيت الأمطار تمطر، والأنهار تجري، والبحار تسير بين يدي؛ لأنه نام وهو عطشان؛ فقال له أستاذه المربي: نعم يا بني، صدقت نيتك؛ فصدقت رؤيتك، ولو صدقت محبتك لرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحب ليس كلمةً ترددها الألسنة دخاناً يسير في الهواء؛ ما أيسر الادعاء! وما أسهل الزعم! وما أسهل التغني بحب الحبيب صلى الله عليه وسلم، انظر الحب الصادق في الحديث الذي رواه الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والضياء المقدسي وغيرهم بسندٍ حسن من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي: يا رسول الله! أنا لا أصبر عن رؤيتك، إن ذكرتك أخرج من بيتي حتى أنظر إليك) ؛ إن ذكرتك في بيتي لا أطيق الصبر، مثلاً صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر، أو صلاة العصر، ومن ثم يذهب إلى بيته؛ فيذكر حبيبه صلى الله عليه وسلم؛ يقول: فما أطيق أن أصبر؛ فيخرج ليرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (يا رسول الله! إذا ذكرتك لا أصبر حتى أخرج لأنظر إليك، وقد ذكرت اليوم موتك، وعلمت أنك إذا مت رفعت في الجنة مع النبيين، وأنا إذا مت ودخلت الجنة خشيت ألا أراك) درجة النبي صلى الله عليه وسلم أعلى بكثيرٍ من درجته؛ فكيف يصبر على عدم رؤيته في الجنة؟! انظر فيما يفكر فيه هؤلاء المحبون! ولم يجب عنه رسول الله حتى نزل عليه قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [النساء:69-70] . الله يعلم الصادق في حبه من المدعي، فالحب للنبي صلى الله عليه وسلم ليس كلمة، بل امتثالاً لأمره، واجتناباً لنهيه، ووقوفاً عند حده الذي حده عن الله تبارك وتعالى، ولو وقفت مع حب الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم لرأيت العجب العجاب: امرأة من بني دينار تعلمنا الحب للنبي صلى الله عليه وسلم، وحديثها حسن بشواهده الكثيرة: (لما سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل في غزوة أحد؛ خرجت هذه المرأة من المدينة إلى أحد تجري على الرمال الملتهبة، فقابلها الرجال يحملون أباها قد قتل، فنظرت إليه، وقالت: ماذا فعل رسول الله؟! وتركت أباها وجرت، ثم علمت أن زوجها قد قتل؛ فنظرت إلى زوجها، وقالت: ماذا فعل رسول الله؟ وتركت زوجها وجرت، فقابلوها بابنها قد قتل في أحد؛ فنظرت إلى ابنها ثمرة الفؤاد، ونظرت إليه، وجرت وهي تقول: ماذا صنع رسول الله؟ فقالوا لها: والله إنه بخير، وما هدأ لها بال، وما قر لها قرار حتى وقع نظرها على حبيبها المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فنظرت إليه وقالت: كل مصيبةٍ بعدك هينةٌ يا رسول الله) ، كل مصيبة بعدك هينة، مات الزوج، مات الابن، مات الأب، لكنها تسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 عروة بن مسعود الثقفي يصف حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود -والحق ما شهدت به الأعداءُ- لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، ورأى النبي بين أصحابه، ورأى حب الصحابة له؛ تعجب! - والحديث في الصحيحين- وعاد عروة بن مسعود إلى قومه من المشركين فقال: (يا قوم! والله لقد وفدت على الملوك والرؤساء، وفدت على كسرى، وقيصر، والنجاشي، ووالله ما رأيت أحداً يعظمه أصحابه كما رأيت أصحاب محمدٍ يعظمون محمداً صلى الله عليه وسلم- اسمع ماذا يقول:- والله ما تنخم محمدٌ نخامة إلا وقعت في كف رجلٍ منهم؛ فدلك بها وجهه وجلده) . يخرج علينا هؤلاء الماديون الجفاة، فيقولون: ما هذا؟ نخامة يدلك بها وجهه وجلده؟! وهؤلاء أنفسهم يعلمون أن العشاق يفعلون بعشيقاتهم في الحرام ما يستحي اللسان عن ذكره الآن. فمن ذاق عرف؛ من ذاق طعم الحب لله ورسوله عرف أنه لا يستحسن هذا إلا من ذاق قلبه حلاوة الحب الصادق لله ولرسوله. يقول عروة: (والله ما تنخم محمدٌ نخامة إلا وقعت في كف رجلٍ منهم؛ فدلك بها وجهه وجلده، ولا توضأ حتى كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا تكلم خفضوا الصوت عنده، ولا يحد أحدهم الطرف إليه إجلالاً له) . هذه شهادة عدو كان على الشرك في ذلك الوقت شهد للصحابة الصحابة رضوان الله عليهم بالمحبة لنبينا صلى الله عليه وسلم، فما أحوجنا إلى أن نحب نبينا! لكنني أقول: شتان شتان بين حب دائم مبني على الاتباع، وبين حب مبني على الغلو والابتداع؛ فينبغي أن ننسب ما لله لله، وأن ننسب ما لرسول الله لرسول الله، وألا نخلط بين حق الله وحق رسوله بدعوى الحب؛ فالحب: امتثالٌ لأمره، واجتنابٌ لنهيه، ووقوفٌ عند حدوده، وتصديقٌ لخبره وبلاغ لدعوته ورسالته، وذبٌ عن سنته، وصلاة عليه إلخ، هذا هو الحب الصادق. أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الحب الصادق للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن نكون ممن قال النبي فيهم حينما جاءه الأعرابي وقال: (يا رسول الله متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كثير عمل، غير أني أحب الله ورسوله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب، قال أنس: والله ما فرحنا بشيء كفرحنا بقول النبي: المرء مع من أحب، ثم قال أنس: والله إني لأحب رسول الله، وأبا بكر، وعمر، وأرجو من الله أن يحشرني معهم، وإن لم أعمل مثل أعمالهم) . ونحن نقول: اللهم إنا نشهدك أننا نحب رسولنا، وأبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وجميع أصحاب الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، ونسألك ياربنا برحمتك أن تحشرنا معهم بحبنا لهم وإن قصرت أعمالنا، إنك على كل شيءٍ قدير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 كيفية محبة النبي صلى الله عليه وسلم ووسائلها في هذا العصر النبي صلى الله عليه وسلم قد يبين لنا مكانة وقدر أول هذه الأمة، وأن هناك فرقاً كبيراً بين من عاش معه عليه الصلاة والسلام، وتعلق به، وبين من أحبه وتعلق به، ودافع عن سنته في زماننا هذا؛ لأننا نعيش زماناً ابتعدنا فيه كثيراً عن زمن الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبين لنا نبينا عليه الصلاة والسلام أننا إخوانه، وأحبابه، قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً: (شوقاً لإخواني؛ فقالوا: أولسنا بإخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي، أما إخواني فقوم يؤمنون بي، ولم يروني) . وفي رواية في الصحيح قالوا: (فكيف تعرف أمتك يا رسول الله يوم القيامة وأنت على الحوض؟ - مع هذه الأمم الكثيرة- فقال عليه الصلاة والسلام: تردون علي غراً محجلين من آثار الوضوء) . فلا شك أن المحب الصادق للنبي صلى الله عليه وسلم المدافع عن سنته، المبلغ لدعوته، مكانته عند الله عظيمة، ومكانته عند النبي كبيرة، ومن أجل هذا أقول لأحبابي وإخواني: امش على الأثر، النبي مشى برجله اليمنى؛ ضع رجلك اليمنى، يمشي برجله اليسرى ضع رجلك اليسرى، وامش على آثار أقدام النبي؛ لترى آخر هذا الطريق الحبيب المصطفى ينتظرك على الحوض إن شاء الله تعالى. مداخلة: كيف نبلغ هذا الحب في مثل هذا العصر؟ النبي صلى الله عليه وسلم له دعوة، وله دين، ويجب على كل مسلم صادقٍ يفخر بهذا الانتساب، وبهذا الشرف، وأن يعلم يقيناً أن من حق النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يرفع الراية، ويبلغ الدعوة، قال الله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] . (قل هذه سبيلي) أي: قل: يا محمد صلى الله عليه وسلم (هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة) ، لست أنا وحدي، (أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) . قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ولا يكون الرجل من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حقاً حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي على بصيرة. قال عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو:- (بلغوا عني ولو آية) ، أنت تحفظ كم آية، وأنا أحفظ كم آية، وإخواني وأخواتي! الكل يحفظ من القرآن، ويحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكننا أصبنا الآن بسلبيةٍ قاتلة؛ أنا مالي؟ أنا سأعمل ماذا؟! وهل أنا سأغير النظام؟! أمشي بجانب الحائط، ويكفيني أن أربي العيال. لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد والآخر يقول: أنا رجل مذنب، وأنا رجل عاص؛ أنا لست عالماً. هناك فرقٌ كبير بين طلب العلم، وبين الدعوة لله جل وعلا والبلاغ عن الله ورسوله، فطلب العلم لا ينتهي؛ كما قال الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة، سأظل أطلب العلم حتى ألقى الله جل وعلا، لكن الدعوة والبلاغ عن رسول الله يجب على كل مسلم ومسلمة، كل بحسب قدرته واستطاعته، إن لم تستطع بلسانك؛ فبلسان غيرك من أهل العلم؛ بالشريط، بالكتاب، بالكتيب، بالدعوة لحضور محاضرة من المحاضرات لعالم من البلغاء، بزيارة مع أهلك لهذه الأسرة لتبلغها عن الله وعن رسول الله، بالحديث في الدين والتذكرة مع زميلك في العمل، مع جارك في السيارة، مع جارك في البيت، مع جارك في الوظيفة. المهم أن تحمل في قلبك هم الدعوة والبلاغ، وأن تعلم يقيناً أنه لن تنال شرف الانتساب للنبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا رفعت الراية التي عاش النبي صلى الله عليه وسلم طوال عمره رافعاً لها، ألا وهي راية الدعوة، والبلاغ عن الله جل وعلا. قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1-2] ، وقال الله جل وعلا: {إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [النحل:82] ، وقال الله جل وعلا: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ} [الرعد:7] ، وأمره الله سبحانه وتعالى بقوله: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاَّ بَلاغاً مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن:21-22] ، أي: إلا أن أبلغ دين الله ورسالة الله تبارك وتعالى. في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب؛ يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف - نعوذ بالله أن نكون منهم- يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) . فما من نبي إلا وله أصحاب وحواريون، فهل نحن من أنصار رسول الله؟ لن نكون كذلك إلا بالبلاغ؛ إلا بالدعوة، كلنا يتفنن ويخطط لمستقبل أولاده، لكن من منا نام وهو يحمل هم الدعوة إلى الله؟ من منا نام والدعوة إلى الله هي همه بالليل والنهار؟ من صارت الدعوة فكره في النوم واليقظة، وشغله في السر والعلانية؟ لماذا لا يخطط كل مسلم لدين الله، ولدعوة الله كما يخطط لتجارته، وكما يخطط لمستقبل أولاده ومستقبل نفسه؟! لن ننال شرف هذا الانتساب إلا بالدعوة إلى الله على منهج رسول الله، بالحكمة والموعظة الحسنة، والكلمة الرقراقة الرقيقة الطيبة المهذبة، وقد وضحنا ذلك عندما تحدثنا عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: نحن مأمورون بالبلاغ عن رسول الله ولو بآية: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) . فأنت مأمورٌ بالبلاغ عن رسول الله، وأنا مأمور بالبلاغ عن رسول الله، بشرط أن يكون المبلغ عن الله، وعن رسول الله على علم بما يبلغه، ليس بالضرورة أن تكون عالماً في كل الجزئيات والجوانب، لكن إن بلغت عن رسول الله لابد أن تتحرى الأمانة، وأن تتحرى الصدق؛ لتعلم أنك صادق في كل ما تنقله عن النبي صلى الله عليه وسلم. وخذ هذا الأجر العظيم أيها المبلغ عن الله ورسوله! ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) . ربما تقول لي: يا شيخ! أنا أحب أن أتحرك للدعوة؛ لكنني أحس بالتقصير، ذنوبي كثيرة، والمعاصي تلجمني، أقول: من من البشر على وجه الأرض لم يخطئ؟ لقد انتهى زمن العصمة يوم مات المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي أن تحتج بالمعصية على عدم البلاغ، بل اعلم أن تحركك للدعوة ولدين الله من أعظم أسباب بعدك عن المعصية، عندما تذكر أحد زملائك بصلاة الفجر، وتقول له: صل الفجر! صل الفجر! صلاة الفجر نعمة! وأنت مقصر في صلاة الفجر؛ ستأتي اللحظة حتماً التي تشعر فيها بالخجل من الله، وبالتقصير أمام نفسك؛ لترى نفسك تبادر لصلاة الفجر، وليس معنى أنك مقصر في أمر ألا تأمر غيرك به، هذا فهم مغلوط. تصور أن رجلاً مثلاً يزني والعياذ بالله! هل يجوز له أن يأمر غيره بالزنا؟ لا يجوز، وهل يحرم عليه أن يحذر غيره من الزنا؟! لا يحرم عليه، بل يؤجر على ذلك؛ فهناك فهم مغلوطٌ لمثل هذه الأمور. أبو محجن الثقفي كان فارساً مغواراً، كان قائداً في ميادين القتال؛ لكنه كان يضعف جداً أمام الخمر، سبحان ربي! يضعف أمام الخمر! وفي البخاري وغيره أن رجلاً كان كثيراً ما يؤتى به ليقام عليه الحد من شرب الخمر، فقام الصحابة ليقيموا عليه حد الله بين أظهرهم، فسبه أحد الصحابة؛ فماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، فو الله إني لأعلم أنه يحب الله ورسوله) ، لكن لضعفه البشري قد يزل، وقد يضعف أمام معصية. فـ أبو محجن الثقفي كان يضعف أمام الخمر تماماً، ومع ذلك لم يفهم أن وقوعه في هذه الكبيرة، وفي هذه المعصية تمنحه إجازةً مفتوحةً حتى لا يعمل لدين الله تبارك وتعالى؛ لكنه لما سمع النداء: يا خيل الله اركبي! حي على الجهاد! إلى موقعة القادسية مع سعد بن أبي وقاص خرج لينال شرف الصف الأول، ولكن في صفوف القتال على الساحة شعر بالضعف أمام الخمر مرةً أخرى؛ فوقع فيها، وشرب الخمر هنالك؛ فأتي به إلى قائد المسلمين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ليقيم عليه الحد؛ لكن الحدود لا تقام في أرض العدو؛ فأمر سعد بن أبي وقاص بحبسه حتى تنتهي المعركة، ويعود إلى أرضه، فقيد، ووضع في السجن، وبدأت المعركة، وسمع أبو محجن الفارس المغوار صوت الخيول، ووقع السيوف، وضرب السهام والرماح؛ فبكى، وأراد أن يقوم ليشارك المسلمين، فهو ما جاء إلا لهذا الشرف؛ لكن القيد في رجليه قال له: لا، أنت محكوم عليك بعدم المشاركة؛ لأنك رجل مدمنٌ للخمر؛ فبكى أبو محجن، وعاود التجربة، وعاود مرةً ومرة، وفي بعض أيام القادسية رأته زوجة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ فرقت له؛ فاقتربت منه وسألته؛ فقال: أسألك بالله يا سلمى فكي قيدي وأعطيني فرس وسلاح سعد -فإن سعداً رضي الله عنه كان قد ابتلي بمرضٍ شديدٍ أقعده في بعض أيام القادسية؛ فكان ينام على بطنه، وهو يخطط، ويصدر الأوامر في هذه الحالة، ولا يستطيع أن يستوي على ظهر فرسه البلقاء -فقال لها: أسألك بالله أعطيني فرس سعد (البلقاء) ، وسلاح سعد، وأعاهد الله عز وجل إن نجاني الله أن أرجع إلى سجني لأضع القيد في رجلي بيدي، وإن قتلت فالحمد لله؛ ف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 علاقة القرآن بالسنة مداخلة: بعض الناس لا يقبل السنة إلا إذا كانت موجودة في القرآن فمن الناس من يهجر السنن ويتركها بحجة أنها ليست في القرآن الكريم؟ الشيخ: هذا خطر عظيم، لقد ظهرت جماعة تسمي نفسها بالقرآنيين، والقرآنيون جماعة ظهرت في بلاد الهند تزعم أنه لا حاجة في السنة، ويكفينا القرآن؛ فهؤلاء لا هم أخذوا بالقرآن، ولا هم أخذوا بالسنة؛ لماذا؟ لأن من ضيع السنة فقد ضيع القرآن. وينبغي أن نعلم يقيناً أيها الأفاضل -من إخوةٍ وأخوات- أن القرآن أحوج إلى السنة من حاجة السنة إلى القرآن؛ أكررها وهي قولة العلم الإمام الأوزاعي رحمه الله قال: القرآن أحوج إلى السنة من حاجة السنة إلى القرآن. والقرآن لا يمكن على الإطلاق أن يفهم إلا من خلال سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك بسند صححه الذهبي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض) ، لن يفارق القرآن السنة، ولن تفارق السنة القرآن؛ حتى يرد القرآن والسنة على النبي صلى الله عليه وسلم في حوضه الشريف، والقرآن نفسه يأمر باتباع السنة، قال الله جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] ، الذي يقوله الرسول عليه الصلاة والسلام إما سنة قولية، أو سنة فعلية، أو سنة تقريرية؛ فالقرآن يقول: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] ، والقرآن يقول: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] ، والقرآن يقول: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56] ، والقرآن يقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} [المائدة:92] أي: احذروا أن تحيدوا عن طريق رسول الله تبارك وتعالى أو تقعوا في معصيته، والله تبارك وتعالى في آيات كثيرةٍ جداً يأمر باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 أحوال القرآن مع السنة انظر إلى التفصيل البديع لـ ابن القيم رحمه الله حيث يقول: السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تكون السنة موافقةً للقرآن من كل وجه. يعني: يأتي القرآن فيأمر بالتوحيد، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، فهذه وردت كثيراً في القرآن، الله تبارك وتعالى يأمر عباده بعبادته، ويأمر عباده بالصلاة، ويأمر عباده بالتوحيد في آيات كثيرة جداً: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] ، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] إلى آخر الآيات. ويأمر بالصلاة: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، ويأمر بالزكاة: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، ويأمر بالحج: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] ، ويأمر بالصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] فتأتي السنة هي الأخرى لتأمر بمثل ما أمر به القرآن، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله -دعوة للتوحيد- وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً) . الوجه الثاني: أن تكون السنة موضحةً لما أجمله القرآن. رب العزة أمرنا في القرآن بالصلاة، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] ، افتح لي المصحف من أول سورة الفاتحة إلى سورة الناس؛ وأخرج لي آية من القرآن الكريم تقول: إن صلاة الظهر أربع ركعات؛ هات لي آية في القرآن، مستحيل! هات لي آية في القرآن تحدد لي أركان الصلاة! اقرأ علي آيةً في القرآن تبين لي أسباب بطلان الصلاة، أو تبين سنن الصلاة، أو أحكام الصلاة تبين ذلك، مستحيل! إذاً: أين نجد هذا الكلام؟! في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كان يصلي الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ويعلم الصحابة رضوان الله عليهم؛ ثم يأمرهم ويقول: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . القرآن قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] ، لكن متى أصلي؟ وكيف أصلي؟ يأتي النبي عليه الصلاة والسلام ليوضح ما أجمله القرآن، هذا هو الوجه الثاني: أن تأتي السنة مفسرةً موضحةً مبينةً لما أجمله القرآن الكريم. يقول ربنا تبارك وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] ، كيف نحج؟ متى نقف على عرفات؟ وما هي حدود عرفات؟ وما الفرق بين وادي عرفة ووادي عرنة؟ وكيف نرمي الجمرات؟ ومن أين نأخذ الجمرات؟ كل هذا لا تجد له ذكراً في القرآن، إنما جاء الأمر مجملاً: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] . فيأتي الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم ليفصل، ويفسر، ويوضح ما أجمله القرآن في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] ؛ فيحج أمام الصحابة، ويعلم الصحابة رضوان الله عليهم مناسك الحج والعمرة؛ ثم يلتفت إليهم ويقول: (خذوا عني مناسككم) . هذا هو الوجه الثاني: أن تكون السنة موضحةً لما أجمله القرآن، وعلى ذلك أمثلة كثيرة جداً في القرآن كله، وكما ذكرت لا يستطيع أحد مهما كان عقله أن يزعم أنه يفهم القرآن بعيداً عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام. يعني: مثل هؤلاء اجعله يغلق كل كتب السنة، ويقرأ القرآن وحده، ويفهمني من القرآن كيفية الصلاة، وكيفية الزكاة، مستحيل حتى يرجع إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليقف على تفصيل هذه الأوامر القرآنية المجملة. الوجه الثالث -وهو من أخطر أوجه السنة مع القرآن-: أن تكون السنة موجبةً أو محرمةً لما سكت عنه القرآن. إذاً: السنة مصدر تشريع مستقل تماماً، اسمع إلى النبي عليه الصلاة والسلام ماذا يقول؟ روى أبو داود، والترمذي وغيرهما بسند صحيح من حديث المقداد بن معد يكرب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه -يعني: القرآن والسنة، وليس الكتاب فقط، انظر إلى التعبير النبوي- ألا يوشك رجلٌ شبعان متكئ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن -يعني: يكفينا القرآن- فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه -يعني: في القرآن فقط- وما وجدتم فيه من حرام فحرموه -اسمع لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يقول-: ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي) أخرج لي هذا من القرآن، لا تجدها في القرآن، هذا تشريع جديد، النبي صلى الله عليه وسلم يحرم: (ولا كل ذي نابٍ من السباع، ولا لقطة المعاهد) وفي لفظ: (إلا لمن عرفها) وفي لفظٍ: (فإن ما حرم الله كما حرم رسوله صلى الله عليه وسلم) . فالنبي صلى الله عليه وسلم مشرع، فالسنة هنا تحل وتحرم. ومن هنا يتضح لنا أيها الفاضل: أن القرآن أحوج إلى السنة كما رأيت؛ لأنه لا يمكن لعاقلٍ على وجه الأرض أن يفهم القرآن إلا إذا رجع لسنة النبي عليه الصلاة والسلام؛ فلا ينبغي أن نحقر السنة أو نقلل من شأن السنة، بل إذا نظرت إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لرأيت العجب العجاب في اتباعهم للسنة وحرصهم عليها. أذكر نقاطاً سريعة جداً، يقول الصديق رضوان الله عليه: (إنما أنا متبع ولست مبتدعاً) ، ويقول عمر بن الخطاب وهو يقبل الحجر الأسود: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك) اتباع للسنة. ويقول علي بن أبي طالب: لو كان الأمر -أمر الدين- بالعقل؛ لكان المسح على باطن الخف أولى من المسح على أعلاه -لأن باطن الخف هو الذي يقع في الأرض- لكني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على أعلاه، فهم يمسحون على أعلاه. كان النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: اسمعوا اجلسوا أنصتوا، وعبد الله بن مسعود لم يدخل المسجد بعد، فجلس عبد الله بن مسعود خارج المسجد؛ لأنه سمع قول النبي: (اجلسوا) وهو ما دخل المكان الذي بلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس، وقد ثبت مثل هذا عن غير ابن مسعود رضي الله عنه. هكذا ينبغي أن نكون مع سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله أن يردنا إلى السنة رداً جميلاً، آمين يا رب العالمين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه من حقوق النبي عليه الصلاة والسلام علينا أن نصلي ونسلم عليه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من صلى علي صلاةً؛ صلى الله عليه بها عشراً) وهذا من حقوقه علينا، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ، فنحن مأمورون بالصلاة على الحبيب، وهذا من أعظم حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا، وأنت الرابح؛ يقول الحبيب: (من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً) ، والحديث رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو. ومن الأحاديث الجميلة ما رواه الإمام أحمد والإمام أبو داود وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، وإن صلاتكم معروضة علي فيه؛ فأكثروا علي من الصلاة فيه، قالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟! يعني: بليت- فقال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء) . فيجب علينا أن نجعل ورداً يومياً للصلاة والسلام على الحبيب صلى الله عليه وسلم، وألا نغفل عن أن نسأل الله عز وجل الوسيلة لنبيه صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن يؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً؛ ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ، وأرجو أن أكون أنا هو؛ فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي) . مداخلة: بعد ما سمعنا حق الرسول صلى الله عليه وسلم علينا، فعلينا أن نتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، ونأتمر بأمره، وننتهي عن نهيه، ونحب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد من حبنا لأنفسنا، وأولادنا، وأموالنا، وإذا كانت نفسي تأمرني بشيء، والرسول صلى الله عليه وسلم يأمرني بشيء آخر، فعلي أن أقدم ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم على ما تهواه نفسي. الشيخ: نعم، وأظن أننا بذلك قد وفينا إن شاء الله تعالى الحديث في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا جميعاً حبه، وأن يرزقنا اتباعه، وأن يحشرنا في زمرته وتحت لوائه، وأن يسقينا بيده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها، وأن نستمتع بالنظر إلى وجه الله في الجنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، آمين آمين! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 سلسلة إيمانية - فضل القرآن أنزل الله عز وجل كتابه الكريم على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم معجزة للبشرية، وآية لهم، فتحدى الله به أفصح العرب أن يأتوا بمثله، وأخبر أنهم لن يستطيعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، ثم حفظه الله من التحريف والتغيير والتبديل؛ ليكون مهيمناً على جميع الكتب والأديان السماوية، فحفظه الله في صدور الرجال من صحابة رسول الله، حتى دونوه في الصحف، ونشروه للأمة، وقد تعبدنا الله تعالى بتلاوته وضاعف على ذلك الأجر، فمن أخذه فقد وفق للحق والهداية، وكان شفيعاً له يوم القيامة بإذن الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 1 بيان فصاحة القرآن وإعجازه الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء وأيتها الأخوات الفاضلات! وأسأل الله عز وجل الذي جمعني مع حضراتكم جميعاً في هذه اللحظات الكريمة الطيبة على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أخي الحبيب! إن موضوع هذا اللقاء موضوع جليل؛ لأننا سنتحدث فيه عن كلام ربنا الجليل، فالقرآن الكريم هو كلام الله سبحانه وتعالى، فهو الحجة البالغة، والدلالة الدامغة، والعصمة الراقية، والنعمة الباقية، وهو شفاء الصدور، وهو الحكم العدل إذا ما اشتبهت الأمور. أولاً: مصدرية القرآن الكريم دليل على إعجازه، بمعنى: أنك إذا علمت أن القرآن من عند الله؛ فاعلم يقيناً أنه كلام معجز؛ لأنه كلام الله جل جلاله، وهذا معنى أن مصدرية القرآن دليل على إعجازه، والله سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن أعظم معجزات نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، مع كثرة ما أجرى الله لنبينا صلى الله عليه وسلم من معجزات، إلا أنني أود أن أؤكد للمسلمين والمسلمات بأن أعظم وأكرم وأخلد وأبقى معجزة لنبينا صلى الله عليه وسلم: هي القرآن الكريم. فأنت تعلم أن الله سبحانه وتعالى قد بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم في بيئة اشتهر أهلها بالبلاغة والبيان، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب قومه بلغتهم؛ فأنزل الله تبارك وتعالى عليه هذا القرآن المعجز ليتحدى الله به البشرية كلها، لا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، وإنما في كل العصور، بل وستعجب إذا قلت لك بأن التحدي ما زال قائماً إلى هذه اللحظة، بل إلى يوم القيامة ونحن في القرن الحادي والعشرين ما زال ربنا تبارك وتعالى يتحدى بهذا القرآن الكريم البشرية كلها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 القرآن الكريم ومعجزة التحدي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 مراحل تحدي الله للمشركين أن يأتوا بمثل القرآن لما نزل القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم في بيئة البلاغة والبيان؛ اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه جاء به من عنده، وأنه من نظمه وكلامه، وقالوا: هذا كلام عادي؛ فتحداهم ربنا سبحانه وتعالى أن يأتوا بقرآن مثله، فقال سبحانه: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88] أي: ولو ناصر وظاهر وساند بعضهم بعضاً؛ فلن يتمكنوا أبداً من أن يأتوا بمثل هذا القرآن. وهو سبحانه وتعالى تحداهم ابتداءً بقرآن مثله، فلما كان التحدي عسيراً، وكان الأمر شاقاً جداً خفف الله عز وجل التحدي، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور فقط، فقال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] ، من باب الذم على ما يقوله الخصم؛ لإقامة الحجة عليه، أي: أنتم تزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد افترى هذا القرآن وأتى به من عند نفسه: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) أي: افتراه المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) ، فعجزوا. فخفف الله التحدي إلى أقل صور التخفيف، فتحداهم أن يأتوا بسورة، فقال سبحانه: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:23-24] و (لن) مستقبلية {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] . فمصدرية القرآن دليل على إعجازه، ولذلك من أبلغ ما قاله جماهير المفسرين في الأحرف المتقطعة في أوائل السور، كقوله تعالى في أول سورة البقرة: {الم} [البقرة:1] ، وكقوله تعالى: {كهيعص} [مريم:1] ، وكقوله تعالى: {حم * عسق} [الشورى:1-2] إلى آخر هذه الأحرف المتقطعة التي استفتح الله بها بعض سور القرآن الكريم؛ إن أعظم ما قيل في معناها -وهو قول جماهير المفسرين- إنها أحرف متقطعة من حروف اللغة العربية التي يتحدث بها أهل البلاغة والبيان في مكة، وإن القرآن مكون من هذه الأحرف، فإن كنتم تزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أتى بهذا القرآن من عند نفسه، فهاهي أحرف القرآن من لغتكم؛ فائتوا بقرآن مثله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 خوف أهل الشرك والكفر من سماع القرآن إن مصدرية القرآن دليل على إعجازه، بل وستعجب إذا علمت أن المشركين كانوا يخافون على أنفسهم من سماع القرآن؛ لماذا؟ لأن القرآن كان يصدع عناد الكفر والكبر في قلوبهم، وإذا سلم أحدهم عقله وقلبه للقرآن غيَّر القرآن قلبه، ولقد سجل الله وصيتهم لبعضهم البعض في القرآن، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] ، أي: شوشوا على محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تفتحوا آذانكم ولا قلوبكم لهذا القرآن؛ لأنهم إن سمعوه تغيرت القلوب والأبصار والآذان، وتغير كل شيء. كيف وقد بين لنا ربنا أن هذا القرآن لو أنزله على جبل وعلى حجارة صلدة لخشعت، فكيف تخشع الجبال الصم للقرآن ولا يخشع القلب الذي فطر أساساً على التوحيد؟! كما قال الله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] ، وكما قال نبينا صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، فكل بشر ولد على فطرة التوحيد على فطرة الإسلام. كانت وصية الكفار لبعضهم البعض: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) ؛ لماذا؟ (لعلكم تغلبون) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 كسر القرآن لعناد الكفر واستكباره بل واعلم معي أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى قد روى في كتاب التفسير في الصحيح -في باب قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62]- حديثاً مختصراً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (سجد النبي صلى الله عليه وسلم بسورة النجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن) . ما القصة؟ إنها قصة عجيبة: سجد النبي وسجد المسلمون وهذا وارد، لكن: والمشركون كيف ذلك؟ هذا حديث له قصة: ففي السنة الخامسة من البعثة، دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيت الله الحرام، وكان في بيت الله الحرام في هذا الوقت مجموعة كبيرة من سادة المشركين وكبرائهم، وقام النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي لله جل وعلا، وافتتح النبي صلاته بسورة النجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1-5] إلى آخر السورة. وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر سورة النجم آيات تطير لها القلوب: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:59-62] ، وخر النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً لله، فلم يتمالك أحد من المشركين نفسه؛ فخر ساجداً خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو السر الحقيقي الذي ربما يجهله كثير من أحبابنا وإخواننا، هذا هو السر الذي جعل المسلمين الأوائل الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة يعودون مرة أخرى إلى مكة بعد هجرتهم الأولى؛ فإنهم لما وصلهم الخبر بأن المشركين قد سجدوا خلف رسول الله، ظنوا أنهم قد دخلوا في دين الله عز وجل فرجعوا، لكن المشركين لما رفعوا رءوسهم أنكروا ما فعلوه! وأنكروا ما صنعوه! لكنه القرآن الذي صدع عناد الكفر والكبر في قلوبهم؛ فسجدوا لله تبارك وتعالى خلف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقرآن له فصاحته! وله روعته: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [الحشر:21] ، هذا القرآن لو أنزله الله على جبل لخشع وتصدع من خشية الله سبحانه وتعالى، فالقلوب تخشع للقرآن إن أنصتت القلوب إليه، وإن أصغت الآذان إليه. واعلم أخي الحبيب بأن كل أحد يأخذ من القرآن على بقدر ما أراد الله له أن يأخذ منه، فأنت تأخذ من القرآن، وأنا آخذ من القرآن، والعامل البسيط يأخذ من القرآن، وعالم الذرة يأخذ من القرآن، والكيميائي في معمله يأخذ من القرآن، وكل واحد يأخذ من القرآن على قدر ما فتح الله على العبد، وعلى قدر استقبال العبد لكلام ربه سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] . أيها الأحبة! كان لا بد من هذه المقدمة قبل أن أبين كيف وصل إلينا القرآن الكريم. فلما بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم، بدأت آيات القرآن الكريم تتنزل تترا على قلب نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، بعدما خاطبه ربنا على لسان جبريل بقوله: {اقْرَأْ} [العلق:1] ، ثم نزلت الآيات: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:1-2] {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1-2] . فقام سيدنا رسول الله، ووالله لم يذق طعم الراحة حتى لقي سيده ومولاه! وبدأت الآيات تتنزل، فكان ينزل أمين وحي السماء جبريل على أمين أهل الأرض سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بآيات القرآن الكريم، وكان من حرص النبي صلى الله عليه وسلم وشغفه على أن يسمع القرآن، أنه كان يتعجل في القراءة، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16-18] ، (فإذا قرأناه) أي: على لسان جبريل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 نزول القرآن ومراحل جمعه وبدأ القرآن يتنزل ويقرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه رضوان الله عليهم ما نزل منه، فلقد نزل القرآن منجماً -أي: مفرقاً- على مدار ثلاثة وعشرين عاماً، مفرقاً بحسب الأحوال والحوادث، فيحدث الشيء وتنزل النازلة؛ فينزل قرآن يربي هذه القلوب والعقول والضمائر والأخلاق ينزل القرآن مع كل حدث؛ ليعلم الصحابة رضوان الله عليهم أن الله مطلع عليهم، يسمع كلامهم، ويعلم سرهم ونجواهم. جاءت امرأة تشكو لرسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها، وهي المجادلة التي أنزل الله في حقها قرآناً، وسميت سورتها بسورة المجادلة، والسيدة عائشة في جانب من جوانب حجرتها، لا تسمع كثيراً من كلام وشكوى المرأة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك استمع الله قولها من فوق سبع سماوات، وأنزل الله القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعالج هذه المشكلة ولو كانت فردية، فما ظنك إن كانت المشكلة جماعية تعم الأمة بأسرها. تقول عائشة رضي الله عنها: (تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، فلقد جاءت المجادلة تشكو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في جانب الحجرة لا أسمع كثيراً من كلامها؛ فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] ) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 عهد النبي صلى الله عليه وسلم فالقرآن نزل منجماً -أي: مفرقاً بحسب الأحوال والقضايا والحوادث- على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقرأ النبي الآيات الكريمة، فتحفظها صدور أصحابه رضوان الله عليهم، فلقد من الله عز وجل عليهم بصدور واعية، وعقول وقلوب فاهمة حافظة، وهذا من رحمته وحكمته وهذه المرحلة هي مرحلة استيعاب القرآن في الصدور. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يكتب؛ اتخذ من بعض الصحابة كتاباً كـ زيد بن ثابت -الذي سمي بكاتب الرسول، ويا لها من منقبة، وكـ أبي بن كعب، وكـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه الآيات يجمع الكتبة، ويقرأ عليهم الآيات الكريمة الجليلة، ويكتبونها على اللخاف -واللخاف: هي الحجارة الرقيقة- والجلود، والرقاع، وجمع القرآن بهذه الصورة المفرقة، لكنه كان محفوظاً في صدور الصحابة رضوان الله عليهم. وكان يحفظه جمع كبير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي المصطفى صلى الله عليه وسلم والقرآن على الحجارة، والأخشاب، والرقاع، فضلاً عن صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق ولما تولى الخلافة من بعده صلى الله عليه وسلم -وهي المرحلة الثانية- أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقامت جيوش أهل الردة تريد أن تدمر الأخضر واليابس، وجيَّش الصديق رضوان الله عليه لقتال أهل الردة جيوشاً؛ شاء الله سبحانه وتعالى في أخطر هذه المعارك على الإطلاق، ألا وهي معركة اليمامة في العام الثاني عشر من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، التي كانت بين المسلمين وبين الكذاب مسيلمة؛ أن يقتل في معركة اليمامة عدد كبير جداً من القراء، أي: ممن كانوا يحفظون كتاب الله سبحانه وتعالى. وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فزعاً إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: (يا خليفة رسول الله! أدرك كتاب الله عز وجل، اجمع القرآن؛ فلقد قتل جمع كبير من القراء، وأخشى أن يضيع القرآن) ، فتردد الصديق؛ لأن الصديق رضوان الله عليه كان أشد الناس اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟! كيف أجمع القرآن في صحف واحدة؟ عمر بن الخطاب ذلكم الرجل الملهم، الذي آتاه الله بصيرة، بل هو الذي وافق الله سبحانه وتعالى في كثير من آيات القرآن. ونزل القرآن موافقاً لقول عمر لا لرأيه، بل لقوله بتمامه، فمثلاً: قال عمر بن الخطاب يوماً: يا رسول الله! فلنتخذ من مقام إبراهيم مصلى؛ فنزل قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] . والشاهد أنه حتى بنفس الكلمات التي يقولها عمر رضوان الله عليه تتنزل آيات القرآن الكريم، فأشار عمر بن الخطاب على أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا خليفة رسول الله! اجمع القرآن. لكنه تردد قال الصديق: فظل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراجعني حتى شرح الله صدري لما شرح له صدر عمر. والحديث في صحيح البخاري. فأرسل أبو بكر رضي الله عنه إلى كاتب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وهو زيد بن ثابت رضي الله عنه. اسمع ماذا قال الصديق لـ زيد، قال: (يا زيد! إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك) ، انظر إلى هذا التعبير: (إنك رجل شاب) هو شاب، لكنه قدم صفة الرجولة، ليعلم شبابنا أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من الشباب، والصديق حينما أسلم كان في الثامنة والثلاثين من عمره؛ لأن الرسول أوحي إليه في الأربعين، أما عمر بن الخطاب والأرقم بن أبي الأرقم وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت والزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهم وغيرهم فقد كانوا في ريعان الشباب، لكنهم كانوا رجالاً. فـ الصديق يقول لـ زيد: (يا زيد (إنك رجل) ؛ هذه واحدة، (شاب عاقل لا نتهمك) ، أي: أنت عندنا عدل ثقة، (فتتبع القرآن فاجمعه) . وانظر إلى هذا الرجل الذي يعرف قدر المسئولية وثقل الأمانة، قال زيد رضوان الله عليه: (والله لو كلفوني نقل جبل لكان أيسر علي مما كلفوني به من جمع القرآن) أمانة ثقيلة لا يعرف قدرها إلا الرجال، ولكن: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام وبدأ زيد بن ثابت رضوان الله عليه في جمع القرآن الكريم من العسب -جمع عسيب، وهو جريد النخل- واللخاف وصدور الرجال، ومن المواضع التي وجدت عليها آيات القرآن الكريم في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، وجمع القرآن الكريم كله في صحف، وهذه هي المرحلة الثانية. ثم انتقلت الصحف إلى أبي بكر رضي الله عنه، إلى أن توفي الصديق، فانتقلت الصحف إلى بيت الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وظلت الصحف في بيت عمر، ثم توفي عمر رضي الله عنه، فانتقلت الصحف بهيئتها وحالتها إلى بيت حفصة زوج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابنة سيدنا عمر رضي الله عنهما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان فلما تولى الخلافة بعد عمر رضي الله عنه سيدنا عثمان بن عفان رضوان الله عليه، وامتدت الغزوات والفتوحات في أرمينيا وأذربيجان، وبدأت راية التوحيد ترفرف على كثير من الأرض، وعاد حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أمين السر النبوي، ذلكم الرجل الذي أطلعه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسماء المنافقين، حتى ذهب إليه يوماً عمر بن الخطاب وقال: (أنشدك الله يا حذيفة! هل سماني رسول الله في المنافقين؟ قال: لا، ولا أزكي بعدك أحداً) . فـ حذيفة رضوان الله عليه حضر هذه الغزوات، فعاد -والحديث في صحيح البخاري وغيره- إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو يقول: (أدرك الأمة يا أمير المؤمنين قبل أن تختلف في كتابها كما اختلفت الأمم من قبلها! قال عثمان: وما ذاك؟ قال: غزوت أرمينيا وأذربيجان، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب، فيأتون بما لم يسمعه أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمعه أهل الشام، فكفر بعضهم بعضاً) . وكان من رحمة الله سبحانه للأمة أن أنزل القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم على سبعة أحرف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف) ، فكان الرجل يقرأ بقراءة عبد الله بن مسعود، فيسمع صحابي آخر قرأ بقراءة أبي بن كعب، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَثبتوا) ، والقراءتان صحيحتان، وكلاهما من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من باب التخفيف والتيسير -كما قال جمهور المفسرين من أهل العلم. فاختلف الصحابة القراء؛ فجاء حذيفة رضوان الله عليه إلى عثمان فقال: (أدرك الأمة يا أمير المؤمنين) ، فشرح الله صدر عثمان رضي الله عنه لما قاله حذيفة، فجمع القرآن الكريم. أرسل الخليفة الثالث لـ حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف، فأرسلت الصحف التي جمعت في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وانتقلت منه إلى عمر ثم إلى حفصة، ونادى زيد بن ثابت مرة أخرى، ونادى الكتاب الذين اختارهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يتتبعوا القرآن، وأن يجمعوه، ثم قال لهم: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنه قد نزل بلسانهم. واستقرت الصورة الأخيرة للقرآن على لسان قريش. أي: على اللسان الذي نزل به القرآن الكريم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نزل بلغة قريش، وجمع عثمان رضوان الله عليه القرآن كله في مصحف واحد، وهذا هو الذي يسمى بالمصحف الإمام، ونسخ منه مجموعة من المصاحف، وأرسل إلى كل مصر -أي: إلى كل أفق من الآفاق، وبلد من البلدان الضخمة- بمصحف، وظل هذا القرآن موجوداً بين أيدينا إلى هذه اللحظة، لم تحذف منه آية، ولم تتغير فيه كلمة، ولم يتبدل فيه حرف؛ مصداقاً لقول ربنا جل جلاله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ؛ وما تولى الله حفظه لا يضيعه أحد! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 فضل القرآن على غيره من الكلام أن جمع القرآن بدأ من عهد سيدنا فضيلة الشيخ! قلت: إن كل إنسان يستطيع أن يأخذ من القرآن، سواءً الكيميائي والعالم والمهندس وغيرهم، لكن الحقيقة اليوم أنا نرى القرآن بقي موجوداً في السيارة ليتبرك به وعلى الرفوف إلا من رحم ربي. الشيخ: هذا هو الذي ينبغي أن نتحدث عنه في هذا اللقاء، فنحن نتحدث عن حق القرآن علينا، وكما تفضلت وافتتحت اللقاء الكريم، بأن فضل القرآن على كل كلام كفضل الله سبحانه وتعالى على كل الخلق والبشر. فهذه العبارة تبين لنا أن القرآن الكريم لا حد لفضله، ولو اجتمع علماء الأمة، ومن الله عليهم بلغة البيان، وفصاحة الأسلوب، وعظمة التبيان، فلن يستطيعوا أن يعبروا عن فضل القرآن، كيف وقد ذكرت بأن فضله كفضل الله على كل خلقه. من الذي يستطيع أن يحد هذا الفضل أو أن يعرف مقداره؟ لا أحد، إلا من أنزل القرآن سبحانه وتعالى، ولكن أستطيع أن أقرب لكم، وذلك من كلام نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم لأولئك الأفاضل من المسلمين والمسلمات؛ ليعلم كل مسلم ومسلمة فضل القرآن، وحتى لا يهجر أحدنا كتاب الله سبحانه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 الحث على الإكثار من قراءة القرآن وقبل ذلك أقول: إن كثيراً من المسلمين أو إن بعض المسلمين والمسلمات ربما لا يفتح كتاب الله عز وجل إلا في رمضان. مداخلة: قد يقول: أنا ختمت في رمضان خمس مرات ست مرات، وهذا يكفيني!! الشيخ: وهذا شيء جميل وعظيم وجليل، لكن الذي يقلق القلب أنه ربما بعد هذا الجهد المبارك يغلق كتاب الله عز وجل، ويضع المصحف في القطيفة الفخمة الضخمة، ويظل هذا الكتاب مغلقاً إلى أن يأتي رمضان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 أهمية أن يجعل الإنسان لنفسه ورداً يومياً من القرآن يجب على كل مسلم ومسلمة أن يجعل له ورداً يومياً مع كتاب الله سبحانه وتعالى؛ ليمتع بصره وعقله وقلبه بكتاب الله جل جلاله. يقول نبينا صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام الترمذي وغيره من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه-: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول: (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، تصور عندما تقول: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] ؛ (ألف، لام ميم) ، تكسب ثلاثين حسنة بموعود الصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. ربما يتألم أحد آبائنا الأفاضل الآن وهو يستمع إلينا ويشاهدنا، وربما تبكي -والله- عينه ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! أنا لا أحفظ شيئاً من القرآن الكريم، لا أحفظ إلا الفاتحة، ولا أحفظ إلا سورة الإخلاص، وأذكره وأقول: معك شيء عظيم، كرر السورة، فلو قرأت سورة الإخلاص ثلاث مرات، كأنما قرأت القرآن كله، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم. كرر السورة في أي وقت ترى نفسك قادراً على أن تردد كلام الله عز وجل ولا تتردد، فإن أعظم كلام تقرؤه ويتحرك به لسانك، ويتحرك له جنانك، وتدمع له عينك، ويخشع له جسدك، وتقشعر له جوارحك؛ هو كلام الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ} [الإسراء:9] ، فيجب عليك أن تقرأ كتاب الله وأنت متطلع إلى هذا الفضل العظيم، والأجر الوفير الجميل الجسيم الكبير، (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها) . انظر ماذا يقول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم؟ يقول: (ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، ويقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة رضي الله عنه-: (اقرءوا القرآن -أمر نبوي- فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) ، اللهم شفع القرآن فينا يا رب! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 فضيلة القرآن والتنافس فيه وقال صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: يا رب! منعته الطعام والشراب؛ فشفعني فيه، ويقول القرآن: يا رب! منعته النوم بالليل؛ فشفعني فيه، قال صلى الله عليه وسلم: فيشفعان) أي: يشفع الله الصيام والقرآن للصائم القائم بالقرآن الكريم. وتدبر معي هذا الحديث الجميل الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين) ، والحسد هنا بمعنى الغبطة، والغبطة معناها: أن تتمنى أن ينعم الله عز وجل على العبد الذي تطلعت إلى النعمة معه، وأنت في الوقت ذاته تتضرع إلى الله أن يمن عليك بمثل ما من به على أخيك، لكن الحسد: أن تتمنى زوال النعمة عن أخيك، فشتان بين الحسد والغبطة! فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) ، ربما يفهم الحديث بعض أحبابنا فهماً قاصراً، فيقول: هل تريد منا يا أخي -بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرت الآن- أن نعكف على القرآن آناء الليل والنهار، وأن نترك أعمالنا وأشغالنا وتجاراتنا إلى آخره؟ فأقول: لا. ليس هذا هو المراد، وإنما المراد أن يداوم المسلم على قراءة القرآن بقدر ما يستطيع، وأن يكثر من قراءة القرآن بقدر ما يستطيع، بل تستطيع أنت أن تقرأ القرآن حتى وأنت في بعض أشغالك وأعمالك، إن لم يكن العمل يحتاج إلى صفاء ذهن وتركيز عقل؛ فهناك من الأعمال ما تستطيع أن تبدأها على الأقل بآيات من كتاب الله سبحانه وتعالى، فإن وجدت نفسك فارغاً من عمل لنفسك أو للمسلمين؛ فلا بأس أن تردد ما تحفظه أنت من كتاب الله سبحانه وتعالى، فالهدف أن يكثر المسلم من قراءة القرآن، وأن يداوم النظر في كتاب الله على قدر ما يستطيع، من باب قوله جل وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] . وفي الصحيحين أيضاً من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، ومن جميل ما قاله سيدنا ورسولنا صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره بسند صحيح، وكذلك الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق -في درجات الجنة- ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها) ، انظر إلى هذه الدرجة العظيمة، وهذا الفضل العظيم الذي يناله قارئ القرآن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 فضل الذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق ربما يسأل الآن كثير من أخواتنا الفضليات وإخواننا الفضلاء أيضاً ويقولون: فماذا نصنع ونحن لا نقرأ القرآن إلا بمشقة وعسر؟ ربما تقول أم من أمهاتنا الآن: أنا لا أقرأ الآية إلا بعذاب، وربما يقول والد من آبائنا الفضلاء: أنا لا أحسن أن أقرأ القراءة بيسر وسهولة وطلاقة. وهؤلاء الفضلاء أبشرهم ببشرى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة -يعني: من الملائكة- والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق؛ له أجران) ، فلا تتخل أيها الفاضل! ولا تتخلي أيتها الفاضلة عن قراءة كتاب الله سبحانه وتعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 هجر القرآن الكريم وأنواعه مداخلة: كنت أقرأ القرآن فاستوقفتني آية تبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم يشكونا لله سبحانه وتعالى يوم القيامة وهي قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] فما معنى هجر القرآن في الآية؟ الشيخ: هجر القرآن أنواع: هجر السماع، وهجر التلاوة، وهجر العمل بالقرآن، وهجر التداوي بالقرآن. هجر السماع: قال الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] . هجر التلاوة: وقد ذكرت فضل تلاوة كتاب الله عز وجل. هجر العمل: وهذا أخطر أنواع الهجر، ودعني أؤكد لك ولإخواني جميعاً أن هذه الأمة قد تحولت من رعاة للإبل والغنم، إلى سادة وقادة للدول والأمم يوم أن عملت بكتاب الله عز وجل، وامتثلت أمره، واجتنبت نهيه، ووقفت عند حده، وقالت للقرآن الكريم: سمعنا وأطعنا، وقالت لله سبحانه في كل أوامره ونواهيه وحدوده في القرآن: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] . قال جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] . فهجر العمل بالقرآن هو أخطر أنواع الهجر، قال جل وعلا: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1-3] . لم ينزل الله عز وجل القرآن ليتلى على الأموات في القبور، أو ليوضع في علب القطيفة الفخمة والضخمة، أو ليوضع في البراويز الذهبية والفضية ليحلي النساء بهذه البراويز صدورهن، أو ليوضع في البراويز الضخمة لنحلي بهذه البراويز الجدران والحوائط، كلا، إنما أنزل الله عز وجل القرآن ليقيم به الأمة، وليحيي به القلوب والعقول والضمائر والأخلاق. ما أنزل الله القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم لتشقى أمته بهذا القرآن أو بأوامره أو بنواهيه أو بتكاليفه، بل ما أنزل الله عليه القرآن إلا لتسعد به البشرية كلها، والأمة الإسلامية خاصة؛ لأنه كلام الله عز وجل الذي ارتضاه سبحانه وتعالى منهاجاً ودستوراً لا للأمة المسلمة، بل للبشرية جمعاء: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإسراء:9-10] . فهذا القرآن ما أنزله الله عز وجل إلا لنقيمه وتمثيل أوامره ونجتنب نواهيه ونقف عند حدوده، ونحن في غاية الحب لله والرضا عنه، قال جل في علاه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] . فيجب على هذه الأمة أن تعلم أنه لا سعادة لها ولا كرامة إلا إذا عادت إلى هذا القرآن الكريم فهو دستورها ومنهج ربها سبحانه وتعالى؛ تعود إليه لتطبقه آية آية، وحكماً حكماً، وتكليفاً تكليفاً، وكلمة كلمة، وحرفاً حرفاً، وهي تردد في غاية الحب لله والرضا عن الله قولة الصادقين السابقين الأولين: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] . يجب علي أن أطبق القرآن على نفسي وعلى بيتي، ويجب عليك أن تطبق القرآن على نفسك وعلى بيتك، وهذا واجب كل مسلم ومسلمة، فهذا القرآن لم ينزله الله سبحانه وتعالى للاستمتاع السالب، أو للثقافة الذهنية الباردة الباهتة، وإنما لنحوله في حياتنا إلى واقع عملي ومنهج حياة يتألق في دنيا الناس سمواً وروعة وعظمة وجلالاً، وحركة وعملاً وبناءً. فيجب على كل مسلم في ميدانه أن يمتثل لقرآن ربه: الطبيب في عيادته المهندس في ورشته الزوجة في بيتها الجندي في موقعه العامل في مصنعه الفلاح في حقله. ما دمنا قد أسلمنا لله، فيجب أن نسلم عقولنا وقلوبنا لمنهج ربنا تبارك وتعالى، وأن نجعل منهج السمع والطاعة لله سبحانه، ولسيدنا رسول الله. قال البشير النذير صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه: (يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة، وسورة آل عمران، كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو غيابتان، أو حزقان أو فرقان من طير صواف؛ تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة) . انظر الوعيد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام في حديث آخر رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، فيقال له: كذبت! بل قاتلت ليقال هو شهيد، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار) ، لم يقاتل لله سبحانه، وإنما قاتل للشهرة وللأضواء والعدسات ولتقول الدنيا كلها: إنه جريء إنه بطل، والله عز وجل وحده هو الذي يعلم السر وأخفى. (ورجل آتاه الله القرآن وعلمه العلم، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت! بل تعلمت وعلمت ليقال هو عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل آتاه الله من أصناف المال، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت؟ قال: ما تركت سبيلاً تحب أن ينفق فيها إلا وأنفقت فيها لك، قال: كذبت! بل أنفقت ليقال هو جواد، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار) . فيجب علينا -أيها الإخوة والأخوات- أن نعلم أن الله ما أنزل القرآن لنضعه في علبة وقطيفة فخمة ضخمة، أو في البراويز، أو لنقرأه على الأموات، وإنما أنزل الله القرآن لنحوله في حياتنا إلى واقع عملي ومنهج حياة، ولا سعادة لنا ولا كرامة في الدنيا والآخرة إلا إذا عدنا مرة أخرى إلى القرآن، كما ما عاد إلى القرآن أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام، فحولوه في حياتهم إلى منهج حياة، فتحولوا بهذا القرآن الذي عمروا به الكون من رعاة للإبل والغنم، إلى سادة وقادة للدول والأمم. أسال الله أن يردنا إلى القرآن رداً جميلاً. وأختم كلامي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 سلسلة إيمانية - من هو النبي؟ لقد أرسل الله سبحانه وتعالى إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم عليه وسلم رسولاً نبياً، وأوجب علينا طاعته واتباعه، ومحبته وتقديمه على النفس والزوجة والأولاد والمال والعشيرة، وتصديقه في كل ما أخبر من الغيبيات التي وقعت والتي لم تقع؛ لأنه مؤيد بالوحي، ومخبر عن الله سبحانه، فلا يمكن أن يكذب على الله جل وعلا، وهذه كلها من الحقوق الواجبة علينا تجاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1 حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة والأخوات! وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني بكم على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار المقامة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. لقد آن لنا أن نتعرف جميعاً على حقه صلى الله عليه وسلم علينا، لاسيما وكلنا يعلن أنه يحب الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء فتعالوا بنا لنتعرف على حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا، وهذا من أوجب الواجبات، فبعد أن تعرفنا على ربنا، وتعرفنا على حق الله تبارك وتعالى علينا، وتعرفنا على نبينا صلى الله عليه وسلم، وعرفنا قدره عند ربه، وعرفنا قدره كما بينت لنا السنة آن لنا أن نعرف حقه علينا. وأول حق يجب على كل من آمن بالله تبارك وتعالى أن يؤديه بعد الإيمان بالله جل وعلا أن يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يصح لك دين، ولا يصح لك إيمان إلا إن وحدت الله عز وجل وآمنت بالصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا أول ركن من أركان الإسلام، أول ركن أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً) ، فأول حق للحبيب علينا أن نؤمن به، فرسولنا صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم الذي إن وجد في أي عصر من العصور أو في أي زمان من الأزمنة وجب على كل أحد أن يؤمن به وأن يتبعه، ولو كان في الأرض معه نبي من إخوانه من النبيين والمرسلين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 2 من كذب برسول فقد كذب جميع الرسل تدبر معي قول الله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] ، فهناك عهد وميثاق أخذه الله عز وجل على كل الأنبياء والرسل، إن بعث الله فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وأن ينصروه وأن يتبعوه، فلا يصح لأحد دين إلا إن وحد الله وآمن بأنبياء الله ورسله وآمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم. وتدبر معي القرآن الكريم، فمن المعلوم أنه ما أرسل الله إلى قوم نوح إلا نوحاً، وما كذب قوم نوح إلا نوحاً عليه السلام، لكن تدبر القرآن؛ فربنا يعبر عن هذه القضية بهذه الكلمات الجميلة، فيقول تبارك وتعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] ، كيف هذا وهو مرسل واحد وهو نوح، تدبر القرآن، {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] . ومن المعلوم أن قوم لوط ما كذبوا إلا لوطاً، لكن ماذا يقول رب العزة؟ قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:160] . ومن المعلوم أن عاداً ما كذبوا إلا هوداً عليه السلام، لكن ماذا قال ربنا؟ {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] . ومن المعلوم أن ثمود ما كذبوا إلا صالحاً عليه السلام، ومع ذلك قال الله عز وجل: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141] كيف هذا؟! ما هذا التعبير البديع؟! لأن من كذب نبياً واحداً من أنبياء الله فقد كذب أنبياء الله جميعاً، ومن كفر بنبي واحد من أنبياء الله جل وعلا فقد كفر بجميع إخوانه من النبيين والمرسلين، من أجل ذلك قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] ، {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:160] ، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] ، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141] . وتدبر معي هذه الآية الجميلة من آيات سورة النساء، قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:150-151] . انظر إلى حكم الله في هؤلاء: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:151] ، فمن آمن بالله جل وعلا وكفر بنبي واحد من أنبياء الله فقد كفر بالله وبجميع النبيين والمرسلين، فمن آمن بالله تبارك وتعالى وجب عليه أن يؤمن بالله ورسله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] لا ينبغي لنا أبداً أن نفرق بين أنبياء الله ورسله في أصل الإيمان. وقد تسألني وتقول: أنا أفهم أن الله قد فضل بعض الأنبياء على بعض، فهذه القضية أخرى، لكنني أتحدث عن عدم التفرقة بين أنبياء الله ورسله في أصل الإيمان، فلا ينبغي لك، ولا يصح لي ولا لك ولا لأي أحد من إخواننا دين إلا إن آمن بالله جل وعلا، وآمن بنبي الله نوح، وآمن بنبي الله إبراهيم، وآمن بنبي الله موسى، وآمن بنبي الله عيسى، وآمن بنبي الله محمد، وآمن بجميع أنبياء الله ورسله، من قصهم الله علينا ومن لم يقصص ربنا تبارك وتعالى علينا. قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم من كل أهل الأرض فمعنى الكلام أن كل الذين على الأرض الآن، والذين عرفوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم أن يؤمنوا به. فكل من وجد على الأرض بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم يجب عليه أن يؤمن بالله تبارك وتعالى، وأن يؤمن بنبيه، سواء أكان هذا النبي هو نبي الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، أم نبي الله عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وأن يؤمن مع هذين النبيين الكريمين بنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6] ، فلا بد من الإيمان بالله والإيمان بجميع رسل الله، لا نفرق بين أحد من رسله في أصل الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه-: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) ، وفي لفظ: (أدخله الله الجنة من أي أبوابها الثمانية شاء) ، وفي رواية عتبان بن مالك في الصحيحين -أيضاً- قال صلى الله عليه وسلم: (فإن الله حرم على النار من قال: (لا إله إلا الله) يبتغي بها وجه الله تعالى) . إذاً فأول حق لنبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم أن نؤمن به، فأنت أمامك حد الإسلام وشرط الإيمان، قال ربنا جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، فأول حق لنبينا صلى الله عليه وسلم أن نؤمن به كما آمنا بربنا تبارك وتعالى، فالإيمان برسول الله تابع للإيمان بالله جل وعلا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا اتباعه وكل أحد من الناس يقول: أنا أحب الله، فالمرتشي يقول: أنا أحب الله. والحرامي يقول: أنا أحب الله. والعاصي يقول: أنا أحب الله. فهل صدقوا في حبهم؟! لقد قال الله جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] ، فالله تبارك وتعالى يحب أهل الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) اتبعوا من؟ اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] الآية، فمن حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا أن نطيعه فيما أمر، وأن ننتهي عن كل ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وزجر. وتدبر معي قول الله تبارك وتعالى وهو يبين هذين الحقين العظيمين للرسول صلى الله عليه وسلم في آية واحدة جامعة، فيأمر الله سبحانه وتعالى ويقول: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) أمر، وهذا حجة على من ينكر سنة النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: نحن يجب علينا أن نكتفي بالقرآن، ها هو القرآن يأمر الجميع أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى امتثال أمره: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] أمر من الله سبحانه وتعالى، فالرسول عليه الصلاة والسلام له أمر وله نهي، وأمر الله سبحانه وتعالى أهل الإسلام وأهل الإيمان أن يمتثلوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يجتنبوا نهيه، وأن يقفوا عند الحدود التي حدها -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] . فطاعة النبي صلى الله عليه وسلم طاعة لربه العلي، ومعصية النبي صلى الله عليه وسلم معصية لله، واقرأ معي قول الله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) هكذا، من يطع الرسول فقد أطاع الله، آية حاسمة: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80] ، وقال جل وعلا: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132] ، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92] (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) أي: احذروا أن لا تطيعوا أمره، واحذروا أن تخالفوه. (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فوظيفته صلى الله عليه وسلم أن يبلغ، وأن يؤدي ما عليه لله تبارك وتعالى من حق الدعوة والإنذار والبلاغ. ويقول ربنا وتعالى في آية جميلة يلخص فيها ثمرة الطاعة لحبيبه صلى الله عليه وسلم: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56] ، وقال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71] . ومن أرق ما ثبت من الأحاديث الصحيحة ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) ، فهل يوجد أناس يكرهون دخول الجنة؟ نعم بنص الحديث: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) ، والذي لا يريد أن يدخل هو حر، (قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟!) من الذي يكره أن يدخل الجنة؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) ، فمسألة الزعم بأننا نحب رب العزة ونحب النبي عليه الصلاة والسلام دون أن نمتثل أمر النبي، ودون أن نجتنب نهي النبي إنما هو زعم يحتاج إلى قدم وساق، ويحتاج إلى أدلة على أرض الواقع. وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله -وهذا حديث جميل- (أن ملائكة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم -أي: بعض الملائكة-: إنه نائم. وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان) ، وهذه من خصائص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان إذا نام تنام عينه ولا ينام قلبه. (جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم. وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقال بعضهم: إن لصاحبكم هذا مثلاً فاضربوا له مثلاً. قالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً وجعل فيها مأدبة -وليمة- وبعث داعية -أي: بعث داعية يدعو الناس ليدخلوا الدار وليأكلوا من المأدبة- فمن أجاب الداعية دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعية لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقال بعض الملائكة: أولوها له يفقهها -أي: وضحوا له الرؤية هذه وفسروا له هذا المثل- فقالوا: الدار الجنة، والداعي هو محمد، فمن أجاب الداعية -أي: من أجاب محمداً صلى الله عليه وسلم وامتثل أمره وأطاعه واجتنب نهيه وسار على طريقه- دخل الدار -أي: دخل الجنة- وأكل من المؤدبة فاستمتع بنعيمها، ومن لم يجب الداعية -أي: من أعرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن منهجه- لم يدخل الدار) لم يدخل الجنة، ولم يستمتع بنعيمها، فمحمد فرق بين الناس أو فرق بين الناس، فمن آمن بالله ورسوله فهذا هو الذي وعده الله بالسعادة والنعيم المقيم في الدنيا والآخرة، ومن كفر بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء -نعوذ بالله من الخذلان- هم أهل الشقاء والضلال في الدنيا والآخرة، حتى وإن اغتر بعض الناس بسعادة وهمية لهؤلاء المجرمين من الكفرة بالدنيا، لا والله، فقد صدق ربي إذ يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123-127] ، فشعار المؤمن الصادق أن يقول لله ولرسوله القالة الجميلة قالة السابقين الأولين: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 وجوب السمع والطاعة عند سماع الآيات والأحاديث المؤمن الصادق لا يتفلسف ولا يتحذلق ولا يأخذ ولا يعطي، إن جاءه الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثل الأمر، وإن جاءه النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتنب النهي، وتدبر القرآن -ويا ليتنا نفهم القرآن ونعيش مع القرآن- يقول الله تبارك وتعالى في حق المؤمنين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51-52] ، وهذا هو شعار المؤمن، أن يقول: سمعنا وأطعنا دون نقاش ولا حرج في أن يطلب من أهل العلم أن يفهموه وأن يعلموه، لكن لا يجوز له ألبتة أن ينكر وأن يرد الأمر والنهي بدعوى أنه لا يفهمه، لا. أنا أقبل الأمر وأقبل النهي، وإن التبس عليّ أمر بعد ذلك سألت أهل العلم، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] ، لكن شعار المؤمن دائماً فوق أي أرض وتحت أي سماء أن يقول لله ورسوله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] ، وانظر إلى ما قال الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] هذا شعار المؤمن والمؤمنة، فالله جل وعلا له الأمر وله الحكم، والرسول صلى الله عليه وسلم له أمر وله حكم، الله تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] أمر من الله لنبيه، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم به الأمة، فصار الأمر من القرآن والسنة، فيجب على الأخت الفاضلة المؤمنة الصادقة أن تمتثل الأمر وأن تلبس الحجاب امتثالاً لأمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لا يصح أن تقول لي: أقنعني بالحجاب فهل أنت مقتنعة بالإسلام أم لا؟ إن كنت اقتنعت بالإسلام فهذا أمر ربك، وهذا أمر نبيك صلى الله عليه وسلم. ثم هل تطلبين من طفلك الصغير إذا طلب منك نوعاً من أنواع الطعام أو لوناً من ألوان الشراب، فتقولين: أقنعني أولاً بأن الطعام هذا فيه فائدة لك. أو: أقنعني أولاً بأن اللبن هذا لن يضرك؟! هذا مستحيل، وإنما تستجيب الأم على الفور لطلب ولدها، فكيف تطلب من نبيها صلى الله عليه وسلم وقد علمت أن الأمر صريح في القرآن وصحيح في السنة؟! كيف تطلب بعد ذلك من عالم من العلماء أن يقنعها بكلام ربها أو بكلام الصادق نبيها صلى الله عليه وسلم؟! ولنقرأ الآية مرة أخرى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] . قال الله جل وعلا في شأن من يسمع ويعرض: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء:60] انظر إلى تعبير القرآن (زعم) ، وما أيسر الزعم! إنه سهل جداً {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء:60] لم يكتفوا بأنهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل على رسول الله فقط، لا لكنهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل على رسول الله وما أنزله الله قبل ذلك على أنبيائه ورسله، فهو زعم عريض جداً {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60-61] ، فهذا حكم الله فيمن سمع عن الله أمره، وعن رسول الله أمره ثم صد وأعرض، تقول له: النبي عليه الصلاة والسلام حرم كذا. والنبي عليه الصلاة والسلام حرم كذا فيقول: أنا أعرف أنه حرام، لكن أنا أرى أنه لا يمكن أن يتماشى هذا التحريم مع هذا العصر! فهذا الذي يقال، ورب العزة يقول في حقه الآيات التي ذكرتها: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61] ، ولا حول ولا قوة إلا بالله، (رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) ، فالذي يسمع ويصد ويعرض عن أمر الله وأمر رسول الله إنما هو منافق -والعياذ بالله- بشهادة رب العالمين الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم تصديقه فيما أخبر لقد أصبحنا اليوم في عالم الاكتشاف وعالم المشاهدة، فأي شيء يتكلمون عنه فنحن نصدقه، لكن أول ما نسمع حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم في غيبيات نجد ضعفاً، فيكذبه أحدنا سواء بلسانه أو بعقله؛ لأنه من الغيبيات وليس شيئاً مشاهداً. إن من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا -وهذا حق جليل عظيم كبير- أن نصدقه في كل ما أخبر به، ومن حقك أن تسأل أهل العلم: هل هذا الحديث ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام بالضوابط التي يحكم بها علماء الجرح والتعديل على الأحاديث من حيث الصحة والضعف على المتن والسند؟ فمن حق المسلم والمسلمة أن يسأل: هل هذا الكلام فعلاً قاله النبي عليه الصلاة والسلام وثبت عنه؟ فإن تبين له بالأدلة أن هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فليعلم أنه من الواجب عليه أن يصدق خبر النبي الصادق الذي لا ينطق عن الهوى ما دام خبره متعلقاً بشرع الله جل وعلا وقد ثبتت صحته بالأدلة؛ لأن الذي شهد بصدق محمد هو الله {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] ؟! قال الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1-5] ، فهذه شهادة من رب العزة لنبي صادق، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي، فالقرآن وحي، والسنة وحي، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: (إلا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) ، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3-5] ، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] . ومن أجمل ما قرأت في هذا الباب ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام الحاكم في مستدركه وغيرهما بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه -فكل ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً يكتبه عبد الله بن عمرو - قال عبد الله بن عمرو: فنهتني قريش، قالوا له: إن رسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا وكل الذي يقوله تكتبه! قال: فأمسكت عن الكتابة -يعني: امتنعت-، ثم ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اكتب؛ فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق) ، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى فمه المبارك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 سادات قريش يشهدون للنبي صلى الله عليه وسلم بالصدق وفي آية غريبة عجيبة فريدة في القرآن الكريم يبين لنا ربنا جل وعلا أن نبيه صادق، وأنه لو ادعى شيئاً على الله لم يوحه الله إليه لقطع الله عز وجل منه الوتين، انظر إلى ما يقول رب العزة: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44-47] ، فلا يستطيع أحد أن يحول بين الله وبين ما يريد، فهو الفعال لما يريد في أي وقت يريده على الوجه الذي يريد جل وعلا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يشهد لنبينا صلى الله عليه وسلم بالصدق في كل ما بلغه عن ربه تبارك وتعالى، بل ستعجب أشد العجب حين تعلم أن الكفار والمشركين كانوا يعلمون يقيناً ويعترفون اعترافاً صريحاً بصدق النبي صلى الله عليه وسلم. خلا يوماً الأخنس بن شريق مع أبي جهل بن هشام، فـ الأخنس يقول لـ أبي جهل: يا أبا الحكم! نحن لوحدنا لا أحد يسمعنا، أستحلفك بالله: أمحمد صادق أم كاذب؟ وأبي جهل هو أشد أعداء النبي عليه الصلاة والسلام عداوة له، فقال أبو جهل للأخنس بن شريف: ويحك يا أخنس! والله إن محمداً لصادق لكنها الدنيا والكبر والرئاسة والزعامة. فنزل قول الله جل وعلا: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] ، فما منعهم إلا الجحود والإنكار والكبر، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35-36]-بأبي هو وأمي وروحي- نترك آلهتنا لهذا الشاعر المجنون! يريدون بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فالله جل وعلا هو الذي يشهد لنبيه بالصدق، ويا لها -والله- من شهادة، وأهل الكفر يشهدون للنبي بالصدق. وهل نسيت أنهم أول من لقبه بالصادق الأمين في مكة قبل البعثة؟ وذلك لما اختلفت قريش في وضع الحجر، فدخل عليهم الصادق الأمين، فاتفق عليه البرلمان الشركي بالإجماع، ولقب بالصادق الأمين قبل البعثة، أفبعد أن بعثه ربه جل وعلا من فوق سبع سماوات صار يكذب بعد ذلك على الله أو على خلقه؟! هذا محال، ولذلك ما وصل الصديق إلى ذروة سنام الصديقية إلا لما اطمأن قلبه إلى صدق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يخبر به عن ربه، كان إذا أخبر عن النبي بشيء يقول: أوقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟ هذه هي القضية، أريد أن أعرف فقط هل النبي قال أم لم يقل؟ فإن أخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله قال: إن كان قد قال ذلك فقد صدق. قضية محسومة؛ لأنه صادق مفطور على الصدق بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم، فلا بد من أن نؤصل لصدق حبيبنا ونبينا بهذا التأصيل الذي شهد بصدقه الله، وشهد الكفار والمشركون في زمانه بصدقه، بل وما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء إلا ووقع بمثل ما أخبر به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، ولم يختلف إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن الواقع مرة واحدة، وإلا لطار المشركون والمستشرقون بذلك في الشرق والغرب والشمال والجنوب. يقول تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] هذه السورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في أخطر الأوقات، في الوقت الذي أعلن فيه أبو لهب عداءه السافر للنبي صلى الله عليه وسلم ودينه، فقال: تباً لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟ فنزل قول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] . جاءت أول لحظة فقام النبي صلى الله عليه وسلم فيها ليبلغ عن الله لما نزل قول الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] ، وارتقى النبي جبل الصفا ونادى على بطون قريش وقال فيهم: لو أني قلت لكم: إن هناك خيلاً وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم فهل كنتم مصدقي؟! قالوا: ما جربنا عليك كذباً قط، قال: فإني رسول الله إليكم، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟ فنزل قول الله تعالى، وقرأ النبي السورة، فلو لم يكن كلام النبي صلى الله عليه وسلم هو الصدق بعينه لاتهم أبو لهب النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب وقال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذا محمد يتهمني بأنني من أهل النار، وبأنني لست على دينه، وها أنا أشهد أن محمداً رسول الله! ولم يحدث هذا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق في كل ما يخبر به عن ربه تبارك وتعالى، فما أخبر بشيء إلا وقع بمثل ما أخبر به في الماضي أو في الحاضر أو في المستقبل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 أمثلة لما وقع مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم سأضرب بعض الأمثلة في هذا الموضوع، فقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم -: (إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده) ، وهذا غيب لم يكن وقع بعد، (إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده) ، فهل جاء كسرى بعد كسرى؟ لم يحصل، وقال: (إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده) ، فهل جاء قيصر بعد قيصر؟ لا. وقال: (والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله) جيء بتاج كسرى، وجيء بأموال قيصر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأنفقت كنوزهما في سبيل الله كما أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس) . وانظر إلى الصنف الثاني، يصفه النبي وصفاً عجيباً، قال: (ونساء كاسيات عاريات) صنف لم يكن موجود أبداً (كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) ، وهذا بغير شك إن لم يتبن إلى الله تبارك وتعالى، فانظر إلى هذا الوصف الدقيق (نساء كاسيات عاريات) إما أن يكون الثوب عارياً، وإما أن يكون الثوب شفافاً، وإما أن يكون ضيقاً يجسد كل فتنة في جسم المرأة، (كاسيات عاريات) انظر إلى هذا الوصف النبوي البليغ! (مائلات مميلات) تتمايل في مشيتها فتميل قلوب الرجال. (رؤوسهن كأسنمة البخت) والبخت: نوع من أنواع الجمال الخراسانية التي كانت من أغلى ما يمتلكه العربي في أرض الجزيرة العربية والجزء الذي على ظهر الجمل اسمه سنام، سنام البعير، أو سنام الإبل، فإذا كبر البعير وصار لا يحمل يميل سنامه إذا كان فارغاً، فيشبه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرأس الفارغ من الدين والإيمان والحياء والخلق بهذا السنام الفارغ، أو أنها ترفع شعرها على رأسها بصورة تشبه السنام المرتفع على ظهر البعير، فهذا وصفٌ ما كان في عهده صلى الله عليه وسلم. فهذا الواقع الذي تحياه أمتنا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً دقيقاً. وها أنت ترى الآن معي أن الأمة قد تحولت إلى قصعة مستباحة لكل أمم الأرض، وتسابقت كل أمم الأرض لتأخذ ولتنهب من هذه القصعة المستباحة ما تقدر عليه، وانظر إلى ما قال النبي في ذلك، ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام أبو داود وغيرهما بسند صحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك-و (يوشك) للقريب- أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: كلا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت) ، فهل هذا واقع؟ إنه واقع بصورة جلية. وكذلك ما تراه من أخلاق مقلوبة أخبر عنها الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، فتدبر معي هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام الحاكم في مستدركه بسند صحيح، وأقر الحاكم الذهبي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: من الروبيضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه -وفي لفظ صحيح: الرجل السفيه- يتكلم في أمر العامة) ، فانظر إلى هذا الواقع الذي يجسده الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. إذاً: فما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء في الماضي أنه سيقع في الحاضر وفي المستقبل إن شاء الله إلا ووقع وسيقع بمثل ما أخبر به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. وقد ينكر بعض الناس ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بدعوى أنه علم أو نظرية علمية، وأريد أن أقول لإخواني وأخواتي بأن العالم الإنجليزي الشهير سيرجف يقول كلاماً معتبراً جداً، يقول: إن كل ما يقدمه العلم الحديث إلى يومنا هذا ما هو إلا مجرد احتمالات. احتمالات صحيحة في نظريات علمية ظهرت وصارت حقائق لا ننكرها، لكن النظرية من الممكن أن تخرج نظرية أخرى لتهدمها، أو على الأقل لتنقض شيئا منها، أو على الأقل لتزيد ولتضيف إليها ولتخطئ بعضها، فهذا واقع نحياه، لكن العلم الذي هو اليقين المطلق هو كل علم ثابت عن الله وعن الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسأضرب لذلك مثالاً: يقول النبي عليه الصلاة والسلام -كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه-: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات، أولاهن -أو: إحداهن- بالتراب) -وفي لفظ-: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب) ، فالتراب ما سمعنا عنه من قبل أنه من المنظفات، فما هو الإناء الذي تغسله بالتراب يا أخي؟ هذا كلام يرده العقل تماماً، وربما ترى من أحبابنا وإخواننا من يستحلفنا بالله أن لا نذكر هذا حتى لا نتهم في عقولنا لأننا نعيش العصور الوسطى، فيخرج علينا عالم إنجليزي ما زال حياً يرزق يدعى: أليسن ما استطاع أن يطهر الإناء من كل أنواع هذه الجراثيم، فلما جربنا ما وصلنا عن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وغسلنا هذا الإناء مرة بالتراب ما وجدنا أثراً لجرثومة واحدة في هذا الإناء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 سلسلة إيمانية - نهاية العالم من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله عز وجل: قيام الساعة، وعلى هذا فكل قول بتحديد موعد قيام الساعة فهو ظن وتخريف، بل كذب لا يجوز تصديقه، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بعلاماتها الصغرى والكبرى، فهذه العلامات يجب الإيمان بها، وقد ظهرت كثير من علامات الساعة الصغرى، ولم تبق إلا الكبرى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 1 تحديد نهاية العالم ظن وتخمين باطل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: المقدم: أعزاءنا المشاهدين والمشاهدات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أحداث العالم الآن جعلت أناساً كثيراً يتكلمون عن النهاية، وأن القيامة اقتربت، وظهرت كتب تحدثت عن سنة (99) وأن القيامة ستقوم فيها، وأن أمريكا ستدمر، ولا أدري كيف؟! وهناك أحداث كثيرة وقعت جعلت الناس تتنبأ بأشياء كثيرة! ومعنا فضيلة الشيخ محمد حسان الداعية الإسلامي الكبير، فضيلة الشيخ! ما رأيك في الأحداث الموجودة الآن في العالم؟ حيث نجد أهل الكتاب سواء أهل التوراة أو أهل الإنجيل كلهم يسيرون على (سيناريو) واحد، وأعتقد أن الله سبحانه وتعالى كلما أرسل رسولاً كان ينبئ قومه بالأحداث وبالبداية والنهاية، وتجد أيضاً أن الأفلام الأمريكية تتكلم عن حرب (هرمجدون) وأغانيهم كذلك تتكلم عن (صن ريسس) يعني: أنهم ينادون سيدنا عيسى عليه السلام، وسنجد أن عندهم وجهة نظر معينة؛ لأنهم يعتقدون أن التوراة والإنجيل أشارت إلى أحداث معينة هم يعرفونها، لكننا لا ندري ما هي نظرتهم؟! وكيف يخططون؟! فيا ترى! هل يوجد في السنة وقول الرسول صلى الله عليه وسلم إخبار بالأحداث المستقبلية؟ الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أيها الإخوة الكرام! أيتها الأخوات الفاضلات! أسأل الله تعالى أن يجنبنا وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه. هذا الموضوع الذي نود أن نطرحه للنقاش موضوع شائك، وموضوع ساخن في الوقت ذاته، لاسيما ونحن نعيش هذه الأحداث المؤلمة، وهي أحداث عالمية ليست محلية، واسمح لي أن أستهل الجواب على أسئلتك التي طرحتها بهذا التأصيل العلمي المهم؛ لأني أرجو ألا ينسى المسلم وألا تنسى المسلمة هذا التأصيل. أقول: لا يستطيع عاقل فضلاً عن عالم بالقرآن والسنة أن يقطع بوقت محدد معلوم لنهاية العالم أو لقيام الساعة، فالقول بأن القيامة ستقوم سنة (1998) وسنة (2002) وسنة (2010) كل هذا ظن وتخمين وقول باطل؛ لأن علم الساعة علم اختص الله تبارك وتعالى به نفسه، فلا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا حتى المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا لحبيبنا عليه الصلاة والسلام: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:63] ، وقال سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:42-46] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 2 إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأمارات الساعة علم الساعة، وأنها سوف تقوم في اليوم الفلاني، وفي الساعة الفلانية، وفي الدقيقة الفلانية، هذا علمه عند الرب العلي الأعلى تبارك وتعالى، ومع ذلك فقد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على كل أمارات الساعة، وعلى كل علامات الساعة، وعلى كل ما يحدث في الكون من فتن وحروب وملاحم بين يدي الساعة، قال الله جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] حتى لا يشعر أحد بأن هناك تعارضاً؛ لأنه قال: (إِلَّا بِمَا شَاءَ) وقال الله جل وعلا: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26-27] ، وقال جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ، وقال جل وعلا في حق نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1-5] ، ولن نذكر -بإذن الله تعالى- حديثاً إلا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا من الغيب الذي لا ينبغي أن نتكلم فيه إلا بدليل من الملك الجليل، أو من البشير النذير الذي يبلغ أمر ربه تبارك وتعالى، ففي الحديث الطويل الذي رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ثم سأله عن الساعة، قال جبريل: متى الساعة؟ أمين السماء يسأل أمين أهل الأرض: متى الساعة؟ فقال حبيبنا صلى الله عليه وسلم: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل، فقال جبريل: فأخبرني عن أماراتها. فقال صلى الله عليه وسلم: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ... ) إلى آخره، فذكر في هذا الحديث بعض العلامات، وذكر علامات كثيرة في أحاديث أخرى. فالشاهد أيها الإخوة والأخوات! أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا عن كل أمارات الساعة، وعن كل ما يحدث في الكون بين يدي الساعة، وهو الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، يعني: إذا أراد أن يحفظ حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه، ولا يقيد العلم إلا بالكتابة، قال: فنهتني قريش، فقالوا: إن رسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، قال: فأمسكت عن الكتابة -أي: امتنعت- حتى ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب، فوالذي نفسي بيده! ما خرج مني إلا الحق) . فهيا بنا ندخل على أحداث الواقع التي تعيشها الأمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد تكلم عن شيء من الأحداث التي تحدث الآن، والأحداث التي ستقع بعد ذلك، فهذا سيدنا حذيفة رضوان الله عليه يقول في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه، وجهله من جهله) ، وأنت الآن تنظر إلى شاشة التلفزيون عبر الأقمار الاصطناعية فترى الحدث يقع في أمريكا في التو واللحظة، بل في أي موقع في العالم، وقد رأينا ذلك بأم أعيننا في زماننا هذا، وكان المشركون يستكثرون أن يري الله نبيه المسجد الأقصى أمام عينيه؛ ليصف للمشركين أبوابه ونوافذه، وها نحن قد رأينا الآن على هذه الشاشة الصغيرة ما يحدث هنالك في التو واللحظة، فنبينا صلى الله عليه وسلم يكشف الله له الحجب، ويطلعه الله تبارك وتعالى على أحداث الكون، يقول حذيفة: (لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه، وجهله من جهله) ، وتدبر أعجب خطبة خطبها رسول الله! إنها أطول خطبة في التاريخ كله! والحديث رواه الإمام مسلم من حديث أبي زيد عمرو بن أخطب رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر ثم صعد المنبر؛ فخطبنا حتى حضرت الظهر) تصوروا! النبي عليه الصلاة والسلام يقف على المنبر من الفجر إلى الظهر يتكلم عن الأحداث التي كانت والتي ستكون! (فنزل فصلى بنا الظهر، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى العصر، وصعد المنبر، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن وبما سيكون، فأعلمنا أحفظنا) أي: أعلمنا بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أحفظنا لما ذكره عليه الصلاة والسلام. فهذا الواقع الذي تحياه الأمة من تداعي كل أمم الأرض عليها، وحال الهوان والذل التي تحياها الأمة، قد أخبرنا بها نبينا صلى الله عليه وسلم ووصفها وصفاً دقيقاً عجيباً، فتدبر معي ما رواه الإمام أحمد في مسنده والإمام أبو داود في سننه بسند صحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها) فهلا تذكرت معي قليلاً طبقاً كنا نقدمه للطيور في بيوتنا في القرى، وتصور مشهد الطيور وهي تتسابق وتتقاتل؛ ليصل كل طائر إلى حبة أرز في هذا الطبق مثلاً، فقد صارت الأمة قصعة مستباحة لكل أمم الأرض، وتسابقت كل أمم الأرض؛ لتنهب من هذه الأمة الممزقة الذليلة المهينة، وتدبر كلامه صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: كلا، ولكنكم يومئذ كثير -الآن الأمة أكثر من مليار وربع- ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا، وكراهية الموت) لا توجد مهابة ولا توجد كرامة ولا توجد قيمة لهذه الأمة الآن، فالنبي صلى الله عليه وسلم يجسد الواقع الذي نعيشه اليوم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن الرويبضة وأسوق لك حديثاً آخر يجسد به النبي صلى الله عليه وسلم الحال الآن تجسيداً دقيقاً، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: ما الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه -وفي لفظ: الرجل السفيه- يتكلم في أمر العامة) فمن يحكم العالم الآن؟ إنه السفاح شارون، وبوش وبوتن، فرسولنا صلى الله عليه وسلم يجسد حال وواقع الأمة من مهانة وذل وتبعية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالإرهاصات التي تكون بين يدي الساعة وفي الوقت ذاته أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن زوال هذه الغمة -أسأل الله أن يعجل بزوالها- فلا تيأس، ولا تقنط، فقد أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم عن زوال هذه الغمة وعن كشفها، وأبشر الإخوة والأخوات بأن ذلك -ورب الكعبة- سيكون قريباً إن شاء الله؛ لأن الذي يهيئ الكون كله الآن -ليقع فيه ما أخبر به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى- هو مالك الملك ومدبر الكون تبارك وتعالى. فتدبر معي! النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأن إرهاصات ما بين يدي النهاية ستبدأ بهدنة بين المسلمين وبين الروم، والروم كما يقول كل أهل التاريخ: هم سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، وامتدادهم الآن هم الأوروبيون والأمريكيون، فأخبرنا الصادق أن إرهاصات ما بين يدي الساعة ستبدأ بهدنة بين المسلمين وبين الروم، وأظن أننا الآن نعيش هذه المرحلة، مرحلة الهدنة بين المسلمين وبين الروم من الأوروبيين والأمريكيين، فماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام؟ روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي) أي: موت الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولقد مات نبينا عليه الصلاة والسلام: (ثم فتح بيت المقدس) وقد فتح بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على يدي أبي عبيدة بن الجراح، وأسأل الله أن يأذن في فتحه من جديد: (ثم مُوتان -بضم الميم- يأخذ فيكم كقعاص أو كعقاص الغنم) يعني: الطاعون، وأنه ينتشر فيكم كما ينتشر الطاعون أو الوباء في الغنم، فيهلكها جماعات، وقد ظهر هذا الطاعون في بلاد الشام في طاعون عمواس، وقتل فيه عدد كثير جداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبو عبيدة ومعاذ بن جبل وغيرهما: (ثم استفاضة المال بحيث يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً) وها أنت تعطي الرجل الآن مائة جنيه أو مائتين فيظل الرجل ساخطاً إما لعدم القناعة والرضا، وإما لأنها لا تكفي: (ثم فتنة لا تدع بيتاً من بيوت العرب إلا دخلته) يرى كثير من أهل العلم أنها متمثلة في وسائل الإعلام بصورها وأشكالها المختلفة بما فيها من خير وشر. وانظر إلى العلامة الأخيرة وهي السادسة: (ثم تكون هدنة بينكم وبين الروم، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية) أي: تحت ثمانين راية، وسميت الغاية بالراية؛ لأنها غاية الجيش، فإن سقطت الراية ذهبت الغاية (فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً) يعني: جيش مكون -تقريباً- من مليون إلا قليلاً. وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده والطبراني والبزار وابن ماجة وأبو داود وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ستصالحون الروم صلحاً آمنا) وتدبر معي هذا الحديث! (وستغزون أنتم وهم -أي الروم- عدواً من ورائهم) ولم يقل: من ورائكم أيها المسلمون! (فتسلمون، وتغنمون، ثم تنزلون بمرج ذي تلول) المرج الذي فيه التلول مكان أخضر تكثر فيه المياه والخضرة، وسأبين من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أين هذا المرج، (ثم تنزلون بمرج ذي تلول، فيقوم رجل من الروم فيرفع الصليب ويقول: غلب الصليب، فيقوم إليه رجل من المسلمين فيقتله، فعندئذ يغدر الروم ويأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً) ، سؤال: يا ترى! من هو هذا العدو الذي سيشارك المسلمون الروم في قتاله؟! هل هو الإرهاب على حد تعبير وسائل الإعلام كلها في الخارج والداخل؟! أو هل هو المعسكر الشرقي: روسيا أو الصين أو اليابان؟ الجواب: الله أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 معركة هرمجدون من عقائد أهل الكتاب ثم إن أهل الكتاب يعتقدون اعتقاداً جازماً في هذا اليوم الذي تفضلت بالسؤال عنه، ويعتقدون قدوم هذه المعركة التي تسمى: بمعركة (هرمجدون) ، وكلمة (هرمجدون) كلمة عبرية، مكونة من مقطعين: (هر) و (مجدون) وكلمة (هر) تعني: جبل، و (مجدون) تعني: واد في فلسطين، وقد تكلمت كتب أهل الكتاب كما ذكرت، وتكلم علماؤهم عن هذه المعركة، وهذه اللفظة ليست من كلمات نبينا الصادق صلى الله عليه وسلم، وإنما هي لفظة موجودة عند أهل الكتاب، وهم يؤمنون بها، ويعتقدون هذه المعركة، بل وينتظرونها، ولو رجعت إلى الإصحاح السادس عشر من سفر (الرؤيا) لوجدت الإصحاح يقول: وجمعت جيوش العالم كلها في مكان يسمى (هرمجدون) ! ثم إنك تفضلت وسألت: كيف يفكر هؤلاء الناس؟ يقول الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجن: إن هذا الجيل بالتحديد هو الجيل الذي سيرى (هرمجدون) وليس بالضرورة أن يكون بالتوقيت السنوي المراد، وإنما هذا على حسب قوله. ويقول: أورل ردتسن صاحب كتاب (دراما نهاية الزمن) وسيمضي كل شيء في بضع سنوات، فستقوم المعركة العالمية الكبرى: معركة (هرمجدون) . وتقول الكاتبة الأمريكية المشهورة: جيلس هالسن: إننا نؤمن كمسيحيين -هذا على حد تعبيرها- بأن تاريخ الإنسانية سوف ينتهي بمعركة كبيرة تدعى (هرمجدون) وسوف تتوج هذه المعركة بعودة المسيح إلى الأرض مرة أخرى. ويقول القس الأمريكي الشهير سويجرت الذي كان يناظر الشيخ أحمد ديدات: كنت أستطيع القول بأننا سنحصل على السلام؛ لأن (هرمجدون) مقبلة، وسيخاض غمارها في وادي (مجيدو) أي: في قلب فلسطين، فدعهم يوقعون ما شاءوا من اتفاقيات السلام، إنهم لن يحققوا شيئاً، وهناك أيام سوداء. وهذا كلام قوي. ولكن نبينا الصادق عليه الصلاة والسلام أخبرنا أننا سنشترك مع الروم في حرب عدو مشترك، الله تبارك وتعالى أعلم بهذا العدو المشترك، هل هو الإرهاب؟! أو هل هو المعسكر الشرقي كما ذكرت؟ الله أعلم، لكنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن هناك مرحلة سيغدر فيها الروم، ويجمعون الجيوش الجرارة لاستئصال شأفة الأمة بالكلية، وللقضاء عليها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 خروج المهدي عليه السلام أخبرنا الصادق الذي لا ينطق عن الهوى أن أمراً كونياً قدرياً سيحدث بدون تدخل من بشر، إنه أمر قدره الله وقضاه، وسيقع في الكون، كما سينزل عيسى بن مريم، وكما سيخرج الدجال، وكما سيظهر يأجوج ومأجوج، ألا وهو ظهور محمد بن عبد الله المهدي عليه السلام، ولقد بلغت الأحاديث في شأن المهدي مبلغ التواتر، ولو خرج علينا من ينكر هذه الأحاديث فقد خرج علينا من ينكر وجود الله أصلاً، وخرج علينا من رد أحاديث المهدي، وقد خرج علينا قبل ذلك من رد كثيراً من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله، لكن جمهور أهل السنة من علماء الأمة يقولون: إن الأحاديث في شأن محمد بن عبد الله المهدي قد بلغت مبلغ التواتر، والحديث المتواتر عند جماهير علماء السنة يفيد العلم القطعي، ومن ثم فالعلم به واجب، والعمل به لازم، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده وغيره حديث علي رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة) يعني: نستيقظ في صبيحة ليلة من الليالي؛ فيفتح أحدنا التلفاز، أو الإذاعة، أو يقرأ في الجرائد والمجلات، فيجد هذا الخبر قد تصدر كل وكالات الأنباء: خبر ظهور محمد بن عبد الله المهدي في بيت الله الحرام، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره من حديث حذيفة بن اليمان: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ... ) هذا وعد الصادق صلى الله عليه وسلم، وإن الأمة الآن تعيش مرحلة ملك جبري. وروى البزار والطبراني وأبو داود وابن حبان بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتملأن الأرض جوراً وظلماً، فإذا ملئت الأرض جوراً وظلماً يبعث الله رجلاً مني اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت الأرض جوراً وظلماً، فلا تحبس السماء شيئاً من قطرها، ولا الأرض شيئاً من نباتها، يمكث فيكم سبعاً أو ثمانياً فإن أكثر فتسعاً) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 علامة خروج المهدي عليه السلام وإن النبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا بعلامة نبوية أكيدة إن وقعت علمنا أن هذا الذي خرج في مكة شرفها الله هو المهدي عليه السلام. وأما كيف نعرفه؟ فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (عبث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً في منامه، فقلت: يا رسول الله! رأيتك صنعت شيئاً لم تكن تفعله -أي: إن الحركة هذه على غير عادتك -فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقال: العجب أن ناساً من أمتي يؤمون البيت الحرام -يعني: يقصدون البيت الحرام- لرجل من قريش عائذاً بالبيت، -يعني: ملتجئاً بالبيت- حتى إذا كانوا- يعني: الناس الذين خرجوا- ببيداء من الأرض -أي: في صحراء- خسف الله بهم) فهذه هي العلامة النبوية، وهي: الخسف، والسيدة عائشة الفقيهة البليغة تقول: (يا رسول الله! إن الطريق قد يجمع الناس، قال: نعم، فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل، يهلكون مهلكاً واحدا، ً ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم) فكل يبعث على نيته التي مات عليها، وفي رواية مسلم من حديث حفصة أم المؤمنين رضي الله عليها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يعوذ قوم من أمتي بالبيت -يعني: يلجئون إلى البيت- ليست لهم منعة -مساكين- ولا عدد ولا عدة، فيبعث إليهم جيش، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم) ، وفي رواية في صحيح مسلم: (فلا يبقى منهم إلا الشهيد -أي: إلا رجل أو رجلان- يدلان على ما حدث بالجيش، وما رآه كل منهما بعينه) . فهذه العلامة إن حدثت علم كل مسلم على وجه الأرض ممن يصدقون الحبيب صلى الله عليه وسلم أن الذي خرج هو محمد بن عبد الله المهدي عليه السلام، فحينئذ يخرج إلى المهدي كل مسلم قادر على الخروج إليه، ويبايعه كل من وصل إليه على القتال في سبيل الله؛ ليحصل النصر أو الشهادة، وحينئذ يعلن العالم كله الحرب على المهدي والموحدين معه، فيخوض المهدي عليه السلام ومعه الموحدون حروباً وينصر الله عز وجل المهدي؛ فلا تهزم له راية، ولا يهزم في معركة بإذن الله تبارك وتعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 المعارك التي يخوضها المهدي وأما ما هي هذه المعارك؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام يصف لنا هذه المعارك كأننا نراها الآن على شاشة التلفاز. فيقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث نافع بن عتبة: (تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم تغزون فارس فيفتحها الله ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم الدجال فيفتحه الله) وأول جيش يطلع على المهدي يطلع من جزيرة العرب، فينصر الله المهدي عليه، فيخرج إليه الجيش الثاني من فارس، إذا علموا أن الذي خرج ليس هو المهدي الذي ينتظرونه، فينصر الله المهدي والموحدين معه على هذا الجيش؛ ليخوض المهدي المعركة الثالثة وهي أخطر معارك التاريخ على ظهر الأرض! ألا وهي معركة المهدي والموحدين في الأرض مع الروم، والنبي صلى الله عليه وسلم يصف المعركة وصفاً عجيباً، ويبين أين ستقع؟ وهكذا اليوم الأول ماذا يكون فيه، واليوم الثاني والثالث؛ لأن أيام المعركة أربعة أيام. روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق) والأعماق ودابق: موضعان أو مكانان بين حلب في سوريا وأنطاكيا في تركيا، وانظر الآن إلى القواعد العسكرية في تركيا، وانظر إلى العلاقات المتوترة بين تركيا وسوريا، وانظر إلى العلاقة بين تركيا وبين دولة اليهود الصهاينة! وأيضاً فقد وضعت سوريا في قائمة الدول الراعية للإرهاب، ووضعت المنظمات الجهادية الإسلامية في فلسطين ضمن قائمة المنظمات الإرهابية! انظر إلى كلام الصادق، واعلم أن الذي يهيئ الكون؛ ليقع فيه ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم هو الله جل وعلا، وهانحن نرى الأحداث تتلاحق بشكل عجيب في السنوات القليلة الماضية! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 قتال المهدي للروم قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فإذا تصافوا للقتال قال الروم للمسلمين: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم) أي: أن هناك من سيسلم من الأوروبيين، وسينضمون إلى صفوف الموحدين كما نرى الآن، ألا تعلم أن بعد أحداث (11) سبتمبر أسلم ما يزيد عن خمسة وعشرين ألفاً من الأمريكيين، ألا تعلم أنه لا توجد نسخة من المصاحف المترجمة إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية؛ لأنها قد نفدت من السوق، فالكل الآن متطلع ليتعرف على الإسلام؛ لأن زعماء العالم قد تحدثوا عن الإسلام، وعن عظمته، وعن سماحته، وعن براءته من الإرهاب والتطرف كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب، فشاء الله عز وجل أن يسمع العالم كله عن الإسلام بما قدره تبارك وتعالى من أحداث، فيقول الروم للمسلمين: (خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم) أي: اتركوا لنا أولاً هؤلاء الذين تركوا صفوفنا وتركوا ديننا وذهبوا إليكم، (فيقول المسلمون: لا والله! لا نخلي بينكم وبين إخواننا، قال: فيقتتلون، فينهزم ثلث من المسلمين لا يتوب الله عليهم) لأنهم خونة ارتدوا وخانوا الله ورسوله والمؤمنين، (ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث الأخير لا يفتنون أبداً) . إذاً: يرتد ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويُقتل الثلث، وهم أفضل الشهداء عند الله، ويبقى ثلث المسلمين من كتائب التوحيد مع المهدي عليه السلام، وهؤلاء يمكن الله لهم، وينصرهم الله، ولا يفتنون أبداً، هم أولياؤه وأصفياؤه جل وعلا في الأرض كلها. وفي رواية أخرى في صحيح مسلم: أن رجلاً جاء إلى عبد الله بن مسعود ليس له ديدن إلا: يا عبد الله بن مسعود! يا عبد الله بن مسعود! جاءت الساعة جاءت الساعة؛ لأن ريحاً حمراء هاجت بالكوفة، فظن الرجل أن هذه الريح هي الريح التي تكون بين يدي الساعة، فكان ابن مسعود متكئاً فجلس، وانظر كيف العلماء! جلس بهدوء؛ لأنه يعلم أن للساعة أمارات وعلامات، فجلس ابن مسعود وقال: (لا تقوم الساعة حتى لا يقسم ميراث، ولا يفرح بغنيمة، ثم أشار بيده نحو الشام، وقال: عدو يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع لهم أهل الإسلام، فقلت: الروم تعني؟! قال: نعم، وعند ذاكم القتال تكون ردة شديدة) قال عليه الصلاة والسلام: (فيقتتلون مقتلة عظيمة فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، هؤلاء وهؤلاء وكل غير غالب -أي: أن الحرب في أول يوم تكون سجالاً- فيشترط المسلمون في اليوم الثاني شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيرجع هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب، فيشترط المسلمون في اليوم الثالث شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيرجع هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب، حتى إذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام -أي: نهضوا وتقدموا- فيجعل الله الدائرة على الروم، فيقتتلون مقتلة لم يُرَ مثلها، حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتاً -أي: لشدة نتنهم، ورائحة الجثث في أرض المعركة- وينظر أهل البيت كانوا مائة، فلا يجدون قد بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يُفرح؟! وأي ميراث يقسم؟! فبينما هم كذلك إذا وقع بهم بأس هو أكبر من ذلك: إذا جاءهم الصريخ -أي: من يصرخ فيهم- لقد خلفكم الدجال في ذراريكم، قال: فيرفضون ما في أيديهم من الغنائم، ويبعثون عشرة فوارس طليعة) أي: ينظرون ما الذي وقع، وما الذي حدث، قال الصادق: (والله! إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ) هذا الثلث الذي لا يفتن أبداً هو الذي كتب الله له النصر، وهو الذي يخوض المعركة الرابعة، وهي كرامة من الله للموحدين وللأولياء الأصفياء، فيفتح الله عز وجل لهم القسطنطينية بلا قتال، روى الإمام مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الصحابة رضوان الله عليهم يوماً وقال: (هل سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم، يا رسول الله! قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق) أي: ممن أسلموا لله تبارك وتعالى، وشرفهم الله بالقتال مع كتائب التوحيد في الملاحم والفتن الأخيرة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يغزوها -أي: مع الموحدين- سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها لم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، وإنما قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر) وأظن أن من رأى الأحداث الأخيرة في أمريكا يصدق خبر الصادق صلى الله عليه وسلم؛ فبين غمضة عين وانتباهتها تغير الوضع من حال إلى حال! قال: (فإذا جاءوها لم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، وإنما قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط جانبها الذي في البحر، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط جانبها الذي في البر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر فيفرج لهم، فيدخلونها فيغنمون ... ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 قتال المهدي لليهود وهؤلاء أيضاً هم الذين يخوضون المعركة الخامسة مع أشر أهل الأرض من اليهود، قال صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم -: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهود وراء الحجر والشجر) وهنا في هذه الأزمنة كثير من الناس يردد الحديث ولا يعلم وقته ولا زمانه، (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! -انظر إلى هاتين الكلمتين لا يقول: يا وطني! ولا يقول يا قومي! وإنما-: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر يهود) وبهذا يظهر الله دينه، ويهلك الله الملل كلها، ولا يبقي الله تبارك وتعالى في الأرض -كما وعد- إلا الإسلام، وبهذا الترتيب لهذه الأحداث بهذا الشكل نقول. قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف:8] وأود في ظل هذه الأزمة والأحداث الطاحنة، التي نرى فيها الدماء تسفك والأشلاء تمزق، أود أن أبشر إخواني وأخواتي بأنني أرى في هذه الأحداث خيراً عظيماً، وأرى فيها خيراً كثيراً، أنسيتم أن الله تعالى يقول لنبيه في حادثة مرت به، وهي حادثة الإفك التي رُمي فيها النبي صلى الله عليه وسلم في عرضه وشرفه! ورميت فيها عائشة الطاهرة في طهرها وعفتها وشرفها، أنسيتم أن الله قال لنبيه في هذه الحادثة: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] ؟! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 مبشرات للأمة وأقسم بالله أن ما يحدث الآن هو خير للأمة؛ لأن الله يربي الأمة من السماء بهذه الأحداث، وإن رأينا الدماء تسفك والأشلاء تمزق فإن الله تعالى يقول: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وأنا أقول: لم أفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد والطبراني وغيرهما من حديث تميم الداري بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر -أي: هذا الدين- ما بلغ الليل والنهار، ولا يتركن الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) ما فهمت هذا الحديث إلا بعد أحداث أمريكا؛ لأنه لا يوجد الآن بيت على وجه الأرض إلا وقد سمع بالإسلام! لقد تحدث زعماء الأرض كلهم عن الإسلام، وعن سماحته، وعن عظمته، وعن براءته من الإرهاب، وعن براءته من التطرف، فسمع كل أهل الأرض بالإسلام، فما من بيت إلا ودخل فيه خبر الإسلام، وما من بيت إلا وسمع عن الإسلام، إنها إرادة الله عز وجل، إنه تقدير الله تبارك وتعالى، فهذا الدين وعد الله بإظهاره، وبهذا التسلسل الذي لابد وأن يقع، كما نرى الشمس طالعة في وضح النهار؛ لأن الذي أخبر بذلك هو الصادق، وما من شيء أخبر به إلا ووقع كما أخبر به صلى الله عليه وسلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 واجب المسلمين ودورهم تجاه الأحداث الحالية مداخلة: واضح من كلامك أننا في غفلة عن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم والأحداث المستقبلية، المشاهدون يتساءلون: ما هو دورنا نحن الآن؟! وبماذا تنصحنا أن نعمل؟ الشيخ: أولاً: أيها الأفاضل! يجب علينا جميعاً أن نجدد التوبة، وأن نتزود للآخرة، قال عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] . وقال الشاعر: دع عنك ما فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب والروح فيك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها وتعد وتحسب فإلى متى هذه الغفلة؟! ومتى سنرجع إلى الله عز وجل؟! إن الله يهيئ الكون الآن لأحداث عظام، فيجب علينا جميعاً أيها الإخوة! وأيتها الأخوات! أن نتزود للآخرة، كما قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] ، ويجب أن نجدد التوبة والأوبة، وأن نرجع إلى الله؛ لنلقى الله تبارك وتعالى على طاعة. ثانياً: يجب علينا أن نهتم بالعلم، وأن نسأل العلماء الربانيين المتمكنين في علم الشريعة في مثل هذه المسائل؛ لأن مثل هذه المسائل لا تقدم تقديماً عقلياً بعيداً عن النقل الصحيح، فيجب علينا أن نرجع إلى نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لنفهم أحاديثه، ولنفهم هذه الأحاديث من خلال كلام الصحابة وأهل العلم الذين تبعوهم بإحسان إلى يومنا هذا. ثالثاً: أرجو ألا يظن أخ أو أخت ظناً خاطئاً، فيقول: إن الشيخ قد بشرنا بأن الجولة المقبلة للإسلام فلمَ العمل؟! وأقول: أنسيت أن الذي أخبرنا بكل ما أصلت لك هو النبي صلى الله عليه وسلم؟! ومع ذلك هل نام صلى الله عليه وسلم واستراح؟! بل قال له ربه: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2] فقام، ولم يذق طعم الراحة حتى لقي الله جل وعلا، فيجب عليك ويجب علينا جميعاً أن نعمل لدين الله، كل في موقع إنتاجه، وكل في موطن عطائه بحسب ما يستطيع وبقدر ما يقدر، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة -شجرة صغيرة- فاستطاع أن يغرسها فليغرسها) ولا تقل: هذه فسيلة متى تكبر ومتى تنمو؟! والقيامة قد قامت فمن سيأكل منها؟! هذا ليس شأننا، وإنما عملنا أن نغرس لدين الله، وإذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها فليغرسها، ودع النتائج إلى الله تبارك وتعالى، فيجب علينا ألا نتكاسل، وألا نتوانى، وإنما يجب أن يدفعنا هذا الأمل للعمل، فإن أملاً بغير عمل هو أمل الجهلة السفهاء. رابعاً: يجب علينا أن نجدد الإيمان، فإن قال قائل: وهل الإيمان يحتاج إلى تجديد؟! فنقول: نعم، لأن الله قال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] فأثبت لهم زيادة في إيمانهم إذا نزلت السكينة، وقال صلى الله عليه وسلم كما في مستدرك الحاكم بسند حسن من حديث عبد الله بن عمرو: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب -أي: كما يبلى الثوب- فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) وكيف أجدد الإيمان في قلبي؟ الجواب: بتعريض القلب إلى بيئة الطاعة، بالصلوات والزكوات، والصيام والحج والعمرة والصدقة، وزيارة المرضى والإحسان إلى الفقراء والإحسان إلى اليتامى، وقراءة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، وكل عمل صالح يجدد الله عز وجل به إيمانك. أيضاً: يجب علينا جميعاً أن نهيئ أنفسنا، وأن نهيئ أجيالنا لهذه المراحل المقبلة، ويجب علينا أن نربي في بيوتنا نشئاً على علم بكلام الله وبكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أتألم غاية الألم حينما أرى كثيراً من بيوت المسلمين لا تقدم لله تبارك وتعالى إلا الرديء الزاهد، فإذا رأى الوالد ولده ذكياً ألمعياً يقول: هذا الولد سيكون طبيباً. وهذا جميل، فنحن في حاجة إلى الأطباء المسلمين، فإذا رأى الولد يكسر، يقول: هذا الولد سيكون مهندساً، الولد دماغه دماغ مهندس، وهذا جميل، فنحن في حاجة إلى المهندسين وإلى العلماء في كل المجالات. لكن الذي يتألم له القلب: أنه إذا خرج الولد بليداً غبياً فتسمع من يقول: هذا لربنا، أو هو لله! أو سيكون شيخاً! فيجب علينا أن نقدم أولادنا جميعاً لله عز وجل، كما قال عز وجل عن امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:35] قالت هذا أم مريم قبل أن تلد. فيجب علينا أن نربي أبناءنا، وأن نقدم أولادنا لله تبارك وتعالى، ونحن نرى الأم الآن على أرض فلسطين تقدم أولادها جميعا لله ثم للأقصى، وقد سمعنا ورأينا جميعاً الأم التي تقول: أنا عندي سبعة أولاد نذرتهم جميعاً لله ثم للأقصى. فنريد أن نربي أبناءنا، وأن نخرج جيلاً يفهم عن الله، ويفهم عن رسول الله؛ ليكون مؤهلاً لهذه الأحداث المقبلة؛ لأن الذي سيفتن في هذه الأيام المقبلة هو الجاهل بالله وبرسوله، الذي لم يحقق الإيمان وإن حصل أرقى الشهادات، لقد أخبرنا الصادق صلى الله عليه وسلم أن الذي سيفتن بـ الدجال رجل جاهل بالله وبكلام رسوله، وأول ما يرى الدجال ويرى فتن الدجال التي تأخذ القلوب والأبصار، ويقول له الدجال: أنا ربك، فيقول له: لست ربي، فيظهر له الدجال شيطانين: الأول على صورة أبيه، والآخر على صورة أمه، فيقولان له: آمن به إنه ربك! فإذا رأى الشيطانين على هيئة أبويه آمن به، ويخر ساجداً له من دون الله، فيكفر والعياذ بالله! ولا يقرأ كلمة كافر التي على جبهة الدجال إلا المؤمن، حتى ولو كان المؤمن أمياً لا يستطيع أن يقرأ أو يكتب! فنحن نحتاج إلى علم بالله، وإلى علم برسول الله، وإلى علم بهذه الفتن وبهذه الأحداث، ثم نحول هذه العلم إلى عمل، ونستعد للآخرة بتجديد التوبة والأوبة إلى الله سبحانه وتعالى. وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينجينا وإياكم جميعاً من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يقر أعيننا جميعاً بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وأن يشفي صدور قوم مؤمنين، وأن ينصر إخواننا، ويحفظ أهلنا في فلسطين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13