الكتاب: سلسلة مصابيح الهدى المؤلف: محمد بن إبراهيم بن إبراهيم بن حسان مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 16 درسا] ---------- سلسلة مصابيح الهدى محمد حسان الكتاب: سلسلة مصابيح الهدى المؤلف: محمد بن إبراهيم بن إبراهيم بن حسان مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 16 درسا] علي بن أبي طالب علي بن أبي طالب أول من أسلم من الصبيان، تربى في بيت النبوة، وقدم نفسه فداءً للنبي عليه الصلاة والسلام يوم الهجرة، فكان من أشجع الرجال. كانت له مواقف بطولية معروفة كموقفه في غزوة الخندق، وكذلك موقفه في غزوة خيبر الذي دل على محبة الله له، وكان موقفه الأخير -وهو من أعظم المواقف- في الفتنة، حيث كان الحق حليفه، وقد قتل رضي الله عنه وأرضاه غدراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 مواقف من حياة الإمام علي بن أبي طالب الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله, أدّى الأمانة وبلّغ الرسالة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين, فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته, وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة وزكى الله هذه الأنفس المطمئنة بالإيمان, وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله: مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى, ونحن اليوم على موعد مع العابد التقي الورع الذي تفوَّق على إغراء دنيا البشر, إننا اليوم على موعد مع خليفة آخر، من طراز عمر في شدته وعدله واستقامته وورعه وزهده وتواضعه, إنه الرجل والخطيب المفوه البارع الذي تهتز الدنيا لكلماته، وهي تخرج من وراء شفتيه كأنها نور يبدد الظلماء, إنه الفقيه العالم الذي يجري الحق على لسانه وقلبه، إنه تلميذ بيت النبوة الذي تربى في حجر المصطفى صلى الله عليه وسلم وكفى, إنه الرجل الذي أحب الله ورسوله وأحبه الله ورسوله، إنه الرجل الذي اضطر يوماً لأن يفخر بهذه الفضائل وبتلك المكارم فقال: محمدٌ النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر من يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكني وزوجي منوط لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ولداي منها فأيكم له سهم كسهمي إننا اليوم على موعد مع الشهيد المظلوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه. أحبتي في الله! الحق أقول لكم: لقد صحبت التاريخ طوال الأسبوع الماضي في مراجعه وأمهاته الكبار، لكي أدرس من جديد حياة الإمام دراسة دقيقة في فترة حرجة من أحرج فترات التاريخ الإسلامي, بيد أن محاولة تلخيص حياة الإمام في هذه الدقائق المعدودات محاولة صعبة وعسيرة, فحياة الإمام لاسيما في مراحلها الأخيرة التي بدأت باستخلافه وانتهت باستشهاده لم تكن حياة عادية وإنما كانت تتفجر بالعظمة والجلال، وتموج بالأسى والهول موجاً في آن واحد. فهيا بنا سريعاً إلى هذه الحياة الحافلة بالبطولة والألم والعظمة والمأساة, والبأساء والضراء, والنصر والهزيمة, والرخاء والشدة, والبسمة والدمعة, والفرح والحزن, هيا بنا إلى حياة الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه، وتعالوا بنا لنستهل هذه الحياة العامرة المباركة الكريمة بشهادات الحق وأوسمة الصدق التي منحها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 علي أول من أسلم من الصبيان في أيام الرسالة الأولى يوم أن تنزل جبريل لأول مرة بوحي السماء على أرض مكة، كان هناك علي بن أبي طالب في بيت النبوة يستمع إلى القرآن غضاً طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسرعان ما نطق هذا الصبي الصغير التقي النقي بشهادة الحق وقولة الصدق ليكون أول صبي يدخل في دين الله جل وعلا، كما ورد في الحديث الذي رواه الترمذي بسند حسن صحيح من حديث زيد بن أرقم أنه قال: (أول من أسلم علي) وليس هناك تناقض؛ فإن علياً هو أول من أسلم من الصبيان، وإن أبا بكر هو أول من أسلم من الرجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 علي في غزوة خيبر وأنتقل سريعاً مع مواقف علي في حياته قبل الخلافة في غزوة خيبر، في السنة السابعة من الهجرة برزت وتجلت بطولة أسد الله، وظهرت مكانته عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم, فلقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حصون خيبر آخر المعاقل لليهود في المدينة المنورة وحاصرها النبي حصاراً شديداً وطال الحصار, فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً -كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم -: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه) . أسمعتم أيها الأحبة؟! رجل يحب الله ورسوله أمر عادي على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكن رجل يحبه الله ورسوله إنه أمر تشرئب إليه الأعناق, ولذا ورد في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: [والله ما تمنيت الإمارة إلا يومئذٍ] يقول سهل بن سعد راوي الحديث: [فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها] أي: يخوضون ويتحدثون، يا ترى من سيكون هذا الرجل الذي سيفتح الله على يديه حصون خيبر المنيعة؟ يا ترى من سيكون هذا الرجل الذي يحبه الله ورسوله؟ فلما أصبح الناس غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشرأبت الأعناق، وحاول كل فارس مغوار أن يقول لرسول الله: هأنذا, وسكن الجميع وصمت الجمع وشق هذا الصمت الرهيب وهذا السكون الدائم صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (أين علي بن أبي طالب؟ -إنه رجل الموقف وصاحب الراية- فقالوا: يا رسول الله! إنه يشتكي عينيه) لقد رمد علي وتخلف؛ لأنه يشتكي اليوم عينيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأرسلوا إليه, فأتي به رضي الله عنه وأرضاه، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم على عينيه ودعا له فبرئ وكأنه لم يكن به وجع, وأعطاه الراية، فقال علي: على ماذا أقاتل الناس يا رسول الله؟ -وهذا لفظ مسلم من حديث أبي هريرة - فقال صلى الله عليه وسلم: قاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) وفي لفظ البخاري: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداًَ خير لك من حمر النعم) . وانطلق البطل المغوار والفدائي العظيم الذي علَّم الدنيا شرف البطولة وحقيقة الفداء، وسرعان ما علا صوت النصر على لسان هذا البطل الكبير والفدائي العظيم الذي صرخ بأعلى صوته في وسط حصون خيبر: الله أكبر! خربت خيبر , وتم الفتح بموعود الله وبكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد هذا الأسد والبطل الشريف والفدائي الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 علي في غزوة تبوك وفي السنة التاسعة من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يخلفه في أهله، وخرج علي يشتكي كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقال: (يا رسول الله! تخلفني في النساء والصبيان؟) أعيروني القلوب وأصغوا الأسماع لتستمعوا إلى هذه الشهادة، ولتأخذوا هذا الوسام الذي علقه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة على صدر علي بن أبي طالب، فيقول له الحبيب: (يا علي! أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي) , الله أكبر! أي طراز من البشر كان علي؛ لينال هذه الشهادة الكريمة، وليحصل على هذه المنقبة الكبيرة العظيمة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 دراسة تحليلية لأحداث الفتنة بين علي ومعاوية ولن أتوقف طويلاً -أيها الأحبة- عند حياة الإمام قبل الخلافة -فإني أرى عقارب الساعة بين يدي تطاردني لنخلِّف سريعاً الأحداث المؤلمة- لنعيش مع البطل في أحداث الفتنة الصماء البكماء العمياء؛ لنستخرج الحق من وسط هذا الركام الهائل من الأخبار الموضوعة والأقوال المكذوبة المصنوعة، التي شحنت بها الكتب والأسفار على أيدي الشيعة والخوارج وغيرهم من فرق الباطل والضلال. وأعيروني القلوب فإن هذا العنصر من أخطر عناصر اللقاء والموضوع، ولو لم أتوقف في هذا اللقاء إلا معه لكفى, فلقد شوهت حقائق التاريخ, وشوهت صور هؤلاء الأطهار الأبطال الأبرار والعدول الثقات، الذين زكاهم وعدلهم محمد صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 كُتَّاب التاريخ في الميزان مع الأحداث يجب أن نعلم -أيها الأحبة- أن التاريخ الإسلامي لم يبدأ في تدوينه إلا بعد زوال دولة بني أمية, وقام على تدوينه ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: طائفة طلبت العيش والرزق والكسب بما تكتبه وما تؤلفه، بالتقرب والتودد إلى مبغضي بني أمية من دولة بني العباس. الطائفة الثانية: طائفة ظنت أن التقرب إلى الله جل وعلا لا يكون إلا بإطراء علي بالباطل والكذب, وبتشويه صورة أبي بكر وعمر وعثمان بل وبتكفيرهم. الطائفة الثالثة: من أهل الصلاح وأهل الدين والاستقامة؛ كأمثال الأئمة الفطاحل الكبار كـ ابن جرير الطبري وابن عساكر وابن الأثير وابن كثير. ولكن هؤلاء لظروف سياسية لا يتسع المجال لذكرها رأوا أن يجمعوا التاريخ كله ويسجلوا الحق؛ أن يجمعوا أخبار الإخباريين على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم ومشاربهم، مع ذكر أسماء الرواة؛ ليرجع الباحث بعد ذلك إلى الخبر برجال إسناده؛ فيتعرف على صحة هذا الخبر من خلال معرفته بهؤلاء الرواة. ولكن من الذي سيتعرف على ذلك؟ إنه لا يتعرف على ذلك إلا جهابذة النقاد والصيارفة من علماء الجرح والتعديل، وهكذا نقلت إلينا هذه التركة على أنها التاريخ الإسلامي بغثها وسمينها، وقام من لا يجيد النزال في وسط هذا الميدان اللجب الكبير؛ لينقل من هذه التركة بغير ميزان وبدون قيد ولا ضابط، فنقل الغث والسمين والصحيح والخاطئ والباطل والكذب وهو لا يدري، على أنها سيرة الصحابة وتاريخ الإسلام، وهو بريء من كل هذه التهم ومن كل هذه الأخبار التي دس معظمها الشيعة من ناحية، والخوارج من ناحية أخرى. فلا بد من العودة إلى هذه التركة الضخمة لنستخلص الحق من الباطل والصحيح من الخطأ والصدق من الكذب, وإنها لمهمة صعبة, فإن هؤلاء الأبرار الذين زكاهم وعدلهم النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال -وهذا لفظ مسلم -: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) , وفي رواية الترمذي في كتاب المناقب -وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه- أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الله الله في أصحابي؛ لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك الله أن يأخذه) ، شوه تاريخهم في هذه الفترة الحرجة وكذب عليهم، وهم أهل الصدق وأهل العدالة رضي الله عنهم, وإن من أشد الفترات التي شوهت تاريخهم هذه الفترة التي تبدأ تقريباً من النصف الثاني في خلافة عثمان رضي الله عنه وأرضاه والتي انتهت بمقتله ومقتل علي والحسن والحسين ومقتل عدد كبير رهيب من المسلمين، نسأل الله جل وعلا أن يتجاوز عنا وعنهم بمنه وكرمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 محاولات علي بن أبي طالب في إخماد الفتنة السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو دور علي في هذه الفتنة الصماء البكماء العمياء؟ وانتبهوا -أيها الأحبة الأخيار- فلقد بدأ علي بدور الوساطة الصادقة الأمينة بين عثمان بن عفان وبين الموتورين من الثوار المجرمين الذين حاصروا بيت الخليفة رضي الله عنه, ولكن علياً رأى الفتنة تشتد، ورأى النار تتأجج وتشتعل، ورأى الموتورين من الثوار يحاصرون بيت الخليفة رضي الله عنه وأرضاه, فخرج من بيته معتماً بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلداً سيفه مع نفر من الصحابة من المهاجرين والأنصار؛ من بينهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين وأبو هريرة وغيرهم من موالي عثمان رضي الله عنه، وكانوا تقريباً لا يزيدون على سبعمائة رجل، ولو تركهم عثمان لمنعوه, ولكن عثمان هو الذي رفض أن تهراق قطرة دم واحدة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون سبباً في الفتنة التي لم يغلق بابها بعد. فدخل علي بن أبي طالب على عثمان في داره وقال: [يا أمير المؤمنين! ما أرى القوم إلا قاتليك فمرنا فلنقاتل]-لا تنسوا هذه العبارة- فقال عثمان الأواب التواب التقي الحيي النقي الذي علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بشره بالشهادة بل وجاءه في الليلة السالفة الماضية ليقول له: (أفطر عندنا غداً يا عثمان) وهو ابن الثمانين فلماذا يقاتل؟ ولماذا تهراق الدماء بسببه؟ فنظر عثمان إلى علي وإلى رقيقه ومواليه وقال: [أقسم بالله على كل من لي عليه حق أن يغمد سيفه وأن يكف يده وأن يرجع إلى منزله] , ونظر إلى مواليه وقد شهروا السيوف فقال لهم: [من أغمد سيفه فهو حر] , وهكذا أعلن عثمان قولته الخالدة: [ما أحب أن ألقى الله وفي عنقي قطرة دم لامرئ مسلم] , وآثر الشهادة في سبيل الله وألا تبدأ الفتنة رضي الله عنه وأرضاه. وانطلق علي بن أبي طالب إلى المسجد فحان وقت الصلاة؛ فقال الناس: تقدم يا أبا الحسن! فصلِّ بالناس فقال: [والله ما كنت لأصلي بكم والإمام محصور] وصلّى علي وحده وتركهم وانصرف, ووقع ما قدر الله جل وعلا وكان؛ فقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه بعد أن حصره المجرمون في داره وكاد الظمأ أن يقتله لو أمهلوه بضعة أيام, وظلت المدينة خمسة أيام كاملة بلا خليفة، وأميرها الغافقي الوقح قاتل عثمان، وحار الناس واضطرب الأمر، وقال الجميع على صوت رجل واحد: لا يصلح لهذا الأمر إلا علي , وذهب المهاجرون والأنصار فأبى, ثم ذهبوا إليه مرة أخرى فأبى, ثم ذهبوا إليه مرة ثالثة فأبى, فقالوا: إنه واجب! وانقاد علي بن أبي طالب لضغوط المهاجرين والأنصار، وعلم أن هذه التبعة قدر عليه أن يكون هو حاملها، وأن يكون هو رجلها الآن, فمن يحملها إن لم يحملها علي؟ والحق يقال: إنه لم يكن على ظهر الأرض قاطبة بعد عثمان رضي الله عنه من هو أحق بالخلافة من علي رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 تولي علي الخلافة ومطالبة معاوية والناس بدم عثمان وتولى علي الخلافة في وقت عصيب رهيب, وخرج إلى المسجد ليبايع الناس فبايعه المهاجرون والأنصار جميعاً، وما لبث علي أن بويع إلا ودخل عليه طلحة والزبير رضي الله عنهما مع رءوس الصحابة الكبار في المدينة المنورة وقالوا: يا أمير المؤمنين لا بد من قتل قتلة عثمان؟ -سبحان الله! - وهنا يبدأ الخلاف؛ فكل فريق له وجهة نظره, وكل فريق له اجتهاده, من الذي يقتله؟ وأي قوة تستطيع الآن أن تقتل قتلة عثمان؟! لقد تعصب وغضب إليهم كثير من الناس حتى زاد عددهم عن عشرة آلاف فارس مدججين بالسلاح ينتشرون في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن الذي يستطيع أن يقيم عليهم حد الله بالثأر لقتل دم عثمان في هذا الظرف؟ واعتذر علي وقال رضي الله عنه وأرضاه: [إن قتلة عثمان كثرة ولهم مدد وأعوان] والحق معه بكل المقاييس، إذاً أين القوة التي تستطيع أن تقيم عليهم الحد ولم تستطع أن تحول بينهم وبين قتل الخليفة؟ وخرج الصحابة في غضب وفي ثورة شديدة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وكان من بين هؤلاء الذين ثاروا ثورة شديدة لدم عثمان رضي الله عنه؛ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه, وحذار حذار من الخوض في هؤلاء الأطهار الأبرار, فإننا نسمع الآن ونقرأ من يتكلم على هؤلاء الأخيار كلاماً تقشعر له الأبدان وتضطرب له الأفئدة، وهم السابقون الأولون. ثار معاوية وازدادت ثورته بعدما أرسلت نائلة زوجة عثمان بقميص عثمان الذي قتل فيه، ووضعت فيه أصابعها التي قطعت وهي تدافع عنه, وأرسلت بالقميص والأصابع إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه الذي كان يعتبر نفسه من أوائل الناس ومن أحق الناس مطالبة بدم الخليفة الراحل, ولما رأى معاوية القميص بكى, وأخذ القميص وعلق فيه أصابع نائلة , وعلق القميص على منبر المسجد الدمشقي ولما رآه الناس والصحابة بكوا بكاءً شديداً، وارتفعت الأصوات بالنحيب على موت عثمان رضي الله عنه وأرضاه, وبايعوا معاوية على الثأر لـ عثمان ولم يبايعوه على الخلافة, ما بويع معاوية على الخلافة ولم يطلب معاوية الخلافة قط، وإنما كان يطلب الثأر لدم عثمان أو أن يسلم علي لـ معاوية قتلة عثمان ليقتص منهم لـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه, وهنا بدأ الخلاف الكبير. فخرج طلحة والزبير إلى مكة المكرمة إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فلقد كانت عائشة بـ مكة لأداء مناسك الحج في هذا العام، ولما سمعت عائشة بخبر مقتل عثمان قامت تدعو الناس وتحث الناس للثأر لدم عثمان , وقد تأولت قول الله جل وعلا الذي رددته كثيراً: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] فخرجت عائشة رضي الله عنها فالتف الناس حولها وقالوا: يا أماه! نحن معك حيث سرت للمطالبة بدم عثمان , واتفق هذا الجمع كله على الذهاب إلى البصرة ليكونوا قريبين من معاوية رضي الله عنه، وقد ضمن الأمر في المدينة علي بن أبي طالب ليستسمعوا همم الناس للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه, وخرجوا جميعاً إلى البصرة , ولما سمع علي بذلك عزم على أن يخرج بنفسه, فقام عبد الله بن سلام الصحابي الجليل وأخذ بعنان فرسه وقال: [يا أمير المؤمنين! لا تخرج من مدينة رسول الله؛ فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبداً بعد اليوم] ورفض الحسن أن يخرج أبوه رضي الله عنه, ولكن علياً قال: [والله ما خرجنا إلا لأنا نريد الإصلاح بين الناس لا نريد قتالاً] . وإن أعظم دليل على ذلك أن علياً خرج من المدينة مع تسعمائة رجل، فهل هذا جيش يريد القتال؟ وفي الطريق التف حوله الناس من كل البقاع واجتمع عليه عدد كبير، ولما وصل إلى البصرة , وكان قد اجتمع على عائشة وعلى طلحة والزبير عدد كبير من أهل البصرة للمطالبة بدم عثمان أرسل علي إليهما -أي: إلى طلحة والزبير - القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه وأرضاه. فبدأ القعقاع بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقال: يا أماه! ما الذي جاء بك إلى هذه البلاد؟ فقالت: أي بني! ما جئت إلا لأصلح بين الناس. فقال القعقاع: فأرسلي إلى طلحة والزبير ليحضرا, فحضرا طلحة والزبير. فقال القعقاع بن عمرو: لقد سألت أمنا ما الذي أقدمك إلى هذه البلاد؟ فقالت: ما جئت إلا لأصلح بين الناس. فنطق طلحة والزبير رضي الله عنهما وقالا: والله ما جئنا نحن إلا لذلك. فقال القعقاع بن عمرو: إذاً فما الذي تريدون؟ نحقق ونتفق على الإصلاح فإن اتفقنا عليه اصطلحنا. فقال طلحة والزبير رضي الله عنهما: لا نريد إلا أن نقتل قتلة عثمان، فإن تركنا قتلهم فقد تركنا القرآن الكريم. فقال القعقاع بن عمرو: لقد أتيتم أنتم إلى البصرة فقتلتم قتلة عثمان من البصرة، فغضب لهم ستة آلاف فارس, فتركتموهم فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون, وإن حاربتموهم وقعت مفسدة هي أربى من الأولى, فاقتنع طلحة واقتنع الزبير. فقالت عائشة رضي الله عنها: فماذا تقول أنت يا قعقاع؟ فقال القعقاع رضي الله عنه: أقول: بأن الدواء لهذا الأمر التسكين, وكونوا مفاتيح خير ولا تضيعونا، فإن ما حدث أمر عظيم, وإن كلمة الناس قد اختلفت في جميع الأمصار، وإن علياً رضي الله عنه وأرضاه معذور في تأخير قتلة عثمان حتى يتمكن منهم ويقدر عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 موقعة الجمل واقتنع الجميع، واتفق الطرفان على الصلح، واصطف الفريقان للصلح في الصبح الباكر وبات الفريقان بخير ليلة وأسعد ليلة. بات قتلة عثمان بشر ليلة، -انظروا من أين تأتي الفتن؟ - وعلى رأسهم ابن السوداء عبد الله بن سبأ اليهودي الذي قال قولة عجيبة: والله إن علياً هو أعلم الناس بكتاب الله من المطالبين بدم عثمان , وغداً يتفق الفريقان على الصلح ويجمع علي الناس عليكم، وإن القوم جميعاً لا يطلبون إلا أنتم, فوالله لئن كان ذلك لنلحقن علياً بـ عثمان , فأجمعوا الأمر وفكروا ما الذي نفعل وما الذي نصنع! فاتفقوا جميعاً على أن ينقضوا في ظلمة الليل البهيم الدامس على فريق علي وعلى فريق طلحة والزبير ليضربوهم وليقاتلوهم ليظن كل فريق من الفريقين في ظلمة الليل أن أمر الصلح الذي كان بالأمس إنما هو خدعة, وأن كل فريق من الفريقين قد غدر بالآخر, ونشب القتال كفوران ماء يغلي بدون أسباب منطقية إطلاقاً، ونشبت موقعة الجمل الضارية التي صرخ فيها علي بن أبي طالب وهو يقول: [والله لوددت أني قد مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة] . وانتهت المعركة سريعاً كما بدأت سريعاً وذهب علي بنفسه إلى أم المؤمنين عائشة ليطمئن عليها, فقال لها: السلام عليك يا أماه! كيف حالك؟ فقالت: بخير. فقال علي: غفر الله لك, وأمدها بالمراكب والمتاع وسير معها محمد بن أبي بكر رضي الله عنه إلى مكة ثم إلى المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 موقعة صفين بين علي ومعاوية رجع علي بن أبي طالب إلى الكوفة لتبدأ فتنة أخرى حالكة في لقاء علي رضي الله عنه مع معاوية؛ يوم أن صمم علي على أن يذهب بنفسه إلى الشام وشاور وأرسل رسالة إلى معاوية يطلب فيها البيعة, فقد بايع علياً كل الناس وكل الولاة إلا معاوية رضي الله عنه. فجمع معاوية رءوس الناس في الشام وعرض عليهم رسالة علي رضي الله عنه، فقالوا جميعاً: لا, لا نبايع علياً إلا إذا قتل قتلة عثمان، أو سلمهم إلينا لنقتلهم, وخرج علي بنفسه واستعد أهل الشام ونشبت فتنة القتال مرة أخرى وإنا لله وإنا إليه راجعون. ! ودارت الحرب الطاحنة -سبحان الله! - ولما رأى أهل الشام أن الحرب ضروس رفعوا المصاحف على أسنة السيوف والرماح, وقالوا: نحكم بيننا كتاب الله، وقبل الفريقان تحكيم كتاب الله جل وعلا, قبل أهل العراق مع علي وقبل أهل الشام مع معاوية بعدما رُفع كتاب الله جل وعلا بينهما، واختار الفريقان حكمين, اختار علي: أبا موسى الأشعري، واختار معاوية: عمرو، ولقد قال الناس ما قالوا في مسألة التحكيم، وشبهوها بلعبة سياسية حقيرة قذرة لا تتم إلا في مؤتمر من مؤتمرات الكذب والبهتان، وقالوا في أبي موسى وفي عمرو كلاماً لا ينبغي على الإطلاق أن يقال في أشراف الناس فضلاً عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا يخلو كتاب من كتب التاريخ من هذه الأكذوبة الكبيرة، قالوا: لقد اتفق عمرو وأبو موسى على خلع علي ومعاوية , وهل كان معاوية خليفة أو ادعى الخلافة ليخلعه أبو موسى أو عمرو؟ كلا. انظروا إلى مغالطات التاريخ, وإنما الذي حدث أن قالوا: بأن أبا موسى وعمرواً قالا: نخلع علياً ونخلع معاوية ونترك الأمر شورى للمسلمين, هذا صحيح وهذا صدق وحق، ولكن البهتان يأتي, قالوا: فلما اتفقا على ذلك واجتمعا في الموعد المضروب بينهما, قال عمرو: تكلم يا أبا موسى , فقام أبو موسى فقال: لقد اتفقت أنا وصاحبي على أن نخلع علياً ومعاوية، وعلى أن يترك الأمر شورى للمسلمين ليختاروا من يشاءون, فلما انتهى أبو موسى من بيانه, قام عمرو بن العاص وقال: لقد خلع صاحبي علياً ومعاوية، أما أنا فإني أخلع علياً وأثبت معاوية , ما هذا. ؟! هذا يليق بمؤتمرات الكذب والبهتان, يليق بألاعيب السياسة. أما مع هؤلاء الأطهار الأبرار؛ فلا وألف لا, ولدينا من الأدلة الصحيحة من روايات الأئمة الثقات الأثبات ما ينفي ذلك الكذب والبهتان عن هؤلاء الأطهار الأبرار والأخيار الأعلام, واقرءوا ما رواه الإمام العلم الثبت الدارقطني بسنده الصحيح أن حضير بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه أرسله معاوية بن أبي سفيان إلى عمرو رضي الله عنه ليتحقق مما حدث, فذهب حضير بن المنذر ولقي عمرواً , فقال: يا عمرو ما الذي صنعتماه أنت وأبو موسى؟ -أتدرون ماذا قال عمرو؟ قال: أنتركه ونذهب إلى هذا الغدر والكذب الذي لا يليق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال عمرو: ماذا ترى يا أبا موسى فقال أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه: أرى أن نخلع علياً ومعاوية وأن يبقى هذا الأمر في النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض, فقال عمرو: فما تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: أنتما إن طلب منكما، إن يستعن بكما ففيكما المعونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما, وانتهى الأمر. أما هذه الأكاذيب والافتراءات فلا دخل لها إطلاقاً ولا وجود لها في عالم هؤلاء الأطهار، ليس معنى ذلك -أو لا يفهم من كلامي- أنني أقول: إن العصمة للصحابة! كلا, بل إننا على يقين أن منهم من قد زل باجتهاده! وهو اجتهاد مأجور عليه حتى وإن أخطأ؛ لأنه لا ينشد إلا الحق كما قال الأئمة الأعلام كشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام أحمد وجميع أئمة أهل السنة والجماعة رحمهم الله جميعاً: إن كل فريق منهما قد اجتهد وهو مأجور على اجتهاده حتى وإن أخطأ، مع أننا نقول بيقين جازم مطلق بأن أولى الطائفتين بالحق كان علياً رضي الله عنه وأرضاه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 مروق فرقة الخوارج الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: وهنا -أيها الأحبة- مرقت فرقة الضلال من بين جيش علي رضي الله عنه وأرضاه؛ هؤلاء الذين قبلوا التحكيم في أول الأمر, بل وهم الذين أصروا على علي أن يذعن لكتاب الله، وهل عارض أو عاند، علي الذي تربى في أحضان الكتاب وبين آياته؟ هل أنكر حدود الله وضيع كتاب الله؟! خرجت هذه الفرقة فرقة الضلال، الخوارج الذين اعترضوا على علي وخرجوا عليه، وحكموا عليه بالكفر, قالوا: تحكم في كتاب الله بشراً -سبحان الله! - من أصحابك؟ إن الحكم إلا لله, وكفروا علياً بهذه المقولة حتى قال علي قولته الخالدة: [كلمة حق يراد بها باطل] . وانطلقوا يعيثون في الأرض تقتيلاً وفساداً, هذه الفرقة التي قال عنها الحبيب الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في أحاديث بلغت حد التواتر: (يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية) . وفي حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يقتل هذه الفرقة أولى الطائفتين بالحق) , فشهد النبي للطائفتين, لطائفة علي ولطائفة معاوية بأنهما على الحق، ولكن هناك فرقة هي أولى بالحق من فرقة، وهي فرقة علي رضي الله عنه وأرضاه, وهذا هو ما يدين الله به أهل السنة والجماعة بأن الطائفتين على الحق، وأولى الطائفتين بالحق طائفة علي، وكلاهما مجتهد مأجور إلا أن اجتهاد علي ضعف اجتهاد معاوية ومن معه رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 مقتل علي بن أبي طالب على يد الخوارج أيها الأحباب: اتفق الخوارج على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص، ونجح عبد الرحمن بن ملجم في مهمته الحقيرة الخطيرة، وطعن علياً رضي الله عنه بسيف مسموم سمه شهراً كاملاً, طعنه وهو في الكوفة يخرج ليمشي في الشوارع والطرقات ليوقظ الناس بنفسه -وهو أمير المؤمنين- لصلاة الفجر, فطعنه المجرم الذي طعنه وهو يقول: يا علي! أتريد أن تحكم في كتاب الله أصحابك؟ إن الحكم إلا لله. وظل يردد هذا الوقح قول الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] أسمعتم إلى هذا الهراء وإلى هذا الكذب؟ باسم الدين يقتل علي؟! باسم الدين يقتل عثمان؟! باسم الدين يقتل الحسن والحسين؟! إنه الكذب والزهد الكاذب, والورع المغلوط المقلوب, يقرأ قول الله وهو يقتل علياً: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] . وقتل علي رضي الله عنه ونام على فراش الموت وهو يردد: لا إله إلا الله, وظل يرددها مرات كثيرة حتى لقي الله جل وعلا ولسانه غظ طري بكلمة التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 اجتماع الأمة على معاوية ولما مات علي ذهب الناس إلى الحسن ليبايعوه، فبايعوا الحسن بن علي رضي الله عنه وأرضاه، إلا أن الحسن تعالى على كل هذه الدماء والأشلاء، وحقن دماء المسلمين، وحقق ما قاله من قبل الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فتنازل الحسن عن الأمر لـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم جميعاً وحقن الحسن الدماء، وانتقل الملك إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه، ليحقق الحسن دليلاً من دلائل النبوة الخالدة كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد يوماً على المنبر وأجلس إلى جانبه الحسن بن علي ثم نظر النبي إلى الناس ونظر إلى الحسن وقال: (أيها الناس! إن ابني هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) , بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وأصلح الحسن بين فئتين عظيمتين من المسلمين, بل وحكم الله جل وعلا للفئتين بالإيمان إلا من مرق من مارقة فرق الضلال والباطل من الخوارج والشيعة وقتلة عثمان وغيرهم؛ فقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فلم يخرجهم بالقتال والحرب من دائرة الإيمان, بل ولا من دائرة الأخوة- اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] , ويحكم الله لهم جميعاً بالأخوة فيقول جلا وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10] . أحبتي في الله: أختم هذا اللقاء الساخن بهذه العبارة حتى لا تنسى وأقول: هذه فتنة عظيمة سلمت منها أيدينا فلتسلم منها ألسنتنا, وحذار أن نكون من الخائضين، وأن نكون من الهالكين بخصومة أصحاب رسول الله يوم القيامة أمام رب العالمين. أسأل الله جل وعلا أن يتجاوز عنا وعنهم بمنه وكرمه، وأن يغفر لنا ولهم وأن يجزيهم عنا خير الجزاء. اللهم ارض عن أبي بكر وعثمان وعمر وعلي , اللهم ارض عنهم يا رب العالمين, وتجاوز عنا وعنهم بكرمك وأنت على كل شيء قدير. اللهم اجمعنا بهم في دار كرامتك ومستقر رحمتك، مع إمام الهدى ومصباح الدجى وإمام النبيين وخاتم المرسلين محمد عليه الصلاة والسلام. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين, وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين. اللهم اجمع شملهم. اللهم وحد صفهم, وزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم بقدرتك يا أرحم الراحمين. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وما كان من توفيق في هذا اللقاء فمن الله جل وعلا وحده, وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان, والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 خالد بن الوليد لقد شرف الله منزلة الجهاد والمجاهدين، وجعل الجهاد ذروة سنام الإسلام وعز هذه الأمة، ويوم أن ضيعت الأمة الجهاد ضاع شرفها، وضاعت هويتها، وأصبحت الأمة ذليلة كسيرة مهيضة الجناح، وحتماً لن يعود للأمة مجدها وهويتها إلا إذا رفعت لواء الجهاد في سبيل الله، وسارت على ما سار عليه الأبطال المجاهدون وإن من خير من ترسم خطاه في هذا الشأن ذلك البطل الأشم الذي كسر شوكة الأكاسرة وقصم ظهور القياصرة إنه سيف الله المسلول على أعدائه خالد بن الوليد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 الجهاد ذروة سنام الإسلام إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله: مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى، تلك السلسلة الكريمة المباركة التي نقدمها في هذه الأيام لأبناء الصحوة الإسلامية خاصة، وللمسلمين عامة، للعبرة والعظة من ناحية، ولتقديم القدوة الصالحة الطيبة لتربية الأجيال عليها من ناحية أخرى، لا سيما بعد فترة التغريب الطويلة التي مسخت الهوية، وشوهت الفكر والتاريخ، وزعزعت الانتماء. أحبتي في الله: رسالة رقيقة مؤثرة من ساحة الوغى، وميدان البطولة والشرف والجهاد، تلك الرسالة التي أرسل بها الإمام المجاهد العلم: عبد الله بن المبارك إلى أخيه التقي الزاهد الورع عابد الحرمين: الفضيل بن عياض يذكره فيها بشرف الجهاد في سبيل الله فيقول: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطلٍ فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يُكذب لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميتٍ لا يكذب ذلكم هو شرف الجهاد أيها الأحباب الذي أمر الله جل وعلا به الأمة أمراً صريحاً صحيحاً واضحاً؛ لتعيش الأمة عزيزة، ولتلقى ربها سعيدة حميدة، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:10-13] ذلكم هو شرف الجهاد الذي جعله الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام، كما في حديث معاذ بن جبل الذي رواه الترمذي وقال: حسنٌ صحيح، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (يا معاذ! ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) ذلكم هو الجهاد الذي ضمن الله به السعادة والسيادة والريادة والقيادة لهذه الأمة. ويوم أن ضيعت الأمة الجهاد ضاع شرفها، وضاعت هويتها، وأصبحت الأمة ذليلةً كسيرةً، مهيضة الجناح، مبعثرة كالغنم الشاتية في الليلة الممطرة. وحتماً لن تعود للأمة هويتها إلا إذا عادت إلى الجهاد ورفعت لواءه في سبيل الله، ومن ثم حرص أعداء ديننا على أن يحولوا بين الأمة والجهاد، وعلى ألا تربى الأجيال المسلمة على الجهاد وسير الأبطال المجاهدين والقادة الفاتحين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 سيرة خالد بن الوليد رضي الله عنه نقضي هذه الدقائق المعدودة مع قائد المجاهدين، وسيف من سيوف رب العالمين، وأستاذ فن الحروب والميادين، الفاتك بالمسلمين يوم أحد، والفاتك بأعداء الإسلام بقية الأيام، إنه فارس الإسلام والمسلمين، وسيف من سيوف رب العالمين، وترياق وساوس الشياطين من الكفار والمنافقين، والبطل القوي العنيد، والفارس القوي الرشيد. إنه: خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه. علم من أعلام الجهاد في سبيل الله، وعالم وحده في فن القيادة وإدارة الحروب، أحب المسلمون سيفه، وخافه أعداء الإسلام، وأقبل قادة الدنيا في كل زمان ومكان إلى عصر نابليون ينهلون من مورد خالد الخالد في فن القيادة، وإدارة الحروب، وقواعد القتال. خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه الذي تحول في عالم الحرب ودنيا الميادين إلى أسطورة، وما زالت الأبحاث والدراسات إلى عصرنا هذا تنهل من مورد قيادة خالد، وفن إدارته للحروب والقتال، فمن هو خالد؟ وما الذي نعرفه نحن المسلمين عن خالد؟ والله لا نعرف عنه إلا القليل، في الوقت الذي نجد فيه كثيراً من المسلمون يعرفون الكثير والكثير عن نابليون، ولينين واستالين، وبسمر وغيرهم وغيرهم من هؤلاء الأقزام. فمن هو خالد بن الوليد أيها الأحباب؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 نشأة خالد بن الوليد رضي الله عنه نشأ خالد بن الوليد في بيئة غنية ثرية مترفة، فأبوه هو: الوليد بن المغيرة الذي كان أغنى الناس في زمانه، وكان من كبريائه في جوده أنه كان ينهى عن أن توقد نارٌ في منى غير ناره لإطعام الحجيج، الوليد بن المغيرة الذي تحدث الله عنه وعن ثرائه وغناه في سورة المدثر فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً} [المدثر:11-16] ذلكم هو الوليد بن المغيرة، وتلك هي البيئة التي نشأ فيها خالد بن الوليد رضي الله عنه. ومع هذا الغنى، وهذا الثراء نشأ خالد بن الوليد نشأةً خشنة، مروض نفسه على الغلظة، والقساوة، والخشونة، وحياة البداوة، لماذا؟ لأنه نشأ من صغره يحب الفروسية والقتال، وترك خالد هذا الثراء والمال والغنى، إلا أنه ورث الكره الشديد للإسلام من أبيه، فهو قائد الميمنة، وصاحب الحملة الشرسة في غزوة أحد التي شتت شمل المسلمين، وبعثرت صفوفهم، حتى جرح النبي صلى الله عليه وسلم، بل وأشيع في الميدان أن رسول الله قد قتل، بعد المباغتة السريعة لـ خالد بن الوليد الذي طوق من خلالها الرماة على الجبل، بعدما خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخالد بن الوليد هو الذي تولى قيادة الخيل في غزوة الخندق، ووكلت له مع كتيبة من الفرسان يركبون الخيول في هذه المعركة مهمةً عسيرة خطيرة ألا وهي: قتل النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن الله نصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وتصدى خالد بعد ذلك في مائتي فارس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو في طريقه إلى مكة في عام الحديبية، ولما رآه النبي صلى الله عليه وسلم اضطر أن يصلي بأصحابه يومها صلاة الخوف. ولما اصطلح النبي مع مكة وعاد في عمرة القضاء لم يقبل خالد أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يطوفون ببيت الله الحرام، فترك خالد مكة وخرج حتى لا يرى هذا المشهد بعينيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 إسلام خالد بن الوليد تأتي كراهية خالد بن الوليد بعد كراهية أبيه للإسلام مباشرة، إلا أنه مع هذا كان يعيش صراعاً داخلياً رهيباً بين بيئته بموروثاتها الجاهلية، وبين هذا النداء الذي يصرخ في أعماقه على أنه الحق، ويقول له: إن الإسلام هو دين الله، وأن محمداً هو رسول الله، وأن الذي تركع وتسجد له يا خالد إنما هي حجارة لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، ولا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً. وسرعان ما انتهى هذا الصراع الذي طال حقاً، وشرح الله صدر خالد، وقذف في قلبه حب الإسلام، وعلى الفور ينطلق خالد بن الوليد من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة؛ ليبدأ حياةً جديدة من تلك اللحظة الباهرة الرائعة التي خشع فيها قلبه، وسكنت فيها جوارحه، وامتدت يده لتبايع الحبيب صلى الله عليه وسلم، وليشهد بين يدي رسول الله شهادة الحق والصدق وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. ويبتسم الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويمد يده ليصافح خالد بن الوليد بوجه طلقٍ وهو يقول: (الحمد لله الذي هداك يا خالد، فلقد كنت أرى لك عقلاً، ورجوت ألا يسلمك إلا لخير) انظروا إلى شهادة النبي عليه الصلاة والسلام: (فلقد كنت أرى لك عقلاً، ورجوت ألا يسلمك إلا لخير) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 مشاركة خالد بن الوليد في غزوة مؤتة وفتح مكة بعد شهرين أو ثلاثة فقط ينطلق خالد بن الوليد جندياً في صفوف كتائب التوحيد والإيمان، مع هذا الجيش الذي ذهب لمناطحة الصخور الصماء على حدود الشام في غزوة مؤتة، تلك الغزوة التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه يختار لها القادة، فقال كما ورد في صحيح البخاري في كتاب المغازي من حديث عبد الله بن عمر قال: (أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوة مؤتة زيد بن حارثة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن قتل زيد فـ جعفر بن أبي طالب، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن قتل جعفر فـ عبد الله بن رواحة) وانطلق الجيش الذي لا يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل، ولما وصل الجيش إلى حدود الشام أذهلتهم المفاجئة الكبرى، فلقد رأوا الروم قد أعدوا لهم وجهزوا جيشاً جراراً يزيد على مائة ألف مقاتل، وهنا تردد المسلمون في القتال! كيف يدخلون هذه المعركة التي لا يمكن على الإطلاق أن نرى فيها ذرة من ذرات التكافؤ العددي والعُددي، وتردد الناس في القتال، مائة ألف إلى ثلاثة آلاف! وهنا قام الشهيد الشاعر صاحب السرير الذهبي: عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه ووقف في صفوف الجيش منادياً بأعلى صوته وهو يقول: [يا قوم! إن التي تخشون للتي خرجتم تطلبون، إنها الشهادة في سبيل الله، ووالله ما نقاتل عدونا بكثرةٍ ولا عدد، وإنما نقاتل عدونا بهذا الدين الذي أكرمنا به الله عز وجل، فانطلقوا، فإنها إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة] . وانطلق الناس للقتال، انطلق ثلاثة آلاف لقتال مائة ألف مقاتل، وتولى القيادة زيد بن حارثة وقاتل حتى قتل وسقط اللواء، فانقض إليه سريعاً جعفر بن أبي طالب وقاتل حتى سقط اللواء وسقط بعده طيار الشهداء، فانقض على اللواء عبد الله بن رواحة ورفع اللواء وقاتل حتى قتل وسقط اللواء، ودب الرعب والذعر في قلوب المسلمين، لا سيما بعد قتل القادة الثلاثة الذين حددهم واختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا انقض بسرعة الضوء ثابت بن أقرم رضي الله عنه على اللواء ليرفع اللواء خفاقاً عالياً، وأسرع ثابت بن أقرم ليبحث عن قائد الساعة وعن بطل الميدان عن أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه، وذهب إليه ثابت وقال: [خذ اللواء يا خالد، فقال خالد -المؤدب المهذب- لا -وأبى أن يتقدم، هؤلاء الذين فيهم السابقون من المهاجرين والأنصار- وقال خالد المهذب لـ ثابت بن أقرم: أنت أولى به مني يا ثابت فأنت من السابقين الأولين، ممن شهدوا بدراً، لست أحق بهذا اللواء منك، فقال ثابت بن أقرم: خذ اللواء يا خالد والله أنت أدرى بالقتال مني، وما أخذت اللواء من على الأرض إلا لك يا أبا سليمان] . ونادى ثابت بن أقرم في المسلمين بأعلى صوته وقال: [أيها المسلمون! هل ترضون إمرة خالد؟ قالوا: اللهم نعم] واعتلى العبقري جواده بعدما قد تحدد مصير المعركة بكل المقاييس، ودب الذعر والرعب، ومات قواد المعركة الثلاثة، وإن شئت فقل: لقد انتهت المعركة، واعتلى العبقري جواده، ودفع الراية عن يمينه كأنما يقرع بها أبواباً مغلقة قد آن لها أن تفتح بإذن الله على يد هذا البطل المغوار. ونظر العبقري نظرةً سريعة إلى أرض الميدان بعينين كعيني الصقر، وعاد تنظيم الصفوف، وثبت خالد في هذا اليوم ثبوت الجبال الرواسي، حتى خيم الليل بظلامه، وهنا ظهرت عبقرية خالد، وظهر دهاؤه وبلاؤه وقتاله الذي قال عن نفسه: [والله لقد اندكت وتحطمت في يدي تسعة سيوف في يوم مؤتة] والحديث رواه البخاري، تسعة سيوف تحطمت في يد سيف الله، وأسد الله خالد بن الوليد رضي الله عنه. نظر خالد بن الوليد وفي ظلام الليل وفي سرعة البرق والضوء وعدل صفوف الجيش، فجعل الميمنة مكان الميسرة، وجعل الميسرة مكان الميمنة، وجعل الساقة في المقدمة وأخر المقدمة إلى الساقة، وكلف طائفة من الجنود أن يتأخروا خلف الجيش، وعند مطلع الصباح أمرهم أن يثيروا غباراً، وأن يحدثوا صوتاً وصياحاً وجلبةً وضوضاء. وفي الصباح الباكر بعدما بزغ الفجر، وجدت كتائب الروم وجوهاً غير الوجوه التي كانت تحاربها بالأمس، ورأت أعلاماً جديدة، ونظرت فوجدت غباراً، وسمعت صيحةً وصوتاً وجلبةً وضجيجاً، فظن الروم أن مدداً جديداً قد أقبل إلى جيوش المسلمين فدب الرعب في قلوبهم، وبدءوا في الانسحاب المذهل المروع، واستطاع خالد بذكائه وعبقريته أن يفتح ثغرة فسيحة في قلب هذا الجيش العرمرم الكبير الرهيب، وانسحب بجيشه انسحاباً آمناً دون أن يصيب الجيش بأي أذى. وبلغت البشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يعلم السر وأخفى، فلقد وقف الحبيب في المدينة المنورة يقص على المسلمين خبر غزوة مؤتة قبل أن يبلغه الخبر، فلقد أخبره علام الغيوب جل جلاله كما ورد في صحيح البخاري من حديث أنس: (وقف النبي صلى الله عليه وسلم ينعي للناس قادة غزوة مؤتة وعيناه تذرفان بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد أخذ الراية زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذ الراية ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان ثم قال: حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله عليهم) وانظروا إلى هذه العبارة النبوية، سمى النبي انتصار خالد فتحاً، وأي نصر؟ وأي فتح؟ ولما خرج المسلمون يقولون لهم: يا فرار قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقولوا هذا ولكنهم الكرار وليسوا فراراً) سمى النبي انتصار خالد فتحاً (حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله) ذلكم هو الوسام الذي عاد خالد إلى المدينة ليعلقه النبي على صدره، والله إنه وسامٌ لا تقوم له الدنيا، ومن يومها أحبتي سمي خالد بن الوليد بسيف الله المسلول. ولم تمض إلا أشهراً معدودات حتى تقدم النبي في جيشه الكبير الجرار لفتح مكة، وولى النبي خالد بن الوليد وجعله قائداً للميمنة، وها هو خالد يدخل إلى مكة المكرمة قائداً من قواد جيش التوحيد، بعد أن كان بالأمس القريب قائداً من قواد جيش الشرك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 مشاركة خالد بن الوليد في حروب الردة ومات الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويتولى الصديق خلافة المسلمين، وتهب أعاصير الردة الغادرة الماكرة، ويجيش الصديق الجيوش، ويدفع الصديق الألوية للأمراء والقادة، ومن بين هؤلاء الأمراء والقادة جميعاً يتجه الصديق العبقري الذكي إلى قائد الساعة، وبطل الميدان، إلى سيف الله خالد ويقول له الصديق: (يا خالد! لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، سيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين) والحديث رواه أحمد، وقال الإمام الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. وينطلق خالد بن الوليد ليشهد جميع معارك الردة من أولها إلى آخرها، وكانت أخطر معركة في هذه المعارك هي: معركة اليمامة بقيام الدعي الكذاب مسيلمة، الذي نجح في أن يجيش جيوشاً جرارة حتى هزم عكرمة بن أبي جهل هزيمةً منكرة، وأصدر الصديق رضي الله عنه الأوامر إلى قائده المظفر خالد بن الوليد أن ينطلق مسرعاً لقتال مسيلمة. ويتحرك خالد بن الوليد بجيشه ليلتقي مع أخويه عكرمة بن أبي جهل، وشرحبيل بن حسنة، ويبدأ القتال الذي ليس لضراوته في عالم الحروب نظير، ويسقط الشهداء من المسلمين تباعاً بسرعة مذهلة كصقور حديقة طوحت بها عصيفة عاصفة عنيدة، ويعتلي العبقري بجواده ربوةً عالية وينظر بعينين كالصقر إلى أرض الميدان والمعركة، ثم يعود خالد ليصرخ بأعلى صوته في جنوده ويقول: [امتازوا اليوم لنرى بلاء كل حي ليتعرف من أين تأتي الهزيمة] ودب الحماس، ودبت الغيرة في قلوب الرجال، وصرخ خالد بأعلى صوته في الميدان، ونقل إخلاصه وحماسه إلى قلوب جنوده وإخوانه كما تنقل الكهرباء، وفي دقائق معدودة تحول اتجاه المعركة، وسقط الدعي الكذاب مسيلمة، وفر جنوده وسقط جنوده بالمئات بل بالألوف كذبابٍ قتل أنفاس الحياة فيه نفثات مبيدٍ صاعق. وانتهت المعركة انتهت أكبر معركة في تاريخ الخلفاء انتهت موقعة اليمامة بنصر مؤزر من الله جل وعلا على يد القائد المظفر والبطل الفاتح خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 قتال خالد بن الوليد للفرس في موقعة القادسية أيها الأحباب! انتهت حروب الردة في لمحات سريعة، وأصدر الخليفة العظيم المبارك رضي الله عنه وأرضاه أوامره إلى قائده العظيم المبارك أن يترك أرض الجزيرة العربية بعد انتهاء حروب الردة لينتقل إلى بلاد العراق. إلى بلاد العراق؟! لماذا؟! لحرب أعظم امبراطورية في بلا الشرق، وللقضاء على امبراطورية فارس، وينطلق خالد مسرعاً ملبياً أوامر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل العام الثاني عشر للهجرة، ويبدأ خالد أعماله الميمونة المباركة في العراق بهذه الكتب التي أرسل بها إلى كسرى، وإلى ولاته وأمرائه في بلاد العراق، واسمعوا إلى هذه الرسالة، وإلى هذا الكتاب الذي أرسل به خالد رضي الله عنه وأرضاه: قال خالد: بسم الله الرحمن الرحيم "من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس، سلام على من اتبع الهدى أما بعد: فالحمد لله الذي فضح دمكم، وسلب ملككم، ووهن كيدكم، من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم له ما لنا وعليه ما علينا، فإن جاءكم كتابي هذا فإني أخيركم بين ثلاثة: إما الإسلام، وإما أن تدفعوا الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون، وإما الحرب، فوالله الذي لا إله غيره لقد جئتكم بقومٍ يحبون الموت كما تحبون الحياة". الله أكبر ودب الرعب في قلوب أهل فارس، فلقد نُصر خالد بن الوليد بالرعب، وبالإجمال أقول: إن خالد بن الوليد دخل في خمس عشرة موقعة مع الفرس ومع أوليائهم، ولم يهزم بإذن الله في موقعة واحدة قط، وكانت أخطر معاركه مع أهل الفرس هي: موقعة ذات السلاسل بقيادة هرمز، وفيها قيد الفرس أنفسهم بالسلاسل، حتى يضمنوا ألا يفروا من الميدان أمام ضربات خالد بن الوليد، وانتهت معارك الفرس، ودك خالد بن الوليد عرش الإمبراطورية الفارسية في عامٍ واحد، فعل خالد بن الوليد ما عجز الرومان أن يفعلوه في أجيالٍ متتابعة. وانتهت المعارك في بلاد العراق، وبقي على موسم الحج أسبوعان، فنظر خالد فوجد نفسه فارغاً من القتال، ولكنه حتماً لا يكون فارغاً من طاعة الله عز وجل، وفي عزمة خالدية جريئة لا يقوى عليها إلا خالد، صمم خالد في سرية تامة أن ينال شرف أداء فريضة الحج لأول مرة بعدما منَّ الله عليه بهذه الانتصارات المروعة والرائعة، وفي سرعة البرق، وفي لمحة خاطفة، ولم يبق على موسم الحج إلا أسبوعين، ينطلق خالد بن الوليد من أقصى العراق إلى أقصى الحجاز ويؤدي فريضة الحج دون أن يشعر به أحد من الأعداء، ودون أن يشعر به أحدٌ من المسلمين في جيشه إلا من المقربين من قواده، بل حتى لم يعلم به خليفة رسول الله أبو بكر الذي كان أميراً للحج في هذا الموسم، ويرجع خالد مرةً أخرى إلى موقعه، ولما علم الصديق بذلك عاتبه عتاباً رقيقاً وأمره ألا يعود لمثلها، يقول المؤرخون: تلك عزمة خالدية وثقة مفرطة لا يقوى عليها إلا خالد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 قتال خالد بن الوليد ضد الروم في موقعة اليرموك وكان الصديق رضي الله عنه بعدما انتهت معارك فارس قد جيش الجيوش إلى بلاد الشام للقضاء على أعظم امبراطورية في الغرب، إلا وهي امبراطورية الروم، وقد اختار الصديق لهذه الجيوش قادةً عظاماً، اختار أبا عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وجعل الصديق القيادة العامة لجيوش الشام في يد أبي عبيدة رضي الله عنه، ولما وصلت الجيوش إلى بلاد الشام، وسمع هرقل امبراطور الروم بهذه الجيوش قال قولته المشهورة: والله لأشفين أبا بكر ألا يورد خيله إلى أرضنا مرة أخرى، وجيش هذا الرجل جيشاً لا مثيل له، جيش جيشاً يزيد على مائتين وأربعين ألف مقاتل، ولما رأى قادة الجيوش المسلمة هذا الجمع الرهيب، أرسلوا إلى خليفة رسول الله إلى أبي بكر يخبروه بالصورة الجديدة والموقف الجديد، أتدرون ماذا قال الصديق رضي الله عنه؟ قال: والله لأشفين وساوس الروم بـ خالد بن الوليد، وأصدر الصديق الأوامر إلى قائده المظفر أن ينتقل من العراق من أقصى المشرق فوراً إلى بلاد الشام إلى أقصى المغرب فوراً، وفي أربعة أيام يا عباد الله من طريقٍ وعرٍ مذهل! استطاع خالد بن الوليد أن يكون على جبهة الشام، وأرسل الصديق في ذلك رسالةً إلى قائده البطل إلى خالد بن الوليد، وكانت تحتوي على كلماتٍ عذبة رقيقة، ومما كان في هذه الرسالة أن الصديق قال له: هنيئاً لك أبا سليمان النية والحظوة، لا يدخلنك عجبٌ فتخسر وتُخذل، وإياك أن تمن بعملٍ، فإن الله هو صاحب المن وهو ولي الجزاء، وأمره أن ينطلق مسرعاً إلى إخوانه من القادة في بلاد الشام، وأن يتولي خالد القيادة العامة على أبي عبيدة وإخوانه من القادة، وأرسل الصديق رسالة مماثلةً إلى قائد الجيوش في الشام إلى أبي عبيدة يقول فيها: بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك أما بعد: فلقد أمرت خالد قيادة الجيوش في بلاد الشام، فلا تخالفه يا أبا عبيدة، واسمع له وأطع، وإني لم أبعثه عليك إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وإن كنت عندي أحب إلي منه، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام. ولما وصلت الرسالة إلى خالد وكلف فيها من خليفة رسول بالقيادة العامة انظروا إلى الأدب والإخلاص، أرسل خالد بن الوليد رسالة إلى الفور إلى قائد الجيوش في الشام، إلى أخيه أمين هذه الأمة: أبي عبيدة بن الجراح وقال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك أما بعد: فلقد جاءني كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمرني فيه بالسير إلى بلاد الشام والقيام على جندها والتولي لأمرها، ووالله ما طلبت ذلك يا أبا عبيدة وما أردته، فأنت على حالك التي كنت عليها قبل ذلك لا نخالفك يا أبا عبيدة ونسمع لك ونطيع، فأنت سيد المسلمين، ولا يمكن أن ننسى فضلك ولا نستغني عن أمرك. بالله ما أورعه! بالله ما أتقاه! بالله ما أنقاه! بالله ما أخلصه! هذه هي القلوب التي تجردت لله، التي لا تبحث عن الزعامة، ولا تريد الصدارة، ولا تريد القيادة، ولو كان على حساب دين الله جل وعلا، لا فرق عند خالد الذي رباه سيد النبيين محمد أن يكون جندياً مطيعاً بعد أن كان قائداً مطاعاً، أو أن يكون قائداً مطاعاً بعد أن كان جندياً مطيعاً، طالما أن راية التوحيد ستظل خفاقة عالية تعانق كواكب الجوزاء في عنان السماء. ووصل خالد بن الوليد إلى إخوانه، والتقت الجيوش المسلمة، وقبل بدء القتال وقف سيف الله يخطب هذه الخطبة العصماء، وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه لإخوانه من القادة والجند: إن هذا يومٌ من أيام الله، لا ينبغي فيه البغي ولا الفخر، وإن هذا اليوم له ما بعده، فإن رددناهم اليوم لا نزال نردهم بعد اليوم، وإن هزمونا اليوم لن نفلح بعدها أبداً، -ثم قال-: فتعالوا بنا نتعاور -أي: نتبادل القيادة- فليكن أحدنا اليوم قائداً، وليكن بعد اليوم أحدنا قائداً -وهكذا ثم نظر إليهم خالد - وقال: وأطلب منكم أن تتركوا لي الإمارة في اليوم الأول، وتنازل القادة بمنتهى الحب والرضا للقيادة لأخيهم سيف الله المسلول وفارس الإسلام والمسلمين لـ خالد بن الوليد رضي الله عنه، وعاد البطل ينظم صفوف الجيش بطريقته الخالدية التي لا نظير لها في عالم الميادين، وفي عالم القيادة وفن الحروب، ونظم البطل صفوف جيشه، ورسم المسلمون في هذه الموقعة موقعة اليرموك صوراً من البطولة والفداء تبهر القلوب وتأخذ الألباب، فهذا رجلٌ جنديٌ في الصفوف يقترب من أبي عبيدة بن الجراح وينادي عليه في هذه الضجة وفي هذا الضجيج تحت رنين السيوف، ووقع الرماح وصهيل الخيول: يا أبا عبيدة! ويلتفت إليه أبو عبيدة: ماذا تريد؟ فيقول له هذا المسلم النقي: لقد عزمت على الشهادة فهل لك من حاجة أبلغها لرسول الله حين ألقاه، فقال أبو عبيدة: نعم، إذا لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: يا رسول الله! لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً -في وسط هذه المعمعة- لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً. وينادي عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه ويقول لنفسه: والله لطالما قاتلت رسول الله قبل أن يشرح الله صدري للإسلام، وهأنا اليوم أفر من الميدان أمام أعداء الله، فينادي بأعلى صوته: يا أصحاب محمد! من يبايع اليوم على الموت؟ ويبايعه كوكبة من الأبرار الأطهار الأخيار، ويدخلون في صفوف المعركة لا يبحثون عن النصر إنما يبحثون عن الشهادة، إنهم أبناء محمد بن عبد الله، إنهم تلاميذ المصطفى صلى الله عليه وسلم الذين عرفوا حقيقة الدنيا، وشرف الجهاد في سبيل الله، وبهذه القلوب، وبهؤلاء الرجال أعز الله دينه، وأعلى الله راية توحيده، وأعز الله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن تكون العزة ولا النصرة إلا بهذه القلوب، وإلا على هذه الأيدي الطاهرة، وإلا بهؤلاء الرجال الأطهار الأبرار الأخيار. وانتهت المعركة أيها الأحباب: وفي وسط هذه الانتصارات المذهلة، وإذ بـ الصديق رضي الله عنه يودع الدنيا آمناً راضياً مطمئناً ليلقى حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم بعدما أدى الأمانة التي كلف بها، وهنا يتولى عمر الفاروق رضي الله عنه لنرى مرة أخرى، وانتصاراً أعظم من جميع الانتصارات، مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 حياة خالد الحربية بعد إسلامه من هذه الساعة -أيها الأحباب- سنرى فارس قريش، وصاحب أعنة الخيل فيها، سنرى داهية العرب كافة في دنيا الكر والفر على الإطلاق، يستقبل عالماً جديداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أصحابه من المسلمين في المدينة المنورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 خالد بن الوليد في غزوة مؤتة بعد شهرين أو ثلاثة فقط ينطلق خالد بن الوليد جندياً في صفوف كتائب التوحيد والإيمان، مع هذا الجيش الذي ذهب لمناطحة الصخور الصماء على حدود الشام في غزوة مؤتة، تلك الغزوة التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ليختار لها القادة، فقال كما ورد في صحيح البخاري في كتاب المغازي من حديث عبد الله بن عمر قال: (أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوة مؤتة زيد بن حارثة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن قتل زيد فـ جعفر بن أبي طالب، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن قتل جعفر فـ عبد الله بن رواحة) وانطلق الجيش الذي لا يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل. ولما وصل الجيش إلى حدود الشام أذهلتهم المفاجئة الكبرى، فلقد رأوا الروم قد أعدوا لهم وجهزوا جيشاً جراراً يزيد على مائة ألف مقاتل، وهنا تردد المسلمون في القتال! كيف يدخلون هذه المعركة التي لا يمكن على الإطلاق أن نرى فيها ذرة من ذرات التكافؤ العددي والعُددي، وتردد الناس في القتال، مائة ألف إلى ثلاثة آلاف! وهنا قام الشهيد الشاعر صاحب السرير الذهبي: عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه ووقف في صفوف الجيش منادياً بأعلى صوته وهو يقول: [يا قوم! إن التي تخشون للتي خرجتم تطلبون، إنها الشهادة في سبيل الله، ووالله ما نقاتل عدونا بكثرةٍ ولا عدد، وإنما نقاتل عدونا بهذا الدين الذي أكرمنا به الله عز وجل، فانطلقوا. فإنها إحدى الحسنيين: إما النصر أو الشهادة] . وانطلق الناس للقتال، انطلق ثلاثة آلاف لقتال مائة ألف مقاتل، وتولى القيادة زيد بن حارثة وقاتل حتى قتل وسقط اللواء، فانقض إليه سريعاً جعفر بن أبي طالب وقاتل حتى سقط اللواء وسقط بعده طيار الشهداء، فانقض على اللواء عبد الله بن رواحة ورفع اللواء وقاتل حتى قتل وسقط اللواء، ودب الرعب والذعر في قلوب المسلمين، لا سيما بعد قتل القادة الثلاثة الذين حددهم واختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا انقض بسرعة الضوء ثابت بن أقرم رضي الله عنه على اللواء ليرفع اللواء خفاقاً عالياً، وأسرع ثابت بن أقرم ليبحث عن قائد الساعة وبطل الميدان عن أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه، وذهب إليه ثابت وقال: خذ اللواء يا خالد، فقال خالد المؤدب المهذب: لا. وأبى أن يتقدم، هؤلاء الذين فيهم السابقون من المهاجرين والأنصار، وقال خالد المهذب لـ ثابت بن أقرم: [أنت أولى به مني يا ثابت فأنت من السابقين الأولين، ممن شهدوا بدراً، لست أحق بهذا اللواء منك، فقال ثابت بن أقرم: خذ اللواء يا خالد والله أنت أدرى بالقتال مني، وما أخذت اللواء من على الأرض إلا لك يا أبا سليمان] . ونادى ثابت بن أقرم في المسلمين بأعلى صوته وقال: [أيها المسلمون! هل ترضون إمرة خالد؟ قالوا: اللهم نعم] واعتلى العبقري جواده بعد أن تحدد مصير المعركة بكل المقاييس، ودب الذعر والرعب، ومات قواد المعركة الثلاثة، وإن شئت فقل: لقد انتهت المعركة، واعتلى العبقري جواده، ودفع الراية عن يمينه كأنما يقرع بها أبواباً مغلقة قد آن لها أن تفتح بإذن الله على يد هذا البطل المغوار. ونظر العبقري نظرةً سريعة إلى أرض الميدان بعينين كعيني الصقر، وأعاد تنظيم الصفوف، وثبت خالد في هذا اليوم ثبوت الجبال الرواسي، حتى خيم الليل بظلامه، وهنا ظهرت عبقرية خالد، وظهر دهاؤه وبلاؤه وقتاله الذي قال عن نفسه: [والله لقد اندكت في يدي تسعة سيوف في يوم مؤتة] والحديث رواه البخاري، تسعة سيوف تحطمت في يد سيف الله، وأسد الله خالد بن الوليد رضي الله عنه. نظر خالد بن الوليد وفي ظلام الليل وفي سرعة البرق والضوء وعدل صفوف الجيش، فجعل الميمنة مكان الميسرة، وجعل الميسرة مكان الميمنة، وجعل الساقة في المقدمة وأخر المقدمة إلى الساقة، وكلف طائفة من الجنود أن يتأخروا خلف الجيش، وعند مطلع الصباح أمرهم أن يثيروا غباراً، وأن يحدثوا صوتاً وصياحاً وجلبةً وضوضاء. وفي الصباح الباكر بعدما بزغ الفجر، وجدت كتائب الروم وجوهاً غير الوجوه التي كانت تحاربها بالأمس، ورأت أعلاماً جديدة، ونظرت فوجدت غباراً، وسمعت صيحةً وصوتاً وجلبةً وضجيجاً، فظن الروم أن مدداً جديداً قد أقبل إلى جيوش المسلمين، فدب الرعب في قلوبهم، وبدءوا في الانسحاب المذهل المروع، واستطاع خالد بذكائه وعبقريته أن يفتح ثغرة فسيحة في قلب هذا الجيش العرمرم الكبير الرهيب، وانسحب بجيشه انسحاباً آمناً دون أن يصاب الجيش بأي أذى. وبلغت البشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يعلم السر وأخفى، فلقد وقف الحبيب في المدينة المنورة يقص على المسلمين خبر غزوة مؤتة قبل أن يبلغه الخبر، فلقد أخبره علام الغيوب جل جلاله كما ورد في صحيح البخاري من حديث أنس: (وقف النبي صلى الله عليه وسلم ينعي للناس قادة غزوة مؤتة وعيناه تذرفان بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد أخذ الراية زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذ الراية ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان ثم قال: حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله عليهم) وانظروا إلى هذه العبارة النبوية، سمى النبي انتصار خالد فتحاً، وأي نصر؟ وأي فتح؟ ولما خرج المسلمون يقولون لهم: يا فرار قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقولوا هذا ولكنهم الكرار وليسوا الفرار) سمى النبي انتصار خالد فتحاً (حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله) ذلكم هو الوسام الذي عاد خالد إلى المدينة ليعلقه النبي على صدره، والله إنه وسامٌ لا تقوم له الدنيا، ومن يومها أحبتي سمي خالد بن الوليد بسيف الله المسلول. ولم تمض إلا أشهراً معدودات حتى تقدم النبي في جيشه الكبير الجرار لفتح مكة، وولى النبي خالد بن الوليد وجعله قائداً للميمنة، وها هو خالد يدخل إلى مكة المكرمة قائداً من قواد جيش التوحيد، بعد أن كان بالأمس القريب قائداً من قواد جيش الشرك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 خالد بن الوليد في حروب الردة مات الحبيب صلى الله عليه وسلم، وتولى الصديق خلافة المسلمين، وتهب أعاصير الردة الغادرة الماكرة، ويجيش الصديق الجيوش، ويدفع الألوية للأمراء والقادة، ومن بين هؤلاء الأمراء والقادة جميعاً يتجه الصديق العبقري الذكي إلى قائد الساعة، وبطل الميدان، إلى سيف الله خالد ويقول له الصديق: (يا خالد! لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، سيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين) والحديث رواه أحمد، وقال الإمام الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. وينطلق خالد بن الوليد ليشهد جميع معارك الردة من أولها إلى آخرها، وكانت أخطر معركة في هذه المعارك هي: معركة اليمامة بقيام الدعي الكذاب مسيلمة، الذي نجح في أن يجيش جيوشاً جرارة حتى هزم عكرمة بن أبي جهل هزيمةً منكرة، وأصدر الصديق رضي الله عنه الأوامر إلى قائده المظفر خالد بن الوليد أن ينطلق مسرعاً لقتال مسيلمة. ويتحرك خالد بن الوليد بجيشه ليلتقي مع أخويه عكرمة بن أبي جهل، وشرحبيل بن حسنة، ويبدأ القتال الذي ليس لضراوته في عالم الحروب نظير، ويسقط الشهداء من المسلمين تباعاً بسرعة مذهلة كصقور حديقة طوحت بها عاصفة عنيدة، ويعتلي العبقري بجواده ربوةً عالية وينظر بعينين كالصقر إلى أرض الميدان والمعركة، ثم يعود خالد ليصرخ بأعلى صوته في جنوده ويقول: [امتازوا اليوم لنرى بلاء كل حي لنعرف من أين تأتي الهزيمة] ودب الحماس، ودبت الغيرة في قلوب الرجال، وصرخ خالد بأعلى صوته في الميدان، ونقل إخلاصه وحماسه إلى قلوب جنوده وإخوانه كما تنقل الكهرباء، وفي دقائق معدودة تحول اتجاه المعركة، وسقطوا الدعي الكذاب مسيلمة، وفر جنوده وسقط جنوده بالمئات بل بالألوف كذبابٍ قتل أنفاس الحياة فيه نفثات مبيدٍ صاعق. وانتهت المعركة انتهت أكبر معركة في تاريخ الخلفاء انتهت موقعة اليمامة بنصر مؤزر من الله جل وعلا على يد القائد المظفر والبطل الفاتح خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 خالد بن الوليد في موقعة القادسية أيها الأحباب! انتهت حروب الردة في لمحات سريعة، وأصدر الخليفة العظيم المبارك رضي الله عنه وأرضاه أوامره إلى قائده العظيم المبارك أن يترك أرض الجزيرة العربية بعد انتهاء حروب الردة لينتقل إلى بلاد العراق. ولماذا بلاد العراق؟! لحرب أعظم امبراطورية في بلا الشرق، وللقضاء على امبراطورية فارس. وينطلق خالد مسرعاً ملبياً أوامر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل العام الثاني عشر للهجرة، ويبدأ خالد أعماله الميمونة المباركة في العراق بهذه الكتب التي أرسل بها إلى كسرى، وإلى ولاته وأمرائه في بلاد العراق، واسمعوا إلى هذه الرسالة، وإلى هذا الكتاب الذي أرسل به خالد رضي الله عنه وأرضاه: قال خالد: [بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس، سلام على من اتبع الهدى أما بعد: فالحمد لله الذي فضح دمكم، وسلب ملككم، ووهن كيدكم، من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلكم المسلم له ما لنا وعليه ما علينا، فإن جاءكم كتابي هذا فإني أخيركم بين ثلاثة: إما الإسلام، وإما أن تدفعوا الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون، وإما الحرب، فوالله الذي لا إله غيره لقد جئتكم بقومٍ يحبون الموت كما تحبون الحياة] . الله أكبر ودب الرعب في قلوب أهل فارس، فلقد نُصر خالد بن الوليد بالرعب، وبالإجمال أقول: إن خالد بن الوليد دخل في خمس عشرة موقعة مع الفرس وأوليائهم، ولم يهزم بإذن الله في موقعة واحدة قط، وكانت أخطر معاركه مع أهل الفرس هي: موقعة ذات السلاسل بقيادة هرمز، وفيها قيد الفرس أنفسهم بالسلاسل، حتى يضمنوا ألا يفروا من الميدان أمام ضربات خالد بن الوليد، وانتهت معارك الفرس، ودك خالد بن الوليد عرش الامبراطورية الفارسية في عامٍ واحد، فعل خالد بن الوليد ما عجز الرومان أن يفعلوه في أجيالٍ متتابعة. وانتهت المعارك في بلاد العراق، وبقي على موسم الحج أسبوعان، فنظر خالد فوجد نفسه فارغاً من القتال، ولكنه حتماً لا يكون فارغاً من طاعة الله عز وجل، وفي عزمة خالدية جريئة لا يقوى عليها إلا خالد، صمم خالد في سرية تامة أن ينال شرف أداء فريضة الحج لأول مرة بعدما منَّ الله عليه بهذه الانتصارات المروعة والرائعة، وفي سرعة البرق، ولمحة خاطفة، ينطلق خالد بن الوليد من أقصى العراق إلى أقصى الحجاز ويؤدي فريضة الحج دون أن يشعر به أحد من الأعداء، ودون أن يشعر به أحدٌ من المسلمين في جيشه إلا المقربون من قواده، بل حتى لم يعلم به خليفة رسول الله أبو بكر الذي كان أميراً للحج في هذا الموسم، ويرجع خالد مرةً أخرى إلى موقعه، ولما علم الصديق بذلك عاتبه عتاباً رقيقاً وأمره ألا يعود لمثلها، يقول المؤرخون: تلك عزمة خالدية، وثقة مفرطة لا يقوى عليها إلا خالد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 خالد بن الوليد في موقعة اليرموك كان الصديق رضي الله عنه بعدما انتهت معارك فارس قد جيش الجيوش إلى بلاد الشام للقضاء على أعظم امبراطورية في الغرب، ألا وهي امبراطورية الروم، وقد اختار الصديق لهذه الجيوش قادةً عظاماً، اختار أبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وجعل الصديق القيادة العامة لجيوش الشام في يد أبي عبيدة رضي الله عنه، ولما وصلت الجيوش إلى بلاد الشام، وسمع هرقل امبراطور الروم بهذه الجيوش قال قولته المشهورة: والله لأشفين أبا بكر ألا يورد خيله إلى أرضنا مرة أخرى، وجيش هذا الرجل جيشاً لا مثيل له، جيش جيشاً يزيد على مائتين وأربعين ألف مقاتل، ولما رأى قادة الجيوش المسلمة هذا الجمع الرهيب، أرسلوا إلى أبي بكر يخبروه بالصورة الجديدة والموقف الجديد، أتدرون ماذا قال الصديق رضي الله عنه؟ قال: والله لأشفين وساوس الروم بـ خالد بن الوليد، وأصدر الصديق الأوامر إلى قائده المظفر أن ينتقل من العراق من أقصى المشرق فوراً إلى بلاد الشام إلى أقصى المغرب فوراً، وفي أربعة أيام يا عباد الله من طريقٍ وعرٍ مذهل! استطاع خالد بن الوليد أن يكون على جبهة الشام، وأرسل الصديق في ذلك رسالةً إلى قائده البطل خالد بن الوليد، وكانت تحتوي على كلماتٍ عذبة رقيقة، ومما كان في هذه الرسالة أن الصديق قال له: هنيئاً لك أبا سليمان النية والحظوة، لا يدخلنك عجبٌ فتخسر وتُخذل، وإياك أن تمنُّ بعملٍ، فإن الله هو صاحب المنِّ وهو ولي الجزاء، وأمره أن ينطلق مسرعاً إلى إخوانه من القادة في بلاد الشام، وأن يتولي خالد القيادة العامة على أبي عبيدة وإخوانه من القادة، وأرسل الصديق رسالة مماثلةً إلى قائد الجيوش في الشام إلى أبي عبيدة يقول فيها: بسم الله الرحمن الرحيم [من أبي بكر إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك أما بعد: فلقد أمرت خالد قيادة الجيوش في بلاد الشام، فلا تخالفه يا أبا عبيدة، واسمع له وأطع، وإني لم أبعثه عليك إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وإن كنت عندي أحب إلي منه، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام] . ولما وصلت الرسالة إلى خالد وكلف فيها من خليفة رسول الله بالقيادة العامة، انظروا إلى الأدب والإخلاص، أرسل خالد بن الوليد رسالة إلى الفور إلى قائد الجيوش في الشام، إلى أخيه أمين هذه الأمة: أبي عبيدة بن الجراح وقال فيها: [بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك أما بعد: فلقد جاءني كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمرني فيه بالسير إلى بلاد الشام والقيام على جندها والتولي لأمرها، ووالله ما طلبت ذلك يا أبا عبيدة وما أردته، فأنت على حالك التي كنت عليها قبل ذلك لا نخالفك يا أبا عبيدة ونسمع لك ونطيع، فأنت سيد المسلمين، ولا يمكن أن ننسى فضلك ولا نستغني عن أمرك] . بالله ما أورعه! بالله ما أتقاه! بالله ما أنقاه! بالله ما أخلصه! هذه هي القلوب التي تجردت لله، التي لا تبحث عن الزعامة، ولا تريد الصدارة، ولا القيادة، ولو كان على حساب دين الله جل وعلا، لا فرق عند خالد الذي رباه سيد النبيين محمد أن يكون جندياً مطيعاً بعد أن كان قائداً مطاعاً، أو أن يكون قائداً مطاعاً بعد أن كان جندياً مطيعاً، طالما أن راية التوحيد ستظل خفاقة عالية تعانق كوكب الجوزاء في عنان السماء. ووصل خالد بن الوليد إلى إخوانه، والتقت الجيوش المسلمة، وقبل بدء القتال وقف سيف الله يخطب هذه الخطبة العصماء، وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه لإخوانه من القادة والجند: [إن هذا يومٌ من أيام الله، لا ينبغي فيه البغي ولا الفخر، وإن هذا اليوم له ما بعده، فإن رددناهم اليوم لا نزال نردهم بعد اليوم، وإن هزمونا اليوم لن نفلح بعدها أبداً -ثم قال-: فتعالوا بنا نتعاور -أي: نتبادل القيادة- فليكن أحدنا اليوم قائداً، وليكن بعد اليوم أحدنا قائداً -ثم نظر إليهم خالد - وقال: وأطلب منكم أن تتركوا لي الإمارة في اليوم الأول] . وتنازل القادة بمنتهى الحب والرضا للقيادة لأخيهم سيف الله المسلول وفارس الإسلام والمسلمين لـ خالد بن الوليد رضي الله عنه، وعاد البطل ينظم صفوف الجيش بطريقته الخالدية التي لا نظير لها في عالم الميادين، وفي عالم القيادة وفن الحروب، ونظم البطل صفوف جيشه، ورسم المسلمون في هذه الموقعة موقعة اليرموك صوراً من البطولة والفداء تبهر القلوب وتأخذ الألباب، فهذا رجلٌ جنديٌ في الصفوف يقترب من أبي عبيدة بن الجراح وينادي عليه في هذه الضجة وفي هذا الضجيج تحت رنين السيوف، ووقع الرماح وصهيل الخيول: [يا أبا عبيدة! ويلتفت إليه أبو عبيدة: ماذا تريد؟ فيقول له هذا المسلم النقي: لقد عزمت على الشهادة فهل لك من حاجة أبلغها لرسول الله حين ألقاه، فقال أبو عبيدة: نعم. إذا لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: يا رسول الله! لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً -في وسط هذه المعمعة- لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً] . وينادي عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه ويقول لنفسه: [والله لطالما قاتلت رسول الله قبل أن يشرح الله صدري للإسلام، وهأنا اليوم أفر من الميدان أمام أعداء الله، فينادي بأعلى صوته: يا أصحاب محمد! من يبايع اليوم على الموت؟] ويبايعه كوكبة من الأبرار الأطهار الأخيار، ويدخلون في صفوف المعركة لا يبحثون عن النصر إنما يبحثون عن الشهادة، إنهم أبناء محمد بن عبد الله، إنهم تلاميذ المصطفى صلى الله عليه وسلم الذين عرفوا حقيقة الدنيا، وشرف الجهاد في سبيل الله، وبهذه القلوب، وبهؤلاء الرجال أعز الله دينه، وأعلى الله راية توحيده، وأعز الله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولن تكون العزة ولا النصرة إلا بهذه القلوب، وعلى هذه الأيدي الطاهرة، وبهؤلاء الرجال الأطهار الأبرار الأخيار. وانتهت المعركة أيها الأحباب: وفي وسط هذه الانتصارات المذهلة، وإذ بـ الصديق رضي الله عنه يودع الدنيا آمناً راضياً مطمئناً ليلقى حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم بعدما أدى الأمانة التي كلف بها، وهنا يتولى عمر الفاروق رضي الله عنه لنرى مرة أخرى انتصاراً أعظم من جميع الانتصارات، مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 تنحية خالد من قيادة الجيوش في عهد عمر بن الخطاب الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيا أيها الأحبة! تولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه، وإذ بـ عمر يرسل على الفور كتاباً يهنئ فيه المسلمين بهذا النصر على أرض الميدان، وينعي إليهم وفاة أبى بكر رضي الله عنه، ويخبرهم بخلافته، ويأمر أبا عبيدة بن الجراح أن يتولى القيادة من جديد وأن ينحي خالداً رضي الله عنه. وقيل: إن الرسالة وصلت إلى خالد فأخفاها خالد بن الوليد حتى انتهت المعركة، وبعد انتهاء المعركة ذهب إلى أبي عبيدة ليؤدي إليه تحية الجندي إلى قائده. وقيل: بأن الذي أخفى الرسالة أبو عبيدة حتى تنتهي المعركة، وبعد المعركة أخبر خالد بن الوليد؛ لنرى انتصاراً هو من وجهة نظري أعظم انتصارٍ لـ خالد بن الوليد مع كل هذه الانتصارات المذهلة التي حققها، ويتنازل خالد بمنتهى الإخلاص والحب عن القيادة التي سطر روعتها وانتصاراتها وعظمتها بيديه، يتنازل لأخيه الأمين أبي عبيدة بن الجراح، فليست العبرة من هو القائد، ولكن القضية أن تظل راية التوحيد خفاقةً عالية، سواء رفعها أبو عبيدة أو خالد أو عمرو أو شرحبيل، المهم أن تظل الراية عالية. ألا فلنتعلم هذه الدروس يا قادة الجماعات الإسلامية، ويا أبناء الصحوة، ألا فلنعِ هذا الدرس درس التجرد لله جل وعلا، درس الصفاء والإخلاص والنقاء، فإنهم لا يبحثون عن زعامة، ولا يريدون صدارة، ولا يريدون قيادة، المهم أن يظل في الميدان يعمل خالصاً لله، سواء كان قائداً مطاعاً أو جندياً مطيعاً، ووالله لن تكون النصرة إلا بهذه القلوب المتجردة، إلا إذا صفت قلوبنا وتجردت أعمالنا لله جل وعلا. وهكذا -أيها الأحباب- يرجع خالد بن الوليد بعد تنحيته عن القيادة بأمر عمر. وأود أن أبين أمراً -وإن كنت قد أطلت- شحنت به كتب التاريخ المزورة، وقد أسيء الظن بـ عمر رضي الله عنه، فنرى في كتب التاريخ من يقول: إن عمر قد عزل خالداً رضي الله عنهما لضغينة في نفس عمر على خالد، أو لحقد قديمٍ بين عمر وخالد، أو لمنافسة خالد لـ عمر، وهذا كله كذب وافتراء وباطل، وشتان أن تكون هذه القلوب الصافية المتجردة بهذا الظن وبهذا الغبش، ويكفي أن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في حق عمر: (لقد أجرى الله الحق على لسانه وقلبه) ووالله لقد كان عمر صريحاً واضحاً كالسيف الصارم البتار حينما عزل خالداً رضي الله عنه، وأعلن ذلك على الملأ بقوله: [أيها الناس: إني لم أعزل خالداً عن سخطٍ ولا عن خيانة، ولكني رأيت الناس قد فتنوا به، ووكلوا إليه، فخشيت أن يوكلوا إليه، فأردت أن أعلمهم أن الصانع هو الله جل وعلا] ليس النصر من عند خالد، انظروا إلى قلب عمر الذي تجرد وأزهر فيه مصباح التوحيد: [فأردت أن أعلمهم أن الصانع هو الله] ليس النصر من عند خالد ولا بيد خالد: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] . هذه عبقرية عمر الفاروق، وهذا صدق عمر، وهذا توحيد عمر الذي رأى الناس يذهبون إلى الشجرة التي أخذ تحتها بيعة الرضوان، ورأى الناس يذهبون إليها ويتمسحون بها، فخشي عمر بن الخطاب أن يصل الأمر إلى حد الشرك فاجتثها من جذورها، ولما سئل عن ذلك قال: [خشيت أن يتكل الناس عليها وينسون الله جل وعلا] ذلكم هو عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 وفاة خالد بن الوليد وهكذا أيها الأحباب: ينام سيف الله المسلول على فراش الموت بعد كل هذه المعارك والمشاهد والمواقع والغزوات، ينام على فراش موته في بيته وداره، وتنسكب الدموع غزيرةً على وجنتيه وهو يتلوى ويتألم بعد كل هذه المواقع والغزوات يا خالد تنام على فراش موتك في دارك وفي بيتك، فيبكي خالد بن الوليد رضي الله عنه ويقول: [لقد شهدت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضع شبرٍ إلا وفيه ضربةٌ بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء] . إيهٍ يا بطل، إيهٍ يا بطل الأبطال، إيه يا فجر كل ليل، هأنت ذا قد أتممت مسراك، هأنت ذا قد أتممت كفاحك، هأنت ذا قد أتممت روعتك، هأنت ذا قد أتممت جهادك، فلذكراك المجد يا أبا سليمان، ولسيرتك الخلد يا خالد، ودعنا نردد مع فاروق الأمة عمر الذي نعاك ودموعه تنسكب على وجنتيه غزيرة، نعاك بهذه الكلمات الطيبات الباهرات وهو يقول: [رحم الله أبا سليمان ما عند الله خيرٌ له مما كان فيه، لقد عاش حميداً، ولقي الله سعيداً] رضي الله عن خالد، وصلى الله وسلم وبارك على أستاذه ومعلمه. وأدعو الله جل وعلا أن يجمعنا بهم في دار كرامته ومستقر رحمته، وأن يقيض لأمة التوحيد قائداً ربانياً يقيمها بكتاب الله وبدين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو على كل شيء قدير. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 معاذ بن جبل إن الحديث عن القدوة أمر بالغ الأهمية، خاصة ونحن نعيش في زمان قلت فيه القدوة، لذا كان حديث الشيخ حفظه الله في هذه المادة عن الصحابي الجليل: معاذ بن جبل رضي الله عنه، أعلم الأمة بالحلال والحرام، والذي أسلم وهو في الثامنة عشرة من عمره وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره، إلا أنه خلال هذه الفترة القصيرة استطاع أن يسطر أمجاده المشرقة على صفحات التاريخ البيضاء، حيث أفنى حياته في الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، حتى أتاه اليقين من ربه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 أهمية الحديث عن القدوات الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لأمره، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وعبد ربه حتى لبى داعيه، وجاهد في سبيل ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه، يمشي على شوك الأسى، يخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمنَّ الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الخير والحق والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا دائماً أبداً في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته إنه ولي ذلك ومولاه. أحبتي في الله: مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى. أيها الأحبة: لئن كانت شمس النبوة قد أشرقت على أرض الجزيرة، فبددت ظلام شركها، وجعلت ليلها كنهارها، فإن الصحابة كانوا النجوم التي تعلقت بتلك الشمس، ودارت في فلكها، واقتبست من نورها، فإذا بالإسلام يتحول إلى واقع منظور، وإلى مجتمع متحرك، وإن تلك النجوم لا تزال تتألق وتشرق وتنشر نورها على الدنيا، وإن من أعظم واجباتنا أن نتتبع أخبارهم، وأن ننشر على الدنيا عبير سيرتهم العطرة، وأن نقدمهم للبشرية كلها قدوة ومُثلاً عليا؛ خاصةً وأننا نعيش زماناً قلت فيه القدوة من ناحية، واعتزت فيه الأمم والدول برجالها وقاداتها من ناحية أخرى، مع أنه لو وضع هؤلاء إلى جوار عظمائنا ورجالنا لكانوا بمثابة الشمعة التي جاءت لتضيء في حضرة الشمس في رابعة النهار، هذا إن أحسنا الظن بهم -أي بهؤلاء الذين تفخر بهم أممهم ودولهم- إذ أن البشرية اليوم تعظم وتكرم بناءً على المبادئ التي ارتضتها لنفسها، وقد اختلت عندها القيم واضطربت عندها الموازين، فقدم التافهون والفارغون والساقطون ليكونوا القدوة والمثال، وشتان شتان بين نور السها وشمس الضحى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138] نعم أيها الأحبة. وإننا اليوم على موعد مع كوكب من كواكب المجموعة النبوية، أجل أقولها بملء فمي إننا اليوم على موعد مع كوكب من كواكب المجموعة النبوية الكريمة المباركة، نقدمه اليوم قدوة ومثلاً أعلى لشباب الصحوة الإسلامية بصفة خاصة ولجميع المسلمين بل والله لجميع البشرية كلها بصفة عامة، فأعيروني القلوب والأسماع لنعيش مع هذا البطل، لنعيش مع هذا الشاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 إسلام معاذ بن جبل إنه شاب صغير من شباب الصحابة رضي الله عنهم، شاب أسلم في الثامنة عشرة من عمره، وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره، يا سبحان الله! فمتى استطاع أن يخط على جبين الزمن هذا المجد، ومتى استطاع أن يسطر على صفحات التاريخ هذا الخلود، وهذه السيرة العطرة العبقة. أقول: شاب أسلم في الثامنة عشرة من عمره وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره، أعيروني القلوب والأسماع لنعيش مع هذا البطل، لنعيش مع هذا الشاب التقي النقي الحيي الكريم. ففي ليلة من ليالي مكة، الليل دامس، والصمت مخيم، والظلام شامل، والسكون يضفي على الخيام في منى هيبة وإجلالاً ووقاراً، وإذ بكوكبة مضيئة من الأنصار رضي الله عنهم، يتسللون بين خيام منى تسلل القطا، يتلفتون وكأنهم قد سرقوا الإيمان سرقة، إلى أين أيها الأخيار الأطهار؟ إلى العقبة. لماذا؟ لمقابلة النبي صلى الله عليه وسلم. من أجل ماذا؟ من أجل البيعة. ويلتقي هذا الصحب الكريم بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون له: على ما نبايعك يا رسول الله؟ فيقول الحبيب صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري الذي رواه البيهقي وابن إسحاق بسند صحيح، فيقول عليه الصلاة والسلام: (تبايعوني على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، وعلى أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم وأزواجكم ولكم الجنة) فيقول البراء بن معرور رضي الله عنه كما في حديث كعب بن مالك وهو حديث صحيح، يقول البراء رضي الله عنه: [والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أسرنا، فبايعنا يا رسول الله فإنا والله أهل الحرب وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر] ويقطع القول أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وأرضاه، فيقول للحبيب صلى الله عليه وسلم: [يا رسول الله! إن بيننا وبين القوم -أي: اليهود حبالاً- وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن أظهرك الله جل وعلا أن ترجع إلى قومك وتدعنا] . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم) فقال البراء بن معرور: [ابسط يدك يا رسول الله نبايعك] وبسط الحبيب يده الكريمة، يمينه المباركة، وامتزجت القلوب والأيدي في مهرجان حب وولاء لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً، ومن بين هذه الأيدي الكريمة تمتد يد صغيرة وضيئة لشاب كريم المحيا، براق الثنايا، يبهر الأبصار بهدوئه وسمته، فإذا ما تكلم ازدادت الأبصار انبهاراً وتقديراً وإجلالاً واحتراماً. هذه اليد الكريمة المباركة تمتد من وسط هذه الأيدي الكريمة لتبايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية، أتدرون يد من هذه؟ إنها يد مقدام العلماء، إنها يد إمام الحكماء، إنها يد سيد الدعاة الأتقياء، إنها يد القارئ القانت، إنها يد المحب الثابت، إنها يد السهل السري، إنها يد السمح السخي، إنها يد معاذ بن جبل، وما أدراك ما معاذ؟! إنه الشاب الذي نقدمه اليوم لشباب الصحوة قدوة، إنه الكوكب الذي نقدمه اليوم للبشرية مثلاً أعلى، الذي أسلم في الثامنة عشرة من عمره، وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره، وبالرغم من ذلك أقول: إنه خط هذا المجد على جبين الزمان، كان غرة في جبين الإسلام، وكان تاجاً بين الصحب الكرام، وكان شامة وعلامة، وكان شعلة من شعل الهداية، وكان داعية من دعاة الحق، إذا تكلم كأنما يخرج من فيه لؤلؤاً ونوراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 ثناء النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة على معاذ إنه معاذ بن جبل الذي لو وقفنا مع تاريخه لتحسرنا على حياتنا، وبكينا دماً بدل الدمع خجلاً وحياءً على ما قدمناه لديننا، وقد مضى بنا قطار العمر إلى مسافات وأعوام ابن الثلاثين من عمره، بل ابن العشرين من عمره. قصة حياة عجيبة، قصة كفاح رهيبة في هذه السنوات القصار الطوال، معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الرجل الذي قال عنه فاروق الأمة عمر رضي الله عنه، والأثر رواه الحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي، بل وصححه الحافظ ابن حجر في الفتح، يقول عمر رضي الله عنه، وبالله عليكم اسمعوا هذه القولة، وخذوا هذه الشهادة من عمر وما أدراكم ما عمر؟! يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [من أراد الفقه فليأتِ معاذ بن جبل] . ابن العشرين! ابن الثلاثين! من أراد الفقه فليذهب إليه من أراد الفقه فليأتِ معاذ بن جبل. وخذوا قولة ابن مسعود الخالدة، وروى بعضها الإمام البخاري تعليقاً [قرأ ابن مسعود رضي الله عنه يوماً: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} [النحل:120] ثم قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن معاذ بن جبل كان أمة قانتاً لله، كان يعلِّم الناس الخير، وكان مطيعاً لله ورسوله] إن معاذاً ابن الثلاثين كان أمة، ابن العشرين كان أمة، كان يعلم الناس الخير، وكان مطيعاً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. بل وما هذه الشهادات والأوسمة إلى جوار الأوسمة التي علقها الحبيب صلى الله عليه وسلم بيديه الكريمتين المباركتين على صدر ذلكم الشاب. اسمعوا ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود -فبدأ به- وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة) خذوا القرآن من معاذ، من هذا الشاب الصغير الكبير العظيم، خذوا القرآن من معاذ بن جبل. بل ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً يوماً مع الصحابيين الجليلين الكبيرين العظيمين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والحديث رواه الترمذي وحسنه، ورواه ابن حبان وصححه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، يقول صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر بن الخطاب، نعم الرجل معاذ بن جبل) . مع أبي بكر وعمر! (نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر بن الخطاب، نعم الرجل معاذ بن جبل) إنه حقاً رجل. بل وخذوا هذا الوسام العجيب، وهذه الشهادة الكبيرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن سعد في الطبقات، وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، يقول صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عز وجل عمر بن الخطاب، وأصدقهم حياءً عثمان بن عفان، وأقضاهم -أي: وأعلمهم بالقضاء- علي بن أبي طالب، وأفرضهم -أي: وأعلمهم بالفرائض- زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) . أعلم الأمة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح) أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. أعلم الأمة بالحلال والحرام ابن العشرين ابن الثلاثين! ولم لا وقد رباه محمد بن عبد الله؟ ولم لا وقد تخرج في مدرسة الإسلام بين الصحب الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم؟ بارك الله لهم في أعمارهم وأوقاتهم وأستاذهم ومعلمهم ونبيهم، فكانوا للناس سادة، وللجيوش قادة، وللأفاضل مثلاً عليا، فيظل التاريخ يقف أمام سيرتهم وقفة إعزاز وإجلال وإكبار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 مكانة معاذ في قلب النبي صلى الله عليه وسلم ولقد كانت لـ معاذ بن جبل مكانة خاصة في قلب أستاذه ومعلمه صلى الله عليه وسلم، اسمعوا -أيها الأحبة- إلى هذا الوسام الذي وقفت أمامه مذهولاً مذعوراً مندهشاً! لقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً من يده يوماً ثم التفت إليه وقال: (يا معاذ! والله إني لأحبك) ما هذا؟! والله إن الحلق ليجف، وإن القلب ليرتعد، وإن الكلمات لتتوارى خجلاً وحياءً أمام القسم العظيم الجليل الكريم الكبير (يا معاذ! والله إني لأحبك) من الذي يقول؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم الذي تفانى أصحابه في حبه، بل وتقربوا إلى الله بحبه حباً لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً، ولم لا وقد أحب محمداً صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الحجارة؟ ولكن هذا ليس بعجب ولكن العجب العجاب أن يقول إمام الهدى، ومصباح الدجى، وإمام النبيين، وخاتم المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لشاب صغير من تلاميذه، ولابن عظيم من أبنائه، يقول: (يا معاذ! والله إني لأحبك. فيقول معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! والله وأنا لأحبك يا رسول الله. فيقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: فإني أوصيك ألا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) والحديث رواه أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم وهو حديث صحيح. فلا تنسَ أن تقول دبر كل صلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) بل لقد بلغت منزلة معاذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم وأكرم من هذا، يا سبحان الله! نعم. فلقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يردف معاذاً خلفه على ظهر دابة واحدة، يركب النبي صلى الله عليه وسلم هو ومعاذ ركوبة واحدة، معاذ يركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكلمه، وينصحه النبي صلى الله عليه وسلم وحده، نعم. وكان معاذ يعرف هذه الكرامة حق قدرها، ويجل هذه المنقبة ويعطيها مكانتها، فيقول معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (بينما أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال النبي: يا معاذ! فقلت: لبيك رسول الله وسعديك. فسار النبي ساعة، ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك. فسار النبي ساعة، ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك. فقال: أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم. فقال صلى الله عليه وسلم: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، وقال: يا معاذ! أتدري ما حق العباد على الله إن هم فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ألا يعذبهم -وفي رواية- ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً. فقال معاذ: أفلا أبشر الناس يا رسول الله! قال: لا تبشرهم فيتكلوا) . فحق الله علينا أن نعبده ولا نشرك به شيئاً، وألا نصرف جزئية من العبادة لأحد غير الله جل وعلا، لأن الذي يستحق جميع أنواع العبادة هو الله جل جلاله، لا توحيد إلا له، ولا إذعان إلا له، ولا انقياد ولا ذبح ولا نذر إلا له، ولا حلف إلا به، ولا طواف إلا ببيته؛ لأنه وحده هو الذي يستحق أن يعبد. اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن الرجاء إلا فيك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] فإن عبدنا الله جل وعلا حق عبادته، ولم نصرف صغيرة ولا كبيرة من العبادة إلا له جل وعلا؛ أخذ الله الحق على نفسه وليس لأحد حق على الله، بل إن الحق أخذه الله على ذاته ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن حققوا التوحيد وماتوا عليه. واسمعوا إلى هذا الحوار الكريم بين معاذ بن جبل وأستاذه ومعلمه، هذا الحوار الذي رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن أبي شيبة وغيرهم وهو حديث صحيح، يقول معاذ بن جبل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: [يا رسول الله! أخبرني عن عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار] أسمعتم إلى هذه الأمنية وإلى هذا الهدف، هذا هو الهدف الذي عاشوا من أجله، وتلك هي الأمنية التي بذلوا من أجلها [يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار] فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لقد سألت عن عظيم!) ألا تريدون أن تتعلموا الطريقة أيها الأحبة؟ خذوا الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه) ما هو الطريق يا رسول الله للجنة وللبعد عن النار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) ولكن الحبيب صلى الله عليه وسلم، أكاد أحس بأنه يرى أُنساً في حديثه مع معاذ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! ألا أدلك على أبواب الخير؟ فقال: بلى يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: الصوم جنة -أي: وقاية- والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا النبي قول الله جل وعلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16-17] ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ! ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ! ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه وقال: كُفّ عليك هذا. فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) . ياله من حوار كريم! يا لها من مدرسة! ويا لهم من تلاميذ! أسمعت -أيها الحبيب- إلى هذا الحوار المبارك الذي علمنا الكثير والكثير؟! ولو توقفنا عند كلماته لاحتجنا بلا مبالغة إلى عشر جمع، بل والله إلى أكثر، حوار بين أستاذ وتلميذ، بين أستاذ الإنسانية ومعلم البشرية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وبين تلميذ شرب من هذا النبع الصافي الكريم، ودار في فلك شمس النبوة المشرقة التي لا تغيب إلى يوم القيامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 معاذ بن جبل وقيامه بواجب الدعوة والجهاد لما جاءت رسل ملوك اليمن في أوائل العام العاشر، بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وطلبوا من رسول الله أن يرسل معهم من يعلمهم دينهم، ومن يفقههم في إسلامهم، وهنا وقعت عين النبي صلى الله عليه وسلم على الداعية العظيم، على القارئ القانت، والمحب الثابت، على الفقيه العلم، على الشاب ابن العشرين أو ابن الثلاثين، على معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، يرسله النبي صلى الله عليه وسلم أميراً للدعاة في اليمن ليدعو إلى الله جل وعلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 معاذ بن جبل والدعوة إلى الله يخرج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه مع معاذ بن جبل، ويمشي النبي صلى الله عليه وسلم بجانب راحلته، ومعاذ راكب ويوصيه ويبذل له الوصايا التي تتناثر من فيه كحبات اللؤلؤ، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ليرسم له الطريق، ويحدد له المنهج للدعوة الصحيحة التي ينبغي أن يسير على منوالها كل داعية صدوق، والحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما فيقول له: (يا معاذ! إنك تأتي قوماً أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله جل وعلا قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) . ويمضي البطل، ويمضي الفقيه الشاب بهذه الوصايا الغالية في قلبه وفؤاده وعقله وبين جوانحه ليسير عليها ولا يحيد عنها قيد أنملة، لأنها وصايا وتعاليم أستاذه ومعلمه صلى الله عليه وسلم، ويودع النبي صلى الله عليه وسلم وداعاً مؤثراً لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مشى طويلاً مع معاذ وكأني والله أحس أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن يملأ عينه من معاذ، فطال النبي صلى الله عليه وسلم في مشيه مع معاذ، وأخيراً نظر إليه وقال: (يا معاذ! عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري) وانفجرت الدمعات وانحدرت على وجنتي معاذ كحبات لؤلؤ، بكى رضي الله عنه، يخبره أستاذه وحبيبه بأنه قد لا تكتحل عينه بعد اليوم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبكي معاذ بل ويبكي بكاءً طويلاً، ويأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكف عن البكاء، وإيه والله بأبي هو وأمي، انطلق معاذ بن جبل وما عاد إلى المدينة إلا بعد أن مات الحبيب صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 معاذ بن جبل والجهاد في سبيل الله ويرجع معاذ بن جبل إلى المدينة لأول مرة حتى لا يرى فيها أستاذه ومعلمه وحبيبه، يمر على قبر أستاذه ومعلمه ووالله إني لأحس بحالة معاذ حينئذٍ يوم دخل المدينة أول مرة يوم دخل المدينة ليقف أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن تركه بالأمس القريب يكلمه ويحدثه، وينظر معاذ إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أبي بكر رضي الله عنه ويستأذنه ألا يقيم في المدينة، وأن يرجع على الفور إلى بلاد الشام ليجاهد في سبيل الله، لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة. ونتوقف مع معاذ عند هذا القدر، لنكمل ما بقي من كلمات قليلات بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الأحبة: ويأذن الصديق رضي الله عنه لـ معاذ أن يخرج للجهاد في سبيل الله في الشام، وينطلق معاذ بن جبل ليجاهد تحت إمرة أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، وقدر الله لـ أبي عبيدة أن يموت بالوباء والطاعون، ويأمر عمر بن الخطاب بعد موت أبي بكر أن يتولى القيادة العامة لجند الشام معاذ بن جبل، ويتولى معاذ القيادة العامة لجند الشام ولكن قدر الله جل وعلا شيئاً آخر فلم يمض غير قليل حتى ابتلي معاذ نفسه بهذا الوباء وذلكم الطاعون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وفاة معاذ بن جبل نام معاذ بن جبل ذلكم الشاب الوضيء الكريم المحيا، البراق الثنايا، الفقيه العلم، نام على فراش الموت في الثالثة والثلاثين من عمره، وينظر إلى أصحابه من حوله ويقول: [انظروا هل أصبحنا؟ فيخرجون ويقولون: كلا. فيسألهم مرة أخرى: انظروا هل أصبحنا؟ فيرجعون ويقولون: نعم. لقد أصبحنا، فيقول معاذ بن جبل [أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار] . يا سبحان الله! معاذ الشاب الذي نشأ في الإسلام، شاب نشأ في عبادة الله، وعلى طاعة الله، أسلم يا أحبتي في الثامنة عشرة، وهاهو الآن يسلم الروح إلى خالقها جل وعلا في الثالثة والثلاثين، حياته كلها شرف، كلها فخر، كلها عزة، كلها طاعة، ينام على فراش الموت، ويقول: [أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار] . ثم جعل يقول: [مرحباً بالموت مرحباً، زائر جاء بعد غيبة، وحبيب جاء على فاقة، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك ولكني اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنني لم أحب الدنيا لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر] . وفاضت روحه الطاهرة ليلقى الأحبة محمداً وصحبه، رضي الله عن معاذ، وصلى الله على أستاذه ومعلمه، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم معهم في دار كرامته، ومستقر رحمته إنه ولي ذلك ومولاه. أيها الأحبة في الله: هذه قدوتنا، وهذه مثلنا في وقت قدم فيه التافهون والفارغون والساقطون ليكونوا القدوة والمثل، أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن ينهلون من هذا النبع الصافي الكريم، وممن يسيرون ويقتفون أثر هؤلاء الأطهار الأخيار الأبرار، وأن يرزق الأمة -وهو على كل شيء قدير- بأمثال هؤلاء، عسى أن يتقبل الله سبحانه وتعالى منا هذا الدعاء. اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم أقر أعيننا بنصرة دينك يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة الأمر لما تحبه وترضاه، برحمتك يا أرحم الراحمين! وارزقهم اللهم البطانة الصالحة الناصحة الخيرة، أنت ولي ذلك والقادر عليه، وأنت على كل شيء قدير. أحبتي في الله: أكثروا من الصلاة والسلام على حبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله جل وعلا قد أمرنا بذلك في محكم تنزيله فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهوٍ أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 الإمام الشافعي الإمام الشافعي علم من أعلام الأمة وآية في الحفظ والفهم والزهد، فقد حفظ كتاب الله تعالى وعمره سبع سنوات، ثم تعلم العربية الفصيحة من قبيلة هذيل. ثم حفظ موطأ مالك وجد واجتهد، وتنقل وارتحل في طلب العلم حتى حصّل الشيء الكثير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 الإمام الشافعي من أئمة علماء المسلمين إن الحمد لله نحمده ونستعينه نستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ثم أما بعد: أحبتي في الله! فمع اللقاء السادس عشر مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى، تلك السلسلة الكريمة التي نقدمها لأبناء الصحوة خاصة وللمسلمين عامة، لنبرز من خلالها القدوة الصالحة الطيبة، ولنبين من خلالها المثل العليا في وقت قلَّت فيه القدوة، بل وقدم فيه الفارغون والتافهون ليكونوا القدوة والمثال، ولنصحح من خلالها -أيضاً- بعض حقائق التاريخ التي شوّهت وحرّفت وبدّلت، لا سيما بعد فترة التغريب الطويلة التي مسخت الهوية وأضعفت الانتماء. أحبتي في الله! إننا اليوم على موعد مع إمام كبير من الأئمة، وهاهي الأيام تمر، والأشهر تجري وراءها، تسحب معها السنين وتجر خلفها الأعمار، وتطوى حياة جيل بعد جيل، ومن الناس من تفارقنا أجسادهم وأبدانهم، وتبقى سيرتهم حية متحركة فاعلة عاملة، تنشر على الدنيا ربيع علمهم، وعبير فضلهم، وحسن خلقهم، ومع أننا نعيش عصراً حال فيه ضباب المادة، وغيوم المدنية الزائفة عن رؤية صفاء السماء، وما يشرق فيها من شموس وأقمار، وما يلتمع فيها من نجوم وكواكب، أقول: مع هذا كله إلا أن هناك من الأقمار والنجوم ما يبدد نوره ذلك الضباب، وما يخترق نوره تلك الغيوم ليبقى هذا الكوكب وهذا النجم متألقاً مشرقاً ينشر على الدنيا نوره، وينثر على الأرض وعلى الناس ضياءه. ولم لا وهؤلاء حقاً أقمارٌ ساطعة تستمد نورها دائماً وأبداً من شمس النبوة، تلك الشمس الكريمة التي لا يغيب نورها ولا يخبو ضيائها. أحبتي في الله! إننا اليوم على موعد مع إمام كبير من هذا الطراز، مع إمام أراني الآن وأنا أقدمه لحضراتكم في هذه الدقائق المعدودات معدداً مناقبه وفضائله ومآثره، أراني الآن كمن يدل على إشراق الصباح بمصباح، أين نور السها من شمس الضحى، ولم لا وقد قال عنه تلميذه الوفي الذكي النجيب إمام أهل السنة الإمام أحمد: كان كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل ترى لهذين من عوض أو هل ترى لهما من خلف. إنه فقيه الملة وناصر السنة وسيد أهل زمانه، الذي حاز المراتب العالية، وفاز بالمناقب السامية، فهو العالم بالقرآن وعلومه -انتبهوا فهذه رءوس أقلام لا يتسع الوقت لشرحها مفصلة- العالم بالحديث وأصوله، العالم بالفقه وقواعده، العالم باللغة والأدب والشعر وفرائده، العالم بالأنساب وأيام الناس، بل العالم بالطب في زمانه، العابد الزاهد التقي النقي، القرشي ثم المطلبي محمد بن إدريس الشافعي. إننا اليوم على موعدٍ مع الإمام الشافعي، ووالله إني لأحس بخجل شديد وأنا أريد اليوم أن أقدم لحضراتكم الشافعي في هذه الدقائق المعدودات المعلومات، فمن هو الشافعي؟ تعالوا بنا سريعاً لنعيش مع حياة هذا العلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 مولد الشافعي وحياته العلمية ولد الشافعي سنة مائة وخمسين من الهجرة بمدينة غزة على أصح الأقوال لأهل العلم، ولما بلغ الشافعي سنتين انتقلت به أمه الفقيهة العالمة الحكيمة بعد موت أبيه إلى مكة زادها الله تشريفاً وتعظيماً وإجلالاً وتكريماً. وفي ظلال الكعبة، وبين ربوع بيت الله الحرام نشأ الإمام الشافعي، وفي سنٍ مبكرة جداً دفعت أم الشافعي الشافعي إلى شيخ من شيوخ الحرم المكي ليحفظه القرآن الكريم، فحفظ الشافعي القرآن كله في السابعة من عمره، ثم انتقل بعد ذلك إلى طلب العلم الشرعي بشغف شديد، وحافظة عجيبة، وذهن وقاد وحاد على يد أول أستاذ له وهو شيخ الحرم المكي حينذاك، الإمام العلم: مسلم بن خالد الزنجي رحمه الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 رحلة الشافعي إلى الإمام مالك في المدينة يقول الشافعي نفسه: ثم انتقلت بعد ذلك من مكة إلى قبيلة هذيل لأتعلم منها اللغة العربية، فلقد كانت قبيلة هذيل أفصح العرب بياناً ولغة وكلاماً، يقول: فرجعت بعد ذلك إلى مكة لأردد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار وأيام العرب، فلقيني رجل من الزبيريين من بني عمي فقال لي: يا أبا عبد الله! والله إنه ليعز عليَّ ألا يكون مع هذه البلاغة والفصاحة والذكاء فقه. يقول الشافعي: فقلت له: فمن من العلماء نقصده لطلب الفقه؟ يقول الشافعي: فقال لي هذا الرجل: تقصد سيد المسلمين مالك بن أنس في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: فوقعت هذه القولة في قلبي -انتبهوا يا طلبة العلم- يقول الشافعي: فذهبت إلى رجل من أهل مكة علمت أنه يحوي عنده موطأ الإمام مالك، يقول: فذهبت إليه واستعرت منه الموطأ وعكفت عليه، فحفظت الموطأ عن ظهر قلب في تسع ليالٍ، حفظ القرآن وعمره سبع سنين، وحفظ موطأ الإمام مالك في تسع ليالٍ لا في تسع سنين، يقول: فلما انتهيت من حفظ الموطأ أخذت رسالة من والي مكة ومن شيخي وذهبت إلى الإمام مالك، وقص الشافعي رحلة طويلة جميلة عذبة لا يتسع الوقت لسردها. وقال بإيجاز شديد: وصلت إلى الإمام مالك فلما كلمته، وأعجب الإمام مالك بذكائه وفصاحته ولغته وبيانه وإعرابه، قال مالك لهذا: يا غلام! ما اسمك؟ قال: محمد. فقال: مالك: يا محمد! إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية، فإني أرى أنه سيكون لك شأن كبير إن شاء الله عز وجل. ثم قال مالك للشافعي: يا فتى إذا كان الغد تجيء ويجيء من يقرأ لك الموطأ. فقال الشافعي: أنا قارئ، أنا أقرأ إن شاء الله تعالى. يقول: فلما كان الغد أخذت الموطأ في يدي وجلست بين يدي شيخي مالك، وأخذت أقرأ عليه الموطأ من حفظي، وكلما نظرت إلى مالك وتهيبت مالكاً -وكان مالك قد أعجب ببلاغتي وقراءتي وحسن إعرابي- فكلما أردت أن أنهي القراءة في الموطأ نظر إليَّ مالك وقال: زد يا فتى زد يا فتى زد يا فتى، حتى أنهيت الموطأ كله في أيامٍ يسيرة. ثم بعد ذلك، لا تظنوا أن الشافعي أخذ عن مالك الموطأ فقط، وإنما أخذ عنه كل ما عنده من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنني ذكرت آنفاً في اللقاء الماضي -ونحن نتحدث عن مالك - أن الحديث الذي كان يحفظه مالك ليس هو الموطأ فحسب، فأخذ الشافعي الحديث عن الإمام مالك، وأخذ عنه الفقه وفتاوى الصحابة وعمل أهل المدينة رضوان الله عليهم جميعاً. ولبث الإمام الشافعي في المدينة المنورة ملازماً لشيخه ملازمة الظل لصاحبه حتى توفى الله مالكاً رضي الله عنه، ولم يكتفِ الشافعي بعلم مالك، وإنما رحل إلى شيوخ المدينة -وكانت المدينة حينئذٍ تزخر بالأئمة الأعلام والشيوخ الكبار- وأخذ العلم عنهم جميعاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 رحلة الشافعي إلى اليمن ولما توفي الإمام مالك رحل الشافعي مرة أخرى إلى بلد الله الحرام إلى مكة المكرمة، وما لبث الشافعي في مكة إلا قليلاً، ثم رحل الشافعي مرة أخرى إلى بلاد اليمن لطلب العلم، -والله ما كانوا يركبون طيارات، ولا سيارات مكيفة، وإنما يركبون الدواب، إما على الحمار أو على الحصان أو على البغلة ويمشون تحت وهج هذه الشمس الخارقة، ينخفضون في وادٍ ويرتفعون على جبل، أما الآن وقد يسرت لنا بفضل الله جل وعلا جميع وسائل وأدوات طلب العلم إلا أننا نرى تكاسلاً رهيباً، وفرقاً شاسعاً، وبوناً كبيراً بيننا وبين هؤلاء الكرام- رحل الشافعي إلى اليمن، وما لبث الشافعي إلا قليلاً حتى انتشر ذكره، وعلا قدره، وظهر فضله على جميع الشيوخ والعلماء وهو الذي ذهب طالباً للعلم حتى قال له شيخه مسلم بن خالد الزنجي حينما عاد من المدينة إلى مكة، قال له: افتِ يا أبا عبد الله، فإنك الآن أهل للفتيا، وهو غلام حدث صغير. فاق الشافعي أقرانه بل وشيوخه في اليمن، وكان على اليمن والٍ يقال له: حماد البربري، من قبل خليفة المسلمين هارون الرشيد، وكان ظلوماً غشوماً جهولاً يظلم الناس، ولم يصبر الشافعي على هذا، فكثيراً ما كان يندد بظلمه في مجالس علمه، فلما سمع هذا الوالي بذلك، أرسل رسالة إلى خليفة المسلمين هارون الرشيد في بغداد يقول له: إن عندنا رجلاً من ولد شافع المطلبي لا أمر لي معه ولا نهي، فأصدر الخليفة أمراً لهذا الوالي أن يرسله إلى بغداد، وكبل هذا الوالي الشافعي في الحديد والقيود بتهمة الخروج على الدولة -بدعة قديمة حديثة- وذهب به إلى خليفة المسلمين في بغداد التي كانت عاصمة الخلافة حينئذٍ. فلما دخل الشافعي على هارون، قال الشافعي: مهلاً يا أمير المؤمنين، فأنت الراعي وأنا المرعي، وأنت القادر على كل ما تريد مني، ثم قال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في رجلين، أحدهما يراني أخاه، والآخر يراني عبداً له، أيهما أحب إلي؟ قال هارون: الذي يراك أخاه أحب إليك. فقال الشافعي: فهو أنت يا أمير المؤمنين، فإنكم ولد بني العباس، وإننا إخوتكم من بني المطلب، وأنتم تروننا إخوة لكم وهم يروننا عبيداً لهم، فهل يعقل أن أترك من يقول: إني ابن عمه، وأن أذهب إلى من يقول إني عبد له، فاستوى هارون في مجلسه وعلم أنه أمام عالم فذ، وأمام واعظ كبير. ونظر إليه هارون وسعِد سعادة غامرة وقال له: عظني، فوعظه الشافعي حتى أبكاه واخضلت لحيته بالبكاء الشديد، وأمر له هارون بعطاء كبير جداً، يقول الشافعي: والله ما ملكت من قبلها ألف دينار، وعاش الشافعي في بغداد معززاً مكرماً يعلم الناس ويفتيهم، وينشر العلم بينهم، ولم يلبث فيها إلا قليلاً حتى عاد مرة أخرى إلى مكة زادها الله تشريفاً وتكريماً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 رجوع الشافعي إلى مكة كان الشافعي قد وصل إلى مرحلة فريدة في العلم، فجلس الشافعي في مكة يؤصل الأصول، ويقعد القواعد، واتخذ له حلقة في مسجد الله الحرام، جمعت إليه الناس ولفتت إليه الأنظار، وازدحمت حلقة الشافعي ازدحاماً عجيباً، حتى إن الإمام أحمد إمام أهل السنة جاء حاجاً من بغداد من بلاد العراق إلى مكة المكرمة شرفها الله، فترك الإمام أحمد حلقة شيخ الشافعي سفيان بن عيينة، وعكف في حلقة الشافعي، بل ولم يكتفِ الإمام بهذا، إنما ذهب إلى أخيه وصاحب رحلته إسحاق بن راهويه وقال: تعال يا إسحاق أريك رجلاً بـ مكة ما رأت عيناك مثله، يقول إسحاق: فأراني أحمد الشافعي. وأُعجب الإمام أحمد بذكاء وعلم الشافعي إعجاباً رهيباً، لأنه يسمع أصولاً وقواعد لأول مرة يسمعها وغيره من أهل العلم، فإن أول من أصَّل الأصول وقعد القواعد هو الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، حتى قال أحمد قولته الخالدة الجميلة: لولا الشافعي ما تعلمنا فقه الحديث، وقال: كان الفقه مغلقاً على أهله حتى فتحه الله بـ الشافعي، وقال: ما من أحد مس محبرة ولا قلماً بعد الشافعي إلا وله في عنقه منّة، وقال: والله ما أعلم أحداً أعظم منة وبركة على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 إجلال العلماء للشافعي وبعض أقوالهم فيه لما ذهب الشافعي لزيارة الإمام أحمد وهو على فراش المرض -بعدما رحل الشافعي إلى العراق رحلته الثانية مرض أحمد - وكان الشافعي يحبه، كما كان أحمد يحب أستاذه الشافعي، يقول صالح بن الإمام أحمد: وكان أبي عليلاً نائماً في فراشه، فلما دخل عليه الشافعي وجدت أبي قد وثب من فراشه وقام إلى الشافعي وقبله بين عينيه وأجلسه في مكانه وجلس أبي بين قدميه، وجعل أبي يسائله ساعة، فلما قام الشافعي ليركب دابته، قام أبي وأخذ بخطام الدابة يقودها للشافعي، فلما علم يحيى بن معين جاء إلى الإمام أحمد وقال: يا أبا عبد الله! أضطرك الأمر إلى أن تجر خطام بغلة الشافعي؟! -إلى أن تمشي إلى جوار بغلة الشافعي - فقال أحمد: نعم يا أبا زكريا، ولو مشيت أنت من الجانب الآخر لانتفعت كثيراً، والله من أراد الفقه فليلزم الشافعي، حتى جلس الإمام أحمد يوماً في مجلس علمه فقال لطلبته: ما ترون هذا أو عامته -أي: من علمٍ- فإنما هو من الشافعي، ثم قال: والله ما بتُّ منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو الله للشافعي، حتى قال له ولده عبد الله يوماً: يا أبتِ! من هذا الشافعي الذي أراك تكثر الدعاء له؟ فقال الإمام أحمد: يا بني إن الشافعي كان كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو لهما من عوض. هذا قول الإمام أحمد -وهو من هو- في أستاذه الشافعي. وقال فيه أيضاً إمام الجرح والتعديل يحيى بن سعيد القطان: "والله ما رأيت أعقل ولا أفقه من الشافعي " وقال الإمام العلم أبو القاسم عبيد الله بن سلام: والله ما رأيت أفقه ولا أفهم من الشافعي، ولو استطردت مع أقوال الأئمة من أئمة الجرح والتعديل لطال بنا المقام، وكفانا أن نستمع إلى قول أحمد في الشافعي رضي الله عنهما بل وعنهم جميعاً. وهكذا أيها الأحبة! اشتهر ذكر الشافعي وعلا فضله، وسما قدره، وحكم له شيوخه وأساتذته بالفضل، حتى كان الشافعي يجلس في حلقة شيخه سفيان بن عيينة فإذا ما جدت مسألة لـ سفيان نظر سفيان إلى الشافعي وسأله عنها فأجاب الشافعي، فسعد سفيان بإجابة الشافعي وقال قولته التي تكررت كثيراً: جزاك الله خيراً يا أبا عبد الله، والله لا يأتينا منك إلا ما هو خير، هذه شهادة من أستاذه الذي جلس الشافعي في حلقته ليجيب بدله يوماً من الأيام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 رحلة الشافعي إلى مصر أيها الأحبة! وبعد فترة قليلة رحل الشافعي في سنة مائتين -هذا بإيجاز شديد- إلى مصر، وهذه الفترة تعتبر من أهم الفترات العلمية والفقهية في حياة الإمام الشافعي، حيث أعاد النظر في بعض كتبه كالرسالة، وكتاب الحجة، وألف الشافعي في مصر كتابه الشهير المعروف بكتاب الأم، وهو عبارة عن كتاب ضخم يحوي كتباً كثيرة ألفها الإمام الشافعي في مصر، ولذا إذا قرأتم في كتاب من الكتب قاله الإمام الشافعي في القديم، فاعلموا أن هذا ما قاله الشافعي في بلاد العراق، وإذا قرأتم: قاله الشافعي في الجديد، فاعلموا أن هذا ما قاله الشافعي في مصر، وهذا دأب العالم المخلص المتجرد الذي يدور مع الدليل الصحيح ومع الحق حيث دار، ولا عيب في ذلك -على الإطلاق- على الإمام الشافعي، فقد يدلل بدليل ثم بعد ذلك يتضح له أن هذا الدليل دليل ضعيف، فيعرض عنه، ويأتي بدليل صحيح آخر، وهذا دأب العلماء المخلصين المتجردين لله جل وعلا، الذين يدورون مع الدليل الصحيح حيث دار، ويدورون مع الحق دائماً وأبداً حيث دار. وانتشر ذكر الشافعي في مصر، وأتاه الناس من كل مكان، بل ومن كل بلد آخر غير مصر، وازدحمت حلقة الشافعي ازدحاماً لا عهد لأهل مصر به من قبل، كان المكان يضيق بطلبة الشافعي، وكان يجلس بين يديه الشيوخ الكبار فضلاً عن طلبة العلم، لأن الله تعالى قد آتاه حجة قوية، وعذوبة لسان، وفصاحةً وبياناً ومنطقاً وبلاغةً. ومن أجمل ما قرأت في هذا أن تلميذ الشافعي الإمام المزني، ذهب إليه يوماً، يقول المزني: خطر بخاطري مسألة تتعلق بذات الله -انتبهوا إلى حجة الشافعي أيها الأحبة- فقلت: لا يخرج ما في ضميري إلا الشافعي، فذهبت إليه في مجلسه وسألته عنها، فغضب الشافعي ونظر إلي وقال: أبلغك أن الله تبارك وتعالى قد أمر بالسؤال عن هذا؟ قال: لا. قال: أبلغك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمرك بالسؤال عن هذا؟ قال: لا. قال: أبلغك أن الصحابة رضوان الله عليهم قد تكلموا في هذا؟ قال: لا. قال: فكم نجماً في السماء؟ قال: لا أعلم. قال: فكوكب منها أتعلم جنسه وطلوعه وأفوله ومم خلق؟ قال: لا. فقال الشافعي: فشيء تراه بعينك من خلق الله عز وجل لا تعلمه، تتكلف أن تعلم خالقه جل جلاله. ثم قال الشافعي: يا هذا! إذا هجس في خاطرك شيء من هذا فارجع إلى الله تبارك وتعالى وارجع إلى قوله جل وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164] ثم قال له الشافعي: فاستدل بالمخلوق على الخالق، ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك. انظر لتلك الشجره ذات الغصون النضره كيف نمت من حبةٍ وكيف صارت شجره ابحث وقل من ذا الذي يخرج منها الثمره ذاك هو الله الذي أنعمه منهمره ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدره سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذه الصحاري والجبال الرواسيا سل الزهر مزداناً سل الروض والندى سل الليل والإصباح والطير شاديا وسل هذه الأنسام والأرض والسما سل كل شيء تسمع التوحيد لله ساريا ولو جن هذا الليل وامتد سرمدا فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا أإله مع الله؟ لا رب غيره ولا معبود سواه. قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداكا قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا بل سائل الأعمى خطا وسط الزحا م بلا اصطدام من يقود خطاكا بل سائل المبصر يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواكا وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راعٍ ومرعى ما الذي يرعاكا وسل الوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة ما الذي أبكاكا وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا بل سائل اللبن المصفى بين فر ث ودم من ذا الذي صفاكا أإله مع الله. فاستدل بالمخلوق على الخالق، ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:33-40] أإله مع الله؟!!! لا رب غيره ولا رب سواه. الله ربي لا إله سواه هل في الوجود حقيقة إلا هو الشمس والبدر من أنوار حكمته والبر والبحر فيض من عطاياه الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناجاه والنمل تحت الصخور الصم قدسه والنحل يهتف حمداً في خلاياه والناس يعصونه جهراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه أإله مع الله؟!! لا رب غيره ولا معبود سواه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 موت الشافعي رحمه الله وفي السنة الرابعة بعد المائتين، أي: في الرابعة والخمسين من عمره نام الشافعي على فراش الموت بعد ما اشتد به المرض، ودخل عليه تلميذه المزني ليقول له: كيف أصبحت؟ فقال الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ووالله لا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها، وبكى الشافعي رضي الله عنه، ونظر إلى السماء وناجى ربه جل وعلا وقال: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما ما زلت ذا عفوٍ عن العبد لم تزل تجود وتعفو منةً وتكرما ولقي الشافعي ربه جل وعلا بعد هذه المناجاة الرقيقة التائبة الآيبة إلى الله عز وجل، فرحم الله الشافعي رحمة واسعة، وجزاه الله عنا وعن المسلمين والإسلام خير ما جزى صالحاً أو مصلحاً. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 من تعصب للشافعي على خلاف السنة فقد خالف الشافعي الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيا أيها الأحبة! ها هي قفزات سريعة في سيرة هذا الإمام العلم، لأنه لا يتسع الوقت أبداً لسرد حياة هذا الإمام، والوقوف مع عبادته وتقواه وورعه وزهده، ومع فنونه في علوم القرآن، ومع أصوله التي وضعها لعلوم الفقه، ومع أصوله التي وضعها لعلوم الحديث، لا يتسع المجال أبداً لهذا. ولكن أقول: الشافعي بشر، يخطئ ويصيب، فكلٌ يؤخذ منه ويرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد أبى الله جل وعلا أن يلبس ثوب العصمة إلا حبيبه المصطفى، فإلى كل متعصب لمذهب الإمام، وإلى كل متعصب للإمام نفسه، أقول له: اعلم أنك قد خالفت إمامك، وخرجت على قواعد مذهب إمامك يوم أن تعصبت له، وتعصبت للمذهب مع مخالفة للدليل من القرآن والسنة الصحيحة، فإن من أروع ما سطره الإمام الشافعي أقواله الخالدة التي يقول فيها: ما من أحدٍ إلا وتذهب عنه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: لا يعلمها، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل ووضح فيه خلاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولي فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قولي، وإني راجع عن قولي في حياتي وبعد مماتي. وقال رضي الله عنه: [إذا صح الحديث فهو مذهبي] وقال رضي الله عنه: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط، وقال: لقد ألفت هذه الكتب ولم أقصر فيها، أي: اجتهدت فيها على قدر استطاعتي، ولم أقصر فيها إلا أنه وجب أن يكون فيها من الخطأ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] فما وجدتم في كتبي من قول يخالف قول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلموا أني راجع عن قولي في حياتي وبعد مماتي. ذلكم هو الشافعي الإمام الذي يتبرأ من كل تعصب بغيض أعمى لقوله، مع أنه قد يكون خالف هذا الدليل الصحيح من القرآن والسنة الصحيحة. فيا أيها الأحبة! يا أبناء الصحوة خاصة! ويا أيها المسلمون عامة! عودٌ حميد إلى المعبود الكريم الحميد، إلى النبعين الصافيين الكريمين إلى القرآن والسنة الصحيحة، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق، وكل واحد من الأئمة والشيوخ والعلماء يؤخذ من قوله ويرد عليه، لا تنقادوا لأحد انقياداً أعمى، ولا تسلموا لكل أحد تسليماً كاملاً، فكل بشر على ظهر الأرض يصيب ويخطئ، وقد أبى الله إلا أن يلبس ثوب العصمة أحد إلا حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكلٌ يؤخذ منه ويرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فعود إلى النبعين الصافيين الكريمين الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهما كما ورد في الحديث الذي رواه الإمام مالك في الموطأ ورواه الإمام الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس وأبي هريرة وحسن الحديث شيخنا الألباني في الصحيحة وصحيح الجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنتي) وفي لفظ أبي هريرة في مستدرك الحاكم: (وإنهما لن يفترقا حتى يردا الحوض عليَّ يوم القيامة) . فيا أيها الأحبة! عودة إلى القرآن والسنة الصحيحة، والأقوال التي توافق السنة الصحيحة لأهل العلم والفضل، أما أن نتعصب لأحد بعينه، ولإمام بشخصه، وأن نأخذ كلامه على أنه تشريع لا يقبل المناقشة، ولا يقبل المداولة، ولا يقبل العرض على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله، فهذا انقياد بغيض أعمى وتعصب بغيض ذميم، رده كل إمام من الأئمة المعتبرين، وقد سمعتم قولة الشافعي، وقبلها قولة مالك، وقبلها قولة أبي حنيفة: إذا صح الحديث فهو مذهبي. أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرد الأمة إليه رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام والمسلمين، اللهم أصلح حكامنا، ووفق علماءنا، واستر فتياتنا، واستر نساءنا، واستر شبابنا برحمتك يا رب العالمين، اللهم من كان منا على طاعة فزده طاعة على طاعته، وتوفيقاً وتثبيتاً برحمتك يا رب العالمين، ومن كان منا على معصية فخذ بقلبه إليك ورده إليك رداً جميلاً يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى. أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد كما أمرنا الله جل وعلا في محكم كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . والحمد لله رب العالمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 زينب بنت جحش تضمن الدرس سيرة أم المؤمنين زينب بنت جحش، وفضلها، وذكر هجرتها مع أسرتها، وزواجها من زيد بن حارثة ترسيخاً لمبدأ التفاضل بالتقوى لا غير، وطلاقه لها ثم تزويج الله إياها لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لإبطال قاعدة التبني التي ترسخت في عقول الناس في الجاهلية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 من سيرة أم المؤمنين زينب رضي الله عنها إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه القلوب الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله: هذا هو لقاؤنا الثاني عشر وما زلنا بتوفيق الله جل وعلا نطوف مع حضراتكم في بستان سير أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ذلكم البستان الذي لا ينقطع عبيره، ولا ينتهي شذاه، ولا تذبل أزهاره، ولا تموت وروده، ولا يُشبع من رحيقه أبداً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 فضائلها رضي الله تعالى عنها تعالوا بنا اليوم لنعيش في بيت النبوة مع الصوامة القوامة، مع الخاشعة العابدة، مع الورعة الزاهدة، مع التقية النقية، إنها أطول نساء النبي يداً، أي: أعظم نساء النبي صلى الله عليه وسلم صدقةً وإنفاقاً وبراً ورحمةً وإشفاقاً. إنها أم المساكين وسكن الأرامل واليتامى والمحتاجين، إنها الشريفة الطاهرة التي جمعت الشرف من جميع أطرافه وأسبابه، وحازت الفضل من جميع أبوابه، فزوجها أشرف خلق الله، وأمها عمة رسول الله، وخالها كوكب الأصفياء وسيد الشهداء حمزة، وأخوها هو صاحب أول راية عقدت في الإسلام، وأول من لقب بأمير المؤمنين، إنها الشريفة الطاهرة التي أثنت عليها السيدة عائشة ثناءً عاطراً زكياً فقالت عنها: [هي التي كانت تساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت امرأة خيراً في الدين ولا أتقى لله، ولا أصدق في الحديث، ولا أوصل لرحم، ولا أعظم صدقة منها رضي الله عنها وأرضاها] . إنها الشريفة الفاضلة التي أثنت عليها عائشة في موضعٍ آخر ووقت آخر، وقالت كما ورد في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده وابن سعد في الطبقات وسنده حسنٌ وله شاهدٌ في صحيح مسلم، أثنت عائشة على هذه الشريفة الفاضلة فقالت عنها: (لقد نالت الشرف الذي لا يبلغه شرف في هذه الدنيا، فلقد زوجها الله نبيه صلى الله عليه وسلم ونطق به القرآن الكريم، ولقد قال لنا النبي عليه الصلاة والسلام: أطولكن يداً، أسرعكن لحوقاً بي) فبشرها النبي صلى الله عليه وسلم بسرعة لحوقها به وهي زوجته في الجنة. أعلمتم من هي؟ إنها التقية النقية الشريفة الطاهرة الفاضلة التي كانت تفخر على جميع زوجات النبي بهذا الفخر، وبهذا الشرف الكبير وتقول لهن: [لقد زوجكن أهلكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات] إنها أُمنا أم المؤمنين: زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها التي زوجها الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سماوات كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري: [كانت زينب تفخر على زوجات النبي وتقول: لقد زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات] فمن هي زينب بنت جحش؟ وما الذي نعرفه عن أمنا رضي الله عنها؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 نسبها ودخول أسرتها في الإسلام زينب ولدت في مكة قبل البعثة في بيت شرف وحسب ونسب، ولما بدأت نسمات الإسلام تفوح بأريجها العطر في أم القرى، وبدأ أصحاب العقول الزكية النقية يقبلون على هذه الدعوة الجديدة بقلوبٍ متعطشة للتخلص من براثن الجاهلية، كان من أوائل من شرح الله صدورهم للحق أخو زينب؛ عبد الله بن جحش رضي الله عنه وأرضاه. وما إن أسلم عبد الله بن جحش حتى أعلنت الأسرة كلها إسلامها لله جل وعلا، وأثار المشركين في مكة انتشار الإسلام بسرعة مذهلة، وأقض ضاجعهم في مكة انتقال الإسلام من مكة إلى المدينة المنورة وانتشاره في المدينة بسرعة منقطعة النظير. وبدأ المشركون في مكة يصبون جام غضبهم على الموحدين في مكة، وتحت وطأة هذا العذاب وهذه الآلام أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين أن يهاجروا من مكة إلى المدينة المنورة، وكان من بين هذه الأسر الكريمة التي هاجرت من مكة إلى المدينة أسرة بني جحشٍ رضي الله عنهم جميعاً، وعلى رأسهم السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 زينب وإرساء قواعد المجتمع الإسلامي الجديد ثم بعد ذلك أيها الأحبة! هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبدأ يرسي قواعد المجتمع الإسلامي، ويحطم ويدك قواعد المجتمع الجاهلي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ميزان عادل فإن من أهم القواعد التي أرساها النظام الإسلامي الجديد في المدينة قاعدة جليلة عظيمة كبيرة شاقة على هذه النفوس التي عاشت طوال هذه السنوات في الجاهلية ألا وهي: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] . ومن أهم وأخطر القواعد الجاهلية التي جاء النظام الإسلامي بتحريمها وببطلانها وبدكها من قواعدها قاعدةً خطيرةً سائدة في المجتمع الجاهلي ألا وهي: قاعدة التبني. قاعدة أرساها الإسلام وقاعدة دكها من أصولها. أما الأولى فهي: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . وأما الثانية: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] . وشاء الله جل وعلا لإرساء القاعدة الأولى، وإلغاء القاعدة الثانية أن ينتدب لهذه المهمة الصعبة العسيرة الشاقة القدوة الطيبة، والأسوة الحسنة، والمثل الأعلى محمداً صلى الله عليه وسلم، لتحويل هذه الحقائق إلى واقعٍ متحرك، وإلى مجتمع منظور، وراح النبي عليه الصلاة والسلام يسقط جميع فوارق وقيم الجاهلية، ويصرخ في الناس بأعلى صوته ويقول: (دعوها فإنها منتنة) . وراح النبي صلى الله عليه وسلم يعلن للناس قيماً جديدةً، وميزاناً عادلاً يتحاكم ويرجع إليه الناس، وينادي فيهم بأعلى صوته ويقول: أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] . ذلكم هو الميزان العادل الذي لا محاباة فيه لأحد عند الله جل وعلا؛ لا يرفع الشريف عند الله شرفه، ولا ينزل الوضيع عند الله وضاعته، والميزان إنما هو التقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 زيد بن حارثة وزواجه بزينب وحتى يحول النبي صلى الله عليه وسلم هذه القيم والمثل العليا إلى واقعٍ ملموس، وإلى مجتمعٍ متحرك ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ليطبق على نفسه وعلى آل بيته هذه القواعد الكبيرة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم مولاه وخادمه زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه ليخطب له أشرف امرأة في مكة، ليخطب له ابنة عمته زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاه. وانتبهوا أيها الأحبة في الله! أقول: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليحول هذه القواعد والمثل العليا إلى واقع ملموس، وإلى مجتمع متحرك، ذهب ليخطب ابنة عمته زينب بنت جحش رضي الله عنها لخادمه ومولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، والحق أقول: إن زيداً لم يكن عبداً من العبيد، ولم يكن رقيقاً من الرقيق، وإنما زيدٌ من كرام العرب الأفاضل الشرفاء، فما الذي جاء به رقيقاً وعبداً إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ القصة بطولها ذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة وألخصها لكم: إن زيداً خرجت به أمه في يومٍ من الأيام لتزور أهلها، فأغار عليهم قومٌ فأخذوا زيداً وباعوه بعد ذلك في سوق عكاظ، فاشتراه في هذا اليوم حكيم بن حزام وأهداه بعد ذلك إلى عمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها، ولما تزوج النبي خديجة رضي الله عنها ورأى زيداً عندها، أعجب النبي بأدب زيد وفطرته وذكائه. فلما رأت خديجة ذلك قالت: [هو لك يا رسول الله] وأهدت خديجة زيداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعتق النبي من يومها زيداً رضي الله عنه وأرضاه، وأحبه النبي صلى الله عليه وسلم حباً شديداً. ولكن أبا زيد كان لا يهدأ في ساعة من ليلٍ أو نهار، وكان يسأل عنه الركبان في كل مكان ومن كل مكان. ولما سمع أبوه أن ابنه عند محمد بن عبد الله بجوار الحرم في مكة -زادها الله تشريفاً- انطلق أبوه مع أخيه أي: مع عم زيد وأخذا الفداء وانطلقا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ودخلا على النبي في بيت الله الحرام وقالا للنبي عليه الصلاة والسلام: يا بن عبد المطلب يا بن سيد قومه! لقد جئناك في ولدٍ لنا عندك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ومن؟ قالوا: زيد بن حارثة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أو غير ذلك -أي: هل تظنون أني أفعل غير ذلك- بل ادعوه وخيروه فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فما أنا بالذي يختار على الذي يختارني فداء فقال أبوه وعمه: لقد زدت على الإنصاف يا بن عبد الله، ودعا النبي زيد بن حارثة رضي الله عنه وخيره النبي عليه الصلاة والسلام بعدما قال له: يا زيد أتعرف هؤلاء؟ قال: نعم. هذا أبي وهذا عمي، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: إن شئت ذهبت معهما وإن شئت ظللت معي. أتدرون ماذا قال زيدٌ أيها الأحباب؟ نظر زيد إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: والله ما أنا بالذي يختار عليك أحداً. إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث بعد، فما الذي جعل زيداً رضي الله عنه يختار النبي قبل البعثة؟ فما ظنكم به بعد البعثة؟ نظر زيد إلى الحبيب وقال: والله ما أنا بالذي يختار عليك أحداً، ففزع أبوه وعمه، ونظر إليه أبوه وقال: يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهلك؟ فنظر زيدٌ إلى أبيه وعمه وقال: والله لقد رأيت من هذا الرجل شيئاً وما أنا بالذي يفضل عليه أحداً قط. فبالله عليكم ماذا يفعل الحبيب أمام هذه الأخلاق السامقة؟ ماذا يفعل الحبيب أمام هذا الخلق العالي الغالي الشريف؟ أمام هذا الشاب الذي أصم الجميع بخلقه وفصاحة لسانه وحبه الذي تمكن من قلبه لمحمد بن عبد الله؟ ما كان من صاحب الأخلاق صلى الله عليه وسلم إلا أن أخذه من يده وذهب به إلى الناس ووقف في الحجر ينادي على الناس ويقول: أيها الناس! اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فلما رأى أبوه وعمه ذلك انطلقا وقد طابت أنفسهما، فأي شرفٍ وأي فخرٍ أن يلقب زيد من هذا اليوم بـ زيد بن محمد؟ ومن يومها ما دعي زيدٌ إلا بهذا زيدٌ بن محمد، أي شرف وأي فخرٍ لك يا زيد؟ وأحب النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا اليوم زيداً حباً شديداً، حتى ورد في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده وابن سعد ورواته ثقات والحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي وحسنه الحافظ ابن حجر في الإصابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ زيد: (يا زيد أنت مولاي مني وإلي وأحب القوم إلي) . وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما لما ولى النبي أسامة بن زيد بن حارثة إمرة الجيش طعن الناس في إمارته، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن تطعنوا في إمارته فلقد طعنتم في إمارة أبيه زيدٍ من قبل، وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإنه لمن أحب الناس إلي، وإن ابنه هذا لمن أحب الناس إلي بعده) هذه مكانة زيد في قلب النبي أيها الأحباب. أخذ النبي صلى الله عليه وسلم زيداً وذهب ليخطب له شريفةً عظيمةً كريمة طاهرة من شريفات مكة، زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، ودخل النبي على زينب، وكلم النبي زينب وحدثها وحدثته وقال لها: (يا زينب لقد جئت اليوم أخطبك لـ زيد بن حارثة قالت: لا. أنا أيم قومي، وبنت عمتك، وأنا أشرف منه نسباً والله ما أنا بفاعلة، قال لها الرسول عليه الصلاة والسلام: ولكني قد رضيته لك يا زينب، قالت: ولكني لا أرتضيه لنفسي) قوة عجيبة! ولكني لا أرضاه لنفسي، وظل النبي يحاورها وترد عليه بمنتهى القسوة والشدة والغلظة أنا أشرف منه نسباً يا رسول الله، وما نست زينب أن زيداً رضي الله عنه ما دخل بيت أهلها إلا عبداً وتنظر إليه من هذا المنظار، أنا أشرف منه نسباً وإن رضيته أنت لي زوجاً يا رسول الله فلن أرضاه لنفسي، ووالله لن أفعل ذلك، فنزل قول الله جل وعلا الذي يعلم السر وأخفى، ويسمع دبيب النملة السوداء تحت الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، إن كل شيء في هذا الكون لا يغيب عن بصر الله ولا عن سمع الله. نزل قول الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] الله أكبر! أي بيانٍ هذا؟ وأي إنذار؟ (وما كان لمؤمنٍ) أي: زيد، (ولا مؤمنة) أي: زينب، {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] . إذا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم فيجب على كل مؤمنٍ ومؤمنة أن يقولا لله ورسوله: سمعنا وأطعنا، لا يختار لنفسه بعد اختيار الله، وبعد اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] واسمع إلى هذا التهديد الرهيب: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] فلما قرأ النبي الآيات على زينب رضي الله عنها وأرضاها، وهي صاحبة القلب التقي النقي نظرت إليه صلى الله عليه وسلم وقالت: (قد أطعتك يا رسول الله فاصنع ما شئت) . إنه الاستسلام المطلق لأوامر الله ورسوله، ولا خيار، إنه الإيمان أو لا إيمان؛ إما إذعان لأوامر الله وإذعان لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك هو الإيمان في أجل وأعلى مراتبه، وإما إعراض عن أوامر الله وإعراض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم الطاعة لهما، وهذا هو الكفر بعينه. (قد أطعتك فاصنع ما شئت يا رسول الله) ، إن هذه العبارة تحتاج منا إلى جمعة كاملة، ذلكم المقوم الكبير مقوم الاستسلام لله جل وعلا الذي به استحقوا أن يكونوا أهلاً لحمل هذه الأمانة بقوة وجدارة واقتدار. فزوج النبي زيداً زينبَ رضي الله عنهما، ولكن إذا تنافرت القلوب تنافرت الأبدان، وإن الحياة الزوجية إن خلت من الحب والمودة والرحمة أصبحت كالجسد الميت إن لم يدفن فاح عفنه ونتنه، ودفنه هو: الطلاق، تلبدت سماء هذا الزواج بالغيوم الداكنة السوداء التي زادت يوماً بعد يوم، ولم تنس زينب رضي الله عنها أن زيداً ما دخل إلى بيت أهلها إلا عبداً، وأحس زيد رضي الله عنه استعلاء زينب وترفعها عليه، وزيدٌ العربي الكريم الأبي لا يقبل هذه العزة وهذا الاستعلاء أبداً. ويذهب زيد إلى حبيبه رسول الله ويشكو إليه عيشته مع زينب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أمسك عليك زوجك واتق الله) ويرجع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 زواج النبي من زينب وإبطاله لقاعدة التبني وفي يومٍ من الأيام علم النبي صلى الله عليه وسلم أن زيداً حتماً سيطلق زينب لماذا؟ لأن جبريل عليه السلام جاءه وأخبره أن زينب ستكون من زوجاته رضي الله عنهن، وأن الله تعالى سيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتزوجها بعد تطليق زيدٍ لها لإلغاء القاعدة الثانية التي ذكرتها، ألا وهي قاعدة التبني. ولما أخبر النبي بذلك على الرغم من قوته وجرأته وشهامته في مقابلة قومه في مسألة التوحيد والشرك، لما علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أخفى في نفسه ما يعلم يقيناً أن الله سيظهره ويبديه، وخشي ما الذي سيردده الناس من المرجفين والمنافقين، بل وكيف سيستقبل المجتمع الإسلامي هذا التغيير الكبير؟ كيف يقول الناس: إن محمداً قد تزوج امرأة ابنه وكانت امرأة الابن بالتبني محرمة حتى ولو طلقها الابن بعد ذلك، هذا قانون جاهلي، ولكن الله جل وعلا أراد أن يدك هذا القانون، وأن يحرمه ويغيره. وخاف النبي عليه الصلاة والسلام أن يواجه المجتمع بهذا التغيير الجذري العميق، ويرجع إليه زيد، فيقول له: (أمسك عليك زوجك واتق الله) بعدما علم يقيناً أنه سيطلقها وأنها ستكون زوجته بأمر الله جل وعلا لإلغاء التبني الذي حرمه الإسلام، ونزل العتاب الشديد -ولو كان النبي كاتماً شيئاً من الوحي لكتمه- نزل قول الله جل وعلا يعاتب حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي خشي أن يواجه المجتمع بهذا التغيير الجذري وبهذه القاعدة الجديدة الكبيرة، وأخفى في نفسه هذا الأمر وهو يعلم أن الله سيظهره وسيبديه، نزل قول الله جل وعلا: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] الأمر والزواج من الله {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [الأحزاب:37] وإذ تقول يا محمد صلى الله عليه وسلم للذي أنعم الله عليه، لـ زيد بن حارثة الذي أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعم عليه بالقرب منك وأنعم عليه بتربيتك له في بيتك وعلى مائدتك وبيديك يا رسول الله {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37] بالعتق والتربية، {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37] وهو أن زيداً سيطلق زينب وتتزوجها من بعده {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ} [الأحزاب:37] أي شرفٍ هذا الذي أقول؟ أقول: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ} [الأحزاب:37] هل ذكر اسم زيدٍ في القرآن؟ نعم. إنه الصحابي الوحيد والرجل الوحيد في أمة المصطفى الذي خلد الله اسمه وذكره في القرآن إلى يوم القيامة. {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] الزواج من الله، تزوج النبي زينب بغير ولي وبغير شاهدٍ وبغير عقد؛ لأن الذي زوجها من فوق سبع سماوات إنما هو الله جل جلاله، فلما نزلت الآيات بعدما طلقت زينب وانقضت عدتها، قام النبي عليه الصلاة والسلام فدخل عليها بيتها بغير إذنٍ ولا ولي ولا شاهد، وكانت زينب تفخر بذلك على زوجات النبي وتقول: [لقد زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات] هذا هو معنى الحديث. يقول أنس بن مالك -والحديث في صحيح مسلم -: [فلما دخل النبي على زينب بنت جحش ذهبت أدخل معه إلى البيت فأرخى النبي بيني وبينه الستر ونزلت آية الحجاب] وهذه بركة أخرى من بركات زينب رضي الله عنها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 الرد على افتراءين على النبي صلى الله عليه وسلم لأجل زواجه بزينب زوج الله رسوله صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سماوات وانتهت القضية، إلا أن المجتمع لم يستقبل هذه القاعدة الجديدة بيسرٍ وسهولة، إنه نظام عميق امتد بجذوره إلى أعماق المجتمع. لم يستقبل المجتمع الإسلامي هذا الأمر بيسرٍ وسهولة، وانطلق المنافقون والمرجفون يرددون العبارات والكلمات: لقد تزوج محمدٌ حليلة ولده، لقد تزوج محمدٌ زوجة ابنه وترددت الكلمات والإشاعات في المدينة المنورة والنبي صلى الله عليه وسلم يتألم، إلا أن الله جل وعلا ما أهمل هذه القاعدة، بل نزل القرآن يؤكدها ويوضحها ويبين للناس أن الأمر سهل ميسور، إن علاقة النبي بـ زيدٍ والمسلمين جميعاً هي علاقة النبي بقومه، وما كان زيد قط ابناً لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إنما هو زيد بن حارثة، ونزل القرآن يوضح هذه الحقائق ويرفع الحرج عن قلب حبيبه صلى الله عليه وسلم، فنزل قول الله جل وعلا: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب:38] إن فرض الله، وإن تشريع الله هو الذي ينبغي أن ينفذ وأن يطبق: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:38-39] . ويبين الله جل وعلا علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بـ زيد {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب:40] هو الذي يعلم ما يصلح خلقه وهو الذي يعلم ما يفسد خلقه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 الافتراء الأول والرد عليه وهكذا أيها الأحباب: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بـ زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها، وتنتقل زينب إلى بيت النبي لتصبح من هذا اليوم أماً من أمهات المؤمنين، وزوجةً لرسول رب العالمين وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. أي شرفٍ هذا وأي فخرٍ تفتخر وتشرف به زينب أن يزوجها الله ولمن؟ لرسوله صلى الله عليه وسلم. ولكن هناك عقولاً أنهكها التحلل الأخلاقي وراحت تلهث وراء هذه النصوص الواضحة للي أعناقها لياً كبيراً للنيل من أطهر وأشرف رجلٍ عرفته الدنيا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وسقط في هذه الهوة السحيقة الكبيرة بعض محترفي وصناع الوضع، ووضعوا الأحاديث وروجوا الإشاعات وسجلوا الأكاذيب. ومما يؤلم القلب أنني وأنا أعد لخطبة زينب رضي الله عنها قرأت كثيراً وكثيراً فوجدت أن كثيراً من أمهات المراجع قد لوثت بهذا الخبر المكذوب الموضوع الذي نقله كثيرٌ منهم لبطون كتبهم بغير تدقيق ولا تمحيص لا للسند ولا للمتن، سأرد الآن بإيجاز على افتراءين وعلى تهمتين. أما الافتراء الأول: فخلاصته في خبرٍ موضوعٍ مكذوبٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- ذهب إلى زيدٍ ليزوره في بيته يوماً فهبت ريحٌ فكشفت الستر فرأى النبي زينب بنت جحش فوقعت في قلبه، فانطلق النبي وهو يقول: سبحان الله العظيم! سبحان من يقلب القلوب! هذه خلاصة الخبر المكذوب الموضوع، ومن يومها أراد النبي أن يتزوج زينب رضي الله عنها، أي سفه هذا؟ والله إنه لا يقبل هذا الأتقياء فما ظنكم بسيد الأنبياء، والله لا يقبل تقيٌ أن ينظر إلى زوجة أخٍ من إخوانه، وأن يتمنى أن يتزوجها بعده، أو وهي معه في حياته فكيف بسيد الطاهرين محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وأنا أعجب! من الذي زوج زينب بـ زيد؟ من الذي ذهب إليها؟ من الذي كلمها؟ من الذي خطبها؟ ألم يرها النبي عليه الصلاة والسلام مع أن النساء لم يكن يحتجبن من الرجال قبل نزول آية الحجاب وهي ابنة عمة النبي عليه الصلاة والسلام التي تربت معه في بيته وبين أهله، أي سفه هذا؟ هل ما رأى النبي زينب إلا في هذا اليوم الذي تفننوا فيه ونسجوا له إخراجاً سينمائياً حقيراً على غرار هؤلاء الأقزام بأن ريحاً هبت كشفت الستر فرأى النبي زينب فوقعت في قلبه! ما هذا؟ هذا يليق بقصة ينسجها مخرجٌ صاحب عقلٍ عفن. أما النبي؛ أما سيد الطاهرين؛ أما سيد النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فوالذي نفسي بيده ما رأت البشرية أنقى ولا أطهر ولا أخجل ولا أصدق ولا أعف من محمدٍ صلى الله عليه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 الافتراء الثاني والرد عليه وأما الافتراء الثاني الذي أكل عليه المستشرقون وشربوا قالوا: بأن النبي كان رجلاً شهوانياً لا تحركه إلا الشهوة. من أمثال الحقراء الأقزام ديرمنجم، مهير، أيرفينبخ، لا منس وغيرهم وغيرهم من أفراخهم الذين تربوا على موائدهم وحجوا إلى قبلتهم، وشربوا من مستنقعهم القذر، وعادوا لينسجوا نسجهم في أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت لا تحركه إلا الشهوة، والحق أقول لكم: إن كثيراً من الكتاب والأدباء والمفكرين الإسلاميين الذين ردوا على هذه الفرية ردوا رداً بالغ الهزال، لماذا؟ لأنهم انطلقوا في ردودهم من موقع الهزيمة النفسية، وبأنهم في قفص الاتهام مع نبيهم ويجب أن يدافعوا، سبحان الله! ولكن يجب على كل مسلم أن يعي هذا الأمر جيداً. أولاً: إن ردَّ فليعلم أنه يجب عليه أن يرفع هامة رأسه عالية لتعانق الجوزاء، وأن يمد رقبته خفاقة لتمتد إلى عنان السماء وليعلم أننا إن رددنا، فمن أهل الأرض جميعاً؟ من أهل الكفر؟ ومن أهل النفاق؟ ومن أهل القلوب المريضة لينالوا من أطهر رجلٍ عرفته الدنيا؟ وهل يضر السماء نبح الكلاب؟ وثانياً: إن ردَّ فينبغي أن يعي جيداً أن لا يجعل نفسه ورسوله في موضع اتهام فيجعل من نفسه محامياً يدافع عن الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ من أنت ومن أنا؟ ومن أهل الأرض جميعاً لينالوا من أشرف مخلوق عرفته الدنيا؛ من محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وإنما نحن لا نرد على هذه الافتراءات إلا لأمرين اثنين. الأول: لنبين لهؤلاء المستشرقين أنهم يتعمدون الكذب، ويتعمدون التزوير للحقائق، ويتعمدون ليَّ أعناق الحقائق ليّاً. والأمر الثاني: لنبين للمسلمين الذين انخدعوا بأفكار وآراء هؤلاء المستشرقين الذين تربوا على موائدهم، وفرخوا في أحضانهم، لنبين لهم الحق حتى لا تزل قلوبهم والعياذ بالله. فأقول في إيجاز: إن الشواهد الواقعية والوقائع التاريخية الملموسة تقول وترفع صوتها بأن الرجل الشهواني الذي لا يتحرك إلا بالشهوة ولا تحركه إلا الشهوة حتماً ينتهي إلى ضياعٍ وإفلاسٍ وخسران، هذه قاعدة واقعية ملموسة فلا يوجد أبداً سياسيٌ أو زعيمٌ أو حاكمٌ أو قائدٌ تحركه الشهوة وتقعده إلا وانتهى حتماً بأمته إلى الذل والعار والهزيمة، واسألوا التاريخ، وليس ذلك منكم ببعيد. وما وجد أبداً تاجرٌ غنيٌ ثريٌ تحركه الشهوة وتقعده، وتدفعه الشهوة لإرواء غرائزه إلا وانتهى حتماً إلى إفلاس، وهذا أمرٌ يصدقه الواقع. وما وجد أبداً مفكرٌ ولا أديبٌ يتحرك بالشهوة وتسيطر على فكره وقلمه إلا انتهى فكره حتماً إلى تناقضٍ واضطراب، وهذا أمرٌ تؤكده الروايات التي تقرأ والتي صمت بها الآذان، وعميت بها الأعين في الليل والنهار ولذا فأنا أسأل: هل ذكر التاريخ مرة أن محمداً صلى الله عليه وسلم توانى لحظةً من لحظات ليله أو نهاره عن التخطيط والكفاح والجهاد لنشر دين الله؟ ثم إني أقول: متى تزوج النبي؟ تزوج النبي في الخامسة والعشرين من عمره بـ خديجة رضي الله عنها التي كانت في الأربعين من عمرها -اسمع أيها الحبيب- وظل النبي صلى الله عليه وسلم مع خديجة رضي الله عنها حتى توفاها الله عز وجل، لم يتزوج النبي عليها غيرها أبداً. أتدرون كم عاشت خديجة مع رسول الله؟ عاشت خديجة مع رسول الله حتى بلغ الخمسين من عمره، وماتت خديجة رضي الله عنها وظل النبي بعدها لا يتزوج أكثر من عامين، وبعدها تزوج امرأةً عجوزاً؛ لأن زوجها قد قتل واستشهد، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام في الثالثة والخمسين من عمره، أبالله عليكم هذا سؤالٌ لكل من لم يمت الإنصافه في قلبه فيعمى بذلك عقله ويضل قلمه وفكره، رجلٌ في ريعان شبابه يتزوج بامرأة واحدة تكبره بخمسة عشر عاماً، ثم بعد ذلك وهو في الثالثة والخمسين -وسن الخمسين عند جميع الفقهاء هو سن الشيخوخة- بعد أن انقضى شبابه الزاهر الأنور وفي سن الشيخوخة يتزوج بنسائه كلهن من أجل شهوة؟! سؤالٌ نوجهه لكل من لم يمت إنصافه في قلبه؛ فيعمى بذلك عقله ويضل قلمه وفكره؟ أسأل الله جل وعلا أن يجزي عنا نبينا خير ما جزى نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 وفاة أم المؤمنين زينب رضي الله عنها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة: هكذا تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها التي قالت عنها عائشة كما ذكرت وخرجت الحديث آنفاً؛ لقد بلغت زينب الشرف الذي لا يبلغ في هذه الدنيا، فلقد زوجها الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وذكر ذلك في القرآن، وسيظل القرآن يتلى إلى يوم القيامة. وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يدا) ، وفي صحيح مسلم تذكر عائشة رضي الله عنها أن النبي لما ذكر لهن ذلك كن يقسن أذرعتهن على الحائط، ولكن النبي كان يقصد شيئاً آخر، كان يقصد بأطولكن يداً أي: بأعظمكن صدقة وإنفاقاً على الفقراء والمساكين، وكانت هي زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها، والتي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً) فبشرها النبي صلى الله عليه وسلم بسرعة لحوقها به وهي زوجته في الجنة. وفي الثالثة والخمسين من عمرها، وفي السنة العشرين من الهجرة تنام زينب رضي الله عنها على فراش الموت وكأنها كانت قد استعدت للقاء الله، فأعدت كفنها إلى جوارها فنظرت إلى أهلها وقالت: [أعلم أن عمر بن الخطاب سيرسل لي كفناً آخر وهذا كفني قد أعددته، فإن أرسل لي عمر كفناً فتصدقوا بأحدهما] وفاضت روحها لتسعد بعد ذلك سعادةً لا تشقى بعدها أبداً بصحبة نبيها وزوجها الحبيب محمدٍ صلى الله عليه وسلم في الجنة {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54-55] رضي الله عن زينب، وشكر الله لها طاعتها لله ولرسوله فأبدلها الله بذلك خيراً في الدنيا والآخرة وزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأن تكون معه في جناتٍ تجري من تحتها الأنهار في جنات النعيم في الدار الآخرة. فرضي الله عن زينب، وصلى الله على أستاذها ومعلمها ونبيها، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعنا به في دار كرامته ومستقر رحمته إنه ولي ذلك ومولاه. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم لا تدع لأحدٍ منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 مصابيح الهدى - أبو بكر الصديق جميع الأمم تنظر إلى تاريخها نظرة إكبار واعتزاز، وإن أحق الأمم بذلك أمة الإسلام، وكيف لا ورجالها هم الذين سطروا التاريخ بدمائهم، وسادوا الأمم بالعدل والدين والحق، وإن من رجالها وأبطالها أبو بكر الصديق السابق بالخيرات، والمبشر بالجنة، أعلم الصحابة وأفضلهم، قامع الردة وأهلها، جامع القرآن إنه رجل كاد أن يطأ الثريا وأن يعانق الجوزاء، إنه صاحب السيرة العطرة والأيام المشرقة رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 اعتزاز الأمم بتاريخها بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله! وأسأل الله جل وعلا أن ينضّر هذه الوجوه المشرقة الطيبة، وأن يزكي هذه الأنفس، وأن يشرح هذه الصدور، وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ورحمته، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله! إن كل أمة من الأمم تعتز بتاريخها وتفخر ببطولات رجالها وأبنائها، وإن أحق أمم الأرض بذلك الاعتزاز والفخار هي الأمة الإسلامية فهي تستحقه بجدارة واقتدار، بل وبشهادة العزيز الغفار، كما في قوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ، فليست هذه الخيرية لهذه الأمة ذاتية ولا عرقية ولا قومية ولكن خيرية هذه الأمة مستمدة من رسالتها التي من أجلها أخرجت للناس. الأمة الإسلامية هي الأمة التي أنجبت على طول تاريخها رجالاً وأبطالاً وأطهاراً وأفذاذاً، سيقف التاريخ إلى ما شاء الله جل وعلا أمام سيرتهم وقفة إعزاز وإعظام، وإجلال وإكبار. ومن الصعب أن نحصر عدد هؤلاء الأبطال وهؤلاء الأطهار، لأنهم عمر الزمن ونبض الحياة، ومن المحال أن نعد أنفاس الزمن وأن نقدر نبض الحياة، وليس من الصعوبة أن نقطف زهرة في وسط صحراء مقفرة، ولكن من الصعب أن نقطف زهرة في وسط حديقة غناء تضم كل أنواع الزهور، وتحوي كل أنواع الرياحين، وتضم كل أصناف العطر والطيب والعبير. لذا فإني أرجو من الإخوة أن يعذروني إذا لم تضم باقتي التي سأجمعها كل أنواع الورود، وجميع أنواع الرياحين المطلوبة، وكل أنواع العطور المحبوبة والمرغوبة؛ لأنه -كما ذكرت آنفاً- من الصعوبة بمكان أن نقطف زهرة بنوعية معينة ترضى عنها جميع الرغبات في وسط هذه الحديقة الغناء الفيحاء. وأنا لا أقدم هذه السيرة مع هذه السلسلة الجديدة التي أعلنا عنها في اللقاء الماضي بعنوان: (أئمة الهدى ومصابيح الدجى) لا أقدم هذه السيرة وهذه السلسلة الجديدة لمجرد أنها قصص تحكى على المنبر، ولا لمجرد سرد التاريخ والأحداث والسير، وإنما أقدم هذه السير للعظة والعبرة من ناحية، ولتربية الجيل على سير هؤلاء الأبطال الأطهار من ناحية أخرى خاصة في ظل هذه الأزمة الفكرية التي سيطرت على العقول طيلة هذه السنوات الماضية، والتي سميتها آنفاً في خطب الخواطر: (الدعوة في أزمة الوعي) ، وها هو هذا الجيل المبارك -بفضل الله جل وعلا- ينتقل من أزمة الوعي إلى وعي الأزمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 فضائل أبي بكر الصديق أيها الأحبة! تعالوا بنا لنستهل هذه الباقة، ولنبدأ هذه السلسلة، سلسلة أئمة الهدى ومصابيح الدجى بهذا الرجل الذي عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار، فألقى له حب الحب على روض الرضا، واستلقى على فراش الفقر آمناً مطمئناً، فرفع الطائر الحب إلى حوصلة المضاعفة، وتركه هنالك يغرد لهذا الرجل العظيم بأغلى وأعلى فنون المدح، وهو يتلو في حبه قول ربه {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17-21] . إنه الرجل الذي لم يتلعثم ولم يتردد لحظة من لحظات حياته في إسلامه وإيمانه بالله جل وعلا وبرسوله صلى الله عليه وسلم، إنه الرجل الذي كان شعاره إذا تأزمت الأمور وتشككت الصدور: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك فقد صدق، ولذا فقد استحق هذا الرجل بجدارة أن يسمى صديق هذه الأمة إنه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه! إنه أحب الرجال إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه البخاري من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر) . إنه أحب الرجال إلى قلب أستاذه ومعلمه محمد صلى الله عليه وسلم!! ولم لا يكون أبو بكر أحب الرجال إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أول رجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: صدقت، يوم أن قال له الناس في مكة: كذبت؟! وهو الرجل الذي قدم ماله وعمره وحياته ونفسه وروحه لله جل وعلا ولأستاذه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد كان له عندنا يد إلا كافأناه بها إلا الصديق فإنا لم نستطع مكافأته فتركنا مكافأته لله عز وجل) . الله أكبر! أي طراز من الناس كان هذا الرجل؟! أي صنف من الناس كان هذا الرجل العظيم العجيب؟! (ما منكم من أحد كان له عندنا يد إلا الصديق فإن له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن صاحبكم خليل الله) والحديث رواه الترمذي وغيره واللفظ للترمذي والحديث حسن بشواهده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 أبو بكر من أهل الجنة إن أبا بكر رجل عجيب، رجل عظيم، ووالله لو وقف أهل البلاغة وأهل البيان ليتكلموا عن صديق هذه الأمة، ما زادوا في قدره، ولا رفعوا منزلته ولا مكانته بل ازداد قدرهم، ورفعت منزلتهم، وعلا شأنهم بحديثهم عن الصديق هذا الرجل الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو يمشي في هذه الدنيا! إنها بشارة عجيبة لو تدبرتها العقول ووعتها القلوب! رجل من خلق الله يبشر بجنة الله من رسول الله وهو في الدنيا! بل ويبشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سينادى عليه يوم القيامة من كل أبواب الجنة، ففي الحديث الذي رواه البخاري من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله يدعى يوم القيامة من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير، فإن كان من أهل الصلاة يدعى من باب الصلاة، وإن كان من أهل الجهاد يدعى من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصدقة يدعى من باب الصدقة، وإن كان من أهل الصيام يدعى من باب الصيام أو باب الريان، فقال أبو بكر الرجل الطموح في الخير العظيم: يا رسول الله! وهل هناك أحد يدعى من هذه الأبواب كلها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر) ، وفي رواية ابن حبان من حديث ابن عباس قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أجل وأنت هو يا أبا بكر) رجل يدعى من أبواب الجنة كلها، أي صنف هذا؟! أي طراز من الناس كان هذا الرجل رضي الله عنه وأرضاه؟! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 مسارعة أبي بكر إلى الخيرات أيها الأحبة! ورد في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: من منكم اليوم أصبح صائماً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من منكم اليوم أطعم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من منكم اليوم اتبع جنازة؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من منكم اليوم عاد مريضاً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة) . الله أكبر! ماذا أقول عن أبي بكر؟! ومن أي المواطن والمواقف أبدأ؟! أيها الأحبة! لست مؤرخاً ولا قاصاً ولا حاكياً، إنما سنتوقف عند بعض المواقف لنستلهم الدروس والعظات والعبر من ماضينا المشرق لحاضرنا ومستقبلنا الزاهر المجيد، الذي حاول أعداء ديننا مراراً وتكراراً أن يفصلوا بيننا وبين هذا الماضي المجيد، وأن يضعوا السدود بيننا وبينه حتى لا نرفع رءوسنا خفاقة عالية لتناطح كواكب الجوزاء في عنان وكبد السماء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 أبو بكر أعلم الناس أيها الأحباب! هذا هو تاريخنا، وهؤلاء هم أجدادنا وأبطالنا، هذا هو أبو بكر رضي الله عنه، ذلكم الرجل الذي وقف موقفاً عجيباً رهيباً يوم أن قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر في مرضه الأخير قبل الموت وقال -كما ورد في حديث أبي سعيد الذي رواه البخاري ومسلم -: (أيها الناس! إن عبداً من عباد الله خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله، فبكى الصديق رضي الله عنه، وقال: فديناك بآبائنا يا رسول الله! فديناك بأمهاتنا يا رسول الله! فديناك بأنفسنا يا رسول الله!) ، فضج الناس في المسجد عجباً لهذا الشيخ، الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن عبد خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار ما عند الله فما الذي يقوله ويفعله أبو بكر رضي الله عنه؟! ولكن الصديق علم أن العبد المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففداه بنفسه وأبيه وأمه، فداه بماله وبكل شيء. يقول أبو سعيد: فكان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي يوم الإثنين كشف عليه الصلاة والسلام الستر من حجرة عائشة رضي الله عنها ونظر إلى المسجد فرآهم وهم يصلون وراء إمامهم الصديق رضي الله عنه، وكاد الناس أن يفتنون في الصلاة، وسمع الصديق صوتاً وجلبة -وكان لا يلتفت في الصلاة أبداً- فعلم أن هذا الصوت لا يكون إلا لخروج النبي صلى الله عليه وسلم، فكاد الصديق أن يخلي مكان إمام الأئمة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إليهم أن اثبتوا، ودخل الحبيب إلى غرفة عائشة وكان ملك الموت في انتظاره، فإن الأجل قد حان، والعمر انتهى كما حدده الله جل وعلا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 ثبات أبي بكر عند موت رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري فرأيته قد رفع أصبعه وهو يقول: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، تقول: فعلمت أنه يخير، وأنه لا يختارنا) ، وفي رواية أخرى في صحيح البخاري من طريق الزهري عن عروة أنها قالت: (فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى، تقول: وسقطت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمت أنه قد مات) . فخرجت عائشة تصرخ، فلقيها فاروق هذه الأمة عمر وصرخ عمر: رسول الله ما مات، ورفع السيف وقال: والله لأعلون بسيفي هذا كل من زعم أن رسول الله قد مات، وإنما ذهب إلى لقاء ربه عز وجل كما ذهب موسى بن عمران وليرجعن ليقطعن أيدي وأرجل المنافقين، وخرس لسان عثمان وأقعد علي. هذا حال هؤلاء الأطهار! حال هؤلاء الأخيار الأبرار، فما ظنكم بمن دونهم؟! وثبت الله يومها صديق الأمة وعاد أبو بكر من بيته في السنح ورأى هذه الجموع الملتهبة المتأججة الصارخة الباكية فلم يلتفت إلى شيء، ويمم وجهه صوب غرفة عائشة ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى حبيبه المصطفى مسجى وقد غطي وجهه الأنور، فجلس على ركبتيه بين يدي أستاذه وحبيبه رسول الله وبكى وقبله بين عينيه، وقال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله، أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها ولا ألم عليك بعد اليوم، وقال كما في الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني في مختصر الشمائل (وانبياه واصفياه واخليلاه) وترك الصديق وأودع قبلة حانية رقيقة على جبين أستاذه وحبيبه وإمامه ونبيه وخرج إلى هذه الجموع المتأججة الملتهبة فقال: على رسلك يا عمر! اسكت يا عمر! أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] . يقول عمر: فلما سمعتها وعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات عقرت -أي: وقع على الأرض- وثبت الله الصديق رضي الله عنه أي ثبات هذا؟! وأي فصاحة وبلاغة هذه؟! من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات. سبحانك يا من وهبت هذا اليقين وهذا الثبات لهذا الرجل العظيم الكبير!! يقول ابن مسعود: كدنا أن نقوم مقاماً بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهلك فيه لولا أن من الله علينا بـ أبي بكر. نعم فرسول الله قد مات والدعوة أبقى من الداعية، والدين أبقى من صاحبه الذي جاء به للناس لا ليظل معهم عليه، وإنما جاء ليربط الناس بهذه العروة الوثقى، ثم ليمض إلى ربه وهم عليها من غير تبديل ولا تحريف ولا تعطيل. مضى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، فلتبق الدعوة وليبق الإسلام وليبق الدين، ويا راية الله رفرفي ويا خيل الله اركبي، ويا أبناء رسول الله قوموا! لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسرت كلمات الصديق في قلوبهم وعروقهم سريان الدماء في العروق وسريان الماء في شقوق الأرض المتعطشة للماء، قاموا وعاد إليهم رشدهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 موقف أبي بكر في سقيفة بني ساعدة أيها الأحباب! ما لبث هذا الأمر أن حدث وذهب الأنصار رضي الله عنهم إلى سقيفة بني ساعدة؛ ليختاروا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع عمر بن الخطاب الخبر فذهب إلى أبي بكر وأخذه وأخذ أبا عبيدة وأسرعوا رضي الله عنهم جميعاً إلى السقيفة إلى إخوانهم من الأنصار. يقول عمر: وكنت قد زورت -أي: أعددت- مقالة جميلة لأتحدث بها بين يدي هؤلاء، إلا أن الصديق قد استأذن عمر بن الخطاب، وكان الصديق أول من تكلم فأثنى على الأنصار خيراً وأثنى على المهاجرين، وقال هم أحق الناس بالخلافة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقام الحباب بن المنذر وقال: منا أمير ومنكم أمير وكاد الشيطان -والعياذ بالله- أن يلعب لعبته ولكن أنى لهذه القلوب التي رباها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن تتمزق وأن تتشتت! وبعدها قام الصحابي الجليل المبارك بشير بن سعد أبو الصحابي الجليل النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قام وقال مقالة وقعت كحبات الندى على القلوب، قام بشير بن سعد رضي الله عنه وقال: يا معشر الأنصار! والله لئن كان لنا فضل في جهاد المشركين، وسبق في هذا الدين، فإنه لا ينبغي أن نستطيل بهذا على الناس، وأن نبتغي به عرضاً، فنحن ما أردنا بذلك إلا رضا ربنا وطاعة نبينا صلى الله عليه وسلم، ووالله إن رسول الله من قريش وقومه أحق به، وايم الله لا يراني الله أنازع القوم في هذا الأمر أبداً، فاتقوا الله يا معشر الأنصار ولا تخالفوا المهاجرين ولا تنازعوهم. فالتقط الصديق هذه الكلمات النيرة الندية الرخية المؤمنة التقية، ورفع يد عمر ويد أبي عبيدة بن الجراح وقال: أيها الناس! هذا عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام، وهذا أبو عبيدة الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم إنه أمين هذه الأمة، لقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فقال أبو عبيدة وعمر نتقدمك؟ لا والله، والله لا نقدم على هذا الأمر أحداً دونك يا أبا بكر. إنه التجرد لله جل وعلا! إنه الصفاء والإخلاص! إن جلال هذا الموقف أبلغ من كل مقال، وأبلغ من كل كلام، بل ويصرخ عمر! ويبكي أبو عبيدة! ويقول عمر: والله لئن أقدم فيضرب عنقي في غير إثم أحب إلي أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر رضي الله عنه. ويبكي أبو عبيدة ويقول: أنت أفضل المهاجرين، وأنت ثاني اثنين إذ هما في الغار، وأنت خليفة رسول الله في الصلاة وهي أعظم ديننا، أيرضاك رسول الله لديننا ولا نرضاك لدنيانا؟! ابسط يدك يا أبا بكر ابسط يدك فبسط الصديق يده، فقام الصحابي الجليل بشير بن سعد وكان أول من بايع كما في أصح الروايات، وبايعه عمر وأبو عبيدة، وازدحم الأنصار رضي الله عنهم ليبايعوا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما أن غربت شمس هذا اليوم إلا وقد غربت بكل جزئية من جزئيات الخلاف، والتأم الصف ورئب الصدع على يد ابن الإسلام المبارك التقي النقي على يد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وخمدت نار الفتنة في مهدها، وكان يوماً عظيماً على الإسلام. أيها الأحباب! لقد من الله على الإسلام في هذا اليوم بـ أبي بكر! حتى ظننت -وأنا أقرأ هذا المشهد من أكثر من مرجع- أن الله جل وعلا قد اختار لهذا اليوم أبا بكر بالذات، وبدأ الصديق رضي الله عنه يعلن سياسته العامة للدولة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 خطبة أبي بكر بعد توليه الخلافة أيها الأحباب! في اليوم الثاني كما روى ذلك ابن إسحاق بسند صحيح وقف الصديق على المنبر ليعلن سياسة دولته العامة ودستور الإسلام الخالد. قال: أيها الناس! لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، وما ترك قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله؛ فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله. أي عظمة هذه؟! أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59] ، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 توفيق الله لأبي بكر في إنفاذ جيش أسامة وبدأ الصديق رضي الله عنه أول أعماله الكبيرة العظيمة بإنفاذ بعث وجيش أسامة رضي الله عنه وأرضاه. هذا الجيش الذي كان على حدود المدينة المنورة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإرساله لمناطحة العدو في الحدود الشمالية للدولة الإسلامية، على حدود الروم، ولتأديب قبائل قضاعة التي انحازت إلى الروم في غزوة مؤتة. أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم هذا الجيش لتأديبهم واختار لهذا الجيش أسامة الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره! وأمر الصديق بأن ينفذ جيش أسامة، ولم يتجاوز الجيش حدود المدينة المنورة إلا وقد أطلت فتنة برأسها كادت أن تدمر الأخضر واليابس لولا أن من الله على الإسلام -كما قال ابن مسعود - بـ أبي بكر رضي الله عنه. بدأت فتنة أهل الردة والمرتدين، فمنهم من ارتد عن الإسلام بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لم يدخلوا في الإسلام إلا مداهنة وتقية، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة، وقالوا: كنا نؤديها لرسول الله، فلن نؤديها لأحد بعده، فقال الصديق قولته الخالدة: والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. ويومها ذهب الفاروق عمر ليناقش الصديق في هذه الفتوى ويقول: يا خليفة رسول الله! أتقاتل قوماً شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟! ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: من قالها عصم مني دمه وماله؟! ولكن الصديق كان أفهم الصحابة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم يا عمر! إلا بحقها والزكاة من حقها؟ والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. يقول عمر فما لبث أن شرح الله صدري لما رأى أبو بكر رضي الله عنه. ولما أطلت هذه الفتنة برأسها رأى بعض الصحابة وعلى رأسهم عمر وأسامة بن زيد قائد الجيش: أن في إرسال جيش أسامة مخاطرة رهيبة؛ لأن المدينة نفسها مهددة بالغزو من المرتدين، فلابد أن يبقى الجيش لحماية المدينة في هذا الظرف الحرج، ولكن هذا الرجل عجيب يظهر إيمانه ويقينه مرة أخرى ويعلن قولته الخالدة ويقول: والله لو تخطفتني الذئاب لأنفذت بعث أسامة ولست أنا الذي يرد قضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد أن ينفذ جيش أسامة. فلما رأى الصحابة أبا بكر مصراً على رأيه ذهبوا إليه مرة أخرى وعلى رأسهم عمر، وقالوا: إن كان ولابد يا خليفة رسول الله فاجعل على رأس الجيش من هو أسن وأكبر من أسامة فمسك أبو بكر بلحية عمر وقال: ويحك يا ابن الخطاب! أيوليه رسول الله وأعزله أنا؟ والله لا يكون. وأراد الصديق أن يفض هذا الإشكال فقام بنفسه مع عمر إلى حيث عسكر الجيش الإسلامي بقيادة أسامة وخرج إليهم على حدود المدينة فلقيهم أسامة بن زيد على ظهر فرسه والصديق يمشي على رجليه، فنظر أسامة الذي تربى في مدرسة النبوة وقال: يا خليفة رسول الله! والله إما أن تركب وإما أن أترجل، فقال الصديق والله لن أركب ولن تترجل! وأكثير عليَّ يا أسامة أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله؟! ومشى الصديق على الأرض إلى جوار قائد الجيش أسامة ابن الثمانية عشرة. مشى خليفة المسلمين خليفة رسول الله إلى جوار أسامة ليبين للناس أنه إمام وأستاذ وقائد الموكب. إن الإسلام لا ينظر إلى سن ولا نسب ولا إلى شرف، بل إن ميزان الإسلام هو التقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] ، ووقف أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليزف هذه الوصايا وليبين لهذا الجيش المبارك دستوره الحربي في أعظم دستور عرفه التاريخ، فوالله ما عرف التاريخ دستوراً حربياً أعظم ولا أطهر ولا أشرف مما عرفه التاريخ في حروب الإسلام طيلة القرون الطويلة الماضية، وسوف يظل التاريخ يقف أمام هؤلاء وقفة إجلال وإعظام وإعزاز وإكبار! اسمعوا أيها الأحبة ماذا قال الصديق للجيش؟ حمد الله وأثنى عليه وقال: لا تخونوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا -أي بالجثث-، ولا تقتلوا طفلاً أو شيخاً كبيراً أو امرأة، ولا تحرقوا نخلاً ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرةً ولا بعيراً إلا للطعام، وسوف تمرون على قوم قد تفرغوا للعبادة في صوامعهم فدعوهم على ما هم عليه، ثم قال: اندفعوا باسم الله. هذا هو الميثاق، وهذا هو دستور الحروب في الإسلام فأين أدعياء الحضارة الذين يتغنون ويرقصون لخدمة الإنسانية في الليل والنهار؟! أين أدعياء الحضارة الذين ساموا الإنسانية سوء العذاب؟! وإن ما يحدث على خشبة المسرح العالمي في جمهورية البوسنة والهرسك لأعظم دليل على أن هؤلاء كذبة فجرة وخونة، لا يعرفون من هذا المضمار إلا هذه الكلمات الجوفاء الكاذبة الرنانة. أين هم من أبناء الشعب المسلم في البوسنة؟! سفكت دماؤهم، ومزقت أشلاؤهم، واغتصبت نساؤهم، وقتل أطفالهم وحرقت بيوتهم، أين هم من هؤلاء؟! (لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً أو شيخاً كبيراً أو امرأة، ولا تحرقوا نخلاً، ولا تقطعوا شجرة مثمرة) إنه دستور الإسلام! وانطلق الجيش على بركة الله وباسم الله، تحت راية الإسلام، وباسم التوحيد والإيمان، بأوامر هذا الابن المبارك للإسلام، إنه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه!! وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 المصالح المترتبة على إنفاذ جيش أسامة الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اقتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد: فهكذا أنفذ الصديق رضي الله عنه جيش أسامة الذي كان له أثر بليغ في قلوب هؤلاء المرتدين في أطراف الجزيرة العربية الذين قالوا: لو كانت المدينة بهذا الضعف الذي سمعنا ما خرج هذا الجيش الجرار لهذه المعركة الضارية، لمناطحة قوة الروم العاتية، وكانت هذه بركة من بركات أبي بكر رضي الله عنه، ووئدت نار فتنة المرتدين ومدعي النبوة وقد ظهر طليحة وظهرت سجاح مسيلمة وكل قد ادعى النبوة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 ومن فضائل أبي بكر جمعه للقرآن رحماك رحماك يا الله! أي فتن هذه التي تطل على أبي بكر؟! لقد وأد الصديق نار الفتنة في مهدها، ولم تتوقف بركاته عند هذا الحدث، وإنما بعد موقعة اليمامة ذهب إليه عمر وأشار إليه بجمع القرآن كما في حديث زيد بن ثابت الذي رواه البخاري وشرح الله صدره إلى ذلك، فأمر زيد بن ثابت بجمع القرآن. يقول زيد: والله لو كلفني بنقل جبل لكان أهون علي، أو ما كان أثقل علي مما كلفني به. وجمع الصديق القرآن لأول مرة، وكانت الصحف في بيته حتى توفي، ثم انتقلت إلى بيت عمر حتى توفي، ثم في بيت حفصة رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم. وهذه بعض المواقف وبعض الدروس، وإلا فلو توقفنا مع الصديق لطالت بنا الوقفة ولطال بنا المقام، ولقد آليت على نفسي ألا أقف في كل لقاء مع كل شخصية من هؤلاء الأئمة وهؤلاء المصابيح إلا جمعة واحدة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 عهد أبي بكر بالخلافة بعده لعمر أيها الأحباب! ونام الصديق بعد هذا التاريخ الحافل على فراش الموت ليسلم روحه إلى الله جل وعلا، ولكنه أضفى على الأمة وعلى الإسلام بركة أخرى لا يمكن أبداً أن ينتهي اللقاء إلا ونشير إليها إشارة، فلقد استدعى عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال: يا عثمان! اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وفي أول عهده بالآخرة داخلاًً فيها: أني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، فأطيعوا له واسمعوا، ثم قال: فإن عدل فهذا علمي به وظني فيه، وإن بدل وغير فإن لكل امرئ ما اكتسب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله. وأمر عثمان أن يخرج ليقرأ الكتاب على المسلمين، فقام المسلمون جميعاً وبايعوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما فعل ذلك الصديق إلا خشية من أن تحدث فتنة شديدة على الإسلام والمسلمين، ثم استدعى عمر فوصاه وصية جميلة رقيقة لا يتسع المقام والمجال لذكرها، ثم رفع الصديق يده ودعا الله لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال له: اللهم أصلحه وأصلح له الرعية. وبعد أيام قليلة دخل ملك الموت مرة أخرى؛ لينزع أطهر روح وأشرف روح بعد روح المصطفى صلى الله عليه وسلم، ليقبض أبا بكر رضي الله عنه، ولما اشتد به الوجع دخلت عليه الصديقة عائشة رضي الله عنها تقول: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فكشف الصديق الغطاء عن وجهه، وقال: لا تقولي هذا يا ابنتي وإنما قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] رضي الله عن أبي بكر وأرضاه وجمعنا الله جل وعلا به مع أستاذه ونبيه في جنة الله ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير. اللهم اجز عنا أبا بكر خير ما جازيت مصلحاً أو صالحاً! اللهم اجز أبا بكر عن الإسلام خير الجزاء! اللهم اجمعنا به في دار كرامتك ومستقر رحمتك! اللهم صل وسلم وبارك على من علمه ورباه وخرجه وأنجبه لهذا الدين! اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وأصحابه وزوجاته وأتباعه وأطهاره وأخياره الذين اتبعوه بإحسان إلى يوم الدين! اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين. اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، وقيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم وفق حكام المسلمين إلى العودة لكتابك، وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، أنت ولي ذلك ومولاه! وأكثروا من الصلاة والسلام على حبيبنا ونبينا محمد، فإن الله جل وعلا قد أمركم بذلك في محكم كتابه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 مصابيح الهدى - عمر بن الخطاب الحديث عن سير الصالحين مما يقوي الإيمان، ويجسد شخصية القدوة التي تكاد أن تكون منعدمة في هذا الزمان، فكيف إذا كان الحديث عن ثاني الخلفاء الراشدين، وفاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب؟! إنه حديث ذو شجون، فهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وهم الرجل الملهم المحدث، وهو الذي أعز الله به الإسلام، فهو بحق قمة من قمم الإسلام، وسيرته مدرسة للجيل بأكمله، فرضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 فضائل عمر بن الخطاب بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله! وأسأل الله جل وعلا أن ينضر هذه الوجوه المشرقة الطيبة، وأن يزكي هذه الأنفس، وأن يشرح هذه الصدور، وأن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله! مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وأود بداية أن أوضح منهجي الذي التزمت به في هذه السلسلة الكريمة؛ لأنه لم يتضح لبعض الأحبة في اللقاء الماضي، مع أني أوضحت في مقدمة اللقاء الماضي أني لا أحكي تاريخاً، ولا أقص سيرة كاملة، ولا أقف أمام كل زهرة في بستان حياتهم الرحب الفسيح، وليس من الصعوبة -كما ذكرت- أن نقتطف زهرة وحيدة من وسط صحراء مقفرة! ولكن من الصعوبة بمكان أن نختار زهرة عطرة جميلة في وسط حديقة غناء، تضم كل أنواع الزهور، وتشمل كل أنواع الورود، وتضم كل أصناف العبير، ومن ثمَّ فإنني سأتوقف أمام بعض الزهرات في بستان حياتهم الرحب الفسيح، ولن أستطع أن أتوقف مع جميع مواقفهم على طول حياتهم، وإلا لطالت وقفتنا، بل ولا أكون مغالياً إن قلت: إن فعلت ذلك ربما أتوقف مع أحدهم أكثر من عشر جمع! وهذا -ولا شك- مجاله كتب السير والتراجم والأعلام. هذا هو منهجي الذي التزمت به في هذه السلسلة الكريمة؛ للعظة والعبرة من ناحية، وليربى الجيل على سير ومواقف هؤلاء الأبطال الأطهار من ناحية أخرى. فتعالوا بنا سريعاً لنلقي السمع والبصر والفؤاد بين يدي هذا الرجل القوي الأمين، بين يدي هذا المعلم الكبير الذي ليس له بين المعلمين على ظهر هذه الأرض نظير، إنه الرجل الكبير في بساطة، البسيط في قوة، القوي في رحمة وعدل، إنه الرجل التقي النقي الزاهد الناسك الورع، الذي يتفجر نسكه حركة وزكاء، وعملاً وبناء، إنه المعلم الذي غير صفحة الدنيا ووجه التاريخ، إنه التقي النقي الذي كان للمتقين إماماً، إنه الرجل الذي قدم للدنيا كافة قدوة لا تبلى على مر الزمان والأيام، قدوة متمثلة في حياته كلها، ترك الدنيا بزخرفها وسلطانها وأموالها على عتبة داره، فسرحها سراحاً جميلاً، وساقها إلى الناس سوقاً كريماً، وقام ينثر على الناس طيباتها، ويدرأ عن الناس مضلاتها، حتى إذا ما نفض يديه من علائق هذا المتاع الزائل، وهذا الظل المنتهي، قام مستأنفاً سيره ومسراه، مهرولاً تحت حرارة الشمس المحرقة، في يوم شديد الحرارة، مهرولاً وراء بعير من إبل الصدقة، يخشى عليه الضياع، ويخشى أن يسأل عنه بين يدي الله جل وعلا! أو تراه منحنياً على قدر فوق نار مشتعلة؛ لينضج طعمة طيبة لامرأة غريبة أدركها المخاض في المدينة المنورة، أو لأطفال صغار يتضورون جوعاً في ليلة شديدة الظلام شديدة البرد. إنه الرجل الذي تنزل القرآن أكثر من مرة موافقاً لقوله ورأيه، إنه الرجل الذي كان إسلامه فتحاً، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمارته رحمة وعدلاً، إنه فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. والله إن الاقتراب من هذا الرجل التقي النقي أمر رهيب، بقدر ما هو حبيب إلى كل نفس مؤمنة، إن عمر بن الخطاب من الطراز الذي تغمرك الهيبة وأنت تقرأ تاريخه المكتوب، كما تغمرك الهيبة وأنت تجالس شخصه المتواضع، فالمشهد المذكور من تاريخه لا يكاد يختلف عن المشهد الحي إلا في غياب البطل عن حاسة البصر فقط! أما الأفئدة أما البصيرة فإنها إذا ما طالعت سيرة عمر بن الخطاب كأنها تجالسه، وكأنها تسمعه، وكأنها تحدثه ويحدثها، وكأنها ترى رأي العين جلال الأعمال، ومناسك البطولات، وأروع الانتصارات التي نقشها عمر بن الخطاب بيمينه المبارك على جبين السماء، وخطها بيمينه الأنور على صفحة الأيام. أحبتي في الله! ترى بأي المواقف أبدأ؟ وعن أي المواقف أتكلم؟! هل أبدأ بفتوحاته وانتصاراته على كثرتها؟! أم بانتصاراته على روعتها؟! أم سأتحدث اليوم عن زهده وورعه؟! أم سنتوقف مع زهده وعدله؟! أم سنذكر عمله وفقهه؟! بأي المواقف أبدأ؟! وعن أي المواقف أتحدث؟! وماذا أذكر عن عمر رضي الله عنه وأرضاه؟! والذي أرى -من وجهة نظري- أن أعظم ما يمكن أن أستهل به الحديث عن عظمة هذا الرجل: أن نبدأ بتلك الأوسمة، وتلك النياشين التي وضعها بيمينه المبارك الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم على صدر هذا الرجل العجيب المهيب؛ ليشمخ بها في الدنيا ويسعد بها في الآخرة. ففي الحديث الذي رواه الترمذي بسند حسن من حديث ولده عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه) وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد كان فيمن كان قبلكم محدثون -أي: ملهمون- فإن يكن في أمتي منهم أحد فإنه عمر) . وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جوار قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لـ عمر -يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم-: فتذكرت غيرة عمر، فوليت مدبراً! يقول أبو هريرة: فلما سمع ذلك عمر بكى رضي الله عنه وأرضاه وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟!) . وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما أنا نائم عرض علي الناس، وعليهم قمص -جمع قميص- فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين) . وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما أنا نائم أتيت بقدح من اللبن، فشربت منه حتى إني أرى الري يخرج من بين أظفاري، ثم أعطيت فضلة شربتي لـ عمر بن الخطاب، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم) . وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويحدثنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر، فدخل عمر بن الخطاب ورسول الله يضحك، فقال عمر بمنتهى الأدب والإجلال والإكبار: أضحك الله سنك يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجبت لهؤلاء اللاتي كن عندي يحدثنني، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب) فنظر عمر بن الخطاب المؤدب الذي تربى على أستاذ البشرية ومعلم الإنسانية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، نظر عمر إلى أستاذه ومعلمه صلى الله عليه وسلم وقال: أنت أحق أن يهبنك يا رسول الله، ثم التفت عمر إليهن وقال: يا عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟! فقلن: نعم، أنت أفض وأغلظ من رسول الله يا عمر! نعم نهابك ولا نهاب رسول الله، {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] . فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (إيه يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده لو لقيك الشيطان سالكاً فجاً لتركه لك وسلك فجاً غير فجك يا عمر) ، أي طبيعة هذه؟! إنها طبيعة فذة إنها طبيعة قل أن تتكرر في الأعداد الهائلة من البشر، بل لا أكون مغالياً إن قلت: إنها طبيعة ليس لها مثيل في البشر بعد عمر! أي طراز من البشر كان؟! أي صنف من الناس كان عمر رضي الله عنه وأرضاه؟! إنه الرجل الذي حار التاريخ في أعماله وفي سيرته، ووقف التاريخ وسيقف أمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقفة إجلال وإعزاز وإكبار، سبحان الله! ولما عرف النبي صلى الله ليه وسلم هذه الطبيعة الفذة، وهذه الأصالة في عمر، لجأ النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إلى الله وقال: (اللهم! أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: بـ عمر بن الخطاب أو بـ عمرو بن هشام) والحديث رواه الترمذي وهو حديث حسن. وربح الإسلام أحب الرجلين إلى الله، وهو عمر بن الخطاب، صاحب الفطرة السوية القوية التي سرعان ما استجابت للحق في لمح البصر، ليتحول بعدها عمر تحولاً هائلاً إلى أقصى رحاب الهدى والتوحيد والإيمان! بعد أن كان بالأمس القريب في أقصى مجاهل الوثنية والشرك والإلحاد! ويخرج المسلمون لأول مرة بعد أن كانوا يستخفون من أهل الشرك في مكة، يخرجون بعزة واستعلاء؛ ليرجّوا أنحاء مكة بتكبيرهم لله جل وعلا، ولم لا وقد أصبح بينهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه! ويجسد عبد الله بن مسعود هـ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 رفع الله عمر بالإسلام وهاهي الأيام تمر، والأشهر تجري وراءها، وتسحب معها السنين، ويقف راعي الغنم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم باسطاً يمينه المباركة، ليأخذ البيعة ليكون خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر رضي الله عنه. بخٍ بخٍ يا عمر! لقد كنت في الجاهلية تدعى عميراً، ثم دعيت: يا عمر! وهاأنت اليوم تبسط يمينك لتدعى بعد الساعة: يا أمير المؤمنين، بخ بخ يا عمر! ويقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليستهل عهد خلافته المبارك بهذه الخطبة الجامعة المانعة فيقول -وأعيروني القلوب والأسماع، فلو لم أتوقف في هذا اللقاء إلا مع هذه الكلمات لكفانا بها زاداً-. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 خطبة عمر عند توليه الخلافة وقف عمر يقول: (بلغني أن الناس خافوا شدتي وهابوا غلظتي، وقالوا: لقد اشتد عمر ورسول الله بين أظهرنا، واشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟! ألا فاعلموا أيها الناس! أن هذه الشدة قد أضعفت -أي: تضاعفت- ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، أما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين إليهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يعتدي عليه، حتى أضع خده على الأرض وأضع قدمي على خده الآخر؛ حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك لأضع خدي أنا على الأرض لأهل الكفاف وأهل العفاف. أيها الناس! إن لكم عليَّ خصالاً أذكرها لكم، فخذوني بها، لكم عليَّ أن لا أجتبي شيئاً من خراجكم وما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم عليَّ إن وقع في يدي أن لا يخرج إلا بحقه، ولكم عليَّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى، ولكم عليَّ ألا ألقيكم في التهلكة، ولكم عليَّ أن أسد ثغوركم إن شاء الله تعالى، ولكم عليَّ إن غبتم في البعوث -أي: المعارك- فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، فاتقوا الله وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضار النصيحة فيما ولاني الله من أموركم) . بالله ما أنقاه! بالله ما أتقاه! بالله ما أروعه وما أطهره! أي دستور في عالم الدساتير هذا؟! أي قانون في عالم القوانين هذا؟! (فإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم) . أي عظمة وأي طراز من البشر كان عمر رضي الله عنه وأرضاه؟! إنه ابن الجزيرة الذي رباه الإسلام على يد محمد عليه الصلاة والسلام، نعم هذا الرجل الذي كان لا ينسى هذه النعمة أبداً، لا ينسى أنه كان بالأمس القريب راعياً للغنم، ولا ينسى أنه كان بالأمس القريب في الجاهلية يعذب من وحد الله جل وعلا، وها هو الآن يشار إليه بالبنان، ويقال له: يا أمير المؤمنين! كانت لا تغيب عن باله، وكان يقف مع نفسه ليقول لها: بخ بخ يا ابن الخطاب! كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، ثم حملك الله على رقاب الناس، فماذا أنت قائل لربك غداً يا عمر؟! هذه هي البوصلة التي تحركت في اتجاهها كل ذرات كيانه وجوارحه! ماذا تقول لربك غداً يا عمر؟! هذه أنشودته الحلوة العذبة التي كانت تصرخ في أعماق كيانه ووجدانه، وتملأ عليه سمعه وبصره، وتزلزل عليه أركانه وجوارحه! ماذا تقول لربك غداً يا عمر؟! هذا هو السر يا أحباب! إذا أردت أن ترى هذا الشامخ العارف الذي يتفجر قوة وبأساً، إذا أردت أن تنظر إليه كعصفور مبلل بماء المطر في يوم شديد البرودة فما عليك إلا أن تقترب منه وتخوفه بالله جل وعلا؛ لترى إنساناً آخر وقد قامت قيامته، واصفر وجهه، ووقف وكأنه بين يدي الله جل وعلا والميزان عن يمينه، والصراط عن شماله، وكتابه منشور بين يديه، والنداء يدوي في أرجاء كيانه وجوارحه: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14] ، هذه هي البوصلة أيها الأحباب! وهذا هو السر الذي جعل ابن الخطاب يعزف عن كل ملذات الدنيا ونعيمها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 طعام عمر أمير المؤمنين ولقد زاره يوماً حفص بن أبي العاص رضي الله عنه وأرضاه، ووجد عمر بن الخطاب جالساً إلى غدائه، ودعا عمر حفصاً أن يتناول الغداء معه، فنظر حفص إلى طعام أمير المؤمنين، فوجد خبزاً يابساً وزيتاً، وكان حفص ذكياً، فلم يشأ حفص أن يتعب معدته في هضم هذا الطعام الشديد، وفطن عمر بن الخطاب إلى سر عزوف حفص، فقال له سائلاً: ما الذي منعك أن تتناول معنا الطعام يا حفص؟ ولم تنقص الصراحة حفصاً، فقد كانوا أتقياء أصفياء، لا يجيدون لغة الكذب واللف والدوران والمنافقة والمداهنة، قال له حفص بن أبي العاص: إنه طعام خشن يا أمير المؤمنين! ولسوف أرجع إلى بيتي لأنال طعاماً طيباً ليناً قد صنع وأعد لي، فقال عمر: يا حفص! أتراني عاجزاً أن آمر بصغار الماعز فيلقى عنها شعرها، وبرقيق البر فيخبز خبزاً رقاقاً، وبصاع من الزبيب يوضع في كنية من السمن، فآكل هذا وأشرب هذا؟! فقال حفص: والله إنك بطيب الطعام لخبير يا أمير المؤمنين! فقال عمر بن الخطاب: والذي نفسي بيده! لو أردت أن أكون أشهاكم طعاماً وأرفهكم عيشاً لفعلت، أما إني لأعلم بطيب الطعام من كثير من آكليه! ولكني تركت هذا ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، وإني سمعت الله تعالى يقول عن أقوام: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20] ، فإني أخاف أن أقدم طيباتي في الدنيا ولا يكون لي عند الله في الآخرة! وفي عام الرمادة: العام السابع عشر، وكان عام مجاعة قاتلة في المدينة المنورة، حرم عمر على نفسه اللحم وغيره من أنواع الطعام الشهي، وأبى إلا أن يأكل الزيت، وأمر في يوم من أيام هذا العام القاتل بذبح جزور وتوزيعه على الناس في المدينة، وعند وقت الغداء دخل ليتناول طعامه، فوجد أشهى ما في الجزور من لحم، فقال: من أين هذا؟! فقالوا: إنه من الجزور الذي ذبح اليوم يا أمير المؤمنين! فقال -وهو يزيح الطعام عن مائدته بيده المباركة-: بخ بخ! بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها وتركت للناس كراديسها، يا أسلم! ارفع عني هذا الطعام، وائتني بخبزي وزيتي! فوالله إن طعامكم هذا علي حرام حتى يشبع منه أطفال المسلمين. أي عظمة! أي طراز من البشر كان عمر! يا رافعاً راية الشورى وحارسها جزاك ربك خيراً عن محبيها رأي الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها جوع الخليفة والدنيا بقبضته في الزهد منزلة سبحان موليها يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى فقومي لبيت المال رديها كذاك أخلاقه كانت وما عهدت بعد النبوة أخلاق تحاكيها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 ورع عمر وولده عبد الله ولو رأيت حسابه الشديد لابنه التقي النقي الزاهد الورع عبد الله بن عمر، الذي كان إماماً في الورع والزهد، انظروا إلى حساب عمر رضي الله عنه وأرضاه لهذا التقي النقي. يخرج عمر بن الخطاب يوماً إلى السوق، فيرى إبلاً سماناً، فيسأل عمر: إبل من هذه؟ فيقول الناس: إبل عبد الله بن عمر، فينتفض عمر وكأن القيامة قد قامت! ويقول: عبد الله بن عمر بخ بخ يا ابن أمير المؤمنين! ائتوني به. ويأتي عبد الله على الفور ليقف بين يدي عمر رضي الله عنه، فيقول عمر بن الخطاب لولده عبد الله: ما هذه الإبل يا عبد الله؟! فيقول: يا أمير المؤمنين! إنها إبلي اشتريتها بخالص مالي، وكانت إبلاً هزيلة، فأرسلت بها إلى الحمى -أي: إلى المرعى- أبتغي ما يبتغيه المسلمون: أتاجر فيها، فقال عمر بن الخطاب في تهكم لاذع مرير قاس على إمام من أئمة الورع والزهد عبد الله، قال عمر: نعم وإذا رآها الناس قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، واسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، فتسمن إبلك ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين! قال عبد الله: نعم يا أبتِ، قال: اذهب وبع هذه الإبل كلها، وخذ رأس مالك فقط، ورد الربح إلى بيت مال المسلمين. والله إن قلبي لينتفض! ولو وقف أدباء الدنيا بما آتاهم الله من بلاغة وفصاحة لسان، وعظمة وبراعة في الأسلوب والتبيان، فلن يستطيعوا أن يتحدثوا عن فاروق هذه الأمة عمر، ماذا أقول؟! إن من أروع الأمور أن ندع المواقف هكذا بدون تعليق لتتحدث المواقف بذاتها عن جلال عمر، وعن عظمة عمر، وعن هيبة عمر، وعن يقين عمر، وعن إيمان عمر؛ لنرفع رءوسنا لتعانق كواكب الجوزاء، لنقول بعزة: إن عمر ابن من أبناء إسلامنا، تربى في مدرسة الإسلام، وتخرج على يد محمد عليه الصلاة والسلام. وكيف لا يكون عمر كذلك وهو الذي رأى أستاذه ومعلمه محمداً صلى الله عليه وسلم يقول لابنته الحبيبة فاطمة البتول: (يا فاطمة! إن من المسلمين من هو في حاجة إلى هذا المال منك) ، فشرب عمر من هذا النبع الصافي، وارتوى عمر من هذا النبع الكريم، وتخرج عمر من هذه المدرسة، وعلى يد محمد عليه الصلاة والسلام. أيها الأحبة! من أراد أن ينظر إلى العظمة الإنسانية في أوج ذراها وعلاها فلينظر إلى عمر، ذلكم الرجل الذي انهارت أمام قدميه أعظم الامبراطوريات، وجاءته مغانمها وذهبها وفضتها، تسيل على عتبة داره بين قدميه، فلم يتغير لحظة، ولم تغيره طرفة عين، ذلكم هو عمر الذي لو تحدثت عنه عشر جمع والله ما كفاني ذلك، ولكني ألخص ما ذكرته وما ينبغي أن أذكره من حياة عمر بقولة أو بكلمات قليلات، وهذا من الصعوبة بمكان، فأقول: عمر رجل عظيم رضي الله عن عمر بن الخطاب، وأسأل الله جل وعلا أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يجمعنا به مع أستاذه ومعلمه في دار تجمع سلامة الأبدان والأديان، إنه ولي ذلك ومولاه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 مقتل عمر وخوفه الشديد من ذنوبه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! هل بقي شيء ممكن أن يقال عن عمر؟ أستعفر الله، بل هل قلنا شيئاً عن عمر؟ ما قلنا شيئاً من الكثير الكثير الذي ينبغي أن يقال عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويكفي أن نقف مع هذه المواقف التي تعلمنا من الدروس الكثير والكثير، وهاهو العملاق، وهاهو الأسد في عرينه يتقدم رضي الله عنه وأرضاه في يوم من الأيام الحزينة التي مرت على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، يتقدم عمر الفاروق ليؤم المسلمين في صلاة الفجر، ويتقدم العلج أبو لؤلؤة المجوسي عليه من الله ما يستحقه؛ ليطعن الأسد في عرينه ليطعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه! ولم تشغل عمر الطعنات عن أن يواصل المسلمون عبادتهم، وعن أن يتم المسلمون صلاتهم، فيجذب عمر بن الخطاب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه؛ ليقدمه مكانه ويصلي بالمسلمين صلاة الفجر، وينتهي المسلمون من صلاة الفجر، ويحمل الأسد إلى بيته يحمل العملاق التقي النقي الطاهر يحمل عمر إلى داره. ويزداد ألمه، ويقول لولده عبد الله: يا عبد الله! اذهب إلى عائشة أم المؤمنين وقل لها: يستأذن عمر بن الخطاب ولا تقل: يستأذن أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين بأمير. أي دقة! وقل لها: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، هذا هو همه، وهذا هو شغله، عاش في الدنيا مع حبيبيه وصاحبه، مع حبيبه المصطفى ومع خليفته أبي بكر رضي الله عنه، ولا هم له بعد الموت إلا أن يواصل بقية ما بقي له في عالم البرزخ مع هذين الجليلين الكريمين حتى يلتقي بهما، ويبعث معهما في يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة. يا عبد الله! اذهب إلى عائشة أم المؤمنين وقل لها: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، مع الحبيب المصطفى ومع أبي بكر رضي الله عنه، فذهب عبد الله فوجد عائشة تبكي لما وصلها خبر مقتل عمر رضي الله عنه وأرضاه، وقالت عائشة التقية العالمة الورعة الذكية: والله لقد كنت أريد هذا المكان لنفسي، ولكني أوثر اليوم عمر على نفسي. ويرجع عبد الله بأسعد خبر لأبيه عمر، فلم يكن هناك شيء يشغل عمر إلا هذا، فقالوا: عبد الله قد أقبل يا أمير المؤمنين، قال: أجلسوني، فأجلسوه، فنظر إليه قال: ما وراءك يا عبد الله؟ قال: أبشر يا أمير المؤمنين، لقد وافقت عائشة رضي الله عنها أن تدفن مع صاحبيك، فسعد عمر سعادة غامرة وقال: والله ما كان هناك شيء يشغلني غير هذا. ولكنه التقي النقي، الدقيق في كل كلمة من كلماته، وفي كل موقف من مواقف حياته، فبعد كل هذا يقول لـ عبد الله: يا عبد الله! إذا أنا قضيت -أي: إذا أنا مت- وحملتموني وذهبتم إلى بيت عائشة فاجعلوني خارج الدار، واستأذن عليها مرة أخرى، فلربما تكون قد استحت مني في حياتي وترفض ذلك بعد مماتي، فإن أذنت فادفنوني مع صاحبي، وإن أبت فردوني إلى مقابر المسلمين. ويدخل عليه شاب والحديث في البخاري، يقول: أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! أبشر بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقدمك في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة في سبيل الله! أتدرون ماذا قال عمر؟! أتدرون ماذا قال الفاروق الذي كان يقول لنفسه كل لحظة: ماذا تقول لربك غداً يا عمر؟! فقد خرج عثمان بن عفان ذات يوم ينظر من شرفه من شرفات بيته، فيرى رجلاً تعلوه الرمال، وتحرقه الشمس في وقت الظهيرة، وينظر ويقول: من هذا الذي خرج في هذا الوقت؟! وحينما يقترب يراه أمير المؤمنين يراه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فيقول: يا أمير المؤمنين! ما الذي أخرجك في هذه الساعة المحرقة؟! فيقول عمر: يا عثمان! بعير من إبل الصدقة قد ند، وأخشى أن يسألني عنه ربي يوم القيامة! فيبكي عثمان ويقول: يا أمير المؤمنين! إن عبداً من عبيدك يكفيك هذا، فيقول عمر: وهل هناك أعبد مني؟! ارجع إلى ظلك يا عثمان، فيبكي عثمان ويقول قولته الخالدة: (والله لقد أتعبت كل من جاء بعدك يا عمر! لقد أتعبت كل من جاء بعدك يا عمر، والله لقد أتعبت كل من جاء بعدك يا عمر) . بكى عمر بن الخطاب بعد هذه البشريات التي بشر بها: بقدم في الإسلام، وبصحبة رسول الله، وبعدل لم تعرف البشرية له مثيلاً على مدار التاريخ، وبشهادة في سبيل الله، وهو يصلي في محراب الصلاة، بعد كل هذا أتدرون ماذا قال عمر؟! نظر إلى هذا الشاب وقال: والله لوددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا عليَّ! عمر يقول هذا، يريد أن يخرج من الدنيا بغير أجر وبغير وزر: لا لي ولا علي. فماذا نقول إن كان عمر الفاروق -والحديث في صحيح البخاري - يقول: وددت أن أخرج كفافاً لا لي ولا عليَّ! فقد حملنا بالأوزار والذنوب والسيئات، ومنا من يكلمك وكأنه قد وقع عهداً مع الله، وأخذ صكاً على الله أنه من أهل الجنة، بغير صلاة وبغير صيام وبغير زكاة! وبغير ورع وطاعة وتقى! إذا ما اقتربت منه يقول: إن لم ندخل الجنة نحن فمن يدخلها؟! هذا هو فاروق الأمة عمر رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 تذلل عمر بين يدي الله تعالى وروى ابن سعد في الطبقات بسند صحيح أن عثمان بن عفان قال: كنت أنا آخر الناس عهداً بـ عمر، دخلت عليه بيته ورأسه في حجر ولده عبد الله، فنظر عمر إلى ولده وقال: يا عبد الله! ضع رأسي على الأرض، فنظر عبد الله وقال: يا أبتِ! وهل هناك فرق بين أن تكون في حجري وبين أن تكون على الأرض؟ قال عمر: يا عبد الله! ضع هذا على الأرض! أي ذل لله هذا؟! وأي تواضع لله هذا؟! يا عبد الله! ضعها على الأرض، ثم يقول عمر: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي. الله أكبر! والله لا أجد ما أقوله تعليقاً على هذه المواقف التي تحرك القلوب الميتة، التي تحرك الأعين الجامدة، وكفانا فخراً أن نقول في نهاية المطاف: إنه ابن الجزيرة العربية الذي خرجته مدرسة الإسلام، ورباه محمد عليه الصلاة والسلام. اللهم اجز عنا عمر بن الخطاب خير ما جازيت مصلحاً أو صالحاً، اللهم اجزه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، اللهم اغفر لنا وله، واجمعنا به في دار كرامتك يا أرحم الراحمين، اللهم متعنا برؤياهم مع إمامهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم، اللهم ألحقنا بهم على طاعة ترضيك يا رب العالمين! اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم اجعل هذه البلاد سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين إلى ما تحبه وترضاه، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة برحمتك يا أرحم الراحمين! أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على أستاذ البشرية، ومعلم الإنسانية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فلقد أمركم الله جل وعلا بذلك في محكم كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 مصابيح الهدى - عثمان بن عفان عثمان رضي الله عنه هو ثالث الخلفاء الراشدين، بويع له بالخلافة بعد مقتل عمر رضي الله عنه بإجماع الصحابة الموجودين في عصره، وهو من العشرة الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بنته، فلما ماتت زوجه الأخرى، وفضائله رضي الله عنه كثيرة، وقد قتله الخوارج الموتورون ظلماً وعدواناً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 1 بعض فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله! ونضر الله هذه الوجوه المشرقة الطيبة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتقبل منا صالح الأعمال، وأن يجمعنا وإياكم دائماً وأبداً في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله! مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى: نحن على موعد مع الأواب التواب، مع الحيي الكريم، مع التقي العابد النقي الورع، إنه التقي النقي الحيي ذو النورين، وصاحب الهجرتين، والمصلي إلى القبلتين، إنه الرجل الذي كان إسلامه غضاً وديعاً كأنفاس الزهر في فجر الربيع، مع أول إشراقة وإطلالة للإسلام، فلم يكد الصديق يهمس في أذن هذا الرجل التقي النقي بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا وينفتح قلبه للإسلام عن آخره، ويمضي ليسابق الزمن إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم ليشهد شهادة الحق والصدق بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه الرجل الذي لم يقرأ الموتورون والمرجفون والمجرمون تاريخه إلا من آخره، فأصابوا تاريخه كله من أوله إلى آخره بالأذى والتشويه، مع أن النور أقوى من الظلام، ومع أن الفضيلة أقوى من الخطأ، ومع أن الإيمان أقوى من الزلل، وإن الخطأ مهما يكن شأنه لا يستطيع أن يقهر عظمة الفضيلة أو أن يطفئ نورها، أو أن يرد تاريخها وروحها تراباً في تراب! إننا اليوم على موعد مع الشهيد المظلوم، إننا على موعد مع عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 استحياء النبي صلى الله عليه وسلم من عثمان رضي الله عنه أحبتي في الله! تعالوا بنا مباشرة لنستهل حديثنا المبارك عن هذا الرجل التقي النقي الحيي المبارك بقول الحق، وشهادة الصدق، وقول الفصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق هذا الرجل المظلوم المفترى عليه؛ لتكون هذه الشهادة من أول الطريق إلى آخره بمثابة النور الذي سيبدد لنا كل الشبهات، والذي سيدمر لنا كل المؤامرات، فهي بمثابة النور الذي من خلاله سنرى عثمان التقي النقي الحيي. ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم وهو على حاله -أي: وهو كاشف لفخذيه أو ساقيه- ودخل الصديق رضي الله عنه فحدث النبي صلى الله عليه وسلم ثم خرج، تقول عائشة: فاستأذن عمر فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم وهو على ذلك -أي: وهو على تلك الحال- فدخل عمر بن الخطاب فحدث النبي صلى الله عليه وسلم وخرج، ثم استأذن عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، فقبل أن يأذن له النبي صلى الله عليه وسلم جلس وسوى ثيابه، واعتدل في جلسته، ثم أذن لـ عثمان رضي الله عنه، فدخل عثمان بن عفان فحدث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خرج عثمان فطنت الذكية التقية النقية الأمر وأرادت أن تسأل عن الخبر، فقالت عائشة: يا رسول الله! دخل أبو بكر وأنت كاشف عن ساقيك أو فخذيك، فحدثك وأنت على هيئتك، فلم تهتش له، ولم تبال به، ودخل عمر فحدثك وأنت على هيئتك، فلم تهتش ولم تباله، فلما دخل عثمان جلست وسويت ثيابك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!) يا خالق عثمان سبحانك أي طراز كان هذا الرجل! عثمان تستحي منه ملائكة الرحيم الرحمن! عثمان ينال هذه الشهادة، ويتوج بهذه الكرامة، ويوصف بهذه الفضيلة، ويحلى بهذا الوسام العالي الغالي الكريم: (يا عائشة! ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة!) يا لها من شهادة! والله! لو لم يخرج عثمان من الدنيا إلا بها لكفته شرفاً وفخراً في الدنيا والآخرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بالجنة وخذوا المزيد أيها الأحباب! ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (توضأت يوماً في بيتي وخرجت قائلاً: لألزمن اليوم رسول الله، ولأكونن معه يومي هذا، فخرجت أتبع أثره، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم بئر أريس، فتوسط قف البئر وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، يقول أبو موسى: فدخلت على رسول الله فسلمت عليه صلى الله عليه وسلم، ثم انصرفت وجلست عند الباب، وقلت: لأكونن اليوم بواب رسول الله -الله أكبر! - يقول: وإذا رجل يحرك الباب، فقلت: من؟ قال: أبو بكر، فقال أبو موسى: على رسلك، -أي: انتظر- ودخل أبو موسى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائذن له وبشره بالجنة، يقول أبو موسى: فجئت أبا بكر فقلت: ادخل، ورسول الله يبشرك بالجنة. فدخل أبو بكر رضي الله عنه، فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على القف، وكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلست عند الباب وقلت: إن يرد الله بفلان خيراً يأت به -يقصد أبو موسى أخاه رضي الله عنهما- يقول: فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت: من؟ قال: عمر بن الخطاب، فقال أبو موسى: على رسلك، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عمر بن الخطاب يستأذن عليك يا رسول الله! فقال الحبيب: ائذن له وبشره بالجنة، فجئت عمر فقلت: ادخل، ورسول الله يبشرك بالجنة، ثم جلست عند الباب وقلت: إن يرد الله بفلان خيراً -يعني: أخاه- يأت به، فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت: من؟ قال: عثمان بن عفان، قلت: على رسلك، فذهبت إلى رسول الله وقلت: يا رسول الله! هذا عثمان بن عفان يستأذن عليك) يقول أبو موسى كما في بعض الروايات في غير صحيح مسلم: (فسكت النبي صلى الله عليه وسلم هنيهة، ثم قال: يا أبا موسى! ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه) . بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] . يقول: فذهبت إلى عثمان وقلت: ادخل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة مع بلوى تصيبك، فقال عثمان -كما في بعض الروايات-: نصبر، وفي بعض الروايات قال: الله المستعان! ودخل عثمان فوجد القف قد امتلأ، فجلس مقابلاً للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما، وكشف عن ساقيه ودلاهما كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 تبشير عثمان رضي الله عنه بالشهادة وبعد البشارة بالجنة تأتي البشارة بالشهادة، لقد بُشر عثمان بالشهادة في سبيل الله بعد البشارة بالجنة، كما في الحديث الذي رواه البخاري والترمذي وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحداً -أي: على جبل أحد- وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم الجبل، فخاطب النبي الجبل وقال: اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) ، والنبي هو: محمد صلى الله عليه وسلم، والصديق: هو أبو بكر، والشهيدان هما: عمر وعثمان رضي الله عنهما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 شراء عثمان رضي الله عنه لبئر رومة ولن نخرج في هذا اللقاء عن أوسمة الشرف، وشهادات البطولة والفضيلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عثمان بن عفان؛ ليقف المرجفون وليخرس الموتورون في كل زمان ومكان، الذين ما زالوا إلى يومنا هذا على صفحات الجرائد وفي الإذاعات يتهمون عثمان، ويظلمون عثمان رضي الله عنه، ويتكلمون عنه وعن إخوانه من الصحابة كما يتكلمون عن سفلة الخلق وحطمة الناس!! لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة اشتكى الصحابة رضي الله عنهم أزمة خطيرة، اشتكوا أزمة الماء؛ لأنه لم يكن بالمدينة ماء يستعذب غير بئر رومة، وكانت ليهودي جشع وقح، يبيع ملء القربة بأغلى الأثمان! فاشتكى الفقراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جشع هذا اليهودي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن لو وجد من بين الصحابة من يشتري بئر رومة ويجعل ماءها للمسلمين بغير ثمن ولا حساب، وقام النبي صلى الله عليه وسلم يعلن رغبته هذه بين الصحابة، كما في الحديث الذي رواه الترمذي بسند حسن قال صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومة، ويجعل دلوه مع دلاء المسلمين، وله بها عين في الجنة؟! -وفي رواية: وله بها خير منها في الجنة؟! -) ولم تجد الأزمة إلا عثمانها المعطاء رضي الله عنه، الذي سمع الدعوة من رسول الله، وأن فيها عيناً في الجنة! فعلم أنها نعم التجارة، وأنها أربح التجارة، وينطلق عثمان سريعاً إلى هذا اليهودي يريد أن يشتري منه البئر بكاملها، فيرفض اليهودي الجشع أن يبيع البئر، فساومه عثمان على أن يشتري نصفها، فاشترى عثمان نصفها باثني عشر ألف درهم! على أن يكون لليهودي يوم ولـ عثمان يوم آخر، وكان المسلمون يستسقون في يوم عثمان ما يكفيهم ليومين، فلما رأى اليهودي الغبي أن تجارته قد بارت، وأن سوقه قد كسدت، ذهب بنفسه إلى عثمان ليعرض عليه النصف الآخر، فاشترى عثمان نصفها الآخر بثمانية آلاف درهم؛ ليجعل ماء البئر كله إلى المسلمين بغير ثمن ولا حساب، أقصد: بغير ثمن ولا حساب مادي زائل؛ لأن حطام الدنيا ظل زائل، ولأن المال عارية مسترجعة، وإنما الثمن الأعظم والحساب الأكبر في صحائف عثمان هو يوم القيامة: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 توسعة عثمان رضي الله عنه للمسجد النبوي وينظر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المسجد، فيرى المسجد يضيق بأصحابه، ويرى بعضهم لا يجد مكاناً للصلاة، فينظر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (من يزيد في مسجدنا؟!) وتجد الدعوة مرة أخرى عثمانها المعطاء، وينطلق سريعاً لشراء قطعة أرض مجاورة لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليقدمها كريمة سخية بها نفسه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 ذهاب عثمان رضي الله عنه لمفاوضة قريش عام الحديبية وفي العام السادس للهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للعمرة، وسمعت قريش الخبر، فاستعدت قريش لقتال النبي عليه الصلاة والسلام وقالت: إنه لن يدخلها علينا عنوة، ووصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقر النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عند الحديبية على مشارف مكة، وقد ساق الهدي بين يديه؛ ليخبر قريشاً أنه ما جاء محارباً ولا مقاتلاً ولا غازياً، وإنما جاء زائراً ومعظماً لبيت الله جل وعلا، ولكن قريشاً أبت، وبعثت قريش رسلها؛ لتحول بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين مكة، ولتحذر الرسول صلى الله عليه وسلم بأس قريش، وعاد الرسل؛ ليحذروا قريشاً بأس محمد وأصحابه، فهذا عروة بن مسعود الثقفي آخر هؤلاء الرسل، يرى مكانة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فيرجع إلى قريش قائلاً: يا معشر قريش! إني جئت كسرى في ملكه، وجئت قيصر في ملكه، وجئت النجاشي في ملكه، والله! ما رأيت ملكاً يعظمه قومه مثل ما رأيت أصحاب محمد يعظمون محمداً! وما رأيت ملكاً يحبه قومه مثل ما رأيت أصحاب محمد يحبون محمداً، ووالله! إنهم لن يسلموه أبداً، فروا رأيكم!! ويرى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل رسولاً من عنده؛ ليقنع قريشاً وأشرافها بأنه ما جاء محارباً ولا غازياً ولا مقاتلاً، وإنما جاء معظماً للبيت وزائراً، وها هو الهدي قد ساقه بين يديه، فمن يختار لهذه المهمة؟ انتدب لهذه المهمة صحابياً جليلاً يقال له خراش بن أمية الخزاعي، وذهب خراشاً لهذه المهمة الخطيرة، ولم تكد قريش ترى خراشاً رضي الله عنه حتى عقرت ناقته وكادت قريش أن تقتله لولا أن الأحابيش خلصت خراشاً من الموت، وعاد خراش إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليقص عليه ما حدث، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب لهذه المهمة الكبيرة الخطيرة، فقال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! إنك تعلم أنه ليس بمكة أحد يمنعني، ولقد علمت قريش عداوتي وبغضي لها، ولكني سأدلك على رجل أعز مني في قريش) . أتدرون من هو هذا الرجل الذي يصلح وحده للقيام بهذه المهمة الكبيرة؟! إنه عثمان بن عفان رضي الله عنه، فاستدعى النبي صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه، وكلفه بهذه المهمة، ولم يتردد عثمان لحظة، ولم يتلعثم برهة، وإنما انطلق على الفور لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يفكر أيرجع حياً أم يموت شهيداً بمكة! لكنه الامتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرضي الله عن عثمان وأرضاه. وانطلق عثمان إلى أشراف قريش، فبلغهم رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن النبي ما جاء غازياً ولا محارباً ولا مقاتلاً، وإنما جاء لزيارة البيت ولتعظيمه، وسمع أشراف قريش من عثمان، ونظر عثمان إلى البيت، فلما رآه أشراف قريش ينظر إلى البيت قالوا له: إن أردت أن تطوف بالبيت فطف ولا مانع، أتدرون ماذا قال عثمان؟! نظر إليهم وقال: (والله! ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله!) إنها التربية. فاحتبسته قريش، وشاع الخبر بأن عثمان قد قتل، وهنا قام الصحابة رضي الله عنهم؛ ليبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الموت، وهي أعظم بيعة عرفها التاريخ كله! إنها البيعة التي سميت ببيعة الرضوان، والتي سجل القرآن ذكرها إلى يوم القيامة، فقال ربنا جل وعلا عن هؤلاء الأطهار الأبرار: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18] ، بل ويثني الله جل وعلا على هؤلاء بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] ، فقام الصحابة ليمدوا أيديهم ويبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، بعدما بلغهم خبر مقتل عثمان، أتدرون ماذا فعل النبي وماذا قال؟! رفع النبي صلى الله عليه وسلم يده وقال: (هذه يد عثمان، وضرب بها على يده الأخرى) ، يقول أنس: فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عثمان خير من أيديهم لأنفسهم. والحديث رواه الإمام الترمذي بسند حسن، وله شاهد في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. هكذا أيها الأحباب! كانت يد النبي صلى الله عليه وسلم مكان يد عثمان رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 تجهيز عثمان رضي الله عنه لجيش العسرة وبعد ثلاثة أعوام من عام الحديبية تترامى الأنباء إلى مسامع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هرقل ملك الروم يستعد لغزو المسلمين في المدينة المنورة نفسها، وكان الحر شديداً، وكان الصيف حاراً يصهر الجبال ويذيب الحجارة، ولو أن المسلمين خرجوا بإيمانهم للجهاد في سبيل الله تحت وطأة هذا الحر القاتل، وعلى هذه الصحراء الملتهبة المتأججة فأين السلاح؟! وأين العتاد؟! وأين النفقات التي يتطلبها القتال؟! وقام النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليحث أصحابه على الإنفاق في سبيل الله لتجهيز جيش العسرة، وتجد الأزمة مرة أخرى عثمانها المعطاء، ففي الحديث الذي رواه الترمذي بسند حسن من حديث عبد الرحمن بن سمرة أنه قال: (جاء عثمان بن عفان بألف دينار فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي يقلبها بيده وهو يقول: ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم! ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم!) يا لها من شهادة! أيشهد رسول الله لـ عثمان بقوله: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم) ، ويأتي المجرمون والموتورون والمرجفون ليشهدوا على عثمان بالخيانة؟! وفي الحديث الذي رواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن خباب وفيه فرقد أبو طلحة وهو مجهول، وبقية رجال الإسناد ثقات، قال الحافظ ابن حجر في (الإصابة) : وقد ورد هذا الحديث من طرق كثيرة شهيرة صحيحة عن عثمان رضي الله عنه، يقول عبد الرحمن بن خباب رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الصحابة إلى تجهيز جيش العسرة، فقام عثمان وقال: يا رسول الله! عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على تجهيز الجيش فقام عثمان للمرة الثانية وقال: يا رسول الله! عليَّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على تجهيز الجيش فقام عثمان للمرة الثالثة فقال: يا رسول الله! عليَّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من على المنبر وهو يقول: ما على عثمان ما عمل بعد اليوم! ما على عثمان ما عمل بعد اليوم!) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 بيعة عثمان رضي الله عنه واستمر عثمان على ذلك حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عن عثمان راضٍ، واستمر عثمان على ذلك مع أبي بكر حتى توفي وهو عن عثمان راضٍ، واستمر عثمان على ذلك حتى طعن الفاروق رضي الله عنه، فكان عثمان واحداً من الستة الذين اختارهم عمر رضي الله عنه ليكون من بينهم الخليفة الجديد. وبعد موت عمر قام الناس جميعاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعون عثمان رضي الله عنه؛ ليصبح عثمان خليفة المسلمين بعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهم جميعاً، وها هي الأيام تمر والأشهر تجري وراءها وتسحب معها السنين ليقف عثمان بن عفان -ذلكم التقي النقي الحيي- ليأخذ البيعة من المسلمين ومن المهاجرين والأنصار أصحاب نبينا المختار صلى الله عليه وسلم. ويذكر الحافظ ابن كثير أن عثمان استهل عهده المبارك بالكتب إلى الأمراء والولاة وأئمة الصلاة وأمناء بيت المال يأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحثهم على الاتباع وعدم الإحداث والابتداع، ورأى عثمان بيت المال مليئاً بالخيرات، فزاد في عطاء الناس، وأمر بأن يقدم الطعام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة مستمرة دائمة للمتعبدين والمتعلمين وأبناء السبيل. ولم يكد عثمان يستقر إلا وانتشرت الإشاعات بأن الفوضى قد نشبت في بلاد المسلمين بعد مقتل الخليفة القوي عمر! ولم يجد المسلمون إلا الخليفة الشيخ الذي هو في سن السبعين ليولوه خليفة على المسلمين! ولكن هذا الخليفة الشيخ سرى تحت إهابه شباب التاريخ، وقام ليعلم هؤلاء الموتورين: أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يقاسون بالسنين والأعمار، وأصدر عثمان الأوامر، واختار بنفسه قيادة الجيش؛ لتأديب وتقليم أظفار هؤلاء، بل ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أمرهم بأن يتجاوز المد الإسلامي هذه البقاع إلى أبعد وأبعد، وبالفعل أيها الأحباب! مهدت الأرض لهذا المد الإسلامي الجسور، وانطلق المد الإسلامي في عهد عثمان كأنه الليل والنهار، والخليفة الراشد قابع في المدينة المنورة تأتيه الغنائم والأموال بغير حساب. ولكن لم تلبث هذه الريح الهادئة الباردة أن تتحول إلى عاصفة شديدة يشد بعضها بعضاً، وينادي بعضها بعضاً؛ لتتحول أخيراً إلى إعصار مدمر قاتل، تسقط فيه شراسة المتآمرين والمجرمين إلى الحضيض، ويتسامى تسامق الخليفة إلى القمة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 عبد الله بن سبأ اليهودي هو من أثار الفتنة على عثمان الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فيأيها الأحباب! أعيروني القلوب والأسماع؛ لنعيش بعض الدقائق مع هذه الفتنة الحالكة التي انتهت بمقتل الخليفة الراشد رضي الله عنه وأرضاه. نشأت الفتنة على يد اليهودي الخبيث عبد الله بن سبأ المكنى بـ ابن السوداء، هذا الرجل الذي دخل في الإسلام في ظروف غامضة! وانتحل الإسلام، وادعى حرصه وغيرته الشديدة على قيمه وحدوده وحرماته! وانطلق ابن السوداء إلى المدينة المنورة؛ ليدرس أحوال المدينة في صمت وخبث ودهاء، وليتسمع أخبار الأمصار والأقاليم، وليرسم خطته بإحكام وإتقان، ولما انتهى من رسم الخطة انطلق في الأمصار وفي البلاد؛ لينفث سمومه الكبيرة! ووجدت هذه السموم بعض الآذان الصاغية من الموتورين! وهؤلاء لا يخلو منهم زمان ولا مكان، حتى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانطلق هذا الرجل الخبيث بهذه العبارة الخطيرة، وبهذه الفتنة الكبيرة التي بدأها بالطعن في خلافة عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وقال عبارته الشهيرة: إن لكل رسول وصياً، وإن علياً وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن عثمان وثب على الأمة، وأخذ الحق من صاحبه! هذه هي بداية الفتنة، وانطلق في البلاد والأمصار، فبدأ بالبصرة، ثم ذهب إلى الكوفة، ثم إلى الشام، ثم إلى مصر، ونجح ابن السوداء في أن يستقطب بعض الموتورين من ضعفاء النفوس وأصحاب أمراض القلوب، واتفقوا جميعاً تحت هذه المظلة التي تخدع الكثير والكثير في كل زمان ومكان! ومما قال لهم محبباً لمنهجهم: تظاهروا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -انظروا إلى المنهج! - لتستميلوا الناس إليكم! وابدءوا بالطعن في أمرائكم، وقولوا: إن علياً وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن عثمان قد اعتدى عليه، وأخذ الحق من صاحبه، فانهضوا؛ لتردوا الحق إلى أهله! واتفق هؤلاء على أن يلتقوا جميعاً بالمدينة المنورة، وخرجوا وقد تظاهروا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأبلغوا الناس أنهم ما خرجوا إلا للقاء عثمان رضي الله عنه وأرضاه؛ ليستعفوا بعض عماله، ووصلوا إلى المدينة المنورة في أعداد تقل قليلاً عن ثلاثة آلاف رجل، في الوقت الذي كان فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في البعوث والغزوات، بل ومنهم من خرج إلى حج بيت الله الحرام. ولما سمع عثمان الخبر أرسل إليهم رجلين من بني مخزوم من رجاله، فوصل الرجلان إلى القوم فعلما حقيقة الأمر، وأن القوم ما خرجوا إلا لأمرين: إما لخلع عثمان، أو لقتله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 رد عثمان على الشبه التي نقموا عليه بها وأُخبر عثمان بذلك، فجمع عثمان الناس في المسجد، وقام على المنبر خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وأخبرهم بحقيقة القوم، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار: اقتلهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: (من دعا إلى نفسه أو إلى أحد وعلى الناس إمام فعليه لعنة الله، واقتلوه) ، أتدرون ماذا قال الحيي التقي النقي؟ لقد قال: (كلا، بل نعفو ونقبل، ونبصرهم بجهلنا، ولا نقتل أحداً حتى يرتكب حداً أو يبدي كفراً) ثم بدأ عثمان يرد على المسائل التي نقموا عليه فيها، ويرد اتهامات القوم، ويرد إشاعات الناس؛ لأنهم قالوا: إنه خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وأتم الصلاة في المزدلفة في الحج وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة وأبو بكر وعمر، فقال عثمان: (أما وإني قد أتيت بلداً فيه أهلي فأتممت الصلاة لذلك -وهذا اجتهاد منه رضي الله عنه- ثم التفت إلى القوم وقال: أكذلك هو؟ قالوا: اللهم نعم. ثم قال عثمان: وقالوا: بأنني أحميت الحمى -أي: كثرت أموالي وكثرت المراعي الخاصة بي- أما والله لقد وليت عليكم وليس في العرب من هو أكثر مني بعيراً وشاة، وأنا اليوم لا أملك بعيراً ولا أملك شاة إلا بعيرين اثنين لحجي، أكذلك هو؟ قالوا: اللهم نعم. قال عثمان: واتهموني بأنني أكثرت العطاء لـ عبد الله بن أبي سرح، ووالله! ما أفأت عليه إلا بما أفاء الله عليه من قبل، وإلا بما فعله أبو بكر وعمر، أكذلك هو؟ قالوا: اللهم نعم. وقال عثمان: واتهموني بأن القرآن كان صحفاً فجعلت القرآن كتاباً واحداً، ووالله! إن القرآن لكتاب واحد نزل من عند واحد ولم أفعل إلا ما فعله صاحباي: أبو بكر وعمر، أكذلك هو؟ قالوا: اللهم نعم. وقال عثمان: واتهموني بأني أحب أهلي وأعطيهم من مال المسلمين، أما والله! إن حبي لهم لم يملني معهم على جور، وإنما أقمت حقوق الله عليهم، وأما عطائي لهم فمن مالي، ووالله إنني إلى يومي هذا ما أكلت من مال المسلمين، وإنما آكل إلى اليوم من خالص مالي!) . وفند عثمان رضي الله عنه هذه الشبهات، وهذه الأقاويل والافتراءات، وهذه الادعاءات، وهل نصدق أحداً بعد عثمان رضي الله عنه وأرضاه؟! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 هدف الخارجين على عثمان رضي الله عنه وظن عثمان أن الناس قد انطفأت نار الفتنة في قلوبهم، ولكنه نسي أن هؤلاء ما خرجوا لله، وما خرجوا للدار الآخرة، وما خرجوا ابتغاء مرضاة الله، وإنما خرجوا لنار تتأجج في قلوبهم، وتشتعل في صدورهم، وعاد القوم وقد اتفقوا على أن يعودوا مرة أخرى لحصار المدينة، ولو أرادوا الخير لعادوا إلى أوطانهم، ولو أرادوا الحق لانشرحت صدورهم بعد هذه الحجج، ولكنهم عادوا وما جاءوا إلا بما عادوا به، وما عادوا إلا بما جاءوا به. واتفقوا على أن يعودوا إلى المدينة مرة أخرى، واصطبح أهل المدينة ذات صباح بهؤلاء الثوار الموتورين المسلحين وهم يحاصرون المدينة من كل جانب، وينتشرون في شوارعها، ولم يراعوا حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حرمة خليفة رسول الله، ولا حرمة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل وحاصروا بيت الخليفة، ومنعوا عنه زواره، ومنعوا عنه الطعام، بل ومنعوا عنه الشراب وهو الذي اشترى بئر رومة من خالص ماله رضي الله عنه وأرضاه! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 عدم دفاع عثمان عن نفسه وورعه عن إراقة الدماء وذهب بعض الصحابة إلى عثمان رضي الله عنه؛ ليعرضوا عليه الأمر في خفية، فقالوا: يا خليفة رسول الله! أرسل إلى البلاد أن يبعثوا إليك مدداً لقتال هؤلاء، أتدرون ماذا قال؟! قال بيقين وثبات عجيبين: (ما أحب أن ألقى الله وفي عنقي قطرة دم لامرئ مسلم) يا سبحان الله! فأشاروا عليه مشورة ثانية فقالوا: فلتخرج إلى الشام إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه؛ فإن الأمر في الشام على خير ما يرام. فقال: (والله! ما كنت بالذي يختار جواراً على جوار رسول الله) فأشاروا عليه أمراً ثالثاً أشار به معاوية فقال: أرسل إليك جيشاً من الفرسان لحفظ حياتك؟! أتدرون ماذا قال؟! قال: (يزاحمون أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار في المدينة؟!) . فقال معاوية: إذاً: ستغتال! فقال عثمان: (حسبي الله ونعم الوكيل!) الله أكبر! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 مقتل عثمان رضي الله عنه وفي الليلة الموعودة أيها الأحباب! يأتيه حبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه ويقول: يا عثمان! أفطر عندنا غداً كما رواه الإمام الطبري بسند صحيح، وذكره الإمام ابن الأثير في (الكامل) ، واطمأن عثمان، وعلم أن الحياة إلى زوال، وأن الحياة إلى فناء، فابن الثمانين ماذا يريد بعد ذلك؟! وهو الذي تربى في مدرسة النبوة، وهو الذي كان يردد دائماً قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45] ، فاطمأن عثمان، وعاد إلى كتاب الله الذي خطه بيمينه المباركة، فجعل يقرأ؛ ليخالط القرآن روحه، وليخالط القرآن دمه كما خالطت آيات القرآن روحه من قبل. ودخل هؤلاء الموتورون على عثمان من دار أخرى إلى جوار داره، فلم يلبث أن رآهم أمام عينيه، فلم يتلفت ولم ينتبه! وإنما انكب على كتاب الله يقرأ آيات الله، ويرتل قرآن الله جل وعلا، فانقض عليه الوقح الغافقي، ونظر إلى عثمان وبيده حديدة، فضرب عثمان بالحديدة في رأسه! وركل المصحف برجله! فاستدار المصحف وعاد بين يدي عثمان مرة أخرى، ويأبى إلا أن يخالط دماءه كما خالط روحه وقلبه! فبالله عليكم! أهؤلاء قوم يريدون الله والدار الآخرة، وهم يركلون كتاب الله بأرجلهم! ويدعون أنهم يريدون الله ورسوله؟!! ويأتي التجيبي -عليه من الله ما يستحقه- بالسيف مخترطاً ليضعه في بطن عثمان رضي الله عنه! فتأتي زوجته الصادقة المخلصة؛ لتخلص زوجها، فيقطع هذا الوغد يدها! ويضع السيف في بطن عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فيقتله! ويأتي الأحمق الآخر عمر بن الحمق ليطعن عثمان رضي الله عنه بعد هذا كله تسع طعنات في صدره! ويقول: طعنته ثلاثاً لله! وستاً لما كان في صدري عليه! ولو صدق عدو الله لقال: طعنته تسع طعنات لما كان في صدري عليه، ويأتي واحد منهم؛ ليجرد البيت من كل شيء حتى الملاءة التي كانت تلتف بها نائلة رضي الله عنها، فيأخذ الملاءة من على جسدها، فتظهر عظامها، ويظهر جسدها، فيقول الخبيث الوقح: ما أعظم عظامها! فتقول المرأة الذكية النقية: يا سبحان الله! إن القوم لا يريدون الله والدار الآخرة، وإنما يريدون الدنيا، فهل هناك رجل يريد الله والدار الآخرة يقول هذه القولة الخبيثة في زوج خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويزداد ورعهم الكاذب والخبيث، فيقفون على الطرقات؛ ليمنعوا عثمان أن يدفن في مقابر المسلمين، وقالوا: عثمان لا يدفن في البقيع، ولا يدفن في مقابر المسلمين! أيها الأوغاد عثمان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحب بئر رومة، ومجهز جيش العسرة، وزوج أم كلثوم ورقية لا يدفن في مقابر المسلمين؟!! نعم! إنه الورع الكاذب المدعى! والورع المفترى؛ لأنهم تظاهروا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليستميلوا الناس إليهم، ويدفن عثمان في حش كوكب في مكان خلف البقيع، ولما تولى معاوية رضي الله عنه أدخله في مقابر المسلمين في البقيع، وأمر الناس بالدفن حول قبر عثمان رضي الله عنه وأرضاه. أيها الأحبة! ماذا نقول؟! لا نقول أكثر من قولنا: جزى الله عثمان عن الإسلام والمسلمين خير ما جزى صالحاً أو مصلحاً. وأسأل الله جل وعلا أن يجمعنا مع عثمان ومع صاحبيه، ومع أستاذهم محمد صلى الله عليه وسلم في مستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. اللهم هيئ لأمة التوحيد أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، اللهم أصلحهم يا رب العالمين! وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذه البلاد سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم. هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد كما أمركم الله جل وعلا بذلك في محكم تنزيله فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه! والحمد لله رب العالمين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 مصابيح الهدى - عبد الله بن مسعود إن الله يرفع بكتابه أقواماً ويضع به آخرين، فها هو ابن مسعود رضي الله عنه الذي كان راعياً للغنم لبعض علوج مكة، والذي لم تكن له قيمة ولا شأن، لكن ما إن شرح الله صدره للإسلام وإذ به يتبوأ مكاناً عالياً بين الناس، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمع منه القرآن، وما زال يزداد علماً ويزداد رفعة حتى صار وزيراً لبيت المال في الكوفة وأستاذاً ومعلماً لأهلها، يتفاخر الناس بالتتلمذ على يديه رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1 ابن مسعود أقرب الناس سمتاً وهدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي لم يتخد ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، ولا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته, واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وأسأل الله جل وعلا أن يشرح صدورنا وإياكم بالإيمان والتوحيد، وأن يجمعنا وإياكم دائماً وأبداً في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله! مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى: نحن اليوم على موعد مع رجل من أقرب الناس سمتاً وهدياً ودلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن اليوم على موعد مع العالم الرباني، الأواه الأواب، الخاشع البكاء، إنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الداخل عليه دوماً وليس بمردود، والحافظ الأمين لجميع الأسرار والعهود، الذي كان يوقظ النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام، بل ويستره إذا اغتسل، إنه الضعيف القوي! إنه الفقير الغني! إنه المؤمن التقي النقي الأبي، إنه الغلام المعلم، والقارئ الملقن، والفقيه المفهم، إنه الرجل الذي وصفه فاروق الأمة عمر وصفاً دقيقاً محكماً في ثلاث كلمات لا تزيد، فقال عنه عمر: كنيف ملئ علماً! أي: وعاء ملئ علماً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 2 علم ابن مسعود في ليلة مظلمة يلقى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ركباً يضم هذا الرجل المبارك، ويخيم الليل بظلامه فيحجب الركب عن عمر رضي الله عنه، فيسأل عمر بن الخطاب: من أين القوم؟ فيجيبه هذا الرجل المبارك من وسط هذا الركب الكريم قائلاً: من الفج العميق! فيسأل عمر: إلى أين تريدون؟ فيجيب الرجل: البيت العتيق، فيعي عمر الأمر فيقول: إن في الركب عالماً. وأنصتوا بالسمع وأحضروا القلب إلى هذا الحوار الكريم بين فاروق الأمة وبين هذا الرجل العظيم المبارك. فيسأل عمر: أي القرآن أعظم؟ فيجيب الرجل من وسط الركب: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] . فيسأل عمر: أي القرآن أحكم؟ فيجيب الرجل المبارك من وسط الركب الكريم قائلاً: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90] . فيسأل عمر: أي القرآن أجمع؟ فيجيب الرجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] . فيسأل عمر: فأي القرآن أخوف؟ فيجيب الرجل المبارك: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:123] . فيسأل عمر: أي القرآن أرجى؟ فيجيب الرجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] . فينادي عمر قائلاً: أفيكم عبد الله بن مسعود؟! -إنه الغلام المعلم، والفقيه المفهم، والقارئ الملقن- فيجيب الركب قائلاً: اللهم نعم. هذا هو الذي سنسعد في صحبته في هذا اللقاء أيها الأحبة! والحق أقول: لقد صحبت التاريخ طوال الأيام الماضية لأدرس حياة عبد الله بن مسعود عن قرب فأذهلتني شخصيته، إنه رجل عجيب، جمع من الخصال الكريمة والصفات الحميدة ما لم يجتمع إلا في القليل النادر من الصحب الكرام رضي الله عنهم جميعاً، إنه رجل شامل، هذا الرجل أهلته صحبته الطويلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت -أي: هذه الصحبة- منبع علومه، وأم معارفه، ومداد تحصيله، أخذ القرآن والسنة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذا رأيناه من أكبر ومن أعلم الصحابة بكتاب الله، بل ورأيناه مفسراً من أعظم مفسريهم، ومحدثاً من أكابر محدثيهم، ومعلماً فريداً بين معلميهم، بل وفقيهاً كبيراً بين فقهائهم، بل ووزيراً صادقاً أميناً بين وزرائهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 فضائل ابن مسعود رضي الله عنه إن تلخيص حياة هذا الحبر في هذه الدقائق المعدودات أمر صعب عسير، فهيا لنغتنم الدقائق المعدودات لنعيش بعض الوقت مع هذا الحبر العالم، ومع هذا الفقيه الأكبر، مع عبد الله بن مسعود، ولنستهل هذا اللقاء المبارك بأوسمة الشرف التي منحها النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الكريم المبارك. ففي الحديث الذي رواه مسلم أن عبد الله بن مسعود قال: لما نزل قول الله جل وعلا من سورة المائدة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93] فلما نزلت وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا عبد الله! أنت منهم) يشهد النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بأنه من الذين اتقوا وآمنوا، واتقوا وآمنوا، واتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 ابن مسعود أقرب الصحابة اقتداءً برسول الله وأقربهم وسيلة إلى الله وفي الحديث الذي رواه البخاري والترمذي من حديث عبد الرحمن بن يزيد رحمه الله تعالى يقول: سألت حذيفة رضي الله عنه عن رجل قريب السمت والهدي والدل برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نأخذ عنه؟ فقال حذيفة رضي الله عنه: والله ما نعلم أحداً أقرب سمتاً وهدياً ودلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد -أي: من عبد الله بن مسعود - حتى يواريه جدار بيته -انظروا إلى الدقة في الشهادة! أي: حتى يواريه جدار بيته فعلمه عند الله جل وعلا-. ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة يوم القيامة. يا لها من شهادة! وفي رواية الترمذي بسند حسن صحيح: ولقد علم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله زلفى. ابن مسعود أقربهم إلى الله وسيلة، وأقربهم إلى الله زلفى، بالله عليكم أي الكلمات نستطيع أن نعبر بها عن هذه الشهادة؟! ألا فلندعها هكذا حتى لا نضيع من جلالها شيئاً، ابن مسعود أقرب الناس إلى الله وسيلة، وأقرب الناس إلى الله زلفى يوم القيامة، بل ولقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال عليه الصلاة والسلام: (خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود فبدأ به صلى الله عليه وسلم وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة) . ولذا كان ابن مسعود يعلم هذه النعمة الكبيرة، وهذا الشرف العظيم، فيقول -كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم -: (والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 سماع النبي صلى الله عليه وسلم القرآن من ابن مسعود وفي رواية في الصحيح أيضاً أنه رضي الله عنه قال: (لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم) . ولطالما كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يذهب إلى ابن مسعود ويحب أن يستمع القرآن منه، فلقد ذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وقال: (اقرأ علي يا ابن مسعود) أتدرون ماذا قال التلميذ المهذب المؤدب؟! نظر إلى أستاذه ومعلمه وقال: (أأقرأ عليك وعليك أنزل يا رسول الله؟!!) انظروا إلى هذه الكرامة! الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب من ابن مسعود أن يقرأ عليه، وهاهو ابن مسعود يجلس؛ ليقرأ للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وليستمع إليه النبي صلى الله عليه وسلم وحده. (اقرأ علي يا ابن مسعود، فيقول: أأقرأ عليك وعليك أنزل يا رسول الله؟! فيقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليَّ فإني أحب أن أستمع إليه من غيري) ، ويستهل ابن مسعود المبارك القراءة المباركة فيفتتح سورة النساء، ويقرأ ما شاء الله له أن يقرأ (حتى بلغ إلى قول الله جل وعلا: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك يا ابن مسعود! حسبك يا ابن مسعود! يقول عبد الله: فالتفت إلى رسول الله فإذا عيناه تذرفان) بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. والحديث رواه البخاري ومسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 تأمين النبي صلى الله عليه وسلم على دعاء ابن مسعود بل لقد مر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على ابن أم عبد أي: على عبد الله بن مسعود، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات الكريمة صاحباه: أبو بكر وعمر، مر النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبيه على عبد الله بن مسعود، وكان عبد الله قائماً يصلي لله جل وعلا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليستمع إلى قراءته، فلما انتهى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد) ، انظروا إلى هذه الشهادة أيها الأخيار! (ثم جلس ابن مسعود يدعو الله جل وعلا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل تعطه، سل تعطه) فكان مما سأله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في جنان الخلد. قال عمر: فقلت في نفسي: والله لأغدون إلى عبد الله ولأبشرنه بتأمين رسول الله على دعائه. يقول عمر: فذهبت إليه في الصباح، فوجدت أبا بكر رضي الله عنه قد سبقني بالبشرى، فقلت له: يا أبا بكر! والله إنك لسباق في الخير دائماً) . والحديث رواه الإمام أحمد وهو حديث حسن، ورواه الإمام الحاكم في المستدرك وصححه وأقره الإمام الذهبي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 بعض خصائص ابن مسعود بل وتعجبون أشد العجب بهذه البشارة التي وردت في صحيح مسلم، اسمعوا ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن مسعود: (يا عبد الله! أذنك عليَّ أن ترفع الحجاب، وأن تسمع زوادي -أي: سري- حتى أنهاك عن ذلك) الله أكبر! حتى ظن الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، أن عبد الله من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والترمذي من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حيناً وما نرى إلا أن ابن مسعود وأمه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما نرى من كثرة دخولهم على رسول الله ولزومهم له) . يظن أبو موسى الأشعري أن ابن مسعود من أهل البيت النبوي، لماذا؟ لأنه يرى ابن مسعود يدخل حينما يستأذن الناس، ويخرج حينما يتمنى الناس أن يدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 ثقل ساقي ابن مسعود في الميزان بل وخذوا هذه البشارة، وخذوا هذا الوسام الذي سأختم به أوسمة الشرف التي علقها النبي صلى الله عليه وسلم بيديه على صدر ابن مسعود رضي الله عنه؛ ليلقى الله جل وعلا بها في الآخرة، خذوا هذه البشارة، ووالله لو لم يخرج ابن مسعود من الدنيا إلا بها لكفته شرفاً وفخراً في الدنيا، وعزاً ورفعة ومكانة عند الله في الآخرة، ماذا قال الحبيب صلى الله عليه وسلم في حق ابن مسعود؟ والحديث رواه أحمد والبزار والطبراني وهو حديث حسن. (صعد ابن مسعود رضي الله عنه يوماً شجرة الأراك يجتني سواكاً، فهبت ريح، فجعلت الريح تكفؤه) كان ضعيف البنية قوي الإيمان، كان فقيراً غني اليقين، ألم أقل في أول اللقاء: إنه الضعيف القوي الفقير الغني؟! وسوف نرى الآن الثالثة: إنه المؤمن القوي النقي الأبي، جعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (مما تضحكون؟ قالوا: نضحك من دقة ساقيه يا رسول الله! أتدرون ماذا قال الحبيب صلى الله عليه وسلم؟! قال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد) الله أكبر! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 أمانة ابن مسعود في الجاهلية قبل الإسلام ذلكم هو الغلام الذي كان يرعى الأغنام بالأمس القريب لسيد من سادات مكة في شعب من شعابها، واستمعوا إليه وهو يحدثنا بسعادة عن أول لقاء له مع أستاذه ومعلمه المصطفى صلى الله عليه وسلم. ففي حديث صحح إسناده الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، في ترجمته لـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، يقول ابن مسعود: كنت أرعى الأغنام لـ عقبة بن أبي معيط في شعاب مكة، فمر علي يوماً رسول الله وأبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الغلام الأمين: هل من لبن يا غلام! أي: هل عندك من لبن لتكفينا؟ فقال الغلام: نعم -ولكن انظروا ماذا قال- ولكني مؤتمن! انظروا إلى هذه العبارة التي قالها ابن مسعود في الجاهلية قبل الإسلام! ولكني مؤتمن، فظلت هذه العبارة مع ابن مسعود بمثابة البوصلة التي تحدد اتجاه حياته إلى أن لقي الله جل وعلا. ولكني مؤتمن، لا أستطيع أن أقدم لكم اللبن، انظروا إلى الأمانة! في جاهليته أمين، فما ظنكم بأمانته بعد أن شرح الله صدره بالإسلام، ولكني مؤتمن! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهل عندك من شاة لم ينز عليها الفحل؟ قال: نعم، ومتى كانت الشاة التي لم ينز عليها الفحل تدر لبناً؟! قال: ائتني بها، فأتاه بشاة لم ينز عليها الفحل، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها، ودعا الله جل وعلا، فدر الضرع باللبن، فجاءه الصديق بإناء مجوف، فملأه النبي صلى الله عليه وسلم باللبن وشرب وسقى أبا بكر وسقى الغلام، والغلام ينظر في دهشة واستغراب إلى هذه المعجزة! نعم، وإنها لمن أهون المعجزات، وسوف يرى هو بعينيه بعد ذلك العجب العجاب، فهو الذي روى كما ورد في صحيح مسلم أنه قال: والله إنكم لتعدون الآيات عذاباً، وإن كنا لنعدها بركة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالذي نفس محمد بيده لقد كنا نجلس لنأكل مع رسول الله فنسمع تسبيح الطعام في يديه صلى الله عليه وسلم! فنظر الغلام بدهشة واستغراب لشاة لا تدر لبناً؛ لأنه لم ينز عليها الفحل بعد، وإذ بها تدر اللبن، ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم للضرع: اقلص، فقلص الضرع أمام عيني هذا الغلام المبارك! فذهب هذا الغلام الكريم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يعرفه، فقال له: يا عماه! علمني من هذا القول الذي قلت، فمسح النبي رأسه وقال: إنك غلام معلم، ألم أقل: إنه الغلام المعلم؟! إي والله إنه الغلام المعلم، لم يقل: إنك غلام ستتعلم، وإنما قال: إنك غلام معلم، وبالفعل لم يمض غير قليل وإذ بهذا الفتى وإذ بهذا الغلام المعلم يسمع بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيذهب إليه لينطق شهادة الحق: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ ليكون من السابقين الأولين الذين أسلموا قبل أن يدخل النبي دار الأرقم بن أبي الأرقم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 ابن مسعود أول من جهر بالقرآن في مكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، ولم يمض غير قليل وإذ به يذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول: يا رسول الله! ألا تقبلني خادماً لك؟ فيقبله النبي عليه الصلاة والسلام، ومن يومها ينتقل هذا الغلام هذه النقلة الكبيرة من رعاية الأغنام إلى خدمة سيد الأنام، هكذا بدون مقدمات، من رعاية الأغنام لكافر من كفار مكة إلى خدمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل ولم يمض غير قليل وإذ بهذا الفتى الذي لم يكن يجرؤ بالأمس القريب أن يمر على مجلس فيه شريف من أشراف مكة إلا مطأطئ الرأس حثيث الخطى، هاهو يتحول اليوم بعد لحظات معدودات إلى إعصار مدمر! وإلى بوق سماوي مزلزل! يتحول إيمانه ويقينه في قلبه إلى شيء يدمر كبرياء سادة قريش وكبرائها! ها هو الغلام الأجير الفقير المغمور ينطلق ليقف على رءوس أشراف مكة في وضح النهار حول بيت الله جل وعلا فيرفع صوته العذب الحلو بسورة الرحمن؛ ليكون هذا الغلام الأجير الفقير المغمور أول مسلم على ظهر هذه الأرض يجهر بالقرآن في مكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولندع شاهد عيان ينقل لنا هذا المشهد المثير، هذا المشهد الذي رواه بطوله ابن هشام في سيرته، ورواه مختصراً الإمام ابن حجر في الإصابة، ورواته ثقات، يقول الزبير بن العوام رضي الله عنه: اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في مكة، وما زالوا مضطهدين في هذا الوقت، وما زالوا مشردين فقالوا: قريش لم تسمع القرآن يشهر لها به قط، فهل من رجل يسمعهم القرآن؟ أتدرون من الذي أجاب بنعم؟! إنه هذا الغلام الفقير، الذي كان بالأمس القريب راعياً لأغنام سيد من سادات مكة، فقال ابن مسعود: أنا، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: نريد واحداً له عشيرة تمنعه وتحميه إن أراد به أهل مكة شراً، فقال ابن مسعود: دعوني، فإن الله سيمنعني ويحميني، وانطلق ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في اليوم التالي في وقت الضحى، حتى أتى مقام إبراهيم -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- ووقف ليقرأ القرآن بصوته الحلو العذب الرقيق، وبدأ بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، رافعاً به صوته، والمشركون يجلسون حول الكعبة، وظل يقرأ سورة الرحمن: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1-4] فنظر سادة قريش إلى بعضهم البعض وقالوا: ماذا يقول ابن أم عبد؟! تباً له إنه يتلو بعض ما جاء به محمد! إلى هذا الحد من الجرأة! يتلو على مسامعنا وبين أيدينا القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فقاموا إليه وضربوا وجهه ضرباً شديداً عنيفاً حتى سال الدم الشريف على وجهه الأنور، وانطلق بهذه الدماء الطاهرة إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا والله ما خشيناه عليك يا ابن مسعود، أتدرون ماذا قال هذا الغلام الضعيف القوي؟! قال: والله ما كان أعداء الله أهون في عيني من اليوم، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً، فقالوا: كلا، فلقد أسمعتهم ما يكرهون. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 ابن مسعود يقتل أبا جهل يوم بدر ذلكم هو الغلام المعلم أيها الأحبة! هذا هو ابن مسعود رضي الله عنه، الذي يتحول هذا التحول الكبير، بل لقد كان له يوم بدر مشهد مذكور، فلقد ورد في صحيح البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: من ينظر ما صنع أبو جهل؟ فقال ابن مسعود: أنا يا رسول الله! فانطلق ابن مسعود بسيفه، فوجد أبا جهل قد قتله ابنا عفراء رضي الله عنهما، فقال له ابن مسعود: أنت أبو جهل؟! فاحتقر أبو جهل -وهو يموت ويحتضر- ابن مسعود وأصحابه، فقال: وهل فوق رجل قتلتموه أو قتله قومه؟! يقول ابن مسعود رضي الله عنه كما في رواية الإمام أحمد من حديث أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود، والحق أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله، فالحديث فيه انقطاع، إلا أن بقية رجال أحمد رجال الصحيح، وله شواهد بمعناه تقويه كما ذكرت آنفاً. قال ابن مسعود لـ أبي جهل: هل أخزاك الله يا عدو الله؟! فأخذ سيفه وضربه فلم يغن فيه شيئاً، فبصق أبو جهل في وجه ابن مسعود، وقال: خذ سيفي فاجتز رأسي به! فأخذ ابن مسعود سيفه وقطع به رأسه وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقتل أبي جهل، فقال النبي: (آلله الذي لا إله إلا هو؟! آلله الذي لا إله إلا هو؟!!) أي: أقتل أبو جهل حقاً؟! قالها النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، فخرج مع عبد الله بن مسعود فلما رآه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي أخزاك الله يا عدو الله! ثم قال صلى الله عليه وسلم: هذا كان فرعون هذه الأمة) قتله ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه. من كان يصدق أن ابن مسعود الفقير الأجير هو الذي سيقتل أبا جهل؟! ها هو الإسلام يمنحه مكان فقره غنى، ومكان ضعفه قوة وإرادة تقهر جبابرة قريش، ومكان انزوائه وانعزاله في شعب من شعاب مكة مكانة عالية خفاقة تعانق كواكب الجوزاء، هذا هو الإسلام الذي حول هؤلاء من رعاة للغنم إلى سادة وقادة لجميع الدول والأمم. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 ابن مسعود وزيراً لبيت مال الكوفة ومعلماً لأهلها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: وهكذا لم يتأخر ابن مسعود رضي الله عنه عن غزوة من الغزوات، بل لقد شهد الغزوات كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظل هكذا مع صاحبيه الجليلين الكريمين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى أرسله عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة وقال لهم: لقد أرسلت إليكم عمار بن ياسر أميراً، وعبد الله بن مسعود وزيراً، فاسمعوا لهما وأطيعوا، واقتدوا بهما، ثم قال: فوالله الذي لا إله إلا هو لقد آثرتكم بـ عبد الله على نفسي. وانطلق ابن مسعود وزيراً لبيت مال الكوفة، وأخرج ما في جعبته المترعة من علوم القرآن والسنة، فعلم أهل الكوفة، حتى إن الإمام السرخسي رحمه الله تعالى قال: لقد بلغ عدد من تعلم على يد ابن مسعود وعلى يد أصحابه ما يقرب من أربعة آلاف عالم! إنها مدرسة ابن مسعود رضي الله عنه، فقد حول كثيراً من أهل الكوفة إلى علماء، علمهم القرآن والحديث، وكان وزيراً أميناً لبيت مال المسلمين، ألم أقل لكم: إنه كان أميناً في جاهليته قبل إسلامه؟! ألم يقل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني مؤتمن، فما ظنكم به بعد الإسلام! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 لا حقيقة لما افتراه المغرضون من خلاف بين ابن مسعود وعثمان وبالرغم من ذلك -حتى لا أطيل عليكم- فإن الموتورين والمجرمين والمغرضين لم يتركوا ابن مسعود إلا وقد شوهوا صورته وأساءوا إلى سمعته، ونسجوا مسرحية هزلية خلافية حقيرة بين ابن مسعود وبين ذي النورين عثمان بن عفان فقالوا وخاضوا في بحار هائجة في تاريخ هؤلاء الصحب الكرام، فغرقوا وأغرقوا وضلوا وأضلوا، وأساءوا ولم يحسنوا، وإنه ينبغي لمن اقتحم هذا المجال ليتحدث عن هؤلاء الصحب الكرام أن يكون سليم العقيدة، أميناً في النقل، مخلصاً في القصد، وأن ينظر بدقة فاحصة إلى أغراض الموتورين والكذابين والوضاعين الذين يريدون بكل الأساليب أن يشوهوا صورة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال اليعقوبي المؤرخ الشيعي المحترق قال: لقد استدعى عثمان عبد الله بن مسعود من الكوفة، فلما دخل عليه ابن مسعود -وكان عثمان يخطب على المنبر- قطع عثمان خطبته وقال: لقد دخلت عليكم دابة سوء! فتكلم ابن مسعود كلاماً شديداً! فأمر عثمان بإخراجه من المسجد! فجروه من رجله، فكسر له ضلعان! أعوذ بالله! ما هذا الكذب؟! وما هذا الهراء في حق الصحب الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم؟! وابن مسعود هو الذي خطب في الكوفة يوم أن أُمِّرَ عثمان وخلف عمر رضي الله عنهم جميعاً، فقال: لقد اجتمعنا نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم نأل عن خيرنا -أي: فلم ننصرف عن خيرنا- وأعطينا الإمارة والخلافة لخيرنا بعد عمر، وهو عثمان رضي الله عنه وأرضاه. بل وقال هذا الشيعي المحترق: إن ابن مسعود رفع يديه ودعا وقال: اللهم إنك عظيم العفو عظيم التجاوز، فلا تتجاوز عن عثمان! والله إن هذا لا يحدث من آحاد المسلمين الشرفاء الأتقياء، فهل نتوقع أن يحدث ذلك من رجل أقرب الناس سمتاً وهدياً ودلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! وهل نتوقع ذلك من ذي النورين الذي ضحى بحياته حتى لا تهرق قطرة دم واحدة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 ابن مسعود يترك رأيه لرأي عثمان لقد ربط الله بين هذه القلوب وملأها بالحب والمودة والرحمة، وإن أعظم الأدلة على ذلك في عجالة: أن ابن مسعود لما علم أن عثمان قد أتم الصلاة بمنى صلى بأصحابه أربع ركعات، فقال تلاميذه: ألم تحدثنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين وأبو بكر وعمر؟! قال: وأنا أحدثكموه الآن، ولكن عثمان كان إماماً للمسلمين، فخشيت أن أخالفه، فإن الخلاف شر كله، بل وخرج ابن مسعود ليهدئ من ثورة الأصحاب الذين غضبوا لما أتم عثمان الصلاة في منى، فقابله عبد الرحمن بن عوف وقال: هل سمعت يا أبا عبد الرحمن؟! لقد أتم عثمان الصلاة فصليت بأصحابي ركعتين، فقال ابن مسعود لـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم جميعاً، ولكني صليت بأصحابي أربع ركعات، وخشيت أن أخالف عثمان فإن الخلاف شر كله، فقال عبد الرحمن: أما الآن فسوف أفعل ما قلته يا أبا عبد الرحمن. إنها قلوب طاهرة مطهرة تميل مع الشرع حيث مال، وتنطلق مع الحق حيث راح وحيث انطلق لا تشوبها شائبة من شوائب الأحقاد والضغائن ألبتة، إنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ويقابل عثمان ابن مسعود في منى، والحديث رواه البخاري ومسلم فيقول عثمان: يا أبا عبد الرحمن! ينادي على ابن مسعود، يا أبا عبد الرحمن! إن لي إليك حاجة، فيقول: ما هي يا أمير المؤمنين؟ فيقول عثمان رضي الله عنه لـ ابن مسعود: هلا نزوجك بكراً تذكرك ما كان قد مضى؟! انظروا إلى هذه الدعابة بين عثمان وبين ابن مسعود، فقال ابن مسعود: أما وقد قلت ذلك، فلقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) . وذهب عثمان إلى ابن مسعود على فراش الموت، فقال له: يا ابن مسعود! من أي شيء تشكو؟ قال: أشكو ذنوبي، ابن مسعود يقول: أشكو ذنوبي! قال: أي شيء ترجو؟ قال: رحمة ربي، قال: أي شيء تخاف؟ قال: أخاف عذاب الله، قال: هل أدعو لك الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: هل آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه يا أمير المؤمنين! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 وصية ابن مسعود عند موته وأختم هذا اللقاء أيها الأحبة! بوصية خالدة من وصايا ابن مسعود رضي الله عنه، حيث كان يذكر بها أصحابه ويذكرنا بها من بعدهم فيقول: (إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن عمل خيراً يوشك أن يحصد خيراً، ومن عمل شراً يوشك أن يحصد شراً، فمن وقي فالله تعالى وقاه، ومن أعطاه الله فالله تعالى أعطاه، المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة) . رضي الله عن عبد الله بن مسعود، وصلى الله على أستاذه ومعلمه، وجمعنا بهم في دار كرامته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه. اللهم اجزه عنا خير ما جازيت مصلحاً أو صالحاً، اللهم اجمعنا بهم مع نبيك صلى الله عليه وسلم. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه. اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، ووفقهم جميعاً للعمل بكتابك، والاقتداء بنبيك صلى الله عليه وسلم، وارزقهم اللهم البطانة الصالحة الناصحة، أنت ولي ذلك والقادر عليه، برحمتك يا أرحم الراحمين! أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا محمد فإن الله جل وعلا قد أمركم بذلك في محكم كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 مصابيح الهدى - مصعب بن عمير عظمة الأجيال فرع عن عظمة قادتها ومربيها، فما بالك بجيل قائده ومربيه وأستاذه المصطفى صلى الله عليه وسلم! إنه الجيل الذي أيس الزمان أن يحتضن مثله! إنه جيل الصحابة الأبرار، أمثال مصعب بن عمير، الذي صدق الله ما عاهده عليه، أول سفير في الإسلام، رحل إلى المدينة داعية ومعلماً لأهلها، فأسلم على يديه جمع من أهل المدينة الذين نصر الله بهم الإسلام، وهو حامل الراية في بدر وأحد، وقد حملها بحق حتى أكرمه الله بالشهادة، فرضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 1 إنهم تلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى أن لا نعبد إلا إياه، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وعبد ربه حتى لبى داعيه، وجاهد في سبيله حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكبد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علّم الجاهل، وقوم المعوج، وأمن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد، كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله! مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى. أيها الأحبة! ما كان حديثاً يفترى، ولا فتوناً يتردد، ذلك الحديث الذي روى به التاريخ أبناء أعظم ثلة ظهرت في دنيا العقيدة والإيمان، إنها حقائق تبرز كل ما كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من عظمة وروعة وسمو، وإن الإنسان ليقف مأخوذاً مدهوشاً أمام تاريخ هذه الثلة الكريمة المباركة، وأمام ما أنجزته في هذه الفترة الوجيزة التي لا تساوي في حساب الزمن شيئاً. أجل! لقد دمروا العالم القديم بأعظم امبراطورياته وصولجانه وحولوه في وقت قليل إلى كثيب مهيل. أجل! لقد شيدوا بآيات القرآن وكلماته عالماً جديداً يهتز نضرة، ويتألق عظمة، ويتفوق روعة وسمواً وكمالاً واقتداراً. أجل! كيف استطاعوا في مثل سرعة الضوء أن يضيئوا ضمير الإنسان بحقيقة التوحيد، ولكن سيزول العجب، وتتوارى الدهشة خجلاً وحياءً إذا ما علمنا أن الذي رباهم وأن الذي علمهم هو أستاذ البشرية، ومعلم الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الذي ملأ قلوبهم إيماناً ويقيناً وصدقاً وإخلاصاً وعزماً، وجعل حياتهم تتفجر روعة ونسكاً وإنتاجاً وعملاً. إنه ابن عبد الله! ومن لكل هذا سواه؟ فلقد عاشوا معه، ورأوا رأي العين كل فضائله ومزاياه، رأوا طهره وعفته رأوا صدقه وأمانته رأوا حنانه ورحمته رأوا عقله وبيانه رأوا رجلاً عظيماً شامخاً شاهقاً علياً، لا يدرون هل استطال رأسه وارتفع إلى كواكب الجوزاء فعانقها، أم اقتربت منه كواكب الجوزاء فتوجته! إنه ابن عبد الله الذي زكاه ربه في كل شيء! زكاه في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] . وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] . وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] . وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] . وزكاه في طهره فقال: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2] . وزكاه في ذكره فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] . وزكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى} [النجم:3] . وزكاه في معلمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] . وزكاه كله فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] . بأبي هو صلى الله عليه وسلم. فهيا بنا أحبتي في الله لنعيش هذه الدقائق مع تلميذ تربى على يد هذا الأستاذ الكبير والمعلم العظيم. هيا أيها الأحبة لنعيش مع شاب آخر بعد أن عشنا في اللقاء الماضي مع معاذ بن جبل، فهيا لنعيش اليوم مع شاب آخر نقدمه لشباب الصحوة الإسلامية بصفة خاصة، نقدمه لهؤلاء الشباب قدوة طيبة، ومثلاً أعلى في وقت قلت فيه القدوة من ناحية، وقدم فيه الفارغون والتافهون والساقطون ليكونوا القدوة والمثال من ناحية أخرى. وكما ذكرت فهؤلاء الذين تعتز بهم أممهم، وتقدمهم لأبنائها على أنهم القدوة وعلى أنهم المثال لو وضعوا إلى جوار عظمائنا ورجالنا وأبناء ديننا وإسلامنا لكانوا بمثابة الشمعة التي جاءت لتضيء في حضرة الشمس في رابعة النهار! هذا إن أحسنا الظن بهم. هؤلاء الذين يفخرون ويعتزون بهم، ويكرمونهم على شاشات التلفاز في الليل والنهار، وشتان شتان بين نور السهى وشمس الضحى {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 2 إسلام مصعب بن عمير في دار الأرقم أيها الأحبة! تعالوا بنا لنلقي السمع والبصر والفؤاد، بين يدي أول الدعاة، وسيد التقاة، الذي ترك الدنيا بمتاعها من أجل الآخرة ونعيمها، الذي رضي بالهجرة بعد القرار، وقبل الجوع بعد الشبع، واطمأن للفقر بعد الغنى، واستبشر واطمأن بالعذاب بعد النعيم، إنه غرة فتيان قريش، وأوفاهم شباباً وبهاءً ونضرة وجمالاً، إنه لؤلؤة ندواتها، وزهرة شبابها، وأعطر رجالها، وقطب الرحى بين أبنائها. إنه الفتى الريان المدلل، المترف المنعم، الذي نال من تدليل وحب أبويه ما لم ينله شاب آخر في مكة كلها، فلقد عاش في بيت غني ثري من بيوت مكة شرفها الله، فاكتنفته النعمة من كل ناحية ومن كل جانب، وفي يوم من الأيام يسمع هذا الفتى المنعم نبأ الدعوة الجديدة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، والتي بدأ خبرها يسري في مكة كسريان الماء بين الصخور والحجارة، يسمع الفتى الخبر، ويسمع كلاماً جديداً على عقله، يسمع الكلام الذي بدأ يردده الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم، إنه كلام يحرك العقول الذكية، ويخاطب الفطر السليمة النقية، فيه قوة تبهر العقل النقي، وتمس الروح الصافية، وتنادي أعماق الوجدان. ومن هنا أيها الأحبة! ومن هذه الساعة دخل هذا الشاب النقي صراعاً رهيباً مع نفسه، بين بيئته الجاهلية بكل موروثاتها: من نعيم وجاه، وملك وثراء وبذخ، وحسب وشرف ونسب وبين هذا الحق الأبلج الذي بدأ يسمعه لأول مرة يخاطب أعماق وجدانه: ما هذا الهراء؟! ما هذه الأصنام؟! ما هذه التماثيل التي لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر؟! هل هذا الكون خلقته هذه الأصنام؟ هل هذه الأصنام هي التي تستحق أن تعبد؟! كلا، إنه هراء، فلا بد من البحث عن الحق والحقيقة، وإذ بهذه الحقيقة تتجلى في كلمات محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء ليخرج الناس من ظلمات الشرك ومجاهل الوثنية إلى أنوار التوحيد والإيمان. ولكن لم يطل الصراع، ولم يدم التردد، فها هو الفتى الكريم يخطو أولى خطواته على الطريق إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، لقد انفتح عقله ووجدانه للحق، وسرى النور إلى قلبه. ها هو الفتى الكريم يأخذ مكانه بين الصحب الكرام في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ولم يكد الحبيب صلى الله عليه وسلم يقرأ آيات القرآن وتنساب الآيات الكريمة من قلب محمد بن عبد الله متألقة على شفتيه نوراً ولؤلؤاً، وإذ بهذه الآيات تأخذ طريقها إلى القلوب مباشرة قبل الأسماع، وهل هناك قارئ يوصل القرآن إلى القلوب غير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وتجد الآيات طريقها إلى قلب هذا الفتى الكريم المبارك؛ ليكون فؤاده في هذه الليلة الكريمة هو الفؤاد الموعود بكل خير، وسرعان ما تمتد يد الحبيب صلى الله عليه وسلم برحمة وشفقة وحنان لتلامس هذا الصدر المتوهج، وهذا الفؤاد المتوثب، ليحس الفتى بسكينة عميقة بعمق المحيطات والأنهار، ولأول مرة وإذ بالكلمات تسابق شفتيه وتتردد مشرقة يردد الشهادتين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودموع الخشوع والفرح تنحدر على وجنتيه كحبات لؤلؤ إنه الفتى الذي تحول في لمح البصر من أقصى مجاهل الوثنية إلى أقصى رحاب التوحيد والإيمان! إنه مصعب الخير، مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه. ويخفي مصعب إسلامه عن أهله وعن قومه، كما كان يفعل المسلمون آنذاك التزاماً مع المنهج الحركي للدعوة الإسلامية في طورها السري، ولكن لم يستطع مصعب أن يخفي إسلامه لفترة طويلة من الزمن؛ لأنه لا يستطيع أن يخفي سيم الإيمان على وجهه؟! هل يستطيع أن يخفي سيم الإيمان التي أشرقت على وجهه وتحولت وترجمت فوراً إلى سلوك وواقع حياة؟! هل يستطيع أن يكتم مشاعره نحو ذلك النور الذي ملأ عليه قلبه ووجدانه وحياته؟! هل يستطيع أن يخفي عزوفه واحتقاره لتلك الأوثان والأصنام والمعبودات المزيفة؟! هل يملك أن يرجع يوماً واحداً إلى فساد الوثنية والجاهلية ولهوها وضلالها؟! كلا، فلقد خلع مصعب بن عمير منذ أول ساعة من ساعات إيمانه خلع رداء الجاهلية كله، على عتبة دار الأرقم بن أبي الأرقم. وهكذا أيها الأحباب! فإن الإيمان والجاهلية بجميع صورها لا يمكن على الإطلاق أن يجتمعان في قلب واحد، لذا لفت الله العقول الذكية والقلوب التقية إلى هذا فقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256] ، فلابد من التخلية قبل التحلية، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256] ، فإن شرح الله صدرك للحق فينبغي أن تنابذ الجاهلية بجميع صورها وشتى أشكالها وألوانها، أما أن نعيش للإسلام بلون، ونعانق الجاهلية في ألوانها الأخرى فهذا لا يصح بحال، ولا يتفق الإيمان والوثنية أو وصورة من صور الجاهلية في قلب واحد مطلقاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 صبر مصعب رضي الله عنه على الشدة والبلاء خلع مصعب رداء الجاهلية كله على عتبة دار الأرقم بن أبي الأرقم، واختار طريق الإيمان بكل محنه وآلامه، فهو الذي رأى بعينيه المعذبين من المؤمنين والموحدين يحرقون بالنار، ويمنعون من الطعام والشراب، ويلقون أشد الأذى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2-3] . ليس الإيمان كلمة تقال باللسان، ولكن الإيمان حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء. ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، بل الإيمان ابتلاء، واختبار، فطريق محفوف بالأشواك وممهد بالابتلاءات والمحن، وليس طريقاً ممهداً بالزهور والورود والرياحين: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] . اختار مصعب طريق الإيمان بكل محنه وآلامه، ولكن كان ولابد أن يواجه مصعب الخير المحنة برجولة ليثقل إيمانه وليزداد يقينه، وسبحان الله! ستعجبون إذا علمتم أن الذي تولى المحنة، وأن الذي تولى تعذيب مصعب هي أمه خناس بنت مالك! التي كانت تتمتع بقوة في شخصيتها إلى حد ترهب فيه كل الرهبة. هذه المرأة القوية المتعجرفة التي كبتت كل مشاعر الأمومة في قلبها، واستعلت على كل ذرة عطف وحنان لابنها وحبيبها، وقامت بنفسها لتحكم قيوده وأغلاله، بعدما أظهر إسلامه، وحبسته في مكان قصي من دارها، ومنعت عنه المال والمتاع. لماذا؟ ليرجع إلى دين الجاهلية وليترك دين الحق والتوحيد، ولكن أنى للقلوب التي رأت النور أن تهوى الضلال؟! وهكذا اطمأن مصعب الخير ورضي بهذا العذاب وهذا البلاء! عجب! أعطر فتيان مكة! وأنعم فتيان مكة يترك النعيم! ويترك الجاه والثراء! ويترك المتاع والأموال! يترك الدنيا كلها من أجل الله جل وعلا ورسوله والدار الآخرة! يا له من درس لمن تركوا ميادين دعوتهم، وراحوا يلهثون وراء الكراسي الزائلة، والمناصب الفانية، وأفتوا بغير ما يرضي الله جل وعلا! يا له من درس؛ فإن الكراسي إلى زوال، وإن المناصب إلى فناء، وإن الدنيا بأسرها حطام زائل. يتنازل مصعب عن كل هذا ليلبس هذا الفتى المنعم أخشن الثياب، وليجوع يوماً ويشبع يوماً بعد أن كان في الأمس القريب إن مر في طريق في مكة قالوا: لقد مر من هذا الطريق مصعب بن عمير. أعطر الفتيان، وأنضر الشباب، وأبهى الشباب حلة، يلبس أخشن الثياب، ويجوع يوماً ويشبع يوماً؟! إنها التضحية! إنها قصة فداء! إنه شرف لجميع بني الإنسان، إنه مصعب الخير رضي الله عنه وأرضاه. إنه يعلم يقيناً أن الدنيا بزخارفها وسلطانها إلى زوال وفناء، فمهما طالت دنياك -أيها الحبيب- فهي قصيرة، ومهما عظمت دنياك فهي حقيره؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر أيا عبد كم يراك الله عاصيا حريصاً على الدنيا وللموت ناسياً أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسياً ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقياً ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى ذنوب والمعاصي كما هيا يلبس أخشن الثياب، ويأكل الجلد مع أستاذه ومعلمه صلى الله عليه وسلم وورق الشجر، ولكن روحه التي سمت بالعقيدة، ووجهه الذي أشرق بالإيمان قد جعل منه إنساناً يملأ الأعين جلالاً، ويملأ القلوب محبة وتقديراً، ويملأ النفوس هيبة ووقاراً. أيها الأحبة! في وسط هذه المحن يبزغ نور جديد يبدد الظلام، ويجدد الأمل في صحراء مكة المفقرة، نفر من الأنصار يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، تلك البيعة الكريمة المباركة التي حطمت جدران سوداء، حجبت عن الدنيا أنواراً للآخرة. إنها تلك البيعة الكريمة المباركة التي راحت تصرخ في هذا الإنسان الذي التحف بقشور الوثنية المظلمة لتنادي في أعماقه وتقول له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] ، فاعبده وحده، واسجد له وحده، وسبحه وحده، وانظر إليه وحده، واحلف به وحده. تلك البيعة الكريمة المباركة التي راحت تصرخ في أعماق هذا الإنسان الذي تمرغ يتمرغ في أوحال الرذيلة والمعصية، وتقول له: لا تدس أنفاس حياتك برائحة البغايا المنتنة! تلك البيعة الكريمة التي راحت لتلاحق ذلك الرجل الذي يمضي نحو المقابر كالغضب، وتقول له: ويحك وتهزه من كتفيه بعنف وتقول له: قف، إلى أين أنت ذاهب؟! ما هذا الذي تحمله على ظهرك، إنه ما زال حياً! إنها ابنتك نبض حياتك، ثمرة فؤادك، شريانك ودمك، ما الذي جنته لتهيل عليها التراب وهي حية! وهي تبلل قبرها بدموع تناشدك ذرة من رحمة، وبقية من حنان! إنها البيعة المباركة التي أشرقت بشمس جديدة على الدنيا! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 مصعب بن عمير أول داعية إلى الإسلام في المدينة وحمل الأنصار هذه الدعوة، وصاروا يسابقون بها الريح، وينطلقون من مكة إلى المدينة بهذا النور الجديد، وبهذه الحياة الجديدة، ولكن سرعان ما يبعثون إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن أرسل إلينا يا رسول الله رجلاً من أصحابك يدعو الناس بكتاب الله جل وعلا، فإنه أحرى أن يتبع -والحديث حسن- فينظر النبي صلى الله عليه وسلم في وجوه أصحابه، من يختار لهذه المهمة الصعبة العسيرة؟ من يختار لهذه الأمانة الكبيرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم يقيناً أن هذا الذي سيختاره سيجعل بين يديه مصير الإسلام في المدينة فالمدينة هي الأمل المرتقب بعد صدود أهل مكة، وغلاظة أهل الطائف. إذاً: وبلا مبالغة إن هذه القضية هي أخطر قضية للإسلام حينذاك. من يختار صلى الله عليه وسلم؟! ويختار الحبيب أول الدعاة وسيد التقاة مصعب الخير رضي الله عنه وأرضاه، فهو الذي تمرس وصبر على البلاء. لقد هاجر رضي الله عنه إلى الحبشة مرتين وتحمل الأذى، ونجح في الاختبار نجاحاً بقوة واقتدار، إذاً: فلتذهب يا مصعب الخير إلى المدينة المنورة لتعلم الناس الإسلام، ولتفقه الناس في دين الله جل وعلا، ولتقرأ القرآن عليهم غضاً طرياً -اسمعوا- ولتقوم بدور رسول الله في مكة في المدينة المنورة. يا سبحان الله! أي شرف هذا، وأي مكانة هذه التي يتبوأها مصعب؟ يقوم بدور رسول الله في مكة في المدينة المنورة؟! نعم، فهو الداعية الذي كان مثلاً وقدوة ونستحق بجدارة أن نرفع رءوسنا لتعانق السماء ولنقول: إنه داعية رباه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم! أيها الأحبة! ويذهب مصعب وهو يعي رسالته، ويقدر أمانته، وينطلق إلى المدينة المنورة، وينزل ضيفاً على أسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه. لماذا؟ لأن مصعباً لا يملك مالاً ولا أهلاً ولا بيتاً ولا دابة ولا سلاحاً، بل إن الدعوة وهي ماله، وهي بيته، وهي دابته، وهي سلاحه، ولا يملك شيئاً إلا أن يدعو، وكذلك أقول لإخواني من الدعاة: نحن لا نملك إلا الدعوة، ولا نملك إلا القلوب، فنتعلم من هذه الدروس، ولذا فإننا نركز على هذا لا لمجرد التسلية والاستمتاع، وإنما ليربى الجيل على أخبار وسير هؤلاء الأطهار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 نجاح مصعب في دعوته وإسلام سادات المدينة على يديه أيها الأحبة! ولقد نجح سفير الإسلام الأول في المدينة المنورة نجاحاً منقطع النظير، وحول مصعب رضي الله عنه المدينة المنورة إلى جنان خضراء، فلقد أشرقت عليها حياة جديدة أشرقت عليها شمس التوحيد، ولكن من يحملون في صدورهم صخوراً وحجارة أزعجهم هذا الإيمان وهذا النور، وضيق عليهم أنفاس حياتهم تلك البهجة، فراحوا إلى سيدهم سعد بن معاذ ليضع حداً لهذا الأمر الذي استفحل، والحديث حسن بشواهده كما رواه ابن سعد وابن إسحاق. فانظروا إلى هذا الحوار الكريم الذي دار بين سفير الإسلام الأول، وبين سيدين من سادات القوم، بين أسيد بن حضير وبين سعد بن معاذ، وكانا ما زالا على الشرك. وصل الخبر إلى سعد، فقال لـ أسيد: لا أبا لك يا أسيد! ألا تذهب إلى هذين الرجلين الذين أقبلا علينا في ديارنا ليسفها ضعفاءنا، ازجرهما وانههما، فأخذ أسيد بن حضير حربته وانطلق إلى مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة اللذين ذهبا إلى حائط في دار بني ظفر في رحلة إلى دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، وها هو مصعب الخير وأسعد بن زرارة يجلسان مع مجموعة ممن أسلموا لله جل وعلا في ذلك الحائط، ويأتي أسيد ويركز حربته ويقف عليهما متشتماً قائلاً: ما الذي جاء بكما إلى ديارنا لتسفها ضعفاءنا؟! اخرجا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة! وينظر مصعب نظرة مبتسمة نظرة مشفقة حانية إلى سيد القوم ويقول له: أوتجلس فتسمع مني، فإن كان خيراً قبلته، وإن كان فيه شيئاً تكرهه عزلنا عنك ما تكره، فقال أسيد: والله لقد أنصفت، فركز حربته وجلس بين يدي مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، ويدعوه مصعب للإسلام، ويقرأ عليه آيات القرآن التي لو تنزلت على الجبال لصدعتها، فتتنزل آيات القرآن على قلب أسيد كحبات الندى على الزهرة الظمأى، ويتفتح ذلك القلب النقي، وتشرق تلك الفطرة السليمة، ويقول أسيد بن حضير كما قال أسعد ومصعب: والله لقد عرفنا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم. فقال أسيد بن حضير: ما أحسن هذا الكلام وأجمله، ما تصنعون إن أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ فقالا: تغتسل، وتطهر ثوبيك، وتشهد شهادة الحق، وتصلي لله ركعتين. فقام أسيد بن حضير الذي كان منذ لحظات إعصاراً يزمجر، وزلزالاً يدوي ويصرخ قام ليتحول إلى عصفور مبلل بماء المطر إلى حبات ندى إلى نسمات هواء وادعة تمر على الوجه في فصل الربيع بأنفاس الزهور، يقوم هذا الأسد الذي كان يزمجر، ويقوم مسرعاً ليغتسل ويطهر ثوبيه ويشهد شهادة الحق بين يدي الداعية العظيم، ويركع لله ركعتين، ثم ينظر إلى أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير ويقول: إن ورائي رجلاً هو سيد قومه لو اتبعكما لم يبق واحد من قومه بعد اليوم إلا على الإسلام، وإني سأرسله إليكما الآن. وينطلق أسيد بن حضير، ويتحرك لدين الله فوراً، فليس هناك وقت للجلوس وللسكون، وإنما قام ليتحرك فوراً لدين الله جل وعلا بعد أن شرح الله صدره، ويذهب إلى سعد، وينظر إليه سعد بن معاذ، ويقول لقومه: أحلف بالله أن أسيد بن حضير قد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، ماذا فعلت يا أسيد؟ قال: نهيتهما وزجرتهما، ولم أر بهما بأساً، وأجاباني إلى كل ما أريد، وقالا لي: إن رأيت شيئاً تكرهه عزلنا عنك ما تكرهه، ولكني سمعت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وقد علموا أنه ابن خالتك ليخفروك -أي: لينقضوا عهدك- فغضب سعد بن معاذ وقام غاضباً لما سمع من خبر بني حارثة، وأخذ الحربة من أسيد بن حضير، وقال: ما أراك فعلت شيئاً، وانطلق سعد بن معاذ غاضباً إلى مصعب بن عمير وصاحبه رضي الله عنه وأرضاه، فوقف عليهما متشتماً، وقال لـ أسعد بن زرارة وهو ابن خالته: يا أبا أمامة! والله لولا ما بيني وبينك من قرابة ما رمت هذا مني، فقال له مصعب: أوتجلس فتسمع مني فإن رأيت خيراً قبلته، وإن رأيت ما تكره عزلنا عنك ما تكره. قال: والله لقد أنصفت، وركز الحربة وجلس بين يدي الداعية الكبير العظيم الحليم الصبور رضي الله عنه وأرضاه، فيعرض عليه مصعب الإسلام، ويقرأ مصعب عليه القرآن، وكانت فطرهم سليمة نقية تقية سرعان ما تتفتح إلى الحق كتفتح الزهرة لحبات الندى التي تتنزل عليها في يوم شديد الظمأ شديد الحرارة، فنظر سعد بن معاذ إلى الداعية الكبير وقال: والله ما أحسن هذا الكلام وأجمله، فما تصنعون إذا أدرتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 إسلام سعد بن معاذ وقومه فقال له: تغتسل وتطهر ثوبيك، وتشهد شهادة الحق، وتصلي ركعتين، فقام سعد بن معاذ فاغتسل وطهر ثيابه، وشهد شهادة الحق بين يدي مصعب، وصلى لله ركعتين، ومن هنا بدأ يتحرك لدين الله على الفور، فلا وقت للراحة والسكون والهدوء، ولا مكان للمكاتب المكيفة والفراش الوثير. وينطلق سعد بن معاذ إلى قومه إلى بني عبد الأشهل فيقول: يا قوم! ما تعلمون رأيي فيكم؟ فقالوا: أنت سيدنا، وأيمننا نقيبة، وأفضلنا رأياً، فيقول سعد بن معاذ: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فلم تمر الليلة على دار بني عبد الأشهل إلا وقد أسلم كل رجل وامرأة، وشهد الجميع أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. لك الله يا مصعب الخير، ورضي الله عنك يا من ذكرك عطر للحياة. أسأل الله جل وعلا أن يجزي عنا مصعب بن عمير خير ما جزى صالحاً أو مصلحاً، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 من لواء الدعوة إلى لواء الجهاد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! والله كم كانت سعادة النبي صلى الله عليه وسلم بداعيته العظيم الكريم المبارك، يوم أن رجع مصعب في العام التالي مباشرة، بوفد من المسلمين يتكون عددهم من سبعين مؤمن ومؤمنة، وهو الذي ذهب إليهم من بضعة أشهر، ولم يكن هناك إلا اثنا عشر رجلاً يوحدون الله جل وعلا في المدينة المنورة، عاد بسبعين دفعة واحدة يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن غرس فيها مصعب شجرة الإسلام وتعهدها بالرعاية والعناية، فأينعت وأثمرت. ماذا أثمرت؟ أثمرت دولة للإسلام تمنعه وتحميه، وحينئذٍ أرادت قريش أن تقضي على الموحدين حتى في المدينة المنورة، وانطلقت الشرارة الأولى للجهاد في سبيل الله بغزوة بدر الكبرى، وينظر النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى من يرفع لواء الجهاد، ولن يجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا من رفع لواء الدعوة قبل ذلك، يرى النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير ليدفع إليه لواء الجهاد مرة أخرى، وإن من عرف وسبر غور ميادين القتال يعلم أن اللواء هو البوصلة التي باتجاهها يتحدد مصير المعركة، فإن كان اللواء خفاقاً عالياً، وصاحب اللواء يزأر من حين إلى حين بتكبيرة ترج عرض الميدان رجاً ارتفعت المعنويات، وإن سقط اللواء ونكس نكست المعنويات على الفور. وينطلق مصعب بن عمير ليرفع لواء الجهاد بعد أن رفع لواء الدعوة، وينصر الله جنده، ويعز الله هؤلاء الفقراء الحفاة العراة الجياع، ويتبعثر المشركون والسادة في أرض الصحراء كتبعثر الفئران. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 إكرام الله لمصعب بالشهادة في غزوة أحد لم يمض عام على بدر وإذ بقريش تجمع رجالها وترفع المعنويات، وتقوم بتعبئة رهيبة للثأر لما حصل في بدر. ويخرج جيش جرار ويلتقي جيش التوحيد بجيش الشرك في أحد، ويتخلى الرماة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينزلون من على ظهر الجبل ليجمعوا الغنائم بعد ما رءوا أهل الشرك يفرون، ولكن هذا كان مخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم فغير دفة المعركة، وإذ بهم يرون خالد بن الوليد رضي الله عنه ينقض انقضاض الأسد مع جموع من الفرسان، لتتحول كفة المعركة بين غمضة عين وانتباهتها، وينتشر الذعر والرعب بين صفوف المسلمين، ولما رأى المشركون ذلك جعلوا هدفهم الأوحد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلتفت مصعب إلى الأمر ويعرف الخبر، ويرفع اللواء خفاقاً عالياً، ويزأر كالأسد في عرينه، وترتفع صيحات التكبير، وإنما يريد بذلك أن يلفت أنظار الأعداء إليه حتى لا يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فينقض عليه الفارس ابن قمئة ليطعن مصعباً رضي الله عنه طعنة في يمينه، فيقع اللواء فيأخذ مصعب اللواء بشماله، فيطعنه طعنة أخرى فيقطع يده اليسرى، فينقض مصعب رضي الله عنه على اللواء بعضديه ليضل اللواء خفاقاً عالياً شاهقاً! فينقض عليه الفارس مرة أخرى ليطعنه في صدره، فيسقط اللواء ويسقط كوكب الشهداء، يسقط مصعب رضي الله عنه وأرضاه. أيها الأحباب! وبعد انتهاء المعركة -بإيجاز شديد- يأتي الحبيب صلى الله عليه وسلم ليتفقد أحوال الشهداء، ويقف أمام جثة حمزة التي مثل بها تمثيلاً فضيعاً، ويبكي بكاء طويلاً، وتنزل الدمعات غزيرة من عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالرغم من أن كل الأبطال الذين سقطوا كانوا يمثلون الطهر والعفاف والعظمة، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف أمام جثمان سيد الدعاة وسيد الشهداء وأول السفراء مصعب بن عمير ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] ) . اللهم هيئ لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه! اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين! اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين! اللهم رد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم خذ بأيديهم إليك، اللهم وفق ولاة أمورهم وحكامهم للعودة إلى كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام والتميكن للموحدين، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد يا رب العالمين. اللهم اقبلنا وتقبلنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم! أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد كما أمرنا الله جل وعلا بذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 مصابيح الهدى - خديجة بنت خويلد القدوة الصالحة في تاريخ أسلافنا الأماجد ليست محصورة في الرجال، فإن هناك من النساء اللواتي كملن من لو وزنت بآلاف الرجال لرجحت بهم، ومن تلك النساء العظيمات الكاملات أم المؤمنين خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها، إنها أول الناس إسلاماً، وهي التي واست رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسها ومالها، وهي التي أقرأها الله السلام وبشرها بالجنة، وهي أم أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرضي الله عنها وأرضاها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 1 الإسلام أعطى المرأة حقها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وعبد ربه حتى لبى داعيه، وجاهد في سبيل ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمّن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم وكما آمنا به ولم نره، فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، وأوردنا بفضلك وكرمك ورحمتك حوضه الأصفى، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره، إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه المشرقة الطيبة، وزكى الله هذه الأنفس، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين وسيد الدعاة في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! هذا هو لقاؤنا العاشر مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى، ولا زلنا بفضل الله جل وعلا نطوف مع حضراتكم في بستان سير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ذلكم البستان المبارك، الذي لا ينقطع عبيره، ولا ينتهي شذاه، ولا تذبل أزهاره، ولا تموت وروده، ومن ثَم فمن الصعوبة بمكان أن نقف أمام جميع زهرات هذا البستان، لنستنشق عبيرها، ولنسعد بجمالها ونضرتها وبهائها، أجل! من الصعب أن نتحدث عن جميع هؤلاء الصحب الخيار؛ لأنهم عمر الزمن ونبض الحياة، ومن المحال أن نحسب أنفاس الزمن وأن نقدر نبض الحياة! فاسمحوا لي أيها الأحبة في الله، بعد أن قدمنا في اللقاءات الماضية نماذج مشرقة من القدوة الصالحة الطيبة، والمثل العليا لشباب الصحوة الإسلامية خاصة، ولجميع أبناء الأمة عامة، اسمحوا لي أن نكتفي بهذا القدر من الصحب الكرام رضوان الله عليهم جميعاً، لنقدم من اليوم وفي اللقاءات المقبلة -إن قدر الله لنا البقاء واللقاء- نماذج أخرى مشرقة من القدوة الطيبة، والمثل العليا لأخواتنا المسلمات، لأصل العز والشرف، لمربية الأجيال، ومخرجة الأبطال، هذه اللؤلؤة المكنونة، والدرة المصونة، للمسلمة التي تربعت على عرش حيائها طيلة القرون الماضية، تهز المهد بيمينها وتزلزل عروش الكفر بشمالها، للقلعة الشامخة أمام طوفان الباطل والكذب، لهذه المسلمة العظيمة، التي رفعت بيمينها كتاب ربها، وبشمالها لواء سنة نبيها صلى الله عليه وسلم، في وقت خطط فيه أعداء الإسلام في الليل والنهار، وشنوا حملة وحرباً شرسة ضارية على المرأة المسلمة، وراحوا يخططون لها في كل لحظة وفي كل وقت وحين؛ للزج بها في مواقع الفتنة، ومستنقع الرذيلة الآسن، تنفيذاً عملياً لقولتهم الخبيثة الخطيرة التي تقول: كأس وغانية يفعلان في تحطيم الأمة الإسلامية ما لا يمكن أن يفعله ألف مدفع! فلقد علم أعداء ديننا أن أصل العز في هذا المجتمع الإسلامي، وأن ركن السيادة والطهارة والعفة هو المرأة المسلمة، فراحوا يخططون لها في الليل والنهار؛ ليقوضوا صرح هذا المجتمع الإسلامي، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، ولكن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] ، ولكن {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ، ولكن {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] . وها نحن نرى الصحوة الإسلامية المباركة في جميع أنحاء العالم يمدها كل يوم فتيات في عمر الورود، زانهن حجاب أصاب أعداء الإسلام من الغرب والشرق وأفراخهم في بلاد المسلمين بالذهول والطيش والجنون والشرود! فها نحن الآن نرى حملة شرسة وحرباً علنية على كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، لا سيما على هذا الشباب النقي الطاهر، الذي أعلن تمسكه بكتاب الله وشرع رسول الله، وعلى هؤلاء الفتيات الطاهرات العفيفات، اللائي تزين بحجاب رب الأرض والسماوات. ولكن أيها الأحبة! أقولها بملء فمي: إن الله جل وعلا سيظهر دينه، وسيعلي كلمته، وسينصر نبيه صلى الله عليه وسلم، هذا وعد الله، والله لا يخلف وعده، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 2 خديجة نموذج للأسبقية تعالوا بنا أيها الأحبة لنعيش في هذه الدقائق المعدودات، ولنقدم لأختنا المسلمة القدوة الصالحة، والمثل الأعلى، تعالوا بنا لنعيش في هذه الدقائق مع رمز الوفاء، وسكن سيد الأنبياء، مع أول صديقة في عالم المؤمنات، مع أول من صلت لله مع رسول الله، مع أول من أنجبت الولد لحبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، مع أول من بشرت بالجنة، مع أول من نزل جبريل ليبغلها من ربها السلام، مع رمز الوفاء، ونهر الرحمة، وينبوع الحنان، مع القلعة الشامخة: قلعة الإسلام والإيمان، إنها أمنا أم المؤمنين خديجة بنت خويلد عليها من ربها الرحمة والرضوان. أعيروني القلوب والأسماع، فوالله الذي لا إله غيره إني أرى الكلمات تتوارى خجلاً وحياء أمام هذه القلعة الشامخة، وأمام هذه الزوجة الصابرة الوفية المخلصة، أمام خديجة رضي الله عنها وأرضاها، تلك المرأة التقية النقية الطاهرة، التي لقبت بالطاهرة في الجاهلية قبل الإسلام، آمنت بالحبيب المصطفى حين كفر به الناس، وصدقت الحبيب المصطفى حين كذبه الناس، وواست الحبيب المصطفى بمالها حين حرمه الناس. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 ترجمة موجزة لخديجة وزواج النبي صلى الله عليه وسلم بها من هي خديجة أيها الأحباب؟! وما الذي تعرفه نساء المسلمين عن خديجة؟ وما الذي نعرفه عن أمنا رضي الله عنها وأرضاها؟ إنها سكن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبلسم آلامه، وشفاء جراحه وأتعابه. خديجة ذلك العلم، ذلكم الشرف، خديجة التي نشأت في مكة المكرمة شرفها الله في بيت شرف وحسب ومال، وتزوجت أول الأمر في شبابها بـ عتيق المخزومي، وما لبث أن مات عنها، فتزوجت مرة أخرى بـ أبي هالة التميمي ورزقها الله جل وعلا منه الولد، فرزقت منه بـ هند بن أبي هالة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه وأرضاه، وبعدما مات زوجها الثاني أعرضت خديجة رضي الله عنها عن الزواج، وظلت أيّماً حتى بلغت الأربعين من عمرها، وكانت هذه المرأة العاقلة الشريفة تتاجر بأموالها، وتستأجر من الصالحين والصادقين من يتاجر لها بالمال، عن طريق المضاربات التي أقرها الإسلام بعد ذلك. وسمعت خديجة عن صدق محمد بن عبد الله قبل البعثة، وقبل الرسالة، فلقد شهد اجتماع مكة في دار الندوة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالصدق والأمانة قبل أن يبعث، يوم أن دخل عليهم وهم يختلفون: من الذي سيضع الحجر الأسود في مكانه، ويوم أن التفتت الأنظار وشخصت تجاه الباب، وإذ بهم يرون محمداً صلى الله عليه وسلم، فهتفوا جميعاً على لسان رجل واحد: لقد دخل عليكم محمد الأمين، لقد أطلق أهل مكة في دار الندوة على محمد لقب الأمين قبل البعثة. فلما سمعت خديجة عن أمانته وعن صدقه وعن عفته؛ أرسلت إليه ليتاجر بمالها، ولبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تلبية لرغبة عمه أبي طالب، وذهب النبي عليه الصلاة والسلام ليتاجر لـ خديجة بمالها، وعاد غلامها ميسرة -الذي لا نعلم عنه شيئاً في الإسلام كما قال الحافظ ابن حجر في الإصابة- ليحدثها عن أمانة محمد، وعن صدق محمد، وعن وفاء وإخلاص وبر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. ودب الحب في قلب خديجة رضي الله عنها لهذا الصدق وهذه الشيم وتلك الأخلاق الكريمة التي سمعت في رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أجمعت الروايات كلها على: أن خديجة رضي الله عنها هي التي خطبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتتشرف بالزواج منه، ولن نقف طويلاً عند هذه الأحداث الصغيرة، وذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة رضي الله عنها ليخطبها مع أعمامه، وعلى رأسهم حمزة وأبو طالب، ووقف أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب خديجة رضي الله عنها، وكان من أروع ما قاله أبو طالب حيث قام خطيباً: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وفرع إسماعيل، وجعلنا حجبة البيت وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوباً وحرماً آمناً، ثم إن هذا ابن أخي محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لو وزن به أي شريف من أشراف مكة شرفاً وعقلاً ونبلاً وفضلاً لرجحه محمد، ومحمد من قد عرفتم، وقد جاء اليوم يخطب خديجة، فله رغبة فيها، ولها رغبة فيه، وما أحببتم من الصداق فعلي. هذه هي خطبة أبي طالب. فقام عمها عمر بن أسد، ونظر إلى أبي طالب وقال: هو الفحل لا يقدح أنفه. أي: هو الكريم الذي لا يرد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 خديجة نموذج للزوجة المسلمة تزوج الحبيب بـ خديجة رضي الله عنها، وكان زواجاً ميموناً كريماً مباركاً، ضربت فيه خديجة رضي الله عنها أروع الأمثلة للبر والصبر والوفاء والكرم والجود والإيثار، فوالله ما سمع منها رسول الله كلمة تغضبه قط. استمعن أيتها المسلمات! استمعي أيتها الأخت المسلمة! يا من يعيش معها زوجها في قلق وهم وغم واضطراب! يا من تتفنن كل يوم في إيلام قلب زوجها! وتعكر صفو حياته، استمعي إلى بر الزوجة المخلصة، واستمعي إلى وفاء الزوجة المثالية والقدوة الطاهرة الطيبة، تعلمن يا مسلمات! من أمكن خديجة رضي الله عنها وأرضاها، تلك المرأة التي ملأت حياة النبي صلى الله عليه وسلم فرحاً وسروراً، وراحة وحبوراً، وأمناً وأماناً، وسكينة وهدوءاً، وإيماناً واطمئناناً، تعلمن أيتها المسلمات من خديجة رضي الله عنها وأرضاها. تزوج النبي عليه الصلاة والسلام بها وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وهي في الأربعين من عمرها كما قال جمهور أهل العلم. ظللت السعادة على هذا البيت، وضربت الصابرة أروع الأمثلة في البر والوفاء، فهي الغنية، وزوجها الفقير الذي كان يعمل عندها يوماً من الأيام، هل قالت له يوماً: يا فقير؟! هل قالت له يوماً: يا من عملت عندي؟! تعلمي أيتها المسلمة الموظفة التي تمتن على زوجها في الليل والنهار، تعلمن من خديجة رضي الله عنها وأرضاها، والله ما قالت له قط كلمة تجرحه، ولا كلمة تؤذيه، ولا كلمة تغضبه، وإنما يوم أن سعدت وشرفت بزواجها منه صلى الله عليه وسلم وضعت مالها كله بين يديه، وأسلمت له قلبها وعقلها وروحها وبيتها واستقرارها، وأحبت كل ما أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبغضت كل ما أبغضه رسول الله، وتلك هي أركان الوفاء وبنود البر، وبنود الإيثار، ورحم الله المودودي حين قال: إن الحياة الزوجية إن خلت من المودة والرحمة أصبحت كالجسد الميت إن لم يدفن فاح عفنه ونتنه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 فضائل خديجة رضي الله عنها ظللت الأبوة الرحيمة هذا البيت، وأنعشت الأمومة الكريمة أنفاس هذا البيت، ما ظنكم بأب هو رسول الله، وبأم هي خديجة الطاهرة صاحبة الشرف والعقل والكمال؟! أجل! إنه وسام سيد الرجال لـ خديجة، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم -واسمعوا إلى هذا المثال، وإلى هذه المنقبة يا عباد الله! والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري -: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) . وفي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خير نسائها مريم بنت عمران، خير نسائها خديجة بنت خويلد) والراجح كما قال الحافظ ابن حجر: أن المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (خير نسائها) أي: خير نساء زمانها، فـ مريم بنت عمران خير نساء زمانها، وخديجة بنت خويلد خير نساء زمانها بشهادة من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. إن خديجة لم تبلغ هذه المنزلة الرفيعة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، وإنما بلغت خديجة هذه المنزلة الرفيعة عند ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، هل سمعت يا عبد الله بامرأة أنزل الله جل وعلا جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليبغلها من ربها جل وعلا السلام؟! إنها خديجة رضي الله عنها، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: أتى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى خديجة مقبلة، فقال جبريل عليه السلام: (يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتت فأقرئها السلام من ربها ومني) فإذا أتت فأقرئها السلام ممن؟! من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، والله إن الحلق ليجف، وإن القلب ليخشع، وإن الجوارح لتسكن أمام هذا السلام الإلهي الكريم من الله جل وعلا، وعلى لسان من؟! على لسان جبريل، إلى لسان من؟! إلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم، إلى من؟! إلى خديجة رضي الله عنها، (يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت فأقرئها السلام من ربها ومني) أي: ومن جبريل، وانظروا إلى فقهها، انظروا إلى عقلها، انظروا إلى علمها، انظروا إلى ذكائها وفطنتها، ما قالت: وعلى الله السلام، انظروا إلى كمال العقل والفطنة والذكاء، اسمعوا ماذا قالت خديجة العالمة الذكية العاقلة، فقد ورد في سنن النسائي: (إن الله هو السلام، ومنه السلام -فالسلام اسم من أسمائه-، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته) . يا له من علم! هل انتهت البشارة والمنقبة والفضيلة عند هذا الحد؟! كلا. فتعالوا بنا لنقرأ الحديث كله، ولنستمع إلى الفضل كله، قال جبريل: (يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتت فأقرئها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب - أي: من لؤلؤة مجوفة- لا صخب فيه ولا نصب) . وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فهل أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً صخباً؟! هل أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ضجيجاً؟! هل رفعت صوتها يوماً على حبيب الله صلى الله عليه وسلم؟! كلا، وإذا كان ذلك كذلك فإن الجزاء من جنس العمل، فليكن بيت خديجة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، هدوء كامل وراحة تامة؛ نظير ما أسعدت النبي صلى الله عليه وسلم بالهدوء والراحة التامة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 خديجة أم أولاده صلى الله عليه وسلم وأتم الله السعادة لهذا البيت الكريم بعدما أنجبت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الولد، فأنجبت: القاسم، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وهناك خلاف في عبد الله الذي لقب بـ الطيب والطاهر كما ذكر علماء السلف المحققين، وخيمت السعادة على هذا البيت، بل وضم هذا البيت المبارك إلى جوار هذه الصفوة الكريمة من أبناء الحبيب صلى الله عليه وسلم هند بن أبي هالة، الذي رزق الله عز وجل به خديجة من زوجها الثاني أبي هالة التميمي، وضم هذا البيت المبارك علي بن أبي طالب، وضم هذا البيت المبارك زيد بن حارثة، وضم هذا البيت المبارك أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكفى خديجة شرفا ًوفضلاً أن هذا البيت هو أول بيت وحد الله في الأرض، وهو أول بيت صلى لله جل وعلا، وهو أول بيت تلي فيه كتاب الحق جل جلاله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 تثبيت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية نزول الوحي ومن هذا البيت انتشر ضياء ونور الإسلام على الدنيا كلها، وبدأ طور جديد في حياة خديجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الأربعين من عمره الشريف المبارك بدأت إرهاصات النبوة تتوالى، وكان أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا كانت مثل فلق الصبح كما ورد في صحيح البخاري، وحبب الله للنبي صلى الله عليه وسلم الخلوة والعزلة، فأحبت خديجة الخلوة والعزلة؛ لأنها تحب كل ما يحبه رسول الله، وهكذا الزوجة الصالحة، طالما أن زوجها ما أحب إلا طاعة الله عز وجل، وما أحب شيئاً فيه معصية لله ولرسوله، فلتحب الزوجة كل ما يحبه الزوج، أحبت الخلوة والعزلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى غار حراء بعيداً عن ضوضاء مكة، وبعيداً عن أصوات الشرك، وعن مشاهد القرابين التي تقدم للآلهة المكذوبة المدَّعاة؛ ليتفكر ويتدبر في غار حراء؛ تمده زوجته الصابرة الوفية بالطعام والشراب الذي يحتاج إليه. وفي ليلة كريمة مباركة من ليالي شهر رمضان المبارك خشع جبل النور بصخوره وحبات رماله وذرات ترابه، بل وخشع الكون كله بوحوشه وهوامه ودوابه، بل وكأن كواكب السماء قد تركت أفقها البعيد ونزلت لتعانق جبل النور في هذه الليلة الكريمة المباركة. ما الذي حدث؟ وما الذي جرى؟! إنه جبريل أمين وحي السماء يتنزل -لأول مرة- على جبل النور، على قلب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فها هو يدق على باب الغار ليضم الحبيب صلى الله عليه وسلم ضمة شديدة، ثم يرسله ويقول له: (اقرأ، فيقول الحبيب: ما أنا بقارئ، فيضمه جبريل ويغطه بشدة ثم يرسله ويقول: اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ، ثم يضمه الثالثة ثم يرسله فيقول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:1-4] ) وتركه جبريل وانصرف. وعاد الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى سكنه، عاد الحبيب إلى مصدر راحته، عاد الحبيب إلى مصدر شفائه وطمأنينته وسكينته، عاد إلى خديجة، عاد إلى هذا البيت الآمن المطمئن، عاد وهو يرجف فؤاده وهو يقول: (زملوني زملوني) ، فزملته الزوجة الصابرة الوفية رضي الله عنها، وانتظرت حتى هدأ روعه، ولما ذهب عنه الروع ذهبت إليه؛ لتستفسر منه الخبر، وهو يقول: (لقد خشيت على نفسي يا خديجة!) ما الذي جرى؟! فيقص عليها النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، فماذا قالت؟ هل فزعت؟! هل خافت؟! هل ضربت وجهها؟! هل رفعت صوتها؟! إنما سكبت الطمأنينة والهدوء والأمن والأمان في قلبه وهي تقول له: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق، والله لا يخزيك الله أبداً) . ولم تكتف الصابرة التقية الطاهرة بذلك، وإنما أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان قد تنصر، وكان يقرأ الكتاب العبراني، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فذهبت إليه خديجة وقالت له: يا ابن عمي! اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ماذا ترى يا ابن أخي! فقص عليه النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا والله الناموس الذي أنزله الله على موسى، ليتني فيها جذعاً -أي: شاباً صغيراً- ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أومخرجي هم؟! قال: نعم، ما من أحد جاء بمثل ما جئت به إلا عودي) . وما لبث أن توفي ورقة، وفتر الوحي، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 صبر خديجة رضي الله عنها ووفاؤها للنبي عليه الصلاة والسلام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! وهكذا مرحلة جديدة في حياة خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما بعدما فتر الوحي ونزل عليه بعد ذلك قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1-5] ، نزل عليه صدر سورة المدثر فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تبارك وتعالى، ولاقى من أصناف العذاب والاضطهاد والبلاء ما تنوء بحمله الجبال الراسيات، وكان في كل مرة يرجع إلى بيته النقي التقي ليجد في بيت خديجة رضي الله عنها وأرضاها السكينة. أيها الأحبة! ضربت خديجة رضي الله عنها أروع الأمثلة في الصبر على البلاء، والوفاء لزوجها، والإيثار، والجود، والمحبة، والإخلاص، والكرم، وكانت تشد من أزره، وتقف خلفه ليدعو إلى الله جل وعلا، حتى بلغ البلاء أقصاه، ودخل المسلمون في حصار اقتصادي رهيب، وهي دندنة قديمة حديثة من أهل الكفر والشرك على أهل التوحيد والإيمان في كل زمان ومكان، فرض على المسلمين حصار اقتصادي رهيب من المشركين في مكة، واستمر هذا الحصار ثلاثة أعوام، ودخل في هذا الحصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته الصابرة الوفية خديجة رضي الله عنها، وقدمت كل ما تملك من مال، واتصلت بابن عمها وابن خالها ليأتي بالطعام للمسلمين المحاصرين في هذا الشعب، الذين أكلوا ورق الشجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما صدهم ذلك عن دين الله جل وعلا، ولا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخيراً -أيها الأحباب- نصر الله عبده وعباده، وأخرجهم من هذا الحصار، وقد انتصروا انتصاراً إيمانياً كبيراً على أنفسهم، وعلى ذواتهم، وعلى الوقوف إلى جوار نبيهم، وعلى نصرة نبيهم صلى الله عليه وسلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 وفاة خديجة رضي الله عنها ولم تلبث الزوجة الصابرة الوفية الطاهرة أن لبت نداء ربها جل وعلا بعد الخروج من هذه المقاطعة الاقتصادية؛ لتلقى الله تبارك وتعالى مبشرة ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة: {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54-55] ، وحزن الحبيب صلى الله عليه وسلم عليها حزناً يفتت الأكباد، بل ونزل بنفسه إلى قبرها، وكان أول قبر ينزل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ليدفنها الحبيب صلى الله عليه وسلم بيديه. ووالله إن كانت فارقته بجسدها فما فارقت قلب حبيبنا ونبينا صلى الله عليه وسلم، حتى دبت الغيرة بعد موتها في قلب عائشة التي أحبها صلى الله عليه وسلم، ورد في الصحيحين من حديثها رضي الله عنها قالت: (ما غرت من أحد من نساء النبي ما غرت من خديجة قط، من كثرة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها، وربما كان يذبح الشاة ويهدي لصديقات خديجة، وربما قلت له -هكذا تقول عائشة -: ألا يوجد في الدنيا امرأة إلا خديجة؟! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إنها كانت وكانت -أي: ظل يعدد النبي محاسنها، وقال لها: ولقد رزقني الله منها الولد) ، وفي رواية في صحيح مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة يوماً: (لقد رزقت حب خديجة) . هذا هو رمز الوفاء، وهذا هو سكن سيد الأنبياء، هذا رمز الإخلاص، هذه هي القدوة الطيبة والمثل الأعلى الذي نقدمه للمسلمات وللمؤمنات لا سيما بعد سنوات التيه والتغريب التي رأت المرأة المسلمة فيها ببصرها إلى الكافرات والماجنات، واستمعت المسلمة فيها إلى أدعياء التحرر والتبرج والسفور من أعداء الإسلام في الشرق الملحد وفي الغرب الكافر، أو من أفراخهم الذين تربوا في مدارسهم في بلاد المسلمين. فيا أيتها المسلمة! هذه هي القدوة، وذلكم هو المثال، فلتعودي مرة أخرى لتنظري ببصر، ولتنظري بقلب، ولتنظري بعقل إلى هذه القدوات الصالحات الطيبات الطاهرات؛ لتشقي طريق المجد والعزة والكرامة مرة أخرى من جديد. نسأل الله جل وعلا أن يصلح نساءنا، وأن يبارك لنا في ذرياتنا، وأن يجعلهم قرة أعين لنا في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك ومولاه. اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم أقر أعيينا بنصرة الإسلام، اللهم أقر أعيينا بعز الإسلام والمسلمين، أنت ولي ذلك والقادر عليه يا رب العالمين. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 مصابيح الهدى - عائشة بنت أبي بكر الصديق عائشة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وابنة الصديق رضي الله عنه هي معلمة العلماء، ومؤدبة الأدباء، وبليغة الفصحاء، ومحدثة الفقهاء، إنها الحصان الرزان المبرأة من السماء، إنها حبيبة سيد المرسلين، والمبشرة بصحبته في جنة رب العالمين، نشأت ونبتت في حقل الإسلام، وسقيت بماء الوحي على يد أبيها أبي بكر وحبيبها محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ابتليت بلاءً عظيماً أثبتت فيها قوة إيمانها، وعظيم صبرها، واستحقت أن يذكرها ربها في كتابه، ولذلك فحبها دين، وبغضها نفاق. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1 ومضات من حياة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله! وأسأل الله جل وعلا أن يطهر هذه الوجوه المشرقة الطيبة، وأن يزكي هذه الأنفس، وأن يشرح هذه الصدور، وأن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله! هذا هو لقاؤنا الحادي عشر مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى، ولا زلنا -بفضل الله جل وعلا- نطوف مع حضراتكم في بستان سير أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ذلكم البستان الذي لا ينتهي عبيره، ولا ينقطع شذاه، ولا تذبل أزهاره، ولا تموت وروده، ولا يمل المتجول بين أغصانه وأشجاره وأزهاره أبداً. ومن ثم فلقد جاءني في اللقاء الماضي بعض الأحبة، وقالوا: بقي كثير من الصحابة كنا نتمنى أن نسعد بالحديث عنهم، قبل أن تبدأ حديثك عن أمهات المؤمنين وعن الصحابيات رضوان الله عليهن، فذكرت أحبابي بما ذكرت في أول لقاء لنا من لقاءات هذه السلسلة الكريمة، حيث قلت: إنه ليس من الصعوبة أن نقطف زهرة وحيدة في وسط صحراء مقفرة، ولكن من الصعوبة بمكان أن نقتطف زهرة في وسط حديقة غناء، تضم كل أنواع الزهور، وتشمل كل ألوان الورود، وتحوي كل أصناف العبير، لذا، فلو توقفت مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لاحتجنا والله إلى سنوات طوال، وليس ذلك مبالغة. لماذا؟ لأن أصحاب الحبيب المصطفى هم عمر الزمن، ونبض الحياة، ومن المحال أن نحسب أنفاس الزمن، وأن نقدر نبض الحياة. وهذه السلسلة -أيها الأحبة- ليست خاصة بأصحاب النبي رضوان الله عليهم جميعاً وحدهم، وليست تاريخاً ولا سرداً للسيرة، وإنما نقدمها في عجالة سريعة للعظة والعبرة من ناحية، ولتقديم القدوة الصالحة الطيبة من ناحية أخرى؛ ليتربى عليها جيل الصحوة المباركة في وقت قدم فيه التافهون والساقطون والفارغون؛ ليكونوا القدوة والمثال، ولذا فإني لن أتوقف طويلاً أيضاً مع أمهات المؤمنين ومع الصحابيات رضوان الله عليهن، لننتقل بعد ذلك للحديث عن أئمة الهدى ومصابيح الدجى في عصور التابعين ومن بعدهم، فتعالوا بنا قبل أن تطاردنا عقارب الساعة؛ لنلقي السمع والبصر والفؤاد بين يدي الصديقة بنت الصديق، والعتيقة بنت العتيق، والحبيبة بنت الحبيب البكاء الرقيق. إننا اليوم على موعد مع معلمة العلماء، ومؤدبة الأدباء، وبليغة الفصحاء، ومحدثة الفقهاء، إنها الحصان الرزان المبرأة من السماء، إنها حبيبة سيد المرسلين، والمبشرة بصحبته في جنة رب العالمين، إنها أمنا عائشة أم المؤمنين عليها من الله الرحمة والرضوان. أعيروني القلوب والأسماع -أيها الأحبة- فليست هذه اللقاءات خاصة بنسائنا فحسب، وإنما كل كلمة في هذه اللقاءات للرجال قبل النساء، وللنساء قبل الرجال، فهي هامة لكل مسلم ومسلمة في وقت لا نعرف فيه إلا القليل القليل عن هؤلاء الأطهار، وعن هؤلاء الأبرار الأخيار، وفي الوقت الذي صم الإعلام آذاننا وأعمى أبصارنا بسير وتاريخ الأقزام، فعلينا أن نعرف تاريخ هؤلاء، وأن نقف أمام سيرتهم، ولذا فإني أرى بأنه من الواجب علينا أن ندرس سيرهم، وسيرة الصحابيات رضوان الله عليهن؛ لنتعرف على ديننا، فهؤلاء هم الذين حولوا القرآن والإسلام إلى واقع حي، وإلى مجتمع متحرك منظور. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 2 زواج عائشة من النبي صلى الله عليه وسلم إننا اليوم على موعد مع عائشة، وما أدراكم ما عائشة؟! إنها حبيبة الحبيب صلى الله عليه وسلم! إنها المرأة التي ولدت في الإسلام، في بيت الصدق والتوحيد والإيمان، في بيت صديق هذه الأمة الأكبر أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه! إنها الزهرة التي نشأت ونبتت في حقل الإسلام، وسقيت بماء الوحي على يد صديق الأمة ابتداءً، ثم بعد ذلك على يدي رسول هذه الأمة صلى الله عليه وسلم. أيها الأحبة! إنها عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها وأرضاها، التي جاء الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فرآها النبي صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثاً، ويقول له الملك في كل مرة: هذه امرأتك هذه زوجتك، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أريتك في المنام مرتين أو ثلاثاً) أي: أراني الله إياك في المنام مرتين أو ثلاثاً. وفي رواية أخرى في الصحيحين أيضاً: (أريتك في المنام ثلاث ليال، جاء بك الملك في سرقة من حرير -بفتح السين والراء والقاف، وهي القطعة- فيقول لي الملك: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك فإذا أنت فيه، فأقول: إن يك هذا من عند الله يمضه) ، وأمضاه الله جل وعلا؛ فتزوجها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بعدما قدم المدينة المنورة -زادها الله تكريماً وتشريفاً- وهي بنت تسع سنين، وكانت الفتاة في هذا السن في أرض الجزيرة وفي ذلك الوقت تصلح لأن تكون زوجة ناضجة عاقلة واعية، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وهي بنت تسع سنين رضي الله عنها وأرضاها، فنشأت لا ترى إلا النبي أمامها، فسكن النبي صلى الله عليه وسلم في قلبها، وأحبت النبي حباً شديداً، وحق لها ذلك، فمن يُحب إذا لم يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وبادلها الحبيب صلى الله عليه وسلم هذا الشعور النبيل الكريم، وأحبها النبي صلى الله عليه وسلم حباً شديداً أعلنه أكثر من مرة في صراحة ووضوح، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عمرو بن العاص، أن عمراً سأل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وقال: (أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) ، يقول الإمام الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء: وهذا خبر ثابت على رغم أنوف الروافض، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أحب أفضل رجال الأمة، وأفضل نساء الأمة -أي: بعد خديجة رضي الله عنها- وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليحب إلا طيباً، وحري بمن أبغض حبيبي رسول الله أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 مكانة عائشة عند الصحابة الكرام لقد عرف الصحابة رضوان الله عليهم لـ عائشة قدرها، فكانوا يتحرون بهداياهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عائشة، فإذا أراد صحابي أن يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية أخرها إلى أن يأتي النبي بيت عائشة، فيذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقدم له الهدية في بيتها، والحديث رواه البخاري ومسلم. تقول عائشة رضي الله عنها: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة -أي: اجتمع نساء النبي إلى أم سلمة - وقلن لها: يا أم سلمة! إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإننا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري يا أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يعطوه الهدية حيث ما كان وحيث ما بات، فذهبت أم سلمة واشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنها رسول الله، فلما عاد إليها في نوبتها الثانية ذكرت أم سلمة ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنها رسول الله، فلما ذهب إليها في المرة الثالثة ذكرت أم سلمة ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: (يا أم سلمة! لا تؤذيني في عائشة، فوالله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها) . وفي رواية في الصحيحين: (أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أرسلن إليه مرة أخرى فاطمة -ابنته- رضوان الله عليها، فذهبت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، فقالت له: يا رسول الله! إن أزواجك أرسلنني يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، فنظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أي بنية؟ ألست تحبين ما أحب؟ قالت: بلى يا رسول الله، قال: فأحبي هذه) أي: عائشة رضي الله عنها وأرضاها. ولذلك -أيها الأحباب- حملت شدة وشظف العيش أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أن يطلبن من رسول الله أن يوسع عليهن في النفقة، والرسول صلى الله عليه وسلم كما هو معروف لا يعيش عيشة الملوك والأكاسرة والقياصرة، وإنما يعيش الحبيب مع زوجاته عيشة متقشفة، فقد كان يمر على بيوت النبي صلى الله عليه وسلم الشهر والشهران ولا يوقد في بيت من بيوت الحبيب نار -أي: لا يطهون طعاماً- فلما سئلت عائشة رضي الله عنها: فماذا كنتم تأكلون إذاً؟ قالت: كنا نعيش على الأسودين: التمر والماء. بل لقد ورد في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً من بيته ما أخرجه من بيته إلا الجوع، فمر على أبي بكر وعمر، فسألهما: ما الذي أخرجكما؟ قالا: والله ما أخرجنا إلا الجوع يا رسول الله! فنظر إليهما الحبيب وقال: والله ما أخرجني إلا الذي أخرجكما) . اشتكى نساء النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعيشة وهذا الضيق، وسألن النبي صلى الله عليه وسلم أن يوسع عليهن في النفقة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، واعتزل نساءه شهراً كاملاً، إلى أن نزلت عليه آية التخيير من الله جل وعلا، فأمر الله نبيه أن يخير نساءه بين الدنيا وزينتها مع فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الصبر معه على ضيق الحال مع الثواب العظيم في الدار الآخرة. تقول عائشة: فلما خير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه بدأ بي، كما ورد في صحيح البخاري ومسلم: (لما أمر رسول الله أن يخير نساءه أو أزواجه بدأ بي، فقال لي: يا عائشة! إني ذاكر لك أمراً فما عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك -تقول عائشة بدلال: وقد علم أن أبواي لم يكونا ليأمراني بفراقه- تقول: فقرأ عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم آية التخيير {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28-29] ، فلما استمعت عائشة إلى هذه الآية قالت له: في أيّ شيء أستأمر أبواي يا رسول الله! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة) . تقول عائشة: وفعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثلما فعلت. وهذه -أيها الأحبة- منقبة عظيمة وفضيلة كبيرة لـ عائشة، تبين كمال عقلها، وصحة رأيها مع صغر سنها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 عائشة وقصة الإفك إن أعظم منقبة وأجل فضيلة لـ عائشة رضي الله عنها هي تلك الشهادة الربانية التي لا تمحوها الأيام والأعوام، وكيف تمحى أو تنسى وقد جعلها الله قرآناً يتلى إلى يوم القيامة؟! إنها الشهادة ببراءتها وطهرها وعفتها ونقائها من الله جل وعلا، بعد هذه الفتنة القاسية والمحنة المزلزلة التي تعرضت لها عائشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم! أيها الأحبة! أعيروني القلوب والأسماع لنستمع إلى عائشة رضي الله عنها وهي تقص علينا هذه المأساة المروعة، وهذه الفتنة القاسية المدمرة، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين نسائه -أي: أجرى القرعة بين النساء- فأيتهن خرج سهمها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقرع بيننا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات -وهي غزوة بني المصطلق- فوقع السهم علي، فخرجت مع النبي الله صلى الله عليه وسلم بعدما أنزلت آية الحجاب، فكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه. والهودج: هو المحمل الذي يوضع على ظهر البعير لتركب فيه النساء ليكون أستر لهن، فكانت تحمل في الهودج، ويرفع الهودج وهي فيه، وينزل الهودج وهي فيه على ظهر البعير. تقول: فلما انتهى النبي عليه الصلاة والسلام من الغزو وقفل راجعاً إلى المدينة، ودنونا منها، آذن الرسول صلى الله عليه وسلم ليلةً بالرحيل، وتخلفت عائشة رضي الله عنها خلف الجيش لقضاء شأنها. أي: لقضاء حاجتها، ولما تأخرت عائشة رضي الله عنها جاء الرهط الذين كانوا يحملون الهودج ويقودون لها بعيرها، فحملوا الهودج ووضعوه على ظهر البعير، وهم لا يعلمون أنها ليست بداخله، فجاءت عائشة رضي الله عنها إلى المكان فلم تجد فيه مجيباً ولا داعٍ. تقول: فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني وسيرجعون إليّ في مكاني الذي كنت فيه، تقول: فغلبتني عيني فنمت -نامنت في مكانها- وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتأخر خلف الجيش ليأتي بسقط الجيش في مسيره. تقول: فلما رآني صفوان رأى سواد إنسان نائم. أقبل إليها، فعرفها، وكان يراها قبل نزول آية الحجاب. تقول: فاستيقظت من نومي باسترجاعه -أي: انتبهت من نومي على صوته وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون- عندما عرف أنها زوج نبيه صلى الله عليه وسلم. تقول: فخمرت وجهي بجلبابي -خمرت، أي: غطيته- فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما كلمني كلمة، وما سمعت غير استرجاعه -أي: قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون- فأناخ لي صفوان الراحلة، فركبت عليها، وانطلق يقود بي الراحلة حتى أدركنا الجيش، وقد نزلوا معرسين في نحر الظهيرة -أي: في وقت حر الظهيرة الشديد- فلما رآها رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول قال: من هذه؟ قالوا: إنها عائشة، فقال رأس النفاق: زوج نبيكم باتت مع رجل حتى الصباح وجاء يقودها؟ والله ما نجت منه ولا نجا منها. قولة عفنة، خبيثة! إنها القلوب المريضة التي تريد أن تلوث صورة الإسلام المتمثلة في أطهر قدوة وأعظم مثال، في محمد صلى الله عليه وسلم, وآل بيته الطيبين الطاهرين. وطار المنافقون بهذه الفرية العظيمة، وهذه القولة الخبيثة الخطيرة، وتلقفتها القلوب المنافقة، والألسنة المريضة، وبدأت تموج وتزداد وتنتشر، وماجت المدينة بعد وصول الجيش إليها شهراً كاملاً بهذه الفرية العظيمة خاضت في شرف الحبيب المصطفى وفي عرض ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم، والمسكينة عائشة لا تعلم عن الأمر شيئاً. الله أكبر! رسول الله يتهم في عرضه، وشرفه، وفي عائشة التي أحبها من كل قلبه! رسول الله يتهم في طهارة بيته، وهو الطاهر الذي فاضت طهارته على جميع العالمين! رسول الله يتهم في صيانة حرمته وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته! يتهم الحبيب صلى الله عليه وسلم في شرفه وعرضه، بل وفي رسالته، يوم يرمى في عائشة رضي الله عنها! وها هي المسكينة الطاهرة العفيفة النقية التقية التي تربت في بيت الصدق والطهر والعفاف، في بيت صديق الأمة الأكبر، ها هي عائشة الزهرة التي تفتحت في حقل الإسلام، وسقيت بماء الوحي على يد رسول الله تتهم في عرضها تتهم في شرفها! وها هو أبوها ذلكم التقي النقي الأواب الخاشع الرقيق يعصر قلبه الألم، ويحطم ضلوعه الحزن! ما هذا؟ إنه خبر يهدهد الجبال، ويحطم الصخور الصماء، ويفتت الحجارة الصلبة! ابنة أبي بكر تتهم في شرفها وعرضها؟ ومن هي ابنته؟ إنها زوج حبيبه، وزوج رسوله، وزوج نبيه وأستاذه صلى الله عليه وسلم. يتألم الصديق ويتعالى على أحزانه المدمرة، ويقول بمنتهى الحسرة والمرارة: (والله ما رمينا بهذا في الجاهلية، أفنرمى به في الإسلام) . وها هو الصحابي الجليل العلم صفوان بن المعطل يتهم في دينه حينما يتهم بخيانة نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم! أيُّ ابتلاء هذا؟ وأيُّ محنة وأيُّ مصيبة هذه؟ وأيُّ فتنة هذه التي ابتلي بها رسول الله وعائشة رضي الله عنها وأرضاها؟!! {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2-3] . {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] . تقول عائشة رضي الله عنها: فلما قدمنا المدينة مرضت شهراً كاملاً، وأنا لا أسمع من حديث الإفك شيئاً، حتى خرجت يوماً لقضاء حاجتي مع أم مسطح، وكانوا لا يتخذون الكنف -أي: بيوت الخلاء- في البيوت ولا قريباً من البيوت، فأخبرتها أم مسطح بن أثاثة التي سقط في هذه الهاوية مع أهل الإفك بما يتحدث به الناس، فصدمت عائشة رضي الله عنها وقالت: أوتحدث الناس بهذا؟! تقول: وكنت لا يريبني شيئاً من هذا إلا أنني لا أرى الرسول صلى الله عليه وسلم يعاملني بلطفه الذي كنت أراه منه حينما أشتكي، وكان يدخل عليّ فيسلم ثم يقول: كيف تيكم فقط، ولا يتكلم ولا يلاطفني ولا يلاعبني. فدخلت عائشة رضي الله عنها، فلما دخل عليها النبي مسلماً وهو يقول: كيف تيكم؟ نظرت إليه والبكاء يفتت كبدها، وقالت: يا رسول الله! أتأذن لي في أن أذهب إلى أبواي. تقول: وما طلبت ذلك إلا لأني أريد أن أتيقن الخبر، هل تحدث الناس بذلك؟! تقول: فذهبت إلى بيت أبواي فقلت: يا أماه! ماذا يتحدث الناس؟ فقالت أمها تخفف عليها: هوني عليك يا ابنتي، فوالله ما كانت امرأة وطيئة قط ولها ضرائر إلا وأكثرن في حقها، فبكت عائشة رضي الله عنها وعلمت أن الأمر حق، وأن الأمر واقع، وأن الناس يتكلمون في شرفها وعرضها، وهي من؟ زوج من؟ بنت من؟ أخت من؟ إنها بنت أبي بكر، وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم. تقول: فبكيت بكاء زاد مرضي، وصدع قلبي، وكاد كبدي أن يتفتت من البكاء، وجلس عندي أبواي، وكادت فتنة خطيرة أن تحدث بين الأوس والخزرج بسبب هذا الحديث الخطير، وهذا الإفك المرير. تقول: وبينما أنا جالسة عند أبواي وهما يعلمان أن البكاء فالق كبدي، إذ استأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فدخلت وجلست معي تبكي، وبكيت معها، تقول: وبينما نحن كذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عندي وكانت أول مرة يجلس فيها عندي بعد حادثة الإفك، فجلس النبي عليه الصلاة والسلام، فحمد الله عز وجل وأثنى على الله، وتشهد شهادة الحق ثم قال: يا عائشة! إنه بلغني عنك كذا وكذا، وإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل، وإن ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا ألم بذنب وتاب إلى الله تاب الله عليه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم هذه بشرية الحبيب أيها الأحباب! تقول: فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من مقالته قلص دمعي فلا أجد دمعة واحدة في عيني. ونظرت إلى أبيها إلى أبي بكر رضي الله عنها وهي تقول: يا أبت! أجب رسول الله عن مقالته، فيقول الصديق الرقيق الذي يعصر قلبه الألم، يقول لها: والله يا بنية ما أدري ماذا أقول لرسول الله، فتنظر هذه الطاهرة البريئة العفيفة إلى أمها وتقول: يا أماه! أجيبي رسول الله عن مقالته، فتقول أمها: والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت الصديقة الطاهرة إليهم جميعاً وقالت: والله إني لبريئة، ولو قلت لكم ذلك لم تصدقوني، ولو قلت لكم غير ذلك ستصدقونني، ووالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا ما قاله أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] . لك الله يا عائشة، ورحماك رحماك يا ألله! رحماك رحماك يا ألله! رحماك رحماك يا ألله! تقول: ثم وليت بوجهي واضطجعت على فراشي، والبكاء يفتت كبدي، والألم يعصر قلبي، ووالله إني لأعلم أني لبريئة، وأن الله مبرئي ببراءة، ولكني ما كنت أظن أن الله تعالى سينزل وحياً يتلى في حقي، فلشأني في نفسي كان أحقر من أن ينزل الله فيّ قرآناً يتلى. تقول: ولكني كنت أرجو الله أن يري النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله جل وعلا فيها، تقول: ووالله لم يبرح أحد مكانه، ولم يتحرك رسول الله من مجلسه، وإذ به يتنزل عليه الوحي، وتأخذه الشدة، حتى أن جبينه ليتحدر عليه العرق مثل الجمان -أ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 نزول الوحي بتبرئة الصديقة رضي الله عنها عباد الله! لحكمة يعلمها العليم الحكيم، انقطع الوحي شهراً كاملاً ولم ينزل الله آية واحدة في شأن حادثة الإفك على قلب حبيبه المصطفى، والنبي صلى الله عليه وسلم يتلوى من الألم، ومن الحزن، ومن هذا البلاء، فنزل الوحي، وشخصت الأبصار، وانقطعت الأنفاس، وهمس الجميع، والكل ينتظر هل نزلت براءة عائشة؟ تقول عائشة رضي الله عنها: فلما سري عن النبي صلى الله عليه وسلم، سري عنه وهو يضحك، وكانت أول كلمة نطق بها رسول الله أن نظر إليّ وقال: أبشري يا عائشة! لقد برأك الله عز وجل. الحمد لله الذي يسمع ويرى، الحمد لله الذي يعلم السر وأخفى، الحمد لله الذي يسمع دبيب النملة السوداء تحت الصخرة الصماء في الليلة الظلماء! أبشري يا عائشة لقد برأك الله من فوق سبع سماوات، لا برؤيا وإنما بوحي يتلى، بل وسيظل يتلى إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها! أبشري يا عائشة! لقد برأك الله عز وجل. فقالت أمها: الحمد لله، قومي يا عائشة إلى رسول الله -أي: قومي إليه فاشكريه- فقالت: لا والله، والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل براءتي من السماء. يا له من يقين عجيب! لا والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل براءتي. وجلس الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليتلو على أسماعها لأول مرة براءتها من فوق سبع سماوات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذ ِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:11-20] . وكان الصديق رضي الله عنه يعطي النفقة لـ مسطح بن أثاثة لقرابته وفقره، فلما تكلم في عائشة، قال الصديق: والله لا أعطيه النفقة بعد اليوم أبداً، فنزل قول الله جل وعلا: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] فلما سمعها الصديق قال: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، وأعطى النفقة مرة أخرى لـ مسطح رضي الله عنه وغفر له، وقال الصديق: (والله لا أنزعها منه أبداً) . وهكذا أيها الأحباب خرجت عائشة من هذه المحنة بهذه المنقبة وهذه الفضيلة، وزادت مكانتها في قلب الحبيب المصطفى، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. وهكذا أيها الأحبة! ظلت عائشة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وشاء الله جل وعلا الذي جمع بين قلبيهما أن يجمع بين ريقهما في أول يوم من أيام الآخرة للنبي صلى الله عليه وسلم وآخر يوم من أيام الدنيا. تقول عائشة رضي الله عنها، كما ورد في الصحيحين: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري، وجمع الله بين ريقي وريقه عند الموت، فبينما أنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليَّ عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك، فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، وقد علمت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك يا رسول الله؟ فأشار النبي برأسه: أن نعم، تقول: فأخذته فلينته، ثم نفضته، ثم طيبته، ودفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستن به أطيب ما كان مستناً قط، وكانت بين يديه ركوة من ماء يدخل يده فيها ويمسح العرق عن جبينه -الأزهر الأنور- وهو يقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) ، ثم تقول: وإذ به يرفع يده ويقول: (بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى) ، ثم سقطت يده، فعلمت أنه صلى الله عليه وسلم قد مات. مات الحبيب على صدرها، وبين سحرها ونحرها، وجمع الله بين ريقه وريقها، فيا لها من فضيلة عظيمة! ولم تمض إلا أشهر معدودات بعد سنتين ونصف بل أقل، وتصاب عائشة بمصاب لا يقل عن المصاب الأول حزناً وألماً، فلقد نام أبوها الصديق هو الآخر على فراش الموت، ودخلت عليه الصديقة رضي الله عنها وهي تقول: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فكشف أبو بكر الغطاء عن وجهه وقال: لا يا بنية! لا تقولي هذا، وإنما قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ، وأوصاها الصديق أن يدفن في بيتها، إلى جوار حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم. مات الصديق رضي الله عنه، وظهرت عبقرية الصديقة، وظهر علمها ومكانتها، وظهر فقهها ومكانتها الحديثية يبن الصحابة في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين. حتى كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول: ما أشكل علينا نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا وجدنا عند عائشة منه علماً. ظهرت مكانتها العلمية، وتفرغت للعلم ولرواية الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث روت أكثر من ألفين حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتفرغت للعلم وللتدريس، وكان كبار الصحابة يرجعون إليها في عهد عمر وعثمان. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 حقيقة ما وقع بين عائشة وعلي رضي الله عنهما وفي عهد علي في أول خلافته قامت الفتنة -فتنة وقعة الجمل- التي ندمت عليها أمنا رضي الله عنها ندماً شديداً. وأود في عجالة أن أنبه إلى اتهام باطل اتهمت به عائشة رضي الله عنها، وشحنت به بعض كتب التاريخ والسير، ألا وهو أن عائشة هي التي ذهبت إلى الكوفة والبصرة لتجييش الجيوش للخروج على علي ولحربه، وهذا افتراء باطل وكاذب، وإن أعظم دليل على كذب هذا: ما رواه الطبري بسند صحيح عن الأحنف بن قيس أنه قال: ذهبت إلى المدينة النبوية فرأيت الناس قد اجتمعوا في وسط المسجد النبوي، والناس يحاصرون عثمان رضي الله عنه، فلقيت طلحة والزبير فقلت لهما: والله ما أرى عثمان إلا مقتولاً، فإن قتل فمن تأمراني أن أبايع؟ فقال طلحة والزبير: عليك أن تبايع علياً. يقول الأحنف بن قيس: فعدت إلى مكة فلقيت عائشة رضي الله عنها، فبلغنا خبر مقتل عثمان، فقلت: يا أماه! من تأمريني أن أبايع؟ فقالت عائشة: عليك بـ علي. يقول الأحنف: فعدت إلى المدينة فبايعت علياً ثم رجعت إلى البصرة مرة أخرى. أما ذهابها إلى الكوفة والبصرة فقد شرحته قبل ذلك مفصلاً في اللقاء الرابع من هذه السلسلة في خطبة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وما ذهبت إلا متأولة، تريد الصلح والإصلاح بين المسلمين، وجمع كلمتهم، متأولة بقول الله جل وعلا: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114] إلا أنه وقع عكس ما كانت تتمناه وتريده تماماً، حتى كانت إذا ذكرت يوم الجمل تبكي، ويبلل البكاء خمارها وتقول: يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 عائشة على فراش الموت وفي شهر رمضان في السنة الثامنة والخمسين من الهجرة نامت الصديقة على فراش الموت، ودخل عليها ابن عباس رضي الله عنهما، فأبت أول الأمر أن يدخل عليها، فقال لها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن: يا أماه! إنه ابنك، وخير صالحي أمتك وبنيك، يودعك ويسلم عليك، فقالت: ائذن له إن شئت. وهذه رواية أحمد وابن سعد في الطبقات، وأبي نعيم في الحلية، وسندها صحيح. فلما دخل عليها ابن عباس رضي الله عنه بشرها وزكّاها. وفي رواية البخاري قال لها: كيف تجدينك يا أماه؟ فقالت عائشة: بخير إن اتقيت، فقال ابن عباس: أنت بخير إن شاء الله، أنت زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبكر الذي لم يتزوج بكراً غيرك، وأنت زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، فقالت له عائشة رضي الله عنها: يا ابن عباس! لا حاجة لي في تزكيتك، والله لوددت أني كنت نسياً منسياً. وهكذا أيها الأحباب! فارقت روحها هذا الجسد الطاهر؛ لتسعد مرة أخرى سعادة أبدية بصحبة الحبيب المصطفى، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، في جنات ونهر، فلقد ورد في صحيح البخاري من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه رضي الله عنه قال: (إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة) . رضي الله عن عائشة، وصلى الله وسلم وبارك على نبيها وأستاذها ومعلمها، ورضي الله عن أبيها، ونسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بهم في دار كرامته، ومستقر رحمته. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا شقياً ولا محروماً. اللهم أصلح حكام المسلمين، وأصلح علماء المسلمين، وأصلح شباب المسلمين، وأصلح نساء المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا، فإن الله جل وعلا قد أمرنا بذلك، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 مصابيح الهدى - عمر بن عبد العزيز عمالقة الإسلام ورجاله لا يحصرهم زمان ولا مكان، وإن كانوا في زمن النبوة أكثر عدداً، وأعلى شأناً، إلا أن هناك من سار على منهجهم واقتفى أثرهم، ومن أولئك: عمر بن عبد العزيز، ذلك الرجل الذي جدد في الأمة عهد الخلفاء الراشدين، ذلك الرجل الذي حكم فعدل، ذلك الرجل الذي دخل الخلافة غنياً وخرج فقيراً! إنه عمر بن عبد العزيز الذي اختفى الفقراء في عصره، وأمن الناس في زمانه، فرضي الله عنه وأرضاه، وأسكنه فسيح جناته. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 1 عمالقة الإسلام لا يحصرهم زمان ولا مكان بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! بعد طول غياب نعاود مرة أخرى حديثنا عن أئمة الهدى ومصابيح الدجى، ونحن اليوم على موعد مع رجل لا ينتمي لعصر الوحي تاريخياً، ولكنه نقل عصر الوحي بكل قيمه ومثله وفضائله إلى دنيا هائجة مائجة مفتونة مضطربة، وقد نجح في ذلك نجاحاً يأخذ العقول ويبهر الألباب! إننا اليوم على موعد مع رجل ومع مثل رائد من أروع الأمثلة دلالة على صفاء عنصر هذه الأمة، وعلى نقاء معدنها، وسرعة رجوعها إلى الحق إذا وجدت رائداً يقودها على السواء، غير منحرف بها، ولا ضال معها، فهي تسير معه، وتتبع ظله، وترتفع به من حضيض وهدتها آخذة طريقها إلى السمو الإيماني، والقيادة الربانية، والمكانة العلية التي اختارها لها ربها عز وجل، فلقد استطاع رائدنا وقدوتنا وبطلنا اليوم، استطاع بصدق إيمانه، وعمق يقينه، وصفاء نفسه ونقاء سريرته، وشدة ورعه وزهده وخوفه من الله عز وجل، استطاع أن يضع يده على موطن الداء الذي استشرى في أمته، واستطاع أن يستل جرثومته بيد بيضاء نقية، فعادت الأمة مرة أخرى وكأنها تعيش في عصر النبوة من جديد! ليس في عشرين عاماً ولا في عشرة أعوام، وإنما في عامين ونصف إلا قليلاً! إننا اليوم على موعد مع حفيد الخلافة والملك، إنه رضيع المباهج والنعيم، ريان الشباب، وناعم الإهاب، وفواح العطور والعبير، أجل! فإن هذا الشاب التقي الورع كان قبل خلافته يضمخ ثيابه بأغلى وأرقى العطور، ويسكن أعلى القصور، ويركب الصافنات الجياد، ويلبس أبهى الحلل، ويأكل أشهى الطعام، وهاهو ذاته يتحول في التو واللحظة بعد أن أعلن خليفة للمسلمين، يتحول هذا الشاب ابن السادسة والثلاثين -لا أقول: ابن الستين ولا ابن السبعين- يتحول في اللحظة إلى زاهد ناسك تقي عابد ورع، يترك متاع الدنيا، ويزهد في كل ملذات الحياة، ويدخل على زوجته التقية النقية الوفية الصابرة، وهي من هي؟! هي بنت الخليفة والخليفة جدها أخت الخلائف والخليفة زوجها يدخل عليها بطلنا وقدوتنا اليوم ويخيرها بين أمرين: بين أن ترد كل ما تملك من متاع وجواهر وحلل إلى بيت مال المسلمين، وأن تعيش معه من اليوم عيشة الزهد والورع والكفاف! أو أن يسرحها سراحاً جميلاً! فتختار الذكية النقية التقية هذا البطل وهذا العملاق على متاع الدنيا الزائل! ولم لا؟! وبطلنا وقدوتنا اليوم حفيد فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب، إنه معجزة الإسلام، وولد الإسلام العزيز عمر بن عبد العزيز. أيها الأحبة! والله إن الصعوبة التي تواجهني الآن وأنا أتحدث عن هذا العملاق لتتمثل في: ماذا أقول وماذا أدع، من هذا الحشد الهائل من الحقائق الناصعة التي ترويها لنا سيرة هذا الورع التقي القوي النقي، وإن كانت الحكمة العربية القديمة تقول: من أخصب تخير، أي: من وجد الأرض الخصبة تخير المرعى، فإني أجدها الآن تنقلب عليَّ، إني أجدها الآن: من أخصب تحير! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 2 ترجمة موجزة لعمر بن عبد العزيز ماذا أقول، وماذا أدع عن هذا التقي النقي العابد الورع؟! فلنطالع نبأ هذا التقي النقي من أوله. لقد روت لنا كتب التاريخ والسير أن فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد حرم في خلافته خلط اللبن بالماء، وفي ليلة من الليالي المظلمة الشاتية الممطرة والناس نيام، ولكن أنى للنوم أن يعشى عمر! فخرج عمر بن الخطاب يتفقد أحوال الرعية، وأمام بيت من بيوت الناس سمع عمر بن الخطاب حواراً جميلاً جذاباً بين أم وفتاتها التقية النقية الزاهدة الورعة: الأم تقول لفتاتها: هيا يا بنيتي أسرعي وامزجي اللبن بالماء قبل أن يطلع علينا الصباح! والبنت التقية تجيب أمها وتقول: يا أماه! ألم ينه أمير المؤمنين عمر عن مزج اللبن بالماء؟! فتقول الأم لفتاتها: يا بنيتي! إن الناس يمزجون، وما يدري أمير المؤمنين بنا الآن؟ فترد الفتاة الورعة التقية وتقول لأمها: يا أماه! إن كان أمير المؤمنين لا يرانا، فرب أمير المؤمنين يرانا! واغرورقت عينا عمر بدموع الغبطة والسرور والفرح، وأطلق ساقيه للريح يجري إلى داره، يا عاصم! من عاصم؟ عاصم بن عمر، يا ولدي! اذهب إلى هذا البيت الفلاني وتزوج بهذه الفتاة الورعة التقية، فإني والله أرجو الله أن يخرج منها فارساً يقود العرب والمسلمين! إنها عبقرية فاروق الأمة رضي الله عنه وأرضاه. ويستجيب الولد لرغبة أبيه، ويتزوج عاصم بن عمر رضي الله عنهما بهذه الفتاة المراقبة لله جل وعلا، وتنجب له هذه الفتاة فتاة أسموها ليلى وكنوها بـ أم عاصم، فتزوجت أم عاصم هذه رجلاً من خيار بني أمية يقال له: عبد العزيز بن مروان، فولدت لـ عبد العزيز هذا الشاب التقي النقي الزاهد العابد الورع عمر بن عبد العزيز، ولدته بالمدينة المنورة سنة ستين للهجرة، وقيل: ولد عمر بن عبد العزيز بمصر بمدينة حلوان سنة إحدى وستين للهجرة. إنها ذرية كريمة بعضها من بعض، فهذا الشبل من ذاك الأسد! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 طلب عمر بن عبد العزيز للعلم وثناء العلماء عليه ونشأ عمر في هذه البيئة المترفة، في قصور الملك والنعيم، فأبوه عبد العزيز بن مروان الذي كان والياً على مصر حينذاك، واستمر على ولاية مصر عشرين عاماً، والخليفة الأموي خليفة المسلمين هو الوليد بن عبد الملك بن مروان، وهو ابن عم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. نشأ عمر في هذه البيئة، في بيئة القصور، في بيئة الخلافة والإمارة والملك والجاه والنعيم والسلطان، ولكنه شب ونشأ نشأة عجيبة لفتت إليه جميع الأنظار، فلقد ذهب هذا الولد في مقتبل عمره إلى أبيه الوالي والأمير وقال: يا أبتِ! دعني أذهب إلى المدينة المنورة لأجلس بين يدي علمائها وفقهائها، ولأتأدب بآدابهم، فأذن الوالي لولده، وانطلق هذا الغلام إلى المدينة المنورة، وعكف في أول أمره على حفظ القرآن الكريم، فأنهى حفظه في زمن قياسي أذهل الجميع في المدينة، ثم بعد ذلك انكب هذا الغلام على طلب العلم، وعلى طلب الفقه والسنة حتى قال في حقه الصحابي الجليل أنس بن مالك، وقد طال به العمر وصلى يوماً وراء هذا الشاب، وراء عمر بن عبد العزيز، فقال أنس بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما صليت صلاة وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله من هذا الغلام. إنه عمر بن عبد العزيز! وقال في حق عمر الإمام العلم إمام التفسير مجاهد بن جبر الذي عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، قال مجاهد: جئنا لنعلم عمر بن عبد العزيز فما عدنا حتى تعلمنا منه. وقال عنه الإمام الفقيه العلم الليث بن سعد، ما التمسنا علم شيء إلا وجدنا عند عمر بن عبد العزيز أصله وفرعه وما كان العلماء عنده إلا تلامذة! انظروا إلى شهادات هؤلاء الأعلام، هؤلاء الأفذاذ، وما كان العلماء عند عمر إلا تلامذة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 4 عمر بن عبد العزيز والياً على المدينة ولما بلغ عمر الخامسة والعشرين من عمره نظر خليفة المسلمين الوليد بن عبد الملك إلى عمر فوجد نفسه أمام قدرة ذهنية وعلمية فائقة هائلة، فاختاره الوليد بن عبد الملك والياً على المدينة المنورة. وأصبح عمر -وهو في الخامسة والعشرين- والياً على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسعد أهل المدينة سعادة غامرة، فهو الذي يحبهم ويحبونه، وهو الذي يعرفهم ويعرفونه، وسعد الناس واستطاع هذا الشاب التقي النقي أن يجعل من ولايته مثلاً عالياً للرحمة والعدل والسعة والرخاء، في فترة لا تساوي من حساب الزمن شيئاً، ولما رأى خليفة المسلمين ذلك كافأه فولاه على الحجاز كله، وكأنما أراد الله جل وعلا بهذا: التجربة العملية الرائدة لهذا الشاب التقي النقي؛ لما يدخر له في الغد القريب، حينما سيصير خليفة لأعظم دولة عرفت في ذلك التاريخ. وهكذا أيها الأحبة! مات الوليد بن عبد الملك، وخلفه من بعده أخوه سليمان بن عبد الملك، الذي تعلق بـ عمر تعلقاً شديداً، وكان يصطحب عمر معه في معظم رحلاته وسفراته، وفي يوم من الأيام اصطحب سليمان عمر لزيارة معسكر من معسكرات الجيش، وأمام معسكر يعج بالعتاد والسلاح سأل سليمان في فخر وزهو عمر قائلاً: ماذا تقول فيما ترى يا ابن عبد العزيز؟! فنظر عمر إلى الخليفة وقال: أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً! وأنت المأخوذ بها والمسئول عنها بين يدي الله عز وجل! يا إلهي! ما هذا؟! فبهت الخليفة ونظر إلى هذا الشاب الورع وقال: ما أعجبك يا عمر! فرد عليه عمر بمنتهى القوة وقال له: بل والله ما أعجب من عرف الله فعصاه، وعرف الشيطان فاتبعه، وعرف الدنيا فركن إليها! وعلم هذا الرجل أن رجل الغد القريب هو عمر رضي الله عنه وأرضاه، حتى قال سليمان قولته الشهيرة: والله ما أهمني شيء قط إلا وخطر ببالي أول ما خطر عمر بن عبد العزيز. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 عمر بن عبد العزيز خليفة للمسلمين ولما نام سليمان بن عبد الملك على فراش الموت وعلم أن هذا المرض هو مرض الموت، استدعى سليمان وزيره الأمين وصاحبه الصادق رجاء بن حيوة طيب الله ثراه، ونور الله مسراه، استدعى سليمان رجاء وسأله فقال: يا رجاء! يهمني أمر الخلافة، فبماذا تشير علي؟ فأشار عليه هذا الرجل مشورة صادقة كريمة بارة، قال له رجاء: يا أمير المؤمنين! إن مما يحفظك في قبرك، ويشفع لك في أخراك أن تستخلف على المسلمين رجلاً صالحاً، فالتفت سليمان إلى رجاء وقال: ومن عساه يكون يا رجاء؟! فقال رجاء -على الفور-: عمر بن عبد العزيز. إنه عمر! ولا أحد غير عمر! وتلقى سليمان مشورة رجاء كالبشرى، وقال قولته الباهرة الجامعة: والله لأعقدن لهم عقداً لا يكون للشيطان فيه نصيب. يا رجاء! قال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: ائتني بكتاب، واكتب: استخلف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز خليفة للمسلمين من بعده، ثم نظر إلى رجاء وقال: اختم هذا الكتاب واطوه، واجعله معك، وتضامنا وتعاهدا ألا يعلم أحد بمضمون هذا الكتاب ما دام خليفة المسلمين حياً. وأمر سليمان بن عبد الملك أن يدخل عليه أمراء بنو أمية، فدخلوا عليه ووقفوا بين يديه وهو على سرير موته، وفي مرضه الأخير، وأمرهم أن يبايعوا من استخلفه في هذا الكتاب، وهم لا يعلمون من هو، فبايعوا جميعاً من استخلفه خليفة المسلمين، ودفع الخليفة الكتاب إلى رجاء، وأذن لهم فانصرفوا وهم يتساءلون ويخوضون: يا ترى من سيكون هذا الخليفة؟! وبعد أيام قليلة مات سليمان بن عبد الملك، وانطلق الناس جميعاً إلى مسجد دابق، واكتظ المسجد بالناس، وازدحم الناس وكأن القيامة قد قامت! وصمتت الأنفاس، وشخصت الأبصار تجاه رجاء بن حيوة الذي وقف على المنبر؛ ليقرأ كتاب الخليفة، ويأخذ البيعة لخليفة المسلمين الجديد! وبايع الناس جميعاً وهم لا يعلمون من يبايعون، وشخصت الأبصار، واتجهت تجاه رجاء، وشق هذا السكون وهذا الذهول صوت رجاء وهو ينادي ويقول: قم يا أمير المؤمنين! قم يا أيها الشاب التقي النقي الورع، قم يا عمر بن عبد العزيز! ولم يكد عمر يفيق من هول هذه المفاجأة التي لم يكن يتوقعها أبداً! وإذ به ينتفض انتفاضة العصفور المبلل بماء المطر! ولا يقوى عمر على القيام بعدما سمع، لقد ذهل وعقر! فقام متكئاً على بعض إخوانه حتى صعد المنبر، وأذهل الناس بكلامه الإيماني الرائع، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس! إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي مني ومن غير مشورة للمسلمين، وإني أخلع اليوم بيعة من بايعني فاختاروا لأنفسكم! وضج المسجد! وارتفعت صيحة من هذه الحناجر الصارخة على صوت رجل واحد: بل إياك قد اخترنا يا أمير المؤمنين! فتول أمرنا يا عمر على بركة الله عز وجل، واندفعت الجموع التي تبكي من السعادة والفرح؛ لتولية عمر رضي الله عنه وأرضاه ولتبايعه وهو على المنبر لا يقوى على القيام! بينما راح بطلنا وزاهدنا وورعنا يجهش بالبكاء. ونزل عمر من على المنبر بعد هذه البيعة الجماعية التي تخلع القلوب وتهز الوجدان، واقترب منه رجاء بن حيوة رحمه الله وطيب الله مسراه، اقترب منه وقال له: يا أمير المؤمنين! أرى أن تذهب اليوم إلى بيتكم لتستريح قليلاً، فإني أرى التعب ظاهراً جلياً عليك، فنظر إليه عمر ودموعه تنسال على خديه وهو يقول: لقد فعلتها يا رجاء، لقد فعلتها يا رجاء! فدعني أستنقذ نفسي من عذاب الله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 التحول الكبير في حياة عمر بن عبد العزيز الذي تبدل، وما الذي تغير؟! لقد تبدل كل شيء، وتغير كل شيء، لقد أصبح عمر جديداً، هل نحن أمام فاروق جديد، هل نحن أمام عمر جديد؟! نعم، إن هذا الشبل من ذاك الأسد، لقد تحول عمر تحولا ًعارماً، وتحولاً هائلاً، أتوا إليه بمراسم الخلافة، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذه مراسم الخليفة الجديد، قال: لا حاجة لي بها، ردوها إلى بيت المال، أتوا إليه بثياب الخليفة، قال: ما هذا؟ قالوا: ثياب الخليفة الجديد، قال: لا حاجة لي بها، ردوها إلى بيت المال، أتوه بالجواري والغلمان، قال: ما هذا؟ قالوا: خدم الخليفة الجديد، قال: لا حاجة لي بها، ردوها إلى بيت المال! إنه التقي النقي الزاهد العابد الورع الذي تحول فيه كل شيء، الذي كان بالأمس القريب يركب الصافنات الجياد، ويلبس أبهى الحلل، ويأكل أشهى الطعام، ويسكن أعلى القصور، ما الذي غيره؟! إنها المسئولية التي حملها على عاتقه، إنها تهدهد الجبال وتحطم الصخور والحجارة! ثم دخل إلى بيته تحت ضغط إخوانه: أن يستريح قليلاً، وما كاد عمر يسلم جنبه إلى مضجعه وفراشه المتواضع وإذ بولده التقي النقي! إنه عبد الملك بن عمر، هذا الشاب الذي كان في الخامسة عشر من عمره يدخل على أبيه فيراه نائماً، فينظر إليه ولده ويقول: ماذا أنت صانع يا أمير المؤمنين؟! فيقول والده عمر: يا بني! أريد أن أستريح قليلاً، فإني لم أر في جسدي طاقة، فقال له ولده: تريد أن تغفو ولم ترد المظالم إلى أهلها! فنظر إليه أبوه وقال: يا بني! إني متعب الآن، دعني أنم، وإذا حان وقت صلاة الظهر خرجت وصليت بالمسلمين ورددت المظالم إلى أهلها إن شاء الله، فرد عليه ولده الورع وقال: يا أمير المؤمنين! وهل تضمن أن تعيش إلى صلاة الظهر؟! فانتفض عمر من فراشه انتفاضة من لدغة حية رقطاء! وكانت هذه الكلمات بمثابة التيار الكهربائي الذي سرى في جسده المتعب، وأثارت هذه الكلمة النوم من عين عمر رضي الله عنه وعن ولده التقي النقي، وقام عمر وضم ولده إلى صدره وقبله بين عينيه وبكى، وقال: الحمد لله الذي جعل من صلبي من يعينني على أمر الله عز وجل. ولم ينم عمر، وخرج على الفور، وأمر المنادي أن ينادي في الناس: من كانت له مظلمة فليرفعها الساعة إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 خطبة عمر بن عبد العزيز بعد خلافته وهكذا أيها الأحبة! بدأ عمر حياة خطابية فاروقية جديدة، بين أسسها، ووضح معالمها في هذه الخطبة العصماء، فلقد وقف خطيباً على المنبر في اليوم الثاني وقال بعدما حمد الله عز وجل وأثنى عليه: أيها الناس! ليس بعد نبيكم نبي، وليس بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، ألا إن الحلال ما أحله الله على لسان رسوله إلى يوم القيامة، والحرام ما حرمه الله على لسان رسوله إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بقاض، وإنما أنا منفذ، ولست بمبتدع، إنما أنا متبع، ولست بخيركم وإنما أنا رجل منكم غير أني أثقلكم حملاً، وغلب عليه البكاء والنحيب! ونظر إلى الناس فقال: وأيم الله إني لأقول هذه المقالة وإني لأعلم أني أكثركم ذنوباً، فأستغفر الله العظيم وأتوب إليه. ونزل عمر فدخل إلى داره ووضع يديه على خديه وجلس جلسة القرفصاء يبكي، فدخلت عليه زوجته التقية النقية الوفية الصابرة وقالت: ما يبكيك يا أمير المؤمنين! فقال: يا فاطمة! إني وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، ففكرت في الفقير الجائع، والمسكين الضائع، وفكرت في الأرملة واليتيم المكسور والمسكين وذي العيال الكثير، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، وخشيت يا فاطمة أن يسألني عنهم ربي عز وجل يوم القيامة! فلقد علمت أن خصمي دونهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، فأخشى أن لا تثبت لي حجة بين يدي الله عز وجل، فبكت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، وأجهش عمر بالبكاء. ما هذا؟! في أي عصر يكون عمر؟! في عصر النبوة، كلا، إنه مثل رائد على صفاء عنصر هذه الأمة، وعلى نقاء معدنها، ما الذي تغير؟! تغير كل شيء، وتبدل كل شيء. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 قوة عمر بن عبد العزيز وصلابته في الحق وبالرغم من هذا، أرى أن العظمة تتجلى في أسمى معانيها، حينما نرى هذا الزاهد الورع البكاء الخائف من الله عز وجل، نرى هاتين العينين السابحتين بالدموع خوفاً من الله عز وجل، نراهما حينما يجلس على كرسي الحكم ويأمر بالسياسية، نراهما تحدقان كعيني الصقر، وترسلان بريقاً أخّاذاً يقنع كل من يرى أنه أمام عينين ثاقبتين ليس إلى خداعهما سبيل، وهذه هي العظمة في أجل معانيها، وأسمى صورها، في خلوته بينه وبين ربه: إنه الزاهد التقي النقي الورع، أما في موطن عمله، وفي مقر إنتاجه في حقله في مصنعه في مزرعته في متجره، فهو القوي الشديد على هذا العمل، وهذه هي العظمة أيها الأحباب! فقد اجتمع أمراء بني أمية واتفقوا جميعاً على أن يرسلوا إليه تهديداً ووعيداً؛ لأنه حرمهم من الأموال والمواريث والحقوق، وأمر برد هذا كله إلى بيت المال! واجتمعوا جميعاً وقرروا أن يرسلوا إليه رسالة وعيدية على لسان عمر بن الوليد بن عبد الملك، فأرسل إليه عمر بن الوليد رسالة شديدة قال فيها: من عمر بن الوليد إلى ابن عبد العزيز، أما بعد: فلقد أزريت بمن سبقك من الخلفاء، وسرت في الناس بغير سيرتهم، وقطعت ما أمر الله به أن يوصل، وعملت في قرابتك بغير الحق! فعمدت إلى أموالهم ومواريثهم وحقوقهم وأدخلتها بيت مالك عدوناً وزوراً وظلماً! فاتق الله يا ابن عبد العزيز، وإلا ليوشكن بك ألا تستقر على منبرك! وعيد واضح، وتهديد صارخ، وما كان من هذا الورع البكاء التقي النقي إلا أن يتحول إلى زلزال مدمر، وإعصار مزمجر! وعلى الفور يرد برسالة شديدة على عمر بن الوليد فيقول فيها: من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى ابن الوليد، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فعهدي بك يا ابن الوليد كنت جباراً شقياً، والآن ترسل إلي وتتهمني بالظلم لأنني حرمتك وأهل بيتك من مال المسلمين! الذي هو حق للضعيف والمسكين وابن السبيل! ألا إن شئت يا بن الوليد أخبرتك بمن هو أظلم مني وأترك لعهد الله، إنه أبوك الوليد بن عبد الملك، الذي حين كان خليفة للمسلمين استخلفك عليهم صبياً سفيهاً تحكم في دمائهم وأموالهم! فويل لك وويل لأبيك! ألا إن شئت أخبرتك يا بن الوليد بمن هو أظلم مني وأترك لعهد الله، إنه من ولَّى الحجاج بن يوسف يسبي المال الحرام، ويسفك الدم الحرام! ألا إن شئت أخبرتك يا ابن الوليد بمن هو أظلم مني وأترك لعهد الله، إنه من ولّى يزيد بن أبي مسلم على المغرب كلها يجبي المال الحرام ويسفك الدم الحرام! ألا رويدك يا ابن الوليد، فوالله لو طالت بي حياة لأقيمنك وأهلك على المحجة البيضاء. والسلام. إنها العظمة! ورع تقي بكاء وجل في خلوته، بينه وبين ربه، أما على كرسي الحكم والسياسة فهو القوي الشديد، صاحب العينين الثاقبتين اللتين تدوران كعيني الصقر فتلقط كل شاردة وواردة، وبالفعل أيها الأحباب! تغير كل شيء بعدما غير الولاة وأمناء بيت المال، وغير القضاة، وغير كل شيء، واستتب الأمر من جديد على أروع ما يكون، حتى إن الناس أحسوا بأنهم يعشون في عصر النبوة! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 اختفاء الفقراء في عهد عمر بن عبد العزيز!! إننا نذهل أمام هذا الإجماع التاريخي الذي يقول: لقد اختفى الفقر والفقراء في عهد عمر رضي الله عنه! نعم اختفى الفقر! حتى إن الأغنياء كانوا يخرجون بزكاة أموالهم فلا يجدون يد فقير تبسط إلى هذا المال، يا للعجب! في عشرين عاماً؟! في عشرة أعوام؟! كلا والله، بل في سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام! إنها المعجزة! إنها الكرامة الكبرى على يد ولد الإسلام العظيم! وأرسلت الكتب من أمير المؤمنين وتقرأ في مساجد عواصم دولته التي كانت تبلغ مساحتها ربع مساحة العالم اليوم في القرن العشرين، تقرأ كتب أمير المؤمنين رضي الله عنه: من كان عليه أمانة وعجز عن أدائها فلتؤد عنه من بيت مال المسلمين! من كان عليه دين وعجز عن سداده فسداد دينه من بيت مال المسلمين! من أراد من الشباب أن يتزوج وعجز عن الصداق فصداقه من بيت مال المسلمين! من أراد من المسلمين أن يحج وعجز عن النفقة فليعط النفقة من بيت مال المسلمين! وما من يوم إلا وينادي المنادي من قبل عمر: أين الفقراء، أين اليتامى، أين الأرامل، أين المساكين؟! يا ألله! يا خالق عمر سبحانك! ليس في عشرين عاماً وإنما في عامين ونصف! وذلك إذا سلك الناس طريق الحق ومنهج الله عز وجل {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] ، وقال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:10-13] . رحم الله عمر، وجزاه الله عنا خير ما جزى صالحاً أو مصلحاً، وأقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 10 وفاة عمر بن عبد العزيز الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم. ويشاء الله جل وعلا بعد هذا الوقت القليل القصير، الكبير العظيم! أن ينام عملاقنا على فراش الموت، ويدخل عليه ابن عمه مسلمة بن الوليد بن عبد الملك ويقول: يا أمير المؤمنين! ألا توصي لأولادك بشيء، فلقد أفقرتهم وهم كثير؟ ! فقال عمر: وهل أملك شيئاً لأوصي لهم به؟! أم تريد مني يا مسلمة أن أعطيهم من مال المسلمين؟! والله لا أعطيهم حق أحد من المسلمين أبداً! فإن عيالي بين حالين: إما أن يكونوا صالحين فالله يتولى الصالحين، وإما أن يكونوا غير صالحين فوالله لا أدع لهم ما يستعينون به على معصية الله عز وجل! أي فلسفة هذه؟! إما أن يكونوا صالحين فالله يتولاهم {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9] إما أن يكونوا صالحين فالله يتولى الصالحين، وإما أن يكونوا غير صالحين فوالله لا أدع لهم شيئاً يستعينون به على معصية الله عز وجل. ثم قال: أدخلوهم علي، فدخل أولاده وأحاطوا بسريره وعلى رأسهم الأم التقية النقية الوفية الصابرة فاطمة بنت عبد الملك رحمها الله وطيب الله ثراها، ونظر إليهم عمر نظرة حانية، نظرة مبتسمة، وقال لهم كلاماً يفتت الصخور، ويذيب الحجارة! في كلام موجز قليل، نظر إلى أبنائه وقال: يا بني! إن أباكم قد خير بين أمرين: بين أن تفتقروا ويدخل الجنة، وبين أن تستغنوا ويدخل النار، وقد اختار أبوكم الجنة، انصرفوا. فانصرف الأولاد وانصرفت أمهم، وفي وقت انصرافهم كانت بعثة الشرف من الملائكة في انتظار عمر، فلقد أقبل ملك الموت ليعالج هذه الروح الطيبة الطاهرة النقية، وأقبل ملك الموت وعمر بن عبد العزيز يردد قول الله عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] . وهكذا مالت رأسه التي لم تمل أبداً عن حق من حقوق الله، وأغمضت عيناه التي لم تغمض أبداً عن حق من حقوق الله، وآب البطل إلى داره، وعاد البطل إلى رحابه، وعاد البطل إلى ما أراد الله عز وجل له، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. رحم الله ابن عبد العزيز وجزاه الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير ما جزى صالحاً أو مصلحاً. تلك قدوتنا، وذلكم هو بطلنا، وذلكم هو رائدنا، نسأل الله جل وعلا أن يمن على الأمة بالقائد الرباني الذي يقودها ويسير بها على السواء كما فعل عمر بن عبد العزيز، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح جميع حكام المسلمين، اللهم أصلح حكام المسلمين، اللهم ثبتهم على الحق والهدى، اللهم خذ بنواصيهم إليك، اللهم خذ بنواصيهم إليك، اللهم اجعلهم رحمة على شعوبهم وأبنائهم يا رب العالمين! اللهم أصلح علماء المسلمين وثبتهم يا رب العالمين! اللهم أصلح شباب المسلمين وأصلح نساء المسلمين، اللهم تقبلنا واقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المسلمين، اللهم انصر كلمة الحق وكلمة الدين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم صل وسلم وزد وبارك على أستاذ البشرية ومعلم الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 11 مصابيح الهدى - مالك بن أنس علماء الشريعة الربانيون هم شمس الأمة التي لا تزال تشرق وتتألق لتنشر نورها على الدنيا، ومن أولئك العلماء العاملين: نجم ثاقب بين أهل العلم، عالم جمع بين تصحيح الرواية وتحقيق الدراية، عالم غاص على درر المعاني واستخرجها، وأسس قواعد العلم وأحكمها، وألف فرائده وأتقنها، إنه شيخ الإسلام وإمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله رحمة الأبرار. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1 ومضات من سيرة إمام دار الهجرة مالك بن أنس إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! إننا اليوم على موعد مع اللقاء الخامس عشر مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى، تلك السلسلة الكريمة التي نقدمها لأبناء الصحوة خاصة وللمسلمين عامة؛ للعظة والعبرة من ناحية، ولتقديم القدوة الصالحة الطيبة من ناحية ثانية، ولتصحيح بعض حقائق التاريخ التي شوهت من ناحية ثالثة. أيها الأحبة! أعيروني القلوب والأسماع لنعيش اليوم مع إمام من أئمة أهل العلم فلئن كانت شمس النبوة قد أشرقت على بلاد العرب فبددت ظلام شركها، وجعلت ليلها كنهارها؛ فإن الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين من بعدهم، والأئمة المهديين، والعلماء العاملين، والدعاة الصادقين، كانوا بمثابة النجوم التي تعلقت بتلك الشمس، ودارت في فلكها، ونهلت من نورها ونبعها، وإن تلك النجوم لا تزال وسوف لا تزال تشرق، وتتألق، وتنشر نورها على الدنيا، وإنه لمن واجبنا أن ننشر عبير سيرتهم على الدنيا كلها، وأن نتتبع أخبارهم، وأن نقدمهم للبشرية كلها مثلاً علياً وقدوة طيبة. إنهم ورثة الأنبياء! إنهم معين الحكمة، ونبع العلم، ومصدر النور والهدى! إن العلماء هم الشموع التي تحترق لتضيء للأمة طريق ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم. إن العلماء هم وعي الأمة الحر، وفكرها المستنير، وقلبها النابض بالحياة، بحياتهم تحيا الأمة، وبموتهم وذهابهم تموت الأمة ويضل الناس، كما أخبرنا بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عبد الله بن عمرو الذي رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينتزع العلم انتزاعاً من صدور الناس، ولكنه ينتزع العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً) وفي رواية مسلم: (حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) . ولذا أحبتي في الله! ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء ففز بعلم تعش حياً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء أيها الأحبة: نحن اليوم على موعد مع النجم الثاقب بين العلماء، مع الإمام المهدي، والعالم المرضي، والعالم الذي جمع بين تصحيح الرواية وتحقيق الدراية، وغاص على درر المعاني واستخرجها، وأسس قواعد العلم وأحكمها، وألف فرائده وأتقنها، إنه شيخ الإسلام والمسلمين، إمام المحدثين، وأبرز المتفقهين، وإمام دار هجرة سيد المرسلين، إنه مالك بن أنس بن مالك رضوان الله عليهم أجمعين. بعدما عشنا في اللقاء الماضي مع أول وأكبر الأئمة الأربعة سناً، مع أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فإننا اليوم على موعد مع إمام دار الهجرة، مع الإمام مالك رحمه الله وطيب الله ثراه. أحبتي في الله! تعالوا معي سريعاً لنعيش مع حياة هذا النجم الثاقب بين أهل العلم، ومع هذا الإمام الكبير، فلقد ولد إمامنا سنة (93) للهجرة على أصح الأقوال، في مدينة الخير وطيبة الهدى، في مدينة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى على أي مسلم فضلاً عن العلماء والدعاة وطلبة العلم ما لمدينة المصطفى من خير وبر وفضل وبركة ورحمة، فهي حرم الله، ومستقر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهبط الوحي، ومعدن الرسالة، ومعين الهدى والسنة والنور، وبها تربة الحبيب المصطفى، وفيها قبره الشريف، وبها ذاته الكريمة بأبي هو أمي صلى الله عليه وسلم، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال أبداً، وإليها يأرز الإيمان كما تأرز الحية إلى جحرها، حرمها الحبيب المصطفى، ودعا إليها بضعف البركة، التي دعا بها إبراهيم لمكة ولأهل مكة، ففي الحديث الذي رواه مسلم والإمام مالك في الموطأ، وابن ماجة في السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإن إبراهيم قد دعا لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة، ومثله معه) ، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، ومالك في الموطأ من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم صححها وبارك لنا في صاعها ومدها) ، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إن إبراهيم قد حرم مكة، وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها) ، فهي بلد الله الحرام بعد بلد الله الحرام مكة، زادهما الله تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، وزادهما الله أمناً واستقراراً وأماناً وسائر بلاد المسلمين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 2 نشأته رحمه الله في هذه المدينة الخيرة، وفي هذا البيئة الطاهرة، بفضل الله ثم ببركة دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم ثبت الدين في المدينة واستقر، ومنها إلى سائر الأقطار انتشر، وكانت المدينة محطاً لكبار أهل العلم، وتواترت فيها السنة القولية والفعلية خاصة، نقلها جيل عن جيل، وخلف عن سلف، وفي هذه البيئة في بيئة العلم، بيئة الخير، بيئة البركة والفضل نشأ إمامنا مالك بن أنس رحمه الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 3 طلبه للعلم وبدأ مالك يطلب العلم في سن مبكرة جداً، على أيدي هؤلاء الأعلام الكبار، حتى قيل: إن مالكاً طلب العلم على نحو مائة شيخ من الشيوخ الكبار، والأئمة الأعلام كـ محمد بن شهاب الزهري رحمه الله تعالى الذي روى له الإمام مالك في الموطأ مائة واثنين وثلاثين حديثاً، وكـ ربيعة بن أبي عبد الرحمن الذي قال عنه مالك بعد موته: لقد ذهبت حلاوة الفقه بعد موت ربيعة، وكـ نافع مولى عبد الله بن عمر الذي كان يلقب حينئذٍ بفقيه أهل المدينة، والذي لازمه الإمام مالك ملازمة شديدة، وروى عنه في الموطأ ثمانين حديثاً، وكان أهل الحديث يلقبون ويسمون رواية مالك عن نافع عن ابن عمر بالسلسلة الذهبية؛ لجلالة وقدر هؤلاء الرواة الثقات الكبار جميعاً. أيها الأحباب: ولعل ما ذكرت هو السبب الرئيسي الذي اختلف فيه بعض أهل العلم: ما الذي لم يجعل مالكاً يرحل لطلب العلم كغيره من العلماء؟ فمن المعلوم أن الإمام مالكاً لم يرحل لطلب العلم، مع أن الرحلة لطلب العلم كانت من مقومات العالم، لا سيما إن كان من المحدثين، وبالرغم من ذلك لم يرحل مالك لطلب العلم، لماذا؟ لأن المدينة كانت تزخر بالعلماء الأعلام، وبالأئمة الأطهار، وبالشيوخ الكبار من أهل العلم والخير والفضل، وكان مالك يرى أن أصل العلم هو علم أهل المدينة، وأن أصل الرواية هي رواية أهل المدينة، فلماذا يرحل عن المدينة وقد حباها الله بهذا الكم الكبير من أهل العلم والفضل والخير. ولذا أحبتي في الله! في أعوام قليلة جداً لفت مالك جميع الأنظار إليه، فلقد جلس في السابعة عشرة من عمره ليدرس العلم للناس، فنظر إليه جميع الشيوخ الكبار على أنه إمام أهل المدينة في الغد القريب، وفعلاً -أيها الأحباب- انتشر علمه، وظهر فضله، وعلت منزلته، وذاع صيته في الأمصار، وانتشر علمه في الأقطار، وضربت إليه أكباد الإبل، وارتحل الناس إليه من كل مصر، وأتى إليه الناس من كل قطر. وهكذا في فترة وجيزة شهد له شيوخه وعلماؤه من الأئمة الكبار المعروفين، شهدوا له بالخير والعلم والفضل، وأذعنوا له بالإمامة، ومتع الله المسلمين بحياته وبقائه، فمكث الإمام مالك يفتي الناس ويدرسهم أكثر من سبعين سنة. روى عنه في هذه المدة جمع غفير من كبار أهل العلم، سمعوا منه، ورووا عنه الحديث، أذكر على سبيل المثال منهم: الإمام سفيان بن عيينة، والأوزاعي، وعبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن يحيى النيسابوري شيخ الإمام مسلم، وقتيبة بن سعيد شيخ الإمام البخاري، والشافعي، وأبو حنيفة مع أنه كان يكبره سناً، وروى عنه هارون الرشيد، وعمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن المبارك، والفضيل بن عياض، وغيرهم من الأئمة الأعلام، حتى قال أهل العلم: لقد سمع من مالك وروى عنه الحديث أكثر من ألف شيخ. ووالله -يا أحباب- لو لم يكن من حسنات مالك إلا الشافعي لكفى، فإن الشافعي هو تلميذ الإمام مالك، حتى قال الشافعي قولته الكبيرة الخالدة: (ليس أحد أمن علي في دين الله من مالك بن أنس) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 4 ثناء العلماء والمشايخ عليه رحمه الله وأثنى عليه كبار الأئمة والشيوخ والعلماء، من أساتذته وشيوخه وطلبة علمه الذين انتقلوا يوماً ما ليجلسوا بين يديه وهم شيوخه ليرووا عنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد فاق الإمام مالك أقرانه، وساد على جميع أفراده، بل وفاق شيوخ أهل زمانه، وجلسوا بين يديه ليرووا عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال حماد بن سلمة لما جاءه رجل يسأله في مسألة قد اختلف فيها الناس: قال حماد لهذا الرجل: (يا أخي! إذا أردت السلامة لدينك فسل عالم المدينة، وصر إلى رأيه، فإنه حجة، وإن مالكاً هو إمام الناس) . وقال عنه الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله: (ومن نحن إلى جوار مالك، فلقد كنا ننتبع آثاره، فإن وجدناه روى وكتب عن شيخ من الشيوخ كتبنا نحن عن هذا الشيخ، وإن وجدنا مالكاً قد أعرض عن شيخ أعرضنا عنه وتركناه) . وقال عنه إمام أهل السنة الإمام أحمد: (إن القلب والله ليسكن إلى حديثه وفتياه، وإن مالكاً عندنا حجة؛ لأنه كان شديد الاتباع للآثار التي تصح عنده) . وقال عنه الإمام الليث بن سعد فقيه أهل مصر في زمانه: (علم مالك علم نقي، وعلم مالك أمان لكل من أخذ به) . وقال عنه الإمام البخاري: (إن مالكاً كان إماماً) . وقال عنه الإمام الشافعي تلميذه وأقرب الناس إليه، قال رحمه الله: (إذا جاءك الحديث من مالك فشد به يدك) . وقال عنه أيضاً: (مالك أمير المؤمنين في الحديث) . وقال عنه عبد الله بن المبارك: (والله ما رأيت أحداً أشد تعظيماً لحديث رسول الله من مالك بن أنس) . ولو استطردت في أقوال أئمة الجرح والتعديل، وعلى رأسهم يحيى بن سعيد القطان رحمه الله تعالى، الذي قال في مالك: (مالك أثبت القوم) وهذه أعلى درجات التعديل، كما هو معلوم عند أهل هذا الفن الشريف. قال رحمه الله: (مالك أثبت القوم، ومالك رحمة من الله لهذه الأمة) . أيها الأحبة: هذه بعض أقوال الشيوخ الكبار، وأئمة الجرح والتعديل في هذا النجم الثاقب، وفي هذا الإمام العلم الكبير. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 5 مكانته رحمه الله عند الخلفاء والأمراء أيها الأحبة! قد تعجبون إذا علمتم أن مالكاً رحمه الله تعالى لم ينل هذه المكانة العالية عند أهل العلم فحسب، وإنما بلغ مالك مكانة عالية عند الخلفاء والأمراء، وليس بالضرورة أن يتهم كل عالم يدخل على الخلفاء والأمراء، ولذلك اتهم مالك بهذا، فلما قيل له: إنك تدخل على السلاطين، فقال مالك رحمه الله تعالى: ومن يتكلم بالحق؟ أي: من يقول قولة الحق إن لم أقلها أنا. أيها الأحبة! ليس بالضرورة أن نطلق ألسنتنا بالتجريح والسلق الشديد لكل من يدخل على ذوي السلطان، فإن لهؤلاء العلماء الأعلام من وجهات النظر ومن البعد الدقيق العميق ما قد يخفى على كثير من أبناء الأمة، ولذا فينبغي أن نحفظ ألسنتنا، وأن لا نطلق لها العنان لتأكل لحوم علمائنا ودعاتنا، فإن لحوم العلماء مسمومة. وهكذا أيها الأحبة! نال مالك المكانة السامقة العالية عند العلماء، بل والخلفاء والأمراء، فقد كانوا يستضيئون برأيه، ويأخذون بمشورته، بل تعجبون أن خليفة المسلمين أبا جعفر المنصور ذهب إلى مالك يوماً من الأيام وقال: يا مالك! إني أعزم على أن آمر بموطئك أن ينسخ، وأن أرسل بنسخة لكل مصر من أمصار المسلمين، وأن ألزمهم به، وأن لا يأخذوا إلا به ويدعوا غيره. إلى هذا الحد، يريد أن يلزم الناس بموطأ الإمام مالك. أتدرون ماذا قال هذا الإمام الكبير المتواضع؟ قال: يا أمير المؤمنين! إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد انتشروا في الأمصار، وقد سمع الناس منهم أحاديث، وروى الناس عنهم روايات، وقد أخذ كل ناس بما سبق إليهم وعملوا به، ورد الناس عما قد اعتقدوه أمر شديد، ولذا فأرى أن تترك الناس على ما هم عليه، فقال له أبو جعفر المنصور: والله -أو لعمري- لو طاوعتني لأمرت الناس بذلك. هذا هو الإمام مالك!! بل وقيل له ذلك من هارون الرشيد، وقيل له ذلك من المهدي كما روى ذلك الإمام الطبري. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 6 من أقواله رحمه الله أيها الأحباب! إن أعظم درس أريد أن أقدمه للعلماء ولطلبة العلم فضلاً عمن دونهم من طويلبي العلم، ومن كل من يريد أن يتعلم، أقدم لهم هذا الدرس الغالي، أقدم لهم أقوال هذا الإمام العلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 7 لا أدري لا أحسن الجواب من أعظم أقواله: قوله: (لا أدري) ، إمام ينال هذه المكانة عند العلماء والأمراء، ومن أعظم أقواله: (لا أدري) فلقد قال عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد: كنا ذات يوم عند الإمام مالك، فجاءه رجل وقف في مجلس علمه وكان الناس يتزاحمون ويتضاربون على مجلس الإمام مالك، فجاءه رجل ووقف على مجلس علمه، والإمام بين طلابه، أو إن شئت فقل بين شيوخه وأساتذته يلقي ويروي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: يا أبا عبد الله! قال: نعم، قال: لقد جئتك من مسيرة ستة أشهر. انظروا! مشى الرجل ستة أشهر على ظهر دابته، لم يركب طيارة، ولا سيارة مكيفة، بل ولم يتكاسل، ونحن الآن نرى كثيراً من المسلمين قد يأتيهم العالم إلى قراهم ومنهم من يتكاسل أن يذهب إليه وأن يجلس بين يديه، وهذا يأتي من مسيرة ستة أشهر، ويقف ويقول: لقد حملني أهل بلدي مسألة لأسألك فيها، فقال الإمام مالك: سل، فسأله الرجل عن مسألته -ولم تذكر الرواية تلك المسألة- فنظر الإمام مالك بعد ما انتهى السائل من سؤاله وقال: لا أدري، لا أحسن جواب مسألتك، فذهل الرجل وقال: أتيتك مسيرة ستة أشهر وأهل بلدي ينتظرونني وأنت تقول: لا أحسن جوابك مسألتك، ماذا أقول للناس إذا ما رجعت إليهم؟ فقال مالك: قل لهم: قال مالك بن أنس: لا أحسن الجواب. وهذه رسالة إلى كل عالم إلى كل طالب علم إلى كل طويلب علم أن يتعلم هذا الدرس الكبير الجليل. وقال تلميذه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لقد صحبت مالكاً فسئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري. أيها الأحبة! إن أعظم درس أقدمه في لقائنا مع هذا الإمام الجليل هو هذا الدرس، أن يتعلم العالم والداعية وطالب العلم أن يقول: (لا أدري) ، ولا يستحي ولا يتحرج، فإن القول على الله بغير علم مزلة جائرة فاجرة، وهي عتبة خطيرة فاجرة، فلا تقل على الله بغير علم، وإننا لنرى كثيراً من الناس في الحج في المساجد في كل زمان وفي كل مكان لا يتورعون عن الفتيا، ويتجرأ الواحد منهم على القول على الله جل وعلا بغير علم، وما ابتليت الأمة والله إلا بمثل هذا الصنف النكد من الخنفشاريين الذين تزببوا قبل أن يتحصرموا، وادعوا العلم قبل أن يتعلموا، وأجابوا على الناس قبل أن ينهي الناس أسئلتهم، فإننا نرى الآن صنفاً قد يجيب السائل على سؤاله قبل أن ينتهي السائل من طرح السؤال، فسبحان الفتاح العليم! ونرى كثيراً من الناس قد يجيب على كثير من المسائل التي والله لو عرضت واحدة منها على عمر بن الخطاب، فاروق الأمة لجمع لها أهل بدر كلهم، يجمع عمر لهذه المسألة الصحابة ليستشيرهم، ومن الناس من يجيب بغير تورع، ويستحي أن يقول الناس عنه: إنه لا يعلم. فيا أخي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالها الصحابة من بعده، وقالها أئمة أهل العلم. جاء رجل إلى عبد الله بن عمر فسأله وقال: يا عبد الله! أترث العمة؟ قال: لا أدري، اذهب إلى العلماء واسألهم، فضرب الرجل كفاً على كف وانطلق وهو يقول: أنت تقول: اذهب إلى العلماء فاسألهم، فلما انصرف الرجل قبل ابن عمر يد نفسه وقال: نعم ما قال أبو عبد الرحمن، سئل عما لا يدري فقال: لا أدري. أيها الأحبة! والله ما ابتليت الأمة بمصيبة أكثر من ابتلائها بهذا الطراز النكد من الخنفشاريين، الذي يفتي في كل شيء، ويقول في أي شيء، ولا يتورع أن يقول: لا أدري. ومن أعجب ما قرأت في هذا: أن رجلاً كان يفتي الناس في كل شيء، ويجيب على أي مسألة، فأراد بعض أهل الخير أن يبينوا للناس خطره، فذهبوا إليه وقد اختلقوا كلمة لا أصل لها، وذهبوا إليه في مجلس علمه، وقالوا: يا شيخ! ما تقول في الخنفشار -وأنا أسمي هذا الطراز بالطراز النكد من الخنفشاريين نسبة إلى هذا السؤال- والخنفشار كلمة لا أصل لها، فإنهم أخذوا بأول حرف من اسم كل واحد منهم فصارت هذه الكلمة، ولا أصل لها في قواميس اللغة على ظهر الأرض، ولكن الرجل يدعي أنه يعلم ما تحت الأرض وما فوق الأرض، فسألوه: ما تقول في الخنفشار؟ قال: نعم. الخنفشار نبت طيب الرائحة ينبت في أطراف اليمن -حتى لا يذهب أحد ولا يبحث عنه- إذا أكلته الإبل عقد لبنها، كما قال الشاعر اليمني -يستدل بالشعر-: لقد عقدت محبتكم فؤادي كما عقد الحليب الخنفشار وقال: قال في الخنفشار أبو داود كذا وكذا، وقال فيه فلان كذا وكذا، وأخيراً قال: وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أحدهم وقال: اسكت يا كذاب، كذبت على هؤلاء جميعاً فلا تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول: والله ما ابتليت الأمة بمثل ابتلائها بهذا الطراز النكد من الخنفشاريين الذين تزببوا قبل أن يتحصرموا، وادعوا العلم قبل أن يتعلموا، ورحم الله الغزالي صاحب الإحياء حيث يقول: (لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف) . هذا درس يعلمنا إياه إمامنا وقدوتنا الإمام مالك صاحب هذه المكانة السامقة العالية بين العلماء والأمراء والخلفاء، يعلمنا أن نقول: لا أدري، والله لا أحسن الجواب. وهكذا أيها الأحبة يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي وابن ماجة والبيهقي، وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث كعب بن مالك، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من تعلم العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 8 الاستواء معلوم والكيف مجهول ومن أقوال الإمام الجميلة التي صارت أصلاً كبيراً من أصول أهل السنة والجماعة، ما قاله يوم جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله! قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فكيف استوى؟ فغضب الإمام وعلاه العرق، ونظر إليه وقال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا صاحب بدعة، أخرجوه) وصارت قولة الإمام من أصول أهل السنة في مبحث خطير من مباحث العقيدة، ألا وهو مبحث الأسماء والصفات، وهذا الباب الخطير الجليل كم ضلت فيه من أفهام، وكم زلت فيه من أقلام. ولكن نقول ما قاله الإمام مالك: (نحن نؤمن بأسماء الكمال وصفات الجلال كما وردت في القرآن والسنة، ونمرها صريحة من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 9 إن هم العلم دين. ومن أقوال الإمام الجميلة قوله: (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 10 كل يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن أقوال الإمام الجميلة: (كل يؤخذ منه ويرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم) . وبعد جلسة الاستراحة ألخص لكم في عجالة سريعة ما كررناه كثيراً في هذه الخطبة، وفي هذا اللقاء من قولنا: كتاب الإمام مالك الموطأ؛ لنتعرف في عجالة سريعة عن هذا الموطأ الذي أراد بعض الخلفاء أن يلزموا الناس به، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 11 نبذة مختصرة عن موطأ الإمام مالك الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فيا أيها الأحبة! يحسن بنا ونحن نتكلم عن الإمام مالك -ولا أريد أن أطيل أكثر من ذلك، فإن الحديث عنه يطول جداً- أن نقدم لحضراتكم نبذة مختصرة صغيرة سريعة عن هذا الكتاب الجليل الذي أراد بعض الخلفاء أن يلزموا الناس به ألا هو كتاب الموطأ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 12 سبب تسميته بالموطأ من المعلوم أننا جميعاً نسمع عن موطأ الإمام مالك، وقل من يعرف عنه الشيء الكثير، فأقول ابتداءً: سمي الموطأ بالموطأ لأمرين: الأول: أنه وطأ. أي: سهل ويسر به حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فسمي بالموطأ. الأمر الثاني: أنه عرضه على سبعين فقيهاً من فقهاء أهل المدينة، فواطئوه على صحته، فسمي بالموطأ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 13 خصائص كتاب الموطأ والموطأ كتاب يشتمل على كم كبير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين وأهل العلم من بعدهم، والموطأ لا يقتصر على الأحاديث المسندة فقط، وإنما يشتمل على الأحاديث المسندة والمرسلة والمنقطعة، وعلى البلاغات. والبلاغات أن يقول مالك: بلغني كذا وكذا. وكل كلمة من هذه الكلمات أعلم أنها تحتاج إلى شرح وتفصيل، والمجال والوقت لا يتسع لذلك. أيضاً: من خصائص كتاب الموطأ: أن الإمام مالك كتبه في أربعين سنة، ولذا قال الشافعي قولته الجميلة: لا يوجد على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب الإمام مالك. قال الحافظان: الذهبي وابن الصلاح: قال الشافعي قولته هذه قبل أن يؤلف الصحيحان، فإن الصحيحين هما أصح الكتب بعد كتاب الله جل وعلا. لماذا؟ لأن التحقيق أن موطأ الإمام مالك رحمه الله تعالى يشتمل على بعض الأحاديث الضعيفة سواء كانت مسندة أو مرسلة أو منقطعة أو حتى في البلاغات، وهذا ما حققه بعض أهل العلم. وهذه نبذة صغيرة سريعة عن الموطأ، وقد روى الموطأ عن الإمام مالك خلق كثير، وكذا شرحه جمع كبير من أهل العلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 14 الإمام مالك بشر يخطئ ويصيب رحم الله الإمام مالك فقد ملأ الدنيا علماً وفضلاً وخيراً، ولكنه بشر يخطئ ويصيب، ويؤخذ منه ويرد عليه، فهو صاحب القولة الخالدة: كل يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم. فإلى كل متعصب لمذهب الإمام مالك مع مخالفة الدليل من القرآن والسنة الصحيحة، أقول له: إنك على خطر، وإنك من المخالفين لمنهج إمامك ولإمام مذهبك الذي قال قولته الجميلة: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) . أسأل الله جل وعلا أن يردنا إلى النبعين الصافيين الكريمين، إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم خذ بأيدينا إليك، اللهم بارك في علمائنا، اللهم ثبت علماءنا، اللهم بارك في علمائنا، اللهم ثبت علماءنا، اللهم أصلح حكامنا واجعلهم رحمة على شعوبهم يا رب العالمين! اللهم بارك في شبابنا وأصلح نساءنا، واستر بناتنا، أنت ولي ذلك والقادر عليه! اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين! اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام وعز المسلمين، أنت ولي ذلك والقادر عليه! أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم كما أمرنا الله جل وعلا بذلك في محكم كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 15 مصابيح الهدى - أبو حنيفة بن النعمان أول من دون علم الفقه ورتب أبوابه وقواعده هو العلم العظيم والعلامة الجليل أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله، وإن الناظر إلى حياة هذا الجهبذ النحرير يجدها مليئة بالمناقب والمآثر والفضائل، وما ثناء العلماء عليه إلا خير شاهد ودليل، وصفاته رحمه الله أشهر من أن تذكر، ولكن شاء الله أن يتطاول على هذا الجبل الأشم أقزام من الناس، ولا يرمى بالأحجار إلا طيب الأثمار، وهذا هو شأن الجهال الذين لا هم لهم ولا عمل إلا الكلام في العلماء والطعن فيهم، وهم موجودون على مر الأزمان لا كثرهم الله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1 نبذة تعريفية بالإمام أبي حنيفة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين: أما بعد فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكّى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله: إننا اليوم على موعد مع اللقاء الرابع عشر مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى من الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام المهديين، والأئمة المجتهدين، والعلماء العاملين الذين قيضهم الله جل وعلا ليحفظ بهم هذا الدين. أيها الأحبة! لو استطردنا في هذه السلسلة قد تحتاج منا إلى أعوام بدون مبالغة، فإنني قلت قبل ذلك: إن هؤلاء الأبطال وهؤلاء الأخيار هم عمر الزمن ونبض الحياة، وقد يكون من المحال أن نقدر نبض الزمن وأن نحسب أنفاس الحياة، وحتى لا نطيل عليكم في هذه السلسلة الكريمة فسوف نبدأ بحديثنا من اليوم عن الأئمة الأربعة المعروفين: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وهذا هو ترتيبهم الزمني، وسوف نلتزم بهذا الترتيب الزمني ونحن نتحدث عنهم خشية أن ندع مجالاً ومدخلاً لنزعة تعصب بغيضة قد يقذفها الشيطان في بعض القلوب إن قدمنا واحداً عن الآخر! ومن ثم فإن حديثنا اليوم عن إمام الفقه والزهد والورع الذي قال عنه الإمام الشافعي: (الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة) نعم. فـ أبو حنيفة رحمه الله هو أول من دون علم الفقه، ورتب أبوابه ووضع أصول وقواعد هذا العلم العظيم الجليل الكبير، ولا يهمني اليوم وأنا أتحدث عن حياة هذا الإمام العظيم وأن أؤرخ لحياته، أو أن أعدد لمناقبه ومآثره وفضائله بقدر ما يهمني اليوم أن أدفع أمر هذه الشبهات والتهم الخطيرة التي وجهت إلى هذا الإمام العظيم، وبلغ بعض هذه التهم حداً خطيراً. بلغ إلى حد الحكم بالكفر والزندقة على هذا الإمام رضي الله عنه. ويهمني اليوم أيضاً أن أذكر وأحذر المتعصبين للإمام ولمذهبه أن الإمام براء من هذا التعصب البغيض الأعمى، فهو الذي أعلن بصراحة وبوضوح قولته الشهيرة: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 2 اعرف الحق تعرف أهله أيها الأحبة! وقبل أن أبدأ الحديث عن هذه الشبهات التي وجهت إلى إمامنا وصفوتنا الذي نقدمه اليوم للعلماء العاملين والدعاة الربانيين الصادقين المخلصين أود أن أقعد لكم قاعدتين عظيمتين جليلتين لطلبة العلم خاصة وللمسلمين عامة. القاعدة الأولى تقول: اعرف الحق تعرف أهله. أيها الحبيب! أصغ لي السمع فإن التعصب البغيض الأعمى هو الذي مزق الشمل، وشتت الصف، وبذر بذور الخلاف على مدار تاريخ هذه الأمة الطويل، ومازالت صحوتنا ترتجف وتتعثر خطاها بين الحين والآخر بسبب هذا التعصب الأعمى إما لحركة من الحركات، أو لجماعة من الجماعات، أو لشيخ من الشيوخ، أو لإمام من الأئمة، وهم الذين أعلنوا جميعاً على لسان وقلب إمام واحد: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) . أيها الأحبة! إن الحق لا يعرف بالرجال ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق، ومن أروع ما قال الإمام الشاطبي في كتابه القيم المبدع (الاعتصام) : ولقد زل أقوام بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال، وخرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين واتبعوا أهواءهم بغير علم، فضلوا عن سواء السبيل. ومن نفيس كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وطيب الله ثراه التي ينبغي أن يكتب بأحرف من نور قوله: (وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم. (ليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً) أي: إماماً أو شيخاً أو عالماً أو داعية. (يدعو إلى طريقته غير النبي صلى الله عليه وسلم) : ليس لأحد أن ينصب للأمة كلاماً يوالي ويعادي عليه غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل إن هذا من فعل أهل البدع. يقول شيخ الإسلام: بل إن هذا من فعل أهل البدع والأهواء الذين ينصبون للأمة شخصاً أو كلاماً يوالون ويعادون عليه ويفرقون به بين الأمة) . وفي موضع آخر من المجلد الثاني والعشرين من مجموع فتاويه المبارك يقول: (ومن تعصب لواحد من الأئمة بعينه فهو بمنزلة من تعصب لواحد من الصحابة بعينه دون الباقين) كالرافضي الذي يتعصب لـ علي رضي الله عنه. وهذه طرق أهل البدع والأهواء، فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لـ أبي حنيفة أو لـ مالك أو للشافعي أو لـ أحمد رضوان الله عليهم جميعاً. فالتعصب البغيض الأعمى -أيها الأخيار- يصم الآذان عن سماع الحق ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل ولو كان واضحاً كوضوح الشمس في رابعة النهار، ويبذر بذور الخلاف والشقاق والبغضاء والنزاع بين أبناء الأمة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 3 صور من التعصب الأعمى أيها الأحبة! لقد وقع على مدار تاريخ الأمة الطويل بسبب التعصب المذهبي البغيض المقيت الأعمى ما يؤلم القلب ويحزن النفس، ويسود صفحة التاريخ، ومن أعجب ما قرأت في هذا: ما ذكره الإمام محمد رشيد رضا في مقدمته الجميلة التي قدم بها لكتاب (المغني مع الشرح الكبير) للإمام القدير ابن قدامة، ذكر هذا الرجل بعض صور هذا التعصب البغيض فذكر شيئاً يذهل العقل ويأخذ الفؤاد، ومما ذكر هذا الشيخ رحمه الله تعالى: أن واحداً من متعصبي الحنفية -أي: من المتعصبين للإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى والإمام براء من هذا التعصب الأعمى- يرى جواز قراءة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة، فوقف يوماً في الصف ليصلي ووقف إلى جواره رجل قرأ الفاتحة في الصلاة، فما كان من هذا المتعصب الحنفي إلا أن ضرب أخاه في الصف ضربة قوية في صدره فأوقعت الرجل على ظهره، وهما في الصلاة بين يدي الله جل وعلا. وذكر هذا الشيخ أيضاً في هذه المقدمة لمن أراد أن يراجعها مفصلة في كتاب (المغني مع الشرح الكبير) لـ ابن قدامة، ذكر أن رجلاً جلس في التشهد وأشار بسبابته يحركها عند التوحيد، فما كان من رجل آخر لا يرى جواز ذلك إلا أن انقض على سبابته فكسرها وهما في الصلاة بين يدي الله عز وجل. وذكر صورة مزرية للتعصب البغيض الأعمى حدثت في وقت من الأوقات في بلاد طرابلس بالشام، ذكر أن التعصب وصل إلى حد أن جعلوا لكل مسجد أربعة أئمة، محراب لإمام الشافعية، ومحراب لإمام المالكية، ومحراب لإمام الحنفية، ومحراب لإمام الحنابلة حتى يأتي أصحاب كل مذهب ليصلوا وراء إمامهم الذين يرتاحون إليه ويعتقدون بمذهبه ويؤمنون بقول إمامه. وهل هذا الكلام ضرب من الوهم ونسج من الخيال؟ كلا! إنها حقائق مسطورة في بطون الكتب لمن أراد أن يراجعها وأن يطلع عليها! بل قد لا تصدقوا إذا قلت لكم: إن التعصب الأعمى بلغ إلى حد تحريم زواج الحنفي من الشافعية، فمن كان ينتمي إلى مذهب الحنفية حرم عليه أن يتزوج بامرأة تنتمي إلى مذهب الشافعية. وهذا هو التعصب البغيض الأعمى لهذه المذاهب، وأصحابها براء منه، وأقول بملء فمي -كما سأوضح لكم ذلك بالدليل- إن هذا هو التعصب البغيض الأعمى الذي مزق الشمل وشتت الصف وبذر بذور الخلاف، وها نحن نرى آثاره المريرة في هذه الأيام بين بعض أبناء شباب هذه الصحوة المباركة، فقد لا يقبل الأخ أن يلقي السلام على أخيه إن عرف أنه لا ينتمي إلى جماعته، أو إن عرف أنه لا يؤمن باعتقاده وبفكره الذي يدعو إليه، وقد نرى أن بعضهم لا يتوقف عند عدم إلقاء السلام فحسب، بل ينتقل إلى التشهير والتحقير والاعتداء والازدراء، وهذه من آثار التعصب المذهبي البغيض الأعمى. أيها الأحباب! إن إسلامنا دين عظيم واسع، وإن كتابنا هو القرآن، وجماعتنا هي جماعة المسلمين، وشيخنا وإمامنا وقدوتنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، وكل من نهج على نهجه بالدليل الصحيح من القرآن والسنة على مذهب وفهم سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 4 ذم الفرقة والاختلاف أيها الأحباب! إن الأمر لا يحتاج إلى تعقيد، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] الأمر لا يحتاج إلى تقعيد وتعقيد، بل هو من السهولة بمكان. إن هذا التعصب هو الذي يبذر بذور الخلاف والشقاق والنزاع في القلوب، وأعجب لهؤلاء الذين يريدون أن يقعدوا للخلاف قواعد وأن يؤصلوا له أصولاً، والله جل وعلا ما ذكر الخلاف في القرآن إلا وحذر الأمة منه، كما قال جل وعلا: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] ، وقال ربنا عز وجل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] ، وقال ربنا عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118] {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:119] إلا من رحم ربك لا يقعون في مرض الخلاف الذي يؤدي إلى حد النزاع والشقاق. وأعجب لمن استشهد بهذا الحديث الذي يقول: (خلاف أمتي رحمة) وهو حديث باطل لا أصل له كما حقق ذلك شيخنا الألباني حفظه الله تعالى في كتابه القيم المبدع (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة) بقوله: (خلاف أمتي رحمة) حديث باطل موضوع لا أصل له مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم. فكيف يكون صحيحاً وهو يخالف صحيح وصريح القرآن؟! أيها الأحبة: إن البعض يريد أن يقعد للخلاف قواعد وأن يؤصل له أصولاً حتى خشيت -والله- وأنا أقرأ في بعض الكتب أن يكون الخلاف حسنة من الحسنات، ويستشهدون بخلاف الصحابة فيما بينهم. سبحان الله شتان شتان بين زهرة طبيعية لا تحبس أريجها وعطرها، وبين زهرة صناعية لا تحمل من عالم الزهور إلا اسمها. شتان شتان بين خلاف أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبين الخلاف الذي وقع على مدار التاريخ بين أبناء الأمة في شرقها وغربها وشمالها وجنوبها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 5 أسباب الخلاف بين الصحابة أيها الأحبة! أستطيع أن ألخص لكم في عجالة سريعة بعض أسباب الخلاف بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يشوش عليكم يا طلبة العلم بمثل هذا الادعاء العريض، فمنها: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 6 أن بعضهم لم يبلغهم الحديث السبب الأول من أسباب الخلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم: أن بعضهم لم يبلغهم الحديث، فالبعض قد يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم والبعض قد لا يسمع الحديث منه عليه الصلاة والسلام، وإن من أوضح الأدلة على ذلك: ما رواه الإمام البخاري،وقد روى قصة سفر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بلاد الشام، وأخبر عمر في الطريق أن بها وباء الطاعون -الذي مات فيه أبو عبيدة رضي الله عنه- فجمع عمر الصحابة واستشارهم، واختلف الصحابة على رأيين، فمنهم من قال بدخول الشام، ومنهم من قال بعدم الدخول، وكان عمر من أنصار الرأي الثاني، وقال قولته الجميلة حينما قيل له: يا أمير المؤمنين! نفر من قدر الله؟ فقال: (نعم. نفر من قدر الله إلى قدر الله) . وجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائباً عن الصحابة لحاجة من حاجاته، فلما رأى هذا الخلاف بين الصحابة على الرأيين قال عبد الرحمن لقد سمعت في ذلك حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر ما هو؟ قال عبد الرحمن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم بالطاعون في بلد فلا تقدموا عليه وإذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) فسعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحمد الله عز وجل. وعند هذا الحد انتهى الخلاف. والشاهد من هذا: أن بعض كبار الصحابة كـ عمر رضي الله عنه لم يسمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغه الدليل فاجتهد رأيه، فلما بلغه الدليل أقر الجميع بحديث النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 7 أن أحدهم قد ينسى الحديث السبب الثاني: أن أحدهم قد يسمع الحديث وقد ينساه بعد طول فترة من الفترات فجل من لا ينسى، بل قد ينسى الإنسان آية في كتاب الله وليس حديثاً، وذلك وقع بين عمار بن ياسر وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا أستطيع أن أستطرد أكثر من ذلك لضيق الوقت أيها الأحباب. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 8 الاختلاف في فهم المراد من الحديث السبب الثالث: أنهم قد يختلفون في فهمهم للمراد من الدليل، وإن من أوضح الأدلة على ذلك: ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة في يوم الأحزاب: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فأدركهم العصر وهم في الطريق، فانقسم الصحابة إلى قسمين: قسم اجتهد وقال: نصلي العصر الآن لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد منا ذلك وإنما عزم علينا الخروج إلى بني قريظة، وقسم آخر قال: لا. أمرنا الرسول ألا نصلي العصر إلا في بني قريظة فلن نصلي العصر إلا في بني قريظة، فصلى فريق وامتنع فريق آخر، فلما بلغ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقر الفريقين ولم يعب على فريق منهما، وهذا اختلاف في فهم المراد من الدليل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 9 عدم معرفة النسخ السبب الرابع: قد يحدث صحابي بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ويستشهد به كدليل من الأدلة على مسألته وهو لا يعلم أن هذا الحديث قد نسخ بحديث آخر صريح من النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 10 الآثار المترتبة على اختلاف الصحابة أيها الأحبة: هذه بعض الأسباب التي أوقعت الصحابة رضي الله عنهم في الخلاف، ولكن ما هي الآثار المترتبة على هذا الخلاف؟ إنها المحبة المودة الرحمة الأخوة الحب في الله. ومن ذلك: يختلف ابن عباس مع زيد بن ثابت في بعض المسائل ولما قام زيد بن ثابت تناسى ابن عباس هذا الخلاف وقام ليسحب له دابته، فيقول زيد بن ثابت: إليك عني يا ابن عم رسول الله، فيقول ابن عباس: هكذا أمرنا أن نصنع بعلمائنا وكبرائنا، فيقول زيد: أرني يدك فيأخذ زيد يده ويقبلها، ويقول: هكذا أمرنا أن نصنع بآل بيت نبينا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 11 الآثار المترتبة على خلاف المسلمين اليوم أيها الأحباب! هذه هي آثار الخلاف بين أصحاب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، أما آثار خلافنا اليوم وأسبابه فكثيرة، منها: الجهل، والتعصب، وحب الزعامة والريادة والسيادة، وأما آثاره فتمزق وتشتت، وبغض وكره، ومهاترات وانتقام، وسخرية وافتراء. شتان شتان شتان بين زهرة طبيعية لا تحبس عن الناس عبيرها وعطرها وأريجها وريحها وبين زهرة صناعية لا تحمل من عالم الزهور إلا اسمها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 12 لحوم العلماء مسمومة أيها الأحباب! وأما القاعدة الثانية التي أريد أن أقعدها لطلبة العلم خاصة وللمسلمين عامة واحفظوها وعوها في قلوبكم، ألا وهي: أن سنة سلفنا الصالح رضي الله عنهم جميعاً هي: عدم التعرض للظنون والأوهام والكهانات من العلماء المشهود لهم بالخير والبر والتقى والصلاح. وهذه قاعدة نحن في أمس الحاجة إليها خاصة في هذه الأيام؛ لأننا نرى موجة عارمة عاتية من السخط والكلام ونهش لحوم العلماء على الرغم من أن هذا الذي يتكلم فيهم من أجهل الناس ومع ذلك يتطاول على أفضل الناس على ظهر الأرض بعد الأنبياء بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم يكون جاهلاً ويجلس في المجلس ليتطاول على أهل الفضل والخير والبر والتقى والصلاح. أقول: إن سنة سلفنا الصالح هي: عدم التعرض للظنون والأوهام والجهالات للعلماء المشهود لهم بالبر والخير والتقى والصلاح، واعلم بأن لحوم العلماء مسمومة، كما ورد في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى في الحديث القدسي الجليل: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) . وروى الخطيب البغدادي بسنده عن أبي حنيفة والشافعي أنهما قالا: (إن لم يكن الفقهاء -في قول للشافعي - إن لم يكن الفقهاء العاملون هم أولياء الله فليس لله في أرضه ولي) . إن لم يكن الفقهاء والعلماء هم أولياء الله جل وعلا فمن يكون الولي إذاً؟ {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] فهؤلاء هم أولياء الله بشهادة الله جل وعلا. أيها الأحبة! اسمعوا إلى هذه القولة الرائعة من ابن عساكر رحمه الله وطيب ثراه، يقول: (اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني الله وإياك فيمن يخشاه ويتقيه حق تقاته، اعلم أن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالسلب بلاه الله قبل موته بموت القلب) . يخشى على من ينهش لحوم العلماء في كل ساعة وحين أن يختم له بسوء الخاتمة والعياذ بالله، فمن أطلق لسانه في العلماء بالسلب بلاه الله قبل موته بموت القلب. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 13 ثناء العلماء على الإمام أبي حنيفة أيها الأحباب! بعد عرض هاتين القاعدتين بإيجاز نقرر ما يلي: أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى في أعلى درجات البر والخير والصلاح، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ، قال جمهور المفسرين: والظن الذي نهينا عنه هو ظن السوء بأهل الخير والصلاح. أقول: وأبو حنيفة في أعلى درجات البر والخير والصلاح والورع والزهد والتقى، فلقد تجاوز الإمام القنطرة وشهد له بالعدالة والضبط والصدق والثقة على أيدي وألسنة قادة علماء الجرح والتعديل وأئمة الحديث رضوان الله عليهم جميعاً! أيها الأحبة! اسمعوا إلى هذا السيل من الثناء على هذا الإمام الذي اتهم من البعض بالكفر والزندقة، فقد أثنى على أبي حنيفة الإمام الشافعي رحمهما الله تعالى فقال: (ما طلب أحد الفقه إلا وكان عيالاً على أبي حنيفة) وأثنى على أبي حنيفة الإمام أحمد رحمه الله تعالى فقال: (أبو حنيفة من العلم والزهد والورع وإيثار الآخرة بمحل لا يدركه أحد) ولقد ضرب بالسياط ليلي القضاء للمنصور فأبى، فرحمة الله عليه ورضوانه) . وهذه شهادة إمام أهل السنة لأخيه الإمام أبي حنيفة فرحم الله الجميع ورضي عنهم وأسكنهم فسيح جناته. وأثنى عليه أيضاً: الإمام سفيان بن عيينة فقال: (ما رأت عيني مثل أبي حنيفة) ، وأثنى عليه الإمام ابن عبد البر فقال: وقال أبو داود صاحب السنن: إن أبا حنيفة كان إماماً، وإن مالكاً كان إماماً، وإن الشافعي كان إماماً. وأثنى على أبي حنيفة الإمام الذهبي أستاذ الجرح والتعديل في كتابه القيم المدهش: (طبقات الحفاظ) الذي قدم في هذا الكتاب القيم له بهذه المقدمة حيث يقول الذهبي: وهذه تذكرة بأسماء معدلي حملة العلم النبوي - هكذا لفظاً وحرفاً - ومن يرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتصحيح والتزييف وذكر من بين هؤلاء المعدلين: الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه وأرضاه. وأثنى على الإمام أبي حنيفة الإمام الكبير الجهبذ شيخ الإمام البخاري الإمام علي بن المديني حيث قال: أبو حنيفة ثقة لا بأس به. وأثنى على أبي حنيفة شيخ الجرح والتعديل، بل إمام الجرح والتعديل يحيى بن سعيد القطان حيث قال عن أبي حنيفة: إنه من أعلم الأمة بما جاء عن الله ورسوله. وأثنى على أبي حنيفة الإمام الكبير أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة الطحاوية الكبيرة المشهورة المعروفة فقال أبو جعفر: أبو حنيفة الإمام الأعظم: ثقة ثبت فقيه مشهور. وأثنى عليه الإمام الذهبي في موضع آخر، وحكم له كثير من الحفاظ بأنه من خيار التابعين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 14 مولد الإمام ونشأته ولد أبو حنيفة بالكوفة سنة (80هـ) ، وأصله من مدينة كابول عاصمة أفغانستان اليوم، ونشأ الإمام في الكوفة وترعرع فيها على أيدي الشيوخ والعلماء الكبار، ورأى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى أنس بن مالك غير مرة، ورأى عبد الله بن أوس ورأى سهل بن سعد وغيرهم، فشهد له مجموعة من عظماء الأمصار بأنه من التابعين وبأنه من خيار التابعين، ويكفي أنه في خير القرون بشهادة الحبيب صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث عمران بن حصين: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) . وبالرغم من ذلك فقد اتهم الإمام ببعض الشبهات وأعرج على بعض التهم بعد جلسة الاستراحة مع البيان والتوضيح والإنصاف، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 15 الرد على الشبهات التي رمي بها الإمام رحمه الله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: أيها الأحبة! بالرغم من هذا فإنه لا يسلم أحد على ظهر هذه الأرض من أن يتحدث الناس فيه، كيف لا وقد تحدث بعض الناس عن رب العزة والجلال، ألم تقرءوا قول الله في القرآن الكريم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] ؟ ألم تقرءوا قول الله عز وجل حكاية عن إخوان القردة والخنازير حيث قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] . ولم يسلم سيد الخلق وحبيب الحق المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل اتهم بالسحر والكذب والجنون. إلى آخر هذه التهم التي اتهم بها. فمن ذا الذي لا يتهم بعد ما اتهم ربنا ونبينا صلى الله عليه وسلم؟! لقد اتهم الإمام أبو حنيفة وليس هذا ببدع كما ذكرت، ولكنني أردت أن أرد بعض التهم التي وجهت كذباً وزوراً: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 16 الشبهة الأولى: أن البخاري ومسلم لم يخرجا له في الصحيحين أما التهمة الأولى التي وجهت إليه من البعض فتقول: إن أبا حنيفة لم يخرج له الإمام البخاري ولا الإمام مسلم وباقي أصحاب الكتب الستة، ويعتبرون ذلك قدحاً في الإمام، ويعتبرونه من عدم الاعتبار من هؤلاء الأئمة لـ أبي حنيفة. فأقول: إن هذه الشبهة ليست صحيحة، لأنه من ظن أن ثقات الرواة هم الرواة في الكتب الستة فقط فقد ظن باطلاً، ولن أستطيع أن أستطرد لكم لأبين لكم الدليل، وإنما سأذكر لكم دليلاً واحداً على ذلك، ألا وهو أن الإمام مسلم لم يخرج في صحيحه حديثاً واحداً عن الإمام البخاري على الرغم من أنه نسج صحيحه كله على منوال الإمام البخاري رضي الله عنه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 17 الشبهة الثانية: نقل الخطيب لأقوال القادحين فيه بأسانيدها الشبهة الثانية: يقول البعض: إن الخطيب البغدادي ألف كتاباً كبيراً ذكر فيه أقوالاً كثيرة لبعض الذين قدحوا في الإمام أبي حنيفة بأسانيد إلى قائليها، ومن المعلوم لكل طالب علم في الحديث مبتدئ أن ذكر السند ليس دليلا ًعلى صحة السند، فكم هناك من الأسانيد الموضوعة والمكذوبة الملفقة التي افتري بها على الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، أما إذا كان السند صحيحاً صادراً من أقران الإمام أبي حنيفة فمن المعلوم عند علماء الجرح والتعديل أن كلام الأقران لا يستشهد به في بعضهم البعض، وهذا ما صرح به الحافظان الكبيران الذهبي وابن حجر وغيرهما. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 18 الشبهة الثالثة: تقديمه الرأي والقياس على النص الشبهة الثالثة: تقول: بأن أبا حنيفة كان يقدم الرأي والقياس على النص، ولعلها من أخطر الشبهة التي توجه إلى مذهب الإمام، وأستطيع أن أرد بما رد به الإمام أبو حنيفة ذاته، فيقول أبو حنيفة: كذب والله وافترى علينا من يدعي أننا نقدم القياس على النص! ثم يقول: وهل بعد النص قياس؟! ويقول أبو حنيفة في موضع آخر: ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وما جاءنا عن الصحابة تخيرنا - أي قد نأخذ بقول عمر ولا نأخذ بقول ابن عباس - وما جاءنا عن غيرهم فهم رجال ونحن رجال. فهذه أيضاً قولة وشبهة غير صحيحة، وقال عن ذلك الإمام ابن القيم في كتابه المدهش: (إعلام الموقعين) ، قال: إن أبا حنيفة يقدم الحديث الضعيف على القياس. ثم يقول ابن القيم: فكيف يُدعى بعدئذ أن أبا حنيفة يقدم القياس على النص؟! وقال الإمام ابن حزم في كتابه (المحلى) : إن جمهور أصحاب أبي حنيفة يقرون بأن مذهب الإمام أنه يقدم الحديث الضعيف على القياس والرأي، فكيف يدعى بعد ذلك أنه يقدم القياس والرأي على النص الصريح الصحيح؟!! وهذا ما أقره أيضاً الإمام ابن حجر في مقدمته في كتاب فتح الباري حيث قال: ومن ثم فإنه لا يعتد بجرح الجارحين الذين جرحوا أبا حنيفة بكثرة القياس. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 19 الشبهة الرابعة: أنه استتيب من الكفر مرتين أما الشبهة الرابعة: أنهم قالوا: إن أبا حنيفة قد استتيب من الكفر مرتين. ومن المعلوم أن الذي كفّره واستتابه هم الخوارج كلاب أهل النار، ولم يكفروا أبا حنيفة وحده وإنما كفروا علياً وكرام الصحابة رضوان الله عليهم، فلا عبرة إذن باستتابتهم ولا بتكفيرهم، وهذا لا يحتاج منا إلى أي دليل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 20 الشبهة الخامسة: مخالفته لأهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان أما الشبهة الأخيرة -وأكتفي بها- ولعلها أخطر الشبهات: قول البعض: إن أبا حنيفة يخالف أهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان. فمن المعلوم أن الإيمان عند أهل السنة والجماعة: (اعتقاد وقول وعمل) قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، إلا أنهم اتهموا أبا حنيفة بالإرجاء وقالوا: بأنه من المرجئة الذين يخرجون العمل من مسمى الإيمان، ويقولون: بأن أصل الإيمان يكفي، وجعلوا مدار النجاة على مجرد التصديق فقط، فلا يهمهم عمل إذا استقر الإيمان في القلب، وهذا هو فكر المرجئة في هذه المسألة، فاتهموا أبا حنيفة بأنه من أهل الإرجاء؛ وأنه يخالف معتقد أهل السنة والجماعة في هذه الجزئية. وأرد بما رد به الإمام أبو حنيفة نفسه على عالم البصرة عثمان البستي رحمه الله تعالى، حيث أرسل له عثمان رسالة يقول فيها: بلغني عنك يا أبا حنيفة أنك من المرجئة، فرد عليه أبو حنيفة بهذه الرسالة المطولة وقال فيها: أما بعد: فاعلم أنني أقول بأن أهل القبلة مؤمنون، وبأني لست أخرجهم من الإيمان إذا تركوا شيئاً من العمل، أما من ترك الإيمان والعمل فهو كافر عندنا من أهل النار، وأما من حقق أصل الإيمان وترك شيئاً من العمل فهو في مشيئة الله إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه. ا. هـ. ولذا قال الإمام ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الحنفية الطحاوية المشهورة قال: إن الخلاف بين أبي حنيفة وجمهور أهل السنة والجماعة في هذه المسألة إنما هو اختلاف لفظي، ودلل على ذلك بأدلة كثيرة، وذكر أن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والزلات. وذكر الإمام ابن أبي العز أن العمل شرط في كمال الإيمان عند أهل السنة والجماعة وليس شرطاً لصحة الإيمان كما قالت الفرق الأخرى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 21 رسالة إلى كل متعصب للإمام وهكذا أيها الأحبة وبعد كل هذا أقول: أبو حنيفة بشر يصيب ويخطئ، وكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم! فإلى كل متعصب للإمام، وإلى كل متعصب للمذهب مع مخالفته للدليل الصحيح من القرآن والسنة، أقول له: اعلم أنك على خطر عظيم! وأنك مخالف لإمام مذهبك الذي قال بصراحة ووضوح: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) والذي قال في صراحة ووضوح: (حرام على من لم يعلم دليلي أن يفتي بقولي) . وهو الذي قال: (إذا قلت قولاً ووجدتموه مخالفاً لكتاب الله عز وجل وسنة رسول الله فاتركوا قولي وخذوا بقول الله ورسوله) . أيها الأحبة! عودة حميدة إلى النبعين الصافيين الكريمين عودة إلى القرآن والسنة وما صح من أقوال أهل العلم بهذا المعيار الدقيق لتأتلف القلوب؛ فإذا كان القرآن والسنة هما مصدر رجوعنا فلا خلاف ولا شقاق ولا نزاع، بل قال الله قال رسوله، لا أن نكون ممن قال فيهم الإمام ابن القيم: إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قال الصحابة والألو تبع لهم في القول والأعمال أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام العالي صدوك عن وحي الإله ودينه واحتالوا على حرام الله بالإحلال يا أمة لعبت بدين نبيها كتلاعب الصبيان في الأوحال حاشا رسول الله يحكم بالهوى والجهل تلك حكومة الضلال أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرد الأمة إلى النبعين الصافيين الكريمين القرآن والسنة الصحيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم رد الأمة رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم جمع شملنا، اللهم وحد صفنا، اللهم ألف بين قلوبنا!!. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 22 مصابيح الهدى - أحمد بن حنبل السنة باب عظيم من دخله كان إلى الله من الواصلين، وهي الحصن الحصين الذي من دخله كان من الآمنين، فهي تنير لأهل الحق طريقهم، وتطفئ أنوار المبتدعة وأهل النفاق، وقد تعرضت عبر التاريخ لمحاولة تشويه وتغيير وتحريف، فانبرى لها أسود يذودن عن حياضها، ومنهم: إمام أهل السنة والجماعة الإمام: أحمد بن حنبل رحمه الله، فقد عاش مدافعاً ومنافحاً عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ابتلي في سبيل ذلك بأشد أنواع الابتلاءات، وهو صابر محتسب، حتى لقي الله وهو على ذلك. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1 بيان فضل السنة وأهميتها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع إمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة! إننا اليوم على موعد مع اللقاء السابع عشر مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى. أحبتي في الله! إن السنة هي الباب العظيم الذي من دخله كان إلى الله جل وعلا من الواصلين، وهي الحصن الحصين الذي من دخله كان من الآمنين، فالسنة تقوم بأهلها وإن قعدت بهم أعمالهم، والسنة تنير لأهلها إذا انطفأت على أهل البدع والنفاق أنوارهم، قال الله عز وجل: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدعة والاختلاف. فأهل السنة هم أهل الهدى ودين الحق، وهم أصحاب العلم النافع والعمل الصالح. أهل السنة هم الذين صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله ولم يعارضوها بالشبهات، وهم الذين أطاعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوامره ولم يضيعوها بالشهوات، فأهل السنة -أيها الأحبة- هم الذين صحبوا أنفاس الحبيب المصطفى في الدنيا، وهم أهل السعادة بصحبة أنفاسه ونفسه في جنات النعيم في الآخرة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 2 قبسات من سيرة إمام أهل السنة أحمد بن حنبل نحن اليوم على موعد مع إمام أهل السنة في زمانه وبعد زمانه، إنه العالم الرباني، شيخ الإسلام وسيد المسلمين الذي عرضت له الدنيا فأباها، وتعرضت له البدع فنفاها، إننا اليوم على موعد مع أئمة في إمام، فلقد كان إمامنا إماماً في الحديث وضروبه، إماماً في الفقه ودقائقه، إماماً في الزهد وحقائقه، إماماً في الورع وطرائقه، إماماً في السنة بجميع أقسامها، إماماً في العقيدة بكل أصولها وفروعها، إنه الإمام العلم إنه الحبر الرباني الكبير الذي بذل نفسه وروحه للذود وللذب عن حياض السنة المطهرة. إنه الجبل الراسخ الذي لا تزعزعه الأهواء، ولا تميد به العواصف والفتن والمحن، إنه الرجل الذي أراني اليوم وأنا أتحدث عنه كأنني أقدم لحضراتكم اليوم صحابياً جليلاً من أصحاب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. ولم لا وقد كان إمامنا الحبر العلم لا يحيد قيد شعرة في أقواله وأفعاله وأحواله عن سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؟! إنه الإمام المبجل أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه، وطيب الله ثراه، وجمعنا الله به مع إمامه وأستاذه؛ إنه ولي ذلك ومولاه. أحبتي في الله! إنه لفخر لبني الإنسان، وإنه لشرف لمثلي وأمثالكم أن أتكلم أنا عن أحمد وأنتم تستمعون إلى سيرته، فمن نحن لنتكلم عن هذا الإمام العلم؟! والله إني أحس بأن حلقي ليجف وبأن قلبي ليرتعد خجلاً وحياءً من أن يقف مثلي معدداً لمناقب ومآثر هذا الحبر وهذا العالم الرباني الجليل الكبير. أيها الأحبة! تعالوا بنا سريعاً -حتى لا تطاردنا عقارب الساعة- لنطالع سيرة هذا العالم الرباني من أولها، فإن تلخيص حياة الإمام في هذه الدقائق المعدودات أمر والله جد عسير، فإلى قفزات سريعة في حياة هذا الإمام العلم، فأقول مستعيناً بالله جل وعلا ومتوكلاً عليه: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 3 مولده ونشأته ولد الإمام أحمد في السنة الرابعة والستين بعد المائة الأولى في مدينة بغداد، فالإمام بغدادي المولد والنشأة والوفاة، ولما بلغ إمامنا الثالثة من عمره توفي أبوه في ريعان شبابه، فلقد مات والده في الثلاثين من عمره، ووليته أمه الصابرة التقية النقية، ودفعت أحمد في سن مبكرة جداً إلى الكُتّاب ليحفظ القرآن الكريم وليتعلم القراءة والكتابة، ونبغ إمامنا نبوغاً مبكراً. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 4 طلبه للعلم ونبوغه فيه أيها الأحبة: إن المادة كثيرة كثيرة، وأريد أن ألخص حياة الإمام تلخيصاً دقيقاً. أقول: نبغ الإمام مبكراً فاتجه بعد ذلك إلى دراسة فقه الشريعة والحديث على يد شيخه الأول: هزيم بن بشير رحمه الله تعالى رحمة واسعة، ولما بلغ الإمام الثامنة عشرة من عمره تفرغ لدراسة علم الحديث الشريف على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فنظر الإمام فلم ير شيخاً من شيوخ بغداد إلا وقد أخذ كل ما عنده من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ففكر الإمام في الرحلة لطلب الحديث، ورحل إمامنا إلى الكوفة، والبصرة، ومكة، والمدينة، وفارس، وخراسان، واليمن، والمغرب، والشام، حتى قال الحافظ ابن كثير في بدايته ونهايته المتقنة: لقد طاف أحمد البلاد والآفاق بحثاً عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا أحبتي في الله! وهكذا يا طلبة العلم لم يضيع الإمام لحظة واحدة في شبابه، ولا حتى في حياته إلا وقد حرص فيها على أن يسمع حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يصحح رواية، أو أن يوصل سنداً من المسانيد، وهكذا رحل في سبيل هذه الغاية الشريفة العظيمة الكريمة إلى أدنى الدنيا وأقصاها، إن لم يجد ما يركبه فعلى قدميه ماشياً رضي الله عنه وأرضاه، حتى تشققت قدماه، وضعف بدنه ضعفاً شديداً شديداً، ولكن سعادته بسماع أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت تمسح آلامه، وتذهب جراحه، وتسكب في قلبه الطمأنينة واليقين والصبر والثبات حتى قال ولده الأكبر صالح بن أحمد رحمه الله ورحم أباه رأى رجل مع أبي المحبرة ذات يوم فعجب، وقال هذا الرجل للإمام أحمد: يا إمام! أنت إمام المسلمين، وبلغت ما قد بلغت، ولا زلت أرى معك المحبرة؟ فقال أحمد قولته الخالدة: نعم. مع المحبرة إلى المقبرة. فلا تتعال يا طالب العلم، ولا تظنن أنك قد بلغت ساحل العلم، فإن ساحل العلم لا يصل إليه أحد، كيف وقد أمر الله حبيبه المصطفى الأمي الذي علم المتعلمين بقوله جل وعلا: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] ولا يزال هذا الأمر قائماً ودائماً حتى لقي الحبيب ربه جل وعلا. نعم. مع المحبرة إلى المقبرة، ومن ثم بهذا الصبر وهذه المثابرة وهذا الصدق والجهد والإخلاص واليقين صار الإمام أحمد محدث المتفقهين وفقيه المحدثين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 5 مسند الإمام أحمد رحمه الله انتبهوا أيها الإخوة فإن هذه رءوس أقلام، ولا يسعني أبداً أن أقف مع سيرة الإمام مع علمه وفقهه وورعه وزهده، ومع خوفه، ومراقبته لله، ومع إخلاصه وصدق توكله، ومع صبره وثباته على المحن والشدائد، ومع حسن تواضعه وكريم إشفاقه. لا يسعني أدباً أن أتحدث عن كل هذا في هذه الدقائق المعدودات، إلا أنني أقول: صار أحمد فقيهاً أو محدث المتفقهين وفقيه المحدثين، وإن أعظم دليل عملي على صدق قولي هذا هو مسنده العظيم، ذلك المورد الثجاج لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي جمع فيه الإمام جمعاً عظيماً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيأتي الإمام باسم الصحابي أو بمسند الصحابي فيقول: مسند أنس بن مالك، أو مسند أبي هريرة، أو مسند عبد الله بن عمر ويأتي بجميع الأحاديث التي رواها هذا الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون مراعاة لموضوعات هذه الأحاديث، ثم بعد ذلك بأقوال هذا الصحابي وفتاويه إن كانت له فتاوى، وهكذا يختلف ترتيب المسند عن ترتيب كتب السنن، فإن المسند مرتب على الصحابة، وكتب السنن مرتبة على أبواب الفقه كما يعلم طلبة الحديث. أحبتي في الله! وهكذا أولى الإمام أحمد المسند عناية عجيبة فائقة، ولكن يأبى الله إلا أن يكون الكمال لكتابه وحده، ولقد صدق الله جل وعلا إذ يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] . أقول: مع كل هذه العناية الفائقة فلقد وقع في مسند الإمام أحمد الضعيف والموضوع، كأحاديثه في فضائل مرو وعسقلان، ففيها الضعيف والموضوع، ولكن الصحيح والله أعلم أن هذه الأحاديث الموضوعة -وأقول هذا للأمانة العلمية ووالله ليست تعصباً- التي ثبتت في مسند أحمد، وثبت الكذب في بعض رواتها ليست من رواية الإمام أحمد، وإنما هي من الزيادات التي زيدت على المسند بعد ذلك، ولقد حقق هذه المسألة تحقيقاً دقيقاً عجيباً خاتمة المحدثين والحفاظ، الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى في كتابه القيم المذهل المسمى بـ: (القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد) ، وقد رد الحافظ ابن حجر في هذا الكتاب على شيخه الحافظ العراقي رحمه الله تعالى، وأثبت الحافظ ابن حجر أن الأحاديث الموضوعة التي ثبتت في مسند الإمام أحمد إنما هي من الزيادات التي زيدت على مسند الإمام، وليست من رواية أحمد ولا ولده عبد الله. وهكذا أيها الأحبة: أجل الإمام أحمد وأهله إجلالاً منقطع النظير، حتى كان يذكر الإمام أحمد فيقال: رضي الله عنه وأرضاه، ومن عظم أصحاب الحديث عظم في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حقّر أصحاب الحديث سقط من عين رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما سئل الإمام عن حديث المصطفى الذي خرجه هو في مسنده وهو مخرج في الصحيحين أيضاً من حديث معاوية رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس) لما سئل الإمام أحمد في معنى هذا الحديث قال: إن لم تكن هذه الطائفة هم أهل الحديث فما أدري من هم؟! ولم يكن الإمام أحمد محدث المتفقهين فحسب، وإنما كان أيضاً فقيه المحدثين، وإن كان الإمام أحمد لم يترك لنا كتاباً في الفقه بعينه فلقد أجاب الإمام أحمد عن أكثر من ستين ألفاً من المسائل الفقهية بقوله: قال الله تعالى، قال رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الصحابة رضي الله عنهم، ومن أراد أن يرى العجب العجاب في ذلك فليراجع كتاب: (المغني) للعلامة ابن قدامة ليرى من ذلك العجب العجاب والمسائل الكثيرة الكثيرة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 6 أصول مذهب الإمام أحمد رحمه الله أيها الأحبة! إن الإمام أحمد فقيه دقيق عميق النظر، كثير الحيطة، شديد الحذر، أعظم ما يخشاه ويخاف منه أن يقرر حكماً يخالف به حكماً لله جل وعلا، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يعي جيداً قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] ، وقد لخص تلميذه النجيب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، القاعدة التي بنى عليها الإمام أحمد فقهه في هذه الكلمات المعدودات فقال: (توقيف في العبادات، وعفو في المعاملات) وهذه هي قاعدة الفقه الحنبلي. (توقيف في العبادات) فلا يصح أبداً أن يعبد إنسان ربه جل وعلا برأي أو بهوى، أو بقول أحد من الناس، وإنما بقول الله جل وعلا، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى التوقيف. أحبتي في الله! (توقيف في العبادات) ، أي: على الله ورسوله. (وعفو في المعاملات) : لأن الأصل في المعاملات الإباحة والحل ما لم يأت دليل بالتحريم، أما الأصل في العبادات فالتوقيف، فلا يجوز لأحد أن يعبد الله إلا بقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد لخص العلامة ابن القيم في كتابه القيم: (إعلام الموقعين) القواعد والأصول الخمسة التي بنى عليها الإمام أحمد فقهه فقال: الأول: النصوص: أول قاعدة وأصل بنى عليها الإمام فقهه: النصوص، فإذا وجد الإمام نصاً من الكتاب والسنة لا يلتفت إلى ما خالفه وإلى من خالفه كائناً من كان. الأصل الثاني أو القاعدة الثانية من قواعد فقه الإمام أحمد: أقوال الصحابة رضي الله عنهم، وكان الإمام لا يقدم على أقوال الصحابة رأياً ولا قياساً. الأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة في مسألة من المسائل اختار الإمام أحمد أقرب هذه الأقوال إلى الكتاب والسنة. الأصل الرابع: أن الإمام كان يأخذ بالأثر المرسل وبالحديث الضعيف إذا لم يكن عنده في المسألة دليل صحيح من الكتاب والسنة، ولا من أقوال الصحابة رضي الله عنهم. الأصل الخامس: أنه كان يحيد إلى القياس أحياناً مع كراهته الشديدة لذلك، إذا لم يجد عنده نص من الكتاب والسنة ولا يجد عنده أثرا ًمرسلاً ولا حديثاً ضعيفاً، وكان يقول قولته: (الحديث الضعيف أفضل عندي من القياس) . وعلق شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المقولة فقال: والحديث الضعيف عند الإمام أحمد هو قسيم الصحيح، وهو قسم من أقسام الحسن. أيها الأحبة! هذه هي الأصول الخمسة التي بنى عليها الإمام مذهبه الفقهي عرضتها في عجالة سريعة وسامحوني على السرعة والتقصير. وهكذا أحبتي في الله! فلم يكن الإمام أحمد فقيه المحدثين، ومحدث المتفقهين فحسب، بل كان إمام أهل السنة في العقيدة بكل أصولها وفروعها، فلئن كان الإمام شديد التمسك بالفقه والسنة وأحكامها في الأصلين والنبعين الصافيين الكريمين ألا وهما الكتاب والسنة فلقد كان الإمام أحمد أشد تسمكاً وأشد اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولسلف الأمة الصالح في أخطر مسائل الاعتقاد وصغيرها كمسائل الصفات، كقوله في معنى يد الله، ووجه الله، وقدرة الله، والقضاء والقدر وكقوله في الإيمان، وكقوله في الإسلام، وكقوله في معنى الكرامة، ومعنى المعجزة، وكقوله في رؤية الله جل وعلا في الآخرة. إلى آخر هذه المسائل. لم يحد الإمام عن قول السلف في هذه المسائل قيد شعرة؛ لأن الإمام كان شديد الاتباع، شديد البغض لكل رائحة ابتداع، فكان سيفاً مصلتاً على أهل الأهواء والبدع، أثبت كل ما أثبته الله ورسوله، ونفى كل ما نفاه الله ورسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، ولا يتسع الوقت لسرد بعض أقواله الجميلة الدقيقة في هذه المسائل الخطيرة التي زلت فيها أقدام، وضلت فيها أفهام، وكفرت فيها أقلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 7 موقف الإمام رحمه الله من أهل البدع أيها الأحبة! لقد كان الإمام أحمد شديد العداء لأهل الأهواء والابتداع، وهنا أعيروني القلوب والأسماع، فلعل هذا هو السبب الذي تعرض بسببه الإمام أحمد لفتن ومحن كثيرة تنوء بحملها الجبال الراسيات، وهذا حق لابد لكل من سلك طريق الدعوة إلى الله، ومشى على طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من النبيين والمرسلين، ولابد أن يعلم أن هذا الطريق ليس ممهداً بالورود ولا مفروشاً بالزهور والرياحين، ولكنه طريق محفوف بالأشواك والأذى والابتلاء ومفروش بالدماء والأشلاء. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 8 الفتن والمحن التي تعرض لها الإمام أحمد رحمه الله لماذا فتن الإمام أحمد، وابتلي إمام أهل السنة الأعظم الأكبر؟ لأنه وحد الله توحيداً خالصاً، ولأنه قال: لا إله إلا الله على مراد الله وعلى مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلك طريق سلف الأمة الصالح ولم يحد عنه قيد شعرة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 9 فتنة القول بخلق القرآن لعل أعظم محنة وفتنة تعرض لها الإمام رضي الله عنه وأرضاه هي محنة خلق القرآن التي كانت سبة الدهر، وعار الأيام، وتلطخ بها ثلاثة من خلفاء الدولة العباسية متعاقدين هم بالترتيب: الخليفة المأمون، والخليفة المعتصم وولد المعتصم الخليفة الواثق. وأصل هذه البدعة أيها الأحبة: أن الخليفة المأمون الذي قرأ بعض الكتب المترجمة عن اللغة اليونانية قد أعجب بفكر المعتزلة، واعتنق هذه العقيدة، وقرب منه رأس المعتزلة في حينه أحمد بن أبي دؤاد، وهذه فتنة كبيرة لا ناقة للمسلمين فيها ولا جمل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. عباد الله! القرآن كلام الله عز وجل أنزله الله تبارك وتعالى على قلب حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأنذر به النبي وبشر، وحفظه الصحابة ووعوه في قلوبهم وعي من سحر ببيانه وعظيم أسلوبه وقوة برهانه، وحولوا هذا القرآن إلى واقع عملي في حياتهم وسلوكهم، وآمنوا بمحكمه ومتشابهه امتثالاً عملياً لقول الله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7] وهكذا كان سلفنا الصالح يشتغلون بتطبيق القرآن والعمل به عن الجدل في آياته وأحكامه هكذا كان دأبهم رضي الله عنهم وأرضاهم إلى أن دخلت هذه الأفكار والعقائد والفلسفات التي بسببها استكبرت العقول، وتطاولت على كل شيء، حتى في التفكير في ذات الله وتقليب الرأي في صفاته جل وعلا، وهو الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، جل عن الشبيه وعن المثيل والنظير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. لماذا هذا التعنت؟ ولماذا هذا التنطع؟ ولماذا هذا التشدد؟ شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، كما فعل بنو إسرائيل، قال الله عز وجل: اذبحوا بقرة، قالوا: ما لونها ما صفاتها ما عمرها ما سنها ما شكلها؟ إن الله يأمر أن تذبحوا بقرة فاذبحوها أياً كانت، فلما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم. ألا يسعنا من القرآن ما وسع النبي وأصحابه رضي الله عنهم؟! ما الداعي لهذه الفتنة التي أحرقت الأخضر واليابس، وأخذت دماء الأطهار الأبرار من العلماء الأفاضل والأخيار الكبار؟! ما الداعي لها؟ إنها فتنة ابتدعها هذا المعتزلي أحمد بن أبي دؤاد واعتنقها الخليفة المأمون وأراد أن يحمل الناس على اعتناقها، بل والعلماء الفضلاء أيضاً. وكثير من العلماء لم يصبر على هذا العذاب، والسجن، والقتل، فقال بما أراده المأمون من خلق القرآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلا أن للحق رجالاً ثبتهم الله جل وعلا كثبوت الجبال الراسيات، وكان الإمام أحمد جبلاً راسياً ثابتاً راسخاً لم يقل إلا بما علمه من كتاب الله وسنة رسول الله، حتى ولو قدم بدنه رخيصاً لدين الله عز وجل، ولسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقال الإمام أحمد قولته الخالدة: القرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق. وكانت هذه الفتنة أول ما أطلت برأسها في خلافة هشام بن عبد الملك، وكان أول من قال بها هو الجعد بن درهم عليه من الله ما يستحقه، فهو أول من قال بخلق القرآن، ولكن هشام بن عبد الملك رحمه الله تعالى وجزاه الله عن هذه الأمة خير الجزاء أمر أميره على العراق خالد القسري أن يقتل الجعد بن درهم، فقام خالد في خطبة عيد الأضحى وخطب الناس وقال في آخر خطبته: انصرفوا أيها الناس وضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ اليوم بـ الجعد بن درهم، ونزل من على المنبر فقتله، وأراح الناس من شره وفتنته. وخمدت نار الفتنة في مهدها إلى أن أطلت برأسها مرة أخرى في خلافة المأمون، وقال الإمام أحمد قولته، فأمر الخليفة المأمون أن يرسلوا إليه أحمد بن حنبل، وقيد الإمام بالأغلال والحديد وحمل على بعير وذهب به إلى الخليفة المأمون، وفي طريقه مر عليه رجل من الأعراب من بني ربيعة يقال له: جابر بن عامر رحمه الله تعالى، والإمام أحمد وهو راكب على البعير مقيد بالأغلال، فقال له: السلام عليك يا أبا عبد الله فرد عليه الإمام أحمد السلام، فقال هذا الرجل الأعرابي العاقل الفقيه: يا أبا عبد الله! إنك رأس المسلمين اليوم، فإياك أن تستجيب إلى ما دعوك إليه، فأنت رأس الناس وسلف الناس، وإن أجبتهم بما يريدون سيقول الناس بمثل مقالتك وتحمل أوزارهم أمام الله يوم القيامة، فإن كنت تحب الله يا أبا عبد الله! فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ليس بينك وبين الجنة إلا أن تقتل في سبيل الله عز وجل، وإن لم تقتل مت، وإن عشت عشت حزيناً. يقول أحمد: فصبرني هذا الكلام، وزادني عزماً على ما كانت عزمته بإذن الله جل وعلا وحوله. فلما وصل الإمام إلى منزل الخليفة المأمون خرج إليه خادم من قصر الخليفة وكان يعرف الإمام، فلما رأى هذا الخادم الإمام مقيداً بالقيود والأغلال بكى وقال له: يا أبا عبد الله! والله إنه ليعز عليّ أن أرى الخليفة المأمون قد سل سيفاً ما سله قبل اليوم، ويقسم الخليفة بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: والله إن لم يجبني أحمد للقول بخلق القرآن لأقتلنه بسيفي هذا، فجثا الإمام أحمد على ركبتيه، ورفع طرفه إلى السماء، ونادى من يسمع دبيب النملة السوداء تحت الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وقال لربه جل وعلا: سيدي! غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل، فاللهم إن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مئونته بما تشاء. ووالله لم تمض هذه الليلة إلا وسمع الإمام في الثلث الأخير من الليل صياحاً وصراخاً في قصر الخليفة، فلما سأل الإمام عن سبب هذا الصراخ، قالوا له: لقد مات الخليفة المأمون. واستجاب الله دعاءه ومات الخليفة المأمون، ولكن الخليفة كان قد أوصى إلى أخيه المعتصم أن يرث أداة الفتنة المحركة ابن أبي دؤاد عليه من الله ما يستحقه، وورث المعتصم رأس الفتنة ابن أبي دؤاد، وصدر الأمر بسجن الإمام أحمد. أتدرون كم هو الوقت الذي ظل فيه إمام أهل السنة في السجن؟ سجن الإمام أحمد في خلافة المعتصم ثمانية وعشرين شهراً على الكمال والتمام، وما ذاك إلا لأنه يوحد الله توحيداً خالصاً. ولما أرادوا أن يدخلوه السجن ودخل فيه قال قولته الجميلة، قولة يوسف عليه السلام: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] ، ومكث الإمام في السجن، وظلوا يرسلون إليه كل يوم رجلين ليناظرانه في هذه القضية الخطيرة وهذه الفتنة الكبيرة، وكان الإمام لا يغير قوله أبداً، ويقول: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، فلما سمع المعتصم بعناد أحمد وقوته، وأنه لا يريد أن يقول ما يقوله الخليفة قال: أدخلوه عليّ، فأدخلوا الإمام أحمد مكبلاً بالقيود والأغلال على المعتصم وقد جمع خلقاً كثيراً في مجلسه، وعلى رأسهم أحمد بن أبي دؤاد، ودخل الإمام على الخليفة فقربه المعتصم منه حتى أدناه من مجلسه. يقول أحمد: فأثقلتني القيود فجلست ثم قلت له: أتأذن لي بالكلام يا أمير المؤمنين؟ فقال المعتصم للإمام: تكلم. فقال أحمد رضي الله عنه وأرضاه سائلاً المعتصم: إلى ما دعا الله ورسوله يا أمير المؤمنين؟ فسكت المعتصم هنيهة ثم قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فقال أحمد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم نظر الإمام إلى الخليفة وقال: يا أمير المؤمنين! إن جدك ابن عباس رضي الله عنهما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه وفد عبد القيس وسألهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: الإيمان أن تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا الخمس من المغنم) وأنا أقر بهذا، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأقيم الصلاة، وأوتي الزكاة، فاستحيا المعتصم وقال لـ أحمد: والله لولا أني رأيتك في يد من كان قبلي لعفوت عنك، سبحان الله! ثم صرخ الخليفة فيمن حوله وقال لهم: ناظروه كلموه، وغر هؤلاء الجهلاء المعتصم بإمام أهل السنة الأكبر الأعظم، فأمر المعتصم بجلد الإمام رضي الله عنه، ووقف المعتصم بنفسه إلى جوار الجلاد فيأمر الجلاد أن يضرب أحمد سوطين، ثم يتقدم إلى أحمد يقول له: يا أحمد أجبني بقولي لأفك قيدك بيدي، فيرد الإمام تحت وطأة هذه السياط التي تلهب الأجساد يقول له: أعطني شيئاً من كتاب الله وسنة رسول الله أقول به. دمه الكتاب والسنة روحه الكتاب والسنة أنفاسه التي يتنفسها الكتاب و الجزء: 16 ¦ الصفحة: 10 سماحة الإمام أحمد مع أعدائه شاء الله أن ينتقم للإمام في حياته لا بعد مماته، فلقد رأى بعينه ابن أبي دؤاد بعد أن عزله المتوكل وجرده من مناصبه، بل وأخذ كل أمواله وردها إلى بيت المال، وابتلى الله هذا الرجل بمرض خطير، بمرض الفالج، حتى كان يعيش ميتاً بين الأحياء، ودخل عليه عبد العزيز بن يحيى المكي وقال له: والله ما جئتك عائداً، ولكني جئت إليك لأراك هكذا لأحمد الله عز وجل الذي سجنك في جلدك وأنت في هذه الدنيا. وهكذا أيها الأحبة! {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] والله لو كانت الحياة تكريماً لأحد لكان أولى بهذا سيد الناس محمد صلى الله عليه وسلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 11 وفاة الإمام رحمه الله نام الإمام أحمد على فراش الموت في السابعة والسبعين من عمره، وجلس إلى جواره ولده عبد الله، فرأى الإمام أحمد يقول: لا بعد لا بعد لا بعد، فتعجب ولده، فلما أفاق الإمام بين سكرات الموت وكرباته، قال: يا أبتي! ماذا تقول، أراك تقول: لا بعد لا بعد؟! أتدرون ماذا قال أحمد؟ قال: يا بني! إن إبليس جالس عند رأسي بحذائي عاض على أنامله، يقول لي: يا أحمد! لقد فتني في حياتك، ولو فتني اليوم ما أدركتك بعد اليوم، مت يا أحمد على اليهودية مت يا أحمد على النصرانية، وأنا أقول: لا بعد لا بعد حتى ألقى الله عز وجل موحداً على لا إله إلا الله. أحمد يفتن عند موته، ولكن أنى لأهل الاستقامة وأهل الإيمان أن يفتتنوا والله جل وعلا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30-32] ؟! ودخل عليه أبو بكر المروزي فقال له: يا أحمد! كيف أصبحت؟ فقال أحمد: وكيف يصبح من ربه يطالبه بأداء الفرض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، ونفسه تطالبه بهواها، والملكان يطالبانه بتصحيح العمل، وإبليس يطالبه بالفاحشة، وملك الموت يطالبه بقبض روحه؟!! ومات الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه وصلى الله على أستاذه ومصطفاه، وجمعنا الله بهما في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك ومولاه. وأعتذر لكم أحبتي عن الإطالة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 12 التعصب للإمام يخالف مذهبه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: أيها الأحبة! فـ أحمد بشر يخطئ ويصيب، ويؤخذ منه ويرد عليه، فقد أبى الله تعالى ألا يكون الكمال إلا له، وأن يلبس ثوب العصمة إلا لأنبيائه ورسله، فإلى كل متعصب للإمام ومذهبه مع مخالفة الدليل الصحيح من القرآن والسنة أقول: إن أحمد بشر، واعلم بأنك بتعصبك للإمام ولقوله مع مخالفته للدليل الصحيح من القرآن والسنة -أحياناً- قد خالفت بذلك إمامك وخرجت على قواعد وأصول مذهبه، فإلى النبعين الصافيين اللذين استقى منهما أحمد مذهبه، ولكن إن قال بقوله فقد يخطئ ويصيب؛ لأن الإمام مالك قال قولته الخالدة: كل يؤخذ منه ويرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم. فهيا يا أبناء الصحوة وهيا أيها المسلمون إلى حب الأئمة واقتفاء آثارهم، والآخذ من النبعين الصافيين الكريمين القرآن والسنة الصحيحة، فهذا هو الطريق الصحيح الذي لا عز لنا ولا سعادة لنا في الدنيا والآخرة إلا بالسير فيه. أسأل الله جل وعلا أن يجزي عنا هؤلاء الأئمة خير ما جزى الله تبارك وتعالى مصلحاً أو صالحاً. اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحببينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 13