الكتاب: تفسير سورة النور المؤلف: محمد بن محمد المختار الشنقيطي مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 6 دروس] ---------- تفسير سورة النور محمد المختار الشنقيطي الكتاب: تفسير سورة النور المؤلف: محمد بن محمد المختار الشنقيطي مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 6 دروس] سلسلة تفسير سورة النور [1] إن دين الإسلام أقوم الأديان، وشريعته هي أوسط الشرائع، فقد جاء هذا الدين باليسر والتبشير، والله عز وجل بحكمته وعلمه جعل في هذا الدين حدوداً تصون المجتمع، حتى لا يتعدى حماه. وبحفظ الحدود تحفظ الأعراض والأموال، وإن من العقوبات والحدود التي أقرت حفظاً للأعراض حد الزنا، لما لانتشار هذه الفاحشة من هتك للأعراض واختلاط للأنساب، لذا فقد رتب الله لهذه الجريمة حداً يتناسب مع عظمها وخطورتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 علم القرآن هو أفضل العلوم وأشرفها بسم الله الرحمن الرحيم {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [القرقان:1] . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [الإسراء:30] ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه فجعله بشيراً ونذيراً، {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب:46] ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: الحمد لله الذي جمعنا في هذا المكان الطيب المبارك، والحمد لله الذي جمعنا في بيت من بيوته على أشرف كلام وأكمل نظام، جعله الله عز وجل نوراً وطريقاً إلى رحمته ودار السلام، الحمد لله الذي جمعنا على القرآن، وألف بين قلوبنا بالقرآن، وهدانا إلى رحمته بالقرآن، فليس هناك مكان أشرف عند الله عز وجل من مكان تتلى فيه آيات الله، ولا زمان أفضل من زمان يقضى في بيان كتاب الله. لذلك فإن العناية بكتاب الله عز وجل ومذاكرته وتفهُّم معانيه وترسُّم هديه، نعمة من الله تبارك وتعالى. ولذلك اصطلح العلماء رحمهم الله على تسمية هذا العلم بعلم التفسير، وإن عمَّموه قالوا: علم القرآن، وأرادوا بذلك العناية بكتاب الله عز وجل بمعرفة حدوده، والوقوف عند آياته وعظاته. ومن ثم كان أشرف العلوم وأزكاها وأعلاها: علم تفسير كتاب الله بمعرفة حلاله وحرامه، ووعده ووعيده، وبشارته ونذارته، والوقوف على أحكامه، وتبين مسائله وشرائعه، فالعناية بذلك كله توفيقٌ من الله تبارك وتعالى، ومنحةٌ وعطيةٌ من الله سبحانه وتعالى. إن كتاب الله هو حبله المتين، وصراطه المبين، وحجته على الجاحدين، ومحجته المفضية إلى رضوانه المبين، إنه كتاب الله الذي تنشرح به الصدور، وتستنير به القلوب، فكم أدمع لله عيوناً، وكم أسهر من خشية الله عز وجل جفوناً، وكم أخشع لله قلوباً، وكم أقام بين يدي الله أقداماً، وكم أصبح من أجله العبادُ صياماً، إنه كلام الله الذي هو حبل الله المتين، وعروته الوثقى، بيَّن الله عز وجل فيه الحلال والحرام، وجعله السبيل الوحيد إلى دار الكرامة والسلام، إنه كتاب الله الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، من ارتوى منه فقد ارتوى من المعين الصافي، ومن ارتوى من ذلك المعين فلا يضل ولا يشقى. قال بعض السلف: ضَمِن الله عز وجل لمن قرأ كتابه، فأحل حلاله وحرم حرامه؛ أن لا يضل ولا يشقى، قال الله عز وجل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 حال السلف مع القرآن هذا الكتاب هو الذي بيننا وبين الله، من أحب هذا الكتاب واطمأن لآياته وعمل بعظاته، ووقف عند حدوده، بلَّغه الله عز وجل سعادة الدارين، وأصاب الفوز في الدارين، ولذلك لما علم السلف الصالح رحمة الله عليهم حقيقةَ العلم، استعصموا بهذا الكتاب بعد الله، واستمسكوا به، فكانوا به رهبان الليل، وفرسان النهار، ظمئوا من أجله بالهواجر، وقطعوا به الليل تسبيحاً وقرآناً. فإذا أراد الله بالعبد السعادة، وأراد أن يبلِّغه مرتبة الولاية: شرح صدره للقرآن، ونور قلبه بالقرآن، وجعله محباً للقرآن، محباً لتلاوته، محباً لمعرفة أحكامه وحدوده، محباً للعمل بما علم من ذلك القرآن، وقد أشار النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى هذا الفضل العظيم والمقام الكريم، فقال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فشهد عليه الصلاة والسلام بأن خير العباد مَن تعلم كتاب الله، وعمل بما علم منه، وكذلك علمه للغير. وكان الصحابة رضوان الله عليهم على وعي كامل بهذه الحقيقة؛ فكان الرجل منهم يترسم كتاب الله عز وجل في ليله ونهاره في غيبته ومشهده؛ ففي غيبته عن الأنظار -خالياً وحيداً- يتلو كتاب الله بقلب يتدبره، وعين تخشع لآياته وتدمع من عظاته، وكذلك في المشهد على ملأٍ من الناس يفجر حكمه وأسراره، ويبيِّن أحكامه وأخباره؛ فلما كانت هذه أحوالهم رفع الله عز وجل شأنهم، وقذف في قلوب العباد محبتهم؛ فكانوا أهل القرآن، وكانت حياتهم مع القرآن ليلهم مع القرآن نهارهم مع القرآن، وأبت نفوسهم الأبية أن تخلِّف هذا الكتاب وراء الظهور حتى لقنوه صغارهم، وأدبوا عليه أطفالهم؛ فنشأ الصغير محباً لكتاب الله، وترعرع الطفل على محبة كلام الله؛ فأصبحت قلوبهم معلقةً بهذا الكتاب، وأصبحت مساجدهم تعج بأصواتهم تلاوةً للقرآن وتفسيراً. وكل ذلك يدلنا على منزلة كلام الله عند عباد الله الأخيار، وصفوته الأبرار من سلف هذه الأمة الصالح. ومن هنا نقول: لا صلاح للخلف إلا بترسم منهج السلف، كما قال الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس رحمه الله: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 هجر القرآن سبب الهوان على الله فلما تنكب العباد عن هذا الهدي القويم، وحادوا عن هذا الصراط المستقيم، وأصبح كتاب الله مهجوراً، وتلاوته غروراً، وأصبح الإنسان لا يعرف القرآن إلا بلسانه، أما العمل والتطبيق والتحقيق للغاية منه، والسير على هذا المنهج -منهج النبي والصحابة- فغائب عن واقع حياتنا. ولما أصبحنا بهذه المثابة وتنكبنا عن صراط الله، وذهبت حلاوة القرآن من القلوب، وأصبح كثير من الناس لا يجد لكلام الله أثراً، ولا يجد له لذة وعظةً في قلبه وفؤاده؛ صرنا إلى ما نحن فيه الآن. من هنا علمنا أن الداء كل الداء، والبلاء كل البلاء في إعراضنا عن كتاب الله، وصدق الله عز وجل إذ يقول في محكم كتابه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124-126] . إن أحَبُّ المجالس إلى الله مجلس يُعْمَر بكلام الله، وأطيب الحديث حديثٌ يذكَّر فيه بكلام الله. ومن هنا أحببنا أن يكون هذا المجلس في تفسير كلام الله عز وجل، وفي بيان ما اشتمل عليه هذا الكلام من نَظْم بديع، ومعنى رفيع، يهدي إلى صراط الله عز وجل المستقيم، وسبيله القويم. أحببنا أن نتشرف بالتأسي بالسلف الصالح، فنُبَيِّنُ -ويُبَيَّنُ لنا- ما في هذا الكتاب من عظات، علها أن تكون سبباً لنا في القُرْب من رب الأرض والسماوات. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا المجلس خالصاً لوجهه، نافعاً يوم لقائه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يوفقنا فيه لصلاح القول والعمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 تفسير سورة النور قد كنتُ أحب أن أبتدئ مباشرة بتفسير هذه السورة التي اخترناها -أعني: سورة النور- ولكني نظرت إلى الجمع وعلمت أن الكثير يحتاج إلى شيءٍ نمهد به لبيان هذه السورة، وبيان مكانتها ومنزلتها، بعد أن نبين فضل القرآن وفضل العناية به؛ فلذلك أحببت أن أقدم بهذه المقدمة، وقد كان من المقرر أن نتكلم على بعض الأمور المهمة التي ينبغي لكل طالب علم أن يعتني بها في تفسير كتاب الله عز وجل؛ ولكني نظرتُ إلى الجمع ووجدت أن بيننا أناساً لهم حق علينا، وأن ذكر هذه المسائل قد يشوش عليهم، فآثرت أن يكون الكلام على قواعد التفسير ومسائله وضوابطه عند العلماء رحمهم الله هو خاتمة سورة النور إن شاء الله تعالى. وبعد أن ننتهي من تفسيرها بإذن الله عز وجل، سنتكلم بإسهاب في قواعد التفسير وضوابطه عند سلف الأمة وخلفها رحمة الله على الجميع. ونسأل الله عز وجل أن يمن علينا جميعاً بالتوفيق والسداد. وإنما قدمت بهذه المقدمة لما رأيت معنا الكثير من العوام، والذين يحتاجون إلى أن يُذكَّروا بهذه الذكرى، وإلا كان من المقرر أن نبدأ مباشرة في التفسير. وأنبه هنا على أمر: وهو أني كنت أحب أن يكون التفسير بذكر القراءات، وأوجه اللغات، والبسط في الأحكام والمسائل الفقهية، ولكني أخشى أيضاً التشويش على العامة. ومن هنا إن شاء الله سيكون تفسيرنا بإذن الله وسطاً لطلاب العلم بحيث يكون كالبداية لطالب العلم؛ لأننا لا نحب أن يكون فيه تشويش على العامة، كما ورد في الأثر: (حدثوا الناس بما يعلمون) . فإن شاء الله سيكون في هذا القدر حظ لطالب العلم، وللعامي حتى تكون الفائدة للجميع. وسنبدأ إن شاء الله بسورة النور، وسيكون منهجنا بإذن الله عز وجل التركيز أكثر ما يكون على بيان العقيدة والأحكام الشرعية وما يتبع ذلك من الآداب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 تسمية سورة النور بهذا الاسم سورة النور، هذه السورة العظيمة سميت بالنور لقول الله تبارك وتعالى فيها: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] ، وهذه التسمية لهذه السورة الكريمة إنما هي من باب تسمية الشيء بما ورد فيه، فتسمية سور القرآن بما ورد فيها من الحوادث، أو بما ورد فيها من الأحكام المهمة؛ وهو منهج موجود في كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك سميت بهذا الاسم لشرف الآية المذكورة، قال العلماء: إن تسمية السور بما ورد فيها يعتبر من باب الدلالة على ذلك الجزء المسمى به، سواء كان حكماً، أو كان قصةً، أو كان خبراً. وهذه السورة مدنية بالإجماع، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، والسور المدنية التي تمتاز ببيان الشرائع والأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 خصوصية سورة النور في استفتاحها استفتح الله تبارك وتعالى هذه السورة بتنبيه العباد إلى فضلها، وعلو مكانها ومنزلتها. فقال جل من قائل بعد أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحَيْمِ {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] قد كان من عادة القرآن أن تُسْتَفتح السور فيه بمقاصده، ويذكر الله عز وجل فيها ما يذكره، ولكن هذه السورة خاصة استفتحها الله عز وجل بتنبيه العباد على عظيم شأنها، ولذلك اعتُبر من خصائص سورة النور أن الله عز وجل استفتحها ببيان فضلها، فهذه منزلة لسورة النور لم تشاركها فيها غيرها من سور القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 مجمل الموضوعات التي تناولتها سورة النور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 التحذير من اتباع خطوات الشيطان ثم انتقلت الآيات إلى بيان أسباب الشرور والفتن والمحن كلها، وذلك في آيةٍ مشتملةٍ على وصية من الله، يقول الله عز وجل فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21] ، فرَدَّ الأمور إلى أسبابها، وأقامها في نصابها، وبيَّن أنها بسبب تتبع الشيطان، وأن الإنسان لا يُبْلى بفاحشة ولا منكر إلى من طريقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 بيان عظمة الله بذكر آياته في الكون ثم مضت السورة إلى ما يتبع ذلك من بيان عظمة الله تبارك وتعالى وجلاله، فتحدثت عن آيات الله في الكون، فذكَّرت بآياته على الأرض، وذكرت بآياته في السماء، وذكَّرت بآياته بين السماء والأرض، حتى ذكّرت بالطير صافات، تسبح بحمد ربها، وتذكر خالقها، فحركت هذه الآيات من المؤمن أحاسيسه ووجدانه في طاعة الله عز وجل وذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 بيان شروط الاستئذان وآدابه ثم انتقلت هذه الآيات بعد ذلك إلى بيوت المسلمين، فأدبت الصغير والكبير في الدخول والخروج، وأثبتت وجوب الاستئذان، وبيَّنت حدوده وزمانه، وبيَّنت البيوت التي يجب الاستئذان عند دخولها، والبيوت التي لا حرج في دخولها من دون استئذان. ثم انتقلت الآية من مَعْلَمِ خير إلى مَعْلم خير آخر، حتى خُتِمت بالدلالة على عظمة الله، وبيان جلال الله تبارك وتعالى. وهذا كله بأسلوب رفيع، ونظم بديع، يذكر بالله العظيم السميع. وبداية ومع هذه السورة الكريمة نسأل الله عز وجل أن يفتح علينا فيها فتوح العارفين به، وأن يلهمنا سداد القول والعمل. والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 النزول ببراءة عائشة رضي الله عنها ثم بعد ذلك انتقلت هذه السورة الكريمة إلى قضية عظيمة عاشها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاشتها أم المؤمنين في أيام عصيبة، وليالٍ مؤلمة، لا يعلم ما بلغ بها من الهم والغم غير ربها، فقد عانت ولاقت ما لاقت حتى جعل الله لها فرجاً ومخرجاً، فجاءت هذه الآيات سلواناً للمؤمنات، إذا قُذِفت المؤمنة وأوذيت في عرضها تذكرت بتلك الآيات أمها، فصَبَرت، وسَلَت وتعزَّت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الدعوة إلى إقامة الحدود وهذه السورة بيَّن الله تبارك وتعالى فيها جملة من الشرائع والأحكام، وبيَّن فيها آداب شريعة الإسلام، إذ بيَّن في مطلع هذه السورة الكريمة فضلها، وبعد آية واحدة من مطلعها؛ إذا بآياتها تفاجئك بحد من حدود الله وعقوبة من عقوباته التي كسر بها شوكة الفسق، وقطع بها دابر الفجور والعصيان، هذا الحد هو حد الزنا الذي صان الله عز وجل به أعراض المسلمين، وحفظ به بيوت عباده المؤمنين، فبين سبحانه وتعالى وجوب حد الزنا، وبين مقداره ولزومه، وأوجب على العباد أن يقوموا به، ولا تأخذهم في الله لومة لائم في أداء ذلك الحد والقيام به على وجهه، وبعد تلك الآيات القصيرة في بيان هذا الحد العظيم، إذا به يستفتح بحد آخر وهو حد القذف الذي أدب به ألسن عباده المؤمنين، فصانهم عن قذف المؤمنين والمؤمنات، والتعرض لهم بالبهتان والزور، ونسبتهم إلى الغي والفجور، فابتدأ بحد القذف، فبيَّن الله تبارك وتعالى عقوبته، وحذر العباد من إصابته، ثم بيَّن سبحانه وتعالى بعد ذلك حكم قذف الزوج لزوجته وهي الحالة التي قد يبتلى بها العبد، فيرى من زوجه ما يسوءه لا ما يسره، فيقف ذلك الموقف العصيب بين خيارات مؤلمة، وقفها بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الله عز وجل لهم من ذلك الغم فرجاً، كما في الصحيح من حديث عويمر العجلاني رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! إن قتل قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ) فجاءت هذه الآيات مبينةً لهذا الحد، ومبينةً للّعان الذي به يندفع الشر عن الزوج، ويُصان فراشه، ونسبه وعرضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 تفسير قوله تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون) أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ. بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحَيْمِ. {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:1-3] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 معنى قوله تعالى: (لعلكم تذكرون) لأن الإنسان يمر بثلاث مراحل مع كتاب الله عز وجل: المرحلة الأولى: سماعه والإصغاء إليه. والمرحلة الثانية: تدبره وتفهم معانيه. والمرحلة الثالثة: العمل بمقتضى ذلك التدبر. كما أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 معنى آية قوله: {آيَاتٍ} [النور:1] : جمع آية، والآية في لغة العرب: العلامة. وقوله: {بَيِّنَاتٍ} [النور:1] : أي: بينة واضحة، والبينة في لغة العرب: هي الحجة والدليل الواضح، ومنه قول زهير في قصيدته: أضاءت فلم تغفر لها خلواتها فلاقت بياناً عند آخر معهد دماً عند شلوٍ تحجل الطير حوله وبضع لحام في إهاب مقدد فقوله (بياناً) : أي: وجدت علامة واضحة على فقد صغيرها؛ لأنه يتحدث عن دابة فَقَدَت صغيرها الذي افترسه السبع، فالمراد أن البينة هي العلامة والحجة الواضحة. وقوله تعالى: (بَيِّنَاتٍ) أي: لا لبس فيها ولا غموض. قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] : لعل حرف ترج، أي على رجاء أن تتذكروا، الذِّكْر ضد الغفلة والنسيان، وذَكَرَ الشيءَ إذا استقر في ذهنه وفي ذاكرته، والمراد بالذكرى تأثرُ الإنسان بما يتلى عليه من كتاب الله عز وجل، والذكرى هي المرحلة الثانية الداعية إلى العمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 معنى أنزلناها وبيان علو الله عز وجل وفي قوله تعالى: {أَنْزَلْنَاهَا} [النور:1] : نزل الشيء إذا انحط من مكان عالٍ إلى ما هو أسفل منه. وفي قوله: (أَنْزَلْنَاهَا) إشارة إلى مَن أنزل وإلى الشيء المنَزَّل، فالمُنْزِل هو الله، وعبَّر بضمير الجمع إشارة إلى التعظيم والتفخيم، والعرب تستخدم أسلوب الجمع أو ضمير الجمع للمفرد على سبيل التعظيم والتفخيم، فيقول الرجل المفرد: نحن فلان، أو نحن فعلنا، أو نحن قلنا، كل ذلك على سبيل التعظيم، والله خليقٌ بذلك، فهو المنزِّل سبحانه وتعالى. والضمير الأخير في قوله: (أَنْزَلْنَاهَا) عائد إلى السورة، وفي هذا دليل على علو الله تبارك وتعالى وفوقيته على خلقه خلافاً لمن زعم رد الفوقية، ومذهبُ السلف الصالح رحمة الله عليهم: إثبات الفوقية لله لدلالة الكتاب والسنة على ذلك، قال الله تبارك وتعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] ، وهنا أشار إلى ذلك ضمناً في قوله: (أَنْزَلْنَاهَا) ، كما أشار إلى هذه الصفة ضمناً في قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] ، والأحاديث في الدلالة على هذه الصفة مستفيضة واضحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 معنى: (فرضناها) وفي قوله سبحانه وتعالى: {أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] : (الواو) للعطف، أي: كما أنزلناها فرضناها، وفَرَضَ الشيءَ بمعنى أوجبه، وقيل: فَرَضَ بمعنى قَطَع، ومنه فرضة السهم. وقوله: (فَرَضْنَاهَا) أي: أوجبناها، وهناك قراءتان: - (فَرَّضْنَاهَا) : بالتشديد. - و (فَرَضْنَاهَا) : بالتخفيف. واختلف العلماء رحمهم الله في المعنى: فقيل: (فَرَضْنَاهَا) أي: أوجبنا على العباد تحليل حلالها وتحريم حرامها، وهذا هو قول مجاهد بن جبر رحمه الله تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما. والقول الثاني في قوله: (فَرَضْنَاهَا) أي: بيَّناها وأوضحناها، وهو قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وفي قوله تعالى: (فَرَضْنَاهَا) أي: فرضنا على العباد علمها، وقد اختار بعض العلماء رحمهم الله الجمع بين المعنيين، وهو قول الإمام ابن جرير الطبري رحمة الله عليه، فقد اختار أن قوله تعالى: (فَرَضْنَاهَا) المراد كلا الأمرين: أي أوجبنا على العباد إحلال حلالها وتحريم حرامها، وبيَّنَّا لهم فيها الأحكام والشرائع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الفرق بين قوله: (أنزل) و (نزّل) وفي قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:1] : تارةً يعبِّر القرآنُ بـ (أنْزَل) وتارةً يعبِّر بـ (نَزَّل) ، قال بعض العلماء: هناك فرق بين قوله تعالى: (أنْزَل) وبين قوله: (نَزَّل) ، فإن عُبِّر بـ (أنْزَل) ؛ فالمراد به نزول الشيء كاملاً، وإن عُبِّر بـ (نَزَّل) ؛ فالمراد به تجزئة الشيء ونزوله نجماً نجماً. وهذا هو اختيار طائفة من المحققين رحمهم الله. وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى نزول القرآن جملةً كما في قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:166] ، فعبَّر بـ (أنزل) في الجملة، وأما في التفصيل فقال: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} [الإسراء:106] ، فدل على أن (أنزل) للجميع، و (نَزَّل) للمنجم، وعلى ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] ، أي: أنزلناه كاملاً إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، وهو اختيار طائفة من العلماء والسلف رحمهم الله. يقول تعالى: (وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 معاني السورة يقول الله تبارك وتعالى: {سُوْرَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور:1] : السورة -في لغة العرب- للعلماء فيها قولان: القول الأول: أنها مأخوذة من الارتفاع، ولذلك سُمِّي السور سوراً لارتفاعه عن الأرض، قالوا: سميت السورة سورة لارتفاعها وعلو منزلتها، ولأن القارئ إذا قرأها وحصَّلها حصل مرتبة لم يكن أصابها من قبل، والعرب تصف بالسورة المنزلة العالية والمقام الشريف، ومنه قول النابغة يمدح النعمان بن المنذر ملك الحيرة في قوله: ألم تر أن الله أعطاك سورةً ترى كل مَلْكٍ دونها يتذبذب أي: أعطاك منزلة عالية ومقاماً شريفاً. والقول الثاني: أن السورة مأخوذة من السؤر، وسؤر الشيء بقيته وفضلته، ولذلك يقال: سؤر الدابة، أي: بقية شرابها، وأصل السؤر في لغة العرب: القطعة من الشيء، قالوا: سميت السور سوراً من هذا الوجه؛ لأنها قطعة من القرآن، ولأنها تقطع عن غيرها، وتفصل عن غيرها بالبسملة، وتصبح منفردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 أوجه اعراب (سورة) وقوله تعالى: {سُوْرَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور:1] : قرئت (سورةٌ) على: - أنها خبر لمبتدأ محذوف. - أو أنها مبتدأٌ خبرُه الزانية والزاني. فهذان وجهان للعلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 معنى قوله تعالى: (الزانية والزاني ... ) ومسائل دلت عليها الآيات يقول تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] الزانية: هي المرأة التي فعلت الزنا، والزاني اسم فاعل، أي: الرجل الذي فعل الزنا، والمراد بالزنا: جريمة من الجرائم التي كانت في الجاهلية، وما زالت في الإسلام، ومعناها في اللغة كمعناها في الاصطلاح؛ ولكن في الاصطلاح معنى يُضْبَط به الزنا يختلف عن المعنى العام الموجود في لغة العرب. وقوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] : هذه الآية فيها مسائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 مراتب الزنا والزنا هو إتيان لحد من حدود الله، وجريمة من الجرائم التي لا يحبها الله، وهي كبيرة من كبائر الذنوب؛ ولكن الزنا على مراتب، فبعضه أشد جريمة من بعض، وأعظم عند الله عز وجل أثراً: - فالزنا بامرأة المجاهِد في سبيل الله عز وجل من أعظم الزنا، وأشده إثماً وجرماً -والعياذ بالله-: ولذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن مَن زنا بامرأة المجاهد في سبيل الله أنه يُقام له يوم القيامة على رءوس الخلائق يُخَيَّر في حسناته، يقول صلى الله عليه وسلم: فما ظنكم؟!) أي هل يُبقي شيئاً من حسناته؟! نسأل الله السلامة والعافية من ذلك. - وبعده الزنا في القريبة: فالزنا بالقريبة ليس كالزنا بالغريبة البعيدة، فالزنا بذات القرابة كابنة العم ونحوها أعظم جريمة من الزنا بغيرها، وكلما كانت ألصق بالقرابة كذي المحرم -والعياذ بالله- فهو أشد جريمة، وأعظم انتهاكاً لحد الله. - ومن الزنا المعظم عند الله: الزنا بحليلة الجار: أن يزني الرجل بزوجة جاره أو أخته أو ابنته والعياذ بالله، فهذا من أكبر الكبائر وأشد الجرائم، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سأله أحد صحابته: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خَلَقَك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك) ، فهذا يدل -والعياذ بالله- على عظيم الذنب فيما إذا زنى الإنسان بحليلة الجار، ويشمل ذلك زوجته، وابنته، وأخته، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله! لا يؤمن، والله! لا يؤمن، والله! لا يؤمن، قالوا: مَن يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جارُه بوائقه) فهذا يدل على عظيم الإساءة إلى الجار. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجيرنا وإياكم من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 معالجة الشرع لجريمة الزنا في جميع مراحلها هذه العقوبة من الله علاج لهذه الجريمة التي تُنتهك بها الأعراض، وتختلط بها الأنساب، والإسلام دين حكيم قويم عالج هذه الجريمة قبل وقوعها، وعالجها أثناء وقوعها، وعالجها بعد وقوعها: - فعالجها قبل الوقوع: حينما منع الأسباب المفضية إلى الزنا. - وعالجها أثناء الوقوع: حينما دعا إلى ترك المعصية والبُعد عنها، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين) فأغلقت الشريعة أبواب الزنا، ولذلك منعت المرأة أن تكثر الخروج لغير ضرورة فقال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ، وإذا خرجت نُهيت عن التعطر حتى لا تسترسل الأنظار إليها، وكذلك نُهيت عن الضرب برجليها حتى لا يُعْلَم ما تخفيه من زينتها، ونُهيت عن أمور تكون سبباً في فتنة الغير بها، فلذلك أغلقت بهذه النواهي باب الفتنة، وأمرت المؤمن أن يغض بصره وأن يحفظ فرجه، وأن لا يختلي بامرأة لا تحل له، وأن لا يسافر بامرأة ليست من محارمه، كل ذلك قفلاً لأبواب الفساد وقطعاً لدابر أهل الإفساد. - ولما وقعت هذه الجريمة: قام سلاح الشرع مؤدباً وزاجراً حتى ينكف أهل الفساد عن الفساد، فأمر بعقوبة الزاني والزانية على ملأٍ من الناس وبمحضر من الناس حتى يكون ذلك أبلغ في زجر الغير، وأدعى للبُعد عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 صفة الرجم والفرق بين رجم الرجل والمرأة وأما صفة الرجم: فبالنسبة للرجل: السُّنَّةُ أن يُرجم وهو قائم، وألاَّ يُحفَر للرجل، لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه لما أمر بـ ماعز أن يُرجم رُجِم دون أن يُحفَر له) ، وأما بالنسبة للمرأة فللعلماء في صفة رجمها قولان: - منهم من قال: يُحفَر لها إلى ثديها، ثم تُرجم بعد ذلك. - ومنهم من قال: تُلَفُّ في ثيابها وترجم. والقول بالحفر لها قد ورد به نص عن النبي صلى الله عليه وسلم صحَّحها بعض العلماء، وحكم بثبوتها، فلا مانع من اعتبارها، وهو قول طائفة من السلف والخلف رحمة الله على الجميع. قالوا: الداعي إلى ذلك سترها حتى لا تنكشف. وأما بالنسبة لما يرجم به: فإنه لا يُرْجم بالحصى الصغير؛ لأن رجمه بالحصى الصغير مبالغة في الأذية، وإطالة تعذيب للمرجوم، ولا يُرجم بالحصى الكبير المبالَغ فيه، لما فيه من المبالغة في الإزهاق؛ لأن المقصود النكال، وكذلك المقصود زجر الغير عن هذا الفعل، وإنما يرجم بالحصى الذي هو وسط بين الصغير والكبير. ويكون الجلد والرجم بمحضر جماعة المسلمين: لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] ، فأمَرَ بشهوده وحضوره، لما فيه من العِظَة والعبرة، ومن ثم قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الله عز وجل أوجب هذه الحدود حتى تكون زاجراً عن المعصية، وكذلك عقوبة لمن عصى، ومانعة لمن سلم من المعصية أن يقع فيها، لما فيها من العظة والعبرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 حكم الجلد وصفته، وصفة السوط وفي قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} [النور:2] : الجلد يكون بالسوط ونحوه، والكلام في صفة الجلد يكون في أمور: - منها: حكمه: وهو الوجوب بالإجماع، لظاهر قوله سبحانه: (فَاجْلِدُوا) ، وهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب. - ومنها: بأي شيءٍ يُجلد؟ يُجلد بسوط الذي هو وسط، ليس بشديد الطراوة، ولا شديد اليبس مما يجعله يتكسر لو ضرب به، وإنما هو بين بين، كما ورد في الأخبار والآثار وانعقد على ذلك عمل السلف والخلف رحمة الله على الجميع، فلا يُضرب بسوط يابس يتكسر ويتهشم عند الضرب به، ولا يُضرب كذلك بسوط طري ندي لما فيه من المبالغة في العقوبة والزيادة، وإنما يُضرب بما هو بين ذلك. ومنها: موضع الضرب: وأصح الأقوال عند العلماء رحمهم الله أن الرجل يُضرب قائماً، والمرأة تُضرب جالسة، بعد أن تلف عليها ثيابها، ويُضرب الرجل على ظهره ما بين رقبته وعجزه، ويفرق الضرب على سائر ظهره، ولا يستقر في مكان واحد حتى لا يُتْلِف عضواً من أعضائه. - ومنها: أن الجالد ينبغي له ألاَّ يجلد جلد الحانق، وألاَّ يجلد بموات. والمراد بقولهم: (جلدة الحانق) أي الذي يضرب بغيض، ومثَّل العلماء لذلك بأن قالوا: لا يرفع يده حتى يُرَى إبطه، وإنما يضربه مع استقرار يده على إبطه. وكذلك أيضاً لا يضرب بموات، لقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور:2] ، فالمطلوب هو الوسط، ويُفَرَّق الضرب على الظهر على الصفة التي ذكرناها. وينبغي أن يُختار الوقت المناسب للجلد: فليتخير لذلك اليوم الذي لا يكون شديد الحر ولا شديد البرد، ويجرَّد من ثيابه، ويبقى بثوب واحد يقيه البرد إذا كان ثَمَّ برد، أو يقيه لفح الشمس على ظهره إذا كان النهار صائفاً، ويضربه على هذا الوجه بمحضر جماعة المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 المسألة الثالثة: حكم الزاني الثيب والخلاف في جلده المسألة الثالثة: إذا عرفنا حقيقة الزنا وما يجب بالنسبة للزاني البكر، فالسؤال: ما حكم الزاني الثيب؟ الثيب: هو كل من تزوج، ووطئ في نكاح صحيح، مسلماً، عاقلاً، بالغاً، فإذا تحقق الإسلام، مع البلوغ، مع العقل، مع نكاح صحيح، ووطءٍ صحيح فإنه يُحْكَم بكون الإنسان ثيباً، ولو أن رجلاً تزوج امرأة وعَقَد عليها ولم يدخل بها ثم زنا قبل الدخول بها، فإنه لا يزال بكراً، ولا يُحْكم بكونه ثيباً بمجرد العقد. فالثيوبة بإجماع العلماء يشترط فيها الدخول. وبناءً عليه: فمتى تحقق هذا الوصف -وهو كون الزاني ثيباً- فإن الحكم أنه يُرْجَم، وهذا بإجماع السلف والخلف، خلافاً للخوارج الذين يقولون: إن الثيب إذا زنا لا يرجم؛ لأن الله عز وجل أوجب جلد الزاني ولم يوجب رجمه. ونجيبهم: بأن السنة دلت على الرجم، كما في الحديث الصحيح الذي سبقت الإشارة إليه، فحكمه أنه يجلد أولاً ثم يرجم بعد جلده. وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل يُجلد الثيب قبل أن يُرجم أم لا؟ وذلك على قولين: فذهب الإمام أحمد وداوُد الظاهري وطائفة من السلف إلى أن الثيب إذا زنى يُجمع له في العقوبة بين أمرين: - أحدهما: جلده مائة جلدة. - ثم بعد ذلك يرجم سواءً كان رجلاً أو امرأة. وهذا القول دليله حديث عبادة بن الصامت عند أحمد في مسنده والإمام مسلم في صحيحه من قوله عليه الصلاة والسلام: (. والثيب بالثيب؛ جلد مائة والرجم) . وذهب الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمة الله على الجميع إلى أن الثيب يرجم ولا يجلد، واحتجوا بحديث ماعز في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجمه ولم يأمر بجلده، فدل على أن الثيب يرجم ولا يجلد، وهكذا المرأة التي اعترفت بالزنا أمر برجمها ولم يأمر بجلدها، قالوا: فهذا يدل دلالة واضحة على أن الواجب هو الرجم دون الجلد. وأصح الأقوال -والعلم عند الله- هو الجمع بين الجلد والرجم؛ لأن حديث ماعز وحديث المرأة التي اعترفت بالزنا، فأمر بها، فرجمت، لم يُذكر فيها الجلد، وسُكت عنه، وحديث عبادة نطق فيه بوجوب الجلد، والقاعدة: أنه إذا تعارض المسكوت عنه والمنطوق به فيقدم المنطوق على المسكوت عنه، فاستدلال الجمهور من باب المسكوت عنه، واستدلال الإمام أحمد وداوُد من جهة المنطوق، وهذا أقوى، ولذلك يقال بالجمع بين الجلد والرجم على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله. إذا ثبت هذا فإن هذه العقوبة، وهي معاقبة البكر بجلد مائة وتغريب عام، ومعاقبة الثيب بجلد مائة والرجم، هذه العقوبة، نسخ الله عز وجل بها حكماً سابقاً، ذلك أنه كان في أول الإسلام إذا زنى الرجل أو زنت المرأة يُحبس كل منهما حتى يتوفاه الموت، فجعل الله عز وجل الفَرَج والمخرج، ولذلك ورد في حديث عبادة الذي سبقت الإشارة إليه قوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني، خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر؛ جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب؛ جلد مائة والرجم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 المسألة الثانية: الشروط الواجب توافرها للحكم على الإنسان بالزنا المسألة الثانية: إذا عرفنا الحد الذي صُدِّرت به الآية، فمتى يُحكم بالزنا؟ يشترط في الحكم وإثبات الزنا: - أن يزني بامرأة ليست بزوجة له، ولا بملك يمين. - وأن يكون خالياً من الشبهة كما بيَّن العلماء رحمهم الله، ولذلك قال العلماء رحمهم الله في تعريف الزنا: هو الوطء في غير نكاح ولا شبهة نكاح ولا ملك يمين، فقولهم (هو الوطء) المراد به مجاوزة رأس العضو الذي يتحقق به الزنا، وقولهم (في غير نكاح) خرج وطء النكاح؛ لأنه مباح شرعاً، وقولهم (وغير شبهة نكاح) كأن يطأ امرأة يظنها امرأة له، وليست بامرأة له، أو يقع في شبهة يظنها حلالاً فإذا هي حرام عليه، كالأنكحة الفاسدة التي يتبين فسادُها بعد الوطء، فكل ذلك يدفع عنه الحد؛ لأن الشبهة توجب دفع حد الزنا عن الزاني لما ورد في الأثر من قوله: (ادرءوا الحدود بالشبهات) وهو حديث يروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه ضعيفٌ رَفْعُه، بل هو موقوف على عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وقولهم: (ولا ملك يمين) وهي الأمة التي يتسراها الإنسان؛ لأن ملك اليمين ليس من الزنا في شيء بل هو وطءٌ حلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 المسألة الأولى: ثبوت حد الزنا وتفاصيله المسألة الأولى: دلت الآية الكريمة على ثبوت حد الزنا، وهو جلد كل من الزاني والزانية مائة جلدة؛ ولكن هذا الحد فيه تفصيل دلت النصوص الأخرى على بيانه، وهو أن مَن فعل الزنا لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون بكراً. والحالة الثانية: أن يكون ثيباً سواءً كان رجلاً أو امرأة. أما إذا كان بكراً، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن البكر إذا زنا فإنه يجلد مائة جلدة؛ ولكن اختلفوا؛ هل يجب تغريبه أو لا يجب تغريبه، وذلك على ثلاثة أقوال عند أهل العلم رحمهم الله: - فمذهب الإمام أحمد والشافعي وداوُد الظاهري أنه إذا زنى الرجل البكر بالمرأة البكر فإنه يجب جلد كل واحد منهما مائة جلدة، ثم يغرب سنة كاملة عن أهله، واحتج أصحاب هذا القول بما ثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البكر بالبكر؛ جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب؛ جلد مائة والرجم) ، وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب جلد كل بكر مائة جلدة، وأوجب تغريبَه أيضاً، ولم يفرق بين الذكر والأنثى. - أما القول الثاني في المسألة: فقالوا: لا يجب التغريب أصلاً، لا على الرجل ولا على المرأة، وهذا هو قول الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، وقال الإمام: إن الله عز وجل ذكر الجلد في القرآن ولم يزد على ذلك، فنحن نقتصر على ما ورد به النص في الكتاب، وأما حديث السنة فهو زيادةُ آحادٍ فلا يُعْمَل بها لئلا يكون ذلك من باب نسخ القطعي بالظني، وذلك لا يجوز. - القول الثالث في المسألة: أنه يجب تغريب الذكر ولا يجب تغريب الأنثى، وهذا هو قول الإمام مالك رحمه الله قال: إذا زنى الرجل أقمتُ عليه الحد مائة جلدة، وأغربه عاماً كاملاً عن أهله، وأما المرأة فإنه يجب جلدها مائة جلدة ولا تغرَّب، قال: أما الرجل فاحتج بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في قوله: (البكر بالبكر؛ جلد مائة وتغريب عام) أما الأنثى فإني أسقط عنها التغريب؛ لأنني إذا غرَّبتها فإنه لا يخلو الأمر من حالتين: إما أن أغرِّبها بدون محرم، فأخالف النص الذي ينهى عن سفر المرأة بدون محرم، في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو حرمة) ، وإن غرَّبتها مع محرمها؛ فإنني أعاقب بريئاً لا ذنب له -وهو محرمها الذي سيغرَّب معها- فعلى كلا الوجهين يقول بعدم التغريب لهذا. وأصح الأقوال -والعلم عند الله- وجوب تغريب الرجل والمرأة، وذلك لصريح حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم الذي تقدمت الإشارة إليه. وبناءً عليه: فإن البكر إذا زنى وجب أن يقام عليه الحد مائة جلدة، ويغرَّب عاماً كاملاً. والسؤال: ما هو التغريب؟ التغريب: مأخوذ من الغربة، وأصله سفر الإنسان، وتغريب الزاني بمعنى أن يُبعد عن المكان الذي زنى فيه سنة كاملة، وهذا علاج حكيم أراد به الشرع قطع دابر الفساد، وتهيئة البيئة الصالحة للشاب أو الشابة الذي بلي بالزنا حتى يكون أدعى لتوبته، فإذا غُرِّب عاماً كاملاً قطع عن الفساد الذي عهده، وابتعد عن المكان الذي يحركه للفتنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 سلسلة تفسير سورة النور [2] الجلد حد من حدود الله عز وجل لمن ارتكب الزنا وكان غير محصن، شرعه الله زجراً للعاصي وغيره، وتكفيراً له عما ارتكبه، ولذا فإنه لابد عند إقامته أن يكون على ملأ من المؤمنين، وبشروط مطلوبة يتحقق بها الغرض من إقامة الحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 تفسير قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما) مائة جلدة) … الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: فقد تقدم في المجلس الماضي بيان ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة من حد الزنا، وذكرنا فيه جملة من المسائل الشرعية التي ذكرها العلماء، والتي تتفرع على دلالة هذه الآية الكريمة. يقول الله تبارك وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور:2] (اجْلِدُوا) : فعل أمر، وأصل الجلد سُمي بذلك لمكان إيلامه للجلد، فسمي جلداً من هذا الوجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 معنى قوله: (في دين الله) وقوله: {فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] أي: في حكمه وشرعه. وقال بعض العلماء: (فِي دِينِ اللَّهِ) أي: في طاعة الله عز وجل، ولذلك قال الله عز وجل عن يوسف: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] أي على نهجه وشريعته، فالمراد بقوله: (فِي دِينِ اللَّهِ) أي: في طاعته وحكمه سبحانه وتعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 معنى الرأفة يقول تبارك وتعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] الرأفة: هي الرقة والرحمة وللعلماء في هذا النهي الذي ورد في هذه الآية وجهان: الوجه الأول: مِن العلماء مَن قال: إن الله تبارك وتعالى أراد بهذه الكلمة ألاَّ يمتنع الإنسان من إقامة الحد على الزاني، أو إقامة الحد على الزانية شفقةً عليهما، بل ينبغي ألاَّ تأخذه في الله لومة لائم، وينبغي عليه أن يعلم أن الله أرحم بعباده من عباده بأنفسهم، فهو الذي شرع ذلك، فلابد من مضي شرعه، ولذلك حذر الشرع أيُّما تحذير من تعطيل الحدود، ومن عطل الحد فإنه آثم شرعاً، ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، ولذلك ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على عظم شأن الحد، وأنه يُشرع للإنسان أن يدفع الحد بشرط أن لا يبلغ السلطان، فإذا بلغت الحدود إلى السلطان فلعنة الله على الشافع والمشفِّع، وهذا يدل على أنه إذا ثبت الحد الشرعي فلا وجه لتعطيله، ولا وجه للمنع منه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما شُفع في الحد عنده: (أتشفع في حد من حدود الله؟! -استفهام إنكار، أي: ويحك هل تشفع في حد من حدود الله؟! - ثم رقى المنبر وقال: والذي نفسي بيده! إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم القوي تركوه، والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وهذا يدل على عظم شأن الحدود، ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه فيما أُثر عنه: (إقامة حد لله خير من أن يمطر الناس مائة عام) . وهذا يدل على عظم الحد عند الله، وعظم منزلته عند الأخيار من عباد الله. الوجه الثاني: يقول بعض العلماء: المراد من هذه الآية التحذير من التساهل أثناء الضرب، فيضرب الجالد ضرباً رقيقاً رفيقاً من باب الرأفة، فأراد الله عز وجل بهذه الآية الكريمة أن يكون الإنسان حال إقامته للحد على الحال الذي ينبغي أن يكون عليه من إقامة الحد، فقوله: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) على هذا القول المراد به أن يضرب الضرب الوسط الذي لا رأفة فيه ولا شدة، ولذلك قال بعض العلماء: إنه إذا ضرب لا ينبغي له أن يُبْعِد العضد عن جنبه، وإنما يضرب ولا يتكاسل في ضربه، ويكون وسطاً بين الضربين، فيضرب ضربة بين الضربتين، وهي التي يسميها بعضهم الضربة بين الحانق وهو الرجل الغضبان، وبين المتماوت الذي يضرب ضرباً يسيراً أو رفيقاً، فالمراد بهذه الآية الكريمة على هذا القول أن يكون الإنسان أثناء جلده مراعياً لحد الله، فلا يتساهل ولا يرأف بالشخص المحدود سواءً كان رجلاً أو كان امرأة، ولذلك استشهد بهذه الآية الكريمة عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه ليدلل بها على ما ينبغي أن يكون عليه الجالد. يقول الله تبارك وتعالى: {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2] : أي: يا معشر أهل الإيمان! إن كنتم من أهل الإيمان بالله واليوم الآخر فعظموا حدود الله، وأقيموا شرع الله، ولا تأخذكم في ذلك رأفة تحول بين إقامة الحد على وجهه، بل ينبغي أن تكون الحمية لله، وأن تكون العصبية لدين الله وشرعه وحكمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 حد العبد والأمة يقول الله تبارك وتعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور:2] : الأمر بضرب مائة جلدة هذا عام؛ ولكن يُخصَّص من عمومه الرقيق فيضربون خمسين جلدة، وهكذا الأمة الرقيقة فإنها تُجلد خمسين جلدة لقول الحق تبارك وتعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] أي: عليهن نصف ما على الحرائر من العذاب، وهذا يدل على أن العبد يُجلد نصف ما يُجلده الحر، وكذلك بالنسبة للأمة تُجلد نصف ما تُجلده الحرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 التجريد من الثياب حال الجلْد المسألة الثالثة: إذا جُلد الزاني أو جُلدت الزانية هل يجردان من الثياب أم تبقى عليهما ثيابهما؟ أما الزانية فاتفق العلماء رحمهم الله على أنها يبقى عليها من ثيابها ما يسترها؛ لأنه إنما يطلب إيلامها، وإيلامها يتأتى مع وجود الثوب عليها، ولأنه من المطلوب شرعاً حفظ عورة المرأة، فكشفها أمام الناس فضيحة وأذية لها وفتنة للناظر، وكل ذلك مخالف لمقصود الشرع الذي يراعي سد أبواب الفتنة، بل إن حد الزنا إنما شرعه الله لقفل باب الفتنة، فالقول بتجريدها موجب لذلك؛ فلذلك أجمع العلماء على عدم تجريدها، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما اعترفت المرأة بزناها قال الصحابي رضي الله عنه: (فأَمَر بها فشُكَّت عليها ثيابها، وفي رواية: فشُدَّت عليها ثيابها) . فقوله: (فشُكَّت) : أي: وُضِع الشوك في داخل العباءة حتى يكون بمثابة الخيط، حتى لا تتكشف إذا تحركت من شدة ضربها ورجمها. وفي الرواية الثانية: (فشُدَّت عليها ثيابها) أي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تُشَدَّ ثيابها عليها على وجه إذا تحركت لم يبد شيء من عورتها وأعضائها. فهذه السنة تدل دلالة واضحة على أنه ينبغي ستر المرأة إذا أقيم عليها الحد. أما بالنسبة للرجل فللعلماء في تجريده أقوال: القول الأول: أنه يجرد أثناء إقامة الحد عليه، وهذا هو مذهب الشافعية والمالكية، يقولون: إنه يجرد من ثوبه. والقول الثاني: يقول بأنه لا يجرد من ثوبه، وهذا مأثور عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وقال بعض السلف: إنه لا يشرع تجريد الزاني من ثوبه. والقول الثالث: أن القاضي أو الإمام مخير، فإن شاء جرده من ثيابه إذا أراد أن يزجر الناس، وكان ذلك أبلغَ في زجره وزجرهم فإنه يشرع له أن يجرده وإلا ضربه وثيابه عليه. ولكن ينبغي أن يُعْلَم -والذي يظهر والعلم عند الله- أنه لا يُحكم بتجريده من ثيابه إلا بدليل يدل على ذلك، اللهم إلا أن يقال: إن أمر الله عز وجل بالجَلد يدل على طلب إيلام الجِلد، وذلك إنما يكون بالتجريد أكثر مما إذا كان عليه ثوبه؛ ولكن يُجاب بأنه وإن كان عليه ثوبه فإن الألم موجود، وإيلام الجِلد ممكن، فلا وجه لزيادة ذلك بطلب تجريده، ولأنه أبلغ كذلك في أذيته والإضرار به، فهو نوع عقوبة قد تكون زائدةً لعدم وجود النص الذي يدل على ذلك، فالقول بأنه يبقى عليه من الثياب ما يستره من القوة بمكان؛ لكن ينبغي أن يستثنى من ذلك الثياب الغليظة، ولذلك قال العلماء: إذا كان له ثوبان أحدهما غليظ والآخر رقيق فإنه يجرّد عن الثوب الغليظ ويطلب منه أن يلبس الثوب الذي هو أرق منه حتى لا يكون الثوب مانعاً من وصول الضرب؛ فلذلك يشرع إزالة ما يمنع من إقامة الحد على وجهه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 من يتولى الجلد وقوله تعالى: (فَاجْلِدُوا) ظاهر هذه الآية الكريمة: أن جميع المسلمين يقومون بجلد الزاني والزانية، وليس المراد أن يقوم كل شخص بجلد الزاني، أو جلد الزانية؛ ولكن المراد أن يقوم به المعني بذلك الأمر، كما قرر ذلك المفسرون رحمهم الله، فقالوا: إن الآية أمرت بالنص العام، والمراد بها طائفة مخصوصة، وهم الحكام وولاة الأمر. فقوله: (فَاجْلِدُوا) المخاطب به ولي الأمر، ومن يقوم مقامه كالقاضي ونحو ذلك ممن يفوض في إقامة الحدود والقيام عليها. ويتفرع على هذا المعنى -استنباط أن الأمر متوجه إلى الولي الذي هو معني بإقامة الحدود- أنه لو قام إنسان فجلد زانياً أمام جماعة من الناس دون سلطة شرعية لم يسقط الحد؛ لأنه ينبغي أن يكون ذلك بالحكم الشرعي المترتب على ثبوت زناه، ثم بعد ذلك يُحكم بجلده. وقوله تعالى: (فَاجْلِدُوا) قد تقدم بيان أن الجلد إنما يكون بالسوط، والمراد ما كان من السوط وسطاً، فليس بالسوط الطري، ولا بالسوط اليابس الذي يتهشم عند الضرب به، فالمراد به كما يقول العلماء: السوط بين السوطين، أي: الذي هو وسط بين الطري واليابس الذي يتهشم عند الضرب به، وقد حُفِظَت في ذلك آثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الخلفاء الراشدين وغيرهم أنهم اعتبروا الوسط في السوط. والأصل في إقامة الحد أن يحضره من كان من أهل الفضل ونحو ذلك ممن يكون على بصيرة بأحكامه، حتى يقام الحد على وجهه الشرعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 ما يجلد من الزاني وقوله: (فَاجْلِدُوا) يكون الجلد -كما قلنا- بالسوط. والسؤال: ما الذي ينبغي جلده من الزاني والزانية؟ للعلماء في هذا وجهان: الوجه الأول: أنه يُجلد ظهر الزاني وحده، وهذا هو قول الإمام مالك رحمه الله. والقول الثاني: أنه يجلد سائر الأعضاء إلا الوجه والفَرْج فإنهما يُتَّقيان لمكان الضرر المترتب على ضربهما، فيفرق الضرب في سائر الظهر ونحوه من الأعضاء: كالساقين، وأسفلهما، وما علا من الظهر. وهذا الوجه هو قول جمهور العلماء، وممن نص على ذلك فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع، واحتج الإمام مالك رحمه الله بقصر الضرب على الظهر بحديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه أنه قال: (إن هلال بن أمية قذف امرأته بـ شريك بن سحماء عند النبي صلى الله عليه وسلم فلما قذفها قال له النبي صلى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك) . وجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح: يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم خيَّره بين أمرين: فقال: إما أن تقيم البينة على أنك صادق في أن زوجتك زانية، وإلا أقيم عليك الحد في ظهرك. فقَصَر الحد في ظهره. فدل هذا دلالة واضحة على أن الحد إنما يكون في الظهر، واحتج الجمهور بما ورد في حديث علي -يُروَى مرفوعاً وموقوفاً- رضي الله عنه وأرضاه أنه أمر بجلد الزاني فقال رضي الله عنه: (اضربه وأعط كل عضو حقه واتقِ الفرج والفخذين، واتقِ رأسه ومذاكيره) . قالوا: فهذا يدل على أنه ينبغي تفريق الضرب. ثم قالوا أيضاً: وهذا الحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه، وكذلك ابن أبي شيبة والبيهقي والصحيح أنه موقوف على علي رضي الله عنه وأرضاه، ويقول أصحاب هذا القول: إنه إذا تفرق الضرب في الظهر فإن ذلك أدعى إلى الإيلام، وأبعد عن أذية العضو؛ لأنه يُخشى إذا ضُرِب في مكان واحد، أن يحصل الضرر للعضو الذي يضرب، وهذان القولان مشهوران عند أهل العلم رحمهم الله، والسنة تقوي المنزع الأول إلا أن يقال: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (البينة أو حد في ظهرك) المراد به ذكر أشهر المواضع؛ لأن أكثر المواضع التي تضرب عند ضرب الإنسان في حد الخمر وحد الزنا وحد القذف إنما هو الظهر؛ فلذلك ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لا لبيان الاقتصار وإنما لتهديده وتخويفه وبيان الحكم المترتب على قذفه بدون بينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 هل يجلد قائماً أم قاعداً المسألة الثانية في الجلد: هل يُضرب الزاني قائماً أو قاعداً؟ قولان للعلماء رحمهم الله: - فمنهم من قال: إنه يضرب قاعداً على ظهره، وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله. - والقول الثاني: أنه يضرب وهو قائم واقف، وهذا هو مذهب بعض الفقهاء من الشافعية والحنفية رحمة الله على الجميع. ولكلا القولين وجهه؛ لكن إذا قلنا: إنه يشرع تفريق الضرب في سائر البدن فإنه في هذه الحالة يشرع إقامته، وهذا أبلغ في تفريق الضرب على سائر بدن المجلود والمحدود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 معنى قوله تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 تفسير نكاح الزاني أو الزانية أما قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] . فقوله: (الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) للعلماء في هذه الآية أقوال: القول الأول: المراد بهذه الآية: أن (الزَّانِي) أي: فاعل الزنا، (لا يَنْكِحُ) أي: لا يزني إلا بامرأة زانية مثله -أي: تتعاطى الزنا والعياذ بالله- أو بامرأة مشركة. هذا القول لـ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما واختاره جمع من أهل العلم، فيكون المراد بالآية الكريمة: أن فعل الزنا لا يكون إلا في امرأة زانية، أو أن فعل الزاني للزنا لا يقع إلا بامرأة مثله أو بامرأة مشركة لا تؤمن بالله واليوم الآخر -والعياذ بالله-. القول الثاني: إن هذه الآية الكريمة نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي، فروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يسافر بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويهاجر بهم، ثم إنه كانت له صاحبة في الجاهلية بغيٌّ من بغايا الجاهلية تسمى عناقاً، فأراد أن ينكحها فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أنكح عناقاً -أي: هل أتزوج عناقاً؟ - فأنزل الله عز وجل هذه الآية الكريمة) أي: ما كان لك أن تنكح هذه الزانية المشركة بالله. القول الثالث في هذه الآية الكريمة: أنها نزلت في أهل الصفة، كانوا على فقر وضعف، وكان بالمدينة بغايا يتعاطين الزنا والعياذ بالله! وكان المال بأيديهن كثيراً، وكان هؤلاء القوم والرجال يذهبون إليهن، ويطعمون من الطعام ويشربون من الشراب، فنزلت الآية وهي تتضمن المنعَ من ذلك وتبشيعَه. القول الرابع: أن (الزَّانِيَة) المراد بها أم مهزول -وهي امرأة كانت من البغايا وممن يتعاطى الزنا- أراد بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها، فأنزل الله عز وجل هذه الآية الكريمة. القول الخامس: أن هذه الآية منسوخة، نسخها قولُ الله تبارك وتعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] ووجه ذلك أن الله حرم نكاح الزانية، ثم بعد ذلك استثنى على تفصيل عند أصحاب هذا القول. وهناك قول سادس في هذه الآية: أن المراد: تحريم نكاح الزانية، وأنه إذا تزوج العفيفُ الزانيةَ، أنه يدخل في دلالة هذه الآية الكريمة، فيحرُم على الإنسان أن يتزوج المرأة الزانية، وفرَّعوا على هذا القول أنه لو زنى الزوج انفسخ عقده من المرأة العفيفة، ولو زنت زوجته انفسخت من عقد زوجها العفيف. وهذا القول قول ضعيف؛ لأن الآية أصح الأقوال فيها: هو القول الأول أن المراد: لا يفعل الزنا إلا بامرأة مثله أو بامرأة كافرة لا تؤمن بالله واليوم الآخر، ويرجح ذلك أنه سياق الآية، والسياق معتبر، فسياق الآية في ذم الزنا وتبشيعه والتحذير منه، فحمل الآية على هذا الوجه أنسب وأقرب. وإننا لو قلنا: إنها على ظاهرها لأدى ذلك إلى جواز نكاح المرأة الزانية المؤمنة من الرجل الكافر المشرك، وهذا أمر لا يقول به أحد، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز إنكاح المؤمنة -ولو كانت زانية- من رجل كافر؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] فدل على تحريم نكاح الكافر من مؤمنة. وقوله الله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] : أي: حُرِّم فعل الزنا على المؤمنين، فدل هذا على أن المراد بالآية التبشيع والتهديد. والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 مقصد الشارع في شهود حد الزنا يقول الله تبارك وتعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] : خص الله عز وجل الشاهدين بكونهم من أهل الإيمان، ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله في أمر الله عز وجل بشهود حد الزنا للطائفة: فمن العلماء من قال: إن المراد بذلك أن يرتدع الناس وينزجروا عن إصابة حد الزنا، فمن وقف على زان أو وقف على زانية يقام عليهما الحد، فإن ذلك أبلغ في زجره وخوفه من الله عز وجل، ولذلك قالوا: السعيد مَن وُعظ بغيره، والشقي مَن شقي في بطن أمه، فالسعيد من اتعظ بغيره فرأى النكال والعقوبة بإساءته، فاجتنب الإساءة التي توجب الوقوع في مثل تلك العقوبة، ولذلك بين الله تبارك وتعالى حينما أوقع عذابه بمن كفر وطغى وبغى، فقال تعالى بعد أن بين ذلك: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:13] إلى غير ذلك من الآيات التي بين الله تبارك وتعالى فيها، أن مَن كان له قلب يعي به أو فهم يتدبر به يرتدع برؤيته لما يحصل لغيره وينكف وينزجر، ولذلك قال العلماء: إن شهود الناس للحدود يمنعهم من الوقوع بها، ويدعوهم إلى الانكفاف والبعد عن أسبابها الموجبة للتلبس بها، وقال بعض العلماء: إن قوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أمر الله عز وجل بشهود هذه الطائفة، والمراد: أن يكون أبلغ في أذية الزاني والزانية، فيُشْتَهر زنا كل واحد منهما عند الناس، فيكون ذلك أبلغ في إيلامهما، وكذلك أبلغ في زجرهما وحذر الناس منهما على أعراضهم، فهذا مِن مقصود الشرع. والذي يظهر -والعلم عند الله- أن الحكم بوجوب شهادة حد الزنا أنه يشمل الأمرين: - أن فيه زجراً للناس عن التلبس بحدود الله ومحارمه. - وكذلك فيه تكفير وإيلام للشخص الذي ارتكب الجريمة. فلما وُجدت الفائدتان، ووجدت المصلحتان وترتبا على هذا الحد فلا مانع من القول بأن وجوب شهادة الحد المراد به كلا الأمرين، ولا يُخص شيءٌ منهما لعدم ورود النص الذي يدل على التخصيص، فالأمر محتمل لكلا الوجهين. وقوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يُخرج غير المؤمنين، ولذلك كان بعض الأخيار إذا رأى الحد يقام لم يفته، ويدعو أصحابه إلى رؤيته، كل ذلك من أجل أن يتعظوا ويكون زاجراً لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 المراد بالطائفة فقوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا) أي: ليكن حاضراً ذلك العذاب: (طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) . واختلف العلماء رحمهم الله في قوله: (طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) على أقوال: القول الأول: المراد بالطائفة: الواحد إلى الألف، وهذا هو قول مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما ورحمه الله، واحتج بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] فقال: إن قوله: (طَائِفَةٌ) في الآية المراد بها الواحد فأكثر، واحتج كذلك بقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] ، فإنها نزلت في رجلين اقتتلا، فدلت على أن الطائفة تطلق على الواحد فأكثر. القول الثاني: أن المراد بالطائفة: الاثنان فأكثر، وهو قول عكرمة تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما. القول الثالث: أن المراد بالطائفة: أربعة، كشهود الزنا. القول الرابع: أن المراد به: العشرة فما فوق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 معنى (شهد) في الآية يقول جل ذكره: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] (شهد) تطلق في لغة العرب على عدة معانٍ. منها: شهد الشيء بمعنى علمه، ومنه قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) : أي: أعلم علماً لا شك فيه ولا مرية. ومن معنى شهد: شهد الشيء بمعنى حضره، ومنه قولهم: شهد الواقعة، وشهد النازلة، وشهد الحادثة: أي حضرها وكان موجوداً أثناء وقوعها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 سلسلة تفسير سورة النور [3] ما من مجتمع إلا وتظهر فيه بعض المظاهر السيئة، من طعن في الأعراض، أو وقوع في الفاحشة، فهذا مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم قد ظهر فيه مثل هذا، ولكن جاء الشرع ووضع حلولاً لهذه المظاهر، وقام بمعالجتها معالجة سليمة، وما ذلك إلا ليحفظ للإنسان عرضه وكرامته، كما هو موضح في الآيات الكريمات من سورة النور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 الأحكام الشرعية المستنبطة من هذه الآيات بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ. {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:4-10] . بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: يقول الله تبارك وتعالى بعد أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] : هذه الآية الكريمة اشتملت على جملة من الأحكام الشرعية والكلام عليها ينحصر في ثلاثة مواضع: الموضع الأول: في بيان سبب نزولها. والموضع الثاني: في بيان مفرداتها. والموضع الثالث: في بيان أحكامها ومسائلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 سبب نزول الآية أما سبب نزول هذه الآية فذهب سعيد بن جبير رحمه الله إلى أنها نزلت في قَذَفَة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فبيَّن الله -تبارك وتعالى- وجوب الحد عليهم، وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقيم عليهم حد القذف -والعياذ بالله-. ومِن العلماء مَن قال: إن هذه الآية الكريمة أنزلها الله -تبارك وتعالى- على العموم، وأراد أن يقرر بها صيانة أعراض المسلمين، حتى لا يستطيل المسلم على عرض أخيه، فأدّب الألسن لئلا تسترسل في أعراض الناس بالتهم والظن الذي لا أصل له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 معاني الرمي يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) الرمي في لغة العرب يطلق على معنيين: الرمي الحسي: كرمي الحجر وهو قذفه، ومنه قوله تبارك وتعالى: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:4] . والرمي المعنوي: وهو السب والنقيصة والتهمة بالسوء والعياذ بالله، فيقال: رمى الرجلُ الرجلَ إذا اتهمه بالسوء والعياذ بالله وانتقصه في عرضه، فالرمي بهذا المعنى يستعمل فيما يُسْتَبْشَع والعياذ بالله من الألفاظ الخبيثة، ومنه قول الشاعر: رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوي رماني أي: رماني بتهمة سوء قد كنتُ منها ووالدي بريئين، فمعنى الرمي انتقاص الشخص الذي يُتَّهم. يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) أي: يقذفون، والمراد بهذه الآية اشتراط شيءٍ معين، وهو أن يحصل لفظ معين من الإنسان، وهذا اللفظ يتضمن تهمة الإنسان بالزنا والعياذ بالله، سواءً كان المتهم رجلاً أو كان امرأة، صالحاً كان أو فاسداً ما دام أنه من المسلمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 الأقوال في معنى المحصنات والإحصان وقوله سبحانه وتعالى: (الْمُحْصَنَاتِ) قيد، والمحصنات جمع محصنة، وللعلماء في معناها أربعة أقوال: القول الأول: المراد بالمحصنات: العفيفات. والقول الثاني: المراد بذلك: الفروج المحصنة. والقول الثالث: الأنفس المحصنة. والقول الرابع: أن الآية جاءت للمغايرة، فذكر الله فيها قذف الأجنبية حتى يُرَكِّبَ عليها قذف الزوج لزوجته، كما سيأتي بيانه وبيان أحكامه ومسائله إن شاء الله. والإحصان في اللغة معناه: المنع، ومنه الحصن؛ لأنه يمنع الإنسان الذي بداخله من أن يصله السوء من خارجه، ومنه قوله تبارك وتعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء:80] ، أي: لتقيكم ضربات السيف والقنا، فقوله: (لتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي: تحفظكم من أذى الحروب. فالشاهد: استعمال الإحصان بمعنى المنع. يقول العلماء: سُمِّيت المرأةُ العفيفةُ محصنةً؛ لأنها تمتنع عن الأمور التي لا تليق بها من الفاحشة وما في حكمها. فقوله -تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) المراد به: العفيفات، والمرأة المحصنة هي المرأة العفيفة الحافظة لعرضها، ومن ذلك قول حسان بن ثابت يمدح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعنه: حصان رزان ما تُزَنُّ بريبةٍ وتصبح غرثى مِن لحوم الغوافلِ (حصان) أي: عفيفة. فالمرأة المحصنة هي العفيفة، وُصفت بذلك لأنها أحصنت فرجها، فحفظته مِن أن يُتَوَصَّل إليه بغير طريق شرعي معتبر. يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) ، والسؤال: كيف يتحقق رمي المحصنات؟ رمي المحصنات يفتقر إلى لفظ مخصوص، وسيأتي إن شاء الله بيانُ الألفاظ التي إذا خاطب بها الإنسانُ غيرَه والعياذ بالله كان قاذفاً متوَعَّداً بالوعيد الذي اشتملت عليه هذه الآية الكريمة. يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) ليس المراد من هذه الجملة أن الوعيد والعذاب مختص بمن قذف النساء، بل إن الحكم عام، فكل من قذف مسلماً أيَّاً كان رجلاً أو امرأة فإن الله تبارك وتعالى توعده بما جاء في الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 أمور يجب مراعاتها عند الحكم على القاذف والمقذوف يقول الله تعالى: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) هذه هي الجملة الثانية: وهي على أمرين: الأمر الأول: أن الزنا يثبت بشهادة أربعة شهود ذكور عدول، وذلك يدل على أنه إذا وُجِد هذا الشرط، وهو اكتمال البينة بأربعة شهود ثبت الزنا. وقوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) يدل على الأمر الثاني وهو: أن حد القذف لا يثبت إلا إذا لم يُقِم الإنسان بينة كاملة، وهي أربعة شهود، ولو أن إنساناً قذف غيره فقال له والعياذ بالله: يا زانٍ، أو قال لامرأة: يا زانية، ولم يُقِم إلا ثلاثة شهود، فإنه يجب أن يجلد الحد، وأن يجلد بقية الشهود أيضاً الحد، وفي هذا دليل على صيانة الله عزَّ وجلَّ لأعراض المسلمين. فانظر رحمك الله! إلى هذه الآية الكريمة؛ يخاطب الله عزَّ وجلَّ بها خير الأمة وأفضلها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم أصحابه الكرام الفضلاء الأعلام. يقول تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور:4] ، فلو أن ثلاثة من الصحابة شهدوا ولم يكتمل النصاب -أربعة- لوجب إقامة الحد عليهم جميعاً على المدعي والشهود الذين معه؛ لأنهم قَذَفَةٌ، كما فعل ذلك عمر رضي الله عنه بمن قذف المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه. وقوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) أي لم يحضروا أربعة شهداء، والمراد بهم الذكور، وأما الإناث فإن شهادتهن في الحدود فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله كما سيأتي إن شاء الله! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 أمور توجب الحد على القاذف وقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور:4] : هذه هي الجملة الثالثة، تدل على أنه إذا تحقق الأمران: الأمر الأول: وهو قذف الإنسان لغيره وذلك باتهامه بالزنا رجلاً كان أو امرأة. والأمر الثاني: أنه لا بينة عنده، ولم يقر المقذوف بأنه زان، فحينئذ يقول الله تعالى مبيِّناً العقوبة المترتبة على هذا الأمر: العقوبة الأولى: أشار إليها بقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] . والعقوبة الثانية: أشار إليها بقوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور:4] . والعقوبة الثالثة: أشار إليها بقوله سبحانه: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] ، أي: فَسَقَةٌ -والعياذ بالله- خارجون عن طاعة الله ومحبة الله. فهذه ثلاث عقوبات لمن قذف أخاه المسلم، أو قذف أخته المسلمة بدون بينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 صور القذف المسألة الأولى: بم يتحقق القذف؟ يتحقق القذف باللفظ الصريح الدال عليه، وذلك بأن يتهم الإنسانُ غيرَه رجلاً كان أو امرأةً من المسلمين بالزنا، فيقول له -والعياذ بالله-: يا زانٍ، أو يقول للمرأة: يا زانية، أو يتهم أبا المقذوف، فيقول له: يا ابن الزاني، أو يتهم أم المقذوف -والعياذ بالله- فيقول: يا ابن الزانية، فهذا لفظ صريح يدل على التهمة بالزنا، أو يتهمه بفاحشة في حكم الزنا على خلاف بين العلماء، كأن يقول له: يا لوطي، أو يا ابن اللوطي والعياذ بالله. فكل هذه الألفاظ توجب ثبوت القذف أي: التهمة، وتعتبر من الألفاظ الدالة على ثبوت لفظ القذف، أي: الألفاظ الصريحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 اللفظ غير الصريح هناك نوع ثانٍ من الألفاظ: وهي الألفاظ المحتَمِلة التي يُقْذَف بها تعريضاً، ولا يُقْذَف بها تصريحاً، مثال ذلك: أن يقول الرجل للرجل -في حال الخصومة وفي حال المنازعة- إني لستُ بابن زانٍ، أو لستُ أنا بزانٍ، أو لستُ مِن أهل الزنا، كأنه يقول له: أنت من أهل الزنا، فهذا يسميه العلماء: القذف بالتعريض، أي: أنه لم يباشره بلفظ يدل صراحة، وإنما أعطاه لفظاً يحتمل المعنى الذي هو ظاهره، ويحتمل المعنى الآخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 اختلاف العلماء في القذف بالتعريض إن للعلماء في القذف بالتعريض قولين: القول الأول: مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع أن من قذف أخاه تعريضاً أنه لا يجب عليه حد القذف وإنما يعزر. القول الثاني: من قذف أخاه تعريضاً فإنه يجب أن يُحَدَّ حد القذف، كالحال فيمن قذف تصريحاً، وهذا هو مذهب الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، يقول الإمام مالك والإمام أحمد في رواية: مَن قال لأخيه: لست بابن زنا، أو ما أنا بابن الزنا، ونحو ذلك من الألفاظ التي يُفْهَم منها أنه يتهم صاحبه، فإنه يُعْتَبَر قاذفاً والعياذ بالله. واستدل الجمهور بما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً قال له: (يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هل لك من إبل؟ ... ) الحديث، وجه الدلالة أن الرجل اتهم امرأته تعريضاً ولم يصرح، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بإقامة الحد عليه، وقال أصحاب هذا القول: إن في اللفظ احتمالاً، وبناءً على ذلك فالأصل براءة المتكلم، حتى تثبت إدانته وتهمته على وجه لاشك فيه ولا مرية. أما أصحاب القول الثاني فاحتجوا بأدلة، أقواها: قول الله تبارك وتعالى في بني إسرائيل: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} [النساء:156] ، فإن بني إسرائيل لم يقولوا لمريم: أنت زانيةٌ صراحةً وإنما قالوا: لها ما ذكر الله: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيَّاً} [مريم:28] ، فلم يقولوا لها: أنت زانية، وإنما قالوا لها: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيَّاً} [مريم:28] ، كأنهم يقولون لها: أنت واقعة في ذلك، أي في الزنا، والله يقول: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} [النساء:156] ، فأثبت أنهم متَّهِمون لها من هذا الوجه، فدل على أن التعريض يأخذ حكم التصريح. وأصح الأقوال -والعلم عند الله-: أن القذف تعريضاً لا يأخذ الحكم بالقذف تصريحاً، وأنه في هذه الحالة ينبغي زجر المتكلم، والنظر إلى بساط المجلس، فإن كان بساطُ المجلس فيه خصومة أو فيه عداوة يُفهم منها أنه يريد السوء؛ فإنه يُؤدَّب ويُعزَّر، ولا يقام عليه حد القذف، وإنما يعزر بما دون حد القذف، كما أشار إلى ذلك جمهور العلماء رحمهم الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 حكم القذف وما يترتب على فعله من الوعيد الشديد المسألة الثانية: بعد أن عرفنا بما يثبت القذف، فما حكم القذف؟ أجمع العلماء رحمهم الله على أنه يحرم على المسلم أن يتهم غيره بالزنا من المسلمين، سواءً كان ذكراً أو كان أنثى، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن قذف المحصنات الغافلات المؤمنات يعتبر من كبائر الذنوب -والعياذ بالله- الموجبة لسخط الله عز وجل وغضبه. ولذلك توعد الله عزَّ وجلَّ مَن فَعَلَ ذلك باللعنة في الدنيا والآخرة، والعذاب العظيم في الآخرة، والفضيحة على رءوس الأشهاد -والعياذ بالله- يوم يقوم الأولون والآخرون، فيقيمهم الله عز وجل، فتشهد الألسن التي تكلمت بأنها افترت على عباد الله، وكذبت على عباد الله، ويكون في ذلك جمع بين عقوبة المعنى وعقوبة الحس والعياذ بالله، كما آذى إخوانه المؤمنين بسبهم وتهمتهم في أعراضهم توعده الله عز وجل بشديد العذاب وعظيم النكال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 الطعن في أعراض المسلمين وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على حرمة عرض المسلم، وأنه لا يجوز للمسلم إذا أراد أن يخاطب أخاه المسلم، أن يستطيل في عرضه بدون حق، فإذا اتهمه بالزنا كان ذلك من الاستطالة في العرض، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) ، فمن أشد وأقبح ما يكون من الإنسان من أن يتسلط على امرأة مؤمنة غافلة بعيدة عن الفحشاء، فيتهمها بالزنا -والعياذ بالله- وينسبها إلى ما لم يكن منها زوراً وبهتاناً، فذلك أذية لله وأذية لعباد الله، ولذلك توعد الله عز وجل مَن فَعَلَ ذلك بما سبق من العقوبة. ولذلك بيَّن العلماء رحمهم الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نَزَّل العرض منزلة الدم، فجمع بين حرمة العرض وحرمة الدم، وذلك في أعظم مشهد وأعظم جمع جُمع له في عهده صلوات الله وسلامه عليه، فقد قام في أصحابه في مقامٍ لم يجمع له مثله لا من قبل ولا من بعد، يوم حجة الوداع، حيث أخبر بعض الصحابة أن الجمع بلغ مائة ألف من الصحابة، كلهم حضروا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلما أراد أن يقرر الأحكام وأن يبين الشريعة قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) ، فدل على أن العرض ومنه: سب الإنسان وتهمته بالزنا يعتبر من المحارم المعظَّمة عند الله عز وجل، كحرمة يوم عرفة في الشهر الحرام في البلد الحرام، كل ذلك تعظيماً من الله لأعراض المسلمين. فدل على أنه ينبغي للمسلم أن يصون لسانه من الوقيعة في عرض أخيه المسلم، بل قال العلماء: لو أن شخصاً رأى رجلاً أو امرأة فظن بهما ظن السَّوء ولم يتحقق فعلهما للسُّوء، فإنه يعتبر مرتكباً للجريمة -والعياذ بالله- على قدر ظنه، ويلقى الله -والعياذ بالله- بإثمهما، كما بين الله تبارك وتعالى ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ، فأخبر أن بعض الظن إثم وجريمة في حق الناس. ولذلك نبه العلماء رحمهم الله -عند الكلام على أدب اللسان- على ما ينبغي أن يكون عليه المسلم، من عدم التكلم في حق أخيه إلا ببينة وعلم، كما أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك بقوله: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81] ، ولو كان الإنسان مازحاً فقال لأخيه: يا ابن الزانية أو يا ابن الزاني؛ لكان -والعياذ بالله- قاذفاً، ويلحقه الوعيد الذي أخبر الله عز وجل عنه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، في الحديث الذي تقدمت الإشارة إليه في قوله: (اجتنبوا السبع الموبقات) قال بعض العلماء (الموبقات) أي: المهلكات والعياذ بالله، أي: أنها تهلك العبد في دينه ودنياه وآخرته. فالمقصود: أن القذف من كبائر الذنوب، وأنه ينبغي للمسلم أن يصون لسانه، وأن يصون سمعه عن سماع أي طعن في مسلم أو مسلمة بفاحشة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 ما يجب على من رأى من يزني ولم يكن معه غيره وما يندب له أما المسألة الثالثة: إذا عُلم اللفظ المعتبر للقذف، وعُلم حكم القذف، فإنه ينبغي أن يُعلم أنه لا تترتب الثلاث العقوبات التي سبقت الإشارة إليها إلا عند فقد البينة، ولذلك قال العلماء: لو أن إنساناً رأى رجلاً يزني أو رأى امرأة تزني بعينيه وليس عنده شهود، فإنه ينبغي عليه أن يكف لسانه، أي: لا يشهد أمام الملأ بأن فلاناً وفلانةً زنيا؛ لأن ذلك يفضي به إلى عقوبة القذف، بل ينبغي عليه أن يسكت إلا إذا وجد البينة. وهل يُندب له الستر إذا كانت تلك فلتة من الزاني والزانية؟ نقول: يندب له الستر لحديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه في صحيح مسلم، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في موضعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 مواصفات الشهود أما المسألة الرابعة: فقوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] : الآية هنا دلت على أنه ينبغي إحضار أربعة شهود يشهدون بالزنا، وهذا الإطلاق الذي ورد في هذه الآية الكريمة تقيِّدُه آيةٌ أخرى، وهي قوله سبحانه وتعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] ، فلا يقبل في الشهادة إلا من كان مسلماً عدلاً، أما العدالة فمحل اتفاق بين العلماء رحمهم الله إلا على قولٍ في مذهب الحنفية على تفصيلٍ عندهم في قبول شهادة الفاسق، فكلهم يقولون: بأنه يشترط لصحة الشهادة وقبولها أن يكون الشاهد عدلاً، والعدل هو المستقيم على طاعة الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 ضوابط يجب توافرها في المسلم حتى يكون عدلا ً العلماء رحمهم الله أتوا للعدل بضابطين: أحدهما: أن يكون مجتنباً لكبائر الذنوب. والضابط الثاني: ألاَّ يصر على صغائر الذنوب. فإذا كان غير مرتكب للكبائر، ومتقياً في أغلب حاله للصغائر، فإنه يُحكم بكونه عدلاً وتقبل شهادته، وإلى ذلك أشار بعض الفضلاء بقوله: العدل من يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا أي: أنه لا يفعل كبائر الذنوب كشرب الخمر وأكل الربا ونحو ذلك، ويتقي في الأغلب الصغائر، أي يبتعد في غالب حاله عن صغائر الذنوب، فهذا هو الذي تُرضى شهادته، ويُحكم بشهادته في الدماء والأعراض والفروج والأموال، وغير ذلك مما تطلب له الشهادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 العقوبات المترتبة على من قذف شخصاً ولم تكن عنده بينة قال الله عز وجل: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] : هذه هي العقوبة الأولى، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه إذا قذف الشخص غيره، ولم تكن عنده بينة، فإنه يُجلد ثمانين جلدة، لقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] . وقوله: (فَاجْلِدُوهُمْ) أمر عام والمراد به خاص، وهم ولاة الأمر كالقضاة ونحوهم، فإنهم هم المطالَبون بإقامة الحد على القاذف. وقوله تبارك وتعالى: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) وقد تقدمت صفة الجلد، وأنه يجلد الزاني بسوط ليس بهش يتهشم عند الضرب به، ولا بلين، وإنما بسوط بين السوطين. يقول تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور:4] : أجمع العلماء رحمهم الله على أن القاذف إذا قذف غيره وثبت عند القاضي قذفه، فإن القاضي يحكم بعدم قبول شهادته إلى الأبد، يقول بعض العلماء، وفي هذا أدب إلهي يبيِّن لنا حرمة الأعراض وكيف تؤدب الألسن إذا انطلقت دون خوف من الله عز وجل في أعراض المسلمين، قال بعض العلماء لما كان هذا اللسان جريئاً على أعراض المسلمين، عاقبه الله عز وجل فقطع شهادته إلى الأبد لكي يكون في ذلك زجر لأهل الفساد، الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وفي هذا دليل على سمو منهج الشرع، فإن الإنسان إذا كان لا يتقي الله عز وجل في أعراض المسلمين، فيشهد عليهم بالتهم، ويلصق بهم ما لا أصل له من الفواحش، فإنه جريءٌ على الكذب في غير ذلك، وإذا لم يتقِ الله في أعراض المسلمين، فإنه إذا شهد بالأموال من باب أولى وأحرى أن يكذب، فكما كذب في الأعراض فإنه من باب أولى وأحرى أن يكذب كذلك في الأموال، فالأموال أهون من الأعراض، وفي هذا دليل على حكمة الشرع، وأن الله تبارك وتعالى قد وضع العقوبة في موضعها. يقول تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] : قال بعض السلف: لو قال لي القاذف قبل توبته: السماء فوقك، ما صدقته ولَصَدقت غيره، كل ذلك لأن الله قال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور:4] ، فمنع من قبول الشهادة منهم أبداً. العقوبة الثالثة: في قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] : الفاسقون جمع فاسق، فالله عز وجل وصف القاذف بالفسق، والفسق في اللغة: الخروج، ومنه قولهم: فَسَقَت الرُّطَبة: إذا خرجت من قشرها، قال بعض العلماء: سمي الفسق فسقاً لأن صاحبه -والعياذ بالله- خارج عن طاعة الله تبارك وتعالى، فالفاسقون هم الخارجون عن طاعة الله، المجانبون لسبيل الله، المنتهكون لحدود الله ومحارم الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 أقسام الذنوب كما بينها العلماء لقد بيَّن العلماء رحمهم الله أن الذنوب على ثلاثة أقسام: - ذنب يوجب الخروج من الملة. - وذنبان لا يوجبان الخروج من الملة. أما الذنب الذي يوجب الخروج من الملة: فهو الكفر والردة والعياذ بالله! وأما الذنبان اللذان لا يوجبان الخروج من الملة فهما: - كبائر الذنوب التي لا تصل إلى الكفر. - وصغائر الذنوب. فصغيرة الذنب كالنظرة إلى الحرام مرة واحدة إذا كانت بعد استرسالٍ على وجه لا يكون فيه اطلاع على عورات ونحو ذلك تعتبر من الصغائر. فإذا استرسل فيها وداوم عليها انتقل إلى الكبائر، فأصبحت بمجموع الإصرار تعادل الكبيرة والعياذ بالله! وكبائر الذنوب تكون: - باللسان، ومن ذلك القذف. - بالشراب، كشرب الخمر. - بالبطن، كأكل مال اليتيم، وأكل الربا. - بالفرج، كالزنا. - باليد، كالسرقة. فلكل جارحة ما يناسبها من الذنوب التي تصل إلى الكبائر أو تكون دون ذلك. فالمقصود أن الذنوب على ثلاثة أقسام: - فإن وصلت إلى حد الخروج من الملة فهي: الكفر. - وإن كانت صغيرةً لا يُداوَم عليها فهي: صغائر الذنوب التي لا توجب الفسق. - وإن كانت بين الصغيرة والردة فهي: الكبيرة، كالزنا ونحو ذلك. فالكبيرة هي التي توجب الفسق. ولذلك أشار الله عز وجل إلى هذه الأقسام الثلاثة بقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7] : - الكفر: الذنب الأعظم الموجب للخروج من الملة. - الفسوق: كبائر الذنوب. - العصيان: صغائر الذنوب. وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه. فقوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] : أي الخارجون عن طاعة الله المعتدون على محارم الله وحدوده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 توبة القاذف وأقوال أهل العلم في هذه المسألة وأما قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:5] : بعد أن بين الله -تبارك وتعالى- حُكْم مَن وقع في هذه الكبيرة وهذا الذنب العظيم، فتح الباب للتائبين، ورغَّب في الرجوع إليه لعباده المنيبين، فقال سبحانه وهو أرحم الراحمين: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . قوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) : (إلاَّ) حرف استثناء، والاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فأراد الله عز وجل بهذه الآية الكريمة أن يستثني شيئاً مما سبق ذكرُه مما ترتب على القذف من العقوبة، فقال سبحانه: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) . التوبة من القذف للعلماء فيها قولان: الأول: أن التائب من القذف لابد أن يعترف أنه كان كاذباً في القذف، وأن فلاناً ليس بزانٍ، وفلانة ليست بزانية، وأصحاب هذا القول هم الجمهور، يقولون: إن الذي يقذف غيره فيتهمه بالزنا لا يعتبر تائباً إلا إذا كذب نفسه، فقال: فلان الذي اتهمته بالزنا ليس بزان، ويرجع عن قوله وتهمته، هذا هو قول جمهور العلماء، يقولون: لو تاب وأناب وأصلح، وكان من خيار عباد الله، وبقي على التهمة بالقذف؛ فإنه لا يزال -والعياذ بالله- قاذفاً، وهذا القول هو مذهب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك لما وقعت حادثة المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وشهد عليه الشهود ورجع بعضهم، قال عمر لـ أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه: تب أقبل شهادتك، أي: ارجع عن قذفك للمغيرة حتى أقبل الشهادة منك، فهذا يدل على أن التوبة من القذف أن يكذب القاذف نفسه ويقول: فلان الذي اتهمته بالزنا ليس بزانٍ وفلانة التي اتهمتها بالزنا ليست بزانية. القول الثاني: إن التائب من القذف لابد أن يُصْلِحَ حاله، وأن يستقيم في ظاهره وباطنه، ولا يشترط عند أصحاب هذا القول أن يكذِّب القاذف نفسه، بل قالوا: إنه إذا تاب وأناب ورجع إلى الطاعة واستمر وداوم عليها فإنه يعتبر تائباً منيباً إلى الله عز وجل يشمله الاستثناء في هذه الآية الكريمة، وهذا القول هو مذهب الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس رحمه الله، يقول: إن التوبة بصلاح الحال. وأصح القولين -والعلم عند الله-: أنه لا توبة للقاذف إلا إذا كذب لفظه، فقال: فلان الذي اتهمته بالزنا ليس بزانٍ، وفلانة التي اتهمتها بالزنا ليست بزانية، فإذا فعل ذلك كان تائباً وإلا فلا. وقوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي من بعد قذفهم. (وَأَصْلَحُوا) : أي أصلحوا بالقول الطيب فقالوا قولاً طيباً بعد أن قالوا القول الخبيث والفحش الذي لا يرضي الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 الخلاف في قبول شهادة القاذف بعد توبته {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:5] : للعلماء رحمهم الله في هذه الآية وجهان: الوجه الأول: قالوا: إن هذه الآية الكريمة دلت على أن الإنسان إذا قذف غيره وحكم القاضي برد شهادته، ثم تاب وكذَّب نفسه، فقال: فلان الذي قذفته ليس بزانٍ يُحكم بقبول شهادته. فقوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور:5] يستثنى منه رجوع القائل الناطق بالقذف المتلفظ به، فإذا رجع عن قذفه فكذب نفسه قُبِلت شهادته، وهذا هو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع. وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إن القاذف لا تقبل شهادته إلى الأبد، وأما قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5] فهو عائد إلى الحكم بالفسق في قوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] ، أي: إلا الذين تابوا فهم ليسوا بفاسقين. وفائدة الخلاف بين القولين: فيما لو أن إنساناً قذف غيره بالزنا، ثم أقيم عليه الحد رُدَّت شهادته وحُكِم بفسقه، فعند الجمهور: لو تاب وكذَّب نفسه تُقبل شهادته بعد أن يكذِّب نفسه. وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله: لا تُقبل شهادته بل ترد عليه ويبقى رد شهادته إلى الأبد، ولا ينفعه في ردها صلاحه، وتوبته فيما بينه وبين الله عز وجل. وفي هذه الآية الكريمة دليلٌ على سعة رحمة الله عز وجل بعباده، ولطفه بهم، وهي تدل دلالة واضحة على كمال وحكمة التشريع، ووجه ذلك: أن الله تبارك وتعالى لم يقنط القاذف، الذي ارتكب جريمة القذف من رحمته، بل فتح له باب الإنابة والتوبة إليه سبحانه وتعالى. وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور:5] : أي: من بعد إقامة الحد عليهم والحكم برد شهادتهم وبفسقهم. {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:5] : هذا هو الجواب، غفور لما كان منهم، رحيم بهم، وقال بعض العلماء: إن ختم الآيات بالرحمة يدل على التوفيق لهم بالطاعة، أي: أن الإنسان إذا ارتكب الإساءة فتاب وأناب ورجع إلى الله عز وجل فإن الله يمنُّ عليه بصلاح الحال رحمةً به ولطفاً من الله عز وجل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 آيات اللعان والأحكام المستنطبة منها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 بيان الحكمة من اللعان قال العلماء: إن اللعان فيه حكمة عظيمة، وذلك أن الأزواج تنسب إليهم الذرية، فكل ما حملته المرأة فإنه منسوب إلى البعل، فلو أننا قلنا: إنه لا يُقبل قذفهم إلا بالبينة، فإن ذلك يوجب الضرر عليهم، فشرع الله عز وجل هذا السبيل لكي يُدفع الضرر عنهم، فحصل بذلك المقصود، فلو أن رجلاً قذف امرأته بالزنا -والعياذ بالله- ولم يكن عنده شهداء إلا نفسه، فإنه في هذه الحالة يدفع الضرر بما قلناه، ولذلك رحم الله عز وجل عباده إذ أن المعروف في الإنسان أن الغَيرة تتملكه، وقد تؤثر عليه إلى درجة قد يضر بها الغير، قال بعض العلماء: شرع اللعان يدفع كثيراً من المفاسد، من أعظمها: أننا لو قلنا: إن الزوج يُقبل قولُه مجرداً عن البينة لاستطاع الزوج أن يضر بزوجته وبكل عدو له، كأن يدعو عدوه إلى زيارته، ثم يلصق به التهمة -تهمة الزنا- فلو فُتح باب التهمة هكذا مجرداً؛ لكان أيسر ما يكون على النفوس الضعيفة أن تؤذي عباد الله عز وجل، وتؤذي إماء الله في حال الحَنَق والغيظ والعداوة، والعكس أيضاً، ولذلك حفظ الله عز وجل الأعراض، وصانها وحفظ كذلك الحدود والمحارم، فكان في شرعية اللعان ما يوجب جلب المصالح لكلا الطرفين، ودرء المفاسد عنهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 فضل الله على عباده بقبول توبتهم ورحمته بهم قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:10] : أي: هذا كله فضل من الله تبارك وتعالى، والفضل في الأصل هو الزيادة، ومنه الفضلة المتبقية من الطعام والشراب. وقوله: (فَضْلُ) يدل على أننا أمام هذه الأحكام، أمام رحمة لا نستوجبها على الله، وإنما هي محض إحسانه ومحض عفوه ولطفه بخلقه وعبيده. وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:10] : وصف الله نفسه بـ (تواب) وهي: صيغة فعَّال وتدل على الكثرة، أي: يقبل توبة التائبين، ويتوب على العبد إذا تاب تفضلاً وتكرماً، حتى ولو لم يتب فإن قد يصيبه برحمة منه تفضلاً وتكرماً، بل إن من دلائل رحمته وتوبته على عباده أنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه سبحانه سخَّر حملةَ العرش للاستغفار لك أيها المؤمن! وهذا من عظيم رحمته ودليل لطفه بعباده، ولو أنه وَكَلَهم إلى حولهم وقوتهم لكانوا بلا شك من الهالكين، فهو الذي ييسر التوبة للعبد، ولذلك قال العلماء: صيغةُ فعَّال تدل على الكثرة والمبالغة في الشيء، والله عز وجل موصوف بتوَّاب، ووصف نفسه بذلك في أكثر من موضع، إذ أن توبته لم تقف على كونه تائباً على من تاب، بل إنه يمنُّ بالتوبة على مَن شاء من عباده، ولذلك قد ترى الرجلَ كأشد ما أنتَ راءٍ فِسْقاً وفجوراً واعتداءً على حدود الله وغروراً، وفي لحظة واحدة ينفحه الله عز وجل برحمته، ويصيبه بلطفه وعنايته، فينقلب رأساً على عقب تائباً منيباً إلى الله، فلذلك قالوا: التوفيق للتوبة دليل على عظيم رحمة الله عز وجل ولطفه وتوبته على عباده؛ لكنه سبحانه -مع أنه تواب- قد قَرَن توبته على عباده باسمه (الحكيم) ، والحكمة تقتضي وضع الشيء في موضعه، فهو سبحانه وتعالى عليم بخلقه، حكيم في تقديره وأمره وتدبيره، فيضع الأمور في مواضعها، فلذلك يتوب على من شاء، ويمن بالتوبة على من شاء. ونسأل الله العظيم ربَّ العرش الكريم أن يمنَّ علينا في هذا المجلس المبارك بتوبةٍ لا مؤاخذة بعدها، ورحمة لا عذاب بعدها، وسعادة لا شقاء بعدها، وأن يجعلنا من عباده التائبين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 الأحكام المترتبة على تراجع أحد الزوجين في اليمين المسألة الأولى: وهي لو فرضنا أن الزوج أثناء لعانه نَكَل، أو الزوجة أثناء لعانها نَكَلت، صورة هذه المسألة أن يقوم الزوج فيحلف الأيمان، حتى إذا بلغ اليمين الخامسة يذكره القاضي بالله ويذكره بعقوبة الله، فيقول: أنا تائب، وأنا كاذب فيما قلت، فيكذِّب نفسه فما الحكم؟ إذا وقف الزوج وحلف بعض الأيمان أو حلف حتى بلغ الخامسة، وذُكِّر بالله فرجع عن حلفه، فإنه يجب إقامة حد القذف عليه في هذه الحالة، ويُحكم بلحوق الولد به. أما إذا كذَّبت المرأة نفسها، كأن تكون المرأة في منتصف الأيمان وقالت: إنه صادق، ورجعت عن تكذيبه وأقرت، فإنه يقام عليها حد الرجم والعياذ بالله! فترجم حتى تموت وتتلف نفسها عقوبة من الله، كالحال في الزاني المحصن، وأما إذا رجعت أثناء الحلف فنكلت وترددت فهل يقام عليها الحد أم لا؟ وجهان للعلماء رحمهم الله: أصحهما أنه يقام عليها الحد إذا تلكأت، تُخيَّر بين الإتمام وبين إقامة الحد عليها. المسألة الثانية: إذا أقيمت المرأة وأقيم الرجل للحلف والإدلاء بشهادات اللعان، واستتم الرجل الشهادات وأكملها وامتنعت المرأة أن تحلف بعد حلف الزوج، وامتنعت أن تقر بالزنا فللعلماء وجهان: الوجه الأول: أن شهادة الزوج الكاملة توجب إقامة الحد عليها إذ امتنعت من اللعان، وهذا الوجه هو مذهب الجمهور. والوجه الثاني: أنه إذا استتم الرجل الأيمان كاملةً وامتنعت المرأة من الحلف حُبِست حتى تحلف، وهذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة، أن تحلف أو أن تبقى في سجنها حتى تموت. وأصح الأقوال -والعلم عند الله- أنها تخير بين الأمرين؛ بين الحلف، أو يقام عليها حد الرجم مباشرة؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور:8] فدل على أن العذاب يلزمها رجماً إن لم تحلف الخمسة الأيمان، ولأن كل يمين من الزوج تعتبر قائمةً مقام الشاهد، فكانت بمثابة البيِّنة الكاملة، فكأن الزوج قد أقام أربعة شهود على صدق قوله. المسألة الثالثة: إذا امتنع الزوج من الحلف، فإنه يخير بين الأمرين: بين أن يلاعن، وبين أن يقام عليه حد القذف، فإن شاء استتم اللعان، وإن شاء أُقيم عليه حد القذف، ويُحكم بلحوق الولد في النسب. فهذا هو المراد من آية اللعان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 حالتان تجيز للزوج أن يلاعن زوجته وسؤال يطرح نفسه متى يحق للزوج أن يتهم زوجته بالزنا؟ لا يحق للزوج أن يتهم الزوجة بالزنا إلا إذا تحقق من ذلك بأن رآها أو تبين زناها، على خلاف عند العلماء في ضوابط ذلك التبين، فمذهب بعض العلماء: أنه إذا أخبره ثلاثة ممن يثق بهم، أو اثنان ممن يثق فيهم عدالةً وأمانةً وصدقاً، أن من حقه أن يقذفها بناءً على شهادتهم، ومن حق الزوج أن يلاعن زوجته في حالتين: الأولى: إذا رأى منها الزنا. الثانية: إذا كان هناك أمرٌ يَخشى منه اختلاط النسب، كأن تكون المرأة حَمَلت من هذا الزنا والعياذ بالله! فإذا حملت من زناها وجب عليه أن يلاعنها لكي ينفي هذا الولد، فيبعده عن أن يرثه ويُنسب إليه؛ ويستبيح النظر إلى بناته من امرأة أخرى ومحارمه اللاتي لا يحق له النظر إليهن. فلذلك قال العلماء: يجب على الزوج أن يلاعن زوجته، وأن ينفي الولد عنه إذا تحقق من زناها، وكان ذلك الزنا في طهر لم يجامعها زوجها فيه، فكان الماء خالصاً لهذا الزاني، فالولد خالص له، فينبغي أن يسعى في نفي هذا الولد عنه، وإلا أثم شرعاً. ومن العلماء مَن قيد ذلك فقال: إذا رأى امرأته على الزنا، وكان ذلك على الصفة التي ذكرناها في طهر لم يجامعها فيه، قالوا: له إذا استطاع أن يأخذ الولد بعد ولادتها فيضعه لقطة يأخذه الغير، فيسلم من شر عاره، ودخوله على أولاده وبناته، قالوا: يجوز له الستر في هذه الحالة، أما إذا لم يتمكن من ذلك، وتعلق به هذا الولد، فإنه يجب عليه أن يلاعن، لما في إثباته والسكوت عنه من حصول الإضرار، واستباحة المحارم بالنظر إليهن والجلوس معهن، من هذا الابن الذي هو ابن زناً والعياذ بالله! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 صفة الملاعنة بين الزوجين والغرض منها وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:6-7] : هذه الشهادات المراد بها أربعة أيمان؛ أن يحلف أربعة أيمان، فيطلبه القاضي ويقيمه في مجلس القضاء، وقال بعض العلماء: يستحب أن يغلظ عليه فيقيمه عند المنبر؛ لكي يكون ذلك أبلغ في تخويفه بالله عز وجل، ويكون بعد صلاة العصر كالحال في الأيمان التي ذكرها الله في كتابه تغليظاً وزجراً، فيقوم ويشهد أربع شهادات بالله، وحينئذ لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يقصد من الملاعنة إثبات زناها. الحالة الثانية: أن يقصد إثبات الزنا ونفي الولد، فإذا أراد إثبات الزنا قال: أحلف بالله أن فلانة -ويشير إليها مع ذكر اسمها في مجلس القضاء- زانية، وإذا أراد نفي الولد ضم إلى هذه اليمين قوله: أن فلانة زانية، وأن هذا الولد ليس بولدي، أو أن هذا الحمل الذي منها ليس مني، فيشهد أربع شهادات. حتى إذا استتم الأربع أوقفه القاضي وقال له: اتقِ الله يا فلان! إنها الموجبة، كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، قال بعض العلماء: إنها الموجبة، أي: إذا حلف الإنسان أن عليه لعنة الله -وكان كاذباً- أصابته اللعنة، وأنها إذا حلفت كاذبة أصابها الغضب والعياذ بالله! فأوجبت اليمين الكاذبة منه لعنةً من الله موجِبةً للطرد من رحمته، أو غضباً من الله عز وجل -على المرأة إن كانت كاذبة- موجِباً للبعد من لطفه وعنايته. يقول هذه الخمس الشهادات حتى إذا استتمها خُيِّرت المرأة بين إقرارها أو تلاعنه، فإذا أقرَّت وزُجرت بهذه الشهادات فلا إشكال، أما إذا أصرت على قولها وبقيت على تبرئتها لنفسها، فالحكم حينئذ أنه يطالبها القاضي بخمسة أيمان؛ أربع منها تشهد فيها بالله عز وجل أنه لمن الكاذبين؛ وأنه قد كذب علي وأني لست بزانية، فإذا كان على نفي الولد قالت: لست بزانية، وأن الولدَ ولدُه، وتشير إليه أو تذكره، أو كان حملاً فتقول: وهذا الحملَ حملُه أو هذا الحمل منه، حتى إذا بلغت الشهادة الرابعة واستتمتها، ذكَّرها القاضي بالله وأوقفها وقال لها: يا فلانة! يا أمة الله! اتقي الله؛ إنها الموجبة أي: أنكِ إذا حلفتِ الخامسة -كاذبة- بأن غضب الله عز وجل عليكِ فإنه سيصيبك الغضب -والعياذ بالله- لا محالة. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما أقام المتلاعنَين بين يديه شهد الرجل خمس شهادات حتى إذا انتهى قامت المرأة فشهدت الأربع شهادات الأولى، فقال لها: (اتقي الله يا أمة الله! إنها الموجبة، فترددت المرأة وتلكأت في كلامها، فلما أرادت أن تعترف قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فحلفت الخامسة) ، فهذا يدل على أنه ينبغي تذكير الزوج وتذكير الزوجة عند اليمين الخامسة، أنه لا يبادِر ولا يعاجَل بها، كل ذلك صيانة له من لعنة الله، وصيانة لها من غضب الله -والعياذ بالله- فإذا استتموا هذه الشهادات الخمس، فحينئذ يحكم القاضي بالتفريق بينهما فراقاً مؤبداً لا تحل له إلى الأبد، ولا يحل لها إلى الأبد -والعياذ بالله-، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما تلاعن الرجل مع امرأته، قال عليه الصلاة والسلام: (حسابكما على الله، الله يعلم أن أحدكما كاذب) فهذا يدل على أنه لابد من وقوع الكذب، إما من الرجل وإما من المرأة، نسأل الله السلامة والعافية. والمقصود بيان حقيقة اللعان وأنه على الصفة التي ذكرناها، وإذا ثبت اللعان ثبتت الفرقة المؤبدة، وحينئذ لا يخلو حالهما من ضربين: الضرب الأول: أن يُكَذِّبَ الرجل نفسه ويرجع عن قوله. والضرب الثاني: أن يبقى على لعانه، وتبقى المرأة على لعانها. ففي الحالة الأولى: إذا قال الرجل: كذبتُ عليها، أو قال: هي ليست بزانية، أو قال: الولد مني، فإنه حينئذ يجلد حد القذف. وهل تعود له امرأته أو لا تعود، وجهان: أصحهما أنها لا تعود له إلى الأبد، وأنها تبقى عليه حراماً ولو كذَّب نفسه. وإذا حكم القاضي بالتفريق بينهما فالسؤال: ماذا يُصنع بالولد؟ إذا تلاعن الرجل مع امرأته ونفى الولدَ فإن الولد يُنسب إلى المرأة ولا يُنسب إلى الرجل، ويعطى حكم ولد الزنا، وحساب أبيه على الله إن كان كاذباً والعياذ بالله! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 الحكمة من نزول هذه الآيات وهذه الآيات فيها رحمة من الله تبارك وتعالى بعباده؛ لأن النساء يختلفن في العفة والبُعد عن الوقوع في الفاحشة، فلو أن الله تبارك وتعالى أوقف الزوج بين الخيارات الثلاثة: بين أن يَقْتُل فيُقْتَل، وبين أن يسكت على الغيظ، وبين أن يقذف فيُجْلَد الحد، والعياذ بالله! لكان في ذلك من البلاء ما لا يعلمه إلا الله، فنزلت هذه الآيات رحمة من الله بعباده، ولطفاً من الله بخلقه، ولذلك قال العلماء: إن الغالب في الزوج أن لا يقدم على تهمة زوجته إلا إذا كان عنده ما يوجب ذلك، فلا يعقل أن الإنسان يفسد فراشه وينفي ولده إلا وهو معتمد على دليل، ولذلك كان هذا الحكم من الشرع قمةً في السوية والعدالة، ذلك أن الله عز وجل لو قال لنبيه أو أوحى لنبيه: أن اقبل قذف الأزواج، وأقم على الزوجات الحد مطلقاً لكان في ذلك ضرر بالزوجات، ولفُتِح باب انتقام الأزواج من زوجاتهم، ولو قال بالعكس: لا تَقْبَل شهادة الزوج مطلقاً، وأقم عليه حد القذف لكان في ذلك من الضرر بالرجال ما لا يعلمه إلا الله، ولكنَّ الله عز وجل أقام الميزان العدل، فأمره أن يقيم هذه الشهادة، وهي شهادات اللعان؛ خمس من الزوج، وخمس من الزوجة بالغة في النكال والعقوبة -والعياذ بالله-، يُوقف عند الخامسة فيُذكَّر بالله عز وجل، وتُوقف المرأة عند الخامسة فتذكر بالله عز وجل، وكل يمين من هذه الخمس بمثابة الشاهد، فما أنسبه من حكم! وما أعدله من شرع! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 أقوال العلماء في تقييد القذف بالرؤية وعدمه يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) للعلماء في هذه الآية وجهان: الوجه الأول: أنه لا يقبل قذف الزوج لزوجته إلا إذا قرنه بالرؤية، فقال: لقد رأيتها بعيني تزني، فلا يقبل من الزوج أن يقذف زوجته ويلاعنها بعد القذف، إلا إذا جمع بين أمرين: القذف، مع نسبة ذلك القذف إلى الرؤية، فيقول: زوجتي فلانة زانية رأيتها بعيني، أو فلانة زوجتي رأيتها بعيني تزني، هذا يسمى عند العلماء: بالقذف المقيد بالرؤية، وهذا هو مذهب المالكية، يقولون: إذا قذف الزوج زوجته فإنه لا يُقْبَل لعانه إلا إذا قرنه بالرؤية، فلو قذفها بناءً على خبر أحد، أو شهادة مَن يعرف فيه الصدق، فإنه يقام عليه حد القذف ثمانون جلدة إذا لم يقم البينة كاملة، وهذا هو الذي يسميه العلماء: القذف المجرد، وهو أن يقذفها بقذف مجرد من الرؤية. الوجه الثاني: مذهب جمهور العلماء أن من قذف زوجته مطلقاً، سواء قذفها مجرداً عن الرؤية فقال: فلانة زانية، أو قذفها مقيداً بالرؤية، فقال: رأيتها بعيني تزني، أنه يوجب ثبوت اللعان له. ومذهب الجمهور هو أصح الأقوال في المسألة. واحتج الأولون بحديث عويمر إذ قال فيه: (والله! لقد رأيتها بعيني يا رسول الله! والله يا رسول الله! لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني) قالوا: فهذا يدل على أن القذف لابد أن يستند إلى الرؤية. والجواب عن هذا الحديث بأمرين، الأمر الأول: أن الآية أطلقت والحديث مقيد؛ فلفظ الآية: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:5] ، وأما الحديث فلفظه: (لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني) فيجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطالبه بالتقييد. والأمر الثاني: أنه جمع بين السماع والرؤية، وبالإجماع لا يشترط قوله: (سمعت بأذني) فكذلك قوله: (رأيت بعيني) . فهذا هو أصح الأقوال؛ أن الزوج إذا قذف زوجته مطلقاً أنه يلاعنها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 سبب نزول الآيات وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] : هذه الآيات الكريمات سبب نزولها أنه بعد أن نزلت الآيات السابقات تدل على أنه من قذف المؤمنة أو قذف المحصنة، فإنه ينبغي أن يقام عليه الحد ثمانين جلدة، إذا كان لم يُقِمِ الشهودَ على صدق قوله، فلما بين الله تبارك وتعالى وجوب الحد على القاذف، وقَعَ في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أحد الصحابة وهو عويمر العجلاني، رأى من امرأته الزنا بعينيه، وكذلك هلال بن أمية رضي الله عنه وأرضاه، كان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدخل على أهله عشاءً فرأى ما يكرهه، فانتظر إلى الصباح فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشكى إليه ما رأى وقال: (يا رسول الله! الرجل يجد مع امرأته رجلاً، إن تكلم جلدتموه، وإن قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ) : فقوله: (إن تكلم جلدتموه) : أي جلدتموه حد القذف. (وإن قتل -أي: قتل الزاني- قتلتموه) . (وإن سكت سكت على غيظ) : فكيف يسكت على فراشٍ فاسد. فعَظُم الأمر على الصحابة؛ لأنهم خافوا أن يقيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحد عليه. فرواية عويمر العجلاني فيها أنه أمر عاصم بن عدي رضي الله عنه -ابن عمه- أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا عاصم! الرجل يجد مع امرأته الرجل، إن تكلم جلدتموه، وإن قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ، سل لي يا عاصم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فذهب عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم رجع فجاءه عويمر، فقال: ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال له عاصم: والله! ما جئتني بخير، قد كره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسألتك، فلما علم منه ذلك مضى عويمر بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلمه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كره المسألة؛ لأنه يظن أنها لم تقع، فلما كان قد بُلِي بها ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يخبره عن هذا البلاء الذي بُلِي به في أهله، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال مقالته، فأنزل الله الوحي على رسوله صلوات الله وسلامه عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: قد أُنْزِل فيك وفي صاحبتك قرآن، فاذهب وائتِ بها) . وفي حديث هلال بن أمية رضي الله عنه وأرضاه أنه قذف امرأته بـ شريك بن سحماء، فلما قذفها عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت هذه الآيات لم تنزل بعد، فلما قذفها بذلك، قال الصحابة: الآن يجلد هلالاً، فأنزل الله عز وجل على نبيه صلوات الله وسلامه عليه هذه الآيات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 سلسلة تفسير سورة النور [4] إشاعة الفواحش من أعظم المعاول التي تهدم المجتمع، وتقطع العلاقات، وتخرب البيوت، وفي حادثة الإفك يبين الله تعالى واجب المؤمنين والمؤمنات تجاه ما يسمعونه من شائعات على إخوانهم المسلمين، وأن عليهم أن يضعوا أنفسهم مكان ذلك المتهم، فيظنوا به خيراً. وهذه الآيات قد نزلت في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مما قذفها به عبد الله بن أبي وحزبه، ومن انخدع به فخاض معه في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 آية الإفك وسبب نزولها أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرَّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:11-21] . الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومَن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: ففي هذه الآيات الكريمة بيَّن الله تبارك وتعالى فيها قصة الإفك أو حادثة الإفك، وهي من أعظم الحوادث التي وقعت في العصر المدني، والتي عايش النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحزانَها، وعايشت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بلاءها وأشجانَها، وعايش أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كَرْبها. هذه الآيات الكريمة نزلت في حادثة الإفك، والأصل فيها ما ثبت في صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما غزا غزوة بني المصطلق -وتسمى: غزوة المريسيع، وقد سميت غزوة بني المصطلق اعتباراً لمن غزاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم بطن من خزاعة، وسميت بغزوة المريسيع؛ لأن الماء الذي نزل عليه هذا الحي يسمى بماء المريسيع، وقد كانت سنة ستٍِ كما قاله بعض أهل السير- لما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج لهذه الغزوة، وكان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد الغزوة أن يُقرِع بين نسائه، فمن خرجت لها القرعة خرجت معه عليه الصلاة والسلام، وشاء الله عز وجل أن تكون القرعةُ في هذه الغزوة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فخرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا انتهت الغزوة، آذَنَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابَه بالرجوع إلى المدينة، فلما علمت عائشة رضي الله عنها برحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادته الرجوع إلى المدينة خرجت لقضاء حاجتها، وكان الجيش لا كنيف فيه، فخرجت تبعد عن القوم من أجل قضاء حاجتها رضي الله عنها وأرضاها حتى إذا توارت عن الجيش وقضت حاجتها، رجعت إلى منزلها وخبائها الذي نزلت فيه، فإذا بها قد فقدت عِقداً لها من جزع ظفار -والجزع: أصله الخرز، وقولهم: جزع ظفار؛ المراد بظفارٍ: موضع قِبَل اليمن، وهو المعروف الآن بعُمان، أُضيف إلى هذا البلد لكونه يُصنع فيه-، ففقدت هذا العقد، فخرجت رضي الله عنها وأرضاها إلى الموضع الذي قضت حاجتها فيه حتى تجد العِقد الذي فقدته، وشاء الله عز وجل لما خرجت جاء الذي يقود جملها وحمل مع آخرين هودجها، وكانت رضي الله عنها خفيفة صغيرة السن، فلم يستبعد وجودَها في الهودج ولم يستغرب من خفة الهودج رضي الله عنه، فسار به وهو يظن أن أم المؤمنين رضي الله عنها داخل الهودج، فخرجت حتى إذا وجدت حاجتها رجعت إلى منزلها، وإذا بالجيش قد ارتحل فرجعت إلى موضعها علَّهم أن يفقدوها ثم يرجعوا في طلبها، وشاء الله عز وجل أن يدركها النوم، فنامت في الموضع الذي هو منزل لها حين نزل الجيش، فجاء صفوان بن المعطل رضي الله عنه وأرضاه، قالت: فنمتُ، فما راعني إلا صوت صفوان رضي الله عنه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. وكان صفوان رضي الله عنه يعرفها قبل نزول آية الحجاب، قالت: فأخذت الخمار فغطيت به وجهي وأعرض عني رضي الله عنه، ووالله ما كلمني بكلمة، وأناخ لها البعير رضي الله عنه وأرضاه. - صفوان بن المعطل صحابي جليل له فضله، فإنه لما اتُّهم بأم المؤمنين رضي الله عنه وعنها وأرضاهما، قال: (والله! ما كشفتُ كنف أنثى) . أي: ما زنيت بامرأة قط، وهذا من عفته رضي الله عنه وأرضاه، واستُشهد رضي الله عنه في خلافة عمر سنة تسع عشرة في غزوة أرمينية، وقيل: إنه قُتل رضي الله عنه في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين من الهجرة، فالشاهد: أن هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه، لما رآها أناخ لها البعير، وقد كان من ساقة الجيش، والساقة يتفقدون مَن وراء الجيش، لكي يعينوه إذا أصابه العجز عن المسير، أو حصل به ضرر -لا سمح الله- قالت: فاحتملني فما كلمني بكلمة حتى دخل بها المدينة، فرآهما عدو الله عليه مِن الله اللعنة عبد الله بن أبي بن سلول فقال مقالته الخبيثة، قال: والله! ما نجا منها ولا نجت منه. فاتَّهمها رضي الله عنها وأرضاها، ونسبها إلى الذي هي منه بريئة، وشاء الله عز وجل ما شاء، فخاض الناس في شأن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، واتهموها بما اتهمها به عدو الله، وكان المسلمون على طوائف: - منهم من أنكر وكذب إبقاءً لبراءة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها. - ومنهم من حمل الحديث ونقله دون أن يصدقه ولكن كان يشهِّر به في المجالس. - ومنهم من سمعه وصدقه. فأصبح الناس ما بين مصدِّق ومكذِّب، وناقل للحديث. ومضى على ذلك شهر كامل، وشاء الله عز وجل أن عائشة رضي الله عنها لم تكن على علم بكلام الناس فيها، فبمجرد أن أدخلها صفوان إلى المدينة أصابها المرض فاشتكت، فذهبت إلى بيت أبيها فجلست فيه رضي الله عنها وأرضاها، والناس يتكلمون في عرضها، وهي غافلة لا تدري من حديث الناس شيئاً، حتى شاء الله عز وجل في يوم من الأيام أن تخرج إلى المناصع -وهو موضع شرقي المدينة- لقضاء حاجتها، وكانت معها أم مسطح بن أثاثة رضي الله عنهما، فلما رجعت من قضاء حاجتها عثرت أم مسطح في مِرْطها، فقالت: تعس مسطح، فلما قالت هذه المقالة، عتبت عليها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن قالت هذه المقالة في حق ابنها، وكان مسطح ممن خاض في حديث عائشة رضي الله عنها، وتهمتها، فلما ردت عائشة مقالة أم مسطح أخبرتها أم مسطح بالخبر، قالت عائشة: فذكرت لي الحديث، فسألتها: هل علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك؟ فأخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علم بذلك، ثم سألت: هل علم أبوها وأمها بذلك؟ فقالت: نعم، فخرَّت مغشياً عليها رضي الله عنها وأرضاها، وشاء الله عز وجل ما شاء من فتنتها بهذه المقالة، وأصابتها الحمى، وجعلَتْ تنفض من شدة ما وجدت من التهمة والزور والبهتان فيها رضي الله عنها وأرضاها، ثم شاء الله عز وجل ما شاء، فمَضَت عليها ثلاث ليال لا تنام لها عين ولا ترقأ عن الدمع رضي الله عنها وأرضاها، قالت: فلما كانت الليلة الثالثة جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليها، وقال: يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً فاستغفري الله وتوبي إليه، فقالت لأبيها: أجب رسول الله، فما استطاع أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أن يتكلم، وقالت لأمها: أجيبي رسول الله، فما استطاعت أمها أن ترد الحديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما غلبهما ما غلبهما من العي والحصر في جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: والله! لئن قلتُ لكم: إني لم أفعل لم تصدقوني، ولو قلت لكم: إني فعلتُ صدقتموني، فوالله! ما فعلت؛ ولكن الله سيبرئني، ثم قالت: ولكن أقول كما قال أبو يوسف -عجز عنها اسم يعقوب عليه السلام من شدة ما وجدت رضي الله عنها من الهم والحزن-: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ، فاستعانت بالله عز وجل، فما قضت حديثها حتى نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبرأها الله عز وجل من فوق سبع سماوات رضي الله عنها وأرضاها، فكانت هذه الحادثة من أشد الحوادث المدنية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت هذه الآيات التي صبَّرها الله عز وجل بها، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرَّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 تفسير (الإفك - العصبة) يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} [النور:11] : الإفك: هو الكذب والبهتان، والقول الذي لا أصل له، والمراد بالإفك هنا: إفكٌ مخصوص، وليس المراد به كلُّ إفك، ووصفه الله تبارك وتعالى بالكذب إشارةً إلى عدم صحته وبطلانه. يقول الله تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ) : فكأن هذا الكلامَ لا أصل له، وإنما هو ناشئٌ من الشخص الذي تكلم به، فجاء التعبير القرآني بهذا الأسلوب الذي يدل على اختلاق هذا الكلام، وأنه لا أصل له ولا حقيقة. وقوله: (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) العصبة في اللغة: مأخوذة من تعصيب الشيء، والمراد به: الإحاطة بالشيء، ومنه العصابة التي يُشَد بها الجرح، وتُشَد بها الشجاج، ومن ذلك أيضاً: العصابة التي توضع على الرأس؛ لأنها تحيط به، وعصبة الرجل هم قرابته، وقد سُموا بذلك؛ لأنهم يحيطون به عند الشدائد، فإذا احتاج إليهم أحاطوا به، ودفعوا عنه بإذن الله عز وجل، فيوصفون بكونهم عصبة من هذا الوجه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 المقصود بالعصبة قوله تعالى: (عُصْبَةٌ) : العصبة: قيل: إنهم الثلاثة، وقيل: الأربعة، وقيل: إلى عشرة، والمراد بهم هنا: - رأس الإفك وهو: عبد الله بن أبي بن سلول عليه لعنة الله. - والثاني منهم: حسان بن ثابت. - والثالث: مسطح بن أثاثة. - والرابع: حمنة بنت جحش. - وهناك مَن تكلم بالإفك غير هؤلاء. ولكن هؤلاء هم الذين اشتهرت عنهم مقالة الإفك، ومنهم من قال إن حسان رضي الله عنه لم يصرح بتهمتها وإنما عرَّض؛ ولكن الذي في صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنه استأذن عليها حسان رضي الله عنه، فأنشدها أبياتاً في مدحها يقول فيها: حَصان رَزان ما تُزَنُّ بريبةٍ وتصبح غرثى مِن لحوم الغوافلِ حليلةُ خير الناس ديناً ومنصباً نبيُّ الهدى والمَكْرُماتِ الفواضلِ عقيلةُ حيٍّ مِن لؤي بن غالبٍ كرام المساعي مجدهم غير زائلِ إلى آخر الأبيات. فأثنى عليها رضي الله عنه وأرضاها، فقالت له رضي الله عنها: (ولكن أنت) أي: أنت الذي قلتَ ما قلتَ. فقولها هذا يثبت أنه قد خاض، ولذلك لما استأذن عليها كما في صحيح البخاري أيضاً، قيل لها: أتأذنين له؟ قالت رضي الله عنها: أوَليس قد أصابه عذاب عظيم؟ أرادت بذلك العمى والعياذ بالله، أي أن الله ابتلاه به عقوبة له في الدنيا، كما أشار إلى ذلك سفيان الثوري راوي الحديث. فالمقصود أن هؤلاء الأربعة احتملوا حديث الإفك، وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل جلدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم لم يجلدهم؟ وإن كان الذي صححه طائفة من العلماء أنه قد جلدهم، وهذا هو الذي يتفق مع الأصل الموجب لإقامة الحد على القاذف، كما سبق بيانه في المجالس الماضية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 تفسير قوله تعالى: (لاتحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم) يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرَّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] : (لا تَحْسَبُوهُ) : من الحسبان وهو الظن، وحسبان الإنسان: ظنه، ولذلك يقال: لم يَدُر هذا بخَلَدي ولا بحسباني، أي ما ظننت أن هذا قد يقع، أو قد يحصل. وقوله: (لا تَحْسَبُوهُ) : أي لا تظنوه. (شَرَّاً لَكُمْ) : الشر: هو الذي غلب ضرره على نفعه، والخير: هو الذي غلب نفعه على ضرره، وليس هناك خير محض ولا شر محض إلا في الجنة والنار، فالجنة هي الخير المحض، والنار هي الشر المحض، وأما أمور الدنيا فهي ما بين غالب الشر وغالب الخير، وليس هناك محض الشر فيها ولا محض الخير، كما بينه العلماء رحمهم الله. وقوله سبحانه وتعالى: (بَلْ هُوَ خَيْرٌ) أي: أن الله تبارك وتعالى ابتلاكم بهذا البلاء وله في ذلك من الحكم ما لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، وأنكم قد تستكبرون وقوع الإفك في حق عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته؛ ولكن الله تبارك وتعالى أراد الخير بذلك كله. ومن هنا يتبيَّن أن العبرة في الأمور بعواقبها، وأن الإنسان قد يرى شيئاً يظنه خيراً فيأتيه الشر من حيث يحسب ويظن أن يأتيه الخير، وقد يرى الشيء فيظنه شراً فيأتيه الخير من حيث يظن أن يأتيه الشر، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] ، وكم من أمور نظر الإنسان إليها في بدايتها على أنها بلاء وشر؛ ولكن الله تبارك وتعالى جعل له حسن العاقبة والمآل فيها، ولذلك كان من الدعاء المأثور: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة) ، أي: اجعل لنا عواقب الأمور كلها خيراً، فالعبرة في الأمور بعواقبها، والعبرة في الأحوال بخواتمها، فمن كانت خاتمته على الخير والسلامة فلا يضره ما مضى في الشيء الذي يئول إلى الخير من التعب والنصب، ولذلك أهل الجنة في الدنيا يكابدون الأشجان والأحزان والبلايا، وهي شر من ناحية الظاهر، ولكن عاقبة ذلك البلاء وذلك العناء رضوانٌ لا سخط بعده ورحمةٌ لا عذاب بعدها، فيهون على المؤمن ما يعلمه من حسن العاقبة. فالشاهد: أن العبرة في الأمور بعواقبها، وكأن الله عز وجل ينبه المؤمن في هذه الآية أن لا يعجل في الحكم على القضاء والقدر، وأن عليه التسليم والرضا بما كتب له الله عز وجل علَّ الله أن يحسن له العاقبة. يقول تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرَّاً لَكُمْ} [النور:11] : أي لا تحسبوا -يا معشر المؤمنين- أن الله يريد بكم السوء والضرر؛ ولكن الله يريد بكم الخير في الدين والدنيا والآخرة، وقد كان ذلك. فحادثة الإفك، جعل الله عز وجل فيها درساً لعباده المؤمنين، وهو درس يُسَلِّي كلَّ امرأة فُتِنَت في عرضها، فتكلم الناس فيها واتهموها زوراً وبهتاناً، إذا ذكرت ما وقع لأم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، تسلت وتعزت، وكان لها في ذلك من السلوان خير كثير، فهذا من الخير الذي جعله الله في حادثة الإفك. وفيها من الخير أنها مدرسة لعباد الله المؤمنين أن يتحفظوا في نقل الشائعات، وألا يعتنوا بنقل الروايات دون تثبت، خاصة إذا اشتملت تلك الروايات والشائعات على طعنٍ في عبد من عباد الله، فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل في إخوانه. فهذه الحادثة هذبت ألسنة المؤمنين، وأدبت عباد الله المتقين، ودلتهم على ما ينبغي أن يكونوا عليه من سنن الدين، ومراعاة أعراض عباد الله المسلمين. وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] : المراد بهذا الخير لأهل الإيمان، وأما من كان على النفاق كـ عبد الله بن أبي بن سلول فإنه شر وبلاء عليه في الدنيا والآخرة، وهكذا من تكلم من المؤمنين في عرضها، فهو شر عليه في الدنيا؛ لأنه أُقيم عليه الحد، وفي الآخرة إذا لم يتب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 تفسير قوله تعالى: (لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم) وقوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11] : (لِكُلِّ امْرِئٍ) : أي: لكل واحد منهم. (مَا اكْتَسَبَ) : أي: من مقالة الزور والبهتان. وفي هذه الآية الكريمة دلالة على عدل الله عز وجل، وأنه سيؤاخذ الإنسان بما اكتسب واجترحت يداه، وما نطق به لسانه. وفي هذا دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يراقب الله عز وجل، فلا يصيب إثماً؛ لأن عز وجل بين أن إصابة الإثم ستكون وبالاً على صاحبها؛ لأنه مرهون بها، وذلك هو المعبَّر عنه بقوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11] أي: سيلحقه تبعة ما اكتسب واجترح من الإثم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 عبد الله بن أبي هو الذي تولى كبره في حادثة الإفك قوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] . قوله: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) كِبَر الشيء، أي عِظَمُه، ذلك أن هذه المقالة -وهي مقالة الإفك في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- وأرضاها نشأت مِن عبد الله بن أبي بن سلول، ولولا هذا الخبيث المنافق عليه لعنة الله لَمَا تحدث الناس فيها رضي الله عنها وأرضاها، فهو المتحمل لكبر هذا الإثم والعياذ بالله، ومن هنا أخذ بعض العلماء دليلاً على أن الإنسان إذا نشأت منه المقالة فطارت في الآفاق وكانت مشتملة على البهتان والإثم، فإنه يُسأل بين يدي الله عن كل لسان لاك تلك المقالة، ويتحمل آثام الناس والعياذ بالله. ولذلك ورد في الحديث الصحيح في صحيح البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر على رجل يعذب، فسأل عن ذلك، فأُخبر أنه الرجل الذي يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق) -والعياذ بالله- بأن يقول خبراً غير صحيح، فيتناقله الناس، فلذلك يعظم إثمه على حسب كثرة الذين يتكلمون بذلك الكلام المكذوب. ومن هنا يتبين أنه ينبغي للمسلم أن يحفظ لسانه عن أن يقول شيئاً لا علم له به، وأن يكون على حيطة من أن يصيب شيئاً يكون عليه كِبَره ويكون عليه إثمه والعياذ بالله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 تفسير قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً) يقول الله تبارك وتعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] : سبب نزول هذه الآية: أن أبا أيوب الأنصاري زيد بن خالد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه- كان مع أم أيوب رضي الله عنها، فقالت له أم أيوب: (ألم تسمع ما قد قيل في عائشة؟ فقال: قد سمعت، ثم قال لها: أو تظنين ذلك، قالت: لا والله! قال لها: يا أم أيوب، لو قيل فيك ذلك أكنتِ فاعلة لذلك، قالت: معاذ الله! قال: فوالله! لـ عائشة خير منك، رضي الله عنه وأرضاه) . (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً) أي: هلا إذ سمعتموه ظننتم الخير بالمؤمنين والمؤمنات. قوله (المؤمنون) عائد إلى أبي أيوب ومن كان مثله ممن رد الكذب ولم يحتمل البهتان في أم المؤمنين رضي الله عنها. وأما قوله: (وَالْمُؤْمِنَاتُ) : فالمراد بهن أم أيوب ومن كان في حكمها؛ كـ زينب بنت جحش، فإنها كَذَّبْت ودافعت عن عائشة رضي الله عن الجميع. وقوله: (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً) الأنفس: جمع نفس، وتطلق على عدة معانٍ، منها: الأخ، ومنه قوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] ، فهذا أحد الأقوال في تفسيرها كما سيأتي: أي على إخوانكم. قوله تعالى: (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً) ، أي: ظنوا أن إخوانهم أبعد ما يكونون عن الشر وعن إصابة الفواحش والآثام إبقاءً للأصل والبراءة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 علاج الشائعات ينبغي على الإنسان إذا سمع النقيصة في المؤمن ألاَّ يعجل في تصديقها، وقد قرر العلماء رحمهم الله أن الإنسان لو نقل المقالة التي تشتمل على الطعن في الإنسان؛ ولو كان على سبيل الحكاية، فإنه آثم والعياذ بالله، وقد توسع الناس في ذلك -كما قلنا- فهناك أناس يقدحون في الناس على اختلاف طبقاتهم، فيقدحون في العامة، ويقدحون في الخاصة، ويلصقون التهم بهم، وقد تصل التهمة إلى الدين والعياذ بالله، والخروج من الملة، وكل ذلك لا يجوز كما قلنا، فقد يتهم القاضي في حكمه، ويقال: إنه مرتشٍ، وهو أبعد ما يكون عن الرشوة، وأنزه ما يكون عنها، فيأتي إنسان مغفل لا يراقب الله في أعراض المسلمين، فيسمع مفتوناً يتكلم في ذلك القاضي على سبيل المثال، أو يسمع عدواً للقاضي يقول مقالته التي يطعن فيه بها، فيقول: إنه غير عالم، أو يأخذ الرشوة، أو يجور في حكمه، أو يستعجل في حكمه، فيأتي ويقول: تقول الناس في فلان كذا وكذا، وقد يأتي داعية إلى الله له بلاء ورسوخ، وحسن بلاءٍ في الساحة، فيقول رجل فيه: فيه كذا وكذا، وقد يكون من أجهل الناس بذلك العالم والداعية، فيقول فيه ما يقول، فيأتي إنسان ويحمل هذه المقالة فيقول: يقال في فلان كذا وكذا. هذا الكلام الذي نقله على هذا الوجه يعتبر إثماً عليه والعياذ بالله، ولو نقله غيره ولو على سبيل الحكاية فإنه يعتبر آثماً. وهذا كله يدل على سمو منهج الشرع في علاج الشائعة، فأحسن علاج في رد بلاء الشائعات التي تشتمل على أذية الناس في أعراضهم، هو: - ما بيَّنه القرآن بعد تثبت واستبيان. - والأمر الثاني: أنه ينزل نفسه منزلة المتكَلَّم فيه. وقد أشار الله إلى هذين العلاجين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] ، أي: نادمين في الدنيا على إصابة الذنب، ونادمين في الآخرة بما يلحقكم من العذاب والعقوبة والعياذ بالله، وأشار الله إلى العلاج الثاني، وهو الكف عن نقل الشائعات بحسن الظن، وتنزيل الناس منازلهم، والبقاء على البراءة الأصلية بقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] ، فهذا يدل على أنه ينبغي للإنسان أن يكف عن الشائعة وألاَّ يعتني بنقلها. وقوله: (إِفْكٌ) : أي كذب. وقوله: (مُبِينٌ) أي: بيِّن واضح، وعبَّر بـ (فَعِيْل) وهي صيغة من صيغ المبالغة، أي كونه كذباً واضحاً لا شك فيه ولا مرية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 واجب المسلم تجاه الشائعات في هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً} [النور:12] دليل على ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن إذا بلغته الشائعة عن أخيه أو أخته المؤمنة من عدم المبادرة بالتصديق، وأنه يجب عليه إذا كان مؤمناً حقاً أن ينزل نفسه منزلة الشخص الذي تُكُلِّم فيه، فهل يرضى أن يقال فيه ما قيل في أخيه؟ فإن كان لا يرضى ذلك فليدافع عن أخيه كدفاعه عن نفسه، وهذه أخوة إيمانية، ووشيجة من الله ربانية، تدل على أن أهل الإيمان ينبغي أن يكونوا بمثابة الرجل الواحد، فإذا طُعن أحدهم فكأنما أصيب الجميع، وقال بعض العلماء: لما كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها أمَّاً للمؤمنين صارت تهمتها بمثابة تهمة للمؤمنين جميعاً، أي: أذيتها وعارها وشنارها على جميع المؤمنين؛ لأنها أم للجميع رضي الله عنها وأرضاها، فجاء تعبير الآية مناسباً لذلك، كما أشار إليه الزركشي في البرهان. ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، قال بعض العلماء: ومفهوم ذلك أنه يكره لأخيه ما يكره لنفسه. ولذلك لا يرضى أن يتكلم أحد في أحد من إخوانه المسلمين، وإذا تكلم أحد في إخوانه المسلمين مَنَعَه وزَجَرَه وكَهَرَه، وهذا يدل على ما ينبغي أن يكون عليه المسلم، وقد ترك كثير من الناس إلا من رحم الله هذه السنة التي أوجبها الله وفرضها، وأصبحت الشائعات تدور بين المسلمين، وأصبح من اليسير أن تسمع تهم الناس لبعضهم بعضاً، وكذلك وصْفُهم بما هم منه برآء، فإن كانوا من العامة ألصقت النقائص بهم زوراً وبهتاناً، وإن كانوا من أهل العلم والفضل والدعاة إلى الله عز وجل نُبِزُوا بأشياء هم منها برآء. وإذا كان الله عز وجل توعد مَن قدح في عرض المسلم بالعذاب العظيم الأليم في الدنيا والآخرة، فكيف بمن اتهم العالم في عقيدته، أو اتهمه بانحراف في فكره، أو نحو ذلك من التهم التي لا تقوم عليها دلائل صحيحة، ولا تشهد لها حجج صادقة؟! فهذا كله مما لا ينبغي أن يتخلق به المسلم، والواجب على المسلم أن يحفظ عرض إخوانه المسلمين، فضلاً عن أن يكونوا من علماء الدين. وإذا حصل ووقع بين عالم وآخر كلام ووقعت المراجعة والمناظرة، فينبغي لطلاب العلم أن يحفظوا للعلماء حقوقهم، وأن يحفظوا لهم كرامتهم، وألا يستبيحوا أعراضهم، فينزل كل طالب علم نفسه منزلة العالم الذي يُتكلم فيه. فإن كان مما يُسمح الخلاف فيه؛ كمسائل الفروع ونحوها، فالمفروض عذره في ذلك والتماس العذر له، وهذا هو شأن السلف رحمهم الله، فقد كانوا يحسنون الظن بعامة المسلمين فضلاً عن العلماء. وإن حصلت الزلة من عالم كأن يقع في خطأ مما لا يوجب خروجه من الشرع، فالواجب تهيئة الوضع له ليراجع نفسه، وذلك بمناقشته ومناظرته بأسلوب يمكنه من إعادة النظر، مع حفظ عرضه عن السب والشتم والثلب فإن الله لا يحب الجهر بالسوء، قال الله عز وجل: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] ، وليس معنى ذلك -كما قررنا غير مرة- أن نترك تنبيه الناس على الأخطاء وبيان الأخطاء، وإنما المراد أن يُفرق بين نقد الذات ونقد الرأي. فإذا أخطأ العالم في مسألة بيَّنا الصواب في المسألة والتمسنا لذلك العالم ما يوجب حسن الظن به؛ لأن هذا هو الأصل، وأما من خرج من ربقة الإسلام وخرج من الدين بالكلية في عقيدته ونحو ذلك من الأمور الموجبة لخروجه عن الشرع، فهذا لا كرامة له ولا حق له لخروجه أصلاً. وإنما المراد بذلك أهل العلم والفضل الذين هم على استقامة وديانة وتعبد وحسن بلاء، فمثل هؤلاء ينبغي أن يُحفظ حقهم والله تبارك وتعالى قد يمتحن العباد بفتن مثل هذه، ولو نظرت في تاريخ الأمة لوجدت كثيراً من العلماء تُكلِّم فيهم وانتُقِصوا وانتُهكت أعراضهم بدون حق؛ ولكن جعل الله عز وجل ذلك الانتقاصَ كمالاً لهم، وذلك الكلامَ شهرةً لهم، وذلك التتبعَ لعثراتهم سبباً في شهرتهم ومعرفة الناس بهم، فعلى سبيل المثال: الإمام العالم العامل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه ما اشتهر إلا بسبب أعدائه، وإن كان رحمه الله على علم وفضل وقدم راسخة في العلم والعمل؛ لكن الله سخر له أعداء شهروا به حتى اشتهر رحمه الله وفاق أقرانَه وأصبح كلام الأعداء فيه سبباً في معرفته واشتهاره، ومعرفة فضله رحمة الله عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 تفسير قوله تعالى: (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ... ) يقول تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] . قوله تبارك وتعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:13] ، أي: هلا جاءوا على هذا الإفك والكلام الذي زعموه في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، بالبينة التي تدل على صدق دعواهم. وقوله: (بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) فيه دليل على البينة التي يثبت بها القذف، وأنه إذا قذف الإنسان غيره، وأقام أربعة شهود، فإن ذلك يوجب سقوط حد القذف عنه، لكون تلك البينة مصدِّقةً ومحقِّقةً لما قاله من رمي المتهم بذلك. قوله تعالى: (بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) : قد تقدم الكلام في ذلك عند بيان حد الزنا، وما يثبت به حد الزنا، وأن الشهادة في القرآن في هذا الموضع مطلقة، وأن هذه الآية وأمثالها قد خصصتها آيات أخر، وذلك في قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] ، فليس المراد بأربعة شهداء مجردين عن العدالة، وإنما المراد من الشهود العدول الذين تُرضَى عدالتهم وأمانتهم واستقامتهم. {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} [النور:13] : أي: فلو قالوا ذلك ولم يأتوا بأربعة شهداء. {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ} [النور:13] : قال: (فَأُوْلَئِكَ) لم يقل: فهم، وإنما عبَّر باسم الإشارة للبعيد، قال بعض العلماء: فيه نكتة لطيفة تدل على بعدهم وحقارتهم؛ أي: من اتهم وليس عنده أربعة شهود على تهمته، ولو كان صادقاً، فإنه يعتبر في حكم الشرع -بحسب الظاهر- من الكاذبين. وقوله: {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ} [النور:13] : أي في حكم الله عز وجل وشرعه؛ لأنه لو قال قائل: (عِنْدَ اللَّهِ) أي في حقيقة الأمر لأشكلت الآية، ووجه هذا الإشكال أن الإنسان قد يقذف امرأة رآها تزني وقد يقذف رجلاً رآه يزني، ويكون صادقاً ولا بيِّنة عنده، فلو قلنا: إن قوله تعالى: (فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) ، على أنها على ظاهرها لأشكلت الآية، فهو صادق عند الله؛ لأنه اتَّهم بالزنا بدليل، ولذلك قال العلماء: إنما المراد (عِنْدَ اللهِ) أي أن القاضي يحكم على الظاهر، ويقال: إنهم كذبة على الحكم على الظاهر، وأما في الباطن فبينهم وبين الله عز وجل أنهم صادقون فيما قالوا إذا كان المتهم قد فعل ما اتُّهم به مِن فِعْل الزنا والعياذ بالله، سواءً كان رجلاً أو كانت امرأة. يقول تعالى: (فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) : ولذلك يحكم القاضي بفسق الإنسان إذا اتهم غيره بالزنا بدون بينة كاملة، ويحكم برد شهادته وبفسقه، ولا يقبل شهادته أبداً حتى يتوب، كما تقدم ذلك عند الكلام على آية القذف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ... ) قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14] : (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ) أي ولولا وجود فضل الله عز وجل عليكم، ورحمته بكم. (لَمَسَّكُمْ) : أي أصابكم. (فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ) أي خضتم فيه، والمقصود به حديث الإفك. (عَذَابٌ عَظِيمٌ) : وهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى يغار على عرض المؤمن، وأنه ينبغي للمؤمنين أن يكفُّوا عن نقل الشائعات والعناية بالتهم وإلا أصابتهم العقوبة من الله والعياذ بالله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 تفسير قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم) يقول تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) في هذه الآية الكريمة أراد الله عز وجل بها أن يعاتب عباده المؤمنين على ما كان منهم في تهمة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها. قال تعالى: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) : في قراءة: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) . وفي قراءة ابن مسعود: (إِذْ تَتَلَقَّوْنَه) . وفي قراءة عائشة ويحيى بن يعمر: (إِذْ تَلِقُوْنَه) : مِن الوَلْق، والمراد به: الإسراع. وفي قراءة: (إِذْ تُلْقُوْنَه) : ومعناها بيِّنٌ واضحٌ. قوله: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) المراد بتلقي الشيء: قبولُه دون إنكار، ولم يقف الأمر عند ذلك، أي: لم تتلقوه فقط، وإنما كان ذلك منكم على سبيل الحكاية أيضاً، فلم يقتصر الإنسان على سماعه. (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) فكأنه عبَّر باللازم، أي أنه يُعتبر الإنسان متلقياً للشيء إذا قاله وحكاه بعد سماعه، فمن قيل له كلام فقال ذلك الكلام، فإنه يعتبر راضياً بذلك الكلام الذي ألقى. (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) . (تقُولُون) : أي تتكلمون بذلك، والمراد بذلك: الخوض في شأن عائشة رضي الله عنها، قوله: (مَا لَيْسَ لَكُمْ بِه عِلْمٌِ) أي: دون علم منكم بأنها قد أصابت ذلك الشيء، وفي هذا دليل على ذم كل إنسان خاض في أمر لا يعلمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 اختلاف عِظم الإساءة باختلاف المساء إليه يقول الله تبارك وتعالى {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] : قال بعض العلماء: يعظم الذنب بحسب الشخص الذي أذنب في حقه، فالكلام في عرض العامة ليس كالكلام في عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فـ عائشة فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم طيبةٌ قد اختارها الله عز وجل لطيبٍ، وطاهرةٌ مختارةٌ لطاهر صلوات الله وسلامه عليه. فالمقصود: أنه لما عَظُم مقامها عند الله عز وجل كانت الإساءة في حقها أعظم، ولذلك قالوا: الإساءة إلى العالِم ليست كالإساءة إلى الجاهل، والقَدْح في العالِم ليس كالقدح في الجاهل؛ لأنك إذا قدحت في الجاهل لا يضر ذلك القدح إلا ذلك الجاهل؛ ولكن إذا قُدح في العلماء وانتُقصوا، فإن ذلك قَدْحٌ وثلمة في الدين؛ لأن الناس تستخف بذلك العالم، ولذلك لا تثق بقوله، ولو كان القدح صحيحاً، فإنه ينبغي أن يكون بأسلوب لا يوهن الدين، كل ذلك حفاظاً على الفتاوى والأحكام التي تستفاد من مثل هذا العالم، ولذلك قالوا: إن الكلام في العلماء ثلمة في الدين؛ لما يشتمل عليه من الضرر، ولما يلحقه من عزوف الناس عن قبول الخير من ذلك العالِم، فهذا هو معنى قوله: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] فكلما عظمت منزلة الإنسان عند الله عز وجل صلاحاً وتقوى كان الكلام فيه والأذية له مختلفة عن أذية غيره، كما أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك في الحديث القدسي عنه تعالى أنه قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بحرب) وحرب من الله ليست بالهينة. فالمقصود: أن الذنب قد يعظم على حسب الإساءة إلى الشخص، وعلى حسب قدر الإنسان المساء إليه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يسلمنا من أعراض عباده، وأن يرزقنا عفة اللسان، وعفة الجنان، وأن يرضى عن أقوالنا وأفعالنا، إنه ولينا وهو حسبنا. وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 بيان عِظم القدح في أعراض الناس وقوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً} : أي تظنون أنه هين، والهين هو اليسير. وقوله: {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] : أي تظنون أن هذه الشائعةِ التي اشتملت على تهمة عائشة رضي الله عنها يسيرة؛ ولكنها عظيمة عند الله عز وجل. وهذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس في الصحيحين أنه مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) أي: ما يعذبان في شيء يظنه الناس كبيراً، وكذلك قوله: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) : أي في ظنكم وحسبانكم أن الكلام في عرض عائشة رضي الله عنها يسير؛ ولكنه عند الله عز وجل عظيم. وفي هذا دليل على خطر الكلام في الناس، وأن الإنسان قد يطعن في إنسان يحتقره ويظن أن الكلام فيه يسير ويكون من خيار عباد الله، فيكون الكلام فيه حرباً ومعاداةً لله عز وجل، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً، يهوي بها أبعد ما بين المشرق والمغرب في النار) وفي الرواية الأخرى: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه) ، فهذا كله يدل على خطر الآثام، وأن الإنسان قد يحتقر الذنب وهو عند الله عظيم، بل قال بعض العلماء: إن الكبيرة هي الذنب الذي يحتقره الإنسان، ومن ثم قال بعض أهل العلم وهو قول مأثور عن بعض السلف: (لا تنظر إلى المعصية؛ ولكن انظر إلى عِظم مَن عصيت) ، أي: انظر إلى عظمة الله تبارك وتعالى، والمؤمن على كل حال إذا أصاب الذنب ولو كان يسيراً فإنه يعُدُّه في حق الله عز وجل كبيراً لحياة قلبه وروحه، كما ثبت بذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أن المؤمن إذا أصاب الذنب أصابه الهم، كأنه قد حمل جبلاً على ظهره، فلا يزال في عناء ذلك الذنب حتى يغفره الله له، والمنافق يصيب الذنب العظيم فلا يراه إلا كالذبابة تحط على أنفه قد قُلِع عنه من يسير ما يظن في ذلك الذنب) ، ولذلك قال بعض العلماء: من دلائل حياة القلب وموته: خوفُه من الذنب وتساهلُه فيه؛ فإذا كان الإنسان عند إصابته لأي ذنب يتألم ويتأوه ويتوجع كان ذلك دليلاً على صلاح قلبه وحياة فؤاده، وأما إذا كان على خلاف ذلك والعياذ بالله فإنه لا يحس بأثر ذلك الذنب، ويراه شيئاً يسيراً، نعوذ بالله عز وجل من موت القلوب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 سلسلة تفسير سورة النور [5] إن من كمال حراسة الله عز وجل لفضيلة في المجتمعات الإسلامية، أن أمر بغض البصر، وحرم الاختلاط والتبرج والسفور؛ ومن حرص الشارع على نقاء المجتمع حرم حتى الكلام الذي يفضي إلى الفاحشة، وكل ما يزينها أو يسوغ وقوعها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ... ) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومَن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] . هذه الآية الكريمة اشتملت على ثلاثة أمور: الأمر الأول: تحريم إشاعة الفاحشة بين أهل الإيمان. والأمر الثاني: بيان عاقبةِ مَن أشاع الفاحشة في الذين آمنوا. والأمر الثالث: بيان صفةٍ مِن صفات الله تبارك وتعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 في الآية بيان صفة من صفات الرحمن الأمر الثالث الذي اشتملت عليه هذه الآية الكريمة: فصفة تدل على عظمة الواحد الديان، ختم بها هذه الآيات الكريمة حتى ينبه العباد بفضل هذا الكتاب، وأنه سبيل الخير والهدى والصواب. يقول الله تبارك وتعالى مشيراً إلى هذه الصفة الكريمة: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] وللعلماء في تفسير خاتمة هذه الآية الكريمة وجهان: - منهم مَن قال: إن المراد بها الخصوص، أي: أن الذي تقدم مِن قولنا: إن المراد بالآية قَذفَة عائشة وإشاعة الفاحشة عنها، يكون قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) أي: يعلم أن هؤلاء كاذبون ومفترون فيما قالوه، وأن الذين يشيعون الفاحشة في الذين آمنوا أنهم أهل كذب، لا حقيقة لما قالوه ولا صدق لما أذاعوه، فالله يعلم كذبهم، وأنتم لا تعلمون. هذا هو الوجه الأول. - وأما الوجه الثاني: فهو أن قوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي: يا عبادي! هذا حكمي أن أعذب أهل الفواحش، الدعاة إليها والممهدين لسبيلها، وأنا أعلم بخلقي، وأعلم بالحكم الذي شرعته لهم من عذاب الدنيا إذا قذفوا، وعذاب الآخرة إذا صاروا إلى الله ولم يتوبوا، فقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) يكون معناه على هذا الوجه الأخير، أي: أن هذا الشرع الذي شرعته لكم مِن عقوبة مَن يشيع الفاحشة في الدنيا والآخرة إنما هو شرع العليم الذي يعلم عواقب الأمور، وفي هذا إشارة إلى العواقب الوخيمة التي تتأتى أو تحصل بسبب إطلاق الناس لألسنتهم بالفواحش، أي: والله حرَّم ذلك لعلمه بما يئول إليه الأمر من أذية المسلمين، ولذلك لو أن إنساناً اتُّهم في عرضه لم ينم ليلته، ولم يرتح في يومه، وكذلك لم يرتح في عبادته وصلاته لربه، بل إن عائشة رضي الله عنها لما بلغها قذفُها مكثت ثلاث ليالٍ لا تنام لها عين، ولا يجف لها دمع من البكاء والدموع. فاتهام الناس في أعراضهم، وإشاعةُ الفاحشة عنهم أمرٌ خطير، ولا يعرف قدره إلا الله عز وجل علام الغيوب، ولربما أن الإنسان إذا أشاع الفاحشة عن رجل أنها تضر بيته كله، فلا تُنْكَح بناتُه ولا أخواتُه، ولربما يسترسل ذلك إلى عواقب لا يعلمها إلا الله، فلا يستغرب المؤمن من هذا الوعيد الذي توعد الله به أهل إشاعة الفاحشة! فلا تعجب -أيها المؤمن- من ذلك فالله عليم بخلقه، حكيم في أمره ونهيه! وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يسلم لله عز وجل ويذعن له، فإذا بلغه الحكم عن الله علم أن شرع الله هو الغاية، وأنه هو النهاية في العدل وفي اللطف بالعباد والرحمة. والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 عاقبة من أشاع الفاحشة بين المؤمنين أما الأمر الثاني: قوله تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] : فهذا المقطع من الآية الكريمة دل على أن من أحب انتشار الفاحشة في المؤمنين أن الله عز وجل يعاقبه في الدنيا والآخرة، وللعلماء في هذه الآية وجهان، كلاهما مركبان على ما سبق في صدر الآية الكريمة عند بيان الأمر الأول، وهما: - أن الآية إما أن يراد بها الخصوص أي: قَذَفَة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فنقول: إن قوله تعالى: (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) المراد منه أن من قذف أم المؤمنين عائشة وصفوان بن المعطل رضي الله عن الجميع فإن الله سيعذبه في الدنيا والآخرة، أما عذاب الدنيا: فحد القذف الذي أقامه النبي صلى الله عليه وسلم، وأما عذاب الآخرة: فلأن الإنسان إذا قذف غيره ولم يتب إلى الله فإن الله سيعذبه في الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية، ولذلك سيأتي في الآيات الكريمة التالية بيان أن الله عز وجل يعذبهم في الآخرة بعذابين عظيمين: أما العذاب الأول: فهو أن يفضحهم كما فضحوا أولياءه، ويشهِّر بهم على رءوس الأشهاد أمام الأولين والآخرين، فيقيمهم في عرصات يوم الدين، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:88] فتشهد عليهم الألسنة بأنهم كذبوا على عباد الله، واتهموا أولياء الله، وأنهم أشاعوا الفاحشة بين عباد الله، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما سعوا به في ذلك. فلذلك أخبر الله عز وجل عن هذا العذاب الأول، ثم أخبر عن العذاب الثاني وهو: عذاب النار وبئس القرار، نسأل الله عز وجل أن يعيذنا من ذلك، وأن يرزقنا عفة اللسان عن عباده وخلقه، والأدب في نقل الحديث عنهم وترويج الأخبار عنهم، فالمقصود: أن هذا المقطع الثاني من الآية الكريمة إن كان المراد مِن صدرها أم المؤمنين وصفوان بن المعطل، فالمراد بقوله: (عَذَابٌ أَلِيْمٌ) أي: حد القذف في الدنيا، وعذاب الآخرة بعذاب النار والفضيحة أمام الأشهاد؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فمن فضح عباد الله وتتبع عورات المسلمين وشهَّر بهم بالزور والبهتان، كان حقاً على الله عز وجل أن يعامله بما فعل، فكما شهر بالمؤمن في الدنيا يشهر الله به في الآخرة، وكما فضح المؤمنين يفضحه الله على رءوس الأولين والآخرين، وشتان ما بين الفضيحتين! وشتان ما بين العذابين! - ثم هناك وجهٌ ثانٍ في قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] : وهو أنه إذا قيل: إن المراد بالآية غير قَذَفَة عائشة، فيكون المعنى: كل مَن روَّج الشائعات التي تفضي بحصول الفحشاء، وانتشارها بين أهل الإيمان، أو كان داعية إلى الفجور كدعاة الزنا ودعاة الخمور ونحو ذلك ممن ينشرون ما حرم الله، ويدعون إليه، ويسهلون السبيل لبلوغه والوصول إليه، هؤلاء لهم عذاب أليم في الدنيا، ولهم عذاب أليم في الآخرة، فشهد الله عز وجل أنه سيعذبهم بعذابين، ولذلك تجد دعاة الباطل والهوى وأصحاب الفسوق والردى في عذابٍ وقلق نفسي لا يعلمه إلا الله عز وجل، فيعذبهم الله في أنفسهم، فإذا فتشت عن قلب أحدهم وجدته أشد ما يكون احتراقاً والعياذ بالله من داخله، يتلذذ بالشهوات في جسده، يصيب الزنا والخمور واللواط والعياذ بالله وغيرها من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وفي داخله يحترق جحيماً والعياذ بالله، في قلق واضطراب لا يعلمه إلا الله عز وجل {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26] ، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33] ولذلك تجدهم مهما تلذذوا بالشهوات يسلبهم الله عز وجل لذتها، فيشربون الخمر ليجدوا لذة الساعة، وبعدها يجدون عذاب الدهر والعياذ بالله، فهذا هو عذاب الدنيا، ولربما يعذبهم الله عز وجل في الدنيا بصرف القلوب عنهم، والأنظار، ولذلك تجد أهل الفحش والعياذ بالله في سُخْط من الناس، مهما عجبت الناس من أفعالهم وأقوالهم لكنهم لهم كارهون، ولسبيلهم مجانبون، فالمقصود أن الله يعذبهم بذلك في الدنيا، وأما عذاب الآخرة: فعند لقاء الله عز وجل فيعذبهم الله تبارك وتعالى بما شاء من فتن القبور وأهوالها، وفتن النشور وشدائدها، وكذلك فتن جهنم وعذابها، نسأل الله السلامة والعافية من جميع ذلك. فالمقصود: أن الآية إذا حُملت على العموم فإن المراد بها: أن الله يعذب كل مَن آذاه بإشاعة الفاحشة بين عباده المؤمنين في الدنيا والآخرة. ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الغالب في الإنسان إذا دعا إلى الشهوات والفواحش ألاَّ يسلم له عقله، ولذلك قال الله عز وجل حينما نهى عن الفواحش: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُوْنَ) والغالب أن صاحب الفاحشة مع دعوته إليها أن تجد فيه خفةً وطيشاً في العقل والعياذ بالله؛ لأن العقل يَعْقِلُ صاحبَه عن الأمور الرذيلة، فإذا اجترأ على حدودَ الله عز وجل سلبه الله نورَ العقل، ولذلك كم رأينا وسمعنا من عواقب كُتَّاب وشعراء وغيرهم ممن دعوا إلى الفواحش، كانت أوبأ العواقب وأسوأها والعياذ بالله، حتى ولو كان ذلك بمجرد كلمة يشيعها ويذيعها نسأل الله السلامة والعافية من جميع ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 تحريم إشاعة الفاحشة أما الأول: وهو تحريم إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا: فقد تضمنه قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) إذ بينت هذه الآية الكريمة تحريم إشاعة الفاحشة بين أهل الإيمان، وللعلماء في هذه الآية الكريمة وجهان: الوجه الأول: أن المراد بها طائفة مخصوصة، أو قوم مخصوصون، وهم الذين تكلموا في حادثة الإفك، أي: أراد الله تبارك وتعالى بهذه الآية الكريمة أن يزيد في تقريع المنافقين، وأولئك المؤمنين الذين تبعوا أهل النفاق في حكاية ما قالوه من الطعن في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، واتهامها بالزنا، فوصفهم الله تبارك وتعالى بهذه الصفة أنهم قوم يحبون أن تشيع الفاحشة أي: نسبة أهل الإيمان إلى فعل الزنا والعياذ بالله، وأنهم يحبون ذلك؛ لكونهم يبغضون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لضعف إيمانٍ أوجب لهم الوقوع في هذا الأمر العظيم. وبناءً على هذا الوجه فإن قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) . يراد بقوله (الْفَاحِشَةُ) : شيءٌ مخصوص وهو: التهمة بالزنا. وقوله (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) أي: بنسبة عائشة رضي الله عنها وصفوان بن المعطِِّل رضي الله عنه إلى الزنا زوراً وبهتاناً. (يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ) فوصفهم الله تبارك وتعالى بأنهم قوم يحبون ويرضون بإشاعة الفاحشة بين أهل الإيمان. أما الوجه الثاني عند العلماء: أن المراد من هذه الآية العموم، أي: أن الله تبارك وتعالى أراد أن يؤدب أهل الإيمان بها، فلا يكون المؤمن ناقلاً لحديث الفاحشة، مشيعاً له بين الناس دون تَرَوٍّ ولا تَثَبُّتٍ ولا تَتَبُّعٍ لحقيقة الأمر الذي يقوله. وبناءً على هذا الوجه الثاني يكون قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) أراد الله منه أن يبين طائفة من الناس ابتُليت بهذا المرض والعياذ بالله، وهو نقل الأحاديث القبيحة بين الناس. ويكون قوله: (يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) يقال: شاع الخبر يشيع شيوعاً إذا ذاع وانتشر أي: يحبون أن تذيع الفاحشة وتنتشر بين أهل الإيمان، وهذا من أبغض الصفات، ذلك أن الفاحشة إذا سُتِرت ولم تتعد موضعها، ووئدت في مهدها بأن اقتصرت على الشخص الذي فعلها، وسُتِر إن كان الله ستره، فإن ذلك أدعى لصيانة المجتمع؛ ولكن إذا انتشر بين الناس ذكر الفواحش والكلام القبيح، ونسبة الناس إلى الأمور القبيحة فإن ذلك والعياذ بالله مظنة لفتنة الناس، وصدهم عن التخلق بالأخلاق الفاضلة. وبناءً على هذا الوجه الثاني تكون هذه الآية الكريمة جاءت بقصد تأديب عباد الله المؤمنين حتى يحفظ كل واحد منهم لسانَه فلا يتكلم بالأمر القبيح ولا يشيعه بين الناس، ولذلك كان من علامة المؤمن الصادق في إيمانه أنه لا يحب سماع الفحش ولا ينقل ذلك القول الفاحش، ولذلك قالوا: مَن نَقَل الفاحشة فهو أفحش، أي: إذا رضي بها واعتنى بنشرها بين الناس، والغالب أنك إذا رأيت الرجل الذي يحرص على نشر الفاحشة بين الناس أن تجده متخلقاً بصفتين: إحداهما: ضعف إيمانه والعياذ بالله، ونقص خوفه من الله تبارك وتعالى. والصفة الثانية: نقص عقله. ولذلك تجد نقلة الأحاديث الذين يعتنون بإشاعة الفاحشة والأخبار السيئة بين المؤمنين يتخلقون بالصفتين والعياذ بالله. أما أهل الإيمان فهم أعف الناس لساناً، وأثبتهم في طاعة الله جَناناً، تشاع الفاحشة فيحسنون الظن بعباد الله، ويدفعون التهمة عن أولياء الله، وهم أطهر وأعف ألسنةً مِن تهمة الناس، يحبون للمسلمين ما يحبون لأنفسهم، ويكرهون لأهل الإيمان ما يكرهون لأنفسهم، ولذلك كان مِن وصية السلف الصالح رحمهم الله: أنه لا ينبغي إشاعة الحوادث التي فيها فُحش وأمرٌ قبيح؛ لأن ذلك وَهَن في المجتمع وضعف فيه، ولذلك ورد عن سفيان الثوري رحمه الله قوله: إنه لا ينبغي للمؤمن إذا سمع الأمر القبيح أن يكون ناقلاً له لأن ذلك ثلمةٌ في الإسلام، فإذا وقعت الفاحشة بين أهل الإيمان، واعتُني بنشرها ونقلها وإذاعتها كان ذلك أدعى أن يجترئ أهل الفسق على الفسق حتى يقول القائل: إنني سأفعل كما فعل فلان، ولكن إذا كان الناس أبعد عن إشاعة هذه الأخبار الخبيثة وهذه الأمور القبيحة كان ذلك أدعى للحشمة والعفة، وليس معنى ذلك السَّتْرُ على أهل الفسوق والفجور، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية رضي الله عنه أنه قام في الناس خطيباً فقال (ألا تَرْعَوُون؟! اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس) . فاستثنى أهلُ العلم رحمهم الله أن يكون الرجل مجاهراً بفسقه، فمثل هذا تُشاع شنيعته وتُفضح قبيحته، حتى يكون ذلك أدعى لبُعد الناس عن هواه، ومجانبتهم لفاحشته وطغيانه واعتدائه لحدود ربه، ولذلك إذا شُهِّر بالفاسق المجاهر بفسقه كان ذلك أدعى لكف الناس أو انكفاف غيره عن فحشه. فالمقصود أن النهي عن إشاعة الفاحشة مقيد بأحوال، كما سبق في النص الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ) انظر رحمك الله كيف أخبر الله عز وجل أن مجرد محبة إشاعة الفاحشة بين المؤمنين توجب عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فكيف بمن فعل؟! وكيف بمن نشر؟! وكيف بمن دعا وسهَّل؟! وللعلماء في هذه الآية الكريمة -بناءً على الوجه الثاني- وجه آخر؛ وهو: أن إشاعة الفاحشة المراد بها أن يدعو الإنسان غيره إلى الفاحشة، فيحب أن يصبح المجتمع والعياذ بالله مجتمعاً فاسقاً، لا يرعى ديناً ولا حرمةً من حرمات ربه والعياذ بالله. وعلى هذا يكون قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) المراد منه تحذير المسلم أن يقول قولاً أو يفعل فعلاً يدعو غيره به إلى فعل الفاحشة، كما يفعل أهل الفسوق والفجور والعياذ بالله، فأخبر الله تبارك وتعالى أن مَن دعا إلى الفحش أنه سيذيقه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وعْداً مِن الله مفعولاً. ولذلك حذر العلماء رحمهم الله عند الكلام على الآداب والأخلاق -كما هو منهج الشريعة- من أن الإنسان يَسُنُّ السُّنَّة القبيحة التي تفضي بوقوع غيره والعياذ بالله في الفحشاء والمنكر، ولقد بين بعض العلماء أن الدعوة إلى الفاحشة تكون باللسان، وتكون كذلك بالجوارح والأركان والعياذ بالله الرحمن، فقالوا: إن الإنسان قد يدعو غيره إلى الفاحشة بلسانه، ولذلك قالوا: لو أن إنساناً أشاع الفاحشة في قوم فإنه يلقى الله بآثامهم، فعلى سبيل المثال: الرجل يأخذ الشباب والصبية الصغار في السن يسهِّل لهم السبيل لحدود الله، ويحببهم في فعل معاصي الله، فهذا يعتبر من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وصاحبه موعود بعذاب الدنيا والآخرة والعياذ بالله! ولذلك قرر بعض العلماء رحمهم الله أن الإنسان إذا دعا إلى الفاحشة بلسانه فسهل سبيلها لغيره كأن يدعوه إلى الزنا أو إلى شرب الخمر أو غير ذلك من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فإنه لن يفعل تلك الفواحش أحد، ولن يتأثر مخلوق بمقاله إلا لقي الله بوزره وإثمه، ولذلك قال الله عز وجل في الشعراء: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] قال بعض العلماء: لِمَا في الشعر من مفاتن الغزل التي تدعو إلى تعدي حدود الله وانتهاك محارمه، فأخبر الله تبارك وتعالى أنهم بهذا الصنيع قد غَوَوا وضلوا وأضلوا والعياذ بالله. فالمقصود: أن الإنسان قد يدعو إلى الفاحشة بلسانه وبأفعاله، فالمرأة إذا خرجت على عفة وصيانة ملبسها ولم تكن حافظةً لحدود الله في قيلها وكلامها، فإنها داعيةٌ إلى الفحشاء بقولها وفعلها، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] . فالمقصود: أن الإسلام يراعي كفَّ أبواب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن هذه الآية الكريمة سواءً قلنا: إنها نزلت في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وصفوان بن المعطل رضي الله عنه وأرضاه، أو قلنا: إن المراد بها العموم، فإن المقصود منها والعبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فعموم لفظها: يشمل كل مَن دعا إلى الفاحشة، فكل مَن تكلم عليه أن يراقب الله في كلامه، وأن لا يتكلم بالحديث الذي يدعو إلى الفحش والعهر، أو يسهل السبيل للفاحشة وانتهاك حدود الله عز وجل، وكم مِن متكلم تكلم بكلمة وقعت في قلوبٍ أغوتها عن سبيل الله، وحببت لها معاصي الله عز وجل، وانتهاك حدود الله ومحارمه. نسأل الله السلامة والعافية. فالمقصود: أنه ينبغي على المسلم أن يصون لسانه، وأن يحفظ جوارحه وأركانه عن أن يقول أو يفعل ما يدعو إلى الفاحشة، ولذلك نهى الله عز وجل المؤمنة أن تضرب برجلها ليُعْلَم ما تخفي من زينتها؛ لأنها إذا ضربت بقدمها على هذا الوجه التفتت الأنظار إليها، فكان ذلك أدعى للفتنة، ومِن ثم يعتبر هذا من قفل الأبواب المفضية إلى الفحشاء، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة أن تمر على القوم فيجدوا ريحها، وأنها إذا فعلت ذلك فهي زانية والعياذ بالله، أي: زانيةٌ باعتبارٍ، أو زانيةٌ مِن وجه، ذلك أنها إذا تعطرت وأحسنت ذلك في ثيابها، وشُعِر به أثناء مرورها بالناس دَعَت إلى النظر والفتنة بها، فكان ذلك دعوة إلى الفحشاء وهي فاحشة النظر. فالفحش كما يقع بالأفعال المتعلقة بالفروج من الشهوات يقع أيضاً باللسان والسمع والبصر. ولذلك حذر الله تبارك وتعالى من محبة إشاعة الفاحشة. والذي نستفيده من هذا الأمر الأول الموجود في هذه الآية الكريمة: - أنه ينبغي لكل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكره الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن لا يحبها، ولا يحب أن تشيع في الذين آمنوا. - وأما الأمر الثاني: فالخوف من هذه الخصلة المذمومة والبعد عنها بأن يحفظ الإنسان لسانه، فلا يشيع ولا يذيع بين الناس أن فلاناً فعل، وأنه ينبغي علينا إذا سمعنا أن رجلاً وقع في فاحشةٍِ ما، ألا نعجل في اتهامه بذلك، وأن نستثبت، ولو تثبت الإنسان وأمكنه أن يستر حتى يعين ال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم) قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:20] : الفضل في اللغة: الزيادة، وفي هذا المقطع من الآية الكريمة دليل على أن العباد لا يستوجبون على الله شيئاً، وأن الفضل لله عز وجل، فإن أعطى الهداية فبمحض فضله، وإن وهب النعم والمنن والآلاء فبمحض جوده وكرمه، لا حق للعباد عليه سبحانه وتعالى في نعمه وفضائله الدينية والدنيوية والأخروية، يحكم ولا معقب لحكمه، ويقضي ولا راد لقضائه سبحانه وتعالى. (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) إشارة إلى عظيم المنن، وجليل النعم التي يرفل بها المؤمن من نعم الدنيا والآخرة، قال بعض العلماء: إن المقصود من هذه الآية الكريمة أن ينبه طائفتين: منهما الطائفة الأولى التي تكلمت في أم المؤمنين عائشة زوراً وبهتاناً، أي: أتتكلمون في الناس وتتهمونهم في أعراضهم وكأنكم تزكون أنفسكم، ولولا الله ما زكت أنفسكم ولا عُصِمت جوارحكم من حدود الله، ولا ابتعدت عن محارم الله عز وجل؟! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 الرحمة والرأفة صفتان من صفات الله تعالى وقوله: (وَرَحْمَتُهُ) : الرحمة ضد العذاب، وكم لله عز وجل من رحمةٍِ بالعباد، وأعظمها رحمة الدين والهداية، والبعد عن سبيل الضلال والغواية! فهذه أجل النعم وأعظمها، وهي النعمة التي لا يعطيها الله عز وجل إلا لمن أحب، أي: لولا أن الله تفضل عليكم ورحمكم، كيف يكون الحال؟! وكيف يكون شأنكم؟! وقوله: (وَرَحْمَتُهُ) : فيه إثبات صفة الرحمة لله تبارك وتعالى، وهي الصفة التي بلغت الكمال والغاية، فلا أرحم من الله ولا أحلم بخلق الله عز وجل منه، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل قسم الرحمة إلى مائة جزءٍ، ثم أنزل منها جزءاً واحداً يتراحم الخلق به) . فهذا الجزء الواحد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شاهدٍ مِن شواهده، وهي: أن الدابة لترفع قدمها لرضيعها حتى لا تطأه، فهذا من ذلك الجزء من الرحمة، حتى إذا كان يوم القيامة جمع ما عنده إلى ذلك الجزء فرحم به عباده وهو أرحم الراحمين، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل كتب كتاباً عنده قبل خلق السموات والأرض أن رحمتي تسبق عذابي) فرحمته سبحانه وتعالى بعبيده وخلقه أعظم وأجل من كل رحمة، ولا رحمةَ إلا مِن رحمةِ الله تبارك وتعالى! وكم لهذه الرحمة من شواهد ودلائل! رحم العباد فسخر لهم الأرزاق والنعم والمنن: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] وما ماتت دابة من الدواب تحتسب رزقها على الله عز وجل. وكذلك رحمهم بألفة بعضهم لبعض، حتى رحم الصبي إذ أوجده، فعطفَ قلبَ أمه عليه إنساناً كان أو حيواناً. ورحم العباد فجعل قلوبهم متفاوتة، فمنهم الحليم الرحيم الرفيق الرقيق، ومنهم من هو بخلاف ذلك، فإن كانت الشدة صَلُح لها قوي القلب، وإن كانت الرقة صلح لها رقيق القلب بإذن الله، وكل ذلك من شواهد رحمته. وأما رحمته بالعبد فقد رحمه وهو في الظلمات -في بطن أمه- تقلب في طور الخلق طوراً بعد طور، يكلؤه بعنايته، ويحفظه برعايته، ويشمله برحمته، فأعطاه الغذاء، وأعطاه ما ينبت لحمه وينشز عظمه، وما من حركة له في تلك الظلمات إلا قدَّرها عليه، وما من سكون له في ذلك المكان الذي لا يعلمه سواه إلا وهو لطيف رحيم به سبحانه وتعالى. وأغرب ما يكون أنك ترى المرأة وهي في حَملها وقد حان وضعها لو أنها عُرِّضت بفجيعة واحدة لأسقطت جنينها ولمات ذلك الجنين! فسبحانك ما أرحمك وما أحلمك وما أرأفك بخلقك! فرحم الإنسان في تلك الأحوال، ولو أنها ضُربت على بطنها ضرباً لربما سقط جنينَها ميتاً، ولربما ماتت معه من ذلك الإسقاط، فهذه رحمة سبقت قبل وجود الإنسان. ثم جاءت تلك الساعة العصيبة الرهيبة ساعة وضعه، فأعطاه رحمته وأولاه عنايته، فكانت ساعةً يرى فيها الموت، وترى أمُّه فيها الموت، حتى إن مريم بنت عمران كما يقول الله: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي} [مريم:24] وذلك عندما جاءتها تلك الساعة و {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23] . ورحم الله عز وجل العبد بعد أن أخرجه إلى هذه الدنيا، فسخَّر له الشراب السائغ يغتذي به ليله ونهاره، وصباحه ومساءه، فهل عدم يوماً من الأيام رزق الله؟! وهل فقد يوماً من الأيام هذه الرحمة من الله؟! ثم تقلب في طور بعد طور، ومرحلة بعد مرحلة، يغذوه بنعمه ومنّه وكرمه، حتى أصبح بشراً سوياً جَلْداً قوياً قال: لا رب لي، ولا إله لي والعياذ بالله! فكان أعظم ما يكون فجوراً وكفوراً وإعراضاً عن الله! وبالنفس غروراً! ومع ذلك يرحمه، فيطعمه من طعامه، ويسقيه من شرابه، ويظله بظله، ويشمله برحمة لا يعلمها إلا هو سبحانه، مع أنه عاصٍ متمرِّد على الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية. وهذا من أبلغ ما يكون من الرحمة. فكل هذه النعم لو لم تكن كيف يكون حال الإنسان؟! بل إن الإنسان لو أن الله عز وجل تركه طرفةَ عين يمشي دون رحمةٍ لَهَلَكَ والعياذ بالله، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) أي: لا تحرمني هذه الرحمة وهذا اللطف والرحمة منك سبحانك وتعاليت، فالمقصود: أن الله عز وجل نبه العباد بهذه الآية إلى أنهم حقراء فقراء إلى رحمته، لولا الرحمة من الله واللطف منه عز وجل: كيف سيكون حالكم؟! {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:20] : رءوف بكم! رحيم بكم! لا تستوجبون عليه من ذلك شيئاً؛ ولكنه صاحب الفضل والكرم. وقوله: (رَءُوفٌ رَحِيمٌ) : فيه إثبات صفتين لله عز وجل: - صفة الرأفة. - وصفة الرحمة. ورأفة الله عز وجل غاية الرأفة، ولا تكون الرأفة إلا بالعطف الشديد على الإنسان، فيقال: فلان يرأف بفلان إذا عطف عليه عطفاً شديداً، والله تبارك وتعالى على أكمل ما يكون رأفةً بالعباد، ولذلك صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما كان في الغزاة ففقدت امرأة صبيها فولهت من فقده، فجاء صبيها يعدو فانتشلته ورفعته، فقال عليه الصلاة والسلام: (أترون هذه طارحةً ولدَها في النار؟! قالوا: لا. قال: لَلَّهُ أرحم بخلقه من هذه بولدها) فهذا يدل على عظيم رأفته وجليل رحمته سبحانه وتعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21] : هذه الآية الكريمة ابتدأها الله تبارك وتعالى بنداء أهل الإيمان يحذرهم من اتباع سبيل الشيطان، أي: يا أهل الإيمان! يا أهل الطاعة للرحمن! لا تتبعوا خطوات الشيطان، والخطوة: ما يخطوه الإنسان، وأصلها: المسافة بين القدمين، يقال: خطا إذا وضع قدمه على الأرض، وما بين الموضع والموضع خطوة. وقوله: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) هذه الآية الكريمة يقول بعض العلماء رحمهم الله: جمعت النهي عن جميع الشرور، فكل الشرور مبدؤها من الشيطان، وسبيل الوقوع فيها وسوسة الشيطان، فالإنسان لا يمكن أن يصيب حدود الله، ولا يجترئ على محارم الله عز وجل إلا بدافع من نفسه، وذلك هو تسويل الشيطان، ووسوسته له في صدره، فجمع الله عز وجل النهي في هذه الآية الكريمة الشرور كلها، ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: مَن وفَّقه الله عز وجل فعصمه الله من وسوسة الشيطان ومتابعته فقد فلح وفاز فوزاً عظيماً، ولذلك بيَّن الله تبارك وتعالى في هذه الآية أمرين: الأمر الأول: أن الشيطان داعية الردى، وأنه المحبِّب في سبيل الغي والهوى. وأما الأمر الثاني: أنه أطلع العباد على عاقبة دعوة الشيطان. ففي هذه الآية الكريمة كشف الله عز وجل حقيقة العدو اللدود للإنسان -الشيطان-، الذي لا يمكن أن يرتاح إلا إذا أوقع الإنسان في حدود الله ومعاصيه ومحارمه والعياذ بالله! يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يا من آمنتم بي! وصدقتم بكتبي! واتبعتم رسلي! إن كنتم مؤمنين حقاً فلا تتبعوا خطوات الشيطان، ثم انظر إلى أسلوب القرآن! حيث قال: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) ولم يقل: لا تتبعوا الشيطان؛ لأن الشيطان إذا أراد أن يغوي الإنسان أخذه بتدرجٍ مِن حكمته وحنكته والعياذ بالله في الغواية، فيبتدئ مع ولي الله المؤمن فيصيب محقرات الذنوب، ثم يسترسل معه من ذنب إلى ذنب حتى تأتي عليه الساعة التي ينسلخ فيها من دينه -والعياذ بالله-، بعد أن كان من خيار عباد الله وأصلح خلق الله، وبعد أن كانت المرأة من الصالحات القانتات، إذا به يفاجأ -بعد تتبعه خطوات الشيطان في دعوته، واسترساله معه من دركة إلى دركة- عند أن تأتي الساعة -والعياذ بالله، ونسأل الله العصمة منها- التي ينسلخ فيها من دينه {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] . فالشيطان يبتدئ بالمعاصي اليسيرة وبالأمور الحقيرة في نظر الإنسان، فمثلاً: إذا أراد أن يوقع الإنسان في معاصي اللسان: تدرَّجه في المعصية اليسيرة من اللسان، وإذا أراد أن يوقعه في معصية البصر: تدرج معه في أخف معاصي البصر، ثم الشراب، ثم النكاح، ثم غير ذلك من الفواحش والمعاصي. فيبتدئ مثلاً في معاصي اللسان -إذا كان الرجل من عامة الناس جاهلاً- فيقول له: لا حرج عليك إذا اغتبت شخصاً أو طعنت في شخص، فيتكلم بتلك الكلمة فيُفتح له باب من أبواب الشيطان: لأن من عصى الله بجارحة فتح على نفسه شعبة تلك الجارحة، وهكذا يأتي إنساناً صالحاً لا يتكلم إلا فيما يعنيه، فيقول له: يا هذا! قد ضيقت على نفسك، فأنت تزعم أنك من الصالحين ومن عباد الله المتقين! والدين يسر ورحمة، لماذا لا تتكلم في فضول الدنيا؟ وقد كان شخصاً حافظاً للسانه لا يتحدث في فضول الدنيا ولا يتكلم إلا فيما يعنيه، فيتدرج معه حتى يتكلم فيما لا يعنيه، فيبتدئ معه في فضول الدنيا، فيصبح يسأل عن هذا وذاك مما لا يعنيه، ثم يتدرج معه بعد ذلك إلى السؤال عن المحرمات، والوقوع في الحدود والسيئات التي نهى الله عز وجل عنها، حتى يأتي ذلك اليوم -والعياذ بالله- الذي يكون فيه من أفحش الناس لساناً، وأقذعهم بياناً نسأل الله السلامة والعافية. ولذلك ينبغي للإنسان إذا أراد أن يسلم لسانه أن يحفظ كل أمر فيه حد من حدود الله، وأن يبتدئ بالكمال بعصمة اللسان عن فضول الحديث، ولذلك كان بعض السلف رحمهم الله يحصي الكلمات التي يتكلمها من الجمعة إلى الجمعة، وقال بعضهم: والله! ما تكلمت بكلمة منذ ثلاثين عاماً أو أربعين عاماً إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله عز وجل. وبهذا قد يكون الإنسان قد تتبع خطوات الشيطان بلسانه. ثم يأتيه في البصر، فيكون الإنسان -مثلاً- أعف الناس بصراً، ربما إذا شعر بالشيء لم يتبيَّنه اتقاء أن تكون امرأة أو شيئاً مما حرم الله فيبتدر قبل التبين ويغض بصره، فيقول له الشيطان: ما هذا التشديد على نفسك؟! وما هذا التنطع في الدين والدين يسر؟! فيبتدئ معه بالنظرة اليسيرة التي تبتدئ ربما بنظرة إلى القدم، ثم يعلو معه رويداً رويداً حتى يصبح لا خلاق عنده، ولا دين عنده يحفظ به بصره عن عورات المسلمين، ولربما يسترسل به إلى أقرب الناس إليه وهو جاره، فيطلع على أستاره ويهتك ستر الله عليه والعياذ بالله العظيم من كل ذلك. فالمقصود: أن الشيطان متفنن في غواية الناس والعياذ بالله، والله من حكمته قال: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] : فكل معصية داعية إلى أختها. وكذلك بالنسبة للسمع، يقول له: ما بالك لا تسمع فضول أحاديث الناس؟! وما بالك لا تجلس مع الناس فتسمع أحاديثهم فتروِّح عن نفسك؟! فالدين يسر لا تنطع فيه، حتى إذا ابتدأ معه في ذلك جلس مع الناس فقال له: إذا ذكرت الغيبة قال له: استمع إليها كما يستمع إليها غيرك، فيسترسل معه والعياذ بالله حتى تأتي الساعة التي لا يبالي بها بسماع ما حرم الله عز وجل عليه. وقس على ذلك الرجل، واليد، والفرج، وغير ذلك من الجوارح. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا وإياكم من متابعة الشيطان في جميع ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 سلسلة تفسير سورة النور [6] إن خطر اتباع خطوات الشيطان لا يخفى على مسلم، فوسائل الشيطان طريق كل فاحشة وباب كل منكر، ولقد امتن الله على عباده المؤمنين بأن يسر لهم أسباب اجتناب ما يفضي إلى اتباع الشيطان. ولقد بين الله عز وجل في سورة النور عظم الأجر المترتب على التجاوز عن المسيء، وبذل الصفح للمخطئ، وأن ذلك سبب لنيل مغفرة الله، ورفعة الدرجات يوم القيامة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتعبوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان) الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته، والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول الله تبارك وتعالى بعد أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21] . هذه الآية الكريمة اشتملت على ثلاثة أمور: الأمر الأول: نهي الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين عن اتباع سبيل الشيطان الرجيم. والأمر الثاني: بيان العاقبة التي ينتهي إليها كل من اتبع الشيطان في أوامره وسبُله. وأما الأمر الثالث الذي اشتملت عليه الآية الكريمة: بيان أن الله تبارك وتعالى هو المتفضل على عباده، يرحم من يشاء بهدايته، ويزكي من يشاء بفضله، سبحانه وتعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 عاقبة اتباع خطوات الشيطان وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21] هذا هو المقطع الثاني من الآية الكريمة، بيَّن الله تبارك وتعالى فيه عاقبة من اتبع سبيل الشيطان، وأطاعه في اتباع تلك الخطوات، بيَّن العاقبة التي ينتهي إليها في الدنيا، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21] . (فَإِنَّهُ) أي: الشيطان. (يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) وهي: جمع فاحشة، والفحشاء: المراد بها الفاحشة، وقد تطلق على القول الذي لا يحبه الله تبارك وتعالى، وقد تطلق على الفعل: فمن إطلاقها على الفعل: قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:32] فأخبر سبحانه وتعالى أن الزنا فاحشة مع أن الزنا فِعْل من الأفعال، فهذا من إطلاق لفظ: (الفاحشة) على الفعل. ومن إطلاق الفاحشة على القول: قول عائشة رضي الله عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً) صلوات الله وسلامه عليه، أي: ما كان ليقول أو يفعل ما لا خير فيه. وقوله تعالى (وَالْمُنْكَرِ) : المنكر ضد المعروف، وهو ما أنكره الله تبارك وتعالى في كتابه، وأنكره رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، والمنكر وُصِف بذلك لما فيه من النكارة وهي كل ما لا يحبه الله ويرضاه فإذا فعل العبد ما حرم الله عليه فإنه قد أصاب منكراً؛ لأنه من أعظم ما يكون جريمة أن يعصي العبد ربه، فبمعصيته لمن خلقه ورزقه، وأطعمه وكساه كان بذلك مرتكباً لأمرٍ منكر لا يحبه الله ولا يرضاه. يقول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ) أي: الشيطان. أما الفائدة الثانية: أن الآية فيها منهجٌ تربوي لمن أراد أن يعلِّم أو يربِّي غيره، ذلك أن الله تبارك وتعالى نهى العباد عن متابعة الشيطان، وذكر عاقبة مَن اتبع الشيطان، قال بعض العلماء: ذكر عاقبة من اتبع الشيطان أبلغ في زجر الناس عن متابعة الشيطان، بمعنى إذا أراد الإنسان أن ينهى صبياً أو يعلم جاهلاً فإنه ينبغي له أن يجمع في النهي بين أمرين: الأمر الأول: أن يحدد له الشيء الذي ينهاه عنه. والأمر الثاني: أن يبين له عاقبة الشيء الذي نهاه عنه. فذلك أبلغ في التربية والتوجيه والتعليم. وقد اشتملت الآية الكريمة على كِلا الأمرين، فحذرنا الله تبارك وتعالى عن اتباع سبيل الشيطان، وأخبرنا عن العاقبة التي ينتهي إليها كل من اتبعه وسار على نهجه وارتضاه، فقال: (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) هذا الأمر الذي يوجهه الشيطان إلى الإنسان إنما يوجهه بالوسوسة، فهي سبيل الشيطان للإنسان، ولذلك إذا وقف الإنسان أمام معصية من المعاصي وجد في نفسه دعوة تدعوه إلى تلك المعصية، وهي لَمَّة الشيطان والعياذ بالله، ووجد في نفسه ما يزجره عن فعل تلك المعصية وهي لَمَّة الخير التي جعلها الله عز وجل للمَلَك، ولذلك يعيش الإنسان بين اللَّمَّتين: منهما: لَمَّة الشيطان كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (فإن للشيطان لَمَّة، وللمَلَك لَمَّة، فأما لَمَّة الشيطان: فتسويف بالخير وإيعاد بالشر، وأما لَمَّة المَلَك: فنهي عن الشر وإيعاد بالخير) ، فهاتان لَمَّتان موجودتان في الإنسان. وبناءً على ذلك: فكل ما يجده الإنسان في نفسه من الدعوة إلى الحرام ينبغي أن يعلم أنه من الشيطان، وعلاج ذلك بيَّنه الله تبارك وتعالى بقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] فمن أراد أن ينجو من هذه الأوامر التي يسوِّلها الشيطان لأوليائه، فما عليه إلا أن يستعيذ بالله عز وجل، فإنه نعم المولى ونعم النصير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 هداية الله العباد إلى طاعته يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21] : هذا المقطع الثالث من الآية الكريمة اشتمل على أمرٍ عظيم وهو: أن هداية العباد إلى طاعة رب العباد موقوفة على الله تبارك وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يقلِّب العبد في طاعته فتزكو نفسه بمحبته واتباع سبيل ولايته أنه هو وحده القادر على ذلك، هو الذي يزكِّي القلوب برحمته، والزكاة في اللغة: الطهارة، قال الله تبارك وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10] . والمراد بقوله: {مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} [النور:21] أي: ما طهر قلب الإنسان من معصية الله تبارك وتعالى التي اشتملت عليها أوامر الشيطان، وفي هذا دليل على أنه لا نجاة من تلك الوساوس والخطرات إلا برحمة الله تبارك وتعالى، وكأن الله تبارك وتعالى يدعونا بهذه الآية الكريمة إلى التعلق به، وسؤاله النجاة من هذه الوساوس والخطرات، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر من دعاء الله عز وجل صلاحَ قلبه، وزكاةَ فؤاده، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) فالله تبارك وتعالى هو وحده الذي يزكي القلوب بفضله؛ فتنشرح لطاعته وسبيل محبته، وتكون أسبق ما تكون إلى ما يحبه ويرضاه، وأبعد ما تكون عن معاصيه التي لا يحبها ولا يرضاها، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى هذا المعنى بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] فالله تبارك وتعالى وحده هو الذي يحبب القلوب في طاعته، ويشرح الصدور لسبيل ولايته، فإذا أراد أن يصطفي أحداً لتلك الهداية أو يجتبيَه لتلك الولاية جعل قلبه منشرحاً زكياً نقياً طاهراً من هذه الوساوس، ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الإنسان إذا أراد أن يكون على درجة الصلاح والخير والاستقامة فينبغي أن يكون أبعد ما يكون عن الوساوس، كلما وجد في نفسه الوسوسة دفعها بذكر الله والاستعاذة به تبارك وتعالى، ومن ثم نبهوا على أن أخطر ما يُخشى على الإنسان الاسترسال في الوساوس والخطرات، وهي: التي يُدْلَى بها الإنسان إلى معاصي الله عز وجل، فيبتدئ الشيطان مع الإنسان في سمعه، أو في بصره، أو في لسانه، أو في فرجه، أو في أي شيءٍ من الأمور التي يملكها حتى يسهل له بها السبيل إلى حدود الله فيبتدئ بالسمع أو بالبصر، فيقول له: تمتع بسمعك أو تمتع ببصرك، ولا حرج عليك في النظرة والنظرتين، فيرسل النظرة، فتورث النظرةُ الشهوة، فيسترسل بالنظرة تلو النظرة حتى ينتهي إلى حديث النفس المستحكِم، فإذا استحكم الشيطان بذلك القلب واستأثر بالفؤاد انقلب ذلك القلب والعياذ بالله من طاعة الله إلى معاصي الله عز وجل، فيصبح يفكر كيف السبيل لإصابة تلك الشهوة، وإصابة ذلك الحد من حدود الله عز وجل؟ يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ} [النور:21] الفضل في اللغة: الزيادة. وقوله: (فَضْلُ اللَّهِ) : أي: تفضل الله تبارك وتعالى عليكم ورحمته؛ لأن النجاة من المعاصي والبعد عما لا يحبه الله عز وجل ويرضاه إنما هو رحمة من الله عز وجل يرحم بها من شاء، قال بعض العلماء: وَصَفَ الله عز وجل الهداية والاستقامة بكونها رحمة، لأن العبد يُرْحَم فيها في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: فلأن صلاح الأمور بالاستقامة، وأما في الآخرة: فبالنجاة من عذاب الله عز وجل وعقوبته، وذلك إنما يكون بالتزام شرعه والبعد عن حدوده ومحارمه. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21] سميعٌ لأقوالكم، عليمٌ بأفعالكم. وقوله: (سَمِيعٌ) : فعيل بمعنى فاعل أي: سامعٌ سبحانه وتعالى. وقوله (عِلِيمٌ) : فعيل أيضاً، وصيغة فعيلٍ وهي دالة على المبالغة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 نهي الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين عن اتباع سبيل الشيطان هذه الثلاثة الأمور، أشار الله تبارك وتعالى إلى أولها بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) . قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (يا) : حرف نداء، و (أيُّ) : منادَى، و (الهاء) : للتنبيه. أي: يا من آمنتم بي، وآمنتم برسلي، وآمنتم بكتابي، ولقائي! لا تتبعوا خطوات الشيطان. هذا النداء من الله تبارك وتعالى استفتحه بهذه الخصلة العظيمة التي تدل على شرف الإنسان وعلوِّ مكانته عند الله عز وجل وهي صفة الإيمان بالله تبارك وتعالى. وفي استفتاح هذا النهي بهذا النداء تشويق لأهل الإيمان أن يلتزموا شرع الرحمن، أي: إن كنتم أهل إيمان وطاعة واتباع لي، ولسبيلي لا تكونوا متابعين للشيطان في أوامره التي يأمركم بها بالفحشاء والمنكر. وهذا النداء يستفتح الله تبارك وتعالى به بعض أوامره، ويستفتح به نواهيه، قال بعض العلماء: إن الله تبارك وتعالى يستفتح أوامره ونواهيه بهذا النداء؛ لكي يشوق السامعين والقارئين للقرآن للعمل بما تضمنه ذلك النداء من الأمر، ولترك ما اشتمل عليه من النهي، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (إذا سمعت الله عز وجل يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا) فأرعها سمعك، فإنما هو خير تؤمر به، أو شر تُنهى عنه) . ولذلك قال العلماء رحمهم الله: إن الله تبارك وتعالى يستفتح الآيات بهذا النداء الذي يتضمن أحد ثلاثة أمور: - إما أمر بالمعروف. - وإما نهيٌ عن المنكر. - وإما أن يجمع بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فمن أمثلة أمره بالمعروف: أمره بتقواه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) . ومن أمثلة نهيه عن المنكر كما في هذه الآية الكريمة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] . فقد تضمنت هذه الآية الكريمة النهي عن اتباع سبيل الشيطان، بل إن النهي عن اتباع خطوات الشيطان هو النهي عن الشر والبلاء كله، فالشر كل الشر في متابعة الشيطان، والخير كل الخير في اتباع سبيل الرحمن، ولن تجد من العبد معصية انتهك بها حدود الله أو أصاب بها محارم الله تبارك وتعالى إلا وجدت الشيطان داعياً إليها محبِّباً إياها ومقرباً منها، ولذلك جمع الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة النهي عن أصل الشر كله والتحذير منه، فكل الشر في هذا الأمر، وهو اتباع خطوات الشيطان. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خص الله عز وجل أهل الإيمان في هذه السورة الكريمة ونهاهم عن اتباع سبيل الشيطان، وجاء في آية أخرى النهي لعموم الناس في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168] فنهى الله تبارك وتعالى الناس عموماً والمؤمنين خصوصاً: - فشمل النداء عموم الناس مؤمنهم وكافرهم حينما قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) . - وخصَّ أفضل الناس وهم أهل طاعته، وأهل سبيل محبته، حينما ناداهم في هذه السورة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) . وفي هذا النداء دليل على أن الإيمان يستلزم من الإنسان القولَ والعملَ الصالح، كما قرره أهل السنة والجماعة من أن الإيمان بالله عز وجل: (اعتقادٌ بالجَنان، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح والأركان) . اعتقادٌ بالجَنان: فلابد أن يكون جَنان الإنسان أي: قلبه مؤمناً بالله تبارك وتعالى. وقولٌ باللسان: وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام. وأما فعلُ الأركان والجوارح: فهو العمل بمقتضى هذه الشهادة، فتكون الأقوالُ والأفعالُ موزونةً بميزان الكتاب والسنة، لا يحيد المؤمن عن ذلك قيد شعرة، فإن حاد نقص إيمانه بقدر ما حاد، وإن ازداد من الخير والطاعة والاستقامة على منهج الله تبارك وتعالى كان أحظى الناس بالإيمان وأعلاهم مرتبةً في طاعة الرحمن. يقول الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) الخطوات: جمع خُطوة، وهي ما بين القدمين، ويقال: خَطوة، وهو مصدر. (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) للعلماء رحمهم الله في (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أقوال: - فمِن أهل العلم مَن قال: إن قوله تبارك وتعالى: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) : المراد منه الخطايا التي يصيبها الإنسان باتباعه الشيطان؛ لأن الشيطان متمرد على طاعة ربه، بعيد عن محبة الله عز وجل وسبيل ولايته. - ومِن أهل العلم مَن قال: إن قوله: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) أي: آثاره. - ومِنهم مَن قال: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) المراد بها: نذور المعاصي التي كان عليها أهل الجاهلية في جاهليتهم؛ لأن الشيطان كان يدعوهم بها إلى انتهاك حدود الله، وغشيان محارم الله تبارك وتعالى. - وهناك قولٌ اختاره بعض المفسرين -وهو قولٌ لطيف- يقول: إن قوله تبارك وتعالى: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) المراد بها: انتقال الشيطان من المعصية إلى المعصية، فهو يقود الإنسان إلى حدود الله شيئاً فشيئاً، ويحببه في معاصي الله خطوة خطوة، حتى يفضي به إلى أعظم الحدود وأكبر الكبائر وهو الشرك بالله والعياذ بالله. - وهناك قولٌ أخيرٌ في هذه الآية الكريمة -وهو القول الخامس-: وأن المراد بقوله: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) : أي: الخطوة التي ينتقل بها من الحلال إلى الحرام. فالمقصود: أن هذه هي أقوال العلماء في قوله تعالى: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) . والذي عليه بعض المحققين: أن الآية شاملة لهذا كله، فما دام أن الجميع يصدُق عليه أنه خطوة للشيطان، فلا مانع أن الله تبارك وتعالى ينهانا عن جميع ذلك، والأصل أن اللفظ ما دام على عمومه أن يُحْمَل على ذلك العموم سواءً ورد في الكتاب أو ورد في السنة فيبقى لفظ الآية الكريمة في الدلالة على العموم حتى يرد النص الذي يدل على شيءٍ مخصوص بعينه. ومن هنا يتبين لنا أن نهي الله تبارك وتعالى عن اتباع خطوات الشيطان المراد به النهي عن جميع ذلك كله، فالإنسان مطلوب منه أن يبتعد عن متابعة الشيطان سواءً دعاه إلى المعاصي أو نقله إليها خطوة خطوة، فينبغي للمؤمن كلما أحس في قلبه بوسوسة من الشيطان تدعوه إلى معصية الرحمن أن ينكفَّ وينزجر ويطيع الله تبارك وتعالى إذ نهاه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عن متابعة هذه الوساوس والخطرات، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (خط خطاً مستقيماً، ثم خط عن يمينة خطوطاً، وعن يساره خطوطاً فقال: هذا صراط الله، وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) فكل من أطاع داعي الشيطان إلى تلك السبل وأجابه إلى تلك المعاصي فقد خالف نهي الله تبارك وتعالى، واعتدى حدود الله عز وجل، وانتهك محارمه على قدر عظم ما أصاب من ذلك الذنب الذي أطاع الشيطانَ فيه. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) قال بعض العلماء: إن الله عز وجل قد جمع في هذه الآية الكريمة النهي عن أساس الشر كله، وذلك في بعض سطر حينما قال: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) وهذا من إعجاز القرآن وحسن بيانه وعظيم شأنه، فإن الله تبارك وتعالى جعل هذا الكتاب المبين معجزاً بلفظه وبمعناه، فجمع الشر في هذا المقطع اليسير من الآية الكريمة. وقوله تعالى: (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) : نسبها إلى الشيطان؛ لأنه هو الداعي إليها والمحبِّب فيها، والشيطان على ضربين: - شيطان إنس. - وشيطان جن. ولكن إذا أطلق الشيطان فالمراد به أساس الشر وهو إبليس، ويتبعه أعوانه الذين يسلطهم بإذن الله على بني آدم، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان عرشه على الماء، يبعث رسله إلى بني آدم فتنةً من الله وامتحاناً وابتلاءً واختباراً تدعو عباد الله إلى معاصي الله، وتحببهم في انتهاك حدود الله وغشيان محارمه، فالناس بين عبدين: - عبد له مجيب، قد تردى في الدركات والعياذ بالله الموجبة لسخط رب الأرض والسماوات. - عبد الله يتمرد على شيطانه، ويعتصم بالله تبارك وتعالى، ويلوذ به ويستعيذ به، فينقذه الله عز وجل من شرورهم، قال الله عز وجل: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] . فالمقصود: أن الله تبارك وتعالى نهانا في هذه الآية الكريمة عن اتباع سبيل الشيطان، سواءً كان ذلك الشيطان شيطان جن أو كان شيطان إنس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 تفسير قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل ... ) يقول الله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] : الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 معنى قوله تعالى: (وليعفوا وليصفحوا) يقول الله تبارك وتعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) أصل العفو: الطمس، ومنه قولهم: عَفَتِ الريحُ الأثرَ إذا طَمَسَتْه وأزالَتْه. وقوله: (وَلْيَعْفُوا) : ذلك أن الإنسان إذا أذنب آخر في حقه ولم يؤاخذه بذلك الذنب، فكأنه قد محا أثر ذلك الذنب، فلذلك يقال: عفا عنه، وقال بعض العلماء: العفو بالأقوال، والصفح بالأفعال. فالصفح مأخوذ من صفحة العنق، وهو أن يعرض الإنسان عن الشيء الذي لا يريده، يقال: أعرض عنه صفحاً أي: أعرض عنه فلم يؤاخذه بما قال، وكل ذلك كناية عن عدم المؤاخذة. يقول الله تبارك وتعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) : وفي هذه الآية الكريمة دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يكون سمحاً ليناً حليماً رحيماً رفيقاً بإخوانه، فإذا حصلت الزلة والأذية من أخيه، فإنه ينبغي له إذا كان يرجو رحمة الله ويطمع فيما عنده عز وجل أن يقابل الإساءة بالإحسان، وأن لا يقابل الإساءة بالإساءة فذلك أكمل. ولذلك ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام وهو متكلَّمٌ في سنده ولكن لا تبعُد صحة متنه أنه (إذا كان يوم القيامة نادى منادي الله عز وجل: مَن كان أجره على الله فليقم، فتقول الملائكة: ومَن هذا الذي أجره على الله؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فلا يقوم إلا مَن عفا عن ذنب) . فالإنسان إذا عفا عن غيره، وكان عفوه لوجه الله عز وجل، -رجاء ما عند الله تبارك وتعالى- فإنه يرجى له مثوبة الله عز وجل، ولذلك قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا أساء إليه أحد فإن شاء أخذ حقه في الدنيا، وإن شاء أن يؤخر حقه إلى الآخرة أخَّرَه، فإن أخَّرَ حقه إلى الآخرة فهو مخير بين فضلين، أحدهما أعظم من الآخر: أما الأول: فهو أن يرضى أن يقتص الله له ممن ظلمه، وهذا أدنى الفضلين. وأما الفضل الأعلى: فهو أن يعفو عنه ويحتسب الأجر عند الله، قال بعض لعلماء: مَن عفا عن الذنب لوجه الله، فإنه يُرجى له من مثوبة الله أكثر مما يعطاه لو أخذ من حسنات مَن ظلمه. ولذلك رغَّب الله عز وجل في العفو والصفح لوجهه، وهذا هو شأن الفضلاء والأخيار والنبلاء أنهم يبادلون الإساءة بالإحسان، ولا يبادلون الإساءة بالإساءة، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقابل الإساءة بالإحسان، ولا يقابل السيئة بالسيئة، وكان هذا من وصفه في الكتب السماوية التي قبله أنه عليه الصلاة والسلام يعفو عمن أساء إليه، ولا يؤاخذه، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (جاءه أعرابي فأخذ بطرف قميصه عليه الصلاة والسلام حتى أثر في صفحة عنق النبي صلى الله عليه وسلم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم له ولم يزده على ذلك) ، وورد عنه عليه الصلاة والسلام في قصة اليهودي أنه استدان من اليهودي، فلما جاء ذات يوم أقبل عليه اليهودي، فأخذ بمجامع ثوبه عليه الصلاة والسلام فقال: (يا محمد! اقضني ديني، فإني قد عهدتكم يا آل هاشم قومٌ مطل، فقال عمر: دع ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا ضربت عنقك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد كنت أنا وهو أولى بخيرٍ من ذلك: أن تأمره بحسن الطلب، وأن تأمرني بحسن الأداء. فكان ذلك سبباً في إسلام اليهودي) فهذا من كريم خُلُقه صلوات الله وسلامه عليه. وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام وهو من أخبار السير أيضاً أنه (لما فتح الله عليه مكة وقام عليهم فقال: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم -قال بعض العلماء: لولا أن قريشاً تعلم منه الحلم والرحمة والإحسان ما قالت له ذلك، ولكنه كان على ذلك الخلق- فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وقال في الرواية الأخرى: لا تثريب عليكم! اذهبوا فأنتم الطلقاء) فكان عليه الصلاة والسلام على السماحة واليسر. وورد في الحديث الصحيح في صحيح مسلم في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، أنه لما لحق بالقوم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (مَلَكْتَ فأسجح) أي: اعف وسامح، صلوات الله وسلامه عليه. فالمقصود: أن هذه الآية الكريمة أدبت عباد الله المؤمنين فتخلقوا بخُلُق الصفح، خاصة إذا كان الإنسان ممن يُقتدى به، كأهل العلم وطلابه، فهم أحق الناس بسعة ورحابة الصدر؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم. ومن العجيب الغريب أن الناس انعكست عندهم المفاهيم، وانقلبت لديهم الموازين! فأصبح الذي يعفو عن الناس، ويتجاوز عن إساءتهم يوصف بكونه ضعيفاً وجباناً، وبكونه لا يستطيع الانتقام لنفسه، حتى ربما وصفوه بكونه امرأة وهو رجل، وهذا كله مما حرمه الله عز وجل لأنه يفضي إلى تزهيد الناس في العفو والصفح الذي يوجب أُلفة القلوب واتحاد الكلمة. والله تبارك وتعالى ندب عباده إلى العفو، ولذلك قال تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] أي: يحب من كان بهذه الصفة من العفو عن الناس. ولذلك كان مِن الخَطَإِ وصفُ مَن عفا عن حقه بكونه جباناً، بل لا يؤمَن على من يتفوّه بذلك أن يكون مخالفاً لهديه عليه الصلاة والسلام، ولذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاعتقاد، بل إنه صلى الله عليه وسلم أنكره بأسلوب عجيب، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رَفَعَه) قال بعض العلماء: قوله: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) قال: إن الناس تظن أن العفو ذُل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العفو عزة، ولذلك تجد الإنسان إذا عفا عمن أساء إليه دلَّ ذلك على قوة شكيمته وإرادته وتحمله؛ لأن ذلك من صنيع الرجال الكاملين في الرجولة أن يتحملوا الأذى، ولذلك سُئِل الأحنف بن قيس ذات يوم، قال له رجل فضولي: (لِمَ سُدْتَ قومَك وأنت قصير دميم الخِلْقة؟! قال رحمه الله: بتركي لِمَا لا يعنيني كما عَناك من أمري ما لا يعنيني) . قال بعضهم: إنه كانت به خُلَّة أمكنه أن يردَّه بها، ولكن كان الأحنف رحمه الله على حِلْم. فالمقصود: أن الحِلْم والصفح عن الناس من الخلق الكريم الذي يثيب الله عز وجل عليه، ونَدَب إليه الكتاب، وندبت إليه السنة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 قوله تعالى: (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) أما قوله: (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) أي: يا أهل الفضل! ويا أهل السعة! ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟! قال بعض العلماء: في هذا دليل على أن الإحسان والصدقة سبيل في عفو الله عن العبد، ولذلك ورد في الحديث عن أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أنه لما نزلت هذه الآية الكريمة: (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) قال: (بلى والله! -أي: بلى والله! نحب أن تغفر لنا- والله لا أقطع عنه شيئاً أبداً) . واستمر في عطيته إلى أن توفاه الله رضي الله عنه وأرضاه. وقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيه إشارة إلى أنك إن صفحت عن الناس صفح الله عنك، وإن غفرت للناس غفر الله لك، وإن رحمت الناس رحمك الله، ولذلك قيل: (كيفما تدين تدان) وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه كان فيمن كان قبلكم رجلٌ يداين الناس وكان يقول: إذا لقيتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عني، قال: فلقي الله فتجاوز الله عنه) ، والله تعالى أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 معنى القرابة في الآية وقوله تبارك وتعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى) والقريب ضد البعيد المراد به مَن قرَّبه النسب سواءً اجتمعتَ معه في أصولك أو اجتمعتَ معه من فروعك. فمثال الأول مَن اجتمعت معه في الأصول: كالأعمام. وفي فروع الأصول: كأعمام الأب، وما تفرع عن هؤلاء. ومثال مَن اجتمعت معه من الفروع: مَن كان منسوباً إليك كأبنائك، وأبناء أبنائك وإن نزلوا، وكذلك فروع إخوانك وأخواتك كل أولئك من القرابة؛ لأنه تجمعك بهم رابطة تقربهم منك، وتنسبك إليهم وتنسبهم إليك. وقوله تعالى: (أُوْلِي الْقُرْبَى) : لأن مسطح بن أثاثة رضي الله عنه كان قريباً لـ أبي بكر الصديق؛ لأنه ابن خالة لـ أبي بكر رضي الله عن الجميع، فلما آذى مسطح أبا بكر بالكلام في عائشة كان وقْعُ تلك الأذية عظيماً في قلب أبي بكر كما قال الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهندِ فأذية القريب مؤلمة؛ لأنك إذا أردت أن تنتقم منه لم تستطع لمكان القرابة والرحم، وإن سكت عنه سكت على الألم والأذية. فمع عِظَم ما آذى به مسطح رضي الله عنه أبا بكر الصديق أمر الله تبارك وتعالى أبا بكر أن يغض الطرف وأن يصفح عنه، وأن يحتسب عند الله تبارك وتعالى في ذلك الغض والصفح. يقول تعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) و (المساكين) جمع مسكين، وُصِف بذلك لأنه تعلوه المسكنة، فالإنسان إذا كان ضعيفاً قليل المال فإنه تغلب عليه المسكنة والضعف، على خلاف الغني فإن الغالب فيه -إلا من رحم الله- أن يكون أشِرَاً بَطِرَاً، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] فالإنسان إذا أصاب الغنى بَطِرَ والعياذ بالله إلا أن يرحمه الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 قوله تعالى: (والمهاجرين في سبيل الله) وقوله تعالى: (وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أشار تعالى إلى فضل مسطح رضي الله عنه وأرضاه، لأن مسطحاً كان من المهاجرين، وفي هذه الآية الكريمة دليل لأهل السنة والجماعة على المعتزلة الذين يقولون إن ارتكاب الكبيرة يوجب إحباط العمل والعياذ بالله، ومذهب أهل السنة والجماعة: أن العمل يُحْبَط بالكفر والشرك بالله عز وجل، كما أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك بقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] فالعمل والعياذ بالله يُحبط بالكفر، قال الله تبارك وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] فالكفر والشرك بالله عز وجل يوجب حبوط العمل، وذهاب ما فعله الإنسان من صالح القول والعمل، ولو أن إنساناً كان من أصلح العِبَاد، وأتقاهم لله عز وجل وأكثرهم صلاحاً واستقامةً وكانت حياتَه كلَّها في تلك الطاعة والاستقامة، حتى إذا دنا أجلُه أشرك بالله -ولو بكلمة- فإن ذلك الشرك يوجب حبوط عمله كله، قولاً كان أو فعلاً أو اعتقاداً، فيكون والعياذ بالله من الخاسرين، فلذلك كان من أعظم البلاء وأشد الرزية التي لا أعظم منها رزية: الشرك بالله، والكفر بالله تبارك وتعالى، ومن الشرك بالله: الاستغاثة بغير الله من دون الله، ومن الكفر بالله: الاستهزاء بالدين، وكل ذلك مما عمت به البلوى والعياذ بالله خاصة في هذا الزمان. فالمقصود أن مذهب أهل السنة والجماعة أن العمل إنما يُحبط بالكفر والشرك بالله. ولا يُشْكِل على هذا قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] فقد خرَّج بعض العلماء ذلك على الوعيد كما اختاره صاحب الأضواء وغيره من أهل العلم رحمهم الله، وذهب المعتزلة إلى أن الإنسان إذا فعل كبيرة من الكبائر حبِط عمله والعياذ بالله، ومثال ذلك لو أن إنساناً زنى أو سرق وكان على طاعة واستقامة فإن زناه وسرقته توجب حبوط عمله عند هؤلاء. والحمد لله الذي وسَّع علينا ما ضيقه أهل الاعتزال، والحمد لله الذي رحم عباده حيث لم يجعل حبوط العمل بارتكاب الكبائر، إذ النصوص شاهدة على أن مرتكب الكبيرة لا يعتبر ممن حبط عمله، كما في هذه الآية الكريمة، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن مسطحاً قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها على خلاف: هل كان يقول ذلك، أو ينقل الكلام دون اعتقادٍ له، أو كان يحضر المجالس ويسمع ويرضى ولم يكن منكراً لذلك الأمر، وإن كان الذي ورد في الرواية التي في سبب النزول أنه رضي الله عنه وأرضاه كان فقط يسكت على ما يقال، وهذا يدل على أن مَن جلس المجلس الذي يغتاب فيه المسلم أنه شريك للذي اغتاب والعياذ بالله في إثمه، وآخذ حكمه والعياذ بالله، ولذلك قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140] . فالمقصود: أن أصح الأقوال هو قول أهل السنة والجماعة من أن مرتكب الكبيرة لا يُحبط عمله، وأنه على حالتين: - إما أن يتوب في الدنيا فيتوب الله عز وجل عليه، قال الله عز وجل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] ولم يفرِّق الله بين ذنب كبير ولا صغير، فالآية عامة. - وإما أن يصر على الكبيرة إلى لقاء الله والعياذ بالله، فيوافي الله يوم القيامة بتلك الكبيرة غير تائب منها، فإن وافاه وحالته على ذلك فهو تحت رحمة الله ومشيئته؛ إن عذبه فبِعَدْلِه، وإن عفا عنه فبِرَحْمَتِه، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، ومنها قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 معنى قوله تعالى: (أُوْلُوا الْفَضْلِ) يقول الله تبارك وتعالى:: (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ) (أولوا) بمعنى: أصحاب، و (الفضل) في اللغة: الزيادة، والمراد بـ (الفضل) هنا فضل الدين، وهو الاستقامة على طاعة الله تبارك وتعالى، تقول: فلان صاحب فضل، أي: صاحب استقامة على الشرع، وفيه تمسكٌ بهديه وآدابه، فلا يوصف الإنسان بكونه مِن أهل الفضل إلا إذا كان على استقامة وصلاح في قوله وعمله، ومن هنا دلت هذه الآية الكريمة على فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فإن الله تبارك وتعالى شهد له من فوق سبع سماوات بأنه من أصحاب الفضل، وهو كذلك رضي الله عنه وأرضاه، وكيف لا يكون وهو الذي واسى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدَّاه بنفسه وماله رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن نبيه خير ما جزى صحابياً عن صحبته؟! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 معنى قوله تعالى: (والسعة) يقول سبحانه: (وَالسَّعَةِ) وأصل السعة ضد الضيق، والسعة إذا أطلقت تطلق في القرآن كما هنا بمعنى بسطة الرزق، والله تبارك وتعالى أشار إلى بسطة الرزق بالسعة، وأشار إليها بالبسط، كما أشار إلى الضيق بالقَدْر، فقال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26] أي: يضيِّق، فجعل سعة المال وضيقه مبنية على هذا الوجه الذي هو أصل في المحسوسات. وقوله تعالى: (وَالسَّعَةِ) : أي: الذين وسع الله عز وجل عليهم في رزقهم فأصبحوا أهل مال وثراء. (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) في هذه الآية الكريمة دليل على أن أصحاب الجود والسخاء الذين يبذلون المال للضعفاء والفقراء يبتغون بذلك مرضاة رب الأرض والسماء أنهم أهل فضل، والله تبارك وتعالى شهد لهم من فوق سبع سماوات بذلك، فمن كان سخياً جواداً بماله في طاعة الله ومرضاته، يحتسب من إنفاقه رضوان الله عز وجل عليه، فإنه يعتبر من أهل الفضل بشهادة الله تبارك وتعالى، وفي هذا دليل على فضل الإنفاق والجود في طاعة الله ومحبته، ولو لم يكن في فضل الصدقة والإحسان إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عنه أنه قال: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار) لكفى بذلك فضلاً وشرفاً، ولذلك لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين السبب الذي يوجب نجاة العبد من نار الله وعذابه قال: (ما مِن أحد منكم إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) . قال بعض العلماء في قوله: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) دليل على أن مِن أعظم الأسباب التي تنجي من النار وعقوبة الله: الصدقة، ولذلك نهى الله تبارك وتعالى أهل المال والثراء عن الإنفاق مع الأذية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 اختلاف العلماء في معنى قوله: (ولا يأتل) يقول الله تبارك وتعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ) في هذا اللفظ قراءتان: - القراءة الأولى: (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ) . - القراءة الثانية:: (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ) . أما هاتان القراءتان فللعلماء رحمهم الله فيهما وجهان: الوجه الأول: أنهما قراءتان بمعنى واحد. والوجه الثاني: أنهما قراءتان مختلفتان في المعنى. أما أصحاب القول الأول الذين قالوا: إن تلك القراءتين بمعنى واحد، فقد اختلفوا على قولين أيضاً: فقال أصحاب القول الأول: إنهما بمعنى واحد، وهو الحلف، فقوله: (وَلا يَأْتَلِ) ، وقوله: (وَلا يَتَأَلَّ) كل ذلك المراد به لا يحلف وهو من الأَلِيَّة وهي: الحلف، ومِن استعمال هذا الفعل بمعنى الحلف قول الله تبارك وتعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] ، -وهي آية الإيلاء- أي أن يحلف الرجل ألاَّ يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر إجماعاً، أو أربعة أشهرٍ. خلافٌ بين العلماء رحمهم الله. فالمقصود: أن الأَلِيَّة بمعنى الحلف على هذا القول. وأما على القول الثاني: فقالوا: إن قوله تعالى: (وَلا يَأْتَلِ) ، وقوله تعالى: (وَلا يَتَأَلَّ) : كل ذلك بمعنى: لا يقصر مِن قولهم: أَلَيْتُ بمعنى: قصَّرتُ، يقول الرجل: لا آلو جُهدي: أي: لا أقصِّر ومِن استعمال هذا الفعل في القرآن بمعنى التقصير قوله تعالى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران:118] أي: لا يقصرون في جلب ما يوجب الخبال لكم، يعني: أعداءه سبحانه وتعالى. وهناك قول ثان: وهو أن كلتا القراءتين مختلفة المعنى فقال بعض العلماء: إن قوله تعالى: (وَلا يَأْتَلِ) : أي: لا يقصر، وقوله تعالى: (وَلا يَتَأَلَّ) : أي: لا يحلف. وبناءً على كلا المعنيين: يكون المعنى الأول: لا يحلف أولوا الفضل منكم والسعة ألا يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله من فضل الله، فتكون الآية الكريمة تضمنت نهي الصحابة أو نهي أبي بكر على سبيل الخصوص والمؤمنين على سبيل العموم عن أن يحلفوا على الامتناع عن إعطاء المساكين وأولي القربى والمهاجرين. وأما المعنى الثاني: فيكون المراد لا يقصِّر أولوا الفضل وأولوا السعة الذين وسع الله عليهم من الخير وأعطاهم بسطة المال فرزقهم من فضله في الإحسان إلى هؤلاء الضعفاء. وكلا المعنيين واضح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 سبب نزول الآية أجمع العلماء رحمهم الله على أن هذه الآية الكريمة نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وذلك أنه حينما خاض مسطح بن أثاثة -وهو ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله عن الجميع- فيما خاض فيه من الإفك على عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكان فيمن تكلم بما تكلم به في شأنها، فلما نزلت براءة عائشة في كتاب الله عز وجل حلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا يعطي مسطحاً شيئاً من المال، وكان مسطح من فقراء المهاجرين -في سبيل الله- فحلف أبو بكر رضي الله عنه من شدة ما لاقى من أذية مسطح، بالكلام في بنته عائشة رضي الله عنها ألا يعطيه شيئاً من المال، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية الكريمة يحرك بها ما في نفس أبي بكر رضي الله عنه من الخير، ويمنعه عن حبس الخير عن الناس الذين ألِفوا ما كان لهم من فضله رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14