الكتاب: البدعة وأثرها في محنة المسلمين المؤلف: أبو إسحاق الحويني الأثري حجازي محمد شريف مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 6 دروس] ---------- البدعة وأثرها في محنة المسلمين أبو إسحق الحويني الكتاب: البدعة وأثرها في محنة المسلمين المؤلف: أبو إسحاق الحويني الأثري حجازي محمد شريف مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 6 دروس] البدعة وآثارها في محنة المسلمين [1] نشاهد اليوم كثيراً من المسلمين يعتنقون البدع أكثر من المعاصي؛ لأن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، وقد أتى إبليس على الناس عن طريق الابتداع في الشرع، متمسكين ببعض الحجج الواهية، مخالفين بذلك خير القرون؛ فإنهم لم يغيروا ولم يبدلوا في دين الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 خطر البدعة الإضافية على الشرع إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. لا فرق عند العلماء بين إخراج الحق من الدين وبين إدخال الباطل فيه؛ لأن كلاهما بخلاف مراد الشارع، فإخراج الحق من الدين يساوي إدخال الباطل فيه. ونحن بمناسبة الكلام على البدعة وعن أثرها في تأسيس محنة المسلمين اليوم، لابد أن نُلقي ضوءاً جلياً واضحاً على جيل الصحابة، وكيف كانوا يواجهون البدع. البدعة: شيء مخترع لا أصل له في الدين، وهذه يسميها الإمام الشاطبي: بالبدعة الحقيقية. شيء مخترع لا أصل له في دين الله عز وجل، كالصلاة المذكورة في شهر رجب، أو صلاة النصف من شعبان، فهذه لا أصل لها في دين الله عز وجل. وأنا أظن أن هذا النوع من البدع ليس بأكثر خطورة من النوع الآخر، الذي يسميه الإمام الشاطبي: البدعة الإضافية. فمحنتنا الآن هي البدعة الإضافية. البدعة الحقيقية من الممكن أن تنصب الدلائل على بدعيتها وتستريح، أما البدعة الإضافية فإنه يدخل شياطين الإنس من أبوابها، وسميت إضافية؛ لأنها تضاف إلى الشرع من وجه، وتباين الشرع من وجه آخر، فهذه هي مشكلتها؛ لذلك سماها العلماء: بالبدعة الإضافية، أي: لأنها أضيفت إلى الشرع ظلماً وزوراً. ولنضرب مثلاً للبدعة الإضافية حتى يتضح معناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 نموذج آخر للبدعة الإضافية ذات مرة في رمضان كنت في درس، فسألني ولد عن قراءة: (قل هو الله أحد) بين التراويح أهي سنة أم بدعة؟ قلنا: بدعة، أخذ الولد هذا الكلام وذهب إلى أبيه -وكان أبوه رأس البدعة في بلده-، وهو الذي يبتدئ بقراءة: (قل هو الله أحد) ثم الناس يقرءون معه، فذهب وأنكر على أبيه، فجاء أبوه في موعد الدرس الثاني، واستمع، وبعدما انفض المجلس جاء فقال: أنت قلت لولدي: إن قراءة: (قل هو الله أحد) بين التراويح بدعة؟ قلت: نعم. قال: قل هو الله أحد، ثلث القرآن بدعة! انظر كيف شدد! (قل هو الله أحد) ثلث القرآن بدعة! قلت له: أنا ما قلت إن قراءة القرآن بدعة، قلت إن قراءتك لـ (قل هو الله أحد) بين التراويح بدعة. قال: أنا ارتكبت حراماً؟ فقلت له: لو أنك عطست الآن ماذا تقول؟ قال: أقول: الحمد لله، أو الحمد لله على كل حال. قلت: فهل يجوز أن تقول: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؟ قال: لا، قلت: لماذا؟ الصلاة على الرسول حرام! يعني: هل أنت تحرم الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، والله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] ما رأيك هل أقول: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؟ قال: لا. وهكذا كان من فضل الله عز وجل أنه اختصر المسألة، ولو كابر وقال: نعم يصح، كان سيحوجنا إلى أن نأتي بدليل آخر، لكن من فضل الله عز وجل أنه اختصر فقلت له: لماذا لا نصلي على الرسول في العطاس؟ قال: لأن الرسول لم يقل ذلك، قلت: هذا عين جوابي، فالرسول عليه الصلاة والسلام لمّا صلى التراويح هل كان يقرأ: (قل هو الله أحد) بين التراويح؟ فسكت قليلاً ثم قال -وهذا هو الشاهد-: يعني أنا مكثت ستين سنة مغفلاً؟! ما هو المانع؟ الصحابة رضوان الله عليهم قال غير واحد منهم: (كنا ضلالاً حتى جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) ما هي المشكلة أن أكون أنا مغفلاً ثم رجعت؟! احمد الله أنك رجعت غيرك مات وهو مغفل، فاحمد الله أن مد في عمرك، وسخر لك من يوقظك، واحمد الله أن رزقك القبول والتسليم، هذه أشياء يستحق الإنسان أن يحمد الله عليها، فمضى الرجل ولم يقتنع، الأدلة كلها تكبله؛ لكن هذا هو الشاهد، لا يسلِّم، المشكلة أن البدعة يعتقد صاحبها أنها دين، لذلك كانت المعصية أفضل من البدعة، الزاني أفضل من المبتدع، شارب الخمر أفضل من المبتدع، قاتل النفس أفضل من المبتدع، وليس معنى أفضل أن القتل حلال، لا. وإنما تفاضل في الشرع؛ لأن هناك كفراً دون كفر وظلماً دون ظلم، لماذا؟ لأن أي إنسان يعلم أن المعصية حرام وإن كابر فيها، فإذا علم أنها حرام يمكن أن يخرج منها يوماً بالتوبة. كنت أخطب الجمعة في سنة من السنوات في القاهرة، وتكلمت عن الرجم، وأن الزاني المحصن يرجم، ويحفر له في الأرض حفرة، ثم يرجم بالحجارة حتى يموت، فهذا هو الحد، وتكلمت ومضيت في الكلام، وبعد أن انتهيت من الخطبة وخرجت من المسجد، رأيت رجلاً في نحو السبعين أو الثمانين من عمره، يقف أمامي وهو يرتعد، قلت: إن هذا رجل أعصابه تعبانة، وأطرافه تهتز، وكان كذلك، لكن لم يكن المرض العصبي عنده هو السبب المباشر لهذا فقط، هذا الرجل يسكن بعيداً عن المسجد فرجع إلى بيته بعد الخطبة، ثم قفل راجعاً إلى المسجد. وقال لي: أريدك على انفراد. ثم قال: أنا رجل عشت حياتي في الزنا، وأول مرة أسمع الكلام الذي قلته في الخطبة، كنت أريد أن أخرج من المسجد؛ لأني كنت أحس أنك ترجمني بالحجارة، لكن استحيت أن أقوم من المسجد، انتهت الصلاة لم أستطع المكوث في المسجد، ذهبت إلى البيت لكن ما استطعت القعود، ولا القيام، ولا استطعت الأكل ولا الشرب، بيتي بعيد، وليس عندي سيارة، ولكني رجعت لأسأل سؤالاً واحداً، هل يمكن أن تقبل توبتي؟! هذا الرجل الذي ظل يزني عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة، أكثر من الزنا حتى صار لا يعلم أهو حلال أم حرام؟! ولا يمكن أن يعتقد إنسان في حرام بحت أنه حلال، إلا إذا كان جاهلاً بالمرة عن هذا الشيء، الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قسم الأشياء، جعلها ثلاثة: الحلال المحض البيَّن لا يحتاج إلى برهان، الحرام المحض البيَّن الذي لا يحتاج إلى برهان أيضاً، وبينهما الأمور المشتبهات. قال بعض العلماء: كيف لا يفطر المرء على معرفة الحلال المحض من الحرام المحض، وقد فطر الله الحيوانات على معرفة ذلك؟ وضرب المثل الذي نعرفه نحن جميعاً، إذا أعطيت القط قطعة لحم أكلها بجانبك، أما إذا خطفها فإنه يولي هارباً، لماذا يولي هارباً إذا خطفها؟ لأنه سارق، لكن إذا أعطيتها له أكلها بجانبك؛ لأنها جاءت من الحل، إذاً الإنسان الذي ركب الله فيه آلة العقل لا يستطيع أن يجهل الحرام المحض! بل يعرفه، لكن يكابر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 نموذج للبدعة الإضافية وإنكار الصحابة لها جاء في سنن الدارمي بسند صحيح عن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه قال: (كنا جلوساً بباب عبد الله بن مسعود بعد صلاة الغداة، فبينما نحن جلوس إذ جاء أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وقال: أخرج أبو عبد الرحمن؟ قلنا: لا، فجلس معنا، فلما خرج اكتنفناه فقال أبو موسى: أبا عبد الرحمن لقد رأيت في المسجد آنفاً شيئاً أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: وماذا رأيت؟ قال: إن عشت فستراه، رأيت قوماً حِلقاً حِلقاً، أمامهم حصى يسبحون الله تبارك وتعالى، ويكبرونه، ويحمدونه، ومعهم رجل يقول: سبحوا مائة، فيأخذون مائة حصاة ويسبحون، كبروا مائة، فيكبرون مائة بالحصى. وفي بعض الروايات خارج الدارمي قال: (فرجع ابن مسعود إلى داره وتلثم، ثم دخل المسجد فإذا هم كما وصف أبو موسى الأشعري) . حينئذ كشف ابن مسعود رضي الله عنه عن وجهه وقال: (ما أسرع هلكتكم يا أمة محمد! هاهو محمد صلى الله عليه وسلم آنيته لم تكسر، وثيابه لم تبلَ حتى جئتم بشيءٍ ما فعله ولا أصحابه أنا عبد الله بن مسعود، أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! ما نريد إلا الخير. -قولة كل مبتدع- فقال: كم من مريد للخير لا يبلغه؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: (أن رجالاً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم وايم الله لعل أكثركم منهم، قال راوي الحديث: فلقد رأيت عامة هؤلاء يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج) . فهذا مثال، وهناك بعض المسلمين يستحب التسبيح بهذه الصورة، وهو التسبيح على المسبحة؛ لأنه لا فرق بين التسبيح على الحصى باعتبار أن الحصى فرد، وبين أن تنظم هذا الحصى في عقد. فالآن من المسلمين من يُفتي باستحباب التسبيح على المسبحة، وهذه كانت بدعة عند الصحابة، فانظر إلى تطاول الزمن! كان عندهم بدعة ثم صار مستحباً عندنا، وعبد الله بن مسعود أفقه صحابي، نزل الكوفة بعد علي بن أبي طالب، ويشهد الكل له بذلك، وكان فقيهاً في دين الله عز وجل لاسيما في كتابه تبارك وتعالى، كان يقول: (لقد أخذت سبعين سورة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أعلم أن رجلاً عنده ما ليس عندي تضرب إليه أكباد الإبل لفعلت) . عندما يرى عبد الله بن مسعود رجالاً يسبحون الله على الحصى في المسجد، فهذه هي البدعة الإضافية، التسبيح مشروع لكن هيئته هي البدعة، فانظر كيف صار لها وجهان؟ وجه مشروع، وهو أصل التسبيح، ووجه غير مشروع وهو كيفية التسبيح؛ لذلك هؤلاء ينسبون هذه الهيئة كلها اعتماداً على الأصل إلى الشرع، ولذلك أبو موسى الأشعري قال لـ عبد الله بن مسعود: (رأيت في المسجد شيئاً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً) وإذا كان خيراً لماذا تنكره؟ الكلام قد يبدو متناقضاً: (أنكرته ولم أر إلا خيراً) إذا لم تر إلا خيراً فما الداعي للإنكار؟ أي: أصل الذكر لا يُنكر، رجال جلسوا يذكرون الله، من ينكر هذا؟! فهذا الذي عناه أبو موسى الأشعري قال: لم أر والحمد لله إلا خيراً. أما الذي أنكره فهو كيفية التسبيح. ولذلك كان في الماضي يوجد بدعة وسنة، أما الآن فالموجود هو بدعة وردة؛ لذلك أصبح الناس الآن يرون البدع ولا ينكرونها؛ لأنهم يرون في مقابل البدعة كفراً بواحاً، فتهون البدعة عندهم، وما علم هذا المسكين أن عدم إنكاره للبدع هو السبب في وجود هذا الكفر. لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى الصحابة كان عندهم نفرة شديدة من أي محدثٍ مهما كان دقيقاً، لذلك ظل الدين نقياً عندهم، فأنت إذا كان عندك حساسية شديدة للصغير فمن باب أولى أن تنكر الكبير؛ لكن إذا أنكرت الكبير فقط مر الصغير بسلام، وهذه هي المشكلة، صغير مع صغير مع صغير، تفاجأ أنه صار جبلاً يصعب عليك إنكاره. فالآن لو وجد شخص ينكر المسبحة، يقول له الآخر: تنكر عليه لماذا؟ ترى الناس قاعدين على المقاهي يشربون الحشيش والقهوة ولا تنكر عليهم، انظر كيف؟ أتى بالحشيش والأفيون في مقابل المسبحة، إذاً الذي يسبح بالمسبحة رضي الله عنه، ما دام أنك وضعت في مقابله هذا الحشاش، لكن عندما تقيس المسألة قياساً صحيحاً، وتضع هذا الذي يسبح على الحصى في مقابل ما كان يفعله الصحابة، تقوم فتشنع على هذا الذي يسبح بالحصى، وذلك لأن الصحابة كانوا ينكرونه. لذلك نحن نريد أن نبين كيف كان الجيل الأول ينكر؟ لأنهم أفضل الناس علماً وعملاً، وأرق الناس قلوباً. فـ عبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري أنكرا مجرد التسبيح. المبتدع إنما يريد أن يثبت بدعته اعتباراً بدليل الأصل، وبعض الناس لما سمع هذا الحديث جاء وقال: ألم يقل الله تبارك وتعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41] فجعل الذكر مطلقاً لماذا تريد أن تقيده؟ هذا يرد على ابن مسعود وأبي موسى الأشعري لأنهما أنكرا مثل هذا الفهم المطلق، لا يجوز لنا أن نطلق فهماً كان الصحابة يرونه مقيداً، العبرة بهم فالنبي عليه الصلاة والسلام لما علّم الصحابة قال لبعض زوجاته، أو لبعض النساء: (واعقدن التسبيح بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات) والتسبيح يكون بالأنامل، كل أنملة يسبح عليها ثلاث مرات، والأنامل هي أطراف الأصابع، ومن استهون مثل هذا يستهون غيره، ومشكلة المبتدع أنه يعتقد بدعته ديناً، لذلك مهما جئته بكل آية لا يسلِّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 السر في كون البدعة أحب إلى إبليس من المعصية قال سفيان الثوري وغيره من العلماء: (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها، ومن أظهر الدلائل على أن إبليس لا يكترث بالمعصية، حديث جابر الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن إبليس يضع عرشه على الماء) فهو يضع عرشه أي: الكرسي، ثم يجلس عليه وبعد ذلك يعطي للأبالسة خط سير، كل واحد يذهب إلى بني آدم: (يرسل سراياه تترى إلى بني آدم ... ) تترى: بعضها خلف بعض. لو أننا نعمل كالأبالسة لكنا من المصطفَين الأخيار، إنهم لا يكلون ولا ينامون ولا يهدءون، فإبليس لا يحاسب رأس كل شهر ولا أسبوع، إبليس يحاسب كل يوم، يرسل سراياه تترى، ثم بعد ذلك يأتون مرتصين أمامه كالطابور، وهو قاعد على الكرسي، كل واحد يأتي له بتقرير (يقول الأول: ما تركته حتى فعل كذا وكذا) ونحن يمكن أن نسمي كذا وكذا من عندنا، مثلاً يقول: ما تركته حتى زنى، نقول له إبليس لم تصنع شيئاً، وأنت؟! فيقول: ما تركته حتى قتل أخاه يقول له: لم تصنع شيئاً، وأنت؟! فيقول: ما تركته حتى شرب الخمر، وأنت؟ فيقول: ما تركته حتى سرق، لم تصنع شيئاً، كلهم لم يصنعوا شيئاً، حتى يأتي الدور على واحد منهم فيقول له: وأنت ماذا فعلت؟ يقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، حينئذ يقوم من كرسيه ويعتنقه (يلتزمه) ثم يقول له: نعم أنت، أنت أنت. هذا الشغل. إذاً أهل الطلاق حلال أم حرام؟ الطلاق بدون سبب مباح، والذي يقول: إنه لابد أن يكون للطلاق من علة مخطئ (فالنبي صلى الله عليه وسلم لما طلق حفصة جاءه جبريل عليه السلام فقال إن ربك يأمرك أن تراجعها فإنها صوامة قوامة) هل هناك أفضل من هذا؟ صوامة قوامة، فالطلاق مباح، لكن هل الزنا حلال؟ الخمر حلال؟ القتل حلال؟ أبداً، كان المفروض أن إبليس عندما يقول له ابنه: ما تركته حتى زنى يقوم ليعانقه تعظيماً لما قام به، فكيف يعظم إبليس شيئاً من المباحات ولا يكترث بالكبائر؟ مع أن هذا المطلق لزوجه لم يرتكب حراماً، وهذا ارتكب كبيرة؛ لأن العبد إذا ملأ الأرض بالمعاصي ثم قال: رب تبت، قال: غفرت لك، إذاً ذهب جهد إبليس كله هدراً، لذلك إبليس لا يكترث بالمعصية، لا تهمه؛ لأن العبد إذا تاب تاب الله عليه، لو ظل مائة عام يعصي الله عز وجل، ثم رزقه الله الإنابة إليه، ووفقه إلى عمل صالح قدمه قبل موته، ذهب عمل إبليس كله. ولا أدل على ذلك من قصة الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، لما ذهب يسأل العابد قال له: لا توبة لك فقتله فأكمل به المائة. هذه مائة نفس قتلها رجل واحد، وغفر الله تبارك وتعالى له، إذاً المعصية لا قيمة لها عند إبليس، إذ أنه يُتاب منها، أما البدعة فلا يُتاب منها؛ لأن العبد يعتقدها ديناً. ومن الأدلة الواضحة التي ذكرت في كتب التاريخ قصة الجعد بن درهم رأس الجهمية القدرية المعطلة، أخذ البدعة عن ابن سمعان، وابن سمعان أخذها عن طالوت، وطالوت أخذها عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي عليه الصلاة والسلام، والجهم بن صفوان أخذ المذهب الرديء عن الجعد بن درهم. انظر الإسناد! ظلمات بعضها فوق بعض، الجهم عن الجعد عن ابن سمعان عن طالوت عن لبيد اليهودي. الجعد بن درهم قال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، هذا مضاد لصريح القرآن: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125] {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] ، لماذا تنكر؟ قال: لأن الكلام يحتاج إلى شفتين وأسنان ولهاة وحنك، ويحتاج إلى حنجرة وصوت وهواء وغيرها، والله منزه عن ذلك، إذاً الله لا يتكلم؛ ولأن إثبات الكلام معناه إثبات الجارحة والله ليس كمثله شيء، إذاً لا نثبت له الكلام، وهكذا دواليك، حتى نفى الصفات كلها فصار يعبد عدماً. له إله لا سميعاً ولا بصيراً ولا متكلماً ولا عليماً ولا قديراً، ما هذا!! خلقه أحسن منه! يعني: أن الإنسان المخلوق سميع وبصير ومتكلم وحساس، وقادر، إذاً الإنسان أحسن من خالقه، فهذا المعطل يعبد عدماً، فلما أظهر هذه المقالة الشنيعة طلبه الأمير آنذاك -وكان خالد بن عبد الله القسري - وأرسل الشرطة فقبضوا عليه وكان بإمكانه أن يتوب، لكنه لم يتب، وظل محبوساً حتى عيد الأضحى، أتوا به مقيداً ووضعوه تحت المنبر، خطب خالد بن عبد الله القسري خطبة العيد، وختمها بقوله: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بـ الجعد بن درهم، فإنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، ونزل فذبحه في أصل المنبر، فشكر له علماء المسلمين ذلك انظر خطورة البدعة!! الله تبارك وتعالى رخص للمسلم أن يتكلم بكلمة الكفر لينجو، قال تبارك وتعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] . نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر رضي الله عنه كان نحيفاً ضعيفاً، فأخذه صناديد قريش وعذبوه العذاب الأليم، وشرطوا عليه لكي يتركوه أن يسب النبي عليه الصلاة والسلام، لم يتحمل العذاب، قال لهم: ماذا أقول؟ قالوا: قل: هو ساحر، هو كاهن، هو مجنون، قال: ساحر، كاهن، مجنون، فلما تركوه وبرد جلده، لام نفسه، وقال: هذا الذي أخرجني من الظلمات إلى النور! مجنون ساحر كاهن! ذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال له ذلك فقال: (يا عمار كيف تجد قلبك؟ قال: يا رسول الله! أجده مطمئناً بالإيمان. قال: يا عمار! إن عادوا فعد) مع أن سب الرسول عليه الصلاة والسلام كفر، باتفاق العلماء أن الذي يسب الرسول عليه الصلاة والسلام يقتل ولو تاب؛ حماية لجناب الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يكون معظماً عند الناس؛ لأن من الممكن أن هذا التائب يكون كاذباً في رجوعه، فلو تركنا الرسول عليه الصلاة والسلام لكل أحد يسبه فممكن لأي شخص أن يسب ثم يدعي التوبة، حرمة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست مهزلة؛ فمن يسب النبي فإنه يقتل ولو تاب، فإن كان تاب حقاً نفعه هذا بينه وبين الله، وإن كان كاذباً مات على ذلك، ما اتفق عليه العلماء، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يقول له: (كيف تجد قلبك؟ يقول: أجده مطمئناً بالإيمان، يقول: إن عادوا فعد) إن عادوا لضربك فعد إلى سبي. إذاً يرخص للمسلم إذا وقع في مثل هذه المواقف أن يصرح بكلمة الكفر؛ فكان يمكن للجعد بن درهم أن يقول: أنا كنت مخطئاً، أنا تبت، وينقذ نفسه ولو كاذباً؛ لكنه أبى وفضّل أن يقتل دون أن يرجع عن هذه البدعة؛ لأنه يعتقدها ديناً، ولو أنك ذهبت إلى عالم من علماء المسلمين وقلت له: ارجع عن دينك لا يرجع أبداً، كذلك المبتدع لا يرجع أبداً، كما أن هذا العابد يعتقد بدعته ديناً، لذلك لا يمكن أن يرجع، فالبدعة خطيرة جداً جداً، وكل الذي بيننا من الخور أصله البدعة، ولو أننا هجرنا المبتدعة في الله مع مراعاة الأحكام الشرعية الخمسة، ومراعاة ضبط المصالح والمفاسد لذلوا، هم الآن أطول الناس أعناقاً. الذين يدعون الآن لاجتماع شمل المسلمين واهمون، كيف تجمع ما بين رجل يقول: الله في كل مكان، وما بين رجل يقول: الله في السماء وهذا هو القول الحق؟! الذي يقول: إن الله في كل مكان، يتهم الذي يقول: إن الله في السماء بأنه مجسم، اتهامات متبادلة، كيف تجمع ما بين رجال اختلفوا في ربهم، هناك من يقول: الله لا فوق ولا تحت ولا وراء ولا أمام ولا خارج العالم ولا داخله؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 منهج السلف في إثبات أسماء الله وصفاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الرد على شبهة المعتزلة والأشاعرة في أن خبر الواحد لا يحتج به في العقيدة ما قالوا كما قالت المبتدعة من المعتزلة والأشاعرة وأشباههم: إن خبر الواحد لا يحتج به في العقيدة هذا أصل من أصول المبتدعة التي ردوا بها دلالات النصوص الواضحة، لماذا تردون خبر الواحد؟ يقول لك: هل الواحد معصوم؟ لا. يمكن أن يخطئ؟ نعم. ما هو الدليل على أنه لم يخطئ في هذا الخبر؟ طالما أنه ليس بمعصوم، وأنه من الجائز أن يخطئ، فمن الممكن أن يخطئ في نقل صفة لله، فأنا لا أعبد الله بخبر من يمكن أن يدخل الخطأ في كلامه. إذاً لكي نقبل هذا الكلام: لابد أن يرويه عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب أو الخطأ، هو هذا كلامهم، قاعدة عملية، تأتي له بأي صفة، يأتي بهذه القاعدة ويقول لك: هذا مخالف للعقل، عقل من؟ لعقلك أنت، أم لعقل زيد، أم لعقل عمرو؟! إذاً عقلك أفضل مني، لماذا؟ اختلفنا إذاً، نريد عقلاً ثالثاً يحكم بيننا، لو جاء برجل أقول له: أعقله أفضل مني؟ أنا لا أرضاه، لو جئته أنا برجل يقول: أعقله أفضل مني؟ أنا لا أرضاه، إذاً لابد من عقل معصوم وليس إلا النبي عليه الصلاة والسلام، إذاً رجعنا مرة أخرى للنقل؛ لأن الحكم الفيصل بيني وبين هذا الذي اختلفت معه، لابد أن يكون واحداً هو محل ثقة مني ومنه، وهذا لا يكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. الرسول عليه الصلاة والسلام لما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) هذه عقيدة أم أحكام شرعية؟ هذه عقيدة، ومع ذلك أرسل معاذ بن جبل وحده، ثم أتبعه بـ أبي موسى الأشعري فصارا اثنين، والاثنان ليس تواتراً لا عندهم ولا عندنا، التواتر: عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب، بعضهم يقول: عشرة؛ لكن العدد اثنان باتفاقنا معهم ليس تواتراً. الرسول عليه الصلاة والسلام أقام الدين كله في اليمن بـ معاذ وأبي موسى الأشعري، واتفق المسلمون لا خلاف بينهم أن حاكم المسلمين لو أرسل رسوله إلى بلد ما، وعرض عليهم الإسلام فرفضوه، ورفضوا دفع الجزية أنه يغير عليهم، ولكانوا كفرة، وهذا واحد، لكن هؤلاء وضعوا هذا الأصل ليصدوا عن أنفسهم جيوش أدلة أهل السنة والجماعة، وصاروا يقيمون شبهاً عقلية تنطلي على من ليس من أهل العلم؛ لذلك حدث من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، بل إنه حدث من الاختلاف شيء لا تصدقونه من هوله، عندما تقرءون كتب الفرق، هذا كله بسبب البدعة، فهي أخطر ما يكون؛ لذلك يجب علينا أن نهجر أهل البدع، مع مراعاة المصالح والمفاسد، يجب علينا أن نهينهم ولا نعظمهم، ولا نكبرهم ولا نثني عليهم، وقضية المصالح والمفاسد تحتاج إلى وقفة طويلة، لكن ليس هذا وقته؛ لأن بعض الناس ممكن يدخل من باب مراعاة المصالح والمفاسد ويهدم الحكم كاملاً. الحل، نحن نشبه بالإسلام لفظاً، ونشبه تطبيق المسلمين عملاً، بمثلث حاد الزاوية، تصوروا معي هذا المثل هو النقطة، ثم بعد ذلك تشد هذين الضلعين إلى هذه النقطة، والنقطة التي وضعناها هي برأس القلم على رأس هذا المثلث، ذاك زمان النبي صلى الله عليه وسلم نقطة لا أبعاد فيها، فإن كان فيها أبعاد فهي قليلة صغيرة جداً، بخلاف الذي كان موجوداً بابتعاث الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خلاف سهل وسرعان ما ينتهي، ابدأ وانزل بالضلعين من عند النقطة تبدأ المسافة تتسع بين الضلعين، تحت رأس المثلث مباشرة، ولاحظ أن المسافة أيضاً لا زالت صغيرة، إنما تزداد المسافة بُعداً كلما نزلت كثيراً عن رأس المثلث. إذاً كلما ابتعدت عن رأس المثلث، ازداد البعد بينك وبين هذا الدين، إذاً ما هو الحل؟ أن تصعد إلى رأس المثلث، فكلما صعدت إلى فوق قلَّ الفارق، لذلك نحن نؤكد على ضرورة الرجوع إلى القرون الثلاثة الأولى، خذوا منهم الفتوى في كل شيء: عقيدة، وحكماً، حلالاً وحراماً. إن كثيراً من المتأخرين الذين لم يذوقوا طعم الرجوع إلى هذه القرون الماضية بفتاواهم هذه، إنما يباعدون ما بين المسلمين وما بين النص الشرعي. لذلك إذا أردت أن ترجع اصعد إلى فوق، وعليك بالعلو، لذلك أيها الإخوة! البدعة من أخطر ما يكون على هذا الدين، فهي معولُ هدمٍ، صاحب البدعة أولى بالهجر من صاحب المعصية، صاحب المعصية لعله يرجع، صاحب البدعة قل له: هذه بدعة، وتلطف في عرض الحق، فإذا ما ظهر لك أن هذا الرجل مستمر في غيه، لا يريد أن يرجع إلى الحق، حينئذٍ يجب عليك أن تهجره. أيها الإخوة! الكلام طويل طويل! وبالذات في مسألة البدعة، وهذه رءوس أقلام، وأنا أنصح بمطالعة كتاب: الاعتصام للإمام الشاطبي، وهذا الكتاب أولى أن يدرس في المساجد وأن يبسط؛ لأن عبارات الإمام الشاطبي أحياناً تكون مغلقة، فهي عبارات قوية، هذا الكتاب يحتاج إلى تبسيط، وإلى حسن عرض على المسلمين؛ لأن المسلمين لو فقهوا كتاب: الاعتصام سيعرفون حد البدعة، بالذات البدعة الإضافية. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 عدم اختلاف الصحابة في الأسماء والصفات الصحابة رضوان الله عليهم ما اختلفوا قط في خبر فيه صفة أو اسم لله تعالى، وإنما اختلفوا في الأحكام الشرعية، في الحلال والحرام، اختلفوا كثيراً كثيراً، أبو هريرة رضي الله عنه اختلف مع ابن عباس في الوضوء مما مست النار؛ لأن أبا هريرة كان يروي الحديث الصحيح الذي نسخ فيما بعد: (توضئوا مما مست النار) . لما تشرب الشاي تتوضأ، لما تأكل أي شيء مما مسته النار تتوضأ، هذا كان أولاً ثم نسخ بعد ذلك. فـ ابن عباس رضي الله عنه جمعه مجلس مع أبي هريرة -وهذا الحديث في سنن الترمذي - فسمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار) ، فقال: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالاً؟! يعني: آكل اللحمة غير مطبوخة؟ هذا حلال، يا أبا هريرة! أفلا نتوضأ من الحميم؟ يعني: حتى ولو نغتسل بماء حار، فيحتاج إلى أن نغتسل مرة أخرى بماء بارد؛ لأن الماء الحار مسته النار. فما كان من أبي هريرة إلا أن قبض حصى ملء كفه وقال: أشهد عدد هذا الحصى أنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار) يا بن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال. هو هذا الأدب، اختلفوا في مسألة فقهية كهذه. اختلفوا في عدة المتوفى عنها زوجها، اختلفوا في الطاعون، اختلفوا في قضاء الوتر بعد صلاة الفجر، عشرات الأحكام الفقهية اختلفوا فيها، لكن هل اختلفوا في خبر فيه صفة لله تبارك وتعالى؟ أبداً، لا يمكن أن تجد هذا، معنى هذا الكلام أنهم سلموا بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الصحابة آمنوا بكل ما جاء في القرآن والسنة لقد كان الصحابة يثبتون لله الأسماء والصفات كما أثبتها القرآن والسنة، ولذلك نحن نقول: كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة. فهل تريد أن تجمع أجساداً متراصة دون عقيدة واحدة؟ ماذا يفعلون؟! أنا أرى الذي بجانبي مبتدعاً ضالاً مضلاً، وهو يراني كذلك، ما هو النفع أن تجمعني به؟! يا جماعة! لنكن صرحاء، إن ما حدث في أفغانستان واضح جداً للعيان، لقد كانوا أصحاب رايات متفرقة، كل واحد له عقيدة وشكل: هذا أشعري، وهذا جهمي، وهذا قدري، وهذا سني، وهذا شيعي، عندما جاء الروس قالوا: نجتمع كلنا عليهم، فلما خرج الروس تصارعوا فيما بينهم، وهذا شيء طبيعي جداً؛ لأن كل واحد يقول: أنا أريد أن أمكن لديني وعقيدتي في الأرض. فأنت عندما تقول: الله مستوٍ على العرش، يقول هو: قاعد على العرش معناه: أنه جسم، فأنت تجسم ربك، أنا لا أمكن لك أن تنشر هذا المذهب الرديء، وبدأ كل منهم يقاتل الآخر، فلو أن هؤلاء قبل أن يجتمعوا كانوا موحدين حقاً لانتصروا على الروس انتصاراً ساحقاً، بل إن الصحابة كانوا قلة، ونأخذ العبرة بيوم بدر، كان عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، لم يخرجوا لقتال، ولم يتأهبوا له، ليس معهم غير فرسين اثنين، يعني: تشبه الآن الطائرات المقاتلة، والرسول عليه الصلاة والسلام ما خرج لقتال، فقاتلوا ألف رجل خرجوا هم للقتال، وماذا فعلوا فيهم؟ قتلوا صناديدهم، قتلوا سبعين رجلاً كافراً عنيداً، قتلهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، كان أبو جهل ومن معه كل يوم يذبحون عشرة جمال ويأكلونها، والصحابة الفقراء يقتسمون التمرات، يقسم التمرة بينه وبين أخيه، في غزوة جيش البحر جابر بن عبد الله الأنصاري كان يقول: (كنا نضع التمرة تحت ألسنتنا نمصها كما يمص الصبي، ونشرب عليها الماء) سعد بن أبي وقاص يقول: (كنا نأكل من ورق الشجر) هم هؤلاء الذين أعز اللهم بهم الإسلام، لأنهم كانوا على قلب رجل واحد. وأنتم تعرفون قصة الرجل الذي طلب الماء وهو في الرمق الأخير، فلما أراد أن يشرب سمع أخاه يقول: الماء، فقال: أعط أخي وهو في الرمق الأخير سوف يموت، وذلك سمع رجلاً يطلب الماء، فقال: أعط أخي، وكل واحد يقول: أعط أخي، فلما رجع إلى الأول وجده قد مات، ثم مر على الذي بعده فإذا به قد مات، حتى مات العشرة ولم يشربوا الماء. الرسول عليه الصلاة والسلام أول ما بدأ بدأ بتأسيس البنيان ببناء القاعدة، كان بإمكانه أن يأمر بتشكيل عصابات ويأمر من معه بتقتيل الجميع؛ لكن هذا تقويض لدعوته؛ لأنه جاء يدعو إلى مكارم الأخلاق، وهذه الأشياء تنافي مكارم الأخلاق. لذلك هو قضى عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاماً، حتى أو جد هذه القاعدة العريضة التي قاتل بها، إذاً قبل ما ندعو المسلمين جميعاً ونقول: وحدوا الصفوف، نقول أولاً: وحدوا الله، أولاً: كلمة التوحيد نجتمع عليها، فإذا اجتمعنا عليها هان كل شيء، لكن العقيدة الرسمية الموجودة الآن التي تدرس هي عقيدة الأشاعرة، ما هي العقيدة التي كان عليها السلف الصالح. أين الله؟ يقول: في كل مكان، هذا أقبح من قول النصارى؛ لأن النصارى خصوا الحلول بالمسيح وأمه، وهؤلاء يجعلون الله يحل في كل مكان، وهذا من لوازم قولهم، وهو أقبح من كلام النصارى نفسه. أبو الحسن الأشعري رحمه الله عندما رجع عن هذا المذهب الرديء في جملة، -وإن كان عليه بعض الأشياء التي أنكرها السلف بعدما رجع- كان يقول: إن الله تبارك وتعالى عندما يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] هنا يمدح نفسه عز وجل أنه استوى على العرش، فلو كان في كل مكان لكان استواؤه على العرش كاستوائه على أي مكان، وحاشا لله! تعرضت نصوص الكتاب والسنة لا أقول: للتأويل، بل للتحريف، لتثرية هذه البدع. عندما يأتي شخص -مثلاً- وينظر للقرآن فقط دون السنة النبوية التي رواها أثبتُ أهل الحديث -وهو يطعن في عقيدة الصحابة والتابعين- وهي كلام الرسول عليه الصلاة والسلام. حديث أبي سعيد في الصحيحين: (فيكشف الله عن ساقه) يقوم فيتهم القائل بهذه المقالة أنه مجسم، وهذا اتهام للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي نطق بهذا، فيقوم يحتج بأن القرآن لم يضف الساق إلى الله عز وجل، نعم في القرآن لم تضف الساق إلى الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] لكن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو المبين لكلام الله تعالى نسب الساق إلى الله فقال: (يوم يكشف الله عن ساقه) . إذاً لله ساق، لكن هل كساق المخلوقين؟ لا. لله ساق، لله قدم، لله أصبع، كما جاءت بذلك الأحاديث كما يليق بجلاله. نعم موجود. أنت موجود؟ نعم موجود. وجوده كوجودك؟ لا. إذاً لماذا لا تقل في الصفات كما قلت في الذات؟ أنت قلت: ذاته ليست كذوات المخلوقين، لماذا جعلت صفاته كصفات المخلوقين؟ فعندما تقول: ذاته ليست كذواتنا، فمن الطبيعي جداً أن تقول: وصفاته ليست كصفاتنا. وإذا قلت: الله له يد، قال: لا تقل ذلك إنه ليس له يد؛ لأنك لو قلت: له يد فمعنى ذلك أنك شبهته، لماذا شبهته؟ فتقول: كما أن ذاته تبارك وتعالى ليست كذاتنا، كذلك صفاته تبارك وتعالى ليست كصفاتنا، وبهذا نرتاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 البدعة وآثارها في محنة المسلمين [2] بعض المسلمين يزيد في الدين ما ليس منه بحجة أن ذلك خير وقربى إلى الله سبحانه وتعالى، وما أصيب المسلمون بهذه المصائب إلا بسبب الجهل والاجتهاد الشخصي عند بعض الناس دون الرجوع إلى العلماء الربانيين؛ ولذا لابد من مناصحة هؤلاء بالحكمة، فإن لم ينتصحوا وجب هجرهم مع مراعاة ضوابط الهجر، وتقديم درء المفاسد على جلب المصالح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 حكم الزيادة في الدين إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71] . أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فقبل أن نشرع في الرد على محسني البدع نذكر مقدمة ضرورية بين يدي هذا الرد، وهذه المقدمة تتمثل في التنفير من البدعة وذكر مساوئها، وهذه طريقة قرآنية إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن ينفر من النار ذكر شيئاً من عذاب أهل النار، وإذا أراد أن يرغب في الجنة ذكر بعض نعيم أهل الجنة، وذلك لأن النفوس تتشوق إلى ذلك. إن العبد إذا علم شر منقلب أهل البدع، لم يلجأ إلى التأويل الذي تأوله أهل البدع، إنما نريح أنفسنا بذكر هذه المقدمة، لأن الموضوع إذا نوقش فيه بطريقة الجدل النظري لا نصل فيه إلى نتيجة، إذاً: لا بد من دخول المعنى الإيماني في المناقشة، ليست المسألة نظرية بحتة كما يفعل أهل البدع في النقاش، إنما نتكلم عن خير الهدي، وخير الهدي من أعظم الخوارم فيه: البدع إذاً: لا بد من دخول المعنى الإيماني أثناء المناقشة ولا يكون هذا إلا بذكر سوء منقلب أهل البدع. صاحب البدعة عمله مردود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وأصحاب البدعة يدخلون دخولاً أولياً في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103-104] وذلك لأن صاحب البدعة ليس معه برهان من الله ورسوله على الذي يفعله شيء استحسنه ففعله، والبرهان لا بد أن يكون كاملاً؛ لأن أصحاب البدعة الإضافية يحتجون بالأصل على الوصف، فأخذوا جزءاً وتركوا جزءاً آخر، لذلك لابد أن يكون البرهان كاملاً وشاملاً حتى يشفع لصاحبه في العمل، كل أصحاب البدع يظنون أنهم يحسنون صنعاً، والباب الذي ولجوا منه هو زيادة التعبد لله تبارك وتعالى بالبدعة. وتعريف البدعة كما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها التعبد لله تبارك وتعالى. فقوله: (في الدين) : أخرج بمفهومه الدنيا، حتى لا يعترض بالسيارات والطائرات والقاطرات والصواريخ؛ لأن هذه كلها تعتبر بدع، إذ أنها لم تكن موجودة ثم وجدت، وهذا هو معنى البدعة اللغوية، كما قال تبارك وتعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي: ما أنا بأول رسول أرسلت، بل أرسل قبلي. فقوله: (طريقة في الدين) حتى لا يعترض أهل البدع بأشياء محدثة في الدنيا، فكلما جادلناهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بشئون دنياكم) . وقوله: (مخترعة) أي: ليس لها برهان، ولا دليل شرعي، أي: فيها شبه من الأدلة الشرعية، فالذين يذكرون الله عز وجل عن طريق التمايل يمنة ويسرة، أصل الذكر الذي يفعلونه مشروع، لكن الطريقة التي يفعلونها غير مشروعة. ما هو مقصود المبتدع؟ إننا لا نزعم أن المبتدع يريد أن يغير دين الله، لا. بل هو يريد بهذا أن يتقرب إلى الله أكثر، لكن هل شفعت له نيته هذه؟ الجواب: لا. كما يقول الناس: (طريق جهنم ملآن بالنيات الصالحة) وأجود من هذا قول ابن مسعود رضي الله عنه (كم من مريد للخير لا يبلغه) لأننا كنا ضلالاً فهدانا الله بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا التمسنا الخير في غير طريقه ضللنا إذا كل خير لم يكن من طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس من الخير وإن ظنناه كذلك، فما من مبتدع إلا وهو يريد أن يتقرب إلى الله تبارك وتعالى ببدعته فهو يظن أنه أحسن الصنيع بهذه القربى. الخادم الذي يخدم المقبور هل قصد أن يخرج بدينه من ذلك؟ الجواب: لا. هل يظن أنه مأجور على ذلك؟! الجواب: نعم لذلك هو يبالغ في تنظيف الضريح وبالعناية به على اعتبار أن هذه خدمة لأولياء الله، ويلبس عليه الشيطان فتاوي الخدمة لهذا المقبور مع الخدمة للعلماء الأحياء، يقول: لو أن عالماً جليلاً خدمته كنت مأجوراً على ذلك، فأي فرق بين أن تخدم ولياً من أولياء الله وعالماً من علماء المسلمين؟! إذا هو يظن أنه يحسن الصنع بهذه الخدمة، لذلك إذا قلت له: لا تخدم الضريح لأن هذا لا يجوز، ما ترك خدمة الضريح أبداً، لأنه يعتبرها ديناً وقربة إلى الله، وهذا كما لو قلت لعالم من علماء المسلمين: دع تعليم الناس، يقول: لا أدع تعليم الناس أبداً، إنه قربى إلى الله عز وجل، فهذا هو معنى الآية: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} [الكهف:103] وجاء لفظ (الأخسر) بصيغة المبالغة إذ ليس هناك من هو أخسر من هذا الإنسان؛ لأن طرق الرجعة كلها مسدودة بالنسبة لهذا الإنسان لاعتقاده أنه يتقرب إلى الله، فإذا زجرته ظن أنك تريد أن تسحبه من طريق الله عز وجل؛ لذلك كان ذلك أدعى له أن يستمر، ولذلك كان أخسر الناس، وهذه الآية حجة على أن المبتدع أخطر من العاصي، لأن العاصي يعلم ولو بنسبة جزئيةٍ ضئيلة أنه ليس على الحق، والله تبارك وتعالى لما خلق الناس جعل في أنفسهم ضميراً، ولذلك تجد الرجل الجاهل الذي لا يدري شيئاً يأتي ليسأل عن شيء في صدره، وهو لا يعلم أحلالٌ أم حرام؟ فما الذي أهاج فيه هذا السؤال؟ هذا الضمير، الذي هو داعي الله في نفس كل مؤمن -كما قال عليه الصلاة والسلام- فما من معصيةٍ إلا والعبد يعلم أنها معصية سواء علماً كلياً أو جزئياً، لذلك يمكن أن يرجع من معصيته إذا وجد رجلاً قوياً خاطب فيه محل الإيمان، بخلاف العاصي المبتدع الذي يتعبد الله ببدعته، ومن أظهر الدلائل على التفريق بينهما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي رواه البخاري ومسلم: أن رجلاً اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يشرب الخمر، وشربها أكثر من مرة، وحد أكثر من مرة، فجيء به مرةً وهو سكران، فأقام النبي عليه الصلاة والسلام عليه الحد، فقال رجلٌ بعدما أقيم عليه الحد: اللهم العنه، ما أكثر ما يجاء به وهو سكران! وفي رواية: ما أكثر ما جلد! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه، فقد علمتُ أنه يحب الله ورسوله) وهذا عاص شارب للخمر، فقد يجتمع حب الله ورسوله والعصيان في نفس رجل؛ لأن المعصية قد يكون أساسها الهوى، وليس استمراء المخالفة. إن كثيراً من العاصين يعصون الله عز وجل بسبب ضعف عزائمهم، أو ضعف إيمانهم، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً في البخاري. قال: (جاء رجلٌ شرب الخمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اضربوه، قال: فمنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، ومنا الضارب بالعصا، فقال رجلٌ: اللهم العنه، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تعن الشيطان على أخيك) ، فهذا عاص، وكف النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يلعنه، وقال: (لا تعن الشيطان على أخيك) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 خطر البدعة وأهلها خذ على الجانب الآخر المبتدع حديث ذي الخويصرة لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اعدل فإنك لم تعدل!! فقال: (ويحك! ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا، فقال رجلٌ: ألا أقتله يا رسول الله؟ قال: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) هؤلاء هم المبتدعة، وهذا جد الخوارج الذين كفروا الصحابة وخرجوا عليهم، فانظر كيف قال فيهم: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) أي: لأشرعن في قتلهم قتلاً ذريعاً كما قتل الله قوم عاد، وهذه مبالغة في تقتيلهم، ومعلوم أن دم المسلم معصوم لا يهدر إلا من الدين، فما الذي أهدر دم هذا الرجل؟ إنها البدعة. انظركيف تكلم عن أهل المعاصي وأثبت ما أثبت في الله ورسوله مع وجود المعصية، وانظر كيف قال في أهل البدع. ثم أصحاب البدع يحملون أوزارهم وأوزار الذين أضلوهم، كما قال تبارك وتعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25] إن المبتدعة ليس عندهم علم ولا برهان، وإنما هو استحسان، شيءٌ ظنه قربة إلى الله عز وجل؛ لذلك نخرج من هذا بالقاعدة المعروفة عند أهل السنة: إن الزيادة في الخير ليست خيراً إلا أن تكون مشروعة، وعلى هذا يخرّج كلام الإمام القرطبي عندما استنبط من قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] فقال: ذم الله الذين ابتدعوا الرهبانية؛ لأنهم ما استمروا عليها، فلو أنهم استمروا عليها ما ذمهم، ورددنا على هذا المعنى، لكن قال القرطبي: إن الذي ينوي خيراً لا بد أن يتمه. نقول: إن الذي نوى خيراً بشرط أن يكون مشروعاً دون اللغو فيه، لأننا نقول في بدء كل خطبة: خير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، إن المبتدع نصب نفسه نداً للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يقول بلسان الحال أو بلسان المقال: إن الشريعة ما تمت، لذلك ينبغي أن نضيف شيئاً لتتميمها، وكفى به خسراناً مبيناً أن ينصب نفسه نداً للرسول عليه الصلاة والسلام! ثم إن المبتدع لا تقبل توبته حتى يدع بدعته: قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله احتجر -وفي رواية-: احتجز التوبة عن صاحب كل بدعةٍ حتى يدع بدعته) رواه الإمام الترمذي وحسنه. ولو لم يكن في الترهيب من البدعة غير هذا الحديث لكان كافياً؛ لأنه يعبد الله عز وجل من تلقاء نفسه بغير برهان، فكأنما لم يعبد الله بشيء. وأضف إلى ذلك أن صاحب البدعة محرومٌ من شربة الحوض، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليردن أقوامٌ على حوضي أذودهم عنه) . أي: أدفعهم، وفي رواية: (ليذادن أقوامٌ عن حوضي فأقول: رب! أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقا) ، أي: بعداً لكم. وهذا الحديث: احتج به الرافضة -وهم الشيعة الموجودون في إيران وغيرهم- على فسق جميع الصحابة واستثنوا علي، والمقداد، وحذيفة، وعماراً، وسلمان، فهل المقصود بهؤلاء: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ هناك جوابان لأهل العلم: الجواب الأول: أن المقصود بقوله: (أصحابي) هنا، هم أهل الردة الذين منعوا الزكاة وحاربهم الصحابة. وهناك جوابٌ آخر أقوى: وهو أن لفظ (الصاحب) لا يشترط فيها المصاحبة الفعلية الحسية، بل تشمل المصاحبة ولو باتفاق المذهب مع اختلاف الزمان، ألا ترى أن أي شافعي الآن، أو حنبلي يقول: وهذا قول أصحابنا، مثلاً: كـ أبي يعلى، وابن الجوزي، وابن عقيل، والمروذي، ولا يزال أصحاب المذاهب يقولون: وهذا قول أصحابنا أمثال فلان وفلان، وبينه وبين الذي سماه مئات السنين، صار صاحباً له في الطريقة، وإن لم يصطحبا حقيقةً، فقوله عليه الصلاة والسلام: (أصحابي أصحابي) أي: الذين آمنوا به واعتنقوا دين الإسلام، وإن تباعد بهم الزمان، وإنما أقول هذا التوضيح حتى لا يلتبس في ذهن أحدٍ. والحديث الصحيح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وددنا لو أنا رأينا إخواننا، فقالوا: يا رسول الله! أولسنا إخوانك؟ قال: لا. أنتم أصحابي، وإخواني أقوامٌ يأتون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني) فمن الممكن أن يقول بعض الناس: هؤلاء هم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، ونفى أن نكون أصحابه نحن معاشر المتأخرين، بل نحن إخوانه، فيقول: إذاًَ قوله: (أصحابي أصحابي) يدل على الصحابة. نقول: لا. إن لفظ (الصاحب) يطلق على المعاشرة الحقيقية، وعلى الموافقة في المذهب، وإن لم تكن هناك معية ذاتية؛ لذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (أصحابي أصحابي) أي: الذين اعتنقوا دين الإسلام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام. فصاحب البدعة محروم من شربة الحوض؛ ثم إن صاحب البدعة ملعون لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث فيها - أي: في المدينة- أو آوى مُحْدِثاً -والمُحدث: المبتدع- فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) . ثم إن صاحب البدعة مردود الشهادة باتفاق العلماء؛ لأنه مخروم العدالة، فأي شيء بقي للمبتدع؟! ما بقي له دينٌ ولا دنيا؛ لذلك ينبغي للمسلم إذا أراد أن يتقرب إلى الله عز وجل أن يسأل أهل العلم، هل الذي سأفعله قربة إلى الله تبارك وتعالى أم لا؟! ربما يسأل سائل فيقول: إن العوام يسألون من ليسوا من أهل العلم؛ فيحسنون لهم البدع، أعليهم وزرٌ في ذلك؟ لأن غالب القرى والأرياف المسيطرا عليها قديماً ولا زال فيها فلول الصوفية، فيحسنون لهم البدعة؛ فهل هؤلاء العوام عليهم وزرٌ في ارتكابهم لهذه البدع؟ نقول: إن الرجل إذا ظن في رجلٍ أنه من أهل العلم وهو جاهلٌ بسمت العالم، لكن بذل وسعه في البحث عمن يظن أنه من أهل العلم، فوافق ظنه مبتدعاً من المبتدعة فأفتاه بتحصيل بدعة ما، فعبد الله بها أنه مأجورٌ على ذلك. وأنا ذكرت قيداً مهماً في الكلام وهو: أن يكون ليس له هوى، وبذل الوسع في السؤال عمن يظن أنه من أهل العلم، وبهذا فعل الذي عليه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] فأهل الذكر عنده فلانٌ وفلان، وقد يصادف أنهم من المبتدعة، فلا لوم عليه إذا فعل الذي أمر به في حدود إمكانياته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 وجوب هجر أهل البدع بعد هذه المقدمة الضرورية -وفيها التنفير من البدعة- نذكر شيئاً آخر نذيل به النتيجة النهائية، وهو: وجوب هجران أهل البدع، فلو أننا وقفنا في وجه المبتدعة وقوفاً حازماً وهجرناهم في الله عز وجل؛ لانحصرت دائرة المبتدعة. إن العاصي ليس أولى بالهجران من المبتدع؛ لأن كلاً يعطى ما يستحقه، وبما أن المبتدع أشر من العاصي، كان التأكيد في حق هجر المبتدع، أعظم من التأكيد في حق هجر العاصي. إن الرسول عليه الصلاة والسلام سنَّ لنا هجران العصاة، فهجر كعب بن مالك وأصحابه: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية لما تخلفوا عن غزوة تبوك، وهجرهم المسلمون خمسين ليلة، وهو يعلم أنهم يحبون الله ورسوله، وظاهر ذلك من حالهم، فـ هلال بن أمية ربط نفسه في البيت، وظل يبكي طيلة خمسين ليلة، ولا يكون البكاء المتواصل إلا من رجلٍ نادمٍ حق الندم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم أن يعتزلوا نساءهم جاءت امرأة هلال وقالت: يا رسول الله! إن هلالاً رجلٌ فانٍ ما له من أرب في النساء، يعني: رجل عجوز، وشهوة العجوز مكسورة، لأن الشهوة لا تكون في القوة والشدة إلا في الشباب، أضف إلى ذلك إذا انضم إلى امتثال الشهوة بسبب تقدم السن الغم الذي يملأ الصدر، فلو أن رجلاً فتياً مليء بالقوة والحيوية أصابه غم لا يكون له أرب إلى النساء، فكيف إذا اجتمع الغم مع تقدم السن؟! فقالت: أفتأذن لي أن أخدمه، قال: (بشرط ألا يقربك؟ قالت: والله ما به من أرب وهو يحب الله ورسوله) ، وظاهر من حاله الندم الحقيقي، ومع ذلك هجرهم خمسين ليلة. فالرسول عليه الصلاة والسلام سنَّ لنا هجر العاصي، فهجر المبتدع من باب أولى، لأن جرمه أعظم من جرم العاصي. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 ضوابط هجر المبتدع الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. إن هجر المبتدع له ضوابط: فإن هذا الهجر داخلٌ في باب إنكار المنكر، وإنكار المنكر عند العلماء منوطٌ أو مقيدٌ بألا يعقب الإنكار منكراً أعظم منه، فلو كان للمبتدعة في بلدٍ ما شوكةٌ عظيمة، فأنكرت عليهم هذه البدعة قتلوك أو قلصوا دعوتك؛ حينئذٍ يجب عليك أن تتوقف في إنكار البدعة، إن البدعة لها دولة تقوم عليها، ولها إمكانات هائلة؛ لأن البدعة تواكب هوى النفس بخلاف التكليف، وسميت النصوص الشرعية تكليفاً لأنها كلفة على الناس ومشقة. فأيهما أهون: أن تصلي جمعة في أول رجب تجبر لك تقصيرك في الصلاة طوال العمر، أو أن تصلي العمر كله؟! الأشق أن تصلي العمر كله، فكلما أذن المؤذن قمت تتوضأ وتصلي، وهناك بدعة قبيحة تتكئ على حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم (من صلى الجمعة الأولى في رجب جبر كل صلاة تركها العبد قبل هذه الجمعة) . تصوروا هذا الحديث المناقض مناقضةً صريحة لقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] ، ومناقض لقوله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] الذكر هنا مقيدٌ وهو الأذان، وليس مجرد أن تسمع ذكر الله فتقوم لتصلي، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ، فكلما ذكر الله في الأذان فقم إلى الصلاة، مع ما تواتر من النصوص الصحيحة أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل الصلاة خمساً، وأحاديث المواقيت معروفة، وأجمع المسلمون إجماعاً ضرورياً على أن الصلاة خمس ولا زالوا يفعلونها. هل تتصور أن هذا يروج على رجل عاقل؟ الجواب: لا. وهل المبتدعة مجانين؟ الجواب: لا. لكنهم خبثاء كسالى، يريدون أن يكونوا من الأبرار بغير جهد. قلت لكم: إن للمبتدعة دولة في شارع عابدين، مبنى من خمسة أدوار لنشر تراث المبتدعة، وتوزع الكتب مجاناً، أو بسعر التكلفة، ولهم مجلة (الإسلام وطن) يكفرون فيها الأبرار الأخيار من العلماء، وينشرون كتباً على حساب المغفلين، الذين ينفقون أموالهم ويظنون أنهم يحسنون صنعاً بإنفاقها. والوصية المكذوبة للشيخ أحمد، والتي فيها أن خمسين ألفاً يموتون كل سنة على غير دين الإسلام، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام جاءه في المنام وقال له ذلك، وأنه خادم الحجرة النبوية، وأن أي شخص تقع في يده هذه الورقة يجب عليه أن يكتبها خمسين مرة ويرسلها إلى الناس، والذي تصله الورقة ولا يفعل فمصيبته تكون سوداء، وأنه كان هناك مقاول كبير وصلته الورقة ولم يكتبها فاحترقت كل أمواله، وأن هناك آخر وهو فقير وصلته الورقة وكتبها فجاءه الكثير من المال. وتصور أنه عندما ينشغل كل مسلم بكتابة خمسين ورقة فماذا بقي للمسلمين من الوقت الجاد؟! ولك أن تحسب عدد المسلمين على وجه الأرض، ولا مانع إذا وصلتك الورقة فكتبتها خمسين وأرسلتها لك مرة أخرى فتكتبها خمسين مرة أخرى، وتظل طوال عمرك كاتباً، وإلا مت على غير دين الإسلام. هناك من يتطوع بطبع هذه الورقة وإرسالها للمسلمين حسبة لله، وجاره قد يكون على وشك الموت من الجوع فلا يعطيه رغيف خبز!! ينشر كتاب مكتوب تحته: طبع على نفقة بعض المسلمين، وهو كذبٌ على الله ورسوله، لأنه ظاهر غير مستتر، فالكذب عندما يكون مستتراً قد يهضم، ونقول: معذور صاحبه، قد يكون لفق عليه، لكن عندما يكون الكذب واضحاً جداً كيف يقال: إنه طبع على نفقة بعض المحسنين. مضمون هذا الكتاب أنه (كان هناك رجل اسمه عبد الله على عهد النبي عليه الصلاة والسلام -إذاً هو صحابي- وكان يعاقر النساء، ويشرب الخمر، ولا يشهد الصلاة والرسول عليه الصلاة والسلام -ورغم أن هذا الرجل كان يرتكب كل هذه العظائم- كان غضبان فقط) فتصور ردة فعل النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل أنه فقط غضبان، يعني: الذين جلدمه في شرب الخمر هؤلاء أقل شراً من عبد الله هذا الذي يشرب الخمر، والذين قتلهم في الزنا، كان يعلم الرسول أنه يزني وتركه يزني إلا أنه غضب عليه، وهذا لا يؤدي الزكاة ولا يصوم رمضان، والرسول عليه الصلاة والسلام تركه، أليس هذا قدحاً في الرسول عليه الصلاة والسلام؟ يقول صاحب الكتاب: فلما مات عبد الله كان من الطبيعي ألا يصلي عليه الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه غضبان، فإذا بجبريل عليه الصلاة والسلام ينزل ويسد بأجنحته الآفاق، ويقول للرسول عليه الصلاة والسلام: إن الله يأمرك أن تصلي على عبد الله، فيقول عليه الصلاة والسلام -وهو لا يدري-: كيف نصلي على عبد الله؟! ولكنه مأمور، فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام مندهشاً -فيظهرونه بمظهر ثالث، الذي لا يدري شيئاً ويصلي على عبد الله - ثم بعد أن جاء ليدفنه يرى الحور كل واحدة تحمل كوباً فيه عصير وتقول: خذ يا عبد الله مني، يتسابقن إليه، وهو عبد الله الفاجر الداعر المخمور، فتزداد حيرة الرسول عليه الصلاة والسلام! ويدفنه، ثم يقول للصحابة: هيا بنا نذهب لامرأته؛ لكي يعلم ماذا كان يعمل عبد الله؟! فيذهبون إلى امرأته ويدقون عليها الباب، فتقول امرأته: من الفاجر الذي يدق الباب؟ فيقال لها: يا أمة الله! اتق الله إنه رسول الله -وهذا منشور موجود وهو كتاب عندي ومكتوب عليه: طبع على نفقة بعض المحسنين، أليس هذا أولى بالقتل من قطاع الطرق؟ أليس هذا أولى بحد المحاربة؟! - فيدخل عليه الصلاة والسلام المندهش وأصحابه على المرأة ويقولون لها: ماذا كان يفعل عبد الله؛ لأن جبريل نزل والحوريات يتسابقن إليه، فماذا كان يفعل هذا الرجل؟ قالت: يا رسول الله! والله ما كان يفعل شيئاً، كان داعراً وفاجراً وسكيراً، وكان لا يصلي ولا يصوم رمضان، إلا أنه إذا كان يوم في رجب قام فصلى ركعتين ودعا الله بهذا الدعاء واستغرق هذا الدعاء في الكتاب أربع ورقات؛ فلما علم الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه المعجزة وهذا الثواب العظيم الجزيل الذي فاته ولم يعرفه إلا من هذا المخمور قام، فقال: من سره أن يأخذ أجر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم فليقرأ هذا الدعاء. إذاً: ما هو المطلوب من هذا الكتاب؟ المطلوب هو ألا تصلوا! ولا تزكوا ولا تصوموا، ولكن في أول ليلة من رجب قوموا واقرءوا هذا الدعاء فتأخذوا أجر أولي العزم من الرسل. قلت لكم: إنه كذب قبيح لا يمكن أن ينطلي على أحد ومع ذلك ينشر، كيف ينشر ويقال: طبع على نفقة بعض المحسنين؟! إنه يذكرني بالمرأة التي ذهبت إلى رجلٍ قاتل محترف، وقالت له: إن زوجي قتله فلان أريدك أن تقتله، فقال: بكم؟ فبكت المرأة وقالت: أنا فقيرة! فرق قلب القاتل لها وقال: سأقتله لوجه الله!! ثم يكتب على الكتاب: طبع على نفقة بعض المحسنين! يمكن أن تنطلي بدعة مغلفة على إنسان ويعذر لها، لكن هذا المناقض لدين الإسلام كليةً وجزئيةً، كيف يمكن أن يقال: إن هذا إحسان؟!! قلت لكم: إن المبتدعة لهم دولة، وأهل السنة لا يملكون إلا مجلة ضعيفة تعاني من نقص الإمكانيات، كل إماكانياتهم ضعيفة، ومجلة هؤلاء مرصود لها الملايين على نفقة بعض المحسنين. ينبغي أن يكون الإنسان فقيهاً إذا أنكر البدعة، وهذا له مجالٌ آخر. أسأل الله تبارك وتعالى أن يقينا وإياكم شر البدعة، ويقبضنا وإياكم على المحجة البيضاء، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 البدعة وآثارها في محنة المسلمين [3] من أساليب أهل البدع في إثبات بدعهم، وما أحدثوه في الدين هو تحريف آيات الكتاب وأحاديث السنة؛ إما بلي أعناقها لإثبات مقصودهم وأهوائهم، أو بتفسيرها بما يسمى عندهم بالتفسير الباطني، أو تحريف الأحاديث بذكر زيادات لم تصح وغير ذلك، وقد تصدى أهل العلم لهذه التحريفات بفضل الله، فقاموا بتفنيد هذه الشبه، وفضح أهل البدع، بكل ما أوتوه من قوة وبيان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71] . أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. للمبتدعة طرق شتى في تحريف القرآن والسنة يصلون بها إلى مرامهم، وهذه الخطبة بدايةٌ لفضح هذه الأساليب، فلا يختلف أحدٌ من العلماء أن أعظم جريمة تحيط بالمعنى وهي نزع الكلام عن السياق، وأنها تنتج نتيجة مغايرةً تماماً لما وضع الكلام له، وهذه طريقة يهودية صرفة. قال الله تبارك وتعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46] ، وقال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] ، وقال: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:41] ، وقال: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة:75] والذين فعلوا هذا هم اليهود، وهذا الكتاب ناطق عليهم فاضح لهم، والسنة أيضاً: ففي صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً وامرأة من اليهود زنيا -رجلٌ محصن وامرأة محصنة، ومعروف أن حد الزاني المحصن عند اليهود كعندنا، وهو الرجم- وفي سنن أبي داود من طريق آخر: أن رجلاً من أحبار اليهود زنى بامرأة، فقال بعضهم لبعض: هلم إلى هذا النبي فإنه جاء بالتخفيف، فإن أتانا بشيء خفيف فعلناه واحتججنا به عند ربنا بأننا تحاكمنا إلى نبيك وحكم بذلك، وقال الله تبارك وتعالى لهؤلاء: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ} [المائدة:43] فلما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن سلام وهو حبر اليهود الذي أسلم، قالوا: يا رسول الله! هذا رجلٌ زنى بهذه المرأة، قال: ألا تجدون شيئاً في كتابكم؟! قال: نجد الجلد والتغريب، قال: ائتوا بالتوراة، فجاءوا بالتوراة، فوضع القارئ يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفعها فوجد آية الرجم. والكلام عند علماء البيان ثلاثة: خلاف، وسباق، ولحاق، فهذا الكلام يسبقه كلام ويعقبه كلام، فإذا نزعت ما في الوسط عما قبله وبعده أعطاك معنىً مغايراً لما وضع الكلام له، فلو قرأ قارئ فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] وسكت، فهذا نزع للكلام عن السياق، وقد استفاد من هذا النزع شاعر ماجن وهو أبو نواس عندما قال: دع المساجد للعباد تسكنها وطف بنا حول خمار ليسقينا ما قال ربك ويل للأولى سكروا ولكن قال ويل للمصلينا وهو كمن قرأ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء:43] ولا يقرأ ما قبلها ولا ما بعدها، فهل وضع الكلام لذلك؟ لا. إذاً: أخذ الكلام من السياق دون مراعاته قلب للحقائق، وإخراج لمعان جديدة لم يوضع لها الكلام، ومن جراء هذه العملية أيضاً قال من قال: إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان، فهل هذا صحيح؟ قال: قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] ، وقال في كيد الشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] كذبت. هذه عن السياق الأول وتلك عن السياق الثاني، فخرج بهذه النتيجة الخاطئة، ولو أخذ السياق كاملاً لاتضح الكلام، فكيد النساء ليس أعظم من كيد الشيطان أبداً؛ لكن الآية الأولى جاءت مقارنة بين كيد الرجال والنساء في قصة يوسف عليه السلام، فقال الله عز وجل: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] أي: في مقابل كيد يوسف عليه السلام، والآية الثانية: كيد الشيطان في مقابل كيد الله، فلذلك كان كيد الشيطان ضعيفاً {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] فهذا مقابل بكيد الله، فلا شك أن يكون ضعيفاً، فهذا أحد أسلحة المبتدعة؛ وهو: نزع الكلام من السياق، وهو أحد ألوان تحريفهم، لأنه تحريف الكلام عن مواضعه متعدد وهذا أحدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 إدخال المبتدعة الزيادات غير الصحيحة في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تحريفاتهم أيضاً: أنهم يدخلون الزيادات غير الصحيحة في أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام: نشروا ورقة وكانوا يوزعونها، وهي قصة الخوارج: (يخرج قومٌ يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، قالوا: يا رسول الله! صفهم لنا، قال: لحاهم طويلة، وثيابهم قصيرة، إن لقيتوهم فاقتلوهم) ، رواه مخبر. (إن لقيتموهم فاقتلوهم) ، ومكتوب في الأسفل: رواه البخاري، وهو كذب مقطوع؛ لأنه يعلم أن الجماهير تقرأ ولا تبحث عن الأصالة ولا عن تأصيل الكلام، لا تكلف نفسها بعد سكوت العلماء، حتى هانوا على الناس، وجاءت الدائرة عليهم الآن فوضعوهم مع الوهابيين في خندق واحد، ألم تكتب مجلة (روز اليوسف) أن شيخ الأزهر هو الذي نشر التطرف، وجعلوا شيخ الأزهر مع الإرهابيين في خندق واحد، وجاءت الدائرة عليه لأنه سكت طويلاً، إن الشر إذا جاء لا يفرق بين أحدٍ، فهو يأخذ الكل كالطوفان الذي لا يميز. فسكوتهم هو الذي جرأ هؤلاء عليهم، فوالله الذي لا إله غيره إن الراقصات يفتين في دين الله، ويؤخذ برأيهن في كلام الله ورسوله، وينشر هذا في الجرائد والمجلات، أهناك هوان أكثر من هذا؟! كل مهنة لها نقابة إلا هذا الدين ليس له حمى، إن نقابة الأطباء أوقفت أشهر طبيب جراح في الجهاز الهضمي، والكل يعترف بكفاءته -وهو طبيب واحد في مصر ومعدود من أشهر الجراحين في العالم- عندما زعم أنه اخترع دواء للإيدز وجربه على بعض الآدميين، فأوقفوه، وقالوا: ليست أرواح الناس محل التجربة! وكيف يجرب هذا الدواء قبل أن يعرضه على لجنة وتقره؟ فأوقفوه ولم يراع منصبه العلمي، ولا الأوسمة التي حصل عليها؛ لأن هناك نقابة حماية تقوم بحماية أبدان الآدميين، لكن حماية دينهم لا تضر. وجاءت الدائرة فلم تفرق، وقد قدح أحدهم في مجلة (روز اليوسف) في شيخ الأزهر قدحاً لا تقوله امرأة في شارع، وقال له: إن عدت عدنا، وإن قلت زدنا. فإذا أهينت أكبر عمامة في البلد ولم ينتصر لها فنحن سنداس بالنعال. قلت لكم: إن للمبتدعة دولة وعندهم رأس مال، ولا يسأل أحدهم من أين لك هذا؟! لهم طرق شتى في تحريف كلام الله ورسوله، وما ذكرته الآن على سبيل المثال لا الحصر، وإلا فهناك أمثال يشيب لها رأس الولد سنتعرض لها في هذا المسلسل، وهو فضح هؤلاء المبتدعة، وقبح طريقتهم في التعامل مع النصوص الشرعية. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 التفسير الباطني للآيات والأحاديث عند المبتدعة ومن جملة تحريف الكلام عن مواضعه ما يسمونه: التفسير الباطني للموضوع، أو تحريف معنى الكلام نفسه، عندما ذهبت منذُ سنتين إلى أمريكا سمعت بعض الناس يحاضر هناك ويقول: إن الإسلام سيخرج من أمريكا وأوروبا، ومصداق ذلك في كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ أحسست أن كل حواسي تشتد إلى هذا المتكلم، ترى أين هذا الدليل الذي أتى به؟ يقول: قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تخرج الشمس من مغربها) والشمس هي الإسلام، والمغرب هو أمريكا وأوروبا. انظر إلى الكلام!! وهذا الحديث لو بحثت عنه -أيها المسلم- في جميع دواوين الإسلام لوجدته في كتاب الفتن، وما معنى كتاب الفتن؟ يعني: علامات الساعة، فهذا الحديث معناه: لا تقوم الساعة -أي: القيامة- حتى تخرج الشمس من مغربها، حينئذٍ تقوم الساعة، هذا هو فهم جميع علماء الإسلام لهذا الحديث، وهم الأولى بفهم الدين منا. فما الذي ذلل هذا المعنى لهذا الرجل؟! إنه التأويل الباطني، إذ أن ظاهره لا يوحي بذلك، وأكثر من ارتكب هذه الطريقة هم الصوفية المبتدعة، وعلى رأسهم ابن عربي، وهو النكرة ليس المحلى بالألف واللام، لأن عندنا عالم آخر اسمه ابن العربي، وهذا عالم مالكي جليل اسمه: أبو بكر بن العربي، لكن ابن عربي وابن سبعين، وابن الفارض هؤلاء كلهم يدخلون في زمرة الذين قلبوا حقيقة الإسلام بما أسموه بالتأويل الباطني. وهذا من تحريف الكلام عن مواضعه، ومن أخبث ما ارتكبوه قول ابن عربي في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] قال: نزلت هذه الآية في أهل الورع (إن الذين كفروا) والكلام فيه تقدير لمحذوف، ومعناه: إن الذين كفروا إيمانهم، أي: غطوه وحجبوه، وأصل الكفر هو التغطية، ومنه سميت الكفور كفوراً، هناك بلاد سميت: كفور؛ لأنها عبارة عن مجموعة من البيوت التفت حولها الأشجار فسترتها عن العيون، والذين كفروا إيمانهم أي: غطوه وحجبوه لئلا يحبط بالرياء. قال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} * {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا يدخلها غيره {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} فلا يسمعون إلا منه، {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فلا يرون غيره، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] أي: من المخالفين، هل هذا هو تفسير القرآن؟!! كان يقول الإمام أحمد بن حنبل ما معناه: (إن القرآن ما وقر في سمع الرجل العامي) فأول ما تسمع القرآن فالمعنى الذي يكون في صدرك من القرآن هذا هو تفسير القرآن؛ لأن الله عز وجل أنزله حجة على كل الخلق على اختلاف طبقاتهم وثقافتهم. وهذا مما فعله الصوفية بالقرآن الكريم، ولهم مخارج أخرى كثيرة سنتناولها، وهذ هو أس بدعتهم؛ لأنهم يحتجون بالقرآن والسنة، لذلك قلنا كثيراً ولا نزال نقول حتى نراه في واقع المسلمين: عقيدتنا القرآن والسنة بفهم السلف الصالح، هذا الخير هو الذي يميز أهل السنة والجماعة عن أهل البدعة والضلالة، فهم يحتجون بالقرآن والسنة على فهمهم هم. هناك رجل من أكثر قرأة القرآن في هذا الزمان، ذهب ليقرأ القرآن في محافظة الشرقية لما ماتت أم أحد الأعيان، فجاء الرجل وجاء الناس من كل صوب ليروا هذا القارئ صاحب الصوت الشجي، فقرأ ولعلع وهاص الناس وانسجموا، وأنهى الثلاثة أرباع، فحلف عليه صاحبه أن يأتي بربع رابع ويحاسبه، فأبى وقال: عندي مواعيد، فقام له صاحبه -وكان يأخذ على الربع آنذاك في عام (75) و (76) أربعمائة جنيه- فقال: أليس هذا بكثير؛ أربعمائة جنيه في ربع؟ فقال: قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41] . فهذا قارئ القرآن والقرآن يلعنه، يأخذ حساب الثلاثة أرباع ويضعه في البنك كأنما ما قرأ آية! ربا في القرآن الكريم! ولو جعلت الدنيا كلها ذهباً في مقابل حرف من كتاب الله، فإنك تكون قد اشتريت به ثمناً قليلاً، فهو متصور أنه كلما رفع السعر فهو يعظم القرآن، فاحتج بكلام الله على بدعته، وهذه كانت أعظم شوكة في ظهر المسلمين على مدار الأعصار والأزمان، تحريف آيات القرآن الكريم باسم التأويل، وما تعددت طرق المبتدعة في العقيدة وغيرها إلا بسبب هذا الأصل الذي ذكرت، فالتحريف سواء بنزع الكلام من السياق أو بلي أعناق الكلمات، كقول ابن عربي في قوله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] قال: ليس المعنى ما يتبادر إلى ذهنك من ظاهر الكلام؛ لأن ظاهر الكلام أن الله تبارك وتعالى يقول: من الذي يشفع عند الله لنفسه أو لغيره إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، هذا هو معنى الكلام، لكن المعنى عند ابن عربي: (من ذا الذي) أي: من ذل نفسه، و (ذي) : اسم إشارة، و (يشفع) من الشفاع، و (عِ) فعل أمر من وعى أي: عِ هذا الكلام واهتم به!! أهذا في كتاب الله؟!! أليس هذا أولى بالقتل من قطاع الطرق؟ أليس هذا أولى بأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف من المحاربين لله ورسوله، بل هذا من أعظم الحرب لله ورسوله، ما ضل اليهود والنصارى إلا بعد تحريف الكلام، وما ضل الذين جاءوا من بعد إلا بسبب تحريف الذين سبقوهم للكلام، وتحريف الكلام مستمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 أدلة أهل البدع على تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة والرد عليها احتج أهل البدع على تقسيم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة، بالحديث الذي رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (بينما كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء قوم عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، مجتابي النمار؛ فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم، تمعر وجهه -مما رآهم عليه من الفاقة- فأمر بلالاً فأذن فأقام فصلى، فخطب في الناس ثم قال: ليتصدق أحدكم من صاع بره، من صاع تمره، من درهمه، حتى ذكر شق التمرة، فقام رجل من الأنصار فأتى بصرة كادت يده أن تعجز عن حملها بل عجزت فوضعها، فتتابع الناس كل يأتي بما عنده حتى صار عند النبي صلى الله عليه وسلم كومان من طعام وإهاب، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلل كأنه مذهب، ثم قال: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) . فهذا الحديث أحد أدلتهم على وجود ما يسمى بالبدعة الحسنة، وأول سؤال يتبادر إلى الذهن: نحن نعلم أن البدعة طريقة في الدين مخترعة، ترى ما الذي اخترعه الأنصاري؟! ما فعل الأنصاري أكثر من أنه جاء بصرة مال اتباعاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم: القائل: (ليتصدق ... ) إذاً الذي جاء به الأنصاري صدقة، فعندما قيل: (ليتصدق أحدكم) جاء بصدقة، فهل الصدقة ابتدعها الأنصاري أم حض عليها تبارك وتعالى في الكتاب المنزل، وحض عليها النبي عليه الصلاة والسلام في كلامه؟ إذاً ما وجه الاحتجاج بهذا الحديث على وجود البدعة الحسنة؟ إنه لما فصل الكلام عن سياق الموضوع ظهر هذا المعنى الجديد، فليس في هذا الحديث حجة على الذين يقولون بالبدعة الحسنة، لاسيما وكلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يدخله مكذوب قط يمنع من القول بذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (كل بدعة ضلالة) جملة موجبةٌ كلية، (موجبة) : لم يسبقها ناصب ولا جازم (كلية) : أي مكبرةٌ بلفظ (كل) الذي يفيد العموم والشمول، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مسلم) فهي جملة من أقوى الجمل، بل هي قاعدةٌ فقهية لشمولها، ولا تسمى القاعدة قاعدة إلا إذا انتظمت كل الجزئيات تحتها. إذاً لا يصير القول قاعدة إلا إذا كانت جميع الجزئيات تحته، وهذا الحديث قاعدة كلية. ومما يحتج به أيضاً هؤلاء المبتدعة: قوله عليه الصلاة والسلام: (ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن، وما رأوه قبيحاً فهو قبيح) . والجواب: أن هذا الحديث لا أصل له مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له وجهٌ صحيح، إنما الصواب: أنه من كلام ابن مسعود، لكن المبتدعة نزعوه من كلام ابن مسعود أيضاً. فـ ابن مسعود لم يقل هذه الكلمة فقط، بل قال كلاماً قبلها، وإذا قرأت الكلام قبلها علمت كيف لعبوا أيضاً بكلام ابن مسعود ونزعوه من السياق، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله نظر في قلوب العالمين، فاختار قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم لرسالته؛ ثم نظر في قلوب العالمين فاختار أصحابه له، فما رآه المسلمون حسناً فهو حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو قبيح) . فانظر إلى الجملة عندما وضعت في مكانها هل أفادت ما يحتج به؟ الجواب: لا. (ثم نظر في قلوب أصحابه فاختارهم له، فما رآه المسلمون) فمن المقصود بالمسلمين هنا؟ إنهم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، إذاً لفظ المسلم وإن خرج مخرج العموم فالمقصود به هم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام بدلالة السياق، والسياق (أيها المسلمون) من المقيدات وهذه خطورته، وخطورة نزع كلمة أو جملة منه، فكلمة (عين) إذا سمعتها أيها العربي فأول شيء يتبادر إلى ذهنك أنها العين التي تبصر بها، فإذا سمعته يقول: صنعتها على عيني، هل يعني هذا أنه وضع شيئاً في عينه واشتغل فيه؟ (صنعته على عيني) أي: أوليته اهتمامي، والذي جعلك تؤول لفظ العين في المثال الثاني هو السياق، فإذا قلت: أرسلت إلى العدو عيناً، أليس هذا هو الجاسوس؟ تعددت معاني كلمة العين عندما أدخلتها في السياق، والسياق هو الذي يرجح المعنى، لذلك حذف كلمة أو جملة منه جريمة. الفعل (رغب) يتعدى بحرف الجر (عن) مرة، و (في) مرة، وفي كلا التعديتين مناقضة للأخرى، تقول: رغبت في كذا أي: أردته، ورغبت عنه أي: كرهته، ما الذي حول هذا اللفظ؟ إنه السياق. ولذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن) أي: ما رآه الصحابة، بدلالة السياق؛ لأنه أورد هذا الكلام تعظيماً لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، ولئن قلنا: ليس المقصود بالمسلمين خصوص الصحابة، فيكون لفظ المسلمين يفيد إجماع المسلمين، والإجماع حجة شرعية ملزمة إذا ثبتت، وهو أحد الأدلة الأربعة المتفق عليها بين الجماهير، وهي: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، ومن العلماء من يكفر مخالف الإجماع، وأكثرهم يضللونه ويفسقونه. فيكون اللفظ: (ما رآه المسلمون) أي: ما رآه العلماء المحققون إجماعاً قطعاً هو عند الله حسن، والدلالة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة) والسر في ذلك أن أية أمة تبتدع بدعة أو تغير شيئاً في شريعتها كان الله ينزل نبياً، كما حدث لبني إسرائيل، فلما قضى الله تبارك وتعالى أن نبينا صلى الله عليه وسلم آخر الرسل، ولو ابتدعت الأمم بدعة أو غيرت شيئاً من شريعتها فلن يرسل رسولاً؛ لأنه عصم الأمة أن تجتمع على ضلالة. وليس المقصود بالأمة هنا من كانت في مصر أو في الشام، بل المقصود: مجموع الأمة كلها، فلو أجمع الناس في بلدنا على تحليل الخمر مثلاً، فطالما أن هناك في الشام من ينكرها فقد خرق الإجماع، ولا يكون إجماعاً حينئذٍ، ويستحيل أن تجد الأمة مجمعة على تحريم ما أحل الله، أو على تحليل ما حرم الله، وإلا ذهبت حجة الله على الخلق، بل ما من مكانٍ إلا ولله فيه قائم بحجة. إذاً: قوله: (ما رآه المسلمون حسناً) لا يستفاد منه إلا تحريم أي شيء من البدع، لا سيما إذا علمنا أن البدعة هي طريقة في الدين مخترعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 الرد على من يقولون بترك الختان للمرأة الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. موضوع الختان كان نسياً منسياً، تدارك الناس فعله جيلاً بعد جيل، وفي خضم الأزمات والاهتمام بالصغائر والكبائر لم يطرق أحد مسألة الختان، ولم تشكل هذه الظاهرة أي مؤثرات سلبية على مدار القرون السالفة، ولم تلفت نظر أحدٍ على الإطلاق، ثم فجأة وببركات عقد مؤتمر السكان عندنا، والتمثيلية التي عرضت في الإعلام، قامت الدنيا وصار الحديث حول الختان، فأصدرت وزارة الصحة بياناً إلى مديريات الصحة في المحافظات، ووقع في يدي صورة للخطاب الموجه من وزارة الصحة للمديريات في المحافظات، يفندون الختان من ثمانية أوجه؛ منها: أنه لا يجوز المساس بجسد الأنثى إلا بإذن الطبيب. ومنها: أن الختان عادة جاهلية وليست إسلامية! وهذا بكل أسف ما ورد في الجرائد الرسمية على لسان المفتي وغيره! ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يثبت أنه ختن بناته الأربع! ومنها: أنه لم يجمع أحد من الفقهاء على وجوب الختان، والإجماع قائم على أنه غير ضروري! ومنها: أنه يسبب عقداً نفسية للبنت، وبعض الأمراض الفتاكة منها: سرطان عنق الرحم، دون الأزمات النفسية والجانبية التي يسببها مثل هذا الأمر. قلت لكم قبل ذلك: كأنهم يكتبون للصم البكم العمي وكأن الذين يخاطبونهم من الأموات، ليس عندهم كتاب، ولا قرءوا صفحة في الفقه، فهل الختان فعلاً سنة جاهلية؟ الجواب: لا. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة، ورواه مسلم من حديث عائشة، وأبو داود من حديث عمار وغيره: (خمس من الفطرة -وفي لفظ: الفطرة خمس- منها: الختان) ولفظ الفطرة لفظٌ ثابتٌ لا يتغير بتغير الشرائع، فالفطرة ثابتةٌ في جميع شرائع الأنبياء لا تتبدل، كالحدود وغيرها، وإنما هي من الثوابت، فإذا قلت الفطرة فاعلم أنه الشيء الذي لا يتبدل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] . فعندما نسمع الفطرة: نعرف أن هذه السنة موجودة من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا معنى كلمة (الفطرة) ومنها الختان، فكيف يقال: إن هذه عادةٌ جاهلية؟! ثانياً: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) . الختان الأول: كناية عن فرج الرجل، والختان الثاني: كناية عن فرج المرأة. فإذا التقى الفرجان مجرد التقاء وجب الغسل، واحتج الإمام أحمد بهذا الحديث على سنية الختان بالنسبة للنساء: (إذا التقى الختانان ... ) ، وهذا حديث صحيح عند البخاري ومسلم. قال الشافعية والحنابلة: الختان للرجال والنساء واجب. وواجب يعني: فرض، فمن لم يفعله يأثم. فكيف يقال: إنه ليس أحد من الفقهاء قال بوجوبه؟! والرأي الراجح عند الشافعية وجوب الختان للرجال والنساء، والرأي المرجوح عند الشافعية أنه مكرمة للنساء فقط. والصواب: أن الختان واجب على الرجال والنساء معاً، فإذا لم تختتن المرأة فهي آثمة، مع مراعاة هل البظر يحتاج إلى ختان أم لا؟ فقد يكون البظر صغيراً خلقة فلا يحتاج إلى ختان، ولكن كلامنا فيمن تستحق الختان من النساء، أما الرجال فلا إشكال، لكن كلامنا على ختان النساء؛ لأن هذا هو الموضوع. ومن الدلائل على وجوبه قول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:123] وثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم) جاء عليه ثمانون عاماً وأمر بالختان فاختتن بالقدوم. والقدوم إما أن يكون اسم مكان أي: البلد التي كان يسكنها واختتن فيها، وإما أن يكون القدوم هو الآلة المعروفة، أنه قطع الجلدة الزائدة بالقدوم، فصار هذا من ملة إبراهيم التي أمرنا باتباعها. ثانياً: هناك حديث للنبي صلى الله عليه وسلم مختلف في تصحيحه وتضعيفه، والظاهر حسنه، وقد حسنه من المتقدمين جماعة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخاتنه بالمدينة: (أشمي ولا تنهكي، فإنه أفضل للرجل وأحظى للمرأة) (أشمي ولا تنهكي) أي: لا تقطعي البظر قطعاً شديداً فتنهكيه، إنما اقطعي منه القدر الزائد فقط، ولأن الأصل ألا تثبت عبادة إلا بدليل وهذا دليل، وما سبق أيضاً. أما العلماء الذين قالوا: إن الختان سنة للرجال ومكرمة للنساء، فاعتمدوا فيه على حديث منكر لا يصح، وهو ما رواه الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء) ، والممارس لألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا حديث أقرب إلى كلام الفقهاء منه إلى كلام النبوة، وهو منكرٌ كما حكم عليه البيهقي وغيره، فما بقي إلا القول بالوجوب ولا صارف من القول بالوجوب، فإذا كان العلماء اختلفوا هل هو واجب أم مستحب فلم يقل أحد منهم أنه عادةٌ جاهلية، أي: اختلفوا ما بين الاستحباب والوجوب، ومستحبٌ، أي: مشروع، حينئذٍ ينظر: هل فعلاً ترك الختان من مصلحة المرأة؟! حدثني بعض المتخصصين -وهو طبيب في أمراض النساء والولادة- في هذا المجال قال: إنه قرأ بحثاً إن ترك الختان للمرأة يصيب المرأة بسرطان في الرحم، ولذلك هذا النوع من المرض منتشر في نساء أوروبا وأمريكا أكثر منه في نساء الشرق. ولا يوجد في نساء الشرق هذا المرض إلا لماماً لماماً، وما زالت الفاحشة على قدم وساق في بلاد أمريكا وأوروبا بسبب ترك الختان. إننا ضد الختان بالطريقة الجاهلية، فلا بد على الذي يختن أن يكون عالماً بالختان، وتكلم الفقهاء في مسألة الضمان إذا أتلف الخاتن بظر الأنثى بالكلية، أي: إذا قص الرجل الخاتن البظر كله هل عليه ضمان أم لا؟ أي هل عليه دية يدفعها أم لا؟ قالوا: عليه دية إذا لم يكن من العالمين، وليس عليه أن يقص البظر كله، وتكلم العلماء في هذا حتى وصلوا إلى مسألة الضمان. وقالت الشافعية على وجه الخصوص: إذا تمالأ أهل بلدٍ على ترك الختان قاتلهم الإمام، فإذا علم الحاكم أن بلداً تمالئوا وتكاتفوا على تركه فيجب على ولي الأمر أن يقاتلهم حتى لو قتلهم جميعاً، والمسألة موجودة في كتب الفقه فكيف يقال: إن هذا ليس من الإسلام؟! تصدر للتدريس كل مهوس بليد يدعي بالفقيه المدرس فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلس لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس هذا هو الواقع بالنسبة لديننا، فسيل كسيل العرم على أصحاب الصحف والمجلات تهاجم ما هو من ديننا، أيقال: ليس من الإسلام الختان؟! وليس من الإسلام في شيء النقاب؟! قلت لكم: يكتبون للصم البكم العمي، ولو فتح هذا المنكر أقل كتاب فقه أو مختصرات كتب الفقه لوجد هذه الأحكام السالفة وكلام العلماء فيها، فكيف لا يحاسب هؤلاء؟! إذا كان الحفاظ على دين الدولة أمر مرفوض، وهم يقولون بذلك: لا يحاكم هؤلاء، كيف لا يكون هناك حظر على نزع ما هو ضد الإسلام؟ فلا حمى له، ولا نريد أن نكتفي بأن نقول: للدين رب يحميه فقط! بل لا بد من بذل السبب. إن الله أهلك أقواماً كفوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعل الله يحفظنا بمثل هذا الصوت الذي ينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف:164] . إن الله مسخ بني إسرائيل قردةً وخنازير؛ لأنهم لم يأمروا بالمعروف وتركوا المنكر فلم ينكروه، فلولا إنكار المنكر ما وصلك هذا الدين، فهذا الدين وصلك على أشلاء أناس ودمائهم، فما مالئوا ولا هادنوا ولا لانوا في جنب الله عز وجل، ولنا فيهم أسوةٌ حسنة، لا تأخذون دينكم إلا ممن تثقون في دينه وعلمه، كثرت الفتن، وأقبل بعضها تلو بعضٍ كأمواج البحر، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم، فلا بد من بذل السبب. والسبب أنك تأخذ دينك من الكتب المعروفة الموثقة، وتأخذ فتواك من العلماء المحققين، ولا تعطي أذنك للذين يلونون مواقفهم ويتقلبون ظهراً لبطن. نسأل الله تبارك وتعالى أن يعافينا وإياكم من الفتن وأن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 البدعة وآثارها في محنة المسلمين [4] جاء القرآن بتمجيد العقل وتعظيمه وبيان مكانته، فبين أن أهل العقول هم المتفكرون دائماً في عظمة الله، وهم المقربون إلى ربهم، فهذه هي وظيفة العقل في القرآن، وأما السنة فقد علق النبي صلى الله عليه وسلم التكليف والمؤاخذة والعتاب والعقاب على وجود العقل واستقراره، لكن أهل البدع جعلوه حاكماً للشريعة قديماً وحديثاً، فما استساغه العقل قبلوه، وما لم يستسغه ويستوعبه ردوه؛ وبهذا تتميع أحكام الشريعة، فنعوذ بالله من الخذلان! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 العقل والشرع والعلاقة بينهما إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71] . أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فمن أعظم نعم الله على العبد نعمة العقل، وقد أناط الله تبارك وتعالى التكليف جملةً وتفصيلاً على وجود هذا العقل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق) . ومعنى رفع القلم: أي: رفع قلم التكليف والمؤاخذة عن هؤلاء الثلاثة. والنائم والصغير فيهما نوع جنون، إذ أن النائم ذاهب العقل مؤقتاً والصغير لا عقل له. إذاً صار عندنا: مجنون لا يفيق، ونائم زائل العقل مؤقتاً حتى يستيقظ، والصغير الذي لا عقل له، فهؤلاء الثلاثة زال التكليف عنهم لزوال العقل إما كليةً وإما مؤقتاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 لا عقل مع النقل إن علماء أهل السنة عندما يقولون: لا عقل مع النقل، لا يقصدون منه: أن تأخذ النقل بلا عقل وما قدمنا يدل على أن العقل ضرورةٌ وأساس للتكليف فكيف يفهم كلام ربنا وكلام النبي صلى الله عليه وسلم بلا عقل؟! فقولهم: (لا عقل مع النقل) أي: لا تقدم عقلك على النقل لا تجعل عقلك قاضياً على كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك قولهم: (لا اجتهاد مع النص) ليس معناه أن تأخذ النص بلا اجتهاد ولا تفكير … ، وإنما معناه: لكن لا تجتهد اجتهاداً مضاداً للنص. فمثلاً لو قرأت قوله صلى الله عليه وسلم: (الوضوء ثلاثاً، فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم) فالواضح من هذا الحديث: أنه لا يجوز الزيادة على ثلاث مراتٍ في الوضوء، فمن زاد على ثلاثٍ، فقد أساء وتعدى وظلم، فإذا جاء آتٍ وقد قرأ مثلاً حديث علي بن أبي طالب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً) فقال: على الإنسان أن يتوضأ ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً حتى يعلم أنه قد أسبغ الوضوء! هذا اجتهاد مراده في هذا الكلام أن تسبغ الوضوء في النهاية، ولو أدى إلى تكثير مرات الغسل، فحينئذٍ نقول له: لا اجتهاد مع النص بمعنى لا اجتهاد مضاد للنص، وليس المعنى: خذ النص بلا اجتهاد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 تمجيد القرآن الكريم للعقل والذي يقرأ آيات القرآن الكريم يجد فيها تمجيد العقل وتعظيمه، قال الله تبارك وتعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:5] أي: لذي عقل، وسمي العقل حجراً لأنه يحجر على صاحبه، فلا يقع في القبائح، ولا في خوارم المروءة، وقال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] ، وقال تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] . إذاً للعقل قيمة عظيمة جسيمة؛ لكن أين موقعه؟ وبمعرفة ذلك نهدم الصنم الذي نصبه المبتدعة أمام نصوص الوعد إن العقل صار صنماً يعبد، ووثناً يجب تكسيره؛ لأنهم وضعوه في مكانٍ ليس له. وأنا قدمت بهذه المقدمة حتى لا يقال: إننا معشر أهل السنة والجماعة لا نعظم العقل ولا نحترمه، ولا نضعه في حسباننا، حاشا وكلا! لكن نضعه في مكانه. المبتدعة لهم أوثان ومن أعظم أوثانهم وثن العقل جعلوا العقل قاضياً على كلام الأنبياء، فالعقل عندهم رقم (1) ، وكلام الرسول رقم (2) فإذا خالف كلام النبي صلى الله عليه وسلم عقولهم ردوه. والفخر الرازي، والجويني أبو المعالي هؤلاء ضلوا زماناً طويلاً بسبب عقولهم وتداركتهم عناية الله في آخر حياتهم وهم على فراش الموت، قال أبو المعالي: لقد خضت البحر الخضم، وخضت الذي نهاني عنه أهل الإسلام، وهأنذا أموت على فراشي كما تموت عجائز نيسابور، والويل لـ ابن الجويني إن لم يغفر الله لك وكان ابن الجويني من أذكياء العالم؛ لكن هذا الأمر زلت فيه أعظم العقول. قلت في الجمعة الماضية: إنهم يحرفون كلام الوحي لصالحهم، قال قائلهم: إن إبراهيم عليه السلام ما اهتدى إلى ربه إلا بالعقل وكذب! فقصة إبراهيم عليه السلام تنادي بغير ذلك وهي معروفة في سورة الأنعام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:76-79] . أين - في هذه الآيات- ما يدل على أنه اهتدى بالعقل؟! يكذب هذه الدعوة قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51] . (آتيناه رشده من قبل) : من قبل أن يفكر في هذه القضية أساساً، فالهداية نعمة من الله، ومنحةٌ إلهية ليس للعقل فيها دور أبداً. ولذلك يخطئ الناس عندما يقولون: إن الله عرفوه بالعقل. لا والله! لا يعرف ربنا بالعقل استقلالاً أبداً، لأن العقل قاصر على ما دخل تحت الحواس؛ ولذلك ما خرج عن الحواس لا يتخيله العقل ولا يستطيع وصفه ولا توصيفه، والعقل لا يستطيع وصف الجنة ولا وصف النار، ولا وصف الملائكة ولا الشياطين. فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن في الجنة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) كيف يصفه العقل إذاً؟! وقال ابن عباس: (ليس في الجنة من الدنيا إلا الأسماء) فيها نخلٌ ورمان، هل هي كنخلنا ورماننا؟ لا. فيها خمر لذة للشاربين هل هي كخمرتنا؟ لا. فيها لبنٌ لا يتغير طعمه، هل هو كلبننا؟ لا. فيها ماء غير آسنٍ، هل هو كمائنا؟ لا. نعم فيها الاسم، لكن الجنس الوصف الطعم مختلف تماماً ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر فكيف يعقله المرء إذاً؟! نوافذ العقل على الدنيا هي الحواس والله تبارك وتعالى لا يقع تحت حاسة بشر، فكيف يمكن أن يهتدي العبد إلى ربه بعقله؟! أبداً. الهداية منحة من الله ثم يأتي دور العقل ثانياً ليثبت هذه المنحة. إذاً دور العقل أن يكون رقم: (2) ، ولا يكون قبل النقل أبداً. وإنما ضل أهل البدع بسبب أصلهم الفاسد، وهو تقديم العقل على النقل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 عذاب القبر ونعيمه خرافات عند بعض المعاصرين الحمد لله رب العالمين، وله الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: وصل بالمبتدعة وباعتبارهم بعقولهم: أنهم أنكروا كل غيب، وبعضهم أنكر جزءاً من الغيب، وسلَّم بالآخر، وما سلّم به حجة على ما أنكره. ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما قال: ما من دليل يحتج به مبتدعٌ على بدعته إلا كان في نفس الدليل نقضٌ لبدعته. ولهذا الهيئة العامة للكتاب -وهي هيئة حكومية لها دعم مالي من قبل الدولة- نشرت في الشهر الماضي كتاباً يقول فيه صاحبه: إننا لا نزال في التخلف ما دمنا نؤمن بخرافات عذاب القبر، والشجاع الأقرع وهناك رجل وهو شخصية دينية مرموقة في بعض المحافظات ينكر عذاب القبر، فسأله سائل عن عذاب القبر؟ فقال متهكماً: أنا لم أره حتى أصفه لك!! سوف تراه عذاب القبر تنكرونه؛ لماذا؟ لأنه غير خاضع للعقل، ما دام الأقرع يضرب الواحد ضربة وينزل سبعين ذراعاً في الأرض، فإنهم لا يصدقونه! ما وجه الإنكار؟ أنه غير مستساغ. فهل تستسيغ الإيمان بالجنة؟ نعم، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب بالجواد المضمر) والجواد المضمر هو الذي ليس له بطن؛ لأن الجواد الذي له بطن لا يستطيع الجري، أما الجواد المضمر فيمشي في الطين، فهذا رجل ركب الفرس وأطلق لجواده العنان (مائة عام لا يقطعها) فكلمة (لا يقطعها) تحتمل أنه قد يمشي مائة عام أخرى ولا يقطعها أيضاً؛ لأننا لا ندري ما الذي قطعه من الذي تركه. هل تؤمن بهذا؟ نعم. هل هذا أعظم أم الثعبان الأقرع الشجاع؟ أيهما أعظم؟ فما أقر به حجة عليه فيما أنكره؛ لأن الكل خاضع للسلطان العقلي، ترى لماذا فرق بين المتماثلين؟ إنهم خبثاء ينكرون كل شيء يتعلق بالنار؛ لكن أي شيء يتعلق بالجنة وبالأكل والشرب يؤمنون به، فقد أنكروا عذاب النار وأنكروا تبدل الجلود، وقالوا: هذا عذاب معنوي، وإن الإنسان إذا وقع في ضائقة نفسية تكون أشد عليه من عذاب النار وكفى؛ لأن كل عذاب دون النار عافية: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] . يسيئون الأدب وكلما قال قائل: اتقوا عذاب النار، يقول معترض: اترك عنك هذا، كل شيء عذاب وعذاب يا أخي رغبوا الخلق في الله تعالى إذا رأيت رجلاً فاجراً في ضلاله وغيه رجلاً يأكل الربا رجلاً زانياً رجلاً فاجراً، فهل تقول له: (الجنة لبنة من فضة ولبنة من ذهب) أم تردعه عن طغيانه بعذاب النار؟ لماذا خلق الله النار إذاً؟! ولماذا خلق لها خلقاً كثيراً صماً بكماً عمياً؟! والله تبارك وتعالى عندما يذكر الجنة، يذكر النار في مقابلها لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود وبضدها تتميز الأشياء وقال الله تبارك وتعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49-50] فيقرن هذا بذاك ليتقي الناس نار جهنم، فعندما يطالبون الخطباء أن يتكلموا عن سماحة الإسلام، وأن الإسلام دين السماحة واليسر ودين الجنة الخالدة، فهل يتصورون أن الناس بذلك سوف يذهبون إلى الجنة؟ إن الناس لا يذهبون إلى الجنة إلا بالسياط وراءهم، وكل آية في القرآن الكريم تدل على ذلك، ولا يصل رجل إلى ربه سالماً إلا إذا عبده بين الخوف والرجاء. إنهم مرجئة غلاة في إرجائهم، وعلموا الناس الإرجاء، فصار أكثر الناس في هذا الزمان مرجئة، والمرجئة هي أحد الفرق المبتدعة التي خرجت عن أهل السنة والجماعة، ولقد صار أكثر الناس في هذا الزمان مرجئة. والإرجاء: هو تأخير العمل، فالمرجئة يؤخرون العمل ولا يدخلونه في الإيمان، والإيمان عندهم قولٌ بلا عمل ترى الرجل لا يصلي، فتسأله: لماذا لا تصلي؟ فيقول: إن الله غفورٌ رحيم! يظن أنه بمجرد أن يقول: (لا إله إلا الله) يدخل الجنة ويأخذون النصوص المفردة التي تحتاج إلى ضميمة أخرى، فيحتجون بها على الناس، وهذا هو شأن المبتدعة، يقولون: ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) ؟! فلماذا لا تأخذ الحديث الآخر، فإن نصوص الشريعة لا تتم إلا إذا جمعتها إلى بعضها؟! ففي الحديث الآخر: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذا) وهكذا يتفق مع الحديث الأول ثم قال:: (ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأمواله) فإن لم يفعلوا لم تعصم لا دماؤهم ولا أموالهم فتارك الصلاة دمه هدر! مانع الزكاة دمه هدر! يجب على السلطان أن يقتله. مهمة الحاكم أن يقيم العدل والدين، فإذا أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم، فإذا صلوا ولم يزكوا فإنهم ليسوا بإخوانكم. وبالجمع بين الحديثين تخرج بما أراده الله ورسوله، أما أن تخرج بحكم منفصل، وتقرر حكماً جديداً منفرداً فليس هذا من شأن علماء الإسلام. الرسول صلى الله عليه وسلم لما زار عبادة بن الصامت وهو مريض، وكان عبادة طريح الفراش نائماً، فقال: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ وسكت) . فأشار عبادة لجليسه أن يقيمه، فأجلسه بصعوبة، يريد أن يجيب على كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، استحيا أن يجيبه وهو مضطجع قال: (يا رسول الله! الشهيد من قتل في سبيل الله، فقال عليه الصلاة والسلام: إن شهداء أمتي إذاً لقليل) لو أن الشهادة محصورة بالقتل في سبيل الله صار شهداء أمتي قليلين (المبطون شهيد وصاحب الهدم شهيد، والغريق شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة، وصاحب الجمع شهيد، وصاحب الجنب شهيد) ، المبطون أي: الذي يموت بسبب انتفاخ البطن والسرة. الذي هو ناتج عن الكبد الوبائي، تلف الكبد وانتفاخ البطن. والمرأة تموت بجمع شهيدة: إذا ماتت المرأة وهي تلد، فهي شهيدة. وصاحب الهدم هو الذي يسقط عليه جدار أو غيره فهو شهيد، فرجل زانٍ أو تارك للصلاة أو الصيام وقع عليه جدار، هل هو شهيد؟ ذهب إلى حيث شاء ثم يكون شهيداً! رجل عاق ومحارب لله ولرسوله، وذهب ليسبح وغرق، إذا أخذنا هذا الحديث وحده فهو شهيد، فلا عليكم اتركوا جميع أركان الإسلام، وموتوا تحت جدار، أو موتوا غرقاً في نهر، والشهداء في أعلى عليين، إذا وصلت إلى الفردوس الأعلى وأنت تارك لكل ما أمرك الله به، هل يقول هذا أحد في الدنيا؟! لا يقول هذا أحد. إذاً: لا بد من جمع نصوص الوحي بعضها إلى بعض وضم الزوائد إلى النواقص، وإخراج الحكم الشرعي هذا هو الذي فعله علماء الإسلام، لكن المبتدعة استغلوا جهل الخلق بنصوص الوحي وعدم إحاطتهم بها، مع غياب العلماء الربانيين، فعاثوا في الأرض فساداً، ولهم أسلحة كثيرة جداً، وتمجيد العقل -الوتر الذي يجب كسره- كان من أعظم الأسباب التي أدت الآن إلى تمجيد أصحابها باسم التنوير، يقولون: نحن نواجه الإرهاب بالتنوير، يقولون: هل هناك مصلحة في فتح عذاب القبر؟ نعم لأنك لا تستطيع أن تخوف الناس إلا بذلك. لأن في نفس كل رجل واعظ الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (داعي الله في نفس كل مؤمن) هذا هو الضمير، وهي النفس اللوامة. النفس اللوامة لا يمكن أن تعمل عملها إلا إذا خافت من الله، فإذا قلت له: لا يوجد عذاب قبر، والنار ليست ناراً، إنما هو عذاب نفسي، فسوف يعيث المجرمون في الأرض فساداً؛ لأنه لا رادع لهم. ولولا القيامة ونصوص العذاب لأكل بعضهم بعضاً، ما الذي يجعلني أتسامح وأصبر على ظلم الجميع؟ لماذا لا أرد الصاع صاعين وعشرة؟ أتركك لله. إذاً فهذه العقيدة قللت الشر في الأرض، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من دعا على ظالمه فقد انتصر) يرغبك في ترك الدعاء عليه، مجرد الدعاء ندبنا إلى تركه، فما بالك باللطم والضرب، وإذا أردت أن تعذب ظالماً، وتحمله فوق أكتافه إثماً، فلا تدع عليه. اتركه حتى يأتي بمظلمته كاملة، واعلم أن غيرك سيكفيك مؤنة الدعاء؛ لأنه لا يصبر كل الناس، بل أغلب الناس يتسرع في الدعاء على الظالم، فغيرك يكفيك المؤنة بالدعاء عليه، ولتحتفظ بمظلمتك كاملة حتى يأتي الله بها. فإذا قلصنا مثل هذه العقائد زاد الفساد في الأرض، فكيف يحاربون الإسلام باسم التنوير؟! أي تنوير في هذا؟! هذا ظلم وظلام. انظر إلى المهزلة يعتدون على العلماء في اختصاصهم. ويتركون الذين لا يصلون جماعة، ويقطعون الصلاة التي هي الحد الفاصل بين الإسلام والكفر فلا ينهونهم، يتركونهم يتكلمون في دين الله عز وجل كيفما شاءوا، حتى الراقصات يتكلمن في دين الله. وورد حديث صحفي مع راقصة تقول: الجماعة (الإرهابيين) يريدون أن يقتلوا كل فن. ما هو الفن العفن هذا؟ ثم تكلمت وقالت: أنا الحمد لله ذهبت إلى باريس ورقصت رقصاً، وربي لم يخذلني، ورفعت رأس مصر عالية! والمرأة تتكلم في دين الله بغير علم وتُنَظِّر للشرك والكفر. ولو أن شخصاً يتكلم في الطب والهندسة لرجموه بالحجارة، كل يحترم تخصصه إلا العلماء يُعتدى على تخصصهم. والأمور المستقرة لا ينبغي جعل الأقزام يتطاولون عليها، لابد من حمايتها غيرة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وعذاب القبر ومنكر ونكير أحد أمورنا المستقرة، نؤمن به ولا نجحده، ونسأل الله تبارك وتعالى أن ينجينا من عذاب النار، وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً في صلاته: (اللهم قنا عذاب النار) ، كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر، ومن عذاب القبر) . وعذاب القبر ثابت في كتاب الله تعالى، ومتواتر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى في كتابه العزيز: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 العقول لا تصل إلى معرفة الله استقلالا ً إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد قلت: إن الإيمان بالله منحةٌ إلهية، ليس للعقل فيها فضل ولا منّة وهذا الأمر واضح وجلي في مشاهدة الناس، إذ أن أغلب المسلمين إسلامهم حكمي، كل منهم لم يسلم بالنظر في الدلائل، إنما أسلم لأن أبويه مسلمان، وهذا يختلف عن الإسلام الفعلي. والإسلام الفعلي: هو الإسلام الناتج بالنظر فيما يسميه العلماء بـ (السمعيات) ، أي: الدلائل من نصوص الوحي قرآناً وسنة التي تتلقى عن طريق السمع؛ فالدلائل إما عقلية وإما سمعية، إما أن تعمل عقلك وإما أن تسمع. فعندما تقرأ كلمة (السمعيات) في الكتب تعرف أنها الأمور التي لا يتعرف عليها إلا بطريق السمع، وهي كل أحكام الغيب مثل صفات الباري، فما علمناها إلا عن طريق السمع، أي: سمعناها. إن أغلب إسلام الناس حكمي، وليس هناك فضلٌ من أحدٍ ابتداءً في هذا الإسلام الحكمي، ولو ولد أحدنا من أبوين يهوديين صار يهودياً، ولو ولد من أبوين نصرانيين صار نصرانياً. هناك ناس عقولهم تزن بلداً بأكملها، ومع ذلك هم من أجهل الجاهلين، فعالم الذرة أو عالم الإلكترونيات الهندي الهندوسي إذا رأى بقرة -وهو ذاهب إلى المعمل في سيارته على خط سير مستقيم- أوقف السيارة وسجد لها، ثم واصل طريقه أي عقل هذا؟ مع أننا في ميزان العقول نجعل عقل هذا الهندوسي كبيراً، بل عقل الفلاح الذي يعمل في الأرض لا يساوي شيئاً بجانبه، ومع ذلك هذا الفلاح مسلم، وذلك كافر، فلو كانت المسألة مسألة نظر ورجاحة عقل، لآمن جماعة العلماء الذين صعدوا الفضاء إذا كانوا صعدوا؛ فهناك عالم فضاء كندي ألف كتاباً خطيراً جداً يقول فيه: نحن لم نصعد الفضاء، ويقول: إن الصعود إلى القمر أكذوبة أمريكية؛ فبيننا وبين القمر منطقة درجة حرارتها أربعة آلاف درجة مئوية، لا يستطيع إنسان أن يقترب منها، هذا ملخص هذا الكتاب الذي أحدث ضجة وعمل فضيحة كبرى، وقد نشر ملخصه في مجلة لبنانية، وعالم الفضاء هذا انشق عنهم وأصدر هذا الكتاب، فقال: إن التمثيلية التي عملها الأمريكان -وهم أصحاب الإخراج العالمي، هوليود بلد السينما العالمية والخداع- هؤلاء عملوا مسرحية انطلاق المركبة الفضائية حتى شاهدها الجمهور الأمريكي، وكان لدى الجمهور الأمريكي رغبة في مشاهدة مكوك الفضاء، فاجتمع الأمريكان كلهم ليشاهدوا هذا، وصعد علماء الفضاء أمام الجمهور إلى المكوك، يقول هذا العالم الكندي: ولا يعلم الأمريكان أننا خرجنا من الناحية الأخرى، ولا يعلم الجماهير أن هذه المركبة كذلك سقطت في المحيط، وصعودنا إلى الفضاء كان أكذوبة كبرى، وهذا الكلام لم يقله متخلفون، هذا الكلام لعالم كندي قضى عمره في محطة الفضاء الأمريكية، ولأمر ما (إذا اختلف اللصان ظهر المسروق) اختلفوا مع بعض فكشف بعضهم بعضاً، مثل ضابط الموساد الإسرائيلي الذي أخرج فضائح الموساد خلال عشرين سنة ماضية، فقد اختلف معهم، وأخذوا يبحثون عنه لكي يقتلوه، فنشر ثلاثة كتب قاضية فضح فيها الشرق والغرب. فالمقصود أن مسألة العقول لو كانت مستقلة بمعرفة الله تبارك وتعالى لآمن هؤلاء. يذكرون عن عالم فضاء سوفييتي صعد إلى الفضاء فقال: صعدت أبحث عن الله فلم أجده. فهل هذه عقول؟! لا يمكن أن تكون عقولاً مفكرة! مع أنها في نظر البشر أجل العقول، وصلت إلى تحطيم الذرة وما أشبه ذلك، فلما لم يهتدوا إلى معرفة الله تبارك وتعالى كان هذا من أدل الدلائل التي لا يعارض فيها أحد أن معرفة الله عز وجل لا يستقل العقل بإدراكها؛ لأن العقل لو فكر بما يتعلق بالله تبارك وتعالى كفر، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي قال لنا ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يقول الناس: هذا الله، فمن خلق الله؟) إذا هاجم هذا الوسواس المسلم، فماذا يقول؟ قال عليه الصلاة والسلام: (فمن وجد ذلك فليقل: لا إله إلا الله) أي: يرجع إلى كلمة التوحيد؛ لأن الإنسان لو فكر وأعمل عقله في كنه الله تبارك وتعالى، فيمكن أن يقيم الدلائل العقلية على أنه غير موجود. فرانسوا ميتران الرئيس الفرنسي عملوا معه مقابلة الشهر الماضي -نشروها هنا في مصر- فسألوه: هل عندك شك في وجود الله؟ قال: الشكوك في ذلك قوية! وهذا حاكم بلد يعتبر ثاني أو ثالث بلد في العالم، ومن أقوى دول العالم بجانب أمريكا وبريطانيا، وهي إحدى الدول المحتكرة لتصنيع السلاح والتكنولوجيا، وهو أول رئيس فرنسي استمر في الحكم أربعة عشر عاماً، وهذا يدل على أنه عبقري، ومع ذلك يُسأل هذا الخنزير عن الله تبارك وتعالى، هل عندك فيه شكوك؟ فيقول: الشكوك قوية جداً أنه غير موجود. ولو وضع عقله أمام عقل عتريس أو عوضين، لما كانت عقولهم تزن شيئاً أمام عقله. إذاً: الهداية منحة إلهية ليس لك فيها فضل، ثم يأتي العقل بعد ذلك لتثبيت هذه الهداية ومنحها، إذا آمنت نفعك عقلك، وإذا لم تؤمن لا ينفعك عقلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 الصحابة وإنكارهم الافتراضات العقلية الصحابة رضوان الله عليهم فتحوا بنصوص الوحي مناطق كثيرة وبلداناً شاسعة ولا أحد يظن أن الصحابة لم يكن لديهم عقل، أو كانوا عرباً أجلافاً. الصحابة كانت لهم عقول فذة، وما عرف العالم مثل العرب إجمالاً، فلما أتى الإسلام رفعهم على أعظم إمبراطوريتين موجودتين آنذاك، وهما فارس والروم. فالعرب علت منزلتهم؛ فلماذا علت؟ الصحابة يقولون: (تعلمنا الإيمان قبل القرآن، فلما تعلمنا القرآن ازددنا إيماناً) وأي شخص يبدو منه اعتراض عقلي على النص كانوا ينكرون عليه أشد الإنكار. فهذا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يدخل يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده) فقرأ الحديث أمام جماعة من التابعين، فقال أحدهم: يا أبا هريرة ماذا نفعل بالمهراش؟ فحصبه بحجر وقال: أعوذ بالله من شرك. ماذا عمل الرجل وأي جرم ارتكبه عندما قال: ماذا نفعل بالمهراش؟ أبو هريرة يحدث بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام: إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يدخل يده في إناء الماء، وإنما يغسل يده ثلاث مرات، ثم بعد ذلك يدخلها في الماء، لماذا؟ قال: (فإنك لا تدري أين باتت يدك) . جماعة (العجول) يقولون: أين ستذهب أيدينا؟! إنما باتت بجانبنا لم تذهب أي مكان! ومنهم من رد الحديث فعلاً، وأورد النووي في بستان العارفين حكاية عن هؤلاء، وذكر حكاية صحيحة السند أن رجلاً سمع هذا الحديث فقهقه وقال: أين باتت تطوف يدي؟! قال: فأصبح ويده محشورة في دبره!! يقول: أين باتت يدي؟! أنت لا تدري، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إنك لا تدري أين باتت يدك) ، لعل الجني نام عليها، فحصل فيها وباء، فعندما تضع يدك في الماء يتسرب هذا الداء إلى الماء، وهناك حديث للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو أدب، وأغلبنا لا يلتزم بهذا الأدب (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندع الإناء مكشوفاً أو الطعام مكشوفاً في الليل، ولو أن تعرض عليه بعود) لو لم تجد إلا أن تأخذ عوداً من حطب وتضعه عليه فافعل؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: لأن هناك أوبئة -أمراض- تنزل من السماء، فلا تصادف إناء مكشوفاً إلا دخلته، يشرب الماء ويمرض، ويستغرب من أين جاء المرض؟ والمرض نزل في الليل، فكل ليلة تنزل آفات من السماء فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (ولو أن تعرض عليه بعود) حطه على الطعام والشراب بالعرض، فإذا أعملت الإيمان والسمع لرسول الله سعدت ونجوت، أما إذا أعملت عقلك فلن تنتفع بشيء وسوف تهلك. أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحلق شعر المولود وهو ابن سبعة أيام: (احلقوا شعره وتصدقوا بوزنه فضة) فتزن شعر الغلام، وتتصدق بمثل هذا الوزن فضة على الفقراء والمساكين. وقد يقول شخص: الولد صغير وما زالت فروة رأسه رطبة، فلا أستطيع أن أحلقه حتى لا أؤذيه، ولكن سأخرج أكثر من الوزن صدقة، فنقول: ليس المقصود الصدقة فقط، فأنت لا تدري لعل هذا الحلق يفتح ذهنه! ما من أمر أمرت به إلا وله فائدة؛ علمتها أو لم تعلمها، فعلى المسلم أن يمتثل لنبيه صلى الله عليه وسلم، ما الذي يجعله يمتثل للأمر حتى لو لم يوافق عقله؟ الإيمان بأن كل أمر من الله ورسوله لمصلحته. فـ أبو هريرة لما حدّث بالحديث: (إذا استيقظ أحدكم من منامه) قال رجل: وما تفعل بالمهراش يا أبا هريرة! والمهراش: هي الجرة العظيمة، ففهم هذا القائل أن الإناء ماء قليل، فإذا كان هناك نجاسة على اليد، تسربت إلى هذا الماء القليل فنجسته، فإذا صار الماء كثيراً لا تضر معه هذه النجاسة الصغيرة التي علقت باليد، فقال له: وهل يأخذ المهراش حكم الإناء والحلة الصغيرة؟! فالرجل أعمل عقله واستخدم القياس، فقال أبو هريرة: أعوذ بالله من شرك! فما هو الشر الذي أتى به هذا الرجل؟ استخدام العقل والمقاييس التي يعطل بها النصوص، يأتي رجل يقيس قياساً يعطل به نصاً، فصان الصحابة النصوص عن مثل هذه الأقيسة، لا أنهم كانوا يرفضونها، وأنا أبين لكم موقف الصحابة من إعمال العقل، وهل النص يأتي بعد العقل، أم أن العقل يأتي بعد النص، وأيهما المقدم؟ كان فيما سبق هناك حكم فقهي مفاده: أن الذي يأكل شيئاً ناضجاً أو يشرب شيئاً مسته النار يتوضأ، فمن نواقض الوضوء أن تأكل شيئاً مطبوخاً، هذا الحكم كان في أول الإسلام، ثم الرسول عليه الصلاة والسلام فعل شيئاً نسخ به هذا الحكم، لأنه أكل من كتف شاة، ثم دُعي إلى الصلاة، فصلى ولم يحدث وضوءاً. فدار بين أبي هريرة وابن عباس جدل في هذه المسألة، فـ أبو هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضؤوا مما مست النار) فاستنكر عليه ابن عباس وقال: (يا أبا هريرة! أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالاً؟ يا أبا هريرة! أفلا نتوضأ من الحميم؟ يعني: أن الغسل بالماء الدافئ لا يجزئ، وإنما لا بد أن يكون الماء لم تمسه النار، وإلا فإن غسله من الماء الذي مسته النار يحتاج إلى غسل بماء بارد لم تمسه النار، فملأ أبو هريرة كفه بالحصى وقال: أشهد عدد هذا الحصى أنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضؤوا مما مست النار) يا ابن آخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال) . أليس كل ما تكلم به ابن عباس جدلاً عقلياً، وأبو هريرة معه نص؟ ومع ذلك لا أعلم أحداً من علماء الإسلام استهجن موقف أبي هريرة، بل وافقوه؛ لأن الله يقول: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74] ، والإنسان لا يعلم إلا ما هو في حدود عقله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] . إذاً: اعتراض غير المعصوم على المعصوم فيه تضييع للدنيا والآخرة أيضاً. أبو هريرة لم يقف عند الجدل العقلي لـ ابن عباس، ولو أن ابن عباس قال له: (إنني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أكل من كتف شاةٍ، فدعي، فصلى ولم يتوضأ) أظن أن أبا هريرة رضي الله عنه كان سيقف ولا يشتد نكيره على ابن عباس. إذاً: الصحابة رضوان الله عليهم نجوا، وأورثهم الله الدنيا كلها بسبب (آمنا ثم أوتينا القرآن) . تصور الآن: أنهم يريدون أن يخضعوا كتابة التاريخ الإسلامي من جديد للعقل أمة تهدم نفسها! وتهدم تاريخها وتتهم ثقات رواتها بالمحاباة. يقولون: ابن جرير الطبري كان موالياً للدولة الأموية. ابن جرير الطبري كان عميلاً، والجماعة الذين يؤرخون اليوم هم الشرفاء؟! أهؤلاء الذين هم أصحاب النفاق الساطع -يتقلبون ظهراً لبطن في كل عصر- يريدون أن يقيموا تاريخ الأمة كله؟! يريدون أن يعيدوا التاريخ كله من جديد ويحاكموه للعقل، مع أن في نفس مقالاتهم ما يرد عليهم. افترض أننا سلمنا لك بصحة المقالة، وأننا محتاجون إلى أن نكتب التاريخ الإسلامي من جديد، على أي أساس يكتب التاريخ؟ أليس على أساس النقل عن هؤلاء الذين اتهمتهم؟! تأخذ تاريخ الأمم والملوك، وتوازن بين الروايات، وتأخذ بعضها وتترك البعض الآخر. لعل الذي اخترته هو الذي كتبه ابن جرير، ما أدراك؟ فالعجب لهم! يكذبون برواياتهم، ويأخذون بعضها ويحتجون بها. وانظر إلى هذا الضلال المبين: يريدون أن يحاكموا بين الصحابة الآن، هلاّ قلت ما علمك الله تبارك وتعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] ؟ اعمل مثلما عملوا، إذا كنت تعتبر هؤلاء خونة، فكن خائناً مثلهم، وافتح الدنيا مثلهم إن هؤلاء عجزوا أن ينالوا أي شيء، إنهم أمة مستهلِكة ومستهلَكَة في نفس الوقت. والخلفاء الأمويون والعباسيون مع فسادهم كانوا يعظمون الدين، وبعضهم يطعن في: هارون الرشيد، ويضربون المثل بـ هارون الرشيد في الجواري والموسيقى والغناء والمجون واللهو، وأكثر ما أُلصق بـ هارون الرشيد كذب، إنما ألصقه به نصارى الروم الذين قصوا هذه الأقاصيص؛ لأنه أذلهم وأرغمهم. حتى الحجاج بن يوسف الثقفي على فسقه وفجوره نصر الإسلام والمسلمين، وكانت راية الإسلام عالية، والدولة العثمانية التي سقطت سنة (1828م) مجرد كلمة الخلافة الإسلامية في اسطنبول كانت تسبب الرعب لهؤلاء رغم الفساد العريض الذي كان في الدولة العثمانية، إلا أنها كانت دولة فاتحة، والكل يخافها ويهابها ويدين لها مع ضعفها. فحين يأتي الآن شخص ليكتب التاريخ الذي بينه وبينه ألف سنة بعقله فانظر كم سيكون من الفساد، وهذا بسبب جعل العقل قبل كل شيء، حتى صار وثناً يعبد من دون الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 بعض المعاصرين وإنكارهم انشقاق القمر بدعوى العقل بعض المعاصرين الذين هم نار على علم في هذا العصر يرفضون معظم الأحاديث حتى المتواترة بدعوى العقل. معتزلي الفكر والمنهج ينكر حديث انشقاق القمر، حديث انشقاق القمر: (لما سأل المشركون النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى القمر، فانشق فلقتين: هنا فلقة وهنا فلقة على الجبل) فيأتي النظام المعتزلي فيقول: إن القمر لم ينشق لأن الذي رواه ابن مسعود وحده، ومن الذي قال لك: إن ابن مسعود هو الذي روى حديث انشقاق القمر وحده؟! إن المعتزلة جهلة برواة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك ظن ابن مسعود وحده هو الذي روى حديث انشقاق القمر، مع أن آحاد الحديث متواترة، ومعنى متواتر عند العلماء أنه قد: رواه تسعة على الأقل، فعندما يأتي رجل يقول: أنا لا أكفر رجلاً ينكر انشقاق القمر، ولو أن رجلاً أنكر حكماً من أحكام الإسلام وقال لي: أنا لن أدخل الإسلام إلا إذا أنكرت كذا أقول له: ادخل الإسلام، ولا أجعل الإيمان بهذا الحكم مانعاً من دخول الإسلام، انظر إلى هذا الكلام!! يعني: لو أن رجلاً أراد أن يدخل الإسلام، وقال: (الإسلام كله جيد، لكن مسألة الزواج بدون ولي أنا لا أقبلها، فإذا كنتم ستقبلون مني الإسلام من دون هذه المسألة فسوف أسلم) هو سيقول له: أسلم وتوكل على الله، لا نصدك عن دين الله لأجل حكم جزئي، وشخص آخر يقول: (الإسلام جميل، لكن لا أستطيع أن أقبل تفريق الإسلام بين الذكر والأنثى في الميراث، المرأة نصف المجتمع، وعندنا السيدة فلانة والسيدة فلانة أفضل من أولي الشنبات الذين لا يستطيعون أن يعملوا شيئاً، فإذا تجاوزتم هذه المسألة، فأنا سوف أدخل الإسلام) فيقول: نعم اتركها مؤقتاً وادخل الإسلام، ويأتي رجل ثالث ويقول:) أنا لا أريد الجزئية المعينة، وإذا بنا نفاجأ أن الإسلام مكدر إننا نقول لهؤلاء: جهنم لن تضيق عن واحد، ادخل جهنم!! هذا الدين ليس في ملكنا أن نقول له: آمن، أو اترك المسألة الفلانية، هذا ليس من اختصاصنا نحن وهذه قصة حصلت في القرن الثاني الهجري للضحاك بن مزاحم -والضحاك أحد التابعين- كان له جار نصراني، وكان دائماً يشكك في الدين الإسلامي، كأن يقول: دينكم ما أجوده وما أحسنه! غير أنني لا أطيق أن أنقطع عن شرب الخمر، فقال: ادخل الإسلام واشرب الخمر، فأول ما نطق بالشهادة قال له الضحاك: (إذا ارتددت قتلناك، وإذا شربت حددناك) . فعندما قال له: ادخل واشرب، لم يقصد عدم المؤاخذة كما هو الآن، لا. هذا الدين ليس ملكنا، إنما نحن عبيد، فانظر إلى هذه الدعوة! إنها خطيرة جداً! جعلت الناس يستهينون بأحكام الله، يقول لك: إذا كان العالم الفلاني أفتى بجواز المسألة الفلانية فلِمَ تُحجر واسعاً على الخلق؟! إذا كان أبو حنيفة قال: إنه يجوز الزواج من دون ولي، فإذا عملت ذلك المرأة وحضر شاهدان عند القاضي فالعقد صحيح، بما أن أبا حنيفة قال ذلك، فأقاموا العلماء مقام الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يلتفتوا إلى كلام النبي عليه الصلاة والسلام الواضح في بطلان هذا الزواج، يقول هذا الداعية: أوصي الذاهبين إلى كوبا ألا يحرموا عليهم لحوم الكلاب، لأنه ليس عندنا نص يحرمه ويحظره، والناس هناك يأكلونه فدعهم يأكلونه، لحم الكلب والحمار والأسد والسبع والفهد، ولحم الغراب والنسر والفأر، وهذا كله ليس حراماً، لماذا؟ لأنه ليس عندنا نص يحظره، وكذب! فهذا حديث: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير) سيقول: كل شيء له ناب حتى البقرة لها ناب، نقول: ليس هذا الناب الذي قصده النبي عليه الصلاة والسلام، إنما قصد (الناب) الذي يعتمد عليه الحيوان في النهش وأكل اللحوم، وكذلك كل ذي مخلب يشمل الطيور الجارحة، فالطيور الجارحة كلها محرمة، وهذا النص شامل لها، وهو أقوى من أن يحرم الطيور بأسمائها أو السباع بأسمائها؛ لأن الطيور التي في الكون لا يأتي عليها الحصر؛ فلو قال: يحرم عليكم الغراب والنسر والهدهد واستمر يسمي كل طائر، وما لم يسمه صار حلالاً، لما أمكنه استيعابها لكثرتها وكثرة أسمائها، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم صفة كلية، إذا وجدتها في طائر أياً كان اسمه، فلا تأكله، حتى لو أتى لك بحيوان جديد وسماه عجلاً، نقول: سمه كيفما شئت؛ لكن إذا وجدت فيه الصفة (ناب أو مخلب) لا يجوز لك أن تأكله، فكيف يتجاهل مثل هذا النص أناس يقولون: إذا دخل المسلمون إلى كوبا لا يحرم عليهم لحوم الكلاب؟! ولماذا نراعي كل أمة كافرة لها عرف من الأعراف الفاسدة، والإسلام لا يجرؤ على تغييره؟! إذاً الإسلام ليس مهيمناً على الدنيا، إذا دخلنا بلاد أوروبا، فوجدنا المرأة تباشر عقد الزواج بنفسها، وكنت كداعية لا أجرؤ أن أقول لهم: هذا لا يجوز، فقد جعلت عرفهم مقدماً على كلام الله ورسوله، فهل الإسلام يرضى بهذا؟ لا. لأن الإسلام هو الحاكم، ويرد أيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: (الكلب الأسود شيطان) فيقول: تريدون أن تضحكوا علينا، الكلب الأبيض هو والكلب الأسود سواء، ورد هذا الحديث بعقله، والله عز وجل يقول: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] فلو أتيت بأي إنسي وشرحت جثته لتنظر أهو من شياطين الإنس، فلن يمكنك أن تعرف ذلك. مع أن أبا ذر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجزئية التي سألها هذا الرجل، قال صلى الله عليه وسلم: (يقطع صلاة المرء: الكلب الأسود، والمرأة الحائض، والحمار) . المرأة الحائض: المقصود بها التي بلغت المحيض، وليست التي هي حائض في ذلك الوقت لا، والكلب الأسود. الرجل الذي سمع هذا الكلام من أبي ذر لفت نظره لفظ (الكلب) فقال: (يا أبا ذر! فما بال الكلب الأسود من الأحمر من الأصفر؟! قال له أبو ذر: يا ابن أخي! سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني عنه، فقال: الكلب الأسود شيطان) . وفي حديث عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لولا أن الكلاب أمةٌ من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم) بهيم: يعني شديد السواد، فأباح قتل الكلب الأسود في حديث عبد الله بن المغفل لماذا؟ في حديث أبي ذر ذكر العلة: (فإنه شيطان) ويأتي يعترض ويقول: لا، دم الكلب الأبيض والأسود سواء، تعترض على من؟! على الرسول عليه الصلاة والسلام؟! ما هو الفرق بين أن يكون الرسول موجوداً فتخالفه، وبين أن يكون الخلاف لكلامه. لا فرق، إذ لم يشترط أحد من العلماء وجود الرسول عليه الصلاة والسلام للإيمان بكلامه، فتصور: لو أن رجلاً موجوداً أمام النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول: الكلب الأسود شيطان، قام وقال له: لا يا رسول الله! الكلاب أبيضها وأسودها سواء، هل يجرؤ على أن يقول أحد هذا الكلام؟!! يأتي على حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يتبع حمامة فقال: (شيطان يتبع شيطانة) فيرد هذا الحديث أيضاً. ويرد حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء) فيقول: هذا الحديث يخالف الواقع، وهذا لا يوافق العقل الصريح. نقول: لا يوجد نص أبداً صحيح يخالف عقلاً صريحاً، أبداً، لكن ما مقصود العلماء من هذه المقولة؟ هل هو عقل فردي، أو عقل الأمة؟ المقصود: عقل الأمة؛ لتفاوت الموازين عند عقول البشر، ولولا اختلاف الألباب لبارت السلع، وهدمت صوامع وبيع، والله عز وجل يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251] . إذاً: اختلاف عقول الناس واختلاف تفكيرهم هو الذي يوجه الحياة: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251] . فالمقصود بهذا العقل هو العقل المجمل، لا يمكن أن يوجد نصٌ صحيح يخالف عقلاً صريحاً. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله صنف كتاباً لم يطرق سمع العالم مثله -وهو أحد مفاخر شيخ الإسلام على وجه الخصوص وأحد مفاخر الأمة الإسلامية على وجه العموم- وهذا الكتاب اسمه: درأ تعارض العقل والنقل، وله اسم آخر مشهور: موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، رد فيه على كتاب: أساس التقديس للفخر الرازي، هذا الكتاب مطبوع في أحد عشر مجلداً، قلت: لم يطرق سمع العالم مثل هذا الكتاب، تقرؤه يزيل عنك كل الشبه، وفعلاً ألقمهم جميعاً حجراً، ألقم الفخر الرازي وابن سينا وأبا حامد الغزالي وكل هؤلاء، وقد قال أبو بكر بن العربي تلميذ أبي حامد الغزالي صاحب كتاب الإحياء في شيخه: بلع أبو حامد الفلاسفة فأراد أن يتقيأهم فما استطاع. هو يريد أن يقول: إن الغزالي أبا حامد صاحب كتاب: (إحياء علوم الدين) بلع الفلاسفة، أي: درس علوم الفلسفة، فلما أراد أن يخرج منها ويتقيأها ما استطاع، إذ أن فكره قد فسد وخرب بالفلسفة، فخرج عن قانون الفقه. وكتاب إحياء علوم الدين من الكتب الشهيرة التي لا يكاد بيت يخلو منه، وهو عمدة الواعظين والمحاضرين والمؤلفين، فهذا الكتاب تواترت كلمات العلماء في التحذير منه؛ لأنه خلط السم الزعاف بالعسل المصفى، لا تأخذ منه شيئاً في العقيدة، ولا في باب السلوك، وإذا لم تكن عالماً بعقيدتك التي تدين الله بها، حرم عليك النظر في هذا الكتاب. فقال أبو بكر الطرطوشي: لا أعلم على بسيط الأرض كتاباً أكثر كذباً منه على الرسول عليه الصلاة والسلام. هذا الكتاب مملوء بالكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام، أبو حامد الغزالي نفسه قال: أنا م الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 البدعة وآثارها في محنة المسلمين [5] تكفل الله عز وجل لهذه الأمة بمن يجدد لها أمر دينها، وينافح عن سنة نبيها عليه الصلاة والسلام، وإن من أعظم المجددين بشهادة تاريخ هذه الأمة هو ابن تيمية، الذي كانت حياته حافلة بالزهد والعطاء، والذي كرس جهوده في حماية جناب المصطفى سواء عرضه أو سنته ومنهجه، لقد وقف ابن تيمية في وجه أهل البدع مواقف مرضية حتى صار من بعده من العلماء عيال عليه، يستقون من رحيقه، ويتزينون من جوهره ولؤلؤه ومعدنه، فرضي الله عنه وأرضاه، ورحمه الله رحمة واسعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 أهل البدع يتوارثون الحقد على ابن تيمية إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن محنة أي عالم تكون غالباً بسبب المبتدعة، وذلك أن العالم الرباني إذا أراد أن يأخذ الناس إلى خير الهدي فإنه بذلك يهجر البدعة من أسها، وللبدعة دولة وقوة. لذلك أردت أن أعرض نماذج من ابتلاءات العلماء التي كانت بسبب أهل البدع ووشايتهم، والعلماء الذين أوذوا بسبب أهل البدع كثرة كاثرة، بل لا أعلم عالماً متبعاً إلا أوذي بسبب أهل البدع، كلهم بدءاً من الإمام مالك، وأشهر من أوذي من الأئمة الأربعة الإمام أحمد رحمه الله، ظل القيد في رجله سنتين وهو في السجن، وحفظ الله عز وجل الأمة به، وذهب المبتدعة إلى مزابل التاريخ، وبقي الإمام أحمد يبدأ بفكره ويعاد، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم عندما ذكر بلاء الأنبياء، وأنهم أشد بلاء، وهو بدأهم، فقال: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نبتلى ثم تكون العاقبة لنا) نعم. لكنها تحتاج إلى صبر جميل، كما قال تبارك وتعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] . لكنني لا أتكلم الآن عن الإمام أحمد، فإن له حرمة بحيث أن بعض المبتدعة الذين يخالفونه أصبحوا يدافعون عنه، من باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر) والإمام أحمد له مذهب متبوع، وله مسند شهير، وأطبق الجميع على توثيقه وتبجيله، ولأنه كان في القرن الثالث الهجري -قرن الريادة العلمية، أخصب قرن في حياة المسلمين العلمية- ثم بدأ الانحصار العلمي إلى أن وصل إلى القرن الثامن الهجري، فبلغ الإمام الكبير العلم الذي أغلق الباب بعده، فما أتى بعده مثله قط حتى هذه الساعة. والذي حظا بالهجوم والتبجيل هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. هذا الرجل النبيل الكريم البحر العلم، الذي ما يزال يرمى بالكفر حتى هذه الساعة، وكثير من المسلمين لا يعرفون شيئاً عن ابن تيمية، حياة شيخ الإسلام ابن تيمية حياة لا تعلم إلا بمطالعة كل ما كتب عنه سواءٌ بقلمه أو بقلم أتباعه؛ فإذا كنت ممن يحبه بالغيب تزداد له حباً، وإن كنت ممن يتوقف في محبته فتحبه بلا تردد، وإن كنت ممن عاديته فتراجع نفسك على أقل تقدير، فهذا رجل صوفي عملوا معه حواراً طويلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية، كله بهتان وكذب، قال في آخر الحوار: لو حكَّمني ربي في ابن تيمية لقطعت لحمه ورميته للكلاب!! هذا الرجل لا يعنيني، وليس كلامه في موضع الحجة عندي، لكن أقول لك: انظر كيف يقال عن الرجل حتى هذه الساعة! ويقول: إن أردتم أن تعلموا حقيقة ابن تيمية فاقرءوا كتاب العالم الكبير ابن ناصر الدين الدمشقي: الرد الوافر على من سمى شيخ الإسلام ابن تيمية فهو كافر. أي: أنت إذا قلت: شيخ الإسلام ابن تيمية خرجت من الملة!! المدهش أن في هذا الكتاب رد على فتوى من قال: من قال ابن تيمية شيخ الإسلام فهو كافر وقلب الكتاب وهذا يدل دلالة قاطعة على أنه لم ير الكتاب بعينه؛ لأن هذا الكتاب من أعظم الكتب التي دافعت عن شيخ الإسلام ابن تيمية عندما قام علاء الدين البخاري المتعصب الحنفي، وقال: إن من قال عن ابن تيمية: إنه شيخ الإسلام فهو كافر، وقال هذا الكلام بعد وفاة شيخ الإسلام بمائة سنة، فأجج هذا نار الغيرة الدينية في صدور العلماء في دمشق آنذاك وعلى رأسهم ابن ناصر الدين الدمشقي -والمفروض كان يواجه الحافظ ابن حجر العسقلاني في مصر هناك- وجمع قول تسعين عالماً من وقت ابن تيمية إلى وقت تصنيفه الكتاب، كلهم أطلق هذه العبارة على ابن تيمية أنه شيخ الإسلام، ونقل كلام العلماء -وخصوصاً القضاة- أن من قال هذه المقالة أن من يقول: إن ابن تيمية شيخ الإسلام فهو كافر، ينبغي أن يعزر، ومنهم من أطلق كفر هذا الخائن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر! فإن لم يكن كذلك فقد رجعت إليه) وابن تيمية ليس كافراً، إذاً: رجعت الكلمة إليه. فهو يقول: من أراد أن يعرف حقيقة ابن تيمية فليقرأ كتاب الرد الوافر، وأنا أقول لكم جميعاً: اقرءوا (الرد الوافر) لتعلموا أنهم لا يقرءون وإنما يرددون الاتهامات ولا يعرفون شيئاً، أعظم شخص افتري عليه في التاريخ ابن تيمية؛ لذلك تكثر حسناته، كما قيل لـ عائشة رضي الله عنها: (ألا ترين إلى الذين يسبون أبا بكر وعمر؟ قالت: وما تعجبون من ذلك، قطع الله عنهم العمل، فأحب أن لا يقطع عنهم الأجر) . ما من خطبة يضعها رجل في حق عالم أو ولي لله إلا رجعت إليه، وكانت حسنة في كتاب العالم، قطع الله عنهم العمل فأحب أن لا يقطع عنهم الأجر، معظم عداوة المبتدعة هي على ابن تيمية ليتهم يقرءون ليعلموا أن هذا الرجل فعل بالمبتدعة ما لم يفعله أحد، كان فيهم أنكى من الجيوش الجرارة وحده، هذا الرجل عمره (63) سنة قضى منها أربعين سنة يتكلم في نحور المخالفين، وينصر دين الله عز وجل، فلا يمكن الوفاء بحقه في ساعة ولا ساعتين ولا عشر ساعات، لكن كما قلت: أهل التجهيل المتوارث لا يقرءون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 ابن عبد الوهاب نال ما ناله ابن تيمية شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، مجدد دعوة التوحيد في جزيرة العرب، حتى الآن المبتدعة يكفرونه، ويلقبون كل من اتبع السنن أنه وهابي: إن كان تابع أحمد متوهباً فأنا المقر بأنني وهابي أحد طلاب العلم النابلين أصيب بمرض فذهب إلى تركيا للعلاج، وكان بجوار المستشفى مسجد، فكان ينزل يصلي فيه ويقعد قليلاً، فإذا به يفاجأ بأن إمام المسجد يعلم الناس العقيدة الماتريدية لأن أغلب الأتراك أحناف- وهذا الإمام يسب محمد بن عبد الوهاب ويحذرهم منه، بقوله: هذا الرجل الذي حارب الإسلام، والذي هو قرن للشيطان، والذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عندما قال: (من نجد يطلع قرن الشيطان) ونجد تابعة للسعودية، ونجد التي عناها النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث هي نجد العراق، لكنه قلب نجد العراق إلى السعودية، ثم قال لهم: وهذه بشارة من الرسول عليه الصلاة والسلام؛ من أن قرن الشيطان يطلع من نجد، وما هو إلا محمد بن عبد الوهاب الذي غير الدين. ولم يزل يتكلم على محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كل مرة هكذا، فأضمر طالب العلم الذكي في نفسه شيئاً، أتى إلى الشيخ، وقال له: أنا زهقت من محمد بن عبد الوهاب وكلامك الحقيقة أنه مدهش، فأنا عندي كتاب وخفت أن تكون فيه بعض البدع، وأريد أن تنصحنا، هذا الكتاب كان كتاب التوحيد لـ محمد بن عبد الوهاب، فهذا الطالب الذكي قطع الغلاف والعنوان وأعطى الكتاب لهذا الشيخ، هو جاهل لا يقرأ ولا يعرف شيئاً، وإنما عنده عداوة متوارثة لأولياء الله، وقال له: اقرأه ثم أرجعه لي، أعطاه الكتاب وبعد ثلاثة أيام جاءه وقال له: يا مولانا! ما هي أخبار الكتاب؟ قال له: لم أجد شيئاً يخالفه، هو عبارة عن آيات قرآنية وأحاديث وما يستفاد من الحديث. قال له: هل تنصحني بقراءته؟ قال له: نعم. قال: يا مولاي! هذا كتاب التوحيد لـ محمد بن عبد الوهاب الذي تحذر منه منذُ شهر. فبهت الرجل! أول مرة يقف على كتاب محمد بن عبد الوهاب، اندهش الرجل وقال له: لا أدعك. أنا الآن عندك في مرتبة المتعلم، علمني، فأخذه إلى هناك وعلمه. أغلب الناس يهاجمون العناوين ولا يعرفون المضامين، وكله كذب، فإن أغلب العداوات التي تقع للعلماء الربانيي، بسبب الأشلاء المشوهة التي تصير عنهم، وهذا هو ما حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 ابن تيمية وحياته الحافلة بالعطاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 ابن تيمية رحل من الدنيا زاهدا ً أكثر ما يبعد القلب تعلق الرجال بالدنيا، له أعمال معينة يريد أن يحققها قبل أن يموت. ولذلك يوشع بن نون عليه السلام لما خرج للغزو التفت إلى جنوده، وقال: لا يتبعني أحد ثلاثة منكم: لا يتبعني رجل بنى بيتاً ولم يضع سقفه، ولا رجلٌ بنى بامرأة ولما يدخل بها، ولا رجل له خلفات وهو ينتظر نتاجها، أي رجل متعلق بالدنيا إلا المقاتل إذا كان له أمل في الدنيا فإنه يضعف قلبه فيكون سبباً في الهزيمة؛ لكن الذي ذهب وخلف كل شيء وراء ظهره ناسياً كل حاجة، فهذا الذي يكون قلبه قوياً. فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يكن عنده شيء يتعلق به أبداً، كان فقيراً لا يجد شيئاً، ولم يكن له زوجة ولا ولد، حتى يخاف عليهم ويقول لك: أخاف على مستقبل أولادي سيضيعون، ولم تكن له علاقة بأحد أبداً، كان عفيفاً متنزهاً، والناس الذين كانوا يحبونه يعطونه زكاة أموالهم بمئات الآلاف، وكان يوزعها كلها، ويرجع إلى بيته بغير درهم واحد؛ فالزهد ما لم يكن تصنعاً فهو حسن. ولذلك فقد ذكر ابن الجوزي: أن بعض الصوفية يقولون: الثياب المرقعة أحد علامات الزهد، حتى ذكر أن شخصاً لبس ثوباً مرقعاً، قيل له: وما هذا؟ قال: هذا شباك الزهد أي: يلبس ثوباً مرقعاً ويقول لك: الرجل هذا من أهل الله، ويقول: يا مولانا! ادع لنا، ووصل الأمر بهم أنهم يأخذون الملابس الجديدة من مصر ويرقعونها رقعاً فتجدها كلها مرقعة؛ لأن الزاهد لابد أن يكون ثوبه هكذا مطرزاً بأنواع من الرقع. فصار هذا شعاراً لهم، وهذا لاشك أنه لباس شهرة، ولو صار اللبس المرقع علامة على الزهد في بلد ما، فلو لبست مرقعاً يبقى لَبِس لُبس شهرة، وهذا لا يجوز، إنما الزاهد إذا كان فقيراً لا يجد ولا يتكلف أن يستدين، والزهد يكون له طعم إذا كان من الفقير. رأيت منظراً لا أنساه أبداً، عندما ذهبت أقابل الشيخ العلامة الإمام الكبير الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، وما استطاع أحد أن يدخل عليه في مدة الحج؛ لأن الحراسة عليه مشددة؛ لأن الروافض الشيعة يريدون أن يقتلوه، فيقومون بحمايته، فكنت أسعى في مقابلته حتى وصلت إلى بعض تلامذته، فقال: أنا أدخلك عليه، وكنت أتصور الهيئة الجميلة والغترة الجديدة والعطر الفواح إلخ، المهم أني دخلت الخيمة فما وجدت أحداً، سألت: أين الشيخ؟ قالوا: خرج، خرجت من الباب الثاني أبحث عن الشيخ، فلقيت مجموعة حول رجل لو رأيته قلت: هذا حمال! لا تستطيع أن تعطيه مؤهلاً، يلبس ثوباً إلى نصف الساق، وهو متواضع في هندامه يميل إلى القصر، وبه سمرة. قالوا لي: هذا الشيخ، عندما قالوا لي: هذا الشيخ، وقف شعري واقشعر بدني عندما رأيت هذا الرجل الذي دوخ الدولة كلها الشيخ عبد العزيز بن باز الدولة كلها من عند الملك إلى آخره تحت قدم هذا الشيخ، تحس بطعم الزهد، الدنيا كلها في قبضته، والناس تبعه، ومعهم مئات الملايين، ومع ذلك عندما تجلس معه على الأكل، تراه قليل الأكل، وله طريقة عجيبة جداً في الأكل، يسمي ويحمد الله مع كل لقمة، كل لقمة يضعها يقول: باسم الله وإذا انتهى قال: الحمد لله، باسم الله الحمد لله، باسم الله الحمد لله، إذا سمعته في المجلس تجد أنه يكثر من ذكر الله، أجمع على حبه الناس، حتى الذين يخالفونه في منهجه وفكره يحبونه ويعظمونه أيضاً، لما جعل الله تبارك وتعالى له من الحب في القلوب، وهذه منة من الرحمن عز وجل، فكان رحمه الله زاهداً، ليس له أي تعلق بالدنيا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 الوداع الأخير في السجن لابن تيمية إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. قبل أن أدخل في الدروس المستفادة من حياة شيخ الإسلام رحمه الله أريد أن أقول: إن جنازة شيخ الإسلام ابن تيمية كانت من أكبر الجنازات التي شهدها العصر، حتى أن الذين ترجموا لشيخ الإسلام ابن تيمية قالوا: لن تُعرف جنازة فيها كثرة بعد الإمام أحمد مثل جنازة ابن تيمية، وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول للمبتدعة: بيننا وبينكم شهود الجنائز؛ لأن حضور الجنازة إنما تكون لوازع الحب المحض، لكن الدنيا ممكن أن يذهب الإنسان إلى الآخر وهو يكرهه لأجل مصلحة أو أنه خائف منه، والناس الذين يأتون العوام، يقولون: مات العمدة الكل ذهب يعزي ومات العمدة ولا أحد ذهب؛ لأن المطلوب رضا العمدة، فرضا العمدة حال حياته وكان لا يزال بينهم، لكن مات العمدة وانتهى الأمر. وعندما تجد الجنازة حافلة بالناس تعلم أن هذا الرجل الميت كان طيب الذكر وله مآثر ومناقب، وأنه من أهل الجنة طالما النفس تحبه وإلا فهناك مثلاً جنازة جمال عبد الناصر كان فيها ملايين الناس، ولا يلزم أنه من أهل الجنة كذلك عبد الحليم حافظ مطرب الشباب لما توفي في الإسكندرية خرج الشباب يبكون حزناً على العندليب، طيب هذا نعمله ماذا؟ نحن نقول: إن الرجل المتطهر في حياته الملتزم بالكتاب والسنة، وظاهره الاستقامة، فالناس الذين خرجوا في جنازته يدل على أن هذا من حسن الخاتمة، لأنه كان ملتزماً بالكتاب والسنة، فهذا والله أعلم ظاهره الصلاح أو كان يصلي ويفتي في الناس لأجل أن يقال: عالم أو كان طيب الذكر، وهناك بعض العلماء والمصلحين لم يمش في جنازته إلا واحد أو اثنان، فهذا حسن البنا رحمه الله كما هو مذكور في ترجمته لم يُمكَّن لأحد أن يمشي وراءه إلا أبوه الشيخ عبد الرحمن البنا رحمه الله، والد الشيخ حسن البنا كان رجلاً بارعاً في علم الحديث، والحقيقة أن هذا الرجل كان لا يعرفه أحد، وهو أفضل من ابنه بالنسبة لخدمة العلوم الشرعية؛ لأنه عمل عملاً جباراً فعلاً، الرجل ظل خمساً وعشرين سنة وهو يؤلف كتاب الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد على الأبواب الفقهية بدءاً بكتاب الطهارة ثم الصلاة إلخ، ثم المسانيد يذكرها في نفس الأبواب الفقهية كمسند عمر وعثمان وعلي حتى يمر على الصحابة ثم على أمهات المؤمنين المهم يذكر كل مسند صحابي فيه أحاديث متتابعة، فمثلاً: حديث: (توضئوا من ما مست النار) تلقاه عن أبي بكر وعن أبي هريرة وعن ابن مسعود وعن جابر وعن فلان وفلان، فيجمع كل الأحاديث هذه بمسانيدها ويضعها في باب واحد (باب: الوضوء مما مست النار) فهذا عمل جبار لا يعلمه إلا أهل العلم. فعندما قتل حسن البنا رحمه الله فلم يسمح لأحد أن يمشي في جنازته إلا أبوه وواحد مثلاً، فلا يعني أننا نحط بقدر عبد الحليم حافظ أو أم كلثوم. وأمامنا مثلاً واحد لا يمشي في جنازته إلا أبوه! لا، نحن نقول: الضابط أن يكون الرجل متظاهراً بالكتاب والسنة، عاملاً بهما، منافحاً عنهما، فعندما تنظر إلى الجمع من الناس في جنازته تعرف أنها من علامات حسن الخاتمة. الإمام أحمد رحمه الله كان يقول: بيننا وبينكم شهود الجنائز. فإذا مات الإنسان فإن الهيمنة تذهب حتى أشار إليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما طلب من عبد الله بن عمر أن يذهب إلى عائشة ويستأذنها في دفن عمر في الحجرة وقال لابنه قل لها:: عمر ولا تقل لها أمير المؤمنين، فإني لست اليوم بأمير للمؤمنين، فلما ذهب إليها عبد الله بن عمر فقالت: والله إني كنت أعدت هذا القبر لنفسي، لكني أوثر به عمر، فقال له عمر بن الخطاب: يا بني! إذا أنا مت استأذنها مرةً أخرى؛ حتى لا يلزمها الحياء وهو حي، أو قد يمنعها عيلة السلطان، فهو الآن بعدما مات وانتهت هيمنته وكل واحد راح لحاله استأذنها مرة ثانية ليعرف الرأي الحقيقي، هل يدفن مع صاحبيه، أم لا؟ فالمهم أن هذه الجنائز إقبال الناس عليها من علامات أن هذا الرجل كان طيب الذكر، لكن بالشرط الذي ذكرناه. ذكر المترجمون الذين حضروا جنازة ابن تيمية أنهم زادوا على خمسمائة ألف، والنساء تزدن على خمسة عشر ألفاً، فأنت عندما تقرأ شيئاً في كتب المؤرخين لا تجعلها حجة شرعية، لا يأتي شخص يقول: هذا ابن عبد الهادي الحنبلي عندما ترجم لـ ابن تيمية ذكر أنه حضر جنازته خمسة عشر ألف امرأة، فهذا يدل على جواز أن النساء يخرجن لزيارة الميت، لا. لا تأخذ الأحكام الفقهية من كتب المؤرخين، هذا مجرد حكاية ونص فقط لا غير، ليس له دخل في الأحكام الشرعية، ويخطئ كثير من الناس عندما يستنبط الأحكام الشرعية من هذا الوصف. فهؤلاء الذين حضروا جنازة ابن تيمية والذين ما استطاعوا الحضور لبعد البلدان قيل: إنهم صلوا عليه صلاة الغائب أكثر من مائة وخمسين مرة. وكان شيخ الإسلام يقرأ القرآن في السجن، فوصل إلى آخر سورة القمر {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54-55] ثم مات، فأكملوا قراءة القرآن عليه وهو مسجى قبل أن يدفنوه؛ وهذا على رأي بعض أهل العلم أنه يجوز قراءة القرآن على الأموات. والعجيب من شيخ الإسلام أن أول موقف يلفت النظر: أنه لما دخل السجن غير أهل السجن، مع أن الفروض النفسية للسجين قد لا تؤهله أنه يكون منفرداً، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية كان رجلاً فرغ حياته كلها للإسلام، ولم يكن متزوجاً، وكان باراً بأمه جداً، وقد ذكر بعض العلماء رسائله إلى أمه وقد نشرت في رسالة وهي: (رسائل شيخ الإسلام لوالدته) كانت دائماً توصيه بأن يهتم بنفسه فكان رده على أمه رفيقاً جداً يثني فيه على الله عز وجل وأن هذه عقيدة المتقين، وأن الله عز وجل أناط به الرد بها على المبتدعة، وأنه لا يستطيع أن يتخلى عن الدفاع عنها ويتمنى دعواتها وهو موفق بدعواتها له ويأتي بكلام يدغدغ عواطف أي أم، فكان باراً جداً بوالدته، مع قيامه بحق الإسلام وحق المسلمين في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فلم تكن حياته حياة المترفين، فلا يتخاذل الإنسان عن قول كلمة الحق والصبر عند المحن، فهو قد يكون في الخارج معتاداً على حياة معينة، تعود أن ينام ويتغطى بغطاء صوف ويشغل آلة التدفئة ولا يشرب ولا يأكل إلا من الأكل الجيد لكن في السجن، لا، لابد أن ينام على البلاط وبعدها يأخذ راحته وينظر فتحة الباب المهم فيجعله ذلك في وحشة وحزن وعدم أنس؛ فهذا يجعله يضعف حتى يترك مبادئه ولا ينتصر الدين بأمثال هؤلاء، لا بد للإنسان أن يوطن نفسه. الإمام أحمد قال له أحد الناس: يا أحمد قلها كما قالها الناس تسترح، وقد قالها أساطين العلماء، أهو مخلوق؟ نعم مخلوق، حتى قيل لبعض العلماء وقد جاءوه يسألونه عن فتنة خلق القرآن، قال له: ما تقول: أمخلوق؟ قال: إياي تعني، قال: نعم، قال: مخلوق، انظر! أتى بتورية بينه وبين نفسه، لكن ليس هذا هو الجواب، لأن الجواب إنما يخرج على نية أو على فهم المجتمع، الجواب ليس على مرادك أنت، إياي تعني؟ الرجل ظن أنه يقول له: أتقصدني بكلامك فقال: أنا مخلوق؟ قال: نعم مخلوق، ثم نشر للناس؛ لكن الإمام أحمد بن حنبل لم يجرؤ العالم السابق ذكره فسلم من الأذى بجوابه لكن طواه النسيان ولا أحد يعرفه، لكن نعرف اسم أحمد بن حنبل، ونترضى عليه ونترحم، والذي أخذه الإمام أحمد بالصبر على المحنة كان أعظم جداً من العرض الزائل الذي حصله غيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 نبوغ ابن تيمية في اللغة والشعر جاءه رجلٌ نصراني وقد صنف قصيدة يعترض فيها على القضاء والقدر، ويقول فيها هذا السؤال: الظالم العاصي إذا كتب الله عليه المعصية فلم يعذبه؟! ولهذا فإن الرجل كتب أبيات شعر مختومة بحرف التاء يعترض فيها على الله ويحتج بالقضاء والقدر، وبدأ قصيدته بقوله: ألا يا علماء الدين والدين دينكم قال الذين حضروا هذه الواقعة وهم كثرة: فاعتدل شيخ الإسلام في جلسته، وثنى رجله يكتب عليها ورد عليه بمائة بيت على نفس الوزن والقافية. يستطيع الواحد أن يكتب شعراً جميلاً، يفتح فيه الخيال؛ لكن الشعر العلمي صعب، لأنك تريد أن تنظم فيه قواعد شرعية في قوالب شعرية، فرد ابن تيمية على النصراني في مائة بيت، وسميت التائية ولها شروحات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 تأليف ابن تيمية للصارم المسلول علمتم الآن لماذا سلط المبتدعة كل هجومهم على شيخ الإسلام؟ لأنه هو الذي كسر شوكتهم وأظهر دغلهم. أتته فتوى: أن رجلاً يشتم الرسول عليه الصلاة والسلام، فما حكم الدين فيمن سبّ الرسول عليه الصلاة والسلام؟ فجلس وكتب كتاباً اسمه (الصارم المسلول على شاتم الرسول) تقلب كفيك عجباً من كثرة استحضاره لكلام العلماء فقط، دافع فيه عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعظم إجاباته كتب. ورأى فخر الدين الرازي ألف كتاباً في تقديس العقل، فرد عليه في إحدى عشر مجلداً أسماه: درأ تعارض العقل والنقل، فأتى على كتابه من القواعد، حتى قال ابن القيم: لم يطرق سمع العالم كتابٌ مثله. ابن المطهر الحلي شيعي تهجم على الصحابة وقال: إنهم أخذوا الخلافة من علي، والرسول صلى الله عليه وسلم نص على خلافة علي بنص قطعي، فجاء الصحابة فكتموا وماتوا على النفاق، وهناك أدلة تثبت أن علياً هو أولى بالخلافة من أبي بكر والصحابة كتموا هذا، فرد عليه في تسعة مجلدات في كتاب: (أسماه منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة القدرية) وأتى بنيانهم من القواعد، وفنَّد كل شبهة أوردوها بصحيح النص وصريح العقل. هذا الرجل له علينا جميعاً منة كل الجماعات الإسلامية الموجودة الآن على الساحة استفادت من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، ليس هناك جماعة على وجه الأرض تنسب إلى أهل السنة والجماعة من قريب أو بعيد إلا وشيخ الإسلام ابن تيمية معظم عندهم. لذلك ظن بعض الجهلة أن شيخ الإسلام ابن تيمية هو سبب التطرف، فقال: مطلوب أحمد بن تيمية حياً أو ميتاً، ولا يعلم الجاهل أنه مات منذُ أكثر من سبعمائة سنة، فكان حياً أو ميتاً ويستحسن حياً لإغاظة الأعداء، لماذا؟ لأن كل هذه الجماعات رجعت إلى دين الله عز وجل بفضل ذاك الرجل وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمه الله. سيرة شيخ الإسلام سيرة مبهرة، أنصح كل طلاب العلم أن يقتنوها، وليس للرجل ترجمة واحدة، بل تراجم، والذي وقفت عليه وهو قليل نحو ثلاثين ترجمة لشيخ الإسلام ابن تيمية، ما بين مجلد كبير وكتيب بسيط، تقرأ حياة الرجل، وتترسخ خطاه، ولا زالت السيرة العملية والعلمية لعلماء المسلمين هي درس كل الباحثين، إذا أتاك الفتور اقرأ سير هؤلاء تقوي من همتك، وتعلم أن خلف الإنسان بقدر ما ترك من الحق بين الناس، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث وذكر منها: علم ينتفع به) . أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 محنة ابن تيمية في منع شد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم جاءت المحنة الكبرى وهي منع شيخ الإسلام شد الرحال إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، عندما جاءه رجل وسأله: ما تقول السادة العلماء في شد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين، ومنهم قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، هل هذا جائز، أم لا؟ فكتب كتاباً ذهب فيه إلى عدم الجواز، وقال: إنه لا يجوز لأحدٍ أن يشد رحاله إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقامت القيامة عليه وقالوا: هذا يكره النبي صلى الله عليه وسلم، يمنع زيارة قبر النبي! طيب أيكون هذا مسلماً! فحرفوا فتوى شيخ الإسلام وقالوا: إنه يقول: لا يستحب أن تذهب إلى المدينة، هل قالها؟ وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من أربعة مواضع في غير هذا الكتاب على هؤلاء: هل سمع له أحد؟ هل رجع أحد وتحقق من صدق كلامه؟ الجواب: لا. واستمروا في التأليب عليه، حتى حبس هذه المرة في دمشق؛ لأنه مكث في مصر سبع سنوات ثم انتقل سنة (712) إلى دمشق، فكان يكتب الفتاوى في الأوراق، وكان آنذاك مكرماً فسمح للناس بزيارته وإدخال كل الأوراق والكتب، ولا يحجب عن الناس، كالإقامة الجبرية فسمحوا للناس أن يدخلوا إليه، لكنه لا يخرج، وكان الأعيان والعلماء يستفتونه من باب ويأتيه الآخرون من باب آخر، فكان منشغلاً إما بالتصريح وإما بالفتوى وإما بحل المشاكل بين الناس، إلى أن شدد المخالفون عليه فأبقوه في السجن ليستريح، ومنعوا الدخول إليه والاستفتاء منه، ومن العجب أن العلماء كانوا موجودين بالمئات، ومع ذلك لم يكونوا يأتمنون أحداً على الفتوى كمثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مسجون: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] وقد أكرمه الله تبارك وتعالى، فما له من مهين، إلى أن أخذوا منه الأوراق والأقلام، ومنعوا أحداً أن يدخل عليه، فبدأ المرض يشتد على جسد ابن تيمية رحمه الله، وظل مريضاً نحو شهر كامل، ثم وافاه الأجل رحمه الله ليلة الإثنين في (26 من ذي القعدة سنة 728هـ) بعد حياة حافلة، فهذا مجمل حياة شيخ الإسلام ابن تيمية. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن مسألة شد الرحال إلى القبر، انتصر شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا البحث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) وقد ذكر علماء العربية والأصول: أن نفي الاستثناء يفيد الحصر (لا وإلا) ، وإذا وجدت في الكلام اعلم أن المعنى محصور على ما ذكر بالنص، لا إله إلا الله، هذه (لا) نفي (إلا) أداة استثناء، فعندما يأتي على الاستثناء النفي، يبقى محصوراً: لا إله إلا الله، فنفى الألوهية عن كل أحدٍِ إلا الله، فيبقى أنه أثبت للمذكور في الكلام ونفاه عن ما عداه، فأثبت الألوهية لله ونفاها عن كل من عداه، فعندما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) أي: لا يجوز شد الرحال إلا للمسجد، فإذا شددت الرحال إلى المسجد والقبر بالمسجد فإنك تذهب لزيارة القبر، ولزيارة القبر آداب وهي: كذا وكذا يبقى: هل شيخ الإسلام ابن تيمية يحرم زيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام؟! ما قال هذا شيخ الإسلام وإنما قال: لا يجوز أن تخرج من بلدك وقد نويت شد الرحال إلى القبر وحده، لكن انو شد الرحال إلى المسجد والقبر في المسجد، فستحصل زيارة القبر تبعاً، لكن لا تكن النية أصلاً مخصصة للقبر دون المسجد، ولذلك أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية على أن الرجل إذا خرج من بيته وقال: سأزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن هذا سفر معصية، ولا يجوز له أن يقصر في سفره الصلاة، ولا يجوز له أن يفطر في رمضان؛ لأن هذه الرخص هي في السفر إلى الطاعات لا للمعاصي. فلو الآن انفصل قبر النبي عليه الصلاة والسلام عن المسجد لوجدت بعض الناس يزور قبره ولا يدخل المسجد؛ لأنه خرج لا ينوي الصلاة في المسجد إنما نوى زيارة القبر، وهذا غلو نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) وقد صار وثناً عند طائفة من الناس الذين ينتسبون لآل البيت وعلى رأسهم الشيعة في كل طوائفهم. قبل سنوات أرادت إدارة المسجد النبوي أن تغير نوافذ تكييف الحجرة النبوية، وتجعل التكييف والمواصير من فوق، فأرادوا أن يدخلوا الإسمنت والحديد ويرفعوا المواصير هاجت الرافضة وقالوا: يريدون أن يهزوا القبر، فما اجترءوا على أن يصلحوا شبكة التكييف؛ لأن للرافضة دولة في مكة والمدينة، فأشاعوا أن الوهابيين يكرهون النبي فأرادوا أن يهدوا القبر بدعوى إصلاح التكييف، وما شعروا إلا ومكة والمدينة ملآنة بالناس من الذي عمل هذا؟ هناك غلاة الروافض، هم المسئولون على مكة والمدينة. فشيخ الإسلام ابن تيمية عندما قرر هذه الحقيقة اتهموه بأنه يحرم زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام. والشيء الآخر الذي أريد أن أذكر به طلاب العلم هو: لابد أن تعلموا أن أعظم شيء يثبت العلم هو الإخلاص في طلبه وأدائه، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان رجلاً ذاكراً، يقول شمس الدين الذهبي تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية: كان له أورادٌ يدمنها، وكان كثير الفكر، رابط الجأش، لا يترك الجلوس بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس أبداً، ويقول: هذه غدوتي لو تركتها نقصت قواي، وكان إذا سئل مسألةً أو أشكلت عليه ولم يتبين وجه الصواب يكثر من الاستغفار، حتى كان يقول: إذا أشكل عليَّ شيء من الجواب أذكر الله ألف مرة ويزيد، وأستغفره ألف مرة ويزيد، حتى يفتح عليه. أما غيره من طلاب العلم والعلماء إذا أشكل عليهم شيء قالوا: لابد أن نروح عن أنفسنا ونرفه عليها! وكل واحد من طلاب العلم يقول: أنا أحس بملل إذاً نذهب رحلة ترفيهية، كل هذا من أجل أن يفتح له! لا يفتح لك في العلم الشرعي إلا إذا أتيت الأمر من بابه، كما فعل شيخ الإسلام فإنه يكثر من الاستغفار، وكان يقول: لقد ذهبت إلى الخلوات -التي ليس فيها أحد من أقربائه- فأمرغ وجهي في التراب، وأقول: يا معلم إبراهيم علمني، فلا يرجع إلا وقد فتح له، وكان مباركاً في التصميم والكتابة واللغة، حتى تحس بأن واحداً يقذفك بالحجارة، ألفاظه قوية تحتاج إلى قاموس، وشيخ الإسلام ابن تيمية جعل الفقه سهلاً مبسطاً حتى إذا قرأت في كتب الفقه تحس أنك لا تريد أن تتوقف عن القراءة، لقد قرب الفقه إلى الناس، يقول ابن القيم في الوابل الصيب: وقد رأيت منه شيئاً عجيباً، كان يكتب في ليلة ما ينسخه الناسخ في جمعة. يعني: يمكث يكتب في ليلة هكذا. وواحد ينسخ لنفسه نسخة في أسبوع ينقل فيه الكلام، من الأولى بالوقت والحاجة هذه؟ الذي ينسخ بلا عقل، أو الذي يبسط ويرتب الأدلة؟ لا شك أن الذي يأتي بالأدلة محتاج إلى وقت، يعني: يقعد يكتب في ليلة كذا، كلمة مثلاً. ورقة، وواحد ينسخ لنفسه نسخة يمكث أسبوعاً ينقل فيه الكلام. فالذي يريد أن ينسخ يحتاج أن يرتب الأدلة والمواضيع وينظر إلى النسخ، فهذا بلا شك أنه يحتاج إلى وقت كبير، أما ابن تيمية فكان كالسيل الهادر إذا كتب أو تكلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 ابن تيمية ونبوغه في علم التفسير أما علم التفسير فلا يعلم رجلٌ فتح عليه مثل ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، يقول الذهبي رحمه الله: كان له مجلس تفسير كل جمعة، لكن أنا أقول لك: كيف يبدأ درس شيخ الإسلام؟ يصلي الفجر ثم يجلس على هيئته يذكر الله عز وجل إلى شروق الشمس، ثم يقوم فيصلي الضحى ثماني ركعات، ثم يجلس لدرس التفسير إلى قبيل الزوال، فيأتي بما لا يخطر على البال من المعاني الجميلة، حتى وصل به الحال أن فسر آية واحدة في سورة محمد أربع سنوات، من أين أتى بهذا الكلام؟!!! وكان كلامه لصدقه وإخلاصه يؤثر في القلوب، لا يستطيع رجل أن ينام وابن تيمية يتكلم من حرارة كلامه وصدقه، وإذا ألقى الله عز وجل محبة رجل في قلوب الناس لا مغير لها، وهذا ما حدث لشيخ الإسلام ابن تيمية، غلب الناس على حبه حتى المخالفين له. ابن مخلوف المالكي الذي أفتى بإهدار دم ابن تيمية؛ حتى سماه الشوكاني في البدر الطالع: ذاك شيطان الإنس. وقال: أهدر دم ابن تيمية! الحمد لله أنه لم يستجب له في إهدار دم هذا الإمام الذي لم يسمع الزمان بمثله! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 تأليف ابن تيمية للواسطية هذا قاضٍ من قضاة واسط جاء إلى ابن تيمية وقال له: اكتب لي عقيدةً ولأهل بيتي أضعها بيني وبين الله حجة، فاعتذر ابن تيمية، فألح عليه، فكتب له شيخ الإسلام ابن تيمية العقيدة الواسطية في مجلس واحدٍ أيضاً بين الظهر والعصر، فقامت القيامة على هذه العقيدة أيضاً؛ لأن فيها نفس مقررات العقيدة الحموية السابقة واجتمع القضاة الأربعة، وصاروا إليه، فناظرهم وانتصر عليهم، كما تقول كتب التاريخ. وظل زماناً طويلاً يدخل السجن ويخرج منه، حتى إنه لما رحل إلى مصر -وشرفت مصر بقدومه- ظل فيها سبع سنوات، منها عدة أشهر طليقاً والباقي في السجن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 ابن تيمية وجهاده للتتار العلماء والقضاة تنكروا للرجل بعد واقعة شقحب، التي كان من المفروض أن يدين أهل الإسلام بالولاء له بعدها، فعندما توجه التتار نحو مصر بعد أن غزوا العالم كله وفتحوه، حتى إن هولاكو كان إذا أرسل رسوله ومعه رقعة وكتب فيها: أنا سآتي، فترتعد فرائص كل من في البلد؛ لأن هولاكو كان معروفاً بسفك الدماء والإفساد في الأرض، فبدأ ابن تيمية يدعو الناس للجهاد ويحثهم عليه، ووجد السلطان خائفاً فطمأنه، وقال: إننا لمنصورون هذه المرة، فقال السلطان: قل: إن شاء الله، قال له: تحقيقاً لا تعليقاً، ثم يقسم بالله: إننا لمنصورون عليهم هذه المرة. قال ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب، حتى قال السلطان لبعض الحجاب: أرني خط الموت، أين خط الموت، فوقف عليه السلطان -الحاجب هو الذي يحكي حكاية- يقول: وأنا أعلم أنه مقتول، ثم يركب ابن تيمية الفرس ويدخل في المغول ويقسم بالله: إننا لمنصورون هذه المرة، وذهب إلى غازان قائد التتار، فقال له: نحن مسلمون، لماذا تخافون منا؟ الرجل يدعي أنه مسلم وعنده قاضٍ ومؤذن ورجل يؤم المسلمين شيخ الإسلام ابن تيمية علم أنه سيغرر بالناس، فدخل عليهم شيخ الإسلام ومعه أعيان البلد. يقول أحد العلماء الذين حضروا الموقف: كان ابن تيمية يكلم غازان بكلامٍ شديد، وأنا أجمع ثيابي حتى لا يصيبني دم ابن تيمية، وكنا نقول: إنه لن يخرج حياً إنه سيقتله؛ من شدة الكلام الذي وجهه له. ومما قال له: أنت تزعم أنك مسلم؟ أبوك كان كافراً وجدك كان كافراً فوفيا وغدرت، وكان غازان يتلطف معه، ويمسك على كتفه، ثم قال له: ادع لي يا مولانا! هنا يتبين العالم الذكي، وهنا تتضح الدعوة الناضجة قال: نعم، اللهم إن كان عبدك هذا خرج لتكون كلمتك هي العليا فانصره، وإن كان خرج رياءً وبطراً فاقتله، قالوا: فكان يدعو عليه وهو يؤمن، وخرج إلى الشام مظفراً وقد قال له العلماء والدعاة: لا نتبعك بعد الآن، سوف نقتل جميعاً بسببك، قال: وأنا لا أتبعكم، قالوا: وتخلف شيخ الإسلام وتركناه وذهبنا راجعين إلى البلد، ورجع هو بعد خمسة أيام بصحبة ثلاثمائة راكب، شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الذي حصل له سنة (702) وبعدها كان المفروض أن يبجلوه، بعدما عرفوا قدره، لكن أهل البدعة الذين ناصبوا النبي صلى الله عليه وسلم العداء في هديه لا يستحون من عباد الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 محنة ابن تيمية في فتوى الطلاق دخل شيخ الإسلام ابن تيمية مصر سنة (705هـ) فأدخلوه السجن، خافوا منه أن ينشر العلم في البلد، فظهرت فتيا الطلاق، وهذه من العجائب! الآن في مصر والشام وفي سائر البلاد العربية وأغلب البلاد الأعجمية يأخذون بفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في الطلاق، ولكن أغلبهم لا يأخذ بها لأنها الحق، ولأنها وجه التشريع للناس، ولكن لأنها التيسير. أهل المذاهب الأربعة يقولون: إذا قال رجلٌ لامرأته بنفس واحد: أنت طالق ثلاثاً، فإنها تبين منه، سواء كان في حالة غضب أو لا، ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، فقام شيخ الإسلام ابن تيمية في القرن السادس فقال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام وأبا بكر ووصدراً من خلافة عمر كانوا يجعلون طلاق الثلاث بلفظٍ واحد طلقة واحدةً، فلما تتابع الناس على لفظ الطلاق واستهزءوا به، والكل يقول: عليَّ الطلاق وإذا امرأته طالق، أراد عمر أن يردعهم ويزجرهم، فقال: إن الناس قد تتابعوا في أمر كان لهم فيه سعة، أفلا ترون أن أضيقه عليهم عقوبةً لهم؟ فوافقوه، فصارت الفتوى كذلك، وهذه فتوى الأئمة الأربعة والجماهير: أن من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً بلفظ واحد أنها قد طلقت ثلاثاً وبانت منه. فجاء شيخ الإسلام ابن تيمية وقرر المسألة وأتى بأشياء، ولكن عندما تقرؤها تقلب كفيك عجباً من دقة استنباطه للنصوص ودفاعه عن الأحاديث، المهم انتصر شيخ الإسلام في هذه المسألة، فقامت قيامة الدنيا، وقالوا: هذا الرجل يلعب بأنكحة المسلمين، فمعنى: أن رجلاً يقول لامرأته: أنت طالق ثلاثاً ونحسبها طلقة واحدة وهو يردها لزوجها، إذا: ً ابن تيمية أباح الزنا، ولم يبق إلا أن يقولوا: ابن تيمية يجيز الزنا، كيف يجيز الزنا؟!! يقولون: لأجل لفظ الثلاث بالطلاق مرة واحدة فالمرأة لم تبن منه بينونة كبرى، ومع ذلك مضت الأيام والسنون وإذا فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية يتبنونها في القضاء وفي المحاكم وفي لجان الفتوى، ليس لأنه الحق لكن لأنه التيسير، فنحن لو أخذنا بفتوى العلماء الأربعة يبقى (999) من ألف، فأخذوا بها، وعندما دخل شيخ الإسلام ابن تيمية السجن أنكر عليهم أول ما دخل ولم يمكنهم من ممارسة اللهو واللعب، حتى تحول السجن إلى حلقة علم، ومن الغرائب: أن المسجون الذي كان يأتيه الفك بالخروج لا يريد أن يخرج، والذي خارج يتمنى دخول السجن لوجود هذا العالم المبارك، أعداؤه عندما نظروا إلى هذا الرجل انذهلوا، وألبوا عليه فطلبوا نقله إلى سجن الإسكندرية، فنقل إلى سجن الإسكندرية حتى جاء السلطان محمد الناصر وسأل ابن تيمية عن مسألة فأحبه وهو رجل بطل مغوار قائد شجاع يُكسب، عندما تكسب القادة العسكريين تتحطم أمامك الأبواب نتعلم من ابن تيمية على الأقل تقييد القلوب، فسأل عن ابن تيمية فقالوا: هو في سجن الإسكندرية فأرسل إليه وجعل الحكام يعتذرون له ويقول: اجعلني في حل، قال: أنت في حل، وكل من عاداني، ولا يعلم أنني على الحق في حل، انظر إلى السماحة! وما تركوا ممكناً في إيذائه إلا فعلوه، حتى وصلوا إلى أنهم ذهبوا إليه في المسجد وضربوه، فأتى أناس من أتباع ابن تيمية وأحلافه وقالوا له: نحن أتينا إليك؟ قال: لم؟ قال: ننتصر ممن ضربك، قال: إن كان الأمر لي والحق لي فقد أحللتهم، قالوا: لا بد أن نفعل، قالوا: إذاً افعلوا ولا تأتوني بعد ذلك، فكفوا، فقال: أنا أحل كل من عاداني إلا من كان عدواً لله ورسوله، ثم استمر عدة سنوات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 توقد ذهن ابن تيمية في مرحلة الشباب ولد شيخ الإسلام رحمه الله يوم الإثنين العاشر من ربيع الأول، سنة (661هـ) ، والتحق بطلاب العلم آنذاك في حفظ القرآن الكريم، فحفظه قبل أن يتم تسع سنوات، وبدأت تظهر عليه مخايل الذكاء والحرص من الصغر، حتى جاء رجل من دمشق ثم ذهب إلى حلب وجعل يمدحه ويثني عليه. واستكثر أحد علماء حلب هذا الوصف على طالب صغير، فجاء إلى دمشق ليعاين الأمر بنفسه، فجلس عند حائك -خيَّاط- قال له: هل سمعت عن فتىً يقال له أحمد بن عبد الحليم، يقولون: هو أعجوبة في الحفظ؟ قال: نعم، هو يمر إلى الكتَّاب من هذا الطريق. فجلس الرجل ينتظره، فلما أقبل أحمد بن عبد الحليم -وهو صبي صغير- أشار الحائك إليه، قال: هذا هو. فناداه العالم وقال له -وقد رأى في يده لوحاً-: أين تذهب؟ قال: إلى الكتَّاب. قال: أعطني اللوح، فأعطاه اللوح فكتب فيه ثلاثة عشر حديثاً، وقال له: اقرأها. فما زاد ابن تيمية على أن نظر فيها، فأخذ الرجل منه اللوح ومسحها، ثم قال له: هل حفظت شيئاً؟ قال: نعم، حفظتها، قال: قل، فقرأها كما هي! فقال: لو عاش هذا الغلام لا يكون هناك مثله. وعاش ابن تيمية وفعلاً صدقت فراسة الرجل. شيخ الإسلام ابن تيمية حنبلي المذهب، دأبه في طلب العلم تعاهد نيته ليقوى قلبه. طالب العلم الذكي هو الذي يتعاهد نيته وقلبه في حال الطلب، فيكبر علمه وتكبر نيته مع العلم، لكن كثيراً من الذين يأخذون العلم يطلبونه بمعزل عن تعاهد النية، فيكبر علمه ولا تكبر نيته، لذلك تجد علمه أوسع من نيته وأكبر من إخلاصه مع كتابه، فعندما يأتي إلى قلبه يجد أن العلم صار أكبر وأوسع فلا يستطيع أن يطوع قلبه لعلمه، فلابد أن يتعاهد قلبه مع علمه، كلما كبر العلم كبرت النية والإخلاص معه، فينتفع به، فهذا ما حصل لـ شيخ الإسلام رحمه الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 بداية ظهور إمامة ابن تيمية الكل منذهل ومندهش منه، لكن لم تظهر إمامته، لأن تعظيم الإمامة يظهر عند محك الخلاف. بدأت تظهر إمامة شيخ الإسلام سنة (698هـ) ، ومع وجود إمامته بدأت محنته! لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود ويوضح هذا البيت الجميل قول القائل أيضاً: يقابلني السفيه بكل فتح فأكره أن أكون له مجيباً يزيد سفاهةً فأزيد حلماً كعود زاده الإحراق طيباً هذا البخور إذا كان موضوعاً أمامك هل له رائحة؟ هل له عرف؟ ليس له عرف، أحرقه تشم رائحة زكية، تظهر الإمامة مع الخلاف، والخلاف يكشف كل زيف، كثير من الناس يدعون الإمامة كذباً، تعال نعرف إذا كنت كاذباً أم لا. كما قال ابن المعتز: سوف تعلم إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار دعنا من التهويل حتى ينتهي الغبار، لا تقل: أنا أركب فرساً مضمراً عربياً، قد يكون تحتك جحش. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 تأليف ابن تيمية للحموية بدأ الخلاف بالكتاب المشهور لشيخ الإسلام ابن تيمية: الفتوى الحموية الكبرى، قرر فيها مذهب السلف في الصفات، وأننا نمرها كما جاءت بغير تأويل ولا تفويض، وهناك فرقٌ بين التفويض والتأويل، لأنه حصل لبس في الاصطلاحات، فبعضهم يقول: كان الصحابة يفوضون معاني الصفات! لا. من قال: إنهم كانوا يفوضون؟!! فالتفويض معناه: تمرير النص بلا فهم للمعنى؛ فمعناه أنه الصحابة كانوا جهلة، حملوا صفات الله ولا يعلمون عنها شيئاً: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] سميع ماذا يعني؟ أو تقول: سميع وتسكت؟ الألفاظ قوالب المعاني، ولا يوجد لفظ بلا معنى، فما معنى: إن الله سميع؟ يقول: سميع فقط، هو فوَّض المعنى على ظاهر النص، لكن ترك التأويل هو في خلاف ذلك نقول: نمرها كما جاءت، نعم، لكن نثبت له سمعاً يسمع، كيف يسمع؟! لا ندري، فهذا هو الفرق، أنا تركت تأويل كنه الصفة وأثبت شيئاً يليق بالله تبارك وتعالى، لكن التفويض: لا. ليس هناك إثبات معنى، وإنما هو إثبات اللفظ عارٍ عن المعنى، وما قال بهذا أحد من العلماء قط. فشيخ الإسلام ابن تيمية جاءته رسالة من مدينة حماة -ولذلك سميت الفتوى الحموية- فكتب هذا الكتاب المدهش من حفظه ما بين الظهر إلى العصر، ونقل أقوال العلماء من كتبهم، ارجع إلى كتب العلماء تجده كما نقل بالحرف. لا تندهش! فهناك ما هو أعظم من ذلك، ليس لـ ابن تيمية ولكن لتلميذ ابن تيمية النبيه، وارث علم ابن تيمية حقاً، وهو الإمام ابن القيم، مؤلف زاد المعاد في هدي خير العباد ألفَّه من حفظه وهو مسافر إلى الحج، وما معه كتاب، واعتذر في مقدمة الكتاب بأن الخاطر مشغول وهو على سفر كتب ابن القيم خمسة مجلدات عند استراحته ونزوله في الطريق. فكتب شيخ الإسلام ابن تيمية الفتوى الحموية الكبرى، فقامت قيامة الأشاعرة والماتريدية وكل مبتدع، وبدأت المحن من هنا، فناظرهم وانتصر عليهم، ولم يستطيعوا أن يأتوا بحرف يخالف مقال السلف: وكلٌ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك إذا كان الأشعري يقول: أنا سلفي والماتريدي يقول: أنا سلفي والجبري يقول: أنا سلفي حتى الشيعي، كل ينتمي للسلف القدامى، فكلهم يدعي وصلاً بليلى، لكن عند المحك يظهر المدعي. ألبوا عليه الأمير، فأمر العلماء أن يعقدوا مجلساً للوزراء، وجاء ممثل لكل مذهب من المذاهب الأربعة ممثل عن المذهب المالكي، وممثل عن المذهب الحنفي، وممثل عن المذهب الشافعي، وممثل عن المذهب الحنبلي، وبدءوا يناظرونه ويناظرهم، فانفض المجلس ولم يعثروا عليه حرفاً، إلا في بعض الألفاظ التي أطلقها، قالوا له: غيرها لكذا، ثم قال لهم بعد عدة مجالس: أنا أمهل كل من خالفني سنة أن يأتي بحرف عن أحد العلماء في القرون الثلاثة الأولى يخالف ما ذكرته، كان مدهش النقل! يقول الإمام الذهبي رحمه الله: له اليد الطولى في النقل، لدرجة أن الكل يتعجب من قوة استحضاره، حتى قال الإمام الذهبي -وهو العالم الكبير المشهور المحدث-: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث. إذا قال لك ابن تيمية: أنا لا أعلم هذا الحديث، فابك عليه، ولن تجد له أصلاً، مع أن ابن تيمية لا يصنفه العلماء محدثاً بل يصنفونه فقيهاً، وهو في الحديث في هذه المرتبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 البدعة وآثارها في محنة المسلمين [6] من علامات المبتدعة أنهم إذا استحسنوا شيئاً جعلوه ديناً لا ينبغي تركه أو معارضته، وقد أظهروا في العصور المتأخرة بدعة التعصب المذهبي، فحسنوها وزينوها بدعوى الحرص على الدين، لكنها أدت إلى تفرق المسلمين وتخطئة المخالفين، بل وسفك دمائهم، نسأل الله عز وجل الله العافية! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 شدة نفور الصحابة رضوان الله عليهم من البدع إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71] أما بعد: فقد كان إحساس الصحابة بالبدعة ونفورهم منها فوق كل تصور، وعندما نعرض بعض النماذج المبتدعة في زمن الصحابة نحن الآن نراها من المستحبات، وكانت عندهم من البدع؛ لأن الأمر كما قالت عائشة رضي الله عنها: يا ويح لبيد! كيف قال: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب فالذي عرف الرسول صلى الله عليه وسلم ورأى هذا النور، وعاش بعده الزمان الغدر يكون من أشد الناس غربة؛ لذلك فمحنة الصحابة في المعارك التي حدثت بينهم كانت شديدة، كان الواحد منهم مع أخيه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم إخوة متحابين، لا مشاكل بينهم على الإطلاق، ثم إذا بالزمان يدور، فالأخ الذي كان يصلي بجانب أخيه والقدم بالقدم والكتف بالكتف وربما كان يخرج اللقمة من فمه ليعطيها أخاه، فأصبح هذا يقاتل هذا وصارت حرب نفسية، من تكون أنت؟ وكانت عائشة نفسها تخوض بينهم، وهذا من أبلغ الأقوال وأعظمها حين قالت: يا ويح لبيد! -قاتله الله- كلمة تعجب كيف استطاع أن يقول: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب تتعجب عائشة من هذا الرجل، ومروان حدثه عروة فقال: يا ويح عائشة! لو عاشت زماننا قال هشام راوي الحديث عن أبيه عروة: يا ويح! عروة كيف لو عاش زماننا؟! ولا زال كل راوٍ يروي الحديث ويقول: يا ويح فلان كيف لو عاش زماننا؟! وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون سنوات خداعة، يخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، وينطق فيها الرويبضة، قالوا: من الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل الفاسق يتكلم في أمر العامة) كل هذا حدث. الناصحون كذبة الآن! إذا قلت له: هذا لا يجوز هذا حرام، لا يصدق، والأفَّاك الكذَّاب الذي نعلم من نفاقه الظاهر أنه منافق يعتبر ناصحاً، والذين يصدقونه يعلمون أنه منافق، وهذه مشكلة! سنون خداعة! فالبدعة من أكثر ما يواجه المسلمين وأخطرها، ومما يدل على خطورة البدعة أنه يفعلها الغبي ويظن أنها سنة، وهي كما قال القائل: احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة لا يضرك إلا الذي أعطيته بطنك وكرشك، ولو غضب عليك أصبحت مفضوحاً، ومن المعلوم أن عدوك أنت محتاط منه دائماً، أما صديقك فلربما انقلب وهو عالم بالمضرة، فالمبتدع يلدغ في لباس الدين. فمنظر المبتدع ما غر الصحابة الأوائل؛ لأنهم كانوا فقهاء، والمبتدع اليوم تراه يخرج ماله، وعنده بر وسخاء ليدافع عن البدعة، فعندما تقول لأبنائك احذروا هذا الرجل، يقوم أحدهم فيقول: لا هذا قائم ومتدين ومصلٍ ومتصدق بماله لماذا تنتقده اتق الله؟ ماذا تريدون أكثر من هذا؟ هذا عابد زاهد! هذا ما كان يغر الصحابة الأوائل؛ لأنهم تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم العلم تلقي الرجل الواعي. استدار الزمان فكان أول من قال بالبدعة في القدر -وهي بدعة قبيحة جداً، والحمد لله الآن انقرضت هذه البدعة من المسلمين- معبد الجهني كان يقول: إن الأمر أُنف، وإن الله لا يعلم بالحدث إلا بعد وقوعه. هذا ملخص بدعته، أن علم الله ليس متقدماً على أفعال العباد، فإن الله عز وجل يكافئ بالفعل، فإذا عصاه شخص لا يعلم أنه سيعصيه إلا بعد وقوع الفعل من الفاعل، هذا هو معنى: الأمر أُنف. معبد قرأ القرآن وتعلم العلم، أي: نزل إلى قعره، وكان زاهداً عابداً. يقول يحيى بن يعمر: خرجت أنا حميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين -وكان من أهل البصرة، ومعبد الجهني كان بصرياً، وهذه البدعة خرجت من البصرة، في آخر زمن الصحابة- قال: (فخرجنا حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول معبد في القدر؟ قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفناه، قلت: أبا عبد الرحمن -وهذه كنية عبد الله بن عمر - إنه ظهر في زماننا أناس قرءوا القرآن ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم ما ذكر وأنهم يقولون: لا قدر وأن الأمر أُنف، فقال عبد الله بن عمر: إذا لقيتهم فأخبرهم أنني منهم براء، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر، لو أن أحدهم جاء بأُحد ذهباً ما قبل الله منه إلا أن يؤمن بالقدر) . ثم استأنف وساق حديث الإيمان والإحسان والإسلام. هذا عبد الله بن عمر الفقيه لا يضره أن يقال: زاهد عابد تقي ورع ليس لهذا علاقة، هذا شيء واتباع النبي صلى الله عليه وسلم شيء آخر، عبد الله بن عمر تلقى هذا من النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 علامات المبتدعة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 المبتدعة من أكثر الناس عبادة لما جاء ذو الخويصرة والرسول عليه الصلاة والسلام يقسم غنائم حنين، قال: (يا محمد! اعدل، فإنك لم تعدل -فهذه الكلمة هزت الصحابة هزاً فوالله إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال عليه الصلاة والسلام: ويلك! فمن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟!! وقال له: خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل) . هكذا في الحديث المشهور، وفي ضبط آخر: (خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل) وهذا الضبط واضح، أي: إن لم أعدل خبت وخسرت، و (خبتَ) أي: أنت، (وخسرتَ) إذا لم أعدل أنا. إذاً: ما علاقته بالرجل؟ قال العلماء: لأنه إذا ظن أن نبيه لا يعدل فقد خاب وخسر بسوء ظنه في النبي صلى الله عليه وسلم، وأن سوء الظن بالنبي كفر، فهو خاب وخسر إذ ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعدل فقد خاب وخسر. فقالوا: (يا رسول الله! أفلا نقتله؟ فقال: دعوه، إنه يخرج من ضئضئ هذا -أي: من صلبه- أقوام، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) والرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام لـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد والعشرة المبشرين وغيرهم. يا أبا بكر! مع أنك من أعدل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، سيأتي عليك زمان تحتقر صلاتك بجانب هذا المبتدع، إذا كان أبو بكر يتصدق بماله كله فكيف ينفق المبتدع؟!! إذا كان أبو بكر يقرأ القرآن وهو يبكي حتى لا يتبين الناس قراءته من البكاء، فماذا يفعل المبتدع؟!! لكن الحال لمثل هؤلاء العباد أنه يصلي ويصوم وهو مبتدع، ويخرج من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ليته يخرج مشياً على قدمه، لكن يخرج بسرعة السهم إذا خرج من كبد القوس. لا تنفعه صلاته ولا صيامه ولا صدقته تلك إذ جاء بالشبهة، لأنه أصبح من أسرع الناس خروجاً من دينه، إذاً: كثرة العبادة ليس لها علاقة بالاستقامة على الهدى والدين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 المبتدعة يعتقدون البدع دينا ً المبتدع يعتقد أن البدعة دين؛ لذلك فنحن نحجر على الطرق الصوفية بكل قوة، فهي ضاربة في ظهور المسلمين منذ ظهرت الدولة الفاطمية،. إنهم يتكئون على هؤلاء المخرفين في تحقيق مآربهم بالشبه التي لا يعتمد عليها إطلاقاً، دعوه يتكلم، إن المجلة هذه تستمر، وهي تحرِّف عقائد المسلمين، وتستهدف الأخيار الأبرار من المسلمين بقصد الطعن في ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب، شيخ الإسلام الذي قال للعلماء عندما ناظروه أمام السلطان قال: من لكم في وقت الشدة غيري؟ وقال: أنبئوني من يقول هذا الكلام، مجرد أنه قال هذا مدحاً لنفسه لا مانع أن يذكر من محاسنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي) وكان يقول ويقول، وقوله الحق، فقد يضطر الإنسان أن يقول لمن فعله أمام موجات التضليل للجماهير. الخيرة الأبرار على صفحات الصحف والمجلات، هذا من المحيط بنا مع شدة إنكاره، حتى وإن لم يستجب هذا الإنسان لا بد من إنكاره معذرة إلى الله تبارك وتعالى، لذلك نقاوم كل بدعة، ونحاول أن نرسخ هذا الشعور عند المسلمين، أن البدع تفعل أمامه ولا يشعرون بمصابهم في فقد السنن الحقيقية، كيف يعرف أن هذه بدعة وهو جاهل بالسنة؟!! لذلك لا بد من تعليم الناس خير الهدي، وهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تنفيرهم من البدع. البدعة قرينة الكفر وهي البوابة للخروج من الإسلام. الجهم بن صفوان ما خرج من الدين إلا ببدعة، والجعد بن درهم ما خرج من الدين إلا ببدعة، وذو الخويصرة ما خرج من الدين إلا ببدعة. فالمطلوب تعليم الناس السنة والصبر على تعليمهم، فتعليمهم السنن من أعظم القربات إلى الله، أعظم من صلاة النافلة، وأعظم من قيام الليل وصيام النهار والتصدق بكل المال. لذلك صبر الإمام أحمد بن حنبل على مر الجلد وظل سنتين والأغلال في رجله، فها هو يذكر أكثر مما يذكر آباؤنا وأمهاتنا، نترحم ونترضى عليه أكثر من آبائنا وأمهاتنا، جعله الله لسان الصدق: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] . لذلك الإنسان عندما يتعرض للإرهاق والتعذيب والإهانة يرتفع قدره. الإمام مالك يضرب ثلاثمائة جلدة حتى خلعت كتفه؛ لأنه أبى أن يفتي بإيقاع طلاق المكره، خلافاً لـ أبي جعفر المنصور والي المدينة والذي كان يقول: إن طلاق المكره يقع، وكان الجلاد يجلد مالك حتى تنخلع كتفه، وهو صابر ولا يبدِّل ولا يداهن. وكذلك في شأن الإمام أحمد، قال علي بن المديني رحمه الله: وقى الله الأمة من الكفر مرتين: بـ أبي بكر يوم الردة، وبـ أحمد بن حنبل يوم الفتنة. ولذلك الإمام أحمد لقبوه بالصديق الثاني، فالصديق الأول هو أبو بكر، والصديق الثاني هو أحمد بن حنبل؛ لأنه ثبت في محنة يشيب لها رأس الولدان. أمير المؤمنين نفسه المعتصم يقول له: (يا أحمد! قلها، يا أحمد! أريد أن أرحمك، فقال: يا أمير المؤمنين! أعطني سنداً من كتاب الله أو من سنة رسول الله أقول به) . ويدخل عليه عمه، فيقول: (قلها يا أحمد! قلها يا أحمد! كما قالها غيرك، قلها تقية، انج بنفسك، فيقول: يا عم! عرضت نفسي على السوط وعلى النار، فوجدتني لا أتحمل النار) . عالم أمين على عقائد الخلق، لا بد أن يشعر بها ويتحمل الأذى في سبيلها، ولولا أن العلماء صبروا ما وصلك دين، فلا تتصور أن ما وصل إليك من الدين وصل بسهولة، والله ما وصلك إلا على دماء أناس وأشلائهم وشردوا من ديارهم، وإن لم نقم به كما قاموا فسيبدل الله خيراً منا يبلغون كلمة الله، والذي ينحاز إلى جنب الله يحفظه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 الوقوف أمام البدع واجب ضروري لنكن صفاً واحداً في وجه البدع، فالدعوة أمر واجب، والوقوف في مواجهة المبتدعين في هذا البلد وفي غيره أولى من الوقوف في وجه اليهود، فهؤلاء اليهود أنت تعرفهم، وهؤلاء المبتدعة يقولون: قال الله وقال رسوله ويلبسون على الخلق، فهم أخطر على البلد من اليهود، والصوفية يعتقدون شيئاً خطيراً يقولون: لا فائدة من العمل، وقد تبين مقعده من الجنة ومقعده من النار. إذاً: نحن لا قيمة لأعمالنا، وقد جاء في الحديث الصحيح: (أن الله لما خلق آدم مسح على ظهره؛ فأخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، قال: هؤلاء إلى الجنة برحمتي، وهؤلاء إلى النار بعدلي) يقولون: إن الله قبض القبضة وقضى هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار انتهى الأمر وأراني من أهل السعادة، ويقولون: الآن لا فائدة من العمل. يجلسون يشربون الحشيش ويسمرون عليها ويرقصون طوال الليل، أحد أهل البدع قال: -وحدثنا عنهم شخص منهم- يقول: من قال: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين غفرت ذنوبه، وإن ترك الصلاة، حتى تبعه أناس كثيرون، فهذا الرجل يريد أن يدخل الجنة بالمجان، وهو جالس لا يتصدق ولا يقوم الليل، لماذا لا تصلي؟ سوف يدخل الجنة، هذه الدعوة قابلت نفوساً خبيثة فاستقرت على الخبث. يا جماعة! الرجل أراد الولد ولم يتزوج، يقول هو: سوف نخلف أبناءً هكذا، قالوا: هو لم يكن يتصور أن يأتي إلا بامرأة؟ لا، لو أن الله تعالى قدر له الولد سيعطيه الولد من غير امرأة، هي نفس دعوى: لو أن الله سبحانه وتعالى قدر عليه دخول الجنة سوف يدخلها بلا عمل، فلماذا يأكل إذاً؟ لو أن ربنا كتب له الحياة فإنه سوف يعيش من غير أكل! هل سوف يعيش؟ لماذا يأكل إذن؟ هذه هي الصورة نفسها. قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي بن أبي طالب والحديث في الصحيحين: (ما من نفس منفوسة إلا كتب مقعدها من الجنة ومقعدها من النار) قال رجل في بعض الروايات عن سراقة بن مالك: (قالوا: أفنترك العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، ثم تلا هذه الآيات -: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] ) . التيسير لليسرى للمسلم إعطاء وتقوى وعمل، وهذا سبب يبذل، (فأما من أعطى واتقى) اسمع الكلام. فكل شيء يؤدي إلى الجنة لا بد له من عمل، والصحابة فهموا ذلك كما قال سراقة بن مالك بعدما سمع الكلام من الرسول صلى الله عليه وسلم: (فلا أجدني أشد عملاً مني الآن) الآن الجماهير عندما تسمع هذه الآيات تركن، لماذا خالفوا الصحابة؟ لأنهم لا يحفظون كتاب الله. والإيمان بالقضاء والقدر لا بد أن يكون مجملاً، والتفصيل فيه يضل العبد على طول؛ لأن حكمة الله لا تستطيع أن تصل إلى فهمها، ولا تعرف لماذا أشقى الله العلماء وعذبهم وأراح الأشقياء الكفرة؟ الذي يدل على الله أولى الناس بالسعادة، وأولى الناس بأن تكون الدنيا تحت قدمه. فما باله شقى. ومن الدليل على القضاء وحكمه بئوس التقي وخدعة الأحمق هذا من الدليل على القضاء، حار اللبيب في القضاء والقدر، لذلك لا يكون القضاء والقدر إلا مجملاً، إياك أن تفصل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ذكر القدر فأمسكوا) لأنك لا تستطيع أن تصل إلى حل. فهؤلاء الذين يعترضون على الله يقولون: إذا كان الله كتب عليَّ المعصية فلماذا يعذبني؟ ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن الله ظالم! ويجري هذا الفكر على ألسنة الجماهير، بسبب واحد خبيث لا يعمل ولا يعبد الله ومنحرف عن السنن، يقاوم أهل السنة في بلده، ويرى نفسه آمناً مطمئناً إطلاقاً لا يتصور أنه ممكن يقبض عليه أبداً. لا بد من مقاومة البدع، وأن نعلم الناس السنن؛ حتى يقفوا في وجه المبتدعة، إننا خربنا كثيراً جداً في ديننا، الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقاومون البدعة ولو كانت أدق من سن الإبرة بكل علم، وهناك أحاديث كثيرة تدل على ذلك، مثل قصة عبد الله بن مسعود عندما أنكر على الذين يسبحون بالحصى وغيرها. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 للمبتدعة اليد الطولى في ابتلاء العلماء والدعاة الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. روى الدارمي في سننه بسند صحيح: عن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه قال: (كنا جلوساً بباب عبد الله بن مسعود بعد صلاة الغداة -بعد طلوع الفجر-، فبينما نحن جلوس إذ جاء أبو موسى الأشعري، فقال: أخرج أبو عبد الرحمن قلنا: لا. ثم قعد، حتى خرج ابن مسعود فلما خرج اكتتفناه. فقال أبو موسى: أبا عبد الرحمن! لقد رأيت في المسجد شيئاً أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: ماذا رأيت؟ قال: إن عشت فستراه، رأيت قوماً حلقاً حلقاً، يقول واحد منهم: سبحوا مائة، فيأخذون مائة حصاة، ثم يقولون: هللوا مائة، فيهللون مائة، ثم يقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، فقال عبد الله بن مسعود: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وأنا ضامن لهم، ثم رجع إلى بيته فتلثم ودخل عليهم، فإذا به كما قال أبو موسى الأشعري، يراهم حلقاً. فقال: لقد سبقتم أصحاب محمد علماً، فكشف عن وجهه وقال: أنا عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تفعلون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! نسبِّح، قال: تفعلون شيئاً ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! والله ما نريد إلا الخير، قال: كم من مريد للخير لا يبلغه، إن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا: (أن أناساً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) وأيم الله! لعل أكثركم منهم، فوالله إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة؟! قال راوي الحديث: فلقد رأيت عامة هؤلاء يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج، كانوا يقاتلون علي بن أبي طالب والصحابة، هؤلاء الذين يذكرون الله الآن على المسبحة، إنها كانت في رأي عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري بدعة، -يعني: ضلالة- ونحن نراها مستحبة. انظر إلى هذا التباين! هؤلاء الصحابة الذين عاينوا الوحي، ونزل عليهم، وسمعوا بلسان النبي صلى الله عليه وسلم الدين، يرونه بدعة، وبيننا وبينهم ألف وأربعمائة عام ونراها سنة وقربة، كان الصحابة يدورون بين السنة والبدعة، ونحن ندور بين بدعة وردة، لا نقيس أنفسنا بأهل المعاصي، ونحن أمرنا أن نقيس أنفسنا بأهل التقوى. هذه المحنة التي عانى المسلمون منها، فأنا أطالبكم أن تقرءوا سير العلماء العاملين الذين كان لهم لسان صدق في هذه الأمة، ترى عناوين في ترجمة: اسمه كنيته أبوه أمه طلبه للعلم شيوخه تلاميذه تقواه ورعه محنته. ويجب أن ترى هذا العنوان (محنته) لأن كل عالم امتحن وابتلي، نظرت في أغلب تراجم العلماء فوجدت أن سبب امتحانهم هم المبتدعة، حاربوا علماء السنة، والبدعة لها أثر في تفتيت لحم المسلمين على مر الأعصار، وهل التتار قتلوا مليون وثمانمائة ألف مسلم في بغداد إلا بسبب البدعة؟ من الذي أدخل هولاكو بغداد؟ أليس ابن العلقمي الرافضي؟ والرافضي هو الشيعي الغالي -الذين هم في إيران الآن- أسأل الله عز وجل أن يقطع علاقتنا بهذا البلد إلى يوم يبعثون، يريدون أن يدخلوا المراكز الشيعية في البلد، هذا حصل في السودان ويريدون أن يدعوا هنا، إنهم يكفروننا والخميني يفتي بكفر أهل السنة والجماعة، وهذا موجود في كتبهم. وابن العلقمي الرافضي هو الذي كاتب هولاكو، وهو الذي يفتل الحبل على الغارب لخليفة المسلمين ويهدده ويتوعده، وقال له: إن هولاكو لا يريد احتلال بغداد، إنما يريد أن يدخل السوق، وجعله يترك الحبل على الغارب حتى لان الخليفة، ولم يستعد الاستعداد الكامل، ثم ماذا فعل ابن العلقمي؟ له زوجة وأولاد عمه وأولاد خاله، وكل رجل له شوكة في البلد قتلهم وذهبوا جميعاً، ما ترك منهم أحداً، حتى ضمن أنه ليس في بغداد رجل له شوكة دخل وقتلهم جميعاً، وما استفاد ابن العلقمي شيئاً، ما أخذ وزارة ولا منصباً، وبعد المصيبة بثلاثة أشهر كل الذي ضمنه أنه لم يقتل في جملة من قتل، مليون وثمانمائة ألف ذهبوا بسبب مبتدع رافضي يكره السنة. نحن أشد كراهية لهؤلاء من اليهود -وأنا والله لست مبالغاً- هذه كتبهم وهذا كلامهم، يكفرون أهل السنة، فمن أراد أن يعرف فليقرأ الكتب فهي موجودة ومطبوعة، أهل البدعة ماذا فعلوا بالمسلمين في بغداد؟!! ونحن نؤذى بسبب المبتدعة أيضاً الذين يتهموننا بالإرهاب والتطرف والتشدد، من الذي يتهمنا بذلك؟! هم المبتدعة أنفسهم، يقولون: هؤلاء لا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان فهم يكرهون النبي، ويقيمون علينا الدنيا، الإرهابيون هذا اللقب منهم هم، نحن بحاجة إلى قراءة التاريخ مرة أخرى، وبحاجة أن ننظر إلى ديننا نظرة متأنية كلقمة العيش تماماً، لماذا لا نهتم بالدين مثلما نهتم بلقمة العيش، إن هذا الدين ليس دين أحد، إن اليهود عددهم خمسة عشر مليون يهودي في العالم كله يملكون التكنولوجيا والتجارة والزراعة وكل شيء، إذا ثار واحد منهم ثارت له كل الأرض: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء:6] هذه هي دولتهم، إذا غضبوا غضبت لهم كل ملوك الأرض، ومعهم مقاليد الدنيا كلها الآن، إنهم يتحركون للعقيدة، لما جاء وزيرهم هنا للعزاء وأصر أن يمشي إلى المنصة ما كلفه شيئاً وكلفنا إجراءات أمن باهضة، وتم إخلاء المباني كلها عمارات عشرات الأدوار ويمشي تحت العمارات لأن التوراة تحرم عليه الركوب يوم السبت ويلبس النظارة السوداء ويمشي؛ لأنه لا يخالف تعاليم التوراة، ولا يصفه أحد لا في صحفنا ولا في صحف غيرنا بالتطرف والإرهاب، لماذا يوصف المسلمون بالتطرف؟!! إن المسلمين يقتلون في البوسنة وهم المتطرفون أيضاً، هذا لقب يراد به المسلمون في العالم فقط لماذا نحن متطرفون؟!! اليهود الذين قتلوا ثلاثمائة شخص في المسجد الأقصى بماذا يوصفون؟ يهودي رجل متنكر، ارتكب مذبحة الأقصى منذ أربع سنين في المسجد الأقصى أخذوه على الأعناق إلى السجن وما وصفه أحد بالتطرف. إن القضية خطيرة، وإننا بحاجة في أن ننظر في أحوالنا نظرة تمعن بحاجة أن نجدد الولاء لديننا، ولا بد أن نقف في وجه المبتدعة وقفة قوية. إن البدعة في منتهى الخطورة على الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لفظها باللفظ الكلي الواضح الذي ما دخله تخصيص قط (كل بدعة ضلالة) وهذه الجملة من أفضل الجمل فلفظة (كل) تفيد الشمول والعموم، والتي ليس لها مخصص وليس فيها زجر، فهي جملة كلية مثبتة، لنأخذ بها للدلالة: (كل بدعة ضلالة) . وهذا القول كقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر) فكما أنه لم يدخل على كل مسكر خمر أي تخصيص، فكذلك ما دخل على (كل بدعة ضلالة) أي تخصيص. إذا كان أحدنا قرأ في كتب العلماء أن البدعة خمسة أقسام، منها: بدعة حسنة فهذا خطأ، حتى وإن قاله عالم جليل كبير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الحاكم على كل من يتكلم، الذي يقول: هناك بدعة حسنة، كأنما يقول: لا يا رسول الله! ليس كل بدعة ضلالة، بدليل وجود البدعة الحسنة، هذا معنى الكلام، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم أولى عندنا بالقبول من كلام أي إنسان مهما كان جليلاً. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 خطر بدعة التعصب المذهبي إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن جهاد المبتدعة والذب عن حياض الدين أفضل عند الله عز وجل من جهاد الكفار. فالبدعة لها الأثر الكبير في ترسيخ معنى التعصب عند الناس، وهذا هو الذي يحز في النفس أن محنة جميع علماء المسلمين كانت بسبب المبتدعة. إنها بدعة التعصب المذهبي، فكل واحد يقول: أنا مذهبي حنفي وأنا مذهبي شافعي وأنا مذهبي حنبلي وأنا مذهبي مالكي هذه البدعة كاد العوام أن يقتلوا إماماً جليلاً شهيراً بسببها، وهو الإمام ابن جرير الطبري صاحب التفسير، الذي قال فيه بعض العلماء: لو رحل رجل إلى الصين ماشياً ليحصل على تفسير ابن جرير لكان كثيراً، فسر فيه كلام الله عز وجل بحدثنا وأخبرنا وأبان عن وجوه القراءات الصحيحة ووجوه القراءات المختلفة، وخدم كتاب الله العزيز خدمة نسأل الله عز وجل أن ينير قبره بها. وما من رجل جاء بعده فصنف في التفسير إلا مشى على منواله، له مذهب فقهي مثل الشافعي وأحمد اسمه: المذهب الجريري لكنه اندثر؛ لأن أصحابه لم يقوموا بتأسيس مذهبه وتهذيبه كما قام أصحاب الأئمة الأربعة، هذا الإمام الكبير العلم صنف كتاباً جليلاً وإن كان صغيراً، مع أن المصنفات تقاس بالكيف لا بالكم، الكتاب كان كذلك، ذكر فيه اختلاف الفقهاء أبي حنيفة ومالك والشافعي، وكانت بغداد آنذاك هي حاضرة الحنابلة، وكل الموجودين في بغداد حنابلة، فبينما هو يملي على أصحابه في المسجد الكبير في بغداد، إذ قال له رجل: لماذا لم تذكر أحمد من جملة الفقهاء؟ فقال له: وأحمد فقيه؟ فما أنهى هذه الكلمة حتى قاموا عليه بالحجارة جميعاً، فخرج الرجل هارباً إلى باب داره ونادى بإغلاق الباب وراءه، لكنهم ظلوا يرجمون الباب بالحجارة حتى ردموه، هذا الرجل الذي رمى ابن جرير بحجر هل يعرف شيئاً عن المذهب الحنبلي؟ لا يعرف شيئاً عن المذهب الحنبلي، أبوه كان حنبلياً، وجده كان حنبلياً، وهو تربى حنبلياً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 التعصب للمذهب دون معرفته لدى العامة أغلب الجماهير الآن التي تتمذهب بمذهب معين لا تعرف شيئاً حتى عن صاحب المذهب، فبعض الناس يتصور أن الإمام مالك بن أنس، لأجل أن اسمه مالك بن أنس، هل سيكون في الدنيا أحد اسمه: مالك بن أنس؟ إذا هو أبوه، فيقول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنهما! لا يعرف إمام المذهب ولا أبوه من هو؟ قابلت مجموعة من أصحاب المذهب المالكي، وقام أحدهم معترضاً عليَّ بقوله: إن الكلام هذا الذي نسمعه إن هذا حديث ضعيف وهذا حديث صحيح لا نعرفه، لأن المشهور أن المتأخرين خلطوا المذهب بخلاف المتقدمين، فإنهم كانوا يعرفون الحديث الصحيح من الحديث ضعيف، الحديث هو: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) هذا الحديث ضعيف فهو منكر من جهة معناه، قام وقال لي: كيف تقول هذا الكلام؟ هو يعرف ابن عبد البر، الذي إذا ذكر المذهب المالكي فهو شمس في رابعة النهار، لقد خدم المذهب المالكي وموطأ مالك خدمة جليلة ما فعلها قبله أحد ولا بعده، صنف كتابين من أكمل الكتب وأطولها على موطأ مالك: الأول التمهيد، والثاني الاستذكار، وتخيل لو بقي ككتب الإمام ابن عبد البر التي يخدم فيها المذهب المالكي، فواحد متخصص في الفقه المالكي ويظل في الفقه المالكي وهو الإمام ابن عبد البر، ومحسوب على المذهب المالكي، ثم جاء بعده القاضي عبد الوهاب أشهر العلماء المحققين؟ بعد ابن عبد البر وهو الذي تصدى لـ أبي العلاء المعري صاحب المقالة الكافرة: يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار وابن حزم رحمه الله قد اعترف لـ ابن عبد البر بالفضل وهم كلهم كانوا أقراناً، أي: كانوا أصحاباً، وكل منهم يعيش في الأندلس، قال ابن حزم في مدح كتاب التمهيد: كتاب التمهيد لصاحبه أبي عمر يوسف بن عبد البر لا أعرف في فقه الحديث مثله فضلاً عن أحسن منه، أي: أنه أعظم محققي المذهب المالكي. واليوم كثير جداً من المتظاهرين للمذهب لا يعرف شيئاً عن المذهب؟ متعصب أنت لماذا؟ لماذا نجلّ الإمام ابن جرير الطبري؛ لأنه قال كلمة هو يفهمها ابن جرير ما قصد أن يجني على الإمام أحمد، كيف وأحمد الإمام العالم العلم الذي لا يختلف اثنان أن فقهه من أجود الفقه، تجدهم وآباؤهم مقلدين على مذهب أحمد، مع أن أسمى المذاهب الفقهية هو المذهب الشافعي، لكن ألزم المذاهب للسنة هو المذهب الحنبلي، فالإمام ابن جرير لما قال: وأحمد فقيه، أراد أن يقول: إن الإمام أحمد ليس فقيهاً صرفاً، بل غلب عليه الحديث، هذا هو الذي قصده الإمام ابن جرير، ولذلك فقه صنف اختلاف الفقهاء الذين هم فقهاء، أما الإمام أحمد فهو أعلم الأئمة جميعاً بالسنة، ومسنده الشهير الذي يحوي أكثر من (27. 000) حديث شاهد بذلك، وحسبك أن الإمام الشافعي لما دخل بغداد، ولقي أحمد، فانبهر به، قال: أحمد إمام في: الحديث والفقه والورع وأخذ يعد، قال لـ أحمد: يا أحمد! نحن أعلم بالفقه منكم، وأنتم أعلم بالحديث منا، لو قلت قولاً يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم فأعلمني أرجع عنه، مع أن الإمام الشافعي أستاذ الإمام أحمد إنما الأثرة أن الأستاذ يرى التلميذ طول عمره تلميذاً فليس عيباً أن يرجع إلى قول تلميذه إذا كان الحق معه، إذا قال التلميذ قولاً يخالف أستاذه الإمام الجليل، الشافعي يقول: أنت أعلم بالحديث منا. وللعلم فإن الإمام أحمد لم يصنف كتاباً فقهياً لأنه كان لا يرى تصنيف الكتب، لأنه يقول: إنها تصده عن الحديث، عكف المتأخرون على كتب المختصر، كل واحد يقرأ في مختصر في المتن ثم في شرح المختصر ثم شرح شرح المختصر حتى غلب الجنون على المتأخرين إلا في الفقه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في جهاده للمبتدعة الصوفية الذين يضحكون على الناس: ندخل أنا وأنتم هذه النار، بشرط أن نغسل أجسامنا بماء الخل، فإنهم يدهنون أجسامهم بدهن الضفادع وبحجر الطلق وذكر أشياء هم يفعلونها، قال: ثم ندخل النار، فمن احترق فعليه لعنة الله، وجعل يشد على الرجل ويقول له: قم -والرجل جالس في الأرض- وهو يشده، ويقول: قم بنا ندخل النار، فمن احترق فعليه لعنة الله، والسلطان متعجب من جرأة شيخ الإسلام والرجل الصوفي ارتعد والحق أبلج والباطل لجلج لا يثبت على شيء، فأبهر السلطان هذا الفعل، ورفع منار دعوة شيخ الإسلام رحمه الله. فلما سئل شيخ الإسلام بعد ذلك عن دخول النار، وأنه لا يجوز لعبد أن يدخل النار مختاراً، وكيف لو قام الرجل ودخلها، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: كنت أعلم أنني لو دخلتها لوجدتها كنار إبراهيم؛ لشدة صلته بالله، وقوة الرجاء به، وصدق اليقين يحرك الحجر. وما قصة جريج عنكم ببعيد! خرج من بين قوم يعصون الله وبنى لنفسه صومعة خارج البلد يتعبد فيها، وقد انقطع عن الناس، ولم يجعل للصومعة سلماً حتى لا يصعد إليه أحد، وكيف كان يصعد؟ بحبل، إذا أراد أن ينزل أنزل بالحبل وتركه، حتى يقضي حاجته ثم يتسلق الحبل ثم يرفعه؛ حتى لا يخالط أحداً، فكانت أمه كل عدة أيام تذهب إليه لتراه، فجاءته يوماً وهو يصلي، فجعلت تقول: يا جريج! أجبني -ووضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على حاجبه يمثل أم جريج! عند دعائها لولدها- وجريج يصلي فسمع دعاء أمه، فقال في نفسه: رب! أمي أو صلاتي! أمي وصلاتي! يعني: أجيب أمي أم أكمل صلاتي؟ فاختار صلاته على دعوة أمه، ورجعت الأم مشتاقة لولدها لم تره، وفي اليوم الثاني: جاءت تنادي: يا جريج! أجبني، قال: رب أمي وصلاتي! ففضل صلاته على دعوة أمه، وفي اليوم الثالث جاءت أيضاً: يا جريج! أجبني، فسمعها وهو يصلي فقال: رب أمي أو صلاتي! فاختار صلاته، فدعت عليه: أن لا يموت حتى يرى وجوه المومسات، فرَّ من فتنة النساء، فدعت عليه أن لا يموت حتى يرى وجوه اللواتي فرَّ منهن، وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه. تحدث الناس عن عبادة جريج ما أعجبه! كيف يصبر وينقطع عن الناس؟! وكيف له الصبر وهو يتعبد كل هذه العبادة؟ فقالت امرأة بغي: إن شئتم لأفتننه لكم، قالوا: نعم قد شئنا، فذهبت المرأة وتعرضت لـ جريج فلم يلتفت إليها، فمكنت نفسها من راعي غنم كان يأوي إلى ظل الصومعة بغنمه، فحملت المرأة، وظلت تنشر في الناس أنها حامل من جريج، ادعت عليه، قالت: فتنته لكم، وهذا الولد منه، فلما ولدت المرأة -وهنا كعادة اليهود- أخذتهم الغيرة على الشرع والدين، كل واحد أخذ الفأس وذهبوا إلى جريج وهم الذين قالوا لها: افتنيه، كان جريج يصلي، وإذا به يسمع أصوات تكسير، فقطع صلاته ونظر فإذا بهم يكسرون صومعته، سوف يهدوها عليه، قال: ما الخطب؟ قالوا: انزل يا فاجر! انزل يا زانٍ! أحببت المرأة، كنا نظنك أعبدنا وأطوعنا، فتدلى بالحبل ونزل، فأوقعوه ركلاً وضرباً وينادون: يا فاجر! يا داعر! نسأل الله تبارك وتعالى أن يستر علينا يوم القيامة! فإن منا من يظهر النسك ويوم القيامة يكون فاجراً يتفرج عليه العباد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالعالم يوم القيامة، فيقذف في النار، فيدور حول أمعائه، فتندلق أقتابه من دبره، فيدور حولها كما يدور الحمار في الرحا، فيقول أهل النار: يا فلان! أولم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) . النساء تتفرج على جريج، ومن اللواتي وقفن على قارعة الطريق المومسات، فلما رآهن جريج -وقد كتفوه من ورائه- تبسم فاندهش الناس من تبسمه، هذا وقت إرهاق واضطراب، فقالوا له: مم تضحك؟ قال: أدركتني دعوة أمي (أن لا يموت حتى يرى وجوه المومسات) . وورد في بعض طرق الحديث: أن المرأة الزانية هي بنت الملك، فتركها وأراد أن يقيم على الزاني بزعمهم الحد، هلا أقمت الحد على المرأة أيضاً. ويحك يا جريج! كنا نظنك أعبدنا! أأحبلت المرأة؟ قال: دعوني أصلي ركعتين لله، فصلى ركعتين ثم قال: أين الغلام؟ جيء بالغلام الرضيع ابن يومين أو ثلاثة، فأخذه ونخسه في جنبه بإصبعه، وقال: من أبوك يا غلام؟ فقال الغلام: الراعي، ونطق وهو ابن يومين أو ثلاثة. هل جرت العادة أن ينطق ابن يومين أو ثلاثة من لدن آدم عليه السلام إلى زمان جريج؟ ما جرت العادة بذلك، لكن الصدق والإيمان بالله أنطق الغلام، وليس الذي عاين كالذي سمعا. لذلك يقول شيخ الإسلام: كنت أعلم أنني لو دخلتها لوجدتها كنار إبراهيم، لقوة يقينه بالله تبارك وتعالى، فلو جاء رجل على اسطوانة نار ونخسها وقال: كيف فعلت؟ لربما يتهمونه في عقله، لكن الصدق والإيمان بالله قد ينطق له هذه الأسطوانة، كما حرك الإخلاص الحجر الذي سد على أصحاب الغار الباب: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] . أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9