الكتاب: قصة موسى والخضر المؤلف: أبو إسحاق الحويني الأثري حجازي محمد شريف مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 8 دروس] ---------- قصة موسى والخضر أبو إسحق الحويني الكتاب: قصة موسى والخضر المؤلف: أبو إسحاق الحويني الأثري حجازي محمد شريف مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 8 دروس] قصة موسى والخضر [1] النفس مجبولة على التأسي بغيرها، والاعتبار بما يحدث لمن حولها ولذلك فقد اعتنى القرآن الكريم بالقصص عناية كبيرة، فقد قص علينا قصصاً كثيرة لنأخذ منها العظة والعبرة، ومن القصص العظيمة التي قصها لنا القرآن، قصة موسى والخضر عليهما السلام، ففيها عظات وعبر لا يستغني عن تدبرها المؤمن خلال سيره إلى الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 قصة موسى والخضر إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. هذا هو الدرس الأول من الدروس المستفادة من قصة موسى والخضر عليهما السلام. روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث سعيد بن جبير رحمه الله، قال: قيل لـ ابن عباس رضي الله عنهما: إن نوفل المثالي يزعم أن موسى الذي صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثني أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خطب موسى في بني إسرائيل يوماً حتى ذرفت العيون ووجلت القلوب، فلما انصرف تبعه رجل، فقال: يا نبي الله! هل هناك أعلم منك في الأرض؟ قال: لا. فعتب الله عز وجل عليه إذ لم يرجع العلم إليه، قال: بلى، إن لي عبداً في مجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: أي رب! وكيف لي به؟ قال: خذ حوتاً واجعله في مشكل) وفي رواية: (قال: خذ نوناً ميتاً -والنون: هو الحوت، وإليه نسب يونس عليه السلام ((وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا)) [الأنبياء:87] ، فالنون هو الحوت، وكل سكان البحر يعد من الحيتان، فالسمك اسمه حوت، قال ابن عباس: اشتهيت حيتاناً، أي: أسماكاً- قال: خذ نوناً ميتاً واجعله في مشكل، فحيث فقدته فهو ثم -أي حيث فقدت هذا الحوت فالخضر هناك، فانطلقا، حتى إذا كانا ببقعة من الأرض قال موسى لفتاه: لا أكلفك كثيراً، أيقضني إذا رد الله الحياة في الحوت، قال: ما كلفت كثيراً، ثم إن الحوت ارتدت إليه الحياة وقفز في البحر، فأمسك الله عليه الماء وحبسه فلم يستطع أن يذهب. فلما استيقظ موسى عليه السلام نسي غلامه أن يخبره أن الحوت قفز في الماء، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، فلما كانا من الغد قال موسى لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62] ، تذكر الفتى أن الحوت المشوي الذي كانا سيتغديان به قفز في الماء، قال: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63] {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64] رجعا يقصان الآثار مرة أخرى. فلما ذهبا إلى هناك وجدا عبداً مسجى ببردة خضراء تحت قدميه وتحت رأسه، كالذي يلتحف بلحاف فيجعله تحت رأسه وتحت قدميه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه، وقال: وهل بأرضي سلام؟ من أنت؟ قال: أنا موسى. قال: أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. -هذا هو السؤال الذي من أجله قال ابن عباس: كذب عدو الله؛ لأن الخضر عليه السلام قال: أنت موسى بني إسرائيل؟ - قال: وما تريد؟ قال: أريد أن أتعلم. قال: ((إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)) [الكهف:67] . قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69] . فجاء عصفور فنثر من ماء البحر نثرة، فقال الخضر: يا موسى! إن مثل علمي وعلمك بجانب علم الله عز وجل كمثل الماء الذي أخذه هذا العصفور بمنقاره {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:70] . فانطلقا، ووقفا على شاطئ البحر، فمر مركب فأراد الخضر وموسى أن يركبا، فقال الغلمان: عبد الله الصالح لا نحمله بأجر، فعمد إلى مكان في السفينة فخلع منه لوحاً بقدوم ووضع مكانه خشبة، قال موسى: قوم حملونا بغير أجره تخلع لوحاً من سفينتهم لتغرق أهلها، لقد جئت شيئاً إمراً {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:72] ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وكانت هذه من موسى نسياناً. فلما نزلا من السفينة وجدا أُغيلمة يلعبون، فعمد الخضر إلى ولد وضيء جميل ذكي، فأخذه من رأسه وأضجعه على الأرض وذبحه بالسكين، فقال موسى: عمدت إلى نفس لم تعمل الحل فقتلتها بغير نفس، لقد جئت شيئاً نكراً، قال الخضر عليه السلام: ((أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)) [الكهف:72] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وكانت هذه شرطاًَ) ؛ لأن موسى عليه السلام قال له: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف:76] وهناك فرق في التحذير بين المرة الأولى والثانية، ففي المرة الأولى قال له الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:72] ، وفي المرة الثانية قال له: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:75] ، فكأنه استدار إليه وأشار إليه، ولذلك فرق النبي عليه الصلاة والسلام بينهما وبين أن الأولى كانت من موسى نسياناً فلم يشدد الخضر عليه، وكانت الثانية شرطاً في المفارقة، لذلك كأنه التفت إليه وحذره وأشار: ألم أقل لك -أي: في المرة الثانية- إنك لن تستطع معي صبراً. فدخلوا إلى قرية: {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77] {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78] ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يرحم الله موسى -وفي رواية: رحمة الله علينا وعلى موسى- وددنا أنه صبر حتى يقص الله عز وجل علينا من أخبارهما) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 فوائد ودروس من قصة موسى والخضر إن قصة موسى والخضر من القصص التي تشتمل على كثير من العبر، وقد عُني القرآن الكريم جد العناية في عرض القصة؛ لأن النفس مجبولة على التأسي بغيرها، كما قالت الخنساء لما قُتل أخوها: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي فبمصاب غيرك يهون عليك مصابك، إذا شعرت أن غيرك يشاركك في هذا المصاب خف عليك المصاب، وإنما يعظم الأمر إذا كنت متفرداً بالبلية، وإلى هذا المعنى إشارة في قوله تبارك وتعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] ، فالله تبارك وتعالى ينفي من أذهان أولئك هذه المشاركة التي يجدها العبد في الدنيا، فيقول له: ليس الأمر في الآخرة كالدنيا، إنك إذا رأيت غيرك في مثل مصابك هان عليك مصابك كلا! لا ينفعك أنك ترى جهنم كلها مليئة بالخلق يعذبون مثلك، إن هذا لا يخفف عنك شيئاً؛ لأن التسلية التي كنت تراها في الدنيا قد ذهبت: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] . وفي حديث الإفك أن عائشة رضي الله عنها لما بلغتها التهمة قالت: (بكيت يومي وليلتي حتى ظننت أن البكاء فالقٌ كبدي، فاستأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي) . قد يقول البعض: وما الفائدة من قول عائشة رضي الله عنها: (جلست تبكي معي) ؟ فنقول: الفائدة هنا هي المشاركة التي تخفف عن الإنسان ألمه. ولما بعث النبي عليه الصلاة والسلام ودعاء إلى الله تعالى في مكة، وعذب أصحابه العذاب الأليم، نزل القرآن الكريم يقص عليهم كثيراً من القصص، وأكثر النبي عليه الصلاة والسلام من ذكر القصص، فقص عليها آنذاك قصة الساحر والراهب، وفيها البلاء في الدين، حتى قال أبو ذر رضي الله عنه: (نالنا من الكفار شدة، فذهبنا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم نستنصره، فوجدناه عند الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا؟! فاعتدل وقال: لقد كان يؤتى بالرجل من قبلكم فينشر بالمنشار حتى يشق نصفين لا يرده ذلك عن دينه) . فإذا علمت أن أصحاب الأنبياء جميعاً عذبوا وأوذوا؛ علمت أنك لست في الطريق وحدك، هذا الطريق المستقيم طريق الله عز وجل الممتد من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، لست الضحية فيه وحدك. كم من العلماء عذبوا بل طارت رقابهم! بل كم من الأنبياء عذبوا وقتلوا! ألم يقتل يحيى عليه السلام وتقطع رقبته وتهدى إلى امرأة بغي، وهو نبي؟! إذا تذكرت ما فعله اليهود بموسى عليه السلام هان عليك مصابك، وقد جاء في الصحيحين: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ ببرده وجذبه حتى أثرت حاشية البرد في عنقه عليه الصلاة والسلام، وقال: يا محمد! أعطني من مال الله، فإنه ليس مالك ولا مال أبيك ولا مال أمك، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: يرحم الله أخي موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) ، هنا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام، ويقول: (قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) ، وليس المعنى أن موسى عليه السلام أوذي أكثر من نبينا صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، لكن المعنى: أنه أوذي أكثر من هذا، أي: أكثر من هذا الفعل بعينه فصبر، فهنا يذكر سلفه في الأذى وفي البلاء فيحمله ذلك على الصبر. فميل الناس إلى القصص فطري، وهو ميل شديد قوي؛ لذلك فقد عني القرآن الكريم عناية كبيرة بالقصص، وقد حدد الهدف من هذه القصص، فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] ، أي: للذين يتفكرون ويأخذون الأسوة. فقصة موسى والخضر من القصص التي قصها علينا القرآن الكريم، وزادها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضوحاً. وفي هذه القصة مطالب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 هل الخضر ولي أم نبي؟ المطلب الأولى: هل الخضر ولي أم نبي؟ وقد يقول البعض: وهل ينبني على ذلك حكم؟ نقول: نعم. قال ابن المنادي: أول عقده تحل من الزندقة أن يكون الخضر نبياً؛ لأن الصوفية يزعمون أن الولي أعظم من النبي، يقولون: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي إذاً: فالولي عندهم أعظم من النبي، وهذا ضلال مبين وزندقة؛ لأن النبوة ليست مكتسبه؛ بل هي منحة من الله عز وجل. فإثبات أن الخضر نبي أول عقدة تحل من هذا الحبل الطويل من الزندقة، وقد استدل العلماء على أنه نبي بقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] ، أي: ليس لي دخل في الذي فعلت، ويؤكد أنه نبي أن الله تبارك وتعالى قال: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65] ، والله تبارك وتعالى لا يؤتي هذا العلم إلا لنبي. أما كونه لم يرسل إلى قوم فهذا هو الغالب على الأنبياء، ولذلك فإن من الفروق التي يذكرها العلماء بين الرسول والنبي: أن النبي قد يشرف بالنبوة لذاته ولكن لا تناط به رسالة، فكثير من الأنبياء لم يبلغوا رسالة تذكر، لكنهم شرفوا بهذا المنصب بأن صاروا أنبياء، بخلاف الرسول؛ فإنه لا بد أن يرسل إلى قوم. ولذلك قال العلماء: إن عدد الرسل أقل بكثير من عدد الأنبياء؛ لأن النبوة رتبه قد يشرف بها العبد بغير رسالة إلى قوم، بخلاف الرسل. وأشهر الرسل خمسة هم أولو العزم الذين نوه الله تبارك وتعالى بشرفهم، وهم: نوح عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام، وموسى وعيسى عليهما السلام، ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم. وإنما كانوا من أولي العزم؛ لأنهم أرسلوا إلى جبابرة، وذاقوا من العذاب الأليم ما لم يذقه كثير من الرسل فضلاً عن الأنبياء؛ ولذلك وصفهم الله عز وجل بأنهم من أولي العزم. إذاً: الخضر عليه السلام على قول أغلب العلماء نبي، فليس بعجيب أن يتعلم نبي من نبي، إن اليهود هم الذين أنكروا أن يكون موسى هو موسى بني إسرائيل؛ لأنهم قالوا: كيف يتعلم موسى من آخر وموسى نبي، والمفترض في النبي أنه أعلم أهل الأرض؟ لأنه غلب على ذهن موسى عليه السلام أنه أعلم الناس، ولم يتصور قط أن يكون هناك أعلم منه، لذلك لم يتردد في الإجابة بقوله لما سئل: هل هناك أعلم منك؟ قال: لا. لظنه أن الله تبارك وتعالى لا يعطي أحداً علماً أكثر منه، فأنكر بنو إسرائيل أن يكون موسى هو موسى بني إسرائيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الخضر ليس أعلم من موسى عليه السلام هل الخضر أعلم من موسى عليه السلام؟ الجواب لا ثم لا؛ لأن الخضر عليه السلام كان أعلم منه بهذه الجزئية التي علمه الله تعالى إياها؛ ليثبت لموسى عليه السلام أنه ليس أعلم من في الأرض فقط، أما في بقية العلم فلا شك أن موسى أعلم، ولا شك أن موسى أفضل من الخضر، ولذلك قال له الخضر لما نقر العصفور من ماء البحر: يا موسى! إنني على علم من الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله علمك هو لا أعلمه أنا. بل لما قال له موسى عليه السلام: جئت أتعلم منك، قال: أما يكفيك أن الله كتب لك التوراة بيده. إذاً: الخضر عليه السلام إنما هو أعلم من موسى بهذه الجزئية فقط، أما أنه أعلم من موسى بكافة الجزئيات الأخرى فلا. وقد أراد الله عز وجل أن يؤدب موسى، وكذلك كل عالم ومفتي يجب أن يُرجع العلم إلى الله عز وجل، وهذا هو مستند قول العلماء بعد ذكر الفتوى: والله أعلم. فليس معنى قول المفتي: (الله أعلم) أنه يشك في فتواه؛ بل إنه يكل علم ذلك على الحقيقة إلى الله عز وجل، فإن المفتي قد يفتي في القضية ويرى أن هذا هو الصواب من وجهة نظره، ويكون الأمر على خلاف ذلك، وعلى هذا الأمر تُخرَّج فتاوى العلماء التي أخطئوا فيها بأنهم كانوا يظنون أن الحق فيما ذهبوا إليه. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما جاءه رجل قد قطعت إصبعه، فقال: هل عندكم من شيء في دية الأصبع؟ فسكتوا، فاجتهد عمر رضي الله عنه رأيه، ورأى أن دية الأصابع تختلف باختلاف منافعها، فهذه الإصبع لا تساوي هذه؛ لأن هذه الإصبع تملك حركة الأصابع الأربع الباقية، فيقول: لا أساوي بينها في الدية؛ بل هي تختلف باختلاف منافعها. فهل هذا هو الصواب؟ الجواب: لا. لكن لم يكن عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه علم أكثر من ذلك، فاجتهد رأيه في هذا الأمر، وظل المسلمون يعملون بهذا الحكم حتى خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. فلما بلغ هذا الأمر ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (هذه وهذه وهذه سواء، عشر من الجمال) ، فساوى النبي عليه الصلاة والسلام بينها، فكل إصبع ديتها عشر من الجمال، فلو افترضنا أن الجمل بألفي جنيه، فإن دية الإصبع عشرون ألف جنيه. إذاً: عمر رضي الله عنه أفتى بخلاف الصواب، لكن هل عليه إثم؟ الجواب: لا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران) ، أما الذي له أجر؛ فلأنه اجتهد فله أجر على الاجتهاد، وهو إفراغ الوسع في طلب الحق، فإن أصاب فله أجران: أجر إفرغ الوسع وأجر إصابة الحق. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الاستدلال بحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة) على جواز حلق اللحى الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فقد ذكرنا حديث: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران) وقد ذكَّرني هذا الحديث بقضية أثارها بعض الناس، فقد استدل بعضهم على حكم حلق اللحية بإقراره صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الذين غزوا بني قريظة واختلفوا في صلاة العصر: أيصلونها في بني قريظة أم يصلونها في وقتها؟ ولم يعنف النبي عليه الصلاة والسلام إحدى الطائفتين، فقالوا: كذلك الذي يعفي لحيته لا يجوز له أن يعنف حالقها، كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعنف أحداً من الطائفتين. وهذه فرية بلا مرية؛ إذ كيف يقيس هذا الإنسان إقرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه الذين اختلفوا في أداء العصر أفي الوقت أم في بني قريظة بعد الوقت على أمر نص النبي عليه الصلاة والسلام نصاً واضح الدلالة أنه لا يجوز للمسلم أن يتعمد حلق لحيته؟! فقد قال صلى الله عليه وسلم: (اعفوا اللحى وقصوا الشوارب) . أما الذين ذهبوا لغزو بني قريظة فقد سمعوا قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) ، فقال بعضهم: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقصد ظاهر الخطاب؛ بل أراد أن يحثنا على القتال حتى ندخل بني قريظة قبل العصر فنصلي هناك، أو ندخل بني قريظة في وقت العصر فنصلي هناك، فهذا حث منه لنا عليه الصلاة والسلام أن ندخل بني قريظة في وقت العصر، ولم يكن يقصد أننا لا نصلي العصر إلا في بني قريظة ولو كان وصولنا بعد العشاء. وذلك لأن عندهم أدلة واضحة على عدم جواز تأخير الصلاة عن وقتها، فهذه الأدلة الواضحة لا يمكن أن يتركوها لنص فيه احتمال، والعلماء يقولون: إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال، فإذا كان ظاهر الخطاب يحتمل أكثر من وجه، فلا يتعين أحد الأوجه إلا بدليل مستقل خارج عنه. وعندهم أدلة على عدم جواز تأخير الصلاة عن وقتها، فيقولون: لا نترك هذه الأدلة القاطعة بنص يحتمل أكثر من وجه، فحملوا دلالة النص على معنى الأحاديث الأخرى، وهو: استحثاث المسلمين على دخول بني قريظة في وقت العصر. وقال بعضهم: لا. بل قصد أننا لا نصلي العصر حتى نغزو بني قريظة، ولو أخذ منا الجهاد إلى وقت العشاء. ولم يعنف بعضهم بعضاً، ولم ينشق المسلمون وهم يقاتلون بسبب هذا الاختلاف الفقهي، إنما كلٌ أخذ برأيه ولم يعنف الآخر، فالذين أبوا أن يؤخروا العصر عن وقته صلوا العصر، والآخرون لم يصلوا العصر حتى غزوا بني قريظة، فكان وقت العصر قد ذهب. فعندما جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وذكروا له ما حدث، تبسم ولم يعنف أحداً، فإقراره عليه الصلاة والسلام حقٌ؛ لأنه لا يقر على باطل ولا خطأ، فلما سكت دل على أنه أقر كلا الطائفتين. فالشبهة التي يحتجون بها: أن طائفة فعلت شيئاً، وطائفة فعلت عكس الطائفة الأولى، فلم يعنف هذه ولا تلك، فكذلك المسلم إذا أعفى لحيته لا جناح عليه، فإن حلق لحيته فلا يجوز للآخر أن يعنفه، فهل واقعة بني قريظة كمثل هذا المثل الذي ضربه هذا المحتج؟ الجواب شتان ما بين الأمرين، ولا يستقيم في الأذهان شيء إذا كانت القسمة هكذا، إذاً: فلماذا لم يعنف النبي عليه الصلاة والسلام إحدى الطائفتين برغم أن الحق في جانب واحد منهما بلا شك؟ لأن الحق واحد لا يتعدد وإن اختلفت أفهام الناس فيه، فيستحيل أن يكون الحق متعدداً، إنما الحق واحد، وطرق الناس في الذهاب إلى الحق متباينة، لكن الذي أصاب الحق واحد فقط، فلا شك أن أحدهما مخطئ، فلماذا لم يعنفه النبي عليه الصلاة والسلام؟ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) ، فهل يجوز أن يعنف من له أجر واحد المأجور؟ لا يعنف، إنما الذي يعنف هو المأزور، وهذا بنص الحديث، فلذلك لم يعنفه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لا لأنه أقر الاثنين، بمعنى: أنه أقر أن ترك العصر حتى يخرج وقتها صواب، وأن الذين صلوا في الوقت على صواب، إنما لم يعنفهم؛ لأن الذي أخطأ أصاب أجراً واحداً. فحديث واقعة بني قريظة التي أقرها النبي عليه الصلاة والسلام لا علاقة لها بالمثل المضروب؛ لأن المثل المضروب في أمر، وعلماء الإسلام يقولون: إن الأمر إذا خرج من النبي عليه الصلاة والسلام يفيد الوجوب، أي: أنه لا يجوز للمسلم أن يخالف أمره صلى الله عليه وآله وسلم. ورحم الله الإمام المجتهد تقي الدين السبكي إذ قال في جزء له أسماه (بيان قول الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي) قال: وليتخيل أحدكم إذا سمع حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم أنه واقف بين يديه، وسمع هذا الأمر منه، أكان يسعه أن يتخلف؟ الجواب: لا. لذلك إذا سمع المسلم حديثاً للنبي عليه الصلاة والسلام فواجب عليه أن يمتثل. نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 قصة موسى والخضر [2] أول عقدة تحل من عقد الزندقة هي إثبات أن الخضر نبي وليس مجرد ولي، والعقدة الثانية التي تحل هي إثبات أنه ميت وليس بحي، وقد دل على هذا الكتاب والسنة وإجماع المحققين من العلماء، وكذلك دلَّ المعقول من عدة أوجه على أن الخضر قد مات. والكلام في هذه المسألة ليس كلاماً هامشياً، بل هو إيقاظ للآلاف ممن ظنوا حياته وانخدعوا برؤية الشياطين التي تتمثل في صورته، مما قادهم إلى الانسلاخ عن الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 هل الخضر حي أم ميت؟ إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن الخضر عليه السلام نبي على رأي جماهير العلماء، واستدلوا بقوله تبارك وتعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] أي: أنه مأمور من قبل الله تبارك وتعالى بما يفعل، قالوا: وهذا لا يكون إلا لنبي. قال الإمام العلم أبو الحسين بن المنادي رحمه الله تعالى: (إثبات أن الخضر نبي أول عقدة تحل من الزندقة) ؛ لأن الزنادقة كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: يقولون: إن الخضر ولي، وينشد منشدهم في ذلك قائلاً: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي أي: أن مقام الولاية أعلى من مقام النبوة والرسالة، فالذي يصفونه بأنه ولي هو أعلى عندهم من النبي والرسول، وقولهم: (فويق الرسول) -أي: فوقه بقليل (ودون الولي) فيكون الترتيب على حسب ترتيبهم: الولي، ثم النبي، ثم الرسول، ولو عكسوه لكان أولى: الرسول، ثم النبي، ثم الولي. فإثبات أن الخضر عليه السلام نبي أول عقدة تحل من الزندقة. هل الخضر عليه السلام حي أم مات؟ وسبب الحديث عن هذا البحث أن كثيراً من الجهال الخارجين عن الشريعة أو الذين تعلقوا منها بحبل واهٍ يشبه خيط العنكبوت، يزعم أحدهم أنه قابل الخضر، فيقول: أوصاني الخضر وأفتاني الخضر وأرشدني الخضر، ويقسم أنه رأى الخضر وأنه كلمه، ويحتج ببعض إطلاقات لبعض علمائنا كـ ابن الصلاح والنووي وغيرهما من أن الخضر حي، وأن كثيراً من العارفين رأوه وكلموه كفاحاً بغير ترجمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 أدلة القائلين بأن الخضر حي إن أقوى ما تعلقوا به في هذا المجال ما رواه الطبراني وغيره بسند ضعيف فيه مجاهيل كما قال ابن كثير رحمه الله، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه: (ألا أنبئكم بالخضر؟ كان رجل من بني إسرائيل مر على الخضر فسأله شيئاً لوجه الله، فقال له الخضر: إن الله قادر أن يعطيك كذا وكذا ما عندي شيء، فقال: سألتك بالله أن تعطيني شيئاً، فقال: ما عندي من شيء أعطيكه ولكني أستحي أن تسألني بالله شيئاً وأردك، خذني فبعني في السوق واقبض ثمني وأنفقه، قال: وكيف آخذك يا عبد الله وأنت كذا وكذا، قال: إنك سألتني بمن لا يرد، خذني فبعني، فأخذه فباعه بأربعمائة درهم، فاشتراه هذا الرجل ورآه شيخاً كبيراً فانياً لا يصلح للعمل. فقال له الخضر يوماً: كلفني بشيء، قال: إني أشفق عليك وقد رأيتك شيخاً كبيراً فانياً أن أكلفك بما لا تطيق، قال: بل كلفني -وهو لا يدري أنه الخضر- قال: فانقل هذه الحجارة -وكانت حجارة عظيمة- ريثما أذهب إلى السوق، وهذه الحجارة ما كان يحملها أقل من ستة نفر. وذهب الرجل إلى السوق ورجع فلم يجد حجراً واحداً فتعجب! وقال: شققنا عليك أيها الشيخ، قال: لم تكلف كثيراً، قال: فإني على سفر اخلفني في أهلي حسناً، قال: ألا كلفتني بشيء، قال: إنك شيخ كبير وأخشى أن أشق عليك، قال: لا بل كلفني، قال: اضرب لي اللَّبِن -الطوب- حتى أبني داري. وذهب الرجل ورجع فوجده ضرب الطوب وبنى البيت وهيأه، فأول ما رآه تعجب وقال: سألتك بالله من أنت؟ قال: بهذا دخلت العبودية -أي: أنه صار عبداً بمثل هذا السؤال لأنه سئل بالله فلم يقدر أن يرد هذا الرجل فباعه- قال: وأنت تسألني بالله أيضاً. قال: سألتك بالله من تكون؟ قال: أنا الخضر. قال: نبي الله؟ قال: نعم. قال له: أخيرك بين أن تكون حراً وبين أن تكون في ضيافتي، قال: بل دعني، فأعتقه) . فهذا من أكبر ما يحتجون به، وكما قدمت أنه ضعيف، فإذا كان أقوى ما عندهم ضعيفاً فما بالك بالذي بعده، لاشك أنه شر منه. ثم لو فرضنا أنه صحيح، فما وجه الدلالة فيه على القضية المتنازع فيها؟ نحن الآن بصدد إثبات هل الخضر حي أيام بعثة النبي عليه الصلاة والسلام أم لا؟ فأين في هذه القصة على طولها من الدلالة ما يثبت هذا البحث؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كان رجل من بني إسرائيل) ، ونحن نعلم أن الخضر صاحب موسى عليهما السلام كلاهما كان في بني إسرائيل. إذاً: لو صحت هذه القصة لم يكن فيها متعلق على الأمر المتنازع عليه، إذاً: فما هي بقية حججهم؟ حكايات ورؤى أن أحد الصالحين قال: رأيت الخضر، وكلمني الخضر، وحدثني الخضر، وأفتاني الخضر، ليس عندهم أكثر من هذا. أما الأحاديث التي يحتجون بها فأجمع علماء الحديث وهم أهل الفصل في هذا الباب أن كلها أحاديث مكذوبة موضوعة مفتراة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأوردها ابن الجوزي في كتاب الموضوعات، وشدد النكير على واضعيها، فليس في أيديهم شيء، فالقول الصحيح في المسألة أنه مات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 أهمية إثبات أن الخضر قد مات نحن حين نهتم بهذه المسألة لا نقاتل طواحين الهواء بإثبات أن الخضر مات، فإن من وراء إثبات موت الخضر إنقاذاً لعشرات المئات بل الألوف من المغفلين، الذين يأخذون دينهم من هؤلاء الشياطين الذين يتمثلون بصورة الإنسي فيأخذون منهم الفتوى، إذاً: لماذا جاء النبي عليه الصلاة والسلام، إذا كنت تأخذ فتواك من الخضر؟ لقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة كما رواه أحمد في مسنده من حديث جابر، قال: (ما هذا يا عمر؟ قال: ورقة من التوراة كتبها لي رجل من اليهود -صفحة من التوراة يقرأها عمر - فغضب النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: أمتهوكون فيها يـ ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء ناصعة، والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) . فلو سلمنا أن الخضر موجود، وأنه حي فكيف يتبع؟ وكيف تؤخذ منه الفتوى؟ وموسى عليه السلام الذي هو بإجماع الخلق أجل من الخضر ولا شك في ذلك، لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، أفيتبع الخضر المشكوك في حياته بل المقطوع بأنه مات؟ إن في إثبات أن الخضر مات حلاً لعقدة الزندقة الأخرى التي يعيش عليها ألوف المغفلين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 الأدلة على أن الخضر مات الخضر مات لا شك في ذلك، والدليل على ذلك أربعة أشياء: القرآن، والسنة، وإجماع المحققين، والمعقول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 أقوى حجة للقائلين بأن الخضر حي لقد اطلعت على أغلب الحكايات حتى أقف على دليل ننصف به القائلين بأن الخضر حي فما وجدت شيئاً يعتمد عليه، وأقوى ما ذكروه ويذكرونه ما ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق بسند صحيح عن أبي زرعة الرازي وهو أحد الأعلام الكبار والجبال الرواسي في الحفظ رحمه الله قال: قابلني رجل في الطريق شيخاً له هيئة وسمة، قال لي: يا غلام، لا تغشى أبواب الأمراء والسلاطين ثم غاب عني، ثم لقيني بعد ما كبرت بنفس هيئته، فقال: ألم أنهك أن تأتي أبواب السلاطين، قال: وما رأيته بعد ذلك. قال أبو زرعة: فوقع في قلبي أنه الخضر. وليس هذا بدليل؛ إذ أننا نقول: كيف عرفت أنه الخضر؟ قالوا: لأنه قال: لم أره بعد ذلك، أي: أنه اختفى في الحال، بمجرد أن قال له هاتين الكلمتين اختفى وبعد ذلك ما رآه. فنقول: هل قول أبي زرعة: (لم أره بعد ذلك) يحتمل هذا فقط، أم يحتمل أنه لم يقابله بعد ذلك؟ الجواب يحتمل الاثنين، إذاً: لماذا أخذت هذا وتركت ذاك؟ كما يقولون: ليس حباً في علي ولكن بغضاً في معاوية. هم يبحثون عن أي دليل، ونحن نذكر (أدلتهم) تجوزاً، وإلا فهي على رسم جميع العلماء ليست أدلة، فلو تجوزنا وقلنا: هي دليل فهي كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، لا تقف منها على شيء، وغالب أدلتهم هكذا، فإن كان هناك قطاع من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خرج بهذا الباب من الدين، ودخل هذا المهيع إلى باب الشرك وعدم الاعتماد على الله تبارك وتعالى والانسلاخ من الشريعة، فكيف يقال: إن القول بحياة الخضر أو عدم القول به مسألة هامشية. أحياناً يدخل رجل مريض المستشفى، وبرغم أنهم يعلمون أنه ميت إلا أنهم لا يتركون صغيراً أو كبيراً من أسباب العلاج إلا طرقوه، لِمَ تفعلون ذلك؟ يقولون: هذا حياة إنسان، وإذا جئت أنا وتكلمت في الطب قالوا: اترك ليس هذا تخصصك، وإذا تكلمت في الطب ولبست لباس الأطباء وعلقت سماعة، ودخلت بالمعلومات العامة عندي وفتحت عيادة، وكشفوني متلبساً بأنني طبيب ولست بطبيب يحكمون علي بالأشغال الشاقة المؤبدة، لماذا؟ لأن هذا تتعلق به أرواح الناس. فإذا كنتم تعاملون أرواح الناس هذه المعاملة أفلا تعاملون دين الخلق بأجل مما تعاملون أبدانهم؟ إن إنقاذ إنسان من الكفر أفضل من إنقاذ عشرة أبدان، فنحن بإغلاقنا هذا الباب نحل العقدة الثانية من حبل الزندقة. لا يقولن قائل: إن الكلام في النهي عن الصلاة في المساجد التي فيها قبور، أو في النهي عن الاستعانة بغير الله تبارك وتعالى، أو في النهي عن اتباع غير النبي صلى الله عليه وسلم هي مسائل هامشية، بل هذا هو النخاع واللب وما سوى ذلك هي المسائل الهامشية. ونذكر قصة الصحابي المزعوم عبد الله بن السلطان، ويعلم الله أنه لا يوجد صحابي بهذا الاسم، ويعلم أهل العلم جميعاً أنه لا يوجد صاحبي خلق بهذا الاسم عبد الله بن السلطان، كان زانياً سارقاً قاتلاً يفعل كل أنواع الفواحش والمنكر، هذا كتيب موجود والرسول عليه الصلاة والسلام حزين، رآه يزني فلم يقم عليه الحد، رآه يترك الصلاة ولا يؤدي الزكاة فلم يقتله، كل هذا والرسول موجود، ولا يقال: صاحبي إلا إذا كان موجوداً مع الرسول عليه الصلاة والسلام، كل هذا يجري على عين النبي عليه الصلاة والسلام وهو حزين فقط؛ كأنه لا حول له ولا قوة. فمات عبد الله بن السلطان، فذهبوا إلى الرسول وأخبروه بموت عبد الله بن السلطان، وقالوا له: تعالى فصل عليه، قال: لا أصلي عليه، ما شاء الله من هذا الذي لم يرزق ذره من العقل بعد كل هذا يذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقول له: يا رسول الله! صل على عبد الله بن السلطان، فالرسول لم يصل عليه. وإذا بجبريل عليه السلام ينزل يسد الآفاق بستمائة جناح وينزل على المختار عليه الصلاة والسلام ويقول له: إن ربك يأمرك أن تصلي على عبد الله بن السلطان. انظر المهازل! أليس هذا طعن في النبي عليه الصلاة والسلام وينشر هذا الكلام؛ لأنه ليس هناك حاكم ولا ضابط على المطبوعات التي تنشر، وكما قلنا: دخل علينا الكفر بقرونه من باب سموه باب (حرية النشر وحرية الرأي) . حتى الطعن في الإسلام حرية. ويذهب النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا يدري لماذا يصلي على عبد الله بن السلطان وهو أعلم بني آدم لكنه ذهب لأنه مأمور، ويصلي عليه، والذي يدفنه هو النبي عليه الصلاة والسلام. ثم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أين؟ إلى بيت امرأة عبد الله بن السلطان لقد رأيت عجباً، يطرقون الباب، فتقول المرأة من الداخل: من هذا الفاجر الذي يطرق الباب، قالوا: يا أمة الله! إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتحت. فقال لها: يا أمة الله، ماذا كان يفعل عبد الله؟ انظر! الرسول صلى الله عليه وسلم تحول من معلم الإنسانية الخير إلى رجل يسأل وهو جاهل! قالت: ولِمَ. قال: لأنني لما نزلت القبر وجدت ألف حورية، واحدة في يدها زنجبيل وواحدة في يدها عصير، وكلهن يتسابقن إليه خذ مني يا عبد الله، كلهن يتسابق بالقربى والزلفى إلى هذا الفاجر، اشرب. فقالت: (أما قد قلت ذلك) فإنه كان زانياً فاسقاً فاجراً داعراً قاتلاً. إلخ القصة المكذوبة المفتراة التي ينبغي تحذير الناس من هذه الكتب التي تحتوي على خرافات وأساطير نسأل الله تعالى أن يختم لنا بالحسنى، ويوفقنا إلى نيل المطلب الأسمى، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 بطلان الإجماع المزعوم على أن الخضر حي إننا نقطع أن الخضر عليه السلام مات، وأنه لا وجود له، وأن أية دعوى للإجماع ينقلها أي عالم في الدنيا على أن الخضر حي هي دعوى بلا دليل، ونحن رأينا كما يقول العلماء وفي مقدمتهم شيخ الإسلام ابن تيمية من المتأخرين، ومن المتقدمين الإمام أحمد بن حنبل قال: (من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريه لعل الناس اختلفوا) . أي: من ادعى الإجماع برسمهم الموجود في أصول الفقه من أنه لا يتخلف عن هذا الإجماع عالم مجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وما يدريك؟ وهل تعلم جميع المجتهدين في الكرة الأرضية حتى تقول: هذا أمر مجمع عليه؟ لذلك صار الإجماع المنقول في كتب الفقه هو عدم المعرفة بالمخالف فقط لا أنه الإجماع المعروف في الأصول. هذا هو الإجماع الذي يذكره العلماء، فإذا قيل: وهذه المسألة قال العلماء فيها كذا بالإجماع، لا تتصور أنه أجمع كل إنسان في الدنيا، لا بل المراد: لا نعلم مخالفاً لهذا القول فيذكره إجماعاً على سبيل التسامح والتجاوز. فدعوى إجماع العلماء أو إجماع الأمة على أن الخضر عليه السلام موجود كما نرى ذلك في الكتب هي دعوى بلا دليل. لكن المكابر لا يسلم بالحق ولو شهدت عليه أعضاؤه، والسعيد من اتعظ بغيره، والمنصف يكفيه أقل من هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 اعتراض على الاهتمام بقضية موت الخضر وحياته مع الجواب عنه السؤال اشتغل بما هو أنفع وأهم وبما يعود على صالح الأمة المسلمة في زمانها بالخير، فمالك والخضر مات أو عاش، إن أكثر من (90%) من قوتنا نأخذه من يد أعدائنا، وإن المسلمين قد تخلفوا تخلفاً موجعاً عن كل مظاهر التقدم، فهلا دفعتهم حتى يساووا أولئك الكفرة في القبض على منافذ الحياة، وهم بذلك يستطيعون أن ينشروا دينهم، لأن كثيراً من الكفرة ينظرون إلى التردي الذي يعيش فيه المسلمون الآن فيظنون أنه بسبب دينهم فلا يقدمون على الإسلام، لكنهم لو أخذوا بأسباب الحياة وتقدموا لعل هؤلاء الغربيين يعجبهم مثل هذا التقدم في ديار المسلمين، ويكون هذا من باب الدعوة إلى الإسلام؟ الجواب أن هذا القائل ليس بأول سار غره قمره؛ لأن هذا الرجل إنما تعلق بأعلى الشجرة ونسي أن السوس قد اخترم جذرها، إن الله تبارك وتعالى قال في محكم تنزيله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] ، (ما) هنا: هي كل شيء يضاد الفطرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) ولم يقل: أو يسلمانه؛ لأن الفطرة هي الإسلام، وهذا الحديث من حجج القائلين بأن أولاد اليهود والنصارى الذين ماتوا وهم رضع أو لم يجر عليهم القلم أنهم في الجنة؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة فهو يولد على الفطرة، فبعد أن يكبر أو يعقل فأبواه إما يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه. فبعدما يكبر هذا الإنسان يبدأ ينحرف عن الفطرة التي ولد عليها، فيعلق به (ما) هذه، فلذلك كانت الآية توجهه إلى ذلك: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا} [الرعد:11] فـ (ما) أي: الذي علق بنفوسهم. فإذا كان بيننا من يعتقد أن الخضر حي ويأخذ منه دينه فهذا خرج من الإسلام من باب واسع، ونحن لو سلمنا أن الخضر حي وأنه يفتي فتاوى لما جاز أن تتلقى منه فتوى ينفرد بها عن غيره من العلماء عندنا، فالقاعدة معروفة عند علماء الأصول: أن شرع من قبلنا شرع لنا بشرط ألا يرد في شرعنا ما يخالفه. فالخضر عليه السلام إن كان نبياً فهو تابع لنبينا صلى الله عليه وسلم، والقائلون بحياته يستحيل أن يتخلصوا من هذا، إذ ليس من الممكن أن يكون نبياً منفرداً بذاته والنبي عليه الصلاة والسلام موجود عمت رسالته الخافقين، فلا يجوز له أن ينفرد بفتوى؛ بل لابد أن يفتي وفق فتوى النبي عليه الصلاة والسلام. فإن كانت فتواه التي يفتي بها لها أصل في السنة فالتعويل على ما في السنة لا على ما قاله الخضر، إذاً: فلا قيمة لفتواه، فهي إن كانت مخالفة لما عندنا فلا اعتداد بها، وإن كانت موافقة لما عندنا فهي موافقة شكلية؛ إذ الاعتماد على الحديث الذي قاله النبي عليه الصلاة والسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 تمثل الشيطان في صورة الخضر قد يغلو البعض في الخضر بأشد من ذلك، وإذا جاءك رجل صالح ما جربت عليه كذباً قط، فأقسم بالله وبالأيمان الغلاظ أنه رأى الخضر بعينيه وكلمه، وقال: أنا الخضر، وأقسم له أنه الخضر. غير ممكن أنك ترمي هذا الرجل بالكذب أو الوهم، إذ هو عابد عالم وأقسم أنه رأى الخضر وأن الذي رآه أقسم له أنه الخضر، لكن هذا لا يكون دليلاً على أن الخضر موجود. وإليكم البيان: نحن نسلم أن هناك من يرى بعض الأشخاص يقول له: أنا الخضر، وقد يراه على خلقة أعظم من خلقة بني آدم التي يراها، لكننا نقول: إن ذلك شيطان، وأبو إسحاق الحربي قال: (ما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان) . ونحن نعلم أن الشيطان يتشكل في صورة الآدمي، ويتشكل في أي صورة، بخلاف بعض الذين قالوا: لا يتشكل إلا على شكل قطة أو هرة أو حيوان ولا يتشكل على شكل إنسان، فإن عندنا الدليل القاطع على أنه يتشكل حتى على شكل إنسان. وهذا الدليل هو قصة أبي هريرة مع سارق الصدقات كما في صحيح البخاري، وأن هذا السارق كان شيطاناً جنياً؛ بل صرح هو بهذا لـ أبي هريرة. فهذا الجني يتشكل في أي صورة، فقد يتشكل في صورة آدمي عظيم الخلقة، ثم يقول: أنا الخضر ليضل هؤلاء الناس، فيا عجباً لمن صدقه بأنه الخضر! وما يدريه أن هذا صادق عندما قال له: أنا الخضر؟ وهذا يذكرنا بقصة الثعلب الذي لبس جبة وفسطاطاً وأمسك مسبحة ودعا الديك حتى يؤذن للصلاة، فمن أين لنا أن هذا الثعلب صادق؟ أذكر أنني سمعت محاورة بين شيخنا الألباني حفظه الله وبين رجل مصري يعالج المصابين بالجن، فقال المصري للشيخ: هل يجوز لي أن أستعين بالجني المسلم في علاج الحالات؟ لأن الذي مس هذا الإنسان جني كافر، إما نصراني أو يهودي أو مجوسي، فهل يجوز لي أن أستعين بالجني المسلم الذي عنده القوة على أن يقاوم هذا الجني الكافر؟ فكان جواب الشيخ له هو جواب العالم الذي لا يترك الفرع ويدخل في الأصل مباشرة، ومن علامة عدم الوصول إلى الحق أنك لا ترسي أصلاً تنطلق منه، فقال له الشيخ: وكيف عرفت أنه مسلم؟ هذا هو الأصل، فلا نسلم أنه مسلم. قال: منه. قال: ومن أدراك؟ أليس من الجائز أن يكون أكفر جني على وجه الأرض، ثم يقول لك: أنا مسلم ويستدرجك، أليس هذا جائزاً؟ قال: جائز. قال: فمن أين لك أن تعلم أنه مسلم؟ إذاً: كما يقول بعض علمائنا المتأخرين: اثبت العرش ثم انقش، إذ كيف يستقيم الظل والعود أعوج. فنحن لا نستطيع أن نخوض في هذه المسألة إلا إذا ثبتنا هذا الأصل، وهو كيف نعرف أنه مسلم؟ من المعروف أنه عندما يكون الجني كافراً يستحل كل شيء حتى دعوى أنه مسلم، فلا نصل إذاً إلى حل، فيبقى أنه لا يجوز لك أن تعتمد على الجني المسلم بزعمه أنه مسلم حتى تثبت أنه مسلم وهيهات هيهات. وليست كل دعوى تخرج من فم إنسان تسلم له، وإلا فأكثر أهل الأرض أدعياء، يدعون الكرم والشجاعة والعلم والأخلاق، ويدعون كل شيء، ويتبرءون من كل رذيلة وإن كانوا هم صناعها. حتى أن بعضهم يقول: الغاية تبرر الوسيلة، ويجعلها قاعدة عنده ليبرر عدوانه، فكل إنسان يدعي الكمال وما ليس فيه. فلو قال هذا الرجل الذي يظهر على أنه الخضر: أنا الخضر، كيف سلمت له أنه الخضر، ولماذا لا تكون أنت بذاتك الخضر مثلاً؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 الإجماع على موت الخضر قال الإمام أبو إسحاق الحربي: ما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان) . وكذا قال الإمام أحمد بن حنبل وأبو الحسين بن المنادي والإمام البخاري وابن الجوزي وابن كثير وابن تيمية وكذا قال الإمام الحافظ ابن حجر، في آخرين يطول المقام بذكرهم، فهؤلاء أجمعوا، وقد قلت: إجماع المحققين، ولم أقل: إجماع الأمة، حتى لا يقول قائل: إن فلاناً من العلماء رحمه الله يقول: إنه حي، بل إجماع العلماء المحققين على أن الخضر مات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 دلالة العقل على موت الخضر أما المعقول فمن أوجه: الوجه الأول: أن الذين ادعوا أن الخضر حي زعموا أنه من ولد آدم لصلبه، أي: أنه من صلب آدم، وهذا باطل؛ لأن الذين يدعون أنهم رأوا الخضر يصفونه بأنه إنسان عادي، جسمه جسم رجل مقبول، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خلق الله عز وجل آدم طوله ستون ذراعاً، فلا يزال الخلق يتناقص إلى يوم القيامة) فمن كان من ذرية آدم من صلبه سيأخذ خصائصه من كون طوله ستين ذراعاً، كما كان طول آدم عليه السلام، والذين يزعمون أنهم قابلوا الخضر يقولون: إن بدنه بدن رجل عادي. ثانياً: لو كان من صلب آدم لكان له عدة ألوف من السنين، فكيف يخلو القرآن الكريم من ذكر مثل هذا الأمر الخارق الذي هو من أدل الأشياء على ربوبية الله تبارك وتعالى؟ وقد ذكر الله تبارك وتعالى نوحاً عليه السلام الذي دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وجعل هذا من آيات ربوبيته، لأن هذا العمر يذكر ولا يذكر ستة آلاف أو سبعة آلاف أو ثمانية آلاف سنة!! ولئن قلنا: إن القرآن الكريم لا يذكر كل شيء أفتخلو السنة المطهرة من حديث واحد صحيح أو حسن ينبه على أبهر آيات الربوبية؟ ثالثاً: لو كان من ولد آدم لصلبه لكان من الذين ركبوا مع نوح في السفينة، ولم يذكر هذا أحد قط. رابعاً: لو ركب مع نوح في السفينة لمات، فلقد ثبت أن جميع من كان في السفينة مع نوح ماتوا بدلالة قول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77] فإن كان الخضر من ذرية آدم فيستحيل أن يكون حياً؛ لأن الذي بقي هو ذرية نوح فقط، فهذا يدل دلالة قاطعة على أنه لم يكن من صلب آدم. ثم الخضر عليه السلام لو كان حياً ألا يجب عليه أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم بين يديه ويجاهد معه ويصلي معه الجماعة والجمعة خلفه، وقد قال الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] أليس الخضر من الناس؟ فإن كان حياً إبان بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأته ولم يجاهد معه ولم يسلم بين يديه كان ذلك من أعظم الطعن عليه، وقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام الهجرة واجبة إلى المدينة على من يستطيع، وقد قال الله تبارك وتعالى للمسلمين: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [النساء:89] لأن الهجرة كانت واجبة على الأعيان؛ لأن المدينة دار الإسلام الوحيدة آنذاك وكان يجب الهجرة إليها، فلما فتحت مكة ولم تعد المدينة هي الدار الوحيدة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية) أي: أن الهجرة الواجبة على الأعيان أغلقت وتوقفت بعد الفتح. فإن كانت الهجرة واجبة على المسلمين الذين يقيمون في مكة، ونهى الله تبارك وتعالى المسلمين أن يتخذوهم أولياء حتى يهاجروا فأين كان الخضر؟ ولم لم يذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام؟ خامساً: أيقول الخضر عليه السلام لموسى كليم الله وأحد أولي العزم: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] ، ثم يدور مع الجهال والمغفلين الذين لا يصلون ولا يزكون، وإن فعلوا فهم يتمسكون بالإسلام بحبل واهٍ ضعيف. هل هذا إلا من أعظم الطعن في الخضر أن يلتقي بهؤلاء الجهلة ويدور معهم في الفلوات يسبح ويفارق كليم الله ويقول: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} هذا مستحيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 الأدلة من السنة على أن الخضر مات ثانياً: السنة المطهرة: وبها احتج الإمام البخاري رحمه الله على موت الخضر، وقد روى أصحاب الصحاح هذا الحديث من حديث ابن عمر وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهم وكلها موجودة في صحيح مسلم، وبعضها في صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام قال قبل أن يموت بشهر واحد وهذا التحديد وقع في رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال عليه الصلاة والسلام: (أرأيتكم ليلتكم هذه ليس على ظهر الأرض أحد ممن هو عليها اليوم بعد مائة عام) ، أي: بدءاً من هذه الليلة جميع الموجودين على الكرة الأرضية بعد مائة عام لا يكون أحد منهم حي. وفي اللفظ الآخر: (ما من نفس منفوسة تمر عليها مائة عام وهي على ظهر الأرض حية يومئذٍ) . والعجيب أن الذين ردوا هذا الحديث قالوا: إن الخضر يعيش في البحر فلذلك الحديث لا يشمله، وهذا من المضحك المبكي الموجع، وهل هناك دليل على أنه في البحر؟ ولِمَ لم تقل: إنه في السماء؟ أليس من المضحك أن ترد الأحاديث الصحيحة بمثل هذا الباطل الذي لا يعجز عنه أحد، كل إنسان يستطيع أن يغفل دلالة القرآن الكريم والسنة المنزلة بمثل هذه الأقوال، أما نحن فنأتيكم بأدلة ناصعة كالشمس في رابعة النهار، ونؤصل أدلتنا ونسندها ونصححها، فهلا أبرزتم لنا دليلاً واحداً ارتقيتم به إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة الأدلة التي نأتي بها؟ ما عندهم شيء وإنما قالوا: هو في البحر، ولو أن الحديث قال: هو في البحر لقالوا: هو في الأرض، ولو أن الحديث قال: في البحر والأرض لقالوا: في السماء، فلابد من أن يأتوا بجهة ليست موجودة في الحديث. وقد استدل بهذا الإمام البخاري على أن الخضر مات، إذ لو سلمناً جدلاً أنه كان موجوداً في زمان النبي عليه الصلاة والسلام فبدلالة هذا الحديث هو ميت لا محالة بعد مائة عام، ويستحيل أن يكون موجوداً بعد مائة عام. فالذين يقولون بعد المائة الأولى: رأينا الخضر وسمعنا الخضر وكلمنا الخضر! هم كذبة، والمحققون كالإمام مسلم وغيره استدلوا بهذا الحديث على انقطاع الصحبة بعد مائة عام. فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث في السنة العاشرة للهجرة، فإذا اعتبرت أنه بعد مائة عام من هذه المقالة لا يوجد أحد ممن يعيش على ظهر الأرض، فإذاً: نقطع بأن الصحابة جميعاً سيكونون قد ماتوا بتمام سنة (110هـ) ، وكان آخر صحابي مات كما قال مسلم هو أبو الطفيل عامر بن واثلة مات سنة (110هـ) وهذا تصديق للحديث من أنه لا يوجد أحد بعد مائة عام من هذه المقالة. لذلك ادعى جماعة الصحبة بعد سنة (100هـ) وقالوا: بل إنهم رأوا النبي عليه الصلاة والسلام، فكذبهم أهل العلم وقالوا لهم: لستم صحابة ولم تروه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما من نفس منفوسة تمر عليها مائة عام وهي على ظهر الأرض حية يومئذٍ) . فلو سلمنا جدلاً أن الخضر حي فهو بعد سنة (110هـ) يستحيل أن يكون حياً، فهذا دليل من السنة. ودليل آخر: في غزوة بدر لما جأر النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه وقد رأى أصحابه ضعافاً أذلة يقتسمون التمرات، وحالة الفقر عليهم ظاهرة، مشردون وهم سيقابلون عتاة قريش الذين خرجوا لأجل الحرب، وهؤلاء ما خرجوا لأجل الحرب، وما عندهم استعداد, نظر إليهم ورثى لحالهم، وقال: (اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض) وقد اتفق العلماء أن عدة من كان موجوداً من الصحابة يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً معروفون بأسمائهم، وهم الذين يطلق عليهم العلماء: البدريون، وهم غرة في جبين الإسلام والمسلمين، حسبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعل الله اطلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية) . ومن هذا أن حاطب بن أبي بلتعة كان يقسو على غلامه ويضربه، فذهب الغلام يشكوه إلى النبي عليه الصلاة والسلام وكان حاطب ممن شهد بدراً، فقال غلام حاطب للنبي عليه الصلاة والسلام: (والله يا رسول الله ليدخلن حاطب النار -أي: بقسوته عليَّ- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: كذبت، لقد شهد بدراً) . وهؤلاء البدريون ينسبون إلى هذه الغزوة المباركة، فيقال: أبو مسعود البدري ولا يقال: فلان الأحدي ولا الخندقي ولا التبوكي ولا الرضواني، لا ينسب أحد إلى غزوة قط إلا إلى بدر؛ لجلالها وشرفها؛ لذلك حصر العلماء من كان فيها. فإن كان الخضر حياً أكان ممن يعبد الله أم لا؟ لا شك أنه ممن يعبد الله، فكيف قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض) ؟ فلا يستثني الخضر ولا غيره، فهذا دليل دلالة قاطعة على أن الخضر غير موجود، هذا من السنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 الأدلة من القرآن على أن الخضر مات أما القرآن: فقد قال الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] أي: إن كتبنا عليك الموت مع جلالتك وقربك منا واصطفائنا لك وأنت سيد ولد آدم ولا فخر، وأنت أول من يهز حلق الجنة، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة من النبيين بل من الخلق، وأول شافع ومشفع، أفإن مت يكون هؤلاء الذين لم تتوفر لهم هذه الصفات هم الخالدون. ونحن نسأل: هل الخضر بشر أم جني؟ لا يشك أحد أنه بشر، فإن كان من البشر شمله عموم الآية بل لا شك في ذلك عند جميع العلماء: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] إن كان من البشر شملته الآية {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] ولفظة (كل) عند العلماء: تفيد العموم ولم يخرج عن هذا العموم أحد -أي: في الدنيا- إلا إبليس لعنه الله، وعيسى عليه السلام بدلالة النص الخاص بكل منهما. ولو أخذنا الآية على جميع أفرادها وجميع زمانها صار الكل فانياً. الدليل الثاني من القرآن: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] . والخضر نبي: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران:81] فلا شك أنه داخل في هذه الجملة، ولا نعلم في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف ضعفاً منجبراً أن الخضر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به وصدقه وجاهد معه، فأين كان؟ وقد أخذ الله الميثاق على جميع الأنبياء الذين يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وهم أنبياء أخذ عليهم الميثاق أنه إذا ظهر هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم أنه يجب عليهم أن يأتوه ويعزروه وينصروه، فإن كان الخضر حياً فأين كان؟ أليس هذا من الطعن في الخضر وأنه خالف ميثاق الله عز وجل ولم يجد لنصرة النبي عليه الصلاة والسلام، أليس القول ببقائه من باب الطعن فيه؟ بلى. وبهذا احتج ابن الجوزي رحمه الله على أن الخضر مات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 قصة موسى والخضر [3] إن الله عز وجل قد آتى الخضر عليه السلام علماً لدنياً من عنده، وهذا العلم اللدني ليس هو العلم الباطني الذي يدعيه الصوفية، فيجعلون هذا العلم خفياً عن بقية الناس، ولا يدركه إلا الخواص وإن كان ظاهره مخالفاً للشريعة، وإنما العلم اللدني هو الفهم والعلم الذي يلهمه الله ويجعله لبعض العباد، وأما الرؤيا المنامية فليست طريقاً للعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 لقيا موسى بالخضر عليهما السلام إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لما نسي موسى وفتاه الحوت، ثم ذكراه وجعل الله علامة وجود الخضر أن يقفز الحوت في البحر، أي: بعد أن ترجع الروح إليه، هنا يكون الخضر. فعندما قال موسى لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62] ، حينئذٍ تذكر الغلام أن الحوت قفز هناك عند الصخرة: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف:63-64] هذه بغيتنا وليس مهماً أن نأكل الحوت، المهم أن وجدنا المعلم والأستاذ {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64] أي: رجعا يقصان آثارهما. ومعنى (قصصاً) : هو إعادة الشيء كما لو قلت لك: قص علي ما جرى لك، فترجع القهقرى إلى الماضي فتقص عليَّ ما جرى، فهنا: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64] أي: جعلا يعيدان المشي على آثار الأقدام مرة أخرى، (يقص قدمه) أي: يمشي على أثره تارة أخرى. وأول ما ذهب إلى هناك وجد الحوت المملح بعد أن ردت إليه الروح حبسه الله عز وجل في دائرة حتى تكون علامة على وجود المعلم، حينئذٍ نظر موسى عليه السلام فوجد الخضر، قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65] هذا هو المعلم الذي آتاه الله عز وجل من عنده علماً لا يوجد عند موسى عليه السلام. هذا المعلم اسمه (الخضر) وسمي بهذا الاسم لأنه جلس ذات مرة على فروة بيضاء فإذا هي تهتز خضراء، وليست فروة الخروف، إنما الفروة: المكان الذي به الحشائش اليابسة، فهذا النبات اليابس صعد عليه فاهتز أخضر، فسمي الخضر لأجل هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 الخلاف في الخضر أنبي هو أم ولي أم ملك اختلف العلماء هل الخضر نبي أم ولي أم ملك؟ على ثلاثة أقوال: وجمهور العلماء على أنه نبي، وجماعة من الصوفية وزنادقتهم يقولون: هو ولي، وجماعة يقولون: هو ملك. قال الإمام النووي: (وقول القائلين: هو ملك باطل، كما أنه ليس بولي) . وقلنا عن هؤلاء الصوفية: زنادقة؛ لأن الزنادقة يجعلون الولي أفضل من النبي والرسول، قال قائلهم: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي فقوله: (فويق الرسول) أي: فوق مقام الرسول بقليل، ودون الولي، إذاً: مقام الولاية أعلى من النبوة، والنبوة أعلى من الرسالة، فالولاية أعلى من النبوة والرسالة. ولكن كما قال جمهور العلماء: الخضر نبي لكن لم يرسل لأحد، فهناك فرق بين النبي وبين الرسول. فالنبي: هو رجل اختاره الله عز وجل واجتباه وعلمه، فيقال: هذا نبي ليست معه رسالة لأحد، إنما هو مقام ورتبة شريفة. والرسول: هو الذي أرسل لجماعة من الناس أو طائفة أو أسرة أو للناس جميعاً كما هو حال النبي عليه الصلاة والسلام، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً. فالخضر عليه السلام نبي ليس برسول، إذ ليست معه رسالة لأحد ولم يبعث لأحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 الخلاف في الخضر أحي هو أم ميت اختلف الناس: هل الخضر ما زال حياً حتى الآن؟ الصوفية على أنه حي حتى الآن، وأهل التحقيق من العلماء على أنه قد مات، وكثير من الذين يأكلون أموال الناس بالباطل يأكلونها في بطونهم ناراً يدجلون على الناس بوجود الخضر، فيقولون: أتاني سيدي الخضر، وقال لي: كذا وكذا، والتابع لا يعترض. وقرأت حكاية عجيبة لرجل صوفي مارق كافر بالله تعالى، لا يفعل شيئاً من شعائر الإسلام إطلاقاً، ويزني بحليلة جاره، فهذا الرجل عنده بيت كبير وكان من المشهورين بأن الخضر عليه السلام يتصل به ويأتيه ويعلمه، وضع في فناء داره صندوقاً خشبياً ووضع عليه كسوة كالكعبة تماماً، فإذا أراد أحد المساكين المريدين شيئاً من ذلك الشيخ يطوف حول الصندوق سبع مرات أولاً، ويدعو الله أن يجعل له القبول في قلب الشيخ، وقبل أن يدخل على الشيخ ينتظر ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً أو أربعاً ثم يدخل فيقبل قدميه ورجليه ويديه ويقول حاجته، فالرجل يصطنع حركات يحضر الخب، والخب عفريت جان، ثم يقول له: مولانا الخضر وسيدنا الخضر يقول: افعل كذا وكذا، وهات معك ديكاً، وهات معك عجلاً، وهات معك مالاً وهات معك. إلخ فأكثر الذين يدعون الاتصال بالخضر دجالون كذبة، ولا أقول: مرقة عن دين الإسلام إلا إن تبين من فعله أنه مارق. فأول حل لعقدة الزندقة هذه أن نقرر أن الخضر مات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 الأدلة على أن الخضر مات نحن نقول ونعتقد اعتقاداً جازماً أن الخضر مات بدليل أربعة أشياء: القرآن، والسنة، وإجماع العلماء المحققين، والمعقول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 الأدلة من القرآن على موت الخضر فأما القرآن فإن الله تعالى قال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] أي: إن مت أنت وأنت أشرف منهم جميعاً فهل يخلدون هم؟ الجواب لا. وقد احتج الحافظ ابن كثير وجماعة من محققي أهل التفسير بهذه الآية على أن الخضر مات؛ إذ أنه لو كان حياً لكان مخلداً، والله عز وجل ذكر لنا واقعة إبليس وطلبه أن يعيش إلى يوم القيامة في القرآن، وهذه معجزة ليست هينة، فكيف لم يقرن به الخضر وهو يعيش كما في بعض الروايات الكاذبة التي يحتج بها من يقول ببقائه إلى الآن وبعد الآن، بل يقولون: إنه يقتل الدجال مع عيسى بن مريم عليه السلام. فإذا كان يعيش هذا العمر الطويل لِمَ لم يأتِ ذكر نبوته في القرآن ولا في السنة الصحيحة، فهذا من أعظم القرائن على أن الخضر مات، ثم إن الله عز وجل جعل حياة نوح آية، حيث أحياه الله ألف سنة إلا خمسين عاماً للدعوة إلى الله، ولا يذكر الخضر وهم يقولون: إنه من صلب آدم، وهذه آلاف السنين لا يذكرها ويذكر صاحب الألف سنة إلا خمسين عاماً!! فهذا دليل آخر على بطلانه. ولو كان من ذرية آدم لأدرك نوحاً، والله عز وجل يوم أهلك قوم نوح وركبوا السفينة وأخذ فيها من كل زوجين اثنين لم يكن الخضر فيها، فأين كان إذاً؟ ثم إن الله تعالى أهلك كل الأزواج في سفينة نوح، ويدل عليه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77] ، فذرية نوح فقط هي التي بقت، إذاً: لو كان الخضر حياً لهلك؛ لأنه ليس من ذرية نوح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 الأدلة من السنة على موت الخضر أما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة العاشرة من الهجرة قال لأصحابه فيما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أرأيتكم ليلتكم هذه؟ لا يكون بعد مائة سنة على ظهر الأرض ممن يعيش اليوم أحد) ولذلك فإن هذا الحديث يعتبر من أعلام نبوته صلى الله عليه وآله وسلم. فآخر صحابي مات سنة (110هـ) ، إذاً: مات بعد مائة سنة تماماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا في السنة العاشرة من الهجرة قبل أن يموت بقليل. لأنه أتى أناس بعد ذلك ادعوا الصحبة، وقالوا: نحن أصحاب رسول الله وعاشرناه وجالسناه، فإذا كان هذا القائل يقول هذا الكلام في سنة (140هـ) فهو كذاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يعيش بعد مائة سنة أحد ممن يعيش اليوم على ظهر الأرض) فيكون هذا المدعي قد عاش ثلاثين سنة بعد الموعد الذي حدده النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلو كان الخضر حياً زمن النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءت عليه مائة سنة إلا وقد مات، وهذا واضح جداً، واحتج الإمام البخاري بهذا الحديث على أن الخضر قد مات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 اعتراض للقائلين بحياة الخضر والجواب عنه قال بعض العلماء الذين يقولون بحياة الخضر وأنه لا يزال حياً: إن هذا الحديث ليس فيه دليل على أن الخضر مات، لأن عيسى بن مريم حي والحديث لم يشمله، والدجال حي والحديث لم يشمله، فهو لم يشمل الخضر إذاً، وهذا الكلام قد يبدو وجيهاً لكنه ليس بوجيه لسببين اثنين: السبب الأول: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يعيش أحد على ظهر الأرض) والمسيح في السماء، فالحديث لا يشمله بطبيعة الحال. السبب الثاني: الدجال في الأرض وهو حي، ولكن ثبتت أحاديث كثيرة تدل على أنه لا يموت حتى يأتيه أجله، فحديث حياة الدجال مستثنى من ذلك العموم، ومخصوص به وحده، وهذا الحديث سارٍ على كل أحد دون الدجال. ولم يأتِ في حديث صحيح ولا ضعيف أن الخضر حي حتى اليوم. ثم الذين يقولون بحياة الخضر عليه السلام، نقول لهم: أين يعيش؟ يقولون: هو يعيش في القفار يعتزل الناس، فنقول: سبحان الله! قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] والخضر نبي، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: (أخذ الله الميثاق على كل نبي يأتي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برسالته وهو حي أن يؤمن به ويجاهد معه) ، فلو كان الخضر حياً للزمه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويجاهد معه ويؤمن به، ولو جاء الخضر إلى النبي عليه الصلاة والسلام لكان هذا من أعظم المعجزات؛ لأنه رجل حي من زمن آدم، فكيف لا يأتي به إسناد واحد صحيح؟ فهذا من أعظم الآيات على أن الخضر عليه السلام مات. ثم إن الخضر عندما جعل موسى عليه السلام يعترض عليه في كل أمر يفعله، قال له: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] فكيف يترك الخضر صحبة موسى عليه السلام ثم يصاحب المرقة الخارجين من الشرع، الذين لا يصلون ولا يزكون ولا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا يحجون؟! وهل هذا إلا من أعظم العيب له والطعن فيه؟! وأمور كثيرة لو استقصيناها لوجدنا أن الخضر لا يمكن أن يكون حياً بل قد مات، هذا فيما يتعلق بالخضر ونبوته وأنه عليه السلام مات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 العلم اللدني بين الفريقين قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا} [الكهف:65] (عبداً) تنكير للتعظيم، أي: أنه ليس كأي عبد {مِنْ عِبَادِنَا} [الكهف:65] هنا (نا) الإضافة للتشريف للخضر حيث أضافه الله عز وجل لنفسه، وكان أحد العباد يقول لربه عز وجل: كفاني فخراً أن تكون لي ربا وكفاني عزاً أن أكون لك عبداً {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الكهف:65] الرحمة النبوة {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65] هنا أيضاً مرقت الصوفية الذين يقولون: بالعلم اللدني ويحتجون بهذه الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 العلم اللدني عند أهل السنة العلم اللدني عند العلماء من أصحاب هذه الملة أن يكون الرجل ورعاً تقياً لا يلابس الشبهات فضلاً عن المحرمات، وأن يخلص قلبه كله لربه، وألا يفتقده ربه حيث أمره ولا يجده حيث نهاه، إذاً: يكون من طراز الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان. فهذا العلم اللدني هو من باب قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] كأن تعرض عليك مسألة يلهمك الله رشدك ويلهمك صوابك فلا تنطق إلا حقاً، ولا تقول إلا ما يمليه عليك سبحانه وتعالى عن طريق الإلهام، وإليه أيضاً الإشارة في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، قيل لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آل البيت بشيء من العلم دون الناس؟) . الصوفية ينتسبون إلى آل البيت إلا أننا نحب آل البيت أكثر منهم، ونعرف قدر آل البيت أكثر منهم، لأننا نتبع آل البيت في سلوكهم، بينما هم لا يتبعون آل البيت في شيء، فمثلاً: تعظيمهم للحسين بن علي رضي الله عنه؟ أنه يذهب يشرك بالله ويمرغ خديه عند القبر ويقول: يا حسين أعطني، يا حسين اشفني مدد، قل: يا رب أطلب منك مدداً، أين ربك ورب الحسين؟ لو أتيت هذا الرجل فنظرت إلى بيته وإلى سلوكه لوجدته مارقاً، ما اقتدى بـ الحسين رضي الله عنه في تقواه وورعه وسلوكه أبداً. ولو طلبت منه أن يقص عليك سيرة الحسين كيف صلاته؟ وكيف بكاؤه في الليل؟ وكيف مناجاته ربه؟ لوجدته لا يعرف شيئاً، يأتي الرجل في مولد الحسين، يأتي الرجل من القرية ليبيع بعض مواشيه ومعه زوجته وسجائر، فيجلس هو وامرأته ثلاثة أو أربعة أيام على الرصيف، فتنام المرأة، وتنكشف عورتها ويظهر فخذها، وكل هذا لا يضر عندهم، وكل هذا في حب الحسين وهؤلاء هم الذين ينتسبون لآل البيت. وحاشا آل البيت، بل هم أطهر الناس، ولا ينتسب لهم إلا محب يعمل بعملهم ويقتدي بهديهم، وقد حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة في آخر حياته: الله الله في آل بيتي اتقوا الله فيهم، وجعل من علامة حبك له صلى الله عليه وسلم أن تحب آل البيت، فنحن نحب آل البيت بحبنا للنبي صلى الله عليه وسلم. فـ علي بن أبي طالب وهو عمدة آل البيت بعد النبي عليه الصلاة والسلام يُسأل: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم دون الناس؟) قال: (لا. ما خصنا إلا بهذه الصحيفة، ففتحوا فإذا فيها الجراحات -أي: جزء من الحدود وهو حكم شرعي عادل لم يكن عند علي وحده إنما كان عند غيره من الصحابة- قال: أو فهماً يؤتيه الله عز وجل لرجل في كتابه) فقط. وقوله: (أو فهماً يؤتيه الله عز وجل بشراً في كتابه) كان منهم علي، إذا عرضت عليه المسألة ينظر فيها، فيلهمه الله عز وجل رشده ويختصه بصواب هذه المسألة، في حين أن كثيراً من الناس لم يصل إلى الصواب فيها. وهذا من باب: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] . وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال صلى الله عليه وآله وسلم عنه: (إنه إن يكن فيكم ملهمون فـ عمر) هذا هو العلم اللدني الملهم من السماء، (إن يكن منكم ملهمون -وفي رواية- إن يكن منكم محدثون فعمر) فكان عمر رضي الله عنه يقول شيئاً للنبي عليه الصلاة والسلام ثم ينزل القرآن يوافق رأي عمر. وفي ذات مرة قال عمر: (يا رسول الله، حجب نساءك) ولا يتصور من قوله: (حجب نساءك) أن أمهات المؤمنين كن يخرجن كاشفات شعورهن، إنما (حجب نساءك) أي: أحجبهن عن الناس ألبتة فلا يراهن الناس ولا يرين الناس، هذا هو المقصود بالحجاب، أي: أن المرأة لا تخرج من بيتها، فلا زال النبي عليه الصلاة والسلام يتأنى؛ لأن أي شيء يتعلق بالشرع لابد فيه من الوحي، قال عز وجل في مدح نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] أي: عن هوى نفسه، لو رأى شيئاً استهواه واستحسنه لا ينطق به حتى ينزل من الله فيه وحيٌ، يقول له: افعل أو لا تفعل. فلذا كان لا يجيب عمر، ولا يُظنَّ أن عمر أتقى من النبي، أو أن نظرته أدق من نظرة النبي، يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى رؤية عمر واستحسنها، لكنه لا ينطق عن هوى نفسه. فكل مسألة يقول عمر: يا رسول الله، افعل كذا، كان ينزل الوحي يؤيد عمر، فهذا هو العلم اللدني، وهو يحتاج إلى ورع وتقوى وإخبات وتذلل إلى أن يكون الرجل عبداً لله عز وجل، وأما العلم اللدني عند الصوفية فهو أن يكون مارقاً من عبوديته لربه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 العلم اللدني عند الصوفية قرأت في أحد كتب الصوفية، وهذا الكتاب من أبشع الكتب على وجه الأرض، حتى كتب اليهود والنصارى ليس فيها هذا الكفر، رجل صوفي يذكرون هذا الذي سأقوله في مناقبه ومآثره، كما مثلاً يذكر في ترجمة أبي بكر الصديق تقواه وورعه وسبقه بالخير، وترجمة عمر أنه عادل، وفي ترجمة عثمان أنه حيي، وفي علي أنه أقضى هذه الأمة، وفي أبي بن كعب أنه أقرأ هذه الأمة، وفي أبي ذر لهجة الصدق، كما يقال: اذكروا محاسن موتاكم. فهذا يذكرون في مناقبه ومآثره أنه كان يأتيه الصبي الأمرد -أي: الولد الصغير الذي لا لحية له- فيتحسسه من عورته ويخلو به كما يخلو الرجل بامرأته، وهذا لواط، فلا يعترضون عليه؛ لأنه كان يعلمهم، فيقول لهم: أي شيء أفعله تضيق عنه أفهامكم فإياكم أن تعترضوا، فمن اعترض انطرد، هذا مبدؤهم، أي شيء لا تفهمه فإياك وحذارِ أن تظن بالشيخ ظن سوء. ويسمون هذا: علم باطن، أي: أنه يخفى علينا جميعاً نحن المساكين، فيأتون بالموبقات التي ينهى الشرع عنها، وإذا اعترضت قالوا لك: أنت لم تفهم، ولم تؤت العلم اللدني، وهو ليس بعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 تلبس الشيطان بصورة الخضر قد يقول قائل: هذا الرجل الذي رأى الخضر في منامه كيف تكذبه؟ هو يقول: رأيت الخضر، فكما أنه لا يجوز أن يرى رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يره حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بصورة نبي، فإذا كان الخضر مات أو إذا كان الخضر حياً فجاء لرجل مناماً فهل الشيطان يتمثل بصورة نبي؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 عدم تمثل الشيطان في صورة النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) ، وكلمة (حقاً) أي: رأى صورتي فقط، لا يتصور أنه رآه بشحمه ولحمه، فهذا لم يقل به أحد، وإلا لو كان بشحمه ولحمه لما رآه في الكرة الأرضية في الليلة إلا واحد، مع أنه ربما رآه عشرة أو عشرون أو ثلاثون أو أربعون في ليلة واحدة، فكيف يحضر بشحمه ولحمه؟ هل يمزق نفسه؟ وإنما هو الشبه فقط. والذين يقولون: رآه بصورته الحقيقية يلزم من ذلك أن يخرج من قبره، وأن يخلو القبر منه، ولم يقل بهذا أحد، إنما يرى صورته. وفي واقعة بإسناد حسن أن رجلاً من التابعين لم ير النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ ابن عباس: (إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ولو شئت وصفته لك، قال: صفه لي؟ فجل الرجل يقول: وجهه كذا، وشعره كذا، وطوله كذا، وعرضه كذا. قال ابن عباس: (لو كان حياً ورأيته ما وصفته بأبلغ من ذلك) لو كان حياً وهو أمامك وتصفه وأنت تراه لم تقل شيئاً أكثر مما قلت. فمن رأى النبي عليه الصلاة والسلام في المنام فهذه رؤيا حق، (ومن كذب عليَّ) أي من قال: رأيت النبي ولم يره (فليتبوأ مقعده من النار) لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن كذباً عليَّ ليس ككذباً على أحدكم) لأنه رسول وكلنا جميعاً نتلقى الدين منه، فلو جاز الكذب عليه لجاز لكل العالم أن يعمل بالكذب. ومسألة أن الشيطان لا يتمثل بصورة النبي هذه مخصوصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد في حديث أن الشيطان لا يتمثل بصورة الخضر، إنما هذه مخصوصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، فكون الشيطان يتمثل بصورة الخضر هذا محل بحث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 الرؤيا المنامية لا تفيد علما ً هب جدلاً أن الشيطان لا يتمثل بالخضر، فهل إذا جاء الخضر وقال لك: افعل كذا وكذا، هل يلزمك أن تفعل؟ بل لو أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءك في المنام حقيقة وكنت صادقاً في رؤيته، وكنا في اليوم الأخير أو قبل الأخير من شعبان، فجاءك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: غداً أول رمضان، هل يلزمك أن تصوم، هل يلزمك أنت أيها الراعي أن تفتي الأمة وتفتيها بهذه الرؤيا المنامية؟ أجمع العلماء على أن هذا لا يجوز؛ لأن العلم إنما يتحمل في اليقظة وليس في المنام، وأي رؤيا منامية لا يؤخذ منها أي حكم شرعي؛ إذ أن الدين قد تم، والذي رأى الرؤيا المنامية إن كان سيفتيك بشيء جاء به الشرع، فنقول له: دع رؤياك لنفسك وعندنا الدليل، وإن كان لم يأتِ به الشرع فأنت تزعم أن الشرع ناقص وهذه الرؤيا المنامية تكمل نقصان الشرع، وهذا تكذيب لله عز وجل إذ يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] فما مات النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد كمل الدين وتمت النعمة. حتى لو جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأفتاك بشيء أو قال لك: بلغ هذا عني، فليس عليك أن تبلغ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قبل أن يموت بلغ كل شيء، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: (ما تركت شيئاً يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أمرتكم به، وما تركت شيئاً يباعدكم عن الجنة ويقربكم من النار إلا نهيتكم عنه) . فلو جاء الخضر فقال شيئاً فلا يلزم من هذه الرؤيا أي شيء من العلم. نسأل الله عز وجل أن ينجينا من البدعة، وأن يقربنا من السنن، وأن يلهمنا رشدنا. ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 قصة موسى والخضر [4] ليس في الشرع علم باطن يخالف دلالة الظاهر كما يدعي ذلك الباطنية، بل لابد للباطن من علاقة بالظاهر سواء كان هذا في الكلام أو في المعاملات والنفوس، وقد يحتاج العالم إلى كتمان بعض العلم عن الناس لئلا يكون لهم فتنة، فلا يكون هذا من العلم الباطني، إلا أن الله عز وجل يرزق بعض عباده فطنة وفراسة تميزه عن سائر الناس، وهي أيضاً ليست من العلم الباطني الذي يدعيه الباطنية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 العلم الباطن والظاهر إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن الشرع ليس فيه ما يسمى بعلم الباطن الذي يخالف دلالة الظاهر، فقوله تعالى إرشاداً لموسى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] ، والمسلمون جميعاً يعرفون أن فرعون رجل جبار له قصة طويلة. فأي مسلم قرأ القرآن أو قرأ السيرة أول ما يسمع قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] يعلم أنه فرعون موسى، وأما الباطنية فيؤولون هذه الآية ويقولون: (اذهب إلى فرعون) أي: إلى القلب، فالقلب هو فرعون الذي يجب أن يذهب إليه. ويقولون: هذا باطن، وأنتم يا أهل الظاهر، ويا أصحاب الشريعة لا تتوصلون إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 الفطنة والإلهام ليس من العلم الباطني فظهر مما ذكرت أن حديث أبي هريرة وقوله ليس فيه أية حجة للذين يفصلون الباطن عن الظاهر. وكثير من الصحابة أوتي فطنة أكثر من الآخر، فمن العجب أن يأتوا إلى الفطن إذا بصر الله عز وجل له أمره فأخبره عن شيء فحدث في المستقبل كما أخبر، فيقولون: هذا عنده علم باطن لمجرد توقع واحتمال قاله فصدقه الله عز وجل في المستقبل، فيقولون: هذا عنده علم باطن. والواقع أن الأمر بخلاف هذا، فعندنا في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صعد على المنبر يوماً وقال: (إن الله عز وجل خير عبداً بين زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده) فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: (نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله) فصار الناس يتعجبون لِمَ يبكي هذا الشيخ؟ مع أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم كلام طبيعي. قال أبو سعيد: (فتعجبنا للشيخ لم يبكي؟ ثم علمنا أنه كان أفهمنا، فكان المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا اقتراب أجله) أي: أنه سيموت، فهمها أبو بكر مع أن الكلام عام، ولم يفهمها الصحابة، فهذا من باب قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] . عمر عندما أرسل جيشه يقاتل وبين عمر والجيش آلاف الأميال، صعد عمر على المنبر، فبينما هو يخطب إذ قال: (يا سارية! الجبل الجبل) كلام معترض لا علاقة له بالخطبة، فلما كتب الله النصر للجيش ورجع، قال الأمير: يا أمير المؤمنين، كأني سمعت صوتك وأنت تقول: (يا سارية! الجبل الجبل) ، فلما اعتصمنا بالجبل نصرنا الله عز وجل. فـ عمر حصل عنده كشف، وهذا إلهام من الله لـ عمر: (ومعنى (الجبل الجبل) أي: الزم الجبل واجعل ظهرك بالجبل، وكان الأعداء يأتونه من قبل الجبل، قال: (يا سارية! الجبل الجبل) فلما سمع سارية هذا جعل ظهره للجبل فنصره الله عز وجل. هذا من عاقبة الإخلاص الذي إن جمعه عبد في صدره آتاه الله عز وجل حكمة، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن يكن منكم ملهمون فـ عمر) ، وفي رواية أخرى: (إن يكن منكم محدثون فـ عمر) (محدثون) : أي: من السماء. وفي الحديث الحسن: (لو كان بعدي نبي لكان عمر) كل هذا توفر لـ عمر، فعندما قال: (يا سارية! الجبل الجبل) هذا إلهام من الله عز وجل ليس له علاقة بالباطن الذي يقصده القرامطة وغلاة الصوفية، وإلا فإن الباطن هنا مهم، وهو إخلاص النية لله عز وجل، وأن يكون باطن الرجل كظاهره. إذاً: خلاصة الكلام في هذا الأمر أنه لا يوجد شيء اسمه (علم الباطن) على طريقة القرامطة والإسماعيلية وغلاة الصوفية، ولا يوجد إطلاقاً ظاهر في الشرع لا علاقة له بالباطن أبداً، إنما هناك باطن يكون ظاهراً لبعض الناس وباطناً لعامة الخلق. ففي مثل قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] المعنى الذي ذكرته لا يتفطن إليه إلا علماء قلائل، فهو بالنسبة للناس جميعاً باطن لا يعرفونه، بل كثير من علوم الشريعة الظاهرة تعتبر باطنة لكثير من الناس لا يعرفونها، فإن كان الباطن بهذا الاعتبار كان صحيحاً بشرط أن يكون له علاقة باللفظ. هذا هو تفسير الباطن الذي يقره الإسلام، أما بغير هذا فقد أفضنا فيه القول. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. ونسأل الله عز وجل أن يهدينا للتي هي أحسن وللتي هي أقوم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 العلم الذي كتمه أبو هريرة ليس مما يحتاج إليه قال أبو هريرة: (إني أخذت جرابين من علم فأما واحد فبسطته فيكم، وأما الآخر فلو قلته لقطع مني هذا البلعوم أو هذا الحلقوم) وهذا لا دلالة فيه للباطنية للآتي: أولاً: أنه لا يجوز كتمان العلم الشرعي، فلو أتى رجل وقال: يا أبا هريرة إني بعدما توضأت أكلت طعاماً هل عليَّ وضوء؟ لا ينبغي لـ أبي هريرة أن يكتم هذا العلم؛ لأنه لو كتمه لصار هذا الرجل لا يعرف أصلاته صحيحة أم باطلة، ووضوءه صحيح أم باطل. ولو قال له: إني قمت من النوم جنباً ووجدت ولم أجد ماء، أأترك الصلاة حتى أجد الماء أم ماذا أفعل؟ ينبغي على أبي هريرة أن يقول له الجواب إن فقدت الماء وأنت جنب فتيمم لرفع الجنابة ولا ينبغي لأي صحابي أو تابعي أن يكتم مثل هذا العلم. أما العلم الذي كتمه أبو هريرة فهو علم الفتن والملاحم التي تكون بين يدي الساعة، فإن الملوك وأعوان الملوك يدخل عليهم الغم أن يعلموا أن دولتهم ستزول، فلو قال أبو هريرة: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول مثلاً: إن ملك بني أمية سيزول، لعلهم يقتلونه، مع أن هذا ليس فيه شيء من العلم الذي ينتفع به الناس، فكتمانه لا شيء فيه. ولذلك قال عبد الله بن عمر: (والله لو حدثكم أبو هريرة فقال: إنكم تهدمون بيت الله، لقلتم: كذب أبو هريرة، ولو حدثكم أبو هريرة فقال: إن أميركم سيضرب الكعبة بالمنجنيق فيهدمها؛ لقلتم: كذب أبو هريرة) هذا هو العلم الذي خبأه أبو هريرة ولا فائدة للعامة فيه. ولذلك مما يدل عليه أن أبا هريرة قال: (اللهم أني أعوذ بك من رأس الستين وإمارة الصبيان) ما هو رأس الستين وما هي إمارة الصبيان التي استعاذ منها أبو هريرة؟ رأس الستين، أي: سنة ستين هجرية، ففي سنة ستين هجرية صار يزيد بن معاوية هو الأمير، فهذه هي إمارة الصبيان. الله عز وجل استجاب لـ أبي هريرة فمات سنة ثمانية وخمسين، وفي رواية: (سنة تسع وخمسين) . هذا من العلم الذي كتمه أبو هريرة، ولو أتى وقال: إنك صبي غر ستأخذ الإمارة على رأس ستين لقتلوه. فالمقصود أن أبا هريرة كتم علماً لا يهم العامة ولا ينبني عليه عمل يذكر، إنما هو في الفتن والملاحم وفي دلائل النبوة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 لزوم علاقة باطن الكلام بظاهره الكلمة لابد أن يكون ظاهرها كباطنها، أو يكون بينهما قاسماً مشتركاً وإلا كانت خطأ. فمثلاً: في قول الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77-79] ، (المطهرون) : يقول الفقهاء: عند مس المصحف لابد من الطهارة من الحدث الأكبر اتفاقاً، أما الحدث الأصغر فعلى خلاف بينهم، فلو قال قائل: (لا يمسه إلا المطهرون) أي لا يدرك حقائق القرآن ولا ينتفع بها إلا طاهر القلب كان هذا معنى صحيحاً؛ لأن له علاقة بظاهر اللفظ ولا ينافيه. وحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب أو جنب) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (لو قال قائل هنا إن القلب لا تدخله حقائق الإيمان إن كان فيه كبر أو غش وسواد لكان هذا ملائماً للمعنى العام) . فلابد أن يكون هناك علاقة ولو من طرفٍ خفي بين ظاهر اللفظ وبين باطنه، أما أن يشرق اللفظ ويغرب الباطن فهذا من فعل القرامطة الإسماعيلية وغلاة الصوفية، وهذا باطل بلا شك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 العلم الباطني عند الباطنية واستدلالهم له قالت الصوفية الذين يحتجون على أهل السنة ويقولون لهم: أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، قالوا: إن فيما تروون ما يؤيد مذهبنا، بل هو في صحيح البخاري! قالوا: قول أبي هريرة رضي الله عنه: (أخذت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم جرابين من العلم: فأما واحد فبسطته بينكم، وأما الآخر فلو ذكرته لقطع مني هذا البلعوم) قالوا: إذاً أبو هريرة كتب شيئاً من العلم أخفاه، وعنده باطن لم يقله للناس، فهذا يؤيد ما نذهب إليه من أن هناك علوماً تخالف ظاهر ما يعرفه الناس ولا ينبغي أن يعرفوها وإلا ضلوا؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 تحديث الناس بما يعرفون أمر شرعي لا دلالة للباطنية فيه الجواب أن هذا حق اختلط بباطل كثير، ولكن لا ينبغي أن يحدث الناس إلا بما يعرفون، كذا أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم وكذا فهم أصحابه. روى مسلم في مقدمة صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) وهذا شيء طبيعي أن تنزل الكلام على قدر عقول الناس، فيجوز لك أن تكتم بعض العلم عمن تتصور أنه يفسد إذا ألقيت عليه هذا العلم، هذا أمر لا ينكر في الشريعة وله شواهد كثيرة. فمثلاً: قام رجل يخطب في إحدى القرى والأرياف، والغالب على أهل الأرياف أنهم فلاحون بسطاء، ولعل أكثرهم لم يتلقَّ شيئاً من العلم وإنما أخذوا من القراءة والكتابة أبجدياته، فصعد على المنبر ففسر قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] بأن الكفار هنا هم الزراع، فالقاعدون قالوا: تحكم علينا بالكفر؟ أنحن كافرون؟ فقال لهم: لا. وإنما المقصود كذا وكذا، فلم يسمع أحد، فكان يقول: اقرءوا ابن كثير وابن جرير والطبري والقرطبي، فلا يسمع أحد، فهذا هو الخطأ، أن يأتي على أقوام لا يفهمون أبجديات العلوم فيحدثهم كما لو كانوا جميعاً من علماء الأمة، فهذا لا ضير عليه ألا يقوله. كذلك أنس بن مالك رضي الله عنه كما في صحيح البخاري حدث الحجاج بن يوسف الثقفي الأمير الظالم المشهور بحديث العرنيين، وحديث العرنيين: أن جماعة أسلموا فاجتووا المدينة، أي: كرهوها وملوها وكانت مكة أطيب هواءً من المدينة، فلما هاجر الصحابة من مكة إلى المدينة مرضوا، فمرض أبو بكر وبلال وسعد وجماعة؛ لأن جو المدينة غير صحي وفيه حمى كثيرة، ولأن المدينة ستصبح دولة الإسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم حبب إلينا المدينة حبنا لمكة أو أشد) . فالقوم الذين هاجروا يجب أن يحبوا الوطن الجديد حتى يعمروا فيه، فكرهوا المدينة لخبث هوائها وسوء جوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم حبب إلينا المدينة حبنا لمكة أو أشد، اللهم أخرج حماها إلى الجحفة) والجحفة من أعمال مكة، وهي قرية خربت الآن، وهي ميقات أهل مصر، إذا خرج الحجاج من مصر فميقاتهم الجحفة، لكن الجحفة خربت فاستبدلوها برابغ، وهي قرية قريبة من الجحفة. فقال عليه الصلاة والسلام: (إني ليلة أمس رأيت امرأة سوداء الشعر، سوداء الوجه، كثيرة الشعر، خرجت من المدينة وقعدت في الجحفة فأولتها الحمى) فصارت المدينة أحب إلى الصحابة من أي مكان آخر. فأولئك العرنيون اجتووا المدينة: أي كرهوها وكرهوا المقام بها وسقمت صحتهم، فذهبوا يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (الحقوا براعي كذا -وكان راعياً على إبل الصدقة- فاشربوا من أبوال الإبل وألبانها) وهذا دليل على أن بول الإبل طاهر، قال الفقهاء: وبول كل ما يؤكل لحمه طاهر أيضاً. فلو أن البقرة أو الجاموسة تبولت ووصل إلى ثوبك بعض البول يرون أن هذا لا شيء فيه؛ لأنه لو كان بول الإبل نجساً لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولئك العرنيين بشربه. فذهبوا فشربوا من أبوالها وألبانها، وقتلوا الراعي، وأخذوا الإبل، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم يطلبهم، فلما جيء بهم قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، أي: يأتي بمسمار محمي فيضعه في العين، وصلبهم حتى ماتوا. هذا جزاء الذين يحاربون الله في الأرض، قال أبو قلابة راوي الحديث: (فأولئك كفروا بعد إيمانهم) . فـ أنس بن مالك حدث الحجاج بهذا الحديث فصار الحجاج كلما يجد رجلاً يخالف رأيه يقتله، ويقول: (هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم) فعوتب أنس كيف يحدث بمثل هذا الحديث للحجاج، فكان أنس يندم ويبكي أنه قال هذا للحجاج. فهنا عليه أن يكتم العلم وليس مستحباًَ فقط، بل يجب أن يكتم مثل هذا العلم عمن يتصور أنه سيفسد إذا علمه، وقس على هذا، فمسألة أن العالم قد يكتم بعض العلم عن السائل هذه المسألة لا شيء فيها ولا علاقة لها بالظاهر ولا الباطن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 علاقة الباطن بالظاهر من جهة المعاملة فنقول: هذا باطل بداهة؛ لأن الباطن لابد أن يكون له علاقة بالظاهر، وهذا ليس في الكلام فحسب؛ بل هذا حتى على مستوى البشر، وعلى مستوى النفوس والمعاملات، فإن خالف ظاهر المرء باطنه كان منافقاً، وكذلك الكلمة إن خالف ظاهرها باطنها كانت خطأً. روى أبو داود والنسائي بإسناد حسن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لما فتحت مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس جميعاً إلا أربعة نفر وامرأتين) . والأربعة هم: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس، وعبد الله بن أبي سرح، قال عليه الصلاة والسلام: (اقتلوهم في أي مكان وجدتموهم ولو كانوا معلقين بأستار الكعبة) . فأما عبد الله بن خطل فذهب فتعلق بأستار الكعبة يظن أنه نجا، وكان كافراً يؤذي النبي عليه الصلاة والسلام، فذهب سعيد بن حريث وعمار بن ياسر يبحثان عنه، فوجداه معلقاً بأستار الكعبة، فأرادا أن يكون لكل واحد منهما الظفر والأجر بقتله، فضربا بسيفيهما فسبق سيف سعيد فقتله. وأما مقيس بن ضبابة فقتلوه. وأما عكرمة بن أبي جهل ففر وركب البحر، فبينما هو في البحر على متن سفينة إذ هاجت ريح عاصف، فقال ربان السفينة: أيها الناس! أخلصوا فإن آلهتكم لا تنفعكم الآن، أخلصوا فإن الإخلاص ينجي، فقال عكرمة في نفسه: (والله لئن كان الإخلاص هو الذي يخلص في البحر فلا يخلص غيره في البر، أما والله لئن أنجاني الله لأذهبن إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسلم عنده وسأجد عفواً) فرجع فأسلم. بقي عبد الله بن أبي سرح وكان أخاً لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه من الرضاعة، فلما علم ابن أبي سرح أنه مقتول اختبأ عند عثمان، حتى جاءت البيعة العامة التي يبايع المشركون فيها نبينا صلى الله عليه وسلم، فخرج ابن أبي السرح محتمياً بـ عثمان، فذهب عثمان وقال: (يا رسول الله! بايع عبد الله، فأعرض عنه، قال: بايع عبد الله فأعرض عنه، قال: يا رسول الله، ألا تبايع عبد الله بن أبي السرح جاء مسلماً، فقبله، ثم قال لأصحابه: (أليس فيكم رجل رشيد حين أغضيت عنه أن يقوم فيقتله، قالوا: يا رسول الله! ما أومأت لنا، ألا تومئ لنا بعينك -يغمز- قال: إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة الأعين) . هنا أمران: الأمر الأول: لماذا كان عبد الله بن أبي السرح بالذات هو الذي رفض النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه مع أنه قبل إسلام عكرمة بن أبي جهل بدون مشاكل؟ الجواب لأن عبد الله كان مسلماً فارتد، أما عكرمة بن أبي جهل فكان كافراً فأسلم، فالفرق واضح حيث إن عبد الله بن أبي السرح أسلم وكفر في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، فوجد عليه أشد الوجد، ولذلك قبله بشق الأنفس، قال: (أليس منكم رجل رشيد حين أغضيت عنه كان يقتله، قالوا: يا رسول الله، ما أومأت لنا بعينك، قال: إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة الأعين) هذه هي استقامة الباطن مع الظاهر؛ لأن خائنة الأعين من شأن المنافقين فقط. وخائنة الأعين لغة مشهورة في دنيا الناس اليوم، فأي رجل صاحب محل تجاري يعرف هذا سلفاً يدخل عليه مشترٍ عميل يقول للغلام: هات شاياً ويغمز له، أي: لا تحضر ولا تأتي، فقط لأجل أن يغبط هذا المشتري معه حتى تتم صفقه. خائنة الأعين هي لغة كثير من الناس، وهذا ضرب من النفاق العام الذي ابتلي الناس به، وسميت خائنة الأعين لأن اللسان صدق والعين خانت، (اللسان صدق) يقول: سأحضر لك شيئاً أو ما تطلبه سأفعله، هذا كلام اللسان، فمقتضى كلام اللسان أنه سيفي بالوعد، فلما غمزت بعينك صارت هذه خيانة وفضاً لاتفاق اللسان أو لقوله، فلذا سميت خائنة الأعين. فخائنة الأعين لا تنبغي أن تكون لنبي، وهذا مثال ظاهر لاستقامة الباطن مع الظاهر، فإذا خالف الظاهر الباطن كان هذا نفاقاً، والنفاق عليه عذاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 قصة موسى والخضر [5] إن موقف موسى من الخضر يعد درساً لطالب العلم في كيفية تعامله مع شيخه من التواضع له، والتلطف معه، وعدم الاستنكاف من السؤال، حتى ولو كان السائل أفضل وأعلم من المسئول، وبهذه الآداب عمل السلف الكرام، وكانت أفعال الخضر في ظاهرها منافية للعقل، ومع ذلك وعده موسى بأن يصبر وعلَّق هذا بمشيئة الله؛ لأن الواجب تقديم المشيئة على العمل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 التقاء موسى بالخضر وآداب طالب العلم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فكنا انتهينا بعون الله تعالى إلى وصول موسى عليه السلام إلى الخضر، فلما رآه موسى وعرفه بالعلامات التي وضعها الله له، كانفلات الحوت في البحر قال له موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانطَلَقَا} [الكهف:66-71] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 سؤال الأعلم لمن هو أقل منه لا غضاضة فيه قد يقول قائل: موسى عليه السلام الأعلم يطلب من الخضر العلم وهو أقل منه منزلة وفضلاً وعلماً!! نعم! ليس هناك أي غضاضة في أن يتعلم الرجل ممن هو أقل منه، وهذا مشاهد في الحياة، فتجد الرجل العظيم الكبير الذي جمع أصناف العلوم يتعلم من رجل لا يفهم شيئاً إلا في مهنة واحدة، فمثلاً: لو ذهب الإمام الشافعي إلى خياط يحيك الملابس، فقال له: كيف تخيط هذا الثوب؟ فيقول له: هكذا وهكذا ويظل يعلمه، فهل بهذه الجزئية صار هذا الرجل أعلم من الشافعي؟ الجواب لا. لكن لا يوجد رجل في الدنيا كلها يعرف كل شيء، بل لابد أن يجهل شيئاً ما ويكون هناك من هو أقل بكثير جداً منه يعلم هذه الجزئية. وهذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يوجد أفضل منه ولا أعلم، كما في صحيح مسلم أنه مر على جماعة يؤبرون النخل -أي: يلقحونه، يأخذون لقاح الذكر ويضعونه على الأنثى- فقال: (ما أظن هذا ينفع شيئاً) فنزل الأنصار من على النخلة وتركوها، فإن هذا نبي، فانتظروا أوان حصاد أوان التمر فإذا هو شيصٌ أي: (بلح) لا يؤكل، فأخبروا النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لهم: (أنتم أعلم بشئون دنياكم، إنما أنا بشر فلا تؤاخذوني بالظن) ، فهو ظن أن هذا لا يجدي شيئاً، فلا يقال: إن فلاناً أعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم جزئية من الجزئيات فننزل كلام موسى مع الخضر هذه المنزلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 من آداب طالب العلم ملاطفة العالم فالملاطفة مع العالم أدب؛ لأنه أفضل منك، فهو معه علم وأنت أقل منه، قال الله عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] الجواب لا. فالذين يعلمون شيء والذين لا يعلمون شيء آخر، ولذلك جعل الله عز وجل أولي العلم من الشهداء على وحدانيته مع الملائكة، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] قدم العلم، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ، فالعالم لأجل هذا يرفع. وكان الحافظ ابن حجر العسقلاني أحد حفاظ الدنيا ممن أنجبتهم مصر كان له شيخ يسمى الحافظ العراقي، كان إذا أراد ابن حجر -صاحب كتاب فتح الباري- أن يسأل العراقي مسألة يقف بين يديه ويقول: ما يقول سيدي في كذا وكذا. ولا يقولن رجل: هذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم لما قال له الصحابة: (أنت سيدنا قال: السيد الله) فإن قول ابن حجر لا يخالف هذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: (قوموا إلى سيدكم) وكان سعد بن معاذ قدم راكباً على دابة، فقال لهم (قوموا إلى سيدكم) . فيقول له: ما يقول سيدي في كذا وكذا، حتى لا يوغر صدر العالم عليه، ولا يناديه بكاف الخطاب ولا تاء الخطاب فيقول له: أنت، كما لو كان شخصاً عادياً، إنما يوقره ويحترمه ويرفعه، فيقول موسى للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 أدب موسى مع الخضر وانظر إلى أدب موسى عليه السلام مع الخضر، مع أن موسى أفضل من الخضر، إن كان الخضر ولياً فموسى نبي، والنبي أفضل من الولي، وإن كان الخضر نبياً -وهذا هو الراجح على ما ذكرناه- فموسى يفضل عليه بالرسالة، فموسى أفضل على كل حال، ومع ذلك يقول للخضر بلهجة لطيفة جداً: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] ، أي: أتسمح لي ويطيب خاطرك أن أتبعك شريطة أن تعلمني مما علمت رشداً؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 آفة المسلمين عدم معرفة حقوق علمائهم هذه الآيات تشتمل على آداب طالب العلم، والآفة التي يعاني المسلمون منها أنهم لا يعرفون لعلمائهم حقهم ولا يوقرونهم، بدعوى: (نحن رجال وهم رجال) ، لدرجة أنني رأيت موقفاً غريباً جداً كنت أنا أحد الأطراف فيه، شاب ممن يكفر جماعة المسلمين بارتكاب المعاصي والذين أطلقوا عليهم جماعة التكفير. قلت له في مسألة ما: قال ابن عباس كذا وكذا، قال: هم رجال ونحن رجال!! فقلت: أنا أقول لك: قال ابن عباس، لا أقول لك قال الشافعي ولا أحمد ولا البخاري ولا مسلم ولا إسحاق برغم أنني لو ذكرت هذه الأسماء لوجب عليك أن تنصاع؛ لأنهم أئمة على نقلهم نصلي. قال: هم رجال ونحن رجال. فقلت: إن كنت تقصد بقولك: هم رجال ونحن رجال، في الذكورة فأنا أقر بهذا، أنت ذكر وهو ذكر، لك شارب وله شارب، لك لحية وله لحية، إن كانت الذكورة التي تعنيها هي هذه المواصفات فأنا لا أختلف معك. ولكن إن كانت الذكورة هي العقل ورجاحته والتقوى ورجاحتها فأنا أختلف معك، ولا يخالف أي عاقل في ابن عباس الذي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) . قال لي: وما يدريك أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم استجيبت؟ سبحان ربي! قال الله عز وجل لعباده جميعاً: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] فتكفل الله عز وجل بمقتضى هذه الآية بأنه إذا دعا أي رجل أية دعوة فإنه يستجيب له ما لم يكن بظلم أو قطيعة رحم، فإن كان الله يستجيب لآحاد الناس ألا يستجيب لنبيه؟ هم رجال، وأما نحن فلا ندانيهم ولا يساوي الواحد منا مسماراً في نعل واحد منهم، كيف وقد فتحوا الدنيا ونصروا الدين على أكتافهم، ونحن متخاذلون، وحياتنا كلها بدع، كانوا في القديم حياتهم بين بدعة وسنة، وكانت هناك بدع، ولكن كان في مقابل البدع سنن، أما نحن الآن فندور بين بدعة وردة، وأغلبنا مقلد لا يعرف شيئاً عن دينه الصحيح إلا الإمام. أين رجولتكم وقد ضاعت بلادكم من بين أيدكم؟ أين رجولتكم وبطونكم في أيدي عدوكم، لا تأكلون إلا فتاتاً يرميها لكم؟ أين رجولتكم؟ هم رجال ونحن رجال في الأسماء، فتشابه الألفاظ فقط هذا رجل وهذا رجل، نبينا صلى الله عليه وسلم رجل وأبو جهل رجل لكن شتان ما بين الرجلين، هذا خير من وطئ الحصى، وذاك شر من وطئ الحصى، وإن اشتركوا في الأسماء الظاهرية فقط. أسلافنا رجال في تقواهم وورعهم وفي كل شيء يفعلونه، فأنظر إليهم في عنفوانهم كيف كانوا يطلبون العلم من العالم، بالرغم من أنه كان في القديم إذا مات عالم تجد مائة ألف عالم، أما في هذا العصر فإذا مات عالم شغر مكانه، وبعد سنوات طوال تجد من يسد مكان العالم، فالعالم جوهرة، يكفي أنه يبين مراد الله في الأرض، وحسبه أنه يفعل كذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 صورة من عدم تأدب التلميذ مع شيخه سأعرض عليكم صورة رأيتها بنفسي ليس بيني وبينها واسطة، مَنَّ الله عز وجل عليَّ وصحبت لفترة من الزمان أكبر محدث في هذا العصر وهو الشيخ الألباني، وهذا الرجل جليل القدر جداً، تستشعر كأنه سقط من القرون الأوائل لما عليه من الهيبة، فإن سلوكه لا ينافي قوله. وفيما علمت وأخبرني المخبرون أنه كان إذا عقد مجلساً أرى بعيني شباباً ينامون على ظهورهم بحضرته، ولا أبالغ إذا قلت: إن قدم أحدهم تكون متوجهة أحياناً إلى وجهه، والشيخ ساكت؛ لأن الحياء يمنعه، والحياء يفطر المرء عليه. وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر فوجد رجلاً يعظ أخاه في الحياء -يعلمه أن يستحي- فقال له: (دعه فإن الحياء من الإيمان) . الحياء قرين الإيمان ولا عليك أن لا تعلمه، فالحياء لا يعلم، بل يفطر المرء عليه، ولا خير في رجل لا حياء عنده، فهذا نائم على ظهره والشيخ يفتي أو يلقي درساً من دروس العلم، مع أن الشيخ ناصر الدين الألباني لو مات غداً لظلت الأمة تعاني سنوات طويلة حتى يخلفه رجل مثله، فانظروا إلى شبابنا مع أننا نعاني فقراً في العلماء كيف يعاملونهم، أما أسلافنا فانظروا كيف كانوا يعاملون علماءهم، مع أن العالم فيهم إذا مات تجد مائة ألف عالم يخلفه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 صورة من أدب السلف مع علمائهم ومشايخهم كان الإمام مالك بن أنس رحمه الله يذهب إلى دار شيخ له يسمى شعبة، فيسمع الحديث مع الطلاب، يملي شعبة الحديث وهم يكتبون، فأراد مالك أن ينتهز فرصة ويسمع الحديث من شعبة وحده؛ لأنه من معلوم لدينا جميعاً أنه في أي مدرسة كلما كان عدد الطلاب أقل كلما كانت الاستفادة أكثر؛ حيث يستطيع المدرس أن يجيب على تساؤل كل طالب، ونحن الآن نعاني إفلاساً حتى في التعليم الدنيوي، فتجد المدرج فيه سبعة أو ستة أو أربعة آلاف، فلو عرضت لأي طالب مشكلة كيف يجيبه المدرس؟ فالمدرس يقول: ما عنده فهم الطالب أو لم يفهم، فكلما قل العدد كلما كانت الاستفادة أكثر، فالإمام مالك يريد أن ينفرد بـ شعبة، فماذا يفعل؟ صلى صلاة العيد، والناس في العادة ينصرفون إلى بيوتهم بعد صلاة العيد، إلا أنه ذهب إلى دار شعبة، فما طرق الباب، بل قعد على درج البيت على السلم، وهذا مالك، الإمام الذي ما يقارب ثلث الأمة على مذهبه، وجعل الله له لسان صدق في الأمة، كلما ذكر ترحم الناس عليه، لم يطرق باباً ولم ينادِ إنما قعد على درج البيت. قال شعبة لجاريته: انظري من في الباب يأكل معنا، وكانت أبوابهم مفتحة لا يمنعون مسكيناً. فخرجت الجارية ثم رجعت تقول: يا سيدي مالك في الباب. فقال: ادخل، فدخل. قال: كل. قال: ما لهذا جئت. قال: حاجتك؟ قال: أريد الحديث. قال مالك: فحفظت عنه في هذا المجلس أربعين حديثاً. فانظر لأدبه، لا يطرق باباً ولا يزعجه، احتراماً للشيخ ولعلمه. كذلك أيضاً ابن عباس مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكمل العشرين من عمره بل كان سنه ثماني عشرة سنة، فكان يذهب إلى أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الكبار أمثال زيد بن ثابت، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان، قال ابن عباس: (فكنت أذهب إلى بيوتهم، فربما تلسعني شمس الظهيرة، فلا أطرق على أحد منهم الباب، فإذا رآني قال: يا ابن عم النبي لِمَ لم تطرق الباب لم لم تخبرني فآتيك؟ لشرف آل البيت. فيقول ابن عباس: (بل أنا آتيك، حق العالم على المتعلم) ويحكي لنا رجل أنصاري قال: (قال لي ابن عباس يوماً: ألا تأتي فنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون، فقال الأنصاري يهزأ بـ ابن عباس: أتظن يا ابن عباس أنه سيأتي اليوم الذي يحتاج فيه إليك، وأصحاب النبي كثر؟!) كأنما يحقر شأن ابن عباس، يقول: هل تظن أنه في يوم من الأيام سيحتاج الناس إليك، مهلاً يا ابن عباس. قال ابن عباس: (ولم يطاوعني، فذهبت أسأل وأستفيد، فما مات الأنصاري حتى كانت لي حلقة) صار إماماً يفتي. فلما رآه الأنصاري قال: (أفلح الرجل) . قصر هو فلم يذهب معه، ولم يقف في حر الظهيرة ينتظر العالم، مع أن هؤلاء الناس الأفاضل كان إذا ترك الواحد منهم عالماً وجد غيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 قيام الخضر بأعمال مخالفة للعقل والدين في الظاهر قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:66-67] هذه الآية تبين لنا أموراً: الأمر الأول: أن موسى عليه السلام كانت فيه حجة. الأمر الثاني: أن ما سيفعله الخضر ينكره أي عاقل في الدنيا وأي رجل يدين بدين، والخضر يعلم هذا مقدماً، أن أفعاله التي سيفعلها سيخالفه فيها أي رجل عاقل، فظواهرها منكرة حيث يقابل شاباً فيقتله، وأناساً يحملونه في السفينة بدون أجر يخرقها لهم، ويقول لآخرين: نحن جائعون نريد أن نأكل، فيقولون: ما عندنا طعام، ومع ذلك يبني لهم جداراً. ظواهر الحال تقول: إننا يجب أن نعامل هؤلاء بمثل معاملتهم، فالذين حملونا في السفينة بغير أجر، يجب علينا أن نحسن إليهم فلا نتلف لهم السفينة، وولد وضيء كان يلعب مع الصبيان كيف يأخذه ويقلع رأسه؟! والذين استطعمناهم فلم يطعمونا كيف تبني لهم جداراً؟ بل خذ أجراً. والله عز وجل أعلم الخضر لما أوحى له بهذه الأشياء أنها تخالف ما يعلمه موسى. فعلم أي نبي في الدنيا هو ما يصلح به حياة البشر، أي نبي هكذا علمه الله عز وجل ما علمه إلا علماً يصلح حياة البشر، ثم يؤتيه بجانب هذا العلم معجزات وآيات وخوارق. إلخ تصديقاً له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 طموح الإنسان وآماله أكبر من عمره التسوية في المشيئة ممنوع فكيف إذا قدمت؟ وكيف إذا تركت؟ تقول: أنا سأفعل وسأفعل، والله عز وجل كتبك في الأموات وأنت تبني آمالاً وأحلاماً وتقول: السنة القادمة سأذهب إلى فلان، والسنة القادمة سأبني العمارة، والسنة القادمة سأفعل كذا وكذا، وقد نزلت ورقته بأنه سيموت غداً أو بعد غد أو سيموت الشهر القادم وهو يبني أحلاماً وآمالاً لعشر سنين. وفي الحديث الصحيح عند البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم رسم على التراب لأصحابه مربعاً قال: (هذا أجل ابن آدم، ثم رسم خطاً طويلاً خارجاً من المربع، قال: وهذا أمله) ولو ترك المرء وأحلامه لما مات أبداً؛ لأن أحلام المرء أكبر من عمره بكثير، كما أن عين المرء أكبر من بطنه بكثير، وفي يوم الصيام يتصور أنه لو ضرب مدفع الإفطار سيأكل خروفاً وسيشرب برميلاً من الماء، فإذا أكل لقيمات فقط اكتفى وقام، فأمله أكبر من عمره: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24] قل إن شاء الله أفعل، كن مؤدباً مع الله {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69] . أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 وجوب تقديم مشيئة الله على العمل قال له: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف:67-68] أي: كيف تصبر على ما لم يصل إليك علمه وخبره؟ قال له موسى بعدما رآه يتمنع: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69] هنا قدم المشيئة على ذكر الصبر ولم يذكرها مع نفي المعصية: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف:69] قال بعض العلماء: لما قدم المشيئة على الصبر صبر، ولما ترك ذكرها في المعصية اعترض على الخضر وعصى أمره وتركه. {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24] فيجب على الرجل قبل أن يبرم أمراً أن يقدم مشيئة الله عز وجل، فإن الله تعالى قدر كل شيء، فتقديم المشيئة أدب، فتقدم مشيئة الله على مشيئتك أنت، ولا يجوز أن تسوي بين مشيئة الله ومشيئتك، ومن باب أولى أن تقدمها عليها. وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلاً يقول له: ما شاء الله وشئت، فقال: (أجعلتني لله ندا؟! قل: ما شاء الله وحده أو ماشاء الله ثم شئت) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 توقير العالم بعدم الاعتراض عليه الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قال تعالى: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:70] هذا توكيد من الخضر أن ما سيفعله يأباه أي عاقل يحكم على ظاهر الأشياء، فقال له: اتبعني بشرط ألا تعترض على ما أفعل. وهنا سؤال بمناسبة هذه الآية، وهو: أننا ذكرنا أن من احترام المتعلم للعالم أن يوقره ويحترمه ولا يكثر من الاعتراض عليه، فهل إذا فعل العالم شيئاً منكراً على الظاهر يجوز الاعتراض عليه؟ وهل الاعتراض عليه يعد سوء أدب مع العالم؟ الجواب يحتاج إلى تفصيل: المنكر في الأمر طريقة الصوفية، أن يقول الشيخ للمريد: (كن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل) ، وهذا كلام مرفوض بأن ألغي العقل تماماً، فهذا لا يقوله أحد. ونحن عهدنا في مجالس كبار العلماء أنه كان يعترض التلميذ على شيخه ولكن بأدب، فلا مانع من الاعتراض لأن العلم لا يكون إلا بهذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 نماذج من اعتراض التلاميذ على مشايخهم مع مراعاة الأدب دخل الإمام البخاري رحمه الله تعالى ورضي عنه على شيخ له يسمى الداخلي، قال الداخلي: (حدثنا فلان عن فلان عن فلان) وساق حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له البخاري: (بل هو فلان عن فلان) قال الداخلي: (أتعترض عليَّ) ؟ قال: (ارجع إلى أصلك) أي: انظر في كتابك، ففتح الداخلي كتابه فوجد الأمر كما قال البخاري، فأثنى على البخاري. فليس هناك سوء أدب في عبارة البخاري مع الداخلي، وإنما صحح له خطأً. ومن الشيوخ الأجلاء الذين لا يعرفهم الناس إنما يعرفهم أهل العلم، نعيم بن حماد من مشايخ البخاري أيضاً، كان يحدث يوماً بحديث، فقال له يحيى بن معين وهو إمام آخر من أئمة هذه الأمة الكبار جداً جداً، قال له: (بل هو كذا عن كذا وأنت أخطأت) فأرغى نعيم وأزبد وقال: (تقول لي: أخطأت؟) فقال له يحيى: (أما والله في كتابك كما أقول) فدخل نعيم بن حماد إلى كتابه ففتحه فوجد أن الصواب مع المعترض، فما تكبر عن الحق، ولا قال: أنا شيخ ولا يجوز أن يرد عليَّ تلميذ وهذا إسقاط لهيبتي. إلخ ويقول الإمام الشافعي يقول: (ما دفع رجل حقاً إلا سقط من نظري، وما أذعن له إلا هبته واعتقدت مودته) ويقول الإمام الشافعي أيضاً رحمه الله: (ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ، بل رجوت أن يظهر الله الحق على لسانه) . المقصود أن يظهر الحق سواء على لساني أو على لسان أخي، لا يتناظر العلماء كأنهم أضداد، كل منهم يرجو أن يظهر على صاحبه، فهذا من حظ النفس، بل هو أخوك. ففي معرض القصاص والقتل رجل قتل رجلاً، ولا يوجد مثل القتل شيء يمكن أن يبغض الرجل الرجل لأجله، ومع ذلك فالله عز وجل يقول: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] ، فقد قاتله ومع ذلك يقول: {مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178] فيذكرك أنه أخوك، {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} [البقرة:178] وهذا في معرض القتل، فما بالك إذا كان مجرد جدل علمي. ماذا قال نعيم بن حماد؟ قال: (من الذين يقولون: إن يحيى بن معين ليس بأمير المؤمنين في الحديث، والله إنك أمير المؤمنين في الحديث) . لأجل هذا كانت في دروسهم بركة العلم، وكثير من الناس يعظ ويعلم ولا تجد ثمرة، وجزء من هذه التبعة يقع على العالم؛ لأنه لم يخلص النية في علمه (100%) ، فهو يقول الشيء ولا يفعله، لذلك لا تجد بركة في علمه. إن احترامنا للشيوخ لا يمنع أن نوصل الاعتراض عليهم ولكن بأدب، قال الإمام الشافعي: تعمدني بنصحك في انفراد ولا تلق النصيحة في الجماعة فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. ونسأل الله عز وجل أن يهدينا للتي هي أحسن وللتي هي أقوم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 التغافل في محله مطلوب سئل أعرابي: من العاقل؟ وانظروا إلى جواب الأعرابي الدقيق جداً، ولو عمل به المسلم في حياته فلن يجد أية مشاكل، والنوع الذي أقصده تهوين المرء للشيء الذي في غير محله إذا لم يتعلق بأمر شرعي. قيل لأعرابي: من العاقل؟ قال: الفطن المتغافل. هذا هو العاقل، الذي يتغاضى وهو يعلم، وكثير من المشاكل التي تقارف الحياة الزوجية تحتاج إلى هذا الصنيع، حيث تفعل المرأة شيئاً، وهذا الشيء لا يضر كثيراً من الناحية الشرعية، فيعلم الرجل فلا يتركه بل لابد أن يمكث عليه فتحدث مشكلة. وهنا محل جواب الأعرابي، فإن من العقل بعدما عرفت أن الأمر ليس بمهم ولا يتصل بالشرع أن تتغافل أيها الرجل، فالعاقل هو الفطن المتغافل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 الأدب مع المشايخ لا ينافي الاعتراض عليهم بخلاف الصوفية لكن الصوفي عندما يقال له: كن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل كانت النتيجة أن يفعل الشيخ المناكير -أي: الشيخ باصطلاحهم هم- يفعل كل منكر والمريد لا يعترض أبداً. لهذه القاعدة: كن بين يدي الشيخ كالميت يقلبه المغسل يمنة ويسرة ولو أخذه وطرحه أرضاً ما اعترض. فالأدب مع الشيوخ لا ينافي الاعتراض عليهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 قصة موسى والخضر [6] مما يستفاد من قصة موسى مع الخضر الأدب مع العلماء وتوقيرهم، ولكن هذا لا يعني إقرارهم على الخطأ والمنكر كما يقول الصوفية، بل الاعتراض على المشايخ في حدود الأدب لا ينافي الأدب، ومن هذا المنطلق فقد اعترض موسى على الخضر حين رآه يقدم على أفعال ظاهرها أنها خطأ ومنكر، حيث أن علم موسى قصر عن تفسير هذه الأفعال، بالرغم من وعوده المتكررة له بعدم سؤاله عما يفعل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 سيرة الإمام البخاري إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. سنبدأ إن شاء الله في سيرة الإمام البخاري، وكنا وعدنا أن نبدأ في درس أو ترجمة من تراجم علماء الأمة، عسى أن يحفز بعض الشباب الغيور ليقلد هؤلاء، وفي السنوات القادمة نجد من يسد الفراغ إذا مات عالم، أو من يجيب الناس بعلم صحيح إذا أرادوا علماً. وبكل أسف! نظراً لخلو الساحة من العلماء الحقيقيين تجد حكم الله عز وجل الميسر منه لا يصل إلى الناس، وتجد الناس يستبشعون أحياناً الأحكام الشرعية، بحجة أنها ثقيلة، ويقولون: هذا حرج، ولا نستطيع أن نفعل هذا، وكيف هذا والله عز وجل يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] إذاً: دين الله عز وجل الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام النبي عليه الصلاة والسلام الذي قاله لا يمكن أن يكون فيه حرج، وإنما الحرج يأتي من ناحيتين اثنتين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 واجب الوالد في إصلاح بيته القصد من سير العلماء وسير الصحابة هو الدعوة للتمسك بالإسلام، والوالد يجب عليه بمنتهى الحزم مع الرفق أن يرجع بيته إلى الله عز وجل، ولا يترك الحبل على الغارب؛ لأن الرجل مسئول، وضياع الأسر كلها إنما هو بسبب رب البيت. إذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص إذا كان رب البيت يضرب بالطبل فلا ألوم الولد أبداً أن يرقص، وقد أنشد بعض الشعراء حول هذا البيت من غيظه من أولئك الآباء الذين لا يربون أبناءهم، فقال: إن كان رب البيت جحشاً مبردعاً فشيمة أهل البيت كلهم الرفس أي: إذا كان هذا جحشاً مبردعاً، إذاً: دعهم يرفسون أفضل. فرب البيت هو الذي عليه العمل الأكثر، ولا يوجد شيء اسمه أن الأب يقول: إن ابني صديقي، وأنا أعامله كصديق، بل هذا من أخطاء التربية الفادحة؛ لأن معنى صديق: أنني لا أستطيع أن أقوم خطأه وزلاته، ومعنى صديق: أنه يمكن أن يعمل معي أي حركة يفعلها مع صاحبه، وقد رأيت ولداً يقول لوالده: يا عُبَدْ وبهذه الصورة، بل أكثر من هذا. وهذا من جراء هذه التربية التي ليست إسلامية، بل الأب يجب أن يبقى أباً طيلة عمره، ولا يوجد شيء اسمه أن الولد صديق أبيه، والمعاملة بالطف ليس معناها أنها صداقة، بل الوالد يجب أن يبقى والداً له هيبته طوال عمره، ولا يأتي بالدنايا أمام أولاده أبداً؛ لأنه هو القدوة. فالمقصود أن الآباء عندما يسمعون هذا يجب أن يرجعوا أولادهم وبيوتهم إلى الله (الهوينا) ، وأرجو التدقيق على كلمة (الهوينا) ، لا يكون مفرطاً في حق بيته وحق أسرته عشرين سنة أو خمسة وعشرين سنة ثم يريد أن يرجعهم إلى الله في يوم، فبطبيعة الحال أن هذا سيسبب مشاكل كثيرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 متى يكون الرجل أباً لابنه؟ سمعت بعض المشايخ تأويلاً لطيفاً جداً أحببت أن أنقله لفضله، قال: (يولد المولود على الفطرة، فأبواه إما يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) فهذا الشيخ سأل سؤالاً لطيفاً جداً قال: هل أنت اليوم أبو ابنك؟ فأجاب: طبعاً لا، أبوه التلفاز، وأبوه الشارع، وأبوه الأفلام، وأبوه السينما، هؤلاء كلهم يشتركون في تربيته، إذاً: لست أنت وحدك أبا ابنك، فمتى تصير والداً لابنك؟ إذا جنبته كل هذا تصير أبوتك لابنك كاملة. فيجب إذا أردت أن أصلح بيتي أن أخرج منه كل عوامل الفساد بحزم، وعامل الأهل والأولاد بلطف، لكن لا أبقي التلفاز في البيت يدمر دين الرجل ودين المرأة، لكن مع مراعاة أن يفصله بالهوينا أيضاً. وإذا تربى الرجل على الإسلام الحقيقي فرأى امرأة كاشفة لشعرها في الشارع يقشعر ويشمئز؛ لأنه منكر، والفطرة ركبت على هذا، ومن تيسير الله على الناس أنه ركب الفطرة على تعاليمه، فإن أمر بشيء فالفطرة تقبله: {هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] صنع الشيء ثم جعل تشريعاً للشيء دون أن يوجد تضاد، والإنسان إذا تربى على أن هذا منكر، فالمنكر يبقى منكراً، تشمئز منه نفسه. ومما يقتل الغيرة التلفاز، أرى مسلسلاً وأرى مواقف الخمر والفجور وأرى الشاب والشابة وهي تقابله، وبعد ذلك يخرجون يتنزهون، كل هذا أنا أراه، وابنتي تراه أيضاً بجانبي، وفي النهاية يهربون، ثم يزني بها، ثم تطلب منه أن يصلح خطأه، فيرفض ويتركها تواجه حظها، والمجتمع كله يتعاطف مع من؟ مع التي زنت، بل لو حصل أن الأب سيذهب يأتي بالولد الهارب الذي زنى بابنته من أجل أن ينتقم منه تجد أن الموجودين متعاطفين مع الولد الذي زنى ويدعون: يا رب لا يجده، يا رب لا يمسكه، وهكذا، في أول الأمر يمكن أن ينكر الرجل، إذا رأى رجلاً يقبل امرأة، ثم بعد ذلك في المرة الثانية لو وقف المسلسل على موقف خطير ينتظره يمكن أن يؤجل مواعيده بسبب مسلسل. كل هذا كيف جاء؟ كيف استمرأت المنكر؟ كل هذا لم يجئ مرة واحدة، إنما جاء تباعاً بعدما قتل هذا الجهاز في نفسك الغيرة والحياء والدين وأنت لا تدري، قال الله عز وجل للناس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] ليس لا تتبعوا الشيطان، بل خطوات الشيطان، فهو لا يأخذك ويرميك في الكفر مرة واحدة، إنما يأخذك درجة درجة. ويحضرني قصة حدثت فيما مضى، وهي أن رجلاً راهباً كان لا يخرج من صومعته، فتزين له الشيطان ذات مرة بصورة رجل وأحضر معه امرأة، ثم قال للراهب: أنا على سفر وأختي هذه لن أجد في الأرض آمن عليها منك، فسأجعلها في الصومعة المجاورة وأنا سأترك لها المال. فقال: لا. أنا ليس لي علاقة بها، إنما ضعها هناك. فأتاه الشيطان يوماً فقال له: أليس من الدين أن تسأل عن جارك؟ لا يأتيه الشيطان يقول له: اعصِ، بل يأتيه من مسالك الدين، فيقول: اسأل عن جارك، وهذا ليس من الرحمة في شيء، بل كذا، ويوسوس له حتى يقول: نعم هذا صحيح. فذهب وطرق على الباب وظهره للباب، فقال لها: هل تحتاجين شيئاً؟ قالت له: لا. وهو لم يرها حتى الآن، فقال له: أنت تسأل عليها مرة في اليوم فقط، اسألها مرتين في اليوم وهذا كله خير وثواب، حتى يستشعروا أن الذين يعبدون الله أناس طيبون وليسوا بمتعنتين، فأصبح يسأل عن المرأة أكثر من مرتين. ثم قال له: الخير كثير، لماذا لا تضع أمامها طعاماً، فذهب ووضع اللحم أمام الباب وطرق ولم يدخل، ثم قال: يا أخي! لماذا لا ترى وجهك؟ الدنيا بخير ولم يحصل شيء، فقل لها: تفضلي لكي تستشعر أن هناك أنساً ووداً. ثم قال: يا أخي هي جالسة لوحدها لم لا تسليها؟ أليس فيك رحمة؟ وفي النهاية وقع بها وزنى بها. فعندما يظل الإنسان وراء هذه الخطوات لا يستشعر إطلاقاً أن هناك شراً قادماً، بل يرى أن هذا كله من باب الدين والرحمة ولا توجد مشاكل. وهذا هو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] خطوة بعدها خطوة وأنت لا تدري، حتى يقع المرء في الشرك. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 أسباب وقوع الحرج على الأمة الناحية الأولى: أن نفس السائل خبيثة، والنفوس الخبيثة تستصعب السهل، فالصلوات الخمس لا مشقة فيها، ولكن كثيراً من الناس يقول: هذه مشقة، وأنا لا أترك عملي {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، (يسروا ولا تعسروا) مع أنه لا دخل لهذا بالعسر ولكن النفس خبيثة تستصعب السهل. الناحية الثانية: أن الذي بلغ الفتيا بلغها خطأ، لم يحصل أصول العلم، فتكون فتواه خطأ، فدين الله عز وجل يضيع بين الإفراط والتفريط، رجل يشدد جداً بدعوى الاحتياط وأنه يجب أن نتورع وهي عبارة عن تشديدات على النفس، فيجد الإنسان نفسه يأخذ في كل شيء بالأشد والأشد، حتى يجد أن النهاية ترك الدين. ورجل آخر يقول: بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، ويترك الحبل على الغارب، بالذات في مسائل الطلاق، فيسأله شخص فيقول: يا شيخ! أنا طلقت امرأتي وأنا غضبان، فيقول له: هات عشرين جنيهاً واذهب وهات قارورة سمن، وهذه أنا رأيتها بعيني، فإذا ما أعطى له عشرين جنيهاً فلن ترجع له امرأته، فيكون دخوله بها زنا. وهذا منتشر وموجود، ومثلاً: لجنة الفتوى في الأزهر -وهذا شيء رأيته بعيني- واحد قال: طلقت امرأتي، فقال له: هذا شيء ما أحد يعمله، كيف لا أحد يعمله؟ أليس تسأله أولاً أنت طلقت بطهر أو بحيض أما ماذا؟ أما أن يقول له: أنت كنت غضباناً، فيقول له: نعم، إذن مرة أخرى لا تعملها، مثلاً. فهذا يعتبر خطأً جسيماً؛ لأن الرجل قد يطلق امرأته ثلاث مرات فتكون بائنة بينونة كبرى. ذهب العلماء الربانيون، فإن العالم الرباني لا يتكلم عن الله عز وجل إلا بعلم لا عن اجتهادات، ونحن نطمع أن الساحة القادمة يكون فيها هذا النمط المفقود في الأمة المسلمة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 قراءة سير العلماء من أسباب وجود أمثالهم لا شك أن سير العلماء من أكبر الدوافع على الوصول إلى هذا الهدف، واقرأ السيرة النبوية مثلاً تجد أنك تستمتع وتشعر أحياناً باندفاع عنيف لا تملك فيه الدموع وأنت تقرأ مثلاً موقف صحابي في غزوة، فمثلاً: الواقعة المشهورة التي كان فيها أحد الصحابة قال: (لما انتهينا من الغزوة ذهبت أتفقد أخي فصادفته بين الجرحى، وهو يقول: ماء ماء، يريد أن يشرب ماءً، وكان بجانبه أفراداً من جرحى المسلمين الذين يكابدون الموت، وكل منهم يقول: أريد ماء، فلما همَّ أن يسقي أخاه قال: سل الذي بجانبي لعله أشد ظمأً مني، فسأله فقال: سل الذي بجانبي، حتى ذهب إلى العاشر، فقال: سل غيري لعله أشد مني عطشاً. فرجع إلى أخيه فوجده قد مات، فرجع إلى بقية الجرحى فوجدهم قد ماتوا، فأي إيثار يمكن أن يصل بالإنسان إلى أن يموت من العطش، فهو يعاني وروحه تخرج، ومع ذلك في هذا الموقف الذي لا إيثار فيه وكل إنسان يبحث عن روحه وعن حياته يؤثر أخاه على نفسه، وهذا الموقف عندما تقرؤه يؤثر فيك، وتجد أنك لا تستطيع أن تتمالك دمعك، وعندما تقرأ أن ابن عمر كان يمشي ومعه رغيف واحد ليس معه غيره فأعطاه لمسكين، مع أن الموقف الآخر يؤثر أكثر. وعندما ترى مثلاً رجلاً كـ عمرو بن الجموح، رجل أعرج شديد العرج، يريد أن يحارب الكفار، وكانت الحرب في الزمن الماضي تدل على مدى شجاعة الرجل، ولا يدخلها رجل جبان إذا أفزعه أحد أو رأى ظلاً أو خيالاً يموت خوفاً، ومع ذلك يمكن أن يهدم مدينة بكاملها وهو قاعد في قاعدة صاروخ يضرب فيقتل مثلاً مائة ألف. بل الحرب في الزمان الماضي كان لها مقياس آخر غير اليوم، ولذلك يقول الله عز وجل في اليهود: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14] فهؤلاء (الحرب) بمعنى المواجهة الشخصية لا توجد عندهم، والحرب عند العرب كانت مواجهة شخصية، وهذا إقبال على الموت أشد من كون الشخص يركب دبابة أو يختبىء خلف جبل. ففي الماضي كانت صورة الجهاد أوضح وأحسن، لأنه إذا دعي للمبارزة مثلاً فأقل حركة أو أقل سهو يمكن أن يطير برأسه. فهذا عمرو بن الجموح الأعرج يريد أن يحارب ويريد أن يفر ويكر، وكان له مجموعة من الأولاد يقاتلون في جيوش المسلمين، فقالوا: (يا أبانا! إنك ممن عذر الله) الأعرج والأعمى والمريض ليس عليهم حرج في مسائل الجهاد خاصة، فلا يقول قائل: إنه ليس عليه حرج في الصلاة ونحوها ويترك العمل، بل ليس عليه حرج في الجهاد فقط الذي يحتاج إلى كر وفر. فبكى الرجل وقال: (أريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة) دعوني، فذهب يشتكي بعينيه الدامعتين للنبي عليه الصلاة والسلام، وقال: (أريد أن أقاتل وأولادي يمنعونني) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة، فكان من أوائل الذين قتلوا، قال عليه الصلاة والسلام: (لقد رأيته في الجنة وما بعرجته من عرج) . فوطئ الرجل بعرجته الجنة، فهذا الرجل قلبه قلب شاب، وكثير من الشباب اليوم يكون عمره اثنين وعشرين سنة وقلبه قد شاخ، لا يريد أن يفعل شيئاً. وانظر إلى ذاك الرجل الذي كان سنه (85) سنة أو أكثر وأسلم وهو في مكة، وبطبيعة الحال لن يستطيع أن يهاجر إلى المدينة لضعفه، إلا أن قلبه قلب شاب وإن كان جسمه كبر، ففي يوم من الأيام قال: (وما الذي يقعدني بين ظهراني الكفار؟ والله لأخرجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) مع أن السفر من مكة إلى المدينة (500) ، يريد أن يمشيها ليكون عند مصدر الضوء والنور. فخرج رغماً عن أولاده، ثم لما كان في منتصف المسافة أو في ربعها أدركه التعب الذي يدرك العباد فغلبه، فأوشك أن يموت، فلما استشعر هذا ضرب كفاً على كف، وقال: (اللهم هذه بيعتي لك، اللهم هذه بيعتي لنبيك) ومات الرجل، فنزل فيه قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] وإذا وقع أجرك على كريم فليس هناك حساب؛ لأن الله لا يتعامل مع عباده بحساب، إنما يقول: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212] {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54] . عندما تقرأ سير السابقين الصالحين تجد أن عندك اندفاعاً لأن تكون مثل هؤلاء، لأجل هذا لابد من مراجعة السيرة النبوية، وكيف كان الصحابة يتصرفون في أشد المواقف. أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما أسلم محمد ابنه إلا بعده بفترة، فلما تقابلا في بدر، كان محمد بن أبي بكر يقول لأبيه بعد ما أسلم: (لقد كنت أقابلك وأروغ منك خشية أن أقتلك) . لأن ابنه كان في صفوف الكفار وأبو بكر في صفوف المسلمين، فابنه بعدما أسلم يقول له: أنا في الغزوة الفلانية كنت أتحاشاك حتى لا يصيب سيفي رأسك فأقتلك، فقال له أبو بكر: (أما والله لو رأيتك لقتلتك) . عندما ترى هؤلاء الذين لا يجعلون أي إنسان مقدماً على دينهم ولا على حب نبيهم صلى الله عليه وسلم تعلم أن حقيقة الحب لله ورسوله أن تلتزم وتعيش حياتك حياة مسلمة. لأجل هذا أؤكد على السيرة النبوية فيما يتعلق بالرعيل والجيل الأول، وكيف نشأ هذا الجيل، حتى ملكوا الدنيا كلها، حتى قال هارون الرشيد في القرن الثاني الهجري وقد جلس على المنبر فرأى سحابة في السماء، فقال لها: (أيتها السحابة، أمطري هنا أو أمطري هناك فسوف يأتيني خراجك) ، هذا هو عز المسلمين، أمطري هنا أو أمطري في آخر مكان في العالم فإن خراجك سيأتيني؛ لأن الإسلام هو الذي كان مسيطراً على الأرض آنذاك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 قصة موسى والخضر [7] في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام عظات وعبر، ومنها: أنهما نزلا على أهل قرية فأبوا أن يستقبلوهما، وهذا من لؤمهم، وليس من كرم الضيافة التي جاء الشرع باستحبابها والحث عليها، ولقد كان سؤالهما لأهل القرية عن حاجة، وعليه فلا يعد من المسألة المذمومة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 موقف الخضر من أهل القرية إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. القضية الثالثة والأخيرة التي فعلها الخضر مع موسى عليهما السلام ولم يصبر فيها موسى؛ لأن القضايا الثلاث تخالف مفهوم الحكم العام، والأصول الثابتة عند أي رجل، إلا أن فعل الخضر كان بوحي وصله من السماء. وموسى عليه السلام أنكر واعترض، ولم يعترض عليه السلام إلا بحق، فبعد أن قتل الخضر الغلام مع أنه لم يذنب، ومع أن القصاص في بني إسرائيل إنما يكون إذا قتل الرجل نفساً فيقتل بها، فكيف وهذا الغلام على رأي بعض المفسرين لم يبلغ الحلم ولم يصل إلى سن التكليف، لم يسع موسى إلا أن ينكر هذا الجرم، وهو يرى نفساً زكية تقتل أمامه بغير نفس. فقال له: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74] أي هذا منكر الفعل الذي فعلته: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:75-78] هذه هي القضية الثالثة والتي بها انتهت حكاية موسى مع الخضر. وفي صحيح مسلم: (( (حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا)) [الكهف:77] أهل قرية لئاماً) كذا وضح النبي صلى الله عليه وسلم، أن أهل القرية كانوا لئاماً؛ لأنه لا يرد الضيف كريم أبداً، بل لا يرده إلا لئيم، لاسيما إذا كان هذا الرجل قد طلب الإطعام. ومن مكارم الأخلاق عند أهل الفضائل أنه إذا رأى رجلاً استضافه من غير سؤال، فكيف إذا استطعمك، فإذا رددته كنت لئيماً، وهذا هو الوصف الذي وصف به النبي صلى الله عليه وسلم أهل هذه القرية. (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا) انظر إلى جمال التعبير القرآني، (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) ثم لم يقل: (فأبوا أن يطعموهما) ، بل قال: (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا) . الرجل السائل ليس له إلا أن يملأ بطنه إذا كان جائعاً، فإن كان سيبيت ليلة فإنه يطلب محلاً، أما موسى والخضر عليهما السلام فما طلبا محلاً ليبيتا إنما طلبا طعاماً: {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف:77] وفي هذه الآية مسائل: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 بناء الخضر للجدار قال تعالى: {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف:77] وجدا جداراً مائلاً (يريد أن ينقض) أي: يسقط {فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:77-78] سيظهر فيما بعد أن هؤلاء الناس عوقبوا من الله عز وجل بإقامة الخضر لهذا الجدار. ولقد ذكرت أن المرء إن عقد في نفسه لؤماً أن يعاقب بضد قصده، فلما أبوا أن يضيفوهما أقام الخضر الجدار، فحرم أهل القرية من شيء ثمين جداً. فلما استكمل موسى عليه السلام الثلاثة الأشياء قال له الخضر من كثرة اعتراضه: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78] ، وهنا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (رحمة الله علينا وعلى موسى لو أنه صبر لرأى من صاحبه العجب غير أنه أخذته ذمامة منه) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 جواز الترحم على الأحياء في هذا الحديث مشروعية الترحم على الأحياء، يقال: فلان رحمه الله وهو حي. وهذا يذكرني بشيء أليم سمعته، مع أن الترحم على الأحياء مستحب بدلالة هذا الحديث أو مباح لا كراهة فيه، وقد قرأت في صحيفة أن المقرئ فلاناً الذي يقرأ القرآن والمشهور وما زال حياً أقام دعوى على المذيعة فلانة؛ لأنها وهي تقدمه في الإذاعة قالت: يتلو علينا من آيات الذكر المرحوم فلان، أقام دعوى على المذيعة يطالب بتعويض. عشرة آلاف جنيه؛ لأنها قالت: المرحوم، وهو يتأذى من هذا؛ لأنه خسر؛ لأن معنى أنه مات أنه لن تأتيه دعوات للقراءة في المكان الفلاني، وهذا سبب له خسارة مادية ومعنوية عند أحبائه!! وأنا لا أدخل في قلوب الناس إنما هذا عن سبر ما يحدث، وقلما تجد قارئاً للقرآن الكريم -بكل أسف- في هذا العصر يبغي وجه الله عز وجل، وهذا يظهر من جملة أعماله. ولا أعلم على حسب قراءتي وسؤالي للناس، ومنهم ثقات أثق بنقلهم، لا أعلم إلا رجلين اثنين، كل من عرفهما امتدحهما وأثنى عليهما بدين وتقوى وبعد عن المال، وهما: الشيخ محمد رفعت رحمه الله، والشيخ محمد صديق المنشاوي رحمه الله تعالى، والأخير منهما الشيخ المنشاوي ذهبت إلى بيت أبيه لأسأل عن حال هذا الرجل، فما سمعت إلا خيراً من كل من قابلني بدون استثناء على كثرة سؤالي. لذا تجد أن الله عز وجل ينسئ في أثر هذا الرجل، فتجده محبوباً ومترحماً عليه، وكذا عاقبة الإخلاص، إن لم تبدُ في حياتك فإن الله عز وجل ينسؤها لك، كلما ذكر اسمك قيل: رحمه الله، رضي الله عنه، وبين كل هؤلاء المترحمين لعل نفساً صالحة يقبل الله عز وجل منها. نسأل الله تعالى أن يقينا شر أعمالنا، وأن يقينا الزلل، وأن يغفر لنا خطايانا، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 إحراج الضيف قد يعاقب عليه المضيف الضيافة أن تستقبل ضيفك وتكرمه ولا تذكر له شيئاً يحرجه، فإن المضيف إذا تعمد إحراج الضيف فإنه أحياناً يعاقب بنقيض قصده، ولا أذكر هنا حديثاً إنما أذكر وقائع وإن كانت طريفة عجيبة. مرة دعا سليمان بن عبد الملك -وكان أمير المؤمنين- رجلاً أعرابياً على الغداء، فأتوا له بكبش مشوي ووضعوه على المائدة، والأعراب أناس يغلب عليهم الجلافة بخلاف أهل الحضر وأهل المدنية، فأول ما وضع الجدي أمام الأعرابي أسرع يأكل فيه بحرقة وغيظ ومزقه وهو يأكل بنهم شديد. فقال له سليمان مداعباً: مالك تأكله بحرق -أي: بغيظ- كأن أمه نطحتك؟ فقال له: ومالك مشفق عليه كأن أمه أرضعتك؟ وهو يأكل. ومرة دعا رجلاً أعرابياً -وكانوا كرماء ولم يكن أمير المؤمنين في وادٍ والرعية في وادٍ آخر: قال: (يا أعرابي! ألا تتغدى معي) ؟ قال: (حباً وكرامة، أكل الملوك لا نحلم به) . وبينما الأعرابي يأكل إذ قال له سليمان: يا أعرابي في لقمتك شعرة أزلها -يقول له عن غير قصد: اللقمة فيها شعرة- نحها حتى لا تأكلها. فوقف الأعرابي مزمجراً وقال: إنك لتراقبني مراقبة من يرى الشعرة في اللقمة لا آكلتك أبداً، كأنه رجل يطمع الناس جميعاً في استضافته، ثم خرج من عنده وهو يقول: للموت خير من ضيافة باخل يراقب عن عمد طعام أكيله أي رجل إذا استضفته لا تتكلم في مسائل الأكل والشرب بل أكدِّ عليه، تقول له: زد قليلاً، كُلْ، فهذا من كرم الضيافة، هذا هو القدر الزائد على مجرد الاستطعام. قال أعرابي لرجل: (أنا ضيفك اليوم) . قال: (مرحباً) فلما دخل قال لامرأته: أتاني ضيف ثقيل اذبحي لنا دجاجة واحدة، الرجل وامرأته وولدان وبنتان والضيف على دجاجة، قال الرجل: سأحرجه، أعطيه الدجاجة وأقول له: قسم علينا، فبالتالي لو أعطى كل واحد نصيبه فلن يجد لنفسه قسماً. فلما وضعت الدجاجة وقعد الجميع قال الرجل: قسم علينا أيها الأعرابي. قال: وهذا يجوز؟ بل أنت رب البيت. قال: لا والله لابد أن تقسم علينا، وعقد في نيته ألا يأكل ضيفه، وهنا يعاقب بنقيض قصده، فأمسك الأعرابي فقطع رأس الدجاجة وأعطاها الرجل، وقال: (الرأس للرئيس) وقطع عجز الدجاجة وأعطاها للمرأة، وقال: (العجز للعجوز) وقطع الجناحين وأعطاهما للولدين، ثم قال: (الولدان عندنا جناحان) وقطع الرجلين وأعطاهما للبنتين، ثم قال: (والزور للزائر) أي: بقية الدجاجة للزائر؛ لأن الدجاجة كلها ماعدا الأطراف عند العرب تسمى زوراً، قال: الزور للزائر. فالضيافة من كرم الشرقيين، ولا أقول: الشرقيين وآسف من هذه العبارة، بل من كرم المسلمين؛ لأن دينهم يحض على ذلك، فإن أتاك ضيف أكرمه وأحسن نزله. وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح على شرط الشيخين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم بينما هم جلوس: (سيطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلع رجل تنطف لحيته ماءً -متوضئ- وفي اليوم التالي قال نفس العبارة، وفي اليوم الثالث قال نفس العبارة، ويطلع نفس الرجل، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: لأرين هذا الرجل وكيف وصل أن يكون من أهل الجنة. فقال له: يا فلان! إنه حدث بيني وبين أبي شحناء فأقسمت ألا أبيت في البيت ثلاثاً، فهلا استضفتني؟ قال: نعم. فاستضافه، إلى آخر الحديث، والشاهد أنه قال: (هلا استضفتني ثلاثاً) الذي هو حق الضيف على مضيفه أن يستقبله ثلاثة أيام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 آداب الضيافة الضيافة شيء زائد على مجرد الطعام، أن تستقبله بوجه حسن، وتشعره أن هذا بيته، ولا تجرحه بأي كلمة ولو تعريضاً، وأنت جالس على المائدة، مثلاً لا تقل: قال عليه الصلاة والسلام: (ما ملأ ابن آدم وعاءً قط شراً من بطنه) هذا حديث صحيح، ولكن هذا ليس مكان التحديث. هذا يذكرني برجل دعي لعقد نكاح، فطلب منه بعض آيات الذكر الحكيم، فقرأ قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] ، وقرأ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] نعم صدق الله العظيم، ولكن البلاغة أن يكون الكلام على مقتضى الحال، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أذكى وأعلم وأرحم الناس إذا أراد أن يعظ أصحابه موعظة جعل لها مناسبة، فيمشي مع أصحابه فيرى جدياً أسكاً مقطوع الأذن ميتاً ملقى على قارعة الطريق، فيقول: (من يشتري هذا؟ فيعجب الصحابة ويقولون: ومن يشتري هذا يا رسول الله؟ والله لو كان حياً ما اشتريناه -لأنه أسك مقطوع الأذن وهذا عيب فيه- فكيف وهو ميت، قال: والله للدنيا أهون على الله من هذا على أحدكم) فيختار مناسبة جيدة حتى يضمن أن الكلام قرع القلب. إن كثيراً من آفات الذين يَدْعُون أنهم لا يراعون مقتضى حال المخاطب، يرى أن معاملات الناس خطأ، ومع ذلك يتكلم في القصص والحكايات التي لا علاقة لها بمشكلات الناس، لذا تسمع غطيط المصلين وهم يسمعون الخطبة، وترى الرجل ينظر في ساعته متضجراً متى ينتهي هذا الخطيب؟ فالخطيب في وادٍ واحتياج قلوبهم في وادٍ آخر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 حكم استقبال الضيف استقبال الضيف مستحب في شرعنا استحباباً مؤكداً، وفي صحيح البخاري ومسلم: (أن أبا طلحة وامرأته نزل بهما ضيف، فقال لامرأته: (أعندكِ من القرى شيء؟ -القرى: طعام وشراب- قالت: ليس إلا قوت العيال، فقال: هيئيه، فلما هيأته أطفأ المصباح ووضع الطعام أمام الضيف، وجعلا يريانه أنهما يأكلان وهما لا يأكلان، فلما أصبح قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله عجب من صنيعكما البارحة) فنزل قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 سؤال موسى والخضر أهل القرية للحاجة قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف:77] نفد الزاد وشعرا بالجوع، فالواجب حينئذٍ أن لا يتلف الرجل نفسه، فهذا يدخل تحت المسمى الثالث: (ورجل أصابته فاقة) ، ففعلهما من الوجهة الشرعية لا شيء فيه، فقد طلبا زاداً، وقد أباح لك الإسلام أنك إذا كنت تمشي في مكان لا يستضيفك فيه أحد فمررت على بستان فيجوز لك أن تأخذ منه بغير إذن صاحبه بما يقيم صلبك. لكن لا أمر أنا على بستان برتقال فآكل حتى تصيبني تخمة، ثم أقول: آخذ سلة للأولاد؛ لأن هذا قدر زائد على مجرد الحاجة التي تحفظ بها نفسك، ولذا لم يطلب الشرع منك استئذاناً، بينما إذا أخذت شيئاً أو زدت شيئاً آخر فهنا يلزمك الاستئذان. إذاً: السؤال لا يجوز إلا لحاجة، وكذا فعل الخضر وموسى عليهما السلام، (فَأَبَوْا) انظر إلى هذه الكلمة، مع سبق إصرار وترصد، هذا نابع من لؤم، كما وضح النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 قوة تمسك الصحابة بالأوامر الشرعية في صحيح مسلم عن أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى، قال: (حدثني الحبيب الأمين فأما الحبيب فإنه حبيب إلى نفسي، وأما الأمين فهو أمين عندي، وهو عوف بن مالك قال: (ذهبنا مع ثمانية نفر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ألا تبايعونني، قلنا: يا رسول الله! قد بايعناك، فعلى أي شيء نبايعك؟ قال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة ولا تسألوا الناس شيئاً) قال عوف: (فكنت أرى بعض أولئك النفر يركب أحدهم على دابته، فيسقط سوطه، فلا يطلب من أحد أن يناوله إنما ينزل عن فرسه فيأخذ سوطه) . فكانوا إذا ألقي عليهم الأمر التزموه. وبهذا سادوا الدنيا واستحوذوا -نحسبهم كذلك والله حسيبهم- على الآخرة؛ لأن اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من قرآن وسنة كبيان للقرآن إنما هذا هو سبيل الفلاح في الآخرة، وفي هذه الدنيا لا يستطيع رجل أن يطأ رأسك ولا يطأ جناحك؛ لأنك تركن إلى ملك قوي. تجد دولة صعلوكة ترفع رأسها وتتبجح، لماذا؟ يقولون: أمريكا معنا، وروسيا معنا، وهل هذا مسوغ؟ يقولون: نعم. إذا أردنا أسلحة جاءتنا، وإذا أردنا قمحاً جاءنا؛ لأننا نركن إلى دولة عظمى، فكيف إذا اعتقدت اعتقاداً عملياً ليس مجرد اعتقاد نظري أنك تركن إلى ملك الملوك الذي لا يعجزه شيء، فأصحاب الباطل أحياناً تكون عندهم من العزم ما لو وجد عند أهل الحق لم تكد ترى باطلاً في الأرض. في إضرابات إيرلندا منذ مدة أضرب زعيم لهم عن الطعام حتى مات وهو يطالب بحقوق للعمال، مع أن هذه السياسة كافرة، الإسلام لا يعرف الإضراب عن الطعام حتى يهلك المرء، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (لو أن عبداً كان يمشي في صحراء فاستبد به الجوع فلم ير إلا خنزيراً منتناً فلم يأكله فمات دخل النار) ، لأن الله أحل لك هذا في وقت الضرورة، حتى لا تهلك نفسك، إذ أن حفظ النفس أحد الخمس التي جاء بها الشرع: أن تحفظ نفسك من الموت، فهذا يعاني الموت بسبب الجوع لمبدأ يراه حقاً. فسبحان الله! إن أهل الحق تنقصهم جرأة تنبع من صميم اعتقادهم أنها لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، إذا ركن الرجل إلى ربه ساد الدنيا، والله تعالى يقول عن الآخرة: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35] فهي له أيضاً. فكان أحدهم يسقط سوطه على الأرض فلا يطلبه، ولما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يمس الرجل ذكره بيمينه، أو أن تمس المرأة فرجها بيمينها، وإنما جعل اليد اليسرى للاستنجاء وما كان من أذى قال عوف: (ما مسست ذكري بيميني منذ بايعت النبي صلى الله عليه وسلم وسمعت منه هذا) . هذا الالتزام العظيم إنما يقاس بحبهم لدينهم، وهذا ينقصنا الآن. وفي المقابل رجل طرح عليَّ هذا السؤال قال وهو يدخن: هل التدخين حرام؟ قلت: نعم. فأخذ نفساً عميقاً، وقال: أليس بمكروه؟ أقول له: حرام، ولا يتوقف قليلاً ليعلم لِمَ حرام، بل يرد عليَّ بنفس آخر عميق. -كثير جداً من الناس إذا ألقي عليهم الأمر يجيبك بمنتهى البلادة والوقاحة- إن الدين يسر. فقلت له: هب أنه مكروه فهل نفسك تطيب بفعل المكروه؟ فسكت، فهذه النماذج قارنها بالسلف الأول لتعلم أنهم عبروا بحراً نحن نقف على شاطئه. بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات هذا هو الفرق بيننا وبينهم، وهو فرق لا شك أنه كبير جداً. فالمسألة إذاً في شرعنا لا تجوز إلا في الأحوال الثلاثة التي ذكرتها، فهل هذه الآية يمكن أن نخرج معناها على واحدة من هذه الأحوال الثلاثة أم لا؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 حكم سؤال الناس المسألة الأولى: هل يجوز بدلالة هذه الآية أن نسأل الناس؟ موسى والخضر استطعما، وهذا المقطع (الألف، والسين، والتاء) ، إذا دخل على الفعل دل على الطلب مثلاً: استعمار: أناس يطلبون أن يعمروا، استجداء: طلب الجدة، استثناء. إلخ، وموسى والخضر استطعما! فهل سألا الطعام والإطعام؟! يذهب الحريري في مقاماته إلى أنه بدلالة هذه الآية يجوز لك السؤال، وقد علق القرطبي على هذه المقالة بقوله: (وهذا استخفاف بالمرسلين وقلة احترام للنبيين، وهي شنشنة أدبية وهفوة ظاهرية) . إن الإسلام لم يجز للمسلم أن يطلب من الناس شيئاً إلا ثلاثة أشياء فقط، طبقاً للحديث الذي رواه مسلم من حديث قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه: أنه كان تحمل حمالة، أي: أن طائفتين اختلفتا على دية قتيل أو على غرم أو شيء، فأبت كل طائفة أن تدفع، وطالما أنه لم يدفع أحد الطرفين فسيظل الخصام، فيقوم رجل ويقول: تصالحا وأنا سأدفع، فهذا هو معنى الحمالة. فـ قبيصة كان تحمل حمالة بين طائفتين اقتتلتا، فلما جاء موعد السداد لم يجد معه مالاً. فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا يرجح أنه كان في صدر الإسلام- فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أتاني مال أعطيك، ثم قال: يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لرجل تحمل حمالة حتى إذا جاء موعد الوفاء لم يكن معه) هذا يجوز له أن يسأل الناس، (ورجل اجتاحت أمواله جائحة فأتت عليها) هذا يجوز له أن يطلب من الناس، (ورجل أصابته فاقة -أي: فقر- فيقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه -أي: من ذوي العقل- فيشهدون على فاقته -أي: على فقره- فيأخذ ما يسد به حاجته، يا قبيصة! بغير هذه الثلاثة فإنما تأكل أموال الناس سحتاً) . الإسلام دين عزيز، يعز عليه أن يرى بعض أتباعه يريقون ماء وجوههم، أعطاهم الناس أو ردوهم، ويعلم الله أن هؤلاء الذين يسألون الناس غالبهم إنما يستكثر من أموال الناس لا غير، قال الله عز وجل في صفة المؤمنين الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، قال عنهم: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273] والإلحاف: هو كثرة السؤال. مرة كنت أقف في شارع، فإذا بيد تجذبني من الوراء، فالتفت فإذا امرأة تقول: لله، هذا الموقف لا أزيد فيه حرفاً، أنا تصورت أني ارتكبت جرماً لأنها كانت جذبة شديدة. هذه المرأة لو نظرت إليها تجدها في قوة وعافية، أين زوجها؟ أين أولادها؟ أين أبوها؟ أين أخوها؟ أين خالها؟ أين رحمها؟ تخرج، وعن عمد يلبسون الثياب المقطعة إظهاراً للفقر، مع أن هذا مناف أصلاً لديننا، لا يجوز لك على رأي بعض العلماء إن كنت تستطيع أن تلبس ثياباً حسنة أن تلبس أقل منها، فإنك مأمور من قبل الشرع أن تظهر أثر نعمة الله عليك، كما في الحديث الصحيح: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) . وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (ما من رجل يسأل الناس إلا أتى يوم القيامة ليس على وجهه مزعة لحم) رجل أراق ماء وجهه وأزال لحم وجهه، يأتي يوم القيامة ليس على وجهه مزعة لحم. ومن حديث أبي هريرة عند مسلم أيضاً أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من يسأل الناس استكثاراً من أموالهم ليس عن ظهر حاجة فإنما يستكثر به ناراً، فليستكثر أحدكم أو ليقل) . ومنذ سنين نشر في الصحف -وإن كان كثير مما في الصحف لا يصدق إنما هذا ليس بمستبعد- أنهم ألقوا القبض على امرأة تقعد على كيس فلما فتحوا الكيس إذا به مال، فلما أحصوه زاد على السبعة آلاف، فمثل هذا النمط لا يكون يوم القيامة على وجوهم مزعة لحم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 قصة موسى والخضر [8] عندما بنى الخضر الجدار لأهل القرية اعترض موسى على فعله؛ لأنه رأى أن هذا الفعل يعد مكافأة لهم على لؤمهم، وعدم استضافتهم لهما، فكانت هذه نهاية صحبة موسى للخضر، حيث بين له الخضر عندها الحكمة في أفعاله التي فعلها، ومنها بناؤه للجدار، حيث أن ذلك الجدار كان تحته كنز لغلامين يتيمين تركه أبوهما، فحفظه الله لصلاح أبيهما، وهكذا فإن الصلاح أمان، والله تعالى يكفل أهل الصلاح ويضمن عنهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 1 نهاية قصة موسى مع الخضر إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. سنعرض المشهد الأخير الذي به انفضت الصحبة بين موسى والخضر عليهما السلام، ذلك المشهد أو الموقف يتعلق بالكنز الذي كان تحت الجدار، وسننظر كيف أن الله عز وجل يعاقب الرجل على قصده. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 لطيفة قرآنية قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82] هنا في قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ} [الكهف:82] وفي الآيات السابقة (تستطع) ، فحذف حرف التاء. وقبل معرفة الحكمة من حذفه أقدم بقاعدة عند علماء البيان، يقولون: (إن المبنى والمعنى يشتركان في أداء الوظيفة من اللفظ، فإن زاد المبنى زاد المعنى، والعكس إن قل المبنى قل المعنى) (المبنى) : هي الأحرف، فالأحرف هي اللبنات في الكلمة كالطوبة بالنسبة للجدار، فحرف مع حرف مع حرف يعطيك كلمة. والكلمة التي لها خمسة أحرف، بخلاف الكلمة التي لها أربعة أحرف، بخلاف الكلمة التي لها حرفان أو ثلاثة. فمثلاً: صرخ، لو قلنا: اصطرخ فزاد حرف الطاء على الكلمة، قال الله عز وجل: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} [فاطر:37] لم يقل: يصرخون؛ لأن الاصطراخ أشد من الصراخ، (يصطرخون) : أي: بحمية، بهلع وجزع، فلفظة يصطرخون أقوى من لفظة يصرخون؛ لأنه زاد في كلمة (يصطرخون) حرف الطاء، إذاً: زيادة حرف في الكلمة يزيدها معنى بخلاف نقصانه من الكلمة. مثلاً: كلمة (استطاع) التي نحن بصددها الآن، قال الله عز وجل في قصة ذي القرنين التي هي بعد قصة موسى والخضر لما بنى السد وجاء يأجوج ومأجوج، قال الله: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} لم يستطيعوا أن يتسلقوه {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} ولا شك أن إحداث ثقب في سد عريض هائل من الحديد والقطران أصعب من أن تتسلقه، لذلك جعل التاء في (استطاعوا) في النقب؛ لأنه أشد على النفس ويحتاج إلى مجهود، وأما مجرد التسلق فسهل، ولذلك حذفت التاء، فدل على أن التسلق أسهل بكثير جداً من النقب وإحداث ثقب. ففي الآية الأولى: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ} [الكهف:78] أتى (بالتاء) ؛ لأن القضايا الثلاث كانت عسيرة جداً على نفس موسى، ففي كل قضية كان يعترض، فلم يقبلها. فقال: ذلك الذي شق عليك وعلى نفسك ولم تستطع أن تتحمله أنا سأنبئك بتأويله، فلما حل الخضر رموز القصة ظهر أنها حكمة فعلاً، وظهر أنه لم يفعل ذلك جزافاً، حينئذٍ سهل فهم المواقف كلها على موسى، حينئذٍ قال: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82] أي: أنه سهل ولم يكن شاقاً كما كنت تعترض عليَّ في أول الأمر، فلذلك حذف (التاء) ، وحذف (التاء) هنا دل على ذهاب المشقة والحرج اللذين كانا في نفس موسى: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82] . نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 من صدق مع الله صدقه الله لقد وفى الله عز وجل لهذا الرجل وأرسل الخشبة إلى صاحبه؛ لأنه صدق النية، ويستحيل أن يصدق الرجل نيته كلها لربه ولا يوفيه الله عز وجل حسابه، بل إذا أخلصت ضميرك يأتيك عون الله، وأما إن أخلصت نيتك (90%) والعشرة أين ذهبت؟ بالتأكيد ذهبت لشريك، أو لبشر، أو لهوى نفس، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من أشرك بي شيئاً تركته وشركه) فالله عز وجل يكلك إلى الـ (10%) هذه، ولا تغني عنك الـ (90%) شيئاً (من أشرك بي شيئاً تركته وشركه) . فهذا الرجل لما قال له صاحبه: كفى بالله شهيداً وكفى بالله وكيلاً، قال له: فذاك، أي: أنا لا أريد أكثر من هذا، فوفى الله عز وجل عنه وسخر هذه الخشبة المأمورة: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 جميع الأقدار بيد الله قد يمشي الرجل في شارع فيقول: بل سأرجع إلى هنا، فيجد خيراً أو شراً، فيقول: لو أنني مضيت في سبيلي ما أصابني كذا، فالله هو الذي حول ناصيته من هذا الشارع إلى ذاك، ليتم قدره ولتنفذ مشيئته. ذكر أحد الصحفيين أن رجلاً أراد أن يشاهد مباراة كرة القدم بين ألمانيا الغربية وهولندا في كأس العالم سنة أربعة وسبعين، فحجز في الطائرة ليذهب فقط يشاهد ويرجع. ثم عرضت له ظروف، فتأخر عن موعد إقلاع الطائرة دقيقتين، فوجد الطائرة أقلعت، وبما له من نفوذ أمسك مدير المطار وشدد الكلام عليه، وأنه لابد من طائرة مخصوصة تخرج الآن حتى لا تفوته المباراة. قال: وبعدما استعملت كل ما عندي من نفوذ وإمكانات لم أجد بداً من القعود، قال: فرجعت مهموماً كاسف البال، فشاهد المباراة في التلفاز، وقرأ الصحف في اليوم التالي فوجد أن الطائرة قد ارتطمت بجبل في سويسرا ومات كل من عليها {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82] ، فالآن عرف ربه، وعرف أن الله متصرف في الكون، وعرف أن الله نجاه. فكم من أمانٍ في نفس الإنسان، تذهب نفسه حسرات أنه لم يحصلها وأنها فاتته، ولو أن الله عز وجل أطلعه على لوح الغيب لعلم أن الله أرأف به من الأم بولدها. فهذا الرجل صاحب المال الله هو الذي ضمنه، وإن الله ما استودع شيئاً إلا حفظه، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ودع أخاً له يقول: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك) لا يقل: أستودع الله مالك، أستودع الله جاهك، إنما: (أستودع الله دينك) ، وكان وهو مسافر يقول: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في المال والأهل والولد) وإذا رجع قال: (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون) . فاستحفاظ الله عز وجل للمؤمن ولكرامته أمر مقطوع به، والشيء الذي ينقص الآن أن يحس المسلمون به إحساساً عملياً أن تشعر أن الله ضامن فعلاً، أن تعطي أخاك الدين والمال والعون ولا تشح به: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] ، فإن الله عز وجل كما ورد في بعض الآثار جعل أجر القرض بثمانية عشر مثلاً، والقرض هو القرض الحسن الذي لا يعود بفوائد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 تقلب الحياة بالبشر إن من يقرأ التاريخ سواء التاريخ الإسلامي أو التاريخ المعاصر أو تاريخ اليهود والنصارى، رأى هذه حقيقة ثابتة لا تتخلف، فإن البشرية كلها من يوم أن خلق الله آدم حتى الآن لم تعرف أعتى ولا أضل من فرعون، ولا حتى مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة، فإن ذاك ادعى الألوهية، وكان في عز ومنعة من نفسه وقومه، ومع ذلك فالله عز وجل أجرى الأنهار له في مصر حتى أغرقه بها. وهكذا تنقلب النعمة إلى نقمة، الماء نعمة {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] لكن الماء يغرق، فهذا فرعون الذي افتخر بالماء، وبأن هذه الأنهار تجري من تحته، جعلها الله فوقه. وفي تاريخنا المعاصر قال رجل: أولادي في الجيش، وهذا الجيش لي، وهذه الأوسمة لي، ويلبس ثياباً عليها أوسمة لم يعرفها أحد من البشر، ولا أحد يمنعه، وثقته بالناس وثقته باللباس الواقي من الرصاص، لكن الله عز وجل هو الذي يحرك الناس. قال لي أحد الطيارين: بينما أنا أركب الطائرة في تدريب إذ نظرت إلى القاهرة، فإذا أعلى عمارة في القاهرة أقل من هذا البنان، والناس يمشون كالنمل على الأرض. قلت: كم كان ارتفاع الطائرة عن الأرض؟ قال: اثنان أو ثلاثة أو أربعة من الكيلو مترات؟ إذا كنت بهذا الارتفاع القصير ترى هؤلاء الناس بما فيهم من كفر وجحود وعناد وظلم تراهم كالنمل ليس لهم وزن، فكيف يرى ربنا من فوق سبع سماوات هذا البشر؟ كالنمل التي تتحرك على الأرض، فيهم الشر كله وفي بعضهم خير، وهذا الجيش الذي يحمي كان هو الآفة بالنسبة للذي يحتمي به، وكذلك يعطي الله الآيات للناس لعلهم يتفكرون، أي رجل يأتي بعد ذلك لن يكون أقوى من فرعون، ولن يكون أغنى من قارون، ولن تنتصر على البشر بقوتك أو بمالك، واعتبر بهؤلاء الذين مضوا. فالأرض لن تتخلص من كبوتها هذه إلا إذا عاد المسلمون بالذات وليس أي إنسان، إننا نطالب المسلمين أن يسلموا، الذين يخرجون من هذه البلاد يدعون إلى الإسلام في بلاد الكفر كأمريكا أو روسيا نقول لهم: ذوو القربى أولى، هل أسلم أولادكم أولاً حتى تذهبوا؟ قد يفتن الرجل الداعية، والسفر إلى بلاد الكفر محرم إلا لضرورة قصوى، كشيء نافع للمسلمين لابد لهم أن يدرسوه أو يعلموه، فحينئذٍ يجب السفر، لكن أن يسافر ليسكن فهذا لا يجوز. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 صلاح الوالد أمان للذرية قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ} [الكهف:82] فالله حمى الكنز بصلاح الوالد {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] وجعل الله عز وجل كفيلاً على الذرية، وقد قال الله في سورة النساء: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:9] هل قال: يُؤَمِّنُوا عليهم؟ لا، فالتأمين على الحياة ضرب من المقامرة نهى الإسلام عنه؛ فإن الذي يقبض منك ثمن التأمين قد يموت وهو يكتب المال الذي استلمه، فالتأمين على الحياة مقامرة. لكن ماذا يفعل الذين يخشون أن يتركوا ذرية ضعافاً لا حيلة لهم بين الناس؟ قال: {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] هذان قسطان ادفعهما، والله عز وجل كفيل بذريتك من بعدك: {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 كفالة الله للعبد المؤمن من الحكايات الجميلة التي تهز القلب من قصص بني إسرائيل ما حكاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنا لنأخذ منه العبرة على كفالة الله عز وجل للعبد المؤمن، كما روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن رجلاً من بني إسرائيل أراد ألف دينار قرضاً، فذهب لرجل آخر، فقال له: أقرضني ألف دينار إلى أجل وليكن في آخر الشهر أعطيك الألف دينار. قال: ائتني بشهيد. قال: (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) . قال: ائتني بكفيل. قال: كفى بالله كفيلاً. قال: فذاك -أي: أنا لا أريد إلا هذا- وأعطاه الألف دينار لأجل، فأخذ الرجل المال وركب البحر، فعمل بالألف دينار، فعندما جاء موعد الوفاء وكان بين الدائن والمدين بحر، وكان البحر هائجاً، وكانت الرياح عاصفة، والمراكب التي تنقل الناس توقفت عن العمل. فوقف الرجل بالألف دينار على شاطئ البحر ينظر مركباً فلم يجد، وكان الرجل الدائن على الشاطئ الآخر ينتظر حضور الرجل بالألف دينار على حسب الموعد المعلوم. فلما استيئس الرجل، أخذ خشبة فنقرها -عمل فجوة فيها- ووضع الألف دينار، ووضع كتاباً مع الألف دينار أن هذا المال إلى فلان. ثم أمسك الخشبة بعد ما سدها، وقال: يا رب! أنا جعلتك كفيلاً وجعلتك وكيلاً وضامناً فأوصل المال إلى صاحبه، وقذف بالخشبة في البحر. وفي بعض الروايات أن الخشبة كانت تمشي ضد الموج -مع أن الموج في ذاك اليوم ليس موجاً عادياً بل الموجة الواحدة قد ترتفع إلى أمتار، وهذه الخشبة كصندوق موسى، لما رمت أم موسى ابنها موسى في التابوت، لكن الله هو الذي يحركه؛ لأنه هو الضامن وهو الكفيل، وفي هذا نكتة أذكرها في آخر القصة-. وقف الرجل الدائن على البحر فلم يأتِ مركب ولا رجل ولا شيء، فلما أراد أن ينصرف إذا بالخشبة تلعب أمامه في البحر، -تذهب وتجيء- ولا تتحرك ولا ترتد مع الموج، إنما انحصرت في متر، فقال الرجل في نفسه: آخذ هذه أستدفئ بها من البرد. وأخذ الخشبة يستدفئ بها، ورجع مهموماً، فأتى بالقدوم وكسرها فإذا هو بصرة، فقرأ الكتاب، فعلم أن الرجل حال بينه وبينه الظروف الجوية. وفي نفس اليوم مساءً ذهب الرجل المدين، فأخذ ألف دينار أخرى وركب مركباً، وذهب إلى صاحب المال، فقال: والله إنه لم يمنعني أن آتيك بمالك إلا أن البحر كما ترى، خذ مالك جزاك الله خيراً. فقال له الرجل: هل أرسلت لي مالاً؟ قال: سبحان الله! أقول لك لم أجد مركباً. قال: جزاك الله خيراً، فإن الله قد أدى عنك، فارجع راشداً، فرجع بالألف دينار راشداً. فالله كفيل والله وكيل، وهذه القصة لو أنها لم ترد في صحيح البخاري الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل ولا يوجد فيه إلا صحيح، لعددنا هذا ضرباً من الأساطير والحكايات الخيالية. فهذه القصة حكاها النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأمة ليستفيدوا منها، فهذا الرجل أخذ ألف دينار لأجل، فقال: ائتني بشهيد أو كفيل، قال: كفى بالله شهيداً، كفى بالله وكيلاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 استحباب كتابة الدين ليس معنى هذا أنني إن أخذت منك ديناً ألا أكتبه، فإن ذلك كان في شريعة بني إسرائيل، وقد قال علماء الأصول: (شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه) ، وما ورد في شرعنا ما ينسخ هذا الفعل بأن يجعل ربه كفيلاً أو شهيداً وإنما أتى استحباب أن يكتب الناس التداين فيما بينهم في ورقة، نظراً لكثرة الغش الذي يقع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] . وإلا فإن قال: إن أحببت أن نكتب الدين فبها ونعمت، وإن ائتمنتني وجعلت الله عز وجل كفيلاً وشهيداً، فإن الله يقول: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة:283] فالله عز وجل أفسح المجال هنا للأمانة بين الناس، أن آخذ منك المال بدون صك وبدون كتابة فهذا جائز، لكن إن قلت لك: اكتب هذا الدين فلا يجوز لك أن تمتنع، ولا أن تقول: كفى بالله شهيداً وكفى بالله وكيلاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 اليمين على نية المستحلف جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يمينك على ما فهم صاحبك) أحياناً يعرض الرجل ويوري بالكلام وأحياناً يحلف، مثلاً يأتيه رجل فيقول: معك مال؟ فيضع يده هنا ويقول: لا والله ما معي مال، مع أن المال هناك لكنه أشار إلى هنا، فأنت عندما تقول: لا والله، هذه اليمين ليست على قصدك أنت بل بما فهم صاحبك، فصاحبك فهم أنه ليس معك مال قط، وأنت تقصد أنه ليس معك مال هنا، فأنت حانث في يمينك، ولا تقل: أنا قصدي كذا، بل المهم قصد صاحبك، حتى لا تتخذ الأيمان جنة للمعاصي وللخيانة والخداع، فالله عز وجل قد يعاقب الرجل على قصده بنية صاحبه. قال الله عز وجل على لسان الخضر: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 عقوبة الخضر لأهل القرية ببناء الجدار لعلنا نذكر دخول موسى والخضر عليهما السلام إلى القرية: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف:77] دخلوا القرية يطلبون طعاماً {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف:77] ما هي العقوبة؟ أن يبني الخضر الجدار، وهذه عقوبة؛ لأن الجدار عندما مال وقد وصفه الله عز وجل بصفة الآدمي: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف:77] أي: يقع، وكان تحت الجدار كنز، فلو أن الجدار وقع لظفر أهل القرية بالكنز فأخذوه، فلما أقام الخضر الجدار حرم أهل القرية من الكنز، وحفظ الله عز وجل هذا الكنز لليتيمين. فهذه عقوبة لهما، ولكن موسى اعترض، فقال: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77] أي: نأكل به، لكن أن يمنعونا من الضيافة والقرى وهو حق لنا ونحسن إليهم بأن نبني جداراً مجاناً!! فلما أقام الخضر الجدار حمى ذلك الكنز؛ لأنه ليتيمين، واليتيم عند البشر هو فاقد الأب، وعند الحيوانات فاقد الأم، ولكن لا يظل المرء يتيماً مدة حياته، ولا يصلح أن يطلق على إنسان ما أنه يتيم مدة حياته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره بسند صحيح: (لا يتم بعد احتلام) فإذا بلغ الرجل انتفى عنه مسمى اليتم؛ لأن اليتم هو عبارة عن صفة تلزم عاجزاً، والطفل الصغير حتى يبلغ الحلم عاجز عن الكسب والتفكير، فإذا بلغ أشده واستوى لم يعد بحاجة إلى أبيه، حتى ولو كان أبوه حياً، فهو بحاجة إلى أبيه ما لم يبلغ. ولذلك في الآية: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:82] فدل ذلك على أنهما كانا يتيمين صغيرين ما بلغا الحلم، فهذان اليتيمان حفظ الله عز وجل الكنز بصلاح أبيهما، وفي هذا دليل على أن الصلاح ينفع الذرية. أي شيء تفعله يكون لك به لسان صدق، افعل المعروف الآن يبقى لذريتك، قال الله عز وجل: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] أنت اليوم في رفعة ومنعة وغداً في ذل واستضعاف وغيرك في عز ومنعة، هذه سمة لهذه الحياة حتى لا يأمن أحد بها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 الأسئلة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 حكم إعفاء اللحية مع معارضة الوالدين السؤال إذا أراد الرجل أن يطلق لحيته، ولكن أهله يعارضون إطلاق لحيته، فماذا يفعل؟ الجواب بالنسبة للرجل إذا أراد أن يطلق لحيته وعارض والداه هذا الفعل، من الأصول المعروفة عند المسلمين وحدده النبي عليه الصلاة والسلام أنه: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) . وحلق اللحية معصية بلا شك، ولا يجوز للمسلم تحت أي ظرف أن يحلق لحيته -حتى أكون دقيقاً- إلا في بعض الظروف الضيقة جداً التي يجوز للمسلم أن يأخذ لحيته ويحلقها. كما لو كان في دار حرب، أو كانت اللحية هذه يمكن أن تتلف حياة الآخرين فيجوز له في هذه الحالة أن يعمل بمبدأ الضرر. قال عليه الصلاة والسلام: (اعفوا اللحى، وقصوا الشارب، وخالفوا اليهود والنصارى) وقال عليه الصلاة والسلام لما دخل عليه رسول قصرى وقد أطال شاربه وحلق لحيته قال: (من أمرك بهذا؟ قال: ربي -الذي هو كسرى- قال عليه الصلاة والسلام: ولكن ربي أمرني أن أعفي اللحى، وأن أقص الشارب) . فقوله عليه الصلاة والسلام: (ولكن ربي أمرني) صريح في أن السنة النبوية الصحيحة موحاة كالقرآن الكريم تماماً، كما قال الله عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] أي: ما ينطق عن هوى نفسه. فكل حديث فيه أمر بطاعة الله عز وجل فهو وحي كالقرآن تماماً، وهذا الحديث أحد الشواهد التي تؤيد ذلك. فإعفاء اللحية واجب. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 نبذة مختصرة عن تحقيق الكتب القديمة السؤال ما رأيكم في تحقيق الشيخ محمد رشيد رضا لكتاب الاعتصام؟ الجواب أولاً: أعطي لمحة عامة عن كيفية تحقيق الكتاب المخطوط؛ لأن هذا له علاقة وطيدة جداً بالسؤال، وحتى لا يشك أحد في كتاب ما ويقول: لعل المخطوط لم يصل أو لعلها مدسوسة إلخ. عندما كان أسلافنا القدماء يكتبون الكتب المدونة التي يؤلفونها، إما بأيديهم أو عن طريق نساخ الأجرة، فكان بعضهم يخط لنفسه كشيخ الإسلام ابن تيمية كان كما يقول ابن القيم في الوابل الصيب: (كان يكتب في ليلة ما ينسخه الناسخ في جمعة) فيؤلف في الليلة مجلدين أو ثلاثة بحيث أنك لو أردت أن تنقل وراءه لنفسك تظل أسبوعاً تنقل الذي كتبه في ليلة واحدة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. مع لفت النظر إلى أن التأليف أصعب من النسخ، إذ يمكن أن ينسخ الشخص وعقله فارغ، فيكتب الذي أمامه، ولكن شيخ الإسلام كان يؤلف. فكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بسبب السرعة الشديدة أحياناً لا يظهر خطه ولا يبين. لكن لم يكن شيخ الإسلام يحجر على الناس ألا يقرءوا إلا نسخته، إنما كان تلاميذه وكان لهم خطوط حسنة ينقلون عنه، ثم يعرضون النسخ التي نقلوها عليه فيقرها، فتختم بختم الدولة آنذاك، وتلحق بالكتب المخطوطة وتوضع في الخزينة. وهذا لكثرة الذين كانوا يؤلفون الكتب وينسبونها إلى أناس مجهولين أو مشهورين، حتى يقال: إن هذه نسخة معتمدة قرئت على المؤلف وأنه أقر كل حرف فيها، وأنه يُسأل عن كل قضية فيها، فيختم بختم الدولة ويوضع في الخزينة العامة، وكل كتاب من كتب السلف كان يعامل بهذه الصفة. وكان أيضاً ممن ينسخ لنفسه الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه صاحب كتاب فتح الباري، وكان رديء الخط جداً، حتى أنهم ذكروا من اللطائف أنه لم يكن يعرف أن يقرأ خطه، وعندما كان يؤلف كتاباً، ثم يريد أن يقرأه ثانياً كان يعاتب نفسه ويقول: كيف السبيل حتى نصل إلى الكلمة الحقيقية؟ فكان شيخ الإسلام ابن حجر مع رداءة خطه يكسل أن يرفع القلم ليفصل بين الكلمة والكلمة، فكل كلامه متصل، بحيث أنك لا تستطيع أن تعرف هذه الكلمة انتهت بواو أو انتهت بقاف أو انتهت بعين. فكانوا يجدون في المخطوطات التي خطها الحافظ ابن حجر بنفسه مشقة شديدة، إنما اعتمدوا في كتب الحافظ ابن حجر -لأنها انتشرت- على نسخ التلاميذ والنساخ الذين كان الحافظ يعطيهم الأموال لأجل نسخ الكتب. فيتواتر للكتاب الواحد نسخة ونسختان وثلاث وأربع، وأحياناً تصل إلى عشرين نسخة على حسب شهرة الكتاب، فعندنا في دار الكتب المصرية لصحيح البخاري فقط سبعة وعشرون نسخة، وفي كل مكتبة من مكتبات العالم لصحيح البخاري فوق العشر والعشرين نسخة. فتجد أنك لو جمعت كل النسخ لصحيح البخاري في العالم كله لأمكن أن تصل إلى أكثر من مائتي نسخة؛ لأنه كتاب مشهور جداً وتلقته الأمة بالقبول، فكان كل رجل من العلماء أو من الأشراف حريص على أن يكون في بيته نسخ من صحيح البخاري. ومثلاً: نحن الآن عندنا كتاب رياض الصالحين يكاد يكون مثل المصحف في بيوت الناس، كل بيت تجد فيه رياض الصالحين بجانب المصحف، فنسخ رياض الصالحين كثيرة جداً جداً مما يجعل الثقة بالكتاب (100%) . لكن هناك كتب لا يوجد منها إلا نسخة أو نسختان أو ثلاث، وأحياناً عشر، لكن قامت على مؤلفه القيامة آنذاك فأحرقوا كتبه، فلم تبق من هذه النسخ إلا نسخة فريدة أو نسختان. ولما جاءت الحملة الفرنسية (المباركة!) كما يصفونها في كتب التاريخ، لم يأتوا أصلاً لأجل احتلال ولا لأجل أن يخرجوا حجر الرشيد ولا لأي شيء من هذا إنما أتوا ليسرقوا تراثنا. اذهب إلى باريس تجد المكتبة الضخمة فيها نفائس المخطوطات الإسلامية مما يضطر الباحث لأجل أن يحقق كتاباً أن يسافر إلى فرنسا، وطبعاً في فرنسا سيبيت في الفنادق ويأكل من أكلها ويشرب من شرابها، وكل هذه أموال تعود لصالح الفرنسيين. ثم يصور المخطوطة التي هي لنا، تراث أجدادنا نحن، ويرجع بها بعد شهر أو شهرين، وقد لا يوافقون أن يصوروا له. الاستعمار الإنجليزي أو الفرنسي أو الروسي كلهم سرقوا جميع كتبنا، ولذلك تجد مخطوطات المسلمين في كل مكان في العالم، يجعلون متاحف يضعون فيها كتب المسلمين. فوزعت كتب المسلمين على العالم كله، فإذا أنا الآن أريد أن أحقق كتاباً مثل الاعتصام للشاطبي: أولاً: أبحث في الخزانة المصرية، تجد أن عندنا دور مخطوطات في مصر، وهي: مكتبة البلدية، والإسكندرية، ومكتبة فؤاد للمخطوطات، ودار الكتب المصرية، والمكتبة الأزهرية، ومعرض المخطوطات، وكان هناك معرض المخطوطات في الجامعة العربية وأخذوها منا لما نقلوا الجامعة العربية إلى تونس، وهناك دار للمخطوطات بالمنصورة، فهذه الدور تجمع المخطوطات القديمة التي هي لأسلافنا. اليوم مثلاً: كتاب صحيح ابن حبان كبير وهو قريب من صحيح ابن خزيمة وشبيه بصحيح البخاري، فأريد أن أحققه، فأذهب أبحث في كل الدور في مصر أولاً، وأنظر في الفهارس العلمية، فأجد أنهم يقولون: موجود من صحيح ابن حبان -وهو تسعة مجلدات- موجود منه أربعة مجلدات، المجلد الأول ضاعت منه ثلاث ورق، والمجلد الثاني فيه خرم أزال مثلاً ورقتين أو ثلاثاً، والمجلد الرابع المقدمة ساقطة منه، فأجد أن الكتاب غير مكتمل، فلا أستطيع أن أحقق هذا الكتاب، فألتمس له نسخة كاملة، فأذهب أبحث في مكتبات العالم عن نسخة كاملة لصحيح ابن حبان، فأذهب مثلاً إلى باريس فأجد ثلاثة مجلدات فقط هي الموجودة من الكتاب والباقي غير موجود، لكن المجلد الأول الذي هو ناقص عندي منه أربع ورقات أجدهن في المجلد، وهذا المجلد ضاعت منه عشر ورقات وفي الآخر أجدها عندي في مجلدي، فأتعب تعباً شديداً حتى أستطيع أن أحصل نسخة صحيحة موثقة كاملة لصحيح ابن حبان. بعد ذلك لابد أن أكون دارساً للخطوط القديمة؛ لأن قواعد الإملاء تغيرت عن القديم، فإلى نهاية القرن الثالث الهجري أو جزء من القرن الرابع كانت مسألة التنقيط هذه غير منتشرة، فكان الكاتب يكتب ولا يضع نقطاً، وكانوا يفهمون؛ لأن هذه هي طريقة الإملاء عندهم. مثلاً: كتاب علل الدارقطني الموجود في دار الكتب المصرية، إذا فتحت الكتاب لا تجد ولا نقطة واحدة، وأعطيكم مثالاً واحداً فقط، هذا الشكل (عين، راء) هل هو: نمر، أو نمس أو ثمر أو تمر أو غنس أو غير أو غيض أو غضب، لا أعرف النقط أين موضعها؟ فحينئذٍ لا تستطيع أن تخرج كتاباً مخطوطاً لأجل أن تقدمه للمطابع إلا إذا كنت عليماً بالطريقة القديمة للإملاء، وهذه لها قواعد ولها كتب. إذاً: على كل رجل محقق أن يكون دارساً، كل هذا الهم الكبير، وكلمة (هم) ليس معناها الهم المرادف للغم، إنما الهم الذي يبعث الهمة، كما قال تعالى: {هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] . فيجب أن أدرس كل هذا قبل أن أكتب خطاً واحداً، أو قبل أن أكتب سوداء في بيضاء كما يقولون. فبعدما يكون عندي كل هذه الأصول، أبتدئ أنظر، هذا الكتاب له نسخة أو نسختان أو ثلاث؟ إن كان له أكثر من نسخة فيجب أن أسعى لأن آتي بجميع النسخ. فإذا توفر لدي خمس نسخ مخطوطة من كتاب مثل: الاعتصام، لابد أن أجعل من الخمس النسخ نسخة تكون هي الأصل الذي أعتمد عليه والنسخ الباقية شواهد لها. وتحديد النسخة الأصل يكون بالنظر إلى أقدم نسخة، بأن يكون مكتوب عليها تاريخ قديم، وتكون أقرب النسخ للمؤلف، وكلما كانت النسخة مكتوبة في زمن قريب إلى زمن المؤلف كانت أشد ثقة وتوثيقاً من النسخة المتأخرة. إذا كان الشاطبي توفي مثلاً سنة ستمائة وخمسة وستين فإذا كانت النسخة التي أمامي مكتوبة سنة ستمائة وثمانين والنسخة الثانية مكتوبة سنة سبعمائة وعشرة فنسخة سنة ستمائة وثمانين هي التي يجب أن اعتمدها أصلاً للنسخة المتأخرة، وكلما اختلفت النسخ مع بعضها أقدم سياق النسخة الأم. فيظل الباحث شهراً وشهرين وثلاثة وسنة وسنتين وثلاثاً وساعات كثيرة في كتاب واحد، فتأتي أنت تأخذه وتشتريه وتضعه على الرف، وتنفخ عنه التراب كل شهر، ولا تستفيد منه، ولا تعرف كم بذل في هذا الكتاب من مجهود حتى وصل بين يديك مطبوعاً، فالتحقيق هذا أصعب من أن يؤلف المرء كتاباً من جديد، فالواحد خير له أن يؤلف عشرة كتب ولا يحقق كتاباً مخطوطاً واحداً. الذي يحصل أن الشيخ محمد رشيد رضا مثلاً يعثر على نسخة من كتاب الاعتصام فيبذل الوسع في تحقيقها، ويكون في آخر النسخة أو في آخر صفحة كلمة، ولم يجد ورقة بعد ذلك، والكلام يفترض أن يكون متصلاً، فيرجح أن هناك سقط ورقة أو ورقتين أو ثلاثاً من آخر الكتاب. وأحياناً يكون الكتاب كاملاً ولكن لم يضع سماعات، ولا قرأنا الكتاب على فلان، والحمد لله رب العالمين، مثلما يختمون كتبهم، فيترجح لدى الرجل أن هذا الكتاب إما تم أو لم يتم، فحينئذٍ لا يجوز أن نشك بالكتاب، ولكن نقف على ما حدده المحقق. الشيخ محمد رشيد رضا قال في نهاية الكتاب: إن هناك بعض الورقات ذهبت، أو أن النسخة غير كاملة مثلاً، فيبقى أن يستفاد من هذه النسخة، ولكن إذا وجدت أحد العلماء نقل نصاً عن كتاب الاعتصام ولم تجده في كتاب الاعتصام فينبغي أن تستحضر كلمة الشيخ محمد رشيد رضا لعل هذا يكون من الورقة التي سقطت. وحينئذٍ يجدر بالباحث أو القارئ إذا وجد كلاماً نسب إلى كتاب ما وليس في الكتاب، أن يدونه على حاشية الكتاب؛ لأنه من الممكن أن يكون سقط من النسخة شيء، أو من الممكن أن الذي نقله وهم في اسم الكتاب. هذه نبذه -مختصرة- عن تحقيق الكتب القديمة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 كتاب الموافقات والاعتصام للإمام الشاطبي السؤال ما رأيكم في كتاب الموافقات للشاطبي وكذلك كتاب الاعتصام؟ الجواب بالنسبة لكتاب الموافقات للإمام الشاطبي فإنه يعتبر من أجل الكتب في فهم مقاصد الشريعة، وهذا يعتبر كتاباً مبتكراً مما زاد في قيمته؛ لأن الأصوليين يوم وضعوا أصول الفقه وضعوا القواعد التي يتوصل بها إلى معرفة حكم الله عز وجل من النص بأي طريقة كانت، فهذا مقصود أصول الفقه: معرفة حكم الشارع من النصوص. إما مقاصد الأحكام الشرعية هذه فلم يتعرض لها الأصوليون في أصول الفقه، لذا أتى الإمام الشاطبي رحمه الله وصنف لمقاصد الشريعة كتاب الموافقات، ووضع قواعد كلية لم يسبق إليها. فلذلك تجد هذا الكتاب عبارته مغلقة، فافتح كتاب الموافقات تجده عربياً، ولكن لا تفهم كلمة إلا لماماً، فهو كتاب في غاية الصعوبة، وأتى الشيخ دراز رحمه الله وأراد أن يفسره فزاده تعقيداً. فهذا الكتاب آخر شيء يقرأ، فلا يأتي أحد في أول العلم وفي يده كتاب الموافقات، ويظل يقرأ، فإنه لن يفهم شيئاً ويصده ذلك عن تحصيل دقيق للأصول. إنما الأصل أن الإنسان يبدأ في كتاب مختصر في أصول الفقه، والكتب الأصولية للأصوليين المتأخرين أو المصنفين في الأصول المتأخرين اقتبسوا فيها مقاصد الشريعة عن الشاطبي بصورة سهلة. ولكن الأصوليين القدماء لم يدخلوا مقاصد الشريعة بصورة واضحة، إنما يمكن أن يكتب فيها سطراً بحيث أن لا يفهم أحد أن هذا يقصد أنه يحدد مقاصد الشريعة، حتى أتى الإمام الشاطبي فحدده. وأيضاً كتاب الاعتصام من أجل الكتب وأنفعها، ويجب على جميع المسلمين الذين يعتنون بمعرفة السنة من البدعة أن يقرءوا هذا الكتاب، فإني ما رأيت مثله في بابه، والعلماء شبه مجمعين على أن هذا الكتاب أجل كتاب في تعريف السنة العملية، وكيف يكون المرء سنياً. وأتى بالبدعة وأنكر تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام، كما هو تقسيم الإمام الشافعي لها، وقال: إن البدعة بدعة حقيقية وبدعة إضافية، وأنه لا يوجد في الدين شيء اسمه بدعة حسنة إطلاقاً، لأنك إن أتيتني بأي شيء لم يوجد في عصر النبوة لابد أن يكون له أصل عام يندرج تحته. بناء المستشفيات وغيره كل هذا داخل تحت الاستشفاء، والاستشفاء عندنا فيه أحاديث صحيحة، فإذاً: المستشفيات بدعة لغوية. كذلك صلاة التراويح على إمام واحد في شهر رمضان هذا لم يكن في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وسنَّة عمر وقال: (نعمت البدعة هذه) ، لما رأى أبي بن كعب يصلي بالمسلمين كلهم على إمام واحد بعدما كانوا يصلونها متفرقين، فقال القائلون بالبدعة الحسنة: قول عمر: (نعمت البدعة) أي: أنها بدعة حسنة، وهذا مدح للبدع. فبين الإمام الشاطبي أن البدعة المقصود بها هنا هي البدعة اللغوية؛ لأن عمر هو أول من جمع الناس على إمام واحد وفي مسجد وجماعة، ولكن هل صلاة التراويح جماعة ابتدعها عمر؟ الجواب: لا، بل قد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم ليلتين أو ثلاثاً، ولكن خشي أن تفترض على الأمة، فلم يكمل، فأصل صلاة التراويح جماعة لم يبتدعها عمر إنما صلاها النبي عليه الصلاة والسلام. وقول عمر: (نعمت البدعة هذه) أي: أنه أول من ابتكر القيام وراء إمام واحد وفي المسجد إلى آخره. فهذا الكتاب فعلاً كتاب ممتاز واسمه يدل عليه (كتاب الاعتصام) وساق فيه أحاديث الاعتصام بالسنن والفرار من البدع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 الوصية المكذوبة للشيخ أحمد هنا وصية المزعوم الشيخ أحمد حامل مفاتيح الحرم، إذا كان هناك من يوزع هذه الورقة حتى الآن فيجب أن يمنع من أن يوزعها؛ لأن هذه الوصية مكذوبة من رجل يدعي أنه حامل مفاتيح حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. يقول: إن ثلث المسلمين يموت على غير الإسلام، وأنا الرسول جاءني وكلمني وعلمني كذا. والعلماء في السعودية قالوا: إنه لم يخدم الغرفة النبوية رجل اسمه أحمد إطلاقاً، وهذا من علامة كذب هذه الورقة. وفي هذه الورقة ما يجعل المسلم الفطن يجزم أنها كذب فضلاً عن العلماء، ثم إن المعاصرين تتابعوا جميعاً على تكذيبها، فسبحان الله ورق وزنه تسعون أو ثمانون جراماً، ويتبرع شخص بالتصوير، وينسخ ألفين أو ثلاثة آلاف نسخة وهكذا أموال المسلمين تذهب فيما لا يفيد، وكونه في شهر إبريل هذا دليل على الكذب أيضاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16