الكتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مرآة علماء الشرق والغرب المؤلف: محمود مهدي الإستانبولي (المتوفى: 1420هـ) الناشر: * الطبعة: 1400هـ-1980م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مرآة علماء الشرق والغرب محمود مهدي الإستانبولي الكتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مرآة علماء الشرق والغرب المؤلف: محمود مهدي الإستانبولي (المتوفى: 1420هـ) الناشر: * الطبعة: 1400هـ-1980م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مرآة علماء الشرق وأدبائه ابن بشر ... ابن بشر ذكر ابن بشر أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يحمد الله تعالى كثيراً ويشكره على تلك النعم التي أسداها إليه ربه من العلم والفضل والورع والقيام بتصحيح عقائد المسلمين والنجاح في هذه المهمة العظيمة، وكان كثيراً ما يلهج بقوله سبحانه: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِين} ، ويتمثل بقوله: بأي لسان أشكر الله إنه ... لذو نعمة قد أعجزت كل شاعر حباني بالإسلام فضلاً ونعمة ... عليّ وبالقرآن نور البصائر قال ابن بشر في كتابه "عنوان المجد في تاريخ نجد"1: ..واعلم رحمك الله أن هذه الجزيرة النجدية هي موضع الاختلاف والفتن ومأوى الشرور والمحن والقتل والنهب والعدوان بين أهل القرى والبلدان المجاورة بين قبائل العربان يتقاتلون في وسط البيوت والأسواق، والحرب بينهم قائمة على ساق وتندرت الأسفار فيها من قديم وحديث. والطيب فيها مغلوب تحت يد الخبيث. فقام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بهذا النور، وزالت هذه الشرور، وساعده بالجهاد ملوكها، وجهزوا الجيوش لأقصى نواحيها وسلوكها حتى افتتحوا بلادها الشاسعة بالصدق في الحرب وأخذوا أعداءهم بقوة الطعان والضرب.   1 ج2 ص 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الجبرتي قال هذا المؤرخ في أول حوادث 1277هـ نقلاً عن بعض كبار رجال جيش محمد علي الذين قاتلوا "الوهابية" في الحجاز، ولقد قال لي بعضهم من الذين يدعون الصلاح والتورع: أين لنا بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الله، ومنهم لا يتدين بدين ولا ينتحل مذهباً، وصحبتنا صناديق المسكرات، ولا يسمع في عرصاتنا أذان ولا تقام فيه فريضة، ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين. والقوم –يعني الوهابية- إذا دخل الوقت أذن المؤذنون وينتظمون صفوفاً خلف إمام واحد بخشوع وخضوع ... وعسكرنا يتعجبون من ذلك، لأنهم لم يسمعوا به فضلاً عن رؤيته. وقال الجبرتي في "تاريخه" الشّهير في حوادث 22 شوال "8فبراير شباط 1809م": شاع بين الناس أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمعاونة أنصاره من السعوديين منع الناس في الشام ومصر عن الحج. والحال ليس كذلك، فإنه لم يمنع أحداً يأتي إلى الحج على الطريقة المشروعة وإنما يمنع من يأتي بخلاف ذلك من البدع التي لا يجيزها الشرع: مثل المحمل والطبل والزمر وحمل الأسلحة. وقد وصل طائفة من الحجاج المغاربة، وحجوا ورجعوا في هذا العام وما قبله، ولم يتعرض لهم أحد بشيء. ولما امتنعت قوافل الحج المصري والشامي وانقطع عن أهل المدينة ومكة ما كان يصل إليهم من الصدقات والعلائف والصّرر التي كانوا يتعيشون منها.. خرجوا من أوطانهم بأولادهم ونسائهم. ولم يمكث إلاّ الذي ليس له إيرادٌ من ذلك. وأتوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 إلى مصر والشام ومنهم من ذهب إلى اسلامبول يشتكون من الوهابي، ويستغيثون بالدولة في خلاص الحرمين لتعود لهم الحالة التي كانوا عليها من إجراء الأرزاق واتصال الصلات، والنيابات والخدم في الوظائف التي بأسماء الدولة كالفراشة والكناسة ونحو ذلك، ويذكرون أن الوهابي استولى على ما كان بالحجرة الشريفة من الذخائر والجواهر. نقلها وأخذها فيرون أنّ أخذه لذلك من الكبائر العظام. وهذه الأشياء أرسلها ووضعها سخفاء العقول من الأغنياء والملوك والسلاطين والأعاجم وغيرهم. إما حرصاً على الدنيا وكراهة أن يأخذها من يأتي بعدهم. أو لنوائب الزمان. فتكون مدخرة ومحفوظة لوقت الاحتياج إليها. فيستعان بها على الجهاد. ودفع الأعداء. فلما تقادمت عليها الأزمنة، وتوالت عليها السنون والأعوام الكثيرة –وهي في الزيادة- رصدت معنى لا حقيقة، وارتسم في الأذهان حرمة تناولها، وأنّها صارت مالاً للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لأحدٍ أخذها ولا إنفاقها والنبي عليه الصلاة والسلام منزه عن ذلك ولم يدخر شيئاً من عرض الدنيا في حياته وقد أعطاه الله الشرف الأعلى. وهو الدعوة إلى الله تعالى والنبوة والكتاب. واختار أن يكون نبياً عبداً، ولم يختر أن يكون نبياً ملكاً وثبت في الصحيحين وغيرهما أنّه قال: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً". وروى الترمذي بسنده عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكّة ذهباً. قلت لا يارب. ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً – أو قال: ثلاثاً. أو نحو ذلك فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت شكرتك وحمدتك". ثم إن كانوا وضعوا هذه الذّخائر والجواهر صدقة على الرسول. ومحبّة فيه. فهو فاسد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ الصدقة لا تنبغي لآل محمد.. إنما هي أوساخ الناس" ومنع بني هاشم من تناول الصدقة وحرمها عليهم.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 والمراد الانتفاع في حال الحياة لا بعدها فإن المال أوجده المولى سبحانه وتعالى من أمور الدنيا لا من أمور الآخرة قال تعالى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} وهو من جملة السبعة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} . فهذه السبعة بها تكون الخبائث والقبائح وليست هي في نفسها أموراً مذمومة – بل قد تكون معينة على الآخرة إذا صرفت في محلها. وعن مطرف عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، قال: "يقول ابن آدم مالي مالي. فهل لك يا بن آدم من مالك إلاّ ما أملكت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت" إلى غير ذلك. ومحبة الرسول بتصديقه واتباع شريعته وسنّته لا بمخالفة أوامره، وكنز المال بحجرته وحرمان مستحقيه من الفقراء والمساكين، وباقي الأصناف الثمانية. وإن قال المدّخر: اكنزها لنوائب الزمان ليستعان بها على مجاهدة الكفار والمشركين عند الحاجة إليها قلنا: قد رأينا شدة احتياج ملوك زماننا، واضطرارهم في مصالحات المتغلبين عليهم من قادة الإفرنج وخلو خزائنهم من الأموال التي أفنوها بسوء تدبيرهم وتفاخرهم ورفاهيتهم. فيصالحون المتغلبين بالمقادير العظيمة بكفالة أحد الفرق من الإفرنج المسالمين لهم واحتالوا على تحصيل المال من رعاياهم بزيادة المكوس والمصادرات والطلبات. والاستيلاء على الأموال بغير الحقّ. حتى أفقروا تجارتهم ورعاياهم. ولم يأخذوا من هذه المدّخرات شيئاً.. بل ربما كان عندهم أو عند خونداتهم جوهر نفيس من بقايا المدخرات فيرسلونه هدية إلى الحجرة، ولا ينتفعون به في مهماتهم، فضلاً عن إعطائه لمستحقّه من المحتاجين، وإذا صار في ذلك المكان لا ينتفع به أحد.. إلاّ ما يختلسه العبيد المخصيون الذين يقال لهم أغوات الحرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 والفقراء من أولاد الرسول، وأهل العلم والمحتاجون وأبناء السبيل يموتون جوعاً وهذه الذّخائر محجورٌ عليها وممنوعون عنها إلى أن حضر الوهابي واستولى على المدينة وأخذ تلك الذخائر. فيقال إنه عبّأ أربعة شمعدانات من الزمرد، وبدل الشمعة قطعة الماس مستطيلة يضيء نورها في الظلام، ونحو مائة سيف: قراباتها بالماس والياقوت، العظيمة القدر، ومن ذلك أربع شمعدانات من الزمرد، وبدل ملبسة بالذهب الخالص، ومنزل عليها الماس وياقوت، ونصابها من الزمرد واليشم ونحو ذلك، وسلاحها من الحديد الموصوف. كل سيفٍ منها لا قيمة له، وعليها دمغات باسم الملوك والخلفاء السالفين وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 محمد رشيد رضا قال في التعريف بكتاب "صيانة الإنسان" بعد أن ذكر فشو البدع بسبب ضعف العلم والعمل بالكتاب والسنّة، ونصر الملوك والحكام لأهلها. وتأييد المعممين لها. قال رمه الله ما نصّه: لم يخل قرن من القرون التي فيها البدع من علماء ربانيين، يجددون لهذه الأمة أمر دينها بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. كما ورد في الأحاديث. ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعوا إلى تجريد التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وترك البدع والمعاصي وإقامة شعائر الإسلام المتروكة وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة فهبت لمناهضته واضطهاده، القوى الثلاث قوة الدولة والحكام، وقوة أنصارها من علماء النفاق، وقوة العوام الطغام. وكان أقوى سلاحهم في الرد عليه، أنه خالف جمهور المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 من هؤلاء المسلمون الذين خالفهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دعوته؟ هم أعراب في البوادي شرٌّ من أهل الجاهليّة، يعيشون بالسلب والنهب ويستحلون قتل المسلم وغيره لأجل الكسب ويتحاكمون إلى طواغيتهم في كلّ أمر، ويجحدون كثيراً من أمور الإسلام المجمع عليها، التي لا يسع مسلماً جهلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 عبد المتعال الصعيدي قال في كتابه "المجددون في الإسلام": هو الشيخ محمد بن عبد والوهاب، ثم ذكر ولادته ونشأته ورحلاته لتحصيل العلوم ثمّ قال: وقد رجع إلى بلده بعد هذه الرحلة العلمية الطويلة، وقد تهيّأ له مالم يتهيّأ لغيره من علماء نجد، فكان أوسع منهم علماً، وأعرف العلماء السابقين الذين كانت لهم جولة في الإصلاح، ولم يقع في ذلك الجمود والركود الذي وقع فيه علماء عصره حتى ألفوا فيه من البدع وأخذوها على أنّها أصول الدين وأركانه. فلما عاد الشيخ إلى بلده، ولم يرض بما رضي به علماء نجد، من السكوت على تلك البدع، وأراد أن يعيد محاربتها عهد أسلافه من العلماء، ولا سيما الشيخ الإمام ابن تيمية رحمه الله. وكان قد درس كتبه ورسائله الإصلاحية فيما درسه في نشأته. وأخذ يدعو إلى مثل ما دعا إليه ابن تيمية قبله، من التوحيد بالعبادة لله وحد، وإنكار التوجه إلى أصحاب القباب والقبور، وإنكار الاستغاثة والتوسل بالأولياء والأنبياء إلى الله تعالى في قضاء الحاجات. وقد بدأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوته في بلده بلين ورفق ثم أخذ يرسل بها إلى أمراء الحجاز وغيره من الأقطار. ولما رأى أهل بلده مثابرته على دعوته قاموا باضطهاده، فتركهم إلى بلدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 "الدرعية" بنجد، وكان أميرها محمد بن سعود، فعرض عليه دعوته فقبلها وقام بحمايتها ونشرها في بلاد العرب ولم يزل الشيخ يقوم بدعوته في حماية هذه الإمارة إلى أن مات رحمه الله سنة 1206 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 أحمد بن عبد الغفور قال في كتابه " محمد بن عبد الوهاب": كان محمد بن عبد الوهاب الشاب الناهض من أكبر أنصار الحرية الفكرية، المتمشي على نهج الإسلام، يدعوا إليها في إخلاصٍ وحماسةٍ واستطاع أن يتحرر من قيود البيئة، ويخرج على تقاليد قومه البالية. فثار ثورته المشهورة على الجمود والتأخر وحاربهما حرباً ضروساً قاسيةً سائراً في كلّ شؤونه على الطريقة العلميّة والنّقد العلميّ النزيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 طه حسين قال الدكتور طه حسين في محاضراته الأدبية في جزيرة العرب: إن الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب، لا يستطيع أن يهمل حركة عنيفةً نشأت فيها أثناء القرن الثامن عشر، فلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب، واضطرته أن يهتم بأمرها، وأحدثت فيها آثاراً خطيرةً هان شأنها بعض الشيء، ولكنها عادت فاشتدّت في هذه الأيام وأخذت تؤثّر لا في الجزيرة وحدها، بل في علاقاتها بالأمم الأوربيّة، هذه الحركة الإصلاحيّة التي أحدثها محمد بن عبد الوهاب، شيخ من شيوخ نجد، ثمّ ذكر نزراً يسيراً عن نشأة الشيخ ورحلاته العلمية ودعوته إلى أن قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 قلت إنّ هذا المذهب الجديد قديم المعنى، والواقع أنّه جديد بالنسبة إلى المعاصرين، ولكنه قديمٌ في حقيقة الأمر لأنّه ليس إلاّ الدّعوة القويّة إلى الإسلام الخالص النّقيّ المطهّر من شوائب الشرك والوثنيّة، هو الدّعوة إلى الإسلام، كما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم خالصاً لله، ملغياً كلّ واسطة بين الله وبين الناس. هو إحياء للإسلام وتطهيره، مما أصابه من نتائج الجهل ومن نتائج الاختلاط بغير العرب، فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة والسيرة، إلى أن قال: ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره بقوىً وأسلحةٍ لا عهد لأهل البادية بها –لكان من المرجو جداً أن يوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر، ولثالث عشر الهجري. كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول. ولكن الذي يعنينا من هذا المذهب أثره في الحياة العقلية والأدبية عند العرب فقد كان هذا الأثر عظيماً خطيراً من نواحٍ مختلفة. فهو قد أيقظ النّفس العربيّة فوضع أمامها مثلاً أعلى أحبته وجاهدت في سبيله، بالسيف والقلم والسنان، وهو لفت المسلمين جميعاً وأهل العراق والشام ومصر بنوعٍ خاصٍّ إلى جزيرة العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 حافظ وهبه . قال حافظ وهبه، في كتابه جزيرة العرب: بعد أن ذكر نبذةً يسيرة عن تاريخ الشيخ، قال: لم يكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب نبياً، كما ادّعى نيبهر الدانمركي. ولكنه مصلحٌ مجدد، داع إلى الرجوع إلى الدين الحقّ، فليس للشيخ محمد، تعاليم خاصّة ولا آراء خاصّة وكل ما يطبق في نجد، هو طبق مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. وأما في العقائد، فهم يتبعون السلف الصالح، ويخالفون من عاداهم، وتكاد تكون تعاليمهم مطابقة تمام المطابقة لما كتبه ابن تيمية وتلاميذه في كتبهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 محمد بهجة الأثري. قال هذا الأديب الكبير في رسالته "الاتجاهات الحديثة في الإسلام": إن الحركة الوهابية التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانت خليقة أن تدعى: "حركة المحمديين" نسبة إلى باعثها، وطبيعة دعوته هي التوحيد الخالص الذي بعث به الرسول "صلى الله عليه وسلم" ولكنها نسبت إلى أبيه، وأبوه لا يد له فيها لأمر أرادته السياسة العثمانية وأتباعها حينما أشفقت من انتشار سلطانه أشدّ الإشفاق، فقاومتها ما وسعتها المقاومة، وبالغت في تشويه غايتها وعزتها إلى الابتداع والخروج على الدين وجعلت هذا عنواناً على ما تزعمه من ضلالها. وندع التاريخ السياسي لهذه الحركة، لنفرغ لوجهتها في الإسلام كما تهدي إليها كتب زعيمها ودراسات الباحثين المحايدين من الشرقيين والغربيين. والمجمع عليه أنّ هذه الحركة في الإسلام جديدة وقديمة معاً والواقع أنّها جديدة بالنسبة إلى المعاصرين، ولكنها قديمة في حقيقة الأمر. والمتقصي لأطوار الإصلاح في العالم الإسلاميّ، وعلاقة بعضها ببعض، يرى في هذه الحركة امتداداً لانتفاضات قديمة عرفتها العصور الإسلاميّة في آثار "ابن حزم" الأندلسي، ثم في حركة الإمام أحمد بن حنبل وأتباعه ببغداد حين كانوا يرون ما يعرض له الإسلام من لوثات أهل البدع والأهواء ثم في انتفاضة شيخ الإسلام الإمام "تقي الدين أحمد بن تيمية" في بلاد الشام في القرن الثامن الهجري، وهي أروعها تجديداً وأبعدها أثراً في إصلاح الفكر الإسلاميّ، ومن كتب ابن تيمية وأتباعه كابن القيم وابن قدامة وابن كثير وغيرهم اقتبس "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" جذوته الإصلاحيّة"، فدرس القرآن والسنة ومتجردة من أوهام المخرفين وأهل الأهواء، وبعثته إلى هذا التجديد الذي وفق فيه توفيقاً لم يكتب لأولئك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 لأنّهم خذلتهم السياسات، ووجد هو من السياسة حماية له، ومن قوتها نصراً لدعوته، فكان له هذا الأثر البعيد الذي يصفه "لوثروب ستودارت" في عالم الإسلام الحديث، وهو أثرٌ يطولُ شرحه جداً إذا تقصيناه في مصر والشام والعراق والحجاز واليمن وبلاد شمال إفريقية والهند وتركية وغيرها. والمهمّ في تأثير ذلك في نفسية المسلمين وتوجيهها على المثل الكامل، ثم تأتي من بعد هذا وذاك دلالته على الحيوية الكامنة في الإسلام، وما يجيش في نفسه من إرادة الحياة الراقية للمسلمين، وإن كان لا يزال يجد من جلائهم وبعض حكامهم وساستهم وعلمائهم1 أيضاً أزوراراً حيناً، وحرباً عليه وعلى الإصلاح حيناً آخر، لغايات في أنفسهم لم يصهرها الزّمن ولم يطهرها من لوثاتها الموروثة بعد.   1 بل المتعالين وأدعياء الإسلام، وإلا فإن العلماء الحقيقيين المخلصين أرفع من أن يحاربوا هذه الحركة الإصلاحية الكبرى التي يتوقف عليها مجد المسلمين وقوتهم "م. م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 محمد بن إسماعيل الصنعاني . لما بلغت هذا العلامة مؤلف كتاب "سبل السلام" دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وثورته على البدع والخرافات وقيامه بالدين الصحيح والسنة المطهرة وإرشاد الناس إلى أن يتمسكوا بالوحيين أثنى عليه بقصيدةٍ رائعةٍ جاء فيها: سلامي على نجدٍ ومن حلّ في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي وقد صدرت من سفح صنعا سقى الحيا ... رباها وأحياها بقهقهة الرّعد قفي واسألي عن عالمٍ حلّ سوحها ... به يهتدي من ضلّ عن منهج الرشد محمد الهادي لسنة أحمد ... فيا حبّذا الهادي ويا حبّذا المهدي وقد أنكرت كل الطوائف قوله ... بلا صدر في الحق منهم ولا ورد وما كل قول بالقبول مقابل ... وما كلّ قول واجب الردّ والطرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 سوى ما أتى عن ربنا ورسوله ... فذلك قول جلّ، يا ذا، عن الرد وأما أقاويل الرجال فإنّها ... تدور على قدر الأدلة في النقد وقد جاءت الأخبار عنه بأنّه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهراً ما طوى كلّ جاهلٍ ... ومبتدع منه، فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادماً ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا بها معنى سواع مثله ... يغوث وود، بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهراً على عمد وكم طائف حول القبور مقبّلٌ ... ومستلم الأركان منهن بالأيدي لقد سرّني ما جاءني من طريقة ... وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي يصب عليه صوت ذمٍّ وغيبةٍ ... ويجفوه من قد كان يهوه عن بعد ويعزى إليه كلّ ما لا يقوله ... لتنغيصه عند التهامي والنجدي فيرميه أهل الرفض بالنصب فرية ... ويرميه أهل النصب بالرفض والجحد وليس له ذنب سوى أنه أتى ... بتحكيم قول الله في الحل والعقد ويتبع أقوال النبي محمد ... وهل غيره بالله في الشرع من يهدي لئن عدّه الجهال ذنباً فحبذا ... به حبذا يوم انفرادي في لحدي سلامي على أهل الحديث فإنني ... نشأت على حبّ الأحاديث من مهدي هم بذلوا في حفظ سنة أحمد ... وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد أأنتم أهدى من صحابة أحمد ... وأهل الكسا هيهات ما الشوك كالورد أولئك أهدى في الطريقة منكمو ... فهم قدوتي حتى أوسد في لحدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 محمد بن قاسم . قال في كتابه: "تاريخ أوربا": كان الوهابيون في عقيدتهم ومذهبهم على طريقة أهل السنة والجماعة، والأساس الأصلي لمذهبهم: هو توحيد عبادة الله!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 منح هارون . قال الأستاذ منح هارون في الرد على الكاتب الانكليزي "ويلز" ما يأتي: ولما اتسعت حركة السعوديين في ذلك الحين، وأخذت تهدد العراق والشام والحجاز واليمن، لم تر السلطة العثمانيّة أو السياسة الغاشمة بداً من أن تعمل لصرف فلول العرب عن هذا الأمير، يعني عبد العزيز بن محمد بن سعود الطامح لاسترداد مجد العرب، فأوعزت إلى بعض عمالها من المشايخ، فأخذوا يدسون على الشيخ ابن عبد الوهاب أقوالاً ما أنزل الله بها من سلطان. ويتخذون من المسائل الخلافيّة بين مذهب الإمام أحمد وبين المذاهب الإسلاميّة الأخرى وسيلة للطعن على الوهابيين الذين ألصقوا بهم هذا الاسم، تضليلاً للرأي العام الإسلامي، وإيهاماً بأنّهم ذوو مذهب جديد غير معترف به، مع أنهم لم يخرجوا في شيء عن مذهب الإمام أحمد، الذي هو مذهب السلف الصالح ولم يقولوا شيئاً مبتدعا في الدين وكل ما قاله الشيخ ابن عبد الوهاب، قال به غيره ممن سبقه من الأئمة الأعلام. ومن الصحابة الكرام ولم يخرج في شيء عما قاله الإمام أحمد، وابن تيمية رحمهما الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 عمر أبو النصر قال عمر أبو النصر في كتابه "ابن سعود" عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما يلي: والواقع أنّ دعوة ابن عبد الوهاب ليست غير دعوة صالحة موفقة لنبذ البدع والمفاسد التي أنهكت دين الإسلام. والتي عمل بعض المشايخ على الترويج لها وذيوعها وانتشارها بين الناس. إذا ذهبنا نبحث عن الدعوة في مصادرها، ونتولاها بالنقد والبحث والتحقيق وجدنا أنّها لا تختلف عن مذهب الإمام أحمد بن حنبل إلاّ في بعض التبسيط والتطويل. وليس للوهابيين مذهب خاص يدعى باسمهم، كما يقول بعض المتحاملين عليهم، وإنما مذهبهم مذهب الإمام أحمد وليس فيما يطلبونه ويدعون إليه ما ينافي السنّة ولا يتفق مع القرآن الكريم وهم ينكرون هذا التضليل، الذي يحاوله بعض الشيوخ وغير الشيوخ، وهذا الإغراق في إقامة القباب حول الأضرحة والقبور والصلاة فيها وإقامة المباخر وطلب الشفاعة من أصحابها، والإسلام ينهى عن هذا، وليس في الإسلام وسيط، وليس هناك من يشفع عنده تعالى إلاّ بإذنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 محمد كرد علي . قال في "القديم والحديث" بعد أن ذكر فصلاً ممتعاً عن الحركة الوهابية قال: وما ابن عبد الوهاب إلاّ داعية، هدى الناس من الضلال وساقهم إلى الدين السمح وإذا بدت شدّة من بعضهم فهي ناشئة من نشأة البادية، وقلما رأينا شعباً من أهل الإسلام يغلب عليه التدين والصدق والإخلاص مثل هؤلاء القوم، وقد اختبرنا عامتهم وخاصتهم سنين طويلة فلم نرهم حادوا عن الإسلام قيد أنملة، وما يتهمهم به أعداؤهم فزور لا أصل له! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 محمد الشوكاني . رثى العلامة محمد بن علي الشوكاني صاحب نيل الأوطار الشيخ محمد بن عبد الوهاب مثنياً عليه بالقصيدة التالية: مصاب دهى قلبي فأذكى غلائلي ... وأصمى بسهم الافتجاع مقاتلي وخطب به أعشر أحشاي صدعت ... فأمست بفرط الوجد أي تواكلي مصاب به الدنيا قد اغبرّ وجهها ... وأنهلني قسراً أمرّ المناهل مصاب به ذابت حشاشة مهجتي ... وعن حمله قد كلّ متني وكاهلي مصاب به الدنيا قد اغبر وجهها ... وقد شمخت أعلام قوم أسافل به انهد ركن الدين وانبت حبله ... وشيد بناء الغي مع كلّ باطل وقال على الإسلام جهراً وأهله ... نعيق غراب بالمذلة هائل وسيم منار الاتباع لأحمد ... هوان انهدام جاء من كل جاهل لقد مات طود العلم قطب رحى العلا ... ومركز أدوار الفحول الأفاضل وماتت علوم الدين طراً بموته ... وغيب وجه الحقّ تحت الجنادل إمام الورى علامة العصر قدوتي ... وشيخ شيوخ الجد فرد الفضائل "محمد" ذو المجد الذي عز دركه ... وجل مقاماً عن لحوق المطاول إلى عابد الوهاب يغري وإنّه ... سلالة أنجاب زكي الخصائل عليه من الرحمن أعظم رحمة ... تبل ثراه بالضحى والأصائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 لقد أشرقت نجدٌ بنور ضيائه ... وقام مقامات الهدى بالدلائل ومن شأنه قمع الضلال، ونصره ... لمن كان مظلوما وليس بخاذل وكم كان في الدين الحنيف مجاهداً ... بماضي سنان دامغ للأباطل وكم ذب عن سامي حماه وذاد مِن ... مضل وبعي ومعفو ونائل ففيم استباح اهل الضلال لعرضه ... وكم نكست أعلامه من أراذل فلولاه لم تحرز رحى الدين مركزاً ... ولا اشتدّ للإسلام ركن المعاقل ولا كان للتوحيد واضح لاحبٍ ... يقيم اعوجاج السير من كل عاذل فما هو إلاّ قائمٌ في زمانه ... مقام النبي في إماتة باطل ستبكيه أجفاني حياتي، وإن أمت ... ستبكيه عني جفن طلٍّ ووابل أفق يا معيب الشيخ ماذا تعيبه ... لقد عبت حقاً وارتحلت بباطل نعم ذنبه التقليد جذّ حبله ... وفلّ التعصب بالسيوف الصواقل ولما دعا لله في الخلق صارخاً ... صرختم له بالقذف مثل الزواجل أفيقوا أفيقوا إنّه ليس داعياً ... إلى دين آباء له وقبائل دعا لكتاب الله والسنة التي ... أتانا بها طه1 النبي خير قائل   1 جرى الشاعر عل اعتبار طه اسماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو خطأ والصواب أنه من نوع فواتح بعض السور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 حسين بن غنام الأحسائي هو مؤلف "روضة الأفكار والأفهام": قال يرثي الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويثني عليه بما هو أهله: إلى الله في كشف الشدائد نفزع ... وليس إلى غير المهيمن مفزع لقد كسفت شمس المعارف والهدى ... فسالت دماء في الخدود وأدمع إمام أصيب الناس طراً بفقده ... وطاف بهم خطبٌ من البين موجِعُ وأظلم أرجاء البلاد بموته ... وحلّ بهم كربٌ من الحزن مفظع شهاب هوى من أفقه وسمائه ... ونجمٌ ثوى في الترب واراه بلقع وكوكب سعد مستنير سناؤه ... وبدر له في منزل اليمن مطلع وصبحٌ تبدّى للأنام ضياؤه ... فداجي الدياجي بعده متقشع لقد غاض بحر العلم والفهم والندى ... وقد كان فيه للبرية مرتع فقوم جلا عنهم صدى الرين فاهتدوا ... فأسماعهم للحق تصغي وتسمع وقوم ذوو فقرٍ وجهدٍ وفاقة ... حووا واقتنوا ما فيه للعيش مطمع لقد رفع المولى به رتبة الهدى ... بوقت به يعلى الضلال ويرفع أبان له من لمعة الحق لمعة ... أزيل بها عنه حجاب وبرقع سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى ... وعام بتيار المعارف يقطع فأحيا به التوحيد بعد اندراسه ... وأقوى به من مظلم الشرك مهيع فأنوار صبح الحق باد سناؤها ... ومصباحه عال ورياه طيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 سما ذروة المجد التي ارتقى لها ... سواه ولا حاذى سناها سميدع وشمر في منهاج سنة أحمد ... يشيد ويحيي ما ... ويرفع وينفي الأعادي عن حماه وسوحه ... ويدمغ أرباب الضلال ويدفع يناظر بالآيات والسنة التي ... أمرنا إليها في التنازع نرجع فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها ... وأمسى محيّاها يضيء ويلمع وعاد به نهج الغواية طامساً ... وقد كان مسلوكاً به الناس تربع وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالألمعي ترفّع فآثاره فيها سوام سوافرٍ ... وأنواره فيها تضيء وتسطع لقد وجد الإسلام يوم فراقه ... مصاباً خشينا بعده يتصدّع وطاشت أولوا الأحلام والفضل والنهى ... وكادت له الأرواح تترى وتتبع وطارت قلوب المسلمين بموته ... فظنوا به أن القيامة تقرع فضجوا جميعاً بالبكاء تأسّفاً ... وكادت قلوب بعده تتفجّع وفاضت عيونٌ واستهلّت مدامعٌ ... يخالطها مزجٌ من الدم يهمع بكته ذوو الحاجات يوم فراقه ... وأهل الهدى والحق والدين أجمع إلى أن قال: لئن كان في الدنيا له القبر موضعاً ... فيوم الجزا يرجى له الخلد موضعا سقى قبره من هاطل العفو ديمةً ... وباكره سحب من البر همع وأسكنه بحبوحة الفوز والرضا ... ولا زال بالرضوان فيها يمتّع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أحمد بن مشرف الأحسائي قال قصيدة في مدح فيصل بن تركي وذكر فيها عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: وآووا إماماً قام لله داعياً ... يسمى بشيخ المسلمين محمد لقد أوضح الإسلام عند اغترابه ... وقد جد في إخفائه كل ملحد وجدد منهاج الشريعة إذ عفت ... فأكرم به من عالمٍ ومجدد وأحيا بدرس العلم دارس رسمها ... كما قد أمات الشرك بالقول واليد فكم شبهة للمشركين أزاحها ... بكل دليل كاشفٍ للتردد وألف في التوحيد أوجز نبذة ... بها قد هدى الرحمن للحق من هدي نصوصاً من القرآن تشفي من العمى ... وكل حديث للأئمة مسند فوازره عبد العزيز ورهطه ... على قلة منهم وعيش منكد فما خاف في الرحمن لومة لائم ... ولم يثنه صولات باغٍ ومعتدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 محمود شكري الألوسي قال في آخر تاريخه لنجد: كان الشيخ محمد من بيت علم في نواحي نجد، وكان أبوه الشيخ عبد الوهاب عالماً على مذهب الإمام أحمد، وكان قاضياً في "العيينة" ثم في "حريملاء" وذلك في أوائل القرن الثاني عشر وله معرفة تامة بالحديث والفقه، وله أسئلة وأجوبة. وكان والد عبد الوهاب الشيخ سليمان، عالماً فقيهاً أعلم علماء نجد في عصره، له اليد الطولى في العلم، وانتهت إليه رياسة العلم في نجد وصنّف ودرس وأفتى. إلاّ أن الشيخ محمد لم يكن على طريقة أبيه وجده، وكان شديد التمسك للسنة، كثير الإنكار على من خالف الحقّ من العلماء، والحاصل أنه كان من العلماء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان يعلم الناس الصلاة وأحكامها وسائر أركان الدين ويأمر بالجماعات. وقد جد في تعليم الناس، وحثهم على الطاعة وأمرهم بتعلم أصول الإسلام وشرائطه وسائر أحكام الدين وأمر جميع أهل البلاد بالمذاكرة في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح، وبين العشائين، بمعرفة الله، ومعرفة دين الإسلام ومعرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 أركانه، ومعرفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونسبه ومبعثه وهجرته. وأول ما دعا إليه كلمة التوحيد، وسائر العبادات التي لا تنبغي إلا لله، كالدعاء والذبح والنذر، والخوف، والرجاء، والخشية، والرغبة، والتوكل، والإنابة، وغير ذلك. فلم يبق أحد من عوام أهل نجد جاهلاً بأحكام دين الإسلام بل كلهم تعلموا ذلك، بعد أن كانوا جاهلين، إلاّ الخواص منهم وانتفع الناس به من هذه الجهة الحميدة أي من سيرته المرضية وإرشاده النافع1.   1 هناك صفحة ناصعة مجهولة لدور المرأة العظيم في نجاح حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لا ينبغي لنا أن ننساها أو نغفل عنها وهي أن دلت على شيء فإنما تدل على ما وهب الله تعالى كثيراً من النساء من أريحية وإلهام وقد يفوق عقل الرجل فما عليه إلا أن يصغي إليها ... ذكر الألوسي الذي تحدث عنه في تاريخه بعدما تحدث طويلاً عن نقمة سليمان بن محمد بن عبد العزيز الحميدي صاحب الأحساء والقطيف على الشيخ محمد بن عبد الوهاب بسبب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فأمر بقتله ففر إلى الدرعية بعدما قاسى من أهوال الحر والتعب في الطريق فنزل بيت عبد الله بن سويلم العريني فلما دخل عليه ضاقت به داره وخاف على نفسه من محمد بن سعود صاحب الدرعية فوعظه الشيخ وسكّن جأشه وروعه وقال: سيجعل الله لنا ولك فرجاً، فاستقر فأراد –عبد الله- أن يخبر محمد بن سعود بحال الشيخ ويرغبه في نصرته، فالتجأ إلى أخويه وزوجته "موضي بنت أبي وحطان آل الزبير" وكانت ذات عقل وفهم، فأخبروها بحال الشيخ وصفته من الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقذف الله محبة الشيخ في قلبها، فأخبرت زوجها محمد بن سعود بحاله وقالت له – وما أعظم ما قالت-: "إن هذا الرجل أتى إليك! وهو غنيمة ساقها الله تعالى إليك، فأكرمه وعظمه، واغتنم نصرته". فقبل قولها وألقى الله محبته في قلبه. ولم تكتف هذه المرأة الصالحة بما سبق، بل رغبت محمد بن سعود في زيارته بعدما كان يأمل العكس بزيارة الشيخ له، قائلة: بل أنت قم لزيارته والذهاب إليه، لعل ذلك يكون سبباً في تعظيم الناس له وإكرامه! فسار محمد بن سعود إليه فلما دخل عليه ضجت دار ابن سويلم "يا للموقف التاريخي الخطير" فرحب به الأمير وقال: أبشر بالخير والعزة والمنعة! فقال له الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين والغلبة على جميع بلاد نجد. وهذه كلمة لا إله إلا الله، من تمسّك بها وعمل بها ونصرها ملك بها البلاد والعباد، وهي كلمة التوحيد، وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الأمير شكيب أرسلان قال في الجزء الرابع من حاضر العالم الإسلامي تحت عنوان "تاريخ نجد الحديث": طلب محمد بن عبد الوهاب العلم في دمشق ورحل على بغداد والبصرة وتشرب مبادئ الحافظ حجة الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وابن عروة الحنبلي وغيرهم من فحول أئمة الحنابلة، وأخذ بإعادة الإسلام لنقاوته الأولى فلذلك يسمي الوهابية مذهبهم عقيدة السلف، ومن هنا أنكر الاعتقاد1 بالأولياء وزيارة القبور والاستغاثة بغير الله، وغير ذلك مما جعله من باب الشرك واستدل على صحة آرائه بالآيات القرآنية والأحاديث المصطفوية ولا أظنه أورد ثمة شيئاً غير ما أورده ابن تيمية.   1 الحق أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنكر الاستغاثة بالأولياء والزيارة البدعية للقبور المشتملة على دعائهم والذبح لهم والتمسح بأعتابهم والصلاة عندهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 محمد حامد الفقي هو الشيخ محمد حامد الفقي رئيس جماعة "أنصار السنة المحمدية" من ... قال في كتابه: "حقيقة الدعوة الوهابية": الوهابية نسبة إلى الإمام المصلح شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر. وهي نسبة على غير القياس العربي والصحيح أن يقال المحمدية، لأن اسم صاحب هذه الدعوة والقائم بها هو محمد، لا عبد الوهاب ثم قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 بعد كلام: وإن الحنابلة متعصبون1 لمذهب الإمام أحمد في فروعه ككلّ أتباع المذاهب الأخرى فهم لا يدعون لا بالقول، ولا بالكتابة أن الشيخ ابن عبد   1 حاشا علماءهم من هذا التعصب، فهم بعيدون عنه، وسريعو الرجوع إلى السنة بخلاف غيرهم من مقلدة المذاهب الأخرى، وكيف يتعصبون لمذهبهم وقد قال شيخهم الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: "وأما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة في الفروع ولا ندعي الاجتهاد، وإذا بانت لنا سنة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها، ولا نقدم عليها قول أحد كائناً من كان" "التحفة السنية ص 59". وقال أيضاً: "ابن القيم وشيخه ابن تيمية إمام حقّ من أهل السنة وكتبهما عندنا من أعز الكتب، إلا أنا غير مقلدين لهما في كل شيء". "المصدر السابق ص 53". ها هي ذي كليات الشريعة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، والرياض تدرس الفقه المقارن بين جميع المذاهب في أمثال المغني لابن قدامة، وبداية المجتهد لابن رشد، وتختار ما يثبت بالدليل من الكتاب والسنة الصحيحة، دون تعصب لمذهب من المذاهب، وذلك إرضاءً لله تعالى ولرسوله وتلبية لنداء أئمة المذاهب أنفسهم "رحمهم الله تعالى" في الأخذ بالحديث، والضرب بأقوالهم المخالفة له عرض الحائط، وأعلنوا جميعاً أنه غاب عن كل منهم كثير من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب عدم جمع السنة في عهدهم، وإنما جمعت بعدهم. وما أصدق ما قاله الشعراني في "الميزان" "1/62" ما مختصره: "واعتقادنا، واعتقاد كل منصف في الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه لو عاش حتى دونت الشريعة بعد رحيل الحفاظ في جمعها من البلاد والثغور وظفر بها، لأخذ بها وترك كل القياس كان قاسه –ومثله بقية الأئمة- وكان القياس قل في مذهبه ... " "الهداية السنية ص 99" "المصدر السابق ص 53". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الوهاب أتى بمذهب جديد ولا اخترع علماً غير ما كان عند السلف الصالح، وإنما كان عمله وجهده إحياء العمل بالدين الصحيح وإرجاع الناس إلى ما قرره القرآن في توحيد الألوهية والعبادة لله وحده ذلاً، وخضوعاً ودعاءً، ونذراً، وحلفاً وتوكلاً. وطاعة لشرائعه. وفي توحيد الأسماء والصفات، فيؤمن بآياتها كما وردت، ولا يحرف ولا يؤول، ولا يشبه، ولا يمثل، على ما ورد في لفظ القرآن العربي المبين، وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وما كان عليه الصحابة وتابعوهم والأئمة المهتدون من السلف والخلف رضوان الله عليهم. في كل ذلك وأن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لا يتم على وجهه الصحيح إلا بهذا. اجلس إلى نجدي في أي مكان يكون، مهما كان مركزه، ومهما كانت معلوماته، فإنك لا تكاد تجلس إليه حتى يبدأ في الحديث عن الشيخ محمد، وعن مؤلفات الشيخ محمد، وجهاد الشيخ محمد، وما قام به من إصلاح، وما أنقذ الناس به من الشرك والوثنية إلى التوحيد والهداية الإسلامية وهم لا يجري على ألسنتهم إلا الشيخ محمد، أو الشيخ فقط، وقل أن تسمع باسم والده "عبد الوهاب". من هذا نعلم أن منبت هذا اللقب وشيوعه، كان ولا بدّ بعيداً عن البيئات والأوساط النجدية قديماً وحديثاً. إذاً فمن أين نشأ هذا اللقب وأين نبت؟ وكيف شاع هذا الشيوع؟ يغلب على ظني أنه نشأ في الأقطار والأوساط التي كانت تبذل أقصى جهدها لحرب هذه الدعوة والقضاء عليها في أيام حروبها الأولى، حين كان الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، وحين كان والده سعود الكبير ينشران جناحي هذه الدعوة، ويبسطان نفوذهما على الجزيرة وما حولها إلى أطراف العراق والشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ثم أخذت هذه الدعوة تمتد بسرعة عظيمة، حتى أصبح لها من الأتباع والأنصار من لا يحصون كثرة. والسرّ في هذا الامتداد وهذه القوة، يرجع إلى جمال هذه الدعوة وبساطتها، فإنها إنما تعتمد على صريح القرآن والسنة النبوية ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 عمران بن رضوان قال الشيخ عمران بن علي بن رضوان من سكان لنجة، من البلدان الفارسية رداً على بعض الملحدين ومثنياً على الشيخ قصيدة أجاد فيها وأفاد أولها: جاءت قصيدتهم تروح وتغتدي ... في سب دين الهاشمي محمد قد زخرفوها للطغام بقولهم: ... إن الكتاب هو الهدى فبه اقتد لو أن ناظمها تمسك بالذي ... قد قال فيها أولاً إذ يبتدي لهدي ووفق ثم جاز سعادة ... لا شكّ فيها عند كل موحد لكنه زاغ عما قاله ... متأولاً فيه بتأويلٍ ردي فأتت كشهد فيه سم ناقع ... من ذاق منه ففي الهلاك المبعد الشيخ شاهد بعض أهل جهالة ... يدعون أصحاب القبور الهمد تاجاً وشمساناً ومن ضاهاهما ... من قبة أو تربة أو مشهد يرجون منهم قربة وشفاعة ... ويؤملون كذاك أخذاً باليد ورأى لعباد القبور تقرباً ... بالنذر والذبح الشنيع المفسد ما أنكر القراء والأشياخ ما ... شهدوا من الفعل الذي لم يحمد بل جوزوه وشاركوا في أكله ... من كان يذبح للقبور ويفتدي فأتاهم الشيخ المشار إليه بالنصـ ... ـح المبين وبالكلام الجيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 يدعوهم لله ألا يعبدوا ... إلا المهيمن ذا الجلال السرمدي لا يشركوا ملكاً ولا من مرسلٍ ... كلا ولا من صالح أو سيد فتنافروا عنه، وقالوا ليس ذا ... إلاّ عجيب عندنا لم يعهَد ما قاله آباؤنا أيضاً ولا ... أجدادنا أهل الحجى والسؤدد إنا وجدنا جملة الآبا على ... هذا فنحن بما وجدنا نقتدي فالشيخ لما أن رأى ذا الشأن من ... أهل الزمان اشتد غير مقلد ناداهم: يا قوم كيف جعلتم ... لله أنداداً بغير تعدد لو أنصفوا لرأوا له فضلاً على ... إظهار ما قد ضيّعوه من اليد ودعوا له بالخير بعد مماته ... ليكافئوه على وفاق المرشد لكنهم قد عاندوا وتكبروا ... ومشوا على منهاج قوم حسّد ورموه بالبهتان والإفك الذي ... هم يعملون به ومنهم يبتدي كمقالهم: هو للمتابع قاطع ... بدخول جنات وحور خرّد حاشا وكلا ليس هذا شأنه ... بل إنه يرجوا بها لموحّد قالوا له: يا كافراً يا فاجراً ... ما ضرّه قول العداة الحسّد قالت قريش قبلهم للمصطفى: ... ذا ساحر، ذا كاهن، ذا معتدي قالوا له: غشاش أمة أحمد ... وهو النصيح بكل وجه يبتدي هل قال إلاّ: وحدوا رب السما ... وذروا عبادة ما سوى المتفرّد وتمسكوا بالسنة البيضا، ولا ... تتنطعوا بزيادة وتردد هذا الذي جعلوه غشاً وهو قد ... بعثت به الرسل الكرام لمن هدي من عهد آدم ثم نوح هكذا ... تترى إلى عهد النبي محمد وكذلك الخلفاء بعد نبيهم ... والتابعون وكل حبر مهتدي منهاجهم هذا عليه تمسكوا ... من كان مستناً بهم فليقتد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أحمد سعيد البغدادي قال في كتابه "نديم الأديب": وأما حقيقة هذه الطائفة فإنها حنبلية المذهب1 وجميع ما ذكر المؤرخون عنها من جهة الاعتقاد محرف وفيه تناقض كلي لمن اطلع عليه بتأمل، لأن غالب المؤرخين الشرقيين ينقلون عن كتب الإفرنجية فإن كان المؤرخ المنقول عنه صاحب دراية وصادق الرواية تجد أن من يترجم كتابه يجعل الترجمة على قدر اللفظ فيضيع مزية الأصل وإن كان المؤرخ غير صادق الرواية فمن باب أولى ومنهم من يقول أن هذه الطائفة تنهى عن وصف النبي عليه الصلاة والسلام بأوصاف المدح والتعظيم ويقول إنها تؤمن بقدم القرآن وبهذا يظهر بداهية التناقض لأن من يؤمن بقدم القرآن يؤمن بما فيه، وفي القرآن الشريف مدح النبي عليه الصلاة والسلام قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ، وآيات غير هذه كثيرة أما ما نهى عنه محمد بن عبد الوهاب إنما هو الوصف بأوصاف الألوهية كالقدرة والإرادة وعلم الغيب كما وصف النصارى عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام فقد قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" ومن أراد أن يعرف جانباً من اعتقاد هذه الطائفة فليطالع كتب مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فإنه مذهبهم وأما سبب حرب صاحب مصر لهذه الطائفة فقد ذكره المؤرخ الشهير الموسيو "سيديو" الفرنساوي وكلامه هذا محذوف من ترجمة كتابه التي أمر بها علي باشا مبارك وخلاصة معناه:   1 إن كثيراً من علمائهم الأفاضل لا يتقيدون بالمذهب الحنبلي وشعارهم توجيه جميع أئمة المذاهب رحمهم الله تعالى: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 هي أن انكلترا وفرنسا حين علمتا بقيام محمد بن عبد الوهاب وابن سعود وبانضمام جميع العرب إليهما لأن قيامهما كان لإحياء كلمة الدين، خافتا أن ينتبه المسلمون فينضمون إليها وتذهب عنهم غفلتهم ويعود الإسلام كما كان في أيام عمر رضي الله عنه فيترتب على ذلك حروب دينية وفتوحات إسلاميّة ترجع أوربا منها في خسران عظيم فحرضتا الدولة العلية على حربهم وهي فوضت ذلك إلى محمد علي باشا وحصل ما حصل "ولكل أجل كتاب" وهذه الطائفة بريئة مما ينسب إليها الجاهلون ومن سبها يأثم والله أعلم بغيبه وأحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الدكتور محمد تقي الدين الهلالي قال في مقدمته لكتاب "محمد بن عبد الوهاب مظلوم ومفترى عليه1": لا يخفى أن الإمام الرباني الأواب محمد بن عبد الوهاب قام بدعوة حنيفية جددت عهد الرسول الكريم والأصحاب، وأسس دولة ذكرت الناس بدولة الخلفاء الراشدين، ولا شكّ أن معرفة أخبار هذه الدّعوة وصاحبها تهم كل طالب علم.   1 تأليف الشيخ مسعود الندوي وترجمة الشيخ عبد العليم عبد العظيم البيستوني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 خير الدين الزركلي قال في كتابه القيم "الاعلام" في ترجمته للشيخ: محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي، زعيم النهضة الإصلاحية الحديثة في جزيرة العرب. ولد ونشأ في العيينة بنجد، ورحل مرتين إلى الحجاز، ثم ذهب إلى المدينة، ورحل إلى البصرة، وعاد إلى نجد، وسكن حريملا، ثم انتقل إلى العيينة، ناهجاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 منهج السلف الصالح، داعياً إلى التوحيد الخالص ونبذ البدع، وتحطيم ما علق بالإسلام من الأوهام. وكانت دعوته، الشعلة الأولى لليقظة الحديثة للعالم الإسلامي كله، تأثر بها رجال الإصلاح، في الهند ومصر والعراق والشام وغيرها. فظهر الألوسي الكبير في بغداد، وجمال الدين الأفغاني بأفغانستان، ومحمد عبده بمصر، وجمال الدين القاسمي بالشام، وخير الدين التونسي بتونس، وصديق حسن خان في بهوبال وأمير علي في كلكته. وعرف من والاه، وشد أزره في قلب الجزيرة بأهل التوحيد "إخوان من أطاع الله" وسماهم خصومهم بالوهابية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 محمد عبد الله ماضي قال في كتابه "حاضر العالم الإسلامي" تحت عنوان "النهضة العربية السعودية" بعد كلام سابق. ما نصّه: كما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بين العرب، وهم في فوضى شاملة، وانحطاطٍ عام، وتفكك وانحلال، ليس لهم وحدة تربطهم، ولا فكرة صالحة تجمعهم، فنشر مبادئ الإسلام بينهم، وجمعهم على التوحيد، فوحد بينهم في العقيدة – فأصبحوا يدينون بمبدأ واحد، ويعبدون الله وحده، فوحد بينهم في المظهر، وجعل منهم أمة واحدة عربية مسلمة، قوية عزيزة الجانب، وأقام لهم دولة على أساس من الدين الحنيف. فكذلك أخذ المصلح الديني، والزعيم الإسلامي محمد بن عبد الوهاب في منتصف القرن الثاني عشر الهجري، يدعو إلى تصحيح العقيدة، والرجوع إلى مبادئ الإسلام الصحيحة، واعتناقها من جديد بين النجديين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وكانوا قد فسدت عقيدتهم، وضلت سيرتهم. وأخذ الزعيم السياسي النجدي محمد بن سعود يناصر ابن عبد الوهاب في دعوته الدينية الإصلاحيّة، ويعمل على نشرها واعتناق الناس لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 محمد ضياء الدين الريس أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة فؤاد الأول نشر في مجلة الإرشاد الكويتية التي كانت تصدر سابقاً في العدد السادس من شهر رجب سنة 1373 هجري مقالاً بعنوان "الحركة الوهابية" قال بعد كلام: مؤسس الدعوة هو محمد بن عبد الوهاب. ولد في بلدة العيينة بإقليم العارض بنجد عام 1703م، فتلقى العلم في موطنه، ثم رحل في سبيل الدراسة والمعرفة إلى المدينة ومكة، والإحساء، والبصرة، وبغداد، ودمشق، وقيل فارس أيضاً. فاكتسب من سياحته العديدة –علماً غزيراً وخبرة واسعة، ووقف على أحوال العالم الإسلامي، ثم قارن بين ما آلت إليه حاله وما كوّنه في ذهنه من أفكار عن المثل الدينية الصحيحة. فكانت نتيجة ذلك، هذا المذهب الجديد الذي عرف به، وحمل اسمه. وكان سبباً في خلق هذه الحركة الإصلاحيّة الخطيرة. والمذهب الوهابي، ليس مذهباً بالمعنى الصحيح، ولا هو يعدو أن يكون تفسيراً، أو وجهة نظر معيّنة، في فهم بعض نواحي الدين الإسلاميّ، ولا يخرج –في مجموعه- عن حدود المذاهب السنية المعترف بها. والوهابيون يتبعون في فروع الأحكام من حيث الفقه، مذهب الإمام أحمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 حنبل، وفي العقائد مذهب أهل السنة، وبخاصّة –كما قرّرها وفسّرها الإمام السني العلامة ابن تيمية. وابن تيمية هو الأستاذ المباشر لابن عبد الوهاب، وإن فصل بينهما أربعة قرون. وقد قرأ كتبه وتأثر كل التأثر بتعاليمه. والمبادئ الأساسية للدعوة الوهابية، هي تنقية معنى التوحيد من شوائب الشرك، ظاهرة وخفية، وإخلاص الدين لله، وعدم الالتجاء إلى غير الله، وعدم الغلو في تمجيد الرسول بما يخرجه عن حدود الطبيعة البشريّة، وتحديد معنى الرسالة التي كلف بإبلاغها. ومصادر العقيدة، هو الرجوع إلى مذهب السلف في فهم الدين وتفسير آيات القرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وتكره الوهابية التعقيدات التي أدخلها المتكلمون والفلاسفة والصوفية، ولا مانع من الاجتهاد، كما يرون ضرورة القيام بواجب الجهاد. وهذه الحركة كانت نهضة أخلاقية شاملة، ووثبة روحيّة جريئة ودعوة إلى دين الحق والإصلاح. فقد أيقظت العقول الراقدة، وحركت المشاعر الخامدة، ودعت إلى إعادة النظر في الدين، لتصفية العقيدة، وتطهير العقول من الخرافات والأوهام. فقد احتوت على مبدأين، كان لهما أكبر الأثر في تطور العالم الإسلاميّ وتقدمه. وهما الدعوة إلى الرجوع إلى مذهب السلف، مع الاعتماد على الكتاب والسنة وتقرير مبدأ الاجتهاد. فكان هذا البندان أساساً لنهضة فكريّة روحيّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 محمد خليل الهراس قال في رسالته: الحركة الوهابية: إن صيانة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لكتب الإمام ابن تيمية وإحياءه لهما تعد مفخرة من مفاخر هذا الشيخ ستظل تذكر له بالعرفان والتقدير، فان كتب شيخ الإسلام ورسائله كانت مطمورة تحت ركام الإهمال والنسيان، لا يسمح لها أهل البدع والإلحاد أن ترى النور، ولا أن تقوم بدورها الخطير في توجيه العالم الإسلامي نحو الطريق الصحيح. بل كثيراً ما كانوا يحذرون من قراءتها ويقرنونها بكتب الفلاسفة في جواز الاستنجاء بها. فلما قامت حركة الإمام محمد بن عبد الوهاب المباركة أخذت تنقب عن تلك الثروة العظيمة التي خلفها شيخ الإسلام ابن تيمية تلميذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى وجد المسؤولون عن هذه الدعوة في إبراز هذه الكنوز بالطبع والنشر. وكان للملك عبد العزيز – غفر الله له وأجزل مثوبته- اليد الطولى في هذا الباب، حتى أصبحت كتب الشيخين الجليلين تملأ المكتبات العامة والخاصة. وأخذت العقيدة السلفية التي كانت قابعة في زوايا كتب الكلام حيث تذكر ولا تقدر، وتعتبر مذهباً للعوام، أخذت مركزها الصحيح في القيادة والتوجيه، بعد قراءة كتب هذين الإمامين اللذين لم يأت لهما نظير في الجمع بين المعقول والمنقول، فكتبهما الآن هي المنارة التي تضيء السبيل لكل مستقيم الفكر بريء من الهوى والتقليد، وآراؤهما أصبحت محل التقدير العظيم في جميع الأوساط والمحافل العلميّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 محمد بشير السهسواني هو مؤلف "صيانة الإنسان 1 عن وسوسة دحلان" -قال عن الشيخ محمد: إنه من المعلوم عند كل عاقل خبر الناس، وعرف أحوالهم وسمع شيئاً من أخبارهم وتواريخهم، أن أهل نجد وغيرهم، ممن تبع دعوة الشيخ واستجاب لها من سكان الجزيرة العرب، كانوا غاية من الجهالة والضلالة والفقر والعالة، لا يستريب في ذلك عاقل، ولا يجادل فيه عارف إلى أن قال: فمحا الله بدعوته شعار الشرك ومشاهده، وهدم به بيوت الكفر والشرك ومعابده، وكبت الطواغيت والملحدين، وألزم من ظهر عليه من البوادي وسكان   1 إن هذا الكتاب قيم ومفيد جداً لمن يود تصحيح عقيدته، والاطلاع على افتراءات المفترين على الحركة الوهابية السلفية، والرد عليها، قال الشيخ رشيد رضا منشىء مجلة المنار الإسلامية في مقدمته لهذا الكتاب ما موجزه: تصدى للطعن في الشيخ محمد بن عبد الوهاب والرد عليه أفراد من أهل الأمصار المختلفة، وكان أشهر هؤلاء الطاعنين، مفتي مكة سنة 1304 ألف رسالة في ذلك تدور جميع مسائلها على قطبين اثنين: قطب الكذب والافتراء على الشيخ، وقطب الجهل بتخطئته فيما هو مصيب فيه. أنشئت أول مطبعة في مكة المكرمة في زمن هذا الرجل، فطبع رسالته وغيرها من مصنفاته فيها وكانت توزع بمساعدة أمراء مكة ورجال الدولة على حجاج الآفاق، فعمّ نشرها، وتناقل الناس مفترياته في كل قطر، وصدقها العوام وكثير من الخواص، كما اتّخذ المبتدعة والخرافيون رواياته ونقوله الواهية والمنكرة والموضوعة وتحريفاته للروايات الصحيحة، حججاً يعتمدون عليها في الرد على دعاة السنة المصلحين، وقد فنيت نسخ رسالته تلك، ولم يبق منها شيء بين الأيدي، ولكن الألسن والأقلام لا تزال تتناقل كل ما فيها من غير عزو إليها، ودأب البشر العناية بنقل ما يوافق أهواءهم، فكيف إذا وافقت هوى ملوكهم وحكامهم؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 القرى بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد والهدى، وكفّر من أنكر البعث، واستراب فيه من أهل الجهل والجفاء. وأمر بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وترك المنكرات والمسكرات ونهى عن الابتداع في الدين، وأمر بمتابعة السلف الماضين في الأصول والفروع من مسائل الدين، حتى ظهر دين الله واستعلن واستبان بدعوته منهاج الشريعة والسنن، وقام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحدت الحدود الشرعية وعزرت التعازير الدينية، وانتصب علم الجهاد وقاتل لإعلاء كلمة الله أهل الشرك والفساد، حتى سارت دعوته، وثبت نصحه لله ولكتابه، ولرسوله ولعامّة المسلمين ولأئمتهم. وجمع الله به القلوب بعد شتاتها، وتألفت بعد عداوتها، وصاروا –بنعمة الله- إخواناً. فأعطاهم الله بذلك من النّصر والعزّ والظهور، ما لا يعرف مثله بسكان تلك الفيافي والصخور، وفتح عليهم الأحساء والقطيف، وقهروا سائر العرب من عمان إلى عقبة مصر، ومن اليمن إلى العراق والشام، دانت لهم عربها فأصبحت نجد تضرب إليها أكباد الإبل في طلب الدين والدنيا، وتفتخر بما نالها من العز والنصر والإقبال والسنا. قلت في منظومتي اللآلي السنية بعد الثناء على الشيخ ابن تيمية، وعلى الشيخ ابن القيم رحمهما الله. وعلى الشيخ الجليل المعتبر ... ذلك الحبر الإمام المرتضى من بشرع الله كان أظهرا ... أيد الحق الذي قد غمرا صاحب الدعوة في نجدهم ... مظهر الحق الذي قد أنكرا عمّ ذاك الشرك كلّ نجدهم ... ضم الامصار الكبار والقرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 جاءهم يدعو إلى الله العلي ... اتركوا القبر وخلوا الشجرا اعبدوا الله الذي يرزقكم ... من لهذا الخلق أيضاً قد برى جاهد الشرك بسيف قاطع ... ولسان مظهر ما استترا وسرت دعوته الغرا إلى ... أكثر العالم من هذا الورى بث دين الله جهراً ما ونى ... مزّق الإلحاد فيما حررا ولصرح السنة في نجد بنى ... وقصور الشرك فيها دمّرا فاستنارت نجدهم وافتخرت ... حق للنجدي أن يفتخرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 محمد عبد الله السلمان هو مدرس في كلية لعلوم الاجتماعية في الرياض قال 1: يعتبر النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري "الثامن عشر الميلادي" نقطة تحول هامة في تاريخ الجزيرة العربية بخاصة، وتاريخ الأمة الإسلامية بشكل عام. ففي تلك الفترة أشرقت من أرض نجد شمس الهداية والنور، شمس العودة إلى الإسلام في أصوله الأولى، وذلك على يد حركة إصلاحيّة كانت بحق بداية النقطة الإسلامية ضد ما أصاب المسلمين من ركود وضعف في أكثر المجالات في الحياة "الدينية والسياسية والاقتصادية". كان مفجر هذه الحركة المباركة رجلا من نجد، وعالماً من علمائها، وعربياً أصلاً من تميم. إنه الشيخ "محمد بن عبد الوهاب" "1115-1206هـ - 1703-1792م".   1 عن مجلة كلية العلوم الاجتماعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية العدد الأول ص 449-451 باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 لقد أحس من خلال رحلاته في كثير من أجزاء العالم الإسلامي ما يسود المسلمين من انحراف عن مبادئ الدين الصحيح، وذلك بانتشار البدع والمفاسد والخرافات، إضافة إلى ما صاحب ذلك من فوضى واضطراب سياسي وتدهور في الحالة الاقتصادية فعمت المجاعات وانتشرت الأوبئة، وبخاصة داخل الجزيرة العربية. وقد عرف الشيخ أن هذا التدهور كله عائدٌ إلى ابتعاد المسلمين عن أصول الإسلام التي كان عليها الرسول محمد "صلى الله عليه وسلم" وأصحابه، حتى لقد انتشرت أنواع خطيرة من الشرك وتقديس الموتى والصالحين، وحتى المأفونين والمجانين، بل نزلوا إلى تقديس الأشجار والأحجار وتعظيمها. ولم ير الشيخ بداً من أن يجهر بالحقّ، ويعلن إنكاره لهذه الأفعال، وعلى الرغم من أن هذا الجهد من الشيخ قد بدأ أثناء رحلاته العلمية. إلا أنه كان جهداً فردياً لم يؤت ثماره المطلوبة. وكثيراً ما تعرض الشيخ للاضطهاد – أثناء هذه الرحلات- والإخراج من البلد "كما حصل في البصرة وحريملاء" ورغم أن انتقاله إلى "العيينة" وترحيب أميرها "عثمان بن معمر" به أول الأمر، وتنفيذه بعض مبادئ الدعوة عملياً قد فتح باب الأمل أمام الشيخ. إلا أنه لم يلبث أن أخرجه بتهديد من حاكم الأحساء. فانتقل الشيخ بدعوته إلى "الدرعية" عام 1157هـ "1744م" وكان انتقاله موفقاً، فقد قبل أميرها "محمد بن سعود" الدعوة وقنع بها، ووعد الشيخ بنصرته ومساعدته لنشر دعوته بين المسلمين بكل ما أوتي من قوة. ومن هنا أخذ الجهد الجماعي للدعوة يظهر، وبدأ التطبيق العملي لمبادئ الدعوة، وتحقيق أهدافها وأملها العظام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 محمد جميل بيهم . قال في كتابه "الحلقة المفقودة في تاريخ العرب" تحت عنوان "آل سعود في حكم آل عثمان": الوهابية وإمارة السعوديين الأولى: أصاب تركيا أواخر القرن السابع عشر في أثناء حروبها مع روسيا وفارس خذلان إثر خذلان. فاهتزّ البعث القومي خلال حكمهم الأخير، وانفسح المجال في جملة ذلك إلى حركات كانت قومية في العاطفة ودينية في الغاية. حدثت حركة في نجد: كادت تجمع شتات جزيرة العرب وتحررها، وتنهض بها نهضة الإسلام الأولى، وأعني بها "الوهابية". واضع هذا المذهب1 رجل تميمي، اسمه محمد بن عبد الوهاب رحمه الله طلب العلم في بغداد والبصرة. ولما عاد إلى نجد في منتصف القرن الثامن عشر، كبر عليه أن يرى وطنه وسائر الجزيرة يهيمان في جهالة لا حد لها. فود النهوض بها، فدعا إلى الاعتماد على القرآن، وإلى شريعة بيضاء نقية، كما تركها محمد صلى الله عليه وسلم، ونهى عن الغلو في تقديس الأنبياء والأولياء. وكان خلال ذلك ينكر على الترك، تحكمهم، ويؤاخذهم على الأخلاق التي تعتبر في الشرع فساداً.   1 لم يكن هذا الإمام واضعاً.. بل مجدداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وكانت قبائل نجد وغيرها، لا تعرف من الدين إلا أنها مسلمة، فأقبلت على دعوته، واستمسكت بالآداب التي بشّر بها. وكان زعيم مريديه "محمد بن سعود" يجمع بين الشجاعة والحكمة فعقد له محمد بن عبد الوهاب راية القيادة واستطاع بعقله الكبير أن يؤلف بين القبائل، وأن يوجهها إلى أطراف الجزيرة لتنشر الوهابية 1، وكان الأمراء البارزون في جزيرة العرب وقتئذ هم أشراف الحجاز وبنو خالد في الأحساء وآل معمر في العيينة وآل السعدون في العراق والإمام المتوكلي في صنعاء والسادة في نجران فأعلنت نجد عليهم حروباً دامية كان هدفها الإصلاح ...   1 بل لنشر الإسلام الصحيح! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 محمد الحفظي هو صاحب دوجال من قرى عسير، نظم أرجوزة طويلة ذكر دعوة الشيخ وأثنى عليه ثناءً حسناً، افتتح الأرجوزة بقوله: الحمد حقاً مستحقاً أبدا ... لله رب العالمين سرمدا إلى أن قال: مصلياً على الرسول الشارع ... وأهله وصحبه والتابع في البدء والختم وأما بعد ... فهذه منظومة تعدّ حركني لنظمها الخير الذي ... قد جاءها في آخر العصر القذي لما دعى الداعي من المشارق ... بأمر رب العالمين الخالق وبعث الله لنا مجددا ... من أرض نجد عالماً مجتهدا شيخ الهدى محمد المحمدي ... الحنبلي الأثري الأحمدي فقام والشرك الصريح قد سرى ... بين الورى وقد طغى واعتكرا لا يعرفون الدين والتهليلا ... وطرق الإسلام والسبيلا إلا أساميها وباقي الرسم ... والأرض لا تخلوا من أهل العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وكل حزب فلهم وليجة ... يدعونه في الضيق للتفريجة وملة الإسلام والأحكام ... في غربة وأهلها أيتام دعا إلى الله وبالتهليلة ... يصرخ بين أظهر القبيلة مستضعفاً وما له من ناصر ... ولا له مساعد مؤازر في ذلة وقله وفي يده ... مهفة تغنيه عن مهنّده كأنها ريح الصبا في الرعب ... والحق يعلوا بجنود الرب قد أذكرتني درّة لعمر ... وضرب موسى بالعصا للحجر لم يزل يدعوا إلى دين النبي ... ليس إلى نفس دعا أو مذهب يعلم الناس معاني أشهد ... أن لا إله غير فرد يعبد محمداً نبيه وعبده ... رسوله إليكم وقصده أن تعبدوه وحده لا تشركوا ... شيئا به والابتداع فاتركوا من دعا دون الإله أحدا ... أشرك بالله ولو محمدا إن قلتمو نعبدهمو للقربة ... أو للشفاعة فتلك الكذبة وربنا يقول في كتابه ... هذا هو الشرك بلا تشابه هذي معاني دعوة الشيخ لمن ... عاصره فاستكبروا عن السنن فانقسم الناس فمنهم شارد ... مخاصم محارب معاند ما بين خفاش وبين جعل ... شاهت وجوه أهل المثل وبعدما استجيب لله فمن ... جادل في الله تردى وافتتن ومن أجاب داعيَ الله ملك ... ومن تولى معرضاً فقد هلك والسابقون الأولون السادة ... آل سعود الكبراء القادة هم الغيوث والليوث والشنف ... ونصرة الإسلام والشم الأنف فأقبلوا والناس عنه أدبروا ... وعرفوا من حقه ما أنكروا إلى آخر ما جاء في تلك الأرجوزة الرنانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ نشر فضيلته بحثاً قيماً في رسالة "الطالب المسلم" التي تصدر عن جامعة محمد بن سعود في الرياض نقتطف منه ما يلي: إن وصف حركة البعث الإسلامي والعقيدة السلفية التي دعا إليها الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- بأنها حركة إصلاحٍ وتجديد في شؤون العبادات والسلوك الأخلاقي: ما هو في الحقيقة إلا تفسير لمفهوم الدعوة بجزء من تراثها. وإلا فهي أكثر شمولاً وأبعد عمقاً في مجال التطبيق العمليّ، وممارسة السلوك في شؤون الحياة والاجتماع، بالإضافة إلى كشف كل زيغ وانحراف لا سيما ما يختص بتوحيد المعرفة والإثبات وتوحيد القصد والطلب. فهي دعوة تحمل في صميم وجودها أبعاد تجربة شاملة نحو الممارسة الصحيحة لدور حضاريّ في تاريخ البشريّة، سبق أن قام به المسلمون العرب حتى أصبح جزءاً حافلاً من تاريخهم. وإذا نظرنا بتأمّل واعٍ لدراسة تراث الدعوة في بعض آثارها من كتب ورسائل ومحاورات ومجادلات وما أحاط بتلك الآثار من ملامح تاريخية مسرودة، نجد حقائق مذهلة تنير لنا الطريق وتهدينا نحو معالمه. فالإمام الشيخ إلى جانب شخصيته الواعية المضيئة يضم إلى الموعظة البليغة والمجادلة الحسنة.. طموحاً فكرياً وأماني متلهفة نحو التطبيق العملي من خلال إقامة دولة إسلاميّة قادرة على تحمّل مسؤوليات الوازع والرادع.. وهذا الاتجاه لا ينبغي أن يخضع لتجربة شك أو حوار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ومن هنا فإن ما عاشه الإمام الداعية في مجتمعه في قلب الجزيرة العربية، وما عاشه وسمع عنه في أجزاء أخرى من الوطن الإسلاميّ من تخلّف فكريٍّ وعقيديٍّ واندثار في القيم والأخلاق والمثل، وردة مهينة إلى مفاهيم الحياة الجاهلية الأولى، وما يصحب ذلك من تمزق واضمحلال وسقوط مشين في الضلالة الوثنية، والبدع والخرافات. وما تبع كل ذلك من تمزق في الكيان العام للبنية الاجتماعية لضبط الجماعة والإدارة والمجتمع "وهو ما يعرف بالدولة" حيث هجرت ضوابط كبح المجتمعات وألغي الحكم بالشريعة الإسلاميّة وعاد الحكم عرفيّاً يقرره وينفّذه رجل القبيلة دونما اعتراض أو احتجاج، وأصبحت الأحكام الشرعيّة وقافً على شؤون الإفتاء في العبادات، وكثيراً ما تجانب الصواب. وأصبح المنتسبون للعلم والفتوى –إلا قليلاً منهم- يقضون جلّ أعمارهم في الانشغال بالتعليقات والحواشي، واستنباط الأسئلة الافتراضية البعيدة الوقوع والاحتمال، وأحياناً يأخذون الرشوة ويجمعون رزقهم من كتابة الحجب وبيع الأفكار المبتدعة، والترنم بقصائد المديح في الموالد والمواسم والمناسبات المفتعلة. وافتقدت النفوس كل سمو في المعاني وشموخ في الأفعال، وعادت إلى التواضع في الأقوال، وممارسة المهانات، حتى لكأن الإسلام العظيم لم يترك أي أثر حضاريّ في تلك النفوس. كل تلك الصور الحزينة لم تكن هي صورة للوضع في الجزيرة العربية فقط، وإنما كانت صورة متناسخة لمعظم البلاد الإسلامية، فذلك السقوط الخطير في أوحال الجاهلية، وذلك التفكك الاجتماعي، كان قدراً مشتركاً بين أبناء البلاد الإسلامية، فلم تكن العراق أو الشام أو تركيا أو المغرب مثلاً أحسن حالاً من سكان أبناء الجزيرة في المستوى الديني والاحتكام إلى الشريعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وعندما وضحت الرؤية، وتحددت أبعاد الصورة أمام ذهنيّة الداعية فكّر في طريقة مثلى، ووسيلة مجدية، لانتشال أبناء ملته ودينه من تلك الورطة الرهيبة، فلم ير وسيلة أقرب ولا أجدى من محاولة العودة بهم إلى صفاء العقيدة في ظل حياة تستوعب حكماً عادلاً قادراً على تنفيذ خطّة إصلاح تتناول المبدأ والعقيدة والمجتمع والحياة. ولكن كيف السبيل؟ هل يكون ذلك بمجرد الوعظ وحشد الخطب الرادعة الزاجرة أم أن ذلك يتطلب منطقاً سليماً وإرادةً واعيةً وإصراراً على فتح الحوار للتعامل في جوٍّ يتيح فرصة إيجاد التطبيق العمل؟.. وبعد أن تجمع لدى الداعية من شواهد التاريخ الماضي والحاضر أن تجربة نشر الحقيقة دون حسام أو سلطان لن يكون كافياً لمنح منطق مقبول، إن لم تتعرض الحقيقة نفسها للسلب أو التشويه أو الرفض. فرأى أن الحكمة وحسن الدعوة أن يعتمد في دعوته على أمرين هامين: الأمر الأول: الأصالة والوضوح فيما يدعو إليه.. فيلتمس دعوته من النبع الصافي: كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه السلام، دون أخذ بآراء الرجال وخرصها.. وأن يفتح باب الاجتهاد الذي أغلقه الجهلة الأغبياء، والمتعصبون لمذاهبهم. الأمر الثاني: أن يستعين بالقدرة السلطانية على تنفيذ وحماية منطق الدعوة ومبادئها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 أحمد حسين قال في كتابه"مشاهداتي في جزيرة العرب" بعد أن وصف ما كان في جزيرة العرب من جهالة قبل ظهور الدعوة ما يلي " في وسط هذا الجو ولد محمد بن عبد الوهاب. وكان أبوه الشيخ عبد الوهاب قاضي بلدة العيينة، وكان شيخاً عالماً جليلاً. فقرأ على أبيه الفقه. وسرعان ما ظهرت عليه علائم النجابة. وبدأ يدرك على الفور ما تردت به البادية من همجية وردة عن دين الإسلام وبدأت تجيش نفسه بما تجيش به نفس كل مصلح من عزم على تغيير هذه الحال. فلما بلغ من العمر عشرين ربيعاً. بدأ يستخدم فصاحته وعلمه في مناقشة أنداده وأضرابه. بل ومن هم أكبر منه سنة في فساد الحال فلم يجد منهم أذناً صاغية وبعد أن ذكر سفر الشيخ إلى الحجاز والبصرة ورجوعه ثانية إلى نجد. واستقراره في الدرعية واتفاقه مع محمد بن سعود ختم هذا البحث بقوله: تلك هي قصة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما بدأت والتي لم تكتمل حتى الآن. فلا يزال أحفاد محمد بن سعود. وأحفاد الشيخ محمد. يحملون لواء التوحيد. وينافحون عنه. وإذا كان العالم الإسلامي كله اليوم تحت تأثير النور والعرفان. قد بدأ يدرك بفطرته هذا الذي دعا إليه محمد بن عبد الوهاب ويتعشقه فسيظلّ التاريخ يسجل لآل سعود الذين كانوا أول من نصره واستجاب له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 محمد عبده قال الشيخ حافظ وهبه في كتابه "20 عاماً في جزيرة العرب" وهو يتحدث عن طلبة العلم في الأزهر أنه سمع الأستاذ الإمام محمد عبده مفتي مصر يثني في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 دروسه بالأزهر على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويلقبه بالمصلح العظيم، ويلقي تبعة وقف دعوته على الأتراك وعلى محمد علي الألباني لجهلهم ومسايرتهم لعلماء عصرهم ممن ساروا على سنة من سبقهم من مؤيدي البدعة والخرافات ومجافاة حقائق الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أحمد أمين قال في كتابه "زعماء الإصلاح الإسلامي"1: رأى الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أثناء إقامته في الحجاز ورحلاته إلى كثير من بلاد العالم الإسلاميّ أن هذا التوحيد الذي هو مزيّة الإسلام الكبرى قد ضاع ودخله الكثير من الفساد، فالتوحيد أساسه الاعتقاد بأنّ الله وحده، هو خالق هذا العالم وهو المسيطر عليه.. وواضع قوانينه التي يسير عليا. والمشرّع له، وليس في الخلق من يشاركه في خلقه ولا في حكمه ولا من يعينه على تصريف أموره، لأنه تعالى ليس في حاجة إلى عون أحد مهما كان من المقربين إليه. هذا الذي بيده الحكم وحده وهو الذي بيده النفع والضر وحده لا شريك له فمعنى لا إله إلا الله، ليس في الوجود ذو سلطة حقيقية تسير العالم وفقاً لما وضع من القوانين إلا هو، وليس في الوجود من يستحق العبادة والتعظيم إلا هو وهذا هو محور القرآن {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} إذن فما بال العالم الإسلامي اليوم يعدل عن هذا التوحيد المطلق الخالص من كل شائبة إلى أن يشرك مع الله كثيراً من خلقه. فهذه الأولياء يحج إليها وتقدم لها النذور ويعتقد أنها قادرة على النفع والضرّ، وهذه   1كنت منذ خمسة عشر عاما تقريبا، اطلعت على كتاب "زعماء الإصلاح" للدكتور أحمد أمين وما كتبه عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فسارعت إلى اقتطاف شذرات قيمة وقوية نشرتها في كراسة صغيرة بلغ عددها "5" آلاف نسخة دفاعا عن هذا الإمام العظيم وردا على خصومه، وقد قدمت له بكلمة ربما ذكرتها في خاتمة المطاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الأضرحة التي لا عداد لها تقام في جميع أقطاره يشد الناس إليها رحالهم ويتمسحون بها ويتذللون لها ويطلبون جلب الخير لهم ودفع الشرّ عنهم. ففي كلّ بلدة ولي أو أولياء. وفي كل بلدة ضريح أو أضرحة تشترك مع الله تعالى في تصريف الأمور، ودفع الأذى وجلب الخير وكأن الله سلطان من سلاطين الدنيا يتقرب إليه بذوي الجاه وأهل الزلفى لديه. ويرجون في تغيير القوانين وقضاء الحاجات. أليس هذا كما كان يقول مشركو العرب {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقولهم {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ؟ بل واأسفاه لم يكتف المسلمون بذلك. بل أشركوا مع الله حتى النبات والجماد فهؤلاء أهل بلدة منفوحة باليمامة يعتقدون في نخلة هناك، أن لها قدرة عجيبة من قصدها من العرائس تزوجت لعامها. وهذا الغار في الدرعية يحج إليه الناس للتبرك وفي كلّ بلدةٍ من البلاد الإسلاميّة مثل هذا، ففي مصر شجرة الحنفي. ونعل الكلشني. وبوابه المتولي1. وفي كل قطر حجر وشجر فكيف يخلص التوحيد من هذه العقائد؟ إنها تصد الناس عن الله الواحد وتشرك معه غيره وتسيء إلى النفوس وتجعلها ذليلة وضيعة مخرفة وتجردها من فكرة التوحيد وتفقدها التسامي. هكذا شغلت ذهنه فكرة التوحيد في العقيدة مجردة من كل شريك وفكرة التوحيد في التشريع الإسلامي فلا مصدر له إلا الكتاب والسنة.   1 شجرة الحنفي: شجرة قديمة كانت في جامع الحنفي بالقاهرة يتبرك بها. ونعل الكلشني: نعل قديمة في تكية الكلشني يزعمون أن الماء إذا شرب منها ينفع للتداوي من العشق، وبوابة المتولي بالقاهرة: أيضاً مملوءة بالمسامير يتعلق فيها الشعور والخيوط لقضاء حاجة من علقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 أمين سعيد قال في كتابه "سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب" هي من أحفل السير بالعظات وأغناها بالفضائل وأحقها بالبحث والفصل، والتفسير والتعليل وهي سيرة مصلح من أكرم المصلحين، ومجاهد من كبار المجاهدين وعالم من خيرة العلماء أنار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الله بصيرته وهداه سبله وألهمه التقوى فدعا أمته للرجوع إلى الله والعمل بكتابه وسنة رسوله ونبذ الشرك وعبادة القبور. انقادت إليه واقتدت به واستجابت له فأخرجها الله من الظلمات إلى النور فنجت وفازت وجنت أطيب الثمار وسمت إلى مرتبة الاختيار. ثم ذكر ولادة الشيخ وما كانت حالة الضعف والانحطاط التي سرت في جسم الدولة العثمانية وذكر أحوال الجزيرة العربية وما فيها من ظلمات الجهل ومزيد الفقر وتفشي الفوضى وفي وسط ذلك الجو القائم المربد، جو الجهل والجمود، جو ضعف الوازع الديني وتسلط الحكام واستبداد الطغاة. أشرقت من جانب نجد أنوار الدعوة الوهابية التي حمل مشعلها الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب فأنارت للأمة السبيل وألهمتها رشدها فشقت طريقها واهتدت بهديها وحققت الدعوة لنجد آمالها وقد بدأت في محيطها أول ما بدأت فأنشأت لها مجتمعاً إسلامياً سليماً يؤمن بالتوحيد ويعظم شأنه ويسير على هداه ولا يدعوا مع الله أحداً، ولا يزال هذا حاله لم تتبدل ولم تتغير منذ عهد الشيخ وحتى يومنا هذا فهو يصدع بالحق ويؤمن به. وانبثقت عن هذا المجتمع دولة عربية كريمة نشأت في ظل الدعوة وآمنت بها فكانت أول دولة عربية كبرى يؤسسها العرب داخل جزيرتهم بعد دولة الخلفاء الراشدين فاتبعت طريقهم وترسمت خطاهم فسادت وشادت ووسعت حدودها وانتشرت الدعوة في بلاد العرب وبلاد الإسلام وسرى نورها في أرجائها وأقبل عليها الكثيرون وأخذوا بها وتفاعلوا معها واستجابوا لها فكانت الأمنية الكبرى لهذه النهضات التي تعم بلاد العرب وبلاد المسلمين فأحيت ميت الهمم وأيقظت خامد النفوس. وضرب الشيخ الأمثال على تجرده ونزاهته وعلى أنه لم يرد من دعوته سوى وجه الله وحده وإصلاح حال أمته وإنقاذها من ظلمات الجهالة التي كانت تغمرها. ولقي في بدء الدعوة من الأذى والعدوان والمقاومة ما يلقاه الدعاة المصلحون من قومهم فما تردد وما توقف بل صابر وثابر لم يخفه تهديد وما ثناه وعيد ولا أثرت في نفسه المغريات، فشرقت الدعوة وغربت وكثر عدد وعدد المؤمنين بها وازداد أنصارها واستقام أمرها فأزعج ذلك خصومها وأقلق أعداءها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فتألبوا عليها وجاءوا صفوفاً لقتالها وإطفاء أنوارها فحملت السيف للدفاع عن نفسها وحماية كيانها والدفاع عن النفس حق مشروع أقرته جميع الأديان وجاءت به جميع الشرائع، وهذه الحقيقة تنقض قول خصومها وتلقف ما افتروا وما زيفوا فالدعوة لم تعتمد على السيف ولم تشهره في وجه الذين لم يدخلوا فيها بل اعتمدت عليه للدفاع عن نفسها ومقاومة أعدائها الذين تجمعوا لقتالها وتنادوا لمقاومتها والإجهاز عليها، فما أغنت عنهم جهودهم فارتدوا منهزمين وتواروا خاسرين وانتصرت وتغلبت لأنها نور وحق وطبيعة النور أن يسري ويعم وينتشر مهما حاولوا ستره وإخفاءه ومهما أقاموا من الحواجز في طريقه ومن شأن الحق أن يعلوا ولا يعلى عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 محمد أبو زهرة قال في كتابه "المذاهب الإسلامية": ظهرت الوهابية في الصحراء العربية نتيجة للإفراط في تقديس الأشخاص والتبرك بهم وطلب القربى من الله بزيارتهم ونتيجة لكثرة البدع التي ليست من الدين وقد سادت هذه البدع في المواسم الدينية والأعمال الدنيوية. فجاءت الوهابية لمقاومة كل هذا وأحيت مذهب ابن تيمية. ومُنشئ الوهابية درس مؤلفات ابن تيمية فراقت في نظره وتعمق فيها وأخرجها من حيز النظر إلى حيز العمل، وإنهم في الحقيقة لم يزيدوا بالنسبة للعقائد شيئاً عما جاء به ابن تيمية، لأنها لم تشتهر في عهده، ويتلخص ذلك فيما يأتي: أن الوهابية لم تقتصر على الدعوة المجردة بل عمدت إلى حمل السيف لمحاربة المخالفين لهم باعتبار أنهم يحاربون البدع وهي منكر تجب محاربته، إنها كانت كلما مكن لها من قرية أو مدينة أتت على الأضرحة هدماً وتخريباً حتى لقد أطلق بعض الكتاب الأوربيين على الوهابيين وصف: "هدامي المعابد" ولعل ذلك الوصف فيه بعض المبالغة. لأن الأضرحة ليست معابد، ولكن يظهر أنهم كانوا يهدمون المسجد 1 مع الضريح أخذاً من الخبر الذي استنكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم عمل بني إسرائيل إذ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.   1 هذا افتراض من الكاتب فالهدم يكون للقبر إذا اعتدى على المسجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 عبد الكريم الخطيب قال في كتابه: "محمد بن عبد الوهاب. العقل الحرّ والقلب السليم": أن الدم الذي أريق في سبيل الدعوة الوهابية دم عزيز على الإسلام والمسلمين، غير أن الحروب الوهابية قد كان جانب الربح فيها أكثر من الخسارة، فيما عاد على الإسلام والمسلمين بسببها من خير كثير لقد أيقظت هذه الحروب مشاعر الأمة الإسلامية التي كانت قد خمدت، وفتحت منها العيون التي عاشت زمناً طويلاً في وطأة نوم ثقيل كانت الحروب كانت الخروب الوهابية معركة رأي فما قاتل أصحابها وما قتلوا إلا دفاعاً عن رأيهم الذي لم يحتمله العالم الإسلاميّ يومئذ فرماهم بالكفر والمروق من الدين ولقد برئت الدعوة الوهابية من أن يختلط بها هوىً أو يطيف بها زيفٌ أو نحوه. إنها دعوة باسم الدين وللدين، وما كان صاحبها ولا كان مناصروه يطمعون في شيء أكثر من تحرير العقل الإسلاميّ، وتنقية العقيدة الإسلامية من شوائب الشرك والضلال، الكلمة الطيبة كلمة مباركة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، لأنها كلمة الحقّ، والحق في ظل الله يباركه وينصره، ودعوة محمد بن عبد الوهاب من الكلم الطيب لأنها تستند إلى الحق وتدعوا له وتعمل في سبيله لهذا كانت دعوةً مباركةً وفيرة الثمر كثيرة الخير لقد قام صاحبها يدعوا إلى الله، لا يبغي بهذا جاهاً، ولا يطلب سلطاناً. وإنما يضيء للناس معالم الطريق، ويكشف لهم المعاثر والمزالق التي أقامها الشيطان وأعوان الشيطان، إلى أن قال: والذي لا شكّ فيه أن الدعوة الوهابية كانت أشبه بالقذيفة الصارخة تنفجر في جوف الليل والناس نيام، وكانت صوتاً راعداً أيقظ المجتمع الإسلامي كله، وأزعج طائر النوم المحموم على أوطانهم منذ أمد بعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ويقول في أواخر كتابه: دعوة محمد بن عبد الوهاب من الدعوات الناجحة بغير شكّ، إذا كان مقياس النجاح مقدراً بالنتائج التي تجنى، والثمرات التي تقطف، دون النظر إلى الأخطاء التي وقعت عبر الطريق إلى الغاية ... إذا خلقت في المجتمع الإسلامي وعياً كان ضائعاً ونبهت إحساساً خامداً. وفتحت بصائر كانت مغلقة. ثم إن الدعوة الوهابية من جهة أخرى حملت الناس على أن يقلبوا وجوه الرأي وأن يرجعوا إلى ما خلف السلف من آراء وسنن فكان أن انتهوا آخر الأمر إلى الينابيع الصحيحة للإسلام يصدرون عنها جميعاً، فبدأت وجهات النظر تتلاقى على حين أخذت شقة الخلاف تضيق، حتى صار الأمر إلى ما نراه اليوم من وحدة تتلاقى عندها جميع الأنظار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 عبد العزيز بن عبد الله بن باز . قال هذا الشيخ الجليل في كتاب: "الشيخ محمد بن عبد الوهاب1": الحمد لله الذي من على عباده في كل زمان فترة بإيجاد أئمة هدى يدعون الناس إلى الصراط المستقيم، ويرشدونهم إلى الطريق القويم ويبصرون بكتاب الله أهل العمى، ويبصرون منهم على الأذى ينفون عن كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين وتحريف الغالين، ويشرحون لهم حقيقة الدين، ويكشفون لهم الشبه بواضح البراهين، وكان من جملة هؤلاء الأئمة المهتدين والدعاة المصلحين الإمام العلامة، والحبر الفهامة. مجدد ما اندرس من معالم الإسلام في القرن الثاني عشر والداعي إلى سنة خير البشر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي طيب الله ثراه وأكرم في الجنة مثواه. فلقد شرح الله صدره لمعرفة حقيقة الإسلام وما دعا   1 تأليف فضيلة الشيخ أحمد بن حجر بن محمد آل أبو طامي بن علي قاضي المحكمة الشرعية بقطر. وقد نقلت منه بعض ما جاء في هذا الكتاب من أقوال الأدباء والعلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 إليه سيد ولد عدنان عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، من الهدى ودين الحق في عصر استحكمت فيه غربة الإسلام، وغلب على أهله الجهل والبدع والخرافات وعبادة الأنبياء والصالحين والأشجار والأحجار، وقل فيه من يصدع بالحق ويشرح للناس حقيقة التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب ويحذرهم من أنواع الشرك المنافية لدين الإسلام فقام هذا الإمام في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري بالدعوة إلى الله سبحانه بقلمه ولسانه وأوضح للناس حقيقة ما بعث الله به نبيّه عليه الصلاة والسلام وما ألصقه به الجهال والضلال وهو بريء منه من الشرك والبدع والخرافات، وأوذي في ذلك أذى كثيراً من الجهال وأدعياء العلم ومن علماء السوء الذين آثروا الحظّ الأندى على الحظ الأعلى، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ومن الأمراء الجهال الذين لا يهمهم إلا تثبيت مناصبهم وتحصيل أغراضهم العاجلة فصبر رحمه الله على ذلك واستمر في الدعوة والبيان وإيضاح الحق بأنواع الأدلة من الكتاب والسنة وشرح حال الأمة حتى قبل الدعوة من سبقت له السعادة وساهم في نصرها ونشرها بكل ما يستطيع من قوة، وكان على رأس من نصر الدعوة وأيدها بقلمه ولسانه وسيفه ولسانه وأولاده وعشيرته وكل من دخل في طاعته الإمام الهمام محمد بن سعود جد الأسرة السعودية الحاكمة تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنانه وسائر من ساهم في نصرها الدعوة وتأييدها والاستقامة عليها. فقام في ذلك هذا الإمام أكمل قيام وأعلن الجهاد على من وقف في طريق الدعوة ولم ينشرح لها صدره فلم يتقبلها بل حاربها وصدّ عنها حتّى أيّده الله ونصر أتباعه وأظهر على يديه الدّعوة الإسلامية نقيّة من شبهات المخرفين وبدع المضلين، واستمر الشيخ في الدعوة إلى الله عز وجلّ وتدريس العلوم الشرعية للطالبين، وكشف الشبهات التي يروجها الكفار والملحدون من عباد القبور وغيرهم ويشجع على الجهاد بأنواعه ويشارك فيه بنفسه وأولاده ويؤلف المؤلفات النافعة والرسائل المفيدة في بيان العقيدة الصحيحة ورد ما يخالفها بأنواع الأدلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 والبراهين حتى ظهر دين الله وانتصر حزب الرحمن وذل حزب الشيطان، وانتصرت العقيدة السلفية في الجزيرة العربية وما حولها وكثر الدعاة إلى الحقّ. ونكست أعلام البدع والشرك والخرافات وقام سوق الجهاد وعمرت المساجد بالصلوات والدروس الإسلامية النقية فلله الحمد على هذه النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة التي تفضل الله بها سبحانه على عباده عند ظهور البدع وغلبة الجهل واندراس معالم الإسلام وظهور الشرك في غالب المعمورة، فجزى الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود وأتباعهما أفضل الجزاء وأعظم المثوبة إنه ولي ذلك والقادر عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 منير العجلاني أورد هذا الدكتور في كتابه "تاريخ البلاد السعودية1" مجموعة من البدع التي كانت منتشرة في زمن الإمام محمد بن عبد الوهاب منها وضع الخيط حول الرسغ، والحلقة، والاستغاثة بغير الله تعالى، ودعوة غير الله، والغلو في الصالحين وفي القبور، والعبادة عندها، والسحر والكهانة والتنجيم، والحلف بغير الله كل ذلك إلى جانب شطحات2 الصوفية بما داخلها من مؤثرات غير إسلامية والانصراف عن العمل بالكتاب والسنة الذين هما المصدران الوحيدان للتشريع3.   1 ص 68-69 بتلخيص. 2 كنت أود الرد على الدكتور العجلاني في وصفه طامات الصوفية وانحرافاتهم ووثنياتهم بالشطحات كما يقول بعضهم، وقد كفاني عن هذا الرد وصفه هو نفسه هذه الشطحات بمؤثرات غير إسلامية ... إلى آخر كلامه، وكل ذلك كفر صريح لا شطحات وهو مما يجب إعلانه بوضوح تحذيراً للمسلمين من الشركيات المدمرة والتصوف الوثني. 3 تاريخ البلاد السعودية ص 68-69 بتلخيص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أبو السمع عبد الظاهر المصري كان إماماً بالمسجد الحرام قال في نونيته التي تأسف فيها على المسلمين مما عراهم: ابتدأها رحمه الله – بقوله: أسفي على الإسلام والإيمان ... أسفي على نور الهدى القرآن أسفي على الدين القويم وأهله ... أسفاً يذيب القلب بالأحزان ومضى حتى ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب قائلاً: أسفي على الشيخ الإمام محمد ... حبر الأنام العالم الرباني علم الهدى بحر الندى مفني العدا ... من شنّ غارته على الأوثان من قام في نجد مقام نبوة ... يدعوا إلى الإسلام والإيمان حتى غدت نجد كروض مزهر ... يختال في ظل من العرفان أحيا لنا الدين الحنيف كما أتى ... وأقامه بالسيف والبرهان برهانه القرآن والسنن التي ... تروي لنا عن سيد الأكوان كم حارب الشرك الخبيث وأهله ... وأذاقهم في الحرب كل هوان وأبان توحيد العبادة بعدما ... درست معالمه من الأذهان كم أبطل البدع التي قد عكرت ... صفو الشريعة مورد الظمآن وأضاء نوراً لم يزل متألقاً ... يهدي به الرحمن كل أوان يارب دعوة مؤمن متضرع ... أغدق عليه سحائب الرضوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 عباس محمود العقاد قال في كتابه: "الإسلام في القرن العشرين": وظاهرة من سيرة محمد بن عبد الوهاب1 أنه لقي في رسالته عنتاً، فاشتد كما يشتدّ من يدعو غير سميع ومن   1 صفحة 109 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 العنت إطباق الناس على الجهل والتوسل بما لا يضرّ ولا ينفع والتماس المصالح بغير أسبابها، وإتيان المسالك من غير أبوابها، وقد عبّر على البادية زمان يتكلمون فيه على التعاويذ والتمائم وأضاليل المشعوذين والمنجمين، ويدعون السعي من وجوهه توسلاً بأباطيل السحرة والدجالين حتى في الاستسقاء ودفع الوباء، فكان حقاً على الدعاة أن يصرفوهم عن هذه الجهالة، وكان من أثر الدعوة الوهابيّة أنها صرفتهم عن ألوان البدع والخرافات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 مسعود الندوي 1 قال في كتابه "محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه ": كان محمد بن عبد الوهاب عالماً كبيراً وكان ذا نظر ثاقب، بعيد المدى، لقد شاهدت دعوته في حياته ثمرات دنيوية وثمرات دينية، فقد فتحت بلاد نجد كلها في حياته، وأمير نجد وأهله كلّهم كانوا مستعدين للجهاد بأرواحهم وحياتهم من أجل دعوته، وكانت عظمتهم التي اكتسبوها إنما جاءت من قبل استجابتهم لدعوة الشيخ، فالمجاهدون وعامّة الناس ما كانوا يعرفون أحداً غيره، وكانوا مولعين به، فلو أراد أن يأخذ لأولاده نصيباً في الحكومة لأخذ، ولو أراد أن يملك زمام   1 لهذا الكتاب قصة عجيبة، فإني منذ زمن بعيد أسعى بمن يقوم بترجمته إلى العربية لإنصاف الشيخ. ومنذ عشرين سنة تقريباً اجتمعت بأحد الهنود من طلبة كلية الشريعة بدمشق وعرضت عليه ترجمة هذا الكتاب مقابل ما يريده من مال، فقبل ذلك، فقدمت له نسخة نادرة منه بالأردية وأعطاني عنوانه وسافر إلى الهند بعد حصوله على الإجازة. ثم انتظرت عدة شهور، وكتبت إليه بشأنه، فلم يجبني وأكثرت من المراسلة بدون جدوى، ورجوته في آخرها بإعادة النسخة التي سلمتها له، فلم يفعل. وأخشى أن يكون ذلك بتأثير بعض الشيوخ المتصوفة. ومنذ سنوات قريبة اجتمعت بالأخ النشيط الشيخ عبد العليم عبد العظيم البستوي لما كان طالباً بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، فشجعته على ترجمته ففعل جزاه الله كلّ خير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الحكم في يده لملك، ولكنه ما زال متنحياً عن هذه المسؤوليات كلّها. والأمير محمد بن سعود وخلفه الأمير عبد العزيز ما كانا يحركان ساكناً إلاّ برأي الشيخ وإشاراته، وكلّ أموال الغنائم تلقى تحت أقدام الشيخ. ولكنّ هذا الرجل الصالح لم يشتغل بها عن مهمته الأصليّة، فلم يزل يعمل عمله، وكان يتدخل في أمور الدولة عندما كانت الحاجة تقتضي ذلك. ومن حين أحسّ أنّ الدعوة قد قويت وتأصّلت، أبعد نفسه عن إدارة الحكومة وأموال الغنائم، إن الإمام محمد بن عبد الوهاب في باب العقائد على مذهب السلف، وهو إقرار بما ورد من الصفات الإلهية في القرآن والأحاديث الصحيحة كما ورد، والتسليم به، والإيمان بظاهره، مع نفي الكيفية، وهذا مذهب السلف، فالله هو الذي يعلم الكيف والحقيقة، وواجبنا الإيمان بدون أخذ ورد، وخير ما يعبّر عن مسلك السلف الصالح هو قول الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة: "الاستواء معلوم غير مجهول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". ومذهب السلف هذا ليس مذهب الحنابلة فقط أو الإمام ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، بل هو مذهب أئمة الإسلام قاطبة، البعيد عن التأويل مطلقاً مع نفي التشبيه والتجسيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 محمد البهي 1 قال: إن الحركة الوهابيّة تتميّز بأنّها صانت آراء ابن تيمية وعنت بها في القرن الثالث عشر الهجري بعد مدّة أربع قرون لم تلق فيها تلك الآراء العناية الكبرى التي لقيتها من جانب حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.   1 في كتيب له نشرته دار الفكر في بيروت، وفيه فصلٌ عن "الحركة الوهابية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أحمد عبد الغفور العطار قال في كتابه "محمد بن عبد الوهاب" تحت عنوان "أثر الدّعوة الوهابية في العالم الإسلامي": رأى ابن عبد الوهاب ما حل بالمسلمين، ورأى ما بنجد من الشرك والوثنية، ولم تكن نجد خالية من العلماء، بل كان فيها منهم عددٌ غير قليل في مدنها وقراها، ولكنهم كانوا ضعفاء، ومنهم من لم يفضلوا العامة في معتقداتهم الخرافية، ومنهم من كان على بصيرة من أمرهم، ولكنهم لم يكونوا شجعاناً ودعاةً بل كانوا وعاظاً محدودي الأثر، ولكن ابن عبد الوهاب لم يكن مثلهم، فقد كان عالماً حقاً، وكان سلفياً صادقاً في عقيدته ومنهجه، وكان شجاعاً وداعيةً، ولكن العلماء ليسوا ورثة الأنبياء في العلم وحده، ولكن ميراث النبيين يتجلى في القيام بأعباء الدعوة والتبشير برسالاتهم، واستقبال الأذى بعنادٍ وإصرار في سبيل هداية البشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 إبراهيم الشريقي قال هذا الدكتور في كتابه "أضواء على الخليج العربي ومسقط وعمان": ... الحق يقال أن دعوة الشيخ المصلح الكبير محمد بن عبد الوهاب قد أيقظت الشرق العربي والإسلامي، وظلت مصدراًَ لجميع الحركات الإصلاحية التي ظهرت في العالم الإسلاميّ خلال القرون الأخيرة –الثامن عشر والتاسع عشر والقرن العشرين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 أحمد الناصري السلاوي هو صاحب "الاستسقا لأخبار المغرب والأقصى" قال: "حدثتنا جماعة وافرة ممن حجّ مع المولى أبي إسحاق إبراهيم ابن سلطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 المغرب عام 1226 هـ "1811م" أنهم ما أرادوا من ذلك السلطان –يعني ابن مسعود- ما يخالف ما عرفوه من ظاهر الشريعة، وإنما شاهدوا منه ومن أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما به الاستقامة والقيام بشعائر الإسلام من صلاة وطهارة وصيام ونهي عن المنكر الحرام وتنقية الحرمين من القاذورات والآثام التي كانت تفعل جهاراً من غير نكير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 محمد عبد الله السلمان قال محمد بن عبد الله السلمان المعيد في كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: أحس الإمام محمد بن عبد الوهاب من خلال رحلاته في مكة والمدينة والأحساء وحريملاء والعيينة، ما يسود المسلمين من انحراف عن مبادئ الدين الصحيحة وذلك بانتشار البدع والمفاسد والخرافات، إضافة إلى ما صاحب ذلك من فوضى واضطراب سياسيّ وتدهور في الحالة الاقتصادية، فعمت المجاعات وانتشرت الأوبئة وبخاصة داخل الجزيرة العربية. وقد عرف الشيخ أن هذا التدهور كله عائد إلى ابتعاد المسلمين عن أصول الإسلام التي كان عليها الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، حتى لقد انتشرت أنواع خطيرة من الشرك وتقديس الموتى والصالحين، وحتى المأفونين والمجانين، بل تدنوا على تقديس الأشجار والأحجار وتعظيمها، ولم ير الشيخ بداً من أن يجهر بالحق، ويعلن إنكاره لهذه الأفعال، وعلى الرغم من أن هذا الجهد من الشيخ قد بدأ أثناء رحلاته العلمية إلا أنه كان جهداً فردياً لم يؤت ثماره المطلوبة. وكثيراً ما تعرض الشيخ للاضطهاد –أثناء هذه الرحلة- والإخراج من البلاد "كما يحصل في البصرة وحريملاء" ورغم أنّ انتقاله إلى "العيينة" وترحيب أميرها "عثمان بن معمر" به أول الأمر، وتنفيذه بعض مبادئ الدعوة عملياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 –قد فتح باب الأمل أمام الشيخ- إلا أنه لم يلبث أن أخرجه بتهديد من حاكم الأحساء1. فانتقل الشيخ بدعوته إلى "الدرعية" 2 عام 1157 هـ - 1744م وكان انتقاله موفقاً، فقد أقبل أميرها "محمد بن سعود" الدعوة واقتنع بها، ووعد الشيخ بنصرته ومساعدته لنشر دعوته بين المسلمين بكلّ ما أوتي من قوة ومن هنا أخذ الجهد الجماعي للدعوة يظهر، وبدأ التطبيق العملي لمبادئ الدعوة وتحقيق أهدافها وآمالها العظام.   1 انظر عنوان المجد" ابن بشر صفحة 24. 2 تاريخ نجد أو روضة الأفكار وغيرهما. ابن غنام صفحة 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 أحمد السباعي هو مؤلف "تاريخ مكة" قال في تقديم رسالة: محمد بن عبد الوهاب "قلب حر ... ورأي سليم" للطالب الجامعي حسين عبد الله بانبيه: " ... إذا قيل: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فكأنما قيل الرجولة في أوج قوتها، والعزم في أرقى معانيه. كلنا يعرف أن هذا الشيخ عاش في ذاته أمة، وأنه عندما أدرك في أحد الأيام أنه بات هدفاً لمن حوله من الأمم أبى إلا أن يصمد لدعوته وأن يتحمل في سبيل ثباته أقسى ما يمكن أن تمتحن رجولته وقدرته على الثبات. ودراسة مثل هذه السيرة، لمثل هذا الرجل لا يمكن أن يمر بها الطالب ويستقصي جوانبها في عشرات الكتب دون أن تترك أثرها في أخلاقه وتطبعه بطابع الثبات وتعلمه كيف يصمد لما يعتقده حقاً دون أن يبالي بما تمنحه به الحياة مهما تألب أبناؤها، وتكاثروا " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 عثمان البصري الوائلي قال في كتابه مطالع السعود: هذه الفئة المعبر عنها بالوهابيين هم أتباع محمد بن عبد الوهاب النجدي، ولكنهم في الحقيقة يسمون أهل الحديث، لأنه كان نظيرهم موجوداً في زمن الدولة العباسية وينكرون المنكرات بالشدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 عبد الرحمن بن سليمان الرويشد قال في رسالته: "الوهابية حركة الفكر والدولة": ولئن كان لابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية فضل السبق، والتوعية والدراسة، فمن العدل أن نقول: أن لابن عبد الوهاب فضل الإنجاز والإخراج والزيادة، وأنه كان أجمع لصفات الزعامة وموهبة التحدث والقيادة من غيره، لذا ظلت دعوته بعثاً متجدداً في حياة مسلمي عرب الجزيرة وغيرهم من آسيا وإفريقيا وأقاصي الهند، كما كان كفاحه ونضاله ضد الشرك بجميع أشكاله وألوانه وضد البدع والخرافات والانحطاط الخلقي –أمراً مشهوداً يعرف عن قدرته وتفوقه العلميّ والنفسيّ. ولقد تجاوزت دعوته حدود الدعوات التقليدية ذات الطابع الوعظيّ والإرشاديّ إلى آفاق وأبعاد الشمول الحياتيّ حيث شملت الدعوة هزّ الركائز السياسية والاجتماعية والنظرة الكلية إلى الركائز الثلاث من زاوية واحدة تتمثل الكيان الواحد والمجال الأرحب لبثّ أفكار الدعوة وإبداعها، لذا تضافرت الجهود المشتركة بين مؤسسي الدعوة وبين حامليها والمشاركين في تأسيسها عل غقامة كيانٍ إسلاميّ يستوعب نظريات الدولة الإسلاميّة ويحمي أنظمتها ويؤجج نشاطها لتكون أقدر على المواجهة وتحمل العبء، بما اعتبر بحقّ البند الأول في بدء تاريخ الجزيرة العربية وفق المنهج الإسلامي بل تاريخ الشرق الأوسط بعد انقضاء حكم الخلفاء الراشدين، وذلك بان تلك الحركة قد غيرت وجه الأحداث في الجزيرة العربية تغييراً أساسياً مذهلاً. لذا يقول "فيليلب حتي" في كتابه تاريخ العرب: "إن تاريخ الجزيرة العربية الحديث يبتدئ منذ منتصف القرن الثاني عشر الهجري حين ظهور حركة الموحدين في الجزيرة العربية وحين شاركت قوة الدين وسلطة الحكم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فلسفة الدعوة: ليس الإمام الشيخ فيلسوفاً قابعاً في غرفة مكتبه، أو صوفياً منزوياً في خلوته أو كاتباً نظرياً يعتصر شوارد أفكاره ويستوحي سوانح أخيلته ليمتع نفسه بتحقيق رغائبه المادية أو أشواقه الروحية، وإنما كان رائد منهج وخطة عمل مترجمة إلى عقد جلساتٍ وندوات للحديث والمناقشة حول المعتقد وأحوال المجتمع ويصحب ذلك أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ودعوة دائبة إلى الله بالحسنى، تتمثل في بعث رسائل وقورة ومهذبة إلى جماعة العلماء والزعماء والرؤساء. وإذا كان لا بد من نخبة تنظّم أبعاد مسيرة الدعوة وتحديد إطار أهدافها مما يحلوا للكثير من الناس أن يدَعوه فلسفةً أو "أيديولوجية1" فإن ذلك ميسر لمن يريده، متمثل في أسلوب الدعوة وفي ظلال الكلمات الوادعة النابضة بأسمى المعاني في رسائله ومؤلفاته، حيث تبرز تلك الأديولوجية في ظاهرتين متميزتين هما: الوضوح الإيجابي فيم يدعوا إليه، واعتماد الأصالة في استمداده وورده ومن هذين المنطلقين المثابرين كانت دعوته مبنية على أساسين كبيرين هما: أولاً: الدعوة إلى التوحيد ومحاربة مظاهر الشرك بجميع أشكاله وألوانه   1 لا يصح أن نسمي دعوة الشيخ فلسفة أو "أيديولوجية" لأنه رحمه الله تعالى وأجزل ثوابه، لم يأتنا بشيء جديد في التشريع، إنما جاءنا بأسلوب حديث في الإنجاز والإخراج كما قال الكاتب نفسه ومهما كان من حركة هذا الإمام وقوتها وعظيم أثرها، فهي حركة قديمة لم يخل منها زمان ومكان، فتارة تسمى "دعوة أهل الحديث"، وتارة تسمى "الدعوة السلفية" وسميت في العصور الأخيرة "الوهابية على اختلاف حقيقتها" وقد تحدث عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح وبشرها بالنصر في مثل قوله: "لا تزال طائفة من أمتي، قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس" رواه البخاري وأحمد، وذكر البخاري وغيره أن هذه الطائفة هي: " أهل الحديث" رحم الله ميتهم وبارك في أحيائهم وجعلنا منهم والهم الدعاة والمصلحين والمسؤولين التقرب منهم والاستفادة من علومهم "م. م" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 سواء كانت منافية للتوحيد بالكلية أو منافية لكمال التوحيد الواجب، وكذلك ما ادخل في صلب العقيدة السلفية من بدع وخرافات ووسائل وذرائع تؤدي إلى الشرك مما يقدح في توحيد المسلم والتزامه، وكذلك النهي عن المنكر، وأنواع المعاصي التي من شأنها تنقيص ثواب التوحيد وإصابة القلب بالمرض والزيغ. ثانياً: الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد الذي أغلقه الجهلة وعوام العلماء منذ زمن طويل فأوصدوا بذلك باباً من أبواب الخير وسدوا الطرق المشروعة للفهم الذكي المخلص، وقد أسبغ ابن عبد الوهاب رحمه الله بهذين المبدأين على عالم السلفية روحاً متألقة جديدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 محمود مهدي الاستانبولي قال في كتابه المخطوط: "رجال التجديد والإصلاح" حين الكلام على الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب: مما يؤسف له أن الأستاذ "عبد القديم زلوم" وهو من جماعة "حزب التحرير" جعل في كتابه "كيف هدمت الخلافة": حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من العوامل التي هدمت الخلافة، وزعم في تحليلات حزبه التي يطالعنا بها من حين إلى آخر بآراء غريبة: "أن جماعة الشيخ قاموا بهذه الحركة –التي سماها مذهبا1- وهو خطأ – كانوا مدعومين من الإنكليز". وقد كان من واجب هذا الكاتب أن يدعم رأيه بأدلة وإثباتات، وقديما قال الشاعر:   1 إن تسمية حركة هذا الشيخ الجليل بالمذهب خطأ، فإنه رحمه الله تعالى لم يجتهد، إنما عمد إلى إحياء التوحيد من الكتاب والسنة، وقد أغفله أغلب المسلمين ويا للأسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وإذا الدعاوى لم تقم بدليلها ... بالنص فهي على السفاه دليل وقال غيره: وكل ادعاء قرين افتراء ... سوى من إذا ادّعى أشهدا مع العلم أن التاريخ يذكر أن هؤلاء الانكليز وقفوا ضدّ هذه الحركة منذ قيامها خشية يقظة العالم الإسلامي. فكانوا صحبة الحكومة الفرنسية يحرضون الدولة العثمانية في عهد ظلمها وضعفها للقضاء على حركة محمد بن عبد الوهاب، فأمرت العميل واليها على مصر محمد علي باشا بقتال الأمراء السعوديين، وقد قدم له الإنكليز والفرنسيون الأسلحة والخبراء الذين رافقوا الحملة المصريّة من أجل القضاء على الحركة المسماه وهابية كيلا يعيد الإسلام سيرته الأولى وعندما تمّ النصر على السعوديين أرسلت الحكومة البريطانية وفداً خاصاً بقيادة جورج ماستر سادلين لتقديم التهاني إلى إبراهيم بن محمد علي كما أرسلت سفينة حربية بريطانيّة من بومباي إلى الخليج العربي بدو بإشارة مباشرة أو غير مباشرة من المصريين سنة 1334 هجرية الموافق 1819 ميلاديّة في موسم الصيف، وكان على ظهرها الكابتن ج. ف. سادلير قائد الفرقة السابعة والأربعين موفداً خاصاً إلى إبراهيم، وكانت مهمته تقديم التهاني أيضاً على فتح الدرعيّة واتخاذ الخطوات اللازمة للقضاء المبرم على ما سماه الدولة الوهابيّة بالاشتراك مع إبراهيم، وكانت مهمته تقديم التهاني أيضاً على فتح الدرعية واتخاذ الخطوات اللازمة للقضاء المبرم على ما سماه الدولة الوهابية بالاشتراك مع إبراهيم. وهذا الخبر ذكره المستشرق: "هو غارث" نقلته من كتاب: "محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه" للعالم السلفي مسعود الندوي رحمه الله تعالى1. وهذه الحملة نفسها كانت من مصلحة بريطانيا، ولذلك مهدت لها وساعدت محمد علي للنصر. جاء في كتاب "معجزة فوق الرمال":   1 راجع خاتمة كلمة أحمد سعيد البغدادي ص 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 إن الحملة المصرية أفسحت المجال أمام العودة بشبه الجزيرة العربية إلى دور الانحطاط من جديد، كما مهدت الطريق أمام الانكليز ليسيطروا على أمارات الخليج العربيّ التي كان معظمها يشكّل جزءاً لا يتجزّأ من الدولة السعودية الأولى، بالإضافة إلى أنها أفسحت المجال أمام كثير من الدول الأوربية، بزعامة بريطانيا للتدخل في شؤون البلاد العربيّة والإسلاميّة تدخلاً تطور مع الزمن حتى أصبح احتلالاً استعمارياً بأبشع مظاهره ونتائجه، بالإضافة إلى أنها كانت من العوامل الرئيسية إلى الاحتلال البريطاني لمصر فيما بعد1. والغريب المضحك والمبكي معاً أن يتهم هذا الأستاذ حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنها من عوامل هدم الخلافة العثمانية، مع العلم أن هذه الحركة قامت حوالي عام 1811م والخلافة هدمت حوالي عام 1922م!!. ولنستمع بعد ذلك إلى كلام الأديب الأخ علي الطنطاوي في التحقق من عداوة الإنكليز لحركة هذا الإمام العظيم: "ولقد ذكرت في ترجمة أحمد بن عرفان –الشهيد- خبر الدولة الإسلامية التي أقامها في شمال الهند، وحاربت السيخ وكسرتهم، وعجز عنها الانكليز فلم يجد وسيلة إلى القضاء عليها، إلا اتهامها عند شيوخ القبائل الأفغانية بأنها دولة وهابية فاستحلوا بذلك قتالها وقضوا عليها2" فهل يقنع مؤلف كتاب: "كيف هدمت الخلافة" بما سبق ليرجع عن رأيه السابق بأن جماعة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانوا من عوامل القضاء على الخلافة بدعم من الانكليز؟!. وقد سها عن بال هذا المؤلف أن قيام الخلافة من الدين، وقد جاء في الحديث الصحيح: "من خلع يداً من طاعة، قلي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهليّة! " رواه مسلم.   1 للأستاذ أحمد العسة صفحة 23. 2 رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فهل يعقل أن يفعل ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو أنصاره، وهم الذين نذروا أنفسهم وعرضوها للموت في سبيل الله؟!. إن الحق –والحق أقول- إن حركة الإمام محمد بن عبد الوهاب بعكس ما زعم "زلوم" كانت بمراميها البعيدة تهدف إلى تثبيت دعائم الخلافة، لا هدمها وكل ذلك بمحاربة سموم التصوف وضلالات "أبي الهدى الصيادي" التي كانت أهم أسباب انهيار الخلافة وضعفها، مما كان من واجب هذا الكاتب ذكرها ... وقد سارع الإمام رحمه الله تعالى إلى تصحيح عقيدة المسلمين من ركام الشرك ورواسبه التي تضلل العقول والنفوس. وليس مثل الإيمان السليم النابض بالحياة والقوة كفيلاً بتحقيق القوة والمجد وهذا ما حققه الإمام محمد بن عبد الوهاب فجعل –كما قال طه حسين- من هؤلاء الأعراب الجفاة المشركين قوماً مسلمين حقاً على نحو ما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم بأهل الحجاز منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً. "ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذه الحركة وحاربوها في دار عقرها بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها، لكان من المرجو جداً أن تتوحد كلمة المسلمين في القرن الثاني عشر والثالث عشر، كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول1. ومن المؤسف جداً أن يغار "زلوم" على ضياع الدولة العثمانية الهرمة المريضة التي حارب فيها الاتحاديون الإسلام كما حاربه المستعمرون من الانكليز والفرنسيين وغيرهم، ولا يغار على أحاديث رسول اله صلى الله عليه وسلم وهي المصدر الثاني للإسلام بدعوى أنها لا يعمل إلا بالمتواتر منها في بحث العقيدة كما يقول حزبه ... ومعنى ذلك نسف القسم الأكبر من السنة   1 "الحياة الأدبية في جزيرة العرب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 بل ولا يأسف ولا يغار هذا الكاتب على هزيمة الدولة الإسلاميّة الفتية التي قامت على أساس الإسلام الصحيح بعقيدته القوية ووحدت جزيرة العرب معقل الإسلام الأول، تحت حكم آل سعود وأخذت تنطلق وتمتد خارج هذه الجزيرة لتنقذ الخلافة الإسلامية من الصوفية والطرقية والمذهبية المتعصبة المهترئة ... التي كانت من أعظم الأسباب لترك الشريعة والارتماء في أحضان القوانين الأجنبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 علي الطنطاوي جاء في كتابه "الشيخ محمد بن عبد الوهاب"1: ذكر فشو البدع قبل ولادة الشيخ "محمد" كما قال: واعتقد الناس النفع والضرر بالرسول والصالحين، وبالقبور والأشجار، والقباب والمزارات، فيطلبون منهم الحاجات، ويرجعون في الشدائد إليهم، وينذرون لهم، ويذبحون لهم، واشتدّ تعظيم الأموات.   1 لهذا الكتاب قصة طريفة أذكرها للحقيقة والتاريخ، فإنه منذ أكثر من ربع قرن كانت مكتبة دار الفكر بدمشق اتفقت مع مؤلفه على إصدار "سلسلة: أعلام التاريخ فسألته مرة معاتباً قائلاً: أليس للإمام محمد بن عبد الوهاب نصيب في هذه السلسلة فأجاب بلى، وطلب مني بعض المصادر فقدمتها له، وبعد مدة تزيد على الشهر سألته عن المشروع فقال لي: "لقد تشعب عليّ البحث وتوقفت عنه وقتياً ولا أدري ماذا سيحدث معي وكان قصدي من ذلك الإفادة من شهرة هذا الأديب الكبير ولكسر هذا السدّ المضروب على دعوة التوحيد وإيصالها إلى المسلمين وإنقاذهم مما نسجه حولها أعداء الشيخ من الأوهام والأكاذيب ليحجبوا نورها عن الناس، وفيها إنقاذ العالم الإسلاميّ مما فشى بين صفوفه من وثنيات وخرافات وبعد شهور طلب مني ومن أخوين آخرين عقد اجتماع في داره لسماع ما كتب. وجرت المناقشة واحتدمت لأنّه علق في ذهنه أمور تلقاها قديماً من بعض شيوخه، خصوم ما أسموها بالدعوة الوهابية. وطلب إنهاء الجلسة وتأجيل الاجتماع، وبعد مدة علمت أنه أرسل موضوع الشيخ إلى المطبعة فحدثته بهذا الشأن وقلت له هل تعلم أن لنا علاقة بالقائمين على الحركة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وكان حظّ نجد في هذه الجاهلية الجديدة أكبر الحظوظ، فقد اجتمع على أهله الجهل والبداوة، والفقر، والانقسام في كل ناحية من نواحي نجد، ومن الأمراء بمقدار ما كان فيها من القرى ففي كل قرية أمير، وفي كل ناحية جمعية أمم وكان في كل أمارة قبر عليه بناء أو شجرة لها أسطورة يقوم عليها سادن من شياطين الإنس يزين للناس الكفر ويدعوهم إلى الاعتقاد بالقبر والذبح له. والتبرك به والدعاء عنده ثم ذكر شجرة تسمى "شجرة الذئب" وقبر "زيد بن الخطاب" وذلك على سبيل المثال، وكان العلماء قلة والحكام عتاة ظلمة والناس فوضى يغزو بعضهم بعضاً ويعدو قويهم على ضعيفهم. في تلك البيئة نشأ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فرأى شمس الإسلام إلى أفول، ورأى ظلمة الكفر إلى امتداد وشمول وأراد الله له الخير، فقدر له أن يكون أحد الذين أخبر الرسول أنهم يبعثون ليجددوا لهذه الأمة دينها، بل لقد كان أحق بهذا الوصف من كل من وصف به في تاريخنا. فقد حقق على يديه عودة نجد إلى التوحيد الصحيح، والدين الحق، والألفة بعد   = الوهابية في المملكة العربية السعودية؟ فأجاب: لا. فقلت له: فلماذا دفعت الكتاب إلى المطبعة قبل أن نتذاكر بشأنه بقصد الوصول إلى الحقيقة؟ فوافق على سحب الكتاب من المطبعة لمناقشته، واشترط ألا أكون في الاجتماع لما يعلم من حماستي للفكرة، واقترح شخصين آخرين. فتم الاتفاق على ذلك ولكن الاجتماع لم يحصل وتم طبع الكتاب، وخرج إلى السوق. فسارعت إلى مطالعته، فرأيت فيه الكثير من الخير والصواب والإنصاف، وبعض التناقض الخطأ، فكتبت مقالاً بعنوان: "الأستاذ علي الطنطاوي يرد على الأديب علي الطنطاوي" وأوضحت فيه بعض ذلك غير أن فريقاً من الأصدقاء نصحوني بعدم نشره، فقبلت النصيحة. ولما كان هذا الكتاب بجزأيه الصغيرين يغلب فيه الصواب على الخطأ، فحشدت جميع أولادي لبيعه في مسجد الجامعة السورية بدمشق كل يوم جمعة، فنفدت طبعته بسرعة. وقد رجوت الأستاذ الأخ علي منذ سنوات بلزوم تعديله فوافق على ذلك جزاه الله خيراً، وبالنظر لكثرة أعماله جعل الله سبحانه فيها النفع للمسلمين، فقد عهد بذلك إلى أحد الإخوة، فنأمل أن يصدر قريباً وفيه الحقيقة كل الحقيقة ..... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الاختلاف، والوحدة بعد الانقسام. أنا لا أقول إن الرجل كامل فالكمال لله، ولا أقول إنه معصوم فالعصمة للأنبياء، ولا أقول: إنه عار من العيوب والأخطاء1ولكن أقول: إن هذه اليقظة التي عمت نجد ثم امتدت حتى جاوزته إلى أطراف الجزيرة، ثم إلى ما حولها، ثم امتدت حتى وصلت إلى آخر بلاد الإسلام ليست إلا حسنة من حسناته عند الله إن شاء الله.   1 ليت هذا الأديب ذكر لنا هذه العيوب والأخطاء كي نعرفها ونتجنبها!!.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أحمد العسة قال في كتابه "معجزة فوق الرمال": عندما جهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوة العودة إلى الإسلام الصحيح وتحالف مع الأمير محمد بن سعود المؤسس الأول للإمارة السعودية في نجد عام 1158هـ، 1745م لم تكن الإمارة النجدية يومها تضم أكثر من بلدتين أو ثلاثاً، وبعض القرى التابعة لها، وكانت شبه الجزيرة العربية ممزقة تمزيقاً يصعب على أي مؤرخ الإحاطة به لكثرة تشعبه وتعداده، حتى أن مقاطعة نجد وحدها، وكانت مقسمة بين سبع إمارات. فلما أتيح للدعوة سيف مؤمن يحميها ويجاهد في سبيلها، وهو سيف أمراء آل السعود وقلب مؤمن يغذيها ويعد لها الدعاة المؤمنين الذين نذروا أنفسهم في سبيل إعلاء قلب الشيخ محمد بن عبد الوهاب "رحمه الله تعالى وأجزل ثوابه" تبدل التمزق المريع في شبه الجزيرة العربية، فأصبح وحدة، وقلب الاقتتال بين الإمارات طمعاً في الغزو والاستيلاء، فأصبح تضامناً وقوة عسكرية مرموقة وجهاداً مقدساً. وما أن مضى سبعون عاماً على التعاقد بين الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد ابن عبد الوهاب حتى كانت تلك الدولة السعودية الأولى قد أنجزت توحيد مقاطعات شبه الجزيرة العربية أو كادت، بما في ذلك معظم إمارات الخليج العربي. وأخذت تطرق أبواب العراق والشام طرقاً متواصلاً، كان من مظاهره اقتحام عدة مدن عراقية، واحتلال مدينتي بصرة وكربلاء من ناحية، والوصول إلى مدينة بصرى في حوران، والكرك في الأردن من ناحية ثانية1.   1 ص: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 عبد الفتاح الغنيس قال في هذا الظلام الدامس والليل الحالك الذي أحاط بالأمة الإسلامية من جميع جوانبها، حيث ساد التفكك والانهيار وانتشرت الضلالة والبدع والخرافات وسادت الشعوذة وانحدر المسلمون في المتاهات، وبزغ على الأمة الإسلامية فجر يوم جديد يتمثل في ظهور دعوة الوحيد والعودة بالإسلام إلى نبعيه الخالدين لكي يستكمل التشييد الإسلامي وتنطلق الأمة الإسلامية في ركب الحضارة من جديد، وذلك لأنه في هذا الجو الذي تكاثفت فيه الظلمات ساد جو من التعصب وأغرق الناس في الجهل والإيمان بالخرافات واعتقاداً بالقبور وبالموتى ومزارات المشايخ والأولياء، وسيطرت على عقليات الناس بعض السخافات وظهر التخلف على كل شبر من الأرض الإسلامية. ومن قلب كل هذه الأمور والظلمات ولد محمد بن عبد الوهاب ... ثم قال تحت عنوان "أثر دعوة الشيخ": لقد كان لهذه الدعوة الإسلامية التصحيحية أثرها البعيد المدى والواسع النطاق في العالم الإسلامي حيث تركت دعوة التوحيد والإيمان التي ناصرها رجال الشيخ من الموحدين آثارها الطيبة على جميع أنحاء العالم الإسلامي فقد تركت أثرها في كل الحركات الإسلامية التي ظهرت على أثرها في شتى أنحاء العالم الإسلامي في المغرب والعراق وبلغت الشرق الأقصى في الفلبين والملايو وأندونيسيا والهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وهبي الزحيلي . قال هذا الدكتور وهو أستاذ الفقه الإسلامي بجامعة دمشق: جهر ابن عبد الوهاب بدعوته سنة 1143هـ/1730م، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فكانت دعوته الشعلة الأولى لليقظة الحديثة في العالم الإسلامي كله1 وقد وجد اهتمامه لمسألة التوحيد التي هي عماد الإسلام والتي دخلها الفساد لدى كثير من الناس، فالتوحيد أساسه ألا يعبد إلا الله وحده بجميع أنواع العبادة وهذا هو معنى لا إله إلا الله. فمعنى "لا إله إلا الله": أنه ليس في الوجود ذو سلطة حقيقية تسير العالم   1 الإعلام للزر كلي: 7/137، الإسلام في القرن العشرين للعقاد ص 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وفقاً لقوانينه التي وضعها إلا هو، ولا يستحق العبادة والتعظيم إلا هو 1 وكان توفيقاً إلهياً عجيباً لابن عبد الوهاب، وذلك التلازم بين الدعوة الجديدة وقيام الدولة السعودية، فقد ناصر وحماه وتبنى آراءه أمير الدرعية، محمد بن سعود سنة 1160هـ/1744م الذي استطاع إخضاع أكثر إمارات نجد لسلطته وأتم ابنه عبد العزيز والد سعود وفيصل توحيدها، وأقام الدولة السعودية في نجد والحجاز في النصف الثاني من القرن الثامن عشر2. وقد تم التعاهد بين ابن عبد الوهاب وابن سعود على النصرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصيغة كانت تستعمل بين عرب الجاهلية "الدم بالدم ... والهدم بالهدم ... " أي دمي دمك وهدمي هدمك. وكان من أهم مقومات نجاح ابن عبد الوهاب: أنه كان قوي التأثير في أصحابه جذاب الحديث، قادراً على إلهاب نار الحماسة في قلوب أعوانه، وعلى استثمار محبتهم العارمة للحرب في سبيل قضيته3. وقد أضاف لمبادئ ابن تيمية مجهوداً خاصاً، تجلى في تأكيده للحرب ضد البدع. وقد دعمه الزعيم محمد بن سعود، فقام بمغامرات حربية لإقامة السنة الصحيحة4 وإعادتها ولحرص ابن عبد الوهاب الشديد على مبدأ التوحيد وتطهير المجتمع الإسلامي من شائبة الشرك والبدع، سمي هو وأتباعه ب"الموحدين" أو "أهل التوحيد" "إخوان من أطاع الله" أو "أهل الفرقة الناجية" .... وسماهم خصومهم بالوهابية نسبة إليه 5، وشاعت التسمية الأخيرة بين الناس وبخاصة الأوربيين، وأخطأ بعضهم فجعل هذه الحركة الإصلاحية "مذهباً" جديداً في الإسلام تبعاً لما افتراه خصومهم، ولا سيما الترك والعثمانيون 6 ثم قال هذا الدكتور بعد كلام طويل تحت عنوان: أصالة المبادئ التي دعا إليها محمد بن   1 زعماء الإصلاح في العصر الحديث لأحمد أمين: ص 10 وما بعدها. 2 نظام الإسلام للدكتور وهبي الزحيلي: ص 491، الإسلام في القرن العشرين ص 5. 3 تاريخ الشعوب الإسلامية، بروكلمان: 4/30 4 العقيدة والشريعة، جولد تسهير: ص267. 5 بل نسبة لأبيه الشيخ اسمه محمد، واسم أبيه عبد الوهاب، وكل ذلك بقصد التضليل من هؤلاء الخصوم الضالين المضلين ..... 6 الأعلام للزركلي: 7/137، زعماء الإصلاح: ص10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وإسلاميتها: إن كل منصف مخلص، متجرد واع لمبادئ الإسلام وأحكامه، لا يجد فيما دعا إليه المصلح محمد بن عبد الوهاب الداعية الكبير أي انحراف أو مجافاة أو مصادمة لما جاء به الإسلام، وإنما دعوته تمثل مبادئ الشرع الأصلية وهي إسلامية روحاً ودماً، ونزعة، ومظهر، فهي ليست بدعاً في الإسلام، ومزيتها على حد تعبير الدكتور عبد الله بن تركي مدير جامعة محمد بن سعود الإسلامية 1 لا تتمثل في شيء جديد في مبادئها، وما دعت إليه، فإنها لم تأت بجديد، ولا جديد في الإسلام، فهو أحكام ووحي نزل من عند الله تبارك وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم ... ولم يبق بعد وفاته إمام إلا اقتفى أثره، واستمسك بالمحجة البيضاء التي ترك الأمة عليها. ويتضح ذلك فيما تتلخص به آراء ابن عبد الوهاب الأساسية2: 1- الرجوع بالإسلام إلى ما كان عليه في الصدر الأول. 2- تلخيص توحيد مما شابه من شرك. 3- إنكار التوسل الممنوع شرعاً بالأولياء والصالحين. 4- طرح البدع والخرافات. وكان من أبرز معطيات "الوهابية" في عملين كبيرين: أولهما: أنها فتحت باب الاجتهاد في الفروع بعد أن ظل مغلقاً منذ سقوط بغداد في سنة 656 هـ. ثانيهما: ضرورة القيام بواجب الجهاد وإحياء هذه الفريضة التي أصابها الوهن فكانت "الوهابية" ثورة عارمة على الاستبداد والضعف والانحلال الذي آل   1 من تقديم المؤلفات للشيخ محمد بن عبد الوهاب وملحق المصنفات ص 10. 2 حاضر العالم الإسلامي، للدكتور محمد زيادة ص 22 وما بعدها دائرة معارف وجدي: 10/869 وما بعدها، الاتجاهات الحديثة في الإسلام للمستشرق الانجليزي جيب: ص 57، 63 وما بعدها، ذيل الملل والنحل: ص 57، معالم الثقافة الإسلامية للدكتور عبد الكريم عثمان: ص 536-540 وانظر أيضاً الفرنسية مقال: مرجليوت في دائرة المعارف الإسلامية: 4/ 1411 النسخة الفرنسية، وكتاب الدكتور هنري لاووست "محاملة حول أفكار ابن تيمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ص 32-332، مقال رايح جمعة مجلة الفيصل عدد 15 ص 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 إليه العالم الإسلامي1. ولقد أعلن الإمام محمد بن عبد الوهاب مبادئه فقال2: اعلم أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة: الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ومنه الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن أو القباب. الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم الشفاعة، كفر إجماعاً. الثالث: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر إجماعاً. الرابع: ما اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه فهو كافر. الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به كفر إجماعاً، والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . السادس: من استهزأ بشيء من دين الله أو ثوابه أو عقابه كفر، والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . السابع: السحر ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} . الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . التاسع: من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباعه صلى الله عليه وسلم، وأنه يسعه الخروج عن شريعته، كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام، فهو كافر.   1 العالم الإسلامي والاستعمار الثقافي للأستاذ أنور الجندي ص: 70. 2 مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب القسم الخامس من الدرر السنية في الأجوبة النجدية ص: 212-214-385. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الغزالي خليل عيد وهو مدرس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، قال تحت عنوان: آثار دعوة الشيخ: وقد كان لدعوته المباركة آثاراً طيبة –وباقية إن شاء الله تعالى- في الأعمال الصالحة التي لا تنقطع بموت صاحبها ومن تلك الآثار: 1- تطهير العقيدة مما كان قد لوثها من الخرافات والانحرافات والوثنيات. 2- نشر السنة وقمع البدعة، والرجوع بالناس إلى الاقتداء بسيرة الرسول –صلى الله عليه وسلم -. 3- تطبيق الأحكام الشرعية وإقامة الحدود كما أمر الله وشرع. 4- وتبع ذلك استقرار الأمن والطمأنينة في البلاد حتى صارت مثلاً بين بلاد الدنيا كلّها. 5- قيام نظام الحسبة وإقامة جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراقبة الآداب والأسواق. 6- جمع الإمارات المتناثرة المنتازعة على كلمة سواء تحت حكم دولة إسلامية واحدة هي "الدولة السعودية" أيدها الله وأعزها بالإسلام، وأيد الله وأعز بها دين الإسلام، وحقق الله لها وبها وعده القائل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ1} . {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ   1 سورة الحج: 40-41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} من سورة النور:55. 1- انتشار الثقافة والتعليم بين الناس، حتى غدت البلاد بمعاهدها ومدارسها وجامعاتها منتجعاً لطلاب العلم والمعرفة من أنحاء الدنيا، كما جعل الله فيها بيته العتيق قبلة المسلمين: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} المائدة: من الآية 97. 2- إحياء التراث الإسلامي التليد، ودرس تاريخ السلف، ومؤلفاتهم الخ ... وجماع القول: لقد كانت دعوة الشيخ مفتاح خير وبشر وسعادة وعزّ لهذه البقاع ولكل بقعة من بقاع المسلمين اتجهت إليها، أو فتحت صدرها لاستقبالها وعقيدتي أن عز المسلمين وسؤددهم منوط برجعتهم إلى المنهج الذي صلحت به هذه الأمة في أول أمرها، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وخلاصة هذا المنهاج، وثمرته تشع من قول الله جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} آل عمران: من الآية110. وإلى ذلك المنهج كانت دعوة الشيخ اعتقادا وعملا، ولقد ظل جزاه الله خيراً مجاهداً في سبيل هذه الدعوة طول حياته، حتى لقي ربه سنة 1206هـ عن عمر يزيد على التسعين عاماً، بعد أن خلف وراءه بتوفيق الله علما نافعاً، وذرية صالحة "ولا أزكي على الله أحداً" وإحياء وسنة وقمع بدعة، ودلالة على خير أرجوا أن يكون له أجر ذلك وأجر من عمل به إلى يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 محمد عبده ناسر قال تحت عنوان "آثار الحركة السلفية": لقد كان لحركة محمد بن عبد الوهاب آثار عظيمة ورائعة داخلية وخارجية، فمن آثارها في الجزيرة العربية: 1- تصحيح فهم الإسلام، والعودة بالمسلمين إلى صفاء التوحيد ونقاء العقيدة. 2- القضاء على البدع والخرافات. 3- إقامة الحكومة السعودية في ظل الوضع السلفي، على أسس قوية من الشريعة الإسلامية. 4- انتشار الأمن في المملكة. خارجياً: 1- أحدثت دعوة الشيخ يقظة فكرية بين العلماء ظهرت على إثرها حركات إصلاحية كحركة المهدي والسنوسي، وذلك يظهر جلياً في كثير من دعوتهم وظهور دعوات للإسلام الصحيح، وكذلك بعض العلماء الذين ألفوا في العقيدة السلفية في مختلف البلدان. 2- يقظة بين الناس حتى بدأوا يطالبون بالحكم الإسلامي، والدعوة إلى الله ويتطلعون إلى قيام حكم إسلاميّ. الآثار الحاضرة: لا زالت آثار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى اليوم نلمسها ونراها في العلماء المجاهد ينفي أقطار شتى، ففي المملكة العربية السعودية منشأ الحركة نلمس ذلك في النشاط الذي يقوم به مجموعة من العلماء المجاهدين في إحياء دعوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 السلف الصالح دخلياً وخارجياً، ويمثل ذلك محمد بن إبراهيم آل الشيخ المفتي رحمه الله تعالى، والذي كانت مهمته عظيمة في نشر التوحيد وتوزيع الكتب الإسلامية وتشجيع طلبة العلم، والذي كانت وفاته خسارة كبيرة في تأريخ الدعوة في وقت مرت به هذه الدعوة صعوبات ومشاق، ومن آثارها العلامة المجاهد الشيخ عبد العزيز بن باز الذي حمل الراية عالية، وتمثل دوره في التالي: 1- الجامعة الإسلامية التي جمعت أبناء المسلمين من أنحاء العالم لتعليمهم العقيدة السليمة والتوحيد الخالص النقي، والشريعة الإسلامية، وإعدادهم ليكونوا أنصار كتاب الله وسنة رسوله، ويأخذوا الإسلام من ينابيعه الحقيقية ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، ويلمس الناس اليوم آثار هذه الجامعة في مختلف أنحاء العالم وخاصة في أفريقيا، وهي أمل كبير من آمال المسلمين، يتطلعون إليه. وعلى الرغم من كل الصعوبات التي تواجه هذه الجامعة إلا أنها سائرة في الطريق ويتمثل نشاطها فيما يلي: 1- إعداد الدعاة والعلماء والمرشدين وإرسالهم إلى بلادهم لينشروا الإسلام. 2- توجيه المسلمين بكافة الوسائل الممكنة إلى إحياء التراث الإسلامي وتوزيع كتب العقيدة الصحيحة على مختلف العالم الإسلامي، فهي منارة لكل الدعاة المخلصين في أنحاء العالم. 3- دعم العلماء والجمعيات الإسلامية في مختلف أنحاء العالم بكل إمكانية مستطاعة. 4- تبني القضايا الإسلامية للمسلمين والدفاع عن الإسلام من شبهات المحرفين. 5- جمع كلمة المسلمين وتوحيدهم على العقيدة الصحيحة. 6- الدفاع عن المسلمين والصمود أمام التيارات الملحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 1- الدفاع عن السنة ونشرها بين أهل العلم في الوقت الذي نرى تساهلاً كبيراً بهذا الأمر عند الكثير من أهل العلم. ب- وتتعاون مع الهيئات الإسلامية القائمة على دعوة السلف في نشر الدعوة إلى الله ويمثل ذلك التعاون الكبير بين الجامعة الإسلامية وإدارة البحوث والدعوة والإرشاد والإفتاء التي يقوم عليها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز والتي ترسل الدعاة إلى الله في أنحاء العالم الإسلامي، وتبني المدارس وتوزع الكتب الإسلامية، وكذلك هيئات الإشراف الديني، وما تقوم به هيئة كبار العلماء من دور كبير في الأمور الاجتهادية الشرعية، وكذلك الندوة العالمية للشباب الإسلاميّ التي تقو بجهود كبيرة في أوساط الشباب في العالم الإسلامي، بإشراف حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ، وغير ذلك من المجهودات. ونسأل الله لهذه الجهود أن تبقى، فهي تؤدي رسالة عظيمة، وكذلك لا تنسى دور التوحيد والمعاهد والكليات، وغير ذلك من نشاط العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 علي عبد الحليم محمود قال هذا الدكتور: الحديث عن المجددين لأمر هذا الدين، والتعريف بهم وبما جددوا مما يشوق كل مسلم، ممن يفهمون الإسلام فهماً حقيقياً، فيعرفون أنه أكمل دين وأتم منهاج، وأنه أرضى الأديان لله سبحانه، وأنه النعمة الحقيقية التي ينعم الله بها على من يشاء من عباده، هذا الحديث يسر المسلمين الذين يوقنون أن دين الإسلام هو طلب البشرية كلها من كافة أدوائها، وأن التماس الهدى من غيره ضلال وضياع، هؤلاء يسرهم -ما في ذلك شك- بالحديث عن المجددين المصلحين من أعلام هذا الدين، ونأمل أن نسرهم بالحديث عن واحد من هؤلاء الأعلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الذين وهبوا حياتهم للعمل من أجل الإسلام، ذلك هو الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب محيي السنة وقامع البدعة، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر المجاهد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا. شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- داعية إسلامي مصلح مجدد في القرن الثاني عشر الهجري، ذلك القرن الذي كانت تسيطر فيه على المسلمين أسباب الضعف السياسي، وأنواع الضلال الفكري، وصنوف الانحراف عن جادة الحق جادة الإسلام، القرن الذي أوشك بعض المسلمين فيه أن يعودوا إلى عبادة الصالحين والأوثان. استطاع الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- بتوفيق من الله أن يعرف دينه حق المعرفة وأن يدرك مقاصده وأهدافه، وأن يجند نفسه للعمل إلى الوصول لتلك المقاصد والأهداف. استطاع الشيخ الإمام أن يزيل عن قلوب كثير من المسلمين ما علق عليها من صدأ، وأن يقشع عن عيونهم ما ضللها من غيوم وسحب وذلك عندما أخذ على عاتقه أن يشرح للناس عقيدة الإسلام وأن ينقيها من الشوائب التي أدخلها عليها أهل الباطل والضلال والزيغ والهوى. كما استطاع الشيخ الإمام –رحمه الله- أن يكون رائداً في النداء على المسلمين عموماً بأن دين الإسلام عقيدة وشريعة، وأنه دين ودولة، وأنه منهج متكامل للحياة الإنسانية في كافة أزمنتها وأمكنتها. هذه الكلمات التي أطلقها الشيخ وجاهد في سبيلها هي نفس الشعارات التي أصبح يرددها المسلمون العاملون المخلصون لدينهم بعد الشيخ بسنوات في العالم العربي وفي غيره من البقاع الإسلامية. لقد عاش الشيخ حياته كلها يشرح عقيدة الإسلام ويجلي ما فيها من عظمة وتكامل ويدعوا الناس إلى اعتناقها وترك الترهات والأباطيل، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، مجاهداً في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 لقد أوقف الشيخ نفسه وجهده وماله على تحقيق هذه الغاية، ولقي في سبيلها ما يلقاه المؤمنون المحتسبون الصادقون، فصبر وصابر، ولم يثنه إيذاء عن الجهر بكلمة الحق، ولم تعقه هزيمة مني بها عن المضي في طريق الحق، وتجميع المؤمنين من حوله. هكذا كان الداعية المصلح محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 محمد سلام مدكور قال تحت عنوان: "مكونات فكر الإمام محمد بن عبد الوهاب": سمع الشيخ الحديث والفقه ودرس النحو على جماعة بالبصرة، وقد رأى أثناء إقامته بالحجاز ورحلاته إلى كثير من بلاد العالم الإسلاميّ أن التوحيد الذي هو مزية الإسلام الكبرى قد ضاع ودخله كثير من الفساد، فالتوحيد أساسه إلا يعبد إلا الله كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وهذا هو التوحيد الذي دعا إليه الشيخ وغيره من المصلحين. من أجل هذا سمى نفسه هو وأتباعه بالموحدين، أما اسم الوهابية فهو اسم أطلقه عليهم خصومهم، واستعمله الأوروبيون، ثم جرى على الألسن، وقد كتب قول: إنا معشر الموحدين لما من الله علينا بدخول مكة نصف النهار يوم السبت الثامن من شهر محرم سنة 1218هـ بعد أن طلب أشراف مكة وعلماؤهم من الأمير سعود –رحمه الله- الأمان، لما تمت لنا العمرة جمعنا الناس ضحوة الأحد، وبينا لهم أن هدفنا إخلاص التوحيد لله وحده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فوافقونا على ذلك وبايعوا الأمير على كتاب الله وسنة رسوله 1. كما رأى تعلق العوام بأضرحة الأولياء واستغاثتهم بها، فوجد أن ذلك انحراف عن عقيدة الإسلام التي هي في جوهرها إخلاص العبادة لله وحده، والمسلمون ما أمروا {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ2}   1 روضة الأفكار والأفهام للشيخ حسن بن غنام الأحسائي/416 2 البينة: من الآية5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وقد كتب يقول: إن محبة ألأولياء والصالحين إنما هي اتباع هديهم وآثارهم والاستنارة بضياء نورهم لا صرف الحقوق الربانية إلى الأجسام الفانية. ومن هنا نرى أنه كان يعتبر الذي يتخذ وسيطاً بينه وبين الله كافراً. وأن دعاء الأنبياء والأولياء أو غيرهم والتوجه إليهم لقضاء الحاجات وتفريج الكروب إنما هو من أعظم الشرور التي كانت من صفات المشركين الذين اتخذوا أولياء وشفعاء يجلبون بهم المنافع ويدفعون عنهم الأضرار بزعمهم فقال –رحمه الله-: وكان الناس من مشركي البصرة يأتون إليّ بشبهات يلقونها عليّ فأقول: لا تصلح العبادات كلها إلا لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 عبد الله عبد الماجد إبراهيم قال الدكتور عبد الله عبد الماجد إبراهيم الأستاذ المساعد في كلية الشريعة في الرياض: هذا هو منهج دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، منهج سليم ودعوة سليمة، منطلقها كتاب الله، وأسلوبها أسلوب دعوة الرسل إلى الله، وغايتها إخلاص العبودية لله رب العالمين، فالدعوة في جوهرها ومضمونها جملة وتفصيلاً دعوة الإسلام أسلوباً ومنهجاً وشعاراً. {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . ومن هنا فلا عجب أن يكون التوفيق حليفها، والأمن شعارها والرخاء دثارها، وسعادة المواطن بعض أثارها، وإذا صاحب بزوغ دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب إشاعة الشكوك وإثارة الشبه لسبب الدفاع عن المطامع والمكاسب، وحماية المنافع والمصالح، فإنّ هذه الشكوك وتلك الشبه هي التي أرست قواعد تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 التصورات الخاطئة وقعدت لتلك الأباطيل الكاذبة، ومهدت لحملات قمع الدعوة الحربية، والإعلامية، والدعائية.. {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} ، {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} فيأذن لفجر الصدق أن يسطع، ولنور الإخلاص أن يشع ... ليظهر للعالمين صدق الدعوة، وإخلاص الداعي.. فيشيد بالإمام وبدعوته الأعداء قبل الأصدقاء. الأعداء من مستشرقين ومستغربين. والأصدقاء من مصريين وسوريين وعراقيين وغيرهم. وها قد وقفت على شهاداتهم وتزكياتهم بأم عينيك نقلناها كما هي وكما كتبت، دون تعليق منا ببنت شفة حتى لا نتهم بالتحيز العاطفي أو الانسياق مع التيار ومواكبة الظرف، وإني إذ أشكر جامعة أم درمان الإسلامية بتأكيدها لي ضرورة المشاركة في أسبوع هذا الإمام المجاهد الكبير.. إمام الدعوة ورائد الدعاة في العصر الحديث الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ودفعاً لراية التعاون مع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في طريق الدعوة إلى الله، لتأخذ مسارها الصحيح في ضوء منهاجها السليم، وأسلوبها الواضح إلى افريقية والله أسأل أن يتقبل عملنا هذا الذي كان قصدنا منه القيام بواجب معرفة الفضل العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 مناع دخيل القطان قال هذا الشيخ الفاضل: استقل كل أمير في نجد بإماراته، وبلغ الأمر ذروته في القرن الثاني عشر الهجري حيث تعددت الإمارات، فكانت الإمارة في العيينة لآل معمر، وفي الدرعية لآل سعود، وفي الرياض لآل دواس، وفي الأحساء لبني خالد، وفي نجران لآل هزال، وفي حائل لآل عليّ، وفي القصيم لآل حجيلان، إلى غير ذلك من الإمارات. وبين هذه الإمارات المتعددة من الشحناء والبغضاء والتناحر والتنافر ما يحول دون استقرار البلاد والشعور بالأمن والانصراف للكسب والمعيشة. ولم تكن الحالة الدينية في نجد أحسن من تلك الحالة السياسية فإن انقطاع الصلة بينها وبين الخلافة والدولة وما نجم عن ذلك من استقلال إماراتها وانقسام قبائلها جعل حياتها الدينية مضطربة منحرفة، وعرض العقيدة الإسلامية في نفوس أبنائها إلى شوائب البدع والخرافات، حتى كثر الشرك بالله، وشاعت الاعتقادات الجاهلية، واشتدت الحالة في القرن الثاني عشر الهجري، واعتقد الناس في الجن والأحجار والأشجار والقبور، ولم يكن هناك من العلماء من يقوم بواجب الدعوة إلى الله وتبصير الناس بما هم عليه من الشرك والخرافات والأباطيل حيث غلب الهوى واستحوذ على العقول الضلال، واستسلم أمام موجة الجهل عامة الناس وخاصتهم ما بين مخدوع ومستضعف مسكين. وحين تعظم الطاقة وتدلهم الخطوب تسأم النفوس الحياة وتمل الفساد والجور وتتطلع إلى ساعة الخلاص التي تنقذها من براثن الشرك وتنشلها من حمأة الرذيلة وتأخذ بيدها إلى صراط مستقيم وترفع عن كاهلها أوزار الجهالة، وتحطم قيود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 العبودية وأغلال الاستبداد، وبين تلك الحياة القائمة التي كانت تعيشها نجد سياسياً ودينياً، ومض في ألأفق بريق في الأمل، وأراد الله تعالى أن يزيح الغمة ويعيد للأمة صفاء عقيدتها، ويخلصها من أوضار الشرك والجهالة، ويبدد غيوم اليأس والقنوط فارتفع صوت يردد كلمة التوحيد التي بعث بها الرسل "لا إله إلا الله" بروح الإيمان الصادق، ويحيي في النفوس العقيدة الخالصة، ويمسح عنها أدران الوثنية والجاهلية، ويدعوها إلى نبذ البدع والخرافات ويستقي لها من نبع الإسلام الصافي ومورده العذب في القرآن والسنة، وما كان عليه سلف هذه الأمة، كان هذا الصواب صوت الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي الذي تجاوبت أصداؤه في ربوع نجد، وفي جزيرة العرب وفي ديار الإسلام كافة، ووجد ما يدعمه من قوة السلطان في الأمير محمد بن سعود، فكان ذلك إيذاناً بفجر جديد ينشر ضوءه في جوانب العالم الإسلاميّ، إعلاء لكلمة الله وتمكيناً لشريعة الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 محمد فتحي عثمان قال هذا الدكتور1: إن النقول التي ينقلها الشيخ محمد بن عبد الوهاب تدل على علم وفطنة، وهي قوية في دلالتها وحجتها، على ما يريد ذكره وبيانه ... فهو يقع على ما ينطق بفكره، ويبدوا وكأن حججه وبراهينه بين أطراف أناله يديرها كيف يشاء ... وعمدته وذخيرته الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، استوعبتها ذاكرته وبلغت أعماق قلبه، فهو يقتبس منها ما يلائم المقام ويقع على القضية المعروضة وقوع الحافر على الحافر ... وأحياناً تأتي رسالته مقصورة على سرد آيات القرآن وأحاديث الرسول صلوات الله عليه مع إيضاح أو تعليق. كلماه معدودة محكمة2.   1 المدرس في كلية العلوم الاجتماعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 2 انظر في "كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 والشيخ في نقوله كان يختار ما يعين على صياغة "الموقف الإيجابي" الذي يريده كل من يؤمن بالدعوة السلفية.. فليس في قضية الإيمان والكفر مجال لمواربة أو مداهنة أو سلبية ... والباطل يصر ويتجمع وينتفخ ويستعلي، فهل يمكن أن يجابه ويغالب بالتردد والتفرق والاستخذاء!؟.. أليس التوكل على الله والاعتزاز به والرجاء فيه والخوف منه وإفراده سبحانه بذلك هي حقيقة الإيمان والتوحيد، أليس الاجتماع على الحق والجهاد في سبيله من فرائض هذا الدين؟؟.. يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في "ثلاثة الأصول": اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل: الأولى: العلم –وهو معرفة الله ونبيه ودين الإسلام بالأدلة. الثانية: العمل به. الثالثة: الدعوة إليه. الرابعة: الصبر على الأذى فيه. والدليل قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ، قال الشافعي رحمه الله تعالى: لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم. متبع غير مبتدع: وإذا كان محمد بن عبد الوهاب متميزاً في "حركته" التي كانت "نهجه" في العمل للدعوة السلفية، فإنه في "موضوع" هذه الدعوة سلفي متبع غير مبتدع، لا يفتأ يلح على ما بينه متبعو السلف الصالح جيلاً بعد جيل، ويقتفي أثر السابقين بإحسان في معالجة قضايا الصفات وتوحيد الألوهية والربوبية وعبادة الله وحده وفق ما جاء به رسوله صلوات الله عليه وسلم وإنكار البدع وما إلى ذلك. وكتاباته من هذه الوجهة إنما تؤكد ما سبق أن قرره الطحاوي وشارح "الطحاوية" من بعده، ثم ابن تيمية وابن القيم وغيرهم رحمهم الله وأجزل مثوبتهم ... والشيخ ابن عبد الوهاب يؤكد هذا في صراحة قاطعة ودون أية مواربة، لأن اعتقاد السلف مأخوذ عن السلف من صحابة وتابعين وتابعيهم بإحسان رضي الله عنهم، وأساس فهمهم جميعاً الكتاب والسنة، فالداعون إلى عقيدة السلف هم دائماً متبعون لا مبتدعون، بل هم لا ينفكون عن الإنكار على كل ابتداع في هذا المجال ... يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته إلى السويدي عالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 أهل العراق "عبد الرحمن بن عبد الله": وأخبرك أني ولله الحمد متبع ولست بمبتدع، وعقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة. لكني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذور والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق لله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل وه والذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة1 ... ويقول في رسالته إلى علماء مكة بشأن هدم الأبنية التي بنيت على قبور الصالحين: فنحن ولله الحمد متبعون غير مبتدعين على مذهب الإمام أحمد بن حنبل.. ومن البهتان الذي أشاعه الأعداء أني أدعي الاجتهاد ولا أتبع الأئمة وتعلمون أعزكم الله أنه في كثير من البلدان العمل بهاتين المسألتين –هدم القبور والأمر بترك دعوة الصالحين مما يكبر على العامة .....   1 القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب نشر جامعة محمد بن سعود الإسلامية –تحقيق صالح الفوزان ومحمد بن صالح ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 محمد ناصر الدين الألباني قال هذا المحدث الكبير رداً على المحتجين بالحديث التالي على ذم الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ثم أقبل على القوم فقال: "اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في مدنا وصاعنا اللهم بارك لنا في حرمنا، وبارك لنا في شامنا" فقال رجل: وفي العراق؟ فسكت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ثم أعاد. قال الرجل: وفي عراقنا. فسكت. ثم قال: "اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في مدنا وصاعنا، اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم اجعل مع البركة بركة والذي نفسي بيده ما من المدينة من شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها .... " وذكر الحديث1. قلت: حديث صحيح، وإن كنت لم أقف عليه بهذا التمام فيما عندي من كتب السنة، وإنما وقفت عليه مفرقاًُ من حديث ابن عمر دون قوله في آخره "اللهم اجعل مع البركة بركة ... " فإنما هو من حديث أبي سعيد الخدري في حديث له أخرجه مسلم "4: 117" لكنه قال: "بركتين". وأما حديث ابن عمر فأخرجه أبو نعيم "6: 133" وابن عساكر إلى قوله "وفي العراق" وزاد: فاعرض عنه فقال: "فيها الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان". وإسناده صحيح. ورواه الطبراني في الكبير من طريق أخرى عن ابن عمر وسنده صحيح أيضاً. وقد أورده في المجمع "3: 305" وقال: "رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات". وأخرجه أحمد "2: 143" ومختصراً بلفظ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشير بيده يؤم العراق ها إن الفتنة هاهنا، ثلاث مرات من حين يطلع قرن الشيطان. وإسناده صحيح على شرط مسلم وقد أخرجه في صحيحه "8: 181" نحوه. وفي رواية له من وجه آخر عن سالم بن عبد الله قال: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم الكبيرة؟! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: فذكره. وأخرجه البخاري ومسلم أيضاً من وجه آخر عن سالم به مرفوعاً وأخرجه البخاري "13: 38 – بشرح العسقلاني"، وأحمد "2: 118"، وابن عساكر من طريق نافع عن ابن عمر موقوفاً "اللهم بارك لنا في شامنا اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: وفي نجدنا؟ قال: هناك الزلازل" الحديث. وأخرجه الترمذي وصححه وعزاه المنذري في "الترغيب" "4: 61" للترمذي وحده، فوهم. وله عند أحمد "2: 126" طريق أخرى عن   1 زاد ابن عساكر "قال رجل والعراق يا رسول الله؟ قال من ثم يطلع قرن الشيطان وتهيج الفتن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ابن عمر ولحديثه الأول عند أبي نعيم شاهد من حديث ابن عباس ساق لفظه الهيثمي وقال: "رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات" وروى بعضه الخطيب في تاريخه"1: 24 و 25". ومن طريقه ابن عساكر من حديث معاذ بن جبل. فيستفاد من مجموع طرق الحديث أن المراد من "نجد" في رواية البخاري ليس هو الإقليم المعروف اليوم بهذا الاسم، وإنما هو العراق وبذلك فسره الإمام الخطابي والحافظ ابن حجر العسقلاني، وتجد كلامهما في ذلك في "شرح كتاب الفتن الكبر" من صحيح البخاري للحافظ. وقد تحقق ما أبنأ به عليه السلام فإن كثيراً من الفتن الكبرى كان مصدرها العراق، كالقتال بين سيدنا علي ومعاوية، وبين علي والخوارج، وبين علي وعائشة، وغيرها مما هو مذكور في كتب التاريخ، فالحديث من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم وأعلام نبوته1. ومن ذلك تعلم أن الأستاذ صلاح الدين المنجد أخطأ في حشر هذا الحديث في الأحاديث الموضوعة في المقدمة.   1 ومما سبق ندرك مبلغ الحقد الدفين والبغض الحقير والافتراء الأثيم الذي يكنه جماعة السوء لهذا الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وأجزل ثوابه الذي أخرج الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد الخالص، وقد اعتبروا ذلك من الفتن، ونسجوا حوله الأكاذيب والإشاعات المغرضة، ليصرفوا الناس عن هذه الدعوة. "وفي كلام بعض العلماء ما يبين حال كثير من هذه الأمة قبل الدعوة من الشرك القبيح، فمن ذلك قول عالم صنعاء الأمير محمد بن إسماعيل رحمه الله تعالى عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب جزاه سبحانه عن المسلمين خير الجزاء: وقد جاءت الأخبار عنه بأنّه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهراً ما طوى كلّ جاهل ... ومبتدع منه، فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادماً ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا بها معنى سواع مثله ... يغوث وود، بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهراً على عمد وكم طائف حول القبور مقبّلٌ ... ومستلم الأركان منهن باليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 حسين بن محمد بن عبد الوهاب زعم بعض الخرافيين والمبتدعين أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وأجزل ثوابه، يفتري على الغزالي وابن الفارض وأمثالهما، وهمم ممن يعتقدون فيهم الولاية، فما كان من حسين إلا المسارعة لتبرئة أبيه من القول فيما ليس له به علم فذكر السؤال الذي تقدم به المعترضون مع جواب الشيخ، وكل ذلك مقرون بالأدلة والأدب الرفيع. وفيما يلي نذكر هذا الحوار، قال هؤلاء المعترضون: أن الإمام الغزالي من أئمة السنة ومن أكابر المصنفين، وصنف "إحياء علوم الدين" فهل تنقمون على هذا الكتاب شيئا مخالفاً لما جاء به الكتاب؟ فأجاب والدنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب أجزل الله ثوابه: " أبو حامد رحمه الله تعالى كما قال فيه بعض أئمة الإسلام: نجده مع ماله من العلم والفقه ... وغير ذلك يذكر في كتاب الأربعين ونحوه ككتاب "المظنون به على غير أهله" فإذا طالعت هذا الكتاب وجدته: قول الصابئة المتفلسفة بعينه، وقد غيرت عباراته إلى أن قال، فإن أبا حامد: كثيراً ما يحيل على ذلك النور الإلهي وعلى ما يعتقد أنه يوجد للصوفية والعباد برياضتهم وديانتهم من إدراك الحقائق وكشفها لهم حتى يزنوا بذلك ما ورد به الشرع، وسبب ذلك أنه قد علم بذكائه وصدق طلبه ما في طريقة المتكلمين والمتفلسفة من الاضطراب –إلى أن قال- ولهذا كان كثير الذم لهذه الحوائل، وإنما ذلك لعلمه الذي سلكه والذي حجب به عن حقيقة المتابعة للرسالة، وليس هو بعلم، قال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق، ولهذا صار طائفة ممن يرى فضيلته وديانته يدفعون وجود هذه الكتب عنه، وأما أهل الخبرة به وبحاله فيعلمون أن هذا كله كلامه لعلمهم بمراد كلامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ومشابهة بعضه بعضاً، ولكن كان هو وأمثاله كما قدمت، مضطربين لا يثبتون على قول ثابت، لأنه ليس عندهم من الذكاء والطلب ما يتعرفون به إلى طريق خاصة هذه الأمة من الذين ورثوا من الرسول العلم والإيمان، وهم أهل حقائق الإيمان والقرآن وهم أهل الفهم لكتاب الله والفهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا كان أبو عمرو "ابن الصلاح" يقول فيما رأيت بخطه: أبو حامد كثر القول فيه، فأما هذه الكتب-يعني المخالفة للحق- فلا يلتفت إليها، وأما الرجل فيسكت عنه ويفوض أمره إلى الله، ومقصوده أنه لا يذكر بسوء، لأن عفو الله من الناسي والمخطئ وتوبة المذنب تأتي على كل ذنب ولأن مغفرة الله بالحساب منه ومن غيره وتكفيره الذنوب بالمصائب تأتي على محق الذنوب، فلا يقدم الإنسان على انتفاء ذلك في حق معين إلا ببصيرة ولا سيما مع كثرة الإحسان والعلم الصحيح، والعمل الصالح والقصد الحسن، وهو رحمه الله يميل إلى الفلسفة لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية، ولهذا رد عليه علماء المسلمين حتى أخص أصحابه أبو بكر بن العربي المالكي قال فيه: أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منه فما قدر، ورد عليه أبو عبد الله المازري وأبو بكر الطرطوشي وأبو الحسن "المرغيناني" رفيقه، والشيخ أبو البيان، والشيخ أبو عمرو بن الصلاح وحذر من كلامه في ذلك، وأبو زكريا "النواوي" وابن عقيل، وابن الجوزي، وأبو محمد المقدسي، وغيرهم. وأما كتابه الإحياء فمنه ما هو مردود عليه، ومنه ما هو مقبول، ومنه ما هو متنازع فيه، وفيه فوائد كثيرة ولكن فيه موارد مذمومة، فإن فيه موارد فاسدة من كلام الفلاسفة، تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد،، فإذا ذكرت معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوا للمسلمين فألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه، وقالوا أمرضه الشفاء1، وفيه أحاديث وآثار موضوعة وفيه أشياء من أغاليط الصوفية، وفيه أشياء من كلام العارفين المستقيمين، وفيه من أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ما هو أكثر مما يرد منه، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس2- انتهى ملخصاً-   1 كتاب لابن سينا. 2 راجع كتابي "حجة الإسلام في قفص الاتهام". ومن الواجب بيان أخطاء الغزالي حتى تجتنب، وحسابه على ربه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وفيما ذكرناه يتبين لك حال هذا الرجل، وحال كتابه، في إحياء علوم الدين وهذا غاية ما نعتقده فيه، لا نرفعه فوق منزلته فعل الغالين، ولا نضعه من درجته كما وضعه بعض المقصرين فإن من الناس من يغلوا فيه، وفي كلامه الغلو العظيم ومنهم من يذمه، فيهدر محاسنه ويرى تحريق كتابه، وسمعنا أن منهم من يقول ليس هذا إحياء علوم الدين، بل إماتة علوم الدين، والصراط المستقيم حسنة بين سيئتين، وهدي بين ضلالتين1. وورد على الإمام محمد بن عبد الوهاب سؤال هذا نصه: بلغنا أنكم تكفرون أناساً من العلماء المتقدمين، مثل ابن الفارض وغيره، وهو مشهور بالعلم من أهل السنة. فأجاب: أما ما ذكرت أنا نكفر ناساً من المتقدمين وغيرهم فهذا من البهتان الذي أشاعه عنا أعداؤنا ليجتالوا به على الناس عن الصراط المستقيم، كما نسبوا إلينا غير ذلك من البهتان أشياء كثيرة، وجوابنا عنها أن نقول: "سبحانك هذا بهتان عظيم" ونحن لا نكفر إلا رجلاً عرف الحق وأنكره بعد ما قامت عليه الحجة، ودعي إليه فلم يقبل وتمرد وعاند، وما ذكر عنا من أنا نكفر غير من هذا حاله فهو كذب علينا وأما "ابن الفارض" وأمثاله من الاتحادية فليسوا من أهل السنة بل لهم مقالات شنع بها عليهم أهل السنة، وذكروا أن هذه الأقوال المنسوبة إليهم كفريات منها قول ابن الفارض في التائية شعراً: وإن خرّ للأصنام في البيت عاكف ... فلا تعني بالإنكار للعصبية وإن عبد النار المجوس فما انطفت ... كما جاء بالأخبار من ألف حجة فما عبدوا غيري وما كان قصدهم ... سواي وإن لم يضمروا عقد نيّة فمن أهل العلم من أساء به الظن بهذه الألفاظ وأمثالها، ومنهم من تأول ألفاظه وحملها على غير ظاهرها وأحسن فيه الظن، ومن أهل العلم والدين من أجرى   1 وهذا ما صنعته، فقد لخصت "الإحياء" فأبقيت ما فيه من الخير ومن أحاديث صحيحة وحذفت غير ذلك، ولعلي أول من صنع هذا الصنيع، وقد وجدت جميع من لخصوا هذا الكتاب كالإمام ابن الجوزي والمقدسي وجمال الدين القاسمي أبقوا فيه بعض الأحاديث الضعيفة والآراء الصوفية الخرافية ولله الحمد والمنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ما صدر منه على ظاهره وقال: هذه الأشعار ونحوها تتضمن مذهب أهل الاتحاد من القائلين بوحدة الوجود والحلول كقصيدته المسماة "نظم السلوك" ومثل كثير من شعر ابن إسرائيل وابن عربي وابن سبعين، والتلمساني وما يوافقهما من النثر الموافق لمعناها فهذه الأشعار من فهمها علم أنه كفر وإلحاد، وأنها مناقضة للعقل والدين ومن لم يفهمها وعظم أهلها كان بمنزلة من سمع كلاماً لا يفهمه وعظمه، وكان ذلك من دين اليهود والنصارى والمشركين، وإن أراد أن يحرفها ويبدل مقصودهم بها كان من الكاذبين البهاتين المحرفين لكلم هؤلاء عن مواضعه، فلا يعظم هؤلاء وكلامهم إلا أحد رجلين: جاهل ضال، أو زنديق منافق، وإلا فمن كان مؤمناً بالله ورسوله، عالما بمعاني كلامهم لا يقع منه إلا بغض هذا الكلام وإنكاره، والتحذير منه، وهذا كقول ابن الفارض يشير إلى الحضرة الإلهية وإلى نظرية الاتحاد ووحدة الوجود الكافرة: لها صلاتي في المقام أقيمها ... واشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت إلي رسولاً كنت مني مرسلا ... وذاتي بآياتي عليّ استدلت وقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي فرقها عن فرقة الفرق رفعة فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادي أجابت من دعاني ولبت وإن نال بالتنزيل محراب مسجد ... فما نال بالإنجيل هيكل بعثة1 وإن خر للأصنام الخ البيت السابق، وذكر أبياتاً لابن إسرائيل وغيره، ثم قال: وحقيقة قول هؤلاء أنهم قالوا في مجموع الوجود أعظم مما قالته النصارى في المسيح، فإن النصارى ادعوا أن اللاهوت الذي هو الله اتحد مع الناسوت وهو ناسوت المسيح أو حل فيه مع كفرهم الذي أخبر الله به، كما قال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} فهم مع هذا الكفر يقرون بأن الله خلق   1 من أبيات هذه القصيدة يشير إلى أن من عشق ليلى ولبنى وعزة من الفساق فقد عشق في الحقيقة الحضرة الإلهية والعياذ بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 السموت والأرض، وانه مغاير للسموت والأرض ويقولون: إنه قد حل في المسيح واتحد به، وهؤلاء يقولون بالحلول والاتحاد مع جميع العالم ولا يقرون أن للعالم صانعاً مبايناً له بل يقولون: وجود المخلوق هو وجود الخالق. ويقولون في جميع المخلوقات نظير قول النصارى في المسيح، لكن النصارى يثبتون خالقاً كان مبايناً للمسيح، وهؤلاء لا يثبتون خالقاً مبايناً للمخلوقات، فقولهم أعظم حلولاً واتحاداً، وأكبر فساداً وإلحاداً من قول النصارى انتهى. فتأمل كونه رحمه الله أطلق على هذا القول أنه كفر ولم يتعرض لتكفير قائله فافهم الفرق لأن إطلاق الكفر على المعين الذي لم يقم عليه الحجة لا يجوز، أظن هذا الإمام الذي قال فيهم هذا الكلام رحمه الله ظن أن الحجة لم تقم على قائل الكلام، وأن ابن الفارض وأمثاله لجهالتهم لا يعلمون ما في كلامهم ومذهبهم من الكفر ومن أحسن فيهم الظن من العلماء كما قدمنا حمل كلامهم على محامل غير هذه وأولها تأويلاً حسناً على غير ظاهرها1. الدرر السنية ج 2 و 3 ص 189-191.   1 مع العلم أنه لا مجال لتأويل كلام ابن الفارض وأمثاله فإن فيه الكفر الصريح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب وورد كذلك اعتراض بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يتعرض للشاعر البوصيري في قصيدته "البردة" وهي ما يتبرك بها أكثر الشيوخ ويتناشدون أبياتها في دروسهم. فأجاب عبد الله: رد والدي الإمام محمد بن عبد الوهاب على هذا الاعتراض بقوله: في الحديث لما أنزل الله على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: {قُمْ فَأَنْذِرْ} "المدثر:2" صعد الصفا فنادى: "واصباحاه! " فلما اجتمع إليه قريش قال لهم ما قال. فقال له عمه: "تبا لك! ما جمعتنا إلا لهاذ؟! " فأنزل الله فيه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يا عباس! عم رسول الله، ويا صفية عمة رسول الله! اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت. لا أغني عنك من الله شيئا". وبعد ما ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب ما تقدم من الحديث السابق وفيه إنكار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الرسول صلى الله عليه وسلم للتوسل بذاته حتى أقرب الناس إليه، وقال: أين هذا من قول صاحب البردة: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حدوث الحادث العمم ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذا الكريم تجلى باسم منتقم1   1 المرجع السابق ص 45 وقال حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في كتابه "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد"، بشيء من التلخيص: وقد اشتهر في نظم البوصيري قوله: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حدوث الحادث العمم وما بعده من الأبيات التي مضمونها: إخلاص الدعاء واللياذ والرجاء والاعتماد في ضيق الحالات وأعظم الاضطرار لغير الله، فناقضوا الرسول صلى الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقضة وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم في قالب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وأظهر التوحيد والإخلاص الذي بعثه الله في قالب تنقيص، وهؤلاء المشركون هم المنتقصون الناقصون أفرطوا في تعظيمه بما نهاهم عنه أشد النهي، وفرطوا في متابعته فلم يعبؤوا بأقواله وأفعاله ولا رضوا بحكمه ولا سلموا له. وإنما يحصل تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بتعظيم أمره ونهيه والاهتداء بهديه ومتابعة سنته ... فالله المستعان وفي الحديث الصحيح: "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قلبكم الغلو! " ونذكر فيما يلي بعض أبيات هذه البردة التي يلام السلفيون من قبل الخراقيين في نقدهم لها والتحذير منها وفيها الكثير من الشرك الصريح: ما سامني الدهر ضيما واستجرت به ... إلا ونلت جواراً منه لم يضم ولا التمست غنى الداريت من يده ... إلا استلمت الندى من خير مستلم ومن يكن برسول الله نصرته ... إن تلقه الأسد من آجامها تجم يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حدوث الحادث العمم فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم لو ناسبت قدره آياته عظما ... أحى اسمه حين يدعى دارس الرمم وكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم ومن تأمل البيت قبل الأخير، علم أن البوصيري يصرح بأن الآيات التي أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ومنها القرآن العظيم لا تناسب قدره، فإن اسمه يحي الموتى، وما أكذب هذا الشاعر في البيت الأخير، المخالف لقوله تعالى يخاطب الرسول ويدعوه للاقتداء بالرسل قبله –لا العكس ما يقول البوصيري-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} "الأنعام: من الآية90"، وهذا الشاعر يزعم أن علم الغيب من بعض علوم الرسول، وكل ذلك مخالف للقرآن والحديث!!.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 محمد يوسف قال1: ما من دعوة أو حركة قامت لاستعادة مجد الإسلام وعزة المسلمين إلا وتحرك عالم الكفر والاستعمار لمحاربتها والانتقاص من قدرها أو تحطيم قوتها والتقليل من نفوذها بين المسلمين على الأقل، بإحداث العقبات والعراقيل في سبيلها تارة، وإثارة الشبهات وغرس بذور الشكوك حولها تارة أخرى. وأكبر مأساة تنشق لها الأكباد وتنفطر لها القلوب هي أن المسلمين في كل عصر ومصر وقعوا فريسة لتلك الشبهات التي أعدت حبالها المكيدة والخديعة ومطامع الطامعين الشرسة، فقاموا في وجه الدعوة الإسلامية الخالصة ولفقوا عنها وعن صاحبها إشاعات مضللة وأكاذيب باطلة. لكن العجب كل العجب أن يغتر المسلمون بأكاذيب وأباطيل أشيعت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوة الشيخ الشهيد الشاه إسماعيل الدهلوي رحمهما الله، فإنّ دعوة الشيخ محمد الإصلاحية إنما هي دعوة امتازت من بين الدعوات الإصلاحية الإسلامية الأخرى، بنجاح كامل شامل في مراميها حيث حاربت المعتدين على الشريعة الإسلامية وأحكامها في نجد، وهذه هي مبراة عظيمة لا تدع مجالاً للشكّ في أن دعوته كانت دعوة حق وهداية وإيمان وإسلام، يجب على كل مسلم قبولها والذود عنها فضلاً عن أن يحبها ويحسن الظن بها وبصاحبها. كيف يمكن لأحد من المسلمين أن يعتقد سوءاً في مجاهد جاهد جهاداً مضنياً لإحياء الدين، وأعاد إلى الإسلام مجده السياسي وعلوه القيادي، وأقام بالفعل   1 أمير الجماعة الإسلامية بالهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 دولة شرعية، وهي التي يتمنى لها كل مسلم غيور على دينه كل خير ونجاح ويحن إليها كل مؤمن حينما يتغلغل الإيمان في قرارة نفسه. لكن المعترضين الحاقدين على الإسلام والمسلمين وأرباب الأغراض الدولية والشخصية من المسلمين وغير المسلمين هاجوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعرضوها إلى المسلمين بصورة مشوهة كأنها مذهب جديد مخالف لما عليه الأمة الإسلامية وهي لا تمت بأي صلة إلى الدين، بل تغاير عقيدة الإسلام ومبادئه، ولذلك سموها بالوهابية تلبيساً للمسلمين من عند أنفسهم ولفقوا عنها إشاعات مضللة وحذروا المسلمين عنها، فإن الحركة الإصلاحية التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لو سميت على اسم مؤسسها لسميت باسم "الحركة المحمدية" ولكن المعاندين شعروا بما يكون لهذا الاسم من أثر مرموق في قلوب المسلمين، وأدركوا أن هذا الاسم لا يوافق مصلحتهم ولا يتماشى مع أغراضهم فسموها على اسم أبيه وألحقوا بها أنواعاً من التهم والمفتريات حتى ظنه المسلمون خارجاً عن الدين، واعتقدوا فيه السوء بجهالة وبسبب فهم خاطئ أو بمصلحة سياسية مادية أخرى. ومن جملة ما رموه به من المفتريات: 1- ادعاء النبوة. 2- إنكار الحديث. 3- تكفير المسلمين وقتالهم. 4- إنقاص رتبة النبي وإنكار شفاعته. 5- هدم قبة النبي. 6- إنكار التقليد وإبطال كتب الأئمة الأربعة. ورموا هذه التهمة الداعية الإسلامي المودودي. فكل من يستعرض هذه الدعوة، والأوضاع والأحوال التي تعرضت لها يكون على بصيرة من أن الدعوة مهما كانت صحيحة ونافعة لا بد لها أن تجد في طريقها من العراقيل من جهات عديدة، ولكن إذا كان حاملو لوائها مخلصين لله مجاهدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 في سبيله متمسكين بالكتاب والسنة في سلوكهم ومعاملاتهم وفي نشر الدعوة فلا بد أن يكون النجاح حليفهم إن شاء الله تعالى. ومن دواعي السرور أن الدعوة الإسلامية التي قام بها الشيخ في الجزيرة أصبحت اليوم دعوة عالمية، فالحركات الإسلامية وغير الإسلامية في آسيا وإفريقيا وأمريكا خير شاهد على ذلك. ومن هنا يعلم من له أدنى إلمام بالدعوات الإسلامية أن الحركات الإسلامية في العالم اليوم لا بد لها أن تتعرض لما تعرضت له دعوة الشيخ في عصره، ولكن إذا قام الدعاة وحملوا لواءها وثبتوا وصبروا وصابروا وصمدوا صمود الشيخ يكون النجاح حليفهم في الدنيا والآخرة. وأخيراً نسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه لخدمة الإسلام والمسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 عبد الرحمن راتب عميرة قال هذا الدكتور: هذه كلمات حول الشبهات التي أثيرت حول الدعوة السلفية، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، أردنا بها وجه الله سبحانه وتعالى –والحق أقول- لقد عشت فترة طويلة من الزمن أبتعد عن هذه الشبهات وأحاذر التعرف عليها أو قراءة أفكارها حتى أعانني الله سبحانه وتعالى بالاقتراب منها ومعايشتها. فلم تكن في الحقيقة إلا بناء من ورق، وزينة جوفاء، وسراباً خادعاً لا ماء فيه ولا ريّ، وإكليلاً من الخزي والعار وضعه الشيطان كبير المضلين على رؤوس هؤلاء العتاة الذين وقفوا للدعوة ينالون منها بالكلمة مرة، ويصدون عنها الأتباع والأنصار مرات، ولكن إرادة الله غالبة وجنده هم المنصورون فارتفعت في جنبات أرض نجد كلمة التوحيد الخالصة لله تعالى، وكان هذا إيذاناً بتدمير دولة الطاغوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 التي تمثلها قباب الموتى وأضرحة الأولياء وما يغري به الشيطان أتباعه من الاستعانة والاستغاثة بالشجر والحجر والأصنام. ولقد وقفت أمام هذه الدعوة كل قوى الشر مجتمعة ممثلة تارة في رجال لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، وعاشوا حياتهم سدنة للأصنام وعباداً للبهتان وأوصياء على بعض الأفراد يزينون لهم المنكر ويغرقونهم في مباءة الشرك إغراقاً. وتارة أخرى في الاستعمار ورجاله، والطامعين وأذنابهم، والتبشير وأعوانه وقوى أخرى تكره الإسلام وأبناءه، وتعمل جاهدة في كل ميدان حتى لا يقام لأتباع هذا الدين قائمة {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} التوبة:32. ولقد نجحت هذه الدعوة نجاحاً منقطع النظير. نجحت في رد المسلمين إلى ربهم وخالقهم. ونجحت في جعل العبادة لوجه الله. ونجحت في إبطال فرية الأدعياء والمبطلين القائلين بأن الإسلام استنفد أغراضه ولم تقم له بعد قائمة. فإذا بجيوش الدعوة السلفية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تزلزل العروش وتقوض التيجان، وتزيل الممالك - وترهب أعداء الله وأعداء دينه- وتنساح جيوشها في الجزيرة العربية كل الجزيرة العربية وتتخطى مبادؤها –التي هي مبادئ الإسلام- الحدود والسدود وتصبح كالبؤرة المشعة من قرص الشمس. فتقام دعوة الإمام محمد السنوسي في المغرب. ودعوة الإمام محمد عبده في مصر. ودعوة الإمام المهدي في السودان1. ودعوة السيد أحمد حج السيد في الهند. ودعوة الإمام الشوكاني والصنعاني في اليمن. فأين أتباع هذه الدعوة ليقودوا العالم مرة أخرى إلى النور والهداية إلى كلمة التوحيد، إلى الدين الخالص ... ؟   1 إن هذه الدعوات لا يصح أن يقال عنها إنها سلفية حقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 يقول أحد المفكرين: لقد سبق للعرب أن قادوا العالم في مرحلتين طويلتين من مراحل التقدم طوال ألفي سنة قبل أيام اليونان ثم في العصور الوسطى مدة أربعة قرون، وليس ثمة ما يمنع هذه الشعوب من أن تقود العالم في المستقبل القريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 أحمد بن عبد العزيز المبارك . قال1: لما كان الدين الإسلاميّ هو دين الله هو خاتم للأديان والدين العالمي ولما كانت الأمة الإسلامية هي الأمة الأخيرة التي اختيرت لتبليغ الرسالة السماوية إلى أهل الأرض "إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم" وكتب لها الخلود والانتشار في الآفاق كان من الطبيعي أن تمر في رحلتها الطويلة الواسعة بمراحل عصيبة ومواقف دقيقة لا عهد للتاريخ بها، ولكن الله قد تكفل لهذا الدين بالبقاء إلى يوم القيامة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . فقد خصّ الله محمداً صلى الله عليه وسلم برسالة وتعاليم كاملة للإنسان وصالحة لكل زمان ومكان، تستطيع أن تواجه ما يتجدد من الشؤون وأطوار الحياة، وتحل كل ما يعتري من المشاكل والمعضلات وأقام في كل عصرٍ رجالاً أقوياء تحملوا عبء الدعوة الإسلامية ونقلوا تعاليمها إلى الحياة وأعادوا إلى الأمة الإسلامية الشباب والنشاط ... وفي رواية للبيهقي "يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" ففي هذا الكلام الحكيم بيان لنوعية   1 رئيس القضاء الشرعي بدولة الإمارات العربية المتحدة – أبو ظبي-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 العمل الذي قام به علماء الحقّ، وصورة تامة لمسؤولياتهم ودستور كامل لحياتهم وأن تاريخ الدعوة والإصلاح تفصيل لهذا الإجمال وخطوة نحو إكمال هذه النواحي الثلاث، وهي نفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين للإسلام. ظل هذا العمل مستمراً من بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا شرق العالم الإسلامي إلى غربه ومن شماله على جنوبه من حيث الزمان ومن حيث المكان، ولما غشي الظلام في القرن الثاني عشر الهجري في العالم الإسلامي وتغيرت الظروف خاصة في بعض جزيرة العرب فقد انتشرت البدع والخرافات وأن عدداً كبيراً من الناس كانوا يجهلون التعاليم الأساسية للإسلام وحقيقة التوحيد وأحاطت بهم العقائد المشتركة والأوهام والخرافات وساد فيهم قطع الطريق على غرار أيام الجاهلية الأولى، ومما لا شكّ فيه أنّ أيّ علاجٍ لا يثمر ما دامت العقيدة الأساسية مزعزعة والإيمان نفسه في خطر فكانت الحاجة ماسة إلى أن يقوم مصلح كبير وشخصية عملاقة بتغيير الأوضاع فقد هيأ الله لهذه المهمة ذات الخطر في حياة الأمة الإسلامية. في ذلك العصر قام المصلح الكبير الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي رحمة الله – بإصلاح العقائد وإقامة شرائع الإسلام المتروكة - وتعظيم حرماته المنتهكة وإعادة الأمور وإعادة الأمور إلى نصابها، دعا الناس جهاراً إلى مبدأ {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ .... } ، {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} ووضح الفرق بين التوحيد الخالص والشرك، وبين البدعة والسنة، وأنار للأمة سبيلها وأرشدها إلى طريق الحق والصواب وحققت دعوته هذه لنجد آمالها وقد بدأت في محيطها أول ما بدأت.. فأنشأت لها مجتمعاً إسلامياً سليماً يؤمن بالتوحيد ويعظم شأنه ويسير على هداه، ولا يدعو مع الله أحداً ولا يزال هذا حاله إلى يومنا هذا "وهي المملكة العربية السعودية" نشأت في ظل هذه الدعوة وآمنت بها فصارت الدولة الإسلامية الكبرى التي أسست على شريعة الإسلام في العصر الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 عبد العزيز بن محمد آل الشيخ قال:1 قبل أن أبدأ الحديث عن الدعوة السلفية التي قامت في أواسط القرن الثاني عشر الهجري بقيادة الإمام المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله فإنه لا بدّ من لمحة عامة عن حال الجزيرة العربية قبل هذه الدعوة السلفية فقد شهد القرن الحادي عشر الهجري والنصف الأول من القرن الثاني عشر تحولاً في المفهوم الإسلامي لحقيقة التوحيد وحقيقة الشرك بالله سبحانه وتعالى، فعبدت الأشجار والأحجار وأقيمت الطقوس الخرافية والبدع المصطنعة، وشيدت القبور وقدمت النذور لغير الله سبحانه وتعالى. ولغربة الإسلام وغلبة الطغام راجت في المجتمع أشكال من البدع المحدثة التي ليست من الإسلام في شيء، حتى في منطلق الدعوة والرسالة. مكة والمدينة اللتين شرفهما الله تعالى بنزول القرآن ومبعث خاتم الرسل والأنبياء وراج في الناس الشعوذة والسحر وكان وراء ذلك كله علماء السوء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويروجون للعامة والدهماء الأحاديث الموضوعة المخالفة لصريح القرآن والثابت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذه الأجواء وفي هذا المجتمع الحالك بظلمة الضلالة والبدعة والفساد قام شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب بدعوته فحارب الشرك بالله مستعيناً به وأعلنها في الملأ بأن دعاء غير الله من ملك أو نبي أو ولي، شرك بالله تعالى وان اتخذ بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم فإنه يكفر بإجماع المسلمين ودليله في ذلك كتاب الله وسنة   1 الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية، وقد اجتزأنا من محاضرته القيمة هذه الكلمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 رسوله صلى الله عليه وسلم وما درج عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان كما حارب كثيراً من المنكرات والمحرمات في الشريعة الإسلامية من تعاطي السحر والاعتقاد في الطيرة والأنواء والاعتقاد بأن من الأيام أيام نحس وشؤم وغير ذلك مما علق بأذهان الناس واعتقدوه أمراً مباحاً ولا زالت رواسبه في أذهان العوام في كثير من البلاد الإسلامية. ومن الأمور الأساسية التي ركزت عليها تلك الدعوة السلفية إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة. يقول الشيخ رحمه الله تعالى – باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله – والباب الآخر قوله: باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} ... الآيات ... ولنقتطف مما ذكر الشيخ آية من كل باب أو حديثاً ونوضحه. أما الباب الأول ... فقد أورد الشيخ حديث عدي بن حاتم "أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} ... فقال له إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه ... فقلت بلى.. قال: فتلك عبادتهم" رواه أحمد والترمذي وحسنة. وشواهد الحديث من الآيات كثيرة.. فتأمل هذا الحديث العظيم. تأمل قول عدي إنا لسنا نعبدهم. ظاناً أن العبادة هي التقرب إليهم بسجود أو نذر أو ذبح وتأمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم "فتلك عبادتهم" ... ففي هذا صراحة ووضوح بأن العبادة هي الطاعة وهي الاتباع وهي التحكيم فمن أطاع الله ورسوله لم يرض بما يخالفه من الأحكام من أي مصدر كان واتخاذهم أرباباً يكون في هذا النوع فمن رضي حكماً غير حكم الله وحكم رسوله وهو عالم بذلك معتقداً صحة هذا لحكم المخالف نصاً وروحاً لحكم الله فهذا لا شكّ في كفره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وأما الباب الثاني فإليك رأس الباب. باب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} ... يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. في شرحه لهذه الآية في كتاب تيسير العزيز الحميد لما كان التوحيد هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله مشتملاً على الإيمان بالرسل مستلزماً له وذلك هو الشهادتان. ولهذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم ركناً واحداً نبه في هذا الباب على ما تضمنه التوحيد واستلزمه من تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع إذ هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله ولازمها، الذي لا بد منه لكل مؤمن. فإن من عرف أن لا إله إلا الله فلا بدّ له من الانقياد لحكم الله والتسليم لأمره الذي جاء من عنده على يد رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن شهد أن لا إله إلا الله ثم عدل إلى تحكيم غير الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع فقد كذب في شهادته .... ونادت الدعوة السلفية بوجوب الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر. ونادت الدعوة السلفية أيضاً بتطبيق الشريعة الإسلامية في كل شؤون الحياة وأنه لا بد من أن تكون في الناس أمة تدعوا على الخير وترشد إليه وتقلع المنكر من جذوره وتحذر منه وفق ما جاء به دين الله الذي ارتضاه لعباده. -الدعوة تنشط من عقالها- بينما الجزيرة العربية منغمسة في تلك الأوحال المخالفة لهدى الإسلام ولصفاء نور العقيدة الخالصة من شوائب الشرك والبدع إذا بصوت الداعي المصلح ينادي بالدعوة إلى التوحيد ويندب نفسه للذود عن الدين وتخليصه من أيدي المشركين والمبتدعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وقال سماحته في آخر محاضرته القيمة: لقد ظلت دعوة الشيخ المجدد رحمه الله صورة حية في حياة سكان الجزيرة العربية وغيرهم من سكان آسيا وإفريقيا كما كان كفاحه ونضاله في سبيل تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والعمل على توحيد الجزيرة العربية في كيان واحد يلم شعثها. فقد كانت الجزيرة العربية قبل دعوة هذا الإمام المصلح مجزأة في غمارات صغيرة مختلفة متناحرة يأكل قويهم ضعيفهم ويستبيح ماله وعرضه. مجتمعاً تسوده الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء فعبدت الأشجار والأحجار والفئران والأموات من دون الله، كانت المرأة في ذلك الزمن تأتي إلى فحل النخل وتحتضنه قائلة: يا فحل الفحول أريد زوجاً قبل الحلول وقد ذكرت كتب التاريخ أشجاراً وأحجاراً وغيرها يرتاداها الجهلة من الناس من غير نكير. فبلغت درجة من التخلف عظيمة كانت تلك الإمارات وكانت القبائل فئات متناحرة تتصرف بعقلية متعفنة وبعادات جاهليّة، فجاهد الشيخ محمد بن سعود ومن بعده من أمراء الدولة السعودية الأولى في سبيل تصحيح العقيدة ومحاربة ما ورثه الأبناء عن الآباء من مخالفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى عاد للجزيرة العربية وجهها المشرق وكان لها وضع مذهل وذلك بفضل قوة الإسلام وحمايته من قبل الحكم العادل.. هما السيف والقرآن قد حكما معاً ... فلم يتركا زيفاً ولم يتركا خرفاً. كان الشيخ بجانبه الإمام المسلم الذي اشرب قلبه بلبان التوحيد رائدي منهج وخطة عمل فهما أخذا على عاتقهما إصلاح المجتمع الجاهلي عقيدة وسلوكاً وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر. والله المسؤول أن يجمع كلمة المسلمين على الحق وأن يهدينا سواء السبيل. وأن يغرس لهذا الدين من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتهاك المبطلين – وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 صالح بن عبد الرحمن الأطرم. قال 1: من المعلوم أن كل داعية سيدلي بأدلة إما أن تكون صحيحة، فمآلها إلى الثبوت والاستمرار، وإما أن تكون باطلة فيكون مآلها للرد. إن قبول الناس المنصفين وردهم للدعوة يرجع إلى صدق الداعية وكذبه وليس كل من يدعي وصلاً نقر له بالوصول، ولا كل من زعم أمراً ثبت له المزعوم. وكل يدعي وصلاً بليلى ... وليلى لا تقرّ لهم بذاك قل الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الجمعة:6. فاليهود زعموا ولاية لله ولكن ليس لهذا الزعم ما يثبته. {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} التغابن:7. فالكفار زعموا عدم البعث، وحيث أنهم لم يبنوا زعمهم على أساس من الحقيقة أبطله الله وأثبت ضده وما ينافيه، وبهذه المقدمة البسيطة يتضح لنا صدق القول بأن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب معتمدة على الكتاب والسنة. فليس ما قيل في ذلك مجمد زعم أو توهم، بل ما قال عن نفسه من اعتماد على الأدلة وما قاله غيره واضح جلي وثابت في مراسلاته وكتاباته ومؤلفاته المنتشرة بين العالم لا يستطيع أحد إنكارها إلا من أغمض عينيه عن الحقيقة، وتغلب عليه الهوى والتقليد الأعمى والعصبية الممقوتة.   1 عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وما انطلت عليه شبهة المشتبهين من الخرافيين بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يحب الأنبياء والصالحين، غرس هذه الشبهة الشيطان بأدمغة أوليائه وأغفلهم عن مراد المصلح الداعية وهو أن ينهى عن زيارة القبور البدعية، وإعطاء الأولياء الصالحين فوق حقهم، وتشريكهم حق الله، وما ثبت من زيارة القبور الشرعية فمحمد بن عبد الوهاب يأمر بها ولم ينه عنها ويعطي الأنبياء والأولياء حقهم من محبتهم التي تجعل من يحبهم يتأسى بأقوالهم وأفعالهم حتى يكون ولياً بما كانوا به أولياء وصالحاً بما كانوا به صلحاء. قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} يونس:63، فلم يثبت الولاية إلا للمؤمنين المتقين، ولم يقل أن الولاية لمن عظم قبور الصالحين، وتبرك بهم وجعل لهم النذور والذبائح، وهذه الحقيقة ثابتة في مؤلفات الشيخ المصلح المجدد للقرن الثاني عشر الهجري، والذي ما زال إصلاحه مستمراً وتأليفه فيه مستقراً. فهو بين أيدينا منظوراً ومقروءاً، فنسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. فكانت عناية الشيخ بالعقيدة وتصحيحها وتعديل مفاهيم الناس، ولكنه مع ذلك لم يغفل الفروع بل أدى لها جملة من الاهتمام يتضح ذلك فيما قرره بأنه من أبعد الناس عن التعصب والتقليد، يدعوا إلى التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يتوخى الدليل، ويرى الاقتداء بالأئمة بما لم يقم الدليل على خلاف من اجتهاداتهم. ومؤلفاته حافلة بذلك سواء ما ألفه ابتداءً في التوحيد والفروع. أو ما اختصره من كتب الأئمة والمحققين تقريباً منه إلى الأذهان القاصرة، ونظر امن بوصل طلابه بالأئمة السابقين ونفعهم العاجل، لأنه ليس كل طالب علم يقوى على قراءة الكتب المطولة فإذا قرأ المنصف والمحب للفائدة، والراغب في الاطلاع والذب عن أئمة الدعوة ومؤلفاته التي قامت بجمعها وطبعها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تجلى للقارئ اعتماد الشيخ على الكتاب والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وقد ألزم نفسه رحمه الله أن يسير في دعوته على الكتاب والسنة بالقول والفعل وأن يأخذ بما قرره علماء المسلمين الثقاة في مسائل الاجتهاد مما لا نص فيه من كتاب أو سنة أو إجماع، وحينما يختلفون حسب مفاهيمهم من النصوص فإنه يأخذ بما ترجح عنده. وقال هذا الشيخ أيضاً: وغلط من عاصروا الشيخ بين دعوته ومذهبه، أو فسروا دعوته على أنها مذهب خارج عن الإسلام، وما كان له مذهب خاص به بل له دعوة، وما دعوته إلا الإسلام في صفائه ونقائه، ولقد قال عنه أعداؤه ما لم يقل ونسبوا إليه قصصاً وأحاديث وأقوالاً وأفعالاً لم تصدر منه، فكتبه ورسائله بين أيدي الناس ليس فيها شيء مما زعموا بل نقيض ما زعموا وهو لا يحاسب على الأباطيل والأكاذيب المنسوبة إليه، وليس عليه وزر ما لم يقل أو لم يفعل، ومن خصومه العلماء الذين حرفوا أقواله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان قال1: إن أهمية الدعوة السلفية التي نهض بها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب والتي تركت آثاراً فكرية واضحة في كثير من المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر استقطبت الباحثين ووجهت أنظار المفكرين، فاستقلت بدراسات موسعة وبحوث علمية مختلفة، والجانب العقائدي منها والمتمثل في حياة الشيخ نفسه وإنتاجه العلمي فيها كان له منها النصيب ألأوفى وهذا عائد إلى طبيعة دعوته والأولوية التي تصدى لها وركز عليها في دعوته وهو تصحيح العقيدة الإسلامية   1 دكتور مشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الملك عبد العزيز في مكة المكرمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 لدى المسلمين، فبسلامتها يسلم للمرء كل شيء، وبفسادها يضيع كل شيء. إن انتماء الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودراسته للمذهب الحنبلي سهل له التعرف على فكر شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في وقت مبكر جداً أثناء طلبه للعلم في بلاده مسقط رأسه، ووقوفه على جهادهما ما قوى فيه العزيمة للدعوة إلى الإسلام الصحيح عقيدة وشريعة. فرحل إلى ما رحل من أقطار وهو متشبع بفكر الدعوة الإصلاحية التي أصبح يعيشها فكراً، ووطن نفسه للدعوة لها جهراً واحتكاكه بعلماء السلف بمكة المكرمة والمدينة المنورة زاد من حماسته لها وتفانيه في سبيلها. فأعطته دفعة قوية للاستمرار في اتجاهاته الفكرية العقائدية والفقهية وضاعفت من ملازمته وعكوفة على كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله فتشبع بمنهجهما أسلوباً وفكراً فورث عنهما خصائصهما العلمية واتجاهاتهما المنهجية والنزعة الاجتهادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الدكتور محمد حمد حسين قال هذا الدكتور أمالب دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحقيقتها في ثابتة واضحة فيما تركه صاحب الدعوة من كتب ورسائل وهذه الكتب والرسائل هي التي يحتكم إليها ولا يحتكم إلى سواها في معرفة حقيقة الدعوة مجردة من المبالغات ومن ردود الأفعال، وقد ترك صاحب الدعوة مجموعة من الرسائل التي بعث بها إلى الزعماء والعلماء من أهل عصره يبصرهم بحقيقة دعوته ويرد على ما أثير حولها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 من تهم وشبهات وما أشاعه خصومها من اعتراضات. وهذه الرسائل تقدم صورة واضحة لفساد الحال في المجتمع النجدي الذي نزل به الجهل إلى تقديس لحجر والشجر والقعود عن الأخذ بالأسباب حين استبدلوا بها التعلق بأوهام لا تمت إلى الدين بسبب، مع ارتداد الحياة الجاهلية الأولى في البغي والظلم والنهب والسلب والسطو على الأموال والأعراض وقطع الطريق على حجاج بيت الله. ثم إن هذه الرسائل تقدم إلى جانب ذلك صورة واضحة لحقيقة الدعوة بما نفته عن نفسها من تهم أعدائها، الذين يزعمون أن صاحبها مبتدع يدعي الاجتهاد ويبطل كتب المذاهب الأربعة، وأنه يصم بالكفر من ليس على مذهبه من المسلمين ويكفر من لم يهاجر إليه ممن يرى رأيه ويستبيح قتاله، وأنه ينكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينهى عن الصلاة عليه، ويعتبر المرحلة إلى زيارته شركاً وينكر على المسلمين توقير أهل بيته. ورسائل محمد بن عبد الوهاب ومناظراته لأهل الحجاز في اجتماع رسله بعلمائهم كما وردت في تاريخ ابن غنام معاصر محمد بن عبد الوهاب تكذب ذلك كله، وتقرر أنه متبع غير مبتدع على مذهب أحمد بن حنبل لا يدعي الاجتهاد، يقر بشفاعة رسول الله ويصلي عليه كما أمر الله في كتابه، ولا ينهى عن الرحلة إلى مسجده ولا ينكر كرامات الأولياء ولا ينهى عن توقيرهم وعن توقير أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه ينكر ما يفعله الجهال من سؤالهم جلب النفع ودفع الضرّ، ومن نذر النذور والذبائح لهم، وينكر ابتداعات المبتدعين، وينصح من يقبل النصيحة من إخوانه ألا يصير في قلب أحدهم شيء من الأدعية والأوراد يظن أن قراءته أجل من قراءة القرآن أو تعدلها. ذلك إلى أن دعوة محمد بن عبد الوهاب قد أسيء فهمها في بعض الأحيان من الخصوم والأولياء على السواء، ومن أبرز ما أسيء فهمها فيه عداوتها للصوفية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 التي بدت عند بعض أتباعها والمتأثرين بها كأنها مقصد من أهم مقاصدها، والواقع أن الصوفية لم تكن مستهدفة لذاتها، ولكن الذي استهدفته الدعوة هو انحرافات التصوف لا التصوف نفسه، الذي يقوم في لبه وأصله الأول على الزهد وعلى مغالبة الشهوات. فمهاجمة التصوف مسألة فرعية جاءت ضمن محاربة ابتداعات المبتدعة فيما يعارض التوحيد، ولم تهاجم إلا في هذه الحدود. والواقع أن الصوفية يجب أن يفرق فيها بين منهجين: أحدهما: منهج في السلوك يأخذ بيد المنحرفين البعيدين عن الصراط المستقيم يتدرج بهم حتى يضعهم على المحجة البيضاء، ويتدرج بالمستقيمين على طريق الدين في رياضات روحية تسمو بهم حتى تخلصهم من سلطان الشهوات على اختلافها، شهوة البطن وشهوة الفرج وشهوة الجاه والسلطان وحب المال وهذا المنهج مفيد لا بأس في أكثره. والمنهج الآخر: منهج في الفكر والمعرفة، يخوض في عالم الغيب ويقول فيه بغير دليل، ويغامر في اقتحام مجاهيل محجوبة عن علم الناس يضر الخوض فيها ولا يفيد، وأكثره مفسد للعقيدة يشوبه خلطٌ كثير، يزعزع الإيمان1.   1 يؤسفني أن يقول الأخ الدكتور محمد محمد حسين هذا الكلام في الثناء على التصوف متأثراً بتربيته الأولى، وهو صاحب الفكر السديد، وليس هنا مجال الردّ عليه وبيان أخطار هذا التصوف وضلالاته ومفاسده المدمرة، حتى هذا النوع المزعوم الذي أشار إليه في إصلاح النفوس.. كأن الإسلام هذا الدين العظيم خلا مما يصلح هذه النفوس.. حتى نلجأ إلى التصوف، وهو من أصل نصراني وثني، وقد كان من أعظم أسباب هدم المجد الإسلاميّ وانحطاط المسلمين والتعاون مع المستعمرين لاحتلال كثير من أقطار العالم الإسلاميّ، يراجع للتحقق من ذلك كتاب "التصوف بين الحق والخلق" الذي قمت بتعديله، وقال الدكتور زكي مبارك في كتابه التصوف الإسلامي والأخلاق "2/208" أن مشيخة الأزهر فكرت في مقاومة التصوف مقاومة رسمية وكتب شيخ جامع الأزهر محمد مصطفى المراغي كتاباً في ذلك إلى وزير الأوقاف.. وأود أن أسائل هذا الدكتور، وقد ذكر بعض آثار التصوف لمدمرة: كيف السبيل إلى الفصل بين ما زعمه صالحاً من هذا التصوف وبين الفاسد منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مرآة علماء الغرب وأدبائه أولفيه ده كورانسيز ... أولفيه ده كورانسيز قال هذا الكاتب في كتابه " تاريخ نجد منذ ظهور الحركة الوهابية": الوهابية قد نقوا الإسلام مما أدخل عليه من تشويه وأعدوه إلى بساطته الأولى وصفائه. ولم يظهر الوهابيون إلا منذ خمسين سنة "بالنسبة لزمن هذا الكاتب" ولكن هذه السرعة الهائلة التي اتسمت بها فتوحاتهم، ضمانة كبيرة لبقائهم وعظمتهم. .. كان المسلمون يومئذ "أي منذ ظهور محمد بن عبد الوهاب" يمارسون أشكالاً غريبة من العبادات بحيث لو عاد "محمد" صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا، لظن أن الإسلام زال منها. ولرأى شيئاً عجيباً، فعلى القبور تقام القباب والمباني، ويزعم أن لأصحابها كرامات ومعجزات، وهناك وسطاء بين الله والناس يقبلون الرشوة، ومجانين ينتقلون في البلاد بحرية، ولا يجرؤ أحد على مقاومتهم لأنهم فيما يزعمون من أصحاب "السر" أو أهل الحظوة، وأما القرآن الخالد فقد فسروه تفاسير مذهلة غابت فيها حقيقته! ... فجاء محمد بن عبد الوهاب وأعاد الإسلام على نقاوته الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 روسو قال في كتابه "أشد المذاهب الإسلامية الثلاث": إن نظرية محمد بن عبد الوهاب بسيطة جداً فهو يدعوا إلى عبادة إله واحدا، وهو يقول: إن أحداً لا يستطيع أن يتوسط بين العبد وخالقه، وأن الموتى لا يضرون ولا ينفعون وتوجيه الأدعية إليهم، والبناء على قبورهم عبث بل شرك، وقد بدأ النصارى بمثل ذلك وانتهوا إلى جعل المسيح إلهاً يعبدونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 مانجان قال هذا المؤرخ الافرنسي في كتابه "تاريخ مصر": كانت تعاليم هذا المصلح مؤسسة على مبادئ أخلاقية سليمة، تدعوا إلى عبادة الله وحده. والتوجه إليه وحده بالسؤال والدعاء وكل شيء دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو من الدين، أي مما أمر به الله ورسوله ولكن المسلمين نسوه أو تناسوه وأهملوه، فقام هذا الشيخ يدعوهم إليه وحملهم عليه أعظم قيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 برنادلوسي قال هذا العالم الفرنسي في كتابه "العرب في التاريخ" 1: باسم الإسلام الخالي من الشوائب الذي ساد في القرن الأول نادى محمد بن عبد الوهاب بالابتعاد عن جميع ما أضيف للعقيدة والعبادات من زيادات باعتبارها بدعاً خرافية غريبة عن الإسلام الصحيح فخلع على دين محمد رونقاً جديداً وبدد الخرافات التي زالت مع الزمن فأظهر الإسلام خالياً من جميع ما عزي إليه من الشوائب. وما لبثت النفوس التي أرهقتها الشروح المطولة الغامضة أن رجعت إلى بعض مبادئ عامة بسيطة واضحة وقبلت خطط ابن عبد الوهاب الإصلاحية بقبول حسن.   1 في فصل خاص بعنوان "تاريخ الوهابية وملخص في جغرافية نجد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 بركارت قال هذا المستشرق في كتابه "مواد لتاريخ الوهابية" لم تكن المبادئ التي جاء بها ابن عبد الوهاب مبادئ دين جديد وإنما كانت جهوده منصرفة إلى إصلاح ما فسد من معتقدات المسلمين، وإلى نشر الدين بين البدو الذين كانوا مسلمين بالاسم، ولكنهم لا يعرفون الديانة، ولا كانوا يعلمون بأوامرها وقال أعداؤه: إنه صاحب دعوة جديدة لذلك عادوه وبدّعوه بل كفروه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ستوداود قال هذا الكاتب الأمريكي مؤلف "حاضر العالم الإسلامي" الذي علق عليه الأمير شكيب أرسلان في الفصل الأول من الكتاب، في اليقظة الإسلامية في القرن الثامن عشر: كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم ما بلغ، ومن التدني والانحطاط أعمق دركة فاربد وجوه، وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه، ورجاء من أرجائه، وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب ... إلى أن قال: وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة الناس سجفاً من الخرافات، وقشور الصوفية دخلت المساجد. وكثر عديد الأدعياء الجهلاء وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبون في الحج إلى قبور الأولياء ويزينون للناس التماس الشفاعة في دفناء القبور. غابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يشرب الخمر والأفيون في كل مكان وانتشرت الرذائل وهتكت ستر الحرمات عل غير خشية ولا استحياء، ونال مكة المكرمة والمدينة المنورة ما نال غيرهما من سائر مدن الإسلام وعلى الجملة. فقد بدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 المسلمون غير المسلمين وهبطوا مهبطاً بعيد القرار. فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر، ورأى ما كان يدعى الإسلام، لغضب وأطلق اللعنة على من استحقها من المفسدين من أدعياء الإسلام وفيما العالم الإسلامي مستغرق في هجعته، ومدلج في ظلمته، إذا بصوت يدوي في قلب صحراء شبه الجزيرة عهد الإسلام، يوقظ المؤمنين، ويدعوهم إلى الإصلاح، والرجوع إلى سواء السبيل والصراط المستقيم. فكان صارخ هذا الصوت إنما هو المصلح الشهير الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي أشعل نار الوهابية 1، فاشتعلت واتقدت، واندلعت ألسنتها في كل زاوية من زوايا العالم الإسلامي ثم أخذ هذا الداعي يحض المسلمين على إصلاح النفوس واستعادة المجد الإسلامي القديم التليد. فبدت تباشير الإصلاح ثم بدأت اليقظة الكبرى في عالم الإسلام.   1 من الجهل نسبة ما دعا إليه الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى "الوهابية" وما دعا إليه الشيخ هو الإسلام الصحيح كما جاء في القرآن والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 بروكلمان قال في تاريخ الشعوب الإسلامية: الإسلام في القرن التاسع عشر1تحت عنوان "الحركة الوهابية في بلاد العرب": ولد في نجد المرتفعة في قلب الجزيرة محمد بن عبد الوهاب، من قبيلة تميم ما بين أواخر القرن السابع عشر، وأوائل القرن الثامن عشر فنشأ محمد محباً للعلم واقفاً نفسه على دراسة الفقه والشريعة وقصد وفقاً –للعادة القديمة- إلى عواصم الشرق الإسلامي طلباً للعلم في مدارسها. ثم إنه درس مؤلفات أحمد بن تيمية والواقع أن دراسته لآراء هذا الإمام انتهت به إلى الإيقان من أن الإسلام في شكله السائد في عصره وبخاصة بين الأتراك مشرب بالمساوئ التي لا تمت إلى الدين الصحيح بنسب. فلما آب إلى بلده سعى أول ما سعى إلى أن يعيد إلى العقيدة والحياة الإسلاميتين صفاءهما   1ترجمة الدكتور نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الأصلي في محيطه الضيق. ثم ذكر التجاءه إلى محمد بن سعود! وهناك لقي محمد حفاوة وترحيباً حتى إذا انقضت فترة قصيرة، واكتسبت تعاليمه أنصاراً ومريدين ولقد شجب تقديس الرسول والأولياء على اختلاف صوره. وكان ذاك قد شاع بين المسلمين منذ قرون، تقليداً للنصرانية وبعض الطقوس الدينية الأكثر بدائية، رامياً بالشرك أولئك الذين يشاركون في هذا التقديس1 وحرم أيما تزيين أو زخرفة للمساجد والأضرحة غير مبيح لهم الزيارات المحدثة2التي أحدثها لأمور لا تخفى، كما فعلت الأمم السالفة، ولم يكن مبتكراً ولا مبتدعاً للمبادئ التي دعا الناس إليها، بل كان تابعاً للرسول.   1 قال الأخ الكريم سماحة الشيخ الجليل عبد العزيز بن باز: "هذا فيه إجمال والمراد أنه منع صرف العبادة للرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء وطلبهم المدد ونحو ذلك مما يسميه العامة تقديساً للرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء. لأنه والأولياء لا يرضون بذلك ومن ظن أنهم يرضون بذلك فقد تنقصهم وأساء بهم الظنّ وإنما تقديس الرسول صلى الله عليه وسلم باتباعه وتعظيم شرعه ومحبته المحبة الصادقة فوق محبة النفس والأهل والمال والناس أجمعين، من غير غلو فيه يصرف حق الله له، وهكذا تقديس الأولياء يكون بمحبتهم واتباع سبيلهم القيم والترحم عليهم لا بالغلو فيهم وعبادتهم مع الله سبحانه والله ولي التوفيق. 2 إن التحليل والتحريم من حق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والشيخ رحمه الله كان متبعاً في ذلك، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن زخرفة المساجد في الحديث الصحيح كما نهى عن البناء على القبور "م. م" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وليمز قال في كتابه "ابن سعود! سياسته وحروبه ومطامعه": لما شاع الفساد في بلاد المسلمين، قام في جزيرة العرب محمد بن عبد الوهاب يحارب البدع ويدعوا إلى جمع الصفوف، لإعادة مجد الإسلام وعبادة الله بقلب سليم. ولكنه كغيره من المصلحين اضطهد، واتهم بالإلحاد والزندقة وطورد حتى التجأ إلى محمد بن سعود، ثم ذكر ولادته ورحلت لطلب العلم، وأنه لما عاد إلى بلاده عزم على نشر الدين الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وقال: لما اتصل ببيت سعود، وتزوج محمد بن سعود بابنة الشيخ عندئذ تشيع1 السعوديون للمذهب الجديد فغضب عليهم الأتراك، ولم يكن غضبهم صادراً عن عقيدة، وعن فكر وصلوا إليها بعد دراسة للمذهب الجديد2 الذي أنكروه رجماً بالغيب ظناً منهم أنه يقف عقبة في سبيل مطامعهم ببلاد العرب. كان شريف مكة قد احتكم إلى العلماء ليقولوا له رأيهم في مذهب ابن عبد الوهاب فقرروا صدق هذا المذهب. كما أن محمد علي باشا جمع علماء مكة في سنة 1215هـ لنفس الغرض فجاءت قراراتهم في صالح هذا المذهب. ولكن الأتراك أصروا على العدوان، ولم يكن محمد بن عبد الوهاب إلا رسول سلام، ثم قال: ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلى بعض أوجه الخلاف بين مذهب الوهابيين وبين غيرهم. 1- يرى الوهابيون، أن لا معبود إلا الله، وان الرسول عليه الصلاة والسلام بشر، فوق مستوى البشر. 2- أعلن الوهابيون كراهتهم لعبادة الأولياء وهي متفشية بين المسلمين حتى اضطر ابن سعود لتدمير قباب الأولياء ثم ذكر الحفناوي، وأنا من أنصار هذا الرأي فإنك لا تكاد تذهب إلى ضريح في مصر، إلا وترى الجهاد يقبلون الأعتاب ويستغيثون بالأولياء غير ذاكرين الله ولا معتمدين إلا على العظام المدفونة في تلك القبور.   1 قال سماحة الشيخ الرئيس: قوله عندئذ تشيع السعوديون يوهم كلامه هذا أن آل سعود تشيعوا لدعوة الشيخ محمد رحمه الله تعالى بسبب المصاهرة وليس الأمر كذلك وإنما قام الإمام محمد بن سعود رحمه الله تعالى وأولاده وأحفاده بمناصرة ودعوة الشيخ من أجل أنها دعوة إلى الحق والدين الصحيح لا من أجل المصاهرة إن ثبت وجودها في ذلك الوقت. 2 لم يكن ما جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب مذهباً جديداً إنما هو اتباع لما جاء به الكتاب والسنة. فهي حركة إصلاح وتجديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 1- يحتفل المسلمون حفلات دينية عديدة، ولكن الوهابيين لا يحتفلون إلا بعيد الفطر وعيد الأضحى 1 ثم قال: ومهما يكن الخلاف المذهبي بين الوهابيين وغيرهم من المسلمين فإننا نجل الوهابيين، فغنهم يدققون في عباداتهم، فيحفظون القرآن والحديث، ويأتمرون بما جاء في الشريعة الغراء وينهون عما نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام.   1 هذا وفق ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن أنس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر". رواه أبو داود وسنده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 سيديو قال هذا المستشرق في "تاريخ العرب العام" الذي نقله إلى العربية عادل زعيتر، قال في أثناء كلامه على ثورات العرب للتحرر من سيطرة الترك وسيطرة البرتغال في عمان بعد كلام: ومن ثم نرى أن جزيرة العرب، استردت استقلالها التام تقريباً منذ أوائل القرن الثامن عشر بفضل جدها، وضعف أعدائها، ولم يبق لها إلا أن تؤيد نصرها بمركز يلتف حوله جميع النفوس. وهذا ما حاولت صنعه، قبيلة ظهرت في نجد حوالي سنة 1749م وهذا ما حاوله الوهابيون المتنفذون، حتى الآن والذين سيكون لهم تأثير دائم في مصير جزيرة العرب لا ريب واسم واضع هذه السيطرة الإمام محمد بن عبد الوهاب الذي أكب على دراسة آداب العرب وعلومهم منذ صباه، والفقه أكثر ما عني به. واطلع على آراء رجال المذاهب، وقصد بغداد والبصرة، وفارس سائحاً فنمت مداركه، فأنعم النظر في حال بني قومه وميولهم وغرائزهم، وطبيعة قواهم فرأى أنه إذا ما حمل المسلمين على مراعاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 أحكام القرآن، رجعت إليهم تلك الحماسة التي عرفتها عظمة الماضين. ولم يكن للإصلاح الذي بدا عظيماً، وله هدف سوى إعادة شريعة الإسلام الخالصة إلى سابق عهدها, وحارب ابن عبد الوهاب مغالاة1 المسلمين في إحاطة محمد صلى الله عليه وسلم بتعظيم حرمة الله في كثير من كلامه. وحارب تقديس قبور الأولياء فحمل أنصاره على هدمها، وحارب ابن عبد الوهاب ما كان يعيبه على الأتراك من فساد الأخلاق. وحارب تعاطي المسكرات ومما ذكر الناس به هو أن الشريعة تأمر المسلمين بأن يؤتوا الزكاة2 وتحرم عليهم الزينة 3 وتلزم القضاة بالنزاهة ومما عني به على الخصوص إبقاء روح الجهاد في قومه مما أدى إلى نصر عجيب لم يعرف منذ قرون.   1 تأمل كيف عرف هذا المؤرخ الأجنبي ديننا تعاليم هذا المصلح الكبير وأنه قصد إرجاع الناس إلى الدين الصحيح، وتنقيته من شوائب البدع والوثنية، وكيف أنصف هذا الأجنبي وعرف دين الإسلام، وما طرأ عليه مما لا يتفق وتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يعرفه الكثيرون من المنتسبين إلى الإسلام "عن كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب. 2 أي وسائر أركان الإسلام. 3 ليس كل زينة، فإن الزينة مطلب إسلامي، إنما حرم بعض الأمور كالحرير والذهب على الرجال لينشؤوا على البطولة بعيدين عن التنعيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 جولد سيهر قال شيخ المستشرقين: "جولد سيهر" في كتابه العقيدة والشريعة ما يلي: إذا أردنا البحث في علاقة الإسلام السني بالحركة الوهابية نجد أنه مما يسترعي انتباهنا خاصة من وجهة النظر الخاصة بالتاريخ الديني الحقيقة الآتية: يجب على من ينصب نفسه للحكم على الحوادث الإسلامية أن يعتبر الوهابيين أنصاراً للديانة الإسلامية على الصورة التي وضعها النبي والصحابة1 فغاية الوهابية هي إعادة الإسلام كما كان.   1 ليس للصحابة الحق في وضع الديانة، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا فعل ذلك فبوحي من ربه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 جيب قال المستشرق جيب الانكليزي في كتابه المحمدية .... "وفي جزيرة العرب قام حوالي 1744-1157هـ محمد بن عبد الوهاب مع أمراء الدرعية آل سعود بتحقيق الدعوة إلى المدرسة التي دعا إليها ابن تيمية في القرن الرابع عشر وقال أيضاً في كتابه الاتجاهات المدنية في الإسلام: أما مجال الفكر فإن الوهابية بما قامت به من الحروب ضد التدخلات العدوانية، وضد الأصول القائلة بوحدة الوجود، التي تريد تدنيس التوحيد في الإسلام فقد كانت عاملاً مفيداً للخلاص الأبدي. وحركة نجد أخذت تنجح في العالم الإسلامي شيئاً فشيئاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 دائرة المعارف البريطانية جاء في دائرة المعارف البريطانية وهي تتكلم عن الوهابية ما يلي: الوهابية اسم لحركة التطهير في الإسلام. والوهابيون يتبعون تعاليم الرسول وحده1 ويهملون كل ما سواها وأعداء الوهابية هم أعداء الإسلام الصحيح.   1 أي القرآن والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ويلفرد قال في كتاب "الإسلام في نظر الغرب" ألفه جماعة من المستشرقين: كان محمد بن عبد الوهاب يقول قبل كل شيء يجب أن تعيشوا حسب الشرع الإسلامي وهذا هو معنى أن تكونوا مسلمين. لا ذاك الرغاء العاطفي والتقى والحرارة التي يقدمها لكم الصوفيون فأساس الإسلام هو الشرع وإذا كنتم تريدون أن تكونوا مسلمين فيجب أن تعيشوا حسب أوامر الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 دالبرت قال هذا المؤرخ الألماني في كتابه "عبد العزيز" وقد صدر في ألمانيا سنة 1953م1وكان لآل سعود إلى جانب سيفهم الذي يستخدمونه في الفتح سلاح معنوي آخر. أمدهم بأعظم قسط من نجاحهم ذلك السلاح من صنع الشيخ محمد بن عبد الوهاب أحد العلماء المطاردين في سبيل عقيدتهم.   1نقله إلى العربية الدكتور أمين رويحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 برانجس جاء في تقرير لهذا الكاتب الانكليزي: لقد أشاع أعداء هذا الرجل العظيم وأتباعه بأنهم كفار، إلا أن الحقيقة أنهم متبعون تماماً للكتاب والسنة، وكانت حركتهم حركة تطهير خالصة في الإسلام. كما أشاع هؤلاء الأعداء أنهم نهوا الناس عن زيارة المدينة، وهذا ليس بصحيح: فإنهم نهوهم فقط عن ارتكاب الأعمال الشركية عند الروضة المطهرة كما نهوا عنها عند قبور الأولياء الآخرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ويندر قال في كتابه "العربية السعودية في القرن التاسع عشر ما ملخصه": .. نحن لا نعرف إن كانت الوهابية تستطيع مواجهة عصر الذرة والفضاء، ولكن أحد لا ينكر قيمتها وأثرها في الفكر الإسلامي الحديث. إن الوهابية كانت في الحقيقة نعمة على المسلمين بمساهمتها الواسعة في تنبيه المسلمين إلى مظاهر الوثنية وتحذيرهم منها. ولا شك أنها حققت فكرة ابن خلدون القائل: إن العرب البدو يستطيعون أن يؤلفوا قوة لها شأن متى انقادوا إلى الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وهم متبعون تماماً للكتاب والسنة، وكانت حركتهم حركة تطهير خالصة في الإسلام. كما أشاع هؤلاء الأعداء أنهم نهوا الناس عن زيارة المدينة، وهذا ليس بصحيح: فإنهم نهوهم فقط عن ارتكاب الأعمال الشركية عند الروضة المطهرة كما نهوا عنها عند قبور الأولياء الآخرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 باديا قال هذا الكاتب الاسباني باديا: "وقد اختفى وراء اسم علي بك عباس" وكان موجوداً في مكة المكرمة عندما جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه فاتحين: "ما كانت أيديهم تصل إلى أي شيء وما كانوا يحاولون أخذه غصباً وكانوا يشترون جميع حاجاتهم بالفلوس، وهكذا كانوا يدفعون الأجرة على كل خدمة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 هنري لاوست يقول هذا المستشرق الفرنسي: إن السلفية لقب يطلق على الحركة الوهابية لأنها أرادت إعادة الإسلام إلى صفائه الأول في عهد السلف الصالح إن هذه الحركة السلفية تتميز عن غيرها بأن نظرياتها أدنى إلى العقل وأنها تفتح باب الاجتهاد وتكافح الخرافات والغلو في الدين وتجتهد في التوفيق بين الدين وبين مطالب العصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 خاتمة المطاف إن هذه الخاتمة كان من حقها أن تكون مقدمة، ولكني آثرت أن تكون كذلك لهدفين: الأول: كيلا أنفّر القراء الذين يحملون فكرة خاطئة عن الإمام محمد بن عبد الوهاب، من مطالعة هذه الرسالة، فإن أكثر الناس أعداء لما جهلوا. الثاني: التمهيد لجعل هؤلاء القراء على استعداد لاستقبال آراء العلماء والأدباء الحياديين، دون تأثير خارجي، سواءً كان إيجابياً أو سلبياً. ولا شك أن المنصفين قد أصيبوا بحيرة بين ما طالعوه في هذه الرسالة، وبين ما كانوا سمعوه من كثير من شيوخ السوء عن هذا الإمام العظيم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، فحطم الوثنيات وأضاء السبيل للمسلمين لمعرفة التوحيد الصحيح، وأنقذهم من الشرك الذي كان يفتك بعقيدتهم ومن الوثنية التي كانت تختفي وراء شعار الدين، والدين منها براء، وما أرهب ما قاله الدكتور أحمد أمين: " ... إذاً فما بال العالم الإسلامي اليوم يعدل عن هذا التوحيد المطلق الخالص من كل شائبة إلى أن يشرك مع الله كثيراً من خلقه. فهذه الأولياء يحج إليها وتقدم لها النذور ويعتقد أنها قادرة على النفع والضرّ، وهذه الأضرحة التي لا عداد لها تقام في جميع أقطاره يشد الناس إليها رحالهم ويتمسحون بها ويتذللون لها ويطلبون جلب الخير لهم ودفع الشرّ عنهم. ففي كلّ بلدة ولي أو أولياء. وفي كل بلدة ضريح أو أضرحة تشترك مع الله تعالى في تصريف الأمور، ودفع الأذى وجلب الخير وكأن الله سلطان من سلاطين الدنيا الغاشمين يتقرب إليه بذوي الجاه وأهل الزلفى لديه. ويرجون في إفساد القوانين وإبطال العدل. أليس هذا كما كان يقول مشركو العرب {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقولهم {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} بل واأسفاه لم يكتف المسلمون بذلك. بل أشركوا مع الله حتى النبات والجماد فهؤلاء أهل بلدة "منفوحة" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 باليمامة يعتقدون في نخلة هناك، أن لها قدرة عجيبة من قصدها من العرائس تزوجت لعامها. وهذا الغار في الدرعية يحج إليه الناس للتبرك وفي كلّ بلدةٍ من البلاد الإسلاميّة مثل هذا، ففي مصر شجرة الحنفي. ونعل الكلشني. وبوابه المتولي، وفي كل قطر حجر وشجر فكيف يخلص التوحيد من هذه العقائد. إنها تصد الناس عن الله الواحد وتشرك معه غيره وتسيء إلى النفوس وتجعلها ذليلة وضيعة مخرفة وتجردها من فكرة التوحيد وتفقدها التسامي1. وبمناسبة الكلام على عقيدة التوحيد ليسمح لي القارئ أن أحدثه عن رأي طريف يوضح فوائدها في الدنيا قبل الآخرة، ويشرح أخطار الشرك من نواحي العلم والتقدم، قال عالم انكليزي كبير وهو المؤرخ الحضاري "أرنولد تونبي": "إن القضية الكبرى في سبيل تسخير طاقات الطبيعة، كانت عقيدة الشرك الذي ساد العقل البشري لزمن طويل والذي حول طاقات الطبيعة إلى آلهة وكان المشركون يقدسون هذه الطاقات ويعبدونها بدلاً من تسخيرها , وعقيدة التوحيد هي التي جعلت الإنسان ينظر إلى هذه الطاقات بأنها مخلوقات مثله ومن ثم بدأ يفكر في تسخيرها"2. وعلاوة على ما تقدم، فإن الشرك يمسخ الأدمغة الإنسانية ويجعلها مشتتة، ويذل النفوس بالاستغاثة بعباد مثلها قد ماتت، فيتمرغ في عتبات قبورها ويخشى منها ما يخشى من رب العالمين!.   1 نقلاً عن كتاب "زعماء الإصلاح" في بحث مستفيض عن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وقد قمت منذ 1380هـ1960م بتلخيص هذا البحث في نشرة بعدما قدمت لها بكلمة مثيرة عن هذه الدعوة، ووزعت منها بضعة آلاف نسخة. 2 عن كتاب: "نظام وضرورة لحضارة العصر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 أجل إن المنصفين من القراء قد أصيبوا بدهشة من هذا التناقض، وخاصة أنهم تحققوا أن ما جاء به هذا الإمام العظيم لم يكن أمراً جديداً، إنما هو التوحيد الخالص الذي أنزله الله تعالى ودعا إليه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم العودة بالإسلام إلى نقاوته الأولى بعدما شوهت جماله الوثنية والبدع والخرافات. ولكن دهشتهم تزول، إذا علموا أن هؤلاء المبغضين للإمام قد أصيبوا بصراع وذهول من جراء ضياع امتيازاتهم التي كانوا يفرضونها على العامة والمغفلين بصفتهم سدنة أصحاب الرمم المقبورين الذين كانوا يروجون الإشاعات الكاذبة عن قدرتهم على الشفاء وقضاء الحاجات وإجابة الدعاء من دون الله. يضاف إلى ذلك مؤامرة المستعمرين ضد دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب خشية يقظة العمالقة المسلمين إذا تمسكوا بعقيدة التوحيد، وأضاءت بها نفوسهم فيعيدون سيرتهم الأولى يوم كانوا في عصر الإسلام الأول، فانطلقوا في آفاق الفتح والعلم حتى غدوا خير أمة أخرجت للناس. وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بذلك إذا هم تمسكوا بالعقيدة الصحيحة فقال لهم لما عرضوا عليه الملك والرئاسة: "كلمة واحدة تعطونيها تدين لكم بها العرب، وتخضع لكم العجم، تقولون: لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه" رواه الترمذي والحاكم وسنده جيّد. وهذا الحديث العظيم إن دل على أمر فإنما يدل على أن دعوة الإسلام ليست دعوة توحيد وجنة فحسب، إنما هي دعوة قوة ودولة وفتح ومجد ... وقد تحقق كل ما وعد به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه الفتوحات من المحيط إلى المحيط في أقل من قرن من الزمن، مما أدهش العلماء الغربيين حتى أطلقوا عليها اسم "المعجزة الإسلامية" لأنهم لم يستطيعوا أن يتصوروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 أن فئة قليلة وفقيرة من العدد والأعتده، تستطيع القضاء على امبراطوريتي روما وفارس، وهما كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في العصر الحديث وذلك لأن علومهم المادية لا تستطيع أن تتصور تأييد الله سبحانه ومعونته للمؤمنين. من أجل ذلك يسعى هؤلاء المستعمرون لإبعاد المسلمين عن الإسلام الصحيح بعقيدة التوحيد الجبارة، بمختلف الأساليب، وخاصة لما غلبوا بكثرتهم الساحقة في الحروب الصليبية ومزقوا شر ممزق. ومالنا نذهب بعيداً في البرهنة على قوة العقيدة الصحيحة الإسلامية، وسرعة تأثيرها بالاستدلال بالتاريخ قديماً، وها هي ذي أمامنا ظاهرة جديدة في العصر الحديث، هي الدعوة التي نتحدث عنها، وكيف أن الله العظيم نصر الحكومة السعودية الأولى لما تبنّت التوحيد وعزمت على الدفاع عنه، وذلك بتوجيه الإمام محمد بن عبد الوهاب، حتى تم لها النصر المبين. وإن ننس فلا ننسى ثورة بطل الجزيرة العربية في هذا العصر أيضاً الذي عاهد الله سبحانه على تحقيق عقيدة التوحيد، فنصره أعجب انتصار، وأعاد الأعجوبة الأولى واستطاع بأربعين رجلاً وسبعة عزّل، إعادة فتح هذه الجزيرة وتحقيق المملكة العربية السعودية التي نأمل أن تظل قلعة منيعة لحماية الإسلام ونشره، مثابرة على تبني هذه الدعوة حتى يستمر لها البقاء والنصر والتقدم الحقيقي، فلا تصغي إلى بعض دعاة التطور الزائف. ولا شك أن القارئ بعد مطالعته ما تقدم، تأكد من صحة دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب وضرورة انتشارها والدفاع عنها لأنها دعوة الإسلام الصحيح، فعلى المخلصين من الدعاة التعاون معاً لإيجاد السبل والوسائل التي تحقق ذلك، فإن المتقاعس عن ذلك كالمتقاعس عن الجهاد في سبيل الله!!. والآن، وقبل أن أبدأ باقتراح لنشر هذه الدعوة بين الناس، أذكر على سبيل التندر والعبرة، أمثلة قليلة من مئات الأمثلة على مبلغ دسائس المستعمرين ودعاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 السوء من المتعالين، لمحاربتها بتضليل العامة والمغفلين، ليتنكروا لها ويحاربوا دعاتها، وذلك لأثير غيرة المخلصين من الدعاة، وأشحذ هممهم، لينتبهوا للمؤامرات ويشمروا عن ساعد الجدّ والعزيمة ويتسابقوا لنصرة دعوة الله سبحانه. وكيلا يظن بعضهم أن قصة المجوسي المرابي التالية من نسج الخيال، لغرابتها وفظاعتها، أقول ذكرها الأستاذان المودودي وأبو الحسن الندوي في بعض كتبهما وذكر الأمثلة الأخرى الأديب علي الطنطاوي في كتابه "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" تحت عنوان مضحكات ومبكيات، وهي حوادث تفتت الأكباد وتبعث على الأسى والحسرة والبكاء، لما وصلت إليه دعوة التوحيد من الغربة!!. مضحكات ومبكيات: "ولقد أخبرني الأستاذ أبو الأعلى المودودي أنه كان في بلدة في "الهند" مراب مجوسي يستقرض منه بعض جهلة المسلمين بالربا الفاحش، وكان له على واحد منهم دين عجز عن وفائه، فرفع المرابي الأمر إلى القاضي، فجاء المسلم المسجد فقام فيه فقال: -إن فلاناً "المرابي" قد صار وهابياً!!. فقاطعه المسلمون حتى كاد يفلس، فتحرى عن السبب، فلما عرفه رجع إلى المدين فأسقط عنه الدين وترضاه أن ينفي عنه تهمة الوهابية. فعاد المسلم إلى المسجد فقال: إن فلاناً قد تاب من الوهابية ورجع إلى دينه –فرجعوا على معاملته-. ولقد ذكرت في ترجمة أحمد بن عرفان الشهيد، خبر الدولة الإسلامية التي أقامها في شمالي الهند، وحارب السيخ وكسرهم، وعجز عنها الإنكليز، فلم يجدوا وسيلة إلى القضاء عليها، إلا اتهامها عند شيوخ القبائل الأفغانية، بأنها دولة وهابية، فاستحلوا بذلك قتالها وقضوا عليها!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وأخبرني الشيخ فوزان –سفير السعودية في الهند- لما قابلته في بومباي أن المنبوذين في الهند، وهم زهاء أربعين مليوناً، قبلوا الدخول في الإسلام من نحو نصف قرن وأقبلوا عليه أفواجاً، فما كان من الإنكليز إلا أن عمدوا إلى سلاحهم القديم وهو التهمة بالوهابية، فأثاروا بذلك العامة، وأفهموهم أن هؤلاء إن أسلموا صاروا وهابيين، فعقدت لهم امتحانات، يسألونهم فيها عن الوهابية، ورأيهم فيها، وفي مسائلها. فكانت العاقبة أن انصرفوا عن الإسلام وآثروا البقاء على ما هم فيه، وقد قرأ القراء في كتابي عن أندونيسيا خبر وصول موجة الوهابية إلى أواسط جزيرة جاوا وأنه ما فرق المسلمين إلا كتب يوسف النبهاني1". لا شك أن القارئ المنصف الغيور على التوحيد قد استفظع هذه الأخبار وحق له أن يستفظعها، ولكن هناك أمراً آخر قد لا يقل عنها فظاعة، ترى ما هو؟ يمكننا أن نستنتج من الحوادث السابقة، وأمثالها كثير أمرين: أحدهما: قوة الدعاية المضادة لدعوة هذا الإمام، فقد استطاعت أن تقلب الحق على باطل والمعروف إلى منكر، وتخفي الشمس في رائعة النهار. الثاني: وهو لا يخطر على بال الكثيرين على الرغم من بداهته وخلاصته: تساهل بعض حملة دعوة التوحيد، صحيح أنهم كثيرون ولكنهم يهملون وتكاد تتقلص، في بعض البلاد نرى الدعوات الماكرة والإلحادية على أساليب الدعاية الإعلامية الحديثة، في حين نرى الدعوات الماكرة والإلحادية على الرغم من بطلانها وسخافتها ومخالفتها للفطرة السليمة وقتلها للطموح الإنساني، ناشطة –وللأسف-. وقد خدعت كثيراً من الجماهير الغفلة، وذلك نتيجة استعمال وسائل الإعلام العاصرة. ذلك السلاح الخطير الذي ينبغي أن ندرسه لنستعمله في سبل الحق والخير.   1 الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/7-8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 إن الظروف الحرجة التي يجتازها العالم الإسلامي تتطلب من كل مفكر مخلص سواء كان مربياً أو صحفياً أو أديباً أو غير ذلك أن يكون عالماً بهذا السلاح الإعلامي وذلك من أجل تعبئة المسلمين كيلا يتأثروا به سواء كان ملحداً أو انحلالياً أو غير ذلك، وكل ذلك مفقود الآن على الغالب مع شدة الحاجة إليه. لقد كان جديراً بالمسلمين أن يكونوا سباقين لأسلحة الإعلام المشروعة، فما القرآن العظيم إلا كتاب ألهي رائع سبق أرقى الأساليب الغربية باستخدامه الأسلوب القصصي والأدبي ولجوئه للدعاية بطريقة مباشرة وغير مباشرة، والأمثلة كثيرة منها كسبه للفرص كي ينشر دعوته، مثل ما جاء في قصة يوسف عليه السلام حينما سأله السجينان عن تفسير رؤياهما، فاغتنم فرصة انتباههما، فسرد عليهما مبادئ التوحيد في قول الله تعالى: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ... } . وما الحديث النبوي إلا ملاحق وبيان للقرآن بأساليب إعلامية رائعة، وما السنة إلا تطبيق عملي للإعلام القرآني والنبوي بأسلوب جميل ومثير ومشوق، في سلوك الرسول "صلى الله عليه وسلم" مما أدهش أكثر الكفار فدخلوا في دين الله أفواجاً. وقد كانت كتبه صلى الله عليه وسلم للملوك والأمراء يدعوهم للإسلام حدثاً إعلامياً عظيماً يدل على مبلغ اهتمامه بنشر الدعوة. وقد استغرب بعضهم إرساله الكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 إلى الجهات النائية، بينما كانت حاله في المدينة غير مستقرة وتحيط به الأزمات والمشكلات، ويهدّد دعوته الأعداء من الداخل والخارج. ومما يؤسف له أن هذا السلاح الإعلامي العام في تبليغ الملوك والرؤساء والعلماء، مهجور وقد كنت كتبت إلى بعض الجهات الإسلامية المسؤولة بوجوب تحقيق هذه السنة النبوية الخطيرة، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية" الحديث رواه البخاري. وقد كان يجعل لشاعره حسان منبراً في مسجده في المدينة ويدعوه لينافح عن الإسلام، ويشجعه بقوله: اهجم وروح القدس معك ما نافحت عن رسول الله! فهلا خصصنا للتوحيد ومحاربة الوثنية شعراء دائمين كما فعل؟! وقد كان هذا النبي يعرض نفسه على القبائل ويقطع المسافات الشاسعة لتبليغ دعوة الإسلام، ولا ننسى رحلته البعيدة إلى الطائف من مكة، مشياً على الأقدام في الحر الشديد لهذه الغاية، مما لا يقدر عليه إلا الأبطال، وقد عرفت ذلك من زيارتي لأول مرة لهذا البلد الجميل. وقد دلنا على أهم سبل الدعوة بدفع الأموال إلى بعض الزعماء والأدباء يتألف قلوبهم أملاً بإسلامهم وإسلام أتباعهم، وكان مما قاله في حديث رواه البخاري: "لو آمن عشرة من اليهود، لآمن يهود". وليسمح لي القارئ أن أقول إنني أقوم جهد المستطاع بدوري كمسلم مكلف بالدعوة، فقد كتبت إلى البابوات في روما والقاهرة وغيرهما كتباً أثبت فيها صحة دعوة الإسلام من التوراة والإنجيل كوحدانية الله تعالى، وعبودية المسيح "صلى الله عليه وسلم" ورسالته فقط وعدم صلبه، إنما صلب غيره كما أثبت مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبرني البابا في رسالة بوصول كتابي إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ثم بعثت له بكتاب آخر طلبت منه الجواب، وإلا اعتبرت سكوته إقراراً، لأن السكوت في معرض الحاجة إقرار. وكذلك أرسلت إلى بعض رؤساء جمهوريات الغرب والشرق بكتب ذكرت لهم فيها أن الإسلام وحده هو الكفيل بحل مشكلات العالم. ومثل ذلك بعثت إلى الكاتب الحضاري أرنولد تونبي، فأجابني قبل موته أنه كتب عن الإسلام الكفاية في العديد من كتبه، ولو كانت لي الاستطاعة لزرت هؤلاء، وقد كنت طلبت من بعض الجهات تبني دعوة اليابانيين للإسلام –على مستوى كبار المسؤولين- بصورة رسمية أسوة بما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، بإرسال الوفود تلو الوفود إلى اليابان قبل أن تتخطفهم الديانات الأخرى الناشطة. وجزى الله تعالى الحكومة السعودية خيراً فإنها تقوم بجهد مشكور في هذا السبيل. وقد أنشأت لهذه الغاية "إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة الإرشاد" خصصت لها ميزانية ضخمة، يتولى رئاستها العامة العلامة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز المعروف بإخلاصه وسهره، فهو يرسل الأساتذة والدعاة إلى جميع أنحاء القارات الخمس مزودين بالكتب والرسائل والنشرات في مختلف اللغات الأجنبية. كما أنشأت "رابطة العالم الإسلامي" في مكة المكرمة وخصصت لها كذلك موازنة ضخمة للدعوة الإسلامية وتحقيق التضامن الإسلامي، الذي يتوقف عليه نهضة المسلمين ومجدهم، وتسعى لإمداد الجمعيات الإسلامية في كثير من الأصقاع بالأموال والمدرسين والكتب بسخاء. هذا وإني لأرجوا من القارئ أن يعذرني لهذا الاستطراد في الكلام على سلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الإعلام، وليسمح لي بعد ذلك أن أحدثه عن اقتراح كنت وعدته به من أجل نشر دعوة التوحيد وحمايتها من الدجالين والمستعمرين، لتؤتي أكلها وتعم الناس جميعاً، وقد عملت لها من أكثر من ربع قرن إلى يومنا هذا دون كلل ولا ملل مما يعلمه الكثيرون من إخواني سواء في بلدي أو في غيرها، ولكن جميع المساعي لم تفلح، لأنها كانت على مستوى فردي، كان آخرها هذه الرسالة: "الإمام محمد بن عبد الوهاب في مرآة علماء الشرق والغرب". وتتلخص هذه الفكرة في إدخال ملخصات عن دعوة التوحيد التي جاء بها هذا الإمام بإخراج راق في مناهج المدارس والجامعات في العالم الإسلامي في مادة التاريخ بمناسبة الكلام على الحركات والدعوات الإصلاحية التي أيقظت العالم الإسلامي، وهي مادة موجودة في أكثر المناهج.. ولنأخذ كمثال على ذلك وزارة التربية في الجمهورية العربية السورية، فقد وضعت في صف الشهادة الابتدائية والشهادة الإعدادية، وصف الشهادة الثانوية معلومات لا بأس بها عن دعوة إمامنا العظيم، لكنها لا تخلوا من بعض الضعف بسبب قلة معرفة المؤلفين بسيرته وخلاصة دعوته. وقد سعيت جهدي منذ أكثر من ربع قرن لتصحيح ذلك بتقديم نماذج صحيحة فلم أفلح إلاّ قليلاً. ولا شك أن هذه المعلومات القوية الصحيحة إذا تشربتها الأجيال في المدارس والجامعات صححت عقيدتهم ورفضوا الإشاعات والأكاذيب التي ينسجها الدجالون والخرافيون والمستعمرون حول سيرة هذا الإمام العظيم وتبنوا الدفاع عن عقيدة التوحيد والدعوة إليها ومقاومة من يحاربها أو يشوهها من أعداء الإسلام حتى جعلوا المغفلين من المسلمين يفضلون المجوسي المرابي على حامل العقيدة الصحيحة مما سبق ذكره. إذا ما الجهل خيّم في بلاد ... رأيت أسودها مسخت قرودا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 كل ذلك بشرط كتابة هذه المعلومات للأجيال من قبل أدباء ومؤرخين محققين أمناء ولا أرى مانعاً من أن يتقدم بعض الدعاة بنماذج موثوقة ومشوقة إلى هذه الحكومات الإسلامية تستعين بها على كتابة الموضوع على هدي وبصيرة وكتاب منير. وإنني أقترح على الدعاة المخلصين تبني هذا الاقتراح إذا رأوا ذلك، فيمكنهم بما لديهم من دالة ونفوذ أن يعمدوا إلى دعوة مؤتمر قمة إسلامي على مستوى وزراء التربية والمعارف لتحقيق هذا الاقتراح، فإن فيه خيراً وقوة للجميع، وتجديداً لعقيدة التوحيد كمنهاج للحياة التي يتوقف عليها الفوز في الدنيا والآخرة، والنجاة من الخرافات والوثنيات التي تفتك بالعالم الإسلامي، والخلاص من سدنة الرمم البالية الذين يخدعون البسطاء من المسلمين للاستغاثة بهم من دون الله العظيم وطلب حاجاتهم منهم وهم لا يملكون حتى لأنفسهم لما كانوا أحياء نفعاً ولا ضراً، وقد سخر الله سبحانه من هؤلاء الداعيين الجهلة في آيات عديدة مثل قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف:197] {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: من الآية194] {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الاحقاف:5] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73-74] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ولا شك أن الوزراء المشار إليهم سيوافقون على هذا الاقتراح الذي يوقظ العالم الإسلامي ويحقق له نصر الله تعالى وتأييده ويكوّن في أجياله الوعي، ويسموا بها وينقذها من الدجالين والخرافيين سدنة المقابر، ويرفع رأس المؤمن عالياً فلا يخضع إلا لربه ويترفع عن سؤال غيره من الموتى والارتماء على أضرحتهم والتمسح بترابها ويغدق على هؤلاء السدنة أموال الذبائح والنذور التي يستلبونها حراماً وسحتاً، وقد يكون هذا الدافع بأشد الحاجة إلى هذا المال له ولأولاده وأقربائه وجيرانه ولله در حافظ إبراهيم إذ يقول: أحياؤنا لا يرزقون بدرهم ... وبألف ألف ترزق الأموات!! إنني أستصرخ الضمائر الحية المخلصة للسعي من أجل تحقيق هذا الاقتراح الذي يستطيع هدم معاقل الخرافيين والمبتدعين ويبطل دعواهم وافتراءهم، ومحاربة خصوم التوحيد وأعداء الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومروجي الدعايات الباطلة التي لا تزال على أشدها، ونحن نحترق في لظاها، على الرغم من الجهود التي بذلت وتبذل، ونحنن كون مغرورين جداً إذا اعتقدنا أن هؤلاء الخصوم قد تقهقروا واستسلموا، فهم في ازدياد، تخرجهم بعض ما تسمى بالكليات والمعاهد الدينية الشهيرة، في عنف وتآمر لمحاربة المصلحين والمجددين ولول أردت ضرب الأمثال لضاق نطاق هذه الخاتمة، وقد علمت أن كثيراً من أدعياء العلم يقصدون رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ويأخذون منها صناديق من كتب التوحيد القيمة ثم يحرقونها في بلادهم بحجة أنها كتب وهابية. ومما يؤسف له، ويبعث في النفس الأسى والحرة، أن أحد كبار الشيوخ الموكل إليهم تخريج طلبة العلم، وقد انتقل على جوار ربه في السنوات الأخيرة سعى للطعن بحركة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمختلف الأكاذيب، وذكر في خاتمة هذا الكتاب المذاهب الحديثة فكانت بنظره "البهائية والقاديانية والوهابية" فجمع بينها، مما لا يقدم عليه أعدى خصوم الإسلام وأجهلهم فإن البهائية والقاديانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ليست مذاهب، بل فرقاً مارقة وكافرة وعميلة، وما أسماه بالوهابية، ليس مذهباً حديثاً، بل هو تجديدية قديمة للتوحيد الخالص والإصلاح الديني نادى بها كثير من المصلحين منذ قرون بعيدة أمثال الإمامين العظيمين الجريئين ابن تيمية وابن القيم أجزل الله ثوابهما ومن جهل الشيخ المذكور بأبسط مبادئ التوحيد أنه لما كان في دمشق في أسبوع الإمام ابن تيمية دعا في خاتمته بعض المدعوين إلى زيارة قبر شيخ الإسلام قائلاً: "سنزور قبره على الرغم من نهيه عن زيارة القبور" يشير بذلك إلى تجديده لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالنهي عن شدّ الرحال إلا للمساجد الثلاثة فهو لم يستطع أن يميز بين زيارة القبور المسنونة وبين شد الرحال الممنوعة!. ومن جهله أيضاً أنه في كتابه السابق حض المسؤولين في المملكة على وضع ستائر جديدة للضريح النبوي بدلاً من الستائر البالية ... مع العلم بمحاذير ذلك وتحريمه مما كنا فصلنا فيه القول فيما سبق من الأبحاث. وأهم ما أود أن أشير إليه في هذه الخاتمة لبيان فضل إصلاح المجدد محمد بن عبد الوهاب، أن كثيراً من المستشرقين المغرضين ودعاة التغريب، يزعمون زوراً وبهتاناً أن نهضة العرب الحديثة بدأت في حملة نابليون بونابرت الفرنسية على مصر وبفضل الإرساليات التبشيرية، وكل ذلك مخالف للحقيقة وتزوير للتاريخ، فإنّ حملة نابليون على أرض الكنانة، كانت عام 1798 بينما كانت حركة الشيخ حوالي 175، ولا أدري ما هي النهضة التي استفادها العرب من الحملة الفرنسية الاستعمارية، وقد حملت معها المطبعة لتمهد لها تثبيت جريمتها والترويج للتبشير والاستعمار .... والحقيقة أن نهضة الأمة العربية –والإسلامية أيضاً- تحققت نتيجة الشعلة التي سطعت من الجزيرة العربية على يد الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الدعوة لتجديد الإسلام وإحياء عقيدة التوحيد، بعدما خمدت سنين طويلة وقامت بعدها الوثنية في كل مكان حتى في مصر بلد الأزهر .... وهكذا كانت اليقظة عقب ليل داج من الأوهام والشركيات، وقد نشأت المعارضة، وهبت الفتن، ولكن سرعان ما أطفئت بحزم الحكومة السعودية الأولى ودعم الإمام محمد بن سعود أجزل الله ثوابه. قد يقول قائل بعد هذه الرحلة الطويلة التي قطعناها في دراسة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب وثناء كبار علماء العالم وأدبائه على جهوده الجبارة في هذا الميدان على الرغم من إصرار خصومه من المبتدعة والقبوريين. لقد وصل العلماء إلى الفضاء الخارجي وغزوا الكواكب وفجروا الذرة واكتشفوا القنبلة الهيدروجينية والنتروجينية، في وقت أقمت الدنيا وأقعدتها في دعوة التوحيد وبطلها الشيخ محمد بن عبد الوهاب. فهلا فكرت لنا بأرضية صلبة وأفكار جديدة؟ لا أود أن أرد على هذا السؤال كيلا أتهم بالتعصب، ولكني أدع المجال لبعض علماء الغرب في بيان علو شأن التوحيد وخطورته في تقدم العلوم ورقي البشرية، وقد ثبتت صحة ذلك للمسلمين الأولين الذين سرعان ما غدوا أساتذة العالم بفضله وفتحوا الدنيا من المحيط إلى المحيط بأقرب من نصف قرن. قال المؤرخ الحضاري "أرنولد تونبي": "إن العقبة الكبرى في سبيل تسخير طاقات الطبيعة، كانت عقيدة الشرك الذي ساد العقل البشري لزمن طويل، والذي حول طاقات الطبيعة، كانت عقيدة الشرك الذي ساد العقل البشري لزمن طويل، والذي حول طاقات الطبيعة إلى آلهة، وكان المشركون يقدسون ويعبدون هذه الطاقات بدلاً من تسخيرها. وعقيدة التوحيد هي التي جعلت الإنسان ينظر إلى هذه الطاقات، كأنها مخلوقات مثله، ومن ثم بدأ يفكر في تسخيرها". ويعلق الكاتب القدير "وحيد الدين خان" على كلام تويني بقوله يصف قصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 المسلمين في فهم عقيدة التوحيد وأثرها في التقدم: ولسوء حظنا لم نستطع في هذا العصر الحديث أن نقوم في مواجهة الشرك وإلا لما كنا في موقف الدفاع، ولكان للبشرية تاريخ آخر اليوم 1 فهل تحققنا من مبلغ وعظمة كلمة التوحيد الذي ندعو إليه من أجل حياة أسعد وأقوى؟ وقد وعد الرسول بكل ذلك في قوله لقومه الذين جاؤوا للتفاوض معه لمعرفة طلبه، فقال لهم في الحديث الصحيح: "كلمة واحدة تعطونيها! تدين لكم بها العرب، وتخضع لكم العجم! تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه"!! وقد تحقق لهم كل ذلك بفضل كلمة التوحيد ... وفي الخاتمة ... أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجزي الإمام محمد بن عبد الوهاب خير الجزاء ويسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، أجر ما بذل، وعذب واضطهد وجاهد وصبر وصابر، وكتب وألف في تطهير عقيدة التوحيد والدفاع عنها، وإنقاذ المسلمين من الشرك والوثنية والارتماء على عتبات الأضرحة بذل وخشوع وتضرع، ودعاء أصحابها في الشدائد، والاستغاثة بهم وسؤالهم ما لا يقدر عليه إلا الله وحده. إن هذا الإمام هو بحق مجدد القرن الثاني عشر الهجري الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم في أمثاله: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها" رواه أبو داود وغيره وسنده صحيح. اللهم إنا لنشهد أن الإمام محمد بن عبد الوهاب كان يدافع عن توحيدك الذي أنزلته في كتابك، وأرسلت من أجله رسولك صلى الله عليه وآله وسلم،   1 الشريعة الإسلامية وتحديات العصر، ص 12 وحيد الدين خان العاشر دار النفائس بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فجاهد وصبر، وصابر حتى تم له النصر {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} . اللهم اجز هذا الإمام عن الإسلام والتوحيد خير الجزاء، وأدخله الجنة بسلام. اللهم أيد أنصاره وأعوانه المجاهدين بنصرك إنك لا تضيع أجر المحسنين. اللهم اهد خصوم هذه الدعوة إلى الصواب واشرح صدورهم إلى الحق يا أرحم الراحمين ومجيب السائلين. اللهم ثبت جماعة أهل الحديث على الحق، كما ثبّت الشيخ، فهم مصابيح الدجى، والهداة إلى الدين الصحيح، إنهم ماضون في جهادهم، غرباء في أمتهم، محاربون في قومهم ... قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً لأصحابه في أجر هذه الجماعة: "إن من ورائكم أيام الصبر! للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه، أجر خمسين منكم، قالوا يانبي الله! أو منهم. قال: بل منكم! " رواه أبو داود والترمذي، وسنده صحيح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. محمود مهدي الاستانبولي. ملاحظة هامة: سهونا أن نشير فيما سبق أن كلمات الكتاب العرب الأجلاء المنشورة ابتداءً من الصفحة 72 إلى الصفحة 126 هي منقولة باختصار عن المحاضرات التي ألقيت في "أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب" رحمه الله تعالى الذي أقامته مشكورة "جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية" في الرياض عام 21/4/1400 هـ "8/3/1980م" ما عدا كلمة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وكلمتي الإمام محمد بن عبد الوهاب اللتين جاءتا على لسان ولديه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142