الكتاب: الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق المؤلف: سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان بن مصلح بن حمدان بن مسفر بن محمد بن مالك بن عامر الخثعمي , التبالي , العسيري , النجدي (المتوفى: 1349هـ) المحقق: عبد السلام بن برجس بن ناصر بن عبد الكريم الناشر: رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الخامسة، 1414هـ/ 1992م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق سليمان بن سحمان الكتاب: الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق المؤلف: سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان بن مصلح بن حمدان بن مسفر بن محمد بن مالك بن عامر الخثعمي , التبالي , العسيري , النجدي (المتوفى: 1349هـ) المحقق: عبد السلام بن برجس بن ناصر بن عبد الكريم الناشر: رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: الخامسة، 1414هـ/ 1992م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة المحقق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فهذا كتاب "الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق" تأليف الشيخ العلامة: سليمان بن سحمان –رحمه الله تعالى- ألفه رداً على أحد طغاة العراق، الذين ما فتئوا في تضليل الخلق، وتلبيس الحق، وتشويه دعوة الإصلاح بكل وسيلة. وقد جاء هذا الرد حاوياً لبحوث قيمة، وعلوم متفرقة، كالتاريخ والعقيدة، والسياسة، مما أعلى مقامه، ورفع شأنه في أعين العلماء وطلبة العلم، حتى أنه طبع ثلاث طبعات: الطبعة الأولى: في المطبعة المصطفوية ببمبي الهند. مع كتاب المؤلف "الألسنة الحداد في رد شبهات علوي حداد" وكان الساعي في طبع هذا الكتاب: عبد المحسن بن محمد بن مرشد –رحمه الله تعالى- وليس عليها تاريخ الطبع. وهي طبعة حجرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 الطبعة الثانية: في مطبعة الشيخ الإمام محمد رشيد رضا "المنار" عام 1344هـ. على نفقة جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود –رحمه الله تعالى- وقد أبدلت في عنوان هذه الطبعة كلمة "الماذق" بـ "المازق"، ومعنى الماذق -بالذال- غير مخلص. وبالزاء: ممزق. فهو اسم فاعل بمعنى المفعول. الطبعة الثالثة: في مطبعة الرياض، عام 1376هـ على نفقة جلالة الملك سعود بن عبد العزيز –رحمه الله تعالى- وفي هذه الطبعة كتب على الغلاف الخارجي في العنوان كلمة: "ماذق" بالذال. وفي الداخل " المازق" بالزاء‍‍!! ونظراً لنفاد جميع هذه النسخ، وقلة وجودها في أيدي طلبة العلم، قمنا بمقابلة هذه النسخ، مثبتين بعض الفروق بينها، مع جعل النسخة الهندية أصلاً. وخرجت بعض الأحاديث الواردة في الكتاب. سائلين الله سبحانه أن يبارك في هذه الطبعة، وأن ينفع بها طلاب العلم، إنه سميع الدعاء. وفي الختام أتوجه بالشكر الجزيل للإخوة الأفاضل، الذين شاركوا في مقابلة النسخ، وصححوا تجارب هذا الكتاب -وغيره من هذه السلسلة- نسأل الله سبحانه أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 يثيب الجميع، وأن يصلح لنا ولهم العمل والنية. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. كتبه عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم. الرياض 2/2/1411هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 تمهيد ... الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق تأليف: الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى 1266-1349هـ تحقيق: عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم بسم الله الرحمن الرحيم ترجمة موجزة للمؤلف 1- نسبه، ومولده، ونشأته، وطلبه العلم: هو الإمام العالم العلامة، المحقق المدقق الفهامة، مفيد الطالبين، ومحامي حوزة الدين، السيف المسلول، والصارم المشهور، على أهل الكفر والضلال والفجور، طنت بذكره الأعصار، وضنت بمثله الأمصار، صاحب التصانيف المشهورة، والفضائل والمحاسن المأثورة، سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان بن مسفر بن محمد بن مالك بن عامر الخثعمي العسيري النجدي الحنبلي. سأله رجل من أسرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن نسبه فقال: سليمان سحمان وسحمان مصلحٍ ... ومصلحُ حمدانٍ وحمدانُ مسفرُ أولئك آبائي سلالة عامرٍ ... إلى خثعم يعزى وبالخير يذكرُ ولد هذا العالم النبيل في قرية (السقا) : من قرى أبها سنة ستٍ وستين ومائتين وألف "1266" من الهجرة النبوية. ونشأ في بيئة صالحة ترفل في ثياب العلم والتقى، وتُعرف برفع راية التوحيد والهدى، فبدأ بقراءة كتاب الله جل وعلا، ثم حفظه عن ظهر قلب لم يُشرب بحب الميل إلى اللهو والهوى، فلما امتن عليه المولى بهذه المكرمة العظمى، شرع في طلب العلم بهمة عالية، ورغبة صادقة، فقرأ على علماء بلده في أصول الدين وفروعه، وحفظ مبادئ العلوم حتى تمكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 من فنونه، ولازم أباه في طلب العلم ليلاً ونهاراً، ورحل في الطلب يميناً وشمالاً، وخاض جميع العلوم الشرعية بحاراً وأنهاراً، حتى أدرك بغيته توفيقاً من الله وإكراماً، وحاكى الأكابر من العلماء حفظاً وإتقاناً. 2- مشايخه وتلامذته: لازم كثيراً من العلماء المبرزين الذين لهم قدم راسخ في علوم الدين، ومن أهم هؤلاء الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، وابنه الشيخ الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ حمد بن عتيق، وكفى بالشيخ -المترجم له- فخراً أن يكون تلميذاً لهؤلاء الأجلاء العظام. وقد وقف الشيخ حياته للعلم وأهله، فانتفع به خلق لا يحصون، من أبرزهم الشيخ سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان - صاحب الردود المشهورة، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وعمر بن حسن، وعبد اللطيف بن إبراهيم رحمهم الله تعالى، وعبد العزيز بن صالح المرشد حفظه الله تعالى. 3- مؤلفاته: شموس من التحقيق في طالع السعد: ... تجلت فأجلت ظلمة الهزل والجد قواطع من آي الكتاب كأنها: ... بأعناق أهل الزيغ مرهفة الحد إن الناظر في مؤلفات هذا العالم الجليل يلاحظ أن أغلبها في الردود على أهل الإنحراف العقدي. وإن الاعتناء بهذا الباب من أبواب العلم واجب على نخبة من علماء السنة في كل عصر لما فيه من الحفاظ على العقيدة السلفية الصحيحة، وكشف الشبهات النتنة القبيحة، التي يروج سوقها أهل الطرق والمقاصد الرذيلة، وقد قال أهل الأصول "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 قال ابن بسام في ترجمة الشيخ من كتابه "علماء نجد" 1/280: فجرد قلمه للرد على هؤلاء المغرضين، ولسانه برائع الشعر على المارقين، فصار يكيل لهم الصاع صاعين بقوة الكلام وسطوع الحجة، وصحة البرهان، فيدحض أقوالهم، ويرد شبههم، ويوهن حجتهم، كما يرميهم بشهب من قصائده الطنانة، وأشعاره الرنانة، وقوافيه المحكمة، وأبياته الرصينة، وبهذا فهو ذو القلمين، وصاحب الصناعتين، وقلما اجتمع النثر والشعر لواحد إلا لنوابغ الكتاب، وأصحاب الأقلام، فصار لسان هذه الدعوة، ومحامي هذه الملة اهـ. كلامه. ومن هذه الردود الصارمة والمؤلفات الساطعة: 1- تأييد مذهب السلف وكشف شبهات من حاد وانحرف. 2- البيان المبدي لشناعة القول المجدي. 3- منهاج أهل الحق والإتباع في مخالفة أهل الجهل والإبتداع. 4- الجواب المنكي على الكنكي. 5- كشف الإلتباس عن تشبيه بعض الناس. 6- الأسنة الحداد على علوي حداد. 7- الصواعق المرسلة الوهابية على الشبة الداحضة الشامية. 8- الجيوش الربانية في كشف الشبه العمروية. 9- الجواب الفاصل في الساعة بين من قال إنها سحر ومن قال إنها صناعة. 10- إقامة الحجة والدليل وإيضاح المحجة والسبيل. 11- تنبيه ذوي الألباب السليمة عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة. 12- مشروعية الجهر بالذكر بعد السلام "تحقيق الكلام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 4- وفاته: وافاه الأجل المحتوم مأسوفاً على فقده في العاشر من شهر صفر سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف (1349) هـ، وصلى عليه في الجامع الكبير بالرياض، وخرج في جنازته أهل البلد، ودفن في مقبرة "العود"، وصلي عليه في جوامع نجد صلاة الغائب، رحمه الله تعالى ورضي عنه1.   1 مصادر الترجمة: 1- الدرر السنة لابن القاسم ج 12. 2- علماء نجد خلال ستة قرون لابن بسام. 3- روضة الناظرين للقاضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 مقدمة المؤلف ... بسم الله الرحمن الرحيم وبه الثقة والعصمة الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فإني قد وقفت على رسالة مطبوعة مؤلفها1 رجل من العراق، يقال له: جميل أفندي صدقي الزهاوي، جمع فيها الأكاذيب والترهات، والأضاليل المنكرات، مع ما اشتمل عليه كلامه من الفجور، وقول الزور، والتجانف للإثم والعدوان، وصريح الإفك والبهتان، ما يمج سماعه أولوا العقول السليمة، والألباب الزاكية المستقيمة، وسلك فيها   1 في الأصل: "على أوراق كتبها رجل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 مسلك أهل الغي والضلال، واعتمد فيما يحكيه على ما هو من أمحل المحال، وأوخم1 الانتحال، واتبع فيها أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، حيث لم يتمسكوا من الكتاب والسنة بأوضح برهان وأقوم دليل، ولم يردوا من كوثر2 حوضهما السلسبيل، بل عدلوا إلى آسن قلوط3 أهل الفلسفة والتجهيل والتبديل، وحادوا فيها عن منهج أهل الحق والصدق والعدل والإنصاف، وساروا على طريقة أهل الغي والكذب والانحراف. وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] . فإن الله تعالى قد بين الحق بيانا كافيا شافياً، وأرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الخلق بالحق4 مبشراً ونذيراً وداعياً،   1 في الأصل: وخم. 2 سقطت: "كوثر" من ط: المنار. والرياض. 3 القلّوط: بفتح القاف، وتشديد اللام، وبالطاء المهملة، هو: نهر بدمشق الشام، يحمل أقذار البلد وأوساخه وأنتانه، ويسمى في هذا الوقت قليطاً بالتصغير والله أعلم – قاله العلامة الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى في شرح النونية 2/86 على قول ابن القيم: يا وارد القلوط ويحك لو ترى ... ماذا على شفتيك والأسنان يا وارد القلوط طهّر فاك من ... خبثٍ به واغسله من أنتان 4 سقطت من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ونصب الأدلة، وأوضح المحجة، فلم يبق للناس على الله بعد الرسل من حجة، فمن أجاب داعي الله فقد نجا، ومن تولى1 عن الحق معرضاً أفضى به عوجاً. فلما نكب هذا الرجل عن طريقة أهل الحق والتحقيق، ولجأ فيما ينتحله ويحكيه إلى ركن غير وثيق، استعنت الله على رد أباطيله، وتهجين أضاليله وأساطيله، على سبيل الاختصار والاقتصار، وتركت من كلامه ما لا طائل في الجواب عنه، والله المسؤول المرجو الإجابة، أن يمدنا بالإصابة، وأن يجزل لنا الأجر والإثابة، وأن يجعله لوجهه خالصاً، وأن ينفع به من قرأه ونظر فيه، وأن يقمع به صاحب الباطل2 ومبتغيه.   1 في الأصل: قول. 2 في الأصل: بالباطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فصل في منشأ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... فصل قال العراقي1: (الوهابية فرقة منسوبة إلى محمد بن عبد الوهاب، وابتداء ظهور محمد بن عبد الوهاب كان سنة 11432، وإنما اشتهر أمره بعد الخمسين، فأظهر عقيدته الزائغة في نجد، وساعده على إظهارها محمد بن سعود أمير الدرعية بلاد مسيلمة الكذاب، فجبر3 أهلها على متابعة ابن عبد الوهاب هذا، فتابعوه، وما زال ينخدع له في هذا الأمر حي بعد حي من أحياء العرب، حتى عمت فتنته، وكبرت شهرته، واستفحل أمره، فخافه البادية، وكان يقول للناس: ما أدعوكم إلا إلى التوحيد، وترك الشرك بالله تعالى في عبادته، وكانوا يمشون خلفه حيثما مشى، حتى اتسع له الملك) . فالجواب4 -ومن الله أستمد الصواب- أن نقول:   1 في ط المنار والرياض: "الوهابية ومنشؤها". 2 في الأصل بعد كتابة السنة رقماً: "ألف ومائة وثلاث وأربعين". 3 في الأصل: "مجبراً". 4 في الأصل: "الجواب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أما منشأ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وظهورها في نجد، فمن المعلوم عند الخاص والعام أنه قد نشأ في أناس قد اندرست فيهم معالم الدين، ووقع فيهم من الشرك والبدع ما عم وطم في كثير من البلاد، إلاّ بقايا متمسكين بالدين يعلمهم الله تعالى، وأما الأكثرون فعاد المعروف بينهم منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير. ففتح الله بصيرة شيخ الإسلام بتوحيد الله الذي بعث الله به رسله وأنبياءه1، فعرف الناس ما في كتاب ربهم من أدلة توحيده الذي خلقهم له، وما حرّم الله عليهم من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، فقال لهم كما قاله المرسلون لأممهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 32] فحجب كثيراً منهم عن قبول هذه الدعوة ما اعتادوه، ونشأوا عليه من الشرك والبدع، فنصبوا العداوة لمن دعاهم إلى2 توحيد ربهم وطاعته، ولمن استجاب له وقَبل دعوته، وأصغى إلى حجج الله وبيناته، كحال من خلا من أعداء الرسل، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] ، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ   1 في النسخ: "أنبيائه". 2 في الأصل: "في". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام: 112] . فإذا تمهد هذا فلنذكر ههنا شيئاً يسيراً من حال نشأة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي رحمه الله، وظهوره ودعوته إلى الله، ليعلم الطالب، ويتحقق الراغب، حقيقة ما دعا إليه هذا الإمام، وما كان عليه من الاعتقاد والفهم التام، ويتبين للناظر فيها ما بهت به الأعداءُ من الأكاذيب والافتراء، التي يرومون1 بها تنفير الناسِ عن المحجة والسبيل، وكتمان البرهان والدليل، وقد كثر أعداؤه ومنازعوه، وفشا البهت منهم فيما قالوه ونقلوه، فربما اشتبه على طالب الإنصاف والتحقيق، والتبس عليه واضح المنهج والطريق، بما موّهوا به من تلك الأكاذيب الشنيعة، والألقاب الداحضة الوضيعة، فإن2 من استصحب الأصول الشرعية، وجري على القوانين المرضية، عرف أن لكل نعمة حاسداً، ولكل حق جاحداً، ولا يقبل في نقل الأقوال والأحكام، إلا العدول الثقات الضابطون من الأنام، ومن استصحب هذا استراح عن3 البحث فيما ينقل إليه ويسمع، ولم يتلفت إلى أكثر ما يختلف ويصنع، وكان من أمره على منهاج واضح ومشرَع.   1 في الأصل: "يرمون". 2 في طبعة المنار والرياض: و"أن". 3 في الأصل: "استراج". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 فصل في طلب الشيخ رحمه الله للعلم ومبدأ دعوته ... فصل كان مولده رحمه الله سنة 1115 خمسة عشرة بعد المائة والألف من الهجرة النبوية، في بلد العُيينة من أرض نجد، ونشأ بها، وقرأ القرآن بها حتى حفظه وأتقنه قبل بلوغه العشر، وكان حادّ الفهم، سريع الإدراك والحفظ، يتعجب أهله من فطنته وذكائه، وبعد حفظ القرآن اشتغل وجد في الطلب، وأدرك بعض الأرب، قبل رحلته لطلب العلم، وكان سريع الكتابة ربما كتب الكراسة في مجلس. قال أخوه سليمان: كان والده يتعجب من فهمه، ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه –ووالده هو مفتي تلك البلاد، وجده مفتي البلاد النجدية، وآثاره وتصانيفه وفتاويه تدل على علمه وفقهه، وكان جده إليه المرجع في الفقه والقتوى، وكان معاصراً للشيخ1 منصور البهوتي الحنبلي خادم المذهب، اجتمع به بمكة- وبعد بلوغ الشيخ سن الاحتلام قدمه والده في الصلاة، ورآه أهلاً للائتمام، ثم   1 في ط المنار والرياض: "معاصر الشيخ"، وفي الأصل: "معاصر للشيخ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 طلب الحج إلى بيت الله الحرام، فأجابه والده إلى ذلك المقصد والمرام1، وبادر إلى قضاء حجة الإسلام، وأداء المناسك على التمام، ثم قصد المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأقام بها قريباً من شهرين. ثم رجع إلى وطنه قرير العين، واشتغل بالقراءة في الفقه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله. ثم بعد ذلك رحل2 يطلب العلم، وذاق حلاوة التحصيل والفهم، وزاحم العلماء والكبار، ورحل إلى البصرة والحجاز مراراً، واجتمع بمن فيها من العلماء والمشايخ الأخيار، وأتى إلى الإحساء –وهي إذ ذاك آهلة بالمشايخ والعلماء، فسمع وناظر، وبحث واستفاد، وساعدته الأقدار الربانية بالتوفيق والإمداد. وروى عن جماعة منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي، ثم المدني وأجازه من طريقين: وأول ما سمع منه الحديث المسلسل بالأولية، وكتب السماع بالسند المتصل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في   1 في ط المنار والرياض: "المراد". 2 في الأصل: "رخل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الأرض يرحمكم من في السماء" 1.   1 أخرجه الحميدي في مسنده 2/269، والإمام أحمد في مسنده 2/160، والبخاري في تاريخه الكبير 9/64، وأبو داود في سننه –كتاب الأدب- 5/231، والترمذي في سننه –كتاب البر والصلة- 4/323-324، والدارمي في الرد على الجهمية ص: 272 –من عقائد السلف-، والحاكم في مستدركه 4/159، والخطيب البغدادي في تاريخه 3/260، كلهم من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره. وإسناده ضعيف: أبو قابوس مولى عبد الله بن عمرو قال الذهبي في الميزان 4/563: لا يعرف، وذكره في الضعفاء له 2/803، وقال الحافظ في التقريب "مقبول" يعني حيث يتابع وإلا فلين كما نص على هذا في المقدمة. قلت: وللحديث من الشواهد ما يرفعه إلى درجة الصحة، لذلك صححه الترمذي والحاكم وأقره الذهبي –قال السخاوي في المقاصد من 48:وكأن تصحيحهم له باعتبار ما له من الشواهد والمتابعات، وإلا فأبو قابوس لم يرو عنه سوى ابن دينار ولم يوثقه سوى ابن حبان على قاعدته في توثيق من لم يجرح اهـ. ومن شواهده ما أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الأدب 10/426، ومسلم في صحيحه –كتاب الفضائل- 4/1808 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لا يرحم لا يرحم. ومنها ما رواه البخاري في صحيحه 13/358، ومسلم في صحيحه 4/1809 عن جرير بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل". ومنها ما رواه البخاري في صحيحه 3/151 و 10/118 و 13/358-434، ومسلم في صحيحه 2/635-636 عن أسامة بن زيد في قصة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ....................................................................................................................   = موت ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء". ومنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده 2/165 و219، والبخاري في الأدب المفرد 1/470 بإسناد جيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارحموا ترحموا ... " الحديث. ومنها ما رواه الطبراني في الكبير 10/183، والصغير 1/101، والأوسط، وأبو يعلى في مسنده –كما في المجمع 8/187، والدارمي في الرد على الجهمية ص: 273 –من عقائد السلف- والبغوي في شرح السنة 13/38 جميعهم من طريق أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء". قال الحافظ ابن حجر في الفتح 10/440: رواته ثقات. وقال الهيثمي: رجال أبي يعلى رجال الصحيح إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه فهو مرسل اهـ. ومنها ما رواه الطبراني في الأوسط كما في المجمع 8/187 عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يرحم الناس لم يرحمه الله" قال الهيثمي: إسناده حسن. وللحديث شواهد عن عدة من الصحابة غير ما ذكرنا، وقد أفرد السخاوي هذه الأحاديث بجزء أشار إليه في المقاصد الحسنة ص: 49. فائدة: هذا الحديث من الأحاديث المسلسلة بالأولية كما أشار إليه المؤلف والحافظ ابن حجر في الفتح 10/440 والعراقي في ألفيته 2/289 والعجلوني في كشف الخفاء 1/120. وحقيقة المسلسل عند المحدثين: ما توارد رجال إسناده على حالة واحدة أو صفة واحدة للرواة أو الرواية. وصور المسلسلات كثيرة منها (الأولية) وهي: أن يكون أول سماع التلميذ من شيخه لحديث معين، وهذا الشيخ أول سماعه من شيخه لهذا الحديث وهكذا. تنبيه: قال العراقي في التبصرة 2/289: ومن المسلسل ما هو ناقص التسلسل بقطع السلسلة في وسطه أو أوله أو آخره كحديث عبد الله بن عمرو المسلسل بالأولية، فإنه إنما يصح التسلسل فيه إلى سفيان بن عيينة وانقطع التسلسل بالأوليه في سماع سفيان بن عيينة من عمرو، وفي سماع عمرو من أبي قابوس، وفي سماع أبي قابوس من عبد الله بن عمرو وفي سماع عبد الله من النبي صلى الله عليه وسلم وقد وقع لنا بإسناد متصل التسلسل إلى آخره، ولا يصح ذلك، والله أعلم اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وسمع منه مسلسل الحنابلة بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه1 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله"، قالوا: كيف يستعمله؟ قال:" يوفقه لعمل صالح قبل موته" 2، وهذا3 الحديث من ثلاثيات أحمد رحمه الله.   1 سقطت "الله" من ط الرياض. 2 أخرجه ابن المبارك في الزهد ص 345، والإمام أحمد في مسنده 3/106 و120، والترمذي في سننه –كتاب القدر- 4/450، وابن أبي عاصم في السنة 1/175، وابن حبان في صحيحه –الموارد- ص 451، والحاكم في المستدرك 1/339 و 340، والبيهقي في الزهد ص 326، والبغوي في شرح السنة 14/290 جميعهم من طرق، عن حميد الطويل عن أنس بن مالك ... به وإسناده صحيح. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي. فائدة: هذا الحديث من ثلاثيات الإمام أحمد كما أشار إلى ذلك المؤلف، فقد رواه أحمد عن محمد بن أبي عدي –ثقة- ثنا حميد الطويل عن أنس ... به. وللحديث شواهد، منها ما رواه الإمام أحمد 5/224، والطحاوي في مشكل الآثار 3/261، وابن حبان في صحيحه –موارد- ص 451، والحاكم في المستدرك 1/340، والبيهقي في الزهد ص 327 جميعهم من طريق زيد بن الحباب ثنا معاوية بن صالح حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عمرو بن الحمق الخزاعي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أراد بعبد خيراً استعمله" قيل: وما استعمله؟ قال: "يفتح له عمل صالح بين يدي موته حتى يرضى عنه من حوله". هذا لفظ أحمد. ولفظ الباقين "عسله" قيل: وما علسه ... . الحديث إسناده حسن. وصححه الحاكم وأقره الذهبي وأخرجه أبو يعلى في مسنده 6/401-402-440-452. ورواه الإمام أحمد 4/135 من طريق خالد بن معدان ثنا جبير أن عمرا حدثه ... به. ورواه الطحاوي في مشكل الآثار 3/261، والخطيب في تاريخه 11/434 من طريق عبد الله بن يحيى بن أبي كثير عن أبيه عن جبير عن عمرو بن الحمق ... به. ورواه القضاعي في مسند الشهاب 2/294 من طريق قتادة عن الحسن عن عمرو ... به. 3 سقطت "و" من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وطالت إقامة الشيخ ورحلته بالبصرة، وقرأ بها كثيراً من الحديث والفقه والعربية، وكتب من الفقه والحديث واللغة ما شاء الله في تلك الأوقات. وكان يدعو1 إلى التوحيد ويظهره لكثير ممن يخالطه ويجالسه، ويستدل عليه، ويظهر ما عنده من العلم، وما لديه، وكان يقول: إن الدعوة كلها لله، لا يجوز صرف شيء منها إلى سواه، وربما ذكروا بمجلسه إشارة2 الطواغيت، أو   1 في الأصل: "يدعوا". 2 في الأصل: "إشارات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 شيئاً من كرامات الصالحين الذين كانوا يدعونهم ويستغيثون بهم، ويلجئون إليهم في المهمات، فكان ينهى عن ذلك ويزجر، ويورد الأدلة من الكتاب والسنة ويحذر، ويخبر أن محبة الأولياء والصالحين إنما هي متابعتهم فيما كانوا عليه من الهدى والدين، وتكثير أجورهم بمتابعتهم على ما جاء به سيد المرسلين، وأما دعوى المحبة والمودة والمخالفة في السنة والطريقة فهي دعوى مردودة غير مسلمة عند أهل النظر والحقيقة. ولم يزل على ذلك رحمه الله، ثم رجع إلى وطنه، فوجد والده قد انتقل إلى بلدة حريملاء1، فاستقر فيها يدعو2 إلى السنة المحمدية، ويبديها ويناصح من خرج عنها ويفشيها، حتى رفع الله شأنه، ورفع ذكره، ووضع له القبول، وشهد له بالفضل ذووه من المعقول والمنقول، وصنف كتابه المشهور في التوحيد، وأعلن بالدعوة إلى الله العزيز الحميد، وقرئ عليه هذا الكتاب المفيد، وسمعه كثير ممن لدية من طالب ومستفيد، وشاعت نسخه في البلاد، وطار ذكره في الغور3 والأنجاد، وفاز بصحبته واستفاد من جرد القصد   1 في النسخ "حريملا" والمثبت هو الأشهر. ينظر معجم اليمامة 1/317. 2 في الأصل: "يدعوا". 3 غور كل شيء: قعره. يقال: فلان بعيد الغور. ولعل المراد هنا: غور تهامة: وهي ما بين ذات عرق والبحر، وقيل تهامة وما يلي اليمن. أو المراد بالغور ما انخفض من الأرض. قال الأعشى: نبي يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا (ينظر اللسان 5/3312 ط المعارف بمصر) يعني في كل محل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وسلم من الأشر1 والبغي والفساد، وكثر بحمد الله محبوه وجنده، وصار معه عصابة من فحول الرجال، وأهل السمت الحسن والكمال، يسلكون معه الطريق ويجاهدون كل فاسق وزنديق.   1 في ط المنار والرياض: "الأسر". والأشر: الكبر عن قبول الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فصل في حال الناس في نجد وغيرها قبل دعوة الشيخ ... فصل كان أهل عصره ومصره في تلك الأزمان قد اشتدت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت قواعد الملة الحنيفية، وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن، وشب الصغير وهو لا يعرف من الدين إلا ما كان عليه أهل تلك البلدان، وهرم الكبير على ما تلقاه عن الآباء والأجداد، وأعلام الشريعة مطموسة، ونصوص التنزيل وأصول السنة فيما بينهم مدروسة، وطريقة الآباء والأسلاف مرفوعة الأعلام، وأحاديث الكهان والطواغيت مقبولة غير مردودة ولا مدفوعة، قد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق على غير الله من الأولياء والصالحين، والأوثان والأصنام والشياطين، وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون، ومن البحر1 الأجاج شاربون، وبه2 راضون، وإليه مدى الزمان   1 في الأصل: "بحر الإجاج". 2 سقطت "و" من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 داعون، قد أعشتهم العوائد والمألوفات، وحبستهم الشهوات والإرادات، عن الارتفاع إلى طلب الهدى من النصوص المحكمات، والآيات البينات، يحتجون بما رروه1 من الآثار الموضوعات، والحكايات المختلفة والمنامات، كما يفعله أهل الجاهلية وغبر الفترات. وكثير منهم يعتقد النفع في الأحجار والجمادات، ويتبركون بالآثار والقبور في جميع الأوقات {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، [الحشر:19] ، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، [الأنعام:1] ، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:32-33] . فأما بلاد نجد. فإنه قد بالغ الشيطان في كيدهم وجد، وكانوا ينتابون قبر زيد بن الخطاب، ويدعونه رغباً ورهباً بفصيح الخطاب، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج، ويرونه من أكبر الوسائل والولائج. وكذلك عند قبر يزعمون أنه قبر ضرار بن الأزور وذلك كذب ظاهر وبهتان مزور.   1 في الأصل: "روده". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وكذلك عندهم نخل فحال1 ينتابه النساء والرجال، ويفعلون عنده أقبح الفعال، والمرأة إذا تأخر عنها الزواج، ولم ترغب فيها الأزواج، تذهب إليه وتضمه2 بيديها، وتدعوه برجاء وابتهال، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجاً قبول الحول. وشجرة عندهم تسمى الطريفية3 أغراهم الشيطان بها، وأوحى إليهم التعلق عليها، وأنها ترجب منها البركة، ويعلقون عليها الخرق لعل الولد يسلم من السوء. وفي أسفل بلدة الدرعية مغارة في الجبل يزعمون أنها انفلقت4 من الجبل لامرأة تسمى بنت الأمير، أراد بعض الناس أن يظلمها ويضير، فانفلق5 الغار ولم يكن له   1 هو ذكر النخل الذي يلقح به حوائل النخل. يقال له: الفحل. والفحال. ولا يقال لغير الذكر من النخل فحال. قاله ابن سيده. وأنشد: يطفن بفحال كأن ضبابه ... بطون الموالي يوم عيد تفدّت ينظر اللسان لابن منظور 5/3358. 2 في الأصل: "فتضمه". 3 في الأصل: "الطريقة". وذكر الشيخ حسين بن غنام في تاريخه 1/7 ط الحجرية أنها: شجرة الطرفية. 4 في الأصل: "انفتقت". 5 في ط المنار: "فانفلقت"، وفي ط الرياض" فانفلجب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 عليها اقتدار، وكانوا يرسلون إلى هذا المكان من اللحم والخبز ما يقتات به جند الشيطان. وفي بلدتهم رجل يدّعي الولاية، يسمى "تاج" يتبركون به، ويرجون منه العون والإفراج، وكانوا يأتون إليه، ويرغبون فيما عنده من المدد بزعمهم ولديه، فتخافه الحكام والظلمة، ويزعمون أن له تصرفاً وفتكاً بمن1 عصاه وملحمة، مع أنهم يحكون عنه الحكايات الشنيعة، التي تدل على انحلاله عن أحكام الملة والشريعة. وهكذا سائر بلاد نجد، على ما وصفنا من الإعراض عن دين الله والجحد لأحكام الشريعة والرد. ومن العجب أن هذه الاعتقادات الباطلة، والمذاهب الضالة، والعوائد الجائرة، والطرائق الخاسرة، قد فشت وظهرت، وعمت وطمت، حتى بلاد الحرمين الشريفين: فمن ذلك ما يفعل عند قبر محجوب وقبة أبي طالب، فيأتون قبره بالسماعات والعلامات للاستغاقة عند نزول المصائب، وحلول النواكب، وكانوا له في غاية التعظيم، ولا ما يجب عند البيت الكريم، فلو دخل سارق، أو غاصب، أو ظالم قبر أحدهما لم يتعرض له أحد لما يرون له من وجوب التعظيم؛ والاحترام والمكارم.   1 في ط المنار والرياض: "لمن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها في سرف. وكذلك عند قبر خديجة رضي الله عنها، يفعل عند قبرها ما لا يسوغ السكوت عنه من مسلم يرجو الله والدار الآخرة، فضلاً عن كونه من المكاسب الدينية الفاخرة، وفيه من اختلاط النساء بالرجال، وفعل الفواحش والمنكرات، وسوء الأفعال، ما لا يقره أهل الإيمان والكمال، وكذلك سائر القبور المعظمة المشرفة في بلد الله الحرام مكة المشرفة. وفي الطائف قبر ابن عباس رضي الله عنه يفعل عنده من الأمور الشركية التي تشمئز منها نفوس الموحدين، وتنكرها قلوب عباد الله المخلصين، وتردها الآيات القرآنية وما ثبت من النصوص عن سيد المرسلين، منها: وقوف السائل عند القبر متضرعاً مستكينا وإبداء الفاقة إلى معبودهم مستعينا وصرف خالص المحبة التي هي محبة العبودية والنذر والذبح لمن تحت ذاك المشهد والبَنِيَّة وأكثر سوقتهم وعامتهم يلهجون بالأسواق اليوم: على الله وعليك يا ابن عباس، فيستمدون منه الرزق والغوث، وكشف الضر والبأس. وذكر محمد بن حسين النعيمي الزبيدي رحمه الله: أن رجلاً رأى ما يفعل في الطائف من الشعب الشركية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 والوظائف، فقال: أهل الطائف لا يعرفون الله إنما يعرفون ابن عباس، فقال له بعض من يترشح بالعلم: معرفتهم لابن عباس كافية، لأنه يعرف الله. فانظر إلى هذا الشرك الوخيم، والغلو الذميم، المجانب للصراط المستقيم، ووازن بينه وبين قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] الآية. وقوله جل ذكره: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] ، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى باتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد1 يعبد الله فيها، فكيف بمن عبد الصالحين ودعاهم مع الله؟! والنصوص في ذلك لا تخفى على أهل العلم. وكذلك ما يفعل بالمدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام هو من هذا القبيل، بالبعد عن منهاج الشريعة والسبيل.   1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الصلاة- 1/532 وفي الجنائز 3/200، وفي الأنبياء 6/494، وفي المغازي 8/140، وفي اللباس 10/277، ومسلم في صحيحه –كتاب المساجد ومواضع الصلاة- 1/376-377 عن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: " لعنة الله على اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وفي بندر جدة ما قد بلغ من الضلال حده، وهو القبر الذي يزعمون أنه قبر حواء، وصفه لهم بعض الشياطين، وأكثروا في شأنه الإفك المبين، وجعلوا له السدنة والخدم، وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد عليه أفضل السلام من النهي عن تعظيم القبور، والفتنة بمن فيها من الصالحين. وكذلك مشهد العلوي بالغوا في تعظيمه، وتوقيره، وخوفه، ورجائه. وقد جرى لبعض التجار أنه انكسر بمال عظيم لأهل الهند وغيرهم، وذلك في سنة "عشر ومائتين وألف" فهرب إلى مشهد العلوي مستجيراً، ولائذاً به مستغيثاً، فتركه أرباب الأموال، ولم1 يتجاسر أحد من الرؤساء والحكام على هتك ذلك المشهد والمقام، واجتمع طائفة من المعروفين واتفقوا على تنجيمه2 في مدة سنين، فنعوذ بالله من تلاعب الفجرة والشياطين.   1 سقطت: "لم" من ط المنار والرياض. 2 قال أحمد بن محمد المقري في المصباح المنير 2/113: وكانوا يسمون الوقت الذي يحصل فيه الأداء نجماً تجوزا، لأن الأداء لا يعرف إلا بالنجم، ثم توسعوا حتى سموا الوظيفة نجماً، لوقوعها في الأصل في الوقت الذي يطلع فيه النجم، واشتقوا منه فقالوا: نجمت الدين –بالتثقيل- إذا جعلته نجوماً اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وأما بلاد مصر وصعيدها وأعمالها فقد1 جمعت من الأمور الشركية، والعبادات الوثنية، والدعاوي الفرعونية ما لا يتسع له كتاب، ولا يدنو له خطاب، لا سيما عند مشهد أحمد البدوي، وأمثالهم من المعتقدين والمعبودين، فقد جاوزوا بهم ما ادعته الجاهلية لآلهتهم، وجمهورهم يرى له من تدبير الربوبية، والتصريف في الكون بالمشيئة والقدرة العامة، ما لم ينقل مثله عن أحد بعد الفراعنة والنماردة. وبعضهم يقول: يتصرف في الكون سبعة. وبعضهم يقول: أربعة، وبعضهم يقول: القطب يرجعون إليه. وكثير منهم يرى أن الأمور شورى بين عدد ينتسبون إليه، فتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 5] ، وقد استباحوا عند تلك المشاهد من المنكرات والفواحش والمفاسد ما لا يمكن حصره، ولا يستطاع وصفه، واعتمدوا في ذلك من الحكايات والخرافات والجهالات ما لا يصدر عن من له أدنى مسكة وحظ من المعقولات، فضلاً عن النصوص والشرعيات. وكذلك ما يفعل في بلدان اليمن، جارٍ على تلك الطريق والسنن.   1 في ط المنار والرياض: "قد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ففي صنعاء وبرع1 والمخا وغيرها من تلك البلاد ما يتنزه العاقل عن ذكره ووصفه، ولا يمكن الوقوف على غاياته2 وكشفه، وناهيك بقوم استخفهم الشيطان، وعدلوا عن عبادة الرحمن إلى عبادة القبور والشياطين، فسبحان من لا يعجل بالعقوبة على الجرائم، ولا يهمل الحقوق والمظالم، وفي حضر موت، والشحر3، وعدن، ويافع ما تستك عن ذكره المسامع، يقول قائلهم: شيء لله عيدروس. شيء لله يا محي النفوس. وفي أرض نجران من تلاعب الشيطان، وخلع ربقة الإيمان، ما لا يخفى على أهل العلم بهذا الشأن، من ذلك رئيسهم المسمى بالسيد، لقد أتوا من طاعته وتعظيمه وتقديمه وتصديره، والغلو فيه بما أفضى بهم إلى مفارقة الملة والإسلام، والانحياز إلى عبادة الأوثان والأصنام {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا   1 بُرَع جبل بناحية زبيد باليمن، وبرع حصن من حصون ذمار باليمن. معجم البلدان 1/384. 2 في الأصل: "غايته". 3 في الأصل: "الشجر"، والشحر بكسر أوله وإسكان الحاء المهملة، هو شحر عمان، وهو ساحل اليمن، وهو ممتد بينها وبين عمان. وأرض الشحر متصلة بأرض حضرموت. وتطلق على أماكن أخرى. ينظر: الروض المعطار للحميري ص 338، 339، ومعجم البلدان للحموي 3/327 ط دار بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] . وكذلك حلب ودمشق وسائر بلاد الشام فيها من تلك المشاهد والنصب والأعلام؛ ما لا يجامع عليه أهل الإيمان والإسلام من أتباع سيد الأنام، وهي تقارب ما ذكرنا في الكفريات المصرية، والتلطف1 بتلك الأحوال الوثنية الشركية. وكذلك الموصل وبلاد الأكراد، ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد. وفي العراق من ذلك بحره المحيط بسائر الخلجان، وعندهم المشهد الحسيني قد اتخذه الرافضة وثناً؛ بل رباً مدبراً، وخالقاً ميسراً، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية. وكذلك مشهد العباس، ومشهد علي، ومشهد أبي حنيفة، ومعروف الكرخي، والشيخ عبد القادر، فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد رافضتهم وسنيهم2، وعدلوا عن أسنى المطالب والمقاصد، ولم يعرفوا ما وجب عليهم من حق الله الفرد الصمد الواحد.   1 في الأصل: "التلفظ". 2 أطلق المؤلف عليهم لقب "السنة" لمقارنتهم بالرافضة. فهم بالنسبة للرافضة أهل سنةٍ. وذلك لاستقامة معتقدهم في الصحابة رضي الله عنهم، وإلا فليسوا بأهل سنةٍ مع عبادتهم القبور! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وبالجملة فهم شر تلك الأمصار، وأعظمهم نفوراً عن الحق واستكباراً، والرافضة يصلون لتلك المشاهد، ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور، لسكان تلك الأجداث والقبور، ما لا يحصل عُشر معشاره للملك العلي الغفور، ويزعمون أن زيارتهم لعلي وأمثاله أفضل من سبعين حجة، تعالى الله وتقدس في مجده وجلاله. ولآلهتهم من التعظيم والتوقير والخشية والإحترام ما ليس معه من تعظيم الله وتوقيره وخشيته وخوفه شيء للإله الحق والملك العلام، ولم يبق مما عليه النصارى سوى دعوى الولدية، غير أن بعضهم يرى الحلول لأشخاص بعض البرية، سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وكذلك جميع قرى الشط1 والمجرة2 على غاية من الجهل.   1 الشطوط كثيرة. قال في معجم البلدان 3/344: شط: بفتح أوله، وتشديد ثانيه جانب النهر: قرية في حجر اليمامة قبلتها بين "الوتر" و"العرض" قد اكتنفها حجر اليمامة. قال الحفصي: شط "فيروز" فيه نخل ومحارث لبني العنبر من اليمامة. وشط الوتر: باليمامة أيضاً ... الخ اهـ. وقد ذكر الأعشى "الشط" في شعره حيث يقول: شاقتك من قيلة أوطانها ... فالشط فالوتر إلى حاجر فركن مهراس إلى مارد ... فقاع مَنْفُوْحَةَ فالحائر (ينظر صحيح الأخبار 1/251، ومعجم اليمامة 2/50) 2 ذكر في معجم البلدان 5/58: المجرة، وقال: إنه موضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 والمعروف في القطيف والبحرين من البدع الرافضية، والأحداث المجوسية، والمقامات الوثنية، ما يضاد ويصادم أصول الملة الحنيفية. فمن اطلع على هذه الأفاعيل وهو عارف بالإيمان والإسلام وما فيهما من التفريع والتأصيل، تيقن أن القوم قد ضلوا عن سواء السبيل، وخرجوا من مقتضى القرآن والدليل، وتمسكوا بزخارف الشيطان1، وأحوال الكهان، وما شبه هذا القبيل، وازداد بصيرة في دينه، وقوي بمشاهدته إيمانه ويقينه، وجد في طاعة مولاه وشكره، واجتهد في الإنابة إليه وإدامة ذكره، وبادر إلى القيام بوظائف أمره، وخاف أشد الخوف على إيمانه من طغيان الشيطان وكفره. فليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا. فلما تفاقم هذا الخطب وعظم، وتلاطم موج الكفر والشرك في هذه الأمة وجسم، واندرست الرسالة المحمدية، وانمحت منها المعالم في جميع البرية، وطمست الآثار السلفية، وأقيمت البدع الرفضية، والأمور الشركية.   1 حصل في الأصل هنا تقدم صفحة على أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 تجرد الشيخ للدعوة إلى الله، ورد هذا الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح في باب العلم والإيمان، وباب العمل الصالح والإحسان، وترك التعلق على غير الله من الأنبياء والصالحين وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار، والعيون والمغار، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار1. فجادل في الله وقرر حججه وبيناته، وبذل نفسه لله، وأنظر على أصناف بني آدم، الخارجين عما جاءت به الرسل المعرضين عنه، التاركين له. وصنف في الرد على من عاند وجادل، وماحل2 حتى ظهر الإسلام في الأرض، وانتشر في البلاد والعباد، وعلت كلمة الله، وظهر دينه، وانقمع أهل الشرك والفساد، واستبان لذوي الألباب والعلوم من دين الإسلام ما هو مقرر معلوم.   1 أي الذين بدلوا وغيروا ما كان عليه السلف، والأغيار جمع للدية مفرده: الغير. وأصلها المغايرة وهي المبادلة لأنها بدل من القتل. قال أبو عبيدة إنما سمى الدية غيراً فيما أرى: لأنه كان يجب القود فغير القود دية. فسميت الدية غيراً. وأصله من التغيير. ينظر: اللسان لابن منظور 5/3325-3326. 2 أي جادل وخاصم. ينظر القاموس 4/210 –الترتيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فهذه حقيقة حال الشيخ ونشأته، وظهور دعوته، وهذه حال أهل الأمصار في تلك الأوقات والأعصار، كما تقدم بيانه لذوي العقول والأبصار. فمن شرح الله صدره للإسلام تبين له صحة ما دعا إليه هذا الإمام، ومن عمي عن طريق رشده وهداد، واتبع فيما ينتحله ما يهواه1، وتمرد على الله واستكبر وعتا2 وتجبر، فإنما الهداية بيد الله {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة: 41] ، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] . وبما ذكرناه يعرف كيفية الجواب عما تقدم من فاتحة كتاب هذا العراقي إلى مبدأ نشأة الشيوخ وظهور دعوته، وإنما تركنا الجواب لعدم المصلحة الراجحة في ذلك.   1 في الأصل: "فهواه". 2 في الأصل: "وعني". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فصل في حقيقة دعوة الشيخ وأنها سلفية ... فصل قال الملحد: (فأظهر عقيدته الزائغة في نجد) . الجواب أن يقال: قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته ومصنفاته المسموعة المقروؤة، وما ثبت بخطه، وعرف واشتهر من أمره ودعوته، وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته: أنه كان على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الدين أهل الفقة والفتوى في باب معرفة الله، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت بها الأخبار النبوية، وتلقتها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، يثبتونها ويؤمنون بها، ويمرونها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين، وتابعيهم من أهل العلم والإيمان وسلف الأمة وأئمتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وكان رحمه الله يدعو الناس إلى الصلوات الخمس، والمحافظة عليها حيث ينادى لها، وهذا من سنن الهدى ومعالم الدين، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، ويأمر بالزكاة والصيام والحج، ويأمر بالمعروف ويأتيه، ويأمر الناس أن يأتوه، ويأمروا به، وينهى عن المنكر ويتركه، ويأمر الناس بتركه، والنهي عنه، فمن زعم أن عقيدته وطريقته زائغة، أو عن الحق رائغة، فلعدم معرفته بالعقائد السلفية والآثار النبوية. بل تنادي عقيدته البيضاء بعقيدة السلف، ولا ينكر صحتها وأفضليتها من خلف منا ومن سلف، بل قد تتبع العلماء مصنفاته رحمه الله من أهل زمانه وغيرهم فأعجزهم أن يجدوا فيها ما يعاب. وأقواله في أصول الدين مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، ولم يعب عليه إلا من خرج عن طريقة أهل السنة والجماعة، لإلفهم بما كانوا عليه من الشرك والضلال من عبادة غير الله تعالى، بالإلتجاء إلى الصالحين ودعائهم، والاستغاثة بهم، لأنهم لا يعرفون إلا ما نشأوا عليه من هذا الشرك العظيم، والمرتع الوبي الوخيم، الذي وجدوا عليه الآباء والجدود الراتعين في رياض المحرمات والحدود. والأكثر منهم يتدين بالبدع والأهواء؛ ويرفض ما درج عليه السلف الصالح من الدين القديم الأولى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وينتحل ما كان عليه الفلاسفة المتقدمون؛ وورثتهم من المتكلمين الذي يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأما قوله: (وساعده على إظهارها محمد بن سعود أمير الدرعية بلاد مسيلمة الكذاب) . فأقول: نعم قد استجاب لهذه الدعوة المحمدية والملة الإبراهيمية من أهل الإسلام عصابة، حصل بهم من العز والمنعة ما هو عنوان التوفيق والإصابة، فكانوا لطريقته المثلى متبعين، وبأقواله وأفعال مقتدين، لا يزالون معه في إخلاص الدعوة مشمرين، وفي إدحاض الباطل وأهله مجتهدين، وبإيضاح مناهج الشرك معلنين، ولها منكرين، وعنها محذرين، وفيما يرضي الله مسرعين، ولأهل الدين والحق مكرمين، ولأهل الضلال موهنين، وللضلال والفساق مهينين، ولقبح عقائدهم مبينين، قائمين في ذلك لرب العالمين، ولوجهه الكريم محتسبين، وللنجاة مرتجين {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] . وقد قال الإمام أحمد بن محمد الحفظي اليمني في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أرجوزة له ذكر فيها ظهور هذه الدعوة المحمدية، والطريقة السلفية، قال فيها: أحمده مهللاً مسبحلاً ... محوقلاً محيعلاً محسبلا مصلياً على الرسول الشارعِ ... وآله وصحبه والتابعِ في البدء والختم وأما بعدُ ... فهذه منظومة تعدُّ حركني لنظمها الخير الذي ... قد جاءنا في آخر العصر القذي لما دعا الداعي من المشارقِ ... بأمر رب العالمين الخالقِ وبعث الله لنا مجددا ... من أرض نجدٍ عالماً مجتهدا شيخ الهدى محمد المحمدي ... الحنبلي الأثري الأحمدي فقام والشرك الصريح قد سرى ... بين الورى وقد طغى واعترى لا يعرفون الدين والتهليلا ... وطرق الإسلام والسبيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 إلا أساميهم وباقي الرسمِ ... والأرض لا تخلو من أهل العلم وكل حزب فلهم وليجة ... يدعونه في الضيق للتفريجة وملة الإسلام والأحكامُ ... في غربة وأهلها أيتامُ دعا إلى الله وبالتهليلةِ ... يصرخ بين أظهر القبيلةِ مستضعفاً وما له مناصرُ ... ولا له معاونٌ موازرُ في ذلة وقلة وفي يده ... مهفةٌ تغنية عن مهندهِ كأنها ريح الصبا في الرعب ... والحق يعلو بجنود الرب قد أذكرتني درةً لعمر ... وضرب موسى بالعصا للحجر ولم يزل يدعو إلى دين النبي ... ليس إلى نفسٍ دعا أو مذهب يعلمُّ الناس معاني أشهد ... أن لا إله غير فردٍ يعبدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 محمد نبيه وعبده ... رسوله إليكمو وقصده أن تعبدوه وحده لا تشركوا ... شيئاً به والإبتداع فاتركوا ومن دعا دون الإله أحدا ... أشرك بالله ولو محمدا إن قلتموا نعبدهم للقربة ... أو للشفاعات فتلك الكذبة وربنا يقول في كتابه ... هذا هو الشرك بلا تشابه هذي معاني دعوة الشيخ لمن ... عاصره واستكبروا عن السنن فانقسم الناس فمنهم شارد ... مخاصم محارب معاند ما بين خفاش وبين جعل ... شاهت وجوه أهل هذا المثل وبعدما استجيب لله فمن ... جادل في الله تردى وافتتن ومن أجاب داعي الله ملك ... ومن تولى معرضاً فقد هلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 والسابقون الأولون السادة ... آل سعود الكبار القادة هو الغيوث والليوث والشنف ... ونصرة الإسلام والشم الأنف فأقبلوا والناس عنه أدبروا ... وعرفوا من حقه ما أنكروا حفوا به كأسد العرائن ... وكم وكم لله من ضنائن وابن سعود كأبي أيوب ... محمد الرئبيل واليعسوب قال اذهبوا فأنتموا سيوم ... وجند ربي قبله حيزوم وقام فاروق الزمان المؤتمن ... عبد العزيز من ومن ومن فسار في الناس كسيرة الأشج ... ودوخ البر وخاض للثبج يسوس بالآثار والقرآن ... على طريق العدل والإحسان يدعو إلى الله بحزب غالب ... مجاهد بالأربع المراتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ونفسه لله والنفيس ... والصدق للقلوب مغناطيس وبعده قام الإمام البارع ... بأمر رب العالمين الوازع وهو الهزبر الضغيم العدل الولي ... سعود مخ الرأس قلب الهيكل كم زع بالقرآن والسلطان ... من فارس والروم والزنجان وفي العراقين له رعود ... ومصر من صولته مرعود واليمن الميمون كالحجاز ... دوخها بالقهر والمغازي والحرمين وهي المطهرة ... قد أصبحت بعدله معطرة بالرفق يدعوهم1 وبالتعطف ... ومن أبى2 يطره بالمشرفي ولم يكن في نزعه من ضعف ... وشاهد الواقع فيه يكفي   1 في ط المنار والرياض: "أبي". 2 في ط المنار والرياض: "يدعوه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فلم أر من عبقري يفري ... فريه من أمراء العصر وهكذا من يبتدي بنفسه ... مجاهداً في يومه وأمسه فإنه يطاع لا محالة ... في خارج بيعاً بلا إقالة ونغمات أمره مترجمة ... ليظهر الحق وتعلو الكلمة وهو الغيور الشهم ليس يرضى ... ببيضة الإسلام أن ترضّا لا يطلب الدنيا ولا الفسادا ... في الأرض والعلو والعنادا أو مذهباً أو ذهباً يريدُ ... وإنما مطلوبه التوحيدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فصل في نقض تعيير الملحد بسكنى بلاد مسيلمة ... فصل وأما تعييره أهل الإسلام بأن بلادهم بلاد مسيلمة الكذاب. فالجواب أن نقول: سبحان الله، ما أعظم شأنه، وأعز سلطانه، فإنه لا يعير بهذا الكلام إلا أشباه الأنعام، فإن سكنى الدار لا تؤثر، فإن الصحابة سكنوا مصر وبلاد الفرس وفضلهم لا يزال في مزيد، وإيمانهم قهر أهل الشرك والتنديد، وعادت تلك البقاع والأماكن من أفضل مساكن أهل التوحيد. وقد روى الطبراني من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخل إبليس العراق فقضى فيها حاجته، ثم دخل الشام فطردوه، ثم دخل مصر فباض فيها وفرخ وبسط عليها عبقريه" 1، ولا يقول مسلم بذم علماء العراق لما ورد فيها.   1 أخرجه أبو الفتح الأزدي –كما في تنزيه الشريعة – 2/50، ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات 2/58 عن أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب قال: حدثنا عمي عبد الله قال أخبرني يحيى بن أيوب وابن لهيعة عن عقيل ابن شهاب عن يعقوب بن عتبة بن الأخنس عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ... فذكر الحديث. وأحمد بن عبد الرحمن فيه ضعف، بل قد تعقب الذهبي الحاكم عندما صحح حديثاً من طريقه فقال: أحمد منكر الحديث وهو ممن نقم على مسلم إخراجه في الصحيح (المستدرك3/97) اهـ. قلت: وقد تابعه حرملة بن يحيى عن ابن وهب –كما عند الطبراني في الكبير 12/340 وابن عساكر- كما في تنزيه الشريعة لابن عراق- 2/51، وحرملة صدوق من أعلم الناس بابن وهب كما قال الدوري وابن يونس والعقيلي. انظر التهذيب 2/230. ويحيى بن أيوب هو الغافقي قال الحافظ ابن حجر في التقريب: صدوق ربما أخطأ اهـ. وهذا أعدل الأقوال فيه وأما قرينه ابن لهيعة فالكلام فيه مشهور ورواية ابن وهب عنه أجود من غيرها، لا سيما وقد توبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وقال شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله تعالى: وقد قال لي بعض الأزهريين: مسيلمة الكذاب من خير نجدكم. فقلت: وفرعون اللعين رئيس مصركم. فبهت، وأين كفر فرعون من كفر مسيلمة لو كانوا يعلمون. وقال الشيخ ملا عمران بن علي بن رضوان نزيل لنجة، في رده على من عارض الشيخ محمد، وعيره بأن بلاده بلاد مسيلمة الكذاب. قال بعد كلام سبق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 قد عيروه بأنه قد كان في ... وادي حنيفة دار من لم يسعد قلنا لهم ما ضر مصر بأنها ... كانت لفرعون الشقي الأطرد إن النماردة الفراعنة الأولى ... كانوا بأرض الله أهل تمرد ذا قال أنا رب وذا متنبئ ... هم في بلاد الله أهل تردد يمناً وشاماً والعراق ومصرها ... من كل طاغ في البرية مفسد فبموتهم طابت وطار غبارها ... وزهت بتوحيد الإله المفرد إن المواطن لا تشرف ساكناً ... فيها ولا تهديه إن لم يهتد من كان لله الكريم موحداً ... لو مات في جوف الكنيف المطرد وبعكسه من كان يشرك فهو لم ... يفلح ولو قد مات وسط المسجد خرج النبي المصطفى من مكة ... وبقى أبو جهل الذي لم يهتد إن الأماكن لا تقدس أهلها ... إن لم يكونوا قائمين على الهَدِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وأما كونه أجبر أهلها –يعني أهل الدرعية، فمن الكذب والبهتان، بل دخلوا في دين الله أفواجاً، واستجابوا لمن دعاهم إلى الله، وأدخلوا سائر أهل نجد ممن لم يقبل دين الله ورسوله في دين الله قهراً وقسراً، وجاهدوهم حتى تبين لهم صحة هذا الدين، وذاقوا حلاوته واطمأنوا به، وجاهدوا مع الأمير "محمد بن سعود" من لم يدخل فيه، حتى استوسقت له جزيرة العرب ودانت، ثم إن الذين أنكروا هذه الدعوة من الدول الكبار والشيوخ وأتباعهم من أهل القرى والأمصار، أجلبوا على عداوة أهل الإسلام، وهم إذ ذاك في عدد قليل، وفي حال تخلف الأسباب عنهم وفقرهم، فرموهم عن قوس العداوة:- فمن أهل نجد دهام بن دوس، وابن زامل، وآل بجاد أهل الخرج، ومحمد بن راشد راعي الحوطة، وتركي الهزاني وزيد ومن والاهم من الأعراب والبوادي، كذلك العنقري في الوشم ومن تبعه، وشيوخ قرى سدير والقصيم، وبوادي نجد، وابن حميد ملك الأحساء ومن تبعه من حاضر وبادي، وكلهم تجمعوا لحرب المسلمين مراراً عديدة مع عريعر وأولاده، منها نزولهم على الدرعية وهي شعاب لا يمكن تحصينها بالأبواب والبنا، وقد أشار إلى ذلك العلامة حسين بن غنام رحمه الله تعالى بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وجاءوا بأسباب من الكيد مزعج ... مدافعهم يزجي الوحوش رنينها فنزلوا البلاد، واجتمع من اجتمع من أهل نجد حتى قال من يدّعي أنه من العلماء –وهو من أمثل علمائهم وعقلائهم- لما سئل: كيف أشكل عليكم أمر عريعر، وفساده وظلمه، وأنتم تعينونه وتقاتلون معه؟ فقال: لو أن الذي حاربكم إبليس كنا معه. والمقصود أن الله تعالى ردهم بغيظهم لم ينالوا خيراً، وحمى الله تلك القرية فلم يشربوا من آبارها. وأما وزير العراق فمشى مراراً عديدة بما يقدر عليه من الجنود والكيد الشديد، وأجرى الله تعالى عليهم من الذل ما لا يخطر ببال، قبل أن يقع بهم ما وقع، من ذلك أن ثويني في مرة من المرار مشى بجنوده إلى الإحساء، بعدما دخل أهلها في الإسلام في حال حداثتهم بالشرك والضلال، فلما قرب من تلك البلاد أتاه رجل مسكين لا يعرف –من غير ممالات لأحد من المسلمين- فقتله فمات، فنصر الله هذا الدين برجل لا يعرف، وذلك مما به يعتبر، فانقلبت تلك الجنود، وتركوا ما معهم من المواشي والأموال خوفاً من المسلمين، ورعباً، فغنمها من حضر، وقد قال الشيخ حسين بن غنام في ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 تقاسمتم الأحساء قبل منالها ... فللروم شطر والبوادي لهم شطر في أبيات كثيرة. ثم جددوا أسباباً لحرب المسلمين وساروا بدول عظيمة يتبع بعضها بعضاً وكيد عظيم، فنزلوا الأحساء، وقائدهم علي كيخيا، فتحصن من ثبت على دينه في الكوت وثغر صاهود، فنزل بهم، وصار يضربهم بالمدافع والقنابل، وحفر اللغوب، فأعجزه الله ومن معه ممن ارتد عن الإسلام، فولى مدبراً بجنوده، فاجتمع بسعود بن عبد العزيز في "ثاج" وعزوه الذي معه رحمه الله، والذين معه من المسلمين أقل من المنتفق أو آل ظفير الذين مع الكيخيا، فألقى الله الرعب في قلوبهم على كثرتهم وقوتهم، فصارت عبرة عظيمة، فطلبوا الصلح على أن يدعهم سعود يرجعون إلى بلادهم، فأعطاهم أماناً على الرجوع، فذهبوا في ذل عظيم، فلما قدم كل منهم مكانه مات سليمان باشا، وذلك من نصر الله لهذا لدين، فأهلك الله من أنشأ هذه الدول، ثم قام علي كيخيا فصار هو الباشا، فأخذ يجدد آلة الحرب، فجمع من الكيد والأسباب أعظم مما كان معه في تلك الكرة، فلما كملت أسبابه وجمع الجموع، فلم يبق إلا خروجه لحرب المسلمين لينتقم من أهل هذا الدين، سلط الله صبيين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 مملوكين عنده يبيتون معه، فقتلوه آخر الليل، فخمدت تلك النيران، وتفرقت تلك الأعوان، فما قام لهم قائمة، فيا لها عبرة1 ما أظهرها لمن له أدنى بصيرة، فاعتبروا يا أولي الأبصار، أين ذهب عقل من أنكر هذا الدين وجادل وكابر في دفع الأدلة على التوحيد ومَاحَل. وكذلك ما جرى في حرب أشراف مكة لهذه الدعوة الإسلامية، والطريقة المحمدية، وذلك أنهم من أول من بدأ المسلمين بالعداوة، فحبسوا حاجّهم فمات في الحبس منهم عدد كثير، ومنعوا المسلمين من الحج أكثر من ستين سنة، وفي أثناء هذه المدة سار إليهم الشريف غالب بعسكر كثيف، وكيف عنيف، وقدم أخاه عبد العزيز قبله في الخروج، فنزل قصر بسام، فأقام مدة يضرب بالمدافع والقنابل، وجر2 عليه الزحافات، فأبطل الله كيده على هذا القصر الضعيف بناؤه، القليل رجاله، فرحل منه ووافى غالباً ومعه أكثر الجنود، ومعه من الكيد مثل ما كان مع أخيه أو يزيد، فنزلوا جميعاً "الشعراء" فجد في حربهم بكل كيد، فأعجزه الله تعالى عن ذلك البناء الضعيف الذي لم يتأهب أهله لحرب بالبناء والسلاح، فأبطل الله كيده،   1 في الأصل: "عبراً". 2 في الأصل: "وجز". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ورده عنهم بعد الإياس، فسلط الله المسلمين على من كان معه من الأعراب خصوصاً مطير فأوقع الله بهم في العداوة، ومعهم "مطلق الجربا" فهزمهم الله تعالى، وغنم المسلمون جميع ما كان معهم من الإبل والخيل وسائر المواشي، فصار ما ذكرناه من نصر الله وتأييده لأهل هذا الدين عبرة عظيمة، وفي جملة قتلاهم "حصان إبليس". وبعدما ذكرناه جد غالب في الحرب واجتهد، لكن صار حربه للأعراب، ولم يتعد النير، فيغزو على من استضعفه ويغير، فأعطى الله أعراب المسلمين الظفر عليه في عدة وقعات، من أعظمها وقعة "الخرمة" على يد "ربيع" وغزوه من أهل البوادي وبعض قحطان فهزمه الله تعالى، واشتد القتل في عسكره فأخذوا جميع ما كان معه من المواشي وغيرها، فصار بعد ذلك في ذل وهوان، ففتح الله الطائف للمسلمين، وصار أميره "عثمان بن عبد الرحمن" فاجتمع فيه دولة للمسلمين، وساروا لحرب الشريف ومعهم "عبد الوهاب أبو نقطة" أمير عسير، و "سالم بن شكبان" أمير أهل بيشة، فنزلوا دون الحرم، فخرج إليهم عسكر من مكة فقتلوه، فطلب الشريف المذكور منهم الأمان فلم يقبلوا منه إلا الدخول في الإسلام، والبيعة للإمام "سعود" فأعطاهم البيعة على يد رجال بعثوهم إليه، هذا بعد وقعات تركنا ذكرها كراهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الإطالة، لأن القصد بهذا الوضع الاعتبار بما جرى لأهل هذه الدعوة من النصر والتأييد، والظهور على قلة أسبابهم، وكثرة عدوهم وقوته، وذلك من آيات الله وبيناته. على أن ما قام به هذا الشيخ في حال فساد الزمان والدين الذي بعث الله به المرسلين، وتبين أن هذه الطائفة في هذه الأزمنة هي الطائفة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" 1. وقد كانت هذه الطائفة قبل ظهور الشيخ فيما تقدم موجودة في الشام والعراق ومصر وغيرها بوجود أهل   1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب العلم- 1/164 وفي الخمس 6/217 وفي المناقب 6/632 وفي الاعتصام 13/293 وفي التوحيد 13/442، ومسلم في صحيحه –كتاب الإمارة – 3/1524 عن معاوية رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ... ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة". وفي لفظ لهما: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس". وأخرجاه من حديث المغيرة بن شعبة: "لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون". وأخرجه مسلم من حديث ثوبان وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 السنة، وأهل الحديث في القرون المفضلة وبعدها، فلما اشتدت غربة الإسلام، وقل أهل السنة، واشتد النكير عليهم، وسعى أهل البدع في إيصال المكر إليهم، منّ الله بهذه الدعوة، فقامت بها الحجة، واستبانب المحجة. والمقصود أن كل من ذكرنا ممن عاداهم من أهل نجد والإحساء وغيرهم من البوادي أهلكهم الله، ولحقتهم العقوبة حتى في الذراري والأموال، فصارت أموالهم فيئاً لأهل الإسلام، وانتشر ملكهم، وصار كل من بقي في أماكنهم سامعاً مطيعاً لإمام المسلمين القائم بهذا الدين، فانتشر ملك أهل الإسلام حتى وصل إلى حدود الشام، مع الحجاز وتهامة وعمان، فصاروا بحمد الله في أمن وأمان، يخافهم كل مبطل وشيطان، ففي هذا معتبر لأهل الاعتبار، مع ما وقع بمن حاربهم من الخراب والدمار، واستيلاء المسلمين على ما كان لهم من العقار والديار، فلا يرتاب في هذا الدين بعد هذا البيان إلا من عميت بصيرته، وفسدت علانيته وسريرته، انتهى من المقامات التي ألفها الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن مفتي الديار النجدية رحمه الله تعالى. وأما قوله: (أما ولادته فقد كانت سنة ألف ومائة وإحدى عشرة سنة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فقد قدمنا أنه ولد رحمه الله سنة 11151 خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة النبوية. هذا هو الصحيح2. وأما قوله: (وكان في ابتداء أمره من طلبة العلم، يتردد إلى مكة والمدينة لأخذه عن علمائها، وممن أخذ عنه في المدينة الشيخ محمد بن سليمان الكردي، والشيخ محمد حياة السندي) . فأقول: قد تقدم بيان رحلته وطلبه للعلم، وعمن أخذ عنه من العلماء في المدينة المنورة، ومكة المشرفة، والبصرة، والأحساء، وعن علماء نجد بما أغنى عن إعادته. وأما قوله: (وكان الشيخان المذكوران وغيرهما من المشايخ الذي أخذ عنهم يتفرسون فيه الغواية والإلحاد، ويقولون: سيضل الله تعالى هذا، ويضل به من أشقاه) إلى آخر ما اخترعه هذا العراقي الملحد وافتراه.   1 كتابة العدد رقماً ليس في الأصل. 2 في ط الرياض: "الصيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فالجواب: أن هذا النقل كذب وافتراء، من غير شك ولا امتراء، ثم لو فرضنا صحة هذا النقل لم يكن هذا القول عمن لا ينطق عن الهوى، بل لا يعجز الخصم الذي لا يخاف الله ولا يتقيه عن أكثر من هذا القول وأوخم، وأفحش منه وأعظم، وقد قدمنا من حال الشيخ ودعوته إلى الله، وحسن سيرته ما يعتبر به من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. فيا لك من آيات حق لو اقتدى ... بهن مريد الحق كن هواديا ولكن على تلك القلوب غشاوة ... فليست وإن أصغت تجبي المناديا وأما قوله: (وكذلك كان أبوه عبد الوهاب وهو من العلماء الصالحين يتفرس في الإلحاد، ويحذر الناس منه) إلخ. فالجواب أن نقول: وهذا أيضاً من الكذب والبهتان، والزور والعدوان، بل كان والده يعظمه، ويعترف بالاستفادة منه، ولم ينقل عن والده هذا النقل من يعتد بنقله، وإنما يرميه بمثل هذا البهت، وينسبه إليه من جعل زوره وقدحه في أهل العلم والإيمان جسراً يتوصل منه، ويعبر إلى ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 انطوى عليه، وزينه له الشيطان من عبادة الصالحين والتوسل بهم، وعدم الدخول تحت أمر أولي العلم، وترك القبول منهم، والاستغناء بما نشأ عليه أهل الضلال واعتادوه من العقائد الضالة، والمذاهب الجائرة. وأما نسبة ذلك إلى أخيه سليمان، فلا مانع من ذلك لولا وجوب رد خبر هذا الفاسق وعدم قبوله إلا بعد التبين، ثم لو فرضت صحته فمن سليمان وما سليمان؟ وهذه دلائل السنة والقرآن تدفع في صدره، وتدرأ في نحره، وقد اشتهر ضلاله ومخالفته لأخيه مع جهله، وعدم إدراكه لشيء من فنون العلم. قال شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله: وقد رأيت له رسالة يعترض على الشيخ، وتأملتها فإذا هي رسالة جاهل بالعلم والصناعة، مزجى التحصيل والبضاعة، لا يدري ما طحاها، ولا يحسن الاستدلال بذلك على من فطرها وسواها. هذا، وقد من الله وقت تسويد هذا بالوقوف على رسالة لسليمان، فيها البشارة برجوعه عن مذهبه الأول، وأنه قد استبان له التوحيد والإيمان، وندم على ما فرط من الضلال والطغيان، وهذا نصها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان بن عبد الوهاب إلى الإخوان أحمد1 بن محمد التويجري، وأحمد ومحمد ابنا عثمان بن شبانة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأذكركم ما من الله به علينا وعليكم من معرفة دينه ومعرفة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، وبصرنا به من العمى وأنقذنا به من الضلالة. وأذكركم بعد أن جئتونا في الدرعية من معرفتكم الحق على وجهه، وابتهاجكم به، وثنائكم على الله الذي أنقذكم، وهذا دأبكم في سائر مجالسكم عندنا، وكل من جاءنا بحمد الله يثني عليكم، والحمد لله على ذلك. وكتبت لكم بعد ذلك كتابين غير هذا أذكركم وأعظكم، ولكن يا إخواني معلومكم ما جرى منا من مخالفة الحق، واتباعنا سبيل الشيطان، ومجاهدتنا في الصد عن اتباع سبل الهدى، والآن معلومكم لم يبق من أعمارنا إلا اليسير، والأيام معدودة، والأنفاس محسوبة، والمأمول بنا أن نقوم لله، ونفعل مع الهدى أكثر مما فعلنا مع الضلال، وأن يكون ذلك لله وحده لا شريك له، لا لما سواه، لعل الله يمحو عنا سيئات ما مضى، وسيئات ما بقى.   1 وقع في كتاب "مصباح الظلام" للشيخ عبد اللطيف: "حمد" وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ومعلومكم عظم الجهاد في سبيل الله، وما يكفر من الذنوب، وأن الجهاد باليد واللسان والقلب والمال، وتفهمون أجر من هدى الله به رجلاً واحداً، والمطلوب منكم أكثر مما تفعلون الآن، وأن تقوموا لله قيام صدق، وأن تبينوا للناس الحق على وجهه، وأن تصرحوا لهم تصريحاً بيناً بما أنتم عليه أولاً من الغي والضلال، فيا إخواني: الله الله فالأمر أعظم من ذلك، فلو خرجنا نجأر إلى الله في الفلوات، وعدنا الناس من السفهاء والمجانين في ذلك، لما كان ذلك بكثير منا، وأنتم رؤساء الدين والدنيا في مكانكم أعز من الشيوخ، والعوام كلهم تبع لكم، فاحمدوا الله على ذلك، ولا تعلثوا1 بشيء من الموانع. وتفهمون أن الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر لا بد أن يرى ما يكره، ولكن أرشدكم في ذلك إلى الصبر، كما حُكي عن العبد الصالح في وصيته لابنه2، فلا أحق من أن تحبوا لله وتبغضوا لله وتوالوا لله وتعادوا لله، وترى يعرض في هذا أمور شيطانية، وهي أن من الناس من ينتسب لهذا الدين، وربما يلقي الشيطان لكم أن هذا ما هو بصادق، وأن له ملحظ دنيوي، وهذا أمر ما يطلع عليه   1 وقع في كتاب مصباح الظلام: "تعتلوا". 2 يعني وصية لقمان لابنه وهو يعظه قال فيها: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 إلا الله فإذا أظهر أحد الخير فاقبوا منه ووالوه، فإذا ظهر من أحد شر وأدبار عن الدين فعادوه واكرهوه ولو أحب حبيب. وجامع الأمر في هذا أن الله خلقنا لعبادته وحده لا شريك له، ومن رحمته بعث لنا رسولاً يأمرنا بما خلقنا له، ويبين لنا طريقه، وأعظم ما نهانا عنه الشرك بالله، وعداوة أهله وبغضهم، وتبيين الحق، وتبيين الباطل، فمن التزم ما جاء به الرسول فهو أخوك ولو أبغض بغيض، ومن نكب عن الصراط المستقيم فهو عدوك ولو هو ولدك أو أخوك، وهذا شيء أذكركموه مع أني بحمد الله (أعلم أنكم) 1 تعلمون ما ذكرت لكم، ومع هذا فلا عذر لكم عن التبيين الكامل الذي لم يبق معه لبس، وأن تذاكروا دائماً في مجالسكم ما جرى منا ومنكم أولاً، وأن تقوموا مع الحق أكثر من قيامكم مع الباطل، فلا أحق من ذلك، ولا لكم عذر، لأن اليوم الدين والدنيا، ولله الحمد مجتمعة في ذلك فتذاكروا ما أنتم فيه أولاً من أمور الدنيا من الخوف والأذى، واعتلاء الظلمة والفسقة عليكم، ثم رفع الله ذلك كله بالدين، وجعلكم السادة والقادة، ثم أيضا ما منّ الله   1 ما بين قوسين سقط من الأصل وط الرياض والمنار، والمثبت من مصباح الظلام ص 107 ط دار الهداية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 به عليكم من الدين، انظروا إلى مسألة واحدة: فمما نحن فيه من الجهالة كون البدوي تجري عليه أحكام الإسلام مع معرفتنا أن الصحابة قاتلوا أهل الردة وأكثرهم متكلمين بالإسلام، ومنهم من أتى بأركانه، ومع معرفتنا أنه من كذب بحرف من القرآن كفر ولو كان عابداً، وأن من استهزأ بالدين أو بشيء منه فهو كافر، وأن من جحد حكماً مجمعاً عليه فهو كافر إلى غير ذلك من الأحكام المكفرات، وهذا كله مجتمع في البدوي وأزْيد، ونجري عليه أحكام الإسلام اتباعاً لتقليد من قبلنا بلا برهان. فيا إخواني تأملوا وتذكروا في هذا الأصل يدلكم على ما هو أكبر من ذلك، وأنا أكثرت عليكم الكلام، لوثوقي بكم أنكم ما تشكون في شيء فيما تحاذرون، ونصيحتي لكم ولنفسي، والعمدة في هذا أن يصير دأبكم في الليل والنهار أن تجأروا إلى الله تعالى أن يعيذكم من شرور أنفسكم، وسيئات أعمالكم، وأن يهديكم إلى الصراط المستقيم الذي عليه رسله وأنبياؤه، وعباده الصالحون، وأن يعيذكم من مضلات الفتن، والحق واضح وأبلولج، وماذا بعد الحق إلا الضلال، فالله الله ترى الناس اللي1 في جهاتكم تبع لكم في الخير والشر، فإن فعلتوا ما ذكرت   1 في مصباح الظلام: "الذين". وهذه الرسالة كتبت باللهجة العامية الدارجة في بلاد نجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 لكم ما قدر أحد من الناس يرميكم بشر، وصرتوا1 كالأعلام هداية للحيران، فإن الله سبحانه وتعالى هو المسؤول أن يهدينا وإياكم سبل السلام، والشيخ وعياله وعيالنا طيبين ولله الحمد، ويسلمون عليكم، وسلموا لنا على من يعز عليكم والسلام، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، اللهم اغفر لكاتبها ولوالديه ولذريته، ولمن نظر فيه ودعا له بالمغفرة والمسلمين والمسلمات أجمعين اهـ. وأما تأليفه الرد على أخيه فنعم وذلك في حال ضلالته، ونفوره عن دين الإسلام، فلما هداه الله وتبين له صحة ما دعا إليه الشيخ من توحيد الله وإفراده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه تبين له سوء عمله وزيغه وضلاله، فرجع عما كان يعتقده من الضلال والعمى، إلى طريقة أهل الحق والهدى، كما صرح به في رسالته المتقدم ذكرها، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.   1 في مصباح الظلام: "وصرتم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فصل في فرية الملحد على الشيخ بأنه يطمح للنبوة ... فصل وأما قوله: (وكان محمد هذا بادئ بدأته كما ذكره بعض المؤلفين مولعاً بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذباً، كمسيلمة الكذاب، وسجاح، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، وأضرابهم، فكان يضمر في نفسه دعوة النبوة، إلا أنه لم يتمكن من إظهارها) . فالجواب أن نقول: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] ، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف: 5] ، فإن هذا معلوم كذبه بالاضطرار، لا يمتري فيه من له أدنى معرفة بمقادير الأئمة الأخيار، ومن طالع كتب الشيخ ومصنفاته ورسائله، وتأمل حال نشأته، ودعوته إلى الله تبين له أن هذا من الكذب والافتراء، وأنه من وضع أعداء الله ورسوله، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، ويسعون في الأرض فساداً، والله لا يحب الفساد {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وهذا العراقي الملحد لما لم يكن له حيلة في دفع ما منّ الله به من ظهور الإسلام أخذ في رد ما جاء به من البينات والهدى بالكذب والافتراء، وقبله أناس أتوا بأعظم الأسباب، وزجوا الخلق في لجة الضلال والارتياب، وضجوا على دعوة الحق بالتكذيب والإكذاب، وعجوا مطبقين على الشيخ بأنه ساحر أو مفتر أو كذاب، وحكموا بكفره، واستحلال دمه وماله وجميع من له من الأصحاب، {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5] وصنفوا في رد هذا الدين مصنفات، ولفقوا من الأكاذيب على الشيخ وأكثروا من الترهات، ولم يكن لهم قصد ولا مرام، إلا تنفير الخواص والعوام، فأتوا بهذه المجونات والخرافات التي لا تروج إلا على من أعمى الله بصيرة قلبه من أهل تلك القلوب المقفلات {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات} [فاطر: 8] ، وسيقف هو وإياهم بين يدي عدل لا يظلم ولا يجور، فيجازي كلاً بعمله يوم النشور، وحسبنا الله ونعم الوكيل. قال العراقي الملحد: (وكان يسمي جماعته من أهل بلده الأنصار، ويسمي متابعيه من الخارج المهاجرين، وكان يأمر من حج حجة الإسلام قبل اتباعه أن يحج ثانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 قائلاً: إن حجتك الأولى غير مقبولة، لأنك حججتها وأنت مشرك، ويقول لمن أراد أن يدخل في دينه: اشهد على نفسك أنك كنت كافراً واشهد على والديك أنهما ماتا كافرين، واشهد على فلان وفلان ويسمي له جماعة من أكابر العلماء الماضين أنهم كانوا كفاراً، فإن شهد بذلك قبله، وإلا أمر بقتله، وكان يصرح بتكفير الأمة منذ ستمائة سنة، ويكفر كل من لا يتبعه وإن كان من أتقى المسلمين، ويسميهم مشركين، ويستحل دماءهم وأموالهم، ويُثبت الإيمان لمن اتبعه وإن كان من أفسق الناس، وكان -عليه ما يستحقه من الله- يتنقص النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً بعبارات مختلفة، منها قوله: إنه طارش، وهو في لغة العامة بمعنى الشخص الذي يرسله أحد إلى غيره، والعوام لا يستعملون هذه الكلمة فيمن له حرمة عندهم، ومنها قوله: إني نظرت في قصة الحديبية فوجدت فيها كذا وكذا من الكذب، إلى غير ذلك من الألفاظ الاستخفافية، حتى إن بعض أتباعه يقول بحضرته: إن عصاي هذه خير من محمد، لأني أنتفع1 بها، ومحمد قد مات فلم يبق فيه نفع، وهو يرضى بكلامه، وهذا كما تعلم كفر في المذاهب الأربعة) .   1 في ط المنار والرياض: "أُنفع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فالجواب عن هذه المطاعن كلها أن نقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ، [النور: 16] بل هذا من إفك الوضاعين، الذي شرقوا بهذا الدين، وأنكرته قلوبهم، فموهوا بهذه الأوضاع على الجهال والطغام، وصادفت قلوباً قد ملئت بالشرك وعداوة أهل الإسلام، فكانوا لما يبديه هؤلاء يصدقون {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] . وأما قوله: (ومنها أنه كان يكره الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وينهى عن ذكرها ليلة الجمعة، وعن الجهر بها على المنابر، ويعاقب من يفعل ذلك عقاباً شديداً، حتى إنه قتل رجلاً أعمى مؤذناً لم ينته عما أمره بتركه من ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، ويلبس على أتباعه قائلاً: إن ذلك محافظة على التوحيد) . فالجواب أن نقول: أما النهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان فلم ينه عنه، بل هو من الكذب والبهتان. وأما الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، وعلى المنابر يوم الجمعة غير الإمام الذي يخطب فهو بدعة محدثة، وإزالة المنكر والبدعة وتغييرها واجب بدلائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الأحاديث الصحيحة، فإن ذلك لم يكن على عهد الصحابة رضي الله عنهم، ولا التابعين، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". وفي لفظ: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" 1. وأما قوله: (وكان قد أحرق كثيراً من كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كدلائل الخيرات وغيرها) . فالجواب أن نقول: أما مسألة منع الناس من قراءة دلائل الخيرات فقد أجاب عنها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته التي كتبها إلى عبد الرحمن بن عبد الله حيث قال: وأما دلائل الخيرات فله سبب، وذلك أني أشرت على من قَبِل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله، ويظن أن القراءة فيه أجل من قراءة القرآن، وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان فهذا من البهتان اهـ.   1 أخرجه البخاري في صحيحه -كتاب الصلح- 5/301، ومسلم في صحيحه –كتاب الأقضية- 3/1343 عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... الحديث. واللفظ الآخر تفرد به مسلم وهو قوله: "من عمل عملاً ليس عليه ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وأما قوله: (وكذلك أحرق كثيراً من كتب الفقه، والتفسير والحديث، مما هو مخالف لأباطيله، وكان يأذن لكل من اتبعه أن يفسر القرآن بحسب فهمه) . فأقول: وهذا كله من الكذب والبهتان، والزور والعدوان، وقد قال الشيخ ملا عمران نزيل لنجة في رد مفتريات بعض هؤلاء الوضاعين فيما افتروه على الشيخ من الأكاذيب، فأحببت أن أذكرها لاشتمالها على بعض ما ذكره هذا العراقي، قال رحمه الله تعالى: جاءت قصيدتهم تروح وتغتدي ... في سب دين الهاشمي محمدِ قد زخرفوها للعوام بقولهم ... إن الكتاب هو الهدى فبه اقتدِ لو أن ناظمها تمسك بالذي ... قد قال فيها أولا إذ يبتدي لهدي1 ووفق ثم حاز سعادة ... لا شك فيها عند كل موحدِ لكنه قد زاغ عما قاله ... متأولاً فيه بتأويل ردي2   1 في ط المنار والرياض:"بهدي". 2 في النسخ: "ردِ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فأتت كشهد فيه سم ناقع ... من ذاق منه ففي الهلاك المبعدِ إذ شبه الشيخ الإمام المهتدي ... بأخي مسيلمة الكفور المعتدي فهو الذي إن مات معتقداً بذا ... يا ويله ماذا يلاقي في غدِ ماذا يجيب وما يقول ومن له ... يوم القيامة وهو خصم محمدِ قد شبه التوحيد بالكفر الذي ... شهد الكتاب به وسنة أحمدِ الشيخ شاهد بعض أهل جهالة ... يدعون أصحاب القبور الهمدِ تاجاً وشمسان ومن ضاهاهما ... من قبة أو تربة أو مشهدِ يرجون منها قربة وشفاعة ... ويؤملون كذاك أخذاً باليدِ ورأوا لعباد القبور تقرباً ... بالنذرِ والذبح الشنيع المفسدِ ما أنكر القراء والأشياخ ما ... شهدوا من الفعل الذي لم يحمدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 بل جوزه وشاركوا في أكله ... من كان يذبح للقبور ويفتدي فأتاهم الشيخ المشار إليه ... بالنصح المبين وبالكلام الجيد يدعوهمو لله أن لا تعبدوا ... إلا المهيمن ذا الجلال السرمد لا تشركوا ملكاً ولا من مرسل ... كلا ولا من صالح أو سيدِ فتنافروا عنه وقالوا: ليس ذا ... إلا عجيب عندنا لم يعهدِ ما قاله آباؤنا أيضاً ولا ... أجدادنا أهل الحجى والسؤددِ إنا وجدنا جملة الآبا على ... هذا فنحن بما وجدنا نقتدي فالشيخ لما أن رأى ذا الشأن من ... أهل الزمان اشتد غير مقلدِ ناداهمو يا قوم كيف جعلتموا ... لله أنداداً بغير تعددِ قالوا له: بل إن قلبك مظلم ... لم تعتقد في صالح متعبدِ قد عيروه بأنه قد كان في ... وادي حنيفة دار من لم يسعدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 قلنا لهم ما ضر مصر بأنها ... كانت لفرعون الشقي الأطرد إن النماردة الفراعنة الأُلى ... كانوا بأرض الله أهل تمردِ ذا قال: أنا رب وذا متنبئٌ ... هم في بلاد الله أهل ترددِ يمناً وشاماً والعراق ومصرها ... من كل طاغٍ في البرية مفسدِ فبموتهم طابت وطار غبارها ... وزهت بتوحيد الإله المفردِ إن المواطن لم تشرف ساكناً ... فيها ولا تهديه إن لم يهتدِ من كان لله الكريم موحداً ... لو مات في جوف الكنيف المطردِ وبعكسه من كان يشرك فهو لم ... يفلح ولو قد مات وسط المسجدِ خرج النبي المصطفى من مكة ... وبقي أبو جهل الذي لم يهتدِ إن الأماكن لا تقدس أهلها ... إن لم يكونوا قائمين على الهدي1   1 في النسخ: "الهدِ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 لو أنصفوا لرأوا له فضلاً على ... إظهار ما قد ضيعوه من اليدِ ودعوا له بالخير بعد مماته ... ليكافئوه على وفاق المرشدِ لكنهم قد عاندوا وتكبروا ... ومشوا على منهاج قوم حسّدِ ورموه بالبهتان والإفك الذي ... هم يعملون به ومنهم يبتدي1 كمقالهم هو للمتابع قاطع ... بدخول جنات وحور خرد حاشا وكلا ليس هذا شأنه ... بل إنه يرجو بها لموحدِ قالوا له: أشقى الورى مع كونه ... ينهى عن الأنداد للمتفردِ قالوا له: يا سالكاً طرق الردى ... لم لا تسير على الطريق الأرشدِ وهموا يرون الشمس ظاهرة لهم ... لكن أعمى القلب ليس بمهتدي2 قالوا له: يا كافراً يا فاجراً ... ما ضره قول العداة الحسّد   1 في النسخ بدون ياء. 2 في النسخ بدون ياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قالت قريش قبلهم للمصطفى ... ذا ساحر ذا كاهن ذا معتدي1 قد أتهموه بأنه يغتال في ... تأذينه ليجئ أهل المسجدِ فإذا أتوا قتلوا بغير جناية ... تالله هذا إفك أفاك ردي2 قالوا يعم المسلمين جميعهم ... بالكفر قلنا: ليس ذا بمؤكد بل كل من جعل العديل لربه ... ونهي فصد فذاك كالمتهود قالوا له: غشاش أمة أحمد ... وهو النصيح بكل وجه يبتدي هل قال إلا وحدوا رب السما ... وذروا عبادة ما سوى المتفرد وتمسكوا بالسنة البيضا ولا ... تتنطعوا بزيادة وترددِ هذا الذي جعلوه غشاً وهو قد ... نطقت به الرسل الكرام لمن هدي من عهد آدم ثم نوح هكذا ... تترى إلى عهد النبي محمد   1 في النسخ بدون ياء. 2 في النسخ بدون ياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وكذلك الخلفاء بعد نبيهم ... والتابعون وكل حبر مهتدي1 منهاجهم هذا عليه تمسكوا ... من كان مستناً بهم فليقتد2 عجباً لمن يتلوا الكتاب ويدعي ... علم الحديث مسلسلاً في المسند ويقول للتوحيد غشاً إن ذا ... خطر على من قال فلتشهد3 ويجدد الإسلام والإيمان معتقداً ... بأن الشيخ خير مجدد ما ذنبه في الناس إلا أنه ... هدّ القباب وتلك سيرة أحمد ما صح عهد ثقيف لما عاهدوا ... إلا بهدم اللات لو لم يعبد ما اللات إلا كان عبداً صالحاً ... لت السويق لطائف متعبد لما توفي عظموا لضريحه ... كصنيع عباد القبور النكدِ إذ كان حياً قادراً قاموا ... بإطعام له وبكسوة وتفقد وإذا توارى عنهموا في قبره ... جعلوه نداً للإله السيدِ   1 في النسخ بدون ياء. 2 في ط الرياض: "فليقد". 3 في ط المنار والرياض: "فلتشهد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ولقد رأى الفاروق يوماً قبة ... نصبت على قبر تشد بأعمدِ فأشار: نحوها دعوه يظله ... عمل له إن لم يكن عملٌ ردي وحديث أبي الهياج فيه كفاية ... لذوي البصائر والعقول النقد في طمس تمثال وقبر مشرفٍ ... جاء الحديث به الصحيح لمسندِ1 لما نفى الإطراء منهم والغلو ... قالوا أتيت بذا الجفاء المبعد لو كان حبك للنبي محققاً ... لفعلت فعلتنا لعلك تهتدي أما "الدلائل"2 فهو لم ينكر بها ... صلوات أزكى العالمين الأمجدِ إلا التظاهر بالغلو وجعلها ... درساً يكرر في كتابٍ مفردِ فترى لهم حرصاً على تجويدها ... خطاً وتزويقاً وحسن مجلدِ   1 في الأصل: "المسند"، والحديث في صحيح مسلم (969) من طريق أبي الهياج قال: قال لي علي رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته. 2 يعني كتاب "دلائل الخيرات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 لا يعتنون بمصحف لهمو كما ... هو يعتنون براتب وبمولدِ فلو اعتنى رب "الدلائل" بالذي ... يأتي عقيب تشهد المتشهد لكفاه كل مؤونة وتكلف ... ومشى على النهج القويم الأرشد سأل النبي من الصحابة سائل ... كيف الصلاة عليك كالمسترشد فأجاب يرشده بما قد جاء في ... قول المصلي دبر كل تشهد لوحت فيه ولم أصرح حيث لم ... يدخل على وزن القريض المنشد هذا الكلام على"الدلائل" ليس ما ... قد قاله من شذ عن ذا المقصد وكذاك في"روض الرياحين" الذي ... فيها الغلو بصالح وبسيد والله قد ذم الغلو فقال: يا ... أهل الكتاب بغلطة وتهدد إذ قال: لا تغلوا بنهي لازم ... في دينكم فالحكم لم يتردد وكذا الرسول نهى وأخبر أنه ... فيه الهلاك لراهب متعبدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 عجباً لهم لو كان فيهم منصف ... لرأى المحب محمداً لمحمد من حيث أن الإتباع مقارن ... للحب في نص الكتاب الأمجدِ1 قالوا: صبأتم نحوه، قلنا لهم: ... الحق شمس للبصير المهتدي ما بيننا نسب نميل به ولا ... حسب يقربنا له بتوددِ أيضاً ولا هو جارنا الأدنى الذي ... نمتار نعمته ولم نسترفد لكنها شمس الظهيرة قد بدت ... لذوي البصائرفاهتدى من يهتدي فالعالمون العاملون المنصفو ... ن له أقروا بالفضائل واليد لكن قليل منهمو في عصرنا ... كالشعرة البيضا بجلدٍ أسودِ والله قد ذم الكثير وقال في ... حق القليل مقالة لم تجحدِ   1 يعني قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بـ"سبا" و"ص"1 فاتلها متدبراً ... تلقَ الصحيح بها فخذه تهتدِ فإن اعتراكم في الذي قد قاله ... شك وريب واختلاف يبتدي فزنوا بميزان الشريعة قوله ... تجدوه حقاً ظاهراً للمقتدي ولئن وجدتم فاسقاً أو جافياً ... أو جاهلاً في العلم كالمتردد قد زل يوماً أو هفا لا تنسبوا ... هفواته لجناب ذاك المرشدِ فالآل والأصحاب ماذا ضرهم ... من بعدهم تكدير صافي المورد من بعد ذاك الإجتماع على الهدى ... ظهروا ذوي فرق وأهل تبدد ماذا يضر السحب نبح الكلب أم ... ماذا يضر الصحب سب الملحد ثم الصلاة على النبي محمد ... أزكى الورى أصلاً وأطيب محتد والآل والأصحاب جمعاً كلما ... قد ذب عن ذا الدين كل موحد   1 آية سبأ {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [13] ، وآية ص {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [24] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فصل في رد فرية بأنهم خوارج ... فصل قال العراقي: (تمسك ابن عبد الوهاب في تكفير الناس بآيات نزلت في المشركين، فحملها على الموحدين) . الجواب أن يقال: هذا كذب بحت، فإنه لا يكفر -رحمه الله- أهل التوحيد، ولا يحمل الآيات النازلة في المشركين على الموحدين، وإنما يكفر من أشرك بالله في عبادته، واتخذ معبوداً سواه. مع أن هذا المعترض لم يذكر الآيات التي زعم أن الشيخ رحمه الله تمسك بها في تكفير الناس حتى ننظر هل كان محقاً في ذلك القول أو مبطلاً ضالاً؟ ويقال أيضاً: إن من1 منع تنزيل القرآن، وما دل عليه من الأحكام على الأشخاص والحوادث التي تدخل تحت العموم اللفظي فهو من أضل الخلق وأجهلهم بما   1 سقطت: "من" من ط الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 عليه أهل الإسلام وعلماؤهم قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، ومن أعظم الناس تعطيلاً للقرآن، وهجراً له، وعزلاً له عن الاستدلال به في موارد النزاع، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} [النساء: 59] الآية. والرد إلى الله1 هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول رد إلى سنته، وقد قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] وقد قال تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ} [الأنعام:19] ، فنصوصه وأحكامه عامة لا خاصة بخصوص السبب، وما المانع من تكفير من فعل كما فعلت اليهود من الصد عن سبيل الله والكفر به، مع معرفته، وهذا العراقي لا يبدي قولةً في اعتراضه وتلبيسه إلا هي أكبر من أختها في الجهالة والضلالة، ولو كان يعرف الكتاب العزيز، وما دل عليه من الأحكام والاعتبار لأحجم عن هذه العبارات التي لا يقولها إلا أفلسُ الخلق من العلم والإيمان. وأما قوله: (وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه في وصف الخوارج: أنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين، وفي رواية أخرى عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أخوف ما أخاف   1 سقطت: "الله" من ط الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 على أمتي رجل متأول للقرآن يضعه في غير موضعه"، فهذا وما قبله صادق على ابن عبد الوهاب وأتباعه) . فالجواب أن يقال: هذا الوصف هو المنطبق عليك، وعلى من نحا نحوك من أهل الضلال، حيث زعمت أن لكتاب الله وسنة رسوله ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات فتأول إما إجمالاً ويفوض أمرها إلى الله، وإما تفصيلاً كما هو رأي الكثيرين، فالذي يتأول القرآن، ويضعه في غير موضعه، ويصرفه عن القول الراجح إلى القول المرجوح بالتحكم والهوى -لأن كتاب الله وسنة رسوله عندكم أدلتهما ظنية، لا تعارض نتائج عقول الفلاسفة وورثة المجوس والصائبة وطواغيت اليونان ومن أخذ بأقوالهم من المتكلمين، بل قد صرحت أن العقل يقدم على النقل- فمن قدم معقول هؤلاء على كتاب الله وسنة رسوله فقد خرج من الدين، وفارق جماعة المسلمين. وأما ابن عبد الوهاب، فهو وأتباعه لا يتأولون القرآن، ولا يضعونه في غير موضعه، بل يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ولا يتأولون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، كما تفعلون أنتم في تأويل آيات الصفات وأحاديثها. وحاصل مقصود هذا العراقي ونقله: تشبيه أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الإسلام والتوحيد بالخوارج في تكفيرهم من عبد الأنبياء والأولياء والصالحين ودعاهم مع الله -لأن عباد القبور عنده هم أهل التوحيد وأهل الإسلام- من جنس الخوارج الذين يكفرون أهل القبلة، هذا حاصل كلامه، ومضمونه خطابه، وهذا داء قديم في أهل الشرك والتعطيل، من كفرهم بعبادة غير الله، وتعطيل أوصافه، وحقائق أسمائه، قالوا له: أنت مثل الخوارج، يكفرون بالذنوب، ويأخذون بظواهر الآيات. ومعلوم أن الذنوب تتفاوت وتختلف بحسب منافاتها لأصل الحكمة المقصودة بإيجاد العالم، وخلق الجن والإنس، وبحسب ما يترتب عليها من هضم حقوق الربوبية، وتنقص رتبة الإلهية، وقد كفر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بكثير من جنس الذنوب: كالشرك وعبادة الصالحين، وأخبر أنه أكبر الكبائر، كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! أي الذنوب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك"، قال قلت: ثم أي؟، قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك"، قال: قلت: ثم أي؟، قال: "أن تزاني حليلة جارك"، فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] الآية1.   1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- 8/492 وفي الأدب 10/433 وفي الحدود 12/114، وفي التوحيد 13/491، ومسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/90-91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فمن أنكر التكفير جملة فهو محجوج بالكتاب والسنة، ومن فرق بين ما فرق الله ورسوله من الذنوب، ودان بحكم الكتاب والسنة، وإجماع الأمة في الفرق بين الذنوب والكفر فقد أنصف، ووافق أهل السنة والجماعة. ونحن لم نكفر أحداً بذنب دون الشرك الأكبر الذي أجمعت الأمة على كفر فاعله، إذا قامت عليه الحجة، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد كما حكاه في "الإعلام" لابن حجر الشافعي. وأما قوله: (ويظهر من أقواله وأفعاله أنه كان يدّعي أن ما أتى به دين جديد) . فالجواب أن نقول: بل الذي يظهر من أفعاله وأقواله خلاف ما يزعمه هؤلاء الضلال، فإنه كان رحمه الله على الدين العتيق الذي كان عليه السلف الصالح والصدر الأول، من الدعوة إلى دين الله، كما قال رحمه الله في رسالته إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وأما ما ذكرتم عني فإني لم آته بجهالة، بل أقول ولله الحمد والمنة وبه القوة: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل: ابن القيم، والذهبي، أو ابن كثير، أو غيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى1 سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجوا أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتاني منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقول إلا الحق اهـ. فهذا نص كلامه رحمه الله كما ترى لم يقل فيه ولا في غيره من كلامه: إن ما أدعوكم إليه دين جديد، بل كان رحمه الله يجدد ما اندرس من معالم الدين العتيق، ويوطد أساس الملة المحمدية التي انطمست أعلامها، وأقوت رسومها، كما قال الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله في أبيات له، قال فيها: قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... به يهتدي من ضل هن منهج الرشد   1 في ط الرياض: "إلى الله" وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 محمد الهادي لسنة أحمد ... فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي لقد أنكرت كل الطوائف قوله ... بلا صدر في الحق منهم ولا ورد وما كل قول بالقبول مقابل ... ولا كل قول واجب الرد والطرد سوى ما أتى عن ربنا ورسوله ... فذلك قول جل يا ذا عن الرَّدِّ وأما أقاويل الرجال فإنها ... تدور على قدر الأدلة في النقدِ وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهراً ما طوى كل جاهلٍ ... ومبتدع منه فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادماً ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من وُدِّ وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهراً على عمد وكم طائف حول القبور مقبلٍ ... ومستلم الأركان منهن باليدِ وقال الشيخ الإمام عالم الأحساء أبو بكر حسين بن غنام رحمه الله تعالى في أبيات له: لقد رفع المولى به رتبة الهدى ... بوقت به يعلو1 الضلال ويرفعُ سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى ... وعاد2 بتيار المعارف يقطع فأحيا به التوحيد بعد اندراسه ... وأوهي به من مطلع الشرك مهيع سما ذورة المجد التي ما ارتقى لها ... سواه ولا حاذى فِناها سميدع وشمر في منها سنة أحمد ... يشيد ويحيي ما تعفى ويرفع يناظر بالآيات والسنة التي ... أمرنا إليها في التنازع نرجع   1 في ط المنار والرياض: "يعلى". 2 في الأصل: "وعامّ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها ... وأمسى محياها يضيء ويلمع وعاد به نهج الغواية طامساً ... وقد كان مسلوكاً به الناس تربع1 وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالألمعي ترفع فآثاره فيها سوام سوافر ... وأنواره فيها تضيء وتسطع2 وبهذا يظهر لكل ذي عقل سليم، ودين مستقيم، أنه لم يكن يدعو إلى دين جديد كما يزعمه هؤلاء المارقون عن دين الإسلام. وأما قوله: (ولذلك لم يقبل من دين النبي صلى الله عليه وسلم إلا القرآن، وقبوله إياه إنما كان ظاهراً) . فالجواب أن نقول: وهذا أيضاً من نمط ما قبله من المفتريات، ورعونات الخزعبلات والخرافات. وأما قوله: (والدليل على ذلك أنه هو وأتباعه كانوا   1 في الأصل تأخير هذا البيت. 2 في ط المنار: "وتستطع"! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 يأولون القرآن بحسب أهوائهم، لا بحسب ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والسلف الصالح، وأئمة التفسير، وما كان يقول بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأقاويل الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، ولا بما استنبطه الأئمة من الكتاب والسنة، ولا يأخذ بالإجماع، ولا القياس الصحيح، وكان يدعي الانتساب إلى مذهب الإمام أحمد كذباً وتستراً، وقد رد عليه أضاليله كثير من علماء الحنابلة، وألفوا في ذلك رسائل عديدة، حتى أخوه سليمان بن عبد الوهاب ألف رسالة في الرد عليه كما ذكرناه، وكان يقول لعماله: اجتهدوا بحسب نظركم، واحكموا بما ترونه مناسباً للدين، ولا تلتفتوا لهذه الكتب المتداولة، فإن فيها الحق والباطل، وقتل كثيراً من العلماء والصالحين لأنهم لم يوافقوه على ما ابتدعه) . فالجواب أن نقول: قد أجاب عن هذه الأكاذيب والمفتريات الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقال رحمه الله: [وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق بأنا نفسر القرآن برأيتنا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا من دون مراجعة شرح، ولا نعول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رُمة في قبره، وعصا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 أحدنا أنفع منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل عليه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد: 19] ، مع كون الآية مدنية، وأنا لا نعتمد أقواله، ونتلف مؤلفات أهل المذاهب لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق من بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن عليه. ومن فروع ذلك أنا لا نقبل بيعة أحد حتى نقرر عليه بأنه كان مشركاً، وأن أبويه ماتا على الإشراك بالله، وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقاً، وأنا لا نرى حقاً لأهل البيت، وأنا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شاباً إذا ترافعوا إلينا، ولا وجه لذلك، فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكرنا جوابنا عليه في كل مسألة سبحانك هذا بهتان عظيم. فمن روى عنا شيئاً من ذلك، ونسبه إلينا، فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد حالنا، وحضر مجلسنا، وتحقق ما عندنا، علم قطعاً أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان لإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك الذي نص الله على أنه لا يغفره ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فهذا وأشباهه مما تقدم ذكره عن هذا العراقي وأمثاله من الكذب على شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام لا يعتمد عليه ويصدقه في ذلك إلا ضال مضلّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 فصل في رد فرية الملحد في تنقص الأنبياء والصالحين ... فصل قال العراقي: (قال العلامة السيد العلوي الحداد: إن المحقق عندنا من أقواله وأفعاله ما يوجب خروجه عن القواعد الإسلامية، لما أنه استحل أموراً مجمعاً على تحريمها معلومة من الدين بالضرورة بلا تأويل سائغ، وهو مع ذلك ينتقص الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين، وانتقاصهم عمداً كفر بالإجماع عند الأئمة الأربعة) . والجواب أن يقال: هذا كله كذب وافتراء. وهذا الرجل المسمى بالحداد ليس هو من العلماء المشهورين بالعلم والدين والصلاح، بل كان من الغالين في الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين، لأنه زعم أن من أمر بتوحيد الله بالعبادة وإخلاصها لله وحده دون من سواه، فقد تنقص الأنبياء1 والأولياء والصالحين. وقد كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن من   1 في الأصل: "بالأنبياء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 صرف لغير الله شيئاً منها كان مشركاً سواء كان ذلك الغير من الأنبياء أو الصالحين، فلو كان هذا عالماً، أو كان يعرف قواعد الإسلام ومبانيه العظام ما فاه بمثل هذه الورطات، وبهرج بهذه الخرافات، بل هذا يدل على جهله وعدم معرفته وعلمه. ومن كان هذا حاله، وهذه أقواله، فلا يعول عليه، ولا يلتفت إليه ولا يعتمد على قوله ونقله إلا أشباه الأنعام السائمة، فلو ذكر عدو الله شيئاً مما نسبه إلى الشيخ مما يوجب خروجه عن القواعد الإسلامية لبينا بطلان قوله، ولكنه عدل إلى هذه المخرقة السامجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فصل في رد فرية الملحد على كتاب (كشف الشبهات) ... فصل قال العراقي: (ثم إنه صنف لابن سعود رسالة سماها كشف الشبهات عن خالق الأرض والسموات كفّر فيها جميع المسلمين، وزعم أن الناس كفار منذ ستمائة سنة، وحمل الآيات التي نزلت في الكفار من قريش على أتقياء الأمة، واتخذ ابن سعود ما يقوله وسيلة لاتساع الملك، وانقياد الأعراب له، فصار ابن عبد الوهاب يدعو الناس إلى الدين، ويثبت في قلوبهم أن جميع من هو تحت السماء مشرك بلا مراء، ومن قتل مشركاً فقد وجبت له الجنة. وكان ابن سعود يمتثل كل ما يأمر به! فإذا أمره بقتل إنسان، أو أخذ ماله سارع إلى ذلك، وكأن ابن عبد الوهاب في قومه كالنبي في أمته لا يتركون شيئاً مما يقوله، ولا يفعلون شيئاً إلا بأمره، ويعظمونه غاية التعظيم، ويبجلونه غاية التبجيل، وما زالت أحياء العرب وقبائلها تطيعه حتى اتسع بذلك ملك ابن سعود وملك أولاده بعده، وحارب الشريف غالباً رحمه الله خمس عشرة سنة حتى عجز عن حربه، ولم يبق أحد إلا صار من حزبه، ودخل مكة بالصلح سنة ألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ومائتين وعشرين، واستمر فيها سبع سنين، إلى أن جهزت الدولة العلية عساكرها المنصورة عليه، ووجهت الأمر إلى وزيرها المفخم "محمد علي باشا" صاحب مصر، فأتاه بجيوش باسلة، وطهر الأرض منه ومن أتباعه، ثم جهز ابنه "إبراهيم باشا" فوصل بجيوشه إلى الدرعية سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين، فأفنى وأباد من بقي منهم) . والجواب أن نقول: نعم صنف الشيخ رحمه الله تعالى كشف الشبهات، وذكر الأدلة من الكتاب والسنة على بطلان ما أورده أعداء الله ورسوله من الشبهات، فأدحض حججهم، وبين تهافتهم، وكان كتاباً عظيم النفع على صغر حجمه، جليل القدر انقمع به أعداء الله وانتفع به أولياء الله، فصار علما يقتدي به الموحدون، وسلسبيلاً يرده المهتدون، ومن كوثره يشربون، وبه على أعداء الله يصولون، فلله ما أنفعه من كتاب، وما أوضح حججه من خطاب، لكن لمن كان ذا قلب سليم وعقل راجح مستقيم. وأما قوله: (عن خالق الأرض والسموات) . فأقول: لم أسمع بهذه الكلمة إلا عن هذا العراقي. وأما قوله: (كفر فيها جميع المسلمين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فأقول: حاشا وكلا ما كفّر فيها مسلماً، وإنما كفر من أشرك بالله. وعدل به أحداً سواه. وأما قوله: (وزعم أن الناس كفار منذ ستمائة سنة) . فأقول: هذا كذب لم يثبت عنه هذا اللفظ في هذه الرسالة ولا في غيرها، بل قد أجاب عن هذه المسألة وغيرها في رسالته لعدو الله عبد الله بن سحيم حيث قال: فالمسائل التي شنع بها، منها ما هو من البهتان الظاهر، وهي قوله: إني مبطل كتب المذاهب، وقوله: إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وقوله: إني أقول إن اختلاف العلماء نقمة، وقوله: إني أكفر من توسل بالصالحين، وقوله: إني أكفر البوصيري لقوله: "يا أكرم الخلق" الخ، وقوله: إني أقول لو أقدر على هدم حجرة الرسول لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب، وقوله: إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم، وإني أكفر من يحلف بغير الله، فهذه اثنتا عشرة1 مسألة، جوابي فيها أن أقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ، ولكن قبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم، ويسب الصالحين، تشابهت قلوبهم، وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة   1 في الأصل: "عشر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وعيسى وعزيراً في النار، فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الانبياء:101] وأما قوله: (وحمل الآيات التي نزلت في الكفار من قريش على أتقياء الأمة) . فقد تقدم الجواب على هذه الدعوى الباطلة فيما تقدم. وأما قوله: (وبث في قلوبهم أن جميع من هو تحت السماء مشرك بلا مراء، ومن قتل مشركاً فقد وجبت له الجنة) . فأقول: هذا كذب وافتراء كما تقدم بيانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 فصل في كيد الدولة التركية المصرية ورد الله له ... فصل ثم ذكر العراقي محاربة آل سعود الشريف غالباً، وعجزه عن مناوأتهم، ودخولهم مكة بالصلح إلى قوله: (ثم جهزت الدولة العلية) إلى آخره. فأقول: قد ذكرنا فيما تقدم1 ما أوقع الله بمن عادى المسلمين من العقوبات، وأن آخر أمرهم صار إلى تباب كما ذكره شيخنا رحمه الله في المقامات، ثم قال شيخنا رحمه الله تعالى: "وأما الدولة التركية المصرية فابتلى الله بهم جميع المسلمين لما ردوا حاج الشامي عن الحج بسبب أمور كانوا يفعلونها في المشاعر، فطلبوا منهم أن يتركوها، وأن يقيموا الصلاة جماعة، فما حصل منهم أن ذلك، فردهم سعود رحمه الله تديناً، فغضبت تلك الدولة التركية، وجرى عندهم أمور يطول عدها، ولا فائدة في ذكرها، فأمروا محمد علي صحاب مصر أن يسير إليهم بعسكره، وبكل ما يقدر عليه من القوة والكيد، فبلغ سعود ذلك، فأمر ابنه عبد الله أن يسير   1 ص (47-54) ها هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 لقتالهم، وأمره أن ينزل دون المدينة، فاجتمعت عساكر الحجاز على عثمان بن عبد الرحمن المضايفي وأهل بيشة1 وقحطان وجميع العربان، فنزلوا بالجديدة، فاختار عبد الله بن سعود القدوم عليهم، والاجتماع بهم، وذلك أن العسكر المصري في ينبع، فاجتمع المسلمون في بلد حرب، وحفروا في مضيق الوادي خندقاً، وعبئوا الجموع، وصار في الخندق من المسلمين أهل نجد، وصار عثمان ومن معه من أهل الحجاز في الجبل فوق الخندق، فحين نزل العسكر ارتدت خيولهم، وعلموا أنه لا طريق لها إلى المسلمين، فأخذوا يضربون بالقبوس فدفع الله شر تلك القبوس الهائلة عن المسلمين إن رفعوها مرّت ولا ضرت، وإن خفضوها اندفنت في التراب، فهذه عبرة، وذلك أن أعظم ما معهم من الكيد أبطله الله في الحال، ثم مشوا على عثمان ومن معه في الجبل، فتركهم حتى قربوا منه، فرموهم بما احتسبوهم به وما أعدوه لهم حين أقبلوا عليهم فما أخطأ لهم بندق، فقتلوا العسكر قتلاً ذريعاً، وهذه أيضاً من العبر، لأن العسكر الذي جاءهم أكثر منهم بأضعاف، ومع كل واحد من الفرود والمزندات، فما أصابوا رجلاً من المسلمين، وصار القتل فيهم، وهذه أيضاً عيرة عظيمة، هذا كله وأنا أشاهده، ثم مالوا إلى الجانب الأيمن   1 في ط المنار والرياض: "بيته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 من الجبال بجميع عسكرهم من الرجال، وأما الخيل فليس لها فيه مجال، فانهزم كل من على الجبل من أهل بيشة وقحطان وسائر العربان إلا ما كان من حرب فلم يحضروا، واشتدوا على المسلمين لما صاروا في أعلى الجبل، فصاروا يرامون المسلمين من فوقهم، فحمي الوطيس آخر ذلك اليوم، ثم من الغد، فاستنصر أهل الإسلام ربهم الناصر لمن ينصره، فلما قرب الزوال من اليوم الثاني نظرت فإذا برجلين قد أتيا فصعدا طرف ذلك الجبل، فما سمعنا لهم بندقاً ثارت، إلا أن الله كسر ذلك البيرق ونحن ننظر، فتتابعت الهزيمة على جميع العسكر فولوا مدبرين، وجنبوا الخيل والمطرح، وقصدوا طريقهم الذي جاءوا معه، فتبعهم المسلمون يقتلون ويسلبون، هذا ونحن ننظر إلى تلك الخيول قد حارت وخارت، وظهر عليهم عسكر من الفرسان من جانب الخندق ومعهم بعض الرجال فولت تلك الخيول مدبرة، فتبعتهم خيول المسلمين في أثرهم، وليس معهم زاد ولا مزاد، فانظر إلى هذا النصر العظيم من الإله الحق رب العباد، لأن الله هزم تلك العساكر العظيمة برجلين، فهذه ثلاث عبر لكن أين من يعتبر، فأخذوا بعد ذلك مدة من السنين. ثم بعد ذلك سار "طوسون" كبير ذلك العسكر الذي هزمه الله فقصد المدينة فوراً، وأمر سعود على عبد الله ومن معه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 المسلمين أن ينهضوا لقتالهم، فوجدوهم قد هجموا على المدينة، ودخلوها، وأخرجوا من كان بها من أهل نجد وعسير، فحج المسلمون تلك السنة، فأقبل ذلك العسكر ونزل رابغ، ونزل المسلمون وادي فاطمة، فخان لهم شريف مكة، وضمهم إليه، وجاءوا مع الخبيث على غفلة من المسلمين، فعلم المسلمون أنه لا مقام لهم مع ما جرى من الخيانة، فرجعوا إلى أوطانهم، فخاف عثمان وهو بالطائف أن يكون الحرب منهم ومن الشريف عليه لما يعلم من شدة عداوتهم فخرج بأهله وترك لهم الطائف أيضاً مخافة أن يجتمعوا على حربه، وليس معه إلا القليل من عشيرته، ولا يأمن أهل الطائف أيضاً، فنزل المسلمون بتربة بعد ذلك نحوا من شهر، ثم رجعوا حين أكلوا ما معهم من الزاد، فجرى بعد ذلك وقعات بينهم وبين المسلمين، ولا فائدة في الإطالة بذكرها، والمقصود أن استيلاءهم على المدينة ومكة والطائف كان بأسباب قدّرها الملك الغلاب. فيريك عزته ويبدي لطفه ... والعبد في الغفلات عن ذا الشان وفيها من العبر أن الله أبطل كيد العدو، وحمى الحوزة، وعافى المسلمين من شرهم، وصار المسلمون يغزونهم فيما قرب من المدينة ومكة في نحو من ثلاث سنين أو أربع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فتوفى الله سعود رحمه الله وهم غزاة على من كان معيناً لهذا العسكر من البوادي، فأخذوا وغنموا، فبقي لهم من الولاية ما كانوا عليه أولاً، إلا ما كان من مكة والطائف وبعض الحجاز، وبعد وفاة سعود رحمه الله تجهزوا للجهاد على اختلاف كان من أولئك الأولاد، فصار المسلمون جانبين جانباً مع عبد الله وجانباً مع فيصل أخيه، فنزل الحناكية عبد الله، ونزل فيصل تربة باختيار وأمر من أخيه له، فوافق أن محمد علي حج تلك السنة فواجه فيصل هناك فطلب منه أن يصالحه على الحرمين، فأبى فيصل، وأغلظ له الجواب، وفيما قال: لا أصلح الله منا من يصالحكم ... حتى يصالح ذئب المعز راعيها فأخذت محمد علي العزة والأنفة فصار إلى بسل، والظاهر أنه كان حريصاً على الصلح فاستعجل فيصل بمن معه فساروا إليه في بسل، وقد استعد لحربهم خوفاً مما جرى منهم، فأقبلوا وهم في منازلهم فصارت عليهم العساكر والخيول فولوا مدبرين، لكن الله أعز المسلمين فحبس عنهم تلك الدول والخيول، حتى وقفوا على التلول، فسلم أكثر المسلمين من شرهم، واستشهد منهم القليل، ولا بد في القتال أن ينال المسلم أو يُنال منه، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] الآيات، وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] الآيات. وقد قال هرقل لأبي سفيان فما الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال، ينال منا، وننال منه. فهذه سنة الله في العباد زيادة للمؤمنين في الثواب، وتغليظاً على الكافرين في العقاب. وأما عبد الله فرجع بمن معه فلم يلق كيداً دون المدينة. فتفكر في حماية الله لهذه الطائفة مع كثرة من عاداهم وناوأهم، ومع كثرة من أعان عليهم ممن ارتاب في هذا الدين وكرهه، وقبل الباطل وأحبه، فما أكثر هؤلاء لكن الله قهرهم بالإسلام، ففي هذا المقام عبرة، وهو أن الله أعزهم وحفظهم من شر من عاداهم، فلله الحمد والمنة. وبعد ذلك رجع محمد علي إلى مصر، وبعث الشريف غالب إلى إسطنبول، وأمر ابنه طوسون أن ينزل الحناكية دون المدينة، وأمر العطاس أن يسعى بالصلح بينهم وبين عبد الله بن سعود ويركب له من مكة، وأراد الله أن أهل الرس يخافون، لأنهم صاروا في طرف العسكر، فاستلحقوا لهم جماعة1 من المغاربة، وطوسون على الحناكية، وصار في أولاد سعود نوع من العجلة في الأمور فأمروا على الرعايا بالمسير   1 في الأصل: "ربيع"وهي كلمة عامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 إلى الرس، فنزلوا الرويضة، فتحصن أهل الرس بمن عندهم، فأوجبت تلك العجلى أن استفزعوا أهل الرس أهل الحناكية، فلما جاء الخبر بإقبالهم نصرة لأهل الرس ارتحل المسلمون يلتمسون من أعانهم من حرب ما بينهم وبين المدينة، فصادفوا خزنة العسكر فقتلوهم، وأخذوا ما معهم، فهذا مما يسره الله من النصر من غير قصد ولا دراية، فرجع المسلمون إلى عنيزة، والعسكر نزلوا الشبيبية قريباً منهم، ويسر الله للمسلمين سبباً آخر، وذلك من توفيق الله ونصره، وجهزوا جيشاً وخيلاً فأغاروا على جانب العسكر فخرجوا عليهم، فهزمهم الله، وقتل المسلمون فيهم قتلاً كثيراً، فألقى الله الرعب في قلوبهم على كثرة من أعانهم، وقوة أسبابهم، وذلك من نصر الله لهذا الدين، فرجعوا إلى الرس خوفاً من هجوم المسلمين عليهم، فتبعهم المسلمون، ونزلوا الحجناوي، فقدم العطاس على الأمر الذي عمده إليه محمد علي فوجد الحال قد تغير [فقصدهم] ابتداء، فمنعوه مما جاء له، ثم إنهم سعوا في الصلح والمسلمون على الحجناوي، وكل يوم يجري بين الخيل طراد فمل أكثر المسلمين من الإقامة، فلم يبق منهم إلا شرذمة قليلة، فجاء منهم أناس يطلبون الصلح، فأصلحهم عبد الله رحمه الله تعالى، وطلبوا منه أن يبعث معهم رجلاً من أهل بيته خوفاً أن يعرض لهم أحد من المسلمين في طريقهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فمشى معهم محمد بن حسن بن مشاري إلى المدينة. والمقصود أن الله سبحانه أذلهم، وألقى الرعب في قلوبهم، وحفظ المسلمين من شرهم، بل غنمهم مما بأيديهم من حيث بذلهم المال بشرائهم "الهجن"، فاشتروا من المسلمين "الذلول" بضعفي ثمنها- إلى أن قال رحمه الله: فلو ساعد القدر وتم هذا الصلح لكان الحال غير الحال، لكن ما أراده الله تعالى وقع على كل حال، لكن جرى من عبد الله بن سعود رحمه الله تعالى ما أوجب نقض ذلك الصلح، وهو أنه بعث عبد الله بن كثير لغامد وزهران بخطوط مضمونها أن يكونوا في طرفه، وفي أمره، فبعثوا بها إلى محمد علي فلم يرض بذلك، وقال: إنهم من جملة من وقع عليهم الصلح، فهذا هو سبب النقض، وأنشأ عسكراً مع إبراهيم باشا، ونزل الحناكية، ثم ذكر وقعة الماوية، ثم قدومه إلى الدرعية، وأخذ في حصارها قدر ثمانية أشهر، وهو يضربهم بالقنابر والقبوس، ثم انتهى الأمر إلى الصلح فأعطاهم العهد والميثاق على ما في البلد من رجل أو مال حتى الثمرة التي على النخل، لكن لم يف لهم بما صالحهم عليه، وغدر بأناس منهم "سليمان بن عبد الله" وبعد هذا تشتت أهل البلد عنها، وقطع النخيل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وهدم المساكن إلا القليل، وبعث بعبد الله بن سعود لمصر، وأتبعه عياله وإخوانه وكبار آل الشيخ، وبعد ذلك حج، فسلط الله على عسكره الفناء، ولم يصل إلى مصر إلا القليل، فلما وصل مصر حل بهم عقوبات أهل الإسلام، فمشى على السودان ولا أظفره الله فرجع مريضاً، ثم إن محمد علي بعث ابنه إسماعيل، وتمكن منهم بصلح، فلما رأوا منه الخيانة بأخذ عبيد وجوار، أحرقوه بالنار في بيته ومن معه من العسكر، ثم بعد ذلك بعث لهم دفتردار ولا حصل منهم شيئاً. فأما عسكر الحجاز التي وصلت مصر قبل إبراهيم باشا حسين بك1 الذي صار في مكة وعابدين بك2 الذي صار في اليمن فسيرهم محمد علي قبل هذا الحرب إلى "مورة" "وجريد" لما خرجوا على السلطان، فاستمده السلطان على حربهم، فأمده بهذين العسكرين، فهلكوا عن آخرهم، ولم يفلت منهم عين تطرف، وذلك أن "مورة" "وجريد" في الأصل ولاية للسلطان، فخرجوا عليه، فهلك من عسكر السلطان والعساكر المصرية في حربهم ما لا يحصى، وهذه عقوبة أجراها الله عليهم بسبب ما جرى منهم على أهل الإسلام، حتى "العرناووط" في جبلهم عصوا على السلطان قبل حادثة "مورة" "وجريد".   1 في الأصل: "بيه". 2 في الأصل: "بيه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وبعد هذا الأمر اشتد الأمر على السلطان، وبعث يستنصر محمد علي، فبعث عسكراً كبيرهم "قارئ علي" فهلكوا في البحر قبل أن يصلوا، ثم إن السلطان بعث "نجيب أفندي" لمحمد علي يطلب منه أن يسير بنفسه، فبعث إليه يعتذر بالمرض، وأن إبراهيم باشا يقوم مقامه، وقبل ذلك بعث "حسين بك"1 الذي سبا أهل نجد، وقتل منهم البعض في ثرمدا، وفزع للسلطان قبل مسير إبراهيم باشا بعسكره الذي كان معه في نجد، وتبعه إبراهيم باشا يمده، ونزلوا "مورة" لحرب أهلها، فأذلهم الله لهم، فقتلوا فيهم قتلاً عظيماً. فأما عسكر "حسين بك"2 فلم يقدم مصر منه إلا صبي. وأما إبراهيم باشا فاشترى نفسه منهم بالأموال، فانظر إلى هذه العقوبات العاجلة التي أوقعها الله على الآمر والمأمور، وأكثر الناس لا يدري بهذه الأمور. وهذا الذي ذكرناه فيه عبرة عظيمة، وشاهد لأهل هذا الدين أن الله لما سلط عليهم عدوهم، ونال منهم ما نال، صارت العاقبة السلامة والعافية لمن ثبت على دينه، واستقام على دين الإسلام.   1 في الأصل: "بيه". 2 في الأصل: "بيه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ثم إن الله تعالى أوقع بعدوهم ما ذكرنا وأعظم، لكن ذكرنا الواقع على سبيل الاختصار لقصد الاعتبار {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] . ثم إن الله أجرى على من أعانهم من أهل نجد ممن شك منهم في هذا الدين، وأكثر الطعن على المسلمين، أن الله تعالى أفناهم، وهذه أيضاً من العبر لم يبق أحد ممن أظهر شره وإنكاره وعداوته للمسلمين إلا وعوجل1 بالهلاك والذهاب"اهـ. ثم ذكر رحمه الله ظهور خالد وإسماعيل وذلك بعد أن رد الله الكرة للمسلمين، وجمعهم الله على تركي بن عبد الله، ثم على ابنه فيصل، وذكر رحمه الله ما جرى من تسلط العساكر المصرية على أهل هذه الدعوة المحمدية، وما جرى من الملاحم العظيمة مما يطول عده، وتمكنهم من فيصل، وأخذهم له، وإرساله لمصر، ثم صار في هذه العساكر من الذهاب والعذاب والفساد لما أوقع الله الحرب بين السلطان ومحمد علي، وذلك من العقوبات، ثم رد الله الكرة لأهل نجد وجمعهم الله بالإمام فيصل فرجعوا كما كانوا أولاً على ما كانوا عليه قبل حرب هؤلاء الدول. والمقصود بما ذكرنا الاعتبار بأن الله حفظ هذا   1 في ط المنار وط الرياض: "إلا وهو جل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الدين ومن تمسك به، وأيدهم بالنصر على ضعفهم وقلتهم، وأوقع بأسه بهذه الدولة على قوتهم وكثرتهم، وأسباب كيدهم، ثم إن الله تعالى أهلك تلك الدول بما أجرى عليهم من حرب النصارى في بلاد الروم، فكل دولة مشت على نجد والحجاز لم يبق منهم اليوم عين تطرف، وكانوا لا يحصي عددهم إلا الله، فهلكوا في حرب النصارى، فصارت العاقبة العافية والظهور لمن جاهدهم في الله من الموحدين، فجمع الله لهم بعد تلك الحوادث العظيمة من النعم والعز والنصر ما لا يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال. ومن عجيب ما اتفق لأهل الدعوة أن محمد بن سعود عفا الله عنه لما وفقه الله لقبول هذا الدين ابتدأ بعد تخلف الأسباب، وعدم الناصر شمر في نصرته ولم يبال بمن خالفه من قريب أو بعيد، حتى إن بعض أناس ممن له قرابة به عذله عن هذا المقام الذي شمر إليه، فلم يلتفت إلى عذل عاذل، ولا لوم لائم، ولا رأي مرتاب، بل جد في نصرة هذا الدين، فملكه الله تعالى في حياته كل من استولى عليه من القرى، ثم بعد وفاته صار الأمر في ذريته يسوسون الناس بهذا الدين ويجاهدون فيه كما جاهدوا في الابتداء، فزادت دولتهم وعظمت صولتهم على الناس بهذا الدين الذي لا شك فيه ولا التباس، فصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الأمر في ذريته لا ينازعهم فيه منازع، ولا يدافعهم عنه مدافع، وأعطاهم الله القبول والمهابة، وجمع الله عليهم من أهل نجد وغيرهم ممن لا يمكن اجتماعهم على إمام واحد إلا بهذا الدين، وظهرت آثار الإسلام في كثير من الأقاليم النجدية وغيرها مما تقدم ذكره، وأصلح الله بهم ما أفسدت تلك الدول التي حاربتهم، ودافعتهم عن هذا الدين ليطفئوه، فأبى الله ذلك، وجعل لهم العز والظهور- انتهى ما ذكره الشيخ. والمقصود أن هذا العراقي ذكر أن الدولة المصرية أفنت المسلمين وأبادتهم، ولم يبق منهم أحد، وقد أبقى الله – وله الحمد والمنة- من آل سعود من أقام هذا الدين، وجاهد فيه، وأحيا ما اندرس من معالمه، بعد تلك الدول، ونسأل الله أن يديم ذلك، وأن يجعلهم أئمة هدى، وأن يوفقهم لما وفق له الخلفاء الراشدين الذين لهم التقدم في نصرة هذا الدين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فصل في مسألة زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ... فصل قال العراقي: (ومن قبائح ابن عبد الوهاب الشنيعة أنه منع الناس من زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فبعد منعه خرج أناس من الأحساء وزاروه صلى الله عليه وسلم، فلما رجعوا مروا على ابن عبد الوهاب في الدرعية فأمر بحلق لحاهم، وأركبهم مقلوبين إلى الأحساء) . والجواب: أن هذا كذب وافتراء، فإن الشيخ قال في جواب اثنتي عشرة مسألة منها إنكاره زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ما نصه: فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ،وقد تقدم ذكرها. وأما كونه حلق لحى أناس من أهل الأحساء فهو من تصرف هذا العراقي، فإنه لم يذكرها إمام ضلالتهم "أحمد بن زيني دحلان" في مفترياته، وهم إنما يمشون على ما اقترحه لهم وافتراه {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 41] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وأما قوله: (قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الخوارج في أحاديث كثيرة فكانت من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، لأن فيها إخباراً بالغيب، فمنها قوله عليه الصلاة والسلام "الفتنة من ههنا" وأشار إلى المشرق. وقوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج أناس من قبل المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه -يعني موضع الوتر- سماهم التحليق"، وفي رواية زيادة على ذلك "هم شر الخليقة، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء،"، وقوله صلى الله عليه وسلم:" اللهم بارك لنا في شامنا اللهم بارك لنا في يمننا" قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟ قال: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان". وقوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج ناس من المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما قطع قرن نشأ قرن، حتى يكون آخرهم مع المسيح الدجال، سيماهم التحليق"، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "سيماهم التحليق" تنصيص عن هؤلاء القوم الخارجين من المشرق التابعين لمحمد بن عبد الوهاب فيما ابتدعه) . فالجواب أن يقال: لقد –والله- أمكن الرامي من سواء الثغرة، وعلى نفسها تجني براقش. فإن قوله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 "الفتنة ههنا الفتنة ههنا" وأشار إلى المشرق مراده مشرق المدينة، وهو العراق كما يأتي ذلك في الأحاديث، وفي كلام أهل العلم. فأما قوله: (فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "الفتنة من ههنا الفتنة من ههنا" وأشار إلى المشرق) . أقول: روى البخاري في كتاب الفتن من حديث ابن عمر ولفظه هكذا: عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام إلى جنب المنبر فقال: "الفتنة ههنا الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان – أو قال- قرن الشمس" وفي رواية عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: "ألا إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان"، وفي رواية عنه قال ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا" قالوا: وفي نجدنا، قال: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا". قالوا: وفي نجدنا. فأظنه قال في الثالثة: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان". ولمسلم من رواية عكرمة بن عمار عن سالم سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده نحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 المشرق ويقول: "ها إن الفتنة ها هنا -ثلاثاً- حيث يطلع قرن الشيطان". وله من طريق حنظلة عن سالم مثله قال: "إن الفتنة هاهنا. ثلاثاً". وله من طريق فضيل بن غزوان سمعت سالم بن عبد الله بن عمر يقول: "يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة، سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجيء من ههنا، وأومى بيده نحو المشرق، من حيث يطلع قرنا الشيطان" 1 كذا فيه بالتثنية.   1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الاستسقاء –باب ما قيل في الزلازل والآيات 2/521 من طريق حسين بن الحسن قال: حدثنا ابن عون عن نافع عن ابن عمر قال: "اللهم بارك لنا في شامنا، وفي يمننا". قال قالوا: وفي نجدنا. قال: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان". قال الحافظ ابن حجر: هكذا وقع في هذه الروايات التي اتصلت لنا بصورة الموقوف عن ابن عمر ... قال القابسي: سقط ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من النسخة، ولا بد منه، لأن مثله لا يقال بالرأي. انتهى. قال الحافظ: ورواه أزهر السمان عن ابن عون مصرحاً فيه بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي في كتاب الفتن اهـ. كلام الحافظ. قال البخاري رحمه الله في كتاب الفتن من صحيحه: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الفتنة من قبل المشرق"، ثم ساق بسنده عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام إلى جنب المنبر فقال: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ..................................................................................................   = "الفتنة ها هنا، الفتنة ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان". أو قال: "قرن الشمس". ثم ساق بسنده عن ليث عن نافع عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: "ألا إن الفتنة ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان". ثم ساق بسنده أيضاً عن أزهر بن سعد عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا" قالوا: يا رسول الله: وفي نجدنا. قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا فأظنه قال في الثالثة: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان". وأخرج البخاري أيضاً في كتاب فرض الخمس باب ما جاء في بيوت أخراج النبي صلى الله عليه وسلم من صحيحه 6/210، وفي كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده 6/336، وفي كتاب المناقب 6/540، وفي كتاب الطلاق، باب الإشارة في الطلاق والأمور 9/436. وأخرج الحديث مسلم في صحيحه كتاب الفتن وأشراط الساعة 4/2228، 2229 من طرق عن ابن عمر. منها: عن يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال –وهو مستقبل المشرق-: "ها إن الفتنة ها هنا. ها إن الفتنة ها هنا. ها إن الفتنة ها هنا. من حيث يطلع قرن الشيطان". وأخرج من طريق وكيع عن عكرمة بن عمار عن سالم عن أبيه عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة فقال: "رأس الكفر من ها هنا، من حيث يطلع قرن الشيطان" يعني المشرق. وأخرجه من طريق ابن فضيل عن أبيه. قال: سمعت سالم بن عبد الله بن عمر يقول: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغير، وأركبكم للكبير، سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجيء من ها هنا" وأومأ بيده نحو المشرق. "من حيث يطلع قرنا الشيطان" وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض ... الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فتبين من هذا الحديث الصحيح أن المراد بالمشرق العراق، ولا بدع فهو منبع كل فساد، ومنشأ كل إلحاد. قال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها، فهي مشرق أهل المدينة، وأصل نجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور، فإنه ما انخفض منها. وقال الحافظ في الفتح: وقال غيره "كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الفتنة تكون من تلك الناحية، فكان كما أخبر، وأول الفتن كان من قبل المشرق، فكان ذلك سبباً للفرقة بين المسلمين، وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة" انتهى. وقال القسطلاني: إنما أشار عليه الصلاة والسلام إلى المشرق لأن أهله يومئذ أهل كفر، فأخبر أن الفتنة تكون من تلك الناحية، وكذا وقعت، فكانت وقعة الجمل، ووقعة صفين، ثم ظهور الخوارج في أرض نجد والعراق وما وراءها من المشرق، وكان أصل ذلك وسببه قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فتبين مما ذكره الشراح أن المراد من قوله: "من قبل المشرق" أنه العراق ونواحيه، لأن به كانت وقعة الجمل، ووقعة صفين، وهي لم تكن إلا في ناحية العراق، وخروج الخوارج إنما كان من البصرة والكوفة، فأين هذه الأماكن من اليمامة لو كانوا يعلمون، ولكن الأمر كما قيل: رمتني بدائها وانسلت وقال الداوودي: إن نجداً من ناحية العراق. ذكر هذا الحافظ ابن حجر، ويشهد له ما في مسلم عن ابن غزوان سمعت سالم بن عبد الله سمعت ابن عمر يقول: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجيء من ههنا"، وأومى بيده إلى المشرق، فظهر أن هذا الحديث خاص لأهل العراق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر المراد بالإشارة الحسية، وقد جاء صريحاً في الكبير للطبراني النص على أنها العراق، وقول ابن عمر، وأهل اللغة وشهادة الحال كل هذا يعين المراد، ومن المعلوم بالضرورة أن وقعة الجمل وصفقين لم تكن بأرض اليمامة، ولا كان خروج الخوارج على علي رضي الله عنه إلا بحروراء1 من جهة العراق ونواحيها.   1 في ط الرياض:"بجروراء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وأما قوله: (في الحديث الآخر يخرج ناس من قبل المشرق يقرؤون القرآن) الخ. فأقول: الحديث أخرجه البخاري في كتاب التوحيد عن معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج ناس من قبل المشرق، ويقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه، قيل ما سيماهم؟ قال: "التحليق -أو قال- التسبية" 1. وقد وقع مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من خروج هؤلاء المارقين، على هذه الصفة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان خروجهم من جهة العراق كما ذكره الشراح. قال الحافظ في الفتح في آخر كتاب التوحيد تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج ناس من قبل المشرق": تقدم في كتاب الفتن أنهم الخوارج، وبيان مبدأ أمرهم، وما ورد فيهم، وكان ابتداء خروجهم في العراق، وهي من جهة المشرق بالنسبة إلى مكة المشرفة انتهى.   1 تقدم الكلام على أحاديث الخوارج في الرسالة الأولى في هذه السلسلة ص47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وأخرج البخاري عن بشير بن عمرو قال: قلت لسهل بن حنيف هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الخوارج شيئاً؟ قال: سمعته يقول وأهوى بيده قبل العراق: "يخرج منه قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية". وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" الحديث. فالجواب أن يقال: وصف أهل اليمامة بهذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يصف أهل نجد وأهل اليمامة بهذا، ولا دخل في وصفه من يؤمن بالله ورسوله منهم ولا من غيرهم، بل الموصوف بإجماع المسلمين هم الحرورية الخارجون على علي الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه من أهل الكوفة والبصرة وما يليها من بني يشكر ومن طي وتميم وغيرهم من قبائل العرب، ودارهم ومسكنهم بالعراق، ولا يختلف في هذا، ودولتهم وشوكتهم كانت هناك دون النهر، ولذلك نسبوا إليه وقيل: أهل النهروان، وحروراء بلدة هناك نسبوا إليها، فقيل: الحرورية. وبعض ألفاظ الحديث في بعض الطرق دال على تلك الخصوصية كما وقع في رواية البخاري عن أبي سعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 "يخرجون على حين فرقة من الناس" قال أبو سعيد شهدت لسمعته من النبي صلى الله عليه وسلم. وأشهد أن علياً قتلهم وأنا معه حين جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لمسلم عن أبي سعيد "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق". وكذلك الحديث الذي أورده العراقي (الزهاوي) 1 من قوله صلى الله عليه وسلم: " يخرج ناس من المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما قطع قرن نشأ قرن، حتى يكون آخرهم مع المسيح الدجال". قال بعض المحققين من أهل العلم في رده شبه دحلان: لم أقف على هذا اللفظ، ولكن أخرج معناه النسائي من حديث أبي برزة وأخرج ابن ماجه معناه من حديث ابن عمر. ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينشأ نشء يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج قرن قطع" قال ابن عمر: حتى يخرج في عراضهم الدجال. وفي مجمع الزوائد عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج ناس من قبل المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما قطع قرن نشأ قرن حتى   1 ليس في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 يكون مع بقيتهم الدجال" رواه الطبراني وإسناده حسن. انتهى. وأما قوله: (وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "سيماهم التحليق" تنصيص على هؤلاء القوم الخارجين من المشرق، التابعين لمحمد بن عبد الوهاب فيما ابتدعه، لأنهم كانوا يأمرون من اتبعهم أن يحلق رأسه، ولا يتركونه إذا تبعهم حتى يحلقوا رأسه، ولم يقع مثل ذلك من إحدى الفرق الضالة التي مضت قبلهم، وكان ابن عبد الوهاب يأمر بحلق رؤوس النساء أيضاً ممن اتبعه، وفي مرة أمر امرأة دخلت في دينه أن تحلق رأسها. فقالت له: لو أمرت بحلق اللحى للرجال لساغ أن تأمر بحلق رؤوس النساء، فإن شعر الرأس للنساء بمنزلة اللحية للرجل. فلم يجد لها جواباً) . فالجواب أن نقول: قد تقدم أن التحليق من صفة الخوارج الذين يخرجون من العراق كما هو معروف مشهور في الأحاديث وكلام العلماء. وأما قوله: (إن الشيخ وأتباعه يأمرون من اتبعهم أن يحلق رأسه) . فهذا من الكذب والبهتان، والظلم والعدوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وأما حكايته عن المرأة التي زعم أن الشيخ أمرها بحلق رأسها فمن الخرافات والمجونات التي لا يستجيز صبيان المكاتب حكايتها، ولا يحيكها إلا هؤلاء الذين سلب الله عقولهم، وأنطقهم بما يضحك منه المجاذيب الذين لا يعقلون. وأما قوله: (ولم يقع مثل ذلك من أحدى الفرق الضالة التي مضت قبلهم) . فأقول: هذا مما يبين شدة غباوة هذا العراقي وجهله، وعدم إدراكه ومعرفته وشدة كلب عداوته لأهل الإسلام، فإن التحليق من صفة الخوارج كما مر في الأحاديث، وهم خرجوا على علي رضي الله عنه، وهم من أكبر الفرق الضالة في القرن الأول، وظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى دين الله في القرن الحادي عشر، أفلا يستحي هذا العراقي ممن وقف على كلامه، من سوء قصده ومرامه، حيث قال: ولم يقع مثل ذلك من إحدى الفرق الضالة. وهو قد وقع للخوارج، ومن شدة غباوته أنه يكتب هذا في صفة الخوارج ثم يقول: ولم يقع مثل هذا. اللهم إلا أن يكون توهم أن الذين خرجوا على علي، وقاتلهم في النهروان ليسوا بخوارج، وإنما الخوارج عنده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 من أخلصوا العبادة لله بجميع أنواعها، ودعوا الناس إلى ذلك، ونهوا عن الاعتقاد في الأنبياء والأولياء والصالحين والأحجار والأشجار، وترك التعلق عليهم، والالتجاء إليهم في الرغبات والطلبات، وأنه لا يستغاث بهم في كشف الكربات والملمات، إلى غير ذلك من الفواحش والمنكرات. وأما قوله: (وكان ابن عبد الوهاب يأمر بحلق رؤس النساء إلى آخره) . فأقول: هذا من الكذب الواضح الذي لا يمتري فيه عاقل، بل هو تزوير الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، وقد خاب من افترى، وشاهد الحال يكفي في رد هذه الخرافات. وأما قوله: (ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج في آخر الزمان في بلد مسيلمة رجل يغير دين الإسلام") . فأقول: هذه رواية بلا سند، فلا اعتداد بها، بل هذا من موضوعات هؤلاء الغلاة، ولو كان لها أصل لعزاها إلى كتاب من الكتب المعتمدة، وقد قال إمام ضلالة هؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الغلاة دحلان في شبهاته ومفترياته ما نصه: وفي بعض التواريخ بعد ذكر قتال بني حنيفة قال: ويخرج في آخر الزمان في بلد مسيلمة رجل يغير دين الإسلام، فنسبها إلى بعض التواريخ غير مسندة إلى تاريخ معلوم، ولا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند يعتمد عليه، وهذا الجاهل أسند هذه المقالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير سند لعظم غباوته وجراءته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فصل في بيان أن دعوة الشيخ ليس فيها من مقالات الخوارج شيء ... فصل فإذا وضح لك ما تقدم ذكره، فاعلم أنه لا يكون من الخوارج وعلى مذهبهم إلا من يستن بسنة هؤلاء الذين خرجوا على علي رضي الله عنه، وسلك مسلكهم من قتل أهل الإسلام، وترك أهل الأوثان، وتكفير من لا يعتقد معتقدهم، وإباحة دمه وماله وأهله، وأن عثمان وعلياً وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بالتحكيم: كفار، وأن من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبداً، وأن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر ولو اعتقد معتقدهم، وإبطال رجم المحصن، وقطع يد السارق من الإبط، وإيجاب الصلاة على الحائض في حال حيضها، وكفر من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادراً، وإن لم يكن قادراً فقد ارتكب كبيرة، وحكم مرتكب الكبير عندهم حكم الكافر، وسائر معتقداتهم الفاسدة، وأعمالهم الزائغة. فإذا تبين لك هذا فالشيخ رحمه الله وأتباعه لا يعتقدون شيئاً من عقائدهم، ولا يعملون بشيء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أعمالهم، بل مذهبهم في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتهم طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم، بل والأعلم والأحكم، وهم في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ومن روى عنهم من تلك الخرافات والأوضاع، أو نسبه إليهم فقد كذب عليهم وافترى، وهذا ظاهر لمن طالع كتابه المسمى كتاب "التوحيد" وسائر الرسائل المؤلفة للشيخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 فصل في ذكر بعض مفتريات الملحد ... فصل قال العراقي: (ومن قبائح ابن عبد الوهاب إحراقه كثيراً من كتب العلم، وقتله كثيراً من العلماء وخواص الناس وعوامهم، واستباحة دمائهم وأموالهم، ونبشه لقبور الأولياء، وقد أمر في الأحساء أن تجعل بعض قبورهم محلاً لقضاء الحاجة، ومنع الناس من قراءة دلائل الخيرات، ومن الراوتب1 والأذكار، ومن قراءة المولد الشريف ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في المنابر بعد الأذان، وقتل من فعل ذلك، ومنع الدعاء بعد الصلاة، وكان يصرح بكفر المتوسل بالأنبياء والملائكة والأولياء، ويزعم أن من قال لأحد: مولانا وسيدنا فهو كافر) . فالجواب أن نقول: قد تقدم الجواب عن هذه المفتريات، وبينا أنها كذب وزور، وتعنت وفجور، إلا أنا لم نجب عن دعواه نبش قبور الأولياء، وجعلها محلاً   1 في ط المنار والرياض: "الراتب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 لقضاء الحاجة، ومنع الناس من الراوتب والأذكار، وأن الشيخ يقول لمن قال لأحد: مولانا وسيدنا فهو كافر. فأما دعواه أن الشبخ نبش قبور الأولياء، فهذا كذب، والذي جرى من الشيخ رحمه الله وأتباعه هدم البناء الذي على القبور، والمسجد المجعول في المقبرة على القبر الذي يزعمون أنه قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك كذب ظاهر، فإن قبر زيد رضي الله عنه ومن معه من الشهداء لا يعرف أين موضعه، بل المعروف أن الشهداء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلوا في أيام مسيلمة في هذا الوادي، ولا يعرف أين موضع قبورهم من قبور غيرهم، ولا يعرف قبر زيد من قبر غيره، وإنما كذب ذلك بعض الشياطين، وقال للناس: هذا قبر زيد فافتتنوا به، وصاروا يأتون إليه من جميع البلاد بالزيارة، ويجتمع عنده جمع كثير، ويسألونه قضاء الحاجاب، وتفريج الكربات، فلأجل ذلك هدم الشيخ ذلك البناء الذي على قبره، وذلك المسجد الذي على المقبرة، اتباعاً لما أمر الله به ورسوله من تسوية القبور في النهي والتغليظ في بناء المساجد عليها، كما يعرف ذلك من له أدنى مسكة من المعرفة والعلم. وأما كونه نبش القبر. فكل هذا كذب وزور، وتشنيع على الشيخ عند الناس بالباطل والفجور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وكذلك قوله: وقد أمر في الأحساء أن تجعل بعض قبورهم محلاً لقضاء الحاجة. كذب وافتراء. وأما قراءة مولد النبي صلى الله عليه وسلم بوقت محدود، وطريقة معلومة، وكتب مخصوصة لها فلا شك في كونها بدعة محدثة، فأي محذور في المنع منها؟ وأما الدعاء بعد الصلاة فإن كان بالألفاظ الواردة في الأحاديث الصحيحة من الأذكار من غير رفع اليدين كما ورد في الصحيحين وغيرهما من الكتب، فالشيخ لا يمنع عنه، ولا أحد من أتباعه، بل ولا أحد من أهل الحديث، وإن كان الدعاء بغير الألفاظ المأثورة، وكما يفعله الناس اليوم، فقال شيخ الإسلام لما سئل عن ذلك: الجواب: الحمد لله، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو هو ولا المأمومون عقيب الصلوات الخمس كما يفعله الناس عقيب الفجر والعصر، ولا نقل ذلك عن أحد، ولا استحب ذلك أحد من الأئمة. ومن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك فقد غلط عليه، ولفظه الموجود في كتبه ينافي ذلك، لكن طائفة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما استحبوا الدعاء بعد الفجر والعصر، قالوا: لأن هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما، فتعوض بالدعاء بعد الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 واستحب طائفة من أصحاب الشافعي وغيره الدعاء عقيب الصلوات الخمس، وكلهم متفقون على أن من ترك الدعاء لم ينكر عليه، ومن أنكر عليه فهو مخطئ باتفاق العلماء، فإن هذا ليس مأموراً به لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب في هذا الموطن، بل الفاعل أحق بالإنكار. فإن المداومة على ما لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يداوم عليه في الصلوات الخمس ليس مشروعاً، بل مكروه كما لو داوم على الدعاء عقيب الدخول في الصلاة، أو داوم على القنوت في الركعة الأولى في الصلوات الخمس، أو داوم على الجهر بالاستفتاح في كل صلاة، ونحو ذلك فإنه مكروه. وإذا كان القنوت في الصلوات الخمس قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً، وكان عمر يجهر بالاستفتاح أحياناً، وجهر رجل خلف النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك فأقره عليه، فليس كل ما شرع فعله أحياناً تشرع المداومة عليه، ولو دعا الإمام والمأموم أحياناً عقيب الصلاة لأمر عارض لم يعد هذا مخالفة للسنة كالذي يداوم على ذلك. والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو دبر الصلوات قبل السلام، ويأمر بذلك، كما قد بسطنا الكلام على ذلك، وذكرنا ما في ذلك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الأحاديث، وما يظن أن فيه حجة للمنازع في غير هذا الموضع، وذلك لأن الداعي يناجي ربه، فإذا انصرف مسلماً انصرف عن مناجاته، ومعلوم أن سؤال السائل لربه حال مناجاته هو الذي يناسب دون سؤاله بعد انصرافه، كما أن من يخاطب ملكاً أو غيره، فإن سؤاله له وهو مقبل على مخاطبته أولى من سؤاله بعد انصرافه عنه. انتهى1. وأما مسألة قول القائل: مولانا وسيدنا. فالشيخ لا يمنع من قال ذلك على الوجه الذي يعرفه الناس من لفظ السيد الشريف، والفاضل الكريم، والحليم ومتحمل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدم، وكذلك لفظ: المولى بالمنعم والمعتق والناصر والمحب والتابع والخال وابن العم والحليف، إلى غير ذلك، وإنما نهى ومنع عن إطلاق لفظ السيد والمولى فيمن يعتقدون فيه نوعاً من الربوبية أو الألوهية كمن يقول: يا سيدي أو يا مولاي فلان أغثني أو أدركني أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذا، فمن قال هذا بهذا المعنى فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد، ولا يدعى معه إله آخر.   1 هو في مجموع فتاويه رحمه الله تعالى 22/512-514، وقوله: (في غير هذا الموضع) ، وقع البسط 22/492-504. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الرسالة السنية: فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام لأسباب منها الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح عليه السلام، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغني أو ارزقني أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل –إلى آخر كلامه رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فصل في الدولة السعودية القائمة الآن ... فصل قال العراقي الزهاوي البغدادي: (الوهابية وحديث بغيها: إن زعيم الوهابية اليوم هو: عبد الرحمن بن فيصل من أولاد محمد بن سعود الباغي، الذي حاد عن طاعة الخلافة العظمى الإسلامية سنة 1205، واستمرت له وقائع مع الشريف غالب إلى 1220، حتى عجز الشريف عن حربه جهزت الدولى العثمانية1 عليه عساكرها، وناطت الأمر بوزيرها المرحوم محمد علي باشا، صاحب مصر، وولده المرحوم إبراهيم باشا، فأبادهم سنة 1233 كما ألمعنا إليه في مقالتنا السابقة، مما هو مسطور في كتب التاريخ، وعبد الرحمن هذا كان قبل ثلاثين سنة تقريباً أميراً على الرياض، فلما استولى عليها المرحوم2 أمير الجبل3 محمد بن رشيد   1 في ط المنار والرياض: "الدولة العلية". 2 سقطت: "المرحوم" من الأصل. 3 في ط المنار والرياض: "نجد"، وفي الأصل: "الأمير الجبل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 هرب عبد الرحمن بن سعود إلى بعض السواحل البحرية وأخيراً التجأ إلى الكويت، وبقي هناك يعيش في فقر مدقع لا يرحمه أحد، إلى أن عطفت عليه الدولة العثمانية1، وأجرت له جراية أزالت ما كان فيه من الفقر، وصار يعيش في أرغد عيش على نفقتها في تلك الديار) . والجواب أن يقال: نعم قد كان زعيم الوهابية اليوم الإمام المعظم، والرئيس المفخم، عبد الرحمن بن فيصل، وابنه عبد العزيز بن عبد الرحمن هو قائد الجيوش الإسلامية، وكان عبد الرحمن من أولاد محمد بن سعود الذي رفع الله به أعلام الشريعة المحمدية، والملة الإبراهيمية، بعد أفول شموسها، وانطماس معالمها ودروسها، فبغت عليه الدولة المصرية لما استوثقت له البلاد العربية، وأظهر دين الله الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه. وكان قد جرى من أولاد سعود رحمه الله بعض التقصير في الأوامر الدينية، فتسلط عليهم بسبب ما اقترفوه من الذنوب هؤلاء الباغون المعتدون كما تقدم بيانه مما لا فائدة في إعادته، ثم رد الله الكرة للمسلمين وجمعهم الله بالإمام فيصل بن تركي بعد ما بغت عليه العساكر المصرية، ونقلوه إلى مصر بعد محاربات عديدة، وأمور   1 في ط المنار والرياض: "الدولة العلية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 هائلة شديدة، ثم توفي رحمه الله سنة 1282هـ. وأما قوله: (وعبد الرحمن هذا كان قبل ثلاثين سنة تقريباً أميراً على الرياض) . فأقول: ليس الأمر كذلك، وما آفة الأخبار إلا رواتها، بل كان الأمير على أهل نجد بعد وفاة الإمام فيصل ابنه الأكبر عبد الله بن فيصل، واستمرت له الولاية مدة سنين، ثم كان بينه وبين أخيه سعود محاربات ومنافسات على المملكة يطول عدها. وكان محمد بن رشيد من أمراء آل سعود على جهة الجبل، وما يليه من القرى والبوادي، فلما ضعفت الممالك النجدية، وتضعضع أمرها باختلاف آل سعود بينهم، وغلب أولاد سعود على عمهم عبد الله بن فيصل، استنجد عبد الله بمحمد بن رشيد على أولا أخيه سعود، فسار إلى الرياض وحصرها أياماً قلائل، ثم وقعت المصالحة بينه وبين أهل الرياض، وبينه وبين أولاد سعود على "الخرج" من أعمال الرياض، وارتحل ابن رشيد راجعاً إلى الجبل بعبد الله بن فيصل، ثم بعد ذلك غدر بأولاد سعود وقتلهم وصار الأمر في يده بالبغي والعدوان على أهل تلك الأماكن والبلدان. وكان الإمام عبد الرحمن بن فيصل حال ولاية ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 رشيد على الرياض ساكناً فيها، والأمير عليها من جهة محمد بن رشيد أخوه محمد بن فيصل، والمتصرف فيها بأوامر محمد بن رشيد أحد أمرائه المسمى "سالم بن سبهان" وكان رجلاً فاجراً لا يخاف الله ولا يتقيه، فأراد الخديعة والمكر بعبد الرحمن بن فيصل، والغدر به كما غدر بأولاد سعود، فلما تحقق الإمام عبد الرحمن خبره هجم عليه، وأخذه قسراً وقهراً، وحبسه ثم بعد ذلك قدم ابن رشيد وحاصر الرياض نحواً من شهر، ثم رجع خائباً حسيراً لم يدرك مقصوده، فلما لم يحصل على طائل بالمحاربة أخذ يخادع أهل الرياض ويعدهم ويمنيهم1، حتى انخدع له بعض الأشرار لما يحصل لهم بعد ذلك منه بسبب غدرهم من الانتقام والدمار، فلما تحقق الإمام عبد الرحمن ذلك الخبر، وتقرر عنده واشتهر، خرج بأولاده وأهله إلى "قطر" ثم ارتحل إلى الكويت فسكن بها واستقر، هذا ملخص الأمر لا كما يزعمه هذا العراقي، ثم توفي محمد بن رشيد سنة 1315 ألف وثلاثمائة وخمس عشرة وتولى بعده ابن أخيه عبد العزيز بن متعب، وجرى بينه وبين مبارك بن صباح ما جرى من المحاربة، وكانت الدائرة لابن رشيد على ابن صباح غير أنه لم يقتل من   1 في الأصل: "يمنهم ويعدهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 قومه هذا العدد المذكور، بل كان القتلى قريباً من ثلاثمائة رجل أو أقل. وأما قوله: (وبقي هناك يعيش في فقر مدقع لا يرحمه أحد، إلى أن عطفت عليه الدولة، وأجرت له جراية أزالت ما كان فيه من الفقر) إلى آخر كلامه. فأقول: لما كان لهذا العراقي الحظ الوافر من الكذب على الأموات ولم يكتف بذلك أخذ يكذب على الأحياء بما هو معلوم كذبه بالاضطرار، فإن الإمام عبد الرحمن كان في بلد الكويت في أرغد عيش وأنعم بال، وكان جميع من يصل إلى تلك البلاد من أهل نجد في مضيفه، حتى يرحلوا بالجوائز والصلات الجزيلة من الإمام، وإنما أخذ معاش الدولة ليسكن1 بذلك، لكونه إذ ذاك في طرفهم، والولاية لهم فيه ظاهراً، ولأن الكويت قريباً من بلاد نجد والأخبار تصل إليه بسرعة، وأيضاً كان فيه آمناً من تسلط الأعداء، فليس لأحد عليه فيه اتصال بما يكره، لا من جهة الدولة، ولا من جهة ابن رشيد، فلذلك استحب سكنى الكويت على غيره من الأماكن.   1 في الأصل: "ليستكن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وقد كان قائد الجيوش الإسلامية الهمام، المقدم القمقام، المفخم والهزبر الغشمشم عبد العزيز بن عبد الرحمن إذ ذلك حديث السن، لكنه مع ذلك يروم من الأمور معاليها، وينبو بهمته إلى هاماتها وأعاليها، وطلب من أبيه عبد الرحمن بن فيصل أن يأذن له في الإغارة على البوادي من أهل نجد ممن كان في ولاية ابن رشيد، ليتقوى بما يأخذه منهم على محاربة ذلك العدو المريد، والفاجر العنيد، عبد العزيز بن متعب بن رشيد، فأذن له في الخروج والغزو، وأعانه ابن صباح بسلاح، فأخذ يغير على البوادي النجدية حتى أثخنهم قسراً، وأخذهم قهراً، ولم يكن ابن رشيد إذ ذاك كما يزعمه العراقي مشغولاً ببعض الغزوات، لكنه قد بهت مما فعل هذا الرئيس الهمام، والفارس المقدام، فأعمل الفكرة والحيلة في حفظ القرى والأمصار، بأن جعل فيها بأمر الدولة العثمانية، من يمنع عشائر ابن سعود من الميرة منها والقدوم إليها فإنه كان إذا قفل من غزوته نزل قريباً من الأحساء ليمتار منها ويتزود، فمنعته الدولة من القدوم إليها للميرة، وامتنع بعض قواد الأعراب من مساعدته لأجل ذلك، فلما تحقق عبد العزيز ما أعمله من الحيلة، وتعذر الوصول إلى بعض تلك الأقطار للامتيار، اقتضى رأيه أن يسير إلى الرياض، فهجم عليها ليلاً بشرذمة قليلة نحواً من ثلاثين رجلاً، فقتل أمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ابن رشيد وذويه بعد أن ألقى بنفسه ومن معه على ثغر الرياض من باب صغير في عرض باب القصر، ووقاه الله شر رماة من فيه من الرجال، فلما فرغ من أمر ذلك القصر أحكم سور البلد في مدة يسيرة، وحفظه بالرجال، وأخذ يغير على البوادي من كل معاند له ومعادي، وكف الله أكف الظالمين، ولم ينتهزوا الفرصة بالمبادرة إلى الرياض قبل استحكام الأمر، ثم جمع ابن رشيد جموعه من الحاضرة1 والبادية، وأقبل بتلك الجنود العاتية، حتى نزل بقرية من قرى "الوشم" فمكث بها قريباً من أربعين يوماً، يخادع أهل الرياض ويعدهم ويمنيهم بالأوعاد، وهيهات دون ذلك خرط القتاد، ثم ارتحل ونزل بماء يقال "الحسي" فمكث به قريباً من شهر، وفي تلك الأيام والإمام عبد العزيز في الرياض، ثم اقتضى رأيه الميمون أن يسير إلى الحوطة من ديار بني تميم لكي يستنجح أمر ابن رشيد وإلى ما يصير إليه أمره بعد ارتحاله عن أرض الرياض، فارتحل ابن رشيد من الحسي وعمد إلى الخرج لأجل حصارها، فامتنعوا منه، ثم مشى عبد العزيز حفظه الله بأهل الحوطة وما يليها من القرى ومن معه من أهل الرياض حتى وصل إلى بلد الخرج، فدخلها ليلاً، ثم لما كان من الغد برز له، وجرت بينه وبين ابن رشيد مقاتلة في   1 في المنار: "المحاظرة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 مدة ثلاثة أيام، فهزم الله ابن رشيد وجنوده، وقتل منهم عبد العزيز خلقاً كثيراً، ورجع ابن رشيد خاسئاً حسيراًُ. وأما قول العراقي: (إنه حاصر الرياض سنة) . فمن الكذب الواضح، فإنه لم يقدم إليها، فضلاً عن أن يحاصرها، لكنه بعد ذلك بمدة نحواً من خمسة أشهر قصد الرياض، وكان عبد العزيز بن عبد الرحمن قد سار بجنوده إلى الكويت لإظهار أهله منها، وجد ابن رشيد في السير حتى وصل إلى الرياض ليلاً ولم يشعر به أحد حتى كان وقت السحر وهو قد أحدق بالبلاد وحفظ أطرافها بالخيل والجنود، وأمر على بعض قومه أن يقتحموا في البلد، فيسر الله أن رجلاً من أهل البادية أقبل قاصداً إلى الرياض فرآه وهو قد قرب منها، فدخلها ليلاً، وصاح بأهل البلد، فنهض أهل البلد، وقصدوا السور وأشعلوا النيران في البروج، وهم قد أحدقوا بها، لكن قذف الله في قلوبهم الرعب، فأحجموا عن الاقتحام والزحام، فلما علم أن أهل البلد قد شعروا به، أرسل إلى قومه أن يكفوا وأن يرجعوا إلى معسكرهم، وأمر البادية ومن معهم من الحاضرة المحدقين بالبلاد أن يأخذوا ما وجدوا في النخيل من الأدباش، وقتلوا في النخيل عشرة أنفار، فلما كان من الغد بعد ارتفاع الشمس أقبل بجنوده ونزل على الرياض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فظهر عليه بعض الأبطال من الرجال، وصار بينهم قتال، ثم لما كان من اليوم الثاني قذف الله في قلبه الرعب فارتحل1 من الرياض لم يحصل على طائل، وقد قتل من قومه نحو2 من خمسين رجلاً، ثم سار إلى "شقراء" فحاصرها مدة نحواً من نصف شهر، فلما علم أن عبد العزيز بن عبد الرحمن قد وصل إلى الرياض راجعاً من الكويت ارتحل من "الوشم" ونزل القصيم، ولما رأي ابن رشيد أن أمور ابن سعود قد استصعبت عليه، وعشائر نجد التجأت إليه، لم يجد مندوحة عن الالتجاء إلى الدولة العثمانية، والاستنصار بها، فلما عزم على ذلك الأمر جعل في القصيم جنوداً من قومه، وأمر عليهم "ماجد بن حمود" وحفظ الحصن الذي في "بريدة" بالرجال والأزواد، وحفها بالأجناد، وبعث سرية من قومه، وأمر عليهم "حسين بن جراد" إلى بادية حرب، وأمره أن يسير بهم إلى قرى الوشم، وينزل بها هناك، حتى يقدم إليهم بالعساكر العثمانية، وأرسل رسله إلى باشات بغداد بعد أن قرب من تلك البلاد، فاستجاشها وأثارها بالبخاشيش، فأمدوه بالأجناد، فعند ذلك انتهز الفرصة الإمام عبد الرحمن فأمر ابنه عبد العزيز فأغار بالجيوش الإسلامية والجنود الحنيفية   1 في ط المنار: "فارتجل". 2 في ط المنار: "نحوا"، وما أثبته هو الصواب لغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 على "حسين بن جراد" ومن معه من تلك الأجناد من حرب، ومن اجتمع عليها من الأمداد، فأخذهم الله، وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم رجع بتلك المغانم الجسيمة، هذا وماجد بن حمود الرشيدي مع جنوده قريباً من عنيزة، فلجأ إليها، ونزل قريباً منها لأجل حماية أهلها، فسار إليهم عبد العزيز فدخل عنيزة عنوة ليلاً وقتل أمير ابن رشيد الذي كان فيها، ثم سار بجنوده آخر الليل فهجم على ماجد بن حمود ومن معه من الجنود، فأخذهم الله تعالى، وهرب ماجد بمن نجا معه إلى الجبل، وسار عبد العزيز إلى بريدة فدخلها عنوة، وحاصر الحصن الذي فيها نحواً من شهر ثم فتحه الله صلحاً. هذا ملخص ما جرى في تلك الوقعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فصل في كيد الدولة العثمانية ... فصل قال العراقي: (ولما رأت الدولة العثمانية1 اعتداء عبد الرحمن هذا وبغيه، وتطاوله على صادقها ومخلصها الأمير ابن رشيد، ونزع عبد الرحمن إلى الأجانب، أرسلت كتيبة من عساكرها المنصورة صحبة الأمير ابن رشيد لقطع دابر أولئك المارقين، وقمع بغيهم واعتدائهم، وإطفاء شرر فتنتهم المستطير، فصادمت العساكر المنصورة الجماعة الباغية حزب ابن سعود قرب بلدة البكيرية من بلاد القصيم. فوقعت بين الجمعين ملحمة كبرى، انجلت عن هزيمة الفئة الباغية جماعة ابن سعود، وامتلاك العساكر أحد عشر راية من راياتهم. وقد كان –والحق يقال- لحضرة الأمير ابن رشيد وجيشه في هذه الملحمة خدمة في قمع الأعداء تشكر، وبسالة يخلد ذكرها ولا تنكر، وأما المنهزمون فهم اليوم متحصنون ببعض تلك البلاد، والعساكر المنصورة مع جيش الأمير ابن رشيد محدقون   1 في ط المنار، الرياض: "العلية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 بهم ومجدون في تنكيلهم وكبح جماحهم. وفقهم الله تعالى لذلك) . والجواب أن يقال: ليس الأمر كما زعم هذا العراقي، بل حقيقة الحالة أنه لما رأت الدولة العثمانية أنه قد وقع بين العرب حروب عديدة، وملاحم شديدة، طمعت في بلاد العرب بواسطة الانتصار لابن رشيد، كما أخذت الأحساء والقطيف بغياً وعدواناً بواسطة الانتصار لعبد الله بن فيصل على أخيه سعود. وقد كان من المعلوم أنها لا تمشي مع أحد لحظ نفسه، وإنما تمشي لحظ نفسها، ولكن لا يشعر تائه بمصابه، لأنه ما دخل الأمر من بابه: فجاءوا بأسباب من الكيد مزعج ... مدافعهم يزجي الوحوش رنينها وظنوا أنهم لمن عاداهم من الناس سيقهرون، وأنهم لمن حاربهم سيغلبون، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] ، فأقبل بتلك العساكر والعربان، يقودهم البغي والعدوان، والأشر والبطر والطغيان {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] حتى نزل بأدنى قرى القصيم، وأنزل الله عليهم بها من رجزه عقاصاً عظيماً، ووباء وخيماً، فقتل بعض أولئك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الطغام، وبقي منهم خلق كثير، وجمع غفير، ولم يعتبروا بما حل بهم ودها، وما نزل بهم من النوى. فنهض إليهم الإمام عبد العزيز بمن معه من المسلمين، وهم لا يبلغون معشار أولئك المعتدين، ونزل "البصر"، فارتحل ابن رشيد ونزل بالشيحيات، وسار عبد العزيز بالمسلمين فنزل البكيرية، فلما كان من الغد وانتصف النهار، ولم يلق كيداً من أولئك الأشرار، وظن المسلمون أنه لا يكون في ذلك الوقت مقاتلة من الأغيار، فتفرقوا في النخيل والأشجار، فانتهز ابن رشيد هذه الفرصة، وعبأ عساكره وجنوده، ونشر راياته وبنوده، وجاؤوا كما قال الله تعالى: {بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47] ، فوقعت بين الطائفتين وقعة عظيمة، وملحمة كبيرة جسمية، وكان المسلمون قد نهضوا إليهم على غير تعبئة، وكانت العساكر والجنود الطاغية قد نهضوا بأجمعهم في نحر أهل الرياض ومن معهم من أهل النواحي غير أهل القصيم، فانكشف المسلمون بعد أن جاءتهم الخيل من خلفهم {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141] ، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] الآية. ولم يقتل من المسلمين على التحقيق إلا نحواً1 من ثمانين رجلاً، وقد قتل من   1 كذا والصواب لغة (نحوٌ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 العسكر وجند ابن رشيد خلق كثير، ولما كان في آخر النهار قبل غروب الشمس ظهرت جموع أهل القصيم، وهم لا يعلمون بانكشاف أهل العارض لأنهم في خب منخفض، فحملوا على العساكر العثمانية والجنود الرشيدية، وقد اجتمع بأهل القصيم من أهل الرياض عصابة في ذلك اليوم فهزموهم شر هزيمة، وقتلوا في ذلك اليوم منهم مقتلة عظيمة، وأخذوا كثيراً من مطارحهم وخيامهم ومدافعهم، وقد قتل من العسكر ومن أهل الجبل نحواً1 من خمسمائة مقاتل. فلما علم أهل القصيم بانكشاف المسلمين تركوا ما أخذوه مما لا يطيقون حمله، ورجعوا إلى أوطانهم وأماكنهم، ولم يتراجع الفريقان إلا بعد أيام، فرجع ابن رشيد وعسكره إلى معسكرهم في "الشيحيات" واستولى على البكيرية. واجتمع المسلمون في عنيزة، ثم نهض إليهم عبد العزيز بالمسلمين، وقدم جمعاً إلى البكيرية، فهجموا عليهم ليلاً وهرب من فيها من جند ابن رشيد، وملكوا سورها وقصورها، فلما كان آخر الليل التقى الجمعان قريباً من البكيرية، فهزمهم المسلمون هزيمة   1 كذا والأظهر لغة (نحوٌ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 عظيمة، ونزل المسلمون البكيرية، فرجف الله بابن رشيد وعساكره فارتحلوا منهزمين، وركبتهم خيول المسلمين يأخذون ويقتلون، حتى نزل بالشنانة من أعالي قرى القصيم، ونزل عبد العزيز الرس، ولم يكن بينهم مزاحفة، إنما هو بالخيل مناوشة ومراوحة، ثم لما طال المقام، وخاف ابن رشيد تفرق قومه لطول المقام، ولأن المسلمين لا يدعونهم ينتشرون لرعي إبلهم وجيوشهم، وأكلوا ما في الشنانة حتى النخيل، فارتحل من الشنانة ونزل بماء يقال له "المقوعي" فنهض المسلمون إلى قصر هناك قريباً منهم يقال له قصر ابن عقيل، فالتقى الجمعان، وتصادم الفريقان، وكانت الدائرة للمسلمين على ابن رشيد وذويه، وهزموهم شر هزيمة، وأخذوا من الأموال والمتاع والإبل والغنم ما لا يحصى، ولا يعد ولا يستقصى، وأخذوا نحوا من عشرة أيام يغدون ويروحون إلى المعركة يأخذون من الأموال والمتاع ما لا يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، فلله الحمد وله الشكر وله الثناء الحسن الجميل، لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه أحد من خلقه. وأما زعمه أن عبد الرحمن بن فيصل تطاول على مخلص الدولة وصادقها ابن رشيد فنعم، هو مخلصها وصادقها، ونحن إن شاء الله مخلصون لله في عبادته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الصادقون في جهاد أعدائه، فإنه هو وعمه الذين بغوا علينا، فأبادهم الله تعالى بأيدينا، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه. وأما دعوى هذا العراقي نزوع الإمام عبد الرحمن إلى الأجانب، ويعني بالأجانب طائفة النصارى الإنكليز فمعاذ الله من ذلك، ويأبى الله والمؤمنون إلا منابذتهم، ومعاداتهم ومحاربتهم، وكيف يكون ذلك وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} [المائدة: 57-58] الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] الآية. وقال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة:80] الآية. وإنما ينزع إليهم ويتخذهم أولياء من حكم قوانينهم، والتزمها على نفسه، ونفذها في رعيته، وجعل وزراءه ووكلاءه منهم، وجعل لهم قناصل في أماكنه ودياره، فنعوذ بالله من رين الذنوب وانتكاس القلوب. وإذا تحقق المنصف ما ذكرناه، واتضح له ما بيناه، مما كان وجرى، وما حصل من الأمور بعد تلك الوقعات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 والدواهي المعضلات، بقدوم المشير "أحمد فيضي باشا" بجنوده وعساكره وعسكر المدينة إلى القصيم، مما لو ذكره العراقي لأوضحناه على جليته: عرف أن البسالة كل البسالة التي يجب أن تشكر وتذكر، وأن ينشر ذكرها في الخافقين ولا ينكر، مقامات الرئيس المفخم، والمقدام المعظم، والهزبر الغشمشم عبد العزيز بن الإمام المكرم عبد الرحمن بن فيصل، لا من نعتوه بها ممن ليس لها بأهل. لقد من مولانا وأفضل وارتضى ... لنا ملكاً منا سمي المناقبِ فشام المعالي وارتضاها وأمها ... بهمته العليا وجرد شوازبِ وبيض قواض يختلي الهام حدها ... وقود الهجان اليعملات النجائب فتى همه العليا وشأو مرامها ... فأم إلى هاماتها والغوارب فتى ليس يثني همه ومرامه ... طوال العوالي أو طوال السباسبِ يخوض عباب الموت –والموت ناقع ... إذا استعرت نار الوغى في الكتائب ويركب هول الخطب –والخطب معضل ... وقد هابه شوس الملوك المصاعب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 يرد لهام الجيش وهو عرمرم ... ويحطمه بالمرهفات السوالب لقد فات أبناء الزمان وفاقهم ... بنيل المعالي الساميات المراتب وجود وإقدام إذا احتنك الفضا ... وضاق بحال الصافنات السلاهب وأحجم أهلوها بيوم عصبصب ... به النقع يسمو كارتكام السحائب هنالك لا تلقاه إلا كضيغم ... هزبر أبي شبلين حجن المخالب ترى جثث الأبطال صرعى بغابه ... تراوحها الأشبال من كل ساغب كذا الملك الشهم الهمام فإنما ... كماة العدى جزراً له بالقواضب ترى عافيات الطير يعصبن فوقه ... لتحظى بأشلاء العدو المشاغب وتتبعه غرثى السباع لعلها ... تروح بطاناً من لحوم المحارب وقد وثقت أن لا تعود خوامصاً ... وأن لها جزراً كماة الكتائب فنلنا المنى من بعد أن كادت العدى ... تحيط بنا من كل قطر وجانب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 بعبد العزيز بن الإمام ابن فيصل ... حليف العلى نسل الكرام الأطايب فلله من ندب همام مهذب ... أغاظ العدى من عجمها والأعارب ومن ألمعي أحوذي ومصقع ... بليغ بما قد شاءه في المقانب يقود أسوداً في الحروب ضياغماً ... تغير على الأعدا كأسد سواغب حنيفية في دينها حنفية ... وليس لهم إلا العلم من مآرب سما بهمو نحو المعالي سميدع ... أبيّ وفيّ فاضل ذو مناقب إذا هو أعطى ذمة لم يخس بها ... وما كان ذا غدر وليس بكاذب فإن رمت أخباراً له ووقائعاً ... فسل شمراً عنها بصدق المضارب وحرباً وسل عنها مطيراً وغيرهم ... من العجم والأعراب من كل ناكب فمزقهم أيدي سبا فتفرقوا ... فما بين مقتول وما بين هارب وما بين منكوب وقد خال أنه ... بقوته قد حاز كل المآرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فما نال إلا الخزي والعار والردى ... وآب حسيراً خاسئاً غير راغب بلطف من المولى له وإعانة ... على كثرة الأعدا له والمحارب وعز وإسعاف على كل من بغى ... عليه وتسديد لدى كل نائب ونصر له بالرعب في كل مأزق ... من الملك العلام مولى المواهب إذا أم أمراً واعتلى متسامياً ... تمزقت الأعداء من كل جانب وما ذاك إلا أنه لا ترده ... طوال العوالي أو طوال السباسب ولا غرو من هذا ولا بدع إنما ... حواها من الشوس الكرام الأطايب ومن والد سامي الذري ذي مآثر ... حسان وأخلاق يفاع المراتب له فتكات بالأعادي شهيرة ... يقصر عن تعدادها كل كاتب أدام لنا ربي بهم كل بهجة ... على السنن الحاوي لكل المطالب وسنة خير العالمين محمد ... نبي الهدى السامي لأعلى المناقب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 عليه صلاة الله ثم سلامه ... بعد وميض البرق جنح الغياهب وأصحابه والآل ما حن راعد ... وما انهل وبل من خلال السحائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فصل في فرية الملحد أن الشيخ يريد النبوة ... فصل قال العراقي: (عقيدة الوهابية: لما رأى ابن عبد الوهاب أن قاطني بلاد نجد بعيدون عن عالم الحضارة، لم يزلوا على البساطة والسذاجة في الفطرة، قد ساد عليهم الجهل حتى لم يبق للعلوم العقلية عندهم مكانة ولا رواج، وجد هنالك من قلوبهم ما هو صالح لأن يزرع فيه بذور الفساد، مما كانت نفسه تنزع إليه، وتمنيه به من قديم الزمان، وهو الحصول على رياسة عظيمة ينالها باسم الدين إذ كان –لحاه الله- يعتقد أن النبوات لم تكن إلا رياسة وصل إليها دهاة البشر، حتى ساعدتهم الظروف عليها بين ظهراني قوم جاهلين ليس لهم من العلم نصيب، وحيث إن الله تعالى قد ارتج باب النبوة بعد خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يجد للوصول إلى أمنيته طريقاً بين أولئك الأنعام، إلا أن يدعي أنه مجدد في الدين، مجتهد في أحكامه، فحمله هذا الأمر أن كفر جميع طوائف المسلمين، وجعلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 مشركين، بل أسوأ حالاً وأشد كفراً وضلالاً، فعمد إلى الآيات القرآنية النازلة في المشركين فجعلها عامة شاملة لجميع المسلمين الذين يزرون قبر نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويستشفعون به إلى ربهم، نابذاً وراء ظهره كل ما خالف أمانيه الباطلة، وسولته له نفسه بالسوء من أحاديث سيد المرسلين، وأقوال أئمة الدين والمجتهدين، حتى إنه لما رأى الإجماع مصادماً لما ابتدعه أنكره من أصله، وقال: لا أرى للناس بعد كتاب الله الذي جمع فأوعى كل رطب ويابس. وتغافل عما جاء به كتاب الله من قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] ) . والجواب أن يقال: ما أعظم جراءة هذا العراقي على الكذب وتعمد الفجور وقول الزور، وهذه حال كل متمرد كفور، وقد قدمنا من حال نشأة الشيخ ودعوته إلى الله ما بين إفك هذا العراقي وتمرده وفجوره، وأنه إنما أخذ هذه المجونات والمخرفة والأكاذيب والزندقة من كتب قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، وأشربت قلوبهم عداوة هذا الدين، وأهله، ومن دعا إليه، وكراهته، وكراهة من دان به، فأخذوا يضعون هذه الأوضاع ليصدوا عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ومن أعظم مفتريات هؤلاء الكفرة أعداء الله ورسوله حيث انبعث أشقاها، وتفوه –بما لفقوه- أغواها، حيث زعم أن الشيخ يزرع في قلوب أهل نجد بذور الفساد، مما كانت نفسه تنزع إليه وتمنيه به من قديم الزمان، وهو الحصول على رياسة عظيمة ينالها باسم الدين، إذ كان يعتقد أن النبوات لم تكن إلا رياسة وصل إليها دهاة البشر حين ساعدتهم الظروف عليها بين ظهراني قوم جاهلين. وهذا القول لا يقوله ويحكيه عن الشيخ من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعلم أنه موقوف بين يدي الله تعالى. وقد كان من المعلوم أن هذا الاعتقاد من عقائد الملاحدة الذين يقولون: إن الكتب المنزلة فيض فاض من العقل الفعال على النفس المستورة الفاضلة الزكية، فتصورت تلك المعاني، وتشكلت في النفس بحيث يتوهمها أصواتا تخاطبه، وربما قوي ذلك ببعض الحاضرين1 فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج، وهذا يكون عندهم بتجرد النفوس عن العلائق، واتصالها بالمفارقات من العقول والنفوس المجردة، وهذه الخصائص تحصل عندهم بالاكتساب، ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء.   1 في ط المنار: "والخاضرين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وهؤلاء عندنا وعند الشيخ رحمه الله أكفر من اليهود والنصارى، وأبعد عن الإسلام من غيرهم من طوائف الكفر. ولما توهم هذا الملحد أن الشيخ ينتحل هذا المذهب الملعون قال: وحيث إن الله قد أرتج باب النبوة بعد خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يجد للحصول على أمنيته طريقاً بين أولئك الأنعام، إلا ان يدعي أنه مجدد في الدين مجتهد في أحكامه. فيقال لهذا الملحد: قد كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وبما ورد في الكتاب والسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده، فمن توهم حصولها لأحد بعده فهو كافر، ولكن قد أخبر صلى الله عليه وسلم: "أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدد لها أمر دينها" 1،   1 أخرجه أبو داود في سننه –كتاب الملاحم- 4/480، والحاكم في مستدركه 4/522 من طريق سعيد بن أبي أيوب عن شراحيل بن يزيد المعافري عن أبي علقمة عن أبي هريرة فيما أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ... فذكره ... . قال أبو الطيب في عون المعبود 11/396 قال السيوطي في مرقاة الصعود: اتفق الحفاظ على تصحيحه، منهم الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل. وممن نص على صحته من المتأخرين: الحافظ ابن حجر اهـ. وقال العلقمي في شرح الجامع الصغير: قال شيخنا: اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح، وممن نص على صحته من المتأخرين: أبو الفضل العراقي، وابن حجر، ومن المتقدمين: الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل اهـ. وفي فتح القدير للمناوي 2/282: قال الزين العراقي وغيره: سنده صحيح اهـ. وقال السخاوي في المقاصد: وسنده صحيح، ورجال كلهم ثقات اهـ. وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في التيسير ص 24 وإسناده صحيح اهـ. قوله في السند: "فيما أعلم" قال في عون المعبود: الظاهر أن قائلة أبو علقمة. يقول في علمي أن أبا هريرة حدثني هذا الحديث مرفوعاً لا موقوفاً عليه اهـ. قال المنذري: الراوي لم يجزم برفعه. قال في العون: قلت: نعم، لكن مثل ذلك لا يقال من قبل الرأي، إنما هو من شأن النبوة، فتعين كونه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وفي الحديث: "ما جعل الله من نبوة إلا كانت بعدها فترة". وهذا معلوم معروف عند أهل العلم كما قال الإمام أحمد في خطبته: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، ومن ضال تائه قد هدوه، فما أحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم1"، إلى آخر كلامه. وقد شهد أهل العلم والفضل من أهل عصره أنه أظهر توحيد الله وجدد دينه، ودعا إليه كما تقدم ذكره عن الإمام حسين بن غنام، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني، ومحمد بن أحمد الحفظي2، وغيرهم من علماء أهل الأمصار. وقد كان من المعلوم عند كل عاقل خبر الناس، وعرف أحوالهم، وسمع شيئاً من أخبارهم وتواريخهم: أن أهل نجد وغيرهم ممن تبع دعوة الشيخ واستجاب لدعوته من سكان جزيرة العرب كانوا على غاية من الجهالة والضلالة والفقر والعالة، لا يستريب في ذلك عاقل، ولا يجادل فيه عارف، كانوا من أمر دينهم في جاهلية، يدعون الصالحين ويعتقدون في الأشجار والأحجار، والغيران3، يطوفون بقبور الأولياء، ويرتجون الخير والنصر من جهتها،   1 ذكرها الإمام أحمد في مقدمة رده على الزنادقة والجهمية (ص 4 من الشذرات) ، قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية –رحمه الله تعالى- في كتاب درء تعارض العقل والنقل 1/19: ويروي نحو هذه الخطبة عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما ذكر ذلك محمد بن وضاح في كتاب الحوادث والبدع اهـ. وانظر كتاب ابن وضاح ص 3. 2 ص 36 و81 و83. 3 جمع غار، وسبق حالهم ص 21 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وفيهم من كفر الاتحادية والحلولية، وجهالة الصوفية ما يرون أنه من الشعب الإيمانية، والطريقة المحمدية، وفيهم من إضاعة الصلوات، ومنه الزكاة، وشرب المسكرات ما هو معروف مشهور. فمحا الله بدعوة الشيخ شعار الشرك ومشاهده، وهدم بيوت الكفر والشرك ومعابده، وكبت الطواغيت والملحدين، وألزم من ظهر عليه من البوادي وسكان القرى، بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد والهدى، وكفر من أنكر البعث واستراب فيه من أهل الجهالة والجفا، وأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وترك المنكرات، ونهى عن الابتداع في مسائل الدين، وأمر بمتابعة السلف الماضين في الأصول والفروع من مسائل الدين، حتى ظهر دين الله واستعلن، واستبان بدعوته منهاج الشريعة والسنن، وقام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحدت الحدود الشرعية، وعزرت التعازير الدينية، وانتصب علم الجهاد، وقاتل لإعلاء كلمة الله أهل الشرك والفساد، حتى سارت دعوته وثبت نصحه لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وجمع الله به القلوب بعد شتاتها، وتألفت بعد عداوتها، وصاروا بنعمة الله إخواناً، فأعطاهم الله بذلك من النصر والعز والظهور ما لا يعرف مثله لسكان تلك الفيافي والصخور، وقهروا سائر العرب من عمان إلى عقبة مصر، ومن اليمن إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 العراق والشام، ودانت لهم عربها، فأصبحت نجد تضرب إليها أكباد الإبل في طلب الدنيا والدين، وتفتخر بما نالها من العز والنصر والإقبال. وبالجملة فلا يقول مثل هذا في الشيخ رحمه الله إلا رجل مكابر، لا يتحاشى من البهت والافتراء، وإلى الله ترجع الأمور، وعنده تنكشف السرائر. ولما كان هذا العراقي الملحد من جملة من نشأ على عقائد الملاحدة أعداء الله ورسوله ومن نحا نحوهم من المتكلمين، الذين يزعمون أن العقل مقدم على النقل، وأن لنصوص الكتاب والسنة ظواهر ظنية، وأن معقولاتهم التي هي نحاتة الأفكار، وزبالة الأذهان، وريح1 المقاعد هي البراهين اليقينية، اعتقد أن من لم يكن على هذا المذهب الملعون أنه قد خرج عن عالم الحضارة، ولم يزل على البساطة والسذاجة في الفطرة. وقد كان من المعلوم أن جفاة العرب أسلم فطرة وأصح عقولاً من هؤلاء الملاحدة، ولذلك لما دخلوا في دين الله، وعرفوا هذا الدين كانوا على طريقة السلف في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، وفي باب العمل والعبادة، وتقديم كتاب الله وسنة رسوله على قول كل أحد كائناً من   1 في ط المنار: "وريج". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 كان، وجمع الله لمن طلب العلم منهم من العلوم والمعارف ما لا يعرفه هؤلاء من سائر العلوم والفنون، مع أن كثيراً من علوم هؤلاء الخارجين عن طريقة أهل الإسلام من العلوم التي لا ينتفع بها في معرفة ما جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب، إنما هي أوضاع اليونان والفلاسفة، والمجوس والصابئين، ولذلك كان الغالب على من دخل في هذه العلوم الحيرة والشك، نعوذ بالله من الخروج عن الصراط المستقيم. وأما قوله: (فحمله هذا الأمر أن كفر جميع طوائف المسلمين وجعلهم مشركين، بل أسوأ حالاً وأشد كفراً وضلالاً) . يعني: أن الشيخ ادعى أنه مجدد لدين الله، مجتهد في أحكامه، فحمله على أن كفر جميع طوائف المسلمين. فأقول: أما كونه مجدداً لدين الله فهو من المعلوم بالضرورة، ولا ينكره إلا مكابر في الحسيات، مباهت في الضروريات. وأما كونه كفر جميع طوائف المسلمين فجعلهم مشركين، فهذه العبارة تدل على تهور في الكذب، ووقاحة تامة، وفي الحديث: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" 1. وصريح هذه العبارة أن الشيخ كفر جميع هذه الأمة من المبعث النبوي إلى قيام الساعة، وهل يتصور هذا عاقل قد عرف حال الشيخ، وما جاء به، ودعا إليه. بل كان من المعلوم أن هذا العراقي كان لا يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام، ولو كان يعرف دين الإسلام لما تجازف بهذه المجازفة، ومخرق بهذه المخرقة المارجة. والشيخ رحمه الله لا يعرف له قول انفرد به عن سائر الأمة، بل ولا عن أهل السنة والجماعة منهم، وجميع أقواله في هذا الباب -أعني ما دعا إليه من توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العمل والعبادات- مجمع عليه عند المسلمين، لا يخالف فيه إلا من خرج عن سبيلهم، وعدل عن منهاجهم كالجهمية والمعتزلة، وغلاة عباد القبور. بل قوله مما أجمعت عليه الرسل، واتفقت عليه   1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الأدب- باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت. وفي كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، عن ابن مسعود البدري.. به 10/523 –فتح. وأخرجه أبو داود 5/148، وابن ماجه 2/1400. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الكتب، كما يعلم ذلك بالضرورة من عرف ما جاؤوا به وتصوره. ولا يكفر إلا على هذا الأصل بعد قيام الحجة المعتبرة1، فهو في ذلك على صراط مستقيم، متبع لا مبتدع. وهذا كتاب الله، وسنة رسوله، وكلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم من أهل العلوم والفتوى معروف مشهور مقرر في محله في حكم من عدل بالله، وأشرك به، وتقسيمهم الشرك إلى أكبر وأصغر، والحكم على المشرك الشرك الأكبر بالكفر مشهور عند الأمة، لا يكابر فيه إلا جاهل لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم، وما جاءت به الرسل. وقد أفرد هذه المسألة بالتصنيف غير واحد من أهل العلم، وحكى الإجماع عليها، وأنها من ضروريات الإسلام، كما ذكره تقي الدين ابن تيمية وابن قيم الجوزية، وابن عقيل، وصاحب الفتاوى البزازية، وصنع الله الحلبي، والمقريزي الشافعي، ومحمد بن حسين النعيمي الزبيدي، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني، ومحمد بن علي الشوكاني، وغيرهم من أهل العلم.   1 في ط الرياض: "والمعتبرة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 والشيخ رحمه الله لم يكفر طوائف المسلمين، وإنما كفر طوائف المشركين والخارجين المارقين من دين الإسلام، فإن الأحداث لا تزال موجودة في الأمة تقل وتكثر من عهد الصحابة إلى أن تقوم الساعة. فقد كفر الصحابة رضي الله عنهم من كفروه من أهل الردة على اختلافهم، وكفر علي الغلاة، وكفر من بعدهم من العلماء القدرية ونحوهم كتكفيرهم للجهمية، وقتلهم لجعد بن درهم، وجهم بن صفون، ومن على رأيهم، وقتلهم للزنادقة، وهكذا في كل قرن وعصر من أهل العلم والفقه والحديث طائفة قائمة تكفر من كفره الله ورسوله، وقام الدليل على كفره، لا يتحاشون عن ذلك، بل يرونه من واجبات الدين، وقواعد الإسلام، وفي الحديث "من بدل دينه فاقتلوه" 1. وبعض العلماء يرى أن هذا والجهاد عليه ركن لا يتم الإسلام بدونه، وقد سلك سبيلهم الأئمة الأربعة المقلدون   1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم- باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم عن عكرمة قال: "أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس. فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تعذبوا بعذاب الله" ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه" 12/267 –فتح. وأخرجه أبو داود 4/520-521، والترمذي 4/59، والنسائي 7/104-105، وابن ماجه 2/848. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وأتباعهم في كل عصر ومصر، وكفروا طوائف أهل الإحداث كالقرامطة والباطنية، وكفروا العبيديين ملوك مصر، وقاتلوهم وهم يبنون المساجد، ويصلون ويؤذنون ويدعون نصر أهل البيت. وصنف ابن الجوزي كتاباً سماه "النصر على مصر" ذكر فيه وجوب قتالهم وردتهم، وأن دارهم دار حرب. وقد عقد الفقهاء في كل كتاب من كتب الفقه المصنفة على مذاهبهم باباً مستقلاً في حكم أهل الإحداث التي توجب الردة، وسماه أكثرهم "باب الردة"، وعرفوا المرتد بأنه: الذي يكفر بعد إسلامه، وذكروا أشياء دون ما نحن فيه من المكفرات، حكموا فيه بكفر فاعلها، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فما المانع من1 تكفير من أشرك بالله، وعدل به سواه، واتخذ معه الآلهة والأنداد، وإنما يهمل هذا من لم يؤمن بالله ورسوله، ولم يعظم أمره، ومن لم يسلك صراطه، ولم يقدر الله ورسوله حق قدره، بل ولا قدر علماء الأمة وأئمتها حق قدرهم. وأما قوله: (فعمد إلى الآيات القرآنية النازلة في المشركين فجعلها عامة شاملة لجميع المسلمين الذين   1 سقطت: "من" من ط الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 يزورون قبر نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويستشفعون به إلى ربهم، نابذاً وراء ظهره كل ما خالف أمانيه الباطلة، وسولت له نفسه الأمارة بالسوء من أحاديث سيد المرسلين، وأقوال أئمة الدين والمجتهدين) . فالجواب أن يقال: هذا كذب على الشيخ، فإنه ما عمد إلى الآيات القرآنية النازلة في المشركين فجعلها عامة شاملة لجميع المسلمين، وإنما استدل بالآيات القرآنية النازلة في المشركين وجعلها عامة شاملة لمن أشرك بالله، وعدل به سواه، وبدل دينه، وفعل كما فعل المشركون من صرف خالص حق الله لمن أشركوا به، واتخذوهم شفعاء من دونه. وسيأتي الكلام على هذا في محله إن شاء الله تعالى. وقوله: (نابذاً وراء ظهره ... إلى آخره) . أقول: إنما نبذ وراء ظهره كل ما خالف كتاب الله وسنة رسوله، وخالف أقوال أئمة الدين المجتهدين، وهو –ولله الحمد- متبع لا مبتدع، وإنما أمانيه القيام بأوامر الله وشرعه ودينه، ودعوة الناس إلى ذلك، والجهاد على ذلك، ولم تسول له نفسه ما يخالف الكتاب والسنة، وإنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 قام أشد القيام في اتباع الكتاب والسنة، ورد ما خالفهما، وترك ما ألفه أعداء الله ورسوله الزنادقة من الأحاديث المكذوبة الموضوعة، وإذا لم يجد في كتاب الله وسنة رسوله شيئاًَ اعتمد على أقوال أئمة الدين والعلماء المجتهدين، وذلك معروف في رسائلة ومصنفاته، ولا ينكره إلا مكابر. وأما قوله: (حتى إنه لما رأى الإجماع مصادماً لما ابتدعه أنكره من أصله) . فأقول: ما أنكر الشيخ إلا إجماع أهل الكفر بالله، والإشراك به: على عبادة غير الله، وجعلهم معه آلهة وأنداداً يستغيثون بهم، وبلجئون إليهم في الرغبات والرهبات والطلبات، ويطلبون منهم تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، ويصرفون لهم خالص حق الله من الدعاء، والحب والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والاستغاثة، والذبح والنذر والالتجاء وسائر أنواع العبادة التي صرفها المشركون لغير الله. وخرق هذا الإجماع واجب على كل مسلم، وليس هذا هو الإجماع الذي يشير إليه العلماء، الذي من خالفه فقد ضل، وإنما هذا هو إجماع من ضل عن الصراط المستقيم، وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الأكثرون، كما قال الله تعالى {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} [الأنعام:116] ، وقال تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20] . وأما قوله: (ولا أرى للناس بعد كتاب الله الذي جمع فأوعى كل رطب ويابس، وتغافل عما جاء به كتاب الله من قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115] ) . فأقول: هذا الكلام بهذا اللفظ لا يثبت عن الشيخ، ولم نره في شيء من كتبه، ولا في كلامه، ولا في رسائله، بل الذي في كتبه ومصنفاته الأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة. قال رحمه الله تعالى في مصنفه "أصول الإيمان": باب الوصية بكتاب الله عز وجل. وقول الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3] عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فحمد الله وأثنى، ثم قال: "أما بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، وتمسكوا به"، فحث على كتاب الله، ورغب فيه، ثم قال: "وأهل بيتي"، وفي لفظ: "كتاب الله هو حبل الله ومن اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة" رواه مسلم1. وله في حديث جابر الطويل أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم عرفة: "وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ " قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. قال بأصبعه السبابة يرفعه إلى السماء وينكبها إلى الأرض "اللهم اشهد" ثلاث مرات2. وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون فتنة" فقلنا: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا   1 في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه 42/1873. 2 أخرجه مسلم في كتاب الحج من صحيحه 2/890. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم" رواه الترمذي وقال: غريب1. وعن أبي الدرداء مرفوعاً قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئاً {وَمَا كَانَ   1 أخرجه الترمذي في سننه –كتاب فضائل القرآن- 5/172-173 من طريق حمزة الزيات عن أبي المختار الطائي عن ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث عن علي ... به مرفوعاً. قال الترمذي: هذا حديث [غريب] لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال اهـ. وتعقبه ابن كثير حيث قال في فضائل القرآن ص 7: قلت: لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات، بل رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث الأعور: فبرئ حمزة من عهدته. على أنه وإن كان ضعيف الحديث فإنه إمام في القراءة. والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه تعمد الكذب في الحديث فلا. والله أعلم. وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم رفعه. وهو كلام حسن صحيح. على أنه قد روي له شاهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ... اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 رَبُّكَ نَسِيّاً} " رواه البزار وابن أبي حاتم والطبراني1 إلى آخر الباب، ثم قال: باب تحريضه صلى الله عليه وسلم على لزوم السنة، والترغيب في ذلك، وترك البدع والتفرق والاختلاف والتحذير من ذلك. عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة فقال رجل: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" صححه الترمذي2.   1 قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/171: إسناده حسن، ورجاله موثقون اهـ. 2 أخرجه أحمد 4/126-127، وأبو داود 5/13-14-15، والترمذي 5/44-45، وابن ماجه 1/15-16-17. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم في المستدرك 1/95: هذا حديث صحيح ليس له علة. وأقره الذهبي على هذا. وصححه ابن قدامة في "الحث على السنن واجتناب البدع" وقال الحافظ ابن كثير في تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب ص 163: صححه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، والدغولي، وقال شيخ الإسلام الأنصاري: هو أجود حديث في أهل الشام وأحسنه اهـ. وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء 2/579. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ولمسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". وللبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قيل: ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" إلى آخر الباب. وله مصنفات ورسائل مملوءة بكلام الأئمة المهتدين، والعلماء المجتهدين، وله مختصر "ألشرح الكبير" و"الإنصاف" على مذهب أحمد، ولكن الهوى يعمي ويصم. وأما قوله: (وتغافل عما جاء به كتاب الله من قوله {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية) . فالجواب أن نقول: إن اتباع سبيل المؤمنين لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله، والإجماع لا يخالف ما أمر الله به ورسوله، فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله لم يكن من المؤمنين، واتباع سبيل المؤمنين، هو تقديم كتاب الله وسنة رسوله على قول كل أحد كائناً من كان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 قال الإمام الشافعي رحمه الله: "أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان". وقد اتبع رحمه الله سبيل المؤمنين، فكان على ما كان عليه السلف الصالح، والأئمة المهتدون في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، وباب العمل والعبادة لا يخالفهم في كل ذلك، لكن من خرج عن سبيلهم، وعدل عن منهاجهم، كالجهمية والمعتزلة وغلاة عبادة القبور. وكان في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كما هو مشهور في الرسالة التي اختصرت لأهل مكة، قال: ولا ننكر1 على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير، كالرافضة والزيدية، والإمامية، ونحوهم، ولا نقرهم على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة، ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه،   1 في ط الرياض: "ولا تنكر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به، وتركنا المذهب كإرث الجد والإخوة، فإنا نقدم الجد، وإن خالف مذهب الحنابلة، ولا نفتش على أحد في مذهبه، ولا نعترض إلا إذا اطلعنا1 على نص جلي كذلك مخالف لمذهب بعض الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها2 شعار ظاهر كإمام الصلاة، فنأمر الحنفي والمالكي مثلاً بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة، وشتان بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أمرناهم للنص، وإن خالف المذهب، وذلك إنما يكون نادراً جداً، ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد المطلق، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في المسائل مخالفين للمذهب ملتزمين تقليد صاحبه" انتهى. وأما قوله: (على أنه لم يأخذ من كتاب الله إلا ما نزل في المشركين من الآيات فأولها ظلماً منه، وتجاسراً على الله، تأويلاً يسهل له الحصول على أمنيته، وذلك بأن   1 في ط الرياض: "طلعنا". 2 في ط المنار: "به". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 حملها على المسلمين فكفرهم منذ ستمائة عام، وهدر دماءهم، وأباح أموالهم، وجعل بلادهم بلاد حرب) . والجواب أن نقول: قد تقدم الجواب عن هذا فلا فائدة في الجواب عنه. وما نعلم أنه له أمنية في دعوته الخلق إلى الله يتمنى حصولها إلا أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئاً، وأن يخلعوا الأنداد التي اتخذها المشركون أولياء من دونه , {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [الأعراف:162] ، {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم:29] ، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50] والله يهدي إلى صراط مستقيم. وأما قوله: (وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل كما في الصحيحين: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" الحديث. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر1: "بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله" الحديث2،   1 سقطت "ابن" من ط الرياض. 2 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الإيمان- باب دعاؤكم إيمانكم 1/49. ومسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/45. وفي لفظ لمسلم: "على أن يوحد الله" وفي لفظ له أيضاً: "على أن يعبد الله ويكفر بما دونه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" الحديث كما في الصحيحين1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" الحديث. وقوله صلى الله عليه وسلم: "كفوا عن أهل لا إله إلا الله" 2) انتهى. مراده بإيراد هذه الأحاديث: أن من أتى بناقض من نواقض لا إله إلا الله كدعاء الغائبين والأموات والنذر لهم والذبح أنه لا يكفر {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:59] ، وسيأتي الكلام عليها في محلها فيما بعد إن شاء الله تعالى.   1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/129 وفي العلم 1/185 عن ابن عباس قال: إن وفد عبد القيس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من الوفد- أو من القوم؟ "- ... الحديث. وأخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/46-47-48-49-50 عن ابن عباس وأبي سعيد رضي الله عنهما. 2 أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عمر مرفوعاً. قال الهيثمي في المجمع 1/106 وفيه الضحاك بن حمزة عن علي بن زيد. وقد اختلف في الاحتجاج بهما اهـ. ورمز السيوطي إلى ضعف الحديث في "الجامع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 فصل في بيان جهمية الملحد وسنية الشيخ ... فصل قال العراقي الملحد: (ومن عجيب أمره أنه يموه على الناس بدعوى توحيد الله وتنزيهه قائلاً: إن التوسل بغير الله شرك. مع أنه يفصح عن استواء الله تعالى على العرش بمثل الجلوس عليه، ويثبت له اليد، والوجه، والجهة، ويقول بصحة الإشارة إليه في السماء، ويدعي أن نزوله إلى السماء الدنيا حقيقة فيجسمه تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً فأين تنزيه الله تعالى بعد جعله جسماً يشترك معه حتى أخس الجمادات، وفي ذلك من التنقص والإزراء بألوهيته -سبحانه- ما هو منزه عنه) . فالجواب أن يقال لهذا الجهمي المشرك بالله في عبادته، النافي لصفاته ونعوت جلاله: قد بينا فيما تقدم أن الشيخ لا يكفر بمجرد التوسل الذي يعرفه أهل العلم من لفظ التوسل. وأما التوسل باصطلاح هؤلاء الغلاة فسيأتي الكلام عليه في محله إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وأما قوله: (يفصح عن استواء الله تعالى على العرش بمثل الجلوس عليه) . فالجواب أن نقول: قد جاء الخبر بذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ضرب الله الحق على لسانه، كما رواه الإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في كتاب "السنة" له في1 الرد على الجهمية قال: حدثني أبي وعبد الأعلى بن حماد النرسي2 قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر قال: "إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد". وهذا الحديث حدث به أبو إسحاق السبيعي مقرراً له كغيره من أحاديث الصفات، وحدث به كذلك سفيان الثوري، وحدث به أبو أحمد الزبيري ومحمد3 بن أبي   1 سقطت "في" من ط الرياض. 2 في المطبوعة من "السنة" لعبد الله بن أحمد: حدثني أبي حدثنا عبد الرحمن –ابن مهدي- عن سفيان ... الخ (ص70، ط السلفية بمكة) (1/301 ط الدكتور القحطاني) وسيكرر المؤلف رحمه الله تعالى هذا النقل ص 314. 3 في ط المنار: "وكمشد"! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 بكر ووكيع عن إسرائيل، ورواه أبو عبد الرحمن عبد الله بن حنبل أيضاً عن أبيه، حدثنا وكيع بحديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه: إذا جلس الرب على الكرسي. فاقشعر رجل سماه أبي عند وكيع، فغضب وكيع وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذا الحديث ولا ينكرونه. قلت: وهذا الحديث صحيح عند جماعة من المحدثين، أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي. وإذا كان هؤلاء الأئمة أبو إسحاق السبيعي، والثوري، والأعمش، وإسرائيل، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو أحمد الزبيري، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ممن يطول ذكرهم وعددهم، الذين هم سرج الهدى، ومصابيح الدجى، قد تلقوا هذا الحديث بالقبول، وحدثوا به، ولم ينكروه، ولم يطعنوا في إسناده، فمن نحن حتى ننكره، ونتحذلق عليهم، بل نؤمن به. قال الإمام أحمد: لا نزيل عن ربنا صفة من صفاته بشناعة شنعت وإن نبت عنه الأسماع. فانظر إلى وكيع بن الجراح الذي خلف سفيان الثوري في علمه وفضله، وكان يشبه به في سمته وهديه، كيف أنكر على ذلك الرجل، وغضب لما رآه قد تلون لهذا الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وقال الإمام ابن القيم –رحمه الله تعالى- في "الكافية الشافية": واذكر كلام مجاهد في قوله ... أقم الصلاة وتلك في سبحان في ذكر تفسير المقام لأحمد ... ما قيل ذا بالرأي والحسبان إن كان تجسيماً فإن مجاهداً ... هو شيخهم بل شيخه الفوقاني ولقد أتى ذكر الجلوس به وفي ... أثر رواه جعفر الرباني أعني ابن عم نبينا وبغيره ... أيضاً أتى والحق ذو تبيان والدارقطني الإمام يثبت الـ ... آثار في ذا الباب غير جبان وله قصيد ضمنت هذا وفيـ ... ـها لست للمروي ذا نكران وجرت لذلك فتنة في وقته ... من فرقة التعطيل والعدوان والله ناصر دينه وكتابه ... ذا حكمه مذ كانت الفئتان وهذا نص الأبيات التي أشار إليها ابن القيم رحمه الله تعالى من كلام الدارقطني رحمه الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 حديث الشفاعة في أحمد ... إلى أحمد المصطفى نسنده وأما حديث بإقعاده ... على العرش أيضاً فلا نجحده فلا تنكروا أنه قاعد ... ولا تنكروا أنه يقعده أمروا الحديث على وجهه ... ولا تدخلوا فيه ما يفسده فإذا ثبت هذا عن أئمة أهل الإسلام، فلا عبرة بمن خالفهم من الطغام أشباه الأنعام. وأما قوله: (ويثبت له اليد والوجه والجهة، ويقول بصحة الإشارة إليه في السماء) . فالجواب أن نقول: نعم قد كان الشيخ محمد رحمه الله وأتباعه يثبتون اليد والوجه لله تعالى، ويصفون الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، وما وصفه به السابقون الأولون، لا يتجاوزون القرآن والحديث، كما قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لا يوصف الله إلا بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا تتجاوز القرآن والحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونعلم أن ما وصف الله به نفسه من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه، لا سيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأنصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد، وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة، وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فكل ما أوجب نقصاً أو حدوثاً فإن الله منزه عنه حقيقة، فالله سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقة العدم، ولافتقار المحدث إلى محدث، ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى. ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون ما وصف به نفسه، ووصفه به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 رسوله فيعطلون أسماءه وصفاته العليا، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدون في أسماء الله وآياته. فإذا عرفت هذا فإنا نثبت لله اليد كما أثبتها لنفسه، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] ، وقال تعالى: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ:75] ، وقال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] ، وقال تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ، إلى غير ذلك من الآيات. ونثبت أن لله وجهاً كما قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، وقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1 [البقرة:115] ، إلى غير ذلك من الآيات.   1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المناظرة عن الواسطية: " ... قلت هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلاً، ولا تندرج في عموم قول من يقول: لا تؤول آيات الصفات. قال –أي أحد المناظرين-: أليس فيها ذكر الوجه؟ فلما قلت: المراد بها قبلة الله. قال –أي المناظر-: أليست هذه من آيات الصفات؟ قلت: لا، ليست من موارد النزاع، فإني إنما أسلم أن المراد بالوجه هنا القبلة، فإن الوجه هو الجهة في لغة العرب، يقال: قصدت هذا الوجه، وسافرت إلى هذا الوجه أي: إلى هذه الجهة. وهذا كثير مشهور، فالوجه هو الجهة. وهو الوجه كما في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} أي متوليها. فقوله تعالى: {وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} كقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} كلا الآيتين في اللفظ والمعنى متقاربتان، وكلاهما في شأن القبلة، والوجه والجهة هو الذي ذكر في الآيتين: أنا نوليه: نستقبله ... ثم قرر شيخ الإسلام هذا بكلام حسن، فانظره في الفتاوى جـ 6/15، 16، 17. وجـ 2/428، 429. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخط لك الألواح بيده" وفي لفظ: "وكتب لك التوراة بيده" 1، وقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: "وغرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده" 2،   1 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب القدر باب تحاج آدم وموسى عند الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "احتج آدم وموسى، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، قال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني ... " الحديث 11/505 من الفتح. وأخرجه مسلم- في كتاب القدر من صحيحه 4/2043 قال: حدثني محمد بن حاتم وإبراهيم بن دينار وابن أبي عمر المكي وأحمد بن عبدة الضبي. جميعاً عن ابن عيينة (واللفظ لابن حاتم وابن دينار) قالا حدثنا سفيان ... الخ فذكره بلفظ البخاري سواء. ثم قال: وفي حديث ابن أبي عمر وابن عبدة. قال أحدهما: خط. وقال الآخر: كتب لك التوراة بيده. وله عندهما ألفاظ أخرى. انظر الفتح جـ 8/434-435، وجـ 6/441، وجـ 11/505، وجـ13/477. 2 أخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- من حديث المغيرة بن شعبة ... وفيه: "أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي" 1/121 ط دار الطباعة العامرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وقوله صلى الله عليه وسلم: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفى أحدكم خبزته في سفره نزلاً لأهل الجنة" 1، ومثل أحاديث أخر "بيده الأمر"2، "والخير في يديك" 3، "والذي نفس محمد بيده" 4، "وإن الله يبسط يده   1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب الرقاق- باب يقبض الله الأرض يوم القيامة 11/371-372 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر، نزلاً لأهل الجنة"، فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: "بلى". قال: تكون الأرض خبزة واحدة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، ثم ضحك حتى بدت نواجذه ... الحديث. وأخرجه مسلم أيضاً في كتاب المنافقين وأحكامهم من صحيحه 4/2151. 2 3 أخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص 14 عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعاهد أهله كل صباح: "لبيك اللهم لبيك وسعديك والخير في يديك ... " الحديث. 4 وردت أحاديث كثيرة بصيغة هذا القسم، منها حديث: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ... " أخرجه البخاري عن أبي هريرة 2/125-141، 5/74، 13/ 215 - فتح. وحديث: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره ... " في صحيح البخاري أيضاً 3/335-341، 4/304، 5/36 - فتح. وانظر دليل القاري إلى مواضع الحديث في صحيح البخاري للشيخ عبد الله بن غنيمان ص 508-509. وفهرست صحيح مسلم محمد فؤاد عبد الباقي ص 447. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل" 1، وقوله: "المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن –وكلتا يديه يمين-" 2 وقوله: " يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون، أين المتكبرون، ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون" 3 وقوله: "يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع" 4 وكل هذه الأحاديث في الصحاح.   1 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه –كتاب التوبة-4/2113 عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ... " الحديث. 2 أخرجه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين ... " الحديث. ذكره في كتاب الإمارة 3/1458. 3 أخرجه مسلم في صحيحه –كتاب صفات المنافقين وأحكامهم- 4/2148 عن عبد الله بن عمر ... به. 4 أخرجه الإمام البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- باب (وكان عرشه على الماء) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: "أنفق أنفق عليك. وقال: يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار. وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يرفع ويخفض" 8/352. وأخرجه في كتاب التوحيد –باب قول الله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يد الله ملأى ... " الحديث. 13/393. وأخرجه أيضاً في التوحيد –باب (وكان عرشه على الماء) كذلك 13/403. وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه –كتاب الزكاة- 2/690-691 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم أنفق أنفق عليك. وقال يمين الله ملآى، سحاء لا يغيضها شيء الليل والنهار"، وأخرجه أيضاً بلفظ: "إن الله قال لي: أنفق أنفق عليك ... " الحديث بتمامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابة النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" 1. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال   1 أخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" 1. رواه البخاري، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وقال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية": لما فرغ المريسي من إنكار اليدين ونفيهما عن الله عز وجل أقبل قِبَل وجه الله ذي الجلال والإكرام ينفيه عنه –إلى أن قال-: واستمر الجحود به حتى ادعى أن وجه الله الذي وصفه بأنه ذو الجلال والإكرام مخلوق، لأنه ادعى أنه أعمال مخلوقة يتوجه بها إليه، وثواب وإنعام مخلوق يثيب به العامل، وزعم أنه قبلة الله وقبلة الله لا شك مخلوقة -ثم ساق الكلام في الرد عليه وأن القول بأن لفظ الوجه مجاز باطل- انتهى2. وأما الجهة فقال شيخ الإسلام في "المنهاج": فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي كالفلك الأعلى، ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم، فإن أريد الثاني أن يقال كل جسم في جهة، وإذا أريد الأول امتنع أن يكون   1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب التفسير- باب (ومن دونهما جنتان) 8/623-624، وفي التوحيد باب قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 13/423، ومسلم في كتاب الإيمان من صحيحه 1/112 ط العامرة. 2 هو في كتابه –رحمه الله- في الرد على المريسي ص: 157 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 كل جسم في جسم آخر، فمن قال: الباري في جهة، وأراد بالجهة أمراً موجوداً فكل ما سواه مخلوق له في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ. وإن أراد بالجهة أمراً عدمياً وهو ما فوق العالم، وقال: إن الله فوق العالم، فقد أصاب، وليس فوق العالم موجود غيره، فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات. وأما إذا فسرت الجهة بالأمر العدمي، فالعدم لا شيء. وهذا ونحوه من الاستفسار وبيان ما يراد به اللفظ من معنى صحيح وباطل يزيل عامة الشبه. فإذا قال نافي الرؤية: لو رؤي لكان في جهة وهذا ممتنع، فالرؤية ممتنعة. قيل له: إن أردت بالجهة أمراً وجودياً فالمقدمة الأولى ممنوعة، وإن أردت بالجهة أمراً عدمياً، فالثانية ممنوعة، فيلزم بطلان أحد المقدمتين على كل تقدير، فتكون الحجة باطلة، وذلك أنه إن أراد بالجهة أمراً وجودياً لم يلزم أن كل مرئي في جهة وجودية، فإن سطح العالم الذي هو أعلاه ليس في جهة وجودية، ومع هذا تجوز رؤيته، فإنه جسم من الأجسام، فبطل قولهم: كل مرئي لا بد أن يكون في جهة إن أراد بالجهة أمراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وجودياً، وإن أراد بالجهة أمراً عدمياً منع المقدمة الثانية، فإنه إذا قال الباري ليس في جهة عدمية، وقد علم أن العدم ليس بشيء، كان حقيقة قوله أن الباري لا يكون موجوداً قائماً بنفسه حيث لا موجود إلا هو، وهذا باطل، وإن قال أحد: يستلزم أن يكون جسماً أو متحيزاً عاد الكلام معه في مسمى الجسم المتحيز، فإن قال: هذا يستلزم أن يكون مركباً من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة وغير ذلك من المعاني الممتنعة على الرب لم يسلم له هذا التلازم، وإن قال يستلزم أن يكون الرب يشار إليه برفع الأيدي في الدعاء، وتعرج الملائكة والروح إليه، ويعرج محمد صلى الله عليه وسلم إليه، وتنزل الملائكة من عنده، وينزل منه القرآن ونحو ذلك من اللوازم التي نطق بهم الكتاب والسنة وما كان في معناها، قيل له: لا نسلم انتفاء هذه اللوازم، فإن قال: ما استلزم هذه اللوازم فهو جسم، قيل: إن أردت أنه يسمى جسماً في اللغة والشرع فهذا باطل، وإن أردت أن يكون جسماً مركباً من المادة والصورة، أو من الجواهر المركبة، فهذا أيضاً ممنوع في العقل، فإنما هو جسم باتفاق العقلاء كالأجسام، لا نسلم أنه مركب بهذا الاعتبار، كما قد بسط في موضعه. وتمام ذلك بمعرفة البحث العقلي في تركيب الجسم الاصطلاحي من هذا وهذا، وقد بسط في غير هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الموضع، وتبين به أن قول هؤلاء وهؤلاء باطل مخالف للأدلة العقلية القطعية. انتهى1. وقال في كتابه "موافقة العقل الصحيح للنقل الصريح": وكذلك إذا قالوا: إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات أوهموا الناس بأن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات، ولا تحوزه المصنوعات، وهذا المعنى صحيح، ومقصودهم أنه ليس مبايناً2 للخلق، ولا منفصلاً عنه، وأنه ليس فوق رب السموات رب، ولا على العرش إله، وأن محمداًلم يعرج به إليه، ولم ينزل شيئاً، ولا يصعد إليه شيء ولا يتقرب إليه بشيء، ولا ترفع3 الأيدي إليه في الدعاء، ولا غيره، وغير ذلك من معاني الجهة. وإذا قالوا: إنه ليس بجسم أوهموا الناس أنه ليس من جنس المخلوقات، ولا مثل أبدان الخلق، وهذا المعنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك أنه لا يرى، ولا يتكلم بنفسه، ولا تقوم به صفة، ولا هو مباين للخلق، وأمثال ذلك. النتهى. فإذا تبين لك هذا وتحققته فهذه الألفاظ لم يرد بها   1 هو في منهاج أهل السنة 2/558 وما بعدها ط جامعة الإمام. 2 في الأصل: "مباين". 3 سقطت: "ترفع" من ط الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، ولا عن السلف الصالح، ولا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم من أئمة الحديث. فإذا اتضح لك هذا فلفظ الجهة لا تثبته مطلقاً، ولا تنفيه مطلقاً، لأنه محتمل لمعنيين: باطل وصحيح، فمن أطلقه نفياً أو إثباتاً سئل عما أراد به، فإن قال أردت بالجهة أنه منزه عن جهة وجودية تحيط به وتحويه إحاطة الظرف بالمظروف، قيل له: نعم هو أعظم من ذلك، وأكبر وأعلى، ولكن لا يلزم من كونه على عرشه هذا المعنى. وإن أراد بالجهة أمراً يوجب مباينة الخلق للمخلوق، وعلوه على خلقه، واستواءه على عرشه، فنفيه بهذا المعنى باطل، وتسميته جهة اصطلاحي منه توصل به إلى نفي ما دل عليه العقل والنقل، فسمى ما فوق العالم جهة، وقال: منزه عن الجهة اهـ. وبهذا يندفع عنا ما ألزمنا به من لم يعرف حقيقة ما عندنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأما قوله: (ويقول بصحة الإشارة إليه في السماء) . فالجواب أن نقول: نعم نقول به، ونعتقده، وندين الله به، ونشهد الله وملائكته وجميع خلقه على اعتقاد ذلك، عليه نحيى وعليه نموت، وعليه نبعث إن شاء الله تعالى، لأنه ليس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ولا عن أحد من سلف الأمة لا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف حرف واحد يخالف ذلك، ولا نصاً ولا ظاهراً، ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا منفصل عنه ولا متصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة إليه بالأصابع ونحوها، بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات في أعظم مجمع حضره الرسول صلى الله عليه وسلم جعل يقول: "ألا هل بلغت؟ " فيقولون: نعم، فيرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول: "اللهم اشهد "1 غير مرة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "أعلام الموقعين" في بيان رد الجهمية للنصوص المحكمة: الثالث عشر الإشارة إليه حساً إلى العلو، كما أشار إليه من هو أعلم به، وما يجب له، ويمتنع عليه من أفراخ الجهمية، والمعتزلة والفلاسفة، في أعظم مجمع على وجه الأرض برفعه أصبعه إلى السماء، ويقول: "اللهم اشهد" ليشهد   1 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه –كتاب الحج- وهو جزء من حديث جابر الطويل في صفة الحج 2/890. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الجمع أن الرب الذي أرسله ودعا إليه، واستشهده هو الذي فوق سمواته على عرشه. انتهى. فتبين من هذا أن هذا المذهب الملعون –أعني إنكار الإشارة إليه بالأصبع إلى السماء- مذهب أفراخ الجهمية، والمعتزلة والفلاسفة. وقد استدل الملحد بكلام شيخ الإسلام وابن القيم على عدم تكفير أهل الأهواء، ورأى أنهما من العلماء المجتهدين الذين يعمل بأقوالهم، فإذا لم يكن ما قالاه هنا حقاً انتقض عليه الاستدلال بكلامهما هنالك. وقوله: (ويدعي أن نزوله إلى السماء الدنيا حقيقة، فيجسمه –تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً- فأين تنزيه الله تعالى بعد جعله جسماً يشترك فيه معه أخس الجمادات، وفي ذلك من النقص والإزراء بألوهيته سبحانه ما هو منزه عنه) . فالجواب أن نقول: نعم قد ثبت ذلك بالكتاب والسنة وأجمع على ذلك أهل السنة والجماعة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أحاديث النزول في "الصواعق المرسلة"، وذكر من كلام الأئمة، ومن الأجوبة العقلية والنقلية ما يكفي، وذكر في "حادي الأرواح" الأحاديث الواردة في ذلك، فمن أراد الوقوف عليها فليراجعها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ونذكر هنا شيئاً يسيراً من كلام الأئمة ليتبين لهذا الجاهل أنه قد اتبع سبيل أفراخ الجهمية والفلاسفة والمعتزلة، وأنه قد حاد عن سبيل المؤمنين. قال شيخ الإسلام: قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله الدميني1 الإمام المشهور من أئمة المالكية في كتابه الذي صنفه في أصول السنة في باب الإيمان بالنزول قال: ومن قول أهل السنة أن الله ينزل إلى سماء الدنيا، ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حداً، وذكر الحديث من طريق مالك وغيره –إلى أن قال-: وأخبرني وهب عن ابن وضاح عن الزهري عن ابن2 عباد قال: وممن أدركت من المشايخ مالك وسفيان وفضيل بن عياض، وعيسى بن المبارك3، ووكيع كانوا يقولون: إن النزول حق. قال ابن وضاح: وسألت يوسف بن عدي4 عن النزول قال: نعم أومن به ولا أحد فيه حداً. وسألت عنه ابن معين فقال: نعم أؤمن به ولا أحد فيه حداً اهـ.   1 كذا في النسخ "الدميني"، والصواب:"ابن أبي زمنين"، وكتابه مشهور ومنه نسخة خطية مصورة في المدينة. 2 سقط: "ابن" من ط الرياض. 3 علق الشيخ محمد رشيد رضا على هذا الموضوع فقال: كذا في الأصلين، وفي هامش أحدهما: "أظنه عبد الله" اهـ. وفي الأصل الهندي هكذا رسمت: "عيسى أظنه عبد الله بن المبارك". وما ظنه هو الصواب. 4 في ط الرياض: "عدين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وقال أبو عثمان الصابوني: فلما صح خبر النزول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزول على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعتقدوا تشبيهاً له بنزول خلقه، وعلموا وعرفوا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الرب تبارك وتعالى لا تشبة صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق تعالى الله عما يقولون المشبهة والمعطلة علوا كبيرا، ولعنهم الله لعنا كثيراً1. وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة قال: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة، وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر بلا كذب، وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين قال فيها: وأن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، والاستواء معقول2، والكيف فيه مجهول، وأنه عز وجل البائن عن خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول ولا ممازجة، ولا اختلاط ولا ملاصقة، لأنه الفرد بائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق، وأن الله عز وجل سميع بصير، عليم خبير، يتكلم ويرضى ويسخط، ويضحك ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً وينزل كل ليلة إلى سماء   1 هو في كتابه "الرسالة في اعتقاد أهل السنة" ص 48-49 ط الدار السلفية بالكويت. 2 في ط الرياض: "معقولي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الدنيا كيف شاء فيقول هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر، ونزول الرب إلى السماء بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال، وسائر الصفوة على هذا اهـ1. وقال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن هارون الخلال في كتاب "السنة" حدثنا أبو بكر الأثرم حدثنا إبراهيم بن الحارث –يعني العبادي- حدثنا الليث بن يحيى قال سمعت إبراهيم بن الأشعث قال أبو بكر –هو صاحب الفضيل- قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو، لأن الله تعالى وصف نفسه فأبلغ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-2-3] فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه، وكل هذا النزول والضحك، وهذه المباهاة، وهذا الاطلاع كما يشاء أن ينزل، وكما يشاء أن يباهي، وكما يشاء أن يضحك، وكما يشاء أن يطلع، فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف، فإذا قال الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقل: بل أؤمن   1 روى هذا وزيادة: إسماعيل التيمي رحمه الله في كتابه "الحجة 1/231-244، وقوله: (على هذا) يعني على إثبات النزول وتضليل من ينكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 برب يفعل ما يشاء ونقل هذا عن الفضيل جماعة منهم البخاري في كتابه خلق أفعال العباد. انتهى1. وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه الذي سماه: "اعتقاد التوحيد في إثبات الأسماء والصفات" قال: ومما نعتقده أن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيبسط يده فيقول: هل من سائل" الحديث. وقال أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه "الإبانة في أصول الديانة" وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه، فقال2: فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة، فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؟ قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكلام ربنا، وسنة نبينا3، وما روي عن الصحابة   1 ورواه اللالكائي ص 452 وغيره، وعلقه البخاري في خلق أفعال العباد رقم 61. 2 هو في كتاب الإبانة ط الجامعة الإسلامية ص 52 وما بعدها. 3 في الإبانة: "صلى الله عليه وآله وسلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل –نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، وما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ورفع به الضلالة، وأوضح به المنهاج، وقمع بدعة المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم1، إلى أن قال: وأنه مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، وأنه لد يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: 75] ، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} [المائدة:64] إلى أن قال: ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: هل من سائل هل من مستغفر، وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قال أهل الزيغ والتضليل. انتهى. وقال عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه المعروف "بنقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما   1 في الإبانة: (مفخم) ، وهو الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 افترى على الله في التوحيد، قال1: وادعى المعارض أيضاً أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حتى يمضي ثلث الليل فيقول: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من داع؟ "، قال: فادعى أن الله لا ينزل بنفسه إنما ينزل أمره ورحمته وهو على العرش، وبكل مكان من غير زوال، لأنه الحي القيوم، والقيوم بزعمه من لا يزول، قال: فيقال2 لهذا المعارض: وهذا أيضاً من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان، لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم يحد لنزوله الليل دون النهار، ويوقت الليل شطره أو الأسحار، فأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار، أو بقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا: هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان إلى الإجابة والاستغفار بكلامه دون الله، وهذا محال عند السفهاء، فكيف عند الفقهاء؟! قد علمتم ذلك ولكن تكابرون، وما بال رحمته وأمره ينزلان من عنده شطر الليل ثم يمكثان إلى طلوع الفجر، ثم يرفعان، لأن   1 هو في كتاب النقض ص19 وما بعدها. 2 في النسخ: (فقال) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 رفاعة –راويه- يقول في حديثه: "حتى ينفجر الفجر " قد علمتم إن شاء الله أن هذا التأويل باطل ولا يقبله إلا جاهل. وأما دعواك أن تفسير القيوم الذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك، فلا يقبل منك هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن بعض أصحابه، أو التابعين، لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء، لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك1، كل حي متحرك لا محالة، وكل ميت غير متحرك لا محالة، ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة، إذ فسر نزوله مشروعاً منصوصاً، ووقت لنزوله مخصوصاً لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبساً2 ولا عويصاً انتهى. ولو ذهبنا ننقل أقوال العلماء أهل السنة والجماعة المتفق على إمامتهم ودرايتهم لطال الكلام، وبما ذكرناه يندفع الخصام، وينجلي تلبيس هؤلاء الجهلة الطغام، فنقتصر على ما ذكر من كلام أئمة الإسلام. وأما قوله: (فيجسمه تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً) .   1 في ط الرياض: "والمتحرك". 2 من النقض، وفي النسخ (لعباً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فيقال في جوابه إنك أيها الضال المضل لا تفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا الكلام اللازم بعينه تابع لهذا المفهوم، وأما استواء يليق بجلال الله، ونزول وهبوط وارتفاع يليق بجلال الله ويختص به، فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها، كما يلزم سائل الأجسام، وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع، فإما أن يكون جوهراً أو عرضاً، وكلاهما محال إذ لا يعقل موجود إلا هذان. وقوله: إذا كان مستوياً على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير، والفلك إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فإن كليهما1 مثل، وكلاهما عطل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل اسم لا استواء الحقيقة، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين، والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به، ونزول وارتفاع يليق به ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك –ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي كعلم المخلوقين   1 في الأصل: "كلاهما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وقدرتهم- فكذلك هو سبحانه فوق العرش، وينزل منه كل آخر ليلة إلى سماء الدنيا، ولا يثبت لفوقيته ونزوله وصعوده خصائص فوقية المخلوق على المخلوق، ونزوله وصعوده وملزوماتها. وأما زعمه أنا نجسمه إذا أثبتنا ما أثبته الله لنفسه. فهذا ليس ببدع من ألقاب أهل الضلال. ثم اعلم أنه ليس أحد منا يقول: إن الله جسم، فإن هذا اللفظ عندنا1 مبتدع محدث في الإسلام لم يقل به أحد من السلف الصالح والصدر الأول. وأو ما ظهر إطلاق لفظ الجسم من متكلمة الشيعة كهشام بن الحكم، كذا نقل ابن حزم وغيره. قال أبو الحسن الأشعري في كتاب "مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين"2: اختلف الروافض أصحاب الإمامية في التجسيم وهم ست فرق: فالفرقة الأولى: الهشامية أصحاب هشام بن الحكم الرافضي، يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية، وحد طويل عريض عميق، طوله مثل عرضه، وعرضه مثل عمقه، لا يوفي بعضه عن بعض، وزعموا أنه نور ساطع،   1 "عندنا" ليست في الأصل. 2 هو في الكتاب ط فيسبادن ص 31-35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 له قدر من الأقدار في مكان دون مكان، كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها، ذو لون وطعم ورائحة ومجسة وذكر كلاماً طويلاً. والفرقة الثانية: من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بصورة، ولا كالأجسام، وإنما يذهبون في قولهم: إنه جسم، إلى أنه موجود ولا يثبتون الباري ذا أجزاء مؤتلفة، وأبعاض متلاصقة، ويزعمون أن الله على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف. والفرقة الثالثة: من الروافض يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان، ويمنعون أن يكون جسماً. والفرقة الرابعة: من الرافضة الهشامية أصحاب هشام بن سالم الجواليقي يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان، وينكرون أن يكون لحماً ودماً، ويقولون إنه نور ساطع يتلألأ بياضاً، وإنه ذو حواس كحواس الإنسان، له يد ورجل وأنف وأذن وفم وعين، وأنه يسمع بغير ما به يبصر وكذلك سائر حواسه متغايرة عندهم، قال: وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه وفرة متغايرة سوداء، وأن ذلك نور أسود. والفرقة الخامسة: يزعمون أن لرب العالمين ضياء خالصاً ونوراً بحتاً، وهو كالمصباح الذي من حيث ما جئته يلقاك بنور، وليس بذي صورة، ولا أعضاء، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 اختلاف في الأجزاء، وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان، أو على صورة شيء من الحيوان. قال: والفرقة السادسة: من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم، ولا بصورة ولا يشبه الأشياء، ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس. وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج. قال أبو الحسن الأشعري: وهؤلاء قوم من متأخريهم، فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون بما حكينا عنهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية1: وهذا الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن قدماء الشيعة من القول بالتجسيم قد اتفق على نقله عنهم أرباب المقالات حتى نفس الشيعة كابن النوبختي ذكر ذلك عن هؤلاء الشيعة، ثم ذكر من قال بالتجسيم من المتكلمين وغيرهم ممن يزعم أنه من أهل السنة –إلى أن قال-: وأئمة النفاة –يعني نفاة التجسيم- هم الجهمية من المعتزلة ونحوهم، يجعلون من أثبت الصفات مجسماً بناء عندهم على أن الصفات عندهم لا تقوم إلا بجسم، ويقولون: إن الجسم مركب من الجواهر المنفردة، ومن   1 نقل –رحمه الله- كلام الأشعري السابق كله، ثم أعقبه بما تراه، وذلك في كتابه منهاج السنة 2/217 و221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 المادة والصورة1. فقال لهم أهل الإثبات: قولكم منقوض بإثبات الأسماء الحسنى، فإن الله تعالى حي عليم قدير، وإن أمكن إثبات حي عليم قدير وليس بجسم، أمكن أن يكون له حياة وعلم وقدرة وليس بجسم وإن لم يمكن ذلك، فما كان جوابكم عن إثبات الأسماء؟ كان جوابنا عن إثبات الصفات- انتهى المقصود منه. فإذا تبين لك أن هذا المذهب –أعني القول بالتجسيم- هو مذهب هؤلاء المبتدعة الضلال، ومن وافقهم من أتباع الأئمة. فمذهب الوهابية هو مذهب أهل السنة المحضة، كالإمام أحمد وذويه، فلا يطلقون لفظ التجسيم لا نفياً ولا إثباتاً لوجهين: أحدهما: أنه ليس مأثوراً لا في كتاب، ولا سنة ولا أثر عن أحد الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا غيرهم من أئمة المسلمين، فصار من البدع المذمومة. الثاني: أن معناه يدخل فيه حق وباطل. انتهى من المنهاج لشيخ الإسلام رحمه الله2، وتمام الكلام فيه، فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه.   1 من الإبانة، وفي النسخ: (والصور) . 2 هو في 2/224-225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فصل في مدح الملحد للعقل وذمه لأهل السنة ... فصل قال العراقي: (ومن عظيم سفهه أنه لما رأى العقل مخالفاً لجميع ما يدعيه، خلع الحياء فعطل العقل، ولم يحكمه في شيء، وتصدى إلى جعل الناس كالبهائم) إلى آخر ما هذى به. والجواب أن نقول: لما رأى الشيخ رحمه الله أن هؤلاء الذين هم أفراخ المتفلسفة، وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين، وأشكالهم، وأشباههم فيها يعتقدونه أنهم في معرفة ذلك اعتمدوا على مجرد عقولهم، ودفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل على الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً، ولم يحكموا كتاب الله وسنة رسوله، ولم يلتفتوا إلى أقوال الصحابة ومن بعدهم من التابعين لهم بإحسان، ولم يسلكوا طريق الأئمة في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وفي باب العمل والعبادة، وأنهم خالفوا صحيح العقل الموافق لصريح النقل، مما أجمع عليه سلف الأمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وأئمتها: عطل عقول هؤلاء، ولم يحكمها في شيء، فإن البهائم التي لا تعقل شيئاً أهدى سبيلاً من عقول هؤلاء كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] لأنها قد تهتدي إلى بعض منافعها. وقد كان من المعلوم بالضرورة أن أصح الناس عقولاً، وأكملهم آراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، ومن بعدهم من السلف الصالح والصدر الأول، وأئمة الدين والحديث، ومن على طريقهم، فمن خالفهم فعقله فاسد ورأيه كاسد. ومن المعلوم أيضاً أن الشيخ رحمه الله لم ينف معقول هؤلاء الأئمة، بل حكم ما وافق المنقول من معقولهم، واعتمده في رد أباطيل هؤلاء الملاحدة وأشباههم، وكذلك ما أصلوه من الأصول، وبنوا عليه من الفروع الموافق لقواعد الشريعة المطهرة يعمل به، ويحكم به، فمن نسب إليه غير ذلك فقد أخطأ، وظلم نفسه، وافترى عليه، وقد خاب من افترى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 فصل في مفتريات الملحد، وردها ... فصل قال العراقي: (قد آن لنا أن نذكر ههنا خلاصة ما تمذهبت به الفرقة المارقة الوهابية1 من الأباطيل، ثم نتكلم عليها في المباحث الآتية بما يردها ويدحض حجتها. فنقول: قد اشتملت عقيدتهم الباطلة على أمور: الأول: إثبات الوجه، واليد والجهة للبارئ سبحانه، وجعله جسماً ينزل ويصعد. الثاني: تقديم النقل على العقل، وعدم جواز الرجوع إليه في الأمر الدينية. الثالث: نفي الإجماع وإنكاره. الرابع: نفي القياس. الخامس: عدم جواز التقليد للمجتهدين من أئمة الدين، وتكفير من قلدهم.   1 في ط الرياض: "والوهابية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 السادس: تكفيرهم لكل من خالفهم من المسلمين. السابع: النهي عن التوسل إلى الله تعالى بالرسول أو بغيره من الأولياء والصالحين. الثامن: تحريم زيارة قبور الأنبياء والصالحين. التاسع: تكفير من حلف بغير الله وعده مشركاً. العاشر: تكفير من نذر لغير الله، أو ذبح عند مراقد الأنبياء والصالحين) . فالجواب أن نقول: نعم قد اشتملت عقيدة الوهابية على إثبات الوجه واليد كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة وأقوال أئمة السلف، كما هو معروف مشهور في عقائدهم، وفيما صنفوه من الرد على الجهمية وغيرهم من أهل البدع، وذكرنا من ذلك طرفاً فيما تقدم. وأما لفظ الجهة، وجعله سبحانه وتعالى جسماً فهذا من الكذب على الوهابية وقد تقدم الكلام على ذلك قريباً، وفيه بحث وتفصيل. وأما كونه تعالى ينزل ويصعد فهو ثابت بالأحاديث الصحيحة أحاديث النزول، وقد تقدم الكلام على ذلك، وهو مما نعتقده وندين الله به على ما يليق بجلاله وعظمته، ولو كره الكافرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وأما قوله الثاني: تقدم النقل على العقل. فأقول: وهذا أيضاً مما ندين الله به، ونعتقده، ومن لم يقدم النقل على العقل فما آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ومع ذلك نقول: إن العقل الصحيح لا يخالف النقل الصريح، فإن اختلفا فالعقل إما فاسد، أو النقل غير صحيح ولا صريح. وأما عدم جواز الرجوع إليه في الأمور الدينية فما ذاك إلا لمخالفة النقل الصحيح الصريح، وأما إذا وافق النقل فلا مانع من جوازه عندنا، بل نعتقد ذلك ونعتمده. وقوله: الثالث نفي الإجماع وإنكاره. فأقول هذا كذب فإنا نعتقد أنه الأصل الثالث، وأن الأمة لا تجمع على ضلالة، لكن ننكر إجماع عباد القبور، وأفراخ المتفلسفة، وأنباط الفرس والروم، ومن نحا نحوهم، وحذا حذوهم1، وأيضاً ننكر دعوى الإجماع على أن الاجتهاد قد انقطع، وأن التقليد واجب. وقوله: الرابع نفي القياس.   1 سبق التفصيل في ذلك ها هنا ص 166 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 فأقول: أما نفي القياس مطلقاً من الكذب، فإنه فيه ما هو صحيح، وفيه ما هو باطل. وقوله: الخامس عدم جواز التقليد للمجتهدين من أئمة الدين وتكفير من قلدهم. فأقول: وهذا أيضاً من الكذب على الوهابية، فإنهم كانوا على مذهب أحمد بن حنبل1، ولكن ربما يوجد ذلك في كتب بعض من ينسبونه هؤلاء إليهم، لاعتقاده أنهم على الحق، وأنهم مخالفون لعباد القبور، ولأهل الأهواء من أهل البدع، كما قد يوجد ذلك في كتب صديق الهندي وغيره. وقوله: السادس تكفيرهم كل من خالفهم من المسلمين. فأقول: وهذا أيضاً كذب على الوهابية، فإنهم لا يكفرون المسلمين، وإنما يكفرون من كفر الله ورسوله، وأهل العلم من غلاة عباد القبور، وغلاة الجهمية، وغلاة القدرية والمجبرة وغلاة الروافض وغلاة المعتزلة وغيرهم، ممن كفره السلف الصالح بعد قيام الحجة.   1 سبق تفصيل ذلك ها هنا ص 172 وبيان أن المحرم هو التقليد الذي فيه مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وقوله: السابع النهي عن التوسل إلى الله تعالى بالرسول، وبغيره من الأولياء والصالحين. فأقول: نعم، كانوا ينهون عن التوسل بالرسول، وبغيره من الأولياء والصالحين بعد مماتهم، وفي حال غيبتهم، إذا كان التوسل على ما يعرف في لغة الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين. وأما في حال حياتهم بهذا العرف فلا ينهون عنه ولا ينكرونه. وأما على عرف غلاة عباد القبور واصطلاحهم الحادث فهم ينهون عنه ويكفرون من دعا أهل القبور، واستغاث بهم والتجأ إليهم بعد قيام الحجة عليهم. وقوله: الثامن تحريم زيارة قبور الأنبياء والصالحين. فأقول: وهذا أيضاً من الكذب على الوهابين، فإنه يجوز عندهم زيارة القبور على الوجه الشرعي. وأما شد الرحال إليها فيمنعون من ذلك، وينكرونه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" 1 الحديث.   1 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة- 3/63، ومسلم في كتاب الحج من صحيحه 2/1014-1015 كلاهما من طريق الزهري عن سعيد عن أبي هريرة مرفوعاً.. به. وفي لفظ لمسلم: "تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد". وأخرجه مسلم أيضاً من طريق عبد الحميد بن جعفر أن عمران بن أبي أنس حدثه أن سلمان الأغر حدثه أنه سمع أبا هريرة يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وقوله: التاسع تكفير من حلف بغير الله، وعده مشركاً. فأقول: هذا كذب على الوهابية، فإنهم لا يكفرون بمجرد الحلف بغير الله، وفيه بحث. وقوله: العاشر تكفير من نذر لغير الله، أو ذبح عند مراقد الأنبياء والصالحين. فأقول: نعم يكفرون من نذر لغير الله، وذبح لغيره، فإن النذر والذبح من خصائض الإلهية، فمن أشرك بالله أحداً من المخلوقين في خصائص الخالق فلا مانع من تكفيره بعد قيام الحجة عليه، وسيأتي الكلام على كلامه1 عليها إن شاء الله تعالى.   1 "على كلامه" سقطت من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 فصل في زعم الملحد أن إثبات الصفات تجسيم ... فصل قال العراقي: (تجسيم الوهابية: إن الوهابية التي كفرت من زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم متوسلاً إلى الله تعالى، وعدت ذلك شركاً في ألوهيته، وقالت بوجوب تنزيهه تعالى قد خبطت كل الخبط في تنزيه الله تعالى، حيث أبت إلا جعل استوائه سبحانه ثبوتاً على عرشه، واستقراراً وعلواً فوقه، وأثبتت له الوجه واليدين، وبعضته سبحانه فجعلته ماسكاً بالسموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والملك على إصبع، ثم أثبتت له الجهة، فقالت: هو فوق السموات ثابت على العرش، يشار إليه بالأصابع إلى فوق إشارة حسية، وينزل إلى السماء الدنيا، ويصعد، قال بعضهم: لئن كان تجسيماً ثبوت استوائه ... على عرشه إني إذا لمجسم وإن كان تشبيها ثبوت صفاته ... فعن ذلك التشبيه لا أتلعثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وإن كان تنزيها جحود استوائه ... وأوصافه أو كونه يتكلم فمن ذلك التنزيه نزهت ربنا ... بتوفيقه والله أعلى وأعظم) والجواب أن نقول: بل الذي خبط كل الخبط وهام في مهامه الخرط والهمط، وكشف جلباب الحياء، وسلك مسالك أهل الغي والردى، هذا العراقي الملحد، حيث جعل إثبات صفات الله ذي الجلال والإكرام تجسيماً وتشبيهاً، ومن وصفه بها فقد بعضه، وصرح بعدم علوه على عرشه وارتفاعه عليه عناداً وجحوداً، وتمرداً وتكبراً وسموداً، فتعالى الله عما يقول هذا الجاحد علواً كبيراً. فأما كون الوهابية أبت إلا جعل استوائه سبحانه ثبوتاً على عرشه، واستقراراً وعلواً فوقه: فنعم، وبذلك أنزل الله كتبه وأرسل رسله، وأجمع على ذلك سلف الأمة وأئمتها. فالوهابية يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تشبيه، ولا تمثيل، فيثبتون لله ما أثبته لنفسه من استوائه على عرشه وعلوه عليه، وأنه بائن من خلقه، ويثبتون ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينفون عنه النقائص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 والعيوب، ومشابهة المخلوقات، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل "فمن شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيهاً". إذا تبين لك هذا وتحققته فنذكر من كلام الأئمة ما بيين غلط هذا الملحد، وخروجه عن الصراط المستقيم، وسلوكه طريق أصحاب الجحيم، ممن نكب عن الدين القويم، واتبع غير سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها وألفاظ من نقل مذهبهم إلى غير ذلك من الوجوه بحسب ما يحتمله هذا الموضع ما يعلم به مذهبهم: روى أبو بكر البيهقي في "الأسماء والصفات" بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت فيه السنة من الصفات". قال الشيخ في كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 عبد الله1 البلخي: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر؟ فقال: لا تكفرن أحداً بذنب، ولا تنف2 أحداً به من الإيمان، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. إلى أن قال: قال أبو حنيفة عمن قال: "لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض" فقد كفر، لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وعرشه فوق سبع سموات. قلت: فإن قال: إنه على العرش استوى، ولكنه يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر، لأنه أنكر أن يكون في السماء، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعي من أعلى لا من أسفل. وفي لفظ: سألت أبا حنيفة عمن يقول: "لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض" قال: قد كفر قال: لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، [وعرشه فوق سبع سموات. قال: فإنه يقول على العرش استوى] 3. لكن لا يدري العرش في الأرض أم في   1 في الأصل: "ابن عبد". 2 في النسخ: "لا تنفي" والمثبت من الحموية للشيخ ابن تيمية –مجموع الفتاوى 5/46. 3 ما بين معقوفين من الحموية للشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 السماء؟ قال: إذاً أنكر أنه في السماء فقد كفر. ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه أنه كفر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض. فكيف يكون النافي الجاحد الذي يقول: ليس في السماء ولا في الأرض، واحتج على كفره بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، قال: وعرشه على سبع سموات، وبين بهذا أن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] دالٌ على أن الله نفسه فوق العرش، ثم إنه أردف ذلك بتكفير من قال: إنه على العرش استوى، ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض. قال: لأنه أنكر أنه في السماء، لأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعي من أعلى لا من أسفل. وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء، واحتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعي من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وقد جاء اللفظ الآخر صريحاً عنه بذلك، فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وروى هذا اللفظ بالإسناد عنه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب "الفاروق". وروى أيضاً ابن أبي حاتم أن هشام بن عبد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن قاضي الري الذي حبس رجلاً في التجهم فتاب، فجيء به إلى هشام ليطلقه فقال: الحمد لله على التوبة، فامتحنه هشام، فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه، فقال: أشهد أنه على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه، فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب. وروي أيضاً عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: إن الله على العرش بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل، وهالك مرتاب، يمزج الله تعالى بخلقه ويخلظ منه الذات بالأقذار والأنتان. وروى أيضاً عن ابن المديني لما سئل: ما قول أهل الجماعة؟ قال: يؤمنون بالرؤية والكلام، وأن الله فوق السموات على العرش استوى، فسئل عن قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ، فقال: اقرأ ما قبلها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض} [المجادلة: 7] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وروى أيضاً عن أبي عيسى الترمذي قال: هو على العرش كما وصف في كتابه، وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان. وروى عن أبي زرعة الرازي أنه لما سئل عن تفسير قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فقال: تفسيره كما تقرأ، هو على العرش، وعلمه في كل مكان، ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله –إلى أن قال-: وروى عبد الله بن أحمد وغيره بإسناد صحيح عن ابن المبارك أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ فقال: بأنه فوق السموات على عرشه، بائن من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية، إنه هاهنا في الأرض. وهكذا قال الإمام أحمد وغيره. وروى بإسناد صحيح عن سليمان بن حرب الإمام: سمعت حماد بن زيد، وذكر هؤلاء الجهمية، فقال: إنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء. وروى ابن أبي حاتم في كتاب "الرد على الجهمية" عن سعيد بن عامر الضبعي –إمام أهل البصرة علماً وديناً من شيوخ الإمام أحمد- أنه ذكر عنده الجهمية فقال: هم أشر1 قولاً من اليهود والنصارى، وقد اجتمع اليهود   1 في ط الرياض، والمنار: "شر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وقالوا هم: ليس على شيء. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة: من لم يقر أن الله فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة. ذكره عنه الحاكم بإسناد صحيح. وذكر كلاماً طويلاً ثم قال: وقال الحافظ أبو نعيم في كتاب "محجة الواثقين ومدرجة الوامقين"1تأليفه: وأجمعوا أن الله فوق سمواته، عال على عرشه، مستوٍ عليه، لا مستولٍ عليه كما تقول2 الجهمية: إنه بكل مكان. ثم ذكر الشيخ كلاماً إلى أن ذكر عن الشيخ الإمام أبي محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني قال في كتاب "الغنية": أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد. إلى أن قال: وهو بجهة العلو مستوٍ على العرش، محتو على   1 معنى الوامقين: المحبون ومنه قول الشاعر: وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا ... سوى أن يقولوا: إنني لك وامق 2 في ط الرياض: "تقوله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الملك محيط علمه بالأشياء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه} [فاطر: 10] {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] ، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش استوى كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وذكر آيات وأحاديث إلى أن قال: وينبغي إطلاق الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش. قال: وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزله على كل نبي أرسل1 بلا كيف –وذكر كلاماً طويلاً لا يحتمله هذا الموضع. وقال أبو الحسن الأشعري في الإبانة2: باب ذكر استواء على العرش: فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء؟ قيل له نقول: إن الله مستوٍ على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وذكر آيات ثم قال: فالسموات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السموات قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] لأنه مستوٍ على العرش الذي هو فوق السموات، وكل ما علا فوقه فهو سماء، فالعرش أعلى السموات. إلى أن قال:   1 في النسخ: "أنزله" والمثبت من الحموية. (ص119-127) من ط الجامعة الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فصل: وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية بأن معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أنه استولى، وقهر وملك، وأن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه، كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى أنه القدرة، فلو كان كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء، والأرض فالله قادر عليها، وعلى الحشوش، وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستوياً على العرش بمعنى الإستيلاء، وهو عز وجل مستولٍ على الأشياء كلها، لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض، وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار، لأنه قادر على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقال: إن الله مستو على الحشوش والأخلية، ولم يجز أن يكون الإستواء على العرش: الإستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الإستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها –وذكر دلالات من القرآن والأحاديث الإجماع والعقل، انتهى. وقال شيخ الإسلام أيضاً في الكتاب المسمى "بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 قال إسحاق بن راهويه: حدثنا بشر بن عمر سمعت غير واحد من المفسرين يقول: "الرحمن على العرش استوى أي ارتفع". وقال البخاري في صحيحه: قال أبو العالية: "استوى إلى السماء" ارتفع. قال: وقال مجاهد: "استوى على العرش". وقال الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره المشهور: قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: "استوى إلى السماء: ارتفع إلى السماء" وكذلك قال الخليل بن أحمد. وروى البيهقي في كتاب "الصفات" قال الفراء: ثم استوى أي صعد، قاله ابن عباس، وهو كقولك للرجل كان قاعداً فاستوى قائماً. وروى الشافعي في مسنده عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الجمعة: "وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش" 1.   1 اخرجه الشافعي في مسنده من طريق شيخه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى. وهو متهم. وقد روى الدارقطني الحديث في كتاب "الرؤية" من طريق شيخه أبي صالح عبد الرحمن بن سعيد ومحمد بن جعفر ومحمد بن علي قال: حدثنا عبد الله بن روح المدائني حدثنا سلام بن سليمان حدثنا ورقاء وإسرائيل وشعبة وجرير بن عبد الحميد كلهم قالوا: حدثنا ليث بن عثمان بن أبي حميد عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أتاني جبريل وفي كفه كالمرآة البيضاء يحملها، فيها كالنكتة السوداء، فقلت: ما هذه التي في يدك يا جبريل؟ فقال: هذه الجمعة، قلت: وما الجمعة، قال لكم فيها خير كثير، قلت: وما يكون لنا فيها؟ ... " الحديث وليس فيه ذكر الاستواء. وقد ساقه ابن القيم بطوله في كتابيه "زاد المعاد" و "حادي الأرواح" وقال عقبه في الكتاب الثاني: هذا حديث كبير عظيم الشأن، رواه أئمة السنة وتلقوه بالقبول، وجمل به الشافعي مسنده (1/128 من الترتيب) فرواه عن إبراهيم بن محمد قال حدثني موسى بن عبيدة قال حدثني أبو الأزهر عبد الله بن عبد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك ... فذكره بنحوه. وقد تقدم لفظه. ثم قال الشافعي: أنبأنا إبراهيم قال حدثني أبو عمران إبراهيم بن الجعد عن أنس شبيهاً به، وزاد فيه أشياء اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 والتفاسير المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدحيم، وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم، وتفسير ابن المنذر، وتفسير أبي بكر عبد العزيز، وتفسير أبي الشيخ الأصبهاني، وتفسير أبي بكر بن مردويه، وما قبل هؤلاء من التفاسير، مثل تفسير أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وبقي بن مخلد وغيرهم، ومن قبلهم مثل تفسير عبد بن حميد، وتفسير عبد الرزاق، ووكيع بن الجراح فيها من هذا الباب الموافق لقول المثبتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ما لا يكاد يحصى، وكذلك الكتب المصنفة في السنة التي فيها آثار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين. وقال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله المعروفة التي نقلها عن أحمد وإسحاق وغيرهما وذكر معها من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وغيرهم ما ذكر، وهو كتاب كبير صنفه على طريقة الموطأ ونحوه من المصنفات، قال في آخره في الجامع: باب القول في المذهب: هذا مذهب أئمة العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة المعروفين المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها، أو عاب قائلها: فهو مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم وبقي بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا، وأخذنا منهم العلم. وذكر الكلام في الإيمان والقدر والوعيد والإمامة وما أخبر به الرسول من أشراط الساعة، وأمر البرزخ والقيامة، وغير ذلك إلى أن قال: وهو سبحانه بائن من خلقه، لا يخلو من علمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 مكان، ولله عرش، وللعرش حملة يحملونه، وله حد الله أعلم بحده، والله على عرشه عز1 ذكره وتعالى جده ولا إله غيره، والله تعالى سميع لا يشك بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان لا يسهو، رقيب لا يغفل، يتكلم ويتحرك ويسمع ويبصر، وينظر ويقبض ويبسط ويفرح ويحب، ويكره ويبغض ويرضى، ويسخط، ويغضب ويرحم، ويغفر ويعفو، ويعطي ويمنع، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء وكما شاء، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولم يزل الله متكلماً عالماً فتبارك الله أحسن الخالقين، انتهى. ولو ذهبنا نذكر أقوال أهل العلم من الأئمة لاحتمل مجلداً {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] ، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] . وأما تفسير الاستواء بالاستقرار فهو من تفاسير أهل السنة والجماعة، قال ابن القيم رحمه الله في "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية":   1 في ط الرياض: "عن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 فصل: هذا وسادس عشرها إجماع ... أهل العلم أعني حجة الأزمان من كل صاحب سنة شهدت له ... أهل الحديث وعسكر القرآن لا عبرة بمخالف لهمو ولو ... كانوا عديد الشاء والبعران أن الذي فوق السموات العلى ... والعرش وهو مبائن الأكوان هو ربنا سبحانه وبحمده ... حقاً على العرش استوا الرحمن ثم ذكر أقوال الأئمة إلى أن قال: ولهم عبارات عليها أربع ... قد حصلت للفارس الطعان وهي استقر وقد علا وكذلك ار ... تفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع ... وأبو عبيدة صاحب الشيباني يختار هذا القول في تفسيره ... أدرى من الجهمي بالقرآن وأما قوله: (وأثبت له الوجه واليدين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 فأقول: قد تقدم الكلام على ذلك، وبه الكفاية. وأما قوله: (وبعضه سبحانه، فجعله ماسكاً بالسموات على أصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على أصبع، والملك على أصبع) الخ. فالجواب أن يقال لمن وقف على هذا الجواب عليك أولاً أن تعلم أن هذا الكلام، أعني قوله: وبعضه سبحانه ليس هو من كلام أهل السنة المحضة، الذين لم يشوبوا عقائدهم بدم التشبيه، وعذرة التحريف، ونجاسة التعطيل، بل هو من مقدرات الأفكار، ونتائج قياسات عقول أفراخ المتفلسفة، وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم، الذين يزعمون أنهم ينزهون الله تعالى عن الأبعاض، والحدود والجهات، فيسمع الغر المخدوع هذه الألفاظ فيتوهم1 منها أنهم ينزهون الله عما يفهم من معانيها عند الإطلاق من العيوب والنقائص والحاجة، فلا يشك أنهم يمجدونه ويعظمونه، ويكشف الناقد البصير ما تحت هذه الألفاظ فيرى تحتها الإلحاد،   1 في ط الرياض: "يتوهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وتكذيب الرسل، وتعطيل الرب تعالى عما يستحقه من كماله. فأما الأبعاض: فمرادهم بتنزيهه1 عنها: أنه ليس له وجه ولا يدان، ولا يمسك السموات على أصبع، والأرض على أصبع، والشجر على أصبع، والماء على أصبع، فإن ذلك كله أبعاض، والله منزه عن الأبعاض، كما ذكره ابن القيم رحمه الله عنهم في "الصواعق المرسلة" فإذا عرفت هذا من قيلهم وعقائد قولبهم، وأنهم إنما نزهوه عما يليق بجلاله وعظمته وكبريائه، وإحاطته بجميع مخلوقاته، وأنهم ما عرفوا الله حق معرفته، ولا قدروه حق قدره، ولا عظموه حق عظمته، فخرجوا عن المعقول ونبذوا المنقول وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، فجاء هؤلاء الضلال الغلاة والملاحدة الجهال، فتوهموا أن هذا من قول الوهابية، وأنهم خرجوا بهذا القول عن جماعة أهل السنة المحضة، وما علم هؤلاء الجهلة أن هذا صريح الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] . قال العماد ابن كثير رحمه الله2: يقول الله تعالى: ما   1 في الأصل: "تنزيههم"، وفي المطبوعتين "تنزيهه"؟ 2 في تفسيره ط الشعب 7/103-106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء وكل شيء تحت قهره وقدرته. قال السدي: ما عظموه حق عظمته، وقال محمد بن كعب: لو قدروه حق قدره ما كذبوه، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هم الكفار الذي لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن به فلم يقدر الله حق قدره. وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية، الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف. وذكر حديث ابن مسعود الذي رواه مسلم في "صحيحه" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه لقول الحبر. قرأ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية. وفي رواية لمسلم: "والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أن الملك أنا الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وفي رواية البخاري: "يجعل السموات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع"1.   1 أخرجه البخاري، تفسير من صحيحه –في تفسير سورة الزمر- باب {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} حدثنا آدم حدثنا شيبان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه قال: "جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، وسائل الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... } الآية. وأخرجه البخاري أيضاً في صحيحه -كتاب التوحيد- باب قول الله {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} حدثنا مسدد سمع يحيى بن سعيد عن سفيان حدثني منصور وسليمان عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله ... به، وفيه: "إن الله يمسك ... "،"والجبال على إصبع .... "، "والخلائق على إصبع". قال البخاري عقبه: قال يحيى بن سعيد. وزاد فيه فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم بن عبيدة عن عبد الله: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً له. ثم أخرجه في هذا الباب حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش سمعت إبراهيم قال سمعت علقمة يقول: قال عبد الله ... به وفيه "والشجر والثرى على إصبع"، "ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك ... ". وأخرجه في كتاب التوحيد من صحيحه –أيضاً- باب قول الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} حدثنا موسى حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم عن عقلمة عن عبد الله ... به وفيه "إن الله يضع السماء ... "، "والشجر والأنهار على إصبع". وأخرجه أيضاً- في باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم من حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله ... به وفيه: "إذا كان يوم القيامة جعل الله ... "، "ثم يهزهن". وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه –كتاب صفات المنافقين وأحكامهم- 4/2147-2148 رقم: 2786 من طريق منصور عن إبراهيم عن عبيدة السلماني عن عبد الله بن مسعود. ومن طريق الأعمش قال: سمعت إبراهيم يقول: سمعت علقمة يقول: قال عبد الله ... فذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 قال ابن كثير رحمه الله: ورواه البخاري في "صحيحه" في غير موضع، ومسلم، والإمام أحمد، والترمذي، والنسائي كلهم من حديث سليمان بن مهران –وهو الأعمش- عن إبراهيم بن عبيدة، عن ابن مسعود بنحوه قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يحمل الخلائق على إصبع، والسموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. قال: وأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية. وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق1 عن الأعمش به.   1 في النسخ: "من طريق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وقال الإمام أحمد حدثنا الحسين بن حسن الأشقر، حدثنا أبو كدينة، عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السموات على ذه –وأشار بالسبابة- والأرض على ذه والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه، كل ذلك يشير بأصبعه. فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به. وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه1. ثم قال: قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا   1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/69، رقم: 2267، والترمذي في سننه –كتاب التفسير- 8/368 ط استانبول، قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على السند: إسناده –أي إسناد أحمد- ضعيف، لضعف حسين بن حسن الأشقر، أبو كدينة بضم الكاف: اسمه يحيى بن المهلب البجلي، وهو ثقة، وثقه ابن معين وأبو داود والنسائي وغيرهم، وترجمه البخاري في الكبير 4/2/305. ولكن الحديث صحيح، لأنه ثابت من غير وراية الأشقر. فرواه الترمذي عن الدارمي عن محمد بن الصلت عن أبي كدينة. وقال الترمذي: "حديث حسن غريب صحيح، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وأبو كدينة اسمه يحيى بن المهلب. ورأيت محمد بن إسماعيل روى هذا الحديث عن الحسن بن شجاع عن محمد بن الصلت" اهـ كلام الشيخ أحمد شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الليث، حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ " تفرد به من هذا الوجه. ورواه مسلم من وجه آخر1. وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا مقدم بن   1 أخرجه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه 8/551، باب {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} بالسند والمتن الذي ذكره المؤلف. وأخرجه أيضاً في كتاب الرقاق 11/372 باب يقبض الله الأرض يوم القيامة عن محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن أبي سلمة حدثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ... به. وأخرجه أيضاً في كتاب التوحيد 13/367، باب قول الله تعالى: {مَلِكِ النَّاسِ} عن أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سعيد –وهو ابن المسيب- عن أبي هريرة ... به. قال البخاري عقبه: وقال شعيب والزبيدي وابن مسافر وإسحاق بن يحيى عن الزهري عن أبي سلمة اهـ. وأخرجه أيضاً في كتاب التوحيد 13/393، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} من جهة الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقبض الله الأرض". وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه –كتاب صفات المنافقين وأحكامهم 4/2418 رقم: 2787 من جهة يونس عن ابن شهاب حدثني ابن المسيب أن أبا هريرة كان يقول: ... فذكره وفيه "يطوي السماء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 محمد حدثني عمي القاسم بن يحيى، عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك" تفرد به أيضاً من هذا الوجه. ورواه مسلم من وجه آخر1. وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر، بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول، فقال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن عبيد الله بن مقسم، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ   1 أخرجه البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه 13/339 باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرض، وتكون السموات بيمينه ... " الحديث. قال البخاري عقبه: رواه سعيد عن مالك، وقال عمر بن حمزة: سمعت سالماً سمعت ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اهـ. وأخرجه مسلم في صحيحه –كتاب صفات المنافقين وأحكامهم- 4/2148 من طريق عمر بن حمزة عن سالم بن عبد الله أخبرني عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله. ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها، ويقبل بها ويدبر، يمجد الرب تعالى نفسه: "أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم"، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرّن به1 انتهى. وهذه الأحاديث تدل على عظمته سبحانه وتعالى، وتبين أن الله تعالى على عرشه، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها: إن ظاهرها غير مراد، وإنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه، ولو كان هذا حقاً لبلغه أمته، فإن الله أكمل به الدين، وأتم به النعمة، فبلغ البلاغ المبين، وصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن يتبعهم إلى يوم الدين، وتلقى الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ما وصف به ربه من صفات كماله، ونعوت جلاله، فأمنوا به، وآمنوا بكتاب الله، وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا. وهذا الملحد الجاهل جعل ما تضمن كتاب الله وسنة رسوله أبعاضاً، وسمى إثبات علو الله على عرشه،   1 مسند الإمام أحمد 7/247-248 ط شاكر، قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى في تعليقه على المسند: إسناده صحيح ... اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وفوقيته ونزوله وصعوده: تجسيماً ومن تمسك بكتاب الله وسنة رسوله، وكلام الأئمة: مجسماً. وأما قوله: حتى قال بعضهم: لئن كان تجسيماً ثبوت استوائه ... على عرشه إني إذا لمجسم وإن كان تشبيها ثبوت صفاته ... فعن ذلك التشبيه لا أتلعثم وإن كان تنزيها جحود استوائه ... وأوصافه أو كونه يتكلم فمن ذلك التنزيه نزهت ربنا ... بتوفيقه والله أعلى وأعلم فالجواب: أنا نعتقد هذا، وندين الله به، وأزيد ذلك تقريراً له بقولي: أقول نعم هذا هو الحق والهدى ... وعن وصفه بالحق لا أتلعثم ومن حاد عن هذا وقال سفاهة ... طريقة جهم والمريسي أسلم فقد حاد عن نهج الشريعة واعتدى ... وضل عن الحق الذي هو أحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وأشهد أن الله جل ثناؤه ... على عرشه والله أعلى وأعظم وأشهد أن الله ليس كمثله ... شبيه ولا مثل ولا كفو يعلم فمن جحد الأوصاف لله ربنا ... ونزهه عن كونه يتكلم وعن كونه فوق السموات قد علا ... على عرشه فهو الكفور المذمم فليس بتجسيم ثبوت استوائه ... على عرشه لكنما الفوق يفهم ويعلم من نص الكتاب وسنة ... لأفضل خلق الله من هو أعلم أليس على هذا صحابة أحمد ... وأهل الحجا لو كنت ويحك تفهم وإن لم يكن ما بلغوه هو الهدى ... فمن ذا الذي منه الهدى يتعلم أولئك هم أهدى سبيلاً ومنهجاً ... وإن لم يكونوا المهتدين فمن هم أجهم بن صفوان اللعين وحزبه ... وأتباعه من هم أضل وأظلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 أم الحق ما قال الفلاسفة الألى ... ومن صار فيما أصلوا يتكلم أولئك في بحر الضلالة قد هووا ... وهم في مرامي الغي والبغي هوم فسار على منهاجهم في ضلالهم ... زنادقة من بعدهم حين أوهمو بتنزيهه فيما يرون وقصدهم ... هو الكفر والتعطيل والقوم قد عموا بإلزام أهل الحق بالبغي والهوى ... لوازم لا ترضى ولا هي تلزم وإلزامهم ما ألزموه تعنت ... وبغي وإلحاد وإفك ومأثم وما ذاك إلا أنه ليس عندهم ... إله بهذا الوصف حقاً يعظم وما هذه الأوصاف إلا لمن له ... صفات وجسم وهو عنها يفخم فإن كان تجسيماً ثبوت صفاته ... لديكم فإني اليوم عبد مجسم فسبحانه عن إفكهم وضلالهم ... وطغيانهم فالله أعلى وأعظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فلله وجه بل يدان حقيقة ... ويغضب بل يرضى ويعطي ويرحم ويضحك ربي من قنوط عباده ... لمن شاء منهم قائلاً ويكلم سميع بصير ذو اقتدار ورفعة ... ويعلم ما نبدي جهاراً ونكتم وينزل شطر الليل نحو سمائه ... ويصعد والرحمن أعلى وأعظم كما شاءه سبحانه وبحمده ... وسوف يجي يوم القيامة يحكم ويفصل بين الخلق يوم معادهم ... بيوم به تبدو عياناً جهنم ونؤمن أن الله جل ثناؤه ... يرى ويُرى يوم المزيد وينعم إلى غير ذا من كل أوصافه التي ... بها نطق القرآن والكل محكم وصحت بها الأخبار من سيد الورى ... نقول بها جهراً ولا نتلعثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فصل في بيان كلام الملحد في الجسم، وزيغه ... فصل قال العراقي: (نحن ننقل لك ههنا بعض عباراتهم التي وردت في هذا الشأن، مسطورة في كتاب "الدين الخالص" قال صاحبه: إن أردتم بالجسم المركب من المادة والصورة، أو المركب من الجواهر الفردة، فهذا منفي عن الله تعالى قطعاً، والصواب نفيه عن الممكنات أيضاً، فليس الجسم المخلوق مركباً من هذه ولا هذه. قال العراقي: فأقول: فانظر إلى ما في هذه العبارة من الخبط، فإنه أنكر فيها وجود جسم بالمعنى الذي ذكره، سواء كان واجباً أو ممكناً، والظاهر أن غرضه من هذا الإنكار هو التوصل إلى نفس الجسمية التي تلزم من معتقده في الله تعالى، فلئلا يقال: إنه شبه الخالق بمخلوقه نفى الجسمية بالمعنى المذكور عن مخلوقه أيضاً، وأنت تعرف أن الجسم إن لم يكن مركباً من المادة والصورة، فلا محيص أن يكون مركباً من الجواهر الفردة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 والجواب أن يقال: هذا الكلام ليس هو من كلام صاحب "الدين الخالص" بل هو كلام شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى نقله صديق من "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" وهو في الصواعق أبسط من هذا، بأدلته العقلية والنقلية، فنسبة هذا الكلام إلى الوهابية وإن كانوا يعتقدون صحته جهل عريض، وعدم معرفة بالرجال ومقالاتهم، فإن ابن القيم رحمه الله تعالى في القرن السابع، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر، فصار من المعلوم عند هؤلاء أن من تكلم بالحق، وبما نطق به الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة وأئمتها وإن كان ممن تقدم زمانه فهو وهابي، فصار هذا الاسم علماً على أهل الحق في كل زمان ومكان {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَة} ، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . وأما قوله: (فإنه أنكر فيها وجود جسم بالمعنى الذي ذكره) إلى آخره. فنقول: نعم. ما ذكره من لفظ الجسم، وما يتبع ذلك، لم ينطق به في صفات الله لا كتاب ولا سنة، لا نفياً ولا إثباتاً، ولا تكلم به أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وقوله: (والظاهر أن غرضه من هذا الإنكار هو التوصل إلى نفي الجسمية التي تلزم من معتقده في الله تعالى) إلى آخره. فأقول: نعم، ولا يلزم من إثبات الصفات التي أثبتها الله ورسوله هذه اللوازم التي سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي نحاتة أفكار وزبالة أذهان، لا حقيقة لها في التحقيق، ولا تثبت على قدم الحق والتصديق. فهذه اللوازم منفية عن الله قطعاً وعن الممكنات أيضاً، كما يأتي بيانه وتفصيله. ثم إنه من المعلوم أن أصل الكلام في المادة والصورة والهيولي والجواهر الفردة وغيرها من التراكيب المحدثة في الإسلام ليس هو من كلام أهل السنة العامة، فضلاً عن أن يكون من كلام محققي أهل السنة المحضة، وإنما أصله من كلام الفلاسفة واليونان الخارجين عن شريعة الإسلام، فالاحتجاج به والاستدلال به، ممن يدعي أنه من أهل السنة على أهل السنة المحضة خروج من الدين والعقل، وإنما تكلم فيه أئمة الإسلام لما دخل فيه بعض أهل السنة العامة، وبعض أهل السنة المحضة، واعتمدوا عليه في العقليات، فاحتاج أئمة الإسلام إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الكلام فيه لرد معقولاتهم الفاسدة بالنقل والعقل، وإذا كان أصله ومادته كذلك فبطلانه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام عقلاً ونقلاً. قال شيخ الإسلام رحمه الله في تفسير سورة الإخلاص {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بعد كلام له سبق: وكان الذين امتحنوا أحمد رحمه الله وغيره من هؤلاء الجاهلين، فابتدعوا كلاماً متشابهاً نفوا به الحق، فأجابهم أحمد لما ناظروه في المحنة وذكروا الجسم1 ونحو ذلك، فأجابهم بأني أقول كما قال الله تعالى: {اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ} [الاخلاص:1-2] . وأما لفظ الجسم فلفظ مبتدع محدث، ليس على أحد أن يتكلم به البتة، والمعنى الذي يراد به مجمل ولم تبينوا مرادكم حتى نوافقكم على المعنى الصحيح، فقال: ما أدري ما تقولون لكن أقول: {اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، يقول: ما أدري ما تعنون بلفظ الجسم، فأنا لا أوافقكم على إثبات لفظ ونفيه إذا لم يرد الكتاب والسنة بإثباته ولا نفيه إن لم   1 لفظ العبارة في النسخ الثلاث: " ... في المحنة ونحو ذلك وذكروا الجسم فأجابهم" والتصحيح من كتاب شيخ الإسلام "تفسير سورة الإخلاص" ص 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 يدر معناه المتكلم به، فإن عنى في النفي أو1 الإثبات ما يوافق الكتاب والسنة [وافقناه، وإن عنى ما يخالف الكتاب والسنة] 2 في النفي والإثبات لم نوافقه ولفظ الجسم والجواهر لم يأت في كتاب ولا سنة، ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسائر أئمة الدين التكلم بها في حق الله تعالى لا بنفي ولا بإثبات. ولهذا قال أحمد في رسالته إلى المتوكل: لا أحب التكلم في شيء من ذلك إلا ما كان في كتاب الله، أو في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة والتابعين. وأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود. وذكر أيضاً فيما حكاه عن الجهمية أنهم يقولون ليس فيه كذا وكذا وهو كما قال، فإن للفظ3 الجسم في اللغة التي نزل بها القرآن معنى كما قال تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] . وقال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247] . قال ابن عباس: كان طالوت أعلم بني إسرائيل بالحرب، وكان يفوق الناس بمنكبيه4 وعنقه   1 في النسخ: "و" والمثبت من كتاب ابن تيمية. 2 ما بين المعقوفين سقط من النسخ. 3 في النسخ: "لفظ" والثبت من المصدر السابق. 4 في النسخ: "منكبه" والمثبت من المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ورأسه والبسطة: السعة. قال ابن قتيبة: هو من قولك: بسطت الشيء إذا كان مجموعاً ففتحته ووسعته. قال بعضهم: والمراد بتعظيم الجسم فضل القوة إذ العادة أن من كان أعظم جسماً كان أكثر قوة. فهذا لفظ الجسم في لغة العرب التي نزل بها القرآن. قال الجوهري: قال أبو زيد الأنصاري: الجسم الجسد، وكذلك الجسمان والجثمان. وقال الأصمعي: الجسم والجسمان والجسد والجثمان واحد1. قال جماعة: جسم الإنسان يقال له الجسمان، وقد جسم الشيء أي عظم فهو جسيم وجسام والجسام بالكسر جمع جسم. قال أبو عبيدة: تجسمت فلاناً من بين القوم أي اخترته كأنك قصدت جسمه، كما تقول تأتيه أي قصدت أتيه2 وشخصه، وأنشد أبو عبيدة: تجسمته من بينهن بمرهف وتجسمت الأرض إذا أخذت نحوها تريدها وتجسم من الجسم. وقال ابن السكيت: تجسمت الأمر أي ركبت أجسمه، وجسيمه أي معظمه. قال: وكذلك تجسمت   1 سقطت: "واحد" من النسخ، والمثبت من المصدر السابق ص 69. 2 في ط المنار والرياض: "نائيته أي قصدت أنيه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الرمل والجبل أي ركبت أعظمه، والأجسم الأضخم، قال عامر بن الطفيل: لقد علم الحي من عامر ... بأن لنا الذروة والأجسما فهذا الجسم في لغة العرب، وعلى هذا فلا يقال للهواء جسم، ولا للنفس الخارج من الإنسان جسم، ولا لروحه المنفوخة جسم، ومعلوم أن الله سبحانه لا يماثل شيئاً من ذلك لا بدن الإنسان ولا غيره، فلا يوصف الله بشيء من خصائص المخلوقين، ولا يطلق عليه من الأسماء ما يختص بصفات المخلوقين، فلا يجوز أن يقال: هو جسم ولا جسد، انتهى. وإذا كان هذا الجسم في لغة العرب كان منتفياً عن الله بهذا المعنى، لأن الله أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فلا يماثله شيء من مخلوقاته، ولا يطلق عليه من الأسماء ما يختص بصفات المخلوقين، فإن من شبه الله بخلقه فقد كفر، لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وأما قوله: (وأنت تعرف أن الجسم إن لم يكن مركباً من المادة والصورة فلا محيص أن يكون مركباً من الجواهر الفردة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 فالجواب أن نقول: هذا على اصطلاح أهل الكلام، وقد عرفت ما في كلامهم من الاختلاف والنزاع بينهم، والجواب على كل مسلم أن ينظر في هذا الباب فما أثبته الله ورسوله أثبته، وما نفاه الله ورسوله نفاه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فتثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني، وتنفي ما نفته النصوص من الألفاظ والمعاني. وأما هذه الألفاظ الذي تنازع فيها من ابتدعها فقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وأما أهل الكلام فالجسم عندهم أعم من هذا، وهم مختلفون في معناه اختلافاً كثيراً عقلياً، واختلافاً لفظياً اصطلاحياً، فهم يقولون: كل ما يشار إليه إشارة حسية فهو جسم، ثم اختلفوا بعد هذا. فقال كثير منهم: كل ما كان كذلك فهو مركب من الجواهر المنفردة، ثم منهم من قال: الجسم أقل ما يكون جوهراً بشرط أن ينضم إليه غيره. وقيل: بل هو الجوهران والجواهر فصاعداً. وقيل: بل أربعة فصاعداً. وقيل: بل ستة. وقيل: بل ثمانية. وقيل: بل ستة عشر. وقيل: بل اثنان وثلاثون. وهذا قول من يقول: إن الأجسام كلها مركبة من الجواهر التي لا تنقسم. وقال آخرون من أهل الفلسفة: كل الأجسام مركبة من الهيولي والصورة، لا من الجواهر المنفردة. وقال كثير من أهل الكلام وغير أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الكلام: ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا. وهذا قول الهشامية والكلابية والضرارية وغيرهم من الطوائف الكبار، لا يقولون بالجواهر الفردية، ولا بالمادة والصورة. وآخرون يدعون إجماع المسلمين على إثبات الجوهر الفرد، كما قال أبو المعالي وغيره: اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تجزئتها وانقسامها حتى تصير أفراداً، ومع هذا فقد شك وكذلك شك فيه فيه أبو الحسين البصري، وأبو عبد الله الرازي. ومعلوم أن هذا القول لم يقله أحد من أئمة المسلمين، لا من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من أئمة العلم المشهورين بين المسلمين، وأول من قال ذلك في الإسلام طائفة من الجهمية والمعتزلة، وهذا من الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، ولكن حاكي هذا الإجماع لما لم يعرف أصول الدين إلا ما في كتب الكلام، ولم يجد إلا من يقول بذلك: اعتقد هذا إجماع المسلمين. والقول بالجوهر الفرد باطل. والقول بالهيولي والصورة باطل. وقد بسط الكلام على هذه المقالات في مواضع أخر. وقال آخرون: الجسم هو القائم بنفسه، وكل قائم بنفسه، وكل جسم فهو قائم بنفسه، وهو مشار إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 واختلفوا في الأجسام هل هي متماثلة أم لا على قولين مشهورين. وإذا عرف ذلك فمن قال: إنه جسم وأراد أنه مركب من الأجزاء فهذا قوله باطل، وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات فقد علم بالشرع والعقل أن الله ليس كمثله شيء في شيء من صفاته، فمن أثبت لله مثلاً في شيء من صفاته فهو مبطل، ومن قال: إنه جسم بهذا المعنى فهو مبطل، ومن قال: ليس بجسم بمعنى أنه لا يرى في الآخرة، ولا يتكلم بالقرآن، وغيره من الكلام، ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرهما من الصفات، ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء، ولا عرج بالرسول إليه: فهذا قول باطل، وكذلك من نفى ما أثبت الله ورسوله، وقال: إن هذا تجسيم فنفيه باطل، وتسميته ذلك تجسيماً تلبيس منه، فإن أراد أن هذا يقتضي أن يكون جسماً مركباً من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، أو أن هذا يقتضي أن يكون جسماً والأجسام متماثلة، قيل له: أكثر العقلاء يخالفونك في تماثل الأجسام المخلوقة، وفي أنها مركبة، فلا يقولون: إن الهواء1 مثل الماء، وأبدان الحيوان مثل الحديد والجبال، فكيف يوافقونك على أن الرب تعالى يكون مماثلاً لخلقه إذا أثبتوا له ما أثبته الكتاب والسنة، والله تعالى قد نفى الماثلة في بعض المخلوقات وكلاهما   1 في النسخ: (الهوى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 جسم كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] . مع أن كليهما بشر، فكيف يجوز أن يقال: إذا كان لرب السموات علم وقدرة أنه يكون مماثلاً لخلقه، والله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. ونكتة الأمر أن الجسم في اعتقاد هذا النافي يستلزم مماثلة سائر الأجسام، ويستلزم أن يكون مركباً من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، قلت: وهذا هو نتيجة قول هذا العراقي ومرامه، حيث قال: وأنت تعرف أن الجسم إن لم يكن مركباً من المادة والصورة فلا محيص أن يكون مركباً من الجواهر الفردة. ثم قال شيخ الإسلام: وأكثر العقلاء يخالفونه، فالتلازم منتف باتفاق الفريقين، وهو المطلوب، فإذا اتفقوا على انتفاء النقص المنفي عن الله شرعاً وعقلاً، بقي بحثهم في الجسم الاصطلاحي هل هو مستلزم لهذا المحذور، وهو بحث عقلي كبحث الناس في الأعراض هل تبقى أو لا تبقى، وهذا البحث العقلي لم يرتبط به دين المسلمين، بل لم ينطق كتاب ولا سنة ولا أثر عن السلف بلفظ الجسم في حق الله تعالى لا نفياً ولا إثباتاً، فليس لأحد أن يبتدع اسماً مجملاً يحتمل معاني مختلفة لم ينطق بها الشرع، ويعلق به دين المسلمين، ولو كان قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 نطق باللغة العربية، فكيف إذا أحدث اللفظ معنى آخر، والمعنى الذي يقصده إذا كان حقاً عبر عنه بالعبارة التي لا لبس فيها، فإذا كان معتقده أن الأجسام متماثلة فإن الله ليس كمثله شيء، وهو سبحانه لا سمي له، ولا كفؤ له، ولا ند له، فهذا عبارة القرآن تؤدي هذا المعنى بلا تلبيس ولا نزاع، وإن كان معتقده أن الأجسام غير متماثلة وإن كان يرى ما يقوم به من الصفات فهو جسم فإن عليه أن يثبت ما أثبته الله ورسوله من علمه وقدرته وسائر صفاته كقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات:58] ، وقوله في حديث الاستخارة: "اللهم أني أستخريك بعلمك وأستقدرك بقدرتك على الخلق" 1، ويقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم ترون ربكم يوم القيامة عياناً كما   1 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب التهجد- باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى 3/48. وفي كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الاستخارة 11/183، وفي كتاب التوحيد، باب قوله الله تعالى: {قل هو القادر} من طريق عبد الرحمن بن أبي الموالي قال: سمعت محمد المنكدر يحدث عبد الله بن الحسن يقول: أخبرني جابر بن عبد الله السلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها –كما يعلم السورة من القرآن، يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تقدم ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب ... " الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته" 1، فشبه الرؤية بالرؤية، وإن لم يكن المرئي كالمرئي، فهذه عبارات   1 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب المواقيت الصلاة- باب فضل صلاة العصر 2/33، وباب صلاة الفجر 2/52. وفي كتاب التفسير –باب {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39] 8/597. وفي كتاب التوحيد. باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 13/419 عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: " إنكم سترون ربكم [عياناً] كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ... " الحديث. وأخرجه مسلم في صحيحه –كتاب المساجد ومواضع الصلاة- 1/439-440. وأخرج البخاري في صحيحه –كتاب الأذان-باب فضل السجود، 2/292-293. وكتاب الرقاق، باب الصراط جسر جهنم، 11/444-445. وفي التوحيد –باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 13/419 حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة أن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ " قالوا: لا يا رسول الله. قال: "فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله. قال: "فإنكم ترونه كذلك ... " الحديث بطوله. وأخرجه البخاري عن محمود حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة.. به (كتاب الرقاق) . وأخرجه عن عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة.. (كتاب التوحيد) . وأخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/163-164 من طريق الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره ... الحديث. وعندهما: قال عطاء بن يزيد –راوي الحديث عن أبي هريرة-: وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يرد عليه من حديثه شيئاً، حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله تبارك وتعالى قال: ذلك لك ومثله معه. قال أبو سعيد الخدري: وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة ... الخ. وأخرج البخاري في صحيحه –كتاب التوحيد- باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 13/420، ومسلم في صحيحه –كتاب الإيمان- 1/167، كلاهما عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، أنا أناساً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" قال: "هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب؟ " قالوا: لا. قال: "ما تضارون في رؤيته تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضرون في رؤية أحدهما ... " الحديث بطوله. هذا لفظ مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الكتاب والسنة عن هذا المعنى الصحيح بلا تلبيس ولا نزاع بين أهل السنة المتبعين للكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ثم بعد هذا من كان تبين له معنى من جهة العقل أنه لازم للحق لم يدفعه عن عقله فلازم الحق حق، لكن ذلك المعنى لا بد أن يدل الشرع عليه، فيشبه بالألفاظ الشرعية، وإن قدر أن الشرع لم يدل عليه لم يكن مما يجب على الناس اعتقاده، وحينئذ فليس لأحد أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 يدعو الناس إليه، وإن قدر أنه في نفسه حق. ومسألة تماثل الأجسام وتركيبها من الجواهر المنفردة قد اضطرب فيها جماهير أهل الكلام، وكثير منهم يقول بهذا تارة، وبهذا تارة، وأكثر ذلك لأجل الألفاظ المجملة، والمعاني المتشابهة، وقد بسط1 الكلام عليه في غير هذا الموضع، لكن المقصود هنا أنه لو قدر أن الإنسان تبين له أن الأجسام ليست متماثلة ولا مركبة، لا من هذا ولا من هذا، لم يكن له أن يبتدع في دين الإسلام قوله: إن الله جسم، ويناظر على المعنى الصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة، بل يكفيه إثبات ذلك المعنى بالعبارات الشرعية، ولو قدر أنه تبين له أن الأجسام متماثلة وأن الجسم مركب لم يكن له أن يبتدع النفي بهذا الاسم، ويناظر على معناه الذي اعتقده بعقله، بل ذلك المعلوم بالشرع والعقل يكمن إظهاره بعبارة لا إجماع فيها، ولا تلبيس، والذين يقولون: الجسم مركب من الجواهر. يدعي كثير منهم أنه كذلك في لغة العرب، لأن العرب يقولون: هذا أجسم من هذا، يريدون به أنه أكثر أجزاء منه، ويقولون: هذا جسيم أي كثير الأجزاء، قال: والتفضيل بصيغة أفعل إنما يكون لما يدل عليه الاسم،   1 في ط الرياض: "أبسط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 فإذا قيل: هذا أعلم أو أسلم، كان ذلك دالاً على الفضيلة فيما دل عليه لفظ العلم والحلم، فلما قالوا: أجسم لما كان أكثر أجزاء، دل على أن لفظ الجسم عندهم المراد به المركب، فمن قال: جسم وليس مركب، فقد خرج من لغة العرب. قالوا: وهذه تخطئة في اللفظ، وإن كنا لا نكفره إذا لم يثبت خصائص الجسم من التركيب والتأليف، وقد نازعهم بعضهم في قولهم: هذا أجسم من هذا. وقالوا: ليس هذا اللفظ من لغة العرب كما يحكى عن ابن زيد. فيقال له: لا ريب أن العرب تقول هذا جسيم، أي عظيم الجثة، وهذا الجسم من هذا، أي أعظم جثة، لكن كون العرب تعتقد أن ذلك لكثرة الأجزاء التي هي الجواهر المفردة، إنما يكون إذا كان أهل اللغة قاطبة يعتقدون أن الجسم مركب من الجواهر المنفردة، والجوهر الفرد هو شيء قد بلغ من الصغر والحقارة إلى أنه لا يتميز يمينه من يساره، ومعلوم أن أكثر العقلاء من بني آدم لا يتصور الجوهر الفرد، والذين يتصورونه أكثرهم لا يثبتونه، والذين أثبتوه إنما أثبتوه بطريقة خفية، طويلة بعيدة، فيمتنع أن يكون اللفظ1 الشائع في الغة التي ينطق بها خواصها وعوامها أرادوا به هذا.   1 في ط الرياض: "لفظ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وقد علم بالاضطرار أن أحداً من الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم ينطق بإثبات الجوهر الفرد، ولا بما يدل على ثبوته عنده، بل ولا العرب قبلهم، ولا سائر الأمم الباقين على الفطرة1، ولا اتباع الرسل، فكيف يدعى عليهم أنهم لم يقولوا لفظ الجسم إلا لما كان مركباً مؤلفاً، ولو قلت لمن شئت من العرب: الشمس والقمر والسماء مركب عندك من أجزاء صغار، كل منها لا يقبل التجزي، أو الجبال أو الهواء2، أو الحيوان والنبات. لم يتصور هذا المعنى إلا بكلفة، ثم إذا تصور قد يكذب بفطرته، ويقول: كيف يمكن أن يكون شيء لا يتميز منه جانب عن جانب. وأكثر العقلاء من طوائف المسلمين وغيرهم ينكرون الجوهر الفرد، والفقهاء قاطبة تنكره، وكذلك أهل الحديث والتصوف. ثم ذكر كلاماً في استحالة بعض الأجسام إلى بعض، ثم ذكر بعد ذلك ما يراد بالجسم في لغة العرب، وأنهم إنما يريدون بقولهم هذا أجسم من هذا، أي أغلظ وأعظم منه، ونفى أن يكون ذلك لزيادة الأجزاء، ثم قال: فقد تبين أن من قال: الجسم هو المؤلف والمركب، واعتقد أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة فقد ادعى   1 في ط الرياض: "العطرة". 2 في النسخ: (الهوى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 معنى عقلياً ينازعه فيه أكثر العقلاء من بني آدم، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه وافقه عليه، وأنه جعل لفظ الجسم في اصطلاحه يدل على معنى لا يدل عليه اللفظ في اللغة، فقد غير معنى اللفظ في اللغة، وادعى معنى عقلياً فيه نزاع طويل، وليس معه من الشرع ما يوافق ما ادعاه من معنى اللفظ، ولا ما ادعاه من المعنى العقلي، فاللغة ما تدل على ما قال، والشرع لا يدل على ما قال، والعقل لم يدل على مسميات الألفاظ، وإنما يدل على المعنى المجرد وذلك فيه نزاع طويل، ونحن نعلم بالاضطرار إلى ذلك المعنى الذي وجب نفيه عن الله لا يحتاج نفيه إلى ما أحدثه هذا من دلالة اللفظ، ولا ما ادعاه من المعنى العقلي، بل الذي جعلوه عمدتهم في تنزيه الرب على نفي مسمى الجسم، لا يمكنهم أن ينزهوه عن شيء من النقائص البتة، فإنهم إذا قالوا هذا من صفات الأجسام، فكل ما يثبتونه هو أيضاً من صفات الأجسام، مثل كونه حياً عليماً قادراً بل كونه موجوداً قائماً بنفسه، فإنهم لا يعرفون هذا في الشاهد إلا جسماً، فإذا قال المنازع: أنا أقول فيما نفيتموه نظير قولكم فيما أثبتموه انقطعوا، انتهى. والمقصود أن الأجسام المحدثة المخلوقة ليست مركبة لا من المادة والصورة، ولا من الجواهر المنفردة، فلو كان فوق العرش جسم مخلوق ومحدث لم يلزم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 يكون مركباً بهذا الاعتبار، فكيف ذلك في حق خالق الفرد والمركب الذي يجمع المتفرق، ويفرق المجتمع، ويؤلف بين الأشياء فيركبها كما يشاء؟ والعقل إنما دل على إثبات إله واحد، ورب واحد لا شريك له، ولا شبيه له، لم يلد ولم يولد، ولم يدل على أن ذلك الرب الواحد لا اسم له، ولا صفة ولا وجه، ولا يدين، ولا هو فوق خلقه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، فدعوى ذلك على العقل كذب صريح عليه، كما هي كذب صريح على الوحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 فصل في إثبا الصفات وأنه لا يقتضي التجسيم ... فصل قال العراقي: (ثم قال –يعني صاحب الدين الخالص-: وإن أردتم ما يوصف بالصفات، ويرى بالأبصار، ويتكلم ويكلم، ويسمع ويبصر، ويرضى ويغضب، فهذه المعاني ثابتة للرب تعالى، وهو موصوف بها، فلا ننفيها عنه بتسميتكم الموصوف بها جسماً –إلى آخر ما قال. قال: فأقول: لم نعرف أحداً عرف الجسم بأنه المتكلم المكلم، السميع البصير، الذي يرضى ويغضب، وإنما هذه صفات تقوم بالحي العاقل. نعم إن الجسم يرى بالأبصار كما قال، ولكن إثبات الجسم له تعالى بهذه المعنى تنزيل له سبحانه منزلة مخلوقاته مما ينافي ألوهيته1، فإن كون الله تعالى جسماً بهذا المعنى نقص يجب تنزيهه عنه) . والجواب أن يقال: ومن أنت يا ابن لكع حتى يلتفت إلى قولك وتعريفك، ونفيك وإثباتك، وتأصيلك   1 في ط المنار والرياض: "الألوهية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وتفصيلك، لأنك إنما أخذت هذه المباحث الملعونة عن قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، فإن أحداً من أئمة الإسلام ومن على طريقهم ومناهجهم لا يقول: إن الله جسم، بل لا يطلقون هذا اللفظ نفياً ولا إثباتاً حتى يستفصلوه عما أراد به، ومن أعظم الناس شمس الدين ابن القيم الذي تصديت لرد كلامه نفياً لهذه الأشياء، وله بحوث في هذا المقام يطول ذكرها، وقد ذكرها في الصواعق، وفي غيرها من كتبه، كالكافية الشافية وغيرها. وأما قوله: (وإنما هذه صفات تقوم بالحي العاقل ... ) إلى آخره. فأقول: قولك هذا منقوض بإثبات الأسماء والصفات، فإن الله حي عليم قدير، وإن أمكن إثبات حي عليم قدير وليس بجسم أمكن أن يكون له حياة وعلم وقدرة وليس بجسم، وإن لم يمكن ذلك فما كان جوابكم عن إثبات الأسماء كان جوابنا عن إثبات الصفات. ويقال أيضاً: ليس في هذا النفي ما يدل على صحة مذهب أحد من نفاة الصفات أو الأسماء، بل ولا يدل ذلك على تنزيهه سبحانه عن شيء من النقائص، فإن من نفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 شيئاً من الصفات لكون إثباته تجسيماً وتشبيهاً يقول له المثبت: قولي فيما أثبته من الأسماء والصفات كقولك فيما أثبته من ذلك، فإن تنازعا في الصفات الخبرية أو العلو أو الرؤية ونحو ذلك، وقال له: هذا يستلزم التجسيم والتشبيه، لأنه لا يعقل ما هو كذلك إلا الجسم، قال له المثبت: لا يعقل ما له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام وإرادة إلا ما هو جسم، فإذا جاز لك أن تثبت هذه الصفات، وتقول الموصوف بها ليس بجسم جاز لي مثل ما جاز لك من إثبات تلك الصفات، مع أن الموصوف بها ليس بجسم فإذن جاز أن يثبت مسمى بهذه الأسماء ليس بجسم. فإن قال له: هذه معان وتلك أبعاض. قال له: الرضا والغضب والحب والبغض معان، واليد والوجه وإن كان بعضاً فالسمع والبصر أعراض لا تقوم إلا بجسم1 فإن جاز لك إثباتها مع أنها ليست أعراضاً ومحلها ليس بجسم جاز لي إثبات هذه مع أنها ليست أبعاضاً. فإن قال نافي الصفات: أنا لا أثبت شيئاً منها. قال له: أنت أبهمت الأسماء، فأنت تقول: هو حي عليم، ولا يعقل حي عليم قدير إلا جسماً. وتقول: إنه هو ليس   1 في الأصل: "بالجسم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 بجسم، فإذا جاز أن تثبت مسمى هذه الأسماء ليس بجسم مع أن هذا ليس معقولاً1 لك2 جاز لي أن أثبت موصوفاً بهذه الصفات وإن كان هذا غير معقول لي. فإن قال الملحد: أنا أنفي الأسماء والصفات، قيل له: إما أن تقر بأن هذا العالم المشهود مفعول مصنوع له صانع فاعله، أو تقول: إنه قديم أزلي واجب الوجود بنفسه عن الصانع، فإن قلت بالأول فصانعه إن قلت هو جسم وقعت فيما نفيته، وإن قلت ليس بجسم فقد أثبت فاعلاً صانعاً للعالم ليس بجسم، وهذا لا يعقل في الشاهد، فإن أثبت خالقاً فاعلاً ليس بجسم وأنت لا تعرف فاعلاً إلا جسماً كان لمنازعك أن يقول هو حي عليم ليس بجسم وإن كان لا يعرف حياً عالماً إلا جسماً، بل لزمك أن تثبت له من الأسماء والصفات ما يناسبه. وإن قال الملحد: بل هذا المشهود قديم واجب بنفسه غني عن الصانع فقد أثبت واجباً بنفسه، قديماً أزلياً، هو جسم حامل الأعراض، متحيز في الجهات، تقوم به الأكوان، وتحله الحوادث والحركات، وله أبعاض وأجزاء، فكان ما فر منه من إثبات جسم قديم قد لزمه مثله   1 في الأصل: "معقول". 2 سقطت: "لك" من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وما هو أبعد منه، ولم يستفد بذلك الإنكار إلا جحد الخالف وتكذيب رسله، ومخالفة صريح المعقول1، والضلال المبين، الذي هو منتهى ضلال الضالين، وكفر الكافرين. فقد تبين أن قول من نفى الصفات أو شيئاً منها لأن إثباتها تجسيم قول لا يمكن أحد أن يستدل به، بل ولا يستدل أحد على تنزيه الرب عن شيء من النقائص بأن ذلك يستلزم التجسيم، لأنه لا بد أن يثبت شيئاً يلزمه فيما أثبته نظير ما ألزمه غيره فيما نفاه. وإذا كان اللازم في الموضعين واحداً وما أجاب هو به أمكن المنازع أن يجيب مثله لم يكن أن يثبت شيئاً، وينفي شيئاً على هذا التقدير، وإذا انتهى إلى التعطيل المحض كان ما لزمه من تجسيم الواجب بنفسه القديم أعظم من كل تجسيم نفاه، فعلم أن مثل الاستدلال على النفي بما2 يستلزم التجسيم لا يسمن ولا يغني من جوع. انتهى من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى. وأما قوله: (نعم إن الجسم يرى بالأبصار كما قال،   1 في ط الرياض: "المعقولين". 2 في ط المنار والرياض: "لما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ولكن إثبات الجسم له تعالى بهذا المعنى تنزيل له سبحانه منزلة مخلوقاته مما ينافي ألوهيته) . فيقال: قد تقدم أنا لا نثبت الجسمية بهذا المعنى، لأن إثبات الصفات لا تستلزم الجسمية، لأن الموصوف بها ليس بجسم، وقد تقدم بيان ذلك وأن إثباتها ليس بنقص يجب تنزيه الله عنه بالعقل والنقل، مع أنا لا نسلم أن الجسم بهذه الأوضاع الاصطلاحية الحادثة مجمع على صحته عند العقلاء، بل قد تنازعوا في ذلك مع مخالفته لصريح اللغة، فإن الجسم معناه في لغة العرب هو: البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه. فلا يقال للهواء1 جسم لغة ولا للنار، ولا للماء، فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا. وأما قوله: (أما عقلاً فلأن الرؤية كما تحقق في علم البصر إنما تتم بوقوع أشعة النور على سطح المرئي وانعكاسها عنه إلى البصر، فيلزم منه كون المرئي ذا سطح، وذلك يستدعي تركيبه من أجزاء ... ) إلى آخره. فالجواب أن يقال: هذا العقل فاسد بالعقل والنقل. أما فساده بالعقل: فلأنه ليس في المعقول أن كل مرئي لا   1 في النسخ: (الهوى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 يكون إلا مركباً من المادة والصورة، أو من الجواهر الفردة، لأن أكثر العقلاء ينكرون هذا ولا يثبتونه في الممكنات، فكيف بفاطر الأرض والسموات؟ وإذا كان في اعتقاد هذا النافي أن الجسم يستلزم مماثلة سائر الأجسام، ويستلزم أن يكون مركباً من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، وأكثر العقلاء يخالفونه، فالتلازم منتف باتفاق الفريقين وهو المطلوب. فإذا اتفقوا على انتفاء النقص المنفي عن الله شرعاً وعقلاً بقي بحثهم في الجسم الإصطلاحي هل هو مستلزم لهذا المحذور، وهو بحث عقلي كبحث الناس في الأعراض هل تبقى أو لا تبقى، وهذا البحث العقلي لم يرتبط به دين المسلمين، بل لم ينطق كتاب ولا سنة ولا أثر عن السلف بلفظ الجسم في حق الله تعالى لا نفياً ولا إثباتاً، فليس لأحد أن يبتدع اسماً مجملاً يحتمل معاني مختلفة لم ينطق به الشرع ويعلق به دين المسلمين. وقد تقدم بيان هذا. ويقال أيضاً: وكل ما يستدعي تركيبه من أجزاء متفرقة –كما يقوله الفلاسفة والمتكلمون- أو من الجواهر الفردة –كما يقوله كثير من أهل الكلام- ممنوع لأن جمهور العقلاء عندهم: أن الأجسام المحدثة ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا، فلو كان فوق العرش جسم مخلوق ومحدث لم يلزم أن يكون مركباً بهذا الاعتبار، فكيف ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 في حق خالق الفرد المركب، الذي يجمع المتفرق ويفرق المجتمع، ويؤلف بين الأشياء فيركبها كما يشاء؟ والعقل إنما دل على إثبات إله واحد ورب واحد لا شريك له ولا شبيه له {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 3] ، ولم يدل على أن ذلك الرب الواحد لا اسم له، ولا صفة، ولا وجه له، ولا يدين ولا هو فوق خلقه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، فدعوى ذلك على العقل كذب صريح عليه كما هي كذب على الوحي. قاله ابن القيم رحمه فهذا ما نفاه العقل. وأما النقل ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن أناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: "هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ "، قالوا: لا، قال:"فإنكم ترونه كذلك". الحديث بطوله. وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، لا للمرئي بالمرئي، وفي لفظ في الصحيح: "إنما ترون ربكم عياناً" فأخبر أنا نراه عياناً بأبصارنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وأما قوله: (وأما نقلاً فلقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103] . فالجواب أن يقال: لست ممن يعرف أدلة النقل المأثورة عن السلف الصالح، ولا تعرف ما ذكره المفسرون على هذه الآية، كما أنك لا تعرف من الأدلة العقلية إلا ما يذكره الفلاسفة والمتكلمون الخارجون عن سبيل المؤمنين، وأما ما يذكره أهل السنة والجماعة من المعقولات والمنقولات فلست منه في شيء. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد ذكره أقوال الفرق المخالفة، قال: وأما الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة وأبي يوسف وأمثال هؤء وسائر أهل السنة والحديث والطوائف المنتسبين إلى السنة والجماعة، كالكلابية، والكرامية والأشعرية والسالمية وغيرهم، فهؤلاء كلهم متفقون على إثبات الرؤية لله تعالى، والأحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بحديثه، وأما احتجاج النفاة بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} ، [الأنعام:103] فالآية حجة عليهم لا لهم، لأن الإدراك إما أن يراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 به مطلق الرؤية، أو الرؤية المقيدة بالإحاطة، والأول باطل، لأنه ليس كل من رأى شيئاً يقال: إنه أدركه، كما يقال أحاط به، كما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال: ألست ترى السماء؟ قال: بلى، قال: أكلها ترى؟ قال: لا. ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل، أو البستان، أو المدينة لا يقال: إنه أدركها، وإنما يقال: أدركها إذا أحاط بها رؤية. ونحن في هذا المقام ليس علينا بيان ذلك، وإنما ذكرنا هذا بياناً لسند المنع، بل المستدل بالآية عليه أن يبين أن الإدراك في لغة العرب مرادف للرؤية وأن كل من رأى شيئاً يقال في لغتهم: إنه أدركه، وهذا لا سبيل إليه، كيف وبين لفظ الرؤية ولفظ الإدراك عموم وخصوص، فقد تقع رؤية بلا إدراك، وقد يقع إدراك بلا رؤية، أو اشتراك لفظي، وأن الإدراك يستعمل في أدراك العلم، وإدراك القدرة، فقد يدرك الشيء بالقدرة وإن لم يشاهد كالأعمى الذي يطلب رجلاً هارباً فأدركه ولم يره، وقد قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61-62] ، فنفي موسى الإدراك مع إثبات الترائي. فعلم أنه قد يكون رؤية بلا إدراك، والإدراك هنا هو إدراك القدرة، أي ملحقون محاط بنا، وإذا انتفى هذا الإدراك فقد تنتفي إحاطة البصر أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكر هذه الآية يمدح بها نفسه سبحانه وتعالى، ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح، لأن النفي المحض لا يكون مدحاً إن لم يتضمن أمراً ثبوتياً، لأن المعدوم أيضاً لا يرى، والمعدوم لا يمدح، فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه، وإن كان المنفي هو الإدراك فهو سبحانه لا يحاط به رؤية، كما لا يحاط به علماً، ولا يلزم من نفي إحاطة العلم والرؤية نفي الرؤية، بل يكون ذلك دليلاً على أنه يرى ولا يحاط به، فإن تخصيص الإحاطة يقتضي أن مطلق الرؤية ليس بمنفي، وهذا الجواب قول أكثر العلماء من السلف وغيرهم، وقد روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، فلا تحتاج الآية إلى تخصيص، ولا خروج عن ظاهر المعنى، فلا نحتاج أن نقول: لا نراه في الدنيا، أو نقول لا تدركه الأبصار، بل المبصرون، أو لا يدركه كلها بل بعضها، ونحو ذلك من الأقوال التي فيها تكلف. وأما قوله: ولا تعارض هذه الآية بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] ، لأن كيفية رؤيته تعالى يوم القيامة مجهولة، كما هو معتقد أهل الحق. فالجواب أن يقال: هذه الآية لا تعارض الآية المتقدمة، فإن كلام الله لا يتعارض، بل يصدق بعضه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 بعضاً. قال البغوي رحمه الله في تفسيره على هذه الآية: قال ابن عباس وأكثر الناس: تنظر إلى ربها عياناً بلا حجاب. وقال الحسن: تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنضر1 وهي تنظر إلى الخالق. أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي، أنا عبد الله بن أحمد الحموي، أخبرنا إبراهيم بن خزيم الشاشي، أخبرنا عبد بن حميد2، حدثنا شبابة، عن إسرائيل عن ثوير قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه، وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية"، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3.   1 في ط الرياض: "تنظر". والتصويب من تفسير البغوي ج 9/63 ط المنار، حاشية ابن كثير. 2 رواه البغوي من طريق عبد بن حميد في مسنده (819/ المنتخب من المسند) . 3 أخرج الحديث –غير البغوي- الترمذي في سننه –أبواب صفة الجنة- باب أقل رجل في الجنة له مسيرة ألف سنة من الجنات، 7/231 ط استانبول: حدثنا عبد بن حميد أخبرني شبابة عن إسماعيل عن ثوير قال: سمعت ابن عمر يقول ... فذكره بلفظ البغوي. قال الترمذي: وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن إسرائيل عن ثوير عن ابن عمر مرفوع. ورواه عبد الملك بن أبجر عن ثوير عن ابن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ....................................................................................................................   = عمر موقوف وروى عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر قوله، ولم يرفعه. حدثنا بذلك أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر نحوه، ولم يرفعه اهـ. كلام الترمذي. وقد أخرج الحديث الإمام أحمد من طريقين: أحدهما عن حسين بن محمد حدثنا إسرائيل عن ثوير عن ابن عمر رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ... فذكره الحديث بلفظ الترمذي. الطريق الثاني: عن أبي معاوية حدثنا عبد الملك بن أبجر عن ثوير بن أبي فاختة عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملك ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر في أزواجه وخدمه، وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله تعالى كل يوم مرتين". وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/509-510 من هذا الطريق بلفظ أحمد. ثم قال: تابعه إسرائيل بن يونس عن ثوير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن يرى في ملكه ألفي سنة، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر في وجه الله تعالى كل يوم مرتين". ثم تلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} . قال: البياض والصفاء. {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: "ينظر كل يوم في وجه الله عز وجل". هذا حديث مفسر في الرد على المبتدعة. وثوير بن أبي فاختة وإن لم يخرجاه، فلم ينقم عليه غير التشيع. اهـ كلام الحاكم. وتعقبه الذهبي في "التلخيص" بقوله: قلت: بل هو -أي ثوير- واهي الحديث اهـ. قال الهيثمي في "المجمع" على هذا الحديث 10/401: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني. وفي أسانيدهم: ثوير بن أبي فاختة، وهو مجمع على ضعفه اهـ. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الطريق الأولى عند الإمام أحمد 7/202: "إسناده ضعيف جداً، لضعف ثوير بن أبي فاختة" ثم قال تعليقاً على تعقيب الذهبي للحاكم -المتقدم-: والحق ما قاله الذهبي، وما كان الرد على المبتدعة مما يحتاج إلى مثل هذا الإسناد الواهي اهـ. وقال في تعليقه على الطريق الثانية عند أحمد 6/284: إسناده ضعيف جداً لضعف ثوير بن أبي فاختة اهـ. وقد نسب السيوطي الحديث في "الدر 8/350 إلى: ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، والآجري في الشريعة، والدارقطني في الرؤية، والحاكم، وابن مردوية، واللالكائي في السنة، والبيهقي. وقد نبه الشيخ أحمد شاكر على أن السيوطي فاته نسبة الحديث. إلى أحمد. قلت: وكذا للطبراني وأبي يلعى. وينظر: حادي الأرواح ص 363. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وهذا الحديث يبطل تأويل من تأول من الجهمية والمعتزلة وأشباههم، ويبطل أيضاً قول هذا الملحد في قوله: ويدل على ذلك قوله: {وُجُوهٌ} ولم يقل عيون. وأما قوله: كما هو معتقد أهل الحق، فيمكن أن تكون الرؤية يومئذ بنوع من الإنكشاف والتجلي من غير حاجة للباصرة، ولا محاذاة لها، ويدل على ذلك قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وجوه، ولم يقل عيون، وفي قوله: {نَاضِرَةٌ} ما يفصح عن حصول السرور التام لها بذلك الانكشاف. فالجواب أن نقول: إن أهل الحق عند هذا الملحد غلاة الجهمية كالمريسي وأشباهه، وكالمعتزلة والرافضة، وهم عند أهل السنة والجماعة من أكفر أهل الأرض، بل هم أهل الباطل المحض، وهؤلاء الملاحدة يؤولون الآيات والأحاديث الواردة في ذلك كقولهم هي زيادة علم وانكشاف بحيث نعلم ضرورة ما كان يعلم نظراً، وهذا الملحد نحا نحو هؤلاء الملاحدة بهذه التأويلات الباطلة الخارجة عن أقوال سلف الأمة وأئمتها. وإذا تبين ذلك فإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية، وتعديته بأداة إلى الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلاف حقيقة موضوعة في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جلاله، فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعديته بنفسه، فإن عدي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار، كقوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] ، وإن عدي بـ (في) فمعناه التفكر والاعتبار، كقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} [الأعراف: 185] ، وإن عدي بإلى فمعناه المعاينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 بالأبصار كقوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99] ، فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر؟. ويؤيد ذلك الحديث الذي في الصحيح قوله: "إنكم ترون ربكم عياناً"، فأخبر أنا نراه عياناً بأبصارنا، وقد أخبرنا الله أنه قد استوى على العرش، فهذه النصوص يصدق بعضها بعضاً، والعقل أيضاً يوافقها، ويدل على أنه سبحانه مباين لمخلوقاته فوق سمواته، وأن وجود موجود لا مباين للعالم ولا مجانس له محال في بديهة العقل، فإذا كانت الرؤية مستلزمة لهذه المعاني فهذا حق، وإذا سميتم أنتم هذا قولاً بالجهة وقولاً بالتجسيم لم يكن هذا القول نافياً لما علم بالشرع والعقل، إذ كان معنى هذا القول والحال هذه ليس منتفياً لا بشرع ولا عقل، فإن تسميتكم ما سميتموه جهة وتجسيماً أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. وما أحسن ما قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، أحد أئمة المدينة الثلاثة، الذين هم: مالك بن أنس وابن الماجشون وابن أبي ذئب، فقال رحمه الله في كلام له سنذكره إن شاء الله تعالى: فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] ، فقال: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحدوا أفضل كرامة الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه، ونظرتهم إياه في مقعد صدق عند مليك مقتدر، قد قضى أنهم لا يموتون، فهم بالنظر إليه ينظرون ... إلى أن قال: وقد عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا قبل ذلك مؤمنين به، وكان له جاحداً. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فصل في الإشارة إلى السماء، وإنكار الملحد ذلك ... فصل قال العراقي: (ثم قال –أي صاحب الدين الخالص-: (وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية، فقد أشار أعرف الخلق بالله تعالى إليه بأصبعه رافعاً لها إلى السماء ... إلى آخره –قال العراقي-: فأقول: إن بداهة العقل حاكمة بأن المشار إليه بالإشارة الحسية لا بد أن يكون في جهة ومكان، وأن يكون مرئياً، وكل ذلك مستحيل على الله تعالى، لأنه تعالى لو كان في مكان أو جهة لزم قدم المكان أو الجهة، وقد قام البرهان على أن لا قديم سوى الله تعالى) . والجواب أن يقال: أولاً: أن بداهة العقل حاكمة بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، وحاكمة بأن من رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله أو اتهمه فيما فعله وأمر به فهو كافر حلال المال والدم، وقام البرهان من الكتاب والسنة على أن الله يرى في الآخرة عياناً كما ترى الشمس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 والقمر، وهذا ليس بمستحيل في العقول الصحيحة الموافقة لصريح المنقول عن الرسول. ونحن نعلم بضرورة العقل أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول ولا بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، ولا يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته، وقام البرهان من الكتاب والسنة على أن الله تعالى وتقدس فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، فمن قال غير هذا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. ويقال ثانياً: لهؤلاء الملاحدة: ما تعنون بأن هذا إثبات للجهة، والجهة فممتنعة؟ أتعنون بالجهة أمراً وجودياً أم أمراً عدمياً؟ فإن أردتم أمراً وجودياً وقد علم أنه ما ثم موجود إلا للخالق والمخلوق، والله فوق سمواته بائن من مخلوقاته، لم يكن والحالة هذه في جهة موجودة. فقولكم: (إن المرئي لا بد أن يكون في جهة موجودة) قول باطل، فإن سطح العالم مرئي وليس هو في عالم آخر. وإن فسرتم الجهة بأمر عدمي كما تقولون: (إن الجسم في حيز، والحيز تقدير مكان، وتجعلون ما وراء العالم حيزاً) . فيقال لكم: الجهة والحيز إذا كان أمراً عدمياً فهو لا شيء، وما كان في جهة عدمية أو حيز عدمي فليس هو في شيء، ولا فرق بين قول القائل هذا ليس في شيء، وبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 قوله هو في العدم أو أمر عدمي، فإذا كان الخالق تعالى مبايناً للمخلوقات عالياً عليها، وما ثم موجود إلا الخالق أو المخلوق، لم يكن معه غيره من الموجودات، فضلاً عن أن يكون هو سبحانه في شيء موجود يحصره أو يحيط به. فطريقة السلف والأئمة إنما يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية، فيعتدون بها ما وجدوا إليها سبيلاً، ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه، ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة أيضاً، وقالوا: إنه قابل بدعة ببدعة، ورد باطلاً بباطل. انتهى من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد تبين لكل من له أدنى مسكة من عقل ومعرفة أن ما ألزم به هذا الملحد من هذه اللوازم من لفظ المكان والجهة، وقوله: (لو كان في مكان لكان محتاجاً إلى مكانه) ... إلى آخره ما هذي به في كلامه أنها من أقوال الجهمية والمعتزلة والفلاسفة والمتكلمين، وقد تقدم الكلام عليها. وأما لفظ المكان، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما القائل الذي يقول: (إن الله تعالى ينحصر في مكان) . إن أراد به أن الله تعالى لا ينحصر في جوف المخلوقات، وأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 لا يحتاج إلى شيء منها فقد أصاب، وإن أراد أن الله سبحانه وتعالى ليس فوق السموات، ولا هو مستو على العرش استواء لائقاً بذاته، وليس هناك إله يعبد، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله تعالى، فهذا جهمي فرعوني معطل. ومنشأ هذا الضلال أن يظن الظان أن صفات الرب سبحانه كصفات خلقه، فيظن أن الله تعالى على عرشه كالملك المخلوق على سريره، فهذا تمثيل وضلال، وذلك أن الملك مفتقر إلى سريره، ولو زال سريره لسقط، والله عز وجل غني عن العرش، وعن كل شيء، وكل ما سواه محتاج إليه، وهو حامل العرش وحملة العرش، وعلوه عليه لا يوجب افتقاره إليه، فإن الله تعالى قد جعل المخلوقات عالياً وسافلاً، وجعل العالي غنياً عن السافل، كما جعل الهواء فوق الأرض وليس هو مفتقر إليها، وجعل السماء فوق الهواء وليست محتاجة إليه، فالعلي الأعلى رب السموات والأرض وما فيهما أولى أن يكون غنياً عن العرش وسائر المخلوقات وإن كان عالياً عليه سبحانه عما يقول الظالمون علواً كبيراً. والأصل في هذا الباب أن كل ما ثبت في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجب التصديق به، مثل علو الرب، واستوائه على عرشه ونحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وأما الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات، مثل قول القائل: (هو في جهة، أو ليس في جهة، وهو متحيز، أو ليس متحيزاً) ، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس وليس مع أحد منهم نص لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين، هؤلاء لم يقل أحد منهم إن الله تعالى في جهة، ولا قال ليس هو في جهة، ولا قال هو متحيز، ولا قال ليس بمتحيز، بل ولا قال هو جسم أو جوهر، ولا قال ليس بجسم ولا بجوهر، فهذه الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب، ولا السنة، ولا الإجماع ... إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. وأما قوله: (وأيضاً لو جاز أن يشار إليه بالإشارة الحسية لجاز أن يشار إليه من كل نقطة من سطح الأرض، وحيث إن الأرض كرية يلزم أن يكون سبحانه محيطاً بها من جميع الجهات، وإلا ما صحت الإشارة إليه، ولما كان تعالى مستوياً على عرشه ومستقراً عليه كما تزعمه الوهابية كان عرشه محيطاً بالسموات السبع، فيلزمه من نزوله إلى السماء الدنيا وصعوده منها- كما تقول الوهابية –أن يصغر جسمه تعالى عند النزول، ويكبر عند الصعود، فيكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 متغيراً من حال إلى حال، تعالى الله عنه عما يقول الجاهلون) . فالجواب أن نقول: قد أشار إليه بالإشارة الحسية أعرف الخلق به بأصبعه رافعاً بها إلى السماء، بمشهد الجمع الأعظم، مستشهداً له، وهو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، وهو أعلم الناس بربه، وأعظم تنزيهاً له وتقديساً وتعظيماً. ولما كان هذا العراقي جهمياً معتزلاً، واعتقد أن الأرض إذا كانت كرية أنه يلزم أن يكون الله سبحانه محيطاً بها من جميع الجهات، وإلا ما صحت الإشارة إليه، وكلام العراقي يقتضي أن يكون الله تعالى تحت بعض خلقه، وإذا كان ذلك من كلامه مفهوماً فقد قال شيخ الإسلام في بعض أجوبته: وقد يظن بعض الناس أن ما جاءت به الآثار النبوية من أن العرش سقف الجنة، وأن الله على عرشه مع ما دلت عليه من أن الأفلاك مستديرة: متناقض أو مقتضٍ أن يكون الله تعالى تحت بعض خلقه، كما احتج بعض الجهمية على إنكار أن يكون الله تعالى فوق العرش باستدارة الأفلاك، وأن ذلك يستلزم كون الرب تعالى أسفل، وهذا من غلطهم في تصور الأمر، ومن علم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الأجسام المستديرة، بأن المحيط الذي هو السقف هو أعلا عليين، وأن المركز الذي هو باطن ذلك وجوفه، وهو قعر الأرض، وهو سجين وأسفل سافلين، علم بسبب مقابلة الله تعالى بين أعلى عليين، وبين سجين، مع أن المقابلة إنما تكون في الظاهر بين العلو والسفول، أو بين السعة والضيق، وذلك أن العلو مستلزم للسعة، والضيق مستلزم للسفول، وعلم أن السماء فوق الأرض مطلقاً، لا يتصور أن تكون تحتها قط، وإن كانت مستديرة محيطة، وكذلك كلما علا كان أرفع وأشمل. وعلم أن الجهة قسمان: قسم ذاني، وهو العلو والسفول فقط. وقسم إضافي، وهو ما ينسب إلى الحيوان بحسب حركته، فما أمامه يقال له أمام، وما خلفه يقال له خلف، وما عن يمينه يقال له اليمين، وما عن يساره يقال له اليسار، وما فوق رأسه يقال له فوق، وما تحت قدميه يقال له تحت، وذاك أمر إضافي، أرأيت لو أن رجلاً علق رجلاه إلى السماء ورأسه إلى الأرض، أليست السماء فوقه وإن قابلها برجليه، وكذلك النملة وغيرها لو مشى تحت السقف مقابلاً له برجليه وظهره إلى الأرض لكان العلو محاذياً لرجليه وإن كان فوقه، فأسفل سافلين ينتهي إلى جوف الأرض، والكواكب التي في السماء وإن كان بعضها محاذياً لرؤوسنا وبعضها في النصف الآخر من الفلك فليس شيء منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 تحت شيء، بل جميعها فوقنا في السماء. ولما كان الإنسان إذا تصور هذا يبقى إلى وهمه السفل الإضافي كما احتج به الجهمي الذي أنكر علو الله على عرشه، وخيل إلى من لا يدري أن من قال إن الله فوق العرش فقد جعله تحت نصف المخلوقات، أو جعله فلكاً آخر، تعالى الله عما يقول الجاهل: إنه لازم لأهل الإسلام من الأمور التي لا تليق بالله تعالى، ولا هي لازمة. وقال أيضاً1: واعلم أن العرش إن كان هذا الفلك التاسع، أو جسماً محيطاً به، أو كان فوقه من جهة وجه الأرض محيطاً به، أو قيل فيه غير ذلك، فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر، كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 7] . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض".   1 في الرسالة العرشية (مجموع الفتاوى 6/559-562) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أين الملوك أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ". وفي لفظ: ويتميل برسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفله شيء. وفي رواية أخرى قال: قرأ على المنبر {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية. قال: "مطوية في كفه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة "1. ففي هذه الأحاديث وغيرها المتفق على صحتها ما يعين أن السموات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمته عز وجل أصغر من أن تكون مع قبضه لها إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا حتى يدحوها كما تدحى الكرة. ثم قال في الجواب2: فما وصف الله تعالى من نفسه وأسمائه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه، ولم نتكلف علم ما سواه، فلا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف، وإذا كان كذلك فهو قادر على أن يقبضها ويدحوها كالكرة،   1 سبق تخريج الحديث ص 235 وما بعدها. 2 في الرسالة العرشية (مجموع الفتاوى 6/564) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وفي ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى، وإن شاء لم يفعل، وبكل حال فهو مباين لها ليس بمحايث لها. ومن المعلوم أن الواحد منا –ولله المثل الأعلى- إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها فأحاطت بها قبضته، وإن شاء لم يقبضها، بل جعلها تحته فهو في الحالين مباين لها، وسواء قدر أن العرش محيط بالمخلوقات كإحاطة الكرة بما فيها، أم قيل إنه فوقها وليس محيطاً بها كوجه الأرض الذي نحن عليها بالنسبة إلى جوفها، أو كالقبة بالنسبة إلى ما تحتها، أو غير ذلك، فعلى التقديرين يكون العرش فوق المخلوقات، والخالق سبحانه فوقه، والعبد في توجهه إليه عز وجل يقصد العلو دون التحت. ثم قال رحمه الله: وأما إذا قدر أنه ليس بكري1 الشكل، بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض، وأنه فوق الأفلاك الكرية، كما أن وجه الأرض الموضوع للأنام فوق نصف الأرض الكري، أو غير ذلك من التقادير التي يقدر فيها أن العرش فوق ما سواه2، فعلى كل تقدير لا يتوجه3 إلى الله تعالى إلا إلى العلو، مع كونه على عرشه، مبايناً لخلقه،   1 في الفتاوى: (كري) . 2 في الفتاوى زيادة: (وليس كري الشكل) . 3 في الفتاوى: (نتوجه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وعلى ما ذكرنا لا يلزم شيء من المحذور والتناقض، وهذا يزيل كل شبهة نشأت من اعتقاد فاسد، وهو أن يظن أن العرش إذا كان كرياً، والله تعالى فوقه، كما تقتضيه ذاته –سبحانه عن مشابهة المخلوقين- وجب فيما عند الزاعم أن يكون سبحانه كرياً، ثم يعتقد أنه إذا كان كرياً فيصح التوجه إلى ما هو كري كالفلك التاسع من جميع الجهات، وهذا خطأ، فإن القول بأن العرش كري لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها، وفي أقدارها، أو في صفاتها، بل قد تبين أنه سبحانه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده أصغر من الحمصة مثلاً في يد أحدنا، فإذا كانت الحمصة مثلاً في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك هل يتصور عاقل إذا استشعر علو1 الإنسان على ذلك وإحاطته به بأن يكون الإنسان كالفلك، فالله تعالى –وله المثل الأعلى- أعظم من أن يظن به ذلك، وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله حق قدره، والأرض جمعياً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون، وإن لم يكن كرياً فالأمر ظاهر مما تقدم. انتهى2.   1 في النسخ (على) بدل (علو) . 2 هو في الرسالة العرشية لابن تيمية –رحمه الله تعالى- (مجموع الفتاوى 6/581-583) بإسهاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 فصل في إنكار الملحد للنزول ... فصل وأما قول العراقي: (ولما كان تعالى مستوياً على عرشه ومستقراً عليه كما تزعمه الوهابية كان عرشه محيطاً بالسموات السبع، فيلزم من نزوله إلى السماء وصعوده منها -كما تقوله الوهابية- أن يصغر جسمه تعالى عند النزول، ويكبر عند الصعود، فيكون متغيراً من حال إلى حال، تعالى الله عما يقول الجاهلون) . فالجواب أن يقال: قد كان من المعلوم أن هذا الجهمي لا يعرف من صفات الخالق إلا ما يعرف من صفات المخلوقين، وأنه ما عرف الله حق معرفته، ولا قدره حق قدره، ولا عظمه حق عظمته، فلذلك نزهه عما يليق بجلاله وعظمته، وألزم من أثبت ما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله باللوازم التي لا تليق إلا بالمخلوق ولا تليق بالخالق، مما قد علم أهل العلم بالله أنها من أوضاع الجهمية والمعتزلة والفلاسفة والمتكلمين الذين هم ورثتهم، وذلك أن في أصول ضلالهم ظنهم أن هذا تنزيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 عن التشبيه، وأنهم متى وصفوا بصفة إثبات أو نفي كان فيه تشبيه بذلك، ولم يعلموا أن التشبيه المنفي عن الله أبعد مما كان وصفه بشيء من خصائص المخلوقين، أو أن يجعل شيء من صفاته مثل صفات المخلوقين، بحيث يجوز عليه ما يجوز عليهم، أو يجب له ما يجب لهم، أو يمتنع عليه ما يمتنع عليهم مطلقاً، فإن هذا هو التمثيل الممتنع منه المنفي بالعقل مع الشرع، فيمتنع عليه وصفه بشيء من النقائص، ويمتنع مماثلة غيره له في شيء من صفات الكمال، فهذان إجماع لما ينزه الرب تعالى عنه. فإذا عملت ذلك فالوهابية لا يقولون بشيء من هذه الأقوال ولا يعتقدونها، ولا يدينون الله بها، فإن جمهور أهل السنة يقولون: إنه ينزل ولا يخلو منه العرش، كما نقل ذلك عن إسحاق بن راهويه وحماد بن زيد، وغيرهما، ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته وهم متفقون على أن الله ليس كمثله شيء، وأنه لا يعلم كيف ينزل، ولا تمثل صفته بصفات خلقه، فلا يلزم الوهابية شيء من هذه اللوازم الباطلة، وقولهم واعتقادهم في ذلك قول أهل السنة والجماعة، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف، لأن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وصف نفسه فأبلغ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] ، فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه، وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة، وهذا الاطلاع كما شاء أن ينزل، وكما شاء أن يباهي، وكما شاء أن يطلع، وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهم فيه كيف وكيف. وإذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. فقل أنت: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء. وقال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة بن الماجشون، وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة، الذين هم: مالك بن أنس، وابن الماجشون، وابن أبي ذئب، وقد سئل عما جحدت الجهمية: أما بعد؛ فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتدبير، وكلت الألسن عن تفسير صفته، وانحسرت العقول دون معرفة قدرته، وردت عظمته العقول فلم تجد مساغاً فرجعت خاسئة وهي حسيرة، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير، وإنما يقال: لمن لم يكن مرة ثم كان، فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدئ، ومن لم يمت ولا يبلي، وكيف يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 لصفة شيء منه حداً أو منتهى يعرفه عارف، أو يحد قدره واصف، على أنه الحق المبين، لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه، الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه لا تكاد تراه صغراً يحول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر لما يتقلب به ويحتال من عقله، أعضل بك، وأخفى عليك، فأظهر من سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين. وخالقهم وسيد السادة وربهم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. اعرف –رحمك الله- غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه لعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها، إذ لم تعرف قدر ما وصف، فما تكلفك علم ما لم يصف، هل تستدل بذلك على شيء من طاعته، أو تنزجر به عن شيء من معصيته، فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقاً وتكلفاً قد استهوته الشياطين في الأرض حيران، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف به الرب، وسمى من نفسه، بأن قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا، فعمي عن البين بالخفي، ويجحد ما وصف الرب من نفسه بصمت الرب عما لم نسم1 منها، فلم يزل يملي   1 كذا، ولعل الصواب: (يسم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] ، فقال: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه، ونظرته إياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينظرون ... إلى أن قال: وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة، لأنه قد عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا قبل ذلك مؤمنين به، وكان له جاحداً، وقال المسلمون: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا. قال: "فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ " قالوا: لا. قال: "فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول" قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض". وقال لثابت بن قيس: "لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة". وقال فيما بلغنا: "إن الله تعالى ليضحك من أزلكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وقنوطكم وسرعة إجابتكم". فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال: "نعم". قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً. في أشباه لهذا مما لا نحصيه. وقال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] ، وقال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] ، وقال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ:75] ، وقال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] ، فوالله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه، وما تحيط به قبضته، إلا صغر نظرها منهم عندهم، إن ذلك الذي ألقى في روعهم، وخلق على معرفته قلوبهم، فما وصف الله من نفسه فسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه، ولم نتكلف منه صفة ما سواه، لهذا ولهذا لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف. اعلم –رحمك الله- أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك، ولا تجاوز ما حد لك، فإن من قوام الدين معرفة المعروف، وإنكار المنكر، فما بسطت عليه المعرفة، وسكنت إليه الأفئدة، وذكر أصله في الكتاب والسنة، وتوارثت علمه الأمة، فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف عن نفسه عيباً، ولا تكلفن لما وصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 لك من ذلك قدراً، وما أنكرته نفسك، ولم تجد ذكره في كتاب ربك، ولا في حديث عن نبيك من ذكر صفة ربك، فلا تتكلفن علمه بعقلك، ولا تصفه بلسانك، واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه كإنكارك ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه، فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها. فقد والله عز المسلمون الذي يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر، يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه، وما يبلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته قلب مسلم، ولا يتكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن. وما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه، فهو بمنزلة ما سمى ووصف الرب تعالى من نفسه، والراسخون في العلم الواقفون حيث انتهى علمهم، الواصفون لربهم ما وصف من نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها، لا ينكرون صفة ما سمى منها جحداً، ولا يتكلفون وصفه مما لم يسم تعمقاً، لأن الحق ترك ما ترك، وتسمية ما سمى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1   1 في ط الرياض: (ومن يتبع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 [النساء:115] . وهب الله لنا ولكم حكماً وألحقنا بالصالحين. قال شيخ الإسلام: وهذا كله كلام ابن الماجشون الإمام، فتدبره وانظر كيف أثبت الصفات، ونفي علم الكيفية، موافقاً لغيره من الأئمة، وكيف أنكر على من نفى الصفات بأنه يلزمهم من إثباتها كذا وكذا، كما تقوله الجهمية: إنه يلزم أن يكون جسماً أو عرضاً فيكون محدثاً. انتهى. فتحصل لنا مما ذكره أئمة الإسلام، وقدوة الأنام، أن هذا الملحد جهمي معتزلي، وهذا يكفي العاقل من ضلاله وعتوه، وخروجه عن الصراط المستقيم، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فصل في تأويل الملحد للإشارة والمعراج ... فصل قال العراقي: (وأما ما تمسكت به الوهابية من النقول التي تثبت الإشارة إليه تعالى فهي ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات، فتؤول إما إجمالاً، ويفوض تفصيلها إلى الله كما عليه أكثر السلف، وإما تفصيلاً كما هو رأي الأكثرين، فما ورد من الإشارة إليه في السماء محمول على أنه تعالى خالق السماء، وأن السماء مظهر قدرته لما اشتملت عليه من العوالم العظيمة التي لم تكن أرضنا الحقيرة إلا ذرة بالنسبة إليها، وكذلك العروج إليه تعالى هو بمعنى العروج إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات فيه، إلى غير ذلك من التأويلات) . فالجواب أن نقول: قد كان من المعلوم أن طريقة الوهابية التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، وأقواله سلف الأمة وأئمتها، فيثبتون ما أثبته الله ورسوله، وينفون ما نفاه الله ورسوله، ولا يعتقدون صواب ما ذهب إليه المتكلمون من تأويل آيات الصفات وأحاديثها، حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 قالوا إن نصوص الكتاب والسنة ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات، وما أشبه ذلك من التمويهات. وهذا الضرب من الناس هم الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وإذا كان أدلة الكتاب والسنة ظواهر ظنية لا تعارض العقليات اليقينية فهلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الدهر أو أحد من سلف الأمة: إن هذه الآيات والأحاديث ظواهر ظنية، فلا تعتقدوا ما دلت عليه، ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه عقولكم ومقاييسكم، أو أولوها بكذا وكذا فإنه الحق، وما خالفه ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، وانظروا فيما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه، لأن العقل مقدم على النقل إذ هو أصله؟! ثم كيف يجوز أن يقال في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يعلم زيد وعمرو بعقله أنه باطل، وأن يكون كل من اشتبه عليه شيء مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قدم رأيه على نص الرسول صلى الله عليه وسلم في أنباء الغيب، وما أخبر به عن ربه، وما وصف به من صفات كماله ونعوت جلاله، بمجرد رأيه بدون الاستهداء بهدي الله، والاستضاءة بنور الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، مع علم كل أحد بقصوره، وتقصيره في هذا الباب، وبما وقع فيه الأكثرون من الاضطراب، ففي الجملة النصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول قط، ولا يعارضها إلا ما فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 اشتباه واضطراب، وما علم أنه حق لا يعارضه ما فيه اضطراب واشتباه لم يعلم أنه حق، بل نقول قولاً عاماً كلياً: إن النصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعارضها قط صريح معقول فضلاً عن أن يكون مقدماً عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات مبناها على معان متشابهة، وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبة سوفسطية لا براهين عقلية. ثم كيف تكون أدلة كتاب الله وسنة رسوله ظواهر ظنية، وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي1 رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتن" قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس2 به الألسن، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبة، ولا يشبع منه العلماء ". وفي رواية: "ولا تختلف به الآراء، هو   1 في جميع النسخ: "عن عمار"، والصواب: أن الحديث من مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 2 في ط: المنار والرياض: "تلبس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} ، ومن قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم" 1.   1 أخرجه الترمذي في سننه –أبواب ثواب القرآن- باب ما جاء في فضل القرآن 8/112-113 ط استانبول. من طريق حمزة الزيات عن أبي المختار الطائي عن ابن أبي الحارث الأعور عن الحارث ... عن علي ... به. وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وإسناده مجهول. وفي الحارث مقال اهـ. قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن: لم ينفرد به حمزة الزيات، فقد رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب عن الحارث، فبرئ حمزة من عهدته، على أنه وإن كان ضعيفاً الحديث فإنه إمام في القرآءة. والحديث مشهور من رواية الحارث وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد وهم بعضهم في رفعه. وهو كلام حسن صحيح، على أنه قد روي له شاهد عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم اهـ. وذكر ابن الأثير في جامع الأصول عن عمر بن الخطاب قال: نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنها ستكون فتن. قال: "فما المخرج منها يا جبريل"، قال ... فذكره نحوه. قال ابن الأثير: أخرجه رزين. اهـ. قال الشيخ الإمام محدث العصر العلامة محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى: هذا حديث جميل المعنى، ولكن إسناده ضعيف، فيه الحارث الأعور، وهو لين، بل اتهمه بعض الأئمة بالكذب، ولعل أصله موقوف على علي رضي الله عنه فأخطأ الحارث فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم اهـ من تعليقه على الطحاوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وهذا الملحد يقول: إن لأدلة الكتاب والسنة ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات، واليقينيات عنده نحاتة أفكار الفلاسفة، وفروخ اليونان، وورثة المجوس، وزبالة أذهانهم. فالحمد لله الذي أخذ بنواصي الوهابية فلم يسكلوا طريقة هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، بل سلك بهم طريقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلف الأمة وأئمتها، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه أحد من خلقه. قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى في "إغاثة اللهفان": ومن حيله ومكايده الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التي هي زبالة الأذهان، ونحاتة الأفكار، والزبد الذي تقذف به القلوب المظلمة المتحيرة التي تعدل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، قد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانت عليها غيوم الخيالات، فركبها القيل والقال، والشك والتشكيك، وكثرة الجدال، ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 [الأنعام: 112] ، فقد اتخذوا لأجله ذلك القرآن مهجوراً، وقالوا من عند أنفسهم منكراً من القول وزوراً، فهم في شكهم يعمهون، وفي حيرتهم يترددون، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال فهم إليه محاكمون، وبه مخاصمون، فارقوا الدليل {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] . ومن كيده بهم وتحيله على إخراجهم من العلم والدين: أن ألقى على ألسنتهم أن لكلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين، وأوحى إليهم أن القواطع العقلية، والبراهين اليقينية، في المناهج الفلسفية والطرق الكلامية، فحال بينهم وبين اقتباس الهدي واليقين من مشكاة القرآن، وأحالهم على منطق يونان، وعلى ما عندهم من الدعاوى الكاذبة العرية عن البرهان، وقال لهم: تلك علوم قديمة صقلتها العقول والأذهان، ومرت عليها القرون والأزمان، فانظر كيف تلطف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان كما أخرج الشعرة من العجين. انتهى1.   1 1/187-188 ط المكتب الإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وأما قوله: (فتؤول إما إجمالاً ويفوض تفصيلها إلى الله تعالى كما عليه أكثر السلف) . فالجواب أن نقول: قد أجاب عن هذا الكلام شيخ الإسلام قدس الله روحه، فقال: ثم الكلام في هذا الباب عنهم أكثر من أن يمكن تسطيره في هذه الفتوى وأضعافها، يعرف ذلك من طلبه وتتبعه، ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم من السابقين، كما يقوله بعض الأغبياء ممن لا يعرف قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها: من أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم. فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف، إنما أوتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] . وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المعروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، وغرائب اللغات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالات التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف. وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى، وهي التي يسمونها طريقة السلف، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع التكلف، وهي التي يسمونها طريقة الخلف، فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بيّنات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلام عن مواضعه. فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين الكاذبتين، وكانت النتيجة استجهال السابقين، واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوماً أميين بمنزلة الصالحين العامة، لم يتجردوا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله –إلى أن قال-: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة له خبر، ولم يقفوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين والمهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى، ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب وبه نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف، وبواطن الحقائق، وبما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة؟ ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة -لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته- من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين، وأشكالهم وأشباههم، أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن. –وذكر كلاماً طويلاً- إلى أن قال: فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 للصفات الثابتة في الكتاب والسنة من هذه العبارات ونحوها دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصاً وإما ظاهراً فكيف يجوز على الله ثم على رسوله، ثم على خير الأمة، أنهم يتكلمون دائماً بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط، ولا يدلون عليه لا نصاً ولا ظاهراً، حتى يجيء أنباط فارس والروم وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف أو فاضل أن يعتقدها؟ لئن كان1 ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب، وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة ضرراً محضاً في أصل الدين، فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء أنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل وما يستحقه من الصفات نفياً وإثباتاً من الكتاب، ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقاً له من الصفات فصفوه به، سواء كان موجوداً في الكتاب والسنة،   1 في جميع النسخ: (لأن كل) ، والتصويب من الفتوى الحموية لابن تيمية رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 أو لم يكن موجوداً، وما لم تجدوه مستحقاً له في عقولكم فلا تصفوه به. ثم هم ههنا فريقان أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه، ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافاً أكثر من جميع الاختلاف على وجه الأرض فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنه الحق الذي تعبدتكم به، وما كان مذكوراً في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا أو يثبته ما لم تدركه عقولكم على طريقة أكثرهم فاعلموا أني امتحنتكم بتنزيله1 لا لتأخذوا الهدى منه، لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، وأن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله مع نفي دلالته على شيء من الصفات. هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين ... إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. وقال أيضاً في "موافقة العقل الصحيح للنقل الصريح": وهؤلاء الذين يعارضون الكتاب والسنة بأقوالهم بنوا أمرهم على أصل فاسد: وهو أنهم جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها هي الأقوال المحكمة التي جعلوها أصول دينهم،   1 في النسخ: أني أمتحنكم لا لتعلموا بتنزيله ولا لتأخذوا الهدي منه والمثبت من الحموية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وجعلوا قول الله ورسوله من المجمل الذي لا يستفاد منه علم ولا هدى، فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم، والمحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه، كما جعل الجهمية من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم ما أحدثوه من الأقوال التي نفوا بها صفات الله، ونفوا بها رؤيته في الآخرة، وعلوه على خلقه، وكون القرآن كلامه، ونحو ذلك، جعلوا تلك الأقوال محكمة، وجعلوا قول الله ورسوله مؤولاً أو مردوداً، أو غير ملتفت إليه، ولا متلقى للهدى منه، فتجدهم يقولون: ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا له كم ولا كيف، ولا تحله الأعراض والحوادث، ونحو ذلك، وليس بمباين للعالم، ولا خارج عنه ... إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. وسيأتي الكلام على مسألة التفويض وبطلان قول من زعم أن هذه طريقة السلف. وبما ذكرناه هنا من كلام أهل العلم يتبين لكل منصف بطلان تأويل هذا الملحد بقوله: (فما ورد من الإشارة إليه في السماء محمول على أنه تعالى خالق السماء، أو أن السماء مظهر قدرته، لما اشتملت عليه من العوالم العظيمة التي لم تكنأرضنا الحقيرة إلا ذرة بالنسبة إليها، وكذلك العروج إليه تعالى هو بمعنى العروج إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات فيه) . إلى غير ذلك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 التأويلات، وأنه بهذا قد خرج عن سبيل المؤمنين، وانتحل طريقة المتكلمين، الذين ليس لهم قدم صدق في العالمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم من العجب أنه يدعي تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرمي الوهابية المعظمين له في الحقيقة بالتنقص للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهضمه أعظم الهضم، وأشد التنقص: بزعمه أنه لم يعرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى1 الله بذاته إلى أن2 وصل فوق السماء السابعة، ورأى من آيات ربه الكبرى ما رأى، وأنه ما زاغ منه البصر وما طغى، لكماله عليه الصلاة والسلام، فلله الحمد على ما من به من الإيمان بالله، وبما أخبر به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بالله وبنعوت جلاله وعظمته.   1 في ط الرياض: "إلى أن الله". 2 سقطت: "أن" من ط الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 فصل في تأليه الملحد للعقل، وزعمه أن النقل يؤدي إلى الضلال ... فصل قال العراقي: (الوهابية ونبذها للعقل: لما كان صريح العقل، وصحيح النظر، مصادماً كل المصادمة لما اعتقدته الوهابية، اضطروا إلى نبذهم العقل جانباً، وأخذهم بظواهر النقل فقط، وإن نتج منه المحال، ونجم عنه الغي والضلال، فاعتقدوا متمسكين بظواهر الآيات أن الله تعالى ثبت على عرشه وعلاه علواً حقيقياً، وأن له تعالى وجهاً ويدين، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، ويصعد نزولاً وصعوداً حقيقيين، وأنه يشار إليه في السماء إشارة حسية بالأصبع، إلى غير ذلك مما يؤول1 إلى التجسيم البحت تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. فالوهابية التي تسمي زائري القبور عباد الأوثان، إنما هي قد عبدت الوثن، حيث إنها جعلت معبودها جسماً كالحيوان، جالساً على عرشه، ينزل ويصعد، نزولاً وصعوداً حقيقيين، وله وجه ويد ورجل وأصابع حقيقة، مما يتنزه عنه المعبود الحق، وإذا رد عليهم بالبراهين العقلية، وأثبت لهم أن   1 في النسخ الثلاث: "يؤل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ذلك مناف للألوهية عند العقل، قالوا في الجواب: لا مجال للعقل الحقير البشري في مثل هذه الأمور التي طورها فوق طور العقل. فأشبهوا في ذلك النصارى في دعوى التثليث، فإنك إذا سألتهم قائلاً: كيف يكون الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة؟ قالوا: إن معرفة هذا فوق طور العقل، ولا يجوز إعمال الفكر في ذلك) . والجواب أن يقال: نعم، لما كان صريح العقل من هؤلاء الملاحدة وصحيح النظر منهم على ما زعموه مصادماً كل المصادمة لما اعتقدته الوهابية من التمسك بصريح الكتاب، وصحيح السنة وصريحها، والسلوك على طريقة سلف الأمة وأئمتها، نبذوا ما جاءت به عقول هؤلاء الملاحدة من نحاتة الأفكار، وزبالة الأذهان، وريح المقاعد، وراء ظهورهم، ولم يلتفتوا إلى ما موهوا به من هذه الشبهات التي زعموا أنها عقليات ويقينيات، فاعتقدوا متمسكين بنصوص الكتاب والسنة: أن الله تعالى على عرشه، وعلا عليه علواً حقيقياً، وأن الله تعالى له وجه ويدان، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، ويصعد نزولاً وصعوداً حقيقيين على ما يليق بعظمته وجلاله وعظيم سلطانه، كما يشاء أن ينزل وكما يشاء أن يصعد، وأنه يشار إليه في السماء إشارة حسية بالأصبع، كما أشار إليه أعرف الخلق به، بأصبعه رافعاً إلى السماء، بمشهد الجمع الأعظم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 مستشهداً له لا للقبلة، إلى غير ذلك مما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، لأن ذلك ليس بمستحيل في العقول الصحيحة، الموافقة لصريح المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم، [ونحن نعلم بضرورة العقل أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول، بل بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتقاده، بل يخبرون بمعجز العقل عن معرفته] 1. وأما قوله: (مما يؤول إلى التجسيم البحت) . فنقول: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] ، وأما من أثبت لله ما أثبته لنفسه فذلك لا يؤول2 إلى التجسيم، فإن القرآن قد دل على أنه ليس بجسم لأنه أحد، والأحد الذي لا ينقسم، وهو واحد والواحد لا ينقسم، وهو صمد والصمد الذي لا جوف له فلا يتخلله غيره، وإنما يؤول3 إلى التجسيم. من قال إن له وجهاً كوجهي، ويدين كيدي، مما يماثل صفات المخلوقين، أو يشبهها بصفاتهم. بل نحن على مذهب السلف أهل السنة المحضة،   1 ما بين المعقوفين سقط من الأصل، ولعل الصواب: (بما يعجز) . 2 في النسخ الثلاث: "يؤل". 3 في النسخ الثلاث: "يؤل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ونقول: إن الله تعالى فوق عرشه حقيقة، مع نفي اللوازم التي يلزم بها أعداء الله ورسوله أهل الحق، وهي لا تلزم لا بعقل ولا بنقل، وقد تقدم الكلام على ذلك. وأما قوله: (فأما الوهابية التي تسمي زائري القبور عباد الأوثان، إنما هي عبدت الوثن، حيث إنها جعلت معبودها جسماً كالحيوان، جالساً على عرشه، ينزل ويصعد، نزولاً وصعوداً حقيقيين، وله وجه ويد ورجل وأصابع حقيقية، مما ينزه عنه المعبود الحق) . فنقول: ما جعلت الوهابية زائري القبور مطلقاً عباد الأوثان -ومعاذ الله من ذلك- وإنما جعلت الوهابية من أشرك بالله في عبادته غيره عابداً للوثن سواء زار القبور أو قعد في بيت أمه. وذلك بأن يدعوه مع الله، أو يرجوه، أو يخافه، أو يحبه كمحبة الله، أو يستغيث به، أو يلتجئ إليه في رفع كربة أو كشف ملمة، أو يطلب منه جلب منفعة، أو يذبح له، أو ينذر له، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي هي مختصة بالله، فمن أشرك بالله فيها أحداً من خلقه نبياً أو ملكاً أو ولياً أو صالحاً أو شجراً أو حجراً فهو مشرك بالله في عبادته غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وقوله: (إنما هي قد عبدت الوثن، حيث إنها جعلت معبودها جسماً) .. إلى آخره. فأقول: قد تقدم نفي الجسمية عن الله تعالى، والوهابية ما عبدت إلا إلهاً واحداً، أحداً صمداً لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. ولا تعقل إلهاً أحداً صمداً ليس على السماء فوق العرش، بائناً من خلقه، ولا وجه له ولا يدين، ولا ينزل إلى سماء الدنيا، ولا يصعد، ولا يشار إليه في السماء، وإنما تعقل إلهاً موجوداً واحداً فوق سماواته بجميع أسمائه وصفاته ونعوت جلاله. وأنتم إنما معبودكم العدم المحض، ولا تثبتون إلا إلها مقدراً في الأذهان لا حقيقة في الخارج، فتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وأما كونه جالساً على عرشه، فقد جاء الخبر بذلك. قال الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" في الرد على الجهمية، قال: حدثني أبي، وعبد الأعلى بن حماد النرسي1، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة،   1 انظر التعليق ص 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 عن عمر رضي الله عنه قال: "إذا جلس ربنا تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد". وقد تقدم بيان ذلك، فنصدق بما قاله الله ورسوله، وبما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، وأهل السنة والجماعة من أهل الحديث وغيرهم من الأئمة المقتدين، والسادة المعظمين، قد وصفوا الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، فهم عند هذا الملحد الضال قد عبدوا وثناً بهذه اللوازم التي ابتدعها قدماء الفلاسفة، وورثتهم من المتكلمين الخارجين عن سبيل المؤمنين، فلعنة الله على الظالمين. ثم قال الملحد: (وإذا رد عليهم بالبراهين العقلية، وأثبت لهم أن ذلك مناف للألوهية عند العقل، قالوا في الجواب: لا مجال للعقل الحقير البشري في مثل هذه الأمور التي طورها فوق طور العقل، فأشبهوا في ذلك النصارى في دعوى التثليث..) إلى آخره. والجواب أن يقال: إن هذه البراهين التي تزعمون أنها عقلية إنما هي شبه خيالية مبناها على معان متشابهة وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أنها شبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 سوفسطائية لا براهين يقينية عقلية، ودعواه أن من نفاها قد شابه في ذلك النصارى. والنصارى عليهم لعنة الله، إنما نزعوا إلى ما نزعوا إليه من أمر التثليث إنما هو بمجرد عقولهم ونتائج قياساتهم وتركهم ما أنزله الله في كتبه على ألسنة رسله وبغلوهم في أنبيائهم كما غلوتم أنتم في الأنبياء والأولياء والصالحين، فأنتم الذين أشبهتم النصارى في دعوى التثليث، فإنهم إنما أثبتوا ذلك بمجرد معقولاتهم ونتائج قياساتهم وقدموا حكم العقل على النقل الذي أنزله الله في كتبه وعلى ألسنة رسله، وأنتم نفيتم ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله من إثبات صفات كماله ونعوت جلاله بمجرد معقولاتكم ونتائج قياساتهم ونبذتم كتاب الله وسنة رسوله وراء ظهوركم، وزعمتم أن نصوص الكتاب والسنة ظواهر لا تفيد اليقين وإنما يقيد اليقين نتائج عقول الملاحدة التي هي نحانة الأفكار وزبالة الأذهان وريح المقاعد، فمن أشباه النصارى حينئذ إن كنتم تعلمون؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 فصل في زعم الملحد تقديم العقل لأنه الأصل ... فصل ثم قال العراقي: (لا ريب أنه إذا تعارض العقل والنقل أوِّل1 النقل بالعقل، إذ لا يمكن حينئذ الحكم بثبوت مقتضى كل منهما، لما يلزم عنه من اجتماع النقيضين، ولا بانتفاء2 ذلك لاستلزامه ارتفاع النقيضين، لكن بقي أن يقدم النقل على العقل، أو العقل على النقل، والأول باطل؛ لأنه إبطال للأصل بالفرع وإيضاحه: أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل، وذلك لأن إثبات الصانع، ومعرفة النبوة، وسائر ما يتوقف صحة النقل عليه لا يتم إلا بطريق العقل، فهو أصل للنقل الذي تتوقف صحته عليه، فإذا قدم على العقل وحكم بثبوت مقتضاه وحده، فقد أبطل الأصل بالفرع، ويلزم منه إبطال الفرع أيضاً، إذ تكون حينئذ صحة النقل متفرعة على حكم العقل الذي يجوز فساده وبطلانه، فلا يقطع بصحة النقل، فلزم من تصحيح النقل بتقديمه على العقل   1 في ط الرياض: "أو". 2 في ط الرياض: "بانتقاء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 عدم صحته، وإذا كان تصحيح الشيء منجراً1 إلى إفساده كان مناقضاً لنفسه، فكان باطلاً، فإذا لم يمكن تقديم النقل على العقل بالدليل السابق، فقد تعين2 تقديم العقل على النقل، وهو المطلوب) . والجواب أن نقول: إذا تعارض النقل والعقل، وجب تقديم النقل، لأن العقل مصدق للنقل في كل ما أخبر به، والنقل لم يصدق العقل في كل3 ما أخبر به، ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل، فالواجب رد ما اشتبه4 إلى نصوص الكتاب والسنة، ولا يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة، أو بقول من يقول العقل يشهد بضد ما دل عليه النقل، والعقل أصل النقل، فإذا عارضه قدمنا العقل، وهذا لا يكون قط، لكن إذا جاء ما يوهم مثل ذلك، فإن كان النقل صحيحاً فذلك الذي يدعي أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك، وإن كان النقل غير صحيح، فلا يصلح للمعارضة، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبداً، ونعارض5 كلام من يقول ذلك بنظره6. فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل،   1 في ط الرياض: "منجزاً". 2 في ط الرياض: "يعين". 3 في ط الهند: "كلما". 4 في ط الرياض: "ما أثبته". 5 في ط الرياض: "وتعارض". 6 هو في: موافقة صريح المعقول 1/116 بنحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع، لأن العقل قد دل على صحة السمع، ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل، لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه، وهذا بين واضح، فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يلزم أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل، فالواجب كمال التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولاً، أو نحمله بشبهة أو شك، أو نقدم عليه آراء الرجال، وزبالة أذهانهم. وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو: أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي يمكنه أن يصير1   1 في الأصل: "أن لا يصير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 عالماً، ولا يمكن العالم أن يصير نبياً رسولاً، فإذا عرف العامي المقلد عالماً فدل عليه عامياً آخر، ثم اختلف المفتي والدال، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي دون الدال، فلو قال الدال: الصواب معي دون المفتي، لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفتٍ، فلزم القدح في فرعه. فيقول له المستفتي: أنت لما شهدت له بأنه مفت، ودللت عليه، شهدت له بوجوب تقليده دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين لا يستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك؛ لأنه مفت. هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطئ1، والعقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى لا يجوز عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له، والانقياد لأمره. وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول: هذا القرآن الذي تلقيه علينا، والحكمة التي جئتنا بها، قد تضمنت كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان ذلك قدحاً فيما علمنا به صدقك، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنه لا   1 في ط الرياض: "يخطأ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 نتلقى منه هدياً ولا علماً، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمناً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرض منه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا، بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن يؤمن بشيء مما جاء به الرسول، إذ العقول متفاوتة والشبهات كثيرة، والشياطين لا تزال تلقي الوسواس في النفوس، فيمكن كل أحد أن يقول مثل هذا في كل ما أخبر به الرسول وما أمر به. وقد قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة: 99] ، وقال: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35] . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4]- {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] – {حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف: 1-2]- {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1] – {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] – {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] . ونظائر ذلك كثيرة في القرآن، فأمر الإيمان بالله واليوم الآخر إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الحق أم لا. الثاني: باطل، وإن كان قد تكلم على الحق بألفاظ مجملة محتملة فبلغ البلاغ المبين، وقد شهد له خير القرون بالبلاغ، وأشهد الله عليهم بالموقف الأعظم، فمن يدع أنه في أصول الدين لم يبلغ البلاغ المبين فقد افترى عليه صلى الله عليه وسلم. [وفي المعلوم بالاضطرار أن عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق، فلو وزن عقله بعقولهم لرجحها، وقد أخبر الله أنه قبل الوحي لم يكن يدري الإيمان، كما لم يكن يدري الكتاب، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] . وقال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى. وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 6-8] وتفسير هذه الآية بالآية التي في آخر سورة الشورى. فإذا كان أعقل الخلق على الإطلاق إنما حصل له الهدى بالوحي؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ:50] فكيف يحصل لسفهاء العقول، وأخفاء الأحلام: الاهتداء إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم، دون نصوص الوحي، حتى اهتدوا بتلك الهداية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 إلى المعارض بين العقل ونصوص الأنبياء {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} [مريم:89-90] 1. وقد سئل شيخ الإسلام عن مثل ما أورده هذا الملحد فقال: قول السائل: (وإذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الظواهر2 النقلية، والقواطع العقلية، أو نحو ذلك من العبارات، فإما أن يجمع بينهما، وهو محال، لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يردا3 جميعاً، وإما أن يقدم السمع، وهو محال لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فوجب تقديم العقل ثم النقل، إما أن يتأول وأما أن يفوض، وإما إذا تعارضاً تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما ولم يمتنع ارتفاعهما) . قال رحمه الله تعالى: وهذا الكلام قد جعله الرازي وأتباعه قانوناً كلياً فيما يستدل به من كتب الله، وكلام أنبيائه، وما لا يستدل به، ولهذا ردوا الاستدلال بما جاءت   1 ما بين المعقوفين سقط من ط الهند. 2 في ط الهند: "الظاهر". 3 في ط الهند: "يردان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 به الأنبياء والمرسلون -صلوات الله وسلامه عليهم- في صفات الله تعالى، وغير ذلك من الأمور التي أنبأوا بها، وظن هؤلاء أن العقل يعارضها، وقد يضم بعضهم إلى ذلك أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين.. إلى أن قال: ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع1 كل فريق لأنفسهم قانوناً فما جاءت بها الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعاً، فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه. وهذا يشبه ما وضعه النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص2 التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء، أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل، كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد، وإما في المتن، وأما هؤلاء فقد وضعوا قوانينهم على ما رأوه3 بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي4 والعقل، فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء، لكن النصارى يشبههم   1 في ط الهند: "يصنع". 2 سقطت: "نصوص" من ط الرياض. 3 في ط الرياض: "ما رواه". 4 في ط الهند: "الري". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص، أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول صلى الله عليه وسلم، كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم، بخلاف بدعة الجهمية، والفلاسفة، فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء. ثم ذكر طريقة أهل التبديل وطريقة أهل التجهيل، وطريقة أهل التحريف والتأويل، وقد تقدم منه طرفاً إلى أن قال: وإجماع الأمر أن الأدلة نوعان: شرعية وعقلية. فالمدعون لمعرفة الإلهيات بعقولهم، من المنتسبين إلى الحكمة والكلام والعقليات، يقول من يخالف نصوص الأنبياء منهم: إن الأنبياء لم يعرفوا الحق الذي عرفناه، أو يقولون: عرفوه ولم يبينوه للخلق كما بيناه، بل تكلموا بما يخالفه من غير بيان منهم. والمدعون للسنة والشريعة واتباع السلف من1 الجهال بمعانبي النصوص2 يقولون: إن الأنبياء –والسلف الذين اتبعوا الأنبياء- لم يعرفوا معاني هذه النصوص التي   1 "من" وضعتها من: درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام 1/19 ط الشيخ محمد رشاد سالم رحمه الله تعالى. 2 في "الدرء": "نصوص الأنبياء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 قالوها والتي بلغوها عن الله، أو إن1 الأنبياء عرفوا معانيها ولم يبينوا مرادهم للناس، فهؤلاء الطوائف قد يقولون: نحن عرفنا الحق بعقولنا، ثم اجتهدنا في حمل كلام الأنبياء على ما يوافق مدلول العقل، وفائدة إنزال هذه المتشابهات المشكلات اجتهاد الناس في أن يعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدون في تأويل كلام الأنبياء الذين لم يبينوا به مرادهم، أو أنا عرفنا الحق بعقولنا، وهذه النصوص لم تعرف الأنبياء معناها، كما لم يعرفوا وقت الساعة، ولكن أمرنا بتلاوتها من غير تدبر لها، ولا فهم لمعانيها، أو يقولون: هذه الأمور لا تعرف بعقل ولا نقل، بل نحن منهيون عن معرفة العقليات، وعن فهم السمعيات، وأن الأنبياء وأتباعهم لا يعرفون العقليات، ولا يفهمون السمعيات، ثم ذكر كلاماً طويلاً لا يحتمله هذا الموضع، ثم قال: والمقصود هنا الكلام على قول القائل: (إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية ... ) إلى آخره كما تقدم. والكلام على هذه الجملة بني على ما في مقدمتها من التلبيس، فإنها مبنية على مقدمات: أولها: ثبوت تعارضهما.   1 "إن" وضعتها من: درء تعارض العقل والنقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 والثانية: انحصار التقسيم فيما ذكره من الأقسام الأربعة. والثالثة: بطلان الأقسام الثلاثة. والمقدمات الثلاث باطلة. وبيان ذلك بتقديم أصل وهو أن يقال: إذا قيل: تعارض دليلان، سواء كانا سمعيين أو عقليين، أو أحدهما سمعياً والآخر عقلياً، فالواجب أن يقال: لا يخلو إما1 أن يكونا قطعيين، أو يكونا ظنيين، وإما أن يكون أحدهما قطعياً والآخر ظنياً. فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما: سواء كانا2 عقليين أو سمعيين، أو أحدهما عقلياً والآخر سمعياً، وهذا متفق عليه بين العقلاء، لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله، ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة. وحينئذ فلو تعارض دليلان قطعيان، وأحدهما يناقض مدلول الآخر، للزم3 الجمع بين النقيضين، وهو محال، بل كل ما يعتقد تعارضه من الدلائل التي يعتقد أنها قطعية، فلا بد من أن يكون الدليلان أو أحدهما غير قطعي، أو أن   1 سقطت: "أما" من ط الهند. 2 في ط الهند: "كان". 3 في ط الرياض: "لزم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 لا يكون مدلولاهما1 متناقضين، فأما مع2 تناقض المدلولين المعلومين فيمتنع تعارض الدليلين. وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعياً دون الآخر، فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء، سواء كان هو السمعي أو العقلي، فإن الظن لا يدفع اليقين. وإما إن كانا جميعاً ظنيين: فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما، فأيهما ترجح كان هو المقدم، سواء كان سمعياً أو عقلياً. ولا جواب عن هذا، إلا أن يقال: الدليل السمعي لا يكون قطعياً، وحينئذ فيقال: هذا مع كونه باطلاً فإنه لا ينفع، فإنه على هذا التقدير يجب تقديم القطعي لكونه قطعياً لا لكونه عقلياً، ولا لكونه أصلاً للسمع، وهؤلاء جعلوا عمدتهم في التقديم كون العقل هو الأصل للسمع، وهذا باطل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. وإذا قدر أنه لم يتعارض قطعي وظني، لم ينازع عاقل في تقديم القطعي، لكن كون السمعي لا يكون3 قطعياً دونه خرط القتاد.   1 في ط الرياض: "مدلولهما". 2 سقطت "مع" من ط الهند. 3 سقطت "لا يكون" من ط الهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وأيضاً فإن الناس متفقون على أن كثيراً مما جاء به الرسول معلوم بالاضطرار من دينه، كإيجاب1 العبادات، وتحريم الفواحش، والظلم وتوحيد الصانع، وإثبات المعاد، وغير ذلك. وحينئذ فلو قال قائل: إذا قام الدليل القطعي على مناقضة هذا فلا بد من تقديم أحدهما، فلو قدم هذا السمعي قدح في أصله، وإن قدم العقلي لزم تكذيب الرسول فيما علم بالاضطرار أنه جاء به، وهذا هو الكفر الصريح، فلا بد لهم من جواب عن هذا. والجواب عنه: أنه يمتنع أن يقوم عقلي قطعي يناقض هذا. فتبين أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي. ومثل هذا الغلط2 يقع فيه كثير من الناس، يقدرون تقديراً يلزم منه لوازم، فيثبتون تلك اللوازم، ولا يهتدون لكون ذلك التقدير ممتنعاً، والتقدير3 الممتنع قد يلزمه لوازم ممتنعة، كما في قوله تعالى: {لَوْ   1 في ط الهند "كإيجاب كإيجاب". 2 في النسخ "اللفظ"، والمثبت من: درء تعارض العقل والنقل 1/80. 3 في ط الرياض: "والتقديم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ثم ذكر كلاماً إلى أن قال: وبه يتبين أن إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي، والجزم بتقديم العقلي، معلوم الفساد بالضرورة، وهو خلاف ما اتفق عليه العقلاء. وحينئذ فنقول: الجواب من وجوه: أحدها: أن قوله: (إذا تعارض النقل والعقل) إما أن يريد به القطعيين، فلا نسلم إمكان التعارض حينئذ. وإما أن يريد به الظنيين، فالمقدم هو الراجح مطلقاً. وإما أن يريد به ما أحدهما قطعي، فالقطعي هو المقدم مطلقاً، وإذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لكونه قطعياً، لا لكونه عقلياً. فعلم أن تقديم العقلي مطلقاً خطأ، كما أن جعل جهة الترجيح كونه عقلياً خطأ. الوجه الثاني: أن يقال: لا نسلم انحصار القسمة فيما ذكرته من الأقسام الأربعة، إذ من الممكن أن يقال: يقدم العقلي تارة والسمعى أخرى، فأيهما1 كان قطعياً قدم،   1 في ط الرياض "فأيما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وإن كانا جميعاً قطعيين فيمتنع التعارض، وإن كانا ظنيين فالراجح هو المقدم. فدعوى المدعي أنه لا بد من تقديم العقلي مطلقاً، أو السمعي1 مطلقاً، أو الجمع بين النقيضين، أو رفع النقيضين: دعوى باطلة، بل هنا قسم ليس من هذه الأقسام، كما ذكرناه، بل هو الحق الذي لا ريب فيه. الوجه الثالث: قوله: (إن قدمنا النقل كان ذلك طعناً في أصله الذي هو العقل، فيكون طعناً2 فيه) غير مسلم. وذلك لأن قوله: (إن العقل أصل للنقل) إما أن يريد3 به أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر. أو أصل في علمنا بصحته. والأول لا يقوله عاقل، فإن ما هو ثابت في نفس الأمر بالسمع أو بغيره هو ثابت، سواء علمنا بالعقل أو بغير العقل ثبوته، أو لم نعلم ثبوته لا بعقل ولا بغيره، إذ عدم العلم ليس علماً بالعدم، وعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسها، فما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم هو ثابت في نفس الأمر، سواء علمنا صدقه أو لم نعلم. ومن أرسله الله تعالى إلى الناس فهو رسوله، سواء علم الناس   1 في في ط الرياض "والسمعي". 2 في النسخ "طعنه فيه" والمثبت من: درء تعارض العقل والنقل 1/87 محمد رشاد سالم و 1/82 ط الباز. 3 في النسخ: "يراد" والمثبت من "الدرء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 أنه رسول أو لم يعلموا، وما أخبر به فهو حق، وإن لم يصدقه الناس، وما أمر به عن الله فالله آمر به وإن لم يطعه1 الناس، فثبوت الرسالة في نفسها، وثبوت صدق الرسول، وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر ليس2 موقوفاً على وجودنا3 [فضلاً عن أن يكون موقوفاً على عقولنا] 4، أو على الأدلة التي نعلمها بعقولنا. وهذا كما أن وجود الرب تعالى وما يستحقه من الأسماء والصفات ثابت في نفس الأمر، سواء علمناه أو لم نعلمه. فتبين بذلك أن العقل ليس أصلاً لثبوت الشرع في نفسه، ولا معطياً له صفة لم تكن له، ولا مفيداً له صفة كمال، إذ العلم مطابق للمعلوم المستغني عن العلم، تابع له، ليس مؤثراً فيه. فإن العلم نوعان: أحدهما: العملي، وهو ما كان شرطاً في حصول المعلوم، كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله، فالمعلوم هنا متوقف على العلم به، محتاج إليه. والثاني: الخبري النظري، وهو ما كان المعلوم غير   1 في الأصل: "يطع". 2 في ط الرياض "فليس". 3 في النسخ: "عقولنا" والثبت من طبعتي "الدرء". 4 في ما بين الحاصرتين من طبعتي "الدرء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 مفتقر في وجوده إلى العلم به، كعلمنا بوحدانية الله تعالى، وأسمائه وصفاته، وصدق رسوله، وملائكته وكتبه وغير ذلك، فإن هذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها، فهي مستغنية عن علمنا بها، والشرع مع العقل هو من هذا الباب، فإن الشرع المنزل من عند الله ثابت في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، وهو مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا، ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه بعقولنا، فإن العقل إذا علم ما هو عليه الشرع في نفسه صار عالماً به، وبما تضمنه من الأمور التي يحتاج إليها في دنياه وآخرته، وانتفع بعلمه به، وأعطاه ذلك صفة لم تكن له قبل ذلك، ولو لم يعلمه لكان جاهلاً ناقصاً.. ثم ذكر كلاماً طويلاً. ثم قال رحمه الله: فإن قيل: فهب أن تقديم الشرع عليها لا يكون قدحاً في أصله، لكن يكون تقديماً له على أدلة عقلية، فلا بد من بيان الموجب لتقديم الشرع. قيل: الجواب من وجوه: أحدها: أن المقصود هنا بيان أن تقديم الشرع على ما عارضه من مثل هذه العقليات المحدثة في الإسلام ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 تقديماً له على أصله الذي يتوقف العلم بصحة1 الشرع عليه، وقد حصل، فإنا إنما2 ذكرنا في هذا المقام بيان3 بطلان من يزعم أنه يقدم العقل على الشرع المعارض له، وذكرنا أن الواجب تقديم ما قام4 الدليل على صحته مطلقاً. الجواب الثاني: أن نقول: الشرع قول المعصوم الذي قام الدليل على صحته، وهذه الطرق لم يقم دليل على صحتها، فلا يعارض ما علمت صحته بما لم تعلم صحته. الجواب الثالث: أن نقول: بل هذه الطرق المعارضة للشرع كلها باطلة في العقل، وصحة الشرع مبنية على إبطالها لا على صحتها، فهي باطلة بالعقل وبالشرع، والقائل بها مخالف للعقل والشرع من جنس أهل النار الذين قالوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] ، وهكذا شأن جميع بدع   1 في ط الرياض: "لصحته" والمثبت من الأصل. والدرء 1/319 ط الشيخ رشاد سالم، 1/239 ط الباز. 2 في الأصل: "فإنا إذا" وفي ط الرياض: "نجانا ذكرنا"، والمثبت من الدرء 1/239 ط الباز، و 1/319 ط الشيخ رشاد سالم. 3 سقطت "بيان" من الأصل. 4 في النسخ: "ما قام به الدليل"، والمثبت من طبعتي الدرء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 المخالفين لنصوص الأنبياء، فإنها مخالفة للسمع والعقل، فكيف ببدع الجهمية المعطلة التي هي في الأصل من كلام المكذبين للرسل. والكلام على إبطال هذه الوجوه على التفصيل، وأن الشرع لا يتم إلا بإبطالها، مبسوط في غير هذا الموضع. انتهى. والمقصود أن ما ذكره هذا العراقي الملحد في أوراقه هو كلام الرازي. وكتاب "موافقة العقل الصحيح للنقل الصريح" من أوله إلى آخره في بطلان هذه المقدمات التي ذكرها، وبيان مخالفتها للشرع، فالمصير إليها، والاعتماد عليها: اعتماد ومصير إلى مذهب الجهمية. فإذا تبين لك ما تقدم، علمت أن هذا الملحد قد عزل كتاب الله وسنة رسوله، ونبذهما وراءه ظهرياً، لاعتقاده أن ما عارضهما بالعقل كان واجباً وقولاً جلياً، وإذا انكشفت الحقائق علمت من هو خير مقاماً وأحسن ندياً. فمن أراد الوقوف على التفصيل فكلام الشيخ في "العقل والنقل" في ذلك مبسوط، موضح بأدلته العقلية والنقلية، إذ المقام لا يحتمل ما ذكره الشيخ هناك1، لأني إنما قصدت الاختصار والاقتصار.   1 سقطت "هناك" من ط الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وأما قوله: (إما تأويلاً إجمالياً، ويفوض تفصيله إلى الله تعالى، كما هو مذهب أكثر السلف) . فأقول: قال شيخ الإسلام: الوجه السادس [عشر] 1: أن يقال: غاية ما ينتهى إليه هؤلاء المعارضون لكلام الله ورسوله بآرائهم من المشهورين بالإسلام هو التأويل أو التفويض، فأما الذين ينتهون إلى أن يقولوا: الأنبياء أوهموا وخيلوا ما لا حقيقة له في نفس الأمر، فهؤلاء معروفون عند المسلمين بالإلحاد والزندقة، والتأويل المقبول هو ما دل عليه مراد المتكلم، والتأويلات التي يذكرونها لا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرادها، بل يعلم بالإضطرار في عامة النصوص: أن المراد منها نقيض ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم2، كما يعلم مثل ذلك في تأويلات القرامطة والباطنية من غير أن يحتاج ذلك إلى دليل خاص، وحينئذ فالمتأول إن لم يكن مقصوده معرفة مراد المتكلم كان تأويله للفظ بما يحتمله من حيث الجملة في كلام من تكلم بمثله من العرب هو من باب التحريف والإلحاد، لا من باب التفسير وبيان المراد.   1 ما بين المعقوفين من طبعتي الدرء 1/201 ط الشيخ محمد رشاد سالم. 2 في النسخ: "در ما قالوه"، والمثبت من: طبعتي الدرء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وأما التفويض: فمن المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن، وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يُراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟ وأيضاً: فالخطاب الذي أريد به هدانا، والبيان لنا، وإخراجنا من الظلمات إلى النور، إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر، ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره ولا باطنه، أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك، فعلى التقديرين لم نخاطب1 بما بين فيه الحق، ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر. وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا: أنه لم يبين الحق، ولا أوضحه، مع أمره لنا أن نعتقده، أو ما خطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين به الحق ولا كشفه، بل دل ظاهره على الكفر والباطل، وأراد منا أن لا نفهم منه شيئاً أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه. وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله، ورسوله عنه، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد. ثم ذكر كلاماً إلى أن قال: فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم   1 في النسخ "يخاطب" والمثبت من" طبعتي "الدرء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 متبعون للسنة والسلف من أشر أقوال أهل البدع والإلحاد. انتهى. فإذا تبين لك هذا فاعلم أن التأويل والتفويض ليس هو مذهب السلف، ولا أكثرهم ولا أقلهم، ونسبة ذلك إلى السلف خطأ، وضلال وتلبيس، وإنما قال بذلك من يزعم أنه متبع للسنة والسلف، وهم على خلاف السنة، وأقوال السلف في هذه المسائل. وهذا كلام أئمة الحديث، وأهل السنة المحضة، ليس فها شيء من هذا الكلام المحدث، المبتدع الملعون. وقوله: (وإما تفصيلياً كما هو مذهب أكثر الخلف ... ) . فأقول: قد تبين لك مما تقدم أن هؤلاء هم الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية أقدامهم بما انتهى إليه أمرهم1، وهو أبو المعالي الجويني:   1 في النسخ "مرامهم" والمثبت من "الحموية" لشيخ الإسلام مجموع الفتاوى 5/10، وقد نقل المؤلف هذا الكلام منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارعاً سن نادم وأقروا على أنفسهم بما قالوا متمثلين به، أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم، كقول بعض رؤسائهم وهو أبو عبد الله محمد بن عمر1 الرازي: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا فكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبال جبال لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ   1 في ط الرياض: (عمرو) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 اسْتَوَى} [طه:5] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب} [فاطر: 10] . واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110] . ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي. ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي. ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام. فإذا كان هذا حال أئمة المتكلمين، كيف يسوغ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يوجب على الناس اعتقاد ما كان عليه هؤلاء المحجوبون المنقوصون المسبوقون، الحيارى المتهوكون. وقد علم بالاضطرار أن هؤلاء هم ورثة أفراخ الفلاسفة، وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين. وأن يتأول1 ما تأولته الجهمية والمعتزلة، ومن نحا نحوهم من المتكلمين، كقولة هذا الملحد:   1 في ط الرياض: "أن من تأول"، والصواب ما أثبته كما هو في الأصل، وهو راجع إلى قوله: "فإذا كان هذا حال أئمة المتكلمين كيف يسوغ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يوجب على الناس ... وأن يتأول ما تأولته الجهمية". الله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 (فالاستواء على العرش في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] هو الاستيلاء، ويؤيده قول الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق وجوابه فيما ادعى من أن معنى الاستواء أنه بمعنى الاستيلاء، وأنه ليس في لغة العرب ما يفيد ذلك، أن نقول: قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] قال: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها: انتهاء شباب الرجل وقوته، فيقال إذا صار ذلك: قد استوى الرجل. ومنها: استقامة ما كان فيه أود من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره1 إذا استقام له بعد أود. ومنه قول الطرماح بن حكيم:   1 في ط الرياض: "أمر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 طال على رسم مهدد أبده ... وقد عفا واستوى به بلده1 أي استقام به. ومنها: الإقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوؤه بعد الإحسان إليه. ومنها: الاحتياز والاحتواء2، كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازها. ومنها: العلو والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به علوه عليه. وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات} [البقرة: 29] : علا عليهن، وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سموات.   1 البيت في ط الرياض، هكذا: "طال على رسم مهده أبده وقد عض واستوى به بلده"، وفي الأصل: "طال على رسم مهده أبده وعض واستوى به بلده" والمثبت من تفسير ابن جرير 1/191 ط الحلبي. و 1/429 ط المعارف بتحقيق محمود وأحمد شاكر. قال في اللسان 3/2164 ط المعارف، في مادة (سوا) : وهذا البيت مختلف الوزن، فالمصراع الأول من المنسرح، والثاني من الخفيف. اهـ. 2 في ط الحلبي لتفسير ابن جرير 1/192: "والاستيلاء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهوم، كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر1، ثم لم ينج مما هرب منه، فيقال له2: زعمت أن تأويل قوله سبحانه (استوى) : أقبل، أفكان3 مدبراً عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل4: علا عليها علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الآخر مثله، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه لأنبأنا عن5 فساد قول كل قائل قال6 في ذلك قولاً لأهل الحق فيه مخالفاً، وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم   1 في النسخ: "المستكره"، والمثبت من: تفسير ابن جرير. 2 "له" زيادة من: تفسير ابن جرير. 3 في النسخ: "أو كان"، والمثبت من التفسير. 4 في النسخ: "قيل". 5 في النسخ: "لأثبتنا عند"، والمثبت من التفسير. 6 "قال" مثبته من: تفسير ابن جرير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 على ما فيه الكفاية إن شاء الله تعالى. انتهى. فقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق أي: ملكها، واحتوى عليها، وحازها. ولو كان الله مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء -وهو عز وجل مستولٍ على الأشياء كلها- لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض، وعلى السماء وعلى الحشوش، والأقذار لأنه قادر على الأشياء، مستولٍ عليها. وإذا كان قادراً1 على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية: لم يجز أن يكون الاستواء على العرش. الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها، فيكون استواؤه على العرش علوه عليه، وارتفاعه، كما هو مذهب سلف الأمة وأئمتها، وقد تقدم بيان ذلك. ثم قال العراقي: (وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] أي: جاء أمره، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب} [فاطر: 10] أي: يرتضيه،   1 في ط الرياض: "قادر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 فإن الكلم عرض يمتنع عليه الانتقال بنفسه، وقوله سبحانه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210] أي: يأتي عذابه، وقوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8-9] أي: قرب رسوله إليه بالطاعة، والتقدير بقاب قوسين أو أدنى تصوير للمعقول بالمحسوس، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة، فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ " معناه: تنزل رحمته وخص بالليل لأنه مظنة الخلوات، وأنواع الخضوع والعبادات، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث) . انتهى كلامه. وقد علمت مما تقدم بطلان هذه التأويلات، وأنها تأويلات الجهمية والمعتزلة الخارجين عن طريقة أهل السنة والجماعة، وإنما ذكرناها هاهنا من كلامه ليعرف المسلم قدر نعمة الله عليه بالإسلام، وسلوك طريقة سلف الأمة وأئمتها، ويشكر الله عليها، ويحمده، فإن من أنعم الله عليه بالسلامة من سولك طريقة هؤلاء الضلال فقد أوتي خيراً كثيراً، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، فإن الرسول قد بلغ البلاغ المبين، ونصح الأمة، وأدى الأمانة، وقامت حجة الله على خلقه {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 فصل في فرية الملحد عليهم بنفي الإجماع ... فصل قال العراقي: (الوهابية ونفيها الإجماع: حيث كان ما انطوت عليه العقيدة الوهابية مبايناً لم أجمع عليه الصحابة الكرام، والمجتهدون العظام، وكافة علماء الإسلام، لم ير أصحاب تلك العقيدة بداً من إنكار الإجماع، ونفي كونه حجة يعمل بها، فهم قد كفروا كل مسلم عداهم، ممن قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، بسبب زياراته لقبور الأنبياء والأولياء، والتوسل بهم إلى الله) . والجواب أن نقول: نسبة نفي الإجماع إلى الوهابية كذب وبهتان، بل هو1 توصل منه إلى القدح فيهم بغير حجة ولا برهان، وإلا فالوهابية يعلمون أن الإجماع حجة، ويعتقدون أن الأمة لا تجتمع2 على ضلالة، وهو الأصل الثالث عندهم.   1 في ط الرياض: "هذا". 2 في الأصل: "تجمع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وعقيدة الوهابية لا تخالف ما أجمع عليه الصحابة الكرام، والأئمة المجتهدون العظام، وكافة علماء الإسلام، ومن تدبر أقوالهم، ومصنفاتهم، علم علماً يقيناً أنهم كانوا على ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعتقد، وسائر أحكام الإسلام، وأن هذا الملحد الضال ومن نحا نحوه، وعلى1 طريقته، هم المخالفون لما أجمع عليه الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، ومخالفون لعقيدة2 السلف الصالح، والصدر الأول، وما كان عليه الأئمة الأربعة المقلدون، والأئمة المجتهدون من أهل السنة المحضة، ومن تمسك بهديهم، وعلى طريقتهم. يعرف ذلك من كلامه وضلالاته التي ذكرناها عنه فيما يأتي بعد. وقوله: (فهم قد كفروا كل مسلم عداهم، ممن قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، بسبب زيارتهم لقبور الأنبياء والأولياء والتوسل بهم إلى الله، مع أن الأمة قد أجمعت على أن من نطق بالشهادتين أجريت عليه أحكام الإسلام ... ) إلى آخره.   1 في ط الرياض: "على". 2 في ط الرياض: "العقيدة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 فأقول: هذا كذب على الوهابية، فإنهم ما كفروا كل مسلم عداهم، ولا كفروا بمجرد الزيارة لقبور الأنبياء والأولياء، وإنما كفروا من أشرك بالله في عبادته غيره، حيث نطق القرآن بتكفيره، وجاءت الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتكفير من فعل ذلك، سواء زار القبور أو لم يزر. وأما دعواه: إجماع الأمة على أن من نطق بالشهادتين أجريت عليه أحكام الإسلام. فهذه دعوى كاذبه خاطئة، فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على قتال من منع الزكاة، وسموهم أهل الردة، وقاتلوا بني حنيفة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لكن لما أشركوا مسيلمة الكذاب في النبوة، وصدقوه أنه قد أشرك في النبوة مع النبي صلى الله عليه وسلم: كفروهم. فإذا كان من أشرك مسيلمة الكذاب1 في النبوة يكون كافراً، فكيف لا يكفر من أشرك مخلوقاً في عبادة الخالق سبحانه، وجعله نداً لله، يستغيث به كما يستغيث بالله، ويدعوه مع الله، ويرجوه، ويلجأ إليه في جميع مهماته، ويذبح له، وينذر له مع الله؟!   1 سقطت: "الكذاب" من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 فقد كفر الصحابة هؤلاء1، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله [وكفر الله تعالى ورسوله المنافقين، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله] 2، كما قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة: 74] . وقال تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] . وكذلك لا خلاف بين العلماء كلهم أن الإنسان إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه، كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالصلاة وجحد الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج، ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج3 أنزل الله في حقهم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] ، ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع، وحل دمه وماله، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ   1 أي أهل الردة وبني حنيفة. 2 ما بين المعقوفين سقط من الأصل. 3 في ط الرياض: "إلى الحج". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً. أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} [النساء:150-151] . وكذلك بنو عبيد القداح الذين ملكوا "المغرب" و"مصر" في زمن بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين1؛ إلى أمثال هذا مما لا يحصى ولا يستقصى.   1 قال أبو شامة: وقد أفردت كتاباً سميته: "كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والكيد" اهـ. قال ابن كثير رحمه الله تعالى في البداية والنهاية 12/268 ط السعادة –بعد أن نقل كلام أبي شامة السابق-: وكذا صنف العلماء في الرد عليهم كتباً كثيرة، من أجلّ ما وضع في ذلك كتاب القاضي أبو بكر الباقلاني، الذي سماه: "كشف الأسرار وهتك الأستار" وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بني أيوب يمدحهم على ما فعلوه بديار مصر: أبدتم من بلى دولة الكفر من ... بني عبيد بمصر، إن هذا هو الفضل زنادقة شيعية باطنية ... مجوس وما في الصالحين لهم أصل يسرون كفراً، يظهرون تشيعاً ... ليستروا "سابور" عمهم الجهل انتهى المقصود من كلام ابن كثير. ومما هو جدير بالذكر هنا -على سبيل التمثيل لا الحصر- ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة تسعين وأربعمائة من الهجرة، قال: وفي شوال قتل رجل باطني عند باب "النوبى" كان قد شهد عليه عدلان، أحدهما: ابن عقيل –الحنبلي- أنه دعاهما إلى مذهبه، فجعل قيقول: أتقتلونني وأنا أقول: لا إله إلا الله؟ فقال ابن عقيل: قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَه} الآية وما بعدها اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وأما قوله: (وقال ابن القيم: أجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فقد دخل في الإسلام ... ) إلى آخره. فأقول: هذا حق إذا صدر من الكافر الأصلي، ولكن إذا أتى بناقض من نواقض الإسلام كفر، ولو أقر بالشهادتين، وكذلك من عمل بجميع الأركان ممن ولد في الإسلام، لكنه مع ذلك قد جحد شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وابتدع في الإسلام بدعة تخرجه منه كفر. وابن القيم الذي حكيت عنه إجماع المسلمين على أن من أقر بالشهادتين فقد دخل في الإسلام، قد حكى إجماع أهل الحجة من أهل الإسلام على تكفير الجهمية، كام قال في "الكافية الشافية في الإنتصار للفرقة الناجية": ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 واللالكائي الإمام حكاه عنهم ... بل قد حكاه قبله الطبراني وذكر في كتاب "الصلاة" له: تكفير من أمر بالصلاة، فامتنع حتى يخرج وقتها، وأنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وأما قوله: (ولذلك انعقد الإجماع على أن المرتد إذا كانت ردته بالشرك فإن توبته بالشهادتين) . فأقول: هذا غير مسلم، ودعوى انعقاد الإجماع على ذلك دعوى مجردة. بل من كانت ردته بالشرك بالله فتوبته الإقلاع عن هذا الشرك، فإن كثيراً1 من المشركين اليوم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، كالرافضة فإنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهم مع ذلك يدعون الحسن والحسين مع الله، وكذلك عباد القبور يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومع ذلك يدعون عبد القادر، وأحمد البدوي، وغيرهما، ويستغيثون بهم في الشدائد والملمات، ويرغبون إليهم في جميع الحاجات، وكشف الكربات، وإغاثة اللهفات. وقد انعقد الإجماع على أن من أشرك بالله في   1 في ط الرياض: "كثير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 عبادته غيره كان مشركاً، وإن تلفظ بالشهادتين، كما هو مذكور في كتاب "الفقه" في باب "حكم المرتد". وقوله: (ثم إن الوهابية عدوا الاستشفاع إلى الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته كفراً1، مع أن الإجماع منعقد على جوازه) . فأقول: إن كان أراد بالاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم كأن يقول القائل: اللهم إني أسألك بجاه محمد، أو بحقه، أو حرمته. فهذا القول بدعة محدثة محرمة، ولا يكفر2 الوهابية أحداً بهذا. وإن أراد بالاستشفاع بالنبي بأن يدعوه، ويستغيث به، كأن يقول: يا رسول الله أغثني، أو أدركني، وأنا في حسبك، أو يسأله أو يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، ويتوكل عليه، ويلجأ إليه في جميع مهماته وطلباته، ويجعله واسطة في جلب منفعة، أو دفع مضرة، فإن كان أراد هذا فقد ذكر في "الإقناع" من كتب الحنابلة: أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم: كفر إجماعاً. وكذلك ذكر فيه شيخ   1 في الأصل: "كفر". 2 في ط الهند "يكفرون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الإسلام تقي الدين: أن من دعا علي بن أبي طالب فهو كافر، ومن شك في كفره1 فهو كافر. والوهابية على مذهب أحمد رحمه الله. وأما دعوى انعقاد الإجماع على جوازه، فدعوى مجردة، اللهم إلا إجماع عباد القبور، وأولئك ليسوا من أهل الإسلام، فضلاً عن أن يجمعوا على الأحكام. وأما قوله: (وهم لم يجوزوا لأحد أن يقلد مجتهداً من أئمة المسلمين) . فأقول: هذا كذب على الوهابية، وإن وجد هذا في بعض الكتب لمن هو على مذهب الوهابية في تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله، ممن ينسبه هؤلاء إلى الوهابية، فنسبته إلى الشيخ محمد وأتباعه من الكذب عليهم. وكذلك قوله: (وجوزا لكل أحد أن يستنبط من القرآن ما استطاع أن يستنبط ... ) إلى آخره. فهذه كلها من الأوضاع المكذوبة على الوهابية.   1 أي: من شك في كفر من دعا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد كفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 ثم ذكر الإجماع، وأنه: اتفاق المجتهدين. وأن الإجماع ينعقد في كل عصر، لأن الحوادث تحدث في كل يوم بالأمور التي لم يصرح بحكمها الكتاب والسنة. وهذا مما يعلم كل أحد غلطه في ذلك، وتخبيطه فيه، فلا فائدة في الجواب عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 فصل في فرية الملحد عليهم بإنكارهم القياس ... فصل1 ثم قال العراقي: (الوهابية ونفيها للقياس: إن الوهابية كما أنكروا الإجماع، كذلك أنكروا القياس ... ) إلى آخر ما قال. فأقول: وهذا أيضاً من نمط ما قبله من الكذب والزور. فإن الوهابية لا ينكرون القياس مطلقاً، وفيه تفصيل. لكن ذكر صاحب "الدين الخالص" من ذلك ما أوجب لهؤلاء أن ينسبوا إلى الوهابية ما يقوله "صديق" وليس ما قاله مطلقاً يقول به الوهابية، بل لهم فيه تفصيل، ليس هذا موضع ذكره، إذ المقصود نفي ما يدعيه من الكذب على الوهابية. ثم قال: (ومن العجب أن الوهابية لأجل تخطئة   1 كلمة "فصل" ليست في النسخ، وأضفتها زيادة في الإيضاح، والتكميل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 المجتهدين في قبولهم القياس جعلت تعبث بكلام الله تعالى، فتصرف الآيات القرآنية عن معانيها الصحيحة، مأولة إياها بما يوافق هواها، مع أنها لا تأول من الآيات ما يلزم من ظاهره النقص على الله تعالى، والمحال، كآية الاستواء، واليدين والوجه، وتقول: إن المجتهدين عاملون بآرائهم مع أنها تجوز حتى للجهلة الرعاع من ذوي نحلتها أن يفسروا كلام الله بحسب أفهامهم القاصرة) . والجواب أن نقول: هذا كذب على الوهابية، فإنهم من أعظم الناس تعظيماً لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فبهتهم بالعبث بكتاب الله ظلم وعدوان، وإلى الله المرجع، وإليه التحاكم {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] . بل الوهابية يضعون الآيات القرآنية في معانيها الصحيحة، ويسيرون على منهاج أئمة التفسير، ولا يؤولونها على ما يوافق أهواءهم، بل يستدلون بالآيات النازلة في المشركين على تكفير من فعل كما يفعله الكفار، من الإشراك بالله، والكفر به، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وأما قوله: (مع أنها لا تؤول من الآيات ما يلزم من ظاهره النقص على الله تعالى، والمحال كآية الاستواء واليد والوجه) . فأقول: نعم لا يتأولون الآيات والأحاديث النبوية، فيصرفونها عن ظاهرها، وعما اقتضته من إثبات صفات الكمال، ونعوت الجلال، لأجل ما يزعمه أعداء الله من أنه يلزم من ظاهرها النقص على الله والمحال، فإن ما أثبته الله ورسوله من الاستواء والوجه واليدين وغير ذلك من الصفات: وصف كمال ونعوت جلال، لا وصف نقص. بل من أثبت ذاتاً مجردة عن أوصاف الكمال فقد تنقصه غاية التنقص، وشبهه بالجمادات، ومثله بأنقص المعقولات الذهنية، وجعله دون الموجودات الخارجية. وإثبات الصفات لا يلزم منها مماثلة الله بخلقه، ولا تشبيههم به، لأن الله تعالى أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فمن شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله فقد كفر، وقد تقدم بيان ذلك مراراً عديدة. وأما قوله: (وتقول: إن المجتهدين1 عاملون بآرائهم) .   1 في ط الهند "المجتهدون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فأقول: هذا كذب عليهم، وما علمنا أحداً قال: بهذا من الوهابية، كما أنا لا نعلم أن أحداً منهم أجاز للجهلة الرعاع –كما تزعمونه- أن يفسر كلام الله بحسب مفهومه القاصر، ونعوذ بالله من ذلك. ثم ذكر القياس، وزعم أن الوهابية ينكرونه. وقد قدمنا أن الوهابية لا ينكرون القياس مطلقاً، ولا يثبتونه مطلقاً، لأن القياس ينقسم إلى حق وباطل، وممدوح ومذموم، ولهذا لم يجئ في القرآن مدحه ولا ذمه، ولا الأمر به ولا النهي عنه، فإنه مورد تقسيم إلى صحيح وفاسد: فالصحيح هو الميزان الذي أنزله مع كتابه في قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط} [الحديد: 25] . والفاسد ما يضاده، كقياس الذين قاسوا البيع على الربا بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 المالية، ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس، وأنه ليس من الدين، وتجد في كلامهم استعماله، والاستدلال به، وهذا1 حق. والحاصل أن الناس فيه طرفان ووسط: فأحد الطرفين من ينفي العلل، والمعاني والأوصاف المؤثرة، ويجوز ورود الشريعة بالفرق بين المتساويين، والجمع بين المختلفين، ولا يثبت أن الله سبحانه شرع الأحكام لعلل ومصالح، وربطها بأوصاف مؤثرة فيها، مقتضية لها طرداً وعكساً، وأنه قد يوجب الشيء ويحرم نظيره من كل2 وجه، ويأمر به لا لمصلحة بل لمحض المشيئة المجردة عن الحكمة والمصلحة. وبإزاء هؤلاء قوم أفرطوا فيه، وتوسعوا جداً، وجمعوا بين الشيئين اللذين فرق الله بينهما بأدنى جامع من شبه أو طرد أو وصف يتخيلونه علة يمكن أن يكون علته وأن لا يكون، فيجعلونه هو السبب الذي علق الله ورسوله عليه الحكم بالخرص والظن. وهذا هو الذي أجمع السلف على ذمه.   1 في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم 1/133: (وهذا حق وهذا حق) ، وقد نقل المؤلف الكلام المتقدم من الأعلام. 2 "كل" مثبتة من الإعلام 1/200 ط الكليات الأزهرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر في الأحكام العلل والأوصاف المؤثرة فيها طرداً وعكساً، وكل الصحابة رضي الله عنهم يجتهدون في النوازل، ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره. والمقصود أن من زعم أن الوهابية ينفون القياس مطلقاً فقد كذب عليهم وافترى. وأما قوله: (فقول الوهابية: إن النصوص تستوعب جميع الحوادث بدون استنباط أو قياس، غير مسلم، فإن استيعابها جميع الحوادث لا يتم إلا بطريقهما) . فالجواب أن نقول: قد ذكر ابن القيم في "إعلام الموقعين": أن الناس انقسموا في هذا الموضع إلى ثلاث فرق: فرقة قالت: إن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث. وغلا بعض هؤلاء حتى قال: ولا بعشر معشارها -وذكر حجتهم وأبطلها بثلاثة وجوه أجاد فيها وأفاد، ثم قال لما ذكر أقوال الطائفتين المنحرفتين عن الوسط قول المعتزلة المكذبين بالقدر، وقول الجهمية المنكرين للحكم، والأسباب والرحمة والتعليل. قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 والمقصود أنهم كما انقسموا إلى ثلاث فرق في هذا الأصل، انقسموا في فروعه –وهو القياس- إلى ثلاث فرق: فرقة أنكرته بالكلية، وفرقة قالت به، وأنكرت الحكم والتعليل والمناسبات. والفرقتان أخلت النصوص عن تناولها لجميع أحكام المكلفين، وأنها أحالت على القياس، ثم قالت1 غلاتهم: أحالت عليه أكثر الأحكام. وقال متوسطوهم: بل أحالت عليه كثيراً من الأحكام لا سبيل إلى إثباتها إلا به. والصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث، وهو أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يحلنا الله ولا رسوله على رأي ولا قياس، بل قد بين الأحكام كلها، والنصوص كافية وافية بها، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص، فهما دليلان: الكتاب، والميزان، وقد تخفى دلالة النص، ولا يبلغ العالم فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقاً للنص فيكون قياساً صحيحاً، وقد يظهر مخالفاً له فيكون فاسداً، وفي نفس الأمر لا بد من موافقته أو مخالفته، ولكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته ... إلى آخر كلامه رحمه الله.   1 "قالت" مثبتة من الأعلام 1/337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وقال1 شيخ الإسلام بعد أن ذكر هذه المسألة وقررها أحسن تقرير: وبالجملة الأمر نوعان: كلية عامة، وجزئية خاصة. فأما الجزئيات الخاصة، كالجزء الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه من ميراث هذا الميت، وعدل هذا الشاهد ونفقة هذه الزوجة، ووقوع الطلاق بهذا الزوج، وإقامة الحد على هذا المفسد، وأمثال ذلك، فهذا مما لا يمكنه لا نبياً ولا إمام ولا أحد من الخلق أن ينص على كل فرد منه لأن أفعال بني آدم وأعيانهم يعجز عن معرفة أعيانها الجزئية واحد من البشر وعبارته: لا يمكن بشر أن يعلم ذلك كله بخطاب الله له، وإنما الغاية الممكنة ذكر الأمور الكلية العامة كما قال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بجوامع الكلم".   1 من هنا إلى نهاية الفصل سقط من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 فصل في فرية الملحد بتكفير المقلدين ... فصل قال العراقي: (الوهابية وتكفيرها من قلد المجتهدين: لما كانت أقوال المجتهدين السالفين رحمهم الله تعالى وما وصلوا إليه باجتهادهم من الأحكام المقررة الدينية تصادم ما ابتدعته الفئة المارقة الوهابية، لم تر هذه الفئة بداً من إنكارها صحة اجتهادهم، وتخطئة آرائهم، وتكفير من قلدهم، حتى يخلو لها الجو، فتبيض وتصفر وتلعب بالدين كما شاء هواها، ويتمهد لها الطريق إلى تأسيس قواعد ضلالها المبين، إذ هي لو لم تنف اجتهادهم لما تم لها أن تصرف بحسب هواها الآيات النازلة في المشركين إلى المسلمين الذين يتوسلون إلى الله تعالى بجاه رسوله، وكرامة أوليائه، لأن هذا الصرف مما لم يقل1 به مجتهد، ولم يرض به أحد من أئمة الدين) .   1 في الأصل: "يقيم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 والجواب أن نقول: أما دعوى تكفير المجتهدين فمن الكذب الواضح، والإفك الفاضح. وأما ما مخرق به من أنا مصادمون لما اجتهد الأئمة فيه1 من الأحكام الدينية، وأنا أنكرنا اجتهادهم ليخلو لنا الجو، كما زعمه هذا البو2، فما ذاك إلا من فيض كلب العداوة في الدين، لأنه جهمي، معتزلي مشرك، ونحن -ولله الحمد- على طريقة السلف وأئمة الدين في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته، وفي باب العمل والعبادة، فلا نشرك بربنا أحداً، ولا نتخذ من دونه أولياء. ومن تأمل كلامه علم أنه هو المارق المبتدع، وأنه {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] ، بل هو بريء من الأئمة المجتهدين، وهم برآء منه، فإن عقيدته مخالفة لعقائدهم، فهو إلى طريق الفلاسفة والملاحدة ومن نحا نحوهم من المتكلمين أقرب منهم إلى الأئمة المجتهدين. وهذا العراقي متبع لهواه، عابد لما يهواه، قد اتخذ الكذب ديدنه، والزور والفجور ميزانه، ودخل من الكذب في ظلمات بعضها فوق بعض، حتى آل به زوره وفجوره   1 سقطت: "فيه" من الأصل. 2 أي الأحمق. قاله في "القاموس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 إلى أن زعم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان كثير الميل إلى الإطلاع على أخبار من ادعى النبوة، كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وأنه كان يضمر في نفسه أن يؤسس ديناً يحذو به حذو أولئك الكذابين.. إلى غير ذلك من مفترياته، ورعونات جهالاته وخزعبلاته، فالموعد الرحمن، وإليه التحاكم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم لو استهواه الشيطان، وحكى ما يقوله1 أهل البغي والعدوان، فكيف ساغ له أن يحكي عما في ضميره –لو كان- وحاشا لله أن يكون ذلك في الإمكان. وأما زعمه أن الشيخ يدعي الاجتهاد المطلق، فمن نمط ما قبله من المفتريات، فإنه لا يدعي ذلك، وقد نفاه في بعض رسائله، ومن طالع كتب الشيخ وتصانيفه ورسائله، علم محله من العلم والفقه والمتانة في الدين، ورسوخه فيه، وقد شهد له علماء وقته بذلك كما مضى بيانه. وأما قوله: (وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين":   1 في ط الرياض: "يقول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 لا يجوز لأحد أن يأخذ من الكتاب والسنة ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد من جميع العلوم) . فأقول: هذا لسان جاهل، وتركيب نبطي لا يدري شيئاً من صناعة العلم، وابن القيم ينزه عن هذا اللفظ، وهذا التركيب، ولا يقول: (ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد من جميع العلوم) ، فإن البحث ما هكذا إيراده ولا تقريره، والعلوم فيها ما لا دخل له هنا ولا اعتبار، كعلم الطب والهندسة والإنشاء وقريض الشعر وميزانه، والعلم بالرسم وإتقانه، ومعرفة التاريخ. وأما بالنظر للمعنى فابن القيم رحمه الله قد شن الغارة على من لا يجوز له أن يأخذ من الكتاب والسنة ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد، وشنع على قائله تجهيلاً وتخطئة وقال: هذا سد لباب أخذ العلم والهدى من كتاب الله وسنة رسوله. وذكر في هذا المبحث من النصوص والآثار والمناظرة بين المجتهد والمقلد ما لا تتسع له هذه الرسالة، وذكر هذه العبارة راداً لها، مجهلاً لقائلها. بل ذكر فيه عن الإمام أحمد أنه لا يجوز الإفتاء إلا لرجل عالم بالكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 والسنة. ثم ذكر بعد ذلك فصولاً في تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص، والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول. وقال أيضاً في "الإعلام" لما ذكر القياس قال: ونحن نقول قولاً ندين الله به، ونحمد الله على توفيقنا له، ونسأله الثبات عليه: إن الشريعة لم تحوجنا إلى قياس قط، فإن فيها غنية وكفاية عن كل رأي وقياس، وسياسة واستحسان، ولكن ذلك مشروط بفهم من يؤتيه الله عبده فيها، وقد قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الانبياء: 79] ، وقال علي رضي الله عنه: "إلا فهما يؤتيه الله عبده في كتابه". وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: "اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل". وقال أبو سعيد: "كان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال عمر لأبي موسى: "الفهم الفهم". انتهى. والذي غر هؤلاء الجهلة أنهم ظنوا أن الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو مرتبة الاجتهاد، أو من تجوز له الفتيا في الحلال والحرام، وما علموا أن الاجتهاد هو النظر في الأدلة إذا تعارضت، وفيما يخفى دليله، وهذا لا يتهيأ إلا لمن كملت فيه شروط الاجتهاد، أو اجتمعت فيه أدوات الفتيا. وأما اتباع كلام الله أو كلام1 رسوله والأخذ بما فيهما فهو   1 في ط الرياض: "الله ورسوله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فرض واجب على المجتهد، والمقلد والعالم والمتعلم، والآيات والأحاديث في ذلك معروفة مشهورة مبسوطة، ذكرها ابن القيم في "الإعلام". وقال ابن عباس رضي الله عنه لمن ناظره في متعة الحج: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر". وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. وقال ابن القيم رحمه الله في الإعلام: قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا صالح بن عبد الله، حدثنا سفيان بن عامر، عن عتاب بن منصور، قال: قال عمر بن عبد العزيز: "لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال الشافعي رحمه الله: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها. وقال: لا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال شداد بن حكيم عن زفر بن الهذيل: إنما نأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 بالرأي ما لم يجئ الأثر، فإذا جاء الأثر تركنا الرأي وأخذنا بالأثر. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة: لا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح الخبر عنه. وقال الأصم: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت. وقال أحمد بن علي بن عيسى بن ماهان الرازي: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فإني راجع عنها في حياتي وبعد موتي. وقال الربيع: قال الشافعي: لم أسمع أحداً نسبه عامة أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله اتباع أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والتسليم لحكمه، فإن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد لا يختلف فيه الغرض، وواجب قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا فرقة سأصف قولها -إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 شاء الله- وذكر كلاماً طويلاً عن الشافعي رحمه الله وغيرها تركناه طلباً للاختصار. والمقصود أنه كذب على ابن القيم في دعواه أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ من الكتاب والسنة ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد من جميع العلوم، ولا عجب من هذا فقد كذب على السلف رحمهم الله في أن مذهبهم في آيات الصفات وأحاديثها أنها تؤول، إما تفصيلاً وإما إجمالاً ويفوض1 تفصيلها إلى الله. ثم ذكر العراقي كلاماً زعم فيه أن الوهابية اتخذته ذرائع لتأسيس بدعتها. وقد تقدم الكلام عليه، ولكن أعاده ليكبر حجم كتابه، وليزداد -إن شاء الله- بذكره مقتاً من الله وغضباً وزيادة في عقابه. ثم ذكر أن تكفير المسلم أمر غير هين، وأنه قد أجمع العلماء منهم الشيخ ابن تيمية وابن القيم: على أن الجاهل والمخطئ من هذه الأمة -ولو عمل ما يجعل صاحبه مشركاً أو كافراً- يعذر بالجهل والخطأ، حتى تبين له الحجة بياناً واضحاً، لا يلتبس على مثله.   1 في ط الرياض "أو يفوض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 فيقال في جوابه: أما تكفير المسلم فقد قدمنا أن الوهابية لا يكفرون المسلمين. والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر، حتى أنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه، ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها. قال في بعض رسائله: وإن كنا لا نكفر من عبد قبة الكواز، لجهلهم وعدم من ينبههم، فكيف من لم يهاجر إلينا؟ وقال –وقد سئل عن مثل هؤلاء الجهال- فقرر أن من قامت عليه الحجة، وتأهل لمعرفتها، يكفر بعبادة القبور، وأما من أخلد إلى الأرض، واتبع هواه، فلا أدري ما حاله. وأما نقله عن شيخ الإسلام وابن القيم على أن الجاهل والمخطئ ... إلى آخره. فالجواب أن يقال: كلام الشيخين إنما هو في المسائل النظرية والاجتهادية، التي قد يخفى الدليل فيها. وأما عباد القبور فهم عند السلف وأهل العلم يسمون الغالية، لأن فعلهم غلو يشبه غلو النصارى في الأنبياء والصالحين، وعبادتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وأيضاً فإن هذا النقل فيه تكفير من قامت عليه الحجة، ولو في المسائل الخفية، فبطلت الشبهة العراقية، ومسألة توحيد الله وإخلاص العبادة له لم ينازع في وجوبها أحد من أهل الإسلام، لا أهل الأهواء ولا غيرهم، وهي معلومة من الدين بالضرورة، كل من بلغته الرسالة وتصورها على ما هي عليه، عرف أن هذا زبدتها وحاصلها، وسائر الأحكام تدور عليه. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على المتكلمين" لما ذكر بعض أئمتهم توجد منهم الردة عن الإسلام كثيراً قال: وهذا إن كان في المقالات الخفية، فقد يقال فيها: إنه مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر منهم في أمور يعلمها الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم، فإن هذه أظهر شرائع الإسلام، ومثل إيجابه للصوات الخمس، وتعظيم شأنها، ومثل تحريم الفواحش، والزنا والخمر والميسر، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين، وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين، كما فعل أبو عبد الله الرازي، قال: وهذه ردة صريحة. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 فإذا علمت هذا، فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة، فلا يعذر في عدم الإيمان بالله وملائكته ورسله، واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل. وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار، مع تصريحه بكفرهم، ونقطع أن اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، ونعتقد كفرهم، وكفر من شك في كفرهم. وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر، والشك هو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه، ونحو ذلك، كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوبها، أو لا يعتقد تحريم الزنا ولا عدم تحريمه، وهذا كفر بإجماع العلماء، ولا عذر لمن حاله هكذا بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته، لأنه لا عذر له بعد بلوغها، وإن لم يفهمها، وقد أخبر الله عن الكفار أنهم لم يفهموا فقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الإسراء: 46] والآيات في هذا المعنى كثيرة، والله أعلم. وأما قول هذا العراقي: (حتى تتبين له الحجة بياناً واضحاً لا يلتبس على مثله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 فأقول: هذا تحريف لكلام الشيخ، فإن الشيخ لم يقل حتى تتبين له الحجة ... إلى آخره، وإنما هي زيادة عراقية، وإنما قال الشيخ: (ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم) . فقوله: (حتى تتبين له الحجة بياناً واضحاً لا يلتبس على مثله) إنما هو فهم الحجة، وفرق بعيد بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن من بلغته دعوة الرسل فقد قامت عليه الحجة، إذا كان على وجه يمكن معه العلم. ولا يشترط في قيام الحجة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان والقبول والإنقياد لما جاء به الرسول، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] ، وقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] ، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الإسراء: 46] إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى. ويقال أيضاً: فرض كلام شيخ الإسلام وتقديره في الأمور التي قد يخفى دليلها، مما ليس هو من ضروريات الدين، ولا هو من الأمور الجلية، بل هو في الأمور النظرية والاجتهادية. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وأما قوله: (والمسلم قد يجتمع فيه الكفر والإسلام، والشرك والإيمان، ولا يكفر كفراً ينقله عن الملة) . فأقول: نعم، هذا فيما دون الشرك، والكفر الذي يخرج من الملة، فأما ما لا يخرج عن الملة كالشرك الأصغر، كيسير الرياء والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وما أشبه ذلك، والكفر كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك"، وفي لفظ: "فقد كفر" 1، وغير   1 أخرجه أبو داود –كتاب الأيمان والنذور- من سننه 3/570، والترمذي –كتاب الأيمان والنذور- من سننه 4/110، والإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه –كما في الموارد ص 286، والحاكم في مستدركه 4/297، والبيهقي في سننه 10/29 كلهم عن سعد بن عبيدة قال: سمع ابن عمر رجلاً يحلف: لا والكعبة، فقال له ابن عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد أشرك ". ولفظ ابن حبان: "قال: كنت عند ابن عمر، فحلف رجل بالكعبة، فقال ابن عمر: ويحك لا تفعل ... الخ". وفي لفظ لأحمد 2/58-60: "قال: كنت مع ابن عمر في حلقة. قال: فسمع رجلاً في حلقة أخرى وهو يقول: لا وأبي، فرماه ابن عمر بالحصى. فقال: إنها كانت يمين عمر، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إنها شرك". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ذلك مما جاء في الحديث بلفظ: "الكفر" مما لا ينقل عن الملة من الكفر الأصغر. وأما ما ذكره في الخوارج، فإنما هو لأجل ما قام بهم من الشبهة المانعة من تكفيرهم. والشيخ محمد بن   = وقد أعل البيهقي هذا الحديث بقوله بعد إخراجه: "وهذا مما لم يسمعه سعد بن عبيدة من ابن عمر". ثم احتج البيهقي على هذه الدعوى بما أخرجه من طريق الإمام أحمد –وهو في المسند 2/125 ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن منصور عن سعد بن عبيدة قال: كنت عند عبد الله بن عمر فقمت وتركت رجلاً عنده من كندة، فأتيت سعيد بن المسيب. قال: فجاء الكندي فزعاً، فقال: جاء ابن عمر رجل فقال: أحلف بالكعبة؟ قال: لا ولكن احلف برب الكعبة. فإن عمر كان يحلف بأبيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلف بأبيك فإنه من حلف بغير الله فقد أشرك" اهـ. والكندي المذكور اسمه محمد كما جاء في بعض أسانيد أحمد 2/69. وهو مجهول كما نص عليه أبو حاتم. انظر الجرح والتعديل 8/132. قلت: وهذا الإعلان ليس بجيد، فإن الألفاظ التي تقدم ذكرها ترده، وتصرح بحضور سعد بن عبيدة هذه الحادثة، وقد اجتمع على لفظها ثقتان إمامان: الأعمش عند أحمد، والحسن بن عبيد الله النخعي عند ابن حبان. ويجمع بين الراويتين: بتكرر الحادثة، فمرة سمعها سعد من ابن عمر، ومرة سمعها من الكندي. ومن تأمل اللفظين ظهر له ذلك، والله تعالى اعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 عبد الوهاب لا يكفر الخوارج، كما أن أكثر أهل العلم لا يكفرونهم. وقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الخوارج: أكفار هم؟ فقال: من الكفر فروا، فقال: منافقون؟ فقال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً –أو كلاماً نحو هذا1. فقول العراقي: (ومع كفرهم لم يكفرهم الصحابة ولا التابعون) ، جهل عريض، وتناقض بين، وعدم معرفة بمقادير الصحابة وأهل العلم، فإنهم لو كانوا عند الصحابة كفاراً كفراً يخرج من الملة لكفرهم الصحابة والتابعون، فلما قام المانع من تكفيرهم أمسكوا عنه، وهم أعلم الأمة، وأعرفهم بالله، وبدينه، وأخشاهم له، فهذا الكلام ونحوه إنما هو في أهل الأهواء والبدع، كالخوارج وأشباههم من أهل البدع التي لم تخرجهم بدعتهم من الإسلام. وأما مسألة عبادة القبور، ودعائها مع الله، فهي مسألة وفاقية التحريم، إجماعية المنع والتأثيم، فلم يدخل عباد القبور في كلام الشيخين لظهور برهانها، ووضوح أدلتها، وعدم اعتبار الشبهة فيها، هذا وجه الإخراج والاستدراج، ومراد هذا الملحد أن عباد القبور لا يكفرون، لأن الصحابة   1 رواه البيهقي في السنن الكبرى 1/174 و175 من وجهين: الأول في أهل الجمل، والثاني في أهل النهروان، والأول ضعيف، والثاني كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 والتابعين لهم لم يكفروا الخوارج، فبعداً للقوم الظالمين. وأما ما ذكره من قتال أهل الردة، فليس الأمر كما زعم من التفريق، وإن كان قد قال به بعض العلماء، فالحق والصواب ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم فإنهم لم يفرقوا بين من ارتد، وصدق مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، وسجاح، وبين من منع الزكاة، بل قاتلوهم كلهم واستحلوا دماءهم وأموالهم، وسبيهم، وسموهم كلهم أهل الردة، ولم يقولوا لمانع الزكاة: أنت مقر بوجوبها، أو جاحد لها، هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة، بل قال الصديق رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. فجعل المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد الوجوب. وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب، لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعاً سيرة واحدة، وهي قتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعهم أهل الردة، وكان من أعظم فضائل الصديق رضي الله عنه أن ثبته الله عند قتالهم، ولم يتوقف كما توقف غيره، فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله، كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 فإذا علمت ذلك، فمن المحال أن يكون الحق. والصواب مع من قال بخلاف ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أفضل الأمة، وأن يكون الحق والصواب مع من بعدهم ممن لا يساويهم ولا يقاربهم في العلم والفضل والمعرفة. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في "أعلام الموقعين" نحواً من خمسة وأربعين وجهاً، تدل على أن ما قاله الصحابة رضي الله عنهم هو الحق والصواب الذي لا شك فيه1.   1 4/118-156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 فصل في حكم أهل الأهواء ... فصل ثم ذكر العراقي فرق أهل الضلال، من أهل الأهواء والبدع، الذين فارقوا الجماعة، كالقدرية والمعتزلة والمرجئة والجهمية، والرافضة، ولم يذكر من فرق أهل الأهواء إلا هؤلاء، ثم قال: (ومذهب السلف الذي تتستر به الوهابية هو: عدم القول بتكفير طوائف المارقين الذين1 ذكرناهم) . والعجب كل العجب أن هذا العراقي يقر أن هؤلاء الطوائف هم المارقون، المفارقون للجماعة، وهو يقول بأقوالهم في نفي الصفات. والجواب أن نقول: هذا كذب على السلف رضوان الله عليهم، فإنهم كفروا غلاة الرافضة كالذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك كفروا غلاة القدرية، وغلاة المرجئة، والمعتزلة وغلاة الجهمية.   1 في الأصل: "الذي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وقد حكى شيخ الإسلام تكفير من قام به الكفر من أهل الأهواء، قال: واضطرب الناس في ذلك: فمنهم من يحكي عن مالك فيه قولين، وعن الشافعي كذلك، وعن أحمد روايتين، وأبو الحسن الأشعري وأصحابه لهم فيه قولان، قال: وحقيقة الأمر: أن القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير قائله، ويقال لمن قال هذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قال: لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، انتهى. وحيث كان الحال هكذا في الخوارج، قد اختلف الناس في تكفيرهم. والغلاة في علي لم يختلف أحد في تكفيرهم، وكذلك من سجد لغير الله، أو ذبح لغير الله، أو دعاه مع الله رغباً أو رهباً، كل هؤلاء اتفق السلف والخلف على كفرهم، كما ذكره أهل المذاهب الأربعة، ولا يمكن أحد أن ينقل عنهم قولاً ثانياً. وبهذا تعلم أن النزاع وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وأمثاله في غير عباد القبور والمشركين، فرضه وموضوعه في أهل البدع المخالفين للسنة والجماعة، وهذا يعرف من كلام الشيخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 فإذا عرفت أن كلام الشيخ ابن تيمية في أهل الأهواء كالقدرية والخوارج والمرجئة، ونحوهم، ما خلا غلاتهم، تبين لك أن عباد القبور والجهمية خارجون من هذه الأصناف. وأما كلامه في عدم تكفير المعين فالمقصود به في مسائل1 مخصوصة قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء، ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أموراً كفرية من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفراً، ولا يحكم على قائله بالكفر، لاحتمال وجود مانع كالجهل، وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته، فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها، ولذلك ذكر هذا في الكلام على بدع أهل الأهواء، وقد نص على هذا فقال في تكفير أناس من أعيان المتكلمين بعد أن قرر هذه المسألة، قال: وهذا إذا كان في المسائل الخفية فقد يقال بعدم التكفير، وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة، فهذا لا يتوقف في كفر2 قائله.   1 في الأصل: "المسائل". 2 في ط الرياض: "تكفير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وبهذا تعلم غلط هذا العراقي، وكذبه على شيخ الإسلام، وعلى الصحابة والتابعين في عدم تكفير غلاة القدرية وغلاة المعتزلة، وغلاة المرجئة، وغلاة الجهمية، والرافضة. فإن الصادر من هؤلاء كان في مسائل ظاهرة جلية، وفيما يعلم بالضرورة من الدين، وأما من دخل عليه من أهل السنة بعض أقوال هؤلاء، وخاض فيما خاضوا فيه من المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، أو من كان من أهل الأهواء من غير غلاتهم، بل من قلدهم وحسن الظن بأقوالهم من غير نظر ولا بحث فهؤلاء هم الذين توقف السلف والأئمة في تكفيرهم، لاحتمال وجود مانع بالجهل، وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته قبل قيام الحجة عليهم، وأما إذا قامت الحجة عليهم، فهذا لا يتوقف في كفر قائله. وأما قوله: (قال الشيخ1 تقي الدين ابن تيمية: لم يكفر الإمام أحمد الخوارج، ولا المرجئة، ولا أعيان الجهمية، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا الناس إلى قولهم، وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الشديدة) .   1 في ط الرياض: "شيخ الإسلام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 فالجواب أن يقال: قد تقدم عدم تكفير الخوارج والمرجئة غير الغالية منهم. وأما الجهمية فيقال: لو سلم هذا فجوابه من أوضح الواضحات عند أهل العلم والأثر: وذلك أن الإمام أحمد وأمثاله -من أهل العلم والحديث- لا يختلفون في تكفير الجهمية وأنهم ضلال زنادقة، وقد ذكر من صنف في السنة تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر وعد اللالكائي الإمام رحمه الله تعالى منهم عدداً يتعذر ذكرهم في هذا الجواب، وكذلك ابن الإمام أحمد في كتاب السنة، والخلال في كتاب السنة، وابن أبي مليكة1 في كتاب السنة، وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم ونقله عن أساطين الأئمة. وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم في "كافيته" عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم. والصلاة خلفهم لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة حيث لا تمكن الصلاة خلف غيرهم، والرواية المشهورة عن الإمام أحمد هي المنع من الصلاة خلفهم، وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها،   1 لم أقف على من نسب لابن أبي مليكة كتاب "السنة" وابن أبي مليكة من التابعين، ولم يكن ثم تدوين في عهده والعلم عند الله، وكذلك تأخر ظهور الجهمية عن عهده، ولا شك أنه تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وبين من لا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما تقدم ذكره. وعلى هذا القول: فالجهمية في هذه الأزمنة قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة، واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهوراً ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذا حقيقة الكفر والإلحاد، كيف لا وقولهم يقتضي من تعطيل الذات والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات، ما لا يبقى معه من حقيقة الربوبية والإلهية ولا وجود للذات المقدسة المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدماً لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون من الخيالات والشبه ما يعلم فساده بضرورة العقل، وبالضرورة من دين الإسلام عند من عرفه وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات. ولبشر المريسي وأمثاله من الشبه والكلام في نفي الصفات ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين، بل كلامه أخف إلحاداً من بعض هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره، وعلى أن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي أو غيره، وقد صرح الإمام أحمد فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره أنه كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 يعيد صلاة الجمعة وغيرها، وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين إذا كانت لهم شوكة ودولة، والنصوص في ذلك معروفة مشهورة من طلبها وجدها. انتهى. وقد تقدم كلام أبي حنيفة وتصريحه بكفر من قال: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: لأنه أنكر أنه في السماء، لأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. وقال الإمام الشافعي رحمه الله: لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، ونثبت هذه الصفات، وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . انتهى. وقال شيخ الإسلام رحمه الله بعد كلام سبق: والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والروافض، والقدرية والمرجئة، فإن عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وغيرهما، قالوا: أصول الاثنين وسبعين فرقة هي أربع: الخوارج، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 والروافض والمرجئة والقدرية، قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست من أمه محمد صلى الله عليه وسلم. والجهمية نفاة الصفات، الذين يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن محمداً لم يعرج به إلى الله، وإن الله لا علم له ولا قدرة، ولا حياة، ونحو ذلك، كما يقوله المعتزلة والمتفلسفة ومن اتبعهم. وقد قال عبد الرحمن بن مهدي: هما صنفان، فأحدهما الجهمية، والرافضة، فهذان الصنفان شرار أهل البدع، ومنهم دخلت القرامطة الباطنية كالنصيرية والإسماعيلية، ومنهم اتصلت الإتحادية، فإنهم من جنس الطائفة الفرعونية. والرافضة في هذه الأزمان مع الرفض جهمية قدرية، فإنهم ضموا إلى الرفض مذهب المعتزلة، ثم يخرجون إلى مذهب الإسماعيلية ونحوهم من أهل الزندقة والاتحاد. انتهى كلامه رحمه الله. وهذا العراقي الملحد ضم إلى معتقده في عبادة القبور مذهب الجهمية، والمعتزلة، وقول الرافضة في الرؤية والقدرية. وأما قوله عن شيخ الإسلام: (وقال أيضاً ما محصله: إن من البدع المنكرة تكفير طائفة من المسلمين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 واستحلال دمائهم وأموالهم، إذ لعل تلك الطائفة ليس فيها من البدعة ما في الطائفة المنكرة لها، ولو فرض أن تلك الطائفة قد ابتدعت لم يجز للطائفة التي على السنة أن تكفرها لما عسى أن تكون بدعتها ناشئة عن خطأ ... ) إلى آخره. فالجواب أن نقول: ليس هذا مما نحن فيه في شيء، فإن من أهل البدع من لم تخرجه بدعته من الإسلام، وليس الكلام في هؤلاء، وفرض كلام الشيخ فيمن لم تكن بدعته تخرجه من الإسلام، وإنما الكلام في غلاة هؤلاء الطوائف، وبهذا يعلم كل من له أدنى مسكة من عقل، وأقل معرفة من علم: أن عباد القبور والجهمية لا يدخلون في أهل البدع والأهواء الذين تقدم كلام الشيخ فيهم، والشيخ محمد رحمه الله لا يكفر أحداً من هذا الجنس، ولا من هذا1 النوع، وإنما يكفر من نطق بتكفيره الكتاب العزيز، وجاءت به السنة الصحيحة، واجتمعت على تكفيره الأمة، كمن بدل دينه، وفعل فعل الجاهلية، الذين يعبدون الملائكة، والأنبياء، والصالحين، ويدعونهم مع الله، فإن الله كفرهم وأباح دماءهم وأموالهم، كما دل عليه الكتاب العزيز، والسنة المستفيضة.   1 في ط الرياض: "هؤلاء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 فصل في تناقض العراقي وكلامه في الجهمية ... فصل إذا تبين لك هذا، فمن عجيب أمر هذا العراقي وشدة غباوته، وأنه إنما دهي من عجمته، وعدم معرفته، وعدم تلقيه1 العلوم الشرعية من مظانها،: تناقضه، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82] . فمن ذلك أنه ذكر فيما تقدم في غير موضع أن الوهابية قد خبطت كل الخبط في تنزيهه تعالى، حيث أبت إلا جعل استوائه سبحانه ثبوتاً على عرشه، واستقراراً وعلواً فوقه، وأثبتت له الوجه واليدين، وبعضته سبحانه فجعلته ماسكاً بالسموات على أصبع، والأرض على أصبع، والشجر على أصبع، والملك على أصبع، ثم أثبتت له تعالى الجهة فقالت: هو فوق السموات، ثابت على العرش، يشار إليه بالأصابع إلى فوق إشارة حسية، وينزل إلى السماء، ويصعد.   1 في ط الرياض: "وتلقي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 ثم نفى الرؤية في مواضع أخر، وأولها بنوع من الانكشاف والتجلي من غير حاجة للباصرة، ولا محاذاة لها. وفي موضع آخر قال: (فاعتقدوا متمسكين بظواهر الآيات أن الله تعالى على عرشه، وعلاه علواً حقيقياً، وأن له تعالى وجهاً ويدين، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا ويصعد نزولاً وصعوداً حقيقين، وأنه يشار إليه في السماء بالأصبع) . ثم نكس على رأسه، فقال لما أتى على فرق أهل الأهواء، قال: (ثم فارقت الجهمية الجماعة فقالوا: ليس على العرش إله يعبد، ولا لله في الأرض من كلام، وأنكروا صفات الله التي أثبتها لنفسه في كتابه المبين، وأثبتها رسوله الصادق الأمين، وأجمع على القول بها الصحابة، وكذلك أنكروا رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، إلى غير ذلك من أقوالهم ومعتقداتهم الكفرية) . هذا لفظه بحروفه، فنقض ما تقدم من قوله في الوهابية بما قاله ها هنا من أن الجهمية فارقوا الجماعة، وقالوا: إنه ليس على العرش إله يعبد، وأنهم أنكروا الصفات التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله، وأجمع على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 القول بها الصحابة، وكذلك قال في رؤية الله تعالى، وصرح أن هذا وغيره من معتقداتهم الكفرية، وكذلك قال في سائر الفرق أنهم فارقوا الجماعة، وأن أهل السنة لم يكفروهم بهذه الكفريات. وهكذا يكون كلام من اتبع هواه {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّه} [الجاثية: 23] ، وإلا فكيف يعتقد أن الله ينزه عن إثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، ثم يحكم على أن القائل بها مفارق للجماعة، مخالف لما أجمع عليه الصحابة، وأن اعتقاد هذا من العقائد الكفرية، ثم يقول: (ومع تماديهم في ضلالهم، واستمرارهم على عنادهم، بعد أن بين أهل الحق لهم خطأ مذهبهم، لم يكفروهم، بل جعلوا الأخوة الإيمانية ثابتة لهم، ولمن قبلهم من أهل البدع) ، هذا قوله في المرجئة والمعتزلة والقدرية. وأما الجهمية فقال: (ومع ذلك فقد رد عليهم الأئمة وبينوا ضلالهم، حتى أنهم قتلوا بعض دعاتهم، كجهم بن صفوان والجعد بن درهم، وبعد أن قتلوهم غسلوهم وصلوا عليهم، ودفنوهم في مقابر المسلمين، ولم يجروا عليهم أحكام أهل الردة) . وقال في الرافضة: (ومع ذلك فلم يكفرهم أحد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 العلماء ولا منعوهم عن التوارث، ولا التناكح، وأجروا عليهم أحكام المسلمين) . ويكفي مجرد حكاية ضلاله عن التكلف في رده، إذ من المعلوم بالضرورة أن هذا الكلام بكلام المجاذيب الذين ينطقون بما لا يعقلون أشبه به من نسبته إلى أحد من أهل العلم. والله المستعان. ثم ذكر انعقاد الإجماع على أن من أقر بما جاء به الرسول -وإن كانت فيه خصلة من الكفر أو الشرك- لا يكفر حتى تقام عليه الحجة ... إلى آخر ما ذكره، مما قد بيناه فيما تقدم جوابه، وكلام العلماء فيه. ثم قال في آخر: (فقد تبين ما للوهابية في تكفيرها المسلمين من البدعة، والمخالفة لما جاء به1 كتاب الله، وسنة رسوله، وأقوال أئمة الدين، والعلماء المجتهدين) . والجواب أن يقال: قد بينا فيما تقدم أن الوهابية لا يكفرون المسلمين، ولا يكفرون -أيضاً- أهل الأهواء مطلقاً، إلا بعد بلوغ الحجة على من قام به مكفر من المكفرات، وناقض2 من النواقض، ولم نكفر إلا من نطق   1 سقطت: "به" من ط الرياض. 2 في ط الهند: "وناقضاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 كتاب الله وسنة رسوله بتكفيره، وخالف أئمة الدين والعلماء المجتهدين، وأجمعت الأمة على تكفيره، كمن بدل دينه، وفعل فعل الجاهلية، الذين يعبدون الملائكة والأنبياء، والصالحين، ويدعونهم مع الله، فإن الله كفرهم وأباح دماءهم وأموالهم، فلا يهولنك سفسطة هذا العراقي، وتمويهه بهذه العبارة، فإنه أول من خالفها، كيف وقد قال فيما مضى من كلامه: (إن لأدلة نصوص الكتاب والسنة ظواهر ظنية لا تعارض اليقينيات) يعني باليقينيات: معقولات الفلاسفة، واليونان، وأنباط فارس، وفروخ الجهمية، وورثة المجوس، والصابئين من المتكلمين الخارجين عن سبيل المؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 فصل في حكم التوسل والإستغاثة والزيارة والشرك ... فصل قال العراقي: (الوهابية، ونفيها التوسل: ذكرنا فيما سبق تكفير الوهابية لمن خالف بدعتها من جميع المسلمين، ونسبتها إياهم إلى الشرك الأكبر، وقد آن لنا أن نذكر ههنا ما اتخذته ذريعة لتكفيرهم من الأمور: فمنها: الاستغاثة بالأنبياء والأولياء، والتوسل بهم إلى الله تعالى، وزيارة قبورهم، فهي قد نفت ذلك وحرمته، وشددت النكير على المستغيثين والمتوسلين والزائرين فكفرتهم وعدتهم مشركين، كعباد الأوثان، بل جعلتهم أسوأ حالاً منهم، حيث قالت: إن المشركين السابقين كانوا مشركين في الألوهية فقط، وأما مشركوا المسملين -تعني بهم من خالفها منهم- فقد أشركوا في الألوهية والربوبية، وقالت أيضاً: إن الكفار في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشركون دائماً، بل تارة يشركون، وتارة يوحدون الله، ويتركون دعاء الأنبياء والصالحين، وذلك أنهم إذا كانوا في السراء دعوهم، واعتقدوا بهم، وإذا أصابهم الضر والشدائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 تركوهم وأخلصوا لله الدين، وعرفوا أن الأنبياء والصالحين لا يملكون ضراً ولا نفعاً) . والجواب على سبيل النقض -وسيأتي الجواب على ما يجيب به عما قالت الوهابية- أن نقول: أما الاستغاثة بالأنبياء والأولياء فهي من الشرك الأكبر، لأن الاستغاثة طلب الغوث، ومن طلب من ميت أو غائب ما لا يقدر عليه إلا الله كان مشركاً، لأن الاستغاثة من أنواع العبادة، فصرفها لغيره شرك. قال شيخ الإسلام: ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب -كما ذكره السائل- ويستغيث به عند المصائب: يا سيدي فلان، كأنه يطلب منه إزالة ضره، أو جلب نفعه، وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم. ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلم الناس بقدره وحقه أصحابه، ولم يكونوا يفعلون شيئاً من ذلك لا1 في مغيبه، ولا يعد مماته ... إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. وأما التوسل بهم إلى الله، كأن يسأل الله تعالى   1 سقطت "لها" من ط الهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 بجاههم أو بحرمتهم، فهذا ليس بشرك، بل هو من البدع المحرمة، والذرائع المفضية إلى ما هو أكبر من ذلك. وأما زيارة قبورهم على الوجه الشرعي، فلا مانع منه. ونسبته إلى الوهابية كذب عليهم. وأما مع شد الرحل فبدعة محرمة، فإن تضمنت زيارتهم دعاءهم والاستغاثة بهم، والالتجاء إليهم، فهو الشرك الأكبر المخرج عن الملة، وأدلة ذلك الآيات التي ذكرها فيما يأتي. وأما كون مشركي أهل هذه الأزمان أسوأ حالاً من مشركي الجاهلية: فنعم، لأن الكفار الأولين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، فيقرون أن الله هو الخالق الرازق، المحي المميت، المدبر النافع الضار، إلى غير ذلك مما ذكره الله عنهم، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام، وإنما كان شركهم في الألوهية، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وتعظيماً، ومن أنواع ذلك: الدعاء والخوف والرجاء، والحب والتعظيم والاستغاثة، والاستعاذة، والذبح والنذر والتوكل، والالتجاء، والرغبة والرهبة، والخضوع والخشوع، والإنابة، إلى غير ذلك من أنواع العبادة، وهذه حال عباد القبور في هذه الأزمان. وأما كون الكفار في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشركون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 دائماً، بل تارة يشركون، وتارة يوحدون، ويتركون دعاء الأنبياء والصالحين، وذلك أنهم إذا كانوا في السراء دعوهم، واعتقدوا بهم، وإذا أصابهم الضر والشدائد تركوهم وأخلصوا لله الدين، وعرفوا أن الأنبياء والصالحين لا يملكون ضراً ولا نفعاً: فهذا ليس هو قول الوهابية، بل هو نص كتاب الله تعالى، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:65-66] إلى غير ذلك من الآيات. وأما مشركوا أهل هذه الأزمان فإنه لا يشتد شركهم إلا إذا وقعت بهم الشدائد، فإنهم ينسون الله، ولا يدعون إلا معبودهم، فشركهم دائم في الرخاء والشدة، وهذا أمر معلوم مشاهد، لا ينكره إلا مكابر في الحسيات، مباهت في الضروريات. قال العراقي: (حملت الوهابية جميع الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على الموحدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتمسكت بها في تكفيرهم، منها قوله تعالى: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: 18] ، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5-6] ، وقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13-14] ، وقوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213] ، وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [الرعد:14] ، وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 56-57] إلى غير ذلك من الآيات النازلة في المشركين. فزعم ابن عبد الوهاب أن كل من استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتوسل به أو بغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين، أو ناداهم أو سأله الشفاعة، أو زار قبره: يكون في عداد هؤلاء المشركين، داخلاً في عموم هذه الآيات. وشبهته في ذلك: أن هذه الآيات -وإن كانت نازلة في المشركين- إلا أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب) انتهى. فكل ما ذكره عن الوهابية حق، وبه نقول، إلا ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 كان من لفظ التوسل، أو زيارة القبور، فقد تقدم في الفصل الأول الجواب عن ذلك، وأنا لا نكفر بهما. ثم انظر ماذا يجيب به من المخرقة السامجة المارجة الساذجة: قال: (والجواب: أننا لا ننكر أن العبرة هي لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولكن نقول: إن هذه الآيات لا تشمل من زعمت الوهابية أنها شاملة لهم، لما أنه ليس من أحوال الكفار الذين نزلت هذه الآية فيهم شيء عند المتوسلين والمستغيثين، فإن الدعاء يأتي لمعان شتى -كما سنذكره قريباً- وهو في هذه الآيات كلها بمعنى العبادة1، والمسلمون لا يعبدون إلا الله تعالى، وليس فيهم من اتخذ الأنبياء والأولياء آلهة، وجعلهم شركاء لله تعالى حتى تعمهم هذه الآيات، ولا اتقدوا أنهم يستحقون العبادة، ولا أنهم يخلقون شيئاً، ولا أنهم يملكون ضراً ولا نفعاً، بل إنما اعتقدوا أنهم عبيد الله مخلوقون له، وما قصدوا   1 في هذا الموضع وقع تقديم وتأخير لبعض الصفحات في "الأصل" الطبعة الهندية وكان ترتيبها هكذا: ص 553، 558، 559، 556، 557، 554، 555، 560، 561. وهذا موجود في كل نسخة هندية وقفت عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 بزيارة قبورهم والتوسل بهم إلى الله تعالى إلا التبرك بهم، لكونهم أحباء الله المقربين، الذين اصطفاهم واجتباهم فببركتهم يرحم عباده. قالت الوهابية: إن اعتذاركم هو عين اعتذار المشركين عن عبادة الأصنام، فقد قال تعالى حكاية عن المشركين في اعتذارهم عن عبادة الأصنام {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . فالمشركون ما اعتقدوا في الأصنام أنها تخلق شيئاً، بل اعتقدوا أن الخالق هو الله تعالى، بدليل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] . وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] ، فإنما حكم الله تعالى عليهم بالكفر لقولهم: {لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} [الزمر: 3] . قالت: وهكذا المتوسلون بالأنبياء والصالحين يقولون ما هو بمعنى قول المشركين: ليقربونا إلى الله زلفى. قال العراقي: (والجواب من وجوه: الأول أن المشركين جعلوا الأصنام آلهة، والمسلمون ما اعتقدوا إلا إلها واحداً، فعندهم أن الأنبياء أنبياء، والأولياء أولياء، ليس إلا، فلم يتخذوهم آلة مثل المشركين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 والجواب عن أجوبة هذا الملحد أن نقول: ما ذكره العراقي ليس هو حاصل ما تجيب به الوهابية من أشرك بالله غيره، واتخذ معه آلهة من دونه، فإن عندهم من الأدلة والأجوبة ما لم تحط به علماً، ولا تقدر على نقضه وإبطاله، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33] . فإنهم هم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقيقة لا على الدعوى والانتساب، ولكنا في هذا المقام إنما نجيب على أجوبته بما يبين بطلانها، ويهدم أركانها، ويهد بنيانها، وإن كان ما أجابهم به أوهن من خيط العنكبوت، فنقول: قد كان من المعلوم عند من له معرفة بالعلوم الشرعية أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: منهم من يعبد الأصنام المصورة على صور الصالحين: ود وسواع، ويغوث ويعوق ونسر. ومنهم من يعبد الملائكة، والأنبياء والصالحين، ويجعلونهم وسائط بينهم وبين الله، ويقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم. ومنهم من يعتقد في الأشجار والأحجار، يرجون بركتها، وغير ذلك، ومع ذلك كانوا يعلمون أن الأنبياء أنبياء، وأن الأولياء أولياء، وأن الأشجار -كالعزى- شجرة، وأن مناة أكمة يذبحون لآلهتهم عندها يرجون بركتها، وكذلك اللات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 يعلمون أنها صخرة كان يلت عليها السويق للحاج. فبعث الله1 محمداً صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله، ولا يصلح2 منه شيء لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما. وهؤلاء المشركون لم يعتقدوا في آلهتهم التي يدعونها من دون الله من الأصنام، والملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين، أنهم يستحقون العبادة، ولا أنهم يخلقون شيئاً، ولا أنهم يملكون ضراً ولا نفعاً، ويعلمون أن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، المدبر لجميع الأمور، ولكن لم يدخلهم ذلك في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وأن يكون الدين كله لله، والنذر كله لله3، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، والالتجاء إليه وحده، والتوكل عليه، والخوف والرجاء منه، والدعاء كله لله، وجميع أنواع العبادة كلها لله. فإذا عرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم   1 سقطت: "الله" من ط الرياض. 2 في ط الرياض: "لا يصلح". 3 سقطت "والنذر كله لله" من ط الهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله بهم، ويتبركون بهم، لكونهم أحباء الله المقربين الذين اصطفاهم1 واجتباهم: هو الذي أحل دماءهم وأموالهم. عرفت حينئذ التوحيد التي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب، ويقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً، أو شجرة أو قبراً أو جنياً. لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر. فمن صرف من هذه العبادة -المتقدم ذكرها- شيئاً لغير الله فقد اتخذه إلهاً، لأنه صرف خالص حق الله لغيره، وأشركه معه في عبادته، ومن أشرك بالله أحداً في عبادته كان مشركاً، سواء كان المدعو المستغاث به ملكاً أو نبياً أو ولياً أو صنماً. فقول هذا العراقي: (إن المشركين جعلوا الأصنام آلهة، والمسلمون ما اعتقدوا إلا إلهاً واحداً) . جهل عظيم، وغباوة مفرطة، فإن المشركين عبدوا الملائكة، وعيسى واللات -وهو قبر رجل صالح- مع الأصنام المصورة، وصرفوا لهم خالص حق الله، كما تقدم ذكره.   1 في ط الرياض: "اصطفاهم الله واجتباهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وأيضاً فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: "قولوا لا إله إلا الله"، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] ، فالكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق، والكفر بما يعبد من دون الله، والبراءة منه، وأن يكون الدين كله لله، فإذا صرف المشركون لمن يعتقدون فيه شيئاً من هذه العبادة كانوا بذلك مشركين، فكذلك من يزعم أنه مسلم، ويتلفظ بالشهادتين، ويقر بسائر الأركان إذا صرف من هذه العبادة شيئاً لغير الله كان مشركاً، ولا ينفعه اعتقاده أن الله إله واحد، وهو يعبد معه غيره، ولا تنفعه معرفته أن الأنبياء أنبياء، والأولياء أولياء وهو يشركهم في عبادة الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 فصل في بيان جهل الملحد بمعنى العبادة ... فصل قال العراقي: (الثاني: أن المشركين اعتقدوا أن تلك الآلهة تستحق العبادة، بخلاف المسلمين فإنهم لم يعتقدوا أن أحداً من المتوسلين بهم مستحق لأقل عبادة، وليس عندهم المستحق للعبادة إلا الله وحده) . والجواب أن نقول: هذه العبادة التي صرفها المشركون الأولون لآلهتهم هي ما يفعله المشركون من عباد القبور في هذه الأزمان سواء بسواء، وإن زعموا أن هذا توسل، فالعبرة بالحقائق لا بالأسماء. فإن المشركين الأولين ما زعموا أن آلهتهم التي عبدوها من دون الله من الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة، شاركوا الله في خلق السموات والأرض، أو استقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات، ولا أنهم مستحقون للعبادة، وإنما كانوا يدعونهم ويلتجئون إليهم، ويسألونهم على وجه التوسل بجاههم وشفاعتهم، ليقربوهم إلى الله زلفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ويقال لهذا الملحد أيضاً: لايخلو معتقد هذه الأفعال عن أحد ثلاثة أمور: إما أن يعتقد أنهم مستحقون للعبادة من دون الله، أو مع الله. وإما أن لا يعتقد ذلك، لكن ليقربوهم إلى الله زلفى. وإما أن لا تكون هذه الأفعال عبادة. فإن كان أراد أن هذه الأفعال1 ليست بعبادة؛ فقد كابر العقل والشرع، وباهت في الضروريات. وإن كان أراد بها ليقربوهم إلى الله زلفى، مع اعتقادهم أن الله هو النافع الضار، المدبر لجميع الأمور، وأنه لا خالق إلا الله، فهذا هو شرك الجاهلية. وإن أراد أنهم مستحقون للعبادة من دون الله، أو مع الله، كان هذا أعظم من شرك الجاهلية، فإن هذا شرك في الربوبية والألوهية معاً. فإذا عرفت أن هذا الشرك الذي يسميه هؤلاء توسلاً وتشفعاً بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بحقه، وغير ذلك من الألفاظ، أو بجاه غير النبي صلى الله عليه وسلم كالملائكة والأولياء والصالحين، وهو أن يعتقد أحدهم في غير الله أنه بذاته يقدر على جلب منفعة لمن دعاه، أو استغاث به، أو دفع مضرة، أو أن   1 سقطت "الأفعال" من ط الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 هذا1 يحصل ببركته وشفاعته كان هذا هو العبادة التي لا يستحقها إلا الله، فإن العبادة التي لا يستحقها إلا الله مع الإقرار بتوحيد الربوبية هي أفعال العبد الصادرة منه، كالدعاء والحب والخوف والرجاء والخضوع، والخشوع والإنابة والتوكل والمحبة، والتعظيم والاستغاثة والدعاء والالتجاء والاستعانة، والاستعاذة والذبح والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي اختص الله2 بها دون من سواه، وهو المستحق لها دون من عداه، فمن صرف منها شيئاً لغير الله كان مشركاً، سواء اعتقد التأثير فيمن3 يدعوه ويستغيث به، أو أنه مستحق لذلك، أو غير مستحق، أو لم يعتقد ذلك، وإن فر من تسمية فعله ذلك4 شركاً، وتألهاً وعبادة، فإنه من المعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسمائها، فلا تزول هذه المفاسد بتغير أسمائها، كتسمية عبادة غير الله توسلاً وتشفعاً أو تبركاً، وتعظيماً للصالحين، وتوقيراً، فإن الاعتبار بحقائق الأمور لا بالأسماء   1 سقطت "هذا" من ط الرياض. 2 سقطت "الله" من ط الرياض. 3 في ط الرياض: "فيما". 4 سقطت "ذلك" من ط الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 والاصطلاحات، والحكم يدور مع الحقيقة وجوداً وعدماً، لا مع الأسماء. فقوله عن مشركي هذا الزمان: (إنهم لا يعتقدون أن أحداً منهم بتوسله يزعم أنهم مستحقون لأقل عبادة) تمويه وسفسطة من هذا العراقي، لأن المستحق للعبادة هو الذي تألهه القلوب محبة، وإجلالاً وتعظيماً فمن تأله غير الله فقد اعتقد أنه مستحق للعبادة بتألهه إياه بأنواع هذه العبادة، شاء أم أبى، ولا ينفعه إقراره أن المستحق للعبادة هو الله وحده، وهو يشرك به غيره. وأما قوله: (الثالث أن المشركين عبدوا تلك الآلهة بالفعل، كما قال تعالى حكاية عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، والمسلمون ما عبدوا الأنبياء والصالحين في توسلهم إلى الله تعالى) . فالجواب أن يقال: إن المشركين عبدوا تلك الآلهة بالفعل الصادر منهم، كالدعاء والحب والخوف والتعظيم والرجاء والاستغاثة، والاستعاذة والذبح لهم، والنذر والالتجاء إليه، فصرفوا لهم هذه العبادة، ليشفعوا لهم عند الله، وليقربوهم إلى الله زلفى، وهكذا حال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 مشركي هذه الأزمان، إنما عبدوهم بالفعل والاعتقاد فيهم، وتوسلوا بهم، وقصدوهم لأجل التبرك بهم، والاستشفاع بجاههم، لا لأجل أنهم مستحقون للعبادة، ولا أنهم مستقلون بالخلق والإيجاد، والنفع والضر -وأيضاً- فإن مجرد ارتكاب فعل أو قول، أو اعتقاد لغير الله، مما يعد من العبادة من الدعاء والذبح -وما تقدم ذكره- موقع في الإشراك، سواء وجد معه اعتقاد ألوهية غير الله أم لا. وأما قوله: (الرابع: إن المشركين قصدوا بعبادة أصنامهم التقرب إلى الله تعالى، كما حكى الله، وأما المسلمون فلم يقصدوا بتوسلهم بالأنبياء وغيرهم التقرب إلى الله تعالى لما أن التقرب إليه لا يكون إلا بالعبادة، ولذلك قال الله حكاية عن المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، بل المسلمون قصدوا التبرك والاستشفاع بهم، والتبرك بالشيء غير التقرب به، كما لا يخفى) . فالجواب أن نقول: وهكذا حال مشركي العرب مع أوثانهم، إنما كانوا يعتقدون حصول البركة منها، بتعظيمها ودعائها والاستغاثة بها، والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه منها، ويؤملونه ببركتها وشفاعتها، وغير ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 فالتبرك بالصالحين أو بقبورهم، كالتبرك باللات، وبالأشجار والأحجار، كالعزى ومناة، من جملة فعل أولئك المشركين، مع تلك الأوثان، فمن فعل مثل ذلك، واعتقد في قبر أو صاحبه، أو حجر أو شجر، فقد ضاهى عباد هذه الأوثان فيما كانوا يفعلونه معها من هذا الشرك، على أن الواقع من هؤلاء المشركين في هذه الأزمان مع معبوديهم أعظم مما وقع من أولئك، فمن دعا غير الله، واستغاث به ولجأ إليه، وصرف له شيئاً من خالص حق الله، كان هذا الفعل منه بهذا القصد شركاً، بدليل ما رواه الترمذي، وصححه عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] ، لتتبعن سنن من كان قبلكم" 1.   1 اخرجه أحمد في المسند 5/218، والترمذي في كتاب الفتن من جامعه 4/475، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف 11/112، والاقتضاء لشيخ الإسلام 1/146، والشافعي كما في بدائع المنن 23، والطيالسي في مسنده ص 191، وعبد الرزاق في المصنف 11/369، وابن أبي شيبة في المصنف 15/101، والحميدي في المسند 2/375، وابن أبي عاصم في السنة 1/37، والمروزي في السنة ص 11-12، والطبراني في الكبير 3/275-276، وابن حبان في صحيحه -الإحسان- 8/248، والبيهقي في دلائل النبوة 5/124-125، وفي المعرفة 1/108، وابن إسحاق -كما في سيرة ابن هشام- 4/70-71، والبغوي في تفسيره 3/544 –حاشية ابن كثير- جميعهم عن سنان بن أبي سنان عن أبي واقد الليثي ... به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 فقوله: "وينوطون بها أسلحتهم" أي يعلقونها للبركة، ففي هذا بيان أن عبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك، وبهذه الأمور الثلاثة عبدت الأشجار ونحوها، فظنوا أن هذا الأمر محبوب عند الله، فقصدوا التقرب به، فأقسم صلى الله عليه وسلم أن طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، بجامع أن كلا طلبه أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله، وإن اختلف اللفظان، فالمعنى واحد، فتغيير الاسم لا يغير الحقيقة. ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أن طلبتهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط، يتبركون بها، كطلبة بني إسرائيل من موسى أن يجعل لهم إلهاً، فأقسم صلى الله عليه وسلم أن مقالة هؤلاء كمقالة أولئك سواء بسواء، وإذا كان القصد من الشرك بالشيء -كالتبرك مثلاً- هو القصد من التأله به، كان الكل عبادة يتقرب بها إلى الله، فالفرق بين العبادتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 لاختلاف اللفظين تحكم بغير دليل، فقد اتضح عدم الفرق في هذه القضية، فانجلت الشبهة العراقية. وأما قوله: (الخامس: أن المشركين لما كانوا يقصدون أن الله تعالى جسم في السماء، أرادوا بقولهم: ليقربونا إلى الله زلفى. التقرب الحقيقي، ويدل عليه تأكيده بقولهم: (زلفى) إذ تأكيد الشيء بما ظاهره معناه يدل في الأكثر على أن المقصود به هو المعنى الحقيقي دون المجازي، فإذا قلنا: قلته قتلاً، تبادر القتل الحقيقي إلى الفهم، لا الضرب الشديد، بخلاف ما لو قلنا: قلته فقط. فإنه قد يراد به الضرب الشديد، وأما المسلمون فحيث لم يقصدوا أن الله جسم في السماء، بعد منهم أن يطلبوا التقرب الحقيقي إليه بالتوسل، فلا ينطبق عليهم حكم الآية) . نعم. إن الوهابية لما اعتقدت أن الله تعالى جسم استوى على عرشه في السماء، لم تجد للتبرك الذي قصده المسلمون بتوسلهم معنى غير التقرب الذي يكون إلى الأجسام، ولذلك جعلت هذه الآية منطبقة عليهم) . فالجواب أن يقال: قد كان من المعلوم أن مشركي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الجاهلية لا يعرفون من لفظ الجسم ما أحدثه هؤلاء المتأخرون من أنه مركب إما من المادة والصورة، أو من الجواهر المنفردة، أو ما تركب من أجزاء متفرقة، ولا كانوا يعرفون ما أحدثه هؤلاء من لفظ "الأعراض" و"الأغراض" و"الأبعاض" و"الحيز" و"الجهة". وإنما يعرف هذا عن1 ورثة المجوس، والمشركين وضلال اليهود، والنصارى والصابئين، وأفراخ المتفلسفة، وأتباع الهند، واليونان، وأما العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، فإن الجسم معناه في لغتهم البدن الكثيف، الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه، فلا يقال للهواء جسم لغة، ولا للنار ولا للماء. وإذا كان ذلك كذلك، كان هذا المعنى منفياً عن الله تعالى عقلاً وسمعاً. وكذلك ما يعني هؤلاء الملاحدة بالجسم أنه مركب إما2 من المادة والصورة والهيولي، أو من الجواهر المنفردة3، أو من الأجزاء المتفرقة: منفي عن الله تعالى باتفاق من أثبته ومن نفاه من العقلاء، حتى في الممكنات. فإذا تمهد هذا فالكفار الجهال كانوا أصح عقولاً،   1 في ط الهند "من". 2 سقطت "إما" من ط الرياض. 3 في النسختين: (الفردة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وأسلم فطراً من ورثة المتفلسفة، والصابئين، وأنباط فارس، والروم، فإنهم كانوا يعلمون بفطرهم التي فطروا عليها أن الله الذي خلقهم وأوجدهم: فوق السماء، كما قال صلى الله عليه وسلم لحصين الخزاعي: "كم كنت تعبد؟ " قال: سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء. قال: "من كنت تعد لرغبتك ورهبتك؟ " قال: الذي في السماء1. وكانوا إذا لجئوا إلى الله ودعوه رفعوا أبصارهم وأيديهم إلى السماء. ومن أشعارهم قول أمية بن أبي الصلت الثقفي، الذي أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم فاستحسنه، وقال: "آمن شعره وكفر2 قلبه" قال3:   1 أخرجه الترمذي في سننه كتاب الدعوات 5/519 من طريق أبي معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن البصري عن عمران بن حصين ... الحديث. وقال عقبه: هذا حديث غريب. وقد روى هذا الحديث عن عمران بن حصين من غير هذا الوجه. اهـ. وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير من هذا الطريق أيضاً، واختصر المتن 3/3. وأخرجه أحمد في المسند 4/444 من طريق منصور عن ربعي بن حراش عن عمران بن حصين أو غيره ... الحديث، وليس فيه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه زيادة في الدعاء الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم له. وأخرجه الحاكم من هذا الطريق أيضاً، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي. المستدرك 1/510. 2 في ط الرياض "وكفن". 3 ذكره الذهبي في العلو ص: 42-43 وقال: إسناده منقطع. ورواه ابن عبد البر في التمهيد 4/7، وابن عساكر الكنز 1/1524، وتهذيب تاريخ دمشق 3/124. وروى البخاري ومسلم: "كاد أمية أن يسلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيراً بالبناء الأعلى الذي سبق النا ... س وسوى فوق السماء سريرا شرجعاً ما يناله بصر العـ ... ـين ترى دونه الملائك صورا وقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين قال: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا1 وإذا كان العرب يعرفون بفطرهم أن الله فوق السماء، ولا كانوا يعرفون ما أحدثه هؤلاء من لفظ الجسم على اصطلاحهم الحادث الملعون، واختلافهم في ذلك، كان تفريعاً باطلاً على تأصيل باطل مخترع، فكان2 من المعلوم   1 ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب 3/900-902 ط البجاوي، وقال: (قصته مشهورة رويناها من وجوه صحاح) ، وأسنده الذهبي في السير 1/237-238 وقال في العلو ص: 42 وجوهه مرسلة. 2 في ط الرياض: "وكان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 أن المشركين إنما اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم إنما هو بطلب القربة والمنزلة عند الله، بشفاعة من يعبدونه، والقربى هي المنزلة، فكان من المعلوم أنهم ما طلبوا منزلة مجازية لا حقيقة لها في الخارج. قال البغوي رحمه الله في تفسير هذه الآية: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء} [الزمر: 3] ، يعني: الأصنام {مَا نَعْبُدُهُمْ} [الزمر: 3] ، أي قالوا ما نعبدهم: {إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ،وكذلك قرأ ابن مسعود وابن عباس. قال قتادة: وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم: من ربكم ومن خلقكم، ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله، فيقال لهم: فما معنى عبادتكم الأوثان؟ قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى. أي قربى، وهو اسم أقيم مقام المصدر، كأنه قال: إلا ليقربونا إلى الله تقريباً ويشفعوا لنا عند الله. وبهذا يندفع توهم هذا العراقي أن التقرب بالمعنى المجازي، لا على المعنى الحقيقي، لأنه لا يعتقد أن الله على عرشه، بائن من خلقه، فلذلك ظن أن1 المشركين كانوا يعتقدون أن الله في السماء على عرشه فوق خلقه، وإذا كان على عرشه فوق خلقه كان جسماً، وقد بينا فيما   1 سقطت "أن" من ط الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 تقدم بطلان ما توهمه من اللوازم التي أحدثوها، ما أنزل الله بها من سلطان {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] . وإذا تبين لك ما قدمناه، كان حكم الآية منطبقاً1 على هؤلاء المشركين، الذين يزعم هذا الملحد أنهم مسلمون. وأيضاً فإن هذا الملحد، ومن نحا نحوه من المشركين، حيث أنكروا التقرب الحقيقي، فمرادهم أنه ليس فوق السموات رب، ولا على العرش إله، ولا يشار إليه بالأصابع إلى فوق إشارة حسية، كما أشار إليه أعلم الخلق به، ولا ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا رفع المسيح إليه، ولا عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه حقيقة، ولا يتقرب إليه بشيء، ولا يقرب منه أحد، لأنه يلزم على هذا عندهم أن يكون جسماً، وقد علم بالاضطرار أن الله لا سمي له، ولا كفو له، ولا مثل له، فإنه أحد صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فلا ننفي عن الله ما أثبته لنفسه لتسمية الملاحدة أعداء الله ورسوله للموصوف بها جسماً، وهؤلاء الضلال قد جمعوا بين الشرك في الإلهية، وبين تعطيل الرب عن صفات كماله، ونعوت جلاله، فكان المشركون   1 في ط الهند "منطبق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 الأولون أخف شركاً منهم، لأنهم ما أنكروا علو الله على عرشه، ولا عطلوه من صفات كماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 فصل في أنواع الشرك، وجهل الملحد بها ... فصل قال الملحد: (ويجدر بنا أن نبين هنا أنواع الشرك، فنقول: منها ما يقال له: شرك الاستقلال، وهو إثبات إلهين مستقلين، كشرك المجوس. ومنها: شرك التبعيض، وهو تركيب الإله من عدة آلهة، كشرك النصارى. ومنها: شرك التقريب، وهو عبادة غير الله تعالى ليقرب إلى الله زلفى، كشرك الجاهلية. والشرك الذي جعلته الوهابية أصلاً لشرك المستغيث والمتوسل، وبنت عليه قاعدتها، هو شرك التقريب الذي دانت به الجاهلية) . والجواب أن نقول: هذا التقسيم بهذا اللفظ لم أجده في شيء من كتب أهل الإسلام، الذين هم الأسوة، وبهم القدوة، ولم ينسبه إلى عالم من علماء الإسلام، وإنما هو تنويع عراقي، وفيه من التقصير والقصور ما لا يخفى. وإذا كان هذا مبلغ علمه، ومحصول ما لديه، تعين أن نذكر من أقوال أهل العلم ما يبين تخليط هذا العراقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وتخبيطه، حيث اعتقد أن ما يفعله المشركون في هذه الأزمان ليس من الشرك، فنقول: اعلم أن ضد التوحيد الشرك، وهو ثلاثة أنواع: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي. والدليل على الشرك الأكبر قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:116] . {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] . وهو أربعة أنواع: شرك الدعوة. والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] . النوع الثاني: شرك النية والإرادة والقصد. والدليل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] . النوع الثالث: شرك الطاعة. والدليل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] ، وتفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم، كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما سأله قال: لسنا نعبدهم. فذكر أن عبادتهم طاعتهم في المعصية1.   1 أخرجه الترمذي في سننه كتاب التفسير 5/278، وابن جرير الطبري في تفسيره 10/114، والطبراني في الكبير 17/92، والبيهقي في سننه كتاب آداب القاضي 10/116، كلهم من طريق عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عدي اطرح عنك هذا الوثن" وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه. هذا لفظ الترمذي. وهذا إسناد ضعيف علته غطيف بن أعين وقيل غضيف ضعفه الدارقطني وغيره -وبه أعل الترمذي هذا الحديث فقال عقبه: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث) اهـ. وعبد السلام بن حرب ثقة إمام حافظ إلا أن له مناكير. والحديث عزاه السيوطي في الدر المنثور 4/174 لابن سعد، وعبد بن حميد وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه. وعزاه ابن كثير في تفسيره 2/348 للإمام أحمد ولم أجده في مسند عدي. والله أعلم. وللحديث شاهد من حديث حذيفة موقوفاً أخرجه -كما في الدر المنثور 4/174- عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في سننه كلهم من طريق أبي البختري سعيد بن فيروز قال: سأل رجل حذيفة رضي الله عنه فقال: أرأيت قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ... } الآية. أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شئياً حرموه. وأخرجه من هذا الطريق ابن جرير في تفسيره 10/114-115 وإسناده ضعيف للانقطاع بين أبي البختري وحذيفة. فإن أبا البختري لم يسمع من حذيفة إنما أرسل عنه، كما في تهذيب الكمال للمزي، وجامع التحصيل. ثم عزا السيوطي في الدر أثر حذيفة هذا إلى أبي الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان، والذي يظهر من صنيع السيوطي أنه من طريق آخر غير طريق أبي البختري فلينظر. وقد حسن شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية هذا الحديث كما في كتابه الإيمان ص 64 وعلى معنى هذا الحديث جمهور المفسرين. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 النوع الرابع: شرك المحبة. والدليل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه} [البقرة: 165] . وأما النوع الثاني: فهو الشرك الأصغر، وهو الرياء. والدليل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110] ، وهو أنواع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 والنوع الثالث: الشرك الخفي. والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء، على صفاة1 سوداء، في ظلمة الليل". وكفارته قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم". وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الشرك شركان: شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله. وشرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. والشرك الأول نوعان: أحدهما شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال وما رب العالمين؟ وقال تعالى مخبراً عنه إنه قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36-37] . فالشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل، وكل معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه، وصفاته، ولكن عطل حق التوحيد.   1 في ط الهند "صفات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو: التعطيل، وهو ثلاثة أقسام: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه. وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته، وأفعاله، وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد. ومن هذا الشرك شرك طائفة أهل وحده الوجود الذين يقولون ما ثم خالق ومخلوق ولا ههنا شيئان بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه. ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدوماً أصلاً، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها، يسمونها العقول والنفوس. ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله، من غلاة الجهمية والقرامطة، فلم يثبتوا له اسماً ولا صفة، بل جعلوا المخلوق أكمل منه، إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 فصل1 النوع الثاني: شرك من جعل معه آلهاً آخر، ولم يعطل أسماءه وربوبيته وصفاته، كشرك النصارىالذين جعلوه ثالث ثلاثة، فجعلوا المسيح إلهاً والله إلها، وأمه إلهاً، ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة. قلت: فانظر إلى كلام شمس الدين ابن القيم، وإلى كلام هذا الملحد، حيث قال: (منها شرك الاستقلال، وهو إثبات إلهين مستقلين، كشرك المجوس، ومنها شرك التبعيض، وهو تركيب الإله من عدة آلهة، كشرك النصارى) ، وبهذا تعرف أنه ما عرف أنواع الشرك ولا أقسامه. ثم قال ابن القيم: ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وتقديره وإرادته، ولهذا كانوا من أشباه المجوس. ومن هذا شرك الذي حاج إبراهيم في ربه: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي   1 كذا في النسخ، وحذفها أولى لأن الكلام متصل غير منقطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فهذا جعل نفسه -مثلاً لله، يحيى ويمين -بزعمه- كما يحيى الله ويميت، فألزمه إبراهيم -عليه السلام ورحمة الله وبركاته- أن طرد قولك أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها، وليس هذا انتقالاً -كما زعمه بعض أهل الجدل- بل إلزاماً على طرد الدليل -إن كان حقاً- ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات، ويجعلها أرباباً مدبرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة، وغيرهم. ومن هذا شرك عباد الشمس وعباد النار وغيرهم، ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة، ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة، ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الآلهة، وأنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه والانقطاع إليه، أقبل عليه واعتنى به، ومنهم من يزعم أن معبوده الأدنى يقربه إلى المعبود الذي فوقه، والفوقاني يقربه إلى من فوقه، حتى تقربه تلك الآلهة إلى الله سبحانه، فتارة تكثر الوسائط، وتارة تقل. ثم ذكر الشرك في العبادة وأنواعه، وهو الشرك الخفي، وذكر أن منه ما ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس منه شيء مغفور، كالشرك بالله في المحبة. ثم ذكل الشرك بالله سبحانه في الأقوال والأفعال، والإرادات والنيات، وأن منه ما هو أكبر وأصغر، تركنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 ذكر ذلك طلباً للاختصار، فمن أراد الوقوف عليه فهو في "الجواب الكافي والدواء الشافي" وبما ذكرناه يتبين لكل منصف أن هذا العراقي مزجي البضاعة من العلوم النبوية، والعقائد السلفية، وأنه لا دراية له ولا رواية1. وحيث أنه ما عرف من الشرك إلا ما ذكره من هذه الأنواع التي خبط فيها خبط عشواء، صار ما عداه عنده ليس من الشرك، وأن ما عداها من الأمور الشركية -المخرجة من الملة التي هي أعظم وأدهى- لا تخرج من الملة، لكونه قد تلبس بها، وتضمخ بوضرها، فلذلك2 كان يسمي أهلها هم المسلمون عنده. فمن تلك الأمور التي ما ذكرها، ولا عرف أنها من الكفر المخرج من الملة: الشرك الذي يتعلق بذات المعبود، وأسمائه وصفاته وأفعاله كتعطيله سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله، وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد. ومنها: الشرك بالله في المحبة والتعظيم، بأن يحب مخلوقاً كما يحب الله، فهذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وغير ذلك من الأمور الشركية التي تقدم ذكرها.   1 في ط الرياض "لا درية ولا روية". 2 في ط الرياض "فذلك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 فإذا عرفت ذلك تبين لك ضلال هؤلاء الملاحدة الذين أشربت قلوبهم عداوة أهل التوحيد، ولقبوهم بالألقاب الشنيعة، ورموهم بالعظائم التي لا ترام ولا تطاق، وحسبنا الله ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 فصل في بيان سبب شرك الجاهلية ... فصل قال العراقي: (والأمر الذي حمل الجاهلية على شركها هذا هو تسويل الشيطان لها: أن عبادة غير الله تعالى على ما هي عليه من غاية الضعف والعجز، وتركها التقرب إليه بعبادة من هو أعلى منها عنده وأشرف وأقوى، كنحو الملائكة إنما هو سوء أدب، ولكن لما رأت غيبة من عبدته عنها دائماً أو بعض الأوقات صنعت الأصنام أمثلة لما غاب عنها من معبوداتها فعبدتها) .اهـ. والجواب أن نقول: ليس الأمر كما زعمت، ولا ما إليه ذهبت، وإنما الأمر الذي حمل الجاهلية على شركها هو الغلو في الصالحين، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] الآية. والغلو هو الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد، أي لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله، فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا لله. والخطاب وإن كان لأهل الكتاب، فإنه عام يتناول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 جميع الأمة، تحذيراً لهم أن يفعلوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم فعل النصارى في عيسى، واليهود في العزير، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] . وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23]- صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد، أما "ود" فكانت لكلب بدومة الجندل. وأما "سواع" فكانت لهذيل. وأما "يغوث" فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبا. وأما "يعوق" فكانت لهمدان. وأما "نسر" فكانت لحمير لآل ذي الكلاع: هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عُبدت. قال ابن جرير رحمه الله: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن موسى بن محمد بن قيس، أن يغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين من بني آدم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورنا صورهم كان أشوق لنا إلى العبادة، فصوروهم فلما ماتوا، وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم. انتهى. فالشيطان هو الذين زين لهم عبادة الأصنام، وأمرهم بها، فصار هو معبودهم في الحقيقة، كما قال تعالى: {أَلَم أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:60-61-62] . وهذا يفيد الحذر من الغلو، ووسائل الشرك، وإن كان القصد بها حسناً، فإن الشيطان أدخل أولئك في الشرك من باب الغلو في الصالحين، والإفراط في محبتهم –كما قد وقع مثل ذلك في هذه الأمة- أظهر لهم الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم، ليوقعهم فيما هو أعظم من ذلك من عبادتهم لهم من دون الله. وفي رواية أنهم قالوا: ما عظم أولونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله. أي يرجون شفاعة أولئك الصالحين الذي صوروا تلك الأصنام على صورهم، وسموها بأسمائهم، ومن هنا يعلم أن اتخاذ الشفعاء ورجاء شفاعتهم بطلبها منهم شرك بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 قال ابن القيم رحمه الله: وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور، ويلقي أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور، من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها، والإقسام على الله بها، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه. فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه، وعبادته، وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثناً تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به، ويستلم ويقبل، ويحج إليه ويذبح عنده. فإذا تقرر هذا عندهم، نقلهم إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد، وأن لا يعبد إلا الله. فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم، ولا قدر، وغضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله، وأنصار دينه ورسلون، ويأبى الله ذلك: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] . انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى. ثم قال العراقي: (إذا تحققت هذا؛ اتضح لك أن حال مشركي الجاهلية لا ينطبق بوجه من الوجوه على المسلمين المتوسلين إلى الله بالأنبياء والصالحين) . فأقول: قد تقدم جواب هذا. وقوله: (فأولئك اتخذوا الأصنام آلهة. والإله معناه: المستحق للعبادة، فهم اعتقدوا استحقاق الأصنام للعبادة، واعتقدوا أولاً أنها تضر وتنفع، فعبدوها) . فأقول: إن أولئك اتخذوا الأصنام والملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين آلهة يعبدونها من دون الله، والإله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 معناه: الذي تألهه القلوب بالمحبة والخضوع والخوف والرجاء، وتوابع ذلك من الرغبة والرهبة والتوكل والاستغاثة، والدعاء والذبح والنذر والسجود، وجميع أنواع العبادة الباطنة والظاهرة، فهو إله بمعنى: مألوه. أي: معبود، وأجمع أهل اللغة أن هذا معنى الإله. قال الجوهري: أله بالفتح، إلاهة، أي: عبد عبادة، قال: ومنه قولنا: الله. وأصله: إلاه، على فعال، بمعنى: مفعول، لأنه مألوه، بمعنى: معبود، كقولنا إمام: فعال، بمعنى: مفعول، لأنه مؤتم به. قال: والتأليه: التعبيد، والتأله: التنسك والتعبد. قال رؤبة: سبحن واسترجعن من تأله انتهى. وقال في القاموس: أله إلهة، وألوهة: عبد عبادة، ومنه لفظ "الجلالة"، واختلف فيه على عشرين قولاً –يعني في لفظ الجلالة- قال: وأصله: إله بمعنى: مألوه، وكل ما تخذ معبوداً إله عند متخذه. قال: والتأله: التنسك والتعبد. انتهى. وجميع العلماء من المفسرين، وشراح الحديث والفقه وغيرهم، يفسرون "الإله" بأنه المعبود. فإذا كان هذا هو معنى "الإله" في اللغة، والشرع، فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 المستحق للعبادة –المتقدم ذكرها- دون من سواه، فمن صرف منها شيئاً لغير الله فقد أشرك ذلك الغير في عبادة الله. وأما كون المشركين اعتقدوا أن آلهتهم تنفع وتضر، فغير مسلم، فإنهم قد اعترفوا أن الله هو النافع الضار، وأنه المستحق للعبادة، ولكنهم ما أرادوا ممن عبدوه إلا الجاه والشفاعة، وليقربوهم إلى الله زلفى، كما هو قول المشركين في هذه الأزمان سواء بسواء. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو كان فيهم من أتى أمه علانية لكان في هذه الأمة من يفعله". وفي لفظ: " حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه". قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن". وقوله: (فاعتقادهم هذا، وعبادتهم إياها، أوقعهم في الشرك، فلما أقيمت عليهم الحجة بأنها لا تملك نفعاً ولا ضراً، قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) . فأقول: لما أقام الله عليهم الحجة بإقرارهم أن الله هو المحيي المميت، الدبر لجميع الأمور، وأن الله هو النافع الضار، وأن آلهتهم لا تملك لهم نفعاً ولا ضراً، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 حياة ولا نشوراً، واعترفوا بذلك، قال الله تعالى: {أَفَلا تَتَّقُونَ} أي: تتقون الشرك في العبادة، فإن الفاعل لهذه الأشياء هو الذي يستحق العبادة دون من سواه، فقول الكفار: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، كقول مشركي هذه الأزمان: لسنا نعبد إلا الله، ولكن ما قصدنا بزيارة قبورهم إلا التوسل بهم إلى الله تعالى، والتبرك بهم، لكونهم أحباء الله المقربين، الذين اصطفاهم واجتباهم. وقوله: (فكيف يجوز للوهابية أن تجعل المؤمنين الموحدين مثل أولئك المشركين) . فأقول: ما جعلت الوهابية المؤمنين الموحدين مثل المشركين، وإنما جعلت من فعل فعل المشركين مشركاً، لكونه حذا حذو أولئك في صرف خالص حق الله تعالى، ويزعم أنه ما أراد إلا الجاه والشفاعة منهم، لأنهم مقربون عند الله. وقوله: (إذ لا شك أن المشركين إنما كفروا بسبب عبادتهم تماثيل الأنبياء والملائكة والأولياء، التي صوروها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 على صورهم، وسجدوا لها، وذبحوا، وبسبب1 اعتقادهم في الملائكة والأنبياء2 والأولياء أنهم آلهة مع الله يضرون وينفعون3 بذواتهم) . فأقول: وهؤلاء المشركون في هذه الأزمان إنما كفروا بسبب غلوهم في الأنبياء والأولياء والصالحين، والعكوف على قبورهم، واستغاثتهم4 بهم، والالتجاء إليهم، ودعائهم والذبح لهم، والنذر لهم، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي كانوا يفعلونها في هذه الأزمان عند ضرائح الأولياء والصالحين. فإن من صرف من هذه العبادة شيئاً لغير الله كان مشركاً، وإن اعتقد أن من يدعوه ويستغيث به، ويرجوه ويذبح له ويلجأ إليه، ويعلق آماله به، لا يضر ولا ينفع، وأنه ليس إلها، ولا يستحق العبادة. وقوله: (ولذلك احتج الله تعالى على إبطال قولهم، وضرب الأمثال للرد على معتقدهم في كثير من الآيات،   1 في ط الرياض "وسبب". 2 في الأصل "في الأنبياء والملائكة". 3 في الأصل "وينفون". 4 في الأصل "واستعانتهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 بأن الإله المستحق للعبادة يجب أن يكون قادراً على كشف الضر، وإيصال النفع لمن عبده، وبأن ما عبدوه من جملة المحدثات المنافية للربوبية) . فأقول: وهذا هو الحق، ولكنه مع كونه منافياً للربوبية، فهو مناف للألوهية، فكيف إذا عرفت أن هذا مناف للربوبية لأي شيء صرفك عن كونه منافياً لتوحيد الإلهية، لأن توحيد الربوبية هو الإقرار والاعتراف، بأن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، المدبر لجميع الأمور، وأنه النافع الضار، وأنه رب كل شيء ومليكه، وأنه المتفرد بالإيجاد والإعدام، إلى غير ذلك من أفعال الرب. وأما توحيد الإلهية فهو أن يوحد العبد ربه بأفعاله الصادرة منه، كالدعاء والخوف والرجاء والحب، والتعظيم والاستغاثة والاستعاذة والاستعانة، والتوكل والذبح والنذر والرغبة والرهبة، والخضوع والخشوع، والالتجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة التي صرفها المشركون الأولون والآخرون لغير الله. وأما قوله: (وأما المستغيث والمتوسل فهو1 براء من هذه العبادة وهذا الاعتقاد) .   1 في الأصل "منهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 فأقول: المستغيث والمتوسل –على لغة هؤلاء المشركين- ليس هو برئياً من هذه العبادة وهذا الاعتقاد، لأن الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو1 إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية. ومن المعلوم بالضرورة أن الله تعالى هو الذي يزيل الشدات، ويغيث اللهفات، ويفرج الكربات، فمن زعم أن الاستغاثة ليست من العبادات فهو مكابر للحسيات، مباهت في الضروريات. وفي الدعاء المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعائه: "اللهم أنت المستعان، وبك المستغاث، وإليك المشتكى" الحديث. ودعاء المسلمين: يا غياث المستغيثين، وقد قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9] . فعدم إدخالها في جملة العبادة هو التحكم والمكابرة، من غير دليل عقلي، ولا نص شرعي. وقوله: (إذ الآيات التي استدلت بها الوهابية إنما نزلت جميعاً في الكفار الذين عبدوا غير الله، وإن قصدوا بعبادتهم ذلك الغير التقرب إليه تعالى، وفي الذين اعتقدوا   1 سقطت "هو" من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 أن مع الله إلهاً آخر، وأن له ولداً وزوجة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً) . فأقول: قد تقدم الجواب عن هذا، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقوله: (وليس في الآيات النازلة في الكفار دلالة على كون الاستغاثة بنبي أو ولي مع الإيمان بالله تعالى هي عبادة لغير الله) . فأقول: بل فيها الدلالة الواضحة على أن من صرف لغير الله شيئاً من العبادة التي لا يستحقها إلا الله فهو مشرك، فإن صرفها لغير الله مناف للإيمان بالله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 فصل في بيان أن الإستغاثة من الدعاء ... فصل ثم قال العراقي: (قالت الوهابية: إن الاستغاثة من نوع الدعاء، وقد ورد في الحديث: "أن الدعاء هو العبادة" 1 فالذي يستغيث بنبي أو ولي فهو إنما يعبده بتلك   (1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/267-271-276-277، وأبو داود في سننه –كتاب الصلاة- 2/161، والترمذي في سننه –كتاب التفسير 5/211، وفي –كتاب الدعاء- 5/456، وابن ماجه في سننه –كتاب الدعاء 2/1258، وابن المبارك في الزهد ص 459، والطيالسي في مسنده ص 108، وابن أبي شيبة في المصنف 10/200، والبخاري في الأدب المفرد 2/178، وابن جرير الطبري في تفسيره 24/78-79، وابن حبان في صحيحه –الموارد- ص 595، والطبراني في الصغير 2/97، والحاكم في مستدركه 1/490-491، والبغوي في شرح السنة 5/184، وفي تفسيره –حاشية ابن كثير- 7/309، والقضاعي في مسند الشهاب 1/51، وأبو نعيم في الحلية 8/120، جميعهم من طريق يسيع بن معدان عن النعمان بن بشير مرفوعاً ... به وسنده صحيح. وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وقال الترمذي حسن صحيح، وصححه النووي، كما في الأذكار، وقال الحافظ في الفتح: إسناده جيد 1/49، وحسنه السخاوي –كما في شرح الأذكار- لابن علان 7/191. والحديث عزاه السيوطي في الدر المنثور 7/301 لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية 8/120، والبيهقي في شعب الإيمان كلهم عن النعمان بن بشير ... به. وأخرجه الخطيب في التاريخ 12/279، وابن مردويه –كما في الدر- 7/301، وأبو يعلى –كما في شرح الأذكار- 7/191 عن البراء بن عازب رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 الاستغاثة، وحيث إن العبادة لا تصلح إلا لله وحده، وإن عبادة غيره شرك كان المستغيث بغيره1 مشركاً. ثم قال: فالجواب على هذا: أن ضمير الفصل إنما يفيد قصر المسند على المسند إليه، وكذا تعريف الخبر، كما ذكره صاحب "المفتاح" وعليه الجمهور، فقولنا: الله هو الرازق مثلاً، معناه لا رازق سواه، وعلى هذا: فقوله عليه الصلاة والسلام: "الدعاء هو العبادة" دال على أن العبادة مقصورة على الدعاء، فيكون المراد من الحديث أن العبادة ليست غير الدعاء، ويؤيده قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ2 بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} [الفرقان: 77] أي ما يصنع بكم لولا عبادتكم، فإن شرف الإنسان بعبادته، وكرامته بمعرفته وطاعته، وإلا فلا فضل له على البهائم، والحج والصلاة، والزكاة والصيام والشهادة،   1 في ط الرياض "به". 2 في الأصل "يعباؤ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 كلها دعاء، وكذلك التلاوة والأذكار، والطاعة، فانحصرت1 العبادة في الدعاء. إذا تقرر هذا فلا حجة في الحديث، إذ على تقدير كون الاستغاثة من نوع الدعاء كما قالته الوهابية، لا يلزم أن تكون عبادة، لما أن الدعاء قد لا يكون عبادة كما هو ظاهر ... ) إلى آخر كلامه. والجواب أن نقول: الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار: طلب النصر، والاستعانة: طلب العون. كما تقدم ذكره عن شيخ الإسلام رحمه الله. وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء: أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة، لأنه يكون من المكروب وغير المكروب، فعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص، فبينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة، وينفرد الدعاء عنها في مادة، فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة. فإن تبين لك أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً2، وأن كل استغاثة دعاء، وقد علمت أن الدعاء هو العبادة بنص   1 في الأصل" فانحصرة". 2 في الأصل: "مطلق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. ويراد به في القرآن هذا تارة وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، ولهذا أنكر الله على من يدعو1 أحداً من دونه، ممن لا يملك ضراً ولا نفعاً، كقوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76] ، وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأنعام: 71] الآيات. وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] . قال شيخ الإسلام رحمه الله: فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة. قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] ، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40-41] ، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}   1 في الأصل "يدعوا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 [الجن:18] . وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} الآية [الرعد: 14] . وأمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن يحصر، وهو يتضمن دعاء العبادة، لأن السائل أخلص سؤاله لله، وذلك من أفضل العبادات، وكذلك الذاكر لله، والتالي لكتابه، ونحوه، طالب من الله في المعنى، فيكون داعياً عابداً. فتبين بهذا من قول شيخ الإسلام: أن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة. وقد قال تعالى عن خليله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم:48-49] . الآية. فصار الدعاء من أنواع العبادة، فإن قوله: {وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} [مريم: 48] . كقول زكريا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم:4] ، وقد أمر الله تعالى في مواضع من كتابه، كقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} إلى قوله: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55-56] ، وهذا هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 دعاء المسألة المتضمن للعبادة، فإن الداعي يرغب إلى المدعو ويخضع له، ويتذلل. وضابط هذا: أن كل أمر شرعه الله لعباده، وأمرهم به، ففعله لله عبادة، فإذا صرف من تلك العبادة شيئاً لغير الله فهو مشرك، مصادم لما بعث الله به رسوله من قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [الزمر:14] . فإذا ثبت أن الاستغاثة من أنواع الدعاء، وأن كل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة، وتقرر أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، وأن كل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة تبين لك أن الاستغاثة من أنواع العبادة، وكيف لا تكون من أنواع العبادة وقد قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9] ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: "اللهم أنت المستعان وبك المستغاث، وإليك المشتكى" الحديث. وقول المسلمين: يا غياث المستغيثين، فإن لم يكن هذا من العبادة، فلا ندري ما العبادة، ولا ما دعاء المسألة المتضمن لدعاء العبادة. وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. فإذا تمهد هذا واتضح، فقول هذا الملحد: (إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 ضمير الفصل إنما يفيد قصر المسند على المسند عليه وكذا تعريف الخبر كما ذكره صاحب "المفتاح" وعليه الجمهور، فقولنا: الله هو الرازق مثلاً معناه لا رازق سواه ... ) الخ. فيقال لهذا الملحد: نعم إذا كان الحصر أو القصر حقيقياً، فإنه من المعلوم إذا قلنا: الله هو الرازق، فمعناه حقيقة لا رازق سواه، وعلى هذا فقوله عليه السلام: "الدعاء هو العبادة" دال على أن العبادة مقصورة على الدعاء، فيكون المراد من الحديث: "أن العبادة ليست غير الدعاء ... " الخ. فنقول: ليس الأمر كما توهمت، وإنما الحصر والقصر في هذا الحديث ادعائي، كما يستفاد من ضمير الفصل المقحم بين المبتدأ والخبر، والحصر -وإن كان ادعائياً- فهو يدل على أن الدعاء هو معظم العبادة، ومخها، وخالصها، وأجلها، وأشرفها. ومثل هذا الحديث: الحديث الذي رواه أبو داود في "سننه" والإمام أحمد في "المسند" من حديث أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة، عند يقال له: دجلة، يكون عليه جسر، يكثر أهلها، وتكون من أمصار المهاجرين –وفي رواية المسلمين: فإذا كان في آخر الزمان، جاء بنو قنطوراء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 عراض الوجوه صغار الأعين، حتى ينزلوا على شط النهر، فيفترق أهلها ثلاث فرق، فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية، وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم، وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهروهم ويقاتلون وأولئك هم الشهداء" 1. فأخبر في هذا الحديث أن أولئك هم الشهداء، وأنهم مخصوصون بالشهادة دون سائر الشهداء، كما يستفاد من الجملة الاسمية المعرفة الطرفين، ومن ضمير الفصل المقحم بين المبتدأ والخبر، والحصر –وإن كان ادعائياً- فهو يدل على شرف الصنف وفضيلته. انتهى. وكذلك قوله تعالى في المنافقين: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4] فهذا يدل على شدة عداوتهم من بين سائر الكفار، لا على أنه لا عدو سواهم، وكذلك قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل:105] ، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] ، وهذا بين بحمد الله لا خفاء به، مع أنه ورد في حديث آخر: "الدعاء مخ العبادة" من حديث أنس2، مع أن الحصر أو القصر في قوله صلى الله عليه وسلم:   1 رواه أحمد 5/40 و44-45، وأبو داود (4306) ، وحسنه الألباني حفظه الله في المشكاة (5432) . 2 رواه الترمذي 5/456، والطبراني في الأوسط وفي الدعاء (8) واستغربه الترمذي، وقال هو والطبراني: (تفرد به ابن لهيعة) ، وفيه مقال مشهور وانظر هاهنا ص 476. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 "الدعاء هو العبادة" كما قال بعض شراح الحديث: إن حصر أحد الجزئين في الآخر يفيد أن الدعاء لبّها، وخالصها، وركنها الأعظم. وبحديث أنس: "الدعاء مخ العبادة" يظهر معنى القصر في حديث النعمان المتقدم، فاندفع الإشكال عما ذكره العراقي. وأما قوله: (إذا تقرر هذا فلا حجة في الحديث، إذ على تقدير كون الاستغاثة من نوع الدعاء، كما قالته الوهابية، لا يلزم أن تكون عبادة، لما أن الدعاء قد لا يكون عبادة، كما هو ظاهر) . فالجواب: أنا قد بينا فيما تقدم ما يبطل دعواه الكاذبة الخاطئة، وبينا أن العبادة ليست منحصرة في الدعاء، بل الدعاء من أنواع العبادة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فالدعاء هو مخ العبادة، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستغاثة من أخص أنواع العبادة وأشرفها، إذ هي دعاء مسألة متضمنة لدعاء العبادة. فإذا تبين لك ما ذكرناه، فالدعاء الذي جاء في قوله: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 52] . وفي قوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 [النور: 63] وما أشبه ذلك، مما هو بمعنى النداء المجرد عن معنى العبادة، إذ الدعاء كونه في الأصل بمعنى النداء والطلب مما لا مرية فيه، كما قال الراغب: الدعاء والنداء واحد، لكن قد يتجرد النداء عن الاسم، والدعاء لا يكاد يتجرد. فلا يدخل في دعاء العبادة المستلزم لدعاء المسألة، كما أنه لا يدخل في دعاء المسألة المتضمنة للعبادة. وهذا لا يروج إلى على طغام العراق الذين هم كالأنباط، أو البربر، أو الزنج، الذين لا معرفة لهم بلغات العرب. فالوهابية لا يقولون: إن كل مطلق دعاء يكون عبادة، فإدخال هذا في معنى العبادة ترويج وتلبيس وسفسطة، وهذه البضاعة لا تروج علينا، ولا تنفق لدينا. وأما قوله: (ولا يقال للطلب1 من غيره تعالى دعاء) . فهذا ممنوع، فإن من طلب من غير الله جلب منفعة، أو دفع مضرة، يكون داعياً طالباً2، سائلاً منه. وقد ذكر الرازي تحت قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] ، ما يقتضي أن المراد بالدعاء في هذه الآية طلب المنفعة   1 في الأصل: "لطلب". 2 سقطت "طالباً" من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 والمضرة1، ونصة هكذا: يعني لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة2 من غير الله فأنت من الظالمين ... إلى آخر كلامه. وقال الشيخ صنع الله الحلبي، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد كالمرض وخوف الغرق، والضيق والفقر وطلب الرزق، ونحوه، فمن خصائص الله، ألا3 يطلب فيها غيره. انتهى. فالطلب سؤال، والسؤال في معنى الدعاء.   1 كذا في النسخ، والصواب بإضافة قبل المضرة: (ودفع المضرة) . 2 كذا في النسخ، والصواب بإضافة قبل المضرة: (ودفع المضرة) . 3 في الأصل: "لا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 فصل في التوسل ... فصل قال العراقي: (التوسل وأدلة جوازه. قبل الخوض في المطلب نبين لك أن المراد من الاستغاثة بالأنبياء والصالحين، والتوسل بهم، هو: أنهم أسباب ووسائل لنيل المقصود، وأن الله تعالى هو الفاعل، كرامة لهم لا أنهم هم الفاعلون، كما هو المعتقد الحق في سائر الأفعال، فإن السكين لا يقطع بنفسه، بل القاطع هو الله تعالى، والسكين سبب عادي خلق الله تعالى القطع عنده) . والجواب1 أن نقول: وقبل الكلام على ما يبطل دعواه، لا بد من مقدمة ينبني2 عليها الجواب، فنقول: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والسؤال به، فيه   1 في ط الرياض "فالجواب". 2 في الأصل "يبني". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 إجمال واشتراك، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة: يراد به التسبب به، لكونه داعياً، وشافعاً مثلاً، أو لكون الداعي محباً له، مطيعاً لأمره، مقتدياً به، فيكون التسبب إما بمحبة السائل له، واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته. ويراد به الإقسام به، والتوسل بذاته، فلا يكون التوسل لا بشيء منه، ولا بشيء من السائل، بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله. فهذا الثاني هو الذي كرهوه، ونهوا عنه. وكذلك لفظ السؤال بالشيء قد يراد به المعنى الأول، وهو التسبب به لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام. وإذا تبين لك هذا فاعلم أن معنى التوسل في لغة الصحابة رضي الله عنهم وعرفهم أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، فيكون التوسل والتوجه به في الحقيقة بدعائه وشفاعته، وهذا لا محذور فيه، بل هذا هو المشروع، كما في حديث: "الثلاثة الذين أووا إلى الغار" وهو حديث مشهور في "الصحيحين" فإنهم توسلوا إلى الله بصالح الأعمال، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله تعالى، ويتوجه به إليه، ويسأله به، لأنه وعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] . وهؤلاء دعوه بعبادته، وفعل ما أمر به من العمل الصالح، وسؤاله والتضرع إليه. فمن جعل دعاء الأولياء والصالحين سبباً لنيل المقصود، كأن يطلب من الولي أو الصالح يدعو الله له، لكونه مطيعاً لله، محباً له، فيشفع له عند الله، بدعاء الله له، فهذا حق، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون إلى الله سبحانه برسوله، فيدعو الله لهم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا"، فاستسقوا به، كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهو أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم، فيدعو لهم، ويدعون معه، كالإمام والمأمومين، من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق. فإذا تحققت ذلك، فاعلم أن التوسل في عرف أهل هذا الزمان واصطلاحهم هو دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين، وصرف خالص حق الله تعالى لهم بجميع أنواع العبادات، من الدعاء والخوف والرجاء والذبح والنذر والالتجاء إليهم، والاستغاثة بهم، والاستعانة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 والاستشفاع بهم، وطلب الحوائج من الولائج في المهمات والملمات، لكشف الكربات، وإغاثة اللهفات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، إلى غير ذلك من الأمور التي صرفها المشركون لغير فاطر الأرض والسموات، فمن صرف من هذه الأنواع شيئاً لغير الله كان مشركاً، وسيأتي الكلام على مسألة الاستغاثة. وأما قوله: (إنهم أسباب ووسائل لنيل المقصود، وإن الله تعالى هو الفاعل ... ) إلى آخره. فأقول: وهذا هو قول الجاهلية الكفار، فإنهم ما عبدوا الأنبياء، والأولياء والصالحين، إلا لكونهم أسباباً ووسائل لنيل المقصود، وإلا فهم يعتقدون أن الله هو النافع الضار، وأنه المتفرد بالإيجاد والإعدام، وأن الله هو الخالق للأشياء، وأن الله هو رب كل شيء ومليكه، ولا يعتقدون أن آلهتهم التي يدعونها من دون الله من الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة، شاركوا الله في خلق السموات والأرض، أو استقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، فمن أثبت الوسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين عباد الأوثان. وقال شيخ الإسلام: الخامس أن يقال: نحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، لكن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سبباً في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟ ومن الذي قال: إنك إذا استغثت بميت، أو غائب من البشر كان، أو غيره كان ذلك سبباً في حصول الرزق، والنصر والهدى، وغير ذلك، مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذين شرع ذلك وأمر به؟ ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين: أحدهما: أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها، فإنه ليس كل ما كان سبباً كونياً يجوز تعاطيه، فإن المسافر قد يكون سفره سبباً لأخذ ماله، وكلاهما محرم، والدخول في دين النصارى قد يكون سبباً لمال يعطونه، وهو محرم، وشهادة الزور قد تكون سبباً لنيل المال يؤخذ من المشهود له، وهو حرام، وكثير من الفواحش والظلم قد يكون سبباً لنيل مطلب، وهو محرم، والسحر والكهانة سبب في بعض المطالب، وهو محرم، وكذلك الشرك كدعوة الكواكب والشياطين، بل وعبادة البشر قد يكون سبباً لبعض المطالب، وهو محرم. فإن الله تعالى حرم من الأسباب ما كان مفسدته راجحة على مصلحته، كالخمر وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحياناً، وهذا المقام ما يظهر به ضلال هؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 المشركين خلقاً وأمراً، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية. انتهى. وأما قوله: (وإن الله تعالى هو الفاعل، كرامة لهم، لا أنهم هم الفاعلون) . فالجواب أن نقول: أولاً: ليس دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين والاستغاثة بهم في نيل المقصود سبباً شرعياً، فإن هذه من الأسباب المحرمة، كما تقدم في كلام الشيخ. وثانياً: لو سلمنا أن الكرامات سبب، فمن أين يؤخذ أنها سبب يقتضي دعاء من قامت به، أو فعلت له؟ ومن أي وجه دلت الكرامة على هذا؟ وأفضل الناس الرسل. والملائكة من أفضل خلق الله، ولهم من المعجزات والكرامات والمقامات ما ليس لغيرهم، فقد جاء عيسى بن مريم بما هو من أفضل المعجزات والكرامات: يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فيكون طيراً بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيى الموتى بإذن الله، وينبئهم من الغيب ما يأكلون وما يدخرون. وقد أنكر الله تعالى على من قصده ودعاه في حاجاته وملماته، وأخبر أن فاعل ذلك كافر به، ضال بعبادة غيره، قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80] . والأرباب هم المعبودون المدعوون. وقال تعالى فيمن عبدوا المسيح: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76] . فأخبر تعالى عن المسيح أنه لا يملك لمن دعاه نفعاً ولا ضراً -وإن قل- كما يفيده التنكير، وأبطل عبادته، وأنكرها أشد الإنكار، ومعجزاته أوضح من الشمس في وسط النهار. وأما قوله: (فإن السكين لا يقطع بنفسه، بل القاطع هو الله تعالى، والسكين سبب عادي، خلق الله تعالى القطع عنده) . فالجواب أن يقال: هذا القول من أقوال أهل البدع والأهواء، وليس هو من كلام أهل السنة والجماعة. قال شيخ الإسلام: وهؤلاء هم الاقترانية الذين يقولون: إن الله يخلق عند السبب لا بالسبب، ومن نحا نحوهم من المتصوفة القائلين بإسقاط الأسباب الظاهرة، وذلك لأن عندهم ليس في الوجود شيء يكون سبباً لشيء أصلاً، ولا شيء جعل لشيء، ولا يكون شيء لشيء، فالشبع عندهم لا يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 بالأكل، ولا العلم الحاصل في القلب بالدليل، ولا ما يحصل للمتوكل من الرزق والنصر له سبب أصلاً لا في نفسه، ولا في نفس الأمر، ولا الطاعات عندهم سبب للثواب، ولا المعاصي سبب للعقاب، فليس للنجاة وسيلة، بل محض الإرادة الواحدة يصدر عنها كل حادث، ويصدر مع الآخر مقترناً به اقتراناً عادياً لا أن1 أحدهما متعلق بالآخر، أو سبب له، أو حكمة له، ولكن لأجل ما جرت به العادة من اقتران أحدهما بالآخر يجعل أحدهما أمارة وعلماً ودليلاً على الآخر، بمعنى إذا وجد أحد المقترنين عادة كان الآخر موجوداً معه، وليس العلم الحاصل في القلب حاصلاً بهذا الدليل، بل هذا أيضاً من جملة الاقترانات العادية. وقال أيضاً بعد كلام سابق: وكذلك أيضاً لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسباباً وقوى وطبائع، ويقولون: إن الله يفعل عندها لا بها، فيلزم أن لا يكون فرق بين القادر والعاجز. وإن أثبت قدرة وقال: إنها مقترنة بالكسب، قيل له: لم2 تثبت فرقاً معقولاً بين ما تثبته من الكسب وتنفيه من الفعل، ولا بين   1 في ط الرياض "لأن". 2 سقطت "لم" من ط الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 القادر والعاجز، إذ كان مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة، فإن فعل العبد يقارن حياته وعلمه وإرادته، وغير ذلك من صفاته، فإن لم يكن للقدرة تأثير إلا مجرد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها، وكذلك قول من قال: القدرة مؤثرة في صفة الفعل، لا في أصله، كما يقوله القاضي أبو بكر، ومن وافقه، فإنه أثبت تأثيراً بدون خلق الرب، فلزم أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله تعالى، وإن جعل ذلك معلقاً بخلق الرب فلا فرق بين الأصل والصفة. وأما أئمة السنة وجمهورهم فيقولون ما دل عليه الشرع والعقل، قال تعالى: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57] ، وقال: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 164] ، وقال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة: 16] ، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} 1 [البقرة: 26] ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، يخبر الله تعالى أنه يحدث الحوادث بالأسباب. انتهى المقصود منه.   1 من هنا إلى ص 500 بياض بالأصل (الطبعة الهندية) وقد رجعت إلى أكثر من نسخة فتتفق في هذا البياض، وهو من ص 586 إلى ص 593. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء، بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله تعالى سبحانه أمارة على قضاء الحاجة، فمتى وقف العبد للدعاء كان ذلك علامة له، وأمارة على أن حاجته قد قضيت. وهكذا، كما إذا رأيت غيماً أسوداً بارقاً في زمن الشتاء، فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر. قالوا: وهكذا حكم الطاعات مع الثواب، والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب، لا أنها أسباب له، وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار، والحرق مع الإحراق، والإزهاق مع القتل، ليس شيء من ذلك سبباً ألبتة، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا بمجرد الاقتران العادي، لا التأثير السببي، وخالفوا بذلك الحس، والعقل والشرع والفطرة وسائر طوائف العقلاء، بل أضحكوا عليهم العقلاء. والصواب: أن هنا قسماً ثالثاً غير ما ذكره السائل، وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجرداً عن سببه، ولكن قدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى ما لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، إلى أن قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وحصول الشر في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والمسبب على السبب، وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع ... إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى. والمقصود بيان ضلال هذا الملحد في قوله: (والسكين سبب عادي خلق الله القطع عنده) . فاجتمع في هذا الملحد أنواع الشر والضلال، فأضاف إلى كونه مشركاً في عبادة الله غيره مذهب الجهمية النافين لعلو الله على خلقه، ونفي صفات كماله ونعوت جلاله، ومذهب المعتزلة والرافضة مع مذهب الجهمية في جحد رؤية الله تعالى في الآخرة. ومذهب الاقترانية في إسقاط الأسباب القائلين إن الله يخلق عند السبب لا السبب. ومراد هذا الملحد: أن دعاء الأنبياء والأولياء والصالحين سبب عادي لنيل المقصود، وقد تقدم من الأدلة ما يبين أن تعاطي هذا السبب محرم، وأن دعاء الأموات والغائبين من الأولياء والصالحين والاستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك، وأنه ليس بسبب شرعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 فصل في الإستغاثة الشركية ... فصل وأما قوله: (قال السبكي، والقسطلاني في "المواهب اللدنية" والسمهودي في "تاريخ المدينة" وابن حجر في "الجوهر المنظم": إن الاستغاثة به -عليه الصلاة والسلام- وبغيره من الأنبياء والصالحين إنما هي بمعنى التوسل بجاههم، والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يجعل له الغوث ممن هو أعلى منه، فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة بين المستغيث وبين المستغاث به الحقيقي، فالغوث منه تعالى إنما يكون خلقاً وإيجاداً، والغوث من النبي تسبباً وكسباً) . فالجواب أن يقال: وهكذا كان المشركون السابقون الذين بعث الله الرسول إليهم، فإنهم كانوا يعلمون أن الله تعالى هو الخالق الموجد، وأما الأصنام فيقولون إنها أسباب ووسائل عادية، فمن أجل ذلك كانوا يدعونهم، ويستغيثون بهم ويعبدونهم، وهذا هو دأب عبدة الصالحين والقبور في هذا الزمان، يدعونهم ويستغيثون بهم، وينحرون لهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وينذرون لهم، والدعاء والاستغاثة والنحر، والنذر كلها من أقسام العبادة. وإذا جعلتم لفظ الدعاء والاستغاثة والنحر والنذر التي هي من أقسام العبادة على معناه المجازي، فكذلك فليحمل لفظ العبادة الواقع في كلام المشركين الأولين الذين حكاه الله تعالى عنهم، حيث قال سبحانه وتعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] فما وجه الفرق؟! قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "رده على ابن البكري في مسألة الاستغاثة: وأنه حرف الكلم عن مواضعه، وتمسك بمتشابهه، وترك المحكم، كما يفعله النصارى، وكما فعل هذا الضال -يعني ابن البكري- أخذ لفظة الاستغاثة وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي والميت، والاستغاثة بالحي تكون فيما يقدر عليه، فجعل حكم ذلك كله واحداً، ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة، ولم يكفه ذلك حتى جعل الطالب منه إنما طلب من الله لا منه، فالمستغيث به مستغيث بالله، ثم جعل الاستغاثة بكل ميت من نبي وصالح جائزة، فدخل عليه الخطأ من وجوه: منها: أنه جعل المتوسل به بعد موته في دعاء الله مستغاثاً به، وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم، لا حقيقة ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 مجازاً، مع دعواه الإجماع على ذلك، فإن المستغاث هو المسئول المطلوب منه لا المسئول به. الثاني: ظنه أن توسل الصحابة في حياته، فإن توسلا بذاته صلى الله عليه وسلم لا بدعائه وشفاعته، فيكون التوسل به بعد موته كذلك، وهذا غلط. الثالث أنه أدرج السؤال أيضاً في الاستغاثة به، وهذا صحيح جائز في حياته، وهو قد سوى في ذلك بين محياه ومماته، وهذا أصاب في لفظ الاستغاثة، لكن أخطأ في التسوية بين المحيا والممات. وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في بعض كلام الناس، مثل الشيخ يحيى الصرصري، ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن النعمان له كتاب "المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام" وهؤلاء ليسوا من العلماء العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها، وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم ولهم فضل وعلم وزهد. إذا نزل به أمر خطا إلى الشيخ عبد القادر خطوات معدودة، واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس، ولهذا لما نبه من نبه من فضائهم تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام، بل مشابهة لعباد الأصنام، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وقال في الرسالة "السنية": فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام لأسباب منها: الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح عليه السلام، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبدوه وحده لا شريك له، ولا يدعى معه إله، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فبعث الله سبحانه رسله تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. انتهى. وقال أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم: كفر إجماعاً. نقله عنه صاحب "الفروع" وصاحب "الإنصاف" وصاحب "الإقناع" وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 والمقصود أن شيخ الإسلام رحمه الله جعل الاستغاثة بغير الله من الشرك الأكبر المخرج من الملة. وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي رحمه الله في رده على السبكي في قوله: (إن المبالغة في تعظيمة -أي الرسول صلى الله عليه وسلم- واجبة) : إن أُريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً حتى الحج إلى قبره، والسجود له، والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء، فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك، وانسلاخ من جملة الدين. اهـ. وأما قوله: (فالغوث منه تعالى إنما يكون خلقاً وإيجاداً، والغوث من النبي صلى الله عليه وسلم إنما يكون تسبباً وكسباً) . فأقول: هكذا كانت مشركوا الجاهلية حذو النعل بالنعل، كانوا يدعون الصالحين، والأنبياء والمرسلين، طالبين منهم الشفاعة عند رب العالمين، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ، وقال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 على أن القول بأن إسناد الغوث إلى الله تعالى إسناد حقيقي باعتبار الخلق والإيجاد، وإلى الأنبياء والصالحين إسناد مجازي باعتبار التسبب والكسب: بديهي البطلان، بيانه من وجوه: الأول: أنه لو كان مناط الإسناد الحقيقي اعتبار الخلق والإيجاد -كما توهمه صاحب الرسالة- لزم أن يكون إسناد أفعال العباد كلها إلى الله تعالى حقيقياً، فإن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الخالق لأفعال العباد هو الله تعالى، وهذا يقتضي أن يتصف الله تعالى حقيقة بالإيمان، والصلاة والزكاة، والصوم والحج والجهاد وصلة الرحم، وغير ذلك من الأعمال الحسنة، وكذلك يتصف حقيقة بالأعمال السيئة، من الكفر والشرك والفسق والفجور، والزنا والكذب والسرقة والعقوق، وقتل النفس وأكل الربا، وغيرها، فإنه تعالى هو الخالق لجميع الأفعال حسنها وسيئها، والتزام هذا فعل من لا عقل له ولا دين، فإنه يستلزم اتصاف الله تعالى بالنقائص وصفات الحدوث، واجتماع الأوصاف المتضادة، بل المتناقضة. وقد قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه، في كتاب "الاستغاثة" في الرد على ابن البكري لما استدل بقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] على ما لفقه من أضاليله، وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 موه به من أباطيله وأساجيله، قال في أثناء جوابه على ما شبه به ابن البكري، وعما يبين ذلك: إن أفعال العباد لا يجوز أن تنفى عنهم باتفاق المسلمين، من قال: إن الله خالقها، ومن قال: إنه لم يخلقها، لا يجوز أن يقال: هذا ما أكل، ولا شرب، ولا قعد، ولا ركب ولا طاف، ولا ركع ولا سجد، ولا صام ولا سعى، ولكن الله هو الذي أكل وشرب وقعد وركب وطاف وركع وسجد، وصام وسعى. وسواء كانت أفعالاً محمودة أو مذمومة، وسواء كانت سبباً لخرق العادة، أم لا، فلا يقال إن موسى ما ضرب بعصاه البحر، ولا الحجر، ولكن الله ضرب، ولا يقال: إن نوحاً ما ركب في السفينة، ولكن الله ركب، ولا يقال: إن المسيح ما ارتفع، بل الله ارتفع، ولا يقال إن محمدا صلى الله عليه وسلم ما ركب البراق، بل الله ركب، وأمثال هذا. والفعل المختص بالمخلوق لا يضاف إلى الله إلا على بيان أن الله خلقه، وجعل صاحبه فاعلاً، كقوله الخليل عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40] ، وكما قال: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] ، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41] ، ولا يقال: إن الله يقيم الصلاة، ويدعو إلى النار، ولا أنه قد أسلم، وقال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج: 19-20-21] ، ولا يوصف الله بالهلع والجزع. وجماع الأمر أن الله لا يوصف بمخلوقاته، وهذه هي أدلة السلف وأهل السنة على أن كلام الله ليس مخلوقاً، قالوا: لأنه سبحانه لا يوصف بما خلقه في غيره، فإذا خلق في غيره حركة أو طعماً أو ريحاً أو لوناً كالسواد والبياض، لم يوصف بأنه هو المتحرك بها، ولا بأنه متروح أو أبيض، أو أسود، وإذا خلق في غيره سمعاً أو بصراً أو حياة أو قدرة، لم يوصف بذلك، وإذا خلق في غيره كلاماً لم يوصف بأنه هو المتكلم به، يعبرون عن ذلك بأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل، ولم يعد على غيره، واشتق لذلك المحل منه اسم، ولم يشتق لغيره، فإذا خلق في محل حركة أو علماً أو قدرة، كان ذلك المحل هو المتحرك، العالم القادر، لا الخالق لتلك الصفة فيه. انتهى. والثاني: أنه لو كان مناط الإسناد المجازي اعتبار التسبب والكسب -كما زعم هذا الزاعم- لزمه أن لا يكون الإنسان حقيقة مؤمناً ولا كافراً، ولا براً ولا فاجراً، ولا كاذبا، فيبطل الجزاء والحساب، وتلغى الشرائع والجنة والنار، وهذا لا يقول به أحد من المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 والثالث: أن دعوى كون الأنبياء والصالحين سبباً للغوث، وكسباً له، محتاج إلى إقامة الدليل، ودونه لا تسمع، وبالجملة فهذه شبهة داحضة، ووسوسة زاهقة، تنادي بأعلى نداء على صاحبها بالجهل والسفه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد علم بصريح المعقول أن الله تعالى إذا خلق صفة في محل كانت صفة لذلك المحل، فإذا خلق حركة في محل كان ذلك المحل هو المتحرك بها، وإذا خلق لوناً أو ريحاً في جسم كان هو المتلون المتروح بذلك، وإذا خلق علماً أو قدرة أو حياة في محل كان ذلك المحل هو العالم القادر الحي، فكذلك إذا خلق إرادة وحباً وبغضاً في محل، كان هو المريد المحب المبغض، فإذا خلق فعل العبد كان العبد هو الفاعل، فإذا خلق له كذباً أو وظلماً وكفراً، كان هو الكاذب الظالم، الكافر، وإن خلق له صلاة وصوماً وحجاً كان العبد هو المصلي الصائم الحاج، والله تعالى لا يوصف بشيء من مخلوقه، بل صفاته قائمة بذاته، وهذا مطرد على أصول السلف، وجمهور المسلمين من أهل السنة، وغيرهم ... إلى آخر كلامه رحمه الله. فعلى زعم هذا الملحد أن الله تعالى هو الكاذب، الظالم، الكافر حقيقة لأن الله هو الخالق لذلك، والموجد له حقيقة وإسناده إلى العبد مجاز، سبحانك هذا بهتان عظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 وقال صنع الله الحلبي رحمه الله: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال، أو إدراك عدو، أو سبع، ونحوه، كقولهم: يا لزيد، يا للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة. وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد، كالمرض وخوف الغرق، والضيق والفقر وطلب الرزق، ونحوه، فمن خصائص الله، لا يطلب فيها غيره، إلى أن قال: وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا لله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة، فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمن {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [يس: 23] فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر -من نبي وولي وغيره- على وجه الإمداد منه، إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره، اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 فصل في الإستغاثة بالأنبياء ... فصل قال العراقي: (وقد جوز أجلة العلماء الاستغاثة، والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعارض جوازها بخبر أبي بكر رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله" لأن من رواته ابن لهيعة، والكلام فيه مشهور، ولو فرضنا أن الحديث صحيح فهو من قبيل قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وقوله عليه الصلاة والسلام: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم"، فيكون معنى الحديث السابق: أني وإن يستغاث بي فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى، وبالجملة فإطلاق لفظ الاستغاثة على من يحصل منه غوث أو تسبباً وكسباً، أمر نطقت به اللغة، وجوزه الشرع، فتعين تأويل الحديث المذكور، ويؤيد ما بيناه في تأويله حديث البخاري في الشفاعة يوم القيامة: "فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم") . والجواب أن نقول: قد تقدم في كلام شيخ الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 ابن تيمية ما يبين كذبه على أجلة العلماء، وأنه لم يجزه إلا أناس ليسوا من العلماء العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي بل عادة جروا عليها. وقال أيضاً في أثناء كلام له: ونحن نعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء ولا الصحالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك. بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، ولكن لغلبة الجعل، وقله العلم بآثار الرسالة في كثر من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن لها، وقال: هذا أصل دين الإسلام. انتهى. وأما قوله: (ولا يعارض جوازها بخبر أبي بكر رضي الله عنه قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى آخره. فالجواب أن يقال: الكلام على هذا من جوه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 أحدها: أن ابن لهيعة خرج له البخاري ومسلم فجاوز القنطرة، ولا يقدح فيما رواه ابن لهيعة إلا جاهل بالصناعة والاصطلاح، وهو قاضي مصر وعالمها ومسندها، روى عن عطاء بن أبي رباح، والأعرج، وعكرمة، وخلف، وعنه شعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد، وابن وهب، وخلق. ومن طعن في ابن لهيعة بقول بعض الناس لزمه الطعن في كثير من الأكابر المحدثين كسعيد المقبري، وسعيد بن إياس الجريري، وسعيد بن [أبي] عروبة، وإسماعيل بن أبان، وأزهر بن سعد السمان البصري، وأحمد بن صالح المصري، وأبي اليمان، وأمثالهم ممن خرج لهم البخاري وغيره من الأئمة. وعلى كل حال فهو خير من هؤلاء الذين أجازوا الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلم بكتاب الله، وسنة رسوله منهم، وبأقوال أهل العلم1.   1 هذا ما جنح إليه الشيخ المؤلف رحمه الله تعالى هنا في حديث ابن لهيعة، وقد ذكر مستنده على ذلك. أما قوله: (إنه جاوز القنطرة لرواية الشيخين عنه) فغير مسلم، لأن مسلماً إنما أخرج له مقروناً بغيره، وهو "عمرو بن الحارث". وقد تقرر أن المخرج لهم في الشواهد والمتابعات –دون الأصول- لا يكون ذلك توثيقاً لهم، بل لنكتة خفية أو ظاهرةً أخرج لهم في الصحيح. هذا فيما يتعلق بإخراج مسلم لابن لهيعة في "الصحيح" أما البخاري فقد أخرج في كتاب الفتن من صحيحه: عن المقري عن حيوة و"غيره" عن أبي الأسود قال: "قطع على أهل المدينة بعث ... " الحديث، عن عكرمة عن ابن عباس. وروى هذا الحديث بصورة هذا السند في "الاعتصام" و"تفسير سورة النساء" وفي آخر "الطلاق" ولا يسمى قرين حيوة. قال ابن حجر: وهو ابن لهيعة لا شك فيه اهـ. ومثل هذا لا يعتبر تقوية للرجل، بل توثيقع ومجاوزته القنطرة، ولعل البخاري وقع في سماعه هذا السند بهذه الصورة، فأثبتها، ولم يجرأ على تسميته تنزيهاً لصحيحه، فقال: عن حيوة وغيره. والعلم عند الله. وأما قول الشيخ المؤلف رحمه الله: "ولا يقدح فيما رواه ابن لهيعة إلا جاهل بالصناعة والاصطلاح" لا يعني به القدح في العلماء المتقدمين -كما توهمه بعضهم! - بدليل أنه أشار إلى اختلاف الناس فيه، كما في آخر هذا الوجه، وفي أول الوجه الثالث. وإنما يعني به -في نظره- من لم يحسن تنزيل قواعد الجرح والتعديل على أقوال العلماء المتقدمين، ولا شك أن كلام الشيخ هنا خلاف الصواب في هذه المسألة، بيد أنه ليس أول قائل بتوثيق ابن لهيعة مطلقاً، فقد سبقه من المتقدمين والمتأخرين جماعة، وكلام الشيخ المؤلف على حديث ابن لهيعة في "الوجه الثالث" أقرب للصواب، من رأيه هنا. والذي يترجح في حال حديث ابن لهيعة أنه حسن في الشواهد والمتابعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 الثاني: أنهم معارضون بأجل منهم وأفضل، وأعلم بحدود ما أنزل الله على رسوله، كما سنذكره عنهم إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 الثالث: أن ابن لهيعة كان إماماً محدثاً، من أفاضل العلماء، ولم ينقمه أحد بالغلو في الأنبياء ولا الصالحين، ولا بشيء من العقائد المبتدعة المحدثة في الإسلام، ولكنه كان يدلس على الضعفاء، ثم احترقت كتبه، وليس هذا الحديث من الأحاديث التي دلس فيها، فمن هنا قال فيه من قال. قال عمرو بن علي: من كتب عنه قبل احتراق كتبه مثل ابن المبارك وابن المقري أصح ممن كتبه عنه بعد احتراقها1. وقال ابن وهب: كان ابن لهيعة صادقاً، وقال ابن وهب أيضاً: حدثني الصادق البار -والله- عبد الله بن لهيعة.   1 في حاشية "النفح الشذي" 2/831 –عندما نقل ابن سيد الناس عبارة عمرو بن علي الفلاس المتقدمة في ابن لهيعة: كذا جاءت تلك الرواية عن الفلاس في الميزان 2/477، وشرح العلل لابن رجب 1/37، ولكن جاء في رواية ابن أبي حاتم /الجرح والتعديل 5/147، وابن عدي (الكامل) 4/463، وكذا في السير 8/21 قول الفلاس في آخر تلك الرواية ما نصه: "وهو ضعيف الحديث"، فهذا تضعيف مطلق لابن لهيعة، ومتصل السياق بالتفصيل السابق، فيشمل ما قبل الاحتراق، وما بعده، وإن تفاوتا في درجة الضعف، وبذلك لا يكون مقصود الفلاس بقوله: "أصح" هو الصحة الاصطلاحية ... اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة1. وقال أحمد بن صالح الحافظ: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب، طالباً للعلم. الوجه الرابع: أنه قد ثبت أن الاستغاثة من أقسام العبادة، فصرفها لغير الله شرك، فإن لم يكن حديث أبي بكر شاهداً لهذا لم يكن مخالفاً له. الوجه الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الاستغاثة عن نفسه حماية للتوحيد، وصيانة لجانبه، وأدباً مع ربه، لا لأن الإغاثة لا تنسب إلى المغيث بالسبب العادي حقيقة،   1 جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: "ما حدث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيراً مما أكتب أعتبر به، وهو يقوي بعضه ببعض" ذكر ذلك عنه ابن رجب في "شرح العلل" 1/138. وأشار إليه شيخ الإسلام في "الرد على البكري" ص 153 –ص154. [ويلاحظ أن قول أحمد هذا في ابن لهيعة، قد بناه على نحو ما تقدم عن ابن حبان، من السبر والاعتبار لمرويات ابن لهيعة، حيث كتب الكثير منها، ثم قارنه بروايات من شاركه من الثقات، فتبين له أنه لا يحتج بما انفرد به، ولكنه يتقوى بغيره، وعليه يكون هذا هو القول المعتبر للإمام أحمد بشأن ابن لهيعة ... [و] يرد به على من يأخذ بتوثيقه السابق لابن لهيعة ... ] اهـ. من التعليق على "النفح الشذي" 2/851-852. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وأنها تنسب مجازاً -كما توهمه الغبي الأكبر- ولم يرد تعليم أمته أن الاستغاثة إنما تنسب للمخلوق مجازاً، فإن ما جاء به الكتاب والسنة دال على إضافة الفعل لمكتسبه، ومن قام به، ولذلك رتب الثواب والعقاب والجزاء والحساب. ولم يقل قول هذا العراقي إلا القدرية المجبرة، ومن نحا نحوهم من الجهمية، ورد عليهم أهل السنة -بما يطول ذكره- نقلاً وعقلاً. وقالوا: لو كان مجازاً لصح نفي أفعال المكلفين عنهم، وكانوا بمنزلة الجمادات التي يحركها الغير، ويفعل بها من غير قصد لها ولا اخيار، ويكون التعذيب والعقاب يرجع إلى مجرد المشيئة والإرادة، من غير فعل للعبد يستحق به الثواب والعقاب. ويقال أيضاً: الأفعال العادية القائمة بفاعلها تنسب إليه، وتضاف إليه حقيقة من إضافة الفعل إلى فاعله، فيقال: أكل وشرب، وقام وقعد، وحكى ودعا واستغاث، حقيقة لا مجازاً، بإجماع العقلاء، ولم يخالف في إضافة الأفعال إلى فاعلها حقيقة إلا من هو من أجهل الناس، وأضلهم على سواء السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 وأما قوله: ولو فرضنا أن الحديث صحيح فهو من قبيل قوله تعال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} . فأقول: ليس هذا من هذا الباب، وهذا من نوادر جهل هؤلاء الضلال، فإن لفظ الاستغاثة طلب الغوث ممن هو بيده، لمن أصابته شدة، ووقع في كرب، وإلا الأنجح والأولى لمن أصابه ذلك أن يستغيث بمن يجيب المضطر إذا دعاه، الموصوف بأنه غياث المستغيثين، مجيب المضطرين، أرحم الراحمين، فلفظ الاستغاثة يستعمل في مخ العبادة، وما لا يقدر عليه إلا الله عالم الغيب والشهادة، فكره صلى الله عليه وسلم إطلاقه عليه فيما يستطيعه، ويقدر عليه، حماية لجناب التوحيد، وسداً لذريعة الشرك، وإن كان يجوز إطلاقه فيما يقدر عليه المخلوق، فحماية جناب التوحيد من مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن قواعد هذه الشريعة المطهرة، فأين هذا من قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ، فإن الرمي المنفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم إيصال التراب إلى أعينهم كلهم، لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله، وأما نفس الرمي المثبت من رميه صلى الله عليه وسلم فقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب والحصا، ورمى به قِبلهم حقيقة لا مجازاً. وهذا من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون لأحد بعده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 ولو كان هذا لأحد بعده لم يكن فيه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يبق أحد منهم إلا وقع في عينيه من ذلك التراب شيء وهم نحو أربعة آلاف رجل، فهزمهم الله بسبب هذه الرمية حقيقة، لا عندها، ولا معها، بل بها. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم" 1، على حقيقته، فإن الله هو الذي حملهم بأن يسر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك حمولة، فحملهم بأمر الله، لأنه صلى الله عليه وسلم عبد مأمور منهي لا يفعل شيئاً إلا بأمر الله له، فنسبة الحمل إلى الله حقيقة قضاء وقدراً، وإلى من حملهم بإذن الله السببي الشرعي حقيقة لا مجازاً، وحمله إياهم أمر مقدرو عليه غير ممتنع، فكان من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متصرفاً بأمر الله، منفذاً له، فالله سبحانه أمره بحملهم، فنفذ أوامره، فكان الله هو الذي حملهم. وهذا معنى قوله: "إني لا أعطي أحداً شيئاً ولا أمنعه" 2.   1 قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأشعريين. أخرجه البخاري في صحيحه كفارات الأيمان –باب الاستثناء في الأيمان. ومسلم في صحيحه كتاب الأيمان- 3/1269. 2 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب الخمس- باب قول الله تعالى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أعطيكم ولا أمنعكم، أنا قاسم أضع حيث أمرت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 ولهذا قال: "وإنما أنا قاسم" 1 فالله سبحانه هو المعطي على لسانه، وهو يقسم ما قسمه بأمره. قوله: (فيكون معنى الحديث السابق: إني وإن يستغاث بي، فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى) . أقول: هذا التأويل مخالف للفظ الحديث، ولمعناه، وقد تقدم الكلام عليه، فلا معنى لصرفه عما يقتضيه إلى ما لا يدل عليه لغة ولا شرعاً. وقوله: (وبالجملة فإطلاق لفظ الاستغاثة على من يحصل منه غوث ولو تسبباً وكسباً أمر نطقت به اللغة، وجوزه الشرع) .   1 أخرج البخاري في صحيحه –كتاب فرض الخمس- باب قول الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} يعني للرسول قسم ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا قاسم وخازن والله يعطي". ثم ساق بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعاً: "فإني إنما جعلت قاسماً أقسم بينكم" وفي لفظ له "فإنما أنا قاسم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 فأقول: هذا كذب على اللغة، وعلى الشرع. أما اللغة فإن الأفعال العادية القائمة بفاعلها تنسب إليه، وتضاف إليه حقيقة، من إضافة الفعل إلى فاعله، فيقال: أكل وشرب، وقام وقعد، وحكى ودعا، واستغاث حقيقة لا مجازاً بإجماع العقلاء. وأما شرعاً فإن الله قد رتب حصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وحصول الشرور في الدنيا والآخرة، والعقاب والثواب في كتابه على الإعمال ترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والمسبب على السبب، وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع، كما تقدم بيانه في كلام ابن القيم –رحمه الله تعالى-. وأما قوله: (ويؤيد ما بيناه في تأويل حديث البخاري في الشفاعة يوم القيامة "فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم") . فالجواب أن نقول: هذا ليس مما نحن فيه، فإن الاستغاثة بالمخلوق على نوعين: أحدهما: أن يستغيث بالمخلوق الحي فيما يقدر على الغوث فيه، مثل أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل حجر، ويحول بينه وبين عدوه الكافر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 ويدفع عنه سبعاً صائلاً، أو لصاً، أو نحو ذلك، ومن ذلك طلب الدعاء لله من بعض عباده لبعض، وهذا لا خلاف في جوازه، والاستغاثة الواردة في حديث المحشر من هذا القبيل، فإن الأنبياء الذين يستغيث العباد بهم يوم القيامة يكونون أحياء، وهذه الاستغاثة إنما تكون بأن يأتي أهل المحشر هؤلاء الأنبياء، يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله سبحانه، ويدعوا لهم بفصل الحساب، والإراحة من ذلك الموقف، ولا ريب أن الأنبياء قادرون على الدعاء، فهذه الاستغاثة تكون بالمخلوق الحي فيما يقدر على الغوث فيه. والثاني: أن يستغاث بمخلوق ميت أو حي فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وهذا هو الذي يقول فيه أهل التحقيق: إنه غير جائز. فإن قلت: هؤلاء المستغيثون بالأموات أو الغائبين –أيضاً- يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله تعالى، ويدعوا لهم بقضاء حاجاتهم، وهم قادرون على ذلك فتكون استغاثتهم هذه من قبيل النوع الأول. قيل: هذا فيه خلل من وجوه: الأول: أن فيه ذهوا عن قيد الحي، والمراد بالحياة الدنيوية لا البرزخية. والثاني: أن ظاهر ألفاظهم مثل قولهم: يا رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 اشف مريضي، واكشف عني، وهب لي ولداً ورزقاً واسعاً، ونحو ذلك، دال على أنهم لا يطلبون منهم الشفاعة، بل يطلبون شفاء المريض، وكشف الكربة، وإعطاء الولد، والرزق، وهم غير قادرين على تلك الأمور. الثالث: أن هؤلاء المستغيثين بالأموات والغائبين يدعونهم، ويستغيثون بهم، من أماكن مختلفة، ومواضع بعيدة، معتقدين أن الأموات والغائبين يعلمون استغاثتهم، ويسمعون دعاءهم، من كل مكان، وفي كل زمان، ولا ريب أن هذا إثبات لعلم الغيب لهم، الذي هو من الصفات المختصة بالله تعالى، فيكون شركاً، وبهذا وبما تقدم يندفع تأويل الحديث على تأوله عليه من المحال الباطل، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 فصل في آية: {وأبتغوا إليه الوسيلة} ... فصل قال العراقي: (لنا على جواز التوسل والاستغاثة دلائل: منها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] قال ابن عباس: إن الوسيلة كل ما يتقرب به إلى الله تعالى. والوهابية جعلت الوسلية خاصة بالأفعال، وهو تحكم. بل ظاهر الآية تخصيصها بالذوات، فإنه تعالى قال في هذه الآية {اتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 35] والتقوى عبارة عن فعل المأمور به، وترك المنهي عنه، فإذا فسرنا الوسيلة بالأعمال كان الأمر بابتغاء الوسيلة إليه تأكيداً للأمر بالتقوى بخلاف ما إذا أريد بها الذوات، فإن الأمر حينئذ يكون تأسيساً، وهو خير من التأكيد) . والجواب أن نقول: قد استدل بهذه الآية طاغية العراق داود بن جرجيس على نحو مما ذكره هذا، إلا أن هذا أسقط من جواب داود نسبة الكلام إلى البغوي، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 لم يذكره عنه. وأجابه على ذلك شيخنا الشيخ عبد اللطيف فقال: والجواب أن يقال: الله أكبر على هؤلاء الضلال الكاذبين على الله وعلى رسله، المبدلين لدينه، المحرفين للكلم عن مواضعه، وهذا الكلام الذي ذكره العراقي جمع فيه من التحريف والإلحاد والكذب والقول في كتاب الله برأيه، ما سيمر بك بيانه مفصلاً، وفي الحديث "من قال في القرآن برأيه –وفي رواية بما لا يعلم- فليتبوأ مقعده من النار" 1 وقد تكلم الحافظ ابن كثير على قوله   1 أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 1/233-269، وأبو داود فيما نسب إليه المزي في "تحفة الأشراف" 4/423 –ولعله في غير رواية الؤلؤي فإني لم أجده فيها، وهي المتداولة بين الناس- والترمذي 5/199، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي في "السنن الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" 4/423، والطبري في "تفسيره 1/34، والبغوي في "شرح السنة" 1/257-258، جميعهم من طريق عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ... به. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" على هذا الحديث 1/147: رواه الطبراني في "الكبير" وفيه عبد الأعلى بن عامر والأكثر على تضعيفه اهـ. وقد ضعفه أحمد وأبو زرعة وابن سعد وقال النسائي: ليس بالقوي يكتب حديثه، وقال ابن معين: ليس بذاك القوي. قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب" 6/95 بعد أن ساق هذه الأقوال وغيرها: وصحح الطبري حديثه في الكسوف، وحسن له الترمذي وصحح له الحاكم وهو من تساهله اهـ. ورواه ابن عدي في "الكامل" 6/2130: من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال في القرآن برأيه فإن أصاب لم يؤجر". وهذا إسناد تالف، الكلبي اسمه "محمد بن السائب بن بشر" لخص الحافظ ابن حجر قول أئمة الجرح والتعديل فيه فقال: متهم الكذب ورمي بالرفض اهـ. وروى ابن عدي بسنده عن سفيان الثوري قال: قال لي الكلبي: قال لي أبو صالح: كل ما حدثتك فهو كذب. وأبو صالح هو باذام مولى أم هانيء بنت أبي طالب قال ابن معين: ليس به بأس وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء، وقال ابن حبان يحدث عن ابن عباس، ولم يسمع منه. "تهذيب التهذيب" 1/416-417، ولخص الحافظ ابن حجر القول فيه فقال: ضعيف مدلس اهـ. وروى ابن أبي شيبة هذا الحديث في مصنفه 1/512 موقوفاً على ابن عباس، وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر. ورواه الطبري في "تفسيره" 1/43 موقوفاً على ابن عباس. وفي الباب عن جندب بن عبد الله بلفظ "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ" أخرجه الترمذي 5/200، وأبو داود 4/63-64، والنسائي في الكبرى كما في "تحفة الأشراف" 2/444، وإسناده ضعيف علته سهيل بن أبي حزم، وهو ضعيف عندهم " تهذيب التهذيب 4/261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] بما يرد قول هذا العراقي ويبطله، قال رحمه الله تعالى: أمر عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قورنت بالطاعة كان المراد بها الانكفاف عن المحارم، وترك المنهي عنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وقد قال بعدها: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] ، قال سفيان الثوري، عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس (أي القربة) ، وكذا قال مجاهد وعطاء وأبو وائل، والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير، والسدي وأبو زيد. قال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته، والعمل بما يرضيه، وقرأ ابن زيد: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه. وأنشد ابن جرير قول الشاعر: إذا عفل الواشون عدنا لوصلنا ... وعاد التصافي بيننا والوسائل والوسيلة: هي ما يتوصل به إلى تحصيل المقصود. انتهى. وقال البغوي: أي اطلبوا إليه الوسيلة، أي القربة. فعليه من توسل إلى فلان بكذا أي تقرب إليه. وجمعها: وسائل. وقال البيضاوي على قوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] أي: ما يتوسلون به إلى ثوابه، والزلفى منه، من فعل الطاعات، وترك المعاصي، من وسل إلى كذا: إذا تقرب إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 وقال في الكلام على آية الإسراء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله القربة بالطاعة (أيهم أقرب) بدل من واو (يبتغون) أي: يبتغي من هو أقرب منهم إلى الله الوسيلة، فكيف بغير الأقرب. وقال ابن كثير: وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] روى البخاري من حديث سليمان بن مهران عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر عن عبد الله في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] قال: ناس من الجن، كانوا يُعبدون فأسلموا. وذكر رواية عن ابن مسعود: كانوا يعبدون صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن. وذكر عن ابن عباس قال: عيسى، وأمه وعزير. وعنه: والشمس والقمر. قال مجاهد: عيسى وعزير والملائكة. واختار ابن جرير قول ابن مسعود، لقوله: (يبتغون) ، وهذا لا يعرب به عن الماضي، فلا يدخل فيه عيسى والعزير. وقال الوسيلة: هي القربة، كما قال تعالى، ولهذا قال: (أيهم أقرب) انتهى. واختار شيخ الإسلام أن الآية تعم من ذكر وغيرهم ممن عبده المشركون من أولياء الله وعباده الصالحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 فتبين بهذا رد ما ذكره البغوي، فإن المفسرين ذكروا ابتغاء الوسيلة، وهو طلب القربة، فتقدم قول البيضاوي في قوله: (أيهم أقرب) أنه بدل من الواو في (يبتغون) ، وقال أبو حفص العكبري: (أيهم) مبتدأ، و (أقرب) خبره، وهو استفهام، والجملة في موضع نصب بيدعون. وعلى كلا القولين لا يصح ما ذكره البغوي من توسل بعضهم ببعض. وفي "الجلالين" (أولئك الذين) يدعونهم آلهة (يبتغون) يطلبون (إلى ربهم الوسيلة) القربة بالطاعة (أيهم) بدل من واو (يبتغون) أي يبتغيها الذي هو أقرب إليه، فكيف بغيره. إذا عرف هذا، تبين فساد قول البغوي1 في آية "الإسراء" فإن التوسل في العرف الشرعي فعل ما يتوسل به إلى الله من الإيمان به، والعمل الصالح، الذي شرعه ويرضاه، كما في حديث الثلاثة الذين آووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة. هذا هو التوسل المعروف، كما عليه أهل الإسلام من المفسرين وغيرهم، ومن قول قتادة؛ أي تقربوا إليه بطاعته، والعمل بما يرضيه. وتقدم قول ابن كثير بعد حكاية هذا: وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين. فذكر الإجماع على أن المراد القربة بالعمل الصالح، وما يرضاه تعالى. ثم لو سلم صحة ما ذكره البغوي، فليس المراد أن   1 انظر ص 498 ها هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 بعضهم يدعو من هو أقرب منه، ويسأله الشفاعة والتقرب، بل التوسل يطلق عنده على سؤال الله بجاه المقربين، وبحق الصالحين، لا كما يظنه عباد القبور من أن التوسل هو دعاء الصالح نفسه، وقصده بالمسألة والطلب من دون الله، والتقرب إليه بالذبح والنذر، وغيرهما من العبادات، فإن هذا عين الشرك الذي نزلت الآية بإبطال، والرد على أهله، فإن الجاهلية من الأميين والكتابيين يدعون الملائكة وعيسى وأمه والعزير، ويتوجهون إليه في حاجاتهم وملماتهم، ويتقربون إليهم بصرف الأموال ذبحاً ونذراً، فرد الله عليهم هذا الفعل من صنيعهم، وأخبرهم أن هؤلاء المدعوين لا يملكون كشف الضر، ولا تحويله من حال إلى حال، لأن من عبد الأنبياء والصالحين يدعي أنه يكشف الضر بواسطتهم، وعلى أيديهم، كما يقوله عباد القبور، فأخبرهم تعالم أن هؤلاء المدعوين عبيده، كما أن الداعين عبيده، وأنهم يرجونه رحمته، ويخافون عذابه، والخائف الراجي لا يصلح أن يكون مدعواً ومعبوداً، فانظر هذه الآية الكريمة، وما دلت عليه، وما سيقت له، وانظر حقيقة دعوى العراقي، وما يفعله الغلاة في الأولياء والصالحين، ومسألتهم وتعظيمهم بشيء من العبادات، كالذبح والنذر لهم، وعلى إبطال دعواه أيضاً في التوسل الشركي بالصالحين، ودعائهم ومسألتهم وبهذا تعرف أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 مشاق لله ورسوله، يستدل بالآية الكريمة على نقيض ما دلت عليه، ويفهم منها عكس ما دعت إليه، وهكذا حال القلوب المنكوسة، تتصور الأشياء على خلاف ما هي عليه، وأهل العلم كافة استدلوا بهذه الآية على إبطال التوسل الشركي، الذي هو دعاء الصالحين، والعراقي استدل بها على جوازه واستحبابه، فبعداً للقوم الظالمين. وأما قول العراقي: (فظاهر الآية عام في الأفعال والذوات) هذا قول داود. وقال صاحب هذه الرسالة1: (والوهابية جعلت الوسيلة خاصة بالأفعال، وهو تحكم، بل ظاهر الآية تخصيصها بالذوات) . قال شيخنا: فهذا يكذبه ويبطله ما مر من إجماع المفسرين على أن الوسيلة هي التقرب إلى الله بطاعته، وبما يرضيه مما شرعه وأذن فيه. والتوسل الذي يريده العراقي بذات الصالحين هو دعاؤهم ومسألتهم وتعظيمهم بالعبادة، وتقدم كلام ابن القيم في أنه يستحيل أن تأتي شريعة من الشرائع بإباحة ذلك. وقوله: (ومن ادعى التخصيص بأحدهما فقد تحكم) ففي هذا القول من سوء الأدب مع الشارع، والجرأة   1 يعني العراقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 على الله وعلى رسوله، ما يعلمه أهل العلم بدينه، الذين عقلوا عنه مراده، وعرفوا أنه أخص القرب التي يحبها ويرضاها، ونهى عن مجاوزتها إلى البدع والضلالات، فالمخصص للقرب والوسائل هو الله ورسوله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] . ثم اقتحم العراقي وأتى بقولة يضحك منها صبيان المكاتب، فقال: (على أن ظاهر سياق الآيات تخصيصه بالذوات) فأتى على ما قاله المفسرون قاطبة فهدمه، واجتث أصله، ورده من لا يؤمن بالكتاب، ولا يخاف سواء الحساب، واستدلاله على تلك الدعوى الضالة بأن (التقوى فعل المأمور وترك المنهي عنه، وإذا فسر ابتغاء الوسلية بالأعمال يكون تأكيداً فيكون مكرراً، وإذا أريد التوسل بالذوات يكون ناشئاً، وهو خير من التأكيد) هذا كلامه بحروفه، وكفى بهذا خزياً وفضيحة، وتسجيلاً على جهالة، وأنه ما عرف شرعاً، ولا لغة، ولا ديناً، وهذا مردود بوجوه: الأول: إن ابن كثير قرر أن التقوى إذا قرنت بالطاعة أو الوسيلة كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهي، كما في هذه الآية. والوسيلة هي التقرب إلى الله بأنواع الطاعات، وأصناف العبادات، ومراده أنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 إذا أطلقت ولم تقترن بغيرها دخل فيها فعل المأمور وترك المحظور، وهكذا اسم العبادة، والطاعة، تعم عند الإطلاق وتخص مع الاقتران والتقييد. فالعراقي لم يعرف مسمى التقوى في هذا المحل، وخبط خبط عشواء. الوجه الثاني: إن الوسيلة ما يقرب إلى الله تعالى، والتقوى تطلق على ما يتقى به عذابه، ويرجى به ثوابه، فلو قيل بهذا الإطلاق هنا، فالقرب إلى الله وطلبه أخص مما قبله. الوجه الثالث: إن التأكيد يكون خيراً من التأسيس إذا اقتضاه الحال، وقصد رفع المجاز، وإبطال توهمه، أو قصد بيان خصوصية الفرد المعطوف، والاهتمام به، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاة} [الأعراف: 170] . الوجه الرابع: إن التأسيس لا يجري هنا، ولا يصح قصده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 فصل في آية: {أيهم أقرب} ... فصل قال العراقي: (ومنها قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] قال ابن عباس: هم عيسى وأمه وعزير والملائكة. وتفسير الآية: أن الكفار يعبدون الأنبياء والملائكة على أنهم أرباب، فيقول الله لهم: أولئك الذين تعبدونهم هم يتوسلون إلى الله بمن هو أقرب، فكيف تجعلونهم أرباباً، وهم عبيده مفتقرون إلى ربهم متوسلون إليه بمن هو أعلى مقاماً منهم) . والجواب أن يقال: وهكذا قال داود بن جرجيس. وقد أجابه الشيخ فقال: والجواب أولاً: لولا ما يقصده المؤمن من رد هذه الأقوال الضالة الكاذبة التي تتضمن الكذب على الله، وتحريف كتابه، وتغيير دينه، والقول عليه بغير علم، لما جازت حكاية هذا الإفك ونقله، والله سبحانه ذكر أقوال أعدائه وأعداء رسله في معرض الرد لها، وإبطالها، والتسجيل على ضلالة أهلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 فأما ما نقله عن البغوي، فقد حرفه، وكذب فيه، وهذه عبارة البغوي نسوقها بحروفها، قال في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] . يعني الذين يدعونهم المشركون آلهة ويعبدونهم. قال ابن عباس ومجاهد: هم عيسى وأمه وعزير، والملائكة والشمس والقمر، والنجوم. يبتغون: أي يطلبون إلى ربهم الوسيلة، أي القربة، وقيل: الوسيلة: الدرجة العليا، أي يتضرعون إلى الله في طلب الدرجة العليا، وقيل الوسيلة: كل ما يتقرب به إلى الله عز وجل، وقوله: (أيهم أقرب) معناه: ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به. وقال الزجاج (أيهم أقرب) : يبتغي الوسيلة إلى الله، ويتقرب إليه بالعمل الصالح. هذه عبارة البغوي بحروفها1. وقد تصرف فيها هذا الضال، فحذف منها قول ابن عباس: (والشمس والقمر والنجوم) ، وحرف قوله: (يطلبون إلى ربهم الوسيلة أي القربة) فقال العراقي: كل ما يتقرب به إلى الله، وعبارة البغوي (القربة) وحذف قول البغوي: (وقيل الوسيلة الدرجة العليا، أي يتضرعون   (3/120/ ط دار المعرفة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 إلى الله في طلب الدرجة العليا) ، وزاد في قوله: (ينظرون أيهم أقرب إلى الله) فقال العراقي: (وأعلى جاها) ، وزاد: (ويتشفعون به إلى ربهم) هذا تحريفه لكلام البغوي1. قلت: وأما صاحب الرسالة فإنه ألطف في التحريف، وأجرأ على الله بالكذب من داود، فإن داود نسب الكلام إلى البغوي وحرفه، وتصرف فيه، وزاد، وهذا جزم أن تفسير الآية: أن الكفار يعبدون الأنبياء والملائكة على أنهم أربابهم، كما ذكر داود، وذكر هذا كما ذكر داود إلى آخره. والمقصود أنهم يغترفون من عين واحد. قال الشيخ في جوابه: والرجل يشتهي يأخذ ما يهوى، ويدع ما هو الأولى والأقوى، فأول عبارة البغوي ترد قوله: (ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به) لأن الشمس والقمر والنجوم لا يتأتى منهم ذلك، والملائكة وعزير وعيسى، لم يرد نقل ولا حجة ولا برهان على أن بعضهم يسأل الله ببعض، ويتوسل به، ويقصده في حاجاته وملماته، فما قاله البغوي هنا غير مسلم. وقد تقدم كلام المفسرين، وأنهم لم يرتضوا هذا، ولم يقله أحد منهم. وتقدم قول ابن كثير في تفسير قتادة أنه لا خلاف بين المفسرين في ذلك. وتقدم قول أبي   1 انتهى كلام الشيخ عبد اللطيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 حفص والبيضاوي، والجلالين. فعدل العراقي عن هذا كله، وتمسك بالمتشابه، كما قال ابن القيم: وأعرض النصارى عن الأصول المحكمة، وتمسكوا بالمتشابه. على أن عبارة البغوي ليس فيها شاهد ودليل لعباد القبور، بل هي تدل على خلافه1 فإن التوسل الذي يشير إليه، وينصرف الاسم عليه عند الإطلاق، هو التوسل الشرعي، ومنه دعاء المؤمنين بعضهم لبعض، كالأسباب العادية، وقد يراد بالتوسل في عرف بعض الناس: سؤال الله تعالى بحق أوليائه. وعلى كل فليس فيه دليل لدعاء الموتى والغائبين، كما يفعله عباد القبور من الضالين والمشركين، ويحتمل أنه أراد بقوله: (أن ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به) معنى صحيحاً شرعياً، وهو الاقتداء بهم، وسلوك سبيلهم، واقتفاء آثارهم، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} [الأنعام: 90] وقد يتعين هذا الاحتمال لوجوب إحسان الظن بالعلماء. وقول العراقي في معنى الآية: (إن الكفار يعبدون الأنبياء والملائكة على أنهم أربابهم) يريد به أن المشركين يعتقدون أن آلهتهم تخلق وترزق وتدبر، وهذا قد رده القرآن، وأبطله في غير موضع –كما تقدم تقريره- والعراقي يلجأ إلى   1 إلى هنا انتهى البياض الموجود في الأصل (الطبعة الهندية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 هذا لئلا يدخل ما فعله عباد القبور فيما نهى عنه القرآن من اتخاذ الآلهة من دون الله، وعبادتها معه، وهذا لازم لعباد القبور لا محيص عنه، والحكم يدور مع علته، والقرآن كفر المشركين، وأنكر عليهم: دعاء غير الله، ومحبة سواه، وتعظيم ما يدعى معه، بالذبح والنذر، وسائر العبادات، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه} [البقرة: 165] ، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء:56] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِه} [المؤمنون: 117] ، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] . وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] والآيات في المعنى كثيرة، يبين تعالى أنه كفرهم، وأنكر عليهم، وتوعدهم بالنار على عبادة غيره، ودعاء سواه. والعبادة فعل العبد الذي هو الحب مع الله، والخضوع والتعظيم والدعاء رغباً ورهباً. وإطلاق الأرباب على الآلهة كقوله تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] ، وقوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} [آل عمران: 80] ، ونحو ذلك إنما يراد به ما ذكرنا، لأن المعبود يسمى رباً، وهذا مما لا خلاف فيه بين المفسرين، بل السيد يسمى ربا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 فتنبه لهذا، فقد زل بهذه الشبهة كثير من المنتسبين إلى العلم والدين -ثم ذكر الشيخ كلاماً طويلاً عن شيخ الإسلام قال في آخره: ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب، ويدعوها ويصوم وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لي، فإذا جعلتها سبباً وواسطة لم أكن مشركاً، ومن المعلوم بالاضطرار من دين المسلمين أن هذا شرك. انتهى. فتأمله فإن فيه حكاية قول سلف هذا العراقي. وفيه أن ما قاله العراقي شرك يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، والله المستعان. وأما قول العراقي: (فيقول الله تعالى: أولئك الذين تعبدونهم يتوسلون إلي بمن هو أقرب، يعني: فهو محتاجون) فقد كذب على الله، ما عنى سبحانه وتعالى بهذا المعنى، ولا أراده تبارك وتقدس، عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ما أجرأ هذا المتكلم على الله، وعلى كتابه، وعلى دينه {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83، والمعارج: 42] ، وتقدم قول المفسرين، وقول شيخ الإسلام: إن هؤلاء المدعوين عبيده، كما أن الداعين عبيده، وأنهم يرجون رحمته، ويخافون عذابه. نعوذ بالله من اقتحام هذه المهالك، والتوثب على تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 الدركات التي تهوي بصاحبها إلى أسفل سافلين، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 23] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 فصل في آية: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك} ... فصل قال العراقي: (ومنها: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء: 64] فقد علق الله تعالى قبول استغفارهم باستغفاره عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك صريح دلالة على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم، وقبول المتوسل به، كما يفهم من قوله تعالى: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء: 6] وأنت تعلم أن استغفاره صلى الله عليه وسلم لأمته لا يتقيد بحال حياته، كما دلت عليه الأحاديث الواردة، مما سننقله، لا يقال: إن الآية وردت في قوم معينين، فلا عموم لها، لأنا نقول: إنها وإن وردت في قوم معينين في حال حياته صلى الله عليه وسلم، تعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف، سواء كان في حال حياته، أو بعد موته صلى الله عليه وسلم) . والجواب أن نقول: قد سبق هؤلاء إلى الاستدلال بهذه الآية السبكي بنحو مما قال هذا، وأجابه الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي –رحمه الله تعالى- فقال1:   1 في كتابه (الصارم المنكي في الرد على السبكي) ط الإفتاء (ص424) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 أما استدلاله بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء: 64] الآية، فالكلام فيها في مقامين: أحدهما: عدم دلالتها على مطلوبه. الثانية: بيان دلالتها على نقيضه. وإنما يتبين الأمران بفهم الآية، وما أريد بها، وسيقت به، وما فهمه منها أعلم الأمة بالقرآن ومعانية، وهم سلف الأمة، ومن سلك سبيلهم. ولم يفهم منها أحد من السلف والخلف إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم، وقد ذم تعالى من تخلف عن هذا المجيء، إذ ظلم نفسه، وأخبر أنه من المنافقين، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5] . وكذلك هذه الآية إنما هي في المنافق الذي رضي بحكم كعب بن الأشرف وغيره من الطواغيت، دون حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظلم نفسه بهذا أعظم ظلم، حيث لم يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له، فإن المجيء إليه يستغفر له توبة وتنصل من الذنوب، وهذه كانت عادة الصحابة معه صلى الله عليه وسلم أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة، جاء إليه فقال: يا رسول الله إني فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، وهذا كان فرقاً بينهم وبين المنافقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 فلما استأثر الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم، ونقله من بين أظهرهم إلى دار كرامته، لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقول: يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت، أفترى: عطل1 الصحابة والتابعون -وهم خير القرون على الإطلاق- هذا الواجب الذي ذم الله سبحانه من تخلف عنه، وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق، ووفق2 له من لا يؤبه له من الناس، ولا يعد في أهل العلم. فكيف أغفل هذا أئمة الإسلام وهداة الأنام من أهل الحديث والفقه والتفسير، ومن لهم لسان صدق في الأمة، فلم يدعوا إليه، ولم يحضوا عليه، ولم يرشدوا إليه، ولم يفعله إحد منهم ألبتة؟ بل المنقول الثابت عنهم ما قد عرف مما يسوء الغلاة فيما يكرهه وينهى عنه من الغلو والشرك الجفاة عما يحبه ويأمر به من التوحيد والعبودية. ولما كان هذا المنقول شجى في حلوق الغلاة، وقذى في عيونهم، وريبة في قلوبهم، قابلوه بالتكذيب والطعن في الناقل، ومن استحيا منهم من أهل العلم بالآثار قابله بالتحريف والتبديل. ويأبى الله إلا أن يعلي منار الحق، ويظهر أدلته ليهتدي المسترشد، وتقوم الحجة   1 في الأصل: "وافترى على". 2 في ط الرياض: "ووقف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 على المعاند فيعلي الله بالحق من يشاء، ويضع برده وبطره وغمص أهله من يشاء. ويا لله العجب أكان ظلم الأمة لأنفسها ونبيها بين أظهرها موجود، وقد دعيت فيه إلى المجيء إليه ليستغفر1 لها، وذم من تخلف عن المجيء2، فلما توفي صلى الله عليه وسلم ارتفع ظلمها لأنفسها بحيث لا يحتاج أحد منهم إلى المجيء إليه3 ليستغفر له. وهذا يبين أن هذا التأويل الذي تأوله عليه المعترض هذه الآية تأويل بطال قطعاً، ولو كان حقاً لسبقونا إليه علماً وعملاً، وإرشاداً ونصيحة. ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة، لم يكن على عهد السلف، ولا عرفوه، ولا بينوه للأمة، فإنه يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا، وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه. وبطلان هذا التأويل أظهر من أن يطنب في رده، وإنما ننبه عليه بعض التنبيه.   1 في الأصل: "إلى المجيء إليه ليستغفر". 2 في الأصل: "عن هذا المجيء". 3 سقطت "إليه" من ط الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 ومما يدل على بطلانه قطعاً: أنه لا يشك مسلم أن من دعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وقد ظلم نفسه ليستغفر له، فأعرض عن المجيء وأباه، مع قدرته عليه، كان مذموماً غاية الذم، مغموصاً بالنفاق. ولا كذلك من دعي إلى قبره ليستغفر له، ومن سوى بين الأمرين، وبين المدعوين، وبين الدعوتين، فقد جاهر بالباطل، وقال على الله وكلامه ورسوله وأمناء1 دينه غير الحق. وأما دلالة الآية على خلاف تأويله فهو أنه سبحانه صدرها بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء:64] وهذا يدل على أن مجيئهم إليه ليستغفر لهم إذ ظلموا أنفسهم طاعة له، ولهذا ذم من تخلف عن هذه الطاعة، ولم يقل مسلم قط إن على من ظلم نفسه بعد موته أن يذهب إلى قبره، ويسأله أن يستغفر له، ولو كان هذا طاعة له لكان خير القرون قد عصوا هذه الطاعة، وعطلوها، ووفق لهذا هؤلاء الغلاة العصاة، وهذا بخلاف قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] فإنه نفى الإيمان عمن لم يحكمه، وتحكيمه هو تحكيم ما جاء به حياً وميتاً، ففي   1 سقطت "وأمناء" من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 حياته كان هو الحكم بينهم بالوحي، وبعد وفاته نوابه وخلفاءه، يوضح ذلك أنه قال: "لا تجعلوا قبري عيداً "1 ولو كان يشرع لكل مذنب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له لكان القبر أعظم أعياد المذنبين، وهذا مضادة صريحة لدينه، وما جاء به، ولو كان مشروعاً لأمر به أمته، وحضهم عليه، ورغبهم فيه، ولكان الصحابة وتابعوهم بإحسان أرغب شيء فيه، وأسبق إليه. ولم ينقل عن أحد منهم قط وهم القدوة بنوع من أنواع الأسانيد أنه جاء إلى قبره ليستغفر له، ولا شكا إليه، ولا سأله. والذي صح عنه مجيء القبر للتسليم فقط، هو ابن عمر، وكان يفعل ذلك عند قدومه من السفر، ولم يكن يزيد على التسليم شيئاً ألبتة، ومع هذا فقد قال عبيد الله بن عمر العمري الذي هو أجل أصحاب نافع، أو من أجلهم: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر.   1 أخرجه الإمام أحمد في "المسند" 2/367، وأبو داود في كتاب المناسك في "سننه" 2/534 من طريق عبد الله بن نافع أخبرني ابن ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وحيثما كنتم فصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني " هذا لفظ أحمد. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 ...............................................................................................................   = ولفظ أبي داود: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم". قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية بعد أن ساق سند الحديث في "الاقتضاء" 2/654: وهذا إسناد حسن، فإن رواته كلهم ثقات مشاهير. لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين، لا يقدح في حديثه. قال يحيى بن معين: هو ثقة. وحسبك بابن معين موثقاً. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ، وهو لين تعرف حفظه وتنكر. فإن هذه العبارات منهم تنزل حديثه من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن، إذ لا خلاف في عدالته وفقهه، وأن الغالب عليه الضبط، لكن قد يغلط أحياناً ثم هذا الحديث مما يعرف من حفظه، ليس مما ينكر، لأنه سنة مدنية، وهو محتاج إليه في فقهه، ومثل هذا يضبطه الفقيه. وللحديث شواهد من غير طريقه، فإن الحديث روي من جهات أخرى، فما بقي منكراً. وكل جملة من هذا الحديث رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد معروفة، وإنما الغرض هنا النهي عن اتخاذه عيداً. فمن ذلك ما رواه أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين، حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسين أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو. فنهاه، فقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولابيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني إينما كنتم". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 ...............................................................................................................   = رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي، الحافظ فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين، وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه اهـ. كلام شيخ الإسلام. قال الهيثمي في المجمع 4/3 على هذا الحديث: "رواه أبو يعلى وفيه حفص بن إبراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً وبقية رجاله ثقات" اهـ. قلت: كذا في الأصل "حفص" والصواب "جعفر" كما ساقه شيخ الإسلام، وكما في المصنف لابن أبي شيبة 2/375 –وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للجهضمي ص 33. وفي سنده أيضاً علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يعتبر حديثه من غير وراية أولاده عنه اهـ من التهذيب. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: "مستور" اهـ. ثم ذكر شيخ الإسلام لهذا الحديث شاهدين فقال في المصدر السابق: وروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتك تبلغني" اهـ كلام شيخ الإسلام. وحبان بن علي هذا ضعفه الأئمة كما في التهذيب 2/173. وأبو سعيد مولى المهري قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول. اهـ. يعني حيث يتابع وإلا فلين كما نص على هذا في المقدمة. قال شيخ الإسلام في المصدر السابق: وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى. فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " وما أنت ومن بالأندلس إلا سواء. فهذا المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج من أرسله به، وذلك يقتضي ثبوته عنده، ولو لم يكن من وجوه مسندة غير هذين. فكيف وقد تقدم مسنداً اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 ومعلوم أنه لا هدي أكمل من هدي الصحابة، ولا تعظيم لرسول الله فوق تعظيمهم، ولا معرفة لقدرة فوق معرفتهم، فمن خالفهم إما أن يكون أهدى منهم، أو يكون مرتكباً لنوع من البدع، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لقوم رآهم اجتمعوا على ذكر يقولونه: لأنتم أهدى من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ... أو أنتم على شعبة الضلال. فتبين أنه لو كان استغفاره لمن جاءه مستغفراً بعد موته ممكناً أو مشروعاً، لكان كمال شفقته ورحمته بالأمة تقتضي ترغيبهم في ذلك، وحضهم عليه. انتهى. وأما قوله: (فقد علق تعالى قبول استغفارهم باستغفاره) ، وهذا حق، ولكنه في حال حياته لا بعد وفاته. وقوله: (وفي ذلك صريح دلالة على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم، وقبول المتوسل به) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 فأقول: نعم، هذا حق، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون به في حال حياته، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم إنا1 كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا. فلو كان التوسل به بعد وفاته جائزاً لما عدل الفاروق إلى عمه العباس، مع إمكان التوسل به عند قبره -لو كان جائزاً- ومن المعلوم أن التوسل المشروع إنما هو بدعائه، كما تقدم بيانه، وكما سيأتي إن شاء الله. بل في ذلك أصرح دلالة على المنع من التوسل به الشرعي بعد وفاته، بدليل أنه لا أكمل من هدي الصحابة، ولا تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم فوق تعظيمهم، ولا معرفة لقدره فوق معرفتهم، ومع ذلك لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره، ويقول: يا رسول الله فعلت كذا وكذا، فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت. وأما قوله: (وأنت تعلم أن استغفاره صلى الله عليه وسلم لأمته لا يتقيد بحال حياته، كما دلت عليه الأحاديث الواردة مما سننقله) .   1 في الأصل: "أنه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 فأقول: لو كان طلب الاستغفار منه صلى الله عليه وسلم جائزاً بعد وفاته عند قبره، أو من مكان بعيد منه، أو كان مشروعاً لأمر به أمته، وحضهم عليه، ورغبهم فيه، ولكان الصحابة رضي الله عنهم وتابعوهم بإحسان أرغب شيء فيه، وأسبق إليه، ولم ينقل عن أحد منهم قط -وهم القدوة- بنوع من أنواع1 الأسانيد أنه جاء إلى قبره ليستغفر له، ولا شكا إليه، ولا سأله، وقد تقدم بيان هذا. وأما قوله: (لا يقال إن الآية وردت في قوم معينين، فلا عموم لها ... ) الخ. فأقول: نعم، الأمر كما أقر به الخصم في هذا2 المقام، من أن الآية وردت في قوم معينين من أهل النفاق، يدل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:61] فهي تعم ما وردت فيه، وما كان مثله، فهي عامة في حق كل من ظلم نفسه من كل منافق قيل به: تعال إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، فصد عن الرسول صدوداً، وتحاكم إلى الطاغوت، ثم جاء الرسول في حياته،   1 في الأصل: "نوع". 2 في الأصل: "هذه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 فاستغفر الله واستغفر له الرسول في حياته، وأما المؤمن الذي عصى وظلم نفسه، فجاء قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاستغفر الله، فليس مثله، لما تقدم بيانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 فصل في آية: {فاستغاثه الذي من شيعته} ... فصل قال العراقي: (ومنها قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] فنسب الله تعالى الاستغاثة إلى غيره من المخلوق، وكفى به دليلاً على جوازها، فإن قيل: إن المستغاث في هذه الآية حي وله قدرة، وإنما كلامنا في الميت. أجيب: بأن نسبة القدرة إليه إن كان استقلالاً فهي كفر، وإن كانت بقدرته تعالى على أن يكون هو السبب والوسيلة ليس إلا فلا فرق بين الحي والميت، فإن الميت له كرامة، وإذا لم تنسب إلى الله حقيقة وإلى غيره مجازاً كانت الاستغاثة ممنوعة، ومن هنا تعلم سر نفي النبي صلى الله عليه وسلم الاستغاثة عن نفسه عندما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال عليه السلام: " لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله" 1 مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان   1 تقدم الكلام عليه في "الرد على القبوريين" لابن معمر. وأن في سنده ابن لهيعة لكن تكلم عليه شيخ الإسلام بكلام حسن عندما تعقبه البكري في إيراد هذا الحديث فقال في رده على البكري ص 153: هذا الخبر لم يذكر للاعتماد عليه، بل ذكر في ضمن غيره ليتبين أن معناه موافق للمعاني المعلومة بالكتاب والسنة، كما أنه إذا ذكر حكم بدليل معلوم، ذكر ما يوافقه من الآثار والمراسيل وأقوال العلماء وغير ذلك لما في ذلك من الاعتضاد والمعاونة، لا لأن الواحد من ذلك يعتمد عليه في حكم شرعي. ولهذا كان العلماء متفقين على جواز الاعتضاد والترجيح بما لا يصلح أن يكون هو العمدة من الأخبار التي تكلم في بعض رواتها لسوء حفظ أو نحو ذلك، وبآثار الصحابة والتابعين، بل بأقوال المشايخ والإسرائيليات للاعتماد نوع. وهذا الخبر من النوع الأول، فإنه رواه الطبراني في معجمه من حديث ابن لهيعة، وقد قال أحمد: قد كتبت حديث الرجل لأعتبر وأستشهد به مثل حديث ابن لهيعة. فإن عبد الله بن لهيعة قاضي مصر كان من أهل العلم والدين باتفاق العلماء، ولم يكن ممن يكذب باتفاقهم. ولكن قيل: إن كتبه احترقت فوقع في بعض حديثه غلط، ولهذا فرقوا بين من حدث عنه قديماً، وبين من حدث عنه حديثاً، وأهل السنن يروون له. إلى أن قال: وقد روي الناس هذا الحديث من أكثر من خمسمائة سنة، إن كان ضعيفاً وإلا فهو مروي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وما زال العلماء يقرؤون ذلك، ويسمعون في المجالس الكبار والصغار، ولم يقل أحد من المسلمين إن إطلاق القول: إنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم كفر ولا حرام ... الخ كلامه رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 حينئذ حياً، وله قدرة، فإنما قصد صلى الله عليه وسلم نفي الاستغاثة الحقيقية، فأراد تعليم أمته أنها لا تكون إلا بالله) . والجواب أن يقال: هذه شبهة داود. وإنما تصرف فيها هذا، ولم يخرج عن مقصوده بشيء. فقال شيخنا رحمه الله: وقوف أهل البصائر على هذا الكلام يكفي في رده وإبطاله، وبيان ما فيه من الجهل الغليظ. وهذا الصنف من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 الناس إنما أتوا1 من بعدهم عما جاءت به الرسل، وكونهم أجانب عنه، ليسوا من أهل الوراثة النبوية، فهم في ظلمات بعضها فوق بعض. وهذه الآية الكريمة فيها الخبر2 عن الإسرائيلي، لأنه استغاث موسى على القبطي الذي هو من عدوه، والأفعال العادية القائمة بفاعلها تنسب إليه، وتضاف إليه حقيقة، من إضافة الفعل إلى فاعله، فيقال: أكل وشرب، وقام وقعد، وقال وحكى، ودعا واستغاث، حقيقة لا مجازاً، بإجماع العقلاء، ولم يخالف في إضافة الأفعال إلى فاعلها حقيقة إلا من هو أجهل الناس، وأضلهم عن سواء السبيل، وهذا لم نقل بمنعه حتى يستدل علينا بالنسبة التي في الآية. مع أن الاستدلال بها يترجم عن جهل المعترض، وعدم فهمه عن الله، وقد نسب الرب تبارك وتعالى إلى أعدائه ما نسبوه إليه من اتخاذ الصاحبة والولد، وجعل الشركاء معه، والنسبة لا يستدل بها من يعقل ما يقول، بل الدليل في حكايته على وجه التقرير، وعدم الإنكار، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116] ، وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه} [التوبة: 30] ،   1 في ط الرياض "أوتوا". 2 في الأصل: "من الخبر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72] ، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73] ، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يس:74] فهذا كله منسوب إلى فاعله حقيقة، أفيقال بجوازه؟ وأنه لو كان ممنوعاً لما جازت النسبة، ويقال: هذا مجاز أيصح نفيه عنهم؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. والعراقي جاهل1 الدين والمذهب واللسان، بل الجاهلية لا تقول إن النسبة إلى الفاعل مجاز، ولا تقول إنها تدل على عدم المنع مما نسب2 إلى الفاعلة. والغرض بيان ما في كلام هذا من الفساد المتناهي، والآية ليست مما نحن فيه، فإن الإغاثة المثبتة ليس الدليل على إثباتها النسبة، وإنما هو ما جاءت به الشريعة الكاملة من جواز معاطاة الأسباب العادية، واستعانة الخلق بعضهم بعضاً في الجملة، والدليل من الآية ترك إنكاره وسياقه على وجه التقرير، ومسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت3 في الأسباب العادية للضرورة والحاجة، ولهذا بايع النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه على أن لا يسألوا   1 في الأصل: "جاهلي". 2 في ط الرياض: "نسبه". 3 في ط الرياض: "البحث". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 الناس، فكان أحدهم يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولنيه1. وقول العراقي: (وأما ما قيل: إن هذا حي، وله قدرة، فإن كان نسبة القدرة إليه استقلالاً فهو كفر، وإن كان بقدرة الله، وهو سبب ووسيلة، فلا فرق بين الحي والميت) . يقال: هذا تخليط وهذيان، فإن المسلمين متفقون على قول: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، يؤمنون بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] خلق في الحي اختياراً ومشيئة، بها يثاب، وبها يعاقب، وبها يكلف، والميت ليس له قدرة الحي ولا يكلف، بل   1 في ط الرياض "ناولينه". وأخرج الإمام مسلم في "صحيحه" كتاب الزكاة 2/721 عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. تسعة أو ثمانية أو سبعة. فقال: "ألا تبايعون رسول الله؟ " وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟ " فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس. وتطيعوا -وأسر كلمة خفيفة- ولا تسألوا الناس شيئاً" فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحداً يناوله إياه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 ينقطع عمله بموته، وتطوى صحيفته، ولا يسأل، ولا يستفتى، ولا يرجع إليه في شيء مما للعباد عليه قدرة، وسائر الحيوان يفرقون بين الحي والميت. والعراقي يقول: (لا فرق عنده بين الحي والميت) قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] واستغاثة الميت ليست سبباً كاستغاثة المخلوق فيما يقدر عليه، ولم يجعل هذا سبباً إلا عباد الأصنام الذين هم1 أضل خلق الله، يجعلون الأموات سبباً ووسيلة، والميت ليس في شرع الله وما جاءت به رسله أن يدعو2 لمن دعاه، والكرامة ليست فعله، بل هي فعل الله، والمكرم لا يدعى، ولا يستغاث به، ولا يرجى لشيء من الشدائد، بل هذا فعل المشركين -كما تقدم- والقول بأن الله يقدره3 ظن وخرص لا يرجع إليه في دينه إلا ضال يتمسك بالأوهام الوثنية. وقوله: (والجميع راجع إلى قدرة الله) لا ينقذه من المحذور، فإن المشركين يعترفون بربوبية الله لآلهتهم، ويعلمون أنها لا تستقل بشيء دونه، ولا تجوز نسبة الإغاثة   1 في الأصل: "الذينهم". 2 في الأصل: "يدعوا". 3 في الأصل: "يقدر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 إلى الموتى والغائبين، ولو مجازاً لاختصاصه تعالى بالعلم والقدرة والغوث الباطني، والنبي صلى الله عليه وسلم نفي الاستغاثة عن نفسه حماية للتوحيد، وصيانة لجانبه، وأدباً مع ربه، لا لأن الإغاثة لا تنسب إلى المغيث بالتسبب العادي حقيقة، وأنها تنسب مجازاً -كما توهمه الغبي الأكبر- ولم يرد تعليم أمته: أن الاستغاثة إنما تنسب للمخلوق مجازاً، فإن ما جاء به من الكتاب والسنة دال على إضافة الفعل لمكتسبه، ومن قام به، ولذلك رتب الثواب والعقاب والجزاء والحساب. ولم يقول قول العراقي إلا القدرية المجبرة، ومن نحا نحوهم، من الجهمية ورد عليهم أهل السنة، بما يطول ذكره نقلاً وعقلاً، وقالوا: لو كان مجازاً لصح نفي أفعال المكلفين عنهم، ولكانوا بمنزلة الجمادات التي يحركها الغير، ويفعل بها من غير قصد لها ولا اختيار1، ويكون التعذيب والثواب يرجع إلى مجرد المشيئة والإرادة، من غير فعل للعبد يستحق به الثواب والعقاب، وأما إضافة الإغاثة والإنبات إلى الغيث والريح، كما في الحديث، وكما في قولهم: "أنبت الربيع البقل" فلم يجعل الغيث فاعلاً، كما زعمه هذا الأعجمي الذي لا يعقل شيئاً من   1 في الأصل "ولا اختبار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 اللغة غاية ما قالوا: إنه مجاز عقلي، كما يعلم من رسالة السكاكي، والإضافة قد تقع ولو إلى أدنى ملابسة. وقول العراقي: (فجعل الغيث هو فاعل الإغاثة مع أنه عرض) هذا مما يدل على أنه لا يفرق بين العرض والجوهر، ومن بلغ جهله إلى هذا الحد سقط الكلام معه. والقصد إعلام الطالب أن أعداء شيخنا من أجهل الورى، وأضلهم ... إلى آخر كلامه، رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 فصل في آية: {لا يملكون الشفاعة} ... فصل قال العراقي: (ومنها: قوله تعالى: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87] ، قال بعض المفسرين: إن العهد قول: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" وعليه: فمعنى الآية لا يشفع الشافعون إلا لمن قال: لا إله إلا الله وهم المؤمنون، كقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] ، وهو معنى بعيد أن يكون حينئذ تقدير الآية: لا يملكون الشفاعة لأحد إلا من اتخذ إلى آخره. وفيه من التكلف ما فيه، والأحسن أن يكون تفسير قوله: {لا يَمْلِكُونَ} بمعنى" لا ينالون، فحينئذ يصح الاستثناء بدون تقدير شيء، وقيل معناه: لا يملك الشفاعة إلا من قال: "لا إله إلا الله" أي: لا يشفع المؤمنون، ومثله قوله تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف:86] ، والشهادة بالحق هي قول: "لا إله إلا الله" وحيث كان المراد من التوسل بالأنبياء والأولياء والصالحين والطلب منهم هو استشفاعهم، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 أخبر أنهم يملكون الشفاعة، فأي مانع من طلب شيء مما ملكوه بإذنه تعالى، فيجوز أن تطلب منهم أن يعطوك مما أعطاهم الله تعالى، وإنما الممنوع هو طلب الشفاعة من الأصنام التي لا تملك شيئاً منها) . والجواب أن يقال: ما أعظم جراءة هذا الملحد على كلام الله بوضعه على غير موضعه، وعلى توهين ما قررة أئمة التفسير من السلف رضوان الله عليهم، فنذكر كلام أئمة التفسير ليتبين ضلال هذا الملحد، وعدم إدراكه فنقول: قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: يقول تعالى ذكره" لا يملك هؤلاء الكافرون بربهم -يا محمد- يوم يحشر الله المتقين إليه وفداً: الشفاعة حين يشفع أهل الإيمان بعضهم لبعض عند الله، فيشفع بعضهم، إلا من اتخذ منهم، عند الرحمن في الدنيا عهداً بالإيمان به، وتصديق رسوله، والإقرار به، والعمل بما أمر به. ثم ساق بسنده إلى ابن عباس قوله: {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87] ، قال: العهد شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرأ إلى الله من الحول والقوة، ولا يرجون إلا الله، وبسنده عن ابن جرير قال: المؤمنون يومئذ بعضهم لبعض شفعاء {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} قال: عملاً صالحاً، وبسنده إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 قتادة قال: أي بطاعته، وبسنده إلى عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شفاعتي لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً" ومن في قوله (إلا من) في موضع نصب على الاستثناء، ولا يكون خفضاً بضمير اللام، ولكن قد يكون نصباً في الكلام في غير هذا الموضع، وذلك كقول القائل1: أردت المرور اليوم إلا العدو، فإني لا أمر به، فيستثني العدو من المعنى، وليس ذلك كذلك في قوله: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87] ، لأن معنى الكلام لا يملك هؤلاء الكفار إلا من آمن بالله، فالمؤمنون ليسوا من أعداد الكفارين، ومن نصبه على أن معناه إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهداً، فإنه ينبغي أن يجعل قوله: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} للمتقين، فيكون معنى الكلام حينئذ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} فيكون معناه عند ذلك: {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87] ، فإذا جعل {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} خبراً عن المجرمين، فإن (من) تكون حينئذ نصباً على أنه استثناء منقطع، فيكون معنى الكلام: لا يملكون الشفاعة، لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً يملكه. انتهى. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: {لا   1 في ط الرياض: (القاتل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} [مريم:87] ، أي ليس لهم من يشفع لهم، كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض، كما قال تعالى مخبراً عنهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100-101] ، وقوله: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87] ، هذا استثناء منقطع بمعنى: لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87] ، قال: العهد الشهادة أن لا إله إلا الله، ويبرأ الله من الحول والقوة، ولا يرجو إلا الله عز وجل. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عثمان بن خالد الواسطي، حدثنا محمد بن الحسن الواسطي، عن المسعودي، عن عون بن عبد الله، عن ابن أبي فاختة، عن الأسود بن يزيد، قال: اتخذوا عند الله عهداً، فإن الله يقول يوم القيامة: "من كان له عند الله عهد فليقم"، قالوا يا أبا عبد الرحمن: فعلمنا. قال: قولوا: "اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا، أنك إن تكلني إلى عملي يقربني من الشر، ويباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهداً تؤديه إلي يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد" قال المسعودي: فحدثني زكريا، عن القاسم بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 عبد الرحمن، أن ابن مسعود كان يلحق بهن "خائفاً، مستجيراً مستغفراً، راهباً راغباً إليك"، ثم رواه من وجه آخر عن المسعودي بنحوه. انتهى. فإذا تبين لك كلام أئمة التفسير، وأن الاستثناء في آية "مريم" لا يفيد إثبات الملك، والأكثر على أنه منقطع، وعلى القول بأنه متصل، فلا حجة فيه، بل هو كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه:109] فالاستثناء دليل على حصولها ووقوعها، لا على أنها تملك كسائر الأملاك العادية، كما يظنة أهل الجاهلية، وكما يقول هذا الملحد: (إن الله ملكهم الشفاعة فأي مانع من طلب شيء مما ملكوه بإذنه تعالى؟) إلى آخر كلامه. ومراده أنهم يملكونها كما يملك الملاك أموالهم، فيتصرفون فيها بما يشاءون، وهذا خلاف ما دل عليه القرآن والسنة، وأجمع عليه علماء الأمة، فإنه قد دل القرآن والسنة وإجماع علماء الأمة على أن الشفاعة بيده سبحانه، ملكاً له خاصة، لا يتقدم أحد فيها إلا بإذنه، ولا تنال إلامن رضي قوله وعمله، من أهل الإيمان والتوحيد، والأحاديث صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم -وهو سيد الشفعاء- لا يشفع ابتداء، وأنه يحد له حداً، ويعين له من أراد الله رحمته، وإكرام نبيه بالشفاعة فيه، فهو عبد مأمور مدبر، لا مالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 متصرف، قال تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} [الزخرف: 86] ، وقوله: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:87] ، وقد تقدم الكلام فيها، وأن بعض المفسرين قرر أن الاستثناء منقطع، ليس فيه إثبات للملك، فهو بمعنى الاستدراك من مضمون الجملة، ويدل على هذا نصوص الكتاب والسنة. قال شيخ الإسلام: وقوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188] فيه قولان: قيل هو استثناء متصل، وأنه يملك من ذلك ما ملكه الله، وقيل: هو منقطع، والمخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً بحال، فقوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} استثناء منقطع، أي: لكن يكون من ذلك ما شاء الله، كقول الخليل: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} [الأنعام:80] ، أي: لا أخاف أن تفعلوا شيئاً، لكن إن شاء ربي شيئاً كان، وإلا لم يكن، وإلا فهم لا يفعلون شيئاً، وكذلك قوله: {َلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} ثم قال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقّ} [الزخرف: 86] فتنفعه الشهادة، كقوله: {لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ} [طه:109] وقال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعا} [الزمر: 44] وبسط هذا له موضع آخر. انتهى. إذا عرفت هذا، فقول هذا الملحد: (فأي مانع من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 طلب شيء مما ملكوه بإذن الله تعالى، فيجوز أن تطلب منهم أن يعطوك ما أعطاهم الله تعالى) . فيقال المانع من ذلك أنك قد أتيت بسبب يمنع حصولها، والله سبحانه وتعالى لم يجعل الاستغاثة بغيره، ودعاءه والالتجاء إليه، سبباً لحصول إذن الله للشافع أن يشفع، وإنما السبب كمال التوحيد بإخلاص الدعاء لله، والاستغاثة به لا بغيره، والطلب من الله تعالى أن يشفع فيه عبده، لا طلبها من العبد. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن أنواعه -أي الشرك- طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً لمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سبباً لإذنه، وإنما السبب كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذه حال كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم وعيبهم، ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم، وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيد الله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده، فجرد حبه لله، وخوفه لله، ورجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله، واستغاثته بالله، والتجاءه إلى الله، واستعانته بالله، وقصده لله، متبعاً لأمره، متطلباً لمرضاته، إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله، فهو لله، وبالله، ومع الله، انتهى. وأما قوله: (وإنما الممنوع هو طلب الشفاعة من الأصنام، التي لا تملك شيئاً منها) . فأقول: هذا لم يقله أحد من أهل العلم، وإنما هي شبهة عراقية، وتعلقات خيالية، لا تليق إلا بعقول هؤلاء الوثنية، الذين ليس لهم معرفة بالأحكام الشرعية، فبعداً للقوم الظالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 فصل في حديث: "أسألك بحق السائلين" ... فصل قال العراقي: (ومنها ما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا إليك، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا رياء، ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. أقبل الله عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك" فقد توسل النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: "إني أسألك بحق السائلين عليك" بكل عبد مؤمن، وأمر أصحابه أن يدعوا بهذا الدعاء، فيتوسلوا مثل توسله، ولم يزل السلف من التابعين ومن تبعهم يستعملون هذا الدعاء عند خروجهم إلى الصلاة، ولم ينكر عليهم أحد) . الجواب أن يقال: هذا الحديث رواه عطية العوفي، وفي ضعف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 قال شيخ الإسلام: لكن بتقدير ثبوته، هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه سبحانه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له، والطاعة له سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به، والتوجه به، والتسبب به، ولو قدر أنه قسم لكان قسماً بما هو من صفاته، فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" والاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نص عليه الإمام أحمد، وغيره من الأئمة ... إلى آخر كلامه. فتبين من كلام الشيخ أن السؤال بحق السائلين هو إجابتهم، وسؤاله بحق الطائعين إثابتهم، فيكون السائل بهاتين الصفتين سائلاً بصفات الله، فإن الإجابة والإثابة من أفعاله وأقواله سبحانه وتعالى، وسؤاله بأسمائه وصفاته، والتوسل بها ثابت بالكتاب والسنة، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] ، وفي الحديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد". فقال: "دعا الله باسمه الأعظم، الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب" رواه الترمذي وأبو داود. إلى غير ذلك من الأحاديث. وكذلك التوسل بالأعمال الصالحة، كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة، كما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما ثلاث نفر يتماشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غار في الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها، لعله يفرجها" الحديث متفق عليه وهو في الصحيحين. فليس في حديث أبي سعيد الخدري ما يدل على ما ادعاه هذا الملحد، من التوسل بذوات الأنبياء والأولياء والصالحين فضلاً عن دعائهم والاستغاثة بهم، والالتجاء إليهم، وبهذا يتبين عدم معرفتهم بمعاني ما أنزل الله على رسوله، ومعاني كلام رسوله، وأن هذا المعترض وأشباهه أجانب من ذلك لا عهد لهم به، ولا تمييز عندهم، فالله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 فصل في حديث: "أغفر لأمي فاطمة بحق نبيك" ... فصل قال العراقي: (ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: " اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ووسع عليها مدخلها، بحق نبيك، والأنبياء الذين من قبلي" 1 إلى آخر الحديث، رواه الطبراني في "الكبير" وصححه ابن حبان، والحاكم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وفاطمة هذه أم علي -كرم الله وجهه- التي ربت النبي صلى الله عليه وسلم ... إلى آخر كلامه) . والجواب أن يقال: في سنده "روح بن صلاح المصري" ضعفه ابن عدي، وتصحيح الحاكم له لا يجدي شيئاً، فإنه جمع في "مستدركه" من الأحاديث الضعيفة والمنكرة والموضوعة جملة كثيرة، وقد روى فيه لجماعة من المجروحين في كتابه في "الضعفاء". وأما رواية الطبراني له فيقال لهذا الملحد: كم في الطبراني من حديث يخالف هذا، ويدل على وجوب التوسل بأسماء الله وصفاته، وإنابة الوجوه إليه فما   1 على أن الطبراني لما أخرجه في "المعجم الكبير 24/351-352 و"الأوسط" قال: لم يروه عن عاصم إلا الثوري، تفرد به روح بن صلاح ا. هـ فهذه إشارة منه رحمه الله إلى ضعف الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 أعمى عينك عنها؟ هل هناك شيء أعماها سوى الجهل والهوى؟ وقد تكلم في هذا الحديث غير واحد. وقال شيخ الإسلام: قد بالغت في البحث والاستقصاء، فما وجدت أحداً قال بجوازه إلا ابن عبد السلام، في حق نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، أترى هذا الحديث خفي على علماء الأمة لم يعلموا ما دل عليه؟ ثم لو سلمنا صحته أو حسنه ففيه ما سيأتي في حديث الأعمى أن المراد بدعاء نبيك إلى آخره، وأي وسيلة بذوات الأنبياء لمن عصى أمرهم، وخرج عما جاءوا به من التوحيد والشرع. قال شيخ الإسلام: فإذا قال الداعي: أسألك بحق فلان وفلان لم يدع له -وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص أو محبته وطاعته، بل بنفس ذاته، وما جعله له ربه من الكرامة، لم يكن قد سأله بسبب يوجد المطلوب. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 فصل في حديث الضرير ... فصل قال العراقي: (ومنها: ما رواه الترمذي، والنسائي، والبيهقي، والطبراني بإسناد صحيح، عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت وهو خير لك". قال: فادعه. فأمره أن يتوضأ، ويحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة، يا محمد أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضي، اللهم فشفعه فيّ" فعاد وقد أبصر. وخرج هذا الحديث البخاري أيضاً في "تاريخه" وابن ماجه، والحاكم في "المستدرك" بإسناد صحيح. وذكره الجلال السيوطي في "الجامع الكبير والصغير". فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الضرير أن يناديه، ويتوسل به إلى الله في قضاء حاجته. قد تقول الوهابية: إن هذا إنما كان في حياة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 النبي صلى الله عليه وسلم، فليس يدل على جواز التوسل به بعد موته. فنجيب: أن الدعاء هذا قد استعمله الصحابة والتابعون -أيضاً- بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، لقضاء حوائجهم، يدل عليه ما رواه الطبراني والبيهقي أن رجلاً كان يختلف على عثمان رضي الله عنه زمن خلافته في حاجة -ولم يكن ينظر في حاجته- فشكى الرجل ذلك لعثمان بن حنيف، فقال له: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد، فصل، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك لتقضي حاجتي، وتذكر حاجتك، فانطلق الرجل، فصنع ذلك، ثم أتى باب عثمان رضي الله عنه فجاءه البواب، فأخذ بيده، وأدخله على عثمان، فأجلسه معه، وقال: اذكر حاجتك. فذكر حاجته، فقضاها، ثم قال له: ما كان لك من حاجة فاذكرها، فلما خرج الرجل من عنده لقي ابن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي حتى كلمته لي، فقال ابن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره ... الحديث. فهذا توسل ونداء بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، على أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبرة، فليست درجته دون درجة الشهداء، الذي صرح الله تعالى بأنهم {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 والجواب أن يقال: هذا الحديث -عني حديث الأعمى- غير محفوظ، وفيه مقال مشهور، وفي سنده أبو جعفر عيسى بن أبي عيسى بن ماهان الرازي التميمي، قال الحافظ ابن حجر في التقريب: الأكثرون على ضعفه، وقال أحمد والنسائي: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال ابن المديني: ثقة كان يخلط، وقال مرة: يكتب حديثه، إلا أنه يخطىء، وقال الفلاس: سيئ الحفظ، وقال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير، وقال أبو زرعة: يهم كثيراً، وقال الحافظ في "التقريب" أيضاً في ترجمة الرازي التميمي: أبو جعفر الرازي التميمي مولاهم مشهور بكنيته، واسمه عيسى بن أبي عيسى، عبد الله بن ماهان، وأصله من مرو، وكان يتجر إلى الري، صدوق سيئ الحفظ خصوصاً عن مغيرة، من كبار السابعة مات في حدود الستين. انتهى1.   1 تابع الشيخ بعض الحفاظ -كالترمذي- في أن أبا جعفر هذا هو الخطمي. وليس الأمر كذلك -كما حققه شيخ الإسلام في "قاعدة التوسل" فإن أبا جعفر هذا هو المدني الثقة. فالحديث صحيح، ولكن لا دلالة فيه للمشركين القبوريين -عليهم لعائن الله- كما قرر ذلك الشيخ المؤلف رحمه الله. وأما القصة التي ذكرها -المردود عليه- ونسبها إلى الطبراني والبيهقي، فهي ضعيفة منكرة، لا تصح سنداً ولا متناً. وقد تقدم بسط ذلك في التعليق على الرسالة السابعة من هذه السلسلة "الصواعق المرسلة الشهابية" ص 171-172-173-174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 وعلى تقدير صحته وثبوته، فلا يدل على ما توهمه هذا الملحد، وبيان معنى الحديث يعلم أن ما توهمه هؤلاء الغلاة غير صحيح. فقوله: "اللهم إني أسألك" أي أطلب منك، وأتوجه إليك، بنبيك محمد، صرح باسمه مع ورود النهي عن ذلك تواضعاً منه، لكون التعليم من قبله، وفي ذلك قصر السؤال الذي هو أصل الدعاء إلى الله تعالى الملك المتعال؛ ولكنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بدعائه، ولذا قال في آخره: "اللهم فشفعه فيّ" إذ شفاعته لا تكون إلا بالدعاء لربه قطعاً، ولو كان المراد التوسل بذاته فقط لم يكن لذلك التعقيب معنى، إذ التوسل بقوله: "بنبيك" كافٍ في إفادة هذا المعنى، فقوله: "يا محمد إني توجهت بك إلى ربي". قال الطيبي: الباء في "بك" للاستعانة. وقوله: "إني توجهت بك" بعد قوله: "أتوجه إليك" فيه معنى قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} [البقرة: 255] فيكون خطاباً لحاضر معاين في قلبه، مرتبط بما توجه به عند ربه، من سؤال نبيه بدعائه، الذي هو عين شفاعته، ولذلك أتى بالصيغة الماضوية بعد الصيغة المضارعية، المفيد كل ذلك: أن هذا الداعي قد توسل بشفاعة نبيه في دعائه، فكأنه استحضره وقت ندائه. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 وقال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم": والميت لا يطلب منه شيء لا دعاء ولا غيره. وكذلك حديث "الأعمى" فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعته بنبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي شفع فيه، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته، وأن قوله: "أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة" أي بدعائه وبشفاعته، كما قال عمر رضي الله عنه: كنا نتوسل إليك بنبينا، فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد، ثم قال: "يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه في" فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه. وقوله: "يا محمد يا نبي الله" هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادي في القلب، فيخاطب المشهود في القلب، كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، والإنسان يفعل مثل هذا كثيراً، يخاطب من يتصوره في نفسه، وإن لم يكن الخارج من يسمع الخطاب. فلفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والسؤال به، فيه إجمال واشتراك، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة: يراد به التسبب به، لكونه داعياً وشافعاً مثلاً، أو لكون الداعي محباً له، مطيعاً لأمره، مقتدياً به، فيكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 التسبب إما بمحبة السائل له، واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته. ويراد به الإقسام به، والتوسل بذاته، فلا يكون التوسل لا منه، ولا من السائل، بل بذاته، أو بمجرد الإقسام به على الله فهذا الثاني هو الذي كرهوه، ونهوا عنه، وكذلك السؤال بالشيء، قد يراد به المعنى الأول، وهو التسبب لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام ... إلى آخر ما قال رحمه الله. إذا عرفت هذا فليس في حديث "الأعمى" ما يدل على التوسل به ودعائه، والالتجاء إليه بعد وفاته، وإنما فيه توسل بدعائه، كما كان الصحابة يتوسلون بذلك، ويسألونه الاستغفار والدعاء. وأما قوله: (وقد تقول الوهابية إن هذا إنما كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم) الخ. فنقول: نعم. وقوله: (فنجيب: أن الدعاء هذا قد استعمله الصحابة والتابعون -أيضاً- بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لقضاء حوائجهم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 فنقول: قد علمنا انك أجبت كما أجاب من قبلك، ولكن "بجهام1 قد أهريق ماؤه، فهو يرعد ويبرق، ولا ماء فيه". وأما قوله: (يدل عليه ما رواه الطبراني، والبيهقي، أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان ... ) وساق الحديث كما تقدم. والجواب: عما أجاب به: أن هذا الحديث لا يصح، وفي سنده "روح بن صلاح" وقد ضعفه ابن عدي، بل قد قال بعضهم: إن أمارات الوضع لائحة عليه. فكيف يعارض به جميع كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وهل سمعت أحداً منهم جاء إليه بعد وفاته إلى قبره الشريف، فطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله؟ وهم حريصون على مثل هذه المثوبات، لا سيما والنفوس مولعة بقضاء حوائجها، تتشبث بكل ما تقدر عليه، فلو صح عند أحد منهم أدنى شيء من ذلك لرأيت أصحابه ينتابون قبره الشريف في حوائجهم زمراً زمراً، ومثل ذلك تتوفر الدواعي على نقله. ولا وسع الله طريقاً لم يتسع للصحابة، والتابعين، وصلحاء علماء الدين، نعم كان ابن عمر رضي الله عنهما يأتي إلى   1 يعني السحاب المتجهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 القبر المكرم ويقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف. وكذلك أنس وغيره، فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة1. ثم اعلم أن هذا الحديث مخالف لعلم الصحابة رضي الله عنهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد". وأما دعوى هؤلاء الغلاة أن الصحابة استعملوا هذا الدعاء بعد وفاته، فإن هذا ما يعلم بالضرورة أنه من الكذب على الصحابة رضي الله عنهم] . ولو كان هذا الاستعمال صحيحاً لتوفرت الهمم والدواعي على نقله، ولما عدل الفاروق إلى التوسل بدعاء العباس، ومعاوية بيزيد بن الأسود الجرشي، ولكان يمكنهم لو كان هذا الحديث صحيحاً معروفاً عندهم أن يتوسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يطلبون من العباس أن يدعو لهم. ومما يوضح لك الأمر وأن هذا الحديث غير صحيح: أن رواته مختلفون في متنه وسنده، مع أنه لم   1 وليس ذلك مرتبطاً بمكان القبر ولا بزيارته كما هو معلوم عند أهل السنة، وإنما هو أنهم لا يتوجهون عند الدعاء إلى القبر، بل ولا يدعون عنده أيضاً، وهذا متواتر معروف عن السلف الصالح أنهم لا يفعلونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 يذكر في شيء من الكتب المعتمدة، وإنما ذكره مثل "البيهقي" و"الطبراني" و"الترمذي" و"أبي نعيم" وهؤلاء يذكرون مثل هذه الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة على وجه التنبيه، وقد رأى علماء الإسلام الجهابذة النقاد ظلمات الوضع لائحة عليه، فأعرضوا عنه، ولم يلتفتوا إليه. والله أعلم. وأما قوله: (فليست درجته دون درجة الشهداء الذين صرح الله تعالى أنهم {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] . فأقول: بل درجته فوق درجة الشهداء وأكمل حالاً، وما نال الشهداء تلك المنزلة إلا بالإيمان به، وتصديقه، والجهاد معه وفي سبيله، فله أجره وأجورهم وأجر من آمن به إلى يوم القيامة، ولكنهم كما قال الله تعالى: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} فهو أعلى منهم درجة ووسيلة، وأقربهم إليه منزلة، وإذا كان لا يدعى، ولا يتوسل به بعد وفاته، فهم من باب الأولى والأحرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 فصل في المنام والإستسقاء ... فصل قال العراقي: (ومنها ما رواه البيهقي وابن أبي شيبة بإسناد صحيح: أن الناس أصابهم قحط في خلافة عمر رضي الله عنه فجاء بلال بن الحارث رضي الله عنه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله استسق لأمتك، فإنهم هلكوا. فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وأخبره أنهم يسقون. واستدلالنا هذا ليس بالرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن رؤياه -وإن كانت حقاً- لا تثبت بها الأحكام، لإمكان اشتباه الكلام على الرائي، وإنما استدلال بفعل أحد أصحابه صلى الله عليه وسلم في اليقظة، وهو بلال بن الحارث، فإنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وناداه، وطلب منه أن يستسقي لأمته) . والجواب أن نقول: قد كفانا مؤنة إيضاح عدم الاعتبار بالمنامات وأنه لا يثبت بها حكم شرعي، لكن نقول هذا الحديث فيه مقال مشهور. قال الحافظ في "الفتح": وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان، عن مالك الدار - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 وكان خازن عمر رضي الله عنه- قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر رضي الله عنه فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقيل له: ائت عمر ... الحديث. وقد روى سيف في "الفتوح" أن الذي رأى في المنام المذكور هو: بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة1. فعلم أن ما روي بإسناد صحيح ليس فيه أن الجائي أحد الصحابة، وما فيه أن الجائي أحد الصحابة ضعيف غاية الضعف2. قال الذهبي في "الميزان": سيف بن عمر الضبعي الأسدي، ويقال التميمي البرجمي، ويقال السعدي الكوفي، مصنف "الفتوح والردة" وغير ذلك، هو كالواقدي، يروي عن: هشام بن عروة، وعبيد الله بن عمر، وجابر الجعفي، وخلق كثير من المجهولين. كان إخبارياً عارفاً. روى عنه   1 انتهى كلام ابن حجر في الفتح 2/496. 2 وذلك لأنه من رواية سيف بن عمر، وسيسوق المؤلف كلام الأئمة في حاله. وهذا العراقي -المردود عليه- نسب حديث بلال بن الحارث إلى البيهقي وابن أبي شيبة: فهذا خطأ، فإن رواية البيهقي -كما في البداية والنهاية لابن كثير 7/101، وابن أبي شيبة في المصنف 12/31-32- ليس فيها ذكر بلال بن الحارث. فتنبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 جبارة1 بن المغلس، وأبو معمر القطيعي، والنضر بن حماد العتكي وجماعة. قال عباس عن يحيى: ضعيف، وروى مطين، عن يحيى: فليس خير منه. وقال أبو داود ليس بشيء، وقال أبو حاتم: متروك. وقال ابن حبان: اتهم بالزندقة. وقال ابن عدي: عامة حديثه منكر ... مكحول البيروتي، سمعت جعفر بن أبان، سمعت ابن نمير يقول: سيف الضبي: تميمي، كان جميع يقول: حدثني رجل من بني تميم. وكان سيف يضع الحديث. وقد اتهم بالزندقة، انتهى ملخصاً2. قال الحافظ في "التقريب": سيف بن عمر التميمي صاحب "الردة" ويقال له: الضبي. ويقال غير ذلك، الكوفي، ضعيف في الحديث، عمدة في الأخبار. أفحش ابن حبان القول فيه. انتهى. وقال الذهبي في "الكشاف": قال ابن معين وغيره: ضعيف. وقال في "الخلاصة": سيف بن تميم الأسدي الكوفي صاحب "الردة" عن جابر الجعفي، وأبي الزبير. وعنه محمد بن عيسى الطباع، وأبو معمر الهذلي: ضعفوه. انتهى.   1 في النسخ: (عبادة) . 2 2/255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 فهذا ما قيل في حديث بلال بن الحارث الذي رواه البيهقي وابن أبي شيبة1. وإن كان غير حديث بلال فغاية ما فيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو يأمره أن يأتي عمر، فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس، وهذا ليس من هذا الباب الذي نحن بصدد الكلام فيه، فإن هذا قد يقع كثيراً من هو دون النبي صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الإسلام: وأيضاً ما يروى أن رجلاً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر، فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس، فإن هذا ليس من هذا الباب. ومثل هذا يقع كثيراً لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم، وأعرف من هذا وقائع. وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره من أمته حاجة فتقضى له، فإن هذا قد وقع كثيراً، وليس مما نحن فيه. وعليك أن تعلم أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لهؤلاء السائلين ليس هو مما يدل على استحباب السؤال، فإنه هو القائل صلى الله عليه وسلم: "إن أحدهم ليسألني المسألة فأعطيه إياها، فيخرج يتأبطها ناراً" فقالوا: يا رسول الله فلم تعطيهم؟   1 تقدم أن حديث بلال إنما أخرجه "سيف بن عمر" وأن رواية ابن أبي شيبة والبيهقي ليس فيها تسمية الرجل. وانظر ما كتبته تخريجاً لهذا الحديث في حاشية: "الصواعق المرسلة الشهابية" ص 170-171-173-174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 قال: "يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل". وأكثر هؤلاء السائلين الملحين -لما هم فيه من ضيق الحال- لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم، كما أن السائلين في الحياة كانوا كذلك، وفيهم من أجيب وأمر بالخروج من المدينة، فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر، أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا، وفرق بين هذا وهذا. انتهى. فتبين من كلام العلماء أن الجائي، إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو بلال بن الحارث، كما زعمه المعترض، لأنه اعتمد على أن هذا فعل صحابي، وحاشا لله من ذلك، فإنهم كانوا أعلم بالله وبدينه ورسوله، وهم أبعد الناس عن سلوك ما يتوهمه الغلاة، فبطلت الشبهة العراقية، ولله الحمد والمنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 فصل في إستسقاء عمر بالعباس ... فصل قال العراقي: (ومنها: ما ذكر في "صحيح البخاري" من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه من استسقاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمن خلافته بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، لما اشتد القحط عام الرمادة، فسقوا، وفي "المواهب اللدنية" للعلامة القسطلاني: أن عمر رضي الله عنه لما استسقى بالعباس رضي الله عنه قال: يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدوا به في عمه العباس، واتخذوه وسيلة إلى الله تعالى) . والجواب أن نقول: قد ثبت في "صحيح البخاري" عن أنس: أن عمر استسقى بالعباس بن عبد المطلب، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقينا، فيسقون. قال شيخ الإسلام: فاستسقوا به، كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهو أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 فيدعو لهم، ويدعون معه، كالإمام والمأمومين، من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم توسلوا بدعاء العباس، واستسقوا به، ولهذا قال الفقهاء: يستحب الاستسقاء بأهل الخير والدين، والأفضل أن يكونوا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. وقد استسقى معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي، وقال: اللهم إنا نستسقي بيزيد بن الأسود، يا يزيد: ارفع يديك، فرفع يديه، ودعا، ودعا الناس، حتى أمطروا، وذهب الناس. ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر نبي ولا غيره يستسقي عنده، ولا به. انتهى. فهذا هو التوسل المشروع، وهذا هو المنقول عن الصحابة، لا كما يلفقه هؤلاء الغلاة من الأحاديث الموضوعة، التي لا تثبت بها الأحكام الشرعية. وأما ما ذكره عن القسطلاني في "المواهب اللدنية" فلا شك أنه من الموضوعات، لأنه لم يذكره بسند يعتمد على مثله، وفي "المواهب اللدنية" من الموضوعات، والأحاديث المعلولة، والأقوال المردودة، ما لا يحصى، فلا يعتمد على مثل هذا النقل، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 فصل في الفرق بين الحي والميت في التوسل ... فصل ثم قال العراقي: (لا فرق في التوسل بين الأنبياء وغيرهم من الصلحاء، بين كونهم أحياء أو أمواتاً، لأنهم في كلا الحالتين لا يخلقون شيئاً، وليس لهم تأثير في شيء، وإنما الخلق والإيجاد والتأثير لله وحده لا شريك له في كل ذلك) . والجواب أن نقول: فيه كلام من وجوه: الأول: أنه يعتقد كثير من العوام، وبعض الخواص، في أهل القبور، وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله، ويفعلون ما لا يفعله إلا الله عز وجل، حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم، فصاروا يدعونهم تارة مع الله، وتارة استقلالاً، ويصرحون بأسمائهم، ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون لهم خضوعاً زائداً على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 والثاني: أن مجرد عدم اعتقاد التأثير، والخلق والإيجاد، والإعدام، والنفع والضر: إلا لله لا يبرئ من الشرك، فإن المشركين الذين بعث الله الرسول إليهم -أيضاً- كانوا مقرين بأن الله هو الخالق الرازق، بل لا بد فيه من إخلاص توحيده وإفراده، وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والنداء والاستغاثة، والرجاء واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له، ومنه، لا بغيره، ولا من غيره، وكذلك النذر والذبح كلها تكون لله. والثالث: أن مجرد كون الأحياء والأموات شركاء في أنهم لا يخلقون شيئاً وليس لهم تأثير في شيء، لا يقتضي أن يكون الأحياء والأموات متساوين في جميع الأحكام، حتى يلزم من جواز التوسل بالأحياء جواز التوسل بالأموات، كيف وليس معنى التوسل بالأحياء إلا التوسل بدعائهم، وهو ثابت بالأحاديث الصحيحة، وأما التوسل بالأموات فلم يثبت بحديث صحيح ولا حسن، انتهى من كلام بعض المحقيقين. إذا عرفت ما تقدم، فمن المعلوم أن الكفار الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم، واستحل دماءهم، وأموالهم، كانوا مقرين أن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، النافع الضار، الذي يدبر جميع الأمور، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 ويعتقدون أن الله هو الفاعل لهذه الأشياء كلها، وأنه لا مشارك له في إيجاد شيء وإعدامه، وأنهم لا يخلقون شيئاً، وأنه ليس لهم تأثير في شيء، وإنما الخلق والإيجاد والتأثير لله وحده لا شريك له، وإنما كانوا يدعون الأنبياء والملائكة والأولياء والصالحين ويلتجئون إليهم، ويستغيثون بهم، ويسألونهم على وجه التوسل بجاههم وشفاعتهم، ليقربوهم إلى الله زلفى، وليشفعوا لهم عنده، لأنهم أقرب إلى الله وأرفع درجة ومنزلة، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون الدين كله لله، والدعاء كله لله، والذبح والنذر لله، والاستغاثة والاستعانة بالله، والالتجاء إليه، لا لغيره، ولا من غيره، فالإقرار بتوحيد الربوبية وحده لا يدخل في الإسلام، بل لا بد معه من توحيد الله بأفعال العبد الصادرة منه من أنواع العبادة المتقدم ذكرها، وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار العرب. وأما قوله: (وأما من يعتقد التأثير للأحياء دون الأموات، فلهم أن يفرقوا بين التوسل بهم والتوسل بالأموات) . فأقول: لا يجوز لأحد أن يعتقد أن الأحياء يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله، فإن اعتقاد ذلك شرك، وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 كان الأحياء لا يقدرون على شيء من ذلك، فالأموات بطريق الأولى، وإنما يجوز من الحي طلب الدعاء منه، والاستغفار، والتوسل بدعائه وشفاعته، إذ هو قادر على ذلك، وأما الميت فقد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فضلاً لمن استغاث به، أو دعاه أو سأله أن يشفع له، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" الحديث1 وهذا يدل على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته، فضلاً عن غيره، فإنما عجز عن حركة نفسه، فكيف يتصرف في غيره؟ وأما الأحياء القادرون على الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية، في قتال أو إدراك عدو، أو دفع سبع صائل، وغيره، فهذا لا مانع منه، وهذا ليس في قدرة الأموات {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 22] ومن سوى بينهما فقد جمع بين ما فرق الله بينه، وكفى بذلك عتواً وعناداً. وأما قوله: (أما نحن فنقول إن الله هو الخالق لكل شيء {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ) .   1 رواه مسلم في كتاب الوصية من صحيحه (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "إذا مات الإنسان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 فأقول: كون الله تعالى هو الخالق لكل شيء، وأن الله خلق العبد وعمله، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] مما لا مرية فيه، وهذا معروف من عقائد أهل السنة والجماعة، وإنما ينفي الفعل حقيقة عن فاعله ومن قام به القدرية المجبرة، الذين يزعمون أن العبد مجبور، وأنه لا اختيار له ولا مشيئة، كما هو مبسوط في موضعه. فإذا زعمتم أن دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، والالتجاء إليهم، والتعلق عليهم إنما هو باعتبار التسبب والكسب العادي، وإنما المستغاث به في الحقيقة هو الله، فإسناد الغوث إلى الله تعالى إسناد حقيقي باعتبار الخلق والإيجاد، وإلى الأنبياء والصالحين إسناد مجازي. فإذا كان ذلك كذلك لزم أن يكون إسناد أفعال العباد كلها إلى الله تعالى حقيقياً، فإن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الخالق لأفعال العبد هو الله تعالى، وهذا يقتضي أن يتصف الله تعالى حقيقة بالإيمان والصلاة، والزكاة والصوم والحج والجهاد، وصلة الرحم، وغير ذلك من الأعمال الحسنة، وكذلك يتصف حقيقة بالأعمال السيئة، من الكفر والفسوق والفجور والزنا، والكذب والسرقة، والعقوق وقتل النفس، وأكل الربا، وغيرها، فإنه تعالى هو الخالق لجميع الأفعال حسنها وسيئها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 والتزام هذا فعل من لا عقل له ولا دين، فإنه يستلزم اتصاف الله بالنقائص، وصفات الحدوث واجتماع الأوصاف المتضادة، بل المتناقضة. وأيضاً فإنه لو كان مناط الإسناد المجازي اعتبار التسبب والكسب كما زعمتم، لزم أن لا يكون الإنسان حقيقة مؤمناً ولا كافراً، ولا باراً ولا فاجراً، ولا كاذباً، فيبطل الجزاء والحساب، وتلغى الشرائع، والجنة والنار، وهذا لا يقول به أحد من المسلمين، وإسناد أفعال العبد إليه حقيقة مع إضافة الفعل إلى فاعله لا مجازاً لا ينازع فيه من عرف شيئاً من اللغة، فالعبد يفعل حقيقة، ويأكل حقيقة، ويشرب حقيقة، ويهب حقيقة، وينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً حقيقة، والله سبحانه خلق العبد وما يعلم. وأما قوله: (فالوهابية التي تتظاهر بالذب عن التوحيد، وتجوز التوسل بالأحياء، قد دخل الشرك في توحيدها من حيث لا تدري، لكونها اعتقدت تأثير الأحياء، مع أنه لا تأثير في الحقيقة إلا لله تعالى) . فأقول: هذا قول من لا يعقل ما يقول، فإن الوهابية ما أجازت من التوسل بالأحياء إلا ما فعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 عنه: اللهم إن كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا، فتوسلوا بدعاء العباس، كما كانوا يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا شركاً دخل عليهم، فقد دخل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن شركاً فالشرك هو العدول إلى من قد انقطع عمله، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فكيف بمن دعاه أو استغاث به. وأما التوسل بالأحياء فيما يقدرون عليه من الأسباب العادية، فهذا مما لا خلاف في جوازه بين العلماء، والله أعلم. وأما قوله: (والتوسل والتشفع والاستغاثة بمآل واحد، فإنما المقصود منها التبرك بذكر أحباء الله، الذين قد يرحم الله العباد بسببهم، سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، فالموجد الحقيقي هو الله تعالى، وإنما هؤلاء أسباب عادية لا تأثير لهم في ذلك) . فأقول: التوسل والتشفع الشرعي هو: التوسل والتشفع بدعائهم في حال حياتهم، وطلبهم من الله تعالى، كما تقدم بيانه، وأما بالمعنى الاصطلاحي المحدث وهو: دعاؤهم والتبرك، والالتجاء إليهم، وتعليق الآمال بفيض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 نوالهم، فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا فرق بينه وبين الاستغاثة بهم، بهذا الاعتبار فهو من الشرك سواء كان المدعو حياً أو ميتاً، وسواء اعتقد التأثير أو لم يعتقد، كما تقدم بيانه بأدلته فيما مضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 فصل في حقيقة غلو الناس في الصالحين وغيرهم ... فصل قال العراقي الملحد: (وأما قول العامي من المسلمين: يا عبد القادر أدركني، ويا بدوي المدد مثلاً، فيحمل على المجاز العقلي، كما يحمل عليه قول القائل: هذ الطعام أشبعني، وهذا الماء أرواني، وهذا الدواء شفاني، فإن الطعام لا يشبع والماء لا يروي. والدواء لا يشفي حقيقة، بل المشبع والمروي والشافي الحقيقي هو الله تعالى وحده، وإنما تلك أسباب عادية ينسب لها الفعل، لما يرى من حصوله بعدها في الظاهر) . والجواب أن يقال: قد تقدم في كلام شيخ الإسلام قوله: فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال أن هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، إلى آخر كلامه. وتقدم قوله: "وأيضاً فإن من جعل بينه وبين الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 وسائط يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم: كفر إجماعاً". وقال صنع الله الحلبي: فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح، أو غير ذلك في كشف كربة، وقضاء حاجة تأثيراً، فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير، وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا لله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة، فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمن: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [يس:23] ، فإن ذكر من ليس من شأنه النفع، ولا دفع الضر، مع نبي وولي، وغيره على وجه الأمداد منه: إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره. انتهى. وقال الإمام ابن عقيل في "فنونه": لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وتخليقها، وطلب الحوائج، وطلب الحوائج من الموتى، ودس الرقاع في القبور فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 وقوله: (فيحمل على المجاز العقلي) . فيقال لهذا الملحد: الجواب من وجوه: الأول: أن هذه الألفاظ دالة دلالة مطابقة على اعتقاد التأثير من غير الله تعالى. والثاني: لو سلم هذا المحمل لاستحال الارتداد، وانسد باب الردة، الذي يعقده الفقهاء في كل مصنف، وكتاب من كتب أهل المذاهب الأربعة، وغيرها، فإن المسلم الموحد متى صدر منه قول أو فعل موجب للكفر يجب حمله على المجاز، والإسلام والتوحيد قرينة على ذلك المجاز. والثالث: أنه يلزم على هذا أن لا يكون المشركون الذين نطق كتاب الله بشركهم مشركين، فإنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق الرازق، الضار النافع، وأن الخير والشر بيده، لكن كانوا يعبدون الأصنام، لتقربهم إلى الله زلفى، فالاعتقاد المذكور قرينة على أن المراد بالعبادة ليس معناه الحقيقي، بل المراد هو المعنى المجازي، أي: التكريم مثلاً، فما هو جوابكم، فهو جوابنا. والرابع: أن هؤلاء الذين أولتم عنهم في تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 الألفاظ الدالة على تأثير غير الله، فما تفعلون في أعمالهم الشركية من دعاء غير الله، والاستغاثة والنذر والذبح، فإن الشرك لا يتوقف على اعتقاد تأثير غير الله، بل إذا صدر من أحد عبادة من العبادات لغير الله صار مشركاً، سواء اعتقد ذلك الغير مؤثراً أم لا. وقد تقدم الكلام على الأسباب العادية، وما يقال فيها، فيما مضى. وأما قوله: (ومعظم الأمة أجمعوا على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم، وبغيره من الصحابة والصالحين، فقد صدر من كثير من الصحابة والعلماء من السلف والخلف) . فأقول: أما أجماعهم على جواز التوسل بهم التوسل الشرعي بدعائهم وشفاعتهم في حال حياتهم فهذا حق، وأما بعد وفاتهم فمعاذ الله، وقد تقدم بيانه. وأما التوسل الشركي فهم مجمعون على كفر فاعله، بعد قيام الحجة عليه، لا ينكره إلا مكابر. وقوله: (واجتماع أكثرهم على الحرام والإشراك لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، وقيل المتواتر: "لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 تجمع أمتي على ضلالة " ولقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس} [آل عمران: 110] ، فكيف تجتمع كلها أو أكثرها على ضلالة) . فأقول: المقصود بالأمة في الحديث1 هم أهل السنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية المنصورون إلى قيام الساعة وهم المعنيون بقوله في الحديث2 الصحيح: "وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة" قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: "من كنا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، فمن كان على مثل ما كان عليه أصحاب   1 أخرج ابن ماجه من حديث أنس: " إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم" قال البوصيري في "الزوائد" 2/1303: "وفي إسناده أبو خلف الأعمى، واسمه حازم بن عطاء. وهو ضعيف. وقد جاء الحديث بطرق في كلها نظر. قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي اهـ. وأخرج الحاكم 1/116 عن ابن عباس مرفوعاً "لا يجمع الله أمتي -أو قال- هذه الأمة على ضلالة، ويد الله على الجماعة". وهذا الحديث جيد بطرقه. وانظر لجمعها تعليق الشيخ الفاضل محمد بن ناصر العجمي حفظه الله تعالى على "تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في منهاج البيضاوي" للحافظ العراقي ص 69 -إلى- ص 74. 2 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/332، وأبو داود في سننه –كتاب السنة- 5/4، والترمذي في سننه –كتاب الإيمان- 5/25، وابن ماجه في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 ...............................................................................................................   = سننه –كتاب الفتن- 2/1321، وابن حبان في صحيحه –كما في الموارد- ص 454، والآجري في الشريعة ص 15، ومحمد بن نصر في السنة ص 17-18، والحاكم في المستدرك 1/6 و128، والإسفرائيني في الفرق بين الفرق ص 4و5. جميعهم من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث بدون قوله: (كلها في النار إلا واحدة و ... من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي ... ) . وإسناده حسن رجاله ثقات سوى محمد بن عمرو بن علقمة قال الذهبي في الميزان 3/673: شيخ مشهور، حسن الحديث، مكثر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وقد أخرج له الشيخان متابعة اهـ. والحديث قال عنه الترمذي: "حسن صحيح" وصححه الحاكم وابن حبان، وقد روى هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، انظر المقاصد الحسنة للسخاوي ص 158 ونظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني ص 32-33-34. وأما زيادة: (كلها في النار إلا واحد وهي الجماعة) فقد ثبتت من حديث معاوية رضي الله عنه عند الإمام أحمد في مسنده 4/102، وأبي داود -في سننه كتاب السنة- 5/5، والآجري في الشريعة ص18، والحاكم في مستدركه 1/128، وغيرهم وقال الحاكم عقب هذا الحديث: هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث، وأقره الذهبي. وصححه الشاطبي في الاعتصام. ووردت هذه الزيادة من حديث أنس عن الإمام أحمد 3/120 والآجري في الشريعة ص 16 و17. ووردت أيضاً عن سعد بن أبي وقاص عند الآجري في الشريعة 17-18. وأما زيادة (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي اليوم) أخرجها الآجري في الشريعة ص 15-16. عن عبد الله بن عمرو، والطبراني في الصغير 1/256 عن أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الأمة الذين إجماعهم حجة، وهم الفرقة الناجية، قليلاً كانوا أو كثيراً، بخلاف عباد القبور المتخذين الأنبياء والأولياء والصالحين ولائج يدعونهم مع الله، ويشركونهم في عبادته، ويستغيثون بهم في المهمات والملمات، ويطلبون منهم الحاجات وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، فهؤلاء ليسوا من أمة الإجابة الذين استجابوا لله وللرسول، بل هؤلاء مجتمعون على خلاف الكتاب والسنة، مخالفون لما عليه الأمة من أهل السنة والجماعة، مجمعون على الضلالة. وقد قال الفضيل بن عياض ما معناه، الزم طرق الهدى، ولا يغرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين. وقال بعض السلف: إذا وافقت الشريعة، ولا حظت الحقيقة، فلا تبال، وإن خالف رأيك جميع الخليقة. قال الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في "إغاثة اللهفان": فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق، ولا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول: {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69] فتفرد العبد في طريق طلبه دليل على صدق طلبه إلى أن قال: وما أحسن ما قال أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل في كتاب "الحوادث والبدع": حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً، لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، ولا تنظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم. قال عمرو بن ميمون الأودي: صحبت معاذاً باليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يوماً من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها، فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة، فقلت: يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة، وتحضني عليها، ثم تقول: صل الصلاة وحدك، وهي الفريضة، وصل مع الجماعة وهي النافلة. قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك أفقه أهل هذه القرية. تدري ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 الجماعة؟ قلت: لا. قال: إن جمهور الناس الذي فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك. وقال نعيم بن حماد: إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ. وعن الحسن قال: السنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها، رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في أترافهم، ولا مع أهل البدع، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا. وكان محمد بن أسلم الطوسي -الإمام المتفق على إمامته- من أتبع الناس للسنة في زمانه، حتى قال: ما بلغني سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت بها، ولقد حرصت أن أطوف بالبيت راكباً فما مكنت من ذلك. وسئل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذي جاء فيهم الحديث: "إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم" من السواد الأعظم؟ قال: محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم. انتهى. وكلام العلماء في الجماعة الذين هم السواد الأعظم كثير جداً، وذكروا أنهم هم الذين كانوا على ما كان عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ذهبنا نذكر أقوالهم لخرجنا عن المقصود بالاختصار. والمقصود أن الأمة التي لا تجمع على ضلالة هم أهل السنة والجماعة، وإن قلوا وأن الأكثرين هم الذين قال الله فيهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] ، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 فصل في الإستغاثة وقصة هاجر ... فصل قال العراقي: (ومن أدلة جواز الاستغاثة: ما رواه البخاري في "صحيحه" من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في قصة هاجر أن إسماعيل عليه السلام "أنها لما أدركها وولدها العطش جعلت تسعى في طلب الماء، فسمعت صوتاً ولا ترى شخصاً، فقالت: أغث إن كان عندك غوث" فلو كانت الاستغاثة بغير الله شركاً لما طلبت الغوث، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأصحابه، ولم ينكره، ولما نقله الصحابة من بعده، وذكر المحدثون) . والجواب أن نقول: الكلام فيمن يستغاث به عند الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، أو سؤال ما لا يعيطه إلا الله، ولا يمنعه إلا الله، وأما ما عدا ذلك مما يجري فيه التعاون والتعاضد بين الناس، واستغاثة بعضهم ببعض، في الأمور العادية، فهذا لا نمنع منه، ونقول به، وليس الكلام فيه. ولفظ الاستغاثة لفظ مشترك بين ما يجوز، وبين ما لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 يجوز، فأما ما يجوز فما قدمنا ذكره مما هو في مقدرو العبد، والذي لا يجوز، وفاعله يكون مشركاً، هو طلبها من الأموات والغائبين، من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كما نطقت بذلك الآيات والأحاديث النبوية. وقصة هاجر قد أوردها البخاري في باب قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125] من –كتاب أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام1- والمقصود من   1 الحديث في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما مطولاً، في كتاب أحاديث الأنبياء، باب (يزفون) : النسلان في المشي. 6/396-397-398، وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى أن بعض الروايات للصحيح لم تذكر فيها هذه الترجمة، وإنما أدرجت ما تحتها من أحاديث في الترجمة السابقة، وهي: باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} . قال الحافظ: تنبيه: وقع في رواية الحموي والكشميهني قبل حديث أبي هريرة هذا -يعني أول حديث تحت باب "يزفون" أي النسلان في المشي- ما صورته: "يزفون النسلان في المشي" وفي رواية المستملي والباقين: "باب" بغير ترجمة، وسقط ذلك من رواية النسفي. ووهم من وقع عنده: "باب يزفون: النسلان في المشي" فإنه كلام لا معنى له، والذي يظهر ترجيح ما وقع عند المستملي. قوله "باب" بغير ترجمة يقع عندهم كالفصل من الباب، وتعلقه بما قبله واضح، فإن الكل من ترجمة إبراهيم. وأما تفسير هذه الكلمة من القرآن فإنها من جملة قصة إبراهيم مع قومه حين كسر أصنامهم، قال الله تعالى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} ... الخ اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 القصة أن هاجر -عليها السلام- لم تطلب إلا من حاضر محسوس، وليس ما طلبته مما اختص طلبه بالله سبحانه، فإنها طلبت من المصوت ما يسد جوعتها، ويروي غلتها، كما يقول المنقطع في الطريق العادم الزاد والماء إذا مر عليه أحد وأحس به: أغثني بما عندك من ماء وطعام، وأعطني مما تفضل الله به عليك من الأنعام، أفيقال لهذا إنه طلب ما لا يقدر عليه إلا الله، والتجأ في شدته إلى من سواه؟ فقاتل الله أهل الكفر والضلال، كيف لعب الشيطات بعقولهم، حتى أوردهم المهالك، انتهى باختصار من قول بعض أهل التحقيق من أهل العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 فصل الإستغاثة وشفاعة القيامة ... فصل قال العراقي: (ومنها ما رواه البخاري في حديث الشفاعة: إن الخلق بينما هم في هول القيامة استغاثوا بآدم ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، وكلهم يعتذرون، ويقول عيسى: اذهبوا إلى محمد، فيأتون إليه صلى الله عليه وسلم فيقول أنا لها ... الحديث. فلو كانت الاستغاثة بالمخلوق ممنوعة لما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم، وأجاب المانعون أن هذا يكون يوم القيامة، حيث يكون للنبي صلى الله عليه وسلم قدرة، ورد عليهم أنهم في حياتهم الدنيوية لا قدرة لهم إلا بنوع التسبب، فكذلك بعد الموت، على أنهم أحياء في قبورهم يتسببون) . والجواب أن نقول: قال بعض المحققين من أهل العلم في جوابه: إن استغاثة الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم وقبله بآدم ثم بنوح ... إلى آخر حديث الشفاعة، فهذه شفاعة بالدعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 والاستغاثة بما يقدر عليه المستغاث مستحسنة عقلاً وشرعاً، ومن ذلك الرفقة يستغيث بعضهم بعضاً أي في مهماتهم التي يقدرون عليها، وكذلك ما طلب الناس منه، وهي الشفاعة التي هي الدعاء، ولذلك يقول سيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: "فأجيء فأسجد" وأنه يلهمه الله من الثناء والدعاء شيئاً لم يلهمه لغيره صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك يأذن الله بالشفاعة، ويقول له كما ورد في الحديث: " يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع، واشفع تشفع" وهذا ظاهر جداً. وأما ما أورده على الجواب من أن للمستغاث بهم قدرة كسبية وتسبباً فتنسب الإغاثة إليهم بهذا المعنى، سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، وسواء كانت الاستغاثة بما يقدر عليه المستغاث، أم لا، مدفوع بأن كون العبد له قدرة كسبية لا يخرج بها عن مشيئة رب البرية، لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يستعان به، ولا يتوكل عليه، ولا يلجأ في ذلك إليه، فلا يقال لأحد حي أو ميت، قريب أو بعيد: ارزقني أو أمتني، أو أحي ميتي، أو اشف مريضي، إلى غير ذلك مما هو من الأفعال الخاصة بالواحد الأحد، الفرد الصمد، بل يقال لمن له قدرة كسبية قد جرت العادة بحصولها ممن أهله الله لها: أعني في حمل متاعي، أو غير ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 والقرآن ناطق بحصر الدعاء عن كل أحد لا من الأحياء ولا من الأموات، سواء كانوا أنبياء أو صالحين أو غيرهم، وسواء كان الدعاء بلفظ الاستغاثة أو بغيرها، فإن الأمور غير المقدورة للعباد لا تطلب إلا من خالق القدر، ومنشيء البشر، كيف والدعاء عبادة، وهي مختصة به سبحانه. بقي ما أدلى به العراقي وأضرابه علينا من حياة الأنبياء، ليتوصلوا به إلى ترويج مدعاهم، من استحسان دعائهم، وطلب إغاثتهم، وأولوه بأن مرادهم من ذلك الاستشفاع: طلب أن يدعوا لهم. فنقول: هذا حق ثابت، فنعتقد حياتهم صلى الله تعالى عليهم وسلم حياة برزخية، فوق حياة الشهداء، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم قد جعل عند قبره الشريف ملك يبلغه سلام المسلمين الذين عند ضريحه المكرم والنائبين عنه. وأن الأنبياء جميعهم طريون، لا تأكل الأرض أجسامهم الشريفة. ولكنا نمنع أن يطلب منهم شيء، فلا يسألوا شيئاً بعد وفاتهم، سواء كان بلفظ الاستغاثة، أو توجه أو استشفاع، أو غير ذلك، فجميع ذلك من وظائف الألوهية، فلا يليق جلعلها لمن يتصف بالعبودية من البرية. فإن ادعى أحد أن حياتهم صلى الله تعالى عليهم وسلم إذا ثبتت الرواية بها حقيقة- كما هو الأصل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 حمل الألفاظ على حقائقها- ولم تثبت قرينة على التجوز بها فتبقى على حقيقتها. أجبناه قائلين: لا شك أنه لا يراد بهذه الحياة الحقيقية، ولو أريدت لاقتضت جميع لوازمها، من أعمال وتكليف وعبادة، ونطق وغير ذلك من وظائف الحياة، وحيث انتفت حقيقة هذه الحياة الدنيوية بانتفاء لوازمها، وبحصول الانتقال بالموت الحال به صلى الله عليه وسلم -وأرواحنا له الفداء- كما قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ، وقال عز من قائل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل} [آل عمران: 144] الآية، وحلول الموت به صلى الله عليه وسلم أمر لا يمكن إنكاره -إلى أن قال- نثبت الحياة الأخرى البرزخية، وهي متفاوتة، فحياة الشهداء فوق حياة المؤمنين، وحياة الأنبياء أعلى من حياة الشهداء، فنقتصر على ما يثبت لها في النصوص القطعية من الأحوال المستحسنة المرضية ... إلى آخر كلامه. وقد تقدم الكلام على قوله: (فكذلك بعد الموت على أنهم أحياء في قبورهم يتسببون) ، وأن الميت قد انقطع عمله، فلا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فكيف بمن استغاث به، وهذا ظاهر ولله الحمد والمنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 فصل في حديث: "يا عباد الله احبسوا" ... فصل قال العراقي: (ومنها ما رواه الطبراني، عن زيد عن عتبة بن غزوان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أضل أحدكم شيئاً أو أراد عوناً، وهو بأرض ليس فيها أنيس، فليقل: يا عباد الله أعينوني، فإن لله عباداً لا يراهم" لا يقال: إن المقصود بعباد الله هم الملائكة، أو مسلمو الجن، أو رجال الغيب، وهؤلاء كلهم أحياء، فلا يستدل بالحديث على الاستغاثة بالأموات والكلام فيهم، لأنا نقول: لا صراحة في الحديث بأن المقصود بعباد الله هم من ذكر، لا غير، ولو سلمنا، فالحديث حجة على الوهابية من جهة أخرى، وهي: نداء الغائب الذي لم يجوزوه، كنداء الميت، ولا يفيد الوهابية طعنها ببعض رواة هذا الحديث، فإنه قد روى بطرق شتى يعضد بعضها بعضاً، فقد رواه الحاكم في "صحيحه" وأبو عوانة، والبزار بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ أنه قال: "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا" وقد ذكر هذا الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "الكلم الطيب" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 عن أبي عوانة في صحيحه. وابن القيم في "الكلم الطيب" له، والنووي في "الأذكار" والجزري في "الحصن الحصين" وغيرهم ممن لا يحصى من المحدثين. وهذا لفظ رواية ابن مسعود مرفوعاً، ورواية ابن مسعود موقوفاً عليه: "ليناد أعيونوني يا عباد الله") . والجواب أن نقول: كل أسانيد هذه الروايات لا تخلو من مقال1، وعلى تقدير صحتها فليس فيه إلا نداء   1 لأنه روي من حديث ابن مسعود، وفي سنده: معروف بن حسان. قال ابن عدي في "الكامل" 6/2326": منكر الحديث اهـ. وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 8/323 عن أبيه: مجهول اهـ. وذكره الذهبي في كتاب الضعفاء. وأعله ابن حجر بالانقطاع بين عبد الله بن بريدة وابن مسعود رضي الله عنه نقل ذلك ابن علان في شرح الأذكار 5/150. ولفظ حديث ابن مسعود عند الطبراني في المعجم الكبير 10/267: "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة، فليناد: يا عباد الله احبسوا علي، فإن لله حاضراً سيحبسه عليكم". وقد أخرج الحديث الطبراني -أيضاً- في المعجم الكبير 17/117 عن عتبة بن غزوان –مرفوعاً- قال: "إذا ضل أحدكم شيئاً أو أراد أحدكم عوناً، وهو بأرض ليس فيها أنيس، فليقل: يا عباد الله أغيثوني. يا عباد الله أغيثوني، فإن لله عباداً لا نراهم". قال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/132: رواه الطبراني، ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم، إلا أن زيد بن علي لم يدرك عتبة اهـ. قلت: وفي سنده عبد الرحمن بن شريك، قال أبو حاتم: واهي الحديث. وقال ابن حبان: ربما أخطأ. وفي السند أيضاً والده شريك بن عبد الله. قال الحافظ ابن حجر في التقريب: صدوق يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولي القضاء. وفي السند انقطاع بين زيد بن علي وعتبة بن غزوان. كما تقدم في كلام الهيثمي. وكما ذكره ابن حجر، نقله عنه ابن علان في شرح الأذكار 5/150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 الأحياء، والطلب منهم، ما يقدر هؤلاء الأحياء عليه، وذلك مما لا يجحده أحد، وأين هذا من الاستغاثة بأصحاب القبور الأولياء والصالحين، وكون المراد بعباد الله رجال الغيب كما يزعم بعض المتصوفة فهو مردود، بل هو من الخرافات، ومثله زعم وجود الأوتاد والأقطاب، والأربعين، وما أشبه ذلك. وأما قوله: (ولو سلمنا فالحديث حجة على الوهابية من جهة أخرى. وهي: نداء الغائب الذي لم يجوزه، كنداء الميت) . فأقول: هذا مرودو أيضاً بما سبق، بأن هؤلاء العباد ليسوا بغائبين، وعدم رؤيتهم لا يستلزم غيبتهم، فإنا لا نرى الحفظة، ومع ذلك فهو حاضرون، ولا نرى الجن، ومع ذلك فهم حاضرون، وكذلك الشياطين، والهواء، ونحو ذلك، فإن علة الرؤية ليس هو الوجود فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 قال العراقي: (ونقل عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، أنه قال: سمعت أبي يقول: حججت خمس حجج، فضللت في إحداهن عن الطريق، وكنت ماشياً، فجعلت أقول: يا عباد لله دلونا على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقعت على الطريق. فقل للوهابية التي تدعي نسبتها إلى الإمام أحمد: كيف جاز له أن يطلب الدلالة على الطريق من غير الله وهو غائب من غير أن يراه؟) . والجواب أن نقول: هكذا ذكره هذا العراقي، ولم يعزه إلى كتاب، وقد رأيته في "الآداب الكبرى" لابن مفلح عن الإمام أحمد1. وجوابه ما تقدم، وهو: أن هؤلاء العباد ليسوا بغائبين، وعدم رؤيتهم لا يستلزم غيبتهم، كما تقدم، وهذا لا يفيده شيئاً غير ما تقدم إيضاحه. ثم قال العراقي: (ومن شبه الوهابية في تكفير من استغاث ونادى غائباً من نبي أو ولي قد مات. أن الذين   1 هذه الرواية في مسائل عبد الله عن أبيه. وقد ذكرها الشيخ الإمام الألباني حفظه الله تعالى في "السلسلة الضعيفة" 2/111: ونسبها -أيضاً- إلى البيهقي في الشعب 2/455/2، وابن عساكر 3/72/1، ثم قال: بسند صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 ينادون نبياً أو ولياً، مستغيثين به، قد يكون نداؤهم في أماكن متعددة، في زمان واحد، ويكون عددهم كثيرا جداً، مما يبلغ مئات ألوف، وهم يعتقدون أن المستغاث به يحضر حين ندائه في ذلك الآن، وهذا -بصرف النظر عن كونه كفراً وشركاً لما فيه من جعل ذلك المنادي موصوفاً بما هو من صفات الرب عز وجل- ممتنع عقلاً، فمن البديهي أن الجسم الواحد لا يكون في زمان واحد موجوداً في أماكن متعددة. قال: والجواب: أنه ليس من معتقد المسلمين حضور المنادى بشخصه حين ندائه في الأماكن المتعددة، فإن ذلك المعتقد كفر، وذلك الحضور محال، وإنما المعتقد حضور البركة، بخلق الله تعالى إياها في تلك الأماكن المتعددة، لطفاً منه ورحمة بالمستغيث، لكرامة المستغاث به، وليس في ذلك محال، فإن رحمة الله تعالى واسعة ليس لها حد) . والجواب أن يقال: أولاً نعم، ليس هذا من معتقد المسلمين، وحاشا لله، بل هو من معتقد من أشرك بالله غيره في عبادته. ويقال: ثانياً دعوى حضور البركة بخلق الله تعالى إياهم في تلك الأماكن المتعددة مجردة عن الدليل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 وكيف يكون ذلك وقد قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14] ، وقال تعالى: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ. فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس:28-29] ، وهذا كما هو بين في القرآن فهو بعيد في العقل، فإذا كان المدعو في حال حياته، واجتماع حواسه وحركاته، لا يسمع من دعاه على البعد، ولو مسيرة فرسخ، فكيف يجوز في عقل من له أدنى مسكة من عقل أنه إذا مات، وفارقت روحه جسده، وذهبت حواسه وحركته بالكلية، وصار رهيناً في الثرى، جسداً بلا روح: أنه والحالة هذه يسمع من بعيد، ولو مسيرة شهر أو أكثر، ويجيب، فكل عقل صحيح يحيل ذلك، ويعلم أنه من أمحل المحال، لكن هؤلاء المشركون فسدت عقولهم وفطرهم، وزين لهم الشيطان ما يعتقدون من الكذب والمحال، والشرك والضلال، حتى آل الأمر بهم إلى أن زعموا في معتقدهم حضور البركة بخلق الله تعالى إياها في تلك الأماكن المتعددة، لطفاً منه ورحمة بالمستغيث به، لكونه أشرك في عبادة الله غيره: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} . فإن قيل: إن هذا الذي أردناه من هؤلاء الأموات يحصل لنا من أرواحهم، قيل: وهذا منتف في العقل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 كما نفاه القرآن، وذلك أن أرواح الأنبياء والصالحين في أعلى عليين، فيمتنع عقلاً وشرعاً وفطرة وقدراً أن الأرواح التي فوق السموات السبع، وفي أعلى عليين، أنها تسمع دعاء أهل الأرض، وتنفعهم، وتتصرف فيهم، هذا محال قطعاً وضلال مبين، فإن الله تعالى قال: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] ، فكل من دعي من الأموات والغائبين والأنبياء والصالحين فمن دونهم غافل عن دعاء داعية، بنصوص القرآن العزيز {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] فسبحان من أنزل كتابه روحاً وهدى ونوراً وبرهاناً يهتدي به من هداه الله إلى صراطه المستقيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 فصل في بيان شرك من يدعو غائبا في حاجاته ... فصل ثم قال العراقي: (ثم إن الوهابية لما رمت المسلمين بهذا المعتقد، الذين هم براء منه، ساقت على بطلانه ذكر الفقهاء في شرائط النكاح، وذلك أنهم قالوا: لو تزوج رجل امرأة بشهادة الله ورسوله لا ينعقد النكاح. وقالت: لو كان النبي يعلم نداء المستغيث به إذا ناداه من بعيد لكان علام الغيوب، ولصح انعقاد النكاح الذي قال الفقهاء ببطلانه) ثم لم يأت بجواب ينض على الوهابية إلا عدم حضور المستغاث عند ندائه، وأنه لا يعتقد هو، والمشركون الداعون غير الله: علم الغيب لأحد. ثم اعتذر عن عدم انعقاد النكاح أنه صيانة لحقوق الزوجة. وبما ذكر بعده مما لا ينقض على الوهابية مدعاهم [بالأدلة الصحيحة المتقدم بيانها فيما مضى] 1 لكن تجارى به كفره وعناده إلى أن قال: (وحينئذ لا يمكن لأحد الخصمين أن يثبت دعواه بشهادة الله ورسوله، إذ نحن لو فرضنا أن الله -تعالى عما يقول الظالمون- جسم ينزل إلى السماء الدنيا كما   1 سقط ما بين المعقوفين من ط الرياض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 زعمت الوهابية نقول: ما جرت عادته تعالى أن ينزل إلى غرفة الحاكم، فيؤدي شهادته أمامه، حسماً لنزاع المخاصمين) . فتعالى الله وتقدس عن كفر هذا العراقي وإلحاده، وجرأته على الله، وعلى شرعه، كيف تجارى به كفره إلى هذه المقالة. والوهابية لا يقولون: إن الله تعالى جسم -كما تقدم بيانه- بل يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله، ولا يشبهون الله بخلقه، فمن شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله كفراً. ثم قال العراقي الملحد: (قد علمت أن الوهابية كفرت من نادى غير الله تعالى، كقوله: يا رسول الله ونحو ذلك، ونحن إذا أمعنا النظر رأينا أن كفر هذا الذي يقول: يا رسول الله مثلاً، لا يخلوا إما أن يكون لأنه يعتقد أن من ناداه يحضر بنفسه حين ندائه، ويسمع نداءه، ويقضي بنفسه له حاجته، وينجيه من الورطة التي ناداه من أجلها، أو يكون لأنه يعتقد أن الذي يناديه يسمع نداءه بإسماع الله إياه بمحض قدرته، وأن الله تعالى لا غيره يقضي حاجته ببركة ذلك المنادى، وأن الله تعالى ينجيه من الورطة التي هو فيها بجاه ذلك النبي، وعلى كلا التقديرين ففيه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 السقط ما فيه. أما الأول: فلأن من اعتقد أن أحداً غير الله تعالى يقضي الحاجة، وينجي من الورطة: فقد كفر، سواء نادى ذلك الأحد، أو لم يناده، فلا وجه لتخصيص كفره بحالة النداء، وأنت تعلم أن لا أحد من المسلمين يعتقد هذا المعتقد. وأما الثاني: فلأن من كان قلبه عريقاً بالإيمان، معتقداً أن الذي يقضي الحوائج، وينجي من المهالك، إنما هو الله تعالى لا غيره، لا يجوز أن يكون كافراً بمجرد نداء غائب، معتقداً أن الله سبحانه يخلق فيه السماع) . والجواب أن نقول: إذا نادى المشرك من يدعوه من دون الله في قضاء حاجة من حوائجه، ولينجيه من الورطة التي ناداه من أجلها، فقد أشركه مع الله في عبادته التي هو مختص بها، سواء اعتقد حضوره حين نداه وسماعه له، أو لم يعتقد، أو اعتقد أنه يقضي حاجته بنفسه، أو لم يعتقد، فمن فعل هذا فهو كافر مشرك، لأن الله تعالى قد نفى سماع من يدعونه، ونفى استجابته لهم، وأخبر أن من يدعونه غافلاً عن دعائهم، قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] ، وقال تعالى: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5-6] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 والكفار الجهال يعلمون أن الله هو الخالق، وأن الأمور كلها بيده، وأنه النافع الضار، وأنه هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ولكنهم ما أرادوا إلا الجاه والشفاعة ممن يدعونه. فما يقوله هؤلاء هو كما يقوله من قبلهم من الكافرين سواء بسواء. وأما الجواب عن الثاني: فلأن من كان قلبه عريقاً بالإيمان لا يدعو مع الله أحداً، بل يخلص الدعاء لله وحده، ولا يشرك معه أحداً سواه {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110] ، فإن من دعا مع الله أحداً من خلقه، وأشركه معه في عبادته، لا ينفعه اعتقاده أن الله هو القادر على خلق الأشياء، وهو يشرك معه غيره فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48] {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 فصل في دلالة ظاهر نداء المشرك غير الله ... فصل قال الملحد: (من الجهل ما قالته الوهابية هنا: من أن الشرع يحكم بالظاهر، والظاهر من نداء أحد لغير الله أنه يعتقد في ذلك الغير علماً محيطاً بالغيب، وقدرة بالغة على قضاء الحوائج، وتصرفاً تاماً في الكون، مما هو مختص بالباري عز وجل، ويكون اعتقاده في كفره كفراً وشركاً. قال: والجواب أن الظاهر من حال من نادى غير الله تعالى يدل على أنه نادى غير الله فقط، لا أنه اعتقد في ذلك الغير قدرة، وقضاء للحوائج، وغير ذلك مما ذكرته الوهابية، والاعتقاد أمر باطني قد يدل بعض الظاهر عليه، لكن النداء ليس من قبيلها، فقل للوهابية التي تجعل ظاهر النداء دالاً على الشرك والكفر: ما لكم لا تنظرون إلى ما للمسلم الذي تكفرونه من ظاهر الصلاة والصوم والزكاة، وغير ذلك من أركان الدين، فتعدونه دالاً على إيمانه وحسن اعتقاده. ومن العجيب أن ذلك المسلم الذي ينادي يصرح بعدم اعتقاده القدرة، وما شاكلها، لمن ناداه، وأنتم مع ذلك تجعلون ظاهر ندائه دالاً على ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 الاعتقاد الذي نفاه عن نفسه، فليت شعري أي حكم لاستدلالكم بظاهر نداء الرجل على سوء اعتقاده، في مقابلة تصريحه لكم بحسن ما يعتقده) . والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه، حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن، فإن من نادى غير الله، ودعاه والتجأ إليه، واستغاث به، لا يدعوه، ولا يلجأ إليه، ويستغيث به: إلا لما يعتقد أنه ينفعه، ويسمع دعاءه، ويغيثه لأن الاستغاثة طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، وإذا طلب العبد هذا من غير الله فقد أشرك بالله في عبادته غيره، لأن الله هو المختص بهذه الأشياء، سواء اعتقد التأثير منه، أو لم يعتقد، فلا ينفعه ذلك مع وجود الشرك، والنداء المجرد من غير اعتقاد لا يتصور وقوعه إلا من مجذوب العقل الذي ينطق بما لا يعقل. وأما قوله: (ما لكم لا تنظروا إلى ما للمسلم الذي تكفرونه من ظاهر الصلاة والصوم والزكاة ... ) إلى آخره. فنقول: إذا أشرك بالله في عبادته غيره، لا ينفعه الصلاة والصوم والزكاة، وغيرها من الأعمال الظاهرة، ولا تدل على حسن باطنه، وهو عري من التقوى وإخلاص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 الدين لله وحده، قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] . يوضحه أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويصلون ويصومون، ويزكون ويجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ظاهر الشهادتين، والصلاة والصوم، والزكاة، والجهاد، دالاً على حسن اعتقادهم، بل كانوا في الدرك الأسفل من النار، تحت عبدة الأوثان والصلبان. وأما جعلنا ظاهر ندائه دالاً على ذلك الاعتقاد، وإن نفاه عن نفسه، فلأنه لا يكون في العقل أن من دعا غير الله لا يعتقد أنه لا يرجو بدعائه طلب نفع، أو دفع ضر، أو قضاء حاجة من يدعوه، فإذا اعتقد ذلك فيمن يدعوه فلا ينفعه أن ذلك إنما يكون ببركة من يدعوه لجاهه عند الله، وأن الله هو الفاعل لذلك خلقاً وإيجاداً، مع وجود السبب الداعي إلى الشرك، المنافي للتوحيد، لأنه لا فرق بين الدعاء والنداء، فمن دعا أو نادى غير الله فقد أشرك ذلك المنادى المدعو مع الله في عبادته، لأن المشركين الأولين لم يريدوا إلا الشفاعة بجاه من يدعونه وببركته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 فصل في عقيدة أهل السنة في الصفات ... فصل قال العراقي الملحد: (الوهابية وتكفيرها من زار القبور: لو سأل سائل عما تمذهبت به الوهابية، ما هو؟ وعن غايته ما هي؟ فقلنا في جواب كلا السؤالين: هو تكفير كافة المسلمين. لكان جواباً على اختصاره تعريفاً كافياً لمذهبها، فإن من أنعم النظر فيما جاءت به رآها تتحرى في كل مسألة تكفير كافة المسلمين، الذي رضي الله لهم الإسلام ديناً، فقد كفرتهم لتنزيههم الله تعالى عن الجسمية، وكفرتهم لأخذهم بالإجماع، وكفرتهم لتقليدهم الأئمة المجتهدين في الدين، وكفرتهم لاستشفاعهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم بعد موته، وتوسلهم به إلى الله تعالى، وكفرتهم لزيارتهم القبور) . والجواب أن نقول: الله أكبر على هؤلاء الملاحدة، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ويفسدون في الأرض، والله لا يحب المفسدين، فلو سأل سائل عما تمذهبت به هؤلاء الغلاة النافون لعلو الله على عرشه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 المعطلون لأسمائه وصفاته، الجاحدون لصفات كماله، ونعوت جلاله، المشركون بالله في عبادتهم غيره من مخلوقاته، وعن غاية ما تريد بذلك؟ قلنا: هو الكفر الذي أجمع المسلمون على كفر من قام به ذلك، ونطق القرآن والسنة بكفر من فعل ذلك واعتقده، كما قدمناه بأدلته من الكتاب والسنة وإجماع العلماء. وأما الوهابية: فيعتقدون أن الدين الذين رضيه الله للمسلمين هو دين الإسلام، ومنه أن الله تعالى على عرشه بائن من خلقه، ويعتقدون أن الله تعالى له وجه ويدان، وأن الله تعالى يرى في الآخرة، كما يرى القمر ليلة البدر، وكما ترى الشمس صحواً ليس من دونها سحاب، وأن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل آخر ليلة، فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيبه؟ حتى ينفجر الفجر، وأن الله يشار إليه بالإصبع إشارة حسية، كما أشار إليه أعرف الخلق به من أعظم مجمع وجد على ظهر الأرض، وأن الله تعالى يوم القيامة يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى غيره مما جاء في الكتاب والسنة، مما وصف الله به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 نفسه، ووصفه به رسوله، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تكييف ولا تعطيل. وأما الجسمية فلا يقولون بها نفياً ولا إثباتاً، لأنه يراد بها معنى صحيح، ومعنى باطل، ولأنه لم يرد بذلك قرآن ولا سنة، ولا نطق بذلك الصحابة، ولا التابعون، ولا الأئمة المهتدون. وأما زعمه أنهم كفروا من أخذ بالإجماع، وكفروا من قلد الأئمة بالمجتهدين، فمن الكذب الواضح، والإفك الفاضح. وأما تكفيرهم من دعا الأنبياء والأولياء والصالحين، والتجأ إليهم، واستغاث بهم، في مهماته وملماته، وسمى ذلك تشفعاً وتوسلاً، فلكون ذلك هو الشرك الصريح المخرج من الملة، بدلائل الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة، من أئمة السلف، ومن تبعهم بإحسان، بعد قيام الحجة على من فعل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 فصل في زيارة القبور الشركية، والشفاعة ... فصل قال الملحد: (لا يخفى على البصير أن زائر القبور يقصد بزيارتها، إما الاستشفاع والتوسل إلى الله بأصحابها، والتبرك بهم، كما في زيارة قبور الأنبياء والأولياء، وإما الاعتبار بالقوم الماضين، تمكيناً للخضوع من قلبه، ونيلاً للأجر بقراءة الفاتحة، والدعاء لهم بالمغفرة، كما في زيارة قبور المسلمين، أو يقصد تذكر من مات من ذويه الأقربين، وأحبائه الراحلين، وأعزته الذين غالتهم يد المنون، فأسكنتهم القبور بعد القصور، فذهبوا عنه ذهاباً ليس وراءه إياب، وغادروه كئيباً يندب الأسى، ولسان حاله يقول: ألا يا راحلاً عنا مجداً ... على مهل فديتك من مجد فلا تعجل وسر سير الهوينا ... لأنك راحل من غير عود وتدفعه إحساساته إلى زيارة قبورهم، فيقف على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 دوارس أجداثهم، حزيناً يسكب على ترابها عبرات الأسف، ولسان حاله ينشد: ذهب الذين أحبهم ... وبقيت مثل السيف فردا كم من أخ لي صالح ... بوءته بيدي لحدا وليس في كل هذا ما يستلزم تكفير المسلم، الذي شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، ولا أظن أن الجاهل الغر من الناس، فضلاً عن العالم المتشرع، تدفعه جهالته أن يقصد بزيارة القبر عبادته، وأن يعتقد كونه يقضي حاجته، فيخلق له ما يريد) . والجواب أن يقال: لا يخفى على البصير أن زائر القبور الذي يقصدر بزيارتها الاستشفاع والتوسل إلى الله بأصحابها، والتبرك بهم، كما في زيارة قبور الأنبياء والأولياء، أنها هي الزيارة الشركية، التي ذكرها العلماء، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "إغاثة اللهفان". وأما الزيارة الشركية فأصلها مأخوذ من عباد الأصنام، قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب، ومنزلة، ومزية عند الله تعالى، لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى، ويفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 وأدناه منه، فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية، والماء، ونحوه على الجسم المقابل له. قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره، وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم، كان أقرب إلى انتفاعه، وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها، وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية، فاض عليها منها النور، وبهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنف لها الدعوات، واتخذ الأصنام المجسدة لها، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعياداً، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وبناء المساجد عليها، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله، ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف المشركون في طريقة، وناقضوه في قصده، وكان صلى الله عليه وسلم في شق وهؤلاء في شق، وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله تعالى. قالوا: فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 المقرب عند الله، وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه، صار بينه وبينه اتصال، يفيض به عليه من نصيب، مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاة وحظوة، وقرب من السلطان، فهو شديد التعلق به، فما يحصل لذلك السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق بحسب تعلقه به، فهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذين بعث الله رسله، وأنزل كتبه، بإبطاله، وتكفير أصحابه، ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم، وسبي ذراريهم، وأوجب لهم النار. والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله، وإبطال مذهبهم، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر:43-44] , فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض وهو الله وحده، فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده، فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه، فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره، بعد شفاعته سبحانه، وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده، وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم، وهي التي أبطلها سبحانه في كتابه بقول: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 شَفَاعَةٌ} [البقرة:123] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] ، وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51] . وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة:4] . فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه، بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه، كما قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس:3] . وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه} [البقرة: 255] . فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيعاً من دونه، بل شفيع بإذنه، والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك والعبد المأمور، فالشفاعة التي أبطلها شفاعة الشريك، فإنه لا شريك له، والتي أثبتها شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع، ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول: اشفع في فلان، ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة: أهل التوحيد، الذين جردوا التوحيد، وأخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله سبحانه، قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 8] ، وقال: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه:109] فأخبر أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاه قول المشفوع له، وإذنه للشافع فيه، فأما المشرك فإنه لا يرتضيه، ولا يرضى قوله: (فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه) فإنه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له وإذنه للشافع، فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة. وسر ذلك أن الأمر كله لله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل، والملائكة المقربون، وهم عبيد محض، لايسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولايفعلون شيئاً إلا بعد إذنه لهم، وأمرهم، ولا سيما {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} [الانفطار:19] فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه، فإذا أشرك بهم المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه، ظناً منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه، وما يجب له، ويمتنع عليه، فإن هذا ممتنع، شبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي. والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق، والرب [والمربوب، والسيد] 1 والعبد، والمالك والمملوك، والغني والفقير، والذي لا حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره. فالشفعاء عند المخلوقين: هم شركاؤهم. فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم، [الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم] 2 ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم، وإن لم يأذنوا فيها، ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنقض طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم، فلا يجدون بداً من قبول شفاعتهم على الكره والرضا. فأما الغني الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته، وكل من في السموات والأرض عبيد له، مقهورون بقهره، مصرفون بمشيئته، لو أهلكهم جميعاً لم   1 ما بين المعقوفين من "إغاثة اللهفان" لابن القيم 1/221. 2 ما بين المعقوفين من "إغاثة اللهفان"، وفي النسخ: "الذي قيام الملك والكبراء بهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 ينقص من عزه وسلطانه، وملكه وربوبيته وآلهيته مثقال ذرة -وذكر آيات في المعنى- ثم قال: فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية، التي يعرفها الناس، ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنه هي المعروفة المتعاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنه لا تنفع إلا بعد إذنه ... إلى أن قال: فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه، ومعبوده ومحبوبه، ومرجوه، ومخوفه، الذي يتقرب إليه، ويطلب رضاه، ويتباعد من سخطه: هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه. وذكر الآيات في ذلك، وذكر كلاماً حسناً، تركناه لطلب الاختصار. وأما قوله: (وأما الاعتبار بالقوم الماضين ... ) إلى آخره. فأقول: قد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى الزيارة الشرعية -وليس لنا أن نتقدم بين يديه، لأنه قد جاء بما يكفي ويشفي، وهو من أئمة المسلمين والعلماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 المجتهدين- قال رحمه الله تعالى بعد ذكر المفاسد العظيمة باتخاذ القبور أعياداً: ومنها أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له1، والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسناً إلى نفسه، وإلى الميت. فقلب المشركون هذا الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه، والدعاء به، وسؤالهم حوائجهم، واستنزال البركات منه، ونصره لهم على الأعداء، ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى نفوسهم، وإلى الميت، ولو لم يكن إلا [بحرمانه بركة] 2 ما شرعه الله من الدعاء له، والترجم عليه، والاستغفار له. فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان، التي شرعها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم وازن بينها وبين زيارة أهل الإشراك، التي شرعها لهم الشيطان، واختر لنفسك. قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول:   1 "له" زيادة من "إغاثة اللهفان 1/198. 2 ما بين المعقوفين من "إغاثة اللهفان" لابن القيم 1/199. وفي ط الرياض: "إلا مجرد ما به تركه" وفي الأصل: "إلا مجرد ما به ترك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" رواه مسلم1. وفي صحيحه عنها -أيضاً- أن جبريل أتاه فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت: قلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: قولي: "السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" 2. وفي صحيحه أيضاً عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: "السلام على أهل الديار" وفي لفظ: " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية" 3. وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم   1 صحيح مسلم –كتاب الجنائز- 7/40-41 "نووي". 2 صحيح مسلم –كتاب الجنائز- 7/44 "نووي". 3 صحيح مسلم –كتاب الجنائز- 7/45 "نووي". ولفظه: "وإنا إن شاء الله للاحقون. أسأل الله لنا ولكم العافية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجراً" 1 رواه أحمد والنسائي. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سداً للذريعة، فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هجراً، فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله، فإن زيارته غير مأذون فيها، ومن أعظم الهجر الشرك عندها قولاً وفعلاً. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زوروا القبور فإنها تذكركم الموت" 2، ثم ذكر أحاديث نحواً مما تقدم، ثم قال: فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئاً مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"، ولكن كلما   1 أخرجه النسائي في سننه 4/89 عن بريدة. وأحمد في المسند 5/350 و355 و356 و359 و361. وأخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الجنائز- عن بريدة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" 2/672. 2 صحيح مسلم –كتاب الجنائز- 7/46 "نووي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك. ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد الدعاء1، استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثم دعا. فقال سلمة بن وردان: رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسند ظهره إلى جدار القبر، ثم يدعو. ونص على ذلك الأمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء، حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة. وفي الترمذي وغيره مرفوعاً " الدعاء هو العبادة". [فجرد السلف العبادة لله] . ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم [من] 2 السلام على أصحابها، والاستغفار لهم، والترحم عليهم. وبالجملة: فالميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له، ويشفع له، ولهذا شرع في الصلاة عليه من   1 الميت لا يدعى به ولا عنده، ولا يتحرى قبره ليدعو عنده. وانظر ها هنا (608) . 2 ما بين المعقوفين من "إغاثة اللهفان" 1/201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 الدعاء له، وجوباً أو استحباباً، ما لم يشرع مثله من الدعاء للحي. قال عوف بن مالك صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: "اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر" -أو من عذاب النار- حتى تمنيت أن أكون أنا الميت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الميت1 رواه مسلم. وذكر أحاديث نحو هذا، ثم قال: فهذا مقصود الصلاة على الميت، وهو الدعاء له، والاستغفار له، والشفاعة فيه. ومعلوم أنه في قبره أشد حاجة منه على نعشه، فإنه حينئذ معرض للسؤال وغيره. وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على القبر بعد الدفن، فيقول: "سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" 2.   1 صحيح مسلم –كتاب الجنائز- 7/31 "نووي" وفي لفظ له: " ... وقه فتنة القبر وعذاب النار". 2 أخرجه أبو داود 3/550 عن عثمان بن عفان رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 فعلم أنه أحوج إلى الدعاء له بعد الدفن، فإذا كنا على جنازته ندعو له، لا ندعو به، ونشفع له، لا نستشفع له فبعد الدفن أولى وأحرى. فبدل أهل البدع والشرك قولاً غير الذي قيل لهم، بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحساناً إلى الميت، وإحساناً إلى الزائر، وتذكيراً بالآخرة: سؤال الميت، والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وحضور القلب عندها، وخشوعه أعظم منه في المساجد وأوقات الأسحار. ومن المحال أن يكون دعاء الموتى أو الدعاء بهم، أو الدعاء عندهم، مشروعاً وعملاً صالحاً، ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرزقه الخلوف الذي يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بضعاً وعشرين سنة، حتى توفاه الله تعالى، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل يمكن بشراً على وجه الأرض أن يأتي عنهم بنقل صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو منقطع: أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 وتمسحوا بها، فضلاً أن يصلوا عندها، أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم. فليوقفونا على أثر واحد، أو حرف واحد في ذلك، [بلى] 1 يمكنهم أن يأتوا على الخلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك، وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر، حتى لقد وجد في ذلك مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه الراشدين، ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك. [بلى] 2 فيها من خلاف ذلك كثير، كما قدمناه من الأحاديث. وأما آثار الصحابة فأكثر من أنا يحاط بها- ثم ذكر رحمه الله قصة الرجل الذي وجد في بيت مال الهرمزان، ثم قال: ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره، لئلا يفتتن به الناس، ولم يبرزوه للدعاء عنده، والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله، فهم قد اتخذوا من القبور أوثاناً من لا يداني هذا ولا يقاربه، وأقاموا له سدنة، وجعلوا معابد أعظم من المساجد، فلوا كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها، والتبرك بها، فضيلة أو سنة، أو مباحاً: لنصب المهاجرون والأنصار لهذا القبر علماً لذلك، ودعوا عنده،   1 "بلى" من "إغاثة اللهفان، وفي النسخ: "بل". 2 "بلى" من "إغاثة اللهفان، وفي النسخ: "بل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 وسنوا ذلك لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله، ودينه، من الخلوف التي خلفت بعدهم. وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه، ولا دعا به، ولا عنده، ولا استسقى به، ولا استنصر به. ومعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه، وحينئذ فلا يخلو: إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه في غير ذلك البقعة، أو لا يكون، فإن كان أفضل فكيف حفي علماً وعملاً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، وتظفر به الخلوف علماً وعملاً، ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه مع حرصهم على كل خير، لا سيما الدعاء فإن المضطر يتشبث بكل سبب، وإن كان فيه كراهة ما، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه، هذا محال طبعاً وشرعاً، فتعين القسم الثاني، وهو أنه لا فضل للدعاء عندها، ولا مشروع، ولا مأذون فيه بقصد الخصوص، بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد، ومثل هذا مما لا يشرعه الله ورسوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 البتة، بل استحباب الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها الله، ولم ينزل بها سلطاناً ... إلى آخر الفصل. فهذا كلامه رحمه الله في الدعاء عندها، والدعاء بأربابها فكيف بدعائهم، وطلب الحوائج منهم، والاستغاثة بهم؟ كما تقدم في أول كلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 فصل في عبادة القبور ... فصل ونذكر نموذجاً من معتقد عباد القبور والصالحين، وحقيقة ما هم عليه من الدين، ليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن، إن كان الواقف ممن اختصه الله بالفصل والمن، ولئلا يلتبس الأمر بتسميتهم لكفرهم ومحالهم: تشفعاً وتوسلاً. قال ابن القيم رحمه الله في "إغاثة اللهفان": فمن مفاسد اتخاذها أعياداً: الصلاة إليها. والطواف بها. وتقبيلها، واستلامها. وتعفير الخدود على ترباتها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات، التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيداً وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه وقبلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباركوا حتى تسمع لهم النشيخ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً، وقد ملأوا أكفهم خيبة وخسراناً، فلغير الله بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، ثم انبثوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركاً وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام، ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين. قلو رأيتهم يهنيء بعضهم بعضاً، ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً وحظاً، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولو بحجك كل عام. هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعتهم وضلالهم، إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال. وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح -كما تقدم- وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه، ومايؤول إليه، وأحكم في نهيه عنه، وتوعده عليه، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته. والشر والضلال في معصيته ومخالفته، ثم ذكر رحمه الله كلاماً طويلاً. وقال شيخنا الشيخ عبد اللطيف -قدس الله روحه-: ومما بلغنا عن بعض علماء زبيد أن رجلين قصدا الطائف، فقال أحدهما لصاحبه -والمسئول ممن يترشح للعلم-: أهل الطائف لا يعرفون الله إنما يعرفون ابن عباس، فأجابه: بأن معرفتهم لابن عباس كافية، لأنه يعرف الله. فأي ملة -صان الله ملة الإسلام- لا تمانع هذه الكفريات، ولا تدافعها. وذكر الزبيدي أيضاً: أن رجلاً كان بمكة عند بعض المشاهد، قال لمن عنده: أريد الذهاب إلى الطواف. فقال بعض غلاتهم: مقامك ها هنا أكرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 ومن وقف على كتاب "مناقب الأربعة المعبودين بمصر" وهم: البدوي والرفاعي، والدسوقي، ورابعهم فيما أظن أبو العلاء: فقد وقف على ساحل كفرهم، وعرف صفة إفكهم. قال: وقد اجتمع من الموحدين من أهل الإسلام في بيت رجل من أهل مصر، وبقربه رجل يدعي العلم، فأرسل إليه صاحب البيت فسأله بجمع من الحاضرين، فقال له: كم يتصرف في الكون؟ قال: يا سيدي سبعة، قال: من هم؟ قال: فلان وفلان، وعد أربعة من المعبودين بمصر، فقال صاحب الدار لمن بحضرته من الموحدين: إنما بعثت لهذا الرجل، وسألته لأعرفكم قدر ما أنتم فيه من نعمة الإسلام، أو كلاماً نحو هذا. قال: وقد ذكر هذا شيخ الإسلام في "منهاجه" عن غلاة الرافضة، في عليٍّ، فعاد الأمر إلى الشرك في توحيد الربوبية، والتدبير والتأثير، ولم يبلغ شرك الجاهلية الأولى إلى هذه الغاية، بل ذكر الله جل ذكره أنهم يعترفون له بتوحيد الربوبية، ويقرون به، ولذلك احتج عليهم في غير موضع من كتابه بما أقروا به من الربوبية والتدبير، على ما أنكروه من الإلهية. ومن ذلك وهو من عجيب أمرهم ما ذكره "حسين بن محمد النعمي" في بعض رسائله: أن امرأة كف بصرها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 فنادت وليها: أما الله فقد صنع ما ترى، ولم يبق إلا حسبك. انتهى. قال الشيخ: وحدثني سعد بن عبد الله بن سرور الهاشمي رحمه الله أن بعض المغاربة قدموا مصر يريدون الحج، فذهبوا إلى الضريح المنسوب إلى الحسين رضي الله عنه بالقاهرة، فاستقبلوا القبلة، وأحرموا ووقفوا وركعوا وسجدوا لصاحب القبر، حتى أنكر عليهم سدنة المشهد، وبعض الحاضرين، فقالوا: هذا محبة في سيدنا الحسين. وذكر بعض المؤلفين من أهل اليمن: أن مثل هذا وقع عندهم. وحدثني الشيخ خليل الرشيدي -بالجامع الأزهر- أن بعض أعيان المدرسين هناك قال: لا يدق وتد في القاهر إلا بإذن أحمد البدوي، قال: فقلت له: هذا لا يكون إلا لله، أو كلاماً نحو هذا، فقال: حبي في سيدي أحمد البدوي اقتضى هذا. وحكى أن رجلاً سأل: كيف رأيت الجمع عند زيارة الشيخ الفلاني؟ فقال: لم أر أكثر منه إلا في جبال عرفات، إلا أني لم أراهم سجدوا لله سجدة قط، ولا صلوا مدة ثلاثة أيام، فقال السائل: قد تحملها الشيخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 قال بعض الأفاضل: وباب تحمل الشيخ مصراعاه ما بين بصري وعدن، قد اتسع خرقه، وتابع فتقه، ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد، وساكن البلد. انتهى. قلت: وحدثني الشيخ إسحاق: أنه رأى أيام رحلته إلى مصر -للطلب- هذا المجمع العظيم الذي يسمونه: مولد أحمد البدوي، فذكر أعظم مما رآه في جبال عرفات. قال: ورأيت فيه سوقاً طويلاً للبغايا اللواتي أوقفن أنفسهم1 للزنا في هذا المجمع صدقة لسيدهن أحمد البدوي. وليس هذا بعجيب ولا غريب من فعلهم فإنه يجري منهم في ذلك الجمع من الكفر بالله والإشراك به، ما لم يصل إلى ساحله كفر أبي جهل، وأشياعه فالله المستعان. وأما قوله العراقي: (وأما الإعتبار بالقوم الماضين، تمكيناً للخضوع من قبله، ونيلاً للأجر بقراءة الفاتحة) . فأقول: أما قراءة الفاتحة، فمن البدع المحدثة، ولو كان في قراءتها نيل للأجر في ذلك المكان لأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه.   1 كذا، والصواب: (أنفسهن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 وأما قوله: (وليس في كل هذا ما يستلزم تكفير المسلم ... ) إلى آخره. فيقال لهذا الجاهل: إن طلب الحوائج من الموتى، والاستشفاع بهم، والاستغاثة بهم، ناقض لشهادة: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولا تنفعه الشهادتان مع الإشراك بالله شيئاً، وقد تقدم بيان ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 فصل في شد الرحال إلى القبور ... فصل ثم ذكر العراقي اختلاف العلماء في شد الرحال إلى المشاهد. وهذه المسألة قد فرغ منها، فمن أراد الوقوف على الصحيح من كلام العلماء فهو مبسوط في رد شيخ الإسلام على "ابن الأخنائي" ورد الحافظ ابن عبد الهادي على "السبكي". والحق في ذلك واضح، فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكره، مع وضوحه في كلام العلماء المحقيقين. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما السفر إلى مجرد زيارة قبر الخليل، أو غيره من مقابر الأنبياء والصالحين، ومشاهدهم، وآثارهم، فلم يستحبه أحد من أئمة المسلمين، لا الأربعة ولا غيرهم، بل لو نذر ذلك ناذر لم يجب عليه الوفاء بهذا النذر عند الأئمة الأربعة وغيرهم، بخلاف المساجد الثلاثة، فإنه إذا نذر الحج أو العمرة لزمه باتفاق المسلمين، وإذا نذر السفر إلى المسجدين الآخرين لزمه عند أكثرهم، كمالك وأحمد والشافعي في أظهر قوليه، لقول النبي لله: "من نذر أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 يطع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"، رواه البخاري1. وإنما يجب الوفاء بنذر كل ما كان طاعة، مثل من نذر صلاة، أو صوماً، أو اعتكافاً، أو صدقة لله، أو حجاً، ولهذا لا يجب بالنذر السفر إلى غير المساجد الثلاثة، لأنه ليس بطاعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد" 2، فغير المساجد أولى بالمنع، مع أن قوله: "لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد"، يتناول السفر إلى كل بقعة مقصودة، بخلاف السفر للتجارة، وطلب العلم، ونحو ذلك، فإن السفر لطلب تلك الحاجة حيث كان، وكذلك لزيارة الأخ في الله، فإنه هو المقصود حيث كان.   1 في صحيحه 11/585 عن عائشة رضي الله عنها. 2 أخرجه البخاري في صحيحه –كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة- 3/63، ومسلم في –كتاب الحج- من صحيحه 2/1014-1015، كلاهما من طريق الزهري عن سعيد عن أبي هريرة مرفوعاً.. به وفي لفظ لمسلم: "تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد". وأخرجه مسلم –أيضاً- من طريق عبد الحميد بن جعفر أن عمران بن أبي أنس حدثه أن سلمان الأغر حدثه أنه سمع أبا هريرة يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد". وأخرجه البخاري 3/70، ومسلم في -كتاب الحج- 3/976 من طريق عبد الملك عن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشدوا الرحال ... " هذا لفظ مسلم. وفي لفظ البخاري: "ولا تشد ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 وقد ذكر بعض المتأخرين من العلماء أنه لا بأس بالسفر إلى المشاهد واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كل سبت راكباً وماشياً. أخرجاه في "الصحيحين"1. ولا حجة لهم فيه، لأن قباء ليس مشهداً، بل مسجد، وهو منهي عن السفر إليها باتفاق الأئمة، لأن ذلك ليس بسفر مشروع، بل لو سافر إلى قباء من دويرة أهله لم يجز، ولكن لو سافر إلى المسجد النبوي ثم ذهب منه إلى قباء فهذا يستحب، كما يستحب زيارة قبور أهل البقيع، وشهداء أحد. انتهى. ثم قال العراقي: (ويدل على جواز شد الرحال لزيارة القبور، ما قاله عمر رضي الله عنه بعد فتح الشام لكعب الأحبار: يا كعب ألا تريد أن تأتي معنا إلى المدينة، فتزور سيد المرسلين؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أنا أفعل ذلك. وكذا يدل عليه مجيء بلال رضي الله عنه من الشام إلى المدينة لزيارة قبره عليه الصلاة والسلام، وذلك في خلافة عمر رضي الله عنه) . والجواب أن نقول: هؤلاء الغلاة يتعلقون بأذيال   1 رواه البخاري في صحيحه 13/303، ومسلم 2/1106 عن ابن عمر رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 الموضوعات، ويعتمدن الأقوال المكذوبات {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18] . قال الحافظ ابن عبد الهادي في جوابه للسبكي: وهو مطالب أولاً: ببيان صحته. وثانياً: ببيان دلالته على مطلوبه. ولا سبيل له إلى واحد من الأمرين. ومن المعلوم أن هذا من الأكاذيب والموضوعات على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفتوح الشام فيه كذب كثير، وهذا لا يخفى على آحاد طلبة العلم، ولكن شأن هذا المعترض الاحتجاج دائماً بما يظنه موافقاً لهواه، ولو كان من المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، وليس هذا شأن العلماء، بل على المستدل بحديث أو أثر أن يبين صحته، ودلالته على مطلوبه، وهذا المنقول عن عمر رضي الله عنه لو كان ثابتاً عنه لم يكن فيه دليل على محل النزاع، وقد عرف أن شيخ الإسلام لا ينكر الزيارة على الوجه المشروع ولا يكرهها، بل يحضها ويندب إلى فعلها. انتهى1.   1 انظر الإجابة المفصلة عن قصة مجيء بلال رضي الله عنه إلى المدينة: "الصارم المنكي" لابن عبد الهادي. و"شفاء الصدور في الرد على الجواب المشكور" الذي أصدرته دار الإفتاء العامة في عهد الملك: سعود بن عبد العيزيز رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 أقول: وكذلك الوهابية لا ينكرون الزيارة على الوجه المشروع، بل هي عندهم من أفضل الأعمال، والله المستعان. ثم ذكر العراقي أن من القائلين بالجواز الإمام النووي والقسطلاني، والإمام الغزالي. وهؤلاء مقابلون بأفضل منهم، وأعلم وأتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، والتابعين لهم ومن العلماء المانعين من شد الرحال الإمام مالك رحمه الله، ولم يخالفه أحد من الأئمة الثلاثة. ومنهم الإمام أبو عبد الله بن بطة، وأبو الوفاء بن عقيل، وغيرهم من العلماء الراسخين. ثم ذكر العراقي مسئلة سماع أهل القبور، وذكر من التخليط ما لا مزيد عليه، وقد أجاب على ذلك كله محمود شكري بن عبد الله بن محمود الألوسي في "تتمته"1 وبه الكفاية، فلا نطيل بذكره، إلا أنا نقول: إن سماع أهل القليب قليب بدر لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم سماع حقيقي، وكذلك سماع أهل القبور سلام المسلم عليهم، وردهم عليه، وأن إعادة الأرواح لتلك الأشباح بعد مفارقتها إياها إنما هي إعادة عارضة، لا إعادة مستقرة   1 أي تتمته لكتاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن الذين رد به على داود بن جرجيس. واسمه: "فتح المنان على صلح الإخوان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 مستمرة، بل لسماع الكلام ورد السلام، والسؤال فقط، وأما دعوى إجابة الدعوات، وإغاثة اللهفات، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات من الأموات، فمن الممتنعات عقلاً وشرعاً، وفطرة وقدراً، كما هو صريح نصوص الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية. ولكن قد ذكر هذا الملحد في قصة "المعراج" رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لعيسى وموسى وإبراهيم، فقال: (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رأيت عيسى وموسى وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام" رواه الشيخان ومالك في "الموطأ") . والمقصود أن هذا الملحد لما أتى إلى هذا المقام لم يذكر فيه أنه رآهم في السموات على قدر منازلهم، فأخرس عن ذلك أخرس الله لسانه- لأنه قد ذكر فيما تقدم من إلحاده أن عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى هو بمعنى العروج إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات فيه، لأنه ينكر أن يكون الله فوق السموات على عرشه، فلذلك جحد عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله بذاته الشريفة. فتقول الوهابية لهذا الملحد المعطل: كيف جاز لك ذلك أن تحتج علينا بسماع الشهداء والأنبياء نداء من ينادي وهم عند الله، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عيسى وموسى وإبراهيم وهم أرفع منزلة عند الله من الشهداء، وقد صحت الأحاديث بأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 رأى عيسى في السماء الثانية، ورأى موسى في السماء السادسة، ورأى إبراهيم في السماء السابعة، وكل هذا عندك لا حقيقة له، فإن كانوا في السماء كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى الله بطل ما تذهب إليه من أن العروج هو إلى موضع يتقرب إليه بالطاعات لا إلى السماء، وإن لم يكن رآهم في السموات ففي أي مكان رآهم؟ ولا بد من تعيين ذلك الموضع1. وقد كان من المعلوم أن أرواح الشهداء بعضها في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل تحت العرش. وبعضها على بارق بباب الجنة، ويخرج إليهم رزقهم من الجنة. وبعضهم في قباب في رياض بفناء الجنة. وفي بعض الأحاديث أن أرواح المؤمنين في عليين. ومن المعلوم أن أرواح الأنبياء في أعلى عليين، وأنهم أرفع منزلة من الشهداء، فيمتنع عقلاً وشرعاً وفطرة وقدراً أن الأرواح التي فوق السموات السبع، وفي أعلى عليين، أنها تسمع دعاء أهل الأرض، وتنفعهم، وتتصرف فيهم، هذا محال قطعاً، وضلال مبين، فإن الله قال: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] فكل من دعي من الأموات والغائبين والأنبياء والصالحين –فمن   1 يعني ما دام أن الشرع قد عينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 دونهم غافل عن دعاء داعيه، بنصوص القرآن العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] . بقي من هذه المسألة مسألة، وهي: أن المسلم إذا سلم على أهل القبور رد الله على المسلم عليه روحه حتى يرد السلام، قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام" 1.   1 أخرجه أبو داود في سننه –كتاب المناسك- باب زيارة القبور: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا المقريء، حدثنا حيوة، عن أبي صخر حميد بن زياد، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد يسلم إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام". قال الإمام ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي في الرد على السبكي" ص 249: واعلم أن هذا الحديث هو الذي اعتمد عليه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من الأئمة في مسألة الزيارة، وهو أجود ما استدل به في هذا الباب. ومع هذا فإنه لا يسلم من مقال في إسناده ونزاع في دلالته. أما المقال في إسناده: فمن جهة تفرد أبي صخر به عن أبي قسيط عن أبي هريرة. ولم يتابع ابن قسيط أحد في روايته عن أبي هريرة. ولا تابع أبا صخر أحد في روايته عن ابن قسيط. وأبو صخر هو حميد بن زياد، وهو ابن أبي المخارق المدني الخراط صاحب العباء ساكن مصر، ويقال: حميد بن صخر ... وقد اختلف الأئمة في عدالته، فوثقه بعضهم، وتكلم فيه آخرون. واختلفت الرواية عن يحيى بن معين فيه. وقال عبد الله بن أحمد: سئل أبي عن أبي صخر؟ فقال: ليس به بأس. وروى عن الإمام أحمد رواية أخرى أنه: ضعيف ... وقال النسائي: ضعيف ... إلى أن قال الإمام ابن عبد الهادي: وأما ابن قسيط شيخ أبي صخر فهو يزيد بن عبد الله بن قسيط ... وقد روى له البخاري ومسلم في صحيحيهما حديثه عن عطاء بن يسار. وروى له مسلم أيضاً من روايته عن عروة بن الزبير وعبيد بن جريج وداود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص. ولم يخرج له في الصحيح شيء من روايته عن أبي هريرة. بل هو قليل الحديث عن أبي هريرة ... ثم ساق أقوال أئمة الجرح والتعديل فيه وقال: فقد تبين أن هذا الحديث الذي تفرد به أبو صخر عن ابن قسيط عن أبي هريرة لا يخلو من مقال في إسناده، وأنه لا ينتهي به إلى درجة الصحيح، وقد ذكر بعض الأئمة أنه على شرط مسلم. وفي ذلك نظر، فإن ابن قسيط وإن كان مسلم قد روى في صحيحه من رواية أبي صخر عنه لكنه لم يخرج من روايته عن أبي هريرة شيئاً، فلو كان قد أخرج في الأصول حديثاً من رواية أبي صخر عن ابن قسيط عن أبي هريرة أمكن أن يقال في هذا الحديث إنه على شرطه ... إلى أن قال: فعلم أن هذا الحديث الذي تفرد به أبو صخر عن ابن قسيط عن أبي هريرة لا ينبغي أن يقال هو على شرط مسلم، وإنما هو حديث إسناده مقارب، وهو صالح أن يكون متابعاً لغيره عاضداً له، والله أعلم. اهـ كلام الإمام ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من رجل يزور قبر أخيه، ويجلس عنده، إلا استأنس به، ورد عليه حتى يقوم". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إذا مر الرجل بقبر أخيه يعرفه، فسلم عليه، رد عليه السلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه، رد عليه السلام) . ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب القبور. وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" وهذه الأحاديث تدل على أنهم ليسوا بأحياء في قبورهم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" ففي هذا دليل على أن الأرواح قد فارقت الأشباح، وإنما ترد الأرواح لرد السلام. قال ابن القيم رحمه الله تعالى بعد كلام سبق: على أن قوله: "ثم تعاد روحه في جسده" لا يدل على حياة مستقرة، وإنما يدل على إعادة لها إلى البدن، وتعلق به الروح لم تزل متعلقة ببدنها وإن بلى وتمزق. وسر ذلك أن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق، متغايرة الأحكام: أحدهما تعلقها به في بطن الأم جنيناً، الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض، الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه. الرابع تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته، وتجردت عنه، فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً، بحيث لا يبقى لها التفات إليه ألبتة –وقد ذكرنا في أول الجواب من الأحاديث والآثار ما يدل على ردها إليه وقت سلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 المسلم- وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن إلى قبل يوم القيامة، الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجسام ... إلى آخر كلامه رحمه الله. وأما قوله: (ومن الأدلة على أن الله تعالى يحيي الموتى في قبورهم فيسمعون: قوله تعالى -حكاية على سبيل التصديق-: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] فالمراد بإحدى الإماتتين الإماتة قبل مزار القبور، وبالأخرى الإماتة بعد مزار القبور، فإنهم لو لم يحيوا في القبور ثانية ما صحت إماتتهم ثانية. وأما جواب الوهابية أن الإماتة الأولى هي حال العدم قبل الخلق. والثانية الإماتة بعد الخلق، فمما يضحك الصبيان، لأن الإماتة لا تكون إلا بعد الحياة، ولا حياة قبل أن يخلق الله الحياة. وأما جوابها أن الأماتة الأولى هي إماتة الناس بعد حياتهم في عالم الذر، فهو أوهن من جوابها الأول، لأن الناس في عالم الذر لم يكونوا غير أرواح خلقها الله تعالى، فسألهم: (ألست بربكم) ؟ فأجابوا قائلين: بلى، وأنت تعلم أن الموت عبارة عن مفارقة الروح للجسد، وحيث لا جسد فلا موت، نعم يجوز أن يفني الله الأرواح بعد خلقها في عالم الذر، ولكن ذلك ليس من الموت في شيء لما تقدم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 فالجواب أن يقال: ليس هذا جواب الوهابية فقط، بل قد ذكره ابن القيم رحمه الله في كتاب "الروح" فقال: وأما قول أهل النار {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] فتفسير هذه الآية، الآية التي في البقرة، وهي قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] ، فكانوا أمواتاً وهم نطف في أصلاب آبائهم، وفي أرحام أمهاتهم، ثم أحياهم بعد ذلك ثم أماتهم، ثم يحييهم يوم النشور. فصار جوابك هو الذي يضحك منه الصبيان، لأنه مكابرة للقرآن، لأن الله وحده قد أخبر أنهم كانواً أمواتاً وهم نطف في أصلاب آبائهم، وفي أرحام أمهاتهم {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء: 87] ثم أحياهم سبحانه بإخراجهم إلى دار الدنيا، ثم أماتهم سبحانه، ثم يحييهم يوم النشور. وبما ذكره ابن القيم رحمه الله قال أهل التفسير: قال الحافظ ابن كثير رحمه الله على هذه الآية: يقول الله تعالى مخبراً عن الكفار أنهم ينادون يوم القيامة، وهم في غمرات النيران يتلظون، وذلك عندما باشروا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 عذاب الله تعالى ما لا قبل لأحد به- إلى أن قال: أما قوله: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] قال الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود رضي الله عنه: هذه الآية كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] ، وكذا قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة، وأبو مالك. وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية. وقال السدي: أميتوا في الدنيا، ثم أحيوا في قبورهم، فخوطبوا، ثم أميتوا، ثم أحيوا يوم القيامة. وهذان القولان من السدي وابن زيد ضعيفان، لأنه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات وإماتات. والصحيح قول ابن مسعود، وابن عباس، ومن تابعهما ... إلى آخر كلامه رحمه الله. فإن كان ما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك الصبيان، فليس على وجه الأرض كلام صحيح إلا ما صححه هذا الملحد بمعقوله الذي هو بكلام المجاذيب أشبه به من كلام المجانين، وحيث نسب تفسير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الوهابية، فأهلاً به أهلاً، فإنا به قائلون، وعلى ما أثبوته معتمدون، ولما سواه نافون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 وأما قولة العراقي: (وأما جوابها أن الإماتة الأولى هي إماتة الناس بعد حياتهم في عالم الذر، فهو أوهن من جوابها الأول، لأن الناس في عالم الذر لم يكونوا غير أرواح ... ) الخ. فأقول: هذا الجواب ليس هو للوهابية، بل هو كلام ابن زيد، وقد ضعفه ابن كثير كما تقدم، وهو مبني على خلاف العلماء في خلق الأرواح، هل هو مقدم على أبدانها أم متأخر، والصحيح الذي تشهد له النصوص من الكتاب والسنة أن خلقها بعد خلق الأبوين، وذلك بعد إرسال الله ملك الأرواح إلى النطف في بطون الأمهات ينفخ فيها الروح، والذي ثبت إنما هو إثبات القدر السابق، وتقسيمهمم إلى شقي وسعيد. وأما الأحاديث التي وردت في تقدم خلقها على أبدانها، فلا يصح منها شيء، والصحيح الثابت هو ما ذكره ابن القيم من الوجوه التي ذكرها في الفصل الذي ذكر فيه الأدلة على أن خلق الأرواح متأخر عن خلق الأبدان، وبه الكفاية، فمن أراد تحقيق المسألة فهي مبسوطة في كتاب "الروح" في هذا الفصل. وإذا تقرر هذا فليس للوهابية كلام على هذه المسألة منسوب إليها، فيكون هذا الجواب جواباً له، بل هو جواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 باطل فاسد على أصل لا يصح بدليل شرعي ثابت، فإن كان تكلم في هذه المسألة أحد ممن تنسبونه إلى الوهابية فربما. وأما الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه فليس لهم فيها كلام معروف، غير ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى، والقول الذي نعتمده في هذه المسائل كلها هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية" قال رحمه الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 فصل في الكلام في حياة الأنبياء في قبورهم ولأجل هذا رام ناصر قولكم ... ترقيعه يا كثرة الخلقان قال الرسول بقبره حيّ كما ... قد كان فوق الأرض والرجمان من فوقه أطباق ذاك الترب واللـ ... ـبنات قد عرضت على الجدران لو كان حيا في الضريح حياته ... قبل الممات بغير ما فرقان ما كان تحت الأرض بل من فوقها ... والله هذي سنة الرحمن أتراه تحت الأرض حياً ثم لا ... يفتيهموا بشرائع الايمان ويريح أمته من الآراء والـ ... ـخلف العظيم وسائر البهتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 أم كان حيا عاجزا عن نطقه ... وعن الجواب لسائل لهفان وعن الحراك فما الحياة اللاء قد ... أثبتموها أوضحوا ببيان هذا ولم لا جاءه أصحابه ... يشكون بأس الفاجر الفتان إذ كان ذلك دأبهم ونبيهم ... حيّ يشاهدهم شهود عيان هل جاءكم أثر بأن صحابه ... سألوه فتيا وهو في الأكفان فأجابهم بجواب حي ناطق ... فأتوا إذا? بالحق والبرهان هلا أجابهموا جواباً شافياً ... إن كان حيا ناطقا بلسان هذا وما شدت ركائبه عن الحـ ... ـجرات للقاصي من البلدان مع شدة الحرص العظيم له على ... إرشادهم بطرائق التبيان أتراه يشهد رأيهم وخلافهم ... ويكون للتبيان ذا كتمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 إن قلتموا سبق البيان صدقتمو ... قد كان بالتكرار ذا نبيان هذا وكم من أمر أشكل بعده ... أعني على علماء كل زمان أو ما ترى الفاروق ود بأنه ... قد كان منه العهد ذا تبيان بالجد في ميراثه وكلالة ... وببعض أبواب الربا الفتان قد قصّر الفاروق عند فريقكم ... إذ لم يسله وهو في الأكفان أتراهمو يأتون حول ضريحه ... لسؤال أم هموا أعز حصان ونبيهم حي يشاهدهم ويسـ ... ـمعهم ولا يأتي لهم ببيان أفكان يعجز أن يجيب بقوله ... إن كان حيا داخل البنيان يا قومنا استحيوا من العقلاء والمـ ... ـبعوث بالقرآن والرحمن والله لا قدر الرسول عرفتموا ... كلا ولا للنفس والإنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 من كان هذا القدر مبلغ علمه ... فليستتر بالصمت والكتمان ولقد أبان الله أن رسوله ... ميت كما قد جاء في القرآن أفجاء أن الله باعثه لنا ... في القبر قبل قيامة الأبدان أثلاث موتات تكون لرسله ... ولغيرهم من خلقه موتان إذ عند نفخ الصور لا يبقى امرؤ ... في الأرض حيا قط بالبرهان أفهل يموت الرسل أم يبقوا إذا ... مات الورى أم هل لكم قولان فتكلموا بالعلم لا الدعوى وجيـ ... ـئوا بالدليل فنحن ذو أذهان أو لم يقل من قبلكم للرافعي الأ ... صوات حول القبر بالنكران لا ترفعوا الأصوات رحمة عبده ... ميتا كحرمته لدى الحيوان قد كان يمكنهم يقولوا أنه ... حي فغضوا الصوت بالاحسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 لكنهم بالله أعلم منكموا ... ورسوله وحقائق الإيمان ولقد أتوا الى العباس يسـ ... ـتسقون من قحط وجدب زمان هذا وبينهموا وبين نبيهم ... عرض الجدار وحجرة النسوان فنبيهم حي ويستسقون غيـ ... ـر نبيهم حاشا أولي الإيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 فصل فيما احتجوا به على حياة الرسل في القبور فان احتججتم بالشهيد بأنه ... حيّ كما قد جاء في القرآن والرسل أكمل حالة منه بلا ... شك وهذا ظاهر التبيان فلذاك كانوا بالحياة أحق من ... شهدائنا بالعقل والإيمان وبأن عقد نسائه لم ينفسخ ... فنساؤه في عصمة وصيان ولأجل هذا لم يحل لغيره ... منهن واحدة مدى الأزمان أفليس في هذا دليل أنه ... حيّ لمن كانت له أذنان أو يرى المختار موسى قائما ... في قبره لصلاة ذي القربان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 أفميت يأتي الصلاة وإن ذا ... عين المحال وواضح البطلان أو لم يقل أني أرد على الذي ... يأتي بتسليم مع الاحسان1 أيرد ميت السلام على الذي ... يأتي به هذا من البهتان2 هذا وقد جاء الحديث بأنهم ... أحياء في الأجداث ذا تبيان وبأن أعمال العباد عليه تعـ ... ـرض دائما في جمعة يومان يوم الخميس ويوم الاثنين الذي ... قد خص بالفضل العظيم الشأن   1 في ط الرياض "يأتي به هذا من البهتان". 2 تقدم البيت على الذي قبله وشطره الثاني: "يأتي بتسليم مع الإحسان". والمثبت من الأصل والنونية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 فصل في الجواب عما احتجوا به في هذه المسألة فيقال أصل دليلكم في ذاك حجـ ... ـتنا عليكم وهي ذات بيان إن الشهيد حياته منصوصة ... لا بالقياس القائم الأركان هذا مع النهي المؤكد أننا ... ندعوه ميتا ذاك في القرآن ونساؤه حل لنا من بعده ... والمال مقسوم على السهمان هذا وإن الأرض تأكل لحمه ... وسباعها مع أمة الديدان لكنه مع ذلك حيّ فارح ... مستبشر بكرامة الرحمن فالرسل أولى بالحياة لديه مع ... موت الجسوم وهذه الأبدان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 وهي الطرية في التراب وأكلها ... فهو الحرام عليه بالبرهان ولبعض أتباع الرسول يكون ذا ... أيضا وقد وجدوه رأي عيان فانظر الى قلب الدليل عليهموا ... حرفا بحرف ظاهر التبيان لكن رسول الله خص نساؤه ... بخصيصة عن سائر النسوان خيرن بين رسوله وسواه فاخـ ... ـترن الرسول لصحة الايمان شكر الإله لهن ذلك وربنا ... سبحانه للعبد ذو شكران قصر الرسول على أولئك رحمة ... منه بهن وشكر ذي الاحسان وكذاك أيضا قصرهن عليه معـ ... ـلوم بلا شك ولا حسبان زوجاته في هذه الدنيا وفي الأ ... ـخرى يقينا واضح البرهان فلذا حرمن على سواه بعده ... إذ ذاك صون عن فراش ثان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 لكن أتين بعدة شرعية ... فيها الحدود وملزم الأوطان هذا ورؤيته الكليم مصليا ... في قبره أثر عظيم الشان في القلب منه حسيكة هل قاله ... فالحق ما قد قال ذو البرهان ولذاك أعرض في الصحيح محمد ... عنه على عمد بلا نسيان والدارقطني الإمام أعله ... برواية معلومة التبيان أنس يقول رأي الكليم مصليا ... في قبره فأعجب لذا الفرقان فرواه موقوفا عليه وليس بالمر ... ـفوع واشواقا إلى العرفان1 بين السياق إلى السياق تفاوت ... لا تطرحه فما هما سيان لكن تقلد مسلما وسواه ممـ ... ـن صحّ هذا عنده ببيان فرواته الاثبات أعلام الهدى ... حفاظ هذا الدين في الأزمان   1 سقط البيت من جميع النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 لكن هذا ليس مختصا به ... والله ذو فضل وذو إحسان فروى ابن حبان الصدوق وغيره ... خبرا صحيحا عنده ذا شان فيه صلاة العصر في قبر الذي ... قد مات وهو محقق الإيمان فتمثل الشمس الذي قد كان ير ... عاها لأجل صلاة ذي القربان عند الغروب يخاف فوت صلاته ... فيقول للملكين هل تدعان حتى أصلي العصر قبل فواتها ... قالا سنفعل ذاك بعد الآن هذا مع الموت المحقق لا الذي ... حكيت لنا بثبوته القولان هذا وثابت البناني قد دعا الـ ... ـرحمان دعوة صادق الإيقان أن لا يزال مصليا في قبره ... أن كان أعطي ذاك من إنسان لكن رؤيته لموسى ليلة الـ ... ـمعراج فوق جميع ذي الأكوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 يرويه أصحاب الصحاح جميعهم ... والقطع موجبه بلا نكران ولذاك ظن معارضا لصلاته ... في قبره إذ ليس يجتمعان وأجيب عنه بأنه أسرى به ... ليراه ثم مشاهدا بعيان فرآه ثم وفي الضريح وليس ذا ... بتناقض إذ أمكن الوقتان هذا ورد نبينا التسليم1 من ... يأتي بتسليم مع الإحسان ما ذاك مختصا به أيضا كما ... قد قاله المبعوث بالقرآن من زار قبر أخ له فأتى بتسـ ... ـليم عليه وهو ذو إيمان رد الإله عليه حقا روحه ... حتى يرد عليه رد بيان وحديث ذكر حياتهم بقبورهم ... لما يصح وظاهر النكران فانظر إلى الإسناد تعرف حاله ... إن كنت ذا علم بهذا الشان   1 في الأصل: "السلام". وفي ط الرياض: "السلام". والمثبت من النونية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 هذا ونحن نقول هم أحياء لا ... كن عندنا كحياة ذي الأبدان والترب تحتهموا وفوق رؤوسهم ... وعن الشمائل ثم عن أيمان مثل الذي قد قلتموه معاذنا ... بالله من أفك ومن بهتان بل عند ربهموا تعالى مثل ما ... قد قال في الشهداء في القرآن لكن حياتهموا أجل وحالهم ... أعلى وأكمل عند ذي الإحسان هذا وأما عرض أعمال العبا ... د عليه فهو الحق ذو إمكان وأتى به أثر فإن صح الحديـ ... ـث به فحق ليس ذا نكران لكن هذا ليس مختصا به ... أيضا بآثار روين حسان فعلى أبي الإنسان يعرض سعيه ... وعلى أقاربه مع الأخوان إن كان سعيا صالحا فرحوا به ... واستبشروا يا لذة الفرحان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 أو كان سعيا سيئا حزنوا وقا ... لوا رب راجعه الى الإحسان ولذا استعاذ من الصحابة من روى ... هذا الحديث عقيبه بلسان يا رب إني عائذ من خزية ... أخزي بها عند القريب الدان ذاك الشهيد المرتضى ابن رواحة ... المحبو بالغفران والرضوان لكن هذا ذو اختصاص والذي ... للمصطفى ما يعمل النقلان هذي نهايات لأقدام الورى ... في ذا المقام الضنك صعب الشان والحق فيه ليس تحمله عقو ... ل بني الزمان لغلظة الأذهان ولجهلهم بالروح مع أحكامها ... وصفاتها للإلف بالأبدان فارض الذي رضي الإله لهم به ... أتريد تنقض حكمة الديان هل في عقولهموا بأن الروح في ... أعلى الرفيق مقيمة بجنان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 وترد أوقات السلام عليه من ... أتباعه في سائر الأزمان وكذاك إن زرت القبور مسلما ... ردت لهم أرواحهم للآن فهموا يردون السلام عليك لا ... كن لست تسمعه بذي الأذنان هذا وأجواف الطيور الخضر مسـ ... ـكنها لدى الجنات والرضوان من ليس يحمل عقله هذا فلا ... تظلمه واعذره على النكران للروح شأن غير ذي الأجسام لا ... تهمله شأن الروح أعجب شان وهو الذي حار الورى فيه فلم ... يعرفه غير الفرد في الأزمان هذا وأمر فوق ذا لو قلته ... بادرت بالإنكار والعدوان فلذاك أمسكت العنان ولو أرى ... ذاك الرفيق جريت في الميدان هذا وقولي إنها مخلوقة ... وحدوثها المعلوم بالبرهان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 هذا وقولي إنها ليست كما ... قد قال أهل الافك والبهتان لا داخل فينا ولا هي خارج ... عنا كما قالوه في الديان والله لا الرحمن أثبتم ولا ... أرواحكم يا مدعي العرفان عطلتموا الأبدان من أرواحها ... والعرش عطلتم من الرحمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 فصل في مزاعم للملحد، وردها ... فصل قال العراقي: (الوهابية وتكفيرها الحالف بغير الله والناذر، والذابح: قاتل الله الوهابية إنها تتحرى في كل أمر أسباب تكفير المسلمين، مما يثبت أن همها الأكبر هو تكفيرهم لا غير، فتراها تكفر من يتوسل إلى الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم ويستعين باستشفاعه إلى الله تعالى على قضاء حوائجه، وهي لا تخجل إذ تستعين بدولة الكفر على قضاء حاجاتها، التي هي قهر المسلمين وحربهم، وشق عصاهم، والمروق عن طاعة أمير المؤمنين، الذي أمر الله تعالى في كتابه المبين بلزوم طاعته، كما بسطنها في مقدمات الرسالة، وتتخذ أعداء الدين أولياء تستمد منهم في إحضار القوى التي تسعى بها إلى الفساد، وتلج بها في الغواية والعناد، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] سحقاً للوهابية إنها لا تدري أن أولئك الأولياء الذين تتخذهم ذريعة لقهر المسلمين إذا ثبت قدمهم فإنهم يقهرونها، ويهتضمونها -أيضاً- مع من تعده خصماً مخالفاً لمذهبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 فأقول: إيه يابن اللخنا لقد –والله- علمتم أنكم لأنتم اخدان إخوان القردة والخنازير، وإخوان عبدة الصليب أصحاب السعير، وأنا لم ننزع إليهم ولم نستعن بهم في شيء من الأمور التي تزعمونها، وأنا لم نتخذهم أولياء، وقد علمتم أنه ليس في ديارنا لهم علماً، ولا جعلنا في أوطاننا قناصل، ولم نلتزم في ملتنا قوانينهم، ونقدمها على شرع الله ورسوله، ونحن نبرأ إلى الله منهم ومنكم، {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] ، ولكن قد غلبت عليكم القحة، والتظاهر بالكذب والعدوان، لكي تطفئوا نور الله بأفواهكم، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] . فانظر -قاتلك الله يا عدو الله- من قناصل أعداء الله ورسوله عنده؟ ومن أعلامهم منصوبة في ديارهم؟ ومن اليهود والنصارى والرافضة في جملة عساكرهم؟ حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين، وتدري من سعى في الأرض بالفساد، ولج في الغواية والعناد، وعام في بحر الضلالة، وتدرع برداء الشرك والجهالة. وأما قوله: (من غير مرة إن ديدن الوهابية تكفير كافة المسلمين بكل أمر، فهي تكفرهم لتوسلهم بجاه الأنبياء والأولياء وندائهم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 فأقول: أما تكفير عامة المسلمين فمن الكذب الواضح، وقد بيناه غير مرة، وأما التوسل بجاه الأنبياء والأولياء فالوهابية لا يكفرون بمجرد التوسل بجاههم. وأما دعاؤهم والاستغاثة بهم، والاستشفاع بهم، والالتجاء إليه، فهو كفر مخرج عن الملة، وقد قدمنا أدلة ذلك، وكلام أهل العلم في ذلك. وأما قوله: (وتكفرهم بالحلف بغير الله) . فأقول: وهذا أيضاً من الكذب على الوهابية، والأوهام الوبية. وأما قوله: (والنذر لذلك الغير والذبح له) فسيأتي الكلام عليه قريباً. وقوله: (ولو سلمنا أن في بعض الأقوال التي تنسبها الوهابية إلى المسلمين كفراً يصح أن يقال فيه: إن قائل هذا القول يكفر، لما صح أن تكفر جميع الأمة، أو تكفر شخصاً معيناً، قال ذلك القول، فقد يكون القائل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، أو لم تثبت عنده، أو لم يتمكن من معرفتها وفهمها، أو يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله تعالى فيها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 فأقول: الوهابية لا يكفرون إلا من كفره الله ورسوله، وقامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، ولا يلزم من تكفير من قام به الكفر وقامت عليه الحجة تكفير جميع المسلمين، فإن هذا من اللوازم الباطلة، والأقوال الداحضة. وأما تكفير الشخص المعين، فلا مانع من تكفيره إذا صدر منه ما يوجب تكفيره فإن عبادة الله وحده لا شريك له من الأمور الضرورية المعلومة من دين الإسلام، فمن بلغته دعوة الرسول، وبلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة. (وأما) الأمور التي لا يكفر فاعلها [مما ليس معلوماً بالضرورة من دين الإسلام، بل في الأمور الخفية فهذا لا يكفر] 1 حتى تقوم عليه2 الحجة، لأن هذا3 إنما هو في المسائل النظرية والاجتهادية التي قد يخفى دليلها. وأما عباد القبور، فهم عند السلف وأهل العلم يسمون الغالية، لأن فعلهم غلو، يشبه غلو النصارى في الأنبياء والصالحين، وعبادتهم. فمسأله توحيد الله، وإخلاص العبادة له، لم ينازع   1 سقط ما بين المعقوفين من ط الرياض. 2 سقطت "عليه" من ط الرياض. 3 سقطت "لأن هنا" من ط الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 في وجوبها أحد من أهل الإسلام، لا أهل الأهواء، ولا غيرهم، وهي معلومة من الدين بالضرورة، كل من بلغته الرسالة وتصورها على ما هي عليه عرف أن هذا زبدتها وحاصلها، وسائر الأحكام تدور عليه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على المتكلمين" لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منهم الردة عن الإسلام كثيراً، قال: وهذا وإن كان في المقالات الخفية، فقد يقال فيها إنه مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر منهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، من الملائكة والنبيين وغيرهم، فإن هذا أظهر شرائع الإسلام، ومثل إيجابه للصلوات الخمس، وتعظيم شأنها، ومثل تحريم الفواحش، والزنا، والخمر والميسر، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها، فكانوا مرتدين، وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين، كما فعل أبو عبد الله الرازي -قال: وهذه ردة صريحه، انتهى. فالشخص المعين إذا صدر منه ما يوجب كفره من الأمور التي هي من ضروريات دين الإسلام مثل عبادة غير الله سبحانه وتعالى، فإن الله قد أقام الحجة بإنزال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 كتبه، وبعث رسله، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وهذا مما لا إشكال فيه. وأما قوله: (فقد يكون القائل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق ... ) إلى آخره. فأقول: أما ما عدا الأمور الضرورية المعلومة من دين الإسلام، فإنا لا نكفر من قال قولاً لم يبلغه النص في ذلك بتكفير من فعله، لأن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ، وكذلك من لم يثبت عنده النص، أو قام لديه معارض من نص آخر، أو وقعت له شبهة يعذره الله بها، هذا مما لا إشكال فيه عند أهل العلم. وأما قول هذا الجاهل المركب: (أو لم يتمكن من معرفتها وفهمها) فإنما دهي1 من عدم معرفته بالفرق بين قيام الحجة، وفهم الحجة [فإن من بلغته دعوة الرسل فقد قامت عليه الحجة] إن كان على وجه يمكن معه العلم، ولا يشترط في قيام الحجة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان والقبول والانقياد لما جاء به الرسول،   1 في ط الرياض: "هي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 فإن فهم الحجة نوع آخر غير قيامها، قال الله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان:44] . وقال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [سورة البقرة: 7] . وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} الآية [سورة الكهف: 103-104-105] . وأما قوله: (فالذي يؤمن بالله ورسوله، فإن الله قد يغفر له برحمته بعض الذنوب القولية والعملية) . فأقول: هذا حق، وذلك فيمن أتى ذنباً لا يخرجه من الملة، أو كان ذلك القول أو الفعل مما ليس بضروري في الدين، كما تقدم بيانه، وأما من أشرك بالله في عبادته، فقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء: 48 و 116] فأما من أتى بالشرك الأكبر، فالله قد حرم عليه الجنة، ومأواه النار، وإن زعم أنه مؤمن بالله ورسوله، وتلفظ بالشهادتين، فإن هذا لا ينفعه مع فعل الشرك المخرج من الملة، كدعائه غير الله، واستغاثته بمن سواه، والالتجاء إليه، وطلب الحوائج من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 الولائج، فإن هذا مناف لشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. وما نزل من الآيات في الوعيد على من اقترف ذنباً لا يخرجه من الإسلام، فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه. ولا يكفر بهذه الذنوب إلا الخوارج. وأما قوله: (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "مدارج السالكين" ما ملخصه: إن أهل السنة متفقون على أن الشخص الواحد قد يكون فيه ولاية لله تعالى وعداوة من وجهين مختلفين، وقد يكون فيه إيمان ونفاق، وإيمان وكفر، ويكون أحدهما إليه أقرب من الآخر، فيكون من أهله، قال الله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [سورة آل عمران: 167] ) . فأقول: هذا حق، فقد يكون الشخص فيه ولاية لله تعالى وعداوة، وذلك كمثل الصحابي الذي كان يكثر من شرب الخمر، فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله" وكذلك من كان فيه خصلة من النفاق كمن إذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وكذلك الكفر مع الإيمان، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، "من حلف بغير الله فقد كفر"، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تخرج من الملة، من الأقوال والأعمال. وبالجملة؛ فالقلب الذي لم يتمكن منه الإيمان، ولم يزهر فيه سراجه، حيث لم يتجرد للحق المحض الذي بعث الله به رسوله، بل فيه مادتان، مادة منه، ومادة من خلافه، فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان، وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر، والحكم للغالب، وإليه يرجع، فهذا وأمثاله لا يدخل في مسألة من صرف لغير الله نوعاً من العبادة، فإنا قد بينا فيما تقدم الأدلة على كفره من الكتاب والسنة، وأقوال العلماء، فالمغالطة بإدخال هذه الأمور في مسألة عبادة غيره الله سفسطة، وتمويه، ومزج للحق بالباطل، فسحقاً وبعداً للقوم الظالمين. وأما قول العراقي: (أما الحلف بغير الله فلا يخرج مرتكبه عن الإسلام ... إلى آخر كلامه) . فأقول: قد كان من المعلوم أن مجرد الحلف بغير الله لا يخرج من الملة، ومن زعم أنا نكفر بهذه الأشياء كفراً مخرجاً عن الملة فهو من أكذب خلق الله، وأجرأهم على الفرية، وقول الزور. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 عظم مخلوقاً بالحلف تعظيماً كتعظيم الله، فقد أشرك شركاً أكبر. وقال لما عد من هذه الألفاظ ونحوها في شرح "المدارج": وقد يكون ذلك شركاً أكبر بحسب ما قام بقلب فاعله. وحديث ابن عمر صريح في إطلاق الكفر والشرك بالحلف بغير الله. فمن منع الإطلاق فهو مشاق لله ولرسوله، ولكن ساق البخاري في "صحيحه" قول ابن عباس: كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم. وأما قوله: (من حلف بغير الله فقد كفر. فقد حمله أئمة الحديث من شافعية وحنفية وحنابلة ومالكية على أن المقصود به: كفر النعمة) . فأقول: هذا الحمل ضعيف جداً، إذ ما من معصية وذنب يفعله المكلف المختار إلا وفيه من كفر النعمة بحسبه. والشكر هو استعمال النعمة في طاعة معطيها ومسديها، مع محبته، والرضا عنه، والثناء بها عليه، والشكر ضد الكفر، فمن أخل بشيء من الشكر ففيه من كفر النعمة بحسب ذلك، فتحصل أن كفر النعمة لا يختص بما أطلق عليه الشارع الكفر من الأفعال، فلا بد للنص من معنى يخصه، وحكمة في تخصيص بعض الأفراد، وهذا معلوم بالشرع والفطرة، إذ تخصيص بعض أفراد الجنس من غير مخصص يقتضي ذلك تحكم محض، وترجيح بلا مرجح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 وأما قوله: (حتى إن أصحاب الشافعي قالوا بأنه مكروه تنزيهاً لا تحريماً. فالحلف الذي قد اختلف فيه العلماء أنه مكروه أو حرام لا يجوز أن يقال في مرتكبه: إنه كافر خارج عن الملة) . فأقول: أما كونه مكروهاً كراهة تنزيه لا كراهة تحريم فهذا مما لا دليل عليه من الكتاب والسنة، بل هو عرف حادث، والكراهة في عرف الكتاب والسنة وقدماء العلماء، تطلق على التحريم، قال الله تعالى بعد ذكر المحرمات {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [سورة الإسراء:38] وكما في الحديث: "ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" 1 فلا عبرة بخلاف من خالف ما يقتضيه الكتاب والسنة بالإصطلاح الحادث، وأما دعوى أن ذلك يخرج عن الملة، فقد بينا أنه من الكذب والبهتان.   1 أخرجاه في الصحيحين. وقد تقدم في الرسالة السادسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 فصل في النذر لغير الله ... فصل ثم قال العراقي: (وأما النذر لغير الله فقد صرح الشيخ تقي الدين ابن تيمية وابن القيم -وهما من أعظم من شدد فيه- بعدم جوازه، وكونه معصية، لا أنه كفر وشرك مخرج عن الإسلام، فلا يجوز الوفاء به، ولو تصدق بما نذر من ذلك على من يستحقه من الفقراء كان خيراً له عند الله، فلو كان الناذر لغير الله كافراً لما أمراه بالصدقة، لأن الصدقة لا تقبل من الكافر، بل أمراه بتجديد إسلامه) . والجواب أن نقول: قد أجاب على هذه الشبهة شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في رده شبهات داود بن جرجيس، فقال رحمه الله: ليس في كلام الشيخ وكلام ابن القيم ما يدل على أن النذر -الواقع من عباد القبور- لمن يدعونه ويقصدونه لحوائجهم وإغاثتهم في الشدائد- ليس بشرك، بل كلام الشيخ وابن القيم صريح في أنه نذر معصية، وإشراك بالله تعالى، فكيف يسوقه وقد عده ابن القيم من أنواع الشرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 الأكبر، وقرنه بالتوكل على غير الله، والعمل لغيره، والإنابة والخضوع، والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره، وقد تقدم ذلك فراجع كلامه في موضعه تعرف كذب هذا العراقي على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أولي العلم من خلقه، فرحم الله امرأ نظر لنفسه قبل أن تزل قدمه، ويحال بينه وبين العمل. وكذلك الشيخ صرح بأنه معصية، والمعصية تصدق بالشرك وغيره من الكبائر إذا أطلقت. واستدلال المعترض بأنه لم يقل: هذا النذر كفر مخرج عن الملة. فإطلاق المعصية كاف في المقصود. وأيضاً فالكفر إنما يطلق بعد قيام الحجة. وقول العراقي: (فكيف يكفر من نذر لأحد الأنبياء وقصده لوجه الله) . ففي هذه العبارة شيئان: الأول: استبعاده تكفير من نذر للأنبياء، وجعله ذلك دون النذر للشجرة والبقعة، مع أن الفتنة بقبور المعظمين أشد محنة من الشجر والبقاع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1، فالشرك بالأنبياء والصالحين أخوف وأعظم فتنة، كما هو معروف.   1 أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" –كتاب قصر الصلاة في السفر- باب جامع الصلاة 1/172 عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره. قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث اهـ. وقد ورد موصولاً من غير طريق مالك. فأخرجه أحمد في "المسند" 2/246، ثنا سفيان عن حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثناً. لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 والثاني: إضافة النذر لأحد الأنبياء، وقوله بعده: (وقصده لوجه الله) . فإذا كان النذر نفسه للأنبياء والصالحين بطل قوله: (وقصده لوجه الله) ، وإنما يكون ذلك نذراً لله وحده، وجعل الثواب لمن شاء من عباده. ومسألة إهداء ثواب القرب إلى الأنبياء لا يخفى ما فيها من القول بالمنع على من له أدنى ممارسة. والقصد هنا بينا تناقض العراقي، وأن كلامه يدفع بعضه بعضاً، وقوله: (فإن ذلك لايضر بالاتفاق) كذب ظاهر، فإن قول الشيخين إنه يصرف إلى الفقراء دليل على أنه يضر إذا صدر منه لغير الله، وأنه مأمور بالتوبة، وصرف ذلك إلى الجهة المشروعة. وقد صرف النبي صلى الله عليه وسلم مال اللات في الجهاد، والمصارف الشرعية التي يستعان بها على عبادة الله وحده لا شريك له، والاستدلال بصرفها في ذلك المصرف الشرعي على أنها شرك وضلال، أوجه من الاستدلال بذلك على أن النذر للأصنام ونحوها ليس بشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 وأما قوله: (فول كان الناذر كافراً عندهما لم يأمراه بالصدقة، فإن الصدقة لا تقبل من الكافر) . فالجواب من وجوه: الأول: أنه إذا أقلع عن الذنب وصرف المال في مصرفه الشرعي، فهذا رجوع عما كان عليه وتوبة منه. الثاني: أنه لا يقال بالكفر مطلقاً لكل ناذر لغير الله حتى تقوم الحجة الرسالية، وأما ما نقله عن ابن القيم فقد صرح فيه بأنه نذر معصية وإشراك. وشبهة هذا العراقي أنه لو كان شركاً مخرجاً عن الملة لما جاز صرفه للفقراء. فالعراقي لم يفرق بين النذر والمنذور، فكون النذر شركاً لا يمنع الانتفاع بالمنذور في الجهة الشرعية، كما تقدم من فعله صلى الله عليه وسلم بمال اللات. الوجه الثالث: أن الذي يصرفه في المصارف الشرعية، ولاة الأمر، وأهل العلم، وليس المقصود أن يصرفه الناذر نفسه، فإن هذا لا يعتبر، بل يرد إلى المشروع قسراً، ويعامل بنقيض قصده. وكلام الشيخ وأمثاله من أهل العلم ليس حجة مستقلة، بل الحجة فيما يساق من الأدلة. وقد تقدم أن القصد هنا بيان جهله بكلام الشيخ، والكشف عن تحريف هذا العراقي لما نقله عن الشيخين، وإلا فالمرجع إلى أدلة الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 والسنة، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] ، وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7] فوصف خواص عباده بالوفاء والنذر، وأثنى عليهم بذلك، وفي الآية الأخرى الوعد بالإثابة والجزاء، فثبت أنه عبادة يحبها الرب ويرضاها -أي الوفاء به- وما كان كذلك فيجب إخلاصه لله، لأن صرف العبادة لغير الله شرك. وفي حديث علي: "لعن الله من ذبح لغير الله" 1، وهذا العراقي وأمثاله من القبوريين دفعوا في صدر النصوص بشبهات وهذيان لا يصدر عمن يعقل ما يقول. وفي آخر العبارة التي نقلها العراقي عن شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الحكم عام في قبر نفيسة، ومن هو أكبر من نفيسة، من الصحابة، مثل قبر طلحة والزبير، وغيرهما بالبصرة، وفي سلمان وغيره بالعراق. قلت: وفيها بيان تدليس العراقي، وأنه أسقطها ليروج قوله: (فكيف يكفر من نذر لأحد الأنبياء والصالحين) إلى أن قال الشيخ: (فيعتقدون أنها باب الحوائج إلى الله، وأنها تكشف الضر، أو تفتح الرزق، أو تحفظ مصر، فإن هذا كافر مشرك،   1 أخرجه مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب 3/1567. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 يجب قتله، وكذلك من اعتقد ذلك في غيرها كائناً من كان {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء:56] . {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22-23] ، والقرآن من أوله إلى آخره، بل وجميع الكتب والرسل إنما بعثوا بأن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن لا يجعل مع الله إلهاً آخر. والإله من يألهه القلب عبادة واستعانة وإجلالاً وإكرماً، وخوفاً ورجاء، كما هو حال المشركين في آلهتهم. وإن اعتقد المشرك أن ما يألهه مخلوق ومصنوع، كما كان المشركون يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"1 وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين الخزاعي: "يا حصين كم تعبد؟ " قال: أعبد سبعة آلهة، سنة في الأرض وواحد في السماء، قال: "فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ " قال: الذي في السماء، قال: يا حصين فأسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، فلما أسلم قال: "قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي" 2 والله أعلم انتهى.   1 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه. 2 أخرجه الترمذي في "سننه" كتاب الدعوات 5/519 من طريق أبي معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن البصري عن عمران بن حصين ... الحديث. وقال عقبه: هذا حديث غريب. وقد ورى هذا الحديث عن عمران بن حصين من غير هذا الوجه اهـ. وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير من هذا الطريق أيضاً، واختصر المتن 3/3. وأخرجه أحمد في المسند 4/444 من طريق منصور عن ربعي بن حراش عن عمران بن حصين أو غيره ... الحديث، وليس فيه سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه زيادة في الدعاء الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم له. وأخرجه الحاكم في هذا الطريق أيضاً، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي. المستدرك 1/510. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 قلت: فانظر إلى تصريح الشيه أن من اعتقد في مخلوق أنه باب الحوائج إلى الله -يعني واسطة في الحوائج- أو أنه يكشف الضر، أو يفتح الرزق، أو يحفظ مصر: أنه كافر مشرك، يجب قتله، وهذا بعينه معتقد عباد القبور والناذرين للموتى، المستغيثين بهم، وهو طريقة العراقي، ومذهبه الذي نصره، وقرره واستظهره، وزعم أنه لا يضر إلا إذا اعتقد الاستقلال لغير الله، كما مر عنه في غير موضع، وسيأتيك هذا القيد فيما يأتي من كلامه في مواضع متعددة. والشيخ قد رد عليه في هذا، وأبطل هذا الشرط بقوله: وإن اعتقد المشرك أن ما يألهه مخلوق مصنوع -وساق ما يقوله المشركون في تلبيتهم، وساق حديث حصين- وهذا لأن الآيات القرآنية دالة على تكفير هذا النوع -أعني من اتخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 الشفعاء والوسائط، وقصدهم في حاجاته وملماته كما كان يفعله المشركون مع آلهتهم- فكل هذا أعمى الله بصيرة العراقي عنه {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] . قال الشيخ صنع الله الحلبي نزيل مكة: وأما كونهم جوزوا الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور، فيقال: هذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان وفلان فهو لغير الله، فيكون باطلاً، وفي التنزيل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] ، والحديث: "لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله" متفق عليه1. وورد: أن من حلف بغير الله فقد أشرك2. رواه الحاكم وغيره. ونحو النذر لغير الله الذبح، وفي التنزيل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، أي إن صلاتي وذبحي لله كما به نظير قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} الآية [الكوثر:2] ، وفي الحديث: "لا نذر في معصية الله "3 رواه أبو داود وغيره.   1 هكذا نسبه الشيخ صنع الله رحمه الله إلى الصحيحين. وقد أورده ابن الأثير في جامع الأصول 11/550 ونسبه إلى أبي داود 2/642 من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ونسبه أيضاً صاحب المعجم المفهرس 6/404 إلى أحمد 2/185 وأبي داود. والله تعالى أعلم. 2 تقدم الكلام عليها في الرسالة السادسة. 3 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه 3/1263 عن عمران بن حصين بلفظ: "لا نذر في معصية الله"، وفي لفظ: "لا وفاء لنذر في معصيته". وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة مرفوعاً: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 والنذر لغير الله إشراك مع الله فلا أكبر من معصيته، وفي التنزيل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [المائدة: 3] فالنذر لغير الله كالذبح لغيره. وقال الفقهاء: خمسة لغير الله شرك: الركوع والسجود، والذبح والنذر واليمين. ومن ذكر غير اسم الله على ذبيحته فهي ميتة يحرم أكلها. ولو أشرك مع اسمه أحداً، كقوله: باسم الله ومحمد صلى الله عليه وسلم -بواو العطف، فكذا تحرم ذبيحته، وكذا لو ترك اسم الله عمداً على الذبيحة، لا تؤكل عندنا، فهي ميتة بصريح قوله جل ذكره: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، فترك المؤمن ذكر الله عمداً كذكر غيره. نعم لو قال: هذا النذر لله يذبح في مكان كذا، ويصرف على جماعة فلان، أو على رباط فلان، فلا بأس به، كما في الوقف على فلان وفلان، فإن قوله: لله، ملك له، وتصرف غلته على من عينه الواقف، وكذا هنا. والحاصل أن النذر لغير الله فجور، فمن أين لهم الأجور؟ وكذا الذبائح، ومن قال: إن هذا النذر لفلان، وهذه الذبيحة لفلان، فهو من العصيان، ومن نذر لله ذبحاً أو غيره، وقال: يذبح بمكان كذا، ويأكله قوم جاز، والله الهادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 قلت: وإذا نذر لله وجعل مصرفه على السدنة والمجاورين عند القبور فهو نذر معصية لا يجوز، ويجب صرفه في القرب الشرعية كالحجاج والمعتكفين في المساجد، وقد ذكر هذا غير واحد، والمنع منه لما فيه من الإعانة على العكوف عند القبور الذي هو من أكبر الوسائل والذرائع إلى عبادتها أو دعائها قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وفي الحديث: أن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً ببوانة قبل إسلامه، فلما أسلم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نذره، فقال: "هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية؟ " قال: لا، قال: "هل كان بها عيد من أعياد الجاهلية؟ " قال: لا، قال: "فأوف بنذرك" 1، ففيه المنع من عبادة الله في أماكن الشرك، وعبادة غيره للمشابهة الصورية، وإن لم تقصد فكيف بالذرائع والوسائل القريبة المفضية إلى   1 رواه أبو داود في سننه –كتاب الأيمان والنذور- 3/607 من جهة يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " قالوا: لا. قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم". قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 4/198: "بسند صحيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 عين الشرك، ونفس المحذور الأكبر، فقف وتأمل إن كان لك بصيرة تدرك بها أسرار الشريعة. انتهى. وأما قوله: (وأما الذبح فقد ذكره ابن القيم في المحرمات لا في المكفرات إلا إذا ذبح لما عبد من دون الله، وكذلك أهل العلم ذكروا أنه مما أهل به لغير الله ولم يكفروا صاحبه) . فالجواب أن نقول: أما ذكره في كتاب الكبائر من الذبح لغير الله، وجعله من المحرم فنعم هو محرم قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا -إلى قوله- لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151-153] . فجعل هذا محرماً، هذا عرف القرآن والسنة والشرع، والعراقي لجهله وسوء قصده، يحمل كلام أهل العلم على العرف النبطي الحادث واصطلاح العامة فقاتل الله الجهل والهوى، فما أغلظهما حجاباً بين العبد والهدى. قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم: "وأيضاً فإن قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ظاهره ما ذبح لغير الله سواء لفظ فيه به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم، وقال فيه باسم المسيح، ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه لحرم، ولو قال فيه: بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن" انتهى كلام الشيخ. فأخذ هؤلاء المعترضون السطر الأخير من كلامه أو بعض السطر، وأخذ المشبه وترك المشبه به، لأن في الأول التصريح بردة من ذبح لغير الله، وأن الذبح للجن مانع آخر، لأنه مما أهل به لغير الله، وقوله في العبارة فإن: (عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة بغير الله) فتركوا هذا، وسرقوا بعض العبارة، واختلسوا منها كاختلاس الشيطان من صلاة العبد واختطافة بعضها. وفي العبارة التصريخ بكفر من استعان بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، خلافاً للعراقي وشيعته من عباد القبور، الصادين عن سبيل الله، المحرفين للكلم عن مواضعه، الوارثين لليهود في تحريف كلمات الله، وتبديل دينه. وقال صاحب "الروض" من كتب الشافعية: (إذا ذبح المسلم للنبي صلى الله عليه وسلم كفر) نقله شيخنا رحمه الله وذكره غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 واحد من المفسرين في الكلام على قوله: (وما أهل لغير الله به) . ونقل بعضهم عن فقهاء بخارى أنهم أفتوا بتحريم ما عقر بين يدي الملوك، تعظيماً لهم، لأنه مما أهل لغير الله به. قال العلامة الشوكاني: قال بعض أهل العلم: إن إراقة دماء الأنعام عبادة، لأنها إما هدي، أو أضحية، أو نسك، وكذلك ما يذبح للبيع، لأنه مكسب حلال، فإنه عبادة، ويتحصل من ذلك شكل وضعي هو إراقة دم الأنعام عبادة، وكل عبادة لا تكون إلا لله، فإراقة دم الأنعام لا تكون إلا لله، ودليل الكبرى قوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] ، {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56] . {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] انتهى. ويكفي المؤمن في هذا الباب قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163] وقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:1-2] ، وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 37] فإن الإحسان أعلى مراتب الإيمان، ودخول هذه العبادة فيه لأن السياق لها ظاهر لا يخفى. وفي المسند عن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب" قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب إليه شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب، قال: ما عندي شيء أقربه، قالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً، فخلوا سبيله، فدخل النار، فقالوا للآخر: قرب، قال: ما كنت لأقرب لأحد دون الله عز وجل، فضربوا عنقه، فدخل الجنة" 1.   1 كذا نسب الإمام العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى هذا الحديث إلى المسند. وقد عزا هذا الحديث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى إلى الإمام أحمد، ولم ينسبه إلى "المسند" أو غيره. قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهم الله في التيسير ص 194: هذا الحديث ذكره المصنف معزواً لأحمد، وأظنه تبع ابن القيم في عزوه لأحمد. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاية، حدثنا الأعمش، عن سليمان بن ميسرة، عن طارق بن شهاب يرفعه، قال: "دخل رجل الجنة في ذباب" الحديث. وقد طالعت "المسند" فما رأيته فيه، فلعل الإمام أحمد رواه في "كتاب الزهد" أو غيره اهـ. قلت: هو في "الزهد" للإمام أحمد ص 15-16 عن طارق بن شهاب عن سلمان الفارسي –موقوفاً-. وكذا رواه أبو نعيم في "الحلية" 1/203 من هذا الطريق. ثم قال: رواه جرير عن منصور عن المنهال بن عمرو عن حيان بن مرثد عن سلمان ... نحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 وقف عند هذا، وتأمل حكمة الشريعة وسرها في إخلاص العبادة والتعظيم الذي لا ينبغي إلا لله، ولو بأحقر شيء، كالذباب، فكيف بكرائم الأموال، والله المستعان. انتهى. ثم إن من العجب استدلال هذا الملحد بكلام ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا الموضع وفي غيره مما تقدم. وهذا الملحد قد ذكر فيما تقدم من قوله: (والوهابية قد خبطت كل الخبط في تنزيهه تعالى، وحيث أبت إلا جعل استوائه سبحانه ثبوتاً على عرشه، واستقراراً وعلواً فوقه، وأثبتت له الوجه واليدين، وبعضته سبحانه، فجعلته ماسكاً بالسموات على أصبع، والأرض على أصبع والشجر على أصبع، والملك على أصبع، ثم أثبتت له الجهة، فقالت: هو فوق السموات، ثابت على العرش، يشار إليه بالأصابع إلى فوق إشارة حسية، وينزل إلى السماء الدنيا ويصعد) . وقد علمت أن نفي هذا وجحده هو مذهب الجهمية، وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البدان واللالكائي الإمام حكاه عنهم ... بل قد حكاه قبله الطبراني فذكر رحمه الله كفرهم عن خمسمائة عالم. وقال شيخ الإسلام لما ذكر أهل الأهواء: قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فطائفة هذا الملحد عن شيخ الإسلام وابن القيم، هم من أكفر خلق الله، وأبعدهم عن سواء السبيل. قال ابن القيم رحمه الله في "الجواب الشافي": الشرك شركان، شرك يتعلق بذات المعبود، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، والشرك الأول نوعان: أحدهما شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: (وما رب العالمين) ، وقال تعالى مخبراً عنه: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36-37] فالشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل، وكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وصفاته، ولكن عطل حق التوحيد. وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها: هو التعطيل، وهو ثلاثة أقسام: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه. وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله. وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد. والمقصود أن هذا العراقي اجتمع فيه من الكفر تعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس، بتعطيل أسمائه وصفاته، فزعم أن الله تعالى ليس على السموات على عرشه، ولا هو فوقه، ولا يشار إليه إلى فوق، بل زعم أن ما ورد من الإشارة إليه في السماء محمول على أنه تعالى خالق السماء، وأن السماء مظهر قدرته، وأنكر عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء حين أسري به، فقال: (وكذلك العروج إليه تعالى هو بمعنى العروج إلى موضع بتقرب إليه بالطاعات) وأنكر رؤية الله تعالى في الآخرة، وأنكر أحاديث النزول، وذكر أن من قال إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل آخر ليلة، فقد زعم أن الله جسم، وأن الله منزه عن ذلك، فعطل الله من أوصافه وأفعاله المقدسة، وأضاف إلى هذا الكفر الشرك في معاملته سبحانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 بإجازته الاستغاثة بغير الله، والاستشفاع به، والإلتجاء إليه، وأن النذر والذبح لغير الله ليس بشرك إذا اعتقد أن الله هو الخالق المنفرد بالإيجاد، وأنه هو المؤثر لا غيره، ومع هذا كله يستدل بكلام شيخ الإسلام وابن القيم، وهما يكفرانه، وهو يعلم ذلك، ولكنه أراد التلبيس على خفافيش الأبصار أن شيخ الإسلام وابن القيم لا يكفران من نذر لغير الله، أو ذبح لغير الله. والمقصود بيان ضلاله، وخروجه عن الصراط المستقيم، واتباعه غير سبيل المؤمنين، وأنه ممن نكب عن الصراط المستقيم، ودخل في جملة أصحاب الجحيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 فصل في بيان الركوب إلى النصارى واتخاذهم أولياء ... فصل ثم اعلم أيها الواقف على هذا الكتاب، والناظر في هذا الجواب، أنا قد حررنا فيما مضى شيئاً يسيراً على ما افتراه هذا العراقي على الوهابية، من الكذب والزور، والإفك والفجور، بزعمه أنهم نزعوا إلى الدولة الأجنبية -يعني الإنكليز النصارى- وأنهم استعانوا بهم، كما ذكره في مقدمة رسالته. وفي آخرها قال: (فتراها تكفر من يتوسل إلى الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم، ويستعين باستشفاعه إلى الله تعالى على قضاء حوائجه، وهي لا تخجل إذ تستعين بدولة الكفر على قضاء حاجتها التي هي قهر المسلمين وحربهم، وشق عصاهم، والمروق عن طاعة أمير المؤمنين الذي أمر الله تعالى في كتابه المبين بلزوم طاعته -كما بسطناه في مقدمات الرسالة- وتتخذ أعداء الدين أولياء، تستمد منهم في إحضار القوى التي تسعى بها إلى الفساد، وتلج بها في الغواية والعناد، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 51] سحقاً للوهابية، إنها لا تدري أن أولئك الأولياء الذين تتخذهم ذريعة لقهر المسلمين -إذا ثبت قدمهم- فإنهم يقهرونها، ويهتضمونها أيضاً مع من تعده خصماً مخالفاً لمذهبها) . هذا قول الملحد بحروفه. وجميع ما ذكره من الكذب الفاضح، والإفك الواضح على الوهابية، بل هؤلاء الذي يزعم أنهم المسلمون قد ظهر مكنون ما لديهم ومحصول ما انطوت عليه ضمائرهم، من الميل إلى أعداء الله، وأعداء رسوله ودينه، وهذا الملحد المفتري من جملتهم، ومن أنصارهم وأعوانهم، فإنه قد كذب على الوهابية، ورماهم بما هو وحزبه أهله لا أهل الإسلام، فقد أكذبه الله ونكسه على رأسه، وعاد فجوره عليه، وعلى من قام في نصرته، بما أظهروه واجتمعوا عليه من الدستور، وما أعلنوه من الكفر والفجور "سنة1326" لست وعشرين بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة النبوية، فصرحوا فيه أنها عيسوية، موسوية عثمانية عربية، وأن كل هذه الطوائف المتباينة في أديانها تكون إخواناً، وأنها تجتمع على حرب من خرج عن حكم هذا الدستور، ونصبوا في كل الأماكن من ديارهم مدارس يعلمون الناس دين النصرانية، وجعلوا قاضياً عاماً من الإنكليز الكفار يحكم بين الناس، لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 بزعمهم أعلم بالسياسات، يكون ذلك القاضي بمصر، فتبين بهذا أنهم هم الذين نزعوا إليهم، واتخذوا أعداء الدين أولياء وإخواناً، وأنهم هم الذين سعوا بهذا إلى الفساد، وولجوا به في الغواية والعناد. قال الله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ. وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} الآية [المائدة: 80-81] . وأنهم هم الذين مرقوا عن طاعة أميرهم وسلطانهم، حتى عزلوه، وجعلوا الأمر شورى بين من نزع إلى أعداء الله ورسوله، واتخذوهم أولياء، وجعلوهم إخواناً وأخداناً، فما حكم به هذا الملحد في مقدمات رسالته من مروق الوهابية بزعمه، عاد عليه وعلى إخوانه. فهلا نصح هذا العراقي نفسه، ورجع إليها باللوم والعتاب، وترك أهل الإسلام المتمسكين بحكم السنة والكتاب، الذين باينوا أعداء الله ورسوله من جميع الطوائف، ولم يدخلوا تحت أوامرهم، ولا أخذوا بقوانينهم، ولم ينبذوا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، كما فعله أعداء الله ورسوله. وقد كان من المعلوم والمتقرر المفهوم أن ما حكاه عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 الوهابية من نزوعهم إلى الدولة الأجنبية أنه من الكذب الظاهر، وأنه هو وأشياعه هم الذين نزعوا إليهم، وحكموا قوانينهم، فبعداً للقوم الظالمين. وهذا كتاب الله ينادي بكفر من اتخذهم أولياء، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية [المائدة:51] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 57-58] إلى غير ذلك من الآيات، وهذا لا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل ودين، وقد وضح الحق واستبان، وما بعد الحق إلا الضلال. والحمد لله الذي هدانا لدين الإسلام، وجنبنا طريق هؤلاء الجهلة الطغام، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله سيد المرسلين، وإمام المتقين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 وقائد الغر المحجلين، محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وقد قرظ على جواب "جميل" رجل يقال له: "عبد الصمد بن أحمد النساك" وهذا جواب على تقريظه، ومن الله أستمد الصواب: ألا قل لأهل الجهل من كل مازق ... وكل كفور من ذوي الغي مارق كلام جميل لا جميل فينتقى ... ولا بسديد يرتضى في الحقائق على أنه همط وخرط ملفق ... أكاذيب لا تعزى إلى نقل صادق أتى فيه بالكفر الصريح مجاهراً ... ومرتضياً ما قد أتى من شقائق لعمري لقد أوهى به مهيع الهدى ... وأعلى به سبل الردي بالمخارق وهدّ به ركناً من الدين شامخاً ... وشاد من الكفران أخنع زاهق كتاب حوى إفكاً وزوراً ومنكراً ... وكفراً وتعطيلاً لرب الخلائق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 فعطل أوصاف الكمال لربنا ... وعن كونه من فوق سبع الطرائق وأنكر معراج الرسول حقيقة ... بذات رسول الله سحقاً لمارق وأوله تأويل من ليس مؤمناً ... بمن جاء بالوحيين أصدق صادق وأنكر رؤيا المؤمنين لربهم ... فتباً له تبا وسحقاً لمازق وسمى كتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله أزكى الخلائق ظواهر لا تبدي يقيناً لأنها ... على زعمه ظنية في الحقائق فلا يستفيد المؤمنون بها الهدى ... ولكن بمعقولات أهل الشقاشق فإن خالفت معقول من أسسوا لهم ... قواعد كفر شامخات الشواهق فحق على كل امريء بل وواجب ... تأول عن مدلولها بالمخارق وتصرف للمرجوح عن حكم راجح ... لأجل مقالات الغواة الموارق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 وإلا فبالتفويض حتماً لديهموا ... إذا لم تأول في خلاف الحقائق وتفويضهم إبطالهم عن حقائق ... تدل عليها بالمعاني الشقاشق فلا عالماً بالعلم فيما لديهموا ... ولا راحماً ذو رحمة بالخلائق ولا قادراً ذو قدرة فصفاته ... تأول عن وصف لها بالحقائق فليست معانيها بأسماء ربنا ... بمشتقة ذا قول كل مشاقق وقدم حكم العقل حتماً بزعمه ... على النقل فيما قد رأى كل مارق لأن لديهم إنما العقل أصله ... وهذا افتراء من جهول ممازق فتباً لمن يبدي ثناء ومدحة ... لتأليفه أو ما حوى من شقاشق فما كان فجراً صادقاً1 في ظهوره ... ولكنه فجران يبدو لرامق   1 يعني رسالة جميل المردود عليها بهذا الكتاب المسماة: (الفجر الصادق) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 ووالله ما أبدى صواباً ولم يكن ... على المنهج الأسنى وليس برائق وليس يروق الكفر إلا لزائغ ... عن الحق أو مستغرق بالعوائق وجوز أن يدعى سوى الله بالرجا ... وبالخوف والتعظيم فعل المشاقق وأن يستغيث المشركون بغيره ... وأن يلجئوا في كل خطب مضايق فتباً لعباد القبور الذين هم ... حماة ذوي الأهواء من كل مارق فقد نبذوا الوحيين خلف ظهورهم ... وقد حكموا القانون بين الخلائق وقد أحكموا عقد الأخوة بينهم ... وبين النصارى واليهود الموارق وقد أحكم الله العداوة بيننا ... وبين ذوي الكفران أهل الشقاشق وآراؤهم لم تقضِ إلى أخوة ... وصلحاً وتوفيقاً بمحض التطابق وعابوا علينا باتباع نبينا ... وقد تبعوا أحكام كل منافق وقد زعموا أنا وهم أهل خلة ... لأهل الكتاب المارقين السوابق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 ونحن براء من ذوي الكفر جملة ... فلسنا وإياهم بحكم التوافق ونحن على دين النبي محمد ... ونكفر بالطاغوت دين المشاقق ونرمي عداء الدين من كل مارق ... وكل جهول ماذق بالجلاهق ودونك من هذا الضياء شوارقا ... توضح منهاجاً لأهدى الطرائق وتنشر أعلام الهدى مستنيرة ... وتمحق أهل الكفر من كل مارق وتصعقهم صعقاً فينثل عرشهم ... وتهدم من أركانهم كل شاهق وذاك بقال الله قال رسوله ... وما قاله الأصحاب أهل السوابق وأتباعهم والتابعون ومن على ... طريقتهم من كل حبر موافق وصل على المعصوم ربي وآله ... وأصحابه أهل النهى والحقائق وتابعهم والتابعين لنهجهم ... على السنن المحمود من كل لاحق تم بحمد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 قال محققه -عفا الله عنه: تم تصحيح هذا الكتاب، والتعليق عليه، قدر الجهد والطاقة في يوم الأربعاء الموافق 24/4/ 1410هـ، والحمد لله الذي نعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 تقريظ الشيخ محمد بن حسين الأنصاري طائر السعد بالتهاني أتاني ... بسرور مبشراً بالأماني أن بدا طالع الزمان بحبر ... ثابت الجأش ماله من ثاني بعلوم بها لقد أفحم الخصـ ... ـم وفيه قد قام بالبرهان أعنى حبر الأنام قدوة نجد ... ذا سليمان عالي البنيان فسليمان جل قدراً وفضلاً ... وعلوماً تسمو مدى الملوان سالم العرض والشمائل والأخـ ... ـلاق مما يشين في كل آن قامع الملحدين منه بوعظ ... وبكتب تخال مثل السنان بلسان كوابل الغيث في السـ ... ـلم وسيف في حلبة الميدان يفحم الخصم بالدليل وإلا ... فبعضب يرى كسيف يماني يطلب الحق والرشاد إلى الحـ ... ـق له ديدن على كل شاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 دام في العز والسعادة والمجـ ... ـد بنصر وخصمه في الهوان في أمان الإله يرعى ويحظى ... بالذي يرتجى ونيل الأماني مع عبد العزيز آل سعود ... نجل عبد الرحمن فخر الزمان جاهداً في الإله حق جهاد ... بسنان وساعد وجنان شاهر السيف والسنان على من ... قد غدا ملحداً وذا عدوان ناصر الدين تابع الحق أضحى ... ثابت الجأش كامل الإيمان دام يرقى إلى المعالي بسعد ... وبنصر علا على رغم شاني قامع الابتداع من كل قطر ... مفحم القرن قائم البرهان ما تغنت بلابل الأيك تشدو ... وتلتها حمائم الأغصان أو حدا بالقريض نجل حسين ... بو خليل في الهند سيف يماني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690