الكتاب: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في مباحث العقيدة المؤلف: آمنة محمد نصير الناشر: دار الشروق- بيروت- لبنان الطبعة: الأولى، 1403هـ/ 1983م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في مباحث العقيدة آمنة محمد نصير الكتاب: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في مباحث العقيدة المؤلف: آمنة محمد نصير الناشر: دار الشروق- بيروت- لبنان الطبعة: الأولى، 1403هـ/ 1983م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في مباحث العقيدة تأليف: آمنة محمد نصير تقْديم لقد بدأت تجربتي في دراسة أعلام السلف منذ خمسة عشر عاماً عندما بدأت التفكير في إعداد الماجستير عقب الدراسات التمهيدية التي تسبق هذه الدرجة العلمية، ويومها أشار علي أستاذي الدكتور محمد رشاد سالم أستاذ الفلسفة الإسلامية بدراسة المتكلم والفقيه والواعظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي] 510هـ ـ 597 هـ م [وهو عقلية موسوعية تراني على حقول المعرفة الإسلامية بجدارة، استغرقت دراستي لابن الجوزي بضع سنوات كانت مثمرة والحمد لله. ثم بدأت التفكير في دراسة الدكتوراه وعشت في حيرة اختيار موضوع البحث كأي دارس ودراسة في هذه المرحلة ويومها فكرت في دراسة ابن عقيل الحنبلي وهو من أبرز شيوخ ابن الجوزي وقد تأثر به تأثرا كبيرا في كثير من آرائه. وفي هذه الآونة عرض علي العمل بالمملكة العربية السعودية لكي أحاضر في المواد الإسلامية في كلية التربية بالرياض ومن خلال تجربتي في التدريس واحتكاكي بالمناهج أحسست بأهمية الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب كصاحب منهج عملي وفكر سلفي عالج بهما كثيراً من الأمراض التي كانت منتشرة في الجزيرة العربية ـ بل وفي معظم العالم الإسلامي وأول هذه الأمراض التي قام بعلاجها تنزيه مفهوم التوحيد من جميع ألوان الشرك في عقائد الناس وسلوكهم. قطعت إعارتي وعدت إلى القاهرة لكي أتفرغ تماماً لدراسة الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 محمد بن عبد الوهاب في قالب علمي بعيد عن اتجاه الغالين أو القالين لدعوة الشيخ. وعرضت الموضوع على الأستاذ الدكتور أبو الوفا التفتازاني أستاذ الفلسفة الإسلامية ووكيل كلية الآداب/جامعة القاهرة فرحب به وحثني على المضي فيه وذلل الصعوبات التي اعترضت طريقي في وقتها. وكذلك كان تشجيع أستاذ الجيل الدكتور عبد العزيز السيد. وكان التشجيع الكبير من زوجي المستشار الدمرداش العقالي الذي حول تشجيعه إلى عمل متواصل في جمع كل ما يمكن جمعه من مادة ومراجع من مكتبات الرياض. وبدأت مشواري مع الشيخ الذي استغرق حوالي ثلاثة أعوام، كان لأستاذي المشرف الدكتور محمد عاطف العراقي أستاذ الفلسفة الإسلامية بآداب القاهرة عظيم الأثر في إنارة الطريق أمامي وحثني على إخراج هذه الدراسة في زمن وجيز. وتمت الدراسة بخير أحمد الله عليه وجاء دور طباعتها ومن منطلق شعوري بما أعطيت لهذه الدراسة من وقت وجهد جعلني أشعر بأهمية إخراجها للقارئ العربي في ثوبها العلمي الموضوعي المحايد والذي انتهيت فيه إلى أن الإمام الشيخ، في عالم المصلحين، عملاق ذو منهج فريد، وفي عالم البشر حسب قوله رحمه الله: " فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا "صلى الله عليه وسلم". وأقول إن كنت أصبت فهذا الذي أردت وهو من توفيق الله تعالى وتيسيره وإن تكن الأخرى فسوف أحظى بأجر إن شاء الله وحسبي خلوص النية لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم. د. آمنَة محمَّد نصْير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 تمهيد اكتمل تكريم الله للإنسان بالقران الكريم. وتمثل هذا التكرم في أنه جاء كتاباً يتلى، ليستخرج العقل الإنساني من عبودية التقليد إلى حرية التفكير. وليضع لهذه الحرية العقلية معالم تهدي المفكرين إلى سواء السبيل. معالم تهدي ركب الحياة في سيره الحثيث. ولكنها ليست قيوداً تشل الحياة وتورث الجمود. واهتدى السلف الصالح إلى منزلة التفكير كفريضة فأدوها، وإلى ضرورة المعالم والحدود التي وضعها العليم الخبير فانتهوا إليها ولم يضيعوها. فقدّموا للإنسانية حضارة فريدة تقدّر المقول وتحفظ المنقول. ثم خلف من بعدهم من توزعتهم أهواء الإفراط والتفريط حتى أضاعوا التوازن المعجز الذي جاء به الإسلام صيانة للعقل والنقل على السواء، فأخذوا عرض الكتاب وأهدروا غاياته! فريق استهواه بريق الفلسفة الأرسطية ذات الأقيسة الجدلية فآثر استخدام منطقها للدفاع عن عقيدة الإسلام، وفاته أن للعقيدة منطقها المستقل في البحث والاستدلال. فكان كمن قاتل معركة بغير سلاحها فأرهق نفسه وأرهق المثل التي يدافع عنها، وانتهى إلى أن أفرط في العقل حتى فرط في النقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وفريق استفزه منهج المسرفين في العقل على حساب النقل، فانقلب على عقبيه يرى صيانة المنقول في حجب العقل عن محاولة فهمه، وهو بهذا حرم نفسه نعمة التفكير الذي كرر القرآن التنويه به والحث عليه، كما حرم النصوص من التجدد على الأيام بسلامة التفكير وسداد التطبيق. وبفعل الفريقين بدأ الظلام يزحف على العالم الإسلامي رويداً رويداً حتى إذا ذهبت الحضارة الإسلامية بالغزو التتري البربري الذي أسقط بغداد عام 656 هـ توقفت المعارف واستحكم الجمود وساد التقليد. وتعاقبت القرون بالمسلمين ابتداء من القرن السابع الهجري في تخلف فكري متزايد. ولم تفلح الشموع التي أضاءها بعض العلماء المصلحين في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي في تبديد ظلامه. حتى إذا حل القرن الثاني عشر الهجري كان المسلمون قد هبطوا فكرياً إلى حد الإحتجاب الكامل عن حقائق الإسلام، وكلياته الأساسية في شتى مجالات العقدية بما ينبثق عنها من عبادات ومعاملات. وأصبح معوّل الناس في سائر هذه الأمور على تقليد آراء السابقين. ووصل جمود التقليد إلى حد تقديس المذاهب، كما لو كان المذهب ديناً مستقلا لا يجوز للمنتسب إليه الخروج عنه أو تقليد غيره في قليل أو كثير. وساد بين الخاصة والعامة وهم مفاده: غلق باب الاجتهاد. وبسيادة هذا الوهم فسدت العقائد وتلبس التوحيد بالشرك الخفي والجلي وكسدت بضاعة العلم والمعرفة لتروج الأساطير والخرافة، وتحلل الناس من تكاليف الشرع بشتى الحيل وتلاشت سنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولم يكن من سبيل إلى الإصلاح إلا بعلاج الداء من جذوره، دون الوقوف عند عرض من أعراضه. كان العلاج في تصحيح العقيدة بإعادة التوازن بين دور العقل وحجية النقل. ولا سبيل إلى ذلك إلا بفتح باب الاجتهاد. ولم يستطع أحد من رواد الفكر ـولم يخل منهم قرنـ أن ينهض بهذا العبء، حتى ظهر الشيخ "محمد بن عبد الوهاب" المولود عام 1115هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 كان تحديده لعلة الفكر الإسلامي تحديداً دقيقاً ومبكراً: إنه فساد العقيدة بغلبة الشرك على التوحيد. وجاء تعليله للعلة شاملاً: إنه قلة العلم بما كان عليه السلف والاستسلام للحواشي والأساطير التي رسخت مع الجمود والتقليد. وإن سبيل الخلاص من هذه الغاشية: تصحيح الاعتقاد وفق الكتاب والسنة، وتحرير العقل من خرافة التقليد لآراء الأولين. وأتبع العلم الذي يدعو إليه بالعمل الجاد الموافق لهذا العلم، فلم تلبث الدعوة أن أصبحت حركة، واستطاعت الحركة أن تقيم دولة ومن ثم وضعت منهج الشيخ موضع التطبيق. كان محمد بن عبد الوهاب أول داعية في القرون المتأخرة يتحقق لدعوته اجتياز سائر المراحل من الفكر النظري إلى التطبيق العملي. ومن أبرز المشاكل التي تعرض لها الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكانت موضع هجوم خصومه ورميه بأنه مبتدع وأحدث مذهباً خامساً وخالف إجماع المذاهب الأربعة وضعه مسألة التوسل والكرامة في ميزانها الشرعي الدقيق وعدم تركها لكل مدّعٍ ومبتدع. كما لعبت قضية التفكير دوراً بارزاً في حياة الدعوة ومسارها. ولكن رغم الخلافات الحادة التي ظهرت في حياة الدعوة ظهر فريق أنصف الدعوة واعتبرها بداية يقظة العالم الإسلامي في العصر الحديث. وقد استلفتت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنظار عدد من الباحثين الذين توفروا على دراسة آثارها من وجهة نظر التاريخ والحكم والسياسة، ولكن قل من الباحثين من توفر على دراسة جانب العقيدة في حركة الشيخ وهو الأساس فاستعنت الله تعالى أن يهيئ لي أسباب هذه الدراسة لما بدا لي من حاجة الفكر الفلسفي الإسلامي إلى استيعاب هذا الجانب من فكر محمد بن عبد الوهاب. موضوع الكتاب: وهو على ما يقرأ من عنوانه:"منهج ابن عبد الوهاب في مباحث العقيدة". بما يستلزمه من دراسة لمكونات هذا المنهج ومصادره ثم معالمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وخصائصه للتأدي من ذلك إلى كيفية أعماله لهذا المنهج في مباحث العقيدة وأثره. خطة البحث: عالجت هذا الموضوع في ستة أبواب: * تناولت في الباب الأول بحث المكونات الأساسية لفكره ومنهجه من خلال دراسة حياته ومؤلفاته وعصره وبيئته. * وفي الباب الثاني تعرفت على المعالم الرئيسية التي تبين لي أنها طابع فكره ومنهجه. * وفي الباب الثالث: عرضت لموقفه من الغيبيات. * وفي الباب الرابع: عرضت لصلة التصوف بالعقيدة بياناً لموقفه من المسألة في أهم جوانبها. * وفي الباب الخامس: درست نظرته إلى دورة العقدية في بناء الفرد من خلال الجماعة. * لأخلص في الباب السادس إلى دراسة أثره. * ثم خاتمة تضمنت أهم نتائج البحث. الباب الأول: حياته ومؤلفاته وعصره وبيئيته: وقد تناولت موضوعات هذا الباب في فصلين. خصصنا الفصل الأول لدراسة حياته ومؤلفاته. فعرضنا أولاً لحياته بياناً لنسبه ومولده ونشأته ورحلاته وشيوخه فحققنا خلال هذه الدراسة أنه ولد عام 1115 هـ ببلدة العينية من قرى نجد لأب عربي ينتسب إلى قبيلة تميم المعروفة في الجاهلية والإسلام وكان جده ثم أبوه وعمه من علماء نجد وقضاتها فنشأ في بيئة علم ودين أتاحت له تلقي العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 مبكراً فعرف بسرعة الحفظ والإتقان. حفظ القرآن الكريم قبل بلوغ العاشرة، وتلقى عن أبيه وعمه وغيرهما من شيوخ نجد شيئاً من علوم اللغة والحديث والتفسير والأصول والفقه على مذهب واحد، وقدمه أبوه للصلاة بالناس وهو دون الثانية عشرة ثم أذن له بالحج والزيارة فمكث في المدينة المنورة مدة يتلقى على علمائها ثم تكررت رحلاته إلى الاحساء وإلى البصرة والزبير بالعراق وتلقى عن علماء هذه الجهات وناظرهم ثم عاد إلى نجد فاستقر بها حتى وفاته عام 1206 هـ. وخلال دراسة حياته دفعت شبهات متعددة تناقلتها أقلام الباحثين حول نسبته ومحل وتاريخ مولده ورحلاته والمذهب الذي بدأ التفقه عليه وشيوخه إذ ذهبت معظم المصادر العربية بعد الأجنبية إلى أنه رحل وزار أقطار العالم الإسلامي وتلقى سائر العلوم والفنون حتى صنع الأسلحة، وقد ثبت من الدارسة أن مسرح رحلات الشيخ لم يتجاوز مكة المكرمة والمدينة المنورة والبصرة والزبير والاحساء وأنه مع تلقيه عن بعض شيوخ وعلماء هذه الجهات فقد اعتمد في تحصيل معارفه على قراءة كتب السابقين وعلى الأخص شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وأن ثقافته تأسست على هذه المعارف التي جمع إليها التأمل العميق في واقع الحياة والناس وقياس هذا الواقع على ما لديه من علم، وأن هذا التأمل هو الذي اوزعه أن ينهض بالدعوة إلى تغيير ما رآه منكراً. ولدى دراسة مصنفاته التي ألفها تبين أنه مقل بالقياس إلى غيره ممن لم يتركوا مثل أثره، وبان لي أن معظم مصنفاته رسائل عالج فيها موضوعات أملتها المناسبات المتعلقة بحركة الدعوة إلى جانب عدد من الكتب التي ألفها شرحاً لما يدعو الناس إليه. وكان اعتماده في رسائله وكتبه على النصوص وسيرة السلف. إلا أن هذه المؤلفات على قلتها تمكن الباحث من استيعاب فكره ومنهجه والحكم عليه والإنطباع العام الذي يستفاد من مؤلفاته أنه كان يعالج العلم في إطار حركة الحياة بما يمكن معه القول أنه رائد في مدرسة "العلم للحياة". وعرضت في الفصل الثاني: لدراسة عصره وبيئته فأوضحت الحالة العامة للعالم الإسلامي في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وهي الفترة التي بلغ فيها العالم الإسلامي غاية التدني والإنحطاط الفكري والعقائدي والسياسي على ما هو مدون بسائر المصادر والتي تعرضت لهذه الفترة وأن حالة نجد والجزيرة العربية كانت تزيد سوءاً عن حالة العالم الإسلامي من حولها حتى ذكر بعض الباحثين أن نجد أو الجزيرة العربية كانت قد عادت إلى جاهلية شر من جاهليتها الأولى ففسدت العقائد ونجمت البدع وتسلطت الأوهام فأصبح حبل الناس على غاربهم فتحللوا من عروة الدين وقوامها نقاء العقيدة كما تحللوا من عروة الدنيا وقوامها السلطان العادل. الباب الثاني: المعالم الرئيسية لفكره ومنهجه: وقد سلكتها في فصلين: عالجت في الفصل الأول موقفه بين الإجتهاد والتقليد، لما تبين لي أن هذا الموقف يعتبر حجر الزاوية في بناء فكره ومنهجه، عرضت أولا للإجتهاد موضحة موقفه منه خلال أربع نقاط: النقطة الأولى: مبدأ الإجتهاد من حيث مشروعيته ولزومه واستمراره فصح لدينا أن الشيخ يرى ثبوت الإجتهاد واجباً متعيناً على الأمة ماضياً إلى يوم القيامة وأنه منهج السلف في استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها الظنية. النقطة الثانية: تعرفت على مجال الاجتهاد عنده فصح لديّ أنه يرى الإجتهاد وارداً في كل مسألة ليس فيها نص قطعي الورود قطعي الدلالة، ولا يصح ترك الإجتهاد لقولة قائل مهما كان فكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم. ولا يتوقف الإجتهاد في مسألة خلافية إلا بالإجماع من سائر علماء الأمة. النقطة الثالثة: درست الشروط التي يرى لزوم توافرها في المجتهد فبان لي أنه ينفرد عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 سائر علماء الحنابلة بتيسير هذه الشروط على نحو لم يسبق إليه. النقطة الرابعة: لما يراه بشأن علاقة المجتهد بالمجتهد فبان لي أنه يؤكد على كل مجتهد أن يحتفظ بصفة الإستقلال في اجتهاده حتى عندما يأخذ باجتهاد غيره فليس معنى ذلك قبول رأي الغير في ذاته بل قبول الدليل المنبني عليه حيث لا يعرف الحق بالرجال بل يعرف الرجال بالحق. وعرضت ثانيا لموقفه من التقليد فشدد في إنكاره والنهي عنه بان أنه سبب توارث الكفر عن الآباء في كل عصر كما قص القرآن الكريم فالقاعدة المقررة لدى بن عبد الوهاب ذم التقليد وأنه طريق أهل الضلال الذين يصفهم بقوله: (إن دينهم مبني على أصول أعظمها التقليد فهو القاعدة الكبرى لجميع الكفار أولهم وأخرهم) . ولا يبيح التقليد إلا في حالات الضرورة القصوى عند استحالة معرفة الحكم اجتهادا، وحتى في هذه الحالة يوجب على المقلد أن يجتهد في اختيار من يقلده وألا يكتفي يما يشاع عنه من علم ودين وفي ذلك يقول: " وأما إن قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواء من غير علم أن الحق معه فهذا من أهل الباطل ". وانبنى على موقفه من الاجتهاد والتقليد حسبما ذكرنا أن عاب على العالم أن يتخذ من المذهب الذي ينتسب إليه دينا يهاب التحول عنه وخلاف إمامه. ويمكن تلخيص موقفه من الاجتهاد والتقليد في القواعد الآتية: (1) كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هما المصدران الوحيدان لكل أمر ونهي وتقرير. (2) وإن الحكم إن عرف من النص لزم اتباعه وعدم تركه لقول كائن ما يكون. (3) فإذا لم يعرف الحكم من النص وجب الاجتهاد لمعرفته والاجتهاد فرض كفاية على الأمة ماض إلى يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 (1) وإن كل مسألة خلافية هي محل للاجتهاد، ولا ينتهي الخلاف فيها إلا بالإجماع. (2) وإن الإجماع المعتبر عنده هو إجماع سائر علماء الأمة وليس مجرد إجماع علماء المذاهب الأربعة. (3) وإن التقليد مذموم ما لم تدع إليه ضرورة تقدر بقدرها. (4) وإن علم أصول الدين فرض على كل مكلف فلا يجوز التقليد فيها لعامي أو عالم. (5) وإنه على العالم إذا قلد غيره في مسألة يجهل حكمها أن يلتزم في تقليده بما يعتقد أنه الحق. وفي الفصل الثاني: عرضت لموقفه في الربط بين العلم والعمل لما تحقق لي انه المعلم الثاني من معالم فكره ومنهجه، فكما أمر الله تعالى بالعلم أمر بالعمل وكان من هدى الرسول صلى الله عليه وسلم في تعليم أصحابه أن يعلم أحدهم بضع آيات فلا يعدوها حتى يعمل بها. ويذهب محمد بن عبد الوهاب إلى اعتبار ربط العلم بالعمل المميز الأهم لأمة الإسلام عمن سبقها فهي سمة المنعم عليهم} غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ {الذين يعرفهم الشيخ بأنهم:" أهل علم بلا عمل". وغير الضالين ويعرفهم الشيخ بأنهم:" أهل عبادة ليس معها علم". ومن هذا التصور كان منهج الشيخ في تحصيل العلم بالجمع بين التلقي عن الشيخ والتأمل في واقع الحياة والكون فكان تحصيله للعلم وحضه عليه مقرونا بالقضايا التي كانت طابع عصره إذ أنه جعل مدار علمه على ما يعالج هذه القضايا وفق ما أشرنا إليه في صدد مؤلفاته. ثم إنه جعل صحة العمل مقرونة مرهونة بما يوافق الشرع ومن خلال اهتمامه بالربط بين العلم والعمل أحيا قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأبرز دور العقيدة في بناء الفرد من خلال الجماعة. الباب الثالث: موقفه من الغيبيات: ويشمل على ثلاثة فصول درست في الفصل الأول موقف محمد بن عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الوهاب من مسألة: الذات والصفات، وقد لخص عقيدته بأنها عقدية الفرقة الناجية القائمة على تلقي الصفات من النصوص دون تحريف لمعناها بتأويل لم يؤثر عن السلف مع الإيمان بها دون تشبيه أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل، وهو يجعل الإيمان بالصفات فرعا من الإيمان بالذات فكما أن الله ذاتا لا تشبهها الذوات فله صفات لا تشبهها الصفات. وقد شدد ابن عبد الوهاب حملته على علماء الكلام فيما نحى إليه بعضهم من تأويل الصفات أو القول بأن الصفات هي عين الذات أو أنها زائدة عن الذات. وفي الفصل الثاني: تناولت موقفه من النبوات واهتمامه بتلقين المسلم دلالة إرسال الأنبياء والرسل على عناية الله تعالى بخلقه ورحمته بهم وتيسيره أسباب هدايتهم. ثم عنايته تعالى بأنبيائه ورسله وتأييده لهم بالمعجزات مع إثبات بشريتهم والتأكيد على ذلك. وأوضحنا نظرته إلى القرآن الكريم باعتباره المعجزة الكبرى للرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم بما يؤكد بقاء هذه المعجزة إلى يوم القيامة عل امتداد الزمان والمكان وأن القرآن كلام الله المنزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عبادة. وإن كمال الإتباع للأنبياء باتباع أمرهم وينهيهم لا بالغلو فيهم وإخراجهم عن بشريتهم. وفي الفصل الثالث: تناولت موقفه من البعث والجزاء، فتبين أن ابن عبد الوهاب يرى في البعث أنه ثابت بالنصوص فضلا عن أنه دال على منتهى عدل الله وإحقاق الحق بين عباده، وبعد أن عرضنا للأقوال المختلفة في ماهية البعث أوردنا مذهبه في إثبات أن البعث يكون بالجسد والروح..وأن الإيمان بالبعث لاينفك عن الإيمان بسائر مشاهد القيامة التي وردت بها النصوص كالميزان والصراط والحوض وأن منكر البعث كافر. وفي بيان موقفه من الجزاء تبين لي أن موقفه: إثبات الجزاء كما دلت عليه النصوص فضلا عن أنه من دواعي إرسال الرسل. ثم انتقلنا إلى مسألة الشفاعة وقد كانت مثار هجوم خصوم ابن عبد الوهاب عليه بدعوى أنه ينكر الشفاعة والثابت من أقواله أنه يثبتها وفق ما دلت عليه النصوص وعرضنا لأنواع الشفاعة المختلفة ومن يأذن الله لهم بالشفاعة، وتبين من خلاصة أقواله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ردا على خصومه أن جوهر موقفه في مسألة الشفاعة: أنها ثابتة مقررة لمن يأذن الله له بأن يشفع فيمن يأذن الله بأن يشفع فيهم ولذلك فلا تطلب الشفاعة من الشفعاء بل يكون الطلب من الله بقولك: اللهم شفع في رسولك. الباب الرابع: التصوف وصلته بالعقيدة: فقد علاجنا هذا الموضوع في ثلاثة فصول: في الفصل الأول: تعرضنا لبيان موقف ابن عبد الوهاب من التصوف وقد تبين لنا أنه نسج على منوال الفقهاء في معاداتهم لأهل التصوف فيما يتعلق بالقول بأن للشريعة ظاهرا وباطنا وما يتفرع عنه من مشاكل ومسائل. والفصل الثاني: عالجنا فيه التفريق بين جوهر التصوف وأشكاله، وبان لنا أن ابن عبد الوهاب قبل جوهر التصوف المتفق مع الشرع ورد كل ما يخالف الشرع ففيما يتعلق بإثبات الكرامة للأولياء قال بإثباتها شريطة ألا يكون من شأن إثبات الكرامة لولي اعفاؤه من تكاليف الشرع أو التوجيه إليه بالطلب والقصد لأن ذلك عبادة لا يجوز لغير الله ولئن كان للأولياء في عرف الصوفية أحوال ومقامات فإن مرد كل مقام عند ابن عبد الوهاب إلى الالتزام بنصوص الشريعة وتكاليفها. وفي الفصل الثالث عرضنا للتوسل وأوضحنا جملة من الأقوال التي وردت لبيان مدلوله ومعناه وانتهينا إلى بيان موقف ابن عبد الوهاب منه الذي يقول بمشروعية التوسل شريطة ألا يصحبه التوجيه بالطلب إلى الأولياء واصحاب الكرامات بل يكون الطلب والقصد إلى الله تعالى، مع وجوب استشعار العبد على الدوام أنه لا نفع ولا ضرر ولا تأثير ولا خلق ولا إيجاد إلا من الله تعالى. ولا شك أن موقف ابن عبد الوهاب كان هو صوت الشرع في مواجهة ما انغمس فيه العامة والخاصة من أهل زمانه في التوسل بالأولياء والصالحين على سبيل الطلب منهم والقصد إليهم واتخاذهم وسطاء إلى الله لقضاء الحوائج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الباب الخامس: نظرته إلى دور العقيدة في بناء الفرد من خلال الجماعة: ويقع في ثلاثة فصول: عالجت في الفصل الأول مفهوم الجماعة المسلمة وكيف تكون وتميزها عن سائر الجماعات الإنسانية في أساس تكوينها المبني على العقيدة وتبين أن ابن عبد الوهاب إذا انتقل من دور الدعوة إلى دور الحركة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تبين له أن نجاح حركته مرهون بوجود الجماعة التي تنتظم فيها فعمل على تكوين هذه الجماعة معتمدا على الأساس العقائدي خلافا لما كان عليه الحال في أرض نجد والجزيرة العربية في عصره من عودة الناس إلى التجمع القلي. فبين أن الجماعة التي يدعو إليها هي جماعة التوحيد وأن سائر الموحدين على اختلاف أنسابهم وألوانهم إخوان في العقيدة وكل من خالف التوحيد عدو لهم. وفي الفصل الثاني: عالجنا قضية التكفير وما يخرج عن الإسلام وهي إحدى القضايا التي تعرض فيها ابن عبد الوهاب للهجوم الشديد من خصومه وناقديه مدعين عليه أن يكفر الناس بالجملة وتبين من دراسة موقفه أنه لم يصف قوما بذواتهم بأنهم كفار بل تحدث عن أعمال رآها تؤدي إلى الكفر ومنها موادة أهل الشرك على أهل التوحيد، وتبين لي أن هذه القضية تعرضت لردود أفعال ناجمة عن الصراع الحزبي بين أهل الدرعية من اتباع الشيخ وبين خصومهم الكثيرين من حولهم. وفي الفصل الثالث بحثت موضوع الجهاد في سبيل الله كركن في العقيدة: فتبين لي أن جوهر موقف الشيخ في المسألة قائم على أن أهل الحق هم على الدوام محل العدوان عليهم من أهل الباطل سواء كان عدوانا حالا أن عدوانا متوقعا وأن سبيل أهل الحق لدفع هذا العدوان الحال أو التوقي من هذا العدوان المحتمل هو الجهاد في سبيل الله. وأوضحنا أن ماهية الجهاد عنده كما كان عند السلف تمكين المؤمن من الدعوة إلى الله وإزالة العقبات من أمام الدعوة وأنه ليس حربا للاستعلاء في الأرض واسترقاق البشر بدليل أنه فور قبول العدو للإسلام يصبح فورا أخا في العقيدة له ما للمسلمين وعليه ما عليهم دون تفريق بين جنس أو لون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الباب السادس: أثره في الفكر والسياسة. ويفع في فصلين، عالجت في الفصل الأول أثره في الفكر الإسلامي، وتبين من الدراسة أن دعوته إلى استمرار الاجتهاد إلى يوم القيامة وتنديده بالوهم القائل: يغلق باب الاجتهاد كان له أثره الفذ في تنوير العقول وشحذ الأذهان وكسر الجمود الذي كان طابع الفكر الإسلامي في عصره بما عده معه بعض الباحثين زعيما مجددا من زعماء الإصلاح ومصلحا عقائديا بدأت يقظة العالم الإسلامي بدعوته، كما كان لإحيائه شريفة الجهاد في سبيل الله دفعا للعدوان الواقع والمحتمل ولأخذه بسنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دفعا لانحراف الجماعة الإسلامية عن منهج الإسلام، كان لذلك أثره في لفت أنظار الجماعات الإسلامية في شتى بقاع العالم الإسلامي إليه وكان لموسم الحج أثره في إتاحة الفرصة لرجال الفكر الإسلامي وزعماء الحركات الإسلامية للالتقاء بدعاة فكره ومنهجه والتأثر بهم، كما امتد هذا التأثير بفعل المدرسة المنتسبة إليه وعديد التلاميذ الذين تلقوا عنه وتأثروا به. وفي الفصل الثاني: تدارست أثره في السياسة وتحقق لي أن دعوته القائمة على الإسلام بوصفه الشمولي لأغرا ض الدين والدنيا قد كان لهما أثرها في الجزيرة العربية بإقامة أول دولة تجمع شمل العرب في الجزيرة منذ عهد الصدر الأول وما ترتب على ذلك من دخول هذه الدولة في صراع مع دولة الخلافة العثمانية كان من آثاره غير المباشرة إزكاء روح القومية العربية في مواجهة القومية التركية وهو أثر لردود أفعال الصراع لم يكن من أهداف محمد بن عبد الوهاب ولا مما يتفق مع الأساس العقائدي لدعوته حسبما قدمنا. وقد خلصت من هذه الدارسة إلى النتائج التي أعددتها في الخاتمة وأهمها في تقديري. ثبوت قدرة المنهج التربوي الإسلامي المستقى من الكتاب والسنة على صناعة الرجال وإبداع الأفكار وشحذ العزائم عبر كل مراحل التاريخ. وإنه مهما بدا للناس أن الفكر الإسلامي النقي قد حجبته الغواشي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 واكتنفته شبهات بعض المستشرقين ومن نقل عنهم عاد صافيا متجددا عبر أحد مفكريه على امتداد الزمان والمكان. تصديقا لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبعث لأمتي على رأس كل قرن من يجدد لها أمر دينها". وإني إذ أقدم هذا البحث لأهيب بالسائرين قدما على درب البحث والفكر أن يولوا عنايتهم للجوانب المتعددة التي يثيرها فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب وفكر تلاميذه من بعده والتي تستحق كل جانب منها على حدة أن يكون موضوعا لبحث مستقل كجانب الاجتهاد. ومشروعية الجهاد وارتباط العلم بالعلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقضية التكفير وما يتصل بها إلى غير ذلك من الموضوعات التي تحتاج من الباحثين العناية والاهتمام. والله ولي التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الباب الأول: حيَاتهُ وَمؤلفَاتهُ وَعصرُه وبيئتهُ الفصل الأول: حياته ومؤلفاته الفصل الثاني: عصره وبيئته . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الفَصْل الأوَل: حياته ومؤلفاته أولاً: حياته (1) نسبه: هو:" محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن مشرف التميمي". هكذا أورده ابن غنام (1) . أما ابن بشر فقد ذكر من آباء مشرف أنه:"ابن عمر بن معضاد بن ريس بن زاخر بن محمد بن علوي بن وهيب" (2) وذكر صاحب الدرر السنية من آباء وهيب أنه:" ابن قاسم بن موسى بن مسعود بن عقبة بن سنيع بن نهشل بن شداد بن زهير بن شهاب بن ربيعة بن أبي سود بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم" (3) . وقد علق محقق تاريخ ابن بشر على ذكره نسب محمد بن عبد الوهاب فقال:" اختصر المؤلف رحمة الله سلسلة نسب الشيخ محمد ووقف فيها على ما   (1) بن غنام. تاريخ نجد. ص: 75. وأيضا: صلاح الدين المختار, تاريخ المملكة العربية السعودية. ص 36. (2) ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد. ج 1 ص.: 113. وأيضا: محمود شكري الآلوسي. تاريخ نجد. ص: 106. (3) عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي القحطاني. الدرر السنية في الأجوبة النجدية. ج 12. ص: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فوق وهيب وقد أحسن من انتهى إلى ما علم، ونحن لتمام الفائدة نورد سلسلة الشيخ محمد كاملة إلى عدنان فنقول: أما نسب هذا الشيخ فهو: محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف بن عمر بن معضاد بن ريس بن زاخر بن محمد بن علوي بن وهيب بن قاسم نب موسى بن مسعود بن عقبة بن سنيع بن نهشل بن شداد بن زهير بن شهاب بن ربيعة بن أبي سود بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر نب أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان (1) . فهو على التحقيق عربي خالص العروبة تعود به أصوله إلى تميم، وبها كان يضرب المثل في القوة والمنعة, حتى لقد قيل: " لو تأخر الإسلام لأكلت تميم العرب (2) " وتميم إحدى كبريات قبائل مضر وفي إلياس بن مضر " يجتمع بن تميم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" (3) ومن شعراء تميم الفرزدق ومن شعره في الفخر بهم: ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا (4) غير أن الثابت أن تميما من القبائل العربية التي تحضرت وتفرقت بين الأسر وتوزعت بين البلدان ولم تعد لا نخوة عامة يلتقي عليها أفرادها في الحروب والنوازل وهذا ما دعا والي بغدد أن يكتب قائلا في تقرير مرفوع منه إلى السلطان العثماني عن الحركة الوهابية:" ليش الشيخ محمد بن عبد الوهاب رئيس قبيلة ولا صاحب عصبية قوية يحسب لها حساب." (5) ولا نعلم أحداً ممن تناول سيرة محمد بن عبد الوهاب وحياته قال في ذكر   (1) إبن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد. ج 1. هامش ص: 113، عبد الله الرويشد: محمد بن عبد الوهاب في التاريخ. ج1 ص9 وأيضاً: احمد عبد الغفور عطار: محمد بن عبد الوهاب. ص: 28. (2) عبد الكريم الخطيب: الدعوة الوهابية. ص: 45 (3) أحمد عبد الغفور: محمد بن عبد الوهاب. ص: 28 (4) د. منير العجلاني: تاريخ البلاد العربية السعودية. ج1 ص: 177. (5) المرجع السابق. ص: 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 نسبة قولا يخرج عما حصلناه اللهم إلا ما ألمح إليه بعض المستشرقين من نسبته إلى اليمن بقولهم في سياق الحديث عن سيطرة الحركة الوهابية على نجد: "واسم واضع هذه السيطرة هو عبد الوهاب اليمني" (1) أما صاحب لمع الشهاب فقد أورد نسب الشيخ إلى زيد مناة بن تميم غير أنه ذكر لآبائه أسماء أخرى. (2) (2) مولده: ولد محمد بن عبد الوهاب في بلدة العيينة من بلدان نجد سنة خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة (1703م) . ذكر ذلك جمع غفير ممن كتب عنه وأرخ سيرته. (3) وذهب آخرون إلى غير ذلك فمنهم من أرخ لمولده بعام 1700 (4) ، ومنهم من قال بأنه ولد بالدرعية (5) والصواب ما ذهبت الرواية الأولى لتواترها وكونها رواية المؤرخ المعاصر لأبن عبد الوهاب وهو ابن غنام. (6) وكان مولده في بيت علم ودين، فوالده عبد الوهاب بن سليمان كان   (1) ل. ا. سيديو: تاريخ العرب العام تعريب عادل زعيتر ط2. ص439. (2) لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب. تحقيق د. أحمد مصطفى أو حاكمة ط مايو 1967 ص: 24. (3) ابن غنام: تاريخ نجد: ص 75، عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي القحطاني الدرر السنية: ج 12 ص4 أحمد عبد الغفور عطار: محمد بن عبد الوهاب. ص31. عبد الله الرويشد: محمد بن عبد الوهاب في التاريخ ج1 ص10، د. توفيق الطويل: العرب والعلم. ص: 118، د. محمد عبد الله ماضي: النهضات الحديثة في جزيرة العرب. ص40، عبد الكريم أبا الخيل: العربية السعودية. ص30، عبد الله فلبي: تاريخ نجد ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية ص: 17، عبد المتعال الصعيدي: المجددون في الاسلام ص 437وأيضاً. د. محمد ضياء الدين الريس: تاريخ الشرق العربي والخلافة العثمانية ج1 ص98. (4) لوثروب ستودارد: حاضر العالم الاسلامي. ص 35وأيضا بيير كريبتس: إبراهيم باشا ترجمة محمد بدران ص 18 (5) محمد فريد بك: تاريخ الدولة العلية العثمانية ط 1896/م ص 201 (6) د. منير العجلاني: تاريخ البلاد العربية السعودية ج1 ص 175 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 آنذاك قاضي العيينة (1) وروى عنه أنه كان عالما فقيها مثالا للفضل والعدل ألف عدة رسائل في الفقه والتفسير وكان مشهورا عند الناس بالتواضع وسهولة الأخلاق وكرم الطباع وكان يقرأ لطلاب العلم في مسجد العيينة دروسا في الفقه والحديث والتفسير. (2) أما جده سليمان بن علي المتوفي عام 1079هـ فقد ذكر مؤرخو نجد عنه أنه كان فقيه زمانه متبحراً في علوم المذهب الحنبلي وكان علماؤه المعاصرون له يرجعون إليه في كل مشكلة وله إجابات مفيدة. (3) وقد أتاحت هذه البيئة لأبن عبد الوهاب أن يبدأ رحلة تحصيل العلم مبكراً إذ أخذ في تلقيه منذ طفولته" فحفظ القران قبل العاشرة من عمره وكان حاد الفهم وقاد الذهب سريع الحفظ فصيحا فطنا. روى أخوه سليمان أن أياهما كان يتوسم فيه خيراً كثيرا ويتعجب من فهمه وإدراكه مع صغر سنه وكان يتحدث بذلك ويقول: إنه استفاد من ولده محمد فوائد من الأحكام" (4) . وبعد أن تم له حفظ القرآن اشتغل في العلم وجد في الطلب..وكان سريع الكتابة ربما كتب الكراسة في المجلس وبعد بلوغه سن الاحتلام قدمه والده إماما في الصلاة ثم حج فقضى فريضة الإسلام (5) .   (1) ابن غنام: 1 تاريخ نجد. ص175 ايضا أحمد عبد الغفور عطار. محمد بن عبد الوهاب. ص30 (2) د. منير العجلاني: تاريخ البلاد العربية السعودية ج1 ص172. (3) ابن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد ج 2 ص 210، عبد الرحمن العاصمي القحطاني: الدرر السنية ج12 ص: 3، عبد الرحمن آل الشيخ: مشاهير علماء نجد ص 29أيضاً، د. منير العجلاني: تاريخ البلاد العربية السعودية ج1ص174. (4) ابن غنام: تاريخ نجد ص: 75، عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ مشاهير علماء نجد. ص17. (5) عبدا لرحمن العاصمي القحطاني: الدرر السنية في الأجوبة النجدية ج12، ص: 4 ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد. ج1 ص: 19،ابن غنام: تاريخ نجد. ص: 76، د. منير العجلاني: تاريخ البلاد العربية السعودية ج1 ص 181 وأيضا عبد الله الرويشد محمد بن عبد الوهاب في التاريخ ج1 ص:11 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 (3) رحلاته: زودنا ابن غنام في تاريخه ببيان موجز عن رحلات محمد بن عبد الوهاب فقص علينا أنه بعيد بلوغه زوجه أبوه وهو ابن اثنتي عشرة سنة ثم أذن له بالحج فحج وقصد مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وأقام فيها شهرين ثم رجع بعد أن أدى الزيارة (1) . ولو أردنا أن نعرف تاريخ رحلته الأولى هذه فهي على التقدير عام 1128 هـ باعتباره على مقتضى الرواية قد حج بعد بلوغه اثنتي عشرة سنة، وهو من مواليد عام 1115 هـ حسبما استخلصنا سابقا. ويبدو أن رحلته الأولى هذه قد استخرجته من عالمه المحدود بآفاق نجد وأحوالها إلى آفاق التفكير في حالة المسلمين وقياس واقعهم على منهج الإسلام واستلفت انتباهه بعد الشقة بين هذا الواقع وذلك المنهج وعلى الأخص في أهم القضايا التي جاء الإسلام ليقررها ويجعلها رأس الأمر فيه وحجر الزاوية في بنيانه، وهي قضية إخلاص التوحيد"فشرح الله صدره بمعرفة التوحيد ومعرفة نواقضه التي تضل عن سبيله فأخذ ينكر تلك البدع المستحدثة من الشرك الذي كان قد فشا في نجد، ومع أن بعض الناس كان يستحسن ما يقول، غير أنه رأى أن الأمر لن يتم له على ما كان يريد فرحل في طلب العلم إلى ما يليه من الأمصار (2) ". والذي تؤكده المصادر النجدية أن رحلة الشيخ في طلب العلم لم تتجاوز الحجاز غربا والبصرة شرقا وأن المدن التي ألم بها في رحلاته هي مكة والمدينة والاحساء والزبير والبصرة، وأن نيته انعقدت على التوجه إلى الشام فحيل بينه وبين تحقيق هذه الأمنية، ذلك هو القاسم المشترك المتفق عليه بين مؤرخي نجد (3) على خلاف بينهم في تفصيل الرواية عن هذه الرحلات.   (1) ابن غنام: تاريخ نجد. ص: 75. (2) ابن غنام: تاريخ نجد ص: 7. (3) ابن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد ج1 ص: 20، د. منير عجلاني. تاريخ البلاد العربية السعودية ج 1 ص175، أحمد عبد الغفور عطار: محمد بن عبد الوهاب ص 36، عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: المقامات منشورة بالدرر السنية ج9 ص215، عبد الرحمن بن عبد اللطيف آلي الشيخ: مشاهير علماء نجد ص17، 18 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وقبل أن نعرض لما اختلف فيه مؤرخو نجد من تفصيلات رحلات الشيخ نسجل ما لاحظناه من أن جميع المصادر غير النجدية عربية كانت أو أجنبية قد اضطرب حديثها في شأن هذه الرحلات وشابها التخليط والتضارب وبدت في مجموعها كأنها تكتب سيرة محمد بن عبد الوهاب بمعزل عن أي مصدر يقيني يطمأن إليه. وقد التمس البعض العذر لهذه المصادر فيما شابها من تخليط لدى ذكر هذه الرحلات بأنه يرجع إلى أن "مؤرخا نجد ابن غنام وابن بشر" قد وصفا رحلات الشيخ وصفا مختصرا لا غناء فيه. لذلك بحث المستشرقون عن مصادر أخرى تعينهم على فهم هذا الجزء الخطير الغني من حياة الشيخ الذي نسميه رحلة الشيخ وهو في حقيقته شباب الشيخ كله أو أكثره (1) . والذي نرجحه أن المستشرقين رأوا في شخصية محمد بن عبد الوهاب ما يستهوي أفئدتهم ويستثير رغبة البحث والاستقصاء لديهم سواء منهم من استهدف ببحثه واستقصائه بلوغ الحقيقة لذاتها أو من استبطن رغبة الكيد للإسلام وبدا له أن مجال الحديث عن الحركة الوهابية يحقق له بلوغ هذه الرغبة فهؤلاء وأولئك تناهت إليهم أخبار الحركة الوهابية بما حث لديهم رغبة استقصاء جوانبها وإذ لم يجدوا من المصادر الميسرة ما يروي ظمأهم إلى المعرفة التي ينشدونها فقد قنعوا بما أتيح لهم من هذه المصادر دون أن يعنوا ببحث جانب الظن فيه من جانب اليقين" وكان المصدر الذي رجع أكثرهم إليه واعتمد عليه هوكتاب: لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب (2) " وقد كان هذا الكتاب بنسخته المخطوطة الوحيدة المودعة بمكتبة المتحف البريطاني بلندن هو الملهم لسائر المستشرقين وجاء الكتاب العرب على اثر هؤلاء المستشرقين فنسجوا على منوالهم واكتفوا بالنقل عنهم. وأخذا برواية لمع الشهاب تضافر الكتاب على القول بأن محمد بن عبد الوهاب رحل إلى البصرة وبغداد وهمذان واصفهان والري وقم وبلاد الترك ثم حلب ودمشق والقدس ومصر (3) وقد   (1) د. منير العجلاني: تاريخ البلاد العربية السعودية ج1 ص 184 (2) د. منير العجلاني: تاريخ البلاد العربية السعودية ج1 ص 184 (3) المرجع السابق. 188 وما بعدها، بروكلمان. تاريخ الشعوب الإسلامية جـ 4 ص 18، عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 حاول بعض الكتاب العرب المحدثين تفنيد هذه الروايات ودحضها والتدليل على أن ابن عبد الوهاب لم يتجاوز في رحلاته نطاق الجزيرة العربية (1) . ولئن كان المستشرقون معذورين في احتفائهم برواية لمع الشهاب وتعويلهم عليها سواء كان ذلك لاختصار ابن غنام وابن بشر أو لعدم وقوفهم على هذه الرواية أصلا ـ وهو ما نرجحه ـ فإن الكتاب العرب الذين حذوا حذوهم ونسجوا على منوالهم لا عذر لهم في ذلك وعلى الأخص هؤلاء الكتاب الذين توثقت صلاتهم بالحركة الوهابية ومصادرها، ولذا كان عجيبا أن يذهب واحد من هؤلاء إلى القول بأن محمد بن عبد الوهاب قد ارتحل إلى اليمن دون أن يسند روايته هذه إلى أي مصدر (2) . وهو ما دعا أحد الكتاب إلى الإشارة إليه مستغربا وأن كان بدوره قد رجح أن محمد بن عبد الوهاب عاش فترة في بغداد (3) خلافا لما ذكرته المصادر النجدية. وايا كان الأمر فالمصادر النجدية الوثيقة. تجمع على ما أسلفنا الإشارة إليه من أن مسرح رحلات محمد بن عبد الوهاب لم يتجاوز نطاق الجزيرة العربية   المتعال الصعيدي: المجددون في الإسلام ص 437، د. فيليب حتي تاريخ العرب جـ 1 ص 871.محمد فريد بك: تاريخ الدولة العلية العثمانية ص 201 وأيضا محمد عبد الله ماضي: النهضات الحديثة في جزيرة العرب: ص43. (1) أحمد علي: آل سعود. هامش ص 10 إذ ذكر ما ناصه:" لقد خلط كثير من الناس ممن كتبوا عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في البلاد التي ارتحل إليها فقال بعضهم أنه ذهب إلى الآستانة وقال بعضهم إلى أصفهان وهمذان وقم ومنشأ هذا الخلط هو بعض الأوروبيين مثل المستشرق مارجيليوت الذي ذكر في دائرة المعارف الإسلامية أنه تزوج في بغداد إمرأة وماتت بعد زمن وورث الشيخ منها ألفي دينار وأنه رحل إلى بلاد الكرد وهمدان وقد ذكر نفس الرواية من ـ الأوروبيين الرحال برجس وزويمر ويلجريف كما وقع في هذا الخطأ مؤلف كتاب لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب الذي نقل عنه الشيخ حافظ وهبه في هامش كتابه جزيرة العرب في القرن العشرين ص 336 (الطبعة الأولى) أن الشيخ رحل إلى فارس وتعلم الحكمة المشرقية وصنع البنادق وتحضير الذخيرة". (2) محمد حامد الفقي: أثر الدعوة الوهابية ص 65.د. منير العجلاني: تاريخ البلاد العربية السعوديةج1 ص:201 (4) المرجع السابق: ص 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 انطلاقا من نجد إلى مكة والمدينة غربا والبصرة والأحساء شرقا. وأرجح المصادر التي تقطع بذلك ما ذكره الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في رسالة المقامات رواية عن رحلات جده الذي تلقى عنه وشهد ازدهار حركته وقد قدم لحديثه عن رحلات جدة بقوله" انه لا يعرف شيخنا ولا حيث نشأ كما يعرفه الخبير بحالة" (1) .وخلص من وصفه لرحلات جده بأنها انتهت بالحج إلى بيت الله الحرام حيث كان يعتزم السفر مع الحجيج الشامي من المدينة إلى الشام لولا انه تعرض لحادث اعتداء لسراق الحجيج الشامي سلبوه ماله وشجوا رأسه فمكث في المدينة ردحا ثم عاد إلى نجد ليتخذها مقرا ومستقرا ومنطلقا لحركته حتى تاريخ وفاته عام 1206 هـ (2) .   (1) عبد الرحمن العاصمي القحطاني: الدرر السنية. جـ 9 ص 215 حيث يتابع الشيخ عبد الرحمن بن حسن قوله عن نشأة جدة ورحلاته قائلا فلا ريب أنه لما قدم جده سليمان بن علي من الروضة ونزل العيينة كان أفقه من نزل نجداً في وقته فتخرج عليه خلق كثير من أهل نجد منهم ابناه عبد الوهاب وإبراهيم، وكان المتولي للقضاء في العارض أبوه عبد الوهاب وكان عمه يسافر إلى ما حولهم من البلاد لحاجتهم إليه في الإفتاء، وما يقع بينهم من بيع العقارات وكان عليه اعتمادهم فيما كتبه واثبته، وأكثر إقامته مع أخيه عبد الوهاب فظهر شيخنا بين أبيه وعمه فحفظ القرآن وهو صغير وقرأ في فنون العلم وصار له فهم قوي، وهمة عالية في طلب العلم فصار يناظر أباه وعمه في بعض المسائل بالدليل على بعض الروايات عن الأمام أحمد والوجوه عن الأصحاب فتخرج عليهما في الفقه وناظرهما في مسائل قرأها في الشرح الكبير للمغني والأنصاف لما فيهما من مخالفة ما في متن المنتهى والإقناع وعلت همته إلى طلب التفسير والحديث فسافر إلى البصرة غير مرة يقيم بين من كان بها من العلماء، فصنف في البصرة كتاب التوحيد الذي شهد له بفضله بتصنيفه القريب والبعيد أخذه من الكتب التي في مدارس البصرة. ثم ان شيخنا رحمه الله تعالى بعد رحلته إلى البصرة. وهناك رحل إلى الاحساء وفيها فحول العلماء منهم عبد الله بن فيروز ابو محمد الكفيف ووجد عنده من كتب شيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم ما سر به وأثنى على عبد الله هذا بمعرفته بعقيدة الإمام احمد وحضر مشايخ الاحساء ومن أعظمهم عبد الله بن عبد اللطيف القاضي، ثم ان شيخنا رحمه الله رجع من الاحساء إلى البصرة وخرج منها إلى نجد قاصدا الحج فلما قضى الحج وقف في الملتزم وسأل الله تعالى أن يظهر هذا الدين بدعوته، فخرج قاصدا المدينة مع الحاج يريد الشام فعرض له بعض سراق الحجيج فضربوه وسلبوه وأخذوا ما معه وشجوا رأسه وعاقه ذلك عن سيره مع الحجاج فقدم المدينة بعد أن خرج الحاج منها فاقام بها وحضر عند العلماء إذ ذاك منهم محمد حياة السندي وأخذ عنه كتب الحديث أجازه في جميعها وقراءة لبعضها ووجد فيها بعض الحنابلة فكتب كتاب الهدى لابن القيم بيده ـ ثم رجع إلى نجد. (2) ابن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1 ص 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 (4) شيوخه: استبان لنا من دراسة نشأة محمد بن الوهاب أنه درج في بيئة علم ودين فتلقى العلم مبكراً، وتفقه على مذهب الإمام أحمد، وهو ما تذهب إليه سائر المصادر والتي تناولت سيرته، ولم نقع على ما يخالف ذلك إلا ما ذكره صاحب كتاب الخطط التوفيقية (1) من " إنه تعلم مذهب أبي حنيفة " إلى قوله " فأخذ يقرر مذهب أبي حنيفة".وعنه نقل صاحب كتاب تاريخ الدولة العلية العثمانية (2) ". وتفقه محمد بن عبد الوهاب على مذهب الإمام أحمد يأتي موافقا لما هو سائد قديما وحديثا بين أهل نجد، فمن المتواتر عنهم" أنهم في الفروع على مذهب الإمام احمد" (3) .وقد روي عن محمد بن عبد الوهاب شدة تمسكه بهذا المذهب واعتزازه به وأنه كان يتمثل بأبيات منها: بأي لسان أشكر الله إنه ... لذو نعمة قد أعجزت كل شاكر هداني إلى الدين القويم تفضلا ... علي بالقرآن نور البصائر وبالنعمة العظمى اعتقاد ابن حنبل ... عليه اعتقادي يوم كشف السرائر (4) وبين شيوخ المذهب الحنبلي يبرز شيخ الإسلام بن تيمية وتلميذه ابن القيم باعتبارهما صاحبي الأثر الفذ في تكوين عقيدة محمد بن عبد الوهاب وتحديد فكره ومنهجه وطالما صرح هو بذلك مبديا إعجابه بالشيخين واعتزازه بمؤلفاتهما (5) حتى أصبح من المسلمات لدى الباحثين في الحركة الوهابية وزعيمها أنها هي التحقيق العملي لفكر ابن تيمية وتلاميذه الحنابلة (6) .   (1) علي مبارك باشا: الخطط الجديدة التوفيقية ج 12 ص 83 (2) محمد فريد بك: تاريخ الدولة العلية العثمانية ص: 201. (3) محمود شكري الآلوسي: تاريخ نجد ص: 45. (4) ابن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1 ص: 116 وأيضا. (5) أمين الريحاني: تاريخ نجد الحديث وملحقاته ص: 49. (6) ابن غنام: تاريخ نجد ص 215 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ومما يثير العجب أن محمد بن عبد الوهاب الذي تعرض للخلط في شأن رحلاته حتى نسب إليه أنه رحل وزار معظم بلاد العالم القديم وتعلم في رحلاته شتى ألوان المعرفة رماه آخرون بأنه:" لم يتلق العلم عن أشياخ، وقد بادر تلاميذه بالرد على هذه الدعوى الأخيرة بالدحض والتفنيد وأخصهم حفيده عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في رسالة المقامات (1) فذكروا أنه رحل إلى البصرة حيث تلقى العلم عن علمائها ومنهم محمد المجموعي البصري وإلى المدينة حيث تلقى عن الشيخ محمد حياة السندي وعبد الله بن إبراهيم آل سيف وإلى الإحساء حين استمع من عبد الله بن فيروز أبو محمد الكفيف، وكان ذلك بعد أن تأسست معارفه الفقهية بالتلقي عن أبيه وعم إبراهيم بالعيينة. (2) وإلى جانب هؤلاء الشيوخ الذين ورد ذكرهم في معظم المصادر تتحدث بعض المصادر عن شيوخ آخرين أخذ عنهم وانتفع بمصاحبتهم منهم:" الشيخ على الداغستاني، والشيخ إسماعيل العجلوني والشيخ عبد اللطيف العفالقي الأحسائي والشيخ محمد العفالقي الأحسائي (3) ويضيف آخرون إليهم: " الشيخ شهاب الدين الموصلي قاضي البصرة والشيخ حسن الاسلامبولي من علماء البصرة والشيخ زين الدين المغربي والشيخ حسن التميمي (4) . غير أن المصادر التي ذكرت هؤلاء الشيوخ لم تفسح مجالا كافيا لترجمة أحد منهم والتعريف بهم على وجه البيان عدا ما ورد عن الشيخين: محمد حياة   =وأيضاً: جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الاسلام ص: 238، د. فيلييب حتى تاريخ العرب. ج1 ص 87 عبد المتعال الصعيدي: المجددون في الاسلام ص 438 وأيضاً أمين الريحاني: تاريخ نجد الحديث وملحقاته ص: 49 (1) عبد الرحمن العاصمي القحطاني: الدرر السنية ج1 ص215 (2) المرجع السابق ص: 216، د. منير العجلاني: تاريخ البلاد العربية السعودية ج1 ص: 202، عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ: مشاهير علماء نجد. ص: 17، ابن غنام: تاريخ نجد ص: 76 وأيضاً. ابن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد ص: 19 (3) محمد حامد الفقي: إثر الدعوة الوهابية ص: 47 (4) عبد الله الرويشد: محمد بن عبد الوهاب في التاريخ ج1 ص:12،13 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 السندي (1) والشيخ عبد الله بن إبراهيم آل سيف (2) . الذين تواترت الأخبار عن تلقي محمد بن الوهاب عنهما وتأثره بهما منذ عرض على الأول حالة المستغيثين برسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبثين بأحجار قبره قائلا: ما تقول يا شيخ في هؤلاء؟ فأجابه السندي على الفور:" إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما   (1) هو محمد حياة بن إبراهيم السندي نزيل المدينة المنورة، فقيه محدث أصولي ومقصر ولد بالسند ونشأ بها، ثم رحل إلى المدينة المنورة. كان عالما تقيا فاضلا يكره تقليد المشايخ والتعصب للمذاهب ويصرح أن ذلك من اتباع الطاغوت الذي نهى الله تعالى عن التحاكم إليه. وأن كل المصائب التي حلت بالمسلمين إنما هي ثمرة هذا التقليد، ومن مؤلفاته: شرح الأربعين النووية ـ شرح حكم الحداوية ـ شرح حكم العطائية ـ مختصر الزواجر لابن حجر المكي ـ الإيقاف على سبب الاختلاف ـ تحفة الانام في العمل بحديث النبي عليه الصلاة والسلام. ارشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد، شرح الترغيب والترهيب للمنذري، اختلف في سنة وفاته فقيل: توفي عام 1163وذكر ابن غنام وابن بشر أنه توفي عام: 1165هـ ونرجح روايتهما لقرب عهدهما بالسندي ورجحان معرفتهما بأهل المدينة المنورة. انظر: اسماعيل باشا البغدادي، هدية العارفين ج2: ص: 327، إبن المكارم القاسي ـ فهرس الفهارس. ج 1ص1271محمد حامد الفقي. أثر الدعوة الوهابية ص: 43، عمر رضا كحالة. معجم المؤلفين ج9ص275، عبد الله الرويشد. محمد بن عبد الوهاب في التاريخ ج1ص13 فهرسة الخزانة التيمورية. ج4ص:169، مخطوطة بدار الكتب المصرية رقم172 مجاميع ـ ابن غنام. تاريخ نجد ص76 وأيضا ابن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد. ج1ص: 41. (2) هو: عبد الله ابن ابراهيم بن سيف الشمري نسبة إلى قبيلة شمر المعروفة ولد بالمجمعة من قرى سدير بنجد ثم رحل مع والده إلى المدينة المنورة وأقام بها متلقيا عن علمائها حتى برع وأصبح من علماء المدينة وأخذ العلم عنه خلق كثير. توفي بالمدينة وترك فيها عقبا منهم ابنه الشيخ إبراهيم مؤلف كتاب: العذب الفائض في علم الفرائض وهو شرح على منظومة: عمدة كل فارض في علم الوصايا والفرائض. لمصنفه الشيخ صالح بن حسين الأزهري الحنبلي من علماء القرن الثاني عشر الهجري. وقد طبع هذا الشرح المسمى بالعذب ـ الفائض في جزئين بمطبعة مصطفى البابي الحلبي. ويذكر صاحب فهرس الفهارس تلمذة ابن عبد الوهاب على يدي الشيخ عبد الله بن سيف فيقول: وأخذ من عبد الله بن ابراهيم النجدي تلميذ ابي المواهب. انظر: ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد ج1 ص: 20، 74، 116، أبي المكارم الأدريسي القاسي: فهرس الفهارس. ج1 ص: 271، عباس محمود العقاد: الاسلام في القرن العشرين. ص: 120، محمد حامد الفقي إثر الدعوة الوهابية. ص:41، أيضا سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق. ص: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 كانوا يعملون". ويصف البعض أثر محمد حياة السندي في محمد بن عبد الوهاب بأنه شعلة أنارت له الطريق (1) . وقد أشار بعض الباحثين إلى القصور الذي لمسه في كتابات سابقيه عن محمد بن عبد الوهاب في بيان شيوخه والتعريف بأحوالهم، واكتفى بعد الإشارة بقوله:" ونستطيع القول أن مدرسة الشيخ بعد القرآن والحديث هي كتب ابن تيمية وتلامذته، فالشيخ قرأ في الكتب وأكثر ما قرأ على نفسه (2) . ثانيا: مؤلفاته ترك ابن عبد الوهاب تراثا فكريا متنوعا، فله عدة رسائل عالج فيها موضوعات أملتها المناسبات، إلى جانب العديد من الكتب التي توفر فيها على شرح دعوته سواء ما كان منها اختصارا لكتب أراد باختصارها إبراز الحجج والبراهين المؤيدة لفكره ومنهجه أم كان تأليفاً وتصنيفاً. النوع الأول ـ الرسائل: أبرز ملامح هذه الرسائل والتي تعتبر الصورة الحية لفكر بن عبد الوهاب فيما ورد عليه من رسائل وتولى هو الرد عليها للتفصيل وأخرى لرد بعض المزاعم الكاذبة وثالثة للتعليم وإرشاد المطوعين في البلدان المختلفة لمنطقة نجد وغيرها مما سنفرد له القول فيما يلي بيانا لأغراض هذه الرسائل: 1) الرسائل التي يشرح فيها حقيقة دعوته مثل قوله في إحدى رسائله إلى العالم العراقي ـ السويد يقول فيها:" وأخبرك أني ولله الحمد متبع ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله عليه مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين ... (3) ".   (1) محمد حامد الفقي: أثر الدعوة الوهابية: ص: 43. (2) د. منير العجلاني: تاريخ البلاد العربية السعودية ج1 ص: 203. (3) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ الرسالة الثالثة عشرة 359-362 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 1) رسائل يرد فيها على التهم الباطلة التي كان المخالفون له يشيعونها عنه تنفيرا للناس من التعلق بدعوته مثل رسالته في الرد على اتهامات سليمان بن محمد بن سحيم مطوع أهل الرياض وقد أرسل رسالة إلى أهل البصرة والاحساء يشنع فيها على ابن عبد الوهاب ويفتري عليه أشياء لم تحدث وهي محض اختلاق (1) . 2) رسائل تعليمية يشرح فيها لدعاته أو لمن يطلب من العلماء المعاصرين له تفسير الأشياء الغامضة أو إزالة الشبهات العالقة ومن أمثلة ذلك رسالته إلى عبد الله بن سحيم (2) مطوع المجمعة (3) . 3) رسائل التحذير من الوقوع في الشرك والارتداد عن الدعوة مثل رسالته التي أرسلها إلى مطاوعة أهل سدير والوشم والقصيم (4) . 4) الرسائل التي كان يكتبها خصيصا للبدو وفي داخل نجد لنشر الدعوة بينهم وكان يكتبها بالأسلوب الذي يتحدث به البدو وبنفس اللهجة التي يتحدثون بها. ومثال ذلك رسالته " تلقين أصول العقيدة للعامة" (5) . 5) الرسائل التي كانت تكتب لا لدعوة الأمراء داخل الجزيرة العربية فحسب بل ودعوة العلماء والقضاء في الحرمين والشام ومصر والعراق وسائر علماء المشرق والمغرب أي أنه النوع الذي كان يعرض على العالم الإسلامي، وقد كان يوجه هذه النوع عادة الإمام الحاكم من أمراء البيت السعودي، مثال ذلك تلك الرسالة التي أرسلها الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود تلميذ الشيخ إلى أهل اليمن (6) .   (1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ الرسالة السابعة ص ـ 312. (2) عبد الله بن سحيم مطوع المجمعة غير ابن سحيم السالف الذكر. (3) إبن غنام ـ تاريخ نجد ـ الرسالة الرابعة ص: 261-271. (4) إبن غنام ـ تاريخ نجد ـ الرسالة الثالثة ص 255-258 وكذلك الرسالة ـ الحادية والعشرون ص 399. (5) مجموعة التوحيد ـ الرسالة الخامسة ـ تلقين أصول العقيدة للعامة ص257-258. (6) عبد الله القصبي ـ الثورة الوهابية 123-126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 كما وجه عبد العزيز هذه الرسالة إلى من يراه من أهل المخلاف السليماني خصوصا الأشراف أولاد محمد بن أحمد وناصر ويحيى وسائر أخوته. يضاف إلى رسائله: المناظرات التي قامت بينه وبين مخالفيه مباشرة أو عن طريق من يوفدهم للحوار مثل المناظرة التي جرت عام 1181هـ. بين موفده الشيخ عبد العزيز الحصين وبين علماء مكة عند الشريف ومناظرة أخرى عام 1211هـ ايضا مع علماء الحرم الشريف (1) . النوع الثاني ـ الكتب: أول شيء تتسم به الكتب التي ألفها صغر حجمها واختصارها واقتصارها على النصوص، عالج فيها قضايا الفكر الإسلامي معالجة سلفية، لم يخرج عن نهج السلف ورسم فيها خطوط الدعوة ومنهاج الدولة الجديدة المؤسسة على عقيدة التوحيد وتطبيق مبادئ هذه العقيدة في الحياة العملية من عبادات ومعاملات وإدارة وسياسة ورغم نشاطه المتعدد في مجال التدريس ومساهمته في النهوض بأعباء الإمارة الناشئة إلا أنه ترك عددا من المؤلفات لا بأس به أعطت الباحث والدارس للدعوة الوهابية الفرصة لتوخي حقيقة الدعوة من واقع مؤلفات صاحبها ويصف د. منير العجلاني نشاط ابن عبد الوهاب الثقافي فيقول:" زعيم تحف به المسائل، والمشاكل من كل جهة لا يجد متسعا من الوقت لتأليف الكتب المستفيضة، لذلك كانت رسائله أكثر من كتبه. وأحاديثه أكثر من رسائله، وكان في كتبه يميل في الغالب إلى الاختصار" (2) . نذكر على رأس مصنفاته كتابه: 1) التوحيد: وهو كتاب مشهور، جليل القدر، شرحه المشايخ عبد اللطيف بن عبد الله، وعبد الرحمن بن حسن هذا ويصف الكتاب المؤرخ ابن بشر فيقول:" كتاب التوحيد ما وضع المصنفون في فنه أحسن منه فأحسن فيه وأجاد وبلغ الغاية والمراد" (1) .   (1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ص 200 وكذلك عبد الرحمن بن عبد اللطيف ـ مشاهير علماء نجد وغيرهم ص 157. د. منير العجلاني ـ تاريخ البلاد العربية السعودية ـ ص329. (2) ابن بشر ـ المجد في تاريخ نجد ج1 ص116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وهو أول كتاب ألفه ابن عبد الوهاب قبل قيامه بالمرحلة الأولى من الدعوة. وعرف فيه التوحيد وفضله وتفسيره شهادة" لا إله إلا الله " وبين فيه نواقض التوحيد من الأمور الشركية، وهذا الكتاب مطبوع طبعات عديدة. 2) كشف الشبهات: كتيب صغير أو بعبارة أخرى رسالة مطولة وجهها الشيخ إلى الناس كافة وبين فيها معرفة التوحيد وأصوله، وهذا الكتيب طبع عدة مرات مفردا وضمن مجموعة، وقد ورد في كتاب تاريخ نجد لابن غنام من ص 233-252 تحقيق د. ناصر الدين الأسد طبع بمصر 1388-1962 م 3) كتاب الكبائر والمسائل التي خالف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، وهو كتيب صغير فيه أكثر من مائة مسألة، وقد بين فيها الأشياء التي عدها من الكبائر التي تخالف قواعد الإسلام وطبع عدة مرات. 4) كتاب تفسير القرآن: وقد طبع في مجلد 4 ج 10 ضمن الدرر السنية في الأجوبة النجدية، وقد أتى فيه بالمسائل الخاصة بالتوحيد وتعريف الشرك وشيء من أسرار الآيات وكل قصة يأتي عليها بعدد مسائل من الاستنباط حتى أتى في قصة موسى والخضر في سورة الكهف بمائة مسألة. 5) اختصر من الشرح الكبير والإنصاف مجلداً لبيان الخلاف وأمر بالقراءة فيه. 6) اختصر كتاب الهدي النبوي لابن القيم في مجلد. 7) أخذ من شرح الإقناع نبذة في أحكام الصلاة والزكاة والصيام من باب آداب المشي إلى الصلاة إلى باب ما يفسد الصوم وأمر بالقراءة فيه وتعليم العامة ما يلزمهم معرفته من أحكام صلاتهم وصيامهم وقد طبع هذا الكتاب عدة مرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 8) كتاب أصول الإيمان، مطبوع ضمن مجموعة (1) الرسائل النجدية (2) . 9) السيرة المختصرة، اختصار لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عن سيرة ابن هشام وقد طبعته مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة، تحقيق محمد حامد الفقي عام 1375-1956م. 10) السيرة المطولة. ذكر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مواقعه، وغزواته مطبوع. 11) مختصر الهدي النبوي. 12) مجموع الحديث على جواب الفقه (3) . 13) فضل الإسلام. فيه بيان لفضل الإسلام، وتفسيره وما جاء في الخروج عن دعوة الإسلام، مطبوع عدة مرات. 14) الأصول الثلاثة وأدلتها: به شرح لهذه الأصول وهي معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الاسلام بالأدلة، عني بنشره وتحقيقه وتصحيح الأصول وكتابة حواشيه ـ الشيخ الدمشقي الأزهري. 15) نصيحة المسلمين بأحاديث خاتم المرسلين. نشره قصي محب الدين الخطيب. 16) كتيب نواقض الاسلام، أو بعبارة أخرى رسالة طبعت ضمن مجموعة التوحيد. 17) تفسير سورة الفاتحة. 18) تفسير كلمة التوحيد.   (1) هذه الكتب السبع ذكرها تلميذه إبن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد ـ ج1 ص116، إبن غنام ـ تاريخ نجد ـ 84-85. (2) طبع هذا الكتاب محب الدين الخطيب في كتاب مستقل يقع في 80 ص. (3) هذه الكتب من 1-12 ذكرها إبن غنام ـ في تاريخ نجد ـ ص84-85 وكذلك الدرر السنية ج12 ـ ص 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 19) معنى الطاغوت ورؤوس أنواعه (1) . 20) أحاديث الفتن (2) . 21) مختصر زاد المعاد (3) . 22) مفيد المستفيد (4) . 23) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (5) . هذه هي مؤلفات ابن عبد الوهاب والتي طبعت فرادى أو ضمن مجاميع أكثر من مرة لتسهيل تناولها وتدريسها لطلبة وطلبات المدارس في المملكة العربية السعودية إلى جانب هذه المؤلفات الرسائل التي أشرنا إلى بعضها في الصفحات السابقة والتي جمعها تلميذه المؤرخ ابن غنام، وطبعت بعناية وتحقيق د. ناصر الدين الأسد وتقع هذه الرسائل من ص 213- 464- وعددها 26 رسالة.   (1) الرسائل 16،17،18،19، تم طبعها في مجموعة التوحيد من ص250ـ 260طبع الرياض ـ المكتبة الحديثة ـ وبعض هذه الرسائل طبع في كتيبات صغيرة. (2) أحمد عبد الغفور ـ محمد بن عبد الوهاب ـ 150-151. (3) الدرر السنية ج12 ص 18 (4) عبد الله سعد الرويشد ـ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ ج1 ص 184 (5) د. منير العجلاني ـ تاريخ البلا د العربية السعودية 329. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الفَصْل الثَاني: عصره وبيئته تبين من دراسة حياة محمد بن عبد الوهاب أنه ولد بنجد عام 1115 هـ وتوفي بها عام 1206، أي أنه عاش أحداث القرن الثاني عشر الهجري ومقدمات القرن الثالث عشر ونرى لزاما علينا أن نستكشف المكونات الأساسية لفكره ومنهجه من خلال دراسة عصره وبيئته، وسنتناول ذلك: أولاً: بدراسة مجملة لأحوال العالم الإسلامي في هذه الحقبة تعرفا على الفكر الإسلامي واهم قضاياه من خلالها، ونتبع ذلك. ثانياً: بدراسة أحوال نجد على وجه التخصيص. أولا: أحوال العالم الإسلامي يذهب الباحثون إلى وصف حالة العالم الإسلامي خلال القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) بأنه: تدن في الانحطاط (1) حتى: " طبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجا من أرجائه" (2) فبدا كما لو كان: " قد غرق تماما في نوع من انهيار عقلي محزن" (3) .   (1) د. محمد عبد الله ماضي: النهضات الحديثة في جزيرة العرب. ص: 25. (2) لوثروب ستودارد: حاضر العالم الاسلامي تعريب حجاج نويهض ج1 ص: 33، 34. (3) ماكس فانتاجو: المعجزة العربية، تعريب رمضان لاوند ص: 71 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ويذهب الباحثون إلى أنه مع بلوغ العالم الإسلامي هذا الدرك من التدني في هذا القرن، فإنه قد بدأ يقظته في نهايته وبداية القرن التاسع عشر (1) . وحسبنا أن نتأمل في واقع العالم الإسلامي اليوم لندرك كم كان حاله وبالا وداؤه عضالا، إذ ها هو وفد اكتمل على بدء يقظته قرنان من الزمان لم يزل بعد يعاني من أوضار علته حتى ليبدو كأنه ميؤوس البرء منها. وإنه لكذلك ما لم يدرك الأسباب الحقيقية لعلته دون أن تصرفه عنها الأعراض الظاهرة. والإدراك الصحيح لأسباب العلة مرهون بالإدارك الصحيح لمقدمات العافية فبضدها تتميز الأشياء، ولقد انبعثت حركات إصلاحية متوالية تحاول تلمس السبل إلى إقالة العالم الإسلامي من عثراته ووضعه مرة أخرى على الطريق الصحيح، ولم تحقق أي من هذه الحركات أهدافها على الوجه المرجو على تفاوت بينها فيما حققته وما أخفقت فيه، وقد يكون لكل من هذه الحركات أسبابها الخاصة التي حدت من نجاحها أو حالت دونه، ولكن يبقى وراء هذه الأسباب الخاصة سبب عام أهم منها جميعاً: ذلكم هو افتقاد النظرة الشمولية لدى حركات الإصلاح. ومكمن الداء في أزمة العالم الإسلامي أنه بلغ في تدنيه حد الاحتجاب الكامل عن حقائق الإسلام وكلياته الأساسية وبفعل هذه الغيبوبة انهمك الفكر الإسلامي في الجزيئات التي هي بطبيعتها أدعى إلى وقوع الخلاف في تقبلها كما أنها سرعان ما يدركها التغيير في حركتها، ومن هنا لم يعط الفكر التفاتا إلى الكليات التي عني القرآن الكريم بتقريرها وحشد الطاقات الذهنية والوجدانية لاستيعابها ودعوة العقل إلى الانطلاق منها غير مقيد إلا بها وغير محاسب إلا عليها. لا يحتاج الفكر إلى أي عناء لإدراك كليات الإسلام التي عليها مدار أحكامه واعتدال ميزانه، إذ هي شاخصة ناطقة في آيات الكتاب الكريم حسب المفكر أن يتدبر قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِن ْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ   (1) د. محمد ضياء الدين الريس: تاريخ الشرق العربي والخلافة العثمانية ج1 ص:98 وأيضا. لوثروب ستودارد. حاضر العالم الاسلامي ج1 ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 يَعْلَمْ} (1) فإن هذه الآيات المحكمات والتي كانت أول ما نزل من القرآن تحدد المنهج الإلهي في الكليات الخمس الآتية: * توحيد الله تعالى خالق كل شيء. * وجوب اتباع الرسول فيما يبلغه عن ربه. * ومساواة الناس جميعاً. * والحض على التعلم. * وتفاضلهم بالعلم. ثم تترى الآيات بعد ذلك تأكيداً لكل حقيقة من هذه الحقائق في ذاتها ثم تأكيداً للترابط القائم بينها مؤكدة أنها في مجموعها كل واحد لا يقبل التجزئة والانفصام، والكفر بإحداها كفر بها جميعاً. والايمان ببعضها لا يدخل صاحبة مساحة الإيمان مالم يؤمن بها جميعاً. {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} (2) . وكانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله بالهدى ودين الحق إلى أن لحق بالرفيق الأعلى تطبيقاً لهذه الحقائق الكلية، يروي ابن إسحاق (3) : حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة غداة فتح مكة فخطب الناس فقال:" لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... يا معشر قريش إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية: (13:49) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} (4) . وفي ظل علم النبوة عرفت البشرية معنى الأمة العقائدية التي ترتفع فوق روابط الأرض العرقية والقبلية فتقوم على حراسة هذه الحقائق الكلية وتعي أن وجودها مرتبط بصيانة هذه الحقائق {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ   (1) سورة العلق، الآيات من 1ـ 5 (2) سورة البقرة. آية: 85 (3) سيرة ابن هشام: ج4 ص: 31-32 (4) سورة الحجرات: آية 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) . أما كيف وصل العالم الإسلامي في تدنيه إلى هذه الهاوية المظلمة فلأنه أصيب أول ما أصيب في واسطة العقد من هذه الحقائق الخمس الكلية وهي المتعلقة بالمساواة الإنسانية وما يترتب عليها من تماسك بناء الأمة ما دام أفرادها كأسنان المشط أقدارهم واحدة وأمرهم شورى ومصيرهم إلى الله. ومن هذه الثغرة بدأ الشيطان التفافه حول كليات الإسلام. سول لبني أمية وأملى لهم أن ينتزعوا الأمر انتزاعا ثم عملوا على استدامته باذكاء العصبية العربية، حتى إذا جاء العباسيون على أنقاض هذه العصبية بعد أن يئسوا من تأييدها لهم استزادوا من خلق العصبيات وإثارة التنافس بينها بدلا من أن يعملوا على إحياء روح الاسلام القائمة على المساواة الإنسانية ومن هنا أخذت الدولة العباسية"في الانحطاط بتغلب الأتراك والديلم ولم تزل منحطة فليس للخلفاء آخر الأمر إلا الأسم فقط حتى ظهرت فتنة التتر ... وخرج هولاكو خان وملك بغداد وقتل الخليفة المستعصم (2) . ودام تمزق الدار الإسلامية إلى أن استولى الأتراك العثمانيون على السلطة ونقلوا الخلافة من بني العباس إليهم وتلقبوا بألقاب الخلفاء في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) وبدا أن روحا جديدة تدب في العالم الاسلامي باكتمال النصر لفاتحي القسطنطينية التي استعصت على سائر الدول الإسلامية قبلهم. ولكن سرعان ما تبين أنهم كغيرهم. صفحة في كتاب التسلط والقهر الخالي من الحضارة والمضمون. " صحيح أن الأتراك العثمانيين أعادوا للإسلام وحدة الدولة على معظم الدار الإسلامية لكنهم لم يعيدوا إليه وحدة الأمة وظلت الشعوبية تعمل عملها في الكيان الإسلامي فبالنسبة للبلاد العربية لم يكن من رابطة بينها وبين الدولة العثمانية إلا.. حقيقة الاستيلاء بالقوة الحربية " (3) ولا ينكر أن الإسلام قد   (1) سورة آل عمران: آية 110 (2) الجبرتي: عجائب الآثار والتراجم والاخبار. ت حسن محمد جوهر السرنجاوي ج1 ص: 47. (3) د. محمد ضياء الدين الريس: تاريخ الشرق العربي والخلافة العثمانية ص: 8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 اعتز بالأتراك كقوة حربية " ولكن قد سيئ التصرف بهذه القوة حتى جنت على الاسلام جنايات هائلة (1) "فقد أمعن الأتراك في استنزاف طاقات الشعوب الخاضعة لهم بحيث أصبح الشرق العربي " أسيرا في سجن الدولة العلية مغلوبا على أمره مرهقا مكدودا.. فقد كانت قاعدتها أنها تأخذ ولا تعطي وانتهى بها الأمر إلى أن صار الجهل رائدها والفقر حليفها والفوضى قانونها والذل طبيعة لها" (2) . لبثت أوروبا تتربص بالعالم الإسلامي منذ الحروب الصليبية التي أوقفها عاملان هامان: تعاظم القوة الحربية للدولة العثمانية بعد فتح القسطنطينية وانقسام أوروبا على نفسها. ولما تداعت القوة الحربية للدولة العثمانية لم يؤخر سقوطها إلا استمرار انقسام أوربا على نفسها " وبدا واضحا أن تنافس الدول الأوربية هو الضمانة الوحيدة لسلامة الأراضي العثمانية.. وقد رافق هذه الضعف السياسي الذي تردت فيه الإمبراطورية ضعف موات في حياتها العقلية، ذلك أن الحد من سلاطين هذا العهد لم يكن يعنى أقل العناية وأضألها بالآداب" (3) وبدلا من أن تلتفت الدولة العثمانية إلى النهوض بالبلاد الإسلامية نهضة شاملة تتناول سائر جوانب العقيدة والحياة انهمكت في تفتيت قوى العالم الإسلامي بتسليط القوى المحلية بعضها على بعض فتحرض والي الشام يوما على مصر وتحرض والي مصر يوما على الشام ونجد كل ذلك مخافة أن يشتد ساعد أحد الولاة فيخرج عليها. وسجل الجبرتي حالة الدولة العثمانية وسلاطينها في مستهل القرن الثاني عشر الهجري ـ الثامن عشر الميلادي. بقوله:" يضيق صدري ولا ينطلق لساني وليس الحال بمجهول حتى يفصح عنه اللسان بالقول، وقد أخرسني العجز أن أفتح فما أفغير الله ابتغي حكماً" (4) . ونتج عن تردي أحوال الدولة أن انطفأ سراج العلم والمعرفة وجمدت العقول على الخرافة وركن الناس إلى الحطة والهوان واكتفوا بتعليل ما يجري لهم   (1) لوثروب ستودارد: حاضر العالم الإسلامي (مترجم) ص: 18 (2) د. محمد ضياء الدين الريس: تاريخ الشرق العربي والخلافة العثمانية. ص:13 (3) كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية ج3 ص666 (4) الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار ج1 ص: 66 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 " بأنه قدر مقدور لا حيلة فيه اعتذارا عما هم فيه من التهاون والغفلة وسوء الإدارة (1) ". وبلغ من سلطان الخرافة على عقول العامة والخاصة" أن كان في موازنة البحرية التركية مبالغ تصرف لقراءة البخاري لجلب النصر للأسطول العثماني (2) " وأصبح التبرك بالأولياء هو السبب المقدم على كل الأسباب في كل الأمور ولكل شيخ أو ضريح اختصاص في الأبرياء من علة أو تيسير حاجة أو دفع ضر." فمن يزور الحسين أو السيد البدوي ومن يمر ببوابة المتولي أو بقبر ابي العلاء ببولاق يرى العجب العجاب من سيطرة الجهل على العقول (3) " بل إن جمود الفكر وسيطرة الخرافة كان شائعا حتى في عقول من يتسمون بالعلماء، وبين أيدينا واقعة جرت في الأزهر عام 1192هـ (4) تصور الهوة السحيقة التي انحدر اليها العلماء في فهمهم لدينهم وسلوكهم في شؤون الحياة. فكيف بعامة الناس وجهالهم. " لقد جهلوا دينهم ودنياهم لأنهم خلطوا بين عاداتهم وعقائدهم وبين خرافات الجمود وحقائق العبادات فإذا قيل لهم انهم تأخروا لمخالفة دينهم ونسيان وصاياه وآدابه عادوا إلى الخرافة الفاشية ولم يعودوا إلى الدين المهجور (5) ". ورغم هذه الظلمات الفاشية من الجهل والخرافة فإن العصر لم يخل ممن يعرفون جوهر الدين وعلومه وحقائق الإيمان ومناهجه. روى الجبرتي من أخبار عام 1123هـ هذه الرواية:"وفي شهر رمضان جلس رجل رومي واعظ يعظ   (1) ل. ستودارد: حاضر العالم الإسلامي. تعليق شكيب ارسلان بهامش ص:30 (2) حافظ وهبة: خمسون عاما في جزيرة العرب ط1 ص: 6 (3) حافظ وهبة: المرجع السابق. (4) روى الجبرتي في تاريخه هذه الواقعة فقال: توفي شيخ الأزهر أحمد عبد المنعم الدينوري وكان شافعي المذهب وخلفه في المشيخة الشيخ العريشي وكان حنفي المذهب فثار الشافعية واعتصم شيوخ الشافعية بضريح الإمام الشافعي بالقرافة وأقاموا به ليلا ونهارا لا يفارقون من أجل أن يعين شيخ لجامع الأزهر شافعي المذهب ولما ذهب إليهم مراد بك الحاكم المالكي قالوا له: " البلد بلد الإمام الشافعي وقد جئنا إليه وهو يأمر بذلك وان خالفت يخشى عليك" الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار لدى ذكر حوادث عام 1182هـ ويعلق الشيخ عبد المتعال الصعيدي على هذه الحادثة بقوله" فحكموا الشافعي وهو ميت في هذه القضية فانظر" القضايا الكبرى في الإسلام ص: 383 (5) عباس محمود العقاد: أثر العرب في الحضارة الأوروبية ط6 ص: 156 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الناس بجامع المؤيد ... وذكر ما يفعله أهل مصر بضرائح الأولياء وإيقاد الشموع والقناديل على قبور الأولياء وتقبيل أعتابهم وفعل ذلك كفر يجب على الناس تركه وعلى ولاة الأمر السعي في إبطال ذلك.. وذكر أيضا قول الشعراني في طبقاته أن بعض الأولياء الطلع على اللوح المحفوظ وأنه لا يجوز ذلك ولا تطلع الأنبياء فضلا على اللوح المحفوظ وأنه لا يجوز بناء القباب على ضرائح الأولياء والتكايا ويجب هدم ذلك وذكر أيضا وقوف الفقراء بباب زويلة في ليالي رمضان (1) ". ومن خلال دعوة هذا الواعظ الذي نعته الجبرتي بالرومي وفتوى علماء الأزهر بالرد عليه وقضاء القاضي ببطلان هذه الفتوى وإحجامه عن كتابة حجة بالإبطال يظهر بوضوح أن شمس التوحيد الخالص لله والإتباع الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والاخبار ج1 ص: 131 وقد استطرد المؤرخ في سرد هذه الواقعة إلى أن بعض الناس ذهبوا إلى العلماء بالأزهر وأخبرهم يقول ذلك الواعظ فكتبوا فتوى وأجاب عليها الشيخ أحمد النفراوي والشيخ أحمد الخليفي بأن كرامات الأولياء لا تنقطع بالموت وأن إنكاره على الاطلاع الأولياء على اللوح المحفوظ لا يجوز، ويجب على الحاكم زجره على ذلك وأخذ بعض الناس تلك الفتوى ورفعها إلى الواعظ وهو في مجلس وعظة فلما قرأها غضب وقال: يا أيها الناس إن علماء بلدكم أفتوا بخلاف ما ذكرت وأني أريد أن أجلس معهم وأباحثهم في مجلس قاضي العسكر فهل منكم من يساعدني على ذلك وينصر الحق فقال له جماعة نحن معك لا نفارقك فنزل عن الكرسي واجتمع عليه ـ العامة زيادة عن ألف نفس.. إلى أن دخل بيت القاضي وقالوا له ما تقول في هذه الفتوى. قال هي باطلة فطلبوا منه ان يكتب حجة ببطلانها فقال إن الوقت قد ضاق والشهود قد ذهبوا إلى منازلهم ثم أورد الجبرتي ابياتا لشاعر معاصر اسمه حسن الحجازي يبدو منها أنه من القائلين بخرافة. اطلاع الأولياء على اللوح المحفوظ إذ يقول كما أثبت الجبرتي: مصر قد حل بها واعظ ... عن منهج صدق قد أعرض أبدى جهلا فيها قولا ... منه الحبلى حالا تجهض فأساء الظن بسادات ... أحكام الدين بهم تنهض إذ قال لنا من أين لكم ... ختم بالخير لهم بغرض وكرامات لهم انقطعت ... بالموت زيارتهم ترفض وتهد جميع قبابهم ... ومرتبهم كلا ينقض وعلى اللوح المحفوظ فما ... للهادي مطلع يعرض وخرافات شتى الألسن بها ... إن فاهت شرعا تقرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قد اكتنفتها سحب الجهل والضلالة فعاد الشرك وماتت السنن بحيث يمكن القول بأن القرن الثاني عشر الهجري قد أدرك العالم الإسلامي وقد تجرد من سائر الحقوق الكلية التي جاء بها الإسلام من أول يوم: توحيد الله وإتباع الرسول ومساواة بني الإنسان وتفاضلهم وبناء العلم على قاعدة التعلم. ودعوة هذا الواعظ على أرض مصر في عام 1123هـ هي بذاتها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب على ارض نجد بعد أقل من ربع قرن، "ولكنه كان من سوء حظ الداعية التركي أن قام بدعوته في مصر حيث يوجد الأزهر وعلماؤه فقاموا بإنكار دعوته (1) ". ومن العجيب أن في الوقت الذي تحقق في إفلاس العالم الإسلامي من سائر الحقائق الكلية التي هي عماد دعوة الإسلام وأساس بناء المجتمع المسلم ـ كانت أوروبا قد قطعت شوطا بعيدا في حركتها العقلية التي أوصلتها إلى تقرير ثلاث من هذه الحقائق الكلية تقريرا عقليا ونعني بها الحقائق الكلية الآتية: 1) المساواة الإنسانية (ولو في داخل المجتمع الأوربي وحده) . 2) الثورة العلمية. 3) بناء العلم على التعلم بالمنهج الاستقرائي. وبينما كانت الجامعات والمصانع في أوربا تصعد بالإنسان الأوربي إلى قمة الإبداع في حدود الكليات الثلاث كان الأزهر (2) وغيره من الجامعات الإسلامية   (1) الشيخ عبد المتعال الصعيدي: المجددون في الاسلام ص: 438 (2) أورد الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي في كتابه: الأزهر في ألف عام نص محاضرة للشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر بين فيها أسباب ومظاهر جمود الحركة العلمية في الأزهر في العصور المتأخرة ونحن نثبت هنا نصوصا من هذه المحاضرة لما نرى لها من قيمة في هذا الصدد. قال الشيخ شلتوت:" ومرت بالأزهر أطوار.. ختمت بعهد تجمعت فيه على ماض طويل وأخذت تعمل عملها في صرف الأزهر عن التفكير والإنتاج وعن كل نافع من العلوم العقلية والكونية وانتهت مظاهر العلم والتفكير فيه إلى أن تغلبت المبادئ الآتية: 1. تغلبت العناية بالمناقشات اللفظية وتتبع كلمات المؤلفين في المصنفات والشروح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 يزداد جمودا وتحجرا وتزداد الحياة من حوله انحطاطا وتخلفا وظلاما حتى ختمت   = والحواشي والتقارير على الروح العلمية الموضوعية التي من شأنها أن تخدم الفكرة بقطع النظر عما يتصل بها من لفظ وعبارات. 2- تغلبت روح التقديس للآراء والأفهام التي دونها السابقون وسموا بها عن مستوى النقد عدم الاكتراث بما قد يظهر من آراء جديدة ولو كان لها من القوة والسداد مالها. 3- تغلبت روح الاشتغال بالفروض والاحتمالات العقلية التي لا تقع وما يتصل بها من أحكام فنراهم يقولون: لو طلقها نصف تطليقة أو ربع تطليقة. ولو قال أنت طالق إن شئت فقالت له: شئت إن شئت، وتراهم يقولون: لو تزوج جنية فالحكم في النسب والميراث كذا. ولقد أكثروا من هذه العبادات والمعاملات وانفقوا فيه من الوقت والتفكير ما كان جديرا لهم أن يدخروه للمنافع المفيدة. ويصل الأمر في ذلك أن الكمال بن الهمام وهو من أفذاذ القرن التاسع يقول: ومن مسائل قبل وبعد ما قيل منظوما: رجل علق الطلاق بشهر ... قبل ما بعد قبله رمضان ثم يندفع في تخريج هذا الغرض وبيان حكمه ثم يأتي من بعده ابن النجيم الحنفي صاحب البحر والاشباه فيتولى الشرح والبيان والتكميل ويقول:" إن هذا البيت يمكن انشاده على ثمانية أوجه، ويشاركه في ذلك علماء فيضع رسالة في هذا الغرض تحت عنوان: اتخاف الذكي النبيه بجوانب ما يقول الفقيه يشرح فيها أبياتا أولها: ما يقول الفقية أيده الله ... وما زال عنده الاحسان في فتى علق الطلاق بشهر ... قبل ما بعد قبله رمضان. ويورد في المسألة آراء جميع من تقدمه من العلماء في الشرح والحكم ولابد أن بجعل الجواب نظما كالسؤال وهكذا اشتغل المتأخرون بمثل هذه الفروض وأعرضوا بها عن تنمية الفقه العملي الذي يحتاج إليه الناس في معاملاتهم وأقضيتهم. 4- تغلبت نزعة الاشتغال باختراع الحيل التي يتخلص بها من الحكم الشرعي ... حتى افترضوا حيلا يسقطون بها الواجبات ويفسدون بها الالتزامات فتجد حيلا لاسقاط الزكاة وحيلا لاسقاط الشفعة وحيلا لاسقاط عدة المطلقة وحيلا لاسقاط الحدود. ولقد أطنب ابن القيم أحد أفذاذ علماء القرن الثامن في كتابه: اعلام الموقعين وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان في الرد على فكرة الاحتيال وبين أنها مضادة لروح التشريع، وإذا علمنا أنهم صنفوا كتبا في الاحتيال عجبنا، وهذا ابن نجيم في كتابه: الأشباه والنظائر يقول: الفن الخامس من ألأشباه والنظائر فن الجبل. 5- تغلب روح التعصب المذهبي الشديد حتى وصل الأمر في ذلك بين اتباع الأئمة إلى المناقشة في صحة الاقتداء بالمخالف في ـ المذهب وأخذت هذه المسألة في كل مذهب مجالا واسعا في البحث والتفريغ، ووصل الأمر أيضا إلى البحث من حكم التزوج من الشافعية فنرى الكمال بن الهمام وهو في الكلام عن حكم التزوج الوثنيات ينقل عن أحد علماء الحنفية: أنه لا تجوز المناكحة بين أهل السنة والاعتزال ثم يقول بعد هذا النقل: ومقتضاه = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 هذه الفترة بأشد الأطوار تخلفا" وعلى الجملة فقد بدل المسلمون غير المسلمين   = منع مناكحة الشافعية؟ واختلف فيها هكذا: قيل تجوز، وقيل: يتزوج بنتهم ولا يزوجهم بنته، إلى أن صارت المذاهب بين المسلمين ومن أنباء الأزهر أديانا يتقاتل أهلها ويضلل بعضهم بعضا ووهي لا تخرج عن أنها آراء وأفهام حذر أئمتها الأولون من تقيدها والعمل بها دون الاطمئنان إليها بمعرفة الجحة والبرهان. 6- تغلبت الفكرة القائلة بتحريم تقليد لغير المذاهب الأربعة فحجروا واسعا ومنعوا رحمة اختص الله بها هذه الأمة. ولقد ظهرت هذه الفكرة على وجه أوضح منذ عهد قريب يوم وضع الأستاذ الشيخ المراغي مشروع الزواج والطلاق فقام ثلاثة من علماء الأزهر بعمل مذكرة تناهض هذا المشروع.. على أنه لا يجوز تقليد غير المذاهب الأربعة، فكتب المراغي مذكرة لها قيمة خطرها في التوجيه الفقهي والتشريعي بين فيه كثيرا من مسائل الاجتهاد والتقليد كما بين أرآء العلماء في تأثر التشريع بالعرف والعادة، ويجدر بنا في هذا المقام أن نعلم أن العلماء الذين تناولوا هذه المسألة قديما واستساغوا أن يحكموا بمنع تقليد غير الأربعة لم ينظروا إلى خصوصية في ذات المذاهب الأربعة وإنما جعلوا مناط التقليد عل وجه العموم الثقة بالمذهب الذي يقلد واطمئنان النفس إلى صحة النقل عنه فمن ثبت عنده رأي من آراء الأئمة أو الصحابة جاز له تقليده والعمل بمقتضاه لا فرق بين إمام وإمام ولا بين الأربعة وغيرهم، ولهذا يقول الشيخ عز الدين بن عبد السلام:" لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة بل أن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وإلا فلا. ويقول أيضا:" إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم تجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله". ومن هنا يقول القرافي: انعقد الاجماع: على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجر. واجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر فله أن يستفتي ابا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ويعمل بقولهما من غير نكير فمن أدعى دفع هذين الاجماعين فعليه الدليل". هذا هو أصل الفكرة فانظروا كيف حرفت وجعل التقليد خاصا بالمذاهب الأربعة بل جعل واجبا يذكر بين ما يجب على المكلف أن يدين به ويعتقده فيقول بعض المؤلفين في منظومته: " وواجب تقليد حبر منهم".ورث الأزهر أيضا فكرة أن من قلد إماما من الأئمة الأربعة فليس له أن يحيد عنه بل يجب عليه أن يلتزمه بدون حجة ولا بحث ولا دليل ولا يصح أن يقلد غيره ولو في غير ما قلده فيه فأوجبوا على القاضي أن يحكم بمذهب وحظروا عليه أن يحكم بغيره وذلك على الرغم من أن علماء الأصول يقولون في هذه المسألة: والأصح أنه لا يلزم إذا لا يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة فيقلده في دينه وفي كل ما يأتي ويذر دون غيره. وورث الأزهر ايضا القول بحرمة تتبع رخص المذاهب حتى جعلوا عدم تتبع ذلك شرطا في صحة تقليد غير الامام. وصاحبة التحرير يقول أيضا في هذه المسألة: " ولا يمنع منه مانع شرعي إذ للانسان ان يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل. ولا أدري ما يمنع هذا من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وهبطوا مهبطا بعيد القرار ولو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر ورأى ما كان يدهي الإسلام لغضب أطلق اللعنة على من استحقها كما يلعن المرتدون وعبدة الأوثان" (1) . وقد ظفرنا في نصوص محاضرة الشيخ محمود شلتوت التي أثبتناها في الهامش بتحليل عميق لعلل الفكر الإسلامي في القرون المتأخرة والتي عرض لها من خلال دراسة أحوال الأزهر " ولا ينبئك مثل خبير " فقد عرض لقضايا الجمود الفكري والتقليد المذهبي وقفل باب الاجتهاد ومعاداة أصحاب الآراء المجتهدين ممن نضحت عقولهم وأدركوا أسرار الشريعة وقد أردنا إثبات هذا التحليل القيم لفائدتين جليلتين. الأولى: إن التحليل عرض لتخلف الفكر الإسلامي في القرون المتأخرة إبتداء من القرن التاسع الهجري إلى القرن الرابع عشر أي أنه عرض لسمات الفكر الإسلامي قبل ظهور محمد بن عبد الوهاب وخلال حياته وإبان حركته ومن بعد ذلك. الثانية: إن القضايا التي عرض لها هذا التحليل هي بذاتها القضايا التي دار حولها اعنف الجدل بين محمد بن عبد الوهاب ومخالفيه المعاصرين له واللاحقين عليه وكان للشيخ محمد بن عبد الوهاب حيال هذه القضايا من الآراء ما كان سببا للحكم عليه من قبل علماء الأزهر بأحكام معينة وسنعرف من خلال الدراسة   العقل والسمع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب ما خف على أمته. وورث الأزهر فكرة كان لها الأثر خطير في انحرافه عن سبيل التفكير الصحيح وتقدير الآراء بقيمتها العملية. خي خطي المعاداة لطائفة من العلماء نضجت عقولهم وأدركوا أسرار الشريعة وخالفوا الناس في كثير مما درجوا عليه وتحرروا من الاغلال التي قيد المقلدون بها أنفسهم فحكم الأزهر عليهم بأحكام جائزة. د. محمد عبد المنعم خفاجي. الأزهر في ألف عام ط. أولى. ص10 وما بعدها. (1) لوثروب ستودار. حاضر العالم الاسلامي ـ ص 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 أكانت هذه الأحكام أحكاما جائرة من مثل ما عناه الشيخ محمود شلتوت أم لا. تلك هي أحوال العالم الإسلامي ومظاهر الحياة فيه وقت ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب والجزيرة العربية بما فيها نجد جزء من العالم الإسلامي المتأثر بهذه الأحوال ولكن نجدا والجزيرة العربية تقتضيان بعد هذا التعميم تخصيصا نفرغ له في البحث الثاني. ثانياً: الأحوال في نجد والجزيرة العربية: إذا كان صحيحاً ما يقوله المؤرخون من أن الجغرافيا تصنع التاريخ فإن ذلك أصح ما يكون بالنسبة للجزيرة العربية وإنسانها في جاهليتها وإسلامها. وإذا علمنا أن هذه الجزيرة ليس لها من مدلول اسمها إلا كونها محاطة بالماء من جنوبها وشرقها وغربها، ثم هي بعد ذلك كتلة م الصحراء الجرداء تهبط حينا ترتفع حينا أدركنا صدق مقولة ابن خلدون من أن الصحراء " أكثر فساد الأعراب من طبيعة معاشهم (1) ". وقد قسم العرب جزيرتهم إلى خمسة أقسام: تهامة والحجاز ونجد واليمن والعروض. ونجد يشك الجزء الأكبر من مساحة الجزيرة العربية " وسمي نجد لارتفاع أرضه (2) ". ويشمل على مسطحات هائلة من الصحاري الجافة مثل الربع الخالي وتقدر مساحة هذا الربع بربع مليون ميل مربع " وربما كان أكبر بقعة رملية مجتمعة في العالم كله ... وبالإضافة إلى صحراء الربع الخالي هناك صحراء الدهناء وصحراء النفود والصمان. وغالبية هذه الصحاري كثبان رملية ثابتة أو متحركة. وقليل منها قفار صخرية كالضمان (3) ". ومصادر المياه جد قليلة لانعدام الانهار الجارية وقلة الامطار فضلا عن استحالة الانتفاع بممعظم ما ينزل من مطر، فهو إما أن ينزل على أرض صخرية   (1) مقدمة ابن خلدون ص: 329. (2) محمد الخضري. تاريخ الأمم الإسلامية ط5. جـ 1 ص 7 وأيضا. محمود شكري الألوسي. تاريخ نجد ص 6، 7. (3) د. منير العجلاني، تاريخ البلاد العربية السعودية. مدخل إلى الجزء الأول ص 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ضرب الله بها المثل في قوله تعالى: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً} (1) وأما أن يصيب كثبانا رملية لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فيغور في أعماقها ولا يستطيعون له طلبا. أو يتأخر نزوله " فيشتد الحال بمن يقيم عليه من القبائل. ومن هنا كان العرب في بواديهم لا يبقون في مكان واحد وإنما يتبعون مواقع القطر.. أضف إلى ذلك أن نجدا شديدة الحرارة إلا ما كان قريبا من الأودية ومسايل المياه القليلة (2) ". إذا فلا سبيل للقوم إلى زراعة تكون نواة للحضارة والعمران وبالتالي فلا سبيل إلى صناعة أو تجارة "وأما الصناعات فكانت أبعد الأمم عنها حتى أن البدو منهم كانوا يحتقرونها ويعيبون المحترف بحرفة.. مثلما هجا جرير الفرزدق وكلاهما من تميم بأن أحد أجداد الفرزدق كان محترفا بحرفة هي جلاء السيوف، ويعيبون قوما فيقولون: هم بين دابغ جلد وناسج برد" (3) وأما التجارة فقد كانت بلاد العرب لها ممرا ولم تكن لها مستقرا فتجارة العالم منذ القدم تعبر من الشرق إلى الغرب عبر جزيرة العرب ". وكان للمواصلات التجارية عبر جزيرة العرب طريقان: أحدهما شرقي يصل عمان بالعراق وينقل بضائع اليمن والهند برا ثم يجور غرب العراق إلى البادية حتى ينتهي به المطاف في أسواق الشام ... والطريق الثاني وهو الأهم غربي يصل اليمن بالشام مجتازا بلاد اليمن والحجاز ناقلا بضائع اليمن والحبشة والهند إلى الشام (4) ". وبينما استطاع عرب اليمن والحجاز وعمان أن يغتنموا وقوع بلادهم في معابر التجارة العالمية منذ القدم، فإن موقع نجد في قلب الجزيرة العربيةلم يتح للقبائل القاطنة فيها أن تستفيد من الممرين التجاريين في شرق الجزيرة وغربها، اللهم إلا إن تغير قبائل نجد على قوافل التجارة فتسلبها أو أن ترغم أصحاب القوافل على أن تكون تجارتهم في جوارها. (5)   (1) سورة البقرة. آية: 264 (2) محمد الخضري. تاريخ الأمم الإسلامية جـ 1، ص14. (3) محمد الخضري. تاريخ الأمم الإسلامية، ص16. (4) سعيد الإفغاني، أسواق العرب في الجاهلية والإسلام ط1356هـ. بدمشق ص:15 (5) روي بن هشام بسيرته عن إبن إسحاق أن حرب الفجار التي نشبت بين قريش ومن معها من كنانه وبين قيس غيلان وهم بطن من مضر سكنوا اليمامة من قديم فقال:" كان الذي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ومنذ أن خرج الخوارج إلى أن ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خلت القرون بنجد وهي في معزل عن الحركات الفكرية المختلفة إذا استثنينا حركة القرامطة في القرن الرابع الهجري باعتبار أن معقل الحركة المذكورة في الكوفة وإن امتد نفوذها إلى نجد وغيرها. ولكون الشيخ محمد بن عبد الوهاب نجدي الأصل والنشأة تميمي العرق والنسب ولكون حركته اقترنت منذ البدء بالأمير محمد بن سعود الذي يعود نسبه إلى عترة من ربيعة، ولأسباب أخرى سنعرض لها في حينها فقد وجه إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب أكثر من اتهام من أكثر من مصدر بأنه يدعو دعوة الخوارج (1) وينسج على منوالهم بدليل مذهبه في تكفير مخالفيه وبدليل عقدة الإمامة في غير اصحاب النسب القرشي وهذان الأمران هما رأس عقيدة الخوارج كما شرحها مؤرخو الفرق وعلماء الكلام. وحتى نستوفي بيان حالة نجد كمكون أساسي من مكونات فكر الشيخ ومنهجه فلا بد من إلقاء الضوء على هذه الحالة في القرون المتأخرة التي انتهت بظهور الشيخ ودعوته. ومن حسن الحظ أن لدينا من المصادر ما يمكن أن يعول عليه استجلاء الحقيقة. ومن هذه المصادر ما توفر لأصحابه صفة المعاصرة والمتابعة للشيخ وحركته. ومنها ما توفر له الاستماع والرواية والمقارنة والتحليل ولئن كانت هذه المصادر لا تخلو من اتخاذ موقف من الشيخ وحركته بالتأييد أو بالمعارضة وانعكاس ذلك على روح الحياة في سوق الوقائع وتحليها. إلا أن الباحث يستطيع أن يتلمس طريقه إلى الحقيقة بمقارنة هذه المصادر بعضها ببعض في الحدود التي يستلزمها البحث. من أهم المصادر العربية النجدية التي لدينا والتي عاصر اصحابها دعوة   = هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان أجار لطيمة للنعمان بن المنذر فقال له البراء بن قيس أحد بني ضمره بن بكر بن عبد مناة بن كنانة: أتجيرها على كنانة: فقال نعم وعلى الخلق كله فوثب عليه البراء فقتله في الشهر الحرام فلذلك سمي الفجار". جـ 1 ص: 198. (1) محسن الأمين الحسيني العاملي ـ كشف الارتياب في اتباع مجمد بن عبد الوهاب ـ ص116ـ 118 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الشيخ وكانوا من جملة مريديه ثلاثة. أولها: كتاب روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الامام وتعداد غزوات ذوي الاسلام لمؤلفه الشيخ حسين بن غنام المتوفي عام 1225 هـ (1) والثاني: كتاب عنوان المجد في تاريخ نجد (2) لمؤلفه الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر، والثالث: رسالة قيمة للشيخ عبد الرحمن بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب بعنوان المقامات (3) . وهذه المصادر الثلاثة رغم أهميتها لم يلتفت إليها معظم الذين كتبوا عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من العرب والأجانب. وكان جل اعتمادهم على ما أثبته كاتب مجهول الاسم والحال في مخطوطة وحيدة النسخة موجودة بمكتب المتحف البريطاني بلندن عنوانها:" لمع الشهاب في سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (4) ".   (1) طبع عدة مرات ثم توفر على تجريده وتحقيقه الدكتور ناصر الدين الأسد والشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ وهو من ذرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأخرجاه في طبعة جديدة عام (1381-1961) وقد قدمه الدكتور ناصر الدين الأسد بأنه" يعيد وثيقة تاريخية أصيلة ذات قيمة كبير للباحث في تاريخ هذه البلاد خلال النصف الثاني من القرن الثاني عشر والعقد الأول من القرن الثالث عشر للهجرة فمؤلف الكتاب معاصر للإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وكان من أتباعه المقربين إليه ولذلك كان تأليفه هذا الكتاب بطلب من الإمام نفسه فجاء أكثر ما ورد فيه عن مشاهدة وعيان ومعرفة شخصية ورواية" وقد ضمن المحقق الكتاب القسم الرابع الذي يضم رسائل الإمام محمد بن عبد الوهاب. ص: 7.6.5. (2) طبع هذا الكتاب عدة مرات آخرها طبعة وزارة المعارف السعودية عام 1394 بتحقيق الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ الذي عرف الكتاب بأنه" بدون مغالاة ولا ريب هو المصدر الوحيد لما حصل في نجد من الحوادث التاريخية منذ فجر النهضة وظهور الدعوة السلفية التي قام بها شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب وناصرها الإمام محمد بن سعود، حيث وقف قلم المؤلف بعد ان سجل حوادث أكثر من قرن من الزمان غير السوابق " والسوابق التي يعنيها المحقق هي ذكر بعض الحوادث في السنين السابقة على ظهور الشيخ ابتداء من عام 850هـ. ص:5. (3) كان مخطوطة مودعة بالمكتبة السعودية بالرياض والكائنة بميدان دخنة ضمن مجلد به عدة رسائل جميعها للمؤلف وهي مودعة تحت رقم 86/658 وتاريخ تسجيلها بالمكتبة 12/10/1393هـ والمقاسات تتضمن بيانا لنشأة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وردا علىبعض معارضيه، وهي مخطوطة تقع في 24 صفحة وعدد الأسطر في كل صفحة بين 22، 26 عدا الصفحة الأخيرة فهي من سطرين. وقد تم طبعها بمعرفة صاحب الدرر السنية. بالجزء التاسع ص 215 وما بعدها. (4) أورد الدكتور منير العجلاني تعريفا وافيا بهذه المخطوطة في كتابة: تاريخ البلاد العربية = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وايا كان الأمر فإن جملة المصادر تذهب إلى أن الجزيرة العربية عامة ونجدا بصفة خاصة سلخت القرون المتأخرة والمنتهية بظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب في جهالة جهلاء حتى أصبحت " موطنا للجور والظلم ومسرحا للحروب والقتال والنهب والسلب." (1) بحيث يمكن القول أنها بلغت من التدني أحط الدركات حتى لتبدو في جاهليتها الأولى أقل سواء مما آلت إليه، فقد تجرد القوم لا من فضائل الإسلام وقيمه العليا فحسب بل من سائر الفضائل والقيم حتى ما كان منها فطريا مورثا في جبلة العرب وطبائعهم لكأن العرب إذ انطلقوا مع الفتح الإسلامي الأول مسارعين إليه" بين محتسب وطامع." (2) لم يدعوا قيمة خلقية أو نفسية إلا واستودعها رجالهم وخلفوا الجزيرة العربية موطنا للعاجزين ممن قعد بهم عن الجهاد ضعف الإيمان أو ضعف الهمة وضعفهما معا ممن عناهم الله تعالى بقوله: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . (3) وسرعان ما بدت الأجيال التالية لهؤلاء القاعدين اكثر عجزا عن أن تسمو إلى استيعاب حقائق الإسلام والنهوض بتكاليفه. ثم أضيف إلى ذلك العناصر الممتازة التي غادرت الجزيرة تحت ألوية الفتح لم تلبث أن نسبت وطنها الأول بالتدريج" وعادت   السعودية وضمنه اقتباسات ضافية منه وقال في تعريفه إياه:" وفي مكتبه المتحف البريطاني بلندن قرأنا مخطوط لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب فصورناه وقد نقلت منه في هذا الجزء صفحات كثيرة وهو مخطوط له قيمته وإن كان في أخباره شيء من الدس والكذب ويقول المستشرقون: إن مؤلف الكتاب مجهول، ولكننا بصرنا في ذيل صفحة منه الحقت به محتوية على آخر الأخبار التي وصلت إلى المؤلف عن حروب عبد الله بن سعود هذه لكلمات:" وقع الفراغ من تحرير هذا الكتاب في يوم السبت السادس والعشرين من شهر محرم للحرام 1233هـ، كتبه العبد الجانب حسن بن جمال بن أحمد الربكي، وعندنا أن حسن الربكي هو مؤلف الكتاب لا ناسخه" أنظر تاريخ البلاد العربية السعودية ص: 44 وقد تصدى الدكتور أحمد مصطفى أبو حاكمة لمخطوطة لمع الشهاب فقام بطبعها وذكر في مقدمته أنه عنى في تحقيقه لهذا الكتاب بتصويب املائه" على مقتضى قواعدنا الاملائية المعاصرة ولم يعرض لمؤلفه باي بيان. ط مايو 1967 انظر ص 12، وقامت دارة الملك عبد العزيز بطبع هذا الكتاب والرد على ما ورد فيه. (1) صلاح الدين مختار. تاريخ المملكة العربية السعودية ط أولى ص 27. (2) البلاذري. فتوح البلدان. ص: 107 نقلا عن الدكتور فيليب حتى تاريخ العرب. جـ 1 ص:196. (3) سورة النساء: آية: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الجزيرة شيئا فشيئا إلى عزلتها السابقة." (1) وخلف حجب العزلة التي انسدلت أستارها على نجد والجزيرة العربية تهيأت الأسباب لتفشي كل بدعة ضالة ونزعة منحرفة. ولم تنل الجزيرة العربية شيئا من اهتمام الدول الإسلامية المتعاقبة إلا بالقدر اللازم لتامين سبل الحج إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة وزيارة مسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة. وقلما تم تأمين هذه السبل إلا عن طريق القوة التي يخضع لها الأعراب ريثما تنكشف عنهم ثم يعودون إلى طباعهم التي تأبت أن تطيع مهما بذل معها من تطويع وأخيرا ألقى حبل الجزيرة على غاربها فلم يبق فيها من الإسلام سوى اسمه وتوزعتها النزعات المتطرفة المتباينة "بعضها خروج على الإسلام ببعضه، وبعضها خروج على الإسلام بكله ولكنها مجتمعة على الجاهلية بعاداتها وتقاليدها وغزواتها وسالبها ومسلوبها وظالمها ومظلومها." (2) وكل ما يفترق بها عن الجاهلية الأولى أنها" استعاضت عن أصنام الجاهلية بتعظيم شجرة أو بئر أو قبر شيخ." (3) فكان على الداعية الذي يتصدى لتعريف المعروف وإنكار المنكر في هذه الجزيرة العربية مستهل القرن الثاني عشر الهجري أن يواجه ركاما من الظلمات الغاشية بعضها فوق بعض. ظلام يغشى عقول العلماء أو الموسومين بالعلم فضلا عن العامة والدهماء، حتى عدت الضلالة الموروثة لديهم هي الدين الذي ينتسبون عليه، يهرف العلماء بنصوصه ويتشبث العامة بقشوره دون فقه من الأولين ولا مسكة من الآخرين. والعقيدة التي قامت على التوحيد الخالص آلت إلى أدعية تلوكها الألسنة دون أن نفرق بين توحيد وشرك وشفاعة وترسل وولاية تعلم الناس القدوة الحسنة ووصاية تعمى بها الأبصار وتصم بها الآذان وتغل بها العقول وتموت بها الهمم اعتمادا على الولي ونفاذ مشيئته عبد الرب حتى "عكف أكثر الناس   (1) أحمد عبد الغفور عطار. سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ط1358هـ. ص: 9من مقدمة للشيخ طاهر الدباغ. (2) عبد الكريم أبا الخيل: العربية السعودية ص24. (3) حسين بن غنام: تاريخ نجد د. ناصر الدين الأسد ص:11 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 على دعوة الأولياء والصالحين أحيائهم وأمواتهم وفتنوا بقدرتهم على النفع وصرف السور من دون الله." (1) ورغم أن غاشية الضلال قد حجبت وجه الحق والحقيقة في سائر أنحاء الجزيرة العربية إلا أن حظ نجد من هذه الغاشية كان مهولا. فقد كان في كل بلد وفي كل قرية ولدى كل قبيلة بادية أو حاضرة أشتات من الطواغيت تصد الناس عن الحق وتصرفهم عن اتباع الصراط المستقيم فهم في كل واد من أودية الاعتقاد الباطل يهيمون حتى "كثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور والبناء عليها والتبرك به والنذر لها والاستعاذة بالجن والنذر لهم." (2) ورغم شيوع الشرك في الاعتقاد إلى هذا الحد لم يلتفت العلماء والحكام إلى معالجته وتنبيه الأذهان إليه فأمعن العوام في هذه الضلالات."حتى جهروا بكل ذلك وتظاهروا به عيانا ولم ينبر من أهل العلم من يزيل هذا الضلال بل تألبوا على مخالفة الحق وحاولوا تغيير الصواب." (3) وما كان العلماء في هذه الحقبة ليرتفعوا إلى مستوى مسؤولياتهم في بيان الحق والدعوة إليه وفضح الباطل والتحذير منه فقد كانوا بقية لا طاقة لها بالنهي عن الفساد في الأرض بعد أن أصبحت علومهم مجرد قشور دورهم فيها دور من ينقل ولا يعقل ويهرف بما لا يعرف فوقفوا عند حد حمل الأسفار وترديد المتون مقلدين غير مجتهدين فضلا عن أن غاياتهم من العلم قد انحطت حتى انحصرت في طلب القوت والتماس الحظوة عند حاكم أو شيخ أو أمير وكانت البدع " تحتل جانبا عظيما من عقولهم وكانوا يخلطون بين الدين والوثنية ولا يكادون يميزون بين الحق والباطل (4) ".   (1) ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد ص: 19 وأيضا صلاح الدين المختار: تاريخ المملكة العربية السعودية. ط أولى: ص35، جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام ترجمة د. محمد يوسف موسى وآخرين ص:232، كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية ترجمة نبيه أمين فارس وآخر جـ4 ص: 19. (2) ابن بشر: عنوان المجد ـ جـ 1 ص19 وفي نفس المعنى صلاح الدين المختار تاريخ المملكة العربية السعودية ص35. (3) حسين بن غنام: تاريخ نجد. ص:13،12. (4) أحمد عبد الغفور عطار. سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص:56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وإذ غابت الصفوة من العلماء الذين ينهضون بتكليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد غاب بغيابهم وجدان الأمة اليقظ الذي حرص القرآن الكريم أيما حرص على تربيته وصقله واعداده للدور الإنساني الخالد المتمثل في تكوين أمة تعرف الحق فتأمر به وتعرف المنكر فتنهى عنه فتسجيل بذلك أن تكون خير أمة أخرجت للنا مصداقا لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) وفي غياب الأمة المسلمة بالوعي القائم بتكليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعود الحياة إلى جاهلية جهلاء الحكم فيها للقهر والتسلط والبقاء فيها لذي البطش الشديد المزود بالمكر والخديعة. وهكذا آل الأمر في نجد في العصور المتأخرة فاستقبلت القرن الثاني عشر الهجري وقد عادت إليها النخوة القبلية والحمية الجاهلية فشمرت كل قبيلة عن ساعدها تقيم لها كيانا مستقلا باسم مشيخة أو إمارة على حساب غيرها من القبائل دون أدنى اهتمام من الغالب والمغلوب بالرابطة الدينية. "فغدا في كل بلد أمير بل كثيرا ما يتعدد الأمراء في البلد الواحد." (2) وهي في جملتها لا تعدو أن تكون قرى صغيرة قليلة السكان محدودة الموارد. وكان دأب هؤلاء الأمراء التنازع والتقاتل حتى يستخلص القاتل الأمر من المقتول. (3)   (1) سورة آل عمران. آية: 110. (2) حسين بن غنام: تاريخ نجد ص: 78. (3) ابن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 2. ص: 237. لدى ذكر حوادث سنة تسعة وثلاثين ومائة وألف. وفيها ذكر المؤلف مقتل مقرن بن محمد مقرن صاحب الدرعية وأنه " قتله ابن اخيه محمد بن سعود بن محمد بن مقرن". ومحمد بن سعود هو مؤسس الدولة السعودية والذي لجأ إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد تخلي أمير العيينة عنه وأمره اياه بالرحيل عنها على ما سيأتي بيانه في حينه, ونشير إلى ما ذكره ابن بشر في تاريخه ص: 189،190خاصا بمؤسسة الدرعية من أجداد محمد بن سعود حيث ذكر أن أول من ظهر من ربيعة بن مانع "فصار له شهرة واتسع ملكه" إلى أن قال: ثم ظهر بعد ذلك ابنه موسى واحتال على قتل ابيه ربيعة فجرحه جراحات كثيرة وهرب" وهذه الحادثة والتي قبلها تدلان بوضوح على ضراوة الحياة وقسوة الصراع على أرض نجد في الفترة التي ظهر فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب. انظر في اثبات هذه الحوادث: عبد الله فلبي: تاريخ نجد ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ السلفية. ص:4، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ولم يكن هم الحاكم المنتصر في هذا الصراع يتجاوز تحيق مصالحه الشخصية بإكثار رعاياه ومن ثم الاستكثار بما يجيبه متهم من مال بالحق أو بالباطل دون أن يعود بشيء مما يحصله منهم على أي وجه إليهم. ويسجل ابن بشر في تاريخه الحوار الذي دار بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود وما اشترطه الأمير من ألا يكون من شأن اتباعه للشيخ الانتقاص من الأموال التي يجبيها من أهل الدرعية (1) . والخلاصة أن القرن الثاني عشر الهجري أظل نجدا وقد تحللت من عروة الدين المتمثل في صدق العقيدة كما تحللت من عروة الدنيا المتمثلة في وجود سلطان عادل. وإذ كان القول المأثور: إن الله يزع بالسلطان ما يزع بالقرآن، فإن أهل نجد لم يكن لهم آنذاك وازع من سلطان أو عاصم من قرآن (2) . وفي هذا العصر وخلال تلك البيئة ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونشأ يعاني ما يعانيه أبناء عصره وبيئته، ولقد كانت هذه المعاناة لهموم العصور والبيئة أحد مكونات شخصيته وبالتالي أسهمت في تحديد فكره ومنهجه إلى جانب ما تلقاه عن شيوخه حسبما نعرض له في ثنايا البحث.   = محمود شكري الألوسي: تاريخ نجد. ص:91. خير الدين الزركلي: شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز ط أولى جـ 1 ص: 32. (1) ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص: 25 حيث يقول بالنص " إلا أن محمد بن سعود شرط في مبايعته للشيخ ألا يتعرضه فيما يأخذه من أهل الدرعية مثل الذي كان يأخذه رؤساء البلدان على رعاياهم"وانظر في نفس المعنى: حسين بن غنام: تاريخ نجد: ص: 81 (2) خير الدين الزركلي: شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز ط أولى جـ 1 ص: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الباب الثاني: المعالم الرئيسية لفكره ومنهجه الفصل الأول: موقفه بين الاجتهاد والتقليد ... الباب الثاني: المعالم الرئيسية لفكره ومنهجه بعد أن تبين طبيعة المكونات الأساسية لفكر محمد بن عبد الوهاب ومنهجه من خلال دراستنا لحياته وعصره وبيئته، نستهل دراستنا لهذا الفكر بالتعريف على معالمه الرئيسية البارزة في رسائل بن عبد الوهاب ومؤلفاته. وبين هذه المعالم يبرز بين يدينا معلمان هامان هما: الفصل الأول: موقفه بين الاجتهاد والتقليد. الفصل الثاني: الربط بين العلم والعمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الفصل الأول: موقفه بين الاجتهاد (1) والتقليد (2) خلت القرون الأولى بالمسلمين وإجماعهم منعقد على أن الاجتهاد واجب، بل فرض كفاية على الأمة، تأثم بتركه كافة ويكفي أن يقوم به أهل   (1) الاجتهاد: لغة: مأخوذ من الجهد فمادته الأصلية (ج. هـ. د) ويعنى بذل المشقة والطاقة فيخرج عنه مالا مشقة فيه أي أنه منوط باستفراغ الوسع في أي فعل كأن يقال استفرغ وسعه في حلم الثقيل ولا يقال استفرغ وسعه في حمل النواة. (القاموس المحيط، مختار الصحاح، البهاري، مسلم الثبوت. ص: 318. الشوكاني. إرشاد الفحول. ص:249 ن القرافي: شرح تنقيح الفصول ص445 وأيضا بن قدامه المقدسي: روضة الناظر ص: 190. والاجتهاد: اصطلاحاً: يطلق على الاجتهاد المطلق في فروع الشريعة والاجتهاد في المذهب بمعنى بذل الجهد من الفقيه في استخراج الأحكام من أدلتها الشرعية. هكذا عرفه الشوكاني في إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول: ص249. وسبقه على مضمون المعنى سائر الأقدمين كما نهج على ذات المنوال الفقهاء المحدثون. فالبيضاوي في منهاج الوصول ص104 والبهاري في مسلم الثبوت ص318 وابن قدامه المقدسي في روضة الناظر ص 190 والزركشي في البحر المحيط: 3/281 جميعهم يعرفون الاجتهاد بأنه:"بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني: أو بعبارة الزركشي: يذل الوسع لنيل حكم شرعي عملي بطريقة الاستنباط". وبعرفه الشيخ أو زهرة من المحدثين بأنه: بذل غاية الجهد في الوصول على أمر من الأمور وفعل من الأفعال وفي اصطلاح علماء الوصول: بذل الفقيه ـ وسعه في استنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية "وينتهي من هذا التعريف إلى أن الاجتهاد قسمان:" أحدهما خاص باستنباط الأحكام وبيانها. والثاني: خاص بتطبيقها". ويستطرد إلى أن: " النوع الأول وهو المعروف بالاجتهاد الخاص قد ينقطع في زمن من الأزمان وهو قول طائفة كبيرة من العلماء ما عدا الحنابلة الذين تمسكوا باستمرار فتح باب الاجتهاد. أما القسم الثاني فقد اتفق = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الاقتدار عليه من علمائها عملاً بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون} (1) وما كان لشريعة الإسلام أن تستوفي كمالها في التطبيق إلا عن طريق الاجتهاد فيه وحده بتحقيق مراد الله تعالى لها بأنه الشريعة الحاكمة إلى يوم الدين. ورغم إجماع السلف من علماء الأمة على وجوب الاجتهاد فقد اختلفت مناهجهم في شأنه على النحو الذي فصله علماء أصول الفقه بما ليس عليه مزيد، وحسبي في هذا المقام أن أعرض في إيجاز لمسألتين أراهما جد لازمتين للتعرف على موقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الاجتهاد والتقليد هاتان المسألتان هما: المسألة الأولى: حجية النص الشرعي. والمسألة الثانية: دلالة النص الشرعي.   =العلماء على أنه لا يخلو منه عصر من العصور، وهؤلاء هم علماء الخريج وتطبيق الأفعال المستنبطة على الأفعال الجزئية فعملهم هو تطبيق ما استنبطه السابقون وهو ما يسمى تحقيق المناط". انظر: محمد أبو زهرة أصول الفقه ص365. (2) التقليد لغة مستمد من الفعل (قلد) فيقال: قلدتها قلادة: جعلتها في عنقها " والقلادة ما جعل في العنق. (القاموس المحيط مادة: قلد) فوضع الشيء في العنق مع الإحاطة به يسمى قلادة، والجمع قلائد، قال الله تعالى: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخيل ”لا تقلدوها الأوتار" ومن قول الشاعر: قلدوها تمائما ... خوف واسن وحاسد ويستعار اللفظ للدلالة على تفويض الأمر إلى شخص كأنما ربط الأمر بعنقه.. ومنه قول القائل: وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا والتقليد في اصطلاح الفقهاء والأصوليين: اعتماد الإنسان في فهم الحكم من الدليل على غيره لا على نفسه. وفي المستصفى ص: 516 يعرف الغزالي التقليد بأنه: " قبول قول بلا حجة وليس ذلك طريقاً إلى العلم لا في الأصول ولا في الفروع" ويعيب الغزالي على الحشوية ومن نحا نحوهم في القول بأن معرفة الحق طريقه التقليد. وإلى نفس المعنى الذي حصله الغزالي ذهب الشوكاني في ارشاد الفحول: ص26، وابن قدامه في روضة الناظر ص205، القرافي في شرح تنقيح الفصول ص431، وايضا سليمان بن عبد الله في: تجلية الجواب ص: 33. (1) سورة التوبة: آية 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 لأن اختلاف مناهج الفقهاء في الاجتهاد يعود أصلاً إلى أي من هاتين المسألتين أو إليهما معاً. أما حجية النص فالمتفق عليه أن النص مني كان قطعي الورود عن الله عز وجل قرآنا أو حديثا يروى فحجيته ثابتة عند الجميع. وفي هذا المقام تتصدر نصوص القرآن الكريم قائمة النصوص القطعية في الورود عن الله عز وجل إذ لا ينفك الإيمان بهذه الجزئية عن مبدأ الإيمان ذاته والذي لا يكتمل إلا بتمام اليقين بما أنزل الله على رسوله وأنه صلى الله عليه وسلم قد صدق بتبليغه كما أنزل إليه وأن هذا التنزيل محفوظ بما تكفل الله تعالى بحفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) . ومن هنا فجميع نصوص القرآن الكريم قطعية الورود عن الله عز وجل وحجيته في العمل ثابتة. ولكن الشأن في نصوص الأحاديث المنسوبة إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم ليس كذلك فمراتبها على ما صنف علماء الحديث تختلف بين الصحيح والحسن والضعيف والموضوع بل ولا يوجد اتفاق على مراتب معظم الأحاديث فالصحيح عند فقيه ضعيف عند آخر موضوع عند ثالث مما أجمله علماء الأصول في القول بوجود نص قطعي الورود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخر ظني الورود عنه صلى الله عليه وسلم. فإذا كانت حجية قطعي الورود من النصوص مما لا خلاف عليه فإن الخلاف واقع في حجية طني الورود منها. وهنا يقع أول الخلاف بين المجتهدين فيما يعود عليه من النصوص لثبوت حجيته وما لا يعول عليه لعدم ثبوت هذه الحجية. وإلى هذا السبب يعزى اختلاف الفقهاء بين أهل الرأي منهم كما سمى الأحناف وبين أصحاب الحديث كما سمى أتباع الشافعي وأحمد، فالأولون قل ما لديهم من نصوص الأحاديث التي اطمأنوا إلى قطعيتها ومن ثم حجيتها فعولوا أكثر من غيرهم على القياس حتى سماهم خصومهم أهل الرأي بمقولة أنهم يقيسون بالرأي. وأصحاب الحديث كان محصولهم من الأحاديث التي اطمأنوا إلى قطعيتها ومن ثم حجيتها اكثر وأوفر فوجدوا في تطبيقها ما يسد حاجتهم.   (1) سورة الحجر. آية: 9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فإذا تجاوزنا الخلاف حول حجية النص واجهنا في المسألة الثانية المتعلقة بدلالة النص خلافا أبين وأوسع، وقليل من النصوص تلك التي انعقد الإجماع بين الوصفين بأن كان قطعي الورود قطعي الدلالة، وواجه الفقهاء في الكم الأعظم من النصوص ما عرفوه بأنه ظني الدلالة، وحيال هذه الدلالة الظنية اختلفت الأفهام في تحصيل المدلول، أما ما كان قطعي الورود قطعي الدلالة فقد انعقد الإجماع على امتناع الاجتهاد حياله بما عرف بقاعدة: لا اجتهاد مع النص. وأما ما كان قطعي الورود ظني الدلالة أو ظني الورود ظني الدلالة أو ظني الورود قطعي الدلالة فقد ظل ميدانا لاجتهاد الفقهاء منذ الرعيل الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم الفطر للمسافر في رمضان يستند إلى نص قطعي الورود عن الله عز وجل: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} (1) ولكن دلالة النص على كون هذا الحكم رخصة أم عزيمة دلالة غير قطعية بما روي من أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إلى سفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنهم من صام ومنهم من أفطر فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صائم ومفطر. ومن أمثلة اجتهاد الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بنو قريظة فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق وقال: لم يرد بنا التأخير وإنما أراد سرعة النهوض فنظروا إلى المعنى. واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلاً، نظروا إلى اللفظ وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس." (2) إذن فالاجتهاد حتمي لتحصيل المعنى من نص ظني الدلالة وهو أكثر حتما حال غياب النص. وفي ظل التسليم بحتمية الاجتهاد وضرورته نشأت المذاهب على اختلافها وأثرى الفكر الإسلامي في شتى مجالاته، وبدا للمسلمين خاصتهم وعامتهم أي حرج من هذا الاجتهاد والاختلاف حتى تواتر بينهم القول بأن: اختلافهم رحمة.   (1) سورة البقرة. آية 184 (2) ابن القيم. أعلام الموقعين 1/244-245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 لم يضيق الفكر الإسلامي باختلاف الفقهاء وتفريعاتهم، ولكن الضيق بدأ يناوش صدور الحكام من هذا الاختلاف. فما روي أن ابن المقفع وزير أبي جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس أشار عليه بأن يأمر بجمع الناس على مصدر واحد للأحكام حتى لا يختلف الفقهاء في شأن الأقضية التي تعرض عليهم. وعملا بمشورته أمر الخليفة أمام دار الهجرة مالك بن أنس بجمع ما صح لديه من أحاديث (1) الرسول صلى الله عليه وسلم فكان له الموطأ. وقد اراد أبو جعفر ان يرسل في الأمصار نسخا منه لتكون مرجع الناس في أقضيتهم فابى مالك عليه ذلك معتذرا بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في الأمصار ولدى كل جماعة منهم من العلم ما تطمئن قلوبهم عليه وأن أخذ الناس بمرجع واحد فيه حرج ومشقة فانتصح بذلك المنصور، ودام ازدهار حركة الاجتهاد إلى القرن الرابع الهجري وإن كان القرن الثالث شهد ختام مولد المذاهب الكبرى حتى ليقال ان الإمام محمد بن جرير الطبري المتوفي عام 310هـ كان خاتمة المطاف بين المجتهدين ذوي الاستقلال في البحث والنظر وأنه منذ وفاته بدا زحف غاشية الجهل على العقول (2) . إلى أن وصل الأمر إلى موات ملكة الإجتهاد حتى أن المستعصم أمر أساتذة المدرسة المستنصرية:" ألا يتعدوا حدود كلام المشايخ السابقين ويمتنعوا عن ذكر شيء من مصنفاتهم (3) " وأدلهم ليل الجهالة بسقوط بغداد في يد التتار عام 656هـ وإحراقهم لمكتباتهم وتخريبهم دور العلم فيها. فلم يعد من سبيل إلى التماس العلم الصحيح فقنع الناس بالتقليد الذي أصبح طابع العصور التالية لذلك. ومع أن القرن العاشر قد ظهر فيه نوابغ من العلماء كالشيخ خليل المالكي والسبكي والرمادي والسيوطي وغيرهم ممن كانت لهم القوة الفقهية وملكات الاستنباط غير أنهم لم يصرفوا هذه القوى كما فعل الأسلاف في الاجتهاد، والتخريج بل وجهوها إلى وضع الشروح والمختصرات وجمع الفروع الكثيرة في عبارات ضيقة تشبه الألغاز حتى احتاجت إلى وضع كتب أخرى تشرح مبهمها   (1) ابن خلدون.. المقدمة ص 18،17. (2) (3) عبد المتعال الصعيدي. في ميدان الاجتهاد ص 1029 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وتحل عقدها وتكشف عن غرض المؤلف من وضعها. (1) فكان ذلك سببا لحجب العقول عن الاجتهاد والاستنباط حتى أصبح نسبة الاجتهاد إلى شخص تهمة وذنبا لا يغتفر وفشا بين الكافة الدينونة بعقيدة مفادها: غلق باب الاجتهاد ودام ذلك إلى ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب فكان له موقفه في الاجتهاد وموقفه من التقليد على النحو الذي سوف نعالجه في مبحثين متواليين. أولا: موقفه من الاجتهاد ويهمنا أن نستجلي هذا الموقف في النقاط الآتية: 1) مبدأ الاجتهاد من حيث مشروعيته واستمراره. 2) مجال الاجتهاد. 3) الشروط الواجب توافرها في المجتهد. 4) علاقة المجتهد بالمجتهد. (1) مشروعية الاجتهاد واستمراره: المحنا في مدخل هذا الباب إلى ما هو متفق عليه بين أهل العلم من حيث اختلاف حجية النصوص ودلالاتها بما عرف بالظني والقطعي وأن الاجتهاد ضروري لتحصيل الأحكام منها على نحو أو آخر. فإذا شخصنا إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب نستجلي فكره في هذه الخصوصية الفيناه يعرف النصوص الشرعية بقوله:" ومن أعظم ما من الله به عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته اعطاؤه جوامع الكلم فيذكر الله تعالى في كتابة كلمة واحدة تكون قاعدة جامعة يدخل تحتها من المسائل ما لا يحصر وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خصه الله بالحكمة الجامعة." (2) ويرتب الشيخ على ثبوت هذه الخاصية للنصوص الشرعية نتيجة مفادها: إن لكل نزاع ينجم بين الناس حلا في كتاب الله وسنة رسوله ويعبر الشيخ عن هذه النتيجة بقوله:" علمنا قطعا أن من ورد إلى الكتاب والسنة ما   (1) محمد علي السايس. تاريخ الفقه الاسلامي ـ ص117 (2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ4 ص: 4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 تنازع الناس فيه وجد فيهما ما يفصل النزاع." (1) ومما تقدم نستخلص أن الشيخ إذ يرى أن كلمة واحدة في كتاب الله تعالى أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم "يدخل تحتها من المسائل ما لا يحصر" فإنه يتفق مع أهل العلم في قولهم بأن لبعض النصوص الشرعية دلالة ظنية بحيث يدخل تحتها من المسائل مالا يحصر وبحيث يكون الاجتهاد هو طريق استنباط حكم هذه المسائل من حيث دخولها تحت حكم النص من عدمه. ومن هنا يستقيم لنا القول بأن الشيخ يرى مشروعية الاجتهاد بل واستلزامه بحيث يصبح فرض كفاية على الأمة لأنه قد تعين لآداء واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وإذا كانت مشروعية الاجتهاد بل ووجوبه عند الشيخ على هذا النحو من الثبوت فهل يتسع المجال عنده للقول باستمرار الاجتهاد أبد الدهر. أم يرى بابه قابلا للانغلاق كما زعم المتأخرون؟ للجواب على هذا السؤال يلزمنا أن نتعرف على مدلول الاجتهاد عند الشيخ. فقد رأينا أنه في اصطلاح الأصوليين والفقهاء: بذل الجهد من الفقيه لاستخراج الأحكام من أدلتها الشرعية (2) أي أن الاجتهاد ينتهي عند استخراج الحكم من دليله الشرعي مما سوغ للمتأخرين الزعم بانغلاق باب الاجتهاد بمقولة أن الأولين لم يدعوا حكما إلا واستخرجوه من دليله الشرعي بما لا يدع مزيدا لمستزيد. لكن الاجتهاد عند الشيخ يكمن في مرحلة سابقة على استخراج الحكم المتنازع فيه من دليله، إن الاجتهاد عنده هو: رد الأمر إلى الله ورسوله"فنقول في محل النزاع إلى الله ورسوله." (3) ولما كان التراد إلى الله ورسوله واجب في كل مسألة متنازع عليها. ولما كانت المسائل لا حصر لها. دل ذلك على وجوب التراد إلى الله ورسوله بشأنها لتحصيل العلم   (1) الدرر السنية في ألأجوبة النجدية جـ 3 ص: 4. (2) أنظر هامش ص: 50، 51 من البحث. (3) الدرر السنية جـ 4 ص4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 بحكمها:" لأنه كما لا يجوز للإنسان أن يأمر إلا بعلم لا يجوز أن ينكر إلا بعلم." (1) فمن الواضح الجلي أن الشيخ يرى في الاجتهاد واجبا لازما قائما إلى يوم القيامة، وأن بابه غير قابل للإقفال والانغلاق. ولقد كان هذا المعلم الأساسي مع معالم فكره ومنهجه من أهم الأسباب التي أثارت عليه العدد العديد من الخصوم والمعارضين من العلماء والعامة على السواء فقد استهول القوم فكرة: استمرارية الاجتهاد وفتح بابه ورأوا في ذلك ابتداعا وعدوا صاحبة القائل به صاحب مذهب جديد في الاسلام فانبروا يشهرون بالشيخ ناعتينه بأنه:" رجل مبتدع جاهل مضل ضال. من بضاعة العلم والتقوى عاطل، جرت منه أمور فظيعة, وأحوال شنيعة" (2) وكان من جملة ناقديه في هذا الخصوص أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب (3) الذي أنكر عليه القول بفتح باب الاجتهاد كما وصفه بأنه لا يستجمع شروط المجتهد وهو ولا أحد من أتباعه، وذهب إلى نفس النقد جملة من معارضي الشيخ نذكر منهم الحسينيى العاملي (4) ، وزيني بن دحلان (5) وعبد الله بن علوي حداد (6) وغيرهم. ومنهج الشيخ في الاجتهاد على ما صرح به في رسائله وكتبه يقوم على قاعدة القطع بأن في الكتاب والسنة حكم كل مسألة كانت ستكون. وأن مهمة المجتهد الرجوع إلى هذين المصدرين واستنباط الحكم. وقد عبر عن ذلك بقوله:" علمنا قطعا أن من رد إلى الكتاب والسنة ما تنازع الناس فيه وجد فيهما ما يفصل في النزاع". فمنهجه على هذا التحديد منهج أصحاب الحديث المؤمنين بأن لك نزاع حكماً في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن   (1) المرجع السابق. ص5 (2) ابن غنام. تاريخ نجد ـ رسالة بن سحيم إلى أهل البصرة والاحساء ص294 (3) سليمان بن عبد الوهاب. الصواعق الألهية في الرد على الوهابية ص8 (4) الحسيني العاملي: كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب جـ1ص7-8 (5) زيني دحلان: خلاصة الكلام في امراء البيت الحرام ص: 80-83 (6) عبد الله بن علوي حداد، مصباج الانام وجلاء الظلام في رد شبهة النجدي الذي أضل العوام ص:80 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الاجتهاد هو بذل الجهد لمعرفة هذا الحكم. وترتيبا على ذلك فالشيخ يجعل من ميادين الاجتهاد الأساسية بذل الجهد للوصول إلى النص قبل بذل الجهد لاستخراج الحكم منه، بل ولفرط تعويله على النصوص اسند بعض أحكامه إلى نصوص يرى البعض أنها ضعيفة بل قاده التشبث بالنص إلى الاستدلال بما يرى البعض انه نص موضوع. (1) (2) مجال الاجتهاد: لا اجتهاد مع النص، تلك قاعدة قالت بما كل مع عرف له قول معتبر بين الفقهاء والمتكلمين على خلاف بينهم في دقة التزامها بعد ثبوت تقريرها، ولكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يرتفع بهذه القاعدة إلى ذروة التأكيد وقمة الإتباع فلا إنكار في مسائل الاجتهاد عنده شريطة الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله" ولم كان أعلم الناس وأتقاهم، وإذا كان الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق وأمرنا بإتباعه وترك ما خالفه فمن تمام ذلك ان من خالفه من العلماء مخطئ ينبه على خطئه وينكر عليه، وإن أريد بمسائل الاجتهاد مسائل الخلاف التي لم يتبين فيها الصواب فهذا كلام صحيح (2) " ومنهجه في هذا الخصوص هو عين منهج السلف، فما كان لرأي كائن من كان أن يقوم في مواجهة نص من كتاب أو   (1) فقد أورد في إحدى رسائله استدلالا بقصة الغرانيق بعد أن ساقها على النحو التالي: " قصة قراءته صلى الله عليه وسلم سورة النجم بحضرتهم (أي الكفار) فلما بلغ: (أفرأيتم اللات والعزى) ألقى الشيطان في تلاوته: تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهين لترتجي. فظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها ففرحوا بذلك وقالوا كلاما ما معناه: هذا الذي نريد ونحن نعرف أن الله هو النافع الضار وحده لا شريك له ولكن هؤلاء يشفعون لنا عنده، فلما بلغ السجدة سجد وسجدوا معه فشاع الخبر أنهم صافوه وسمع بذلك من بالحبشة فرجعوا. فلما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عادوا إلى شر مما كانوا عليه ولما قالوا له أنك قلت ذلك خاف من الله خوفا عظيما حتى أنزل الله عليه (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) رسالته الثانية. مجموعة التوحيد. ص246 ومنها يبين أنه عول على حديث روي من طرق كلها ضعيفة ومنقطعة ولا يحتج بشيء منها عند الجمهور اتفاقا إلا من يحتد منهم بالمرسل وقد عرض محقق مجموعة التوحيد بهامشه لذلك منبها إليه وإن قرر أنه لا يعترض على المصنف بذكرها لكونها مذكورة في كتب الحديث والتفسير والسير ونفى أن يكون المصنف قد احتج بها. (2) الدرر السنية: جـ 4/5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 سنة، فابن عمر كان يدع قول عمر إذا ظهرت له السنة، وابن عباس اشتد غضبه على من عارض السنة بقوله: قال أبوبكر وعمر، وعبر عن هذا الغضب الشديد بقوله: "توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبوبكر وعمر فرحم الله ابن عباس ورضي الله عنه." (1) وتأتي حجية الاجماع بعد حجية النص ويعبر الشيخ عن ذلك بقوله:" ولا خلاف بيني وبينكم أن أهل العلم إذا أجمعوا وجب اتباعهم (2) " وفي موضع آخر يقول:" وأنا أدعوا من خالفني.. إما إلى كتاب الله وإما إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما إلى إجماع أهل العلم." (3) ومناط الاجماع عنده إجماع سائر علماء الأمة فذلك وحده هو الاجماع الملزم " فليس المراد الأئمة الأربعة، ولفرط تعلقه بالاجماع ينفر من التفرق والاختلاف ويسخر من قول القائلين بأن اختلافهم رحمة" وأما قولهم اختلافهم رحمة فهذا باطل بل الرحمة في الجماعة والفرقة عذاب." (4) (3) الشروط الواجب توافرها في المجتهد: الاجتهاد على ما حصلنا معناه لغة واصطلاحا يتطلب استفراغ جهد الباحث للوصول إلى ما ينال قناعته في المسالة محل البحث، وعلى ذلك فالشرط البديهي في المجتهد أن يكون ملما بأطراف المسالة التي يجتهد فيها. واجتهاد أهل العلم لاستخراج الأحكام الشرعية من أدلتها يستلزم لذلك حسن إحاطة المجتهد بالأدلة الشرعية من حيث مصادرها ودلالة نصوصها وناسخها من منسوخها ومخصصها من عامها ومطلقها من مقيدها. وحتى يلم الفقيه بذلك يلزمه أن يكون على دراية باللغة العربية وأصولها ومفرداتها وتراكيبها وطرق الاشتقاق فيها وكناياتها ونحوها وصرفها ووجوه البلاغة في استعمالاتها، إلى   (1) ابن القيم. اعلام الموقعين 2/328 (2) ابن غنام. تاريخ نجد ص221 (3) المرجع السابق ص229 (4) الدرر السنية في الأجوبة النجدية4/5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 آخر ما هو مدون في كتب الأصوليين والفقهاء، على خلاف بين العلماء في التشديد على هذه الشروط أو التيسير فيها. ففي خصوص وجوب العلم بمصادر الأحكام يتفق الجمهور على وجوب إتقان علوم القرآن الكريم على خلاف بينهم في وجوب حفظه كله أو الاكتفاء بحفظ بعضه. فالإمام الشافعي يستلزم في المجتهد حفظ القرآن الكريم كله لما يراه من أن: الحافظ أضبط لمعانيه من غير الحافظ الناظر فيه (1) " والقائلون بالتيسير بالاكتفاء بحفظ بعضه يتفقون على أن يشمل المحفوظ آيات الإحكام على خلاف في آية (2) ، بينما روي عن أبي يوسف أنها ألف ومائتان آية (3) ،ونقل عن ابن المبارك ان عددها تسعمائة آية (4) . واتفق الجمهور على وجوب علم المجتهد بالسنة القولية والفعلية والتقريرية في الموضوعات التي يجتهد فيها مدركا مراميها ومناسبتها عارفا بالناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد منها، عارفا كذلك بإسناد الأحاديث وأحوال الرواة، ومع إجماع الجمهور على ذلك اختلفوا في عدد الأحاديث التي يجب على المجتهد حفظها. يقول الشوكاني:" والحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن المجتهد لا بد أن يكون عالما بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن (5) "، وروي أن الإمام احمد سئل عن العدد المطلوب من الأحاديث الواجب حفظها فأجاب أنها: أربعمائة ألف حديث ووقف في بعض الروايات على ثلاثمائة ألف وقال لعله يكفيه. وفي بعض الروايات لم يظهر موافقته إلا على خمسمائة ألف حديث ونقل عنه أقل من ذلك أيضاً (6) .   (1) د. سيد موسى الأفغاني. الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه. ص181 (2) الغزالي المستصفي: 2/350 (3) ابن قدامة. روضة الناظر: 2/41 (4) الرازي المحصول 708-709 (5) الشوكاني. ارشاد الفحول ص251 (6) ابن القيم اعلام الموقعين 1/50 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ويتفق الجمهور كذلك على وجوب علم المجتهد باللغة العربية باعتبارها أداة البيان لشرع الله تعالى في كتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن الفقهاء من يشتط في الإلزام بالإحاطة بمصادر اللغة العربية حتى ليلزم المجتهد بمعرفة الشعر كما ذهب الشافعي (1) تقديرا منه لدورة الشعر في حفظ اللغة العربية قبل الإسلام وانه كان الوعاء الذي حمل تراكيبها ومفرداتها وكناياتها. وبجانب هذه الشروط الموضوعية يذهب الجمهور إلى اشترط كون المجتهد عاقلا بالغا" لأن غير البالغ لا يصح نظره لعد اكتمال قواه العقلية ولذلك فهو ليس مكلفا بما كلف به البالغون من أعمال. (2) ونقل الإمام السيوطي عن الأستاذ ابي جعفر المنصور التميمي ما يفيد أن الإنسان لما كمل عقله، ميز بين النافع والضار وأمكن له الاستدلال بالشاهد على الغائب يمكنه الاجتهاد عمليا ويجوز له ذلك شرعا ولو لم يبلغ. إلا أنه لا بجب عليه الاجتهاد قبل البلوغ (3) . وقال أبو المعالي: الصبي يتصور منه الاجتهاد ويصح منه وعند المعتزلة يجب عليه إذا ميز الإتيان بالمعارف العقلية أي أنهم لا يشترطون البلوغ على هذا الإدراك مرتبة الاجتهاد. والذي أراه أنه ربما يصل الصبي إلى مرتبة من النضج قبل البلوغ بحيث يبدو أنه صالح للارتقاء إلى مرتبة الاجتهاد. إلا أن اكتمال قوى الإنسان العقلية قبل سن البلوغ أمر غير مألوف، وعلى ذلك لابد من النضج حتى تكتمل القوى العقلية وترتفع دقة الملاحظة عند الإنسان حتى يكون أهلا لارتقاء أول سلم الاجتهاد وهو:" أن يعرف قدراً صالحاً من المعقولات حتى يعرف بذلك ما يجوز ان يرد به الشرع وما لا يجوز." (4) ولدى التعرف على منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب من مسألة تحديد   (1) ابن القيم اعلام الموقعين 1/51. (2) البناني. جمع الجوامع وحاشية البناني ـ 2/283. (3) السيوطي. الرد على أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض ص84.86. (4) السيوطي على أخلد إلى الأرض –ص92.93 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الشروط الواجب توافرها في المجتهد على ضوء ما أشرنا إليه من اتفاق العلماء واختلافهم نجد ابتداء أن الشيخ وهو على ما صرح ممن يأخذون بالمذهب الحنبلي ويعجبون بفقه الإمام احمد مما يجوز لنا معه أن نقرر أنه يرى في المسألة جملة ما يراه أصحاب الحديث من وجوب علم المجتهد بالنصوص الشرعية من كتاب وسنة إلا أن شخصية الشيخ محمد بن عبد الوهاب تبرز في هذه المسألة بمنهج مستقل يتلخص في أنه عاب على المتشددين في بيان شروط المجتهد ورأى أن التشدد في تعداد هذه الشروط هو من فعل الأهواء حتى أنه ليقول:" السنة التي وضعها الشيطان هي أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا المجتهد المطلق والمجتهد هو الموصوف بكذا وكذا أوصافاً لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر فإن لم يكن الإنسان كذلك فليعرض عنهما فرضا حتما لاشك ولا أشكال فيه، ومن طلب الهدى منهما فهو ما زنديق وإما مجنون لأجل صعوبتها. سبحان الله وبحمده والأمر برد هذه الشبهة الملعونة من وجوه شتى بلغت إلى أمر الضروريات العامة." (1) (4) علاقة المجتهد بالمجتهد: وتلك مسألة تتفرع عما قبلها، فما دام الاجتهاد حتما لازما وفرضا واجبا لا غنى عنه للأمة في مجموعها مهما تعاقبت الأجيال وتباعد الزمان، وأنه فضلا عن وجوبه على الأمة في مجموعها، فهو واجب متعين على من استجمع شروطه التي أشرنا عليها آنفا بحيث أن القادر على الاجتهاد يأثم بتركه عند وجود مقتضاه. وحاصل ذلك أن المجتهدين قد يتعددون ويتعاصرون في الزمان أو المكان أو فيهما معا فكيف ينبغي أن تكون علاقة المجتهد بالمجتهد؟ لقد مضت قرون الاجتهاد الأولى والقوم فيها طلاب حقيقة يسعون إليها ما استطاعوا ومدارها عندهم على مقتضى كتاب الله وسنة رسوله، فليس لرأي مجتهد قيمة في ذاته إلا بقدر ما يدل على حكم الله تعالى ورسوله في المسألة المجتهد فيها، وعلاقة المجتهد بالمجتهد قائمة على تعاون الجميع لتحصيل ما يبدو لهم أنه مراد الله تعالى في هذه المسألة.   (1) مجموعة التوحيد ص 276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فالإمام أحمد رغم تلقيه عن الإمام الشافعي لا يرى في موقف التلقي عنه معنى مطلق المتابعة له بل إن الشافعي يقول له:" يا أبا عبد الله أنت أعلم بالحديث منى فإذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شاميا كان أو كوفيا أو بصريا" ومن قول الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس وقال:" إذ صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط وقال:" إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا ولم آخذ به فاعلموا أن عقلي قد ذهب (1) ". ومن قول الإمام أبي حنيفة لأبي يوسف:" لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه (2) " وقال أحمد: لا تقلد دينك أحدا، وقال مالك: أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي: فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق فاتركوه. فالواضح مما تقدم أن لكل مجتهد صفة الاستقلال في اجتهاده، وأن أخذه باجتهاد غيره ليس مبناه رأي الغير في ذاته بل معناه قبول الدليل المبني عليه فالاجتهاد يدور عند الكل مع قوة الدليل بغض النظر عن شخص المستدل به، وتلك قمة الروح العلمية التي تستهدف من البحث الوصول إلى الحقيقة وحدها دون اعتبار لشخص القائل بها. ورغم ذلك فإن القوم في اجتهادهم لم يصرفهم استقلالهم الفكري عن تقديس الروابط فيما بينهم فأصبح لكل شيخ تلاميذه الذي يحفلون به ويأخذون بمنهجه في الاستدلال دون أن تذوب شخصياتهم في شخصيته وكل تيار فكري موحد المنهج كان أساسا لوحدة المذهب (3) بين بعض   (1) ابن القيم. اعلام الموقعين 2/361 الدرر السنية في الأجوبة النجدية. 4/12-15 وأيضا ابن غنام. تاريخ نجد. ص223 (2) الشوكاني. ارشاد الفحول 249 (3) المذهب: لغة على وزن مفعل ويصح للمصدر والمكان والزمان بمعنى الذهاب وهو المرور أو محله أو زمانه. والمذهب: اصطلاحا: ما ترجح عند المجتهد في أيما مسألة من المسائل بعد الاجتهاد فصار له معتقدا أو مذهبا وعند بعضهم: أنه المشهور في مذهبه كنقض الوضوء بأكل لحم الجزور ومس الذكر ونحوه عند أحمد، ولا يكاد يطلق إلا على ما فيه خلاف. وقال بعضهم: هو في عرف الفقهاء ما ذهب إليه إمام من الأئمة المجتهدين ويطلق عند المتأخرين من أئمة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 المفكرين فعرفت المذاهب وتعددت غير أنه لم تكد القرون الأولى تمضي بمجتهديها حتى أصبحت المذاهب قيدا على الفكر والنظر وبلغ ببعض الناس أن عدها دينا من دون الدين، فلم يعد باب الاجتهاد في المسائل الخلافية مفتوحا على مصراعيه أمام أعين المجتهدين بل أصبح المذهب السائد في بلد ما هو الذي يأخذ باجتهاد أهل مذهب آخر في مسألة ما وسموا: الاجتهاد الذي يكسر حاجز المذاهب للأخذ بما يناسب الحال من كل مذهب في مسألة بعينها بأنه اجتهاد تلفيقي لا يجوز. وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب أشهر من واجه جمود المذاهب فأعاد للاجتهاد ساحته الرحبة، وطالب كل مجتهد بان يعود إلى سيرة السلف من حيث البحث عن الدليل قبل شخص المستدل به حتى لا يعرف الحق بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق" فإذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه..أخذنا به وتركنا المذهب. وعندنا أن الإمام بن القيم وشيخه أمام أهل السنة وكتبهما من أعز الكتب إلا أنا غير مقلدين لهما في كل مسألة فإن كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا صلى الله عليه وسلم." (1) ومن المسائل التي خالف فيها محمد بن عبد الوهاب شيخيه ابن تيمية وابن القيم: 1. طلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس." فإنا نقول تبعا للأئمة الأربعة. 2. "ونرى الوقف صحيحاً". 3. والنذر جائز يجب الوفاء به في غير معصية.   =المذاهب على ما هو به الفتوى وهو ما قوي دليله. وقيل: ما كثر قائله. فقد تلخص من كلامهم: إن المذهب في الاصطلاح ما اجتهد فيه إمام بدليل. أو قول جمهور: أو مايرجح عنده ونحو ذلك. والمذهب لا يكون إلا من مسائل الخلاف التي ليس فيها نص صريح أو إجماع. (1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ 4 ص8 وأيضا ابن غنام. تاريخ نجد. ص215 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وبإدراك الشيخ لحقيقة معنى الاجتهاد وحدود علاقة المجتهد بالمجتهد كان عدوا للتقليد والمقلدين على نحو ما سوف نعرض له في المبحث التالي. ثانيا: موقفه من التقليد أدرك الشيخ محمد بن عبد الوهاب الفكر الإسلامي وقد أصبح سجين التقليد، والتعصب الأعمى لآراء المذاهب ويهمنا أن نذكر أن التقليد في ذاته داء عضال ينتفي معه مدلول إنسانية الإنسان، ذلل أن مناط إنسانية الإنسان عقله الذي يستضيء به ويزن به الأمور فإذا اكتفى بالتقليد عطل ملكات عقله واكتفى بترسم خطى الآخرين، فإذا أضيف إلى التقليد التعصب فقد بلغ السوء مداه فلئن كان التقليد كما عرفه الشوكاني:"هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة (1) " فإن التعصب لمثل هذا الرأي مع فقدان حجته يجعل الوصول إلى الحق ضرب من المحال، وقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب حاسما وواضحا في التصدي للتعصب المذهبي وما قادر إليه من ركون الفكر على التقليد فتراه مع أنه لا يفتأ يكرر إعجابه وإشادته بطائفة من علماء الحنابلة أخصهم ابن القيم وشيخه ابن تيمية يضع هذا الإعجاب في دائرته السليمة فيقول:" فلست ولله الحمد أدعوه إلى مذهب صوفي او فقيه أو متكلم أم إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) بهذا التعبير يفرق الشيخ بن التقليد الذي هو اعتناق رأي بلا حجة، وبين الإتباع الذي يقتفي للحجة ويذعن لها كائن من كان القائل بها، وعلى هذا فإنه كثيرا ما يوافق مجتهد مجتهدا وليس هو مقلدا له فيما قاله وإنما هو موافق له فيه لاتفاقهما في الدليل والحكم لا لتقليد أحدهما الآخر فيه، وكثيرا ما يشاهد ذلك في كلام الأئمة وقد وافق الأمام الشافعي الأمام زيد بن ثابت رضي الله عنهما مع أن الشافعي غير مقلد لزيد. (3)   (1) الشوكاني. إرشاد الفحول ص247 (2) ابن غنام. تاريخ نجد ص: 215 (3) سليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب. التوضيح عن التوحيد الخلاق في جواب أهل العراق ص33 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 نقول تصدى ابن عبد الوهاب لإبطال التقليد في عصر ساد فيه التقليد واستحكم حتى تهيب العلماء من التعرض لمشروعيته واستسلم أغلبهم لسيادة التقليد والأخذ به، ولكن ذلك لم يمنع الشيخ محمد بن عبد الوهاب من أن يهاجم التقليد ويكشف القناع عن قضية جوهرية تفيض بها آيات القرآن الكريم ـ تلك القضية هي أن الأمم الغابرة التي جحدت برسالات السماء وكذبت المرسلين إنما قادها إلى هاوية الكفر والضلال تقليد الآباء. قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} . (1) وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} (2) وقال عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} . (3) وفي القرآن الكريم من آيات النهي عن التقليد نصوص كثيرة من جنس ما أوردنا، وهي وإن كان موردها في الكفار، فالمراد بها وبأمثالها ذم من أعرض عما أنزله الله سبحانه إيثاراً من لتقليد آبائه. واللفظ أوسع من دائرة سبب النزول والاعتبار بعمومه لا بخصوص سببه كما تقرر في الأصول. والمقلد يتقفى ما ليس له به علم خلافا لأمر الله تعالى في قوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . (4) والمقلد ينزل الأشخاص الذين يقلدهم منزلة الربوبية من دون الله على ما أوردته الآية الكريمة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . (5) وفي تفسير ذلك روي عن حذيفة وغيره أنهم قالوا: لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم. وقال عدي بن حاتم وكان قبل   (1) سورة البقرة. آية 170. (2) سورة الزخرف آية 23.24 (3) سورة لقمان آية21. (4) سورة الاسراء: آية 36. (5) سورة التوبة: آية 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 إسلامه قد تنصر: يا رسول الله إنا لم نتخذهم أربابا قال: "أليس يحلون لكم ما حرم الله عليكم فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه؟ " فقلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم". أخرجه أحمد والترمذي وحكى بن القيم عن أحمد بن حنبل أنه قال: (لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثوري ولا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا) . (1) ويعرض الشيخ محمد بن عبد الوهاب لكل ما تقدم فينتهي منه إلى النهي عن تقليد العلماء بلا حجة لكون ذلك في مقام اتخاذهم أربابا. وهو الذي سماه الله ورسوله شركا وهو اتخاذ العلماء أربابا." (2) فالقاعدة المقررة لدى ابن عبد الوهاب ذم التقليد والتحذير من الوقوع فيه وأنه طريق إلى الضلالة لا إلى الهداية ويقول في وصف المقلدين:" إن دينهم مبنى على أصول أعظمها التقليد فهو القاعدة الكبرى لجميع الكفار أولهم وآخرهم." (3) فهل لهذه القاعدة المقررة عنده من استثناء؟ بمعنى: هل تعرض أحوال يباح فيها التقليد وما هي شروط إباحته؟ بديهي حسبما قدمنا أن الاجتهاد النافي للتقليد يقتضي حركة عقلية لاستخلاص الحكم من دليله مما ذهب معه العلماء إلى تقرير أن للمجتهد شروطاً لا بد من توافرها حسبما حصلنا في هذا الخصوص. وبديهي كذلك أنه ليس في الإمكان توفر هذه الشروط في كافة المكلفين من المسلمين، لان استجماعها يقتضي انقطاعا على نحو أو آخر لتحصيلها والمهارة فيها وليس متصورا ان تقف عجلة الحياة بالمسلين عند هذا الانقطاع. فإذا لم يمكن ان يكون كل مسلم مكلف فقيها مجتهدا، وإذا لا يتصور ان يستوي أهل العلم في حصيلة علمهم بل فيهم على الدوام الأفضل والفاضل والمفضول، فقد استبان من ذلك ان التقليد ـ حيث تعذر الاجتهاد ـ يباح كضرورة تقدر بقدرها، وحتى نضبط هذه الضرورة ونقدرها نعرض لمسائل ثلاث:   (1) د. إبراهيم هلال ولاية الله والطريق إليها ص: 311. (2) ابن غنام. تاريخ نجد ص220 (3) مجموعة التوحيد ص: 227 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 1. الذين يرخص لهم في تقليد غيرهم. 2. الذين يجوز أن يكونوا محلا لتقليدهم من غيرهم. 3. دائرة التقليد. (1) الذين يرخص لهم في التقليد: اتفق العلماء على أن التقليد مباح للعامة ممن لا حظ لهم من معرفة الكتاب والسنة وطرائق استخراج الاحكام من أدلتها، فهؤلاء لا معدى لهم عن التقليد بل هو طريقهم الوحيد لمعرفة الأحكام الشرعية فهو بذلك واجب متعين عليهم بمعنى ألا يقدموا على عمل حتى يسألوا أهل العلم ويتلقوا عنهم حكمه الشرعي فيلزمهم اتباعه. ولكن دائرة الاباحة في التقليد لا تقتصر على العامة فحسب بل تمتد إلى العلماء فيما بينهم على حسب تفاضلهم ومنازلهم في العلم، إذ أن معرفة كل شيء أمر لا يدركه عالم بعينه ومهما تبحر في علومه ومعارفه يظل العلم أوسع من حصيلته، ومن هنا صح عن علماء السلف تقليد بعضهم في مسائل عرضت لهم دون أن يتبين لهم فيها الدليل من كتاب أو من سنة كالذي نقل عن الشافعي في تقليد عمر إذ قال: في الضبع (1) بعير قلته تقليدا لعمر، وكالذي نقل عن أبي حنيفة في مسائل الآبار: ليس معه فيها إلا تقليد من تقدمه وكما نقل عن مالك في أخذه بعمل أهل المدينة فالأئمة قلدوا في مسائل لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعظم منهم فقلدوه وعلى العموم فالحاكم على إباحة التقليد: عدم إمكان العلم بالدليل فحيث تحقق عدم العلم جاز التقليد وفي ذلك يقول ابن عبد الوهاب:" فإن تبين لك الحق فاتبعه فإن لم يتبين لك واحتجت إلى العمل فقلد من تثق بعلمه ودينه." (2) (2) من يجوز تقليدهم: أساس في تعيين من هو أهل لتقليده على ما حدده الشيخ في النص   (1) يقصد أن المحرم إذا اصطاد في الحرم ضبعا كان عليه أن يذبح بعيرا ويطعمه فقراء الحرم (2) ابن غنام. تاريخ نجد ص: 495 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 السابق: هو ثقة المقلد في علم ودين من يقلده، ونلاحظ هنا دقة ابن عبد الوهاب في قوله: فقلد من تثق بعلمه ودينه، كأنه يطلب من المقلد حتى في حال إباحة التقليد له أن يجتهد في اختيار من يقلده وألا يكتفي بما يشاع عنه من علم ودين بل لا بد من أن يثق هو أي المقلد في علمه ودينه. ثم يحذر من أن يجري التقليد بالهوى مما يخالف شرط الثقة في العلم والدين:"وأما أن قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه من غير علم ان الحق معه فهذا من أهل الباطل." (1) وأخذا بمعيار الثقة في العلم والدين كشرط لاختيار من يجوز تقليده فإن أولى الناس بتقليدهم والاقتداء بهم بعد الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم هم: الصحابة المرضي عنهم بنص كتاب الله تعالى فهم خير الأمة على امتداد المكان والزمان إلى قيام الساعة حكما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة احدهم يمينه ويمينه شهادته"، (2) وتقيدا بهذا الهدي النبوي كان ابن عبد الوهاب حريصا دائما على أن يقرر أنه في مسائل الخلاف التي لا نص فيها بشخص إلى عمل الصحابي فإن لم يجد فإلى التابعي الصالح"فمن عاند دعوته إلى المباهلة كما دعا إليها ابن عباس في بعض مسائل الفرائض وكما دعا إليها سفيان والأوزاعي في مسألة رفع اليدين وغيرهما من أهل العلم (3) ". (3) الدائرة التي يجوز فيها التقليد: لأن القاعدة كما قدمنا حظر التقليد وإباحته هي الاستثناء فدائرته محدودة وإن كانت بالنسبة للعامي أوسع منها بالنسبة للعالم. فبالنسبة للعامي يباح له التقليد من يثق في علمه ودينه في سائر مسائل الفروع، وأما في أصول الدين فلا يجوز التقليد البتة لعامي ولا لمتعلم، بل بجب على كل مكلف معرفة الله تبارك وتعالى ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وما بعث به   (1) عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد، المقامات، الرسالة الأولى مخطوطة بمكتبة دخنة بالرياض. (2) ابن القيم: اعلام الموقعين 2/245 (3) ابن غنام: تاريخ نجد، ص229 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 من التوحيد وما أخبر به عن الله من البعث بعد الموت والجنة والنار ومثل وجوب الفرائض من الصلاة والزكاة والحج والصيام، وبالجملة فإن سائر ما هو معلوم من أصول الدين بالضرورة يظل بعيدا عن دائرة التقليد. أما بالنسبة لتقليد العالم غيره من العلماء فإن دائرته على التحقيق أضيق فقد اتفق العلماء على عدم جوازه له فيما إذا اجتهد فعلا وغلب على ظنه الحكم واختلفوا فيما إذا لم يكن كذلك (1) وقد أجازه كثير من العلماء من طوائف السنة والشيعة. (2) ويثور سؤال حول جواز الفتيا بالتقليد من عدمه وتتردد في المسألة أقوال ثلاثة في مذهب أحمد، أحدها: أنه لا يجوز الفتيا بالتقليد لأنه ليس بعلم والفتوى بغير علم حرام، وهذا قول أكثر الأصحاب، والثاني أن ذلك جائز للمفتي فيما يتعلق بنفسه، فيجوز له أن يقلد غيره من العلماء إذا كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العلماء فيما يفتي به غيره، وهو قول ابن بطة من أصحابنا والقول الثالث أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم المجتهد وهو أصح الأقوال وعليه العمل حسبما رواه وأخرجه الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. (3) وعلى الرغم من جواز تقليد العالم غيره عند استغلاق الدليل لديه فإن محمد بن عبد الوهاب يطالب العالم في حال تقليده بجمله أمور بمنها: (1) أن يظل يقظاً لمعرفة دليل المسألة التي يقلد فيها فإذا بدا له وجده الحق خلافا لما جرى به تقليده تعين عليه اتباع الحق وعدم المادي في التقليد. (2) أن يلتزم في تقليده بما يعتقد أنه الحق دون أن ينتقل من قول إلى قول لمجرد أنه على دراية بأكثر من قول ويلزم ابن عبد الوهاب هذا السلوك من بعض العلماء ويرده إلى الرياء والتعالي:" ومن العجيب أنه يوجد في بلدكم من يفتي الرجل بقول إمام والثاني بقول إمام آخر، والثالث   (1) الغزالي. المستصفي ـ 2/384 (2) الامدي. الأحكام ـ 3/159. (3) الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ4 ص12 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 بخلاف القولين وبعد ذلك فضيلة وعلما وذكاء ويقال هذا يفتي في مذهبين أو أكثر، ومعلوم عنه عند الناس أن مراده في هذا العلو والرياء وأكل أموال الناس بالباطل." (1) ومما تقدم نستخلص من معالم فكر محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في الاجتهاد والقليد جملة قواعد أهمها: (1) كتاب الله تعالى وسنة بنبيه صلى الله عليه وسلم هما المصدران الوحيدان لكل أمر ونهي وتقرير. (2) وأن نصوصهما اشتملا على حكم كل مسألة كانت أو ستكون. (3) وان الحكم إن عرف من النص لزم اتباعه وعدم تركه لقول كان منا يكون. (4) فإذا لم يعرف الحكم وجب الاجتهاد لمعرفته، وأن الاجتهاد فرض كفاية على الأمة ماض على يوم القيامة. (5) وأن كل مسألة خلافية هي محل للاجتهاد ما بقي الخلاف ولا ينتهي الخلاف فيها إلا بالإجماع. (6) وأن الإجماع المعتبر هو إجماع سائر علماء الأمة وليس مجرد إجماع علماء المذاهب الأربعة. (7) وأن التقليد مذموم ما لم تدع إليه ضرورة تقدر بقدرها. (8) وأن علم أصول الدين فرض على كل مكلف فلا يجوز التقليد فيها لعامي أو عالم. (9) وأن على العالم إذ قلد غيره في مسألة يجهل حكمها أن يلتزم في تقليده بما يعتقد أنه الحق وألا ينتقل من قول إلى قول بلا حجة تبدو له.   (1) ابن غنام. تاريخ نجد. ص228 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الفصل الثاني: اهتمامه بالربط بين العلم والعمل انتهينا في الفصل الأول من هذا الباب إلى استجلاء معلم أساسي من معالم فكر الشيخ ومنهجه وعرفنا من خلال ذلك طبيعة نظرته إلى الاجتهاد ومكانته السامية في شريعة الإسلام وكونه واجبا ماضيا على الأمة إلى يوم القيامة. وبادراك مكانة الاجتهاد في منه الشيخ وفكره ندرك نصوره العميق لحركة التجدد الإسلامي المتصل وأن الإسلام يضمن باستمرارية الاجتهاد دوام مسايرة الحياة وعدم التخلف عن ضبط وقائعها وتعميق مفاهيمها واثرائها دائما بالفكر المتسامي. هذا التجدد والاثراء والتسامي يعطي على الفور الانطباع بأن العلم في خدمة الحياة بمفهومها الواسع ونعني به: حركة الإنسان على الأرض ـ تعميرا لها وفق ما يأذن الله به ويرضى، أي أن العلم في ميزان الإسلام مقدمة للعمل، فإذا خلا منه كان كالمقدمة العاطلة عن النتيجة. وتلك لعمرو الحق من مقررات الإسلام وبدائه شريعته فكما أمر الله بتحصيل العلم والحض عليه والتسامي فيه بدءا من قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) إلى قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِين   (1) سورة العلق: آية: 01 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 َ لا يَعْلَمُونَ} . (1) كذلك أمر تعالى بالعمل ورفع مراتب العاملين.} وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ {. (2) {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} . (3) وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم حياة تزخر بالعلم والعمل، وعلم أصحابه ألاّ هدى في عمل بغير علم ولا خير في علم بلا عمل، وكان من هديه لأصحابه في تعليمهم آيات الكتاب الكريم أن يعلمهم بضع آيات فلا يعدوها أحدهم حتى يعمل بها. ومن جملة حرصه صلى الله عليه وسلم على قاعدة الربط بين العلم والعمل أنه كان ينهي أصحابه عن شغل أنفسهم بالقيل والقال وكثرة السؤال لما في ذلك من صرف لهم عن العمل بما تعلموه حال كون المطلوب منهم أن ينظروا " فما أمرتم به فأنوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عن فانتهوا." (4) إلا أن قاعدة الربط بين العلم والعمل على رسوخها ووضوحها في منهج الإسلام لم تلبث أن تعرضت بعد قرون من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لما تعرضت له سائر قواعد الإسلام واقيسته من جدل تعطل منع العمل حتى نجمت مذاهب الأرجاء التي تخفف أصحابها من أمانة العمل ولم يروا أنه من أصول الإيمان أو متمماته، ثم غصت ساحة الإسلام بأجناس من الزهاد والمنصوفة الذين اكتفوا بتلقين الرموز والإشارات وغفلوا عن أمانة العمل بالواجبات. وبمثل ما هاجم الشيخ محمد بن عبد الوهاب قضية ما سموه: غلق باب الاجتهاد كان منطقيا مع منهجه التجددي في التأكيد على معلم بالغ الأهمية من معالم فكره ومنهجه وذلك بحرصه على الربط بين العلم والعمل، بل إنه ليذهب في ذلك إلى حد اعتباره المميز الأهم لأمة الاسلام عن أمم أهل الكتاب الذي خلوا من قبل، ففي معرض تفسيره لسورة الفاتحة يعرض لتفسير خواتيمها بقوله: وأما الآيتان الأخيرتان ففيهما من الفوائد ذكر أحوال الناس   (1) سورة الزمر. آية: 9 (2) سورة التوبة: آية 105 (3) سورة يونس: آية 61 (4) الحديث رواه الشيخان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 قسمهم الله تعالى إلى ثلاثة أصناف: منعم عليه، مغضوب عليه، ضال. فالمغضوب عليهم أهل علم ليس معهم عمل والضالون أهل عبادة ليس معها علم، وإن كان سبب النزول في اليهود والنصارى فهي لكل من اتصف بذلك والثالث من اتصف بالعلم والعمل، وهم المنعم عليهم." (1) فاليهود الذي حكى عنهم القرآن توفر العلم ليدهم وتوليهم عن العمل به بقوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (2) والنصارى الذين سجل القرآن عليهم أن عملهم على غير علم في قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (3) هؤلاء وأولئك فسقوا عن أمر ربهم فيما أمر به من تحصيل العلم بأوامره وكمال العلم بها، فارتباط العلم بالعمل في منهج الاسلام في مقام ارتباط الوسيلة بالغاية والمقدمة بالنتيجة: العلم مقدمة ووسيلة والعمل نتيجة وغاية فالعلم بالله هو المقدمة لعبادته تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (4) وعبادته تعالى وهي العمل هو الغاية التي خلق الناس من أجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، (5) {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (6) ويوضح الشيخ ارتباط العلم بالعمل بقوله: " إن الاسلام واتباع ملة الانبياء هو العلم بذلك والعمل به لا مجرد العلم. (7) وتطبيقا لهذا المفهوم تشتد حملة الشيخ على المبتدعين الذين انحرفوا بمفهوم التوحيد حتى اصبح عندهم مجرد قول لا يستلزم عملا " فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل" ثم يبين التوحيد الذي جاءت به الرسل بأنه:"لا بد فيه من إخلاص الدين كله لله" (8) وأن هذا الاخلاص لا يتم إلا بتمام العلم بالله واثبات أسمائه وصفاته ثم تمام العمل بذلك.   (1) مجموعة التوحيد. ص: 270 (2) سورة المائدة آية 43 (3) سورة الحديد آية: 27 (4) سورة محمد آية: 19 (5) سورة الذاريات: آية: 56 (6) سورة البينة آية: 5 (7) ابن غنام: تاريخ نجد. ص: 642 (8) ابن غنام: تاريخ نجد ص: 406 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 أما كيف حقق الشيخ منهجه في الربط بين العلم والعمل فذلك ما سوف نعرض له في المبحثين التاليين بدءا بالعلم وختما بالعمل. أولا: منهج الشيخ في تحصيل العلم. علمنا مما استبان لنا من نشأة الشيخ في نجد أنه شب في بيئة حظها من العلم والثقافة جد قليل ولكن حظها من دواعي التأمل ومجالات التفكير أكبر بكثير والعلم القليل إذا صاحبه التأمل والتفكير وسلمت لصاحبه فطرة الموازنة وسلامة التقدير كان أعون على تحصيل فهم الحقائق من علم كثير يتلقاه صاحبه بالتلقين والتسليم وقد كان الشيخ حريصا منذ حداثته على أن يستخدم حواسه في تحصيل المعرفة وفق المنهج القرآني القائم على الملاحظة والتجربة والاستقراء. هذا المنهج الذي تدل عليه بل وتحيط به الآية الكريمة {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . (1) أي أن تحصيل العلم بالمعقولات يبدأ باستعمال الحواس في ملاحظة الأشياء وتجربتها ورصد النتائج وعقلانيتها. وقد بدأ الشيخ رحلته في تحصيل العلم بحقائق الأشياء من هذه النقطة، فبعد أن تلقى عن أبيه وشيوخ قريته القرآن وشيئا من الحديث راح يتأمل فيما حوله ومن حوله فراعه سوء حال المجتمع والبون الشاسع بين مدلول النصوص التي تلقاها وواقع الناس الذي يعايشه، واستخرجه تأمله في أحوال البيئة التي درج فيها إلى حيث راح يضرب في الأرض مستصحبا منهجه في التأمل في واقع الحياة والناس وعرض ما يراه على ميزان الشرع بالقدر الذي تلقاه ورعاه فازدادت وحشة نفسه ما يرى ويسمع، كان مما تلقاه ورعاه ألا تتخذ قبور الأنبياء مساجد وألا يدعى أحد من دون الله حيا كان أو ميتا صالحا كان أو فاجرا فإذا به وهو في المسجد النبوي بالمدينة المنورة يشهد ما يشتد وجدهم ودعائهم لغير الله ويتمسحون بأحجار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وفزع إلى عمله الذي تعلمه من كتاب الله ثم كأنه أنهم نفسه بعدم العلم الكامل الذي يدرك على ضوئه حقيقة ما يجري فهرع إلى شيخ من   (1) سورة النحل: آية: 78 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 علماء المدينة هو الشيخ محمد حياة السندي (1) يسأله حكم الشرع فيما يفعل هؤلاء، فكان جواب الشيخ السندي أن تلا عليه قول الله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . (2) ولم يلبث أن اطمأن إلى ما هداه إليه تأمل من واقع الحياة الهابط والهوان الذي عليه الناس والبدع التي استذلهم بها الشيطان إنما هي أمور تخالف أصول الدين وحقائق العلم، فطفق ينكر على الناس ما هم فيه من بدع وضلالات فإذا به يواجه بالإنكار عليه ويتزعم هذا الإنكار من يتسمون في الناس بالعلماء، وإذا بهؤلاء المنكرين عليه يرمونه بالجهل وقلة العلم ويستعدون عليه ذوي الجاه والسلطان وإذا به بمواجهة مجتمع جاهل يقوده علماء سوء يجتمعون بسلطان غاشم، وسرعان ما فطن إلى أن الطامة الكبرى في هذا الثالوث الضال تكمن في علماء السوء فهم ضلال العوام ومطايا الحكام فاستيقن الإخلاص من هذا الغاشية التي تغشى الأمة إلا بتخليص العلم من قبضة الخرافة وذلك بتحديد مصادر العلم والمعرفة والاحتكام إليها وحدها بعد تنقيتها من شوائب الجهل والخرافة. ومن هذا المنطلق تحدد منهجه في تحصيل العلم والمعرفة والاحتكام إليها، فهو لا يرى علما يقينيا إلا ما أنزله الله تعالى أو أخبر به رسوله المعصوم صلى الله عليه وسلم، فعلم الكتاب والسنة وحدهما هما المرجع والمآب وفيهما وحدهما فصل الحجة وفصل الخطاب، وقد خاض ضد خصومه معركة ضارية في هذا السبيل فقد استهول الناس أن يطرحوا جانبا سائر المصنفات والحواشي التي تراكمت في العصور المتأخرة وحلفت بالخرافات والشعوذات والأباطيل وكتب سليمان بن سحيم يستعدي المسلمين على الشيخ لأنه:" أحرق دلائل الخيرات لأجل قول صاحبها سيدنا ومولانا، وأحرق أيضا روض الرياحين وقال: هذا روض الشياطين" وندد بأقوال ابن الفارض وأبن عربي وترك تمجيد السلطان (3) . وإذ تبين أن العامة يجهلون حقائق الدين وأنهم ضحايا أشباه العلماء   (1) ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد ـ جـ 1 ص7 (2) سورة النحل آية: 78 (3) ابن غنام، تاريخ نجد. 293.295 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 عليهم أحيا في الناس سنة: الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والتي تبدأ بتعليم أمور دينهم في سائر الأمور الكلية من عبادات ومعاملات، ويصف العلامة الألوسي طريقة الشيخ ومنهجه في تعليم اتباعه بأنه:"لما استوطن الشيخ محمد في الدرعية وكان أهلها في غاية الجهالة والتهاون بالصلاة والزكاة وشعائر الإسلام علمهم الشيخ معنى" لا إله إلا الله وأنها نفي وإثبات، فلا إله نفى جميع المعبودات، وإلا الله يثبت العبادة لله وحده لا شريك له" (1) إلى قوله:"ثم علمهم أصولا وهي معرفة الله تعالى وآياته ومخلوقاته الدالة على ربوبيته والهيته وتسليم الأمر لله تعالى والانقياد لأوامره والانتهاء عن نواهيه، ومعرفة النبي صلى الله عليه وسلم: اسمه ونسبه ومبعثه وهجرته وأول ما دعا إليه وسائر العبادات، (2) وقد جعل الشيخ من بيته بالدرعية" مدرسة تسمى وكر التوحيد تلقن فيها علوم الدين طرفي النهار وفنون الحرب في أوسطه وكان لذلك اقر عظيم في تقوية الروح المعنوية عند أنصار الدعوة ورجالها. (3) وقد أثمرت جهود الشيخ في بعث الحركة العلمية وآتت أكلها في أجيال من العلماء من أهل نجد وغيرها ممن تلقوا من الشيخ أو عن أولاده وتلاميذه، ولكن الثمرة الأهم تمثلت في الجانب العلمي التطبيقي فقد كان نجاحها في ذلك فريدا" بل لا نعرف حركة اسلامية كانت أمينة على مبادئها ملتزمة بها في مجال التطبيق مثل الحركة الوهابية ولعل هذا هو الذي ضمن لها البقاء والرسوخ فقد أصبحت منهج فكر وخط حياة وجزءا من كيان المؤمنين بها." (4) ولذلك ما سوف نعرض له في المبحث التالي: ثانيا: منهجه في الجانب العملي من رسالة وجهها الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى بعض أتباعه في البدلان كتب يقول:" الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحتاج إلى ثلاث: أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقا فيما يأمر به وينهى عنه صابرا على ما   (1) محمود شكري الألوسي. تاريخ نجد ص112 (2) المرجع السابق. (3) عبد الله الرويشد: جـ 1 ص7 (4) د. الهراس. الحركة الوهابية. ص69 -70 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 جاءه من الأذى، وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا والعمل به فإن الخلل إنما يدخل على صاحب الدين من قله العمل بهذا أو قله فهمه." (1) ومن هذا النص يبدو لنا الارتباط القائم في ذهن الشيخ بين قلة الفهم أو قلة العمل وإن كلاهما يدخل الخلل على الدين، ولفرط حرصه على أن يتصف المسلم بعلم يعمل به وبعمل يقوم على الفهم لا على التقليد كانت تعاليمه رسائل حية تناقش أوضاع الناس وما يجب أن تكون عليه، ولم تكن مجرد كتب ونظريات تملأ القرطاس ويخلو منها واقع الناس:"فكان يكتب الرسائل ويلقي الخطب ويعقد المجالس ويتحدث للناس في العقيدة والفقه والسياسة والإدارة وأحوال المجتمع وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعتني بالوفود وطلاب العلم وحاجات المجاهدين ويكاتب البلاد القريبة والبعيدة إلى غير ذلك من شؤون الحياة العامة التي كانت تشغل أكثر وقته..فلا يجد متسعا من الوقت لتأليف الكتب المستفيضة، لذلك كانت رسائله أكثر من كتبه وأحاديثه أكثر من رسائله وكان في كتبه يميل في الغالب إلى الاختصار." (2) فالعلم والعمل عنصران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر في سائر جوانب عقيدة المسلم بدءا بالتوحيد الذي لا يكتمل في قلب المسلم غلا بشقيه: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية بإقرار وحدانية الله وصرف كل عبادة إليه عملا، ويكرر الشيخ القول بأن كل توحيد يخلو من هذين العنصرين هو في الحقيقة تعطيل لحقائق الإسلام " والتوحيد الذي أما تعطيل حقائق الأسماء والصفات، فلو كانوا موحدين بالكلام وهو أن يصفوا الله بما وصفته به رسله لكان معهم التوحيد دون العمل وذلك لا يكفي في النجاة، بل لابد أن يعبدوا الله وحده ويتخذوه إلهاً دون ما سواه، وهو معنى قوله" لا إله إلا الله " فكيف وهم في القول معطلون جاحدون لا موحدو ولا مخلصون (3) ". ويعرض الشيخ لسائر أركان الإسلام فيجلي جوانبها وأن كمالها مرهون   (1) ابن غنام. تاريخ نجد ص: 411 وأيضا: الدرر السنية في الإجوبة النجدية جـ 7 ص25 (2) د. منير العجلاني. تاريخ البلاد السعودية ص329 (3) ابن غنام. تاريخ نجد. ص406 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 بالعلم بها علما يقترن بتطبيقها تطبيقا عملياً، فنراه يتحدث عن الصلاة فيقول: "رجل قال شروط الصلاة تسعة، ثم سردها كلها، فإذا رأى رجلا يصلى عريانا بلا حاجة أو على غير وضوء أو لغير قبلة ولم يدر أن صلاته فاسدة لم يكن قد عرف الشروط ولو سردها كلها، أو رأى من لا يقرأ الفاتحة ومن لا يركع ومن لا يجلس للتشهد ولم يفطن أن صلاته باطلة لم يكن قد عرف الأركان ولو سردها. ونلمح في سياق النص السابق أن الشيخ بعد أن أوضح ارتباط العلم بالعمل، وضع يده على النتيجة العملية من هذا الربط ألا وهو وجوب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكما أن ثمرة تقرير وجوب العلم والحض على طلبه التزام العالم بالدعوة إلى الله بالحكمة الموعظة الحسنة فإن ثمرة ارتباط العلم بالعمل التزام العالم العامل: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد كان الشيخ وفيا لمنهج في الربط بين العلم والعلم وما يستلزمه ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تجلى هذا الوفاء منذ الوهلة الأولى لحياة الشيخ، وهو الذي أعطى لهذه الحياة وما عاصرها وصف الحركة فقيل بالحركة الوهابية إشارة على أنها ليست مجرد دعوة إلى الإصلاح إنما هي أمر به وحمل للناس عليه، فما أن استقر بالشيخ المطاف في العيينة والتف حوله بعض الاتباع، وخلص لهم فهم التوحيد الخالص لله على النحو الذي استوعبه الشيخ حتى ندبهم لتطبيق ما فهموه على مظاهر الحياة من حولهم بحرب كل ما يلوث معنى التوحيد." وكان بالعيينة كغيرها من قرى نجد الكثير من القباب والأوثان والأشجار التي يعظمها الجهال فطلب ابن عبد الوهاب من أمير العيينة عثمان بن حمد بن معمر أن يزيل تلك الأوثان والقباب لمخالفتها لعقيدة التوحيد الصافية فاستجاب الأمير لذلك وتم هدم القباب والأوثان والأشجار." (1) وقد كانت همة الشيخ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي حجر   (1) د. منير العجلاني. تاريخ البلاد السعودية ص255 د. عبد الرحيم: الدولة السعودية الأولى ص42 ـ 46 وأيضا سيد محمد إبراهيم. تاريخ المملكة العربية السعودية ص135 وايضا بن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الزاوية في تميزه عن سائر علماء عصره، وهي السمة التي ميزت أهل نجد عن سائر الناس إبان حركة الشيخ عندما سأل عالم من أهل المدينة عن سبب الاختلاف بين أهل نجد وبين الناس أجابه الشيخ محمد بن عبد الوهاب: " سألت عن سبب الاختلاف الذي هو بيننا وبين الناس فما اختلفنا في شيء من شرائع الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك ولا في شيء من المحرمات. الشيء الذي عند الناس زين هو عندنا زين والشيء الذي عندهم شين هو عندنا شين إلا أننا نعمل بالزين ونغصب بالزين عندنا عليه وننهي عن الشين ونؤدب الناس عليه (1) ". وبنفس المعنى كتب إلى السويدي عالم العراق:" وأيضا ألزمت من تحت يدي بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرها من فرائض الله ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر وأنواع المنكرات (2) . وكان أتباع الشيخ منفذين لفكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل بلد فتحوه فعندما دخلوا الحجاز ولم يكن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أهله إلا اسمه وانمحى أثره ورسمه فما أن دخلوا في طاعة أمير نجد وبايعوه على الكتاب والسنة حتى" رفعت المكوس والرسوم وكسرت آلات التنباك ونودي بتحريمه وأحرقت أماكن الحشاشين والمشهورين بالفجور ونودي بالمواظبة على الصلاة في الجماعات وعدم التفريق في ذلك بأن يجتمعوا في كل صلاة على إمام واحد (3) " ولم يكتف الشيخ بربط العلم بالعمل، بل فصل درجات الإخلاص في العمل بما يتضمن الحض على التسامي فيه حتى يكون القصد منه وجه الله الكريم وبين أن من دون هذه المرتبة العليا مراتب أدنى مناط كل منها نية العبد، فهو يقول رحمه الله:" إذا أمر الله العبد بأمر وجب عليه في سبع مراتب: العلم به، 2. محبته، 3.العزم على الفعل، 4.العمل.   (1) د. منير العجلاني. تاريخ البلاد السعودية ص280 (2) ابن غنام، تاريخ نجد ص360 (3) محمد بشير السهواني الهندي: صيانة الانسان عن وسوسة الشيخ دحلان ص436 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 5.كونه يقع على المشروع خالصا صوابا،6.التحذير من فعل ما يحبطه. 7.الثبات عليه (1) . ثم يضرب الشيخ الأمثال على نماذج من العاملين قد تتحد أعمالهم ولكن تتباين درجاتهم بتباين نياتهم: 1) فريق من الناس يعمل العمل الصلح من إحسان وترك مظالم، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة وإنما يريد أن يجازي به بحفظ ماله وتنميته أو حفظه أهله وعياله، أو إدامة النعم ونحو ذلك ولا همة لهم في طلب الجنة والهرب من النار فهذا يعطي له تراب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب. 2) وفريق يعمل أعمالا صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة مثل الذي يتعلم العلم ليقال عالم ويتصدق ليقال جواد ويجاهد ليقال شجاع ... الخ. 3) أن يعمل الأعمال الصالحة ويقصد بهما مغنما مثل الحج لما يأخذه لا لله أو يجاهد لأجل المغنم فقد ذكر ايضا هذا النوع في تفسير هذا الآية كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:" تعس عبد الدينار ـ تعس عبد الدرهم ـ إلى آخر الحديث. 4) أن يعمل الإنسان بطاعة الله مخلصا لذلك لله وحده، ولكنه على عمل يكفره كفرا يخرجه عن الإسلام مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم شرك أو كفر أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية ويمنع قبول أعمالهم. ثم يحذر من إتيان الأعمال التي تحبط العمل ولهذا خاف السلف من حبوط الأعمال ثم يقول:"وأما الفرق بين الحبوط والبطلان فلا أعلم بينهما فرقا (2) .   (1) عبد الله الرويشد ـ محمد بن عبد الوهاب، عبر التاريخ جـ 2 ص36 (2) اين غنام. تاريخ نجد ص 473-474 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ومن خلال إحياء الشيخ لقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبارها قاعدة أساسية تضمن ربط العلم بالعمل تحدد منهج الشيخ ونظرته إلى دوره العقيدة في بناء الفرد من خلال الجماعة وهو ما سوف نعرض له تفصيلا في الباب الخامس من البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 البَابُ الثَّالِث: مَوقفهُ مِنَ الغَيبيَّات الفصل الأول: الذات والصفات . الفصل الثاني: النبو ات. الفصل الثالث: البعث والجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الفَصل الأول: الذات والصفات تمهيد: لم تخل فترة من الزمان منذ بدأ الإسلام من مشتغل على نحو أو آخر بعلم الكلام أو بعبارة أخرى من الحديث في الأمور الغيبية حتى أننا نلمس بذور الاشتغال بالكلام في صدر الإسلام، فما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الصحابة يوما وهم يتناظرون في القدر ورجل يقوم ألم يقل الله كذا؟ ... فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "أبهذا أمرتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا لا يكذب، انظروا ما أمركم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه" (1) . إذن فبذور النظر العقلي خالط تربة المسلمين منذ كان صاحب الرسالة صلوات الله عليه بين ظهرانيهم، ولكن سلف الأمة كانوا في جملتهم مع أعمال العقل أهل إيمان وتسليم وعمل بما أمرهم الله ورسوله صلى الله عليهه وسلم. بيد أنه لم يكد المجتمع الإسلامي يخالط المجتمعات الأخرى حتى زادت فتنة الاشتغال بعلم الكلام ـ سواء كان هذا الاشتغال خلفه حسن النية والدفاع عن الإسلام ضد التيارات التي دخلت الإسلام بأغراض شتى ـ أو للاتجاه المضاد وهو الكيد للإسلام من هذا الطريق، وتعددت الفرق بعد ذلك إلى أن   (1) الحديث أورده البخاري بسنده واستدل به الشهر ستاني في الملل والنحل: 1/21 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 بلغ عدد أصول الفرق وفروعها عددا كبيرا ولا سيما بعد اتساع الفتوح حتى أصبح حصر عدد هذه الفرق عند المؤرخين مختلفا عليه. فنشأة الخلاف قديمة منذ موت الرسول صلى الله عليه وسلم ثم سكنت النفوس بعد خطبة أبي بكر المشهورة وتلا عليهم قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (1) . اختلفوا في موضع دفنه صلى الله عليه وسلم أيكون بمكة أم بالمدينة أو بيت المقدس الذي به تربة الأنبياء ومشاهدهم صلوات الله عليهم، وزال الخلاف بعد أن قال أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأنبياء يدفنون حيث يقبضون فقبلوا منه رأيه ورجعوا على قوله ودفنوه في حجرته. اختلافهم في باب الإمامة وطال الكلام فيها وتعددت الآراء والأفكار وانتهى وقتها بتولية أبي بكر رضى الله عنه، ولكن كل هذه الخلافات كانت مؤقتة وزالت. ويقول الاسفراييني:" الخلاف لا يكون خطيرا إلا إذا كان في أصول الدين ولم يكن اختلاف بينهم في ذلك بل كان اختلاف من يختلف في فروع الدين مثل مسائل الفرائض فلم يقع خلاف يوجب التفسيق والتبري، هكذا جرى الأمر على السداد أيام أبي بكر وعمر وصدر من زمان عثمان ثم اختلف في أمر عثمان وخرج عليه قوم منهم فكان من أمره ما كان." (2) موقف ابن عبد الوهاب من علم الكلام: (1) ـ نستهل حديثنا عن موقف ابن عبد الوهاب من علم الكلام بنص له ورد في الدرر السنية: (أن علم الكلام بدعة وضلالة حتى قال أبو عمر بن عبد البر: أجمع أهل العلم في جميع الاعصار والأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وضلالات لا يعدون عند الجميع من طبقات العلماء) . (3) (2) من الأسباب التي ذكرها ابن عبد الوهاب في كراهيته لعلم الكلام أنهم   (1) الزمر: 30 (2) الاسفرايين ـ التبصير في الدين ـ ص13 (3) الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص39 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أي ـ علماء الكلام ـ يحرفون كلام الله المحكم وكلام رسوله الواضح على غير مراده وقد اشتمل كلامهم من الباطل على مالا يعلمه إلا الله بل فيه من الكذب في السمعيات نظير ما فيه من الكذب في العقليات، حتى انتهى أمرهم إلى القرامطة في السمعيات والسفسطة في العقليات، وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئا من الكتاب والسنة حتى في المسائل العملية والقضايا الفقهية. (1) (1) بدعة علم الكلام كانت أصلا من أصول الفرقة والتفرق في صفوف المسلمين ويقول ابن عبد الوهاب:" أمر الله بالاجتماع في الدين ونهى عن التفريق فيه فبين الله هذا بيانا شافيا كافيا تفهمه العوام.. ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا قبلنا فهلكوا." (2) (2) يعيب على المتكلمين تسميتهم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حشوا وتشبيها وتجسيما مع أنه إذا طالعت في كتاب من كتب الكلام مع زعمهم أن هذا واجب على كل واحد وهو أصل الدين ـ تجد الكتاب من أوله إلى آخره لا يستدل على مسالة منه بآية من كتابة الله ولا حديث عن رسول الله. (3) (3) حتى في حالة ذكره إذا استشهد بآية أو بحديث يكون التحريف عن موضعه بما يناسب أهواءهم. (4) أنهم يقرون بأنهم لم يأخذوا أصولهم من الوحي بل من عقولهم مع إقرارهم أنهم مخالفون للسلف. (5) " وشبهتكم التي ألقيت في قلوبكم أنكم لا تقدرون على فهم كلام الله ورسوله والسلف الصالح وقد قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة". فتأمل هذا الشبهة أعني قولكم لا تقدرون على ذلك وتأمل ما حكى الله عن اليهود في قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} (4) وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاه قُرْآناً عَرَبِيّاً   (1) الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص102 (2) المرجع السابق ـ جـ 1 ص99 (3) المرجع السابق. (4) سورة البقرة: 8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (2) فأعراض بعض من المتكلمين عن القرآن الكريم بحجة عدم فهم القرآن أو غواية الشيطان لهم نجد مصداق ذلك في حديثه صلى الله عليه وسلم السابق الإشارة إليه وهذا سبب من أسباب كراهية ابن عبد الوهاب لعلم الكلام والمشتغلين به. (1) ـ هناك خصوصية أخرى يتشبه بها المتكلمون اليهود وعلى وجه الخصوص علماؤهم ورهبانهم من كتمان الحق ولبس الحق بالباطل. (2) أنهم عمدوا إلى شيء أجمع المسلمون عليه فابتدع هؤلاء كلاما من عند أنفسهم كابروا به العقول وتابعهم جمهور من يتكلم في علم هذا الأمر (3) . (3) مع كون فساد مذهبهم في نفسه مخالفا للعقول وهو أيضا مخالف لدين الإسلام والكتاب والسنة وللسلف كلهم ـ مع هذا راجت بدعتهم على العالم والجاهل حتى طبقت مشارق الأرض ومغاربها (4) . (4) إن السلف قد كثر كلامهم وتصانيفهم في أصول الدين وإبطال كلام المتكلمين وتكفيرهم وممن ذكر هذا من متأخري الشافعية البيهقي والبغوي وإسماعيل التيمي ومن بعدهم كالحافظ الذهبي وأما متقدموهم كابن سريج والدارقطنيى وغيرهما فكلهم على هذا الأمر (5) . فقد نبذ ابن عبد الوهاب علم الكلام لانحرافه عن الكتاب والسنة مع تحريف كثير من النصوص عن مواضعها، ترتب على ذلك انتشار الفرقة والإفتراق والبدع وكثرة القيل والقال، وخروج الناس فيما يخوضون عن كل قصد واعتدال.   (1) سورة الزخرف: 3 (2) سورة القمر: 22 (3) الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ1 ص40 (4) المرجع السابق (5) المرجع السابق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 كان منهج ابن عبد الوهاب التمسك بالكتاب والسنة، ويقول في ذلك: " فاحضر بقلبك أن كتاب الله أحسن الكتب وأعظمها بيانا وشفاء لداء الجهل وأعظمها فرقا بين الحق والباطل." (1) وفي موضع آخر يقول:" والله سبحانه قد عرف تفرق بعاده واختلافهم قبل أن يخلقهم (2) وقد ذكر في كتابه" {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً} (3) فابن عبد الوهاب ليس على وفاق مع المتكلمين لأنهم سلكوا طريقا غير طريق الإسلام في نظره، وقد أفاض في سرد الأسباب التي من أجلها يكره علم الكلام والمتكلمين ويرفض طريقهم كمنهج وتطبيق، والسلف لا يرضون بطريقة المتكلمين في البحث والتأليف، فإذا كان ابن عبد الوهاب غير راض عنهم فليس بمبتدع بل له أسوة من السلف كما أشار هو إلى ذلك في نص سابق، فكراهية علم الكلام ومبدأ الاشتغال به قديمة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ووجدهم يتكلمون كما أشرنا في البداية من هذا الباب وكيف غضب غضبا شديدا، ثم تابعه في ذلك النهج القويم الخلفاء الراشدون وخاصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقصته مع صبيغ بن سعل وحديثه في المتشابه وكذلك مع السارق الذي اعتبر إقدامه على السرقة من قضاء الله، لشاهد على يقظة الخلفاء الراشدون على أمور الدين والدنيا، وكذلك السلف الذين خلفوهم كانوا ينكرون على المتكلمين نهجهم وما ابتدعوا من بدع. ويقول العلامة طاش كبرى زاده: " واعلم أن السف من الفقهاء والمجتهدين قد نقل عنهم النكير في حق علم الكلام حتى أن كثيرا من فقهاء عصرنا أنكروا على المشتغلين بعلم الكلام أشد الإنكار تمسكا بما ورد في ذلك من العلماء الأخيار. (4)   (1) الدرر السنية جـ 1 س38 (2) المرجع السابق ص39 (3) سورة النحل: 64 (4) أحمد مصطفى طاش كبرى زادة ـ مفتاح السعادة ـ ص19 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وذكر أقوال الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل في كراهيتهم لعلم الكلام حتى أن الإمام مالك قال لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء قال بعض أصحابه: أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا. وأما الإمام الشافعي فقد روي عنه أنه قال: لو يعلم الناس ما في علم الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد. وقال أيضا: حكمي في أهل الكلام ان يضربوا بالجريد وأن يطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك السنة وأخذ في الكلام. وأما الإمام أحمد فقد قال: لا يفلح صاحب الكلام أبدا، ولا ترى أحدا ينظر في الكلام إلا وفي قلبه مرض. (1) وهذه الأقوال التي ذكرها مؤلف "مفتاح السعادة" عن هؤلاء الأئمة تؤكد أن مقصدهم هو المسك الحق بالكتاب والسنة، وانتهاج نهج الرسول صلى الله عليهم وسلم وصحابته، والتنزه عن الجدل والبحث فيما لا طائل من ورائه والذي أدى على الفرقة والتنابذ. وإذا اشتد هؤلاء الأئمة على المتكلمين لأنهم رأوا أن الكلام قد خرج عن نهج القرآن والسنة وهو عين السبب الذي من أجله هاجم ابن عبد الوهاب الكلام والمتكلمين. مبحث الذات والصفات: سمى الله تعالى ذاته القدسية بأسمائه الحسنى آمرا المؤمنين ان يدعوه بها في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِه} (2) ِوقال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُو} إلى قوله: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . واستمع الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آيات الوحي تفيض   (1) المرجع السابق + الدرر السنية جـ 2 ص 206 ـ 207 (2) الأعراف: 180 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 بهذه الأسماء: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) . صدع المؤمنون بأمر بهم فدعوه بأسمائه التي وصف بها نفسه، وسمى بها نفسه في كتابه وتنزيله أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليها، ولا نقصان مها ولا تجاوز لها، ولا تفسير ولا تأويل لها، بما يخالف ظاهرها، ولا تشبيه بصفات المخلوقين، ولا سمات المحدثين، بل أقروها كما جاءت، وردوا علمها إلى قائلها، ومعناها إلى المتكلم بها صادق لا شك في صدقه. لم تكن مسألة الصفات الإلهية موضع خلاف لديهم إذ انصرفوا إلى ما هو خير من ذلك الجدال إلى الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته لتكون {كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} (2) ، ووسعهم أن يوقنوا بأنهم جند الله الواحد الذي} لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ { (3) ، حتى إذا مروا على آية من كتاب الله تعالى تنسب إليه صفة تخدش في ظاهرها التوحيد والتنزيه الذي ملأ شغاف قلوبهم كنسبة اليد أو الوجه أو العرش إليه لم يحاولوا تأويلها ولم يجل بخاطرهم أن ينزلوها في الفهم على ظاهرها وحرفيتها لاكتمال يقينهم بأن الله تعالى منزه عن الجسمية وجميع الأعراض والجوارح عرفانا بأنه {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُق} . (4) موقف علماء السلف من الذات والصفات: لم يتجاوز السلف ما أمرهم الله به من الاتباع والوقوف حيث وقف أولهم وحذروا من التجاوز والعدول عن طريقهم وثبت عن الربيع بن سليمان أنه قال: سألت الشافعي رضي الله عنه وعن صفات الله تعالى فقال: حرام على العقول   (1) الحشر: 23.24 (2) التوبة: 4 (3) الشورى: 11 (4) النحل: 17 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 أن تمثل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحده وعلى الظنون أن تقطع وعلى النفوس أن تنكر، وعلى الضمائر أن تمعن، وعلى الخواطر أن تحيط وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف به نفسه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. (1) ويقول ابن خلدون: " فأما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها وعلموا استحالة التشبيه، وقضوا بأن الآيات من عند الله، فآمنوا به لا يتعرضون لمعناها ببحث ولا تأويل وهذا يعنى قول الكثير منهم أقرأوها كما جاءت، أي آمنوا بأنها من عند الله ولا تتعرضا لمعناها ولا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء". (2) وأما الرازي في كتابه " أساس التقديس " فقد عقد بابا لتقرير مذهب السلف، ورتبه على فصول أربعة يبين فيها أن كثيرا من الفقهاء والصوفية والمحدثين يجوزون أن يكون في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لنا على العلم به، وهو المتشابه الذي لا يعلم ـ تأويله إلا الله واستدلوا على ذلك بالقرآن والحديث المنقول كما بين أن القرآن فيه المحكم والمتشابه وبين معنى كل منهما ثم ذكر الطريق الذي يعرف به كون الآية محكمة أو متشابهة، وبعد كل ذلك يبين حقيقة مذهب السلف في هذا المتشابهات فقال: " أن يجب القطع فيها بان مراد الله فيها شيء غير ظاهرها وبحب تفويض معناها إلى الله تعالى، ولا يجوز الخوض في تفسيرها". (3) أما الصابوني في كتابه " عقيدة السلف" فقد بين أن السلف كانوا يصفون الله تعالى بكل ما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم بدون تحريف ولا تأويل فيقول:" أصحاب الحديث حفظ الله أحياءهم، ورحم أمواتهم يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت به الأخبار الصحاح ونقله العدول الثقات عنه. (4)   (1) الدرر السنية ـ مجلد 2 ص198 (2) مقدمة ابن خلدون ـ 235 ط ـ مصطفى محمد. (3) الرازي ـ أساس التقديس ـ 223، طبعة الكردي. (4) أبي عثمان إسماعيل الصابوني ـ ص239 من مجموعة بدار الكتب رقم 813 توحيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ويستطرد الصابوني في شرح عقيدة السلف في الذات والصفات بأنهم يثبتون له جل شأنه ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يعتقدون تشبيبها لصافته وصفات خلقة، فيقولون أنه خلق آدم بيده كما نص سبحانه علي في قوله" {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) . ولا يحرفون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين أو القويتين تحريف المعتزلة الجهمية وكذلك يقولون في جميع الصفات التي ورد بها القرآن الكريم، ووردت بها الاختبار الصحاح من السمع والبصر والعين والوجه والرضا والغضب والقوة والعظمة والإرادة والمشيئة، وغيرها من غير تشبيه بشيء من ذلك بصفات المخلوقين بل ينتهون فيها على ما قاله الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه ولا تكييف ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير ولا إزالة للفظ الخبير عما تعرفه العرب وتضع عليه، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله كما أخبر الله عن الراسخين في العلم انهم يقولون في قوله تعالى " {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} . (2) وفي مجال توضيح عقيدة السلف بشرح محمد عبده في رسالته:" التوحيد" بأن السلف لم يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن معنى شيء من ذلك، أنهم كانوا قد نهوا عن البحث في ذات الله تعالى وصفاته، لعل هذا البحث وارتفاعه عن مستوى عقولهم فقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " تفكروا في مخلوقات الله ولا تتفكروا في ذات الله فتهلكوا ". (3) ولذلك يقول محمد عبده:" فالنهي واستحالة الوصل إلى الإكتناه شاملان لها، فيكفينا من العلم بها أن نعلم أن متصف بها وما وراء ذلك فهو مما استأثر الله بعلمه، ولا يمكن لعقولنا أن تصل إليه، ولهذا لم يأت الكتاب العزيز وما سبقه من الكتب   (1) ص: 75 (2) الصابوني ـ عقيدة السلف ـ ص239 ـ من مجموعة بدار الكتب رقم 813 ـ توحيد (3) محمد عبده ـ رسالة التوحيد ص 48 طبعة المنار 1353 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 إلا بتوجيه النظر على المصنوع لينفذ منه إلى عرفة وجود الصانع، وصفاته الكمالية، وأما كيفية الإتصاف فليس من شأننا أن نبحث فيها". (1) وإلى نفس المعنى يذهب إمام الحرمين فيما ينقله ابن القيم عنه ما نصه: " ذهب السلف إلى الانكفاء عن التأويل، وإجراء الظاهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى". (2) يتبين من النصوص السابقة ان منهج السلف في موضوع الصفات يتلخص في النقاط الآتية: (1) ـ الإيمان بألفاظ القرآن والاستدلال به كما هي من غير تأويل. (2) حاصل مذهب السلف أن المتشابه يحب القطع فيه بأم مراد الله منها شيء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى، ولا يجوز الخوض في تفسيرها وتأويلها. (3) أن السلف رضي الله عنهم يؤمنون بكل ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم إيمانا بعيدا عن التحريف والتعطيل ومن التكييف والتمثيل ويجعلون الكلام في ذات الله وصفاته بابا واحدا فإن الكلام في الصفات فرع من الكلام في الذات فكما ان لله ذاتا لا تشبهها الذوات فله صفات لا تشبهها الصفات، فإثبات السلف للصفات إثبات بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تكييف وعلى هذا مضى السلف. أولاً: ابن عبد الوهاب ومشكلة الصفات: بعد هذا الاستعراض لعقيدة السلف في الذات والصفات وإجماعهم التزام ما جاء في الكتاب والسنة دون تحريف ولا تصحيف تحت أي مسمى من مسميات علم الكلام والتزام المسلم بما جاء والعمل بما أمر، نستأنف الحديث والإيضاح لأول جانب من جوانب الغيبيات وهو الصفات. نستصحب في بداية الحديث عن ابن عبد الوهاب والصفات نصا له يشرح فيه عقيدته في الغيبيات والتزامه بمنهج وطريق السلف الصالح فيقول:" أشهد   (1) محمد عبده ـ رسالة التوحيد ـ ص50 طبعة المنار 1353هـ (2) ابن القيم ـ اعلام الموقعين ـ جـ3 ص465 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الله ومن حضر من الملائكة وأشهدكم أني اعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، بل اعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه ولا ألحد في أسمائه وآياته ولا أكيف ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه لأنه تعالى لا سمي له ولا كفؤ له، ولا ند له ولا يقاس بخلقه..". (1) ويسترسل في شرح عقيدته ببيان موقفه من الفرق وما هي أوصاف الفرقة الناجية التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويعتقد أن القرآن كلام منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة أنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين خلقه. ويؤمن بأن الله تعالى فعال لما يريد ولا يكون شيء إلا بإرادته ولا يخرج شيء عن مشيئته ولا شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره ولا محيد لأحد عن القدر المحدود ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور. (2) ويعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فيؤمن بفتنة القبر ونعيمه وبإعادة الأرواح إلى الأجساد ويؤمن بالحوض والصراط وبشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ويؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان وأنهما موجودتان، أنهما لا يفنيان وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة، وبأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته. ويقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله.   (1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية ـ كتاب العقائد جـ 1 ص29 (2) المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ويرى أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. (1) هذا تلخيص لأهم ما يعتقد به ابن عبد الوهاب في مسالة الغيبيات ومدى التزامه بمنهج السلف الذي أعلن التمسك به في بداية عرض عقيدته، ولنبدأ بتفصيل القول في أول هذه المسائل وهي الصفات: يهاجم ابن عبد الوهاب كل منكر للصفات تحت أي شعار أو اتجاه مثل الذين ذهبوا على تعطيل الصفات بحجة تنزيه الله عن المشابهة بينه وبين المخلوقات يندد بقولهم هذا فيقول:" فنكتة المسألة أن المتكلمين يقولون التوحيد لا يتم إلا بإنكار الصفات فقال أهل السنة لا يتم التوحيد إلا بإثبات الصفات وتوحيد كم هو التعطيل ولهذا آل هذا القول ببعضهم على إنكار الرب تبارك وتعالى كما هو مذهب ابن عربي وابن الفارض وفئات من الناس لا يحصيهم إلا الله". (2) فابن عبد الوهاب يهاجم المتكلمين والمتصوفة في إنكارهم للصفات أو بعضها، بل أنه يقسو على المنكرين للصفات ويعتبرهم أسوأ من الكفار. فالمعطل عنده شر من المشرك:"وأما توحيد الصفات فلا يستقيم توحيد الربوبية ولا توحيد الألوهية إلا بالإقرار بالصفات، لكن الكفار اعقل ممن أنكر الصفات" (3) . ويتعجب من المتكلمين الذي يقرون أمورا لله تعالى ثم ينكرون الصفات أو بعضها، " يجوزون على الله أن يأمر بكل شيء ويفعل كل شيء وينزهونه عن حقائق أسمائه وصفاته ولا يتم التوحيد إلا به" (4) . ويعتبر مسلكهم هذا من إضلال الشيطان لهم: " استحوذ عليهم   (1) الدرر السنية ـ جـ 1 ص 29-30 (2) الدرر السنية ـ جـ 1ص70 (3) الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص70 (4) الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص102 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الشيطان فظنوا أن التوحيد لا يأتي إلا بنفي الصفات فنفوها وسموا من أثبتها مجسماً". (1) إذن فأول شيء يذهب إليه ابن عبد الوهاب هو التزام السلف في إثبات الصفات ولا يتم التوحيد بنوعيه الألوهية والروبية إلا بإثبات الصفات وبرفض ما عدا ذلك، ويؤكد في جميع كتاباته أن التوحيد لا يتم إلا بالتزام اثبات الصفات جميعها التي أخبر الله عنها في كتابه فيقول: " إن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الصفات وأن معنى الإله هو المعبود فإذا كان هو سبحانه متفردا به عن جميع المخلوقات وكان هذا وصفا صحيحا لم يكذب الواصف به فهذا يدل على الصفات فيدل على العلم العظيم والقدرة العظيمة، وهاتان الصفتان أصل جميع الصفات كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} . (2) نلخص من النصوص السابقة: 1- رفض ابن عبد الوهاب مبدأ المتكلمين والوصفية في تعطيل الصفات تحت أي مسمى أو تعليل أو حجة اثبات التوحيد. 2- التزام ابن عبد الوهاب بمذهب السلف في إثبات الصفات. 3- إثبات الصفات إثبات لكمال الألوهية وأنه لو لم تدل على أوصاف لم يجز أن يخبر عنه ويوصف بها قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، فالقوي من أسمائه وقد أخذ عنه بأنه صاحب القوة، فلو لم تدل القوة على صفة لم يخبر عنه بأنه صاحب القوة، وقال: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} ،ومن أسمائه العزيز، وما إلى صفات من العلم والقدرة ومن أسمائه العلم والقدرة فلولا دلالتها على صفة العلم والقدرة لم يقل (بعلمك) ولا (بقدرتك) ، أنه لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات لم يسغ أن يخبر عنه بأفعالها.   (1) الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص70 (2) المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 4- أنه لو لم تكن أسماؤه ذوات معان وأوصاف لكانت جامدة كالأعلام المحضة. 5- يثبت جميع الصفات ويندد بمن يثبت جانبا منها ويرفض الآخر فيقول: (ويثبتون ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم من السع والبصر والحياة والقدرة والإرادة والعلم والكلام، إلى آخره وهذا أيضا من أعجب جهله، وذلك أن هذا مذهب طائفة من المبتدعة) يثبتون الصفات السبع وينفون ما عداها، ولوكان في كتاب الله، ويؤولونه وأما أهل السنة فكل ما جاء عن الله ورسوله أثبتوه، وذلك صفات كثيرة (1) " 6- التزام ابن عبد الوهاب بأسلوب وطريق السلف في إثبات الصفات لا ينفي عنه سبحانه ما وصف به نفسه ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يلحد في أسمائه ولا في آياته ولا يكيف ولا يمثل إنما يتبع نهج الفرقة الناجية التي يوضح أوصافها فيقول (والفرقة الناجية وسط في باب صفاته تبارك وتعالى بين أهل التعطيل والجهمية وبين أهل التمثيل والمشبهة وهم وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية وهم وسط في باب وعبد الله بين المرجئة والوعيدية وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج) (2) . والحق أن ابن عبد الوهاب التزم ما قال به من تمسكه بالكتاب والسنة واقتفاء الأثر الصالح قولا وعملا ولم نجد ما يخالف ما صرح به في تحديد أصول عقيدته، فأثبت الصفات كما جاءت بها النصوص من غير تحديد للكيف في أي صورة من الصور من تمثيل أو تكييف أو تأويل وتلقى أوصاف الله تعالى من كتبه ورسله بلا زيادة ولا نقصان مع رفضه إنزال هذه الصفات على مقتض العقل مهما بلغ هذا العقل من علو وتقدم وآمن بأن كل صفة معلومة بإثباتها مجهولة بكيفها والكافة مطالبون بالإثبات والكافة مطالبون بعدم الخوص في الكيف. ونسوق لابن تيمية في هذا المضمار حيث نجد فيه مصداقا لما ذهب إليه   (1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ رسالة أبن عبد الوهاب الرابعة ـ 263-264 (2) ابن بشر ـ عنوان المجد في تاريخ نجد ـ جـ 1 ص67 ـ68 ط بغداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ابن عبد الوهاب. (وأن المعطلة والممثلة كلاهما عطل ومثل فالمعطل لم يفهم الصفة إلا على مقتضى صفات المخلوقين فنفاها والممثل اثبت الصفات على مقتضى المخلوقين فعطل ما يستحقه تعالى من الصفات والأسماء اللائقة بجلاله ... وأن مذهب السلف بين التعطيل والتمثيل) (1) . الاستواء: ومن بين القضايا التي أثارها علم الكلام وتعددت فيه أقوال المشتغلين به تبرز مشكلة الاستواء بما يرتبط به من معنى الجهة والحركة والمكان، وقد صحب هذه الضجة موقف أهل السنة الذين تمسكوا بكل ما ورد من النصوص واثبات جميع الصفات كما جاء في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه الأمين، أثبتوها عن فقه وعند إدراك بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، (2) وأدركوا تماما أنهم {َلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (3) . فقد ورد في الذكر الحكيم نصوص تذكر عرض الله واستواءه عليه كقوله عز شأنه:} ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ { (4) ، وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} (5) ِ، وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} (6) . وقال في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (7) ، وقال في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (8) ، وقال في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (9) وقال في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى   (1) فتاوي ابن تيمية ـ الأسماء والصفات ـ 5/27. (2) الشورى: 11 (3) ط: 110 (4) طه: 5 (5) هود: 8 (6) الاعراف: 54 (7) يونس: 3 (8) الرعد: 2 (9) طه: 5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (1) ،وقال في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) وفي سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} . (3) في هذه الآيات إثبات صفة الاستواء لله وهي من الصفات الفعلية، ومعنى الإيمان بالاستواء: الاعتقاد الجازم بأن الله فوق سمواته مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته على خلقه بائن منهم وعلمه محيط بكل شيء ومعنى الاستواء العلو والارتفاع والاستقرار والصمود (4) . وابن عبد الوهاب يثبت العلو والاستواء بطريقة السلف وعلى منهج إمام دار الهجرة مالك ابن أنس حينما سأل رجل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، فأثبت مالك رحمه الله الاستواء، ونفى علم الكيفية وكذلك أجمع أهل السنة والجماعة على ذلك ولم يقل أحد منهم: إن الله ليس في السماء، ولا انه ليس على العرش، ولا أنه لا تجوز عليه الإشارة الحسية. ويستشهد ابن عبد الوهاب على علو الله بحديث ابن مسعود قال: بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام والعرش فوق الماء والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة بن عاصر عن زر عن عبد الله، ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عند عبد الله قاله الحافظ الذهبي (5) . واستشهاد ابن عبد الوهاب بهذا الحديث ليدل على مدى تمسكه   (1) الفرقان: 59 (2) السجدة: 4. (3) الحديد: 4. (4) مجموعة التوحيد 341-345، الكواشف الجلية عن معاني الواسطية ص195، صدر الدين (5) أبي العز الحنفي ـ شرح العقيدة الطماوية ـ 223 طبعة الرياض. مجموعة التوحيد ـ كتاب التوحيد ـ 212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 بالنصوص واثبات الاستواء لله على منهج أهل السنة الذين أثبتوا جميع أسماء الرب وصفاته من الإيمان باللفظ وإثبات الحقيقة ونفي علم الكيفية، وفي هذا المعنى تدور تفاسير السلف، قال الباري في صحيحه قال مجاهد: استوى على العرش (علا) وقال ابن راهويه سمعت غير واحد من المفسرين يقولون (الرحمن على العرش استوى) أي ارتفع وقال محمد بن جرير في قوله (الرحمن على العرش استوى) أي علا وارتفع (1) . فابن عبد الوهاب برفض تعريف الاستواء (2) بمعنى الاستيلاء وتمسك بمنهج أهل السنة واثبت الاستواء كما ورد في نصوص الذكر الحكيم وما جاء في السنة وذهب إليه المفسرون والعلماء ويتمسك بقوله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (3) وبقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (4) .   (1) الكواشف الجلية عن معاني الواسطية 195-196. (1) ويقول القرطبي: الاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار ويذهب إلى نفس التفسير ابن الجوزي في كتابه " زاد الميسر" ما قاله ابن الاعرابي أن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى ومن قال ذلك فقد أعظم وإنما يقول استولى فلان على كذا إذا كان بعيدا عنه غير متمكن منه ثم تمكن منه، والله عز وجل لم يزل مستوليا على ألأشياء ويذهب إلى ذلك ابن فارس اللغوي. ويندد ابن تيمية بالفريق الذي يفسر الاستواء بمعنى الاستيلاء لأنه لا يقال استولى على الشيء إلا لمن له مضاد فيقال لمن غلب المضادين استولى عليه والله تعالى لا مضاد له، والذين أولوا الاستواء بالاستيلاء هم متأخرو النجاة ممن سلك طريق الجهمية والمعتزلة والذين قالوا ذلك لم يقولوه نقلا وإنما قالوه استنباطا وحملا منهم للفظة استوى على استولى، واستدلوا بقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق وهذا البيت محرف وإنما هو هكذا: " قد استولى بشر على العراق" أما ابن القيم فيقول في موضوع الاستواء كلام جيد في كتابه " مدارج السالكين،" ما نصه:" إن الربوبية المحضة تقتضي مباينة الرب للعالم بالذات، كما باينهم بالربوبية، والصفات والأفعال فمن لم يثبت ربا مباينا للعالم فما أثبت ربا: فإنه إذا نفى المباينة لزمه أحد أمرين لزوما لا انفكاك له عنه البتة, أما أن يكون نفس العالم، وحينئذ يصح قوله، فإن العالم لا يباين ذاته ونفسه ومن ههنا دخل أصل الوحدة وكانوا معطلة أولا، واتحادية ثانيا، وأما أن يقول ما ثم رب " يكون مباينا ولا محايثا، ولا داخلا ولا خارجا، كما قلته الدهرية المعطلة للصانع، وهذا نفي للصانع مطلقاً" (3) فاطر: 10 (4) الأنعام: 18 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وهناك العديد من الآيات التي يستشهد بها في إثبات علو الله ويصرح بتمسكه بمذهب السلف فيقول (وذلك مذهب الإمام أحمد وغيره من السلف أنهم لا يتكلمون في هذا النوع إلا بما تكلم الله به ورسوله فما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله ـ أثبتوه مثل الفوقية، الاستواء، والكلام والمجيء وغير ذلكن وما نفاه الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله نفوه، مثل: المثل والند والسمي وغير ذلك وأما ما لا يوجد عن الله ورسوله إثباته ونفيه، مثل: الجوهر، الجسم والعرض والجهة وغير ذلك ـ لا يثبتونه ولا ينفونه، فمن نقاه فهو عند أحمد والسلف مبتدع، ومن أثبته مثل هشام بن الحكم وغيره فهو عندهم مبتدع، والواجب عندهم السكوت عن هذا النوع اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه" (1) . وفي موضع آخر في هذه الرسالة يستشهد بقول أبي الوفاء بن عقيل الذي قال (أنا أقطع أن أبابكر وعمر ماتا ما عرفا الجوهر والعرض فإن رأيت ان طريقة ابي على الجبائي وأبي هاشم خير لك من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت) (2) . التصريح برفع الأيدي على الله تعالى كما ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله ان النبي صلى الله عليه وسلم جعل يقول " ألا هل بلغت" فيقولون نعم فيرفع اصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول " اللهم أشهد" (3) . ومن الأدلة أيضا على علوه في عرشه إخباره صلى الله عليه وسلم ان تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة. ونسوق هذا النص في ختام الأدلة والبراهين التي استشهد به ابن عبد الوهاب في إثبات صفة الاستواء على النحو الذي آمن به أهل السنة فيقول:" وذلك ان إنكار (الأين) من عقائد أهل الباطل، وأهل السنة يثبتونه اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح ان قال للجارية أين الله (4) ؟   (1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ رسالة ابن عبد الوهاب الرابعة ص: 261 (2) نفس المرجع السابق. (3) الدرر السنية في الأجوبة النجدية ـ مجلد 2 ت من 202 (4) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ رسالة ابن عبد الوهاب لابن سحيم 263-264 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ومما هو جدير بالذكر أن ابن الجوزي رفض التعويل على هذا الحديث بقول أنه ضعيف (1) . والذي يعيننا هنا هو تعويله على الأدلة القرآنية وهي كثيرة كما أوردناها في بداية الحديث عن الاستواء، أضف إلى هذا ان ابن عبد الوهاب رفض تأويل النصوص القرآنية كما فعل ابن الجوزي الذي أقبل على تأويل الاستواء بمعنى الاستيلاء. ويهاجم ابن عبد الوهاب المتكلمين على موقفهم من إنكار الاستواء واعتبر الفلاسفة اعقل منهم في هذا الموقف" حتى أن أئمة المتكلمين لما ردوا على الفلاسفة تأويليهم في آيات الأمر والنهي مثل قولهم: المراد بالصيام كتمان أسرارنا والمراد بالحج زيارة مشايخنا والمراد بجبريل العقل الفعال، وغير ذلك من إفكهم. ردوا عليهم الجواب بأن هذا التفسير خلاف المعروف بالضرورة من دين الإسلام. فقال لهم الفلاسفة: أنتم جحدتم علو الله في خلقه واستوائه على عرشه، مع أنه مذكور في الكتب على ألسنة الرسل وقد أجمع المسلمون كلهم وغيرهم من أهل الملل، فكيف يكون تأويلنا تحريفا وتأويلكم صحيحاً؟ فلم يقدر أحد من المتكلمين أن يجيب عن هذا الإيراد" (2) . نوجز موقف ابن عبد الوهاب في مسألة الاستواء إلى: 1. إثبات جميع الصفات التي ورد به الشرع مع فهم معانيها الحقيقية دون تأويل أو تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل. بعابرة أخرى ينفي عنه مشابهة المخلوقات فيجمع بين الإثبات ونفي التشبيه وبين التنزيه وعدم التعطيل. 2. إن استواءه على عرشه من لوازم علوه ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا في نصف الليل الثاني من لوازم رحمته وربوبيته. 3. رفض كل زعم أو تأويل لمسألة الاستواء بمعنى الاستيلاء او القهر.   (1) رسالتنا في الماجستير ـ ابن الجوزي آراؤه الكلامية والأخلاقية ـ ص155 (2) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص 227 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 4. اعتبر الفلاسفة في إثباتهم للاستواء أعقل من المتكلمين الذين أنكروا صفة الاستواء أو ذهبوا إلى تأويلها. 5. هاجم بشدة كل من أنكر أو نفى أي صفة وردت في الذكر الحكيم أو في سنة رسوله. 6. نستطيع أن نقول أن ابن عبد الوهاب لم يسهب ويفصل في توحيد الألوهية ويرجع ذلك إلى أمرين: الأول منهما: أن مجتمعه والعصر الذي وجد فيه كان عصر تأخر وبعد عن الاشتغال بعلم الكلام ولم تشغل مشكلة الصفات بال إلا القلة القليلة جدا من العلماء إذ وجدوا. الأمر الثاني: كراهية ابن عبد الوهاب كصاحب مذهب سلفي الخوض في مسألة الصفات والعمل بعلم الكلام للأسباب التي أوردناها في أول الباب واقتفى أثر السلف فأقر ما أقروا وترك ما تركوا والحقيقة أنه التزم بهذا الأمر في جميع جوانب الغيبيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الفصل الثاني: النبوات الموضوع الثالث من مسائل الغيبيات الذي نتناوله الآن لدى ابن عبد الوهاب هو: النبوات. ومسألة النبوة وإرسال الأنبياء إلى الخلق مبشرين ومنذرين ما هو إلا جانب من وعد الله للناس ولطفه بخلقه وتبصيرهم لأمور الدين والدنيا والرجوع بالإنسان إلى منابع الإيمان الأصلية كلما زحزحته عنها الحياة أو بواعث الهوى، ثم هو وعد من الله حيث يقول تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (1) وعدد الأنبياء والرسل لا يحصيهم إلا الله سبحانه {رُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (2) . فأنبياء الله تعالى ورسله إلى البشر قسمان: نبي يبثه الله تعالى إلى قومه لهدايتهم إلى الحق ورسوله يبعثه الله بكتاب إلى قومه لهدايتهم إلى الحق ودعوتهم إلى عبادة الله وحده وهي دعوة جميع الرسل والأنبياء على مر العصور يقول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) وهذا الأمر في اختصاص الله وحده بالعبادة واجتناب الطاغوت في جميع أشكاله وألوانه حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد ذلك   (1) الإسراء: 15 (2) النساء: 164 (3) النحل: 36 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 يقول تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (1) . هذه الحقائق في حق إرسال الأنبياء والرسل يطالب بها ابن عبد الوهاب أن تكون من واجب كل مسلم ومسلمة الوقوف عليها فيقول: (اعلم رحمك الله أنه واجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم ثلاث مسائل الأولى: أن الله خلقنا ولم يخلقنا عبثا، ولم يتركنا هملا، بل أرسل إلينا رسولا ومعه كتاب من أطاعه فهو في الجنة، ومن عصاه فهو في النار والدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} (2) المسألة الثانية: إن أعظم ما جاء به هذا الرسول أن لا يشرك مع الله في عبادته أحدا، والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (3) المسألة الثالثة: يحذر ابن عبد الوهاب من معاداة الإنباء والرسل لأنهم من اختيار الله واصطفائه والدليل قوله تعالى (4) {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} (5) ثم يحذر ابن عبد الوهاب أن من يعبد الله لا يجوز له موالاة أعدائه حتى ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم او عشيرتهم، ولكن الواقع أن معاداة الأنبياء والمرسلين ظاهرة مع كل نبي ومرسل على مر العصور, ومطالتبهم دائما بأشياء شاقة وغير عادية، ولذلك ساند الله سبحانه وتعالى أنبياءه بالمعجزات، ويقول الله تعالى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} . (6)   (1) النساء: 165 (2) المزمل: 15.16 (3) الجن: 18 (4) الحج:75 (5) مجموعة التوحيد ـ المسائل الثلاث ـ ص259 وكذلك عبد الله الرويشد ـ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ جـ 1 ص357 (6) يس: 52 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فقد سانده الله تعالى ثم أيده بالطوفان، وكانت معجزة إبراهيم أن قلبه خلا من كل ما سوى الله.. وأنه ألقي في النار فكانت بردا وسلاما عليه، وكامن معجزة موسى عصا تتحول إلى حية جبارة، وكانت معجزة عيسى إحياء الموتى وكانت معجزة محمد كتابا هو القرآن وخلقا هو القرآن وعند هذه المعجزة نقف برهة بعد بيان بشرية الأنبياء. وإلى جانب معجزة القرآن أيده الله بعلامات النبوة التي أعجزت الكفار وأدهشتهم مثل انشقاق القمر ومعراجه على السماء، إلى سدرة المنتهى وكفاية الله له من أعدائه وعصمته من الناس وإجابة دعائه، وإعلامه بالغيبيات الماضية والمستقبلية وتأثيره في تكثير الطعم والشراب وغيره من المعجزات التي وردت في كتب السيرة والتراجم. بشرية الأنبياء وحكمة الله فيها: يبين عبد الوهاب حكمة الله في إرسال الأنبياء والمرسلين من البشر عملا بقوله تعالى: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} (1) حتى تتوافر الالفة ويحدث التقارب هذا من ناحية ومن ناحية الاخرى حتى يكون للمعجزة التي يجريها الله على يد نبيه لها معنى لكي تفوق بلوم المعجزة على يد ملك ليس بغريب ويقول الله تعالى في هذا الشأن {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (2) . أي خلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدرون الملك هو أم آدمي؟ ثانيا: بشرية الأنبياء اقتضت أن تكون صفاتهم هي عين الصفات التي يتحلى بها البشر من حيث أنهم أكمل الخلق علماً وعملاً وأصدقهم وأبرهم وأكملهم أخلاقا لأن الله اختارهم وخصهم بفضائل لا يلحقهم فيها أحد وبراهم من كل خلق رذيل ويجب محبتهم وتعظيمهم ويحرم الغلو فيهم ورفعهم   (1) المؤمنون: 24 (2) الانعام: 9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فوق منزلتهم، ويجوز في حقهم شرعا وعقلا النوم والنكاح والأكل والشرب والجلوس والمشي والضحك وسائر الأعراض البشرية التي لا تؤدي إلى نقص في مراتبهم الصلبة (1) . ثالثا: بشرية الأنبياء لا تؤدي إلى نقص في تبليغ الأحكام ـ وقد تمتد إليهم أيدي الظلمة وينالهم الاضطهاد وقد يقتل الأنبياء كما أخبر الله بذلك في كتابه بقوله سبحانه {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (2) . رابعا: يندد ابن عبد الوهاب بالذين يدعون لأنفسهم أكثر مما يكون لدى الأنبياء فيقول: (تبرؤ الرسل من دعوى أن عندهم خزائن الله أو علم الغيب، مع أن الطواغيت في زمننا ادعوا ذلك وصدقوا وعبدوا لأجل ذلك) (3) . خامساً: يؤكد ابن عبد الوهاب أن من بشرية الأنبياء بأن ليس لهم الأمر شيء فيقول (التحقيق بكون المخلوق ليس له من الأمر شيء ولو كان نبياً مرسلا، لسبب ما فيها من قصة ابن نوح) (4) . سادسا: إن الذي عليه المحققون من العلماء من الحنابلة والشافعية والمالكية والحنفية أن الأنبياء معصومون من الكبائر وأما الصغائر فقد تقع منهم لكنهم لا يقرون عليها بل يتوبون منها ويحصل لهم بالتوبة منها أعظم مما كان قبل ذلك وجميع أهل السنة والجماعة متفقون على أنهم معصومون في تبليغ الرسالة ولا يجوز أن يستقر في شيء من الشريعة خطأ باتفاق المسلمين (5) . سابعا: إنه لا ينكر إصابة الشيطان للأنبياء بما لا يقدح في النبوة لقوله تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} مع قوله {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} (6) .   (1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص 623 وكذلك مجموعة التوحيد ص 395 (2) آل عمران: 112 (3) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ 622 (4) المرجع السابق. (5) الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص141 (6) الكهف: 63 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ثامنا: شدة الحاجة على تعلم التوحيد. فإذا كان الأنبياء يحتاجون إلى ذلك ويحرصون عليه، فكيف يغيرهم ففيها رد على الجهال الذين يعتقدون أنهم عرفوه فلا يحتاجون إلى تعلمه (1) . ثم يقول (ما عليه الإنسان من البشرية ولو كان نبيا وذلك من أدلة التوحيد) (2) . تاسعا: يجوز الإجارة على النبي بخلاف قول كثير من الفقهاء من منعهم الإجارة بالطعام والكسوة وأن مهمة الرعي لا تنقص (كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: ما بعث الله نبيا إلا رعى لغنم) (3) . عاشراً: الترحم على الأنبياء، وأنه لا ينقص من قدرهم بل هو من السنة (4) . بعد هذا العرض والتحليل لموقف ابن عبد الوهاب من مسألة النبوة ومدى حاجة البشرية لها على مر العصور، حتى خاتم النبيين جاء بالرسالة الكافية الشافية لأمور الدين والدنيا، ثم أوضحنا رأيه في بشرية الأنبياء وضرورتها لتتلاءم مع المهمة التي أرسلهم الله من أجلها، وتعرضهم للأذى والاضطهاد من شعوبهم على طول فترات التاريخ، وكان وعد الله لأنبيائه ورسله بتأييدهم بالمعجزات ونصرهم بخوارق الأمور، وهذا ما سنتناوله بالإيضاح والتفصيل. المعجزة: تعريف المعجزة: المعجزة في اللغة اسم فاعل من الاعجاز مصدر للفعل (أعجز) يقال: عجز فلان عن الأمر، وأعجزه الأمر إذا حاوله فلم يستطعه، ولم تتسع له مقدوراته وجهده.   (1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ 663 (2) ابن غنام ـ 633 ـ 634 (3) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص647 (4) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص634 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 والمعجزة في لسان الشرع أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة (1) . والمعجزة: أما حسية، تجابه الحواس، تتحدى القدر .... من هذا النوع، أي أنها كانت تقع في مجال الحس، وخاصة حاسة النظر، حيث أنها في هذا المجال تتكشف للناس على صورة تكاد تكون واحدة، لا اختلاف عليها بينهم لأن الناس لا يختلفون اختلافا بعيدا في مدلول ما يقع للحواس الأخرى من مسموعات، ومذوقات، ومشمومات، وملموسات. يقول السيوطي: (وأكثر معجزات بني إسرائيل كانت حسية ... لبلادتهم، وقلة بصيرتهم ... وأكثر معجزات هذه الأمة ـ الإسلامية عقلية لفرط ذكائهم، وكمال إفهامهم ـ ولأن الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة، خصت بالمعجزة العقلية الباقية.. ليراها ذوو البصائر) (2) وتتعدد المعجزات وتختلف كما هو معروف من تاريخ الأديان ونصوص الكتب المقدسة، أن كل نبي كان يحمل بين يديه إلى قومه آية صدقه في معجزة يلقاهم بها، متحديا على صورة لم يسبقة إليها أحد من قبل، ولم ينكشف للناس شيء من وجهها قبل أن تطلع عليهم، قاهرة متحدية.. بل إن بعض الأنبياء كان يحمل إلى قومه أكثر من معجزة ويجيء إليهم بأكثر من دليل يدل على أنه مرسل من عند الله، وهذه المعجزات التي بين يديه هي شهود عدول على صدق ما يقول، وما يدعي. فموسى عليه السلام حمل لبني إسرائيل عصا كانت تتفجر منها المعجزات يلقى بها من يده فتنقلب حية تسعى، ويضرب بها البحر فينفلق إلى جانب تلك العصا ومعجزاتها معجزة أخرى هي يده يدخلها في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء. (3)   (1) السيوطي ـ الاتفاق في علوم القرآن ـ جـ2 ص 116 (2) المرجع السابق (3) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص651 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ثم معجزاته سوق آيات النقمة والبلاء على فرعون وقومه. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلات} (1) . وعيسى عليه السلام كان معجزته في يده، وفي فمه، واختلاف المعجزات في أجيال الناس مما اقتضته دواعي الحكمة التي جاءت المعجزات من أجلها. لهذا كان من تدبير الحكيم العليم القادر أن يكون في يد كل نبي دليل صدقه الذي لا يشاركه فيه غيره، وأن تكون معجزته التي يلقى بها الناس فريدة لم تقع في خاطر ولا تجول في تفكير. وإذا كان لكل نبي آياته ومعجزاته التي يؤيد بها دعوى نبوته ورسالته، فما هي المعجزة أو المعجزات التي جاء بها "محمد" بين يدي رسالته.. لتقطع على الناس طريق الشك فيه، وفيما يدعيه لا شك أن معجزته صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم كما ورد في القرآن ذلك في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) . فهذه الآية صريحة في قطع الكافرين عن البحث في آيات أخرى غير القرآن {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) . وجوه إعجاز القرآن: قبل أن نتحدث عن وجوه إعجاز القرآن ينبغي أن نقول أنه الوثيقة التي يقال عنها أنها القرآن الذي نزل على محمد. ونسوق نصل للباقلاني يبرز فيه بعض وجوه إعجاز القرآن فيقول: " الذي يوجب الاهتمام التام بمعرفة إعجاز القرآن، أن نبوة نبينا عليه السلام بنيت على هذه المعجزة، وإن كان أيد بعد ذلك بمعجزات كثيرة" (4) وفي موضع آخر يقول: " فأما دلالة القرآن فيهي معجزة تامة، عمت   (1) الاعراف: 133 (2) العنكبوت: 50-51 (3) الشعراء: 197 (4) أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني اعجاز القرآن ـ ص10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الثقلين وبقيت بقاء العصرين، ولزوم الحجة بها في أي وقت منذ وجودها إلى يوم القيامة" (1) . 1. وأبرز ما يلفت النظر ويستدعي الإنصاف أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يكتب ولا يقرأ وكذلك كان معروفا من حاله أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم، ثم أتى بجملة ما وقع وحدث من عظيمان الأمور ومهمات السير من حين خلق آدم عليه السلام، إلى حين مبعثه. 2. إن القرآن يتضمن الإخبار عن الغيب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر، ولا سبيل لهم إليه (2) . 3. إنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي عجز الخلق عنه، ويقول في ذلك عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا} (3) . فالقرآن الكريم معجز في تاريخه دون سائر الكتب معجز في أثره الإنساني، معجز كذلك في حقائقه إلى يوم القيامة وفي هذا يقول الإيجي: " لا يجد الباطل إليه سبيلا.. ولا يتطرق إليه نسخ.. أي لا ينتهي حكمه بعد زمانه عليه السلام وذلك لانقطاع الوحي وتقرر أحكامه إلى يوم القيامة، ولا تحريف في أصله) (4) . فابن عبد الوهاب تستدل ويؤكد نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من معجزة نزول القرآن الكريم قرآنا يتلى عجز الخلائق عن الإتيان بمقله ولا بآية منه نثبت به   (1) المرجع السابق ص10 (2) المرجع السابق ـ ص48، مصطفى صادق الرافعي ـ أعجاز القرآن والبلاغة النبوية ص7.ص175 (3) الاسراء:88 (4) عضد الدين الإيجي ـ المواقف ـ ط1 ص21، مصطفى صادق الرافعي ـ إعجاز القران والبلاغة النبوية ـ 175 وكذلك عبد الكريم الخطيب ـ اعجاز القرآن ـ ص174 ط. أولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 عجز الخلق أمام الخالق وما زال هذا الإعجاز يتجلى كل يوم وسيظل كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها لتتم به حجة الله على عباده منذ دعهم وتحداهم به، فيقول (وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده) (1) . وفي موضع آخر يقول (وأومن بأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصلح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته) (2) . ويستنبط بن عبد الوهاب من سور القرآن الكريم على ثبوت نبوته صىل الله عليه وسلم مثال سورة المسد (3) ، والعلق (4) ، وفي سورة القصص في تفسيره {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . يستخلص ابن عبد الوهاب منها: 1. التنبيه على جلالة القرآن وعظمته وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم الأمي بأخبار السابقين. 2. التنبيه على وضوح القرآن " الحق". 3. فيه علامة من علامات نبي الاسلام عليه السلام. فابن عبد الوهاب يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأن معجزة القرآن ونزوله خص بها النبي الأمين وأن القرآن الكريم كلام الله منزل غير مخلوق، وأنه أعجز الخلائق عن الإتيان بمثله ولا بآية منه وأنه يؤمن بأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأنه أعلى مراتب البشر، أقر بهذه الحقائق جميعا في إطار الشرع ومنهج السلف دون إخلال يؤدي إلى بدعة من البدع التي انتشرت في عهده وخاض معارك فكرية وحربية ضارية للقضاء عليها.   (1) الدرر السنية ـ كتاب العقائد جـ 1 ص28 (2) المرجع السابق ص29 (3) ابن غنام ـ تاريخ نجد ص677 (4) المرجع السابق ص667 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 رفض ابن عبد الوهاب الإسراف في تحميل الأشخاص صفات وأحوال لا يجوز للبشر المغالاة فيها إلى حد يدخل صاحبه في الشرك فيقول للذين أسرفوا في رفع رتبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى حد يبعده عن بشريته:" هاجر إلى المدينة وبها توفي، ودفن جسمه وبقي علمه، نبي لا يعبد ورسول لا يكذب، بل يطاع ويتبع" (1) . ويؤكد ابن عبد الوهاب طاعة الرسول بقوله: (إن كل عمل على غير اتباع الرسول غير مقبول" (2) . وقد هوجم ابن عبد الوهاب اشد هجوم على موقفه هذا ورمي بأشياء كثيرة منها:" وأما ما يكذب عليها سترا للحق، وتلبيسا على الخلق، بأننا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق أفهامنا، من دون مراجعة شرح ولا معول على شيخ، وإنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي في قبره، وعصا أحدنا انفع له منه، وليس له شفاعة أو أن زيارته غير مندوبة وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى نزل عليه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} مع كون الآية مدنية. (3) إلى آخر ما أورده من المفتريات والتي يرد عليها بقوله: (وصورة الأمر الصحيح أني أقول ما يدعي إلا الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى في كتابه: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (4) وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} (5) . فابن عبد الوهاب يلتزم في اثبات النبوة للأنبياء والمرسلين كما أخبر الله عنها في كتابه وكما ورد عن نبيه صلى الله عليه وسلم دون اسراف أو تقديس لأصحاب النبوات صلوات الله عليهم يخرجهم عن بشريتهم أو يطلب منهم ما لا يطلب إلا من الله وحده الخالق الرزاق، وأن القرآن الكريم معجزة المعجزات في معناه ومغزاه ولفظه ووضوحه إلى يوم القيامه لأنه منزل من لدن حكيم عليم.   (1) سليمان بن سحمان النجدي ـ الهدية السنية والتحفة الوهابية ص 46 (2) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص608 (3) سليمان بن سحمان ـ الهداية السنية ـ ص46 (4) الجن:18 (5) الجن:21 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الفصل الثالث: البعث والجزاء تزخر آيات الكتاب الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة بالحديث عن البعث والنشور وتسوق الدليل بعد الدليل على أن {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (1) . وقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (2) وقال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} . (3) فالبعث لغة التحريك والإثارة وشرعا إعادة الأبدان وإدخال الأرواح فيها فيخرجون من الأجداث أحياء مهطعين إلى الداعي كما ذكر الله تعالى: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} (4) . وأن البعث والإعادة أهون على الله من البدء والخلق وكل هين ويسير {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (5) {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (6) . وفي آية أخرى يقول تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (7) .   (1) الحج:7 (2) المؤمنون:16 (3) المجادلة:6 (4) القمر:7 (5) لقمان:28 (6) يسين:29 (7) القيامة:4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وهذا رد على من عميت بصائرهم ويثبتون بعث الأرواح دون الأجسام ورغم وجود هذه الآيات البينات كدليل شرعي إلا أن هناك من أنكر البعث وهؤلاء نصيبهم الخسران. وينعى ابن عبد الوهاب على هؤلاء الذي رفضوا آياته وأنكروا على عقولهم التفكير فيما سبق من بينات، فقصة أهل الكهف" وأما دلالتها على اليوم الآخر فمن طول مكثهم لم يتغيروا" (1) كما قال الله تعالى {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} . (2) ويسوق دليلا آخر يخاطب به عقول المنكرين للبعث فيقول: الدليل على اليوم الآخر، لأن من أعظم الدلالة حياء الموتى في دار الدنيا) . (3) وهؤلاء الجاحدون للبعث يتخذ جحودهم صورا عديدة يبينها الجرجاني في شرح المواقف فقال ما نصه:" واعلم ان الأقوال الممكنة في مسألة المعاد لا تزيد على خمسة": الأول: ثبوت المعاد الجسماني فقط، وهو قول المتكلمين النافين للنفس الناطقة. الثاني: ثبوت المعاد الروحاني فقط وهو قول الفلاسفة الإلهيين. الثالث: ثبوتها معا وهو قول كثير من المحققين، كالعليمي، والغزالي، والراغب وأبي زيد الدبوسي، ومعمر من قدماء وجمهور من متأخري الإمامية، وكثير من الصوفية، فإنهم قالوا: الإنسان بالحقيقة هو النفس الناطقة، وهي المكلف، والمطيع والعاصي والمثاب والمعاقب والبدن يجري فيها مجرى الآلة، والنفس باقية بعد فساد البدن فإذا أراد الله تعالى حشر الخلائق خلق لكل واحد من الأرواح بدنا يتعلق   (1) ابن غنام، تاريخ نجد ـ 226 (2) الكهف:21 (3) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ 634 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 به، ويتصرف منه كما كان في الدينا. الرابع: عدم ثبوتهما معا وهذا قول القدماء من الفلاسفة الطبيعيين. الخامس: التوفيق في هذه الأقسام، وهو المنقول عن جالينوس فإنه قال: لم يتبين لي أن النفس هل هي المزاج فينعدم عن الموت فيستحيل إعادتها أو هي جوهر باق بعد فساد البينة فيمكن العاد حينئذ" (1) . وذكر نفس الشيء كل من الرازي في كتابه (الأربعين في أصول الدين وسعد الدين التفتازاني" في شرح المقاصد" أن الأقوال الممكنة في مسألة المعاد لا تزيد على خمسة؛ وذلك لأن الحق إما أن يكون المعاد هو المعاد الجسماني فقط، وهو قول أكثر المتكلمين أو المعاد الروحاني فقط، وهو قول أكثر المحققين، أو الحق هو بطلانهما معا، وهو قول القدماء من الفلاسفة الطبيعيين أو الحق التوقف في كل هذه الأقسام، وهو المنقول عن جالينوس، فإنه قال لم يظهر لي أن النفس شيء غير المزاج، بتقدير أن تكون النفس هي المزاج، فعند الموت تصير النفس فانية معدومة، والمعدوم لا يمكن إعادته، أما بتقدير أن تكون النفس جوهرا باقيا بعد فساد المزاج كان العاد ممكنا، ولما لم يتبين عنده أن النفس هل هي المزاج بعينه أو شيء غيره لا جرم توقف فيه (2) . هكذا يعرض الرازي وسعد الدين التفتازاني الأقوال التي أمكن قولها في المعاد، ونحن إذا استبعدنا القولين الأخيرين، لأنهما ليسا من أقوال أهل السلف، ونحن نبحث آراء ابن عبد الوهاب وصلتها بأقوال المسلمين السابقين عليه، إذا استبعدنا هذين القولين بقي عندنا ثلاثة أقوال: (1) قول أكثر المتكلمين النافين للنفس الناطقة (المجردة) وهؤلاء يقولون أن المعاد الجسماني فقط. (2) قول الفلاسفة الإلهين وهؤلاء يقولون أن المعاد روحاني فقط. (3) قول المحققين من المتكلمين كالغزالي، والعلمي من الأشاعرة، ومعمر   (1) الجرجاني ـ شرح المواقف جـ 8 ص197 (2) الرازي ـ الأربعين في أصول الدين ص287 طبع الهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 من المعتزلة، وبعض الصوفية والإمامية، وهؤلاء يقولون أن المعاد جسماني وروحاني وأن الروح باقية بعد فناء الجسد، ثم تتصل به بعد الإعادة. وبالمقارنة بين هذه الأقوال وقول ابن عبد الوهاب نجده: أولاً: يعتبر أن خلق آدم من تراب، من أبين الأدلة على المعاد (1) . ثانيا: معرفة المؤمن إذا أعثر عليه: {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} كما رد سبحانه موسى إلى أمه {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} فتأمل هذا العلم ماهو. ثالثا: أن الساعة آتية لا ريب فيها لما وقع بينهم من النزاع وذلك أن بعض الناس يزعم أن البعث للأرواح خاصة، وأعثر عليهم ليكون دليلا على بعض الأجساد. (2) ويكمل موقفه في موضع آخر من مسألة البعث فيقول: (وأعتقد الأيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فأومن بفتنة القبر ونعيمه بإعادة الأرواح إلى الأجساد فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا) (3) . ويستطرد في حديثه عن حكم منكر البعث بأنه كافر، وهل الناس إذا ماتوا يبعثون؟ فقل: نعم، والدليل قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} والذي ينكر البعث كافر، والدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (4) . (1) - خلاصة القول أن ابن عبد الوهاب يؤمن بالبعث على الوجه الذي أنبأ به الله تعالى في كتابه وحدث به رسوله صلى الله عليه وسلم وهو أن البعث يكون بالجسد والروح معاً. (2) - أن البعث وعد من الله والله لا يخلف الميعاد.   (1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص597 (2) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص630 (3) ابن بشر ـ عنوان المجد في نجد ـ جـ 1 ص68 ط. أولى. (4) مجموعة التوحيد ـ الرسالة الخامسة تلقين اصول العقيدة للعامة ـ 218، الرويشد ـ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ ت جـ 1 ص 339، 356،363 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 (3) - أن منكر البعث كافر. (4) - يقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة عزلا، وتدنو الشمس وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله. (5) ويؤمن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبشفاعته وأنه أول شافع وأول مشفع. (6) - ويؤمن بأن الصراط منصوب على شفر جهنم. يمر به الناس على قدر أعمالهم ثم يستطرد في وصف الصراط فيقول: " ولنذكر في الصراط المستقيم قولا وجيزا، فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد وهو الطريق الذي نصبه لعباده موصلا إليه ولا طريق له إليه سواه، بل الطرق لكلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلا لبعاده إليه، وهو أفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة" (1) (7) - ويؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما موجودتان، وأنهما لا يفنيان. (8) -ويؤمن بأن المؤمنين يرونه ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته (2) ، فابن عبد الوهاب يلتزم بما جاء في الكتاب والسنة بخصوص البعث ومشاهد يوم القيامة وما أثر عن السلف الصالح دون زيادة أو نقصان مع رفضه كل تفسير أو تأويل ورد عن طريق الفلاسفة والمتكلمين. الثواب والعقاب: فرغنا من توضيح موقف ابن عبد الوهاب من البعث والمثول أمام خالق العالمين لينال كل مخلوق جزاءه العادل على ما قدم في ديناه بعد أن أرسل الله مبشرين ومنذرين. {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (3) {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} (4) وبين في كتبه حدود ما   (1) الدرر السنيةـ كتاب تفسير القرآن ـ المجلد الرابع ص38 ـ 39 (2) الدرر السنيةـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص 29، 97 وأيضا د. منير العجلاني ـ تاريخ البلاد العربية السعودية ص247 (3) النساء 165 (4) الحديد:25 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 افترض على عباده} لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة {ٍ (1) ووعد المؤمنين} وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ { (2) ووعد الكافرين} نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا { (3) وجعل ليوم الحساب موعدا} لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً { (4) . يقول ابن عبد الوهاب:" أن الله خلقنا ما تركنا هملا بل أرسل إلينا الرسل أولهم نوح وآخرهم محمد عليه السلام". (5) وفي موضع آخر يقول" أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاءنا من عند ربنا بالبينات والهدى ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بشيرا ونذيرا فأول ما أول الله عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} أراد الإنذار عن الشرك قبل الإنذار عن الزنا والسرقة ونكاح الأمهات) (6) . ويستطرد بعد ذلك في بيان أنه صلى الله عليه وسلم لما هدم هذا الشرك وانذر عنه بذلك أخرج الناس من الظلمات إلى النور وهو التوحيد الذي قال فيه} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {وعلى العباد أن يصدقوا ويتبعوا، وإرسال المبشرين والمنذرين وعد من الله لعباده حتى لا يكون لأحد منهم حجة عدم المعرفة وقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً، وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً، رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} . (7) أما موقف ابن عبد الوهاب من نصوص الوعد والوعيد تلقى الواضح   (1) الأنفال:42 (2) آل عمران:133 (3) الكهف (4) الكهف:29 (5) الدرر السنية ـ جـ1 ص97 (6) الدرر السنية ـ جـ1 ص96 (7) النساء:163-165 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 منها بالاتباع والأيمان به مثل: وعيد من أراد الدنيا وأسرف فيها على حسا ب الآخرة، وعيد من افترى على النبي، وعيد من كفر، وعد المؤمنين (1) . ويقول في موضع آخر: (أنه سبحانه توعد بالنار الذين كفروا من أهل الكتاب ومن العامة، وقدم أهل الكتاب في الذكر، أنه وعيد لكل من يكذب بلقاء الله ـ التكذيب ببعض ما أخبرت به الرسل عن اليوم الآخر كما في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} . (2) أما موقفه من المشكل في نصوص الوعد والوعيد فيجيب على ذلك بقوله: " أما مسألة معاذ فالمعنى عند السلف على ظاهره وهو من الأمور التي يقولون أمروها كما جاءت اعني نصوص الوعد والوعيد لا يتعرضون للشكل فيه (وأما قوله) لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله (فتلك مسألة أخرى على ظاهرها) أن الله لو يستوفي حقه من عبده لم يدخل أحد الجنة ولكن كما قال تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} . (3) ويحدثنا عن مظاهر القيامة كما نقله ابن بشر وسطر في الدرر السنية وتدنو منهم الشمس وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} . (4) وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله وأومن بان الصراط منصوب على متن جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم (5) . بذلك آمن المسلمون الأولون والتابعون لهم بإحسان آمنوا بما أنزل الله على نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن صدقوه رسولا من ربهم فكان لديهم كل وعد وعد الله به عباده المؤمنين حقا كما أرداه الله} وَعْداً عَلَيْهِ حَقّا { (6) وقال تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِه} (7) وكان كل وعيد توعد به   (1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ص 621 (2) الكهف:105 (3) الزمر:35 الدرر السنية جـ1 ص 106 (4) المؤمنون:103 (5) ابن بشر ـ عنوان المجد في تاريخ نجد ـ جـ1 ص69 وكذلك الدرر السنية جـ1 ص: 29 (6) التوبة:111 (7) المائدة:16 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الكافرين حقا يقطع كل حجة} قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ {. (1) لكن علماء الكلام ما كانوا ليقفوا في جدالهم عند حد فكما أقدموا على الحديث عن الذات القدسية وأمعنوا في البحث عن كنه الذات ومدلول الصفات والتفريق بين صفة الذات عند البعض كعين الذات وعند الآخرين زائدة عليها وبين صفة للفعل توجب بوجود الفعل أو هي سابقو ويعيب ابن عبد الوهاب على المتكلمين هذا الإسراف والإسفاف في تلقي النصوص: (إن السلف قد كثر كلامهم وتصانيفهم في أصول الدين وإبطال كلام المتكلمين وتكفيرهم) (2) . كذلك أقدموا على آيات الوعد والوعيد بأن قالوا أن الوعد واجب على الله الوفاء به لعباده المؤمنين لأنه منزه من عدم الوفاء به، أما الوعيد فجائز وقوعه وجائز العفو عنه وهي تفرقه تعود عند المعتزلة إلى قولهم في أحد أصولهم بالحسن والقبح واستلزامهم إتيان الله لكل حسن وتنزهه عن كل قبيح، وتعود عند المرجئة على قولهم بالإرجاء ومضمونه أن أفعال العبادة مرجأة " إلى الله تعالى يعفو عمن يشاء ويعاقب من يشاء بل إنهم قالوا أنه لا تضر مع الإيمان معصية مهما كبرت وقادهم هذا التفريع على الحديث عن اليوم الآخر وماهيته، وماهية البعث وكيف يكون النعيم لأهل النعيم والعذاب لأهل العذاب وهل يخلد كل فريق في نعيمه أو عذابه؟ ومجمل قول أهل السنة في دحض شبهة المرجئة ومن نجا نحوهم أنه إذا كان الله قد بعث رسلا مبشرين منذرين فبينوا للناس ما شرع الله من الدين فكان منهم المؤمن والكافر وصح في العقل والنقل أن لهم جميعاً {مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} . (3) وأنهم إلى ربهم يحشرون ليثاب المحسن على إحسانه ويجازى المسيء على إساءته {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (4) وإذا كان عقاب المذنب مما تصرح به   (1) ق:28 (2) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ 227 (3) سبأ:30 (4) الزلزلة:8.7 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الآيات فإن ذهاب المرجئة إلى أن من أقر بالشهادتين وأتى بكل المعاصي لم يدخل النار أصلا وهو محض ابتداع. وقد هاجم المرجئة في قولهم هذا كثير من العلماء وأهل السنة ومن بينهم ابن عقيل الذي يندد بموقفهم في فصلهم الإيمان عن العمل بما ينافي الأحاديث الصحاح في إخراج الموحدين من النار" ما أشبه أن يكون واضع الأرجاء زنديقا فإن صلاح العالم بإثبات الوعيد واعتقاد الجزاء فالمرجئة لما لم يمكنهم جحد الصانع لما فيه من نفور الناس ومخالفة العقل اسقط فائدة الإثبات وهي الخشية والمراقبة وهدموا سياسة الشرع فهم شر طائفة على الإسلام (1) . ويذهب ابن عبد الوهاب مذهب أهل السنة في أن المؤمنين أو من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان لا يخلد في النار بل يدخلها ليتطهر ثم يأتيه العفو من رب العالمين وبأن الإيمان يتجزأ وذهاب الجزء ليس معناه ذهاب الكل، وأما وذهاب الجزء ليس معناه ذهاب الكل، وأما كون " لا إله إلا الله " تجمع الدين كله وإخراج من قالها من النار إذا كان في قلبه مثقال ذرة، فلا أشكال في ذلك، وسر المسألة أن الإيمان يتجزأ ولا يلزم من ذهاب بعضه ذهاب كله، بل هذا مذهب الخوارج، فالذي يقول أن الأعمال كلها من " لا إله إلا الله " فقوله الحق. والسبب ما ذكرت لك من التجزؤ وبسبب الغفلة عن التجزؤ غلط أو حنيفة وأصحابه في زعمهم: أن الأعمال ليست من الإيمان والإسلام". (2) 1. خلاصة القول أن ابن عبد الوهاب يذهب مذهب أهل السنة والجماعة في أن الإيمان يتجزأ ويزيد وينقص. 2. الأعمال كلها من " لا إله إلا الله " المصحوبة بالعمل. 3. أن الموحدين لا يخلدون في النار. 4. أن المعاد مرتبط بالميزان والصراط والحوض وجميع مشاهد يوم القيامة كما ورد في الكتاب والسنة ذكر الوعيد بالميزان، ثانيا ـ أنه الحق لقطع الأطماع ثالثا ـ أن الفلاح بسبب ثقله، رابعا أن الخسارة بسبب خفته، خامسا ذكر سبب الخفة (3) .   (1) ابن الجوزي ـ تلبيس إبليس ـ ص81 (2) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ 512 (3) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص596 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 1. أنه يؤمن بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وحديث الشفاعة نتوقف أمامه قليلا لما له من أهمية ولما أثاره أعداء ابن عبد الوهاب من إنكاره لها ـ وسوف نعرض حجج القوم ثم نورد بنصوص من واقع عقيدة ابن عبد الوهاب كما هو متبع في منهجنا في البحث: أولا: تعريف الشفاعة فقد قال أهل المعاني أنها مأخوذة من الشفع المقابل للوتر، قال أو جعفر:" والشفاعة"مصدر من قول الرجل: شفع لي فلان إلى فلان شفاعة وهو طلبه إليه في قضاء حاجته. وإنما قيل للشفيع" شفيع وشافع" لأنه ثنى المستشفع به فصار صاحبه له فيها شافعا، وطلبه فيه وفي حاجته شفاعة ولذلك سمي الشفيع في الدار وفي الأرض "شفيعا" لمصير البائع به شفعا (1) . ويذكر ابن الأثير في النهاية قد تتكرر ذكر الشفاعة في الحديث فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم، يقال شفع يشفع شفاعة فهو شافع وشفيع والمشفع الذي يقبل الشفاعة (يكسر الفاء المشددة) والمشفع الذي يقبل شفاعته. ويعرف بشير السهسواني الهندي نقلا عن الحافظ في فتح الباري الإستشفاع طلب الشفاعة وهي انضمام الأدنى إلى الأعلى يستعين به على ما يردفه، إذا دريت هذا فاعلم أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ثابتة في الدنيا والآخرة، أما الشفاعة في الدنيا فقد قال تعالى في سورة النساء {َلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} . (2) ويذهب المفسرون لهذه الآية بأن الله تعالى يرشد العصاة والمذنبين إذا وقع الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم. وهذه هي بعض تعريفات الشفاعة لدى أصحاب التفسير والإقرار فيها   (1) ابن جرير الطبري ـ جـ2 ص 31-32 (2) بشير السهسواني ـ صيانة الانسان عن وسوسة الشيخ دحلان 363 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 بأن الشفاعة للنبي جائزة في الدنيا والآخرة وهذا لا خلاف فيه. فقد انقسم الناس في الشفاعة إلى طرفين ووسط، قسم نفى الشفاعة للأصنام وهم المشركون كما ذكر الله عنهم بقوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه} (1) توسطوا وهم أهل السنة فأثبتوها بشرطيها وهما إذن الله للشافع أن يشفع، والثاني رضاه عن المشفوع له ولا يرضى من العمل إلا ما كان خالصا صوابا ويخرج الله من النار أقواما بغير شفاعة وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وأني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا" (2) . فأحاديث الشفاعة كثيرة وهي رد على من ينكرها مثل المعتزلة الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها ففي حديث الصور رد عليهم والذي مضمونه: أنه يأتون آدم، ثم نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم يأتون رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له الفحص فيقول الله: ما شأنك؟ وهو أعلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقول: وعدتني الشفاعة، فشفعتني في خلقك ناقض بينهم، قال: فارجع فأقف مع الناس ثم ذكر انشقاق السماوات، وتنزل الملائكة في الغمام، ثم يجيء الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء. (3) ويرد المؤرخون والمفسرون ألوان الشفاعة وترتيبها، فأولا: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة ليدخلوا الجنة. النوع الثاني والثالث من الشفاعة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة، وفي أقوام آخرين قد أمر بهم إلى النار، لا يدخلونها.   (1) سورة يونس. آية: 18 (2) متفق عليه. (3) أبي العز الحنفي ـ شرح العقيدة الطحاوية 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 النوع الرابع: شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم، وقد وافقت المعتزلة على هذه الشفاعة خاصة وخالفوا فيما عداها من المقامات مع تواتر الأحاديث فيها. النوع الخامس: الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب كما ورد في حديث عكاشة بن محصن، حين دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب. النوع السادس: الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه، ثم قال القرطبي في التذكرة بعد ذكر هذا النوع فإن قيل: فقد قال تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} ،قيل له: لا تنفعه في الخروج من النار كما تنفع عصاة الموحدين، الذين يخرجون منها ويدخلون الجنة. النوع السابع: شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة: كما تقدم: وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال: " أنا أول شفيع في الجنة". النوع الثامن: شفاعته في أهل الكبائر من أمته، فمن دخل النار فيخرجون منها، وهذه الشفاعة يشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضا (1) يقول ابن عبد الوهاب في هذه الدرجة من الشفاعة: "وأيضا فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم فصح أن الملائكة يشفعون، والأفراط يشفعون، والأولياء يشفعون، أتقول أن الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها الله في كتابه، وأن قلت، لا، بطل قولك أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله." (2) إلى هنا والاتفاق يتسم في معظم الأقوال في تعريف الشفاعة وفي ادخار رسو ل الله صلى الله عليه وسلم دعوته وهي الشفاعة الكبرى أو المقام المحمود ثم طلبه من رب   (1) أبي العز الحنفي ـ شرح الطحاوية ـ ص177 ـ 178. (2) مجموعة التوحيد ـ رسالة كشف الشبهات ـ ص 225 وكذلك مشاهير علماء نجد ص41 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 العزة فصل الحساب يوم القيامة، ثم مقامات الشفاعة المختلفة كما ذكرناها. إذن فمن أين يبدأ الخلاف والاختلاف بين المذاهب والفرقة وبصفة خاصة بين صاحب دراستنا والفريق الآخر الذي شن عليه أشرس الحملات وأعنفها حول موضوع الشفاعة فهل أنكر الشفاعة كما أدعى خصومه أم أن له منها الإقرار كما ورد في اشرع دون إخلال وإسراف؟ نستطلع حقيقة الأمر من واقع مؤلفاته:"فإن قال: اتنكر شفاعة رسول الله وتبرأ منها؟ فقل: لا أنكرها ولا أتبرأ منها بل هو صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع وأرجو شفاعته. (1) ولكنه يتمسك بالشروط التي أوردها الله تعالى في كتابه في قوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعا} (2) وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . (3) وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . (4) هذه بعض الآيات التي استشهد بها ابن عبد الوهاب في شروط الشفاعة والتي سألخصها بعد هذا الحديث. أما ما ورد في الحديث بشأن الشفاعة قوله صلى الله عليه وسلم أنه " يأتي فيسجد لربه ويحمده ـ لا يبدأ بالشفاعة أولا ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل نسمع وسل تعط، واشفع تشفع" وقال له أبو هريرة: من اسعد الناس بشفاعتك؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" فتلك الشفاعة لأهل الخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود (5) فحقيقة الأمر: (1) أن ابن عبد الوهاب يقر بالشافعة وان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو أول شافع وأول مشفع.   (1) مجموعة التوحيد رسالة كشف الشبهات ـ ص 224 (2) الزمر: 44 (3) البقرة: 255 (4) النجم: 26 (5) مجموعة التوحيد ـ كتاب التوحيد ـ 86-87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 (1) أنها تكون بعد إذن الله سبحانه وتعالى ورضاه. (2) لا تكون لمن أشرك بالله، وأنه ينعم بها على من عرف حقيقة التوحيد ولا يشرك بالله شيئا. (3) قد قطع سبحانه الأسباب التي يتعلق بها المشركون قطعا يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليا أو شفيعا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتا واهيا (1) ، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . (2) (4) وأيضا فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم مثل الملائكة والأفراط والأولياء ولكن لا تطلب منهم بل" أعطاه الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله (3) . (5) وابلغ رد على من أتهم ابن عبد الوهاب بأنه ينكر الشفاعة قوله:"ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال ولكنها لا تكون إلا بعد الإذن والرضى. (4) (6) {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} وتفسير هذه الآية هي موضع الاختلاف بين ابن عبد الوهاب والفريق المعارض له، فهو يقول في شأن تفسير هذه الآية بأن المقصود منها عدم الشفاعة إلا من بعد إذنه تعالى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبدأ بالشفاعة بل يسجد، فإذا أذن الله له شفع، وأن الشفاعة لا تطلب منه في الحياة الدنيا لأن الشفاعة من جنس العبادة وصرف شيء من العبادة لغير الله كصرف جميعها حرام"من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم كفر إجماعا" إذن فما هو رأي الفريق المعارض حول تفسير الآية السالفة الذكر يقول   (1) مجموعة التوحيد 225، ابن بشر ـ عنوان المجد جـ 1 ص69 (2) مجموعة التوحيد.225 (3) مجموعة التوحيد 225، (4) ابن بشر ـ عنوان المجد جـ 1 ص69 (4) مجموعة التوحيد ـ نواقض الاسلام ص 271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الشيخ محمد حسنين مخلوف الذي يشاركه نفس الاتجاه لفيف من المفكرين (1) حول تفسير {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} بأن هذه الآية تقرر ثبوت الشفاعة للأنبياء وغيرهم ولا ينافي طلبها منهم كما زعمه بعض المبتدعة ذاهبا إلى منع سؤال الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم كأن يقول اشفع لي يا رسول الله أو أسألك الشفاعة، قال وإنما يطلب ذلك من الله بقول الله شفع فينا نبيك ولا تطلب من غيره محتجا بهذه الآية وهو زعم باطل واحتجاج فاسد فإن القائل اشفع لي يا رسول الله لا يريد منه أن يكون فاعلا للغفران ودخول الجنة والنجاة من النار لأن الشفيع كالشافع ليس معناه ذلك ولا هو ملجئ له تعالى على الفعل وإنما يريد أن يسأل الله تعالى أن يفعل ما ذكر وكون الشفاعة بإذن أو بغير إذن لا دخل له في ذلك". (2) 1- إذن الخلاف الأول حول جواز طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم مباشرة وقد أوضحنا موقف ابن عبد الوهاب منها وقد رفض ذلك بنص الكتاب والسنة في وضوح عدم جواز الطلب مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم. 2- حول طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وقد رفضها واعتبر أن اللجوء إلى الوسائط يؤدي إلى الكفر. 3- الخلاف الثالث حول تفسير آية {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} يذهب فريق العلماء المشار إليهم آنفا وغيرهم بأن معنى الآية هو الاستفهام الاستنكاري والمقصود منه بيان كبرياء شأنه تعالى وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه والحقيقة التي لا بد من الإقرار بها أن موقف ابن بعد الوهاب من الشفاعة هو موقف أهل السنة والجماعة الملتزمين بكتاب الله وسنة رسوله، فهو يقر بها ولكن للموحدين المخلصين الذين آمنوا بما أنزل إليهم، ويرفض أقوال المبتدعين من الفلاسفة والمتكلمين والمتأولين لبعض آيات الشفاعة تأويلا يخرجها عن الطريق الحق مفهوم هذه الآيات، ومما لا شك فيه أن ابن عبد الوهاب واضح الفكر في موضوع الشفاعة معتدل القول ملتزم منهج أهل السنة والسلف.   (1) الحسيني العاملي ـ كشف الاتياب ص 249، عبد السلام بن كيران الفاسي ـ في الرد على المبتدعة الوهابية ص 13، جميل صدقي الزهاوي ـ الفجر الصادق ـ 56-57 وكذلك محمد تاج الدين الرسالة الرملية ـ ص3 (2) مقالة الشيخ محمد حسنين مخلوف ـ الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية ص 86 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الباب الرابع: التصوف وصلته بالعقيدة الفصل الأول: موقفه من التصوف . الفصل الثاني: التفرقة بين جوهر التصوف وأشكاله . الفصل الثالث: موقفه من التوسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الفصل الأول: موقفه من التصوف أولا: تمهيد: الصراع بين الفقهاء والمتصوفة: انتهينا في الفصول السابقة من بيان موقف ابن عبد الوهاب من بعض مباحث العقدية فأوضحنا موقفه من الاجتهاد والتقليد وأن الجمود والتأخر الذي أصاب العالم الإسلامي كان من جراء التقليد، ثم تناولنا بالتحليل والتطبيق منهجه في ربط العلم بالعمل، وفي الباب الثالث تناولنا عدة مسائل في الغيبيات وبيان موقفه منها والمنهج الذي سلكه في تلقي هذه الأمور مع مقارنة موقفه ببعض السابقين عليه مع التحليل والتمحيص للآراء الذي ذكرت. ونتناول في هذا الباب موقفه من التصوف ونبدأه بهذا التمهيد في الصراع بين الفقهاء والمتصوفة: أخذت الحضارة طريقها إلى العرب وواكب ذلك علم التدوين وأعني تدونين العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه وعقائد، وقد ساير الصوفية ركب هذا الموكب فدونوا علومهم وبينوا رياضاتهم والمراتب التي يتدرج فيها الصوفي، والآفات التي تعترض طريقه، واصطلحوا على ما اصطلحوا عليه من الفناء، والبقاء والصحو والسكر حتى أصبح التصوف علما من العلوم المدونة ويقول في ذلك د. التفتازاني: "فقد وضعوا لأنفسهم مصطلحا خاص ورموزا معينة لا يفهمها أحد حق الفهم إلا بالتلقي عنهم". (1)   (1) د. أبو الوفا التفتازاني/الطرق الصوفية في مصر/ مجلة كلية الآداب/جامعة القاهرة جـ 2 ص 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ومنذ عصر التدوين اشتد الخلاف بين الفقهاء والصوفية ويرجع هذا الخلاف إلى ان الفقه علم يبين أحكام الأعمال الظاهرة من عبادات ومعاملات وجنايات وأحوال شخصية وغيرها ونظروا إلى علم التصوف والمتصوفة نظرة تحقير من شأنه لأنهم أرباب ظواهر، ونظروا إلى أنفسهم نظرة فيه أنفة واعتداد، وتبادل الفريقان الكراهية والحقد (1) إلى ان تطورت إلى رمي كل فريق بالكفر وتفاقمت المشكلة وما المعارك التي نشبت في المساجد بين الفقهاء والصوفية إلا راجعة إلى إمعان الصوفية في الباطن وإسرافهم في التحدث عما في هذا الباطن من ضمير يستلهمونه المعرفة كما يستلهمونه الحكم على الأعمال. اعتماد الصوفية على المعرفة الحاصلة عن طريق الإلهام، وذلك يخالف ما دعا إليه القرآن من المعرفة عن طريق النظر والاستدلال، وتحكيم الضمير وإعطائه سلطة الحكم على الأعمال يخالف الشريعة الإسلامية لأنها تقوم الناس بحسب الظاهر لا الباطن وتثيب المحسن على إحسانه وتعاقب المذنب على ذنبه. ويدافع أصحاب الفكر الصوفي على هذا الاتجاه أي أن للشرع ظاهرا وباطنا فيقول أبو الفيض المنوفي:"وسبب ذلك أن للقرآن باطنا وظاهرا، وجدا ومطلعا كما جاء في السنة، ومن الآيات ما يؤخذ على ظاهره ومنها ما يحتاج فهمه فهما صحيحا لتأويله وتخريج معناه على الوجه الصحيح". (2) هكذا كان الصراع بين الفقهاء والصوفية الفقهاء ينددون بالمنهج الصوفي والصوفية يقررون منهجهم ويضعون لعلمهم المصطلحات والتفاسير الخاصة بكل طريقة ويؤد الدكتور التفتازاني هذه الحقيقة فيقول:" ولما كان الصوفية الأوائل قد فرقوا بين علم الشريعة أو علم الظاهر الذي هو على الجوارح الظاهرة وعلم الحقيقة أو علم الباطن الذي هو على الجارحة الباطنة وهي القلب وجعلوا علمهم أكثر يقينا من العلوم الأخرى وجعلوه ثمرة الشريعة وروحها. (3)   (1) كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ـ لابن الجوزي حافل بذكر العديد من الحوادث والاشتباكات التي حدثت بين فقهاء الحنابلة والصوفية. (2) السيد محمود أبو الفيض المتوفي ـ المدخل إلى التصوف الاسلامي ـ 98 (3) د. أبو الوفا التفتازاني ـ الطرق الصوفية في مصر ـ مجلة كلية الآداب/ جامعة القاهرة ـ مجلد 25 ـ جـ 2-58 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 كان من ثمرة هذا الصراع بين الطائفتين أن سيق إلى المحاكمة أمام قضاة بغداد كل من ذي النون المصري والحلاج وغيرهما، وقد شهد النصف الثاني من القرن الثالث الهجري بداية الصراع بين هاتين الطائفتين واستمر الصراع إلى أن جاء الغزالي (1) وقد استطاع ما يصفه د. مصطفى حلمي بما أوتي من صفاء الروح وجلاء القلب وذكاء العقل وقوة الإيمان أن يهدئ ثورة الفقهاء ويدعو إلى الدين الصحيح ويحبب التصوف إلى نفوس أهل السنة، تكاثر عدد المقبلين منهم عن طريق الذوق الموصل إلى المعرفة اليقينية والسعادة الحقيقية وتلقوا هذا التصوف بقبول حسن وأحلوه محلا رفيعا إبان القرنين الخامس والسادس للهجرة. (2) ويشارك د. أبو الوفا التفتازاني د. حلمي نفس الرأي فيقول:" وكان مجيء الإمام الغزالي في رأينا من العوامل الهامة التي غيرت من مجرى التصوف الإسلامي، فقد أرسى الغزالي قواعد التصوف السني. (3) جاء بعد الغزالي صوفية مزجوا مسائل الكلام والفلسفة الإلهية بعلمهم وكانت لهم مذاهب في الاتحاد ووحدة الوجود ووحدة الشهود..تجدد العداء ونظر الفقهاء إلى هذا الاتجاه، واعتبروه زندقة وإلحادا ولذا شهد القرن السابع للهجرة وما تلاه من القرون حركة متتابعة من الخصومات بين الفقهاء والصوفية وكانت مذاهب وحدة الوجود والحلول ووحدة الشهود هي المحور الرئيسي الذي دارت حوله هذه الخصومات وقد حمل لواء الطعن على الصوفية وبصفة خاصة على التصوف الفلسفي ابن تيمية فقد جرح ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين وعفيف الدين التلمساني وقد بلغت خصومة ابن تيمية مداها حينما أعلن تحريم زيارة الأضرحة والدعاء للأولياء والتوسل بهم، ومنذ ذلك الحين اشتدت الخصومة بين الفقهاء والصوفية واتخذت أشكالا مختلفة على أيدي كثير من الفقهاء وأوضح دليل على ذلك ما حدث حول ابن عربي وابن الفارض من   (1) مع العلم بأن الغزالي لم يفلت من الهجوم الفقهاء والعلماء على تركه منهج الفقهاء وانخراطه في سلك التصوف وتأليفه الكتب الصوفية. (2) د. مصطفى حلمي ـ الحياة الروحية في الاسلام ـ ص111. (3) د. التفتازاني ـ الطرق الصوفية في مصر ـ ص60 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 خلاف فالبعض نسبهما إلى الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، وطعن في سلوكهما والبعض الآخر نفى هذا عنهما وبرأ ساحتهما، كان ابن تيمية القائد الأول لحركة الطعن التي وجهت فيها سهام التكفير إلى أصحاب الأذواق والمواجيد. ومن الناعين الناقدين على انحرافات الصوفية التي عمت في القرن السادس الهجري الفقيه الحنبلي أبو الفرج بن الجوزي وكتابه"تلبيس إبليس" صورة واضحة لما عابه عليهم وما وجهه إليهم من نقد حول الأخذ بالحقيقة دون الشريعة ومن ذم العلم إلى آخر ما ورد في كتبه. ومن أجل هذا لم يتردد ابن تيمية في تكفيرهم، بل اعتبرهم اشد كفرا من اليهود والنصارى:" الباطن والظاهر ... والشريعة والحقيقة كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا إلى المشايخ والفقراء ولا إلى الملوك والأمراء ولا إلى العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. (1) ويذهب إلى نفس الرأي ابن عبد الوهاب فيقول:" إني عثرت على أوراق عند ابن عزاز فيها اجازات له من عند مشايخه، وشيخ مشايخه رجل يقال له عبد الغني، ويثنون عليه في أوراقهم ويسمونه العارف بالله، وهذا اشتهر عنه انه درس دين ابن عربي الذي ذكر العلماء: أنه أكفر من فرعون حتى قال ابن المقري الشافعي:" من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر". (2) هذه وقفة أمام الصراع أو جانب منه بين الفقهاء والمتصوفة منذ بدأ عصر التدوين للعلوم الشرعية، ونتناول بالبحث والتحليل موقف صاحب الدراسة من التصوف. ثانيا: محمد بن عبد الوهاب والتصوف. إن قضية التصوف وما تثيره من الآراء المعارضة له أو الآراء المؤيدة حول هذا الموضوع استمرت ردحا طويلا من الزمان، ونحن الآن بصدد بيان موقف   (1) ابن تيمية ـ مجموعة الرسائل والمسائل ـ جـ 1 ص 137 (2) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ الرسالة السابعة ـ 307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ابن عبد الوهاب من هذه القضية والتي ألمحنا آنفا إلى مدى الصراع الذي استمر بين الفقهاء والصوفية فترة طويلة نستطيع أن نقول أنه أشعل نارها: بموقفه من أفعال العامة من الأولياء حول الأضرحة ويقول في ذلك:"وأما ما صدر من سؤال الأنبياء والأولياء بالشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها والسرج والصلاة عندها واتخاذها أعيادا وجعل السدنة والنذور لها فكل ذلك من حوادث الأمور" (1) فرفض ابن عبد الوهاب لهذه الأمور أشعل الجدال والقتال حول هذه المفاهيم مما سنتناوله بالتفصيل. يستطيع الباحث المنقب في جوانب شخصية ابن عبد الوهاب أن يجد الصلابة والقدرة على مواجهة الخصوم وتحليل الآراء المخالفة وتفنيدها ودستوره الكتاب والسنة فما وافقهما فهو حق وما خالف واحدا منهما فهو باطل ومردود. ويترتب على منهجه هذا أن قبل كل ما يجد له برهانا من ربه أو سندا صحيحا من سنة رسوله، وسطر منهجه فقال:" ولست ـ ولله الحمد ـ أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذي أعظمهم، مثل ابن القيم، والذهبي، وابن كثير، وغيرهم بل أدعو إلى وحده لا شريك له وأدعو إلى الله وحده لا شريك له وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) رفض ابن عبد الوهاب أي عمل أو فكر يخرج عن هذا الدستور واعتبره بدعة، فعاب على المتصوفة الإسراف في تعذيب النفس وحرمانها مما أحل الله فيقول:" تركهم الواجب ورعا، وتعبدهم بتحريم الطيبات من الرزق وتعبدهم بترك زينة الله". (3) هاجم ابن عبد الوهاب اعتكاف المتصوفة في خلواتهم وبعدهم عن ممارسة الحياة وتعمير هذا الكون بشريعة الله فيقول:" وكذلك أيضا من أعظم الناس ضلالا متصوفة في معكال وغيره، مثل ولد موسى بن جوعان وسلامة بن مانع، وغيرهما، يتبعون مذهب ابن عربي وابن الفارض وقد ذكر   (1) الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص 58. (2) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ الرسالة الأولى ص 215. (3) مجموعة التوحيد ـ الرسالة الأولى ـ مسائل الجاهلية ص 239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أهل العلم أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية، وهو أغلظ كفرا من اليهود والنصارى، فكل من لم يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ويتبرأ من دين الاتحادية فهو كافر برء من الإسلام، ولا تصح الصلاة خلفه، ولا تقبل شهادته". (1) ورغم أنه يستشهد بقول أهل العلم على حد تعبيره إلا أنه في موضع آخر يتبرأ من أنه يرمي ابن عربي أو ابن الفارض بالكفر فيقول:" وإني أكفر من حلف بغير الله ـ وإني أكفر ابن الفارض وابن عربي ... "جوابي عن هذه المسائل أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم". (2) نخلص من منهجه الذي أشرنا إليه آنفا ومن كتاباته من واقع كتبه ورسائله إلى تلخيص موقفه من التصوف والصوفية وما عابه عليهم في النقاط الآتية: (1) أول ما كاد الشيطان للناس أن أغواهم بتعظيم الصالحين تعظيما خارجا عن مقام الاستقامة كما ذكر الله ذلك في كتابه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (3) {قال الكليبي هؤلاء قوم صالحون فماتوا في شهر فجزع عليهم أقاربهم وقال لهم رجل هل لكم أن أعمل خمسة أصنام على صورهم ومع توالي القرون الأزمان ازداد تعظيمهم لهذه الأصنام. (4) تمسك ابن عبد الوهاب في دعوته إلى تنقية التوحيد وإخلاص الدين لله فيقول:" لكني بينت للناس إخلاص الدين لله ونهيتهم عن دعوة الأنبياء والأموات من الصالحين وغيرهم وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من   (1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ الرسالة العاشرة ـ ص344. (2) ابن بشر ـ عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص 7 ط بغداد. (3) نوح: 23 (4) الدرر السنية جـ 2 ـ 3 ص 50 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 أولهم إلى آخرهم وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة" (1) . (3) حذر ابن عبد الوهاب من الانخداع تحت أي مسمى يخدش التوحيد أو ينال من حق الله على العباد فيقول:" فمعلوم أن اللغات تختلف: فالمعبود عن العرب، والإله الذي يسميه عوامنا " السيد" و " الشيخ" و " الذي فيه السر" عندهم هو القدرة على النفع والضر وكونه يصلح أن يدعي ويرجى ويخاف ويتوكل عليه". (2) (4) ثم يرد على القائلين بأنهم يعرفون بأن الله هو الخالق الرزاق المدبر، لكن هؤلاء الصالحين مقربون ونحن ندعوهم وننذر لهم، وندخل عليهم نستغيث بهم ـ بذلك الوجاهة والقربى ـ يرد ابن عبد الوهاب على هؤلاء بقوله"كلامك هذا قول أبي جهل وأمثاله، فإنهم يدعون: عيسى وعزيرا والملائكة والأولياء يريدون ذلك (3) كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . (4) (5) ومن بين الأشكال التي اتخذها الناس للتقرب إلى الأولياء والصالحين وهم بهذه الأعمال يشبهون النصارى الذين منهم من يعبد الله الليل والنهار ويزهد في الدنيا ويتصدق بما لدينه معتزلا في صومعته عن الناس، ومع هذا فهو كافر، عدو الله، مخلد في النار بسبب اعتقاده في عيسى أو غيره من الأولياء من يدعوه، ويذبح له، وينذر له، ويبين ابن عبد الوهاب فضل الإسلام في النهي عن كل هذه الأمور فيقول: " فقد تبين لك كيف صنعه الإسلام الذي دعا إليه نبيك صلى الله عليه وسلم وتبين لك أن كثيرا من الناس عنه بمعزل". (5)   (1) الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص46 ـ 47 وكذلك ابن غنام الرسالة الثانية عشر ص359 (2) ابن غنام ـ تاريخ نجد ص 310 ـ 311. (3) ابن غنام ـ تاريخ نجد ص469 (4) الزمر: 3 (5) ابن غنام ـ تاريخ نجد ص 470 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 (6) يهاجم أهل عصره بأن كفرهم أشد من كفر أهل زمان لأن كفار زمان كانوا إذا مسهم الضر ـ تركوا السادة والمشايخ فلا يدعون أحدا منهم ولم يستغيثوا له، بل يخلصون لله في الشدة فإذا جاء الرخاء أشركوا، ويقول في ذلك:" وأنت ترى المشركين من أهل زماننا ـ ولعل بعضهم يدعي أن من أهل العلم، وفيه زهد واجتهاد وعبادة ـ إذا مسه الضر قام يستغيث بغير الله مثل: معروف، وعبد القادر الجيلاني، وأجل من هؤلاء مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعظم من ذلك وأطم أنهم يستغيثون بالطواغيت والكفرة والمردة مثل شمسان وإدريس ـ ويوسف وأمثالهم". (1) (7) يلزم ابن عبد الوهاب القائل بقول" لا إله إلا الله" أن يلتزم بهذا التزاما عمليا لا قولا بلا فعل: فقوله: لا إله إلا الله" إبطال للوسائط وعلى العبد أن يلتزم بتبعاتها من توحيد للألوهية والربوبية لا الثانية دون الأولى، وعلى كل مسلم أن يتذكر أن أعظم ما أرسل به الله نبيه محمد، فيقول:" وأعظم من ذلك، وأكبره، وزبدته، هو إخلاص الدين أحد من دون الملائكة، والنبيين، فضلا عن غيرهم، فمن ذلك أن لا يسجد إلا لله ولا يركع إلا له، ولا يدعى لكشف الضر إلا هو، ولا لجلب الخير إلا هو ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به ولا يذبح إلا له، وجميع العبادات لا تصلح إلا له وحده لا شريك له، وهو معنى قول:" لا إله إلا الله". (2) (8) يحذر من الاعتقاد في مخاريق السحرة والانخداع في هذا اللون من الاعتقاد فيقول:" اعتقادهم في مخاريق السحرة وأمثالهم أنهما من كرامات الصالحين" (3) ويتابع هجومه على من يغتر في هؤلاء القوم   (1) المرجع السابق. (2) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ الرسالة الثالثة ـ ص255. (3) مجموعة التوحيد ـ مسائل الجاهلية ـ ص239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فيقول: ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم وأنه من هداة الخلق وحفاظ الشرع إلا أن الأولياء لا بد منهم من ترك اتباع الرسل، ومن تبعهم فليس منهم". (1) (9) إهمالهم العلم ومحاربة من يشتغل به من الاتباع، انغماسهم في رياضة الأبدان على غيره ما أمر الله ورسوله ويسوق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ثم يقول:" فإن الذي أنا عليه وأدعوكم إليه هو في الحقيقة الإقتداء بأهل العلم، مع عدم اتخاذ العلماء أربابا والذي ذمه الله وسماه شركا". (2) (10) النذر للقبر وأهل القبور من الأمور التي انتشرت أو زاد انتشارها في عهده نتيجة للتخلف الذي ساد عصره ثم التفاف العامة حول الأولياء والمتصوفة ونذر النذور لهم ويعتبر ذلك معصية ولا يجوز الوفاء به فيقول:" إن النذر للمخلوق لا يجوز، ومنها: ظن أن الميت يتصرف في الأمر واعتقاد هذا كفر ..... "إلى أن قال" إذا عرف هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها، وينقل إلى ضرائح الأولياء ـ فحرام بإجماع المسلمين، وقد ابتلي الناس بهذه لاسيما في موكب أحمد البدوي". (3) (11) ينعي ابن عبد الوهاب على ما يفعله الجهلة والطغاة وعدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم مثل تعظيم القبور وإكرامها وإيقاد السرج وتقبيلها وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها مثل افعل لي كذا وكذا وأخذ التراب والتبرك به وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. وهذه الأفعال هي عودة الناس إلى ما كان عليه مشركو العرب الأولون من التعلق بغير الله من الأولياء والصالحين وغيرهم من الأوثان والأصنام والأحجار ويذهبون إلى قبر زيد بن الخطاب ـ يسألونه قضاء الحاجات   (1) المرجع السابق ـ ص242 (2) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص220-221 (3) ابن غنام ـ تاريخ نحد ـ 304-520. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وتفريج الكربات وقبر يزعمون أنه قبر ضرار بن الأزور. وشجرة تسمى الطريفة يعتقدون فيها كما اعتقد من قبلهم في ذات أنواط مشركو الجاهلية ويعتقدون في شمسان ويوسف ..... الخ. ويهاجم الحلولية وملاحدة الصوفية على ما يرون أنه من الشعب الإيمانية والطريقة المحمدية وفيهم من إضاعة الصلوات وشرب المسكرات ما هو معروف مشهور". (1) ثم يتسائل ويقول:" فأين هذا ممن يدعو الله مخلصا له الدين لا يدعو مع الله أحد ولكن يقول في دعائه أسألك بنبيك، أو بالمرسلين، أو بعبادك الصالحين أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده". (2) ويخلص بعد ذلك إلى أن هذه الأفعال والأقوال فيقول" فليس هذا من دين المسلمين، فهذا هو الصواب بلا ريب. (3) (12) بالإشارة إلى أن هذه الأفعال السابقة تبين مدى مخالفة الناس لكتاب الله وسنة رسوله الذي لم يشرع لأمته أن يدعو أحدا من الأموات ولا الأنبياء ولا غيرهم بلفظ الاستغاثة ولا غيرها. (13) لم يشرع السجود لميت مهما كان ولا يوجد أي نص يحض على الإتيان إلى المقابر والدعاء عندها والطواف حول الأضرحة وطلب قضاء الحاجات. (4) نخلص مما سبق إلى أن ابن عبد الوهاب أنكر كل عمل يخالف الكتاب والسنة، وبعد الإنسان عن مفهوم التوحيد النقي ولذلك كانت حملته عميقة ضد جميع ألوان الشرك في السلوك أو في الاعتقاد صدر من العبد بقصد أو غير قصد وشهر سلاحه وقلمه من اجل عودة الإسلام إلى نقائه وصفائه من الشوائب التي تردى فيها الناس في عصره وإن كان من المؤسف أن هذه المظاهر   (1) عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ـ مشاهي علماء نجد وغيرهم ترجمة محمد بن عبد الوهاب ص 29. (2) ابن غنام ـ تاريخ نجد ص 526 (3) المرجع السابق. (4) الدرر السنية جـ 1 ص 196، 197، 198،203 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 التي حاربها ابن عبد الوهاب من تبرك بالأولياء أو طواف بالأضرحة ونذور وموالد وغيره ذلك ما زالت وتحتاج إلى وقفة من العلماء في كل مكان من العالم الإسلامي لوقفها لأنها بدعة لا يقبلها الإسلام ولا تليق بالمسلمين. نعود لنطرح موضوع التصوف مرة أخرى بعد ما عالجنا رفضه للمظاهر والأشكال التي ترتبت على مفهوم الأولياء والسادة من الصوفية وسلوك العامة تجاههم وما ترتب على ذلك من اعتقادات ومفاهيم رفضها ابن عبد الوهاب رفضا قاطعا وحاربها بكل سلاح يملكه, هل كان نفس الموقف تجاه جوهر التصوف هو عين الموقف السالف الذكر؟ هذا ما سنتناوله في الصفحات القادمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الفصل الثاني: التفرقة بين جوهر التصوف وأشكاله تمهيد: رأينا أن ابن عبد الوهاب رفض جميع أشكال المتصوف التي تخرج الإنسان عن دائرة إخلاص العبودية لله في جميع أنواع العبادات إلى التردي في متاهات الجهل والخرافات التي انتشرت في زمانه وحاربها بالكلمة والسيف. ويقول في هذا:" وهذه هي المسألة التي تفرق الناس لأجلها بين مسلم وكافر، وعندها وقعت العداوة، ولأجلها يشرع الجهاد (1) كما قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (2) . إذن ما الذي قبله من التصوف وتحت أي شروط قبلها؟ قبل ابن عبد الوهاب جوهر التصوف الذي لا يتصادم مع الشرع بل لابد أن يخضع للشروط التي وردت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر الكرامة وأقربها وأحب أولياء الله الذين يحبهم الله وعليه يتوكلون، ووافق على تنزيه الباطن بالشروط والقوانين الشرعية المستمدة من الكتاب والسنة فمقام التوحيد مقام رفيع والتوكل والمحبة والإخلاص أساس الإيمان، ثم نتناول بالتفصيل والتحليل موقفه من التوسل المقبول والمرفوض.   (1) مجموعة التوحيد ص 236 (2) الأنفال 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الكرامة: أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة تظهر على يد عبد ظاهر الصلاح ملتزم المتابعة لنبي كلف بشريعته مصحوبا بصحة الاعتقاد والعمل الصالح, ويقرن بينها وبين المعجزة بأن المعجزة تكون مقرونة بدعوة النبوة بخلاف الكرامة، ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها. وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر فرق الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة وهي أعظم دلالة على كمال قدرة الله ونفوذ مشيئته وأنه فعال لما يريد وأنه كما أن لله سننا وأسبابا تقتضي مسبباتها الموضوعة لها شرعا وقدرا ويستشهد ابن عبد الوهاب من سورة الكهف فيقول:" الرد على منكري الأسباب، لأنه سبحانه قادر على إتجاه السفينة وتثبيت أبوي الغلام وإخراج الكنز له بدون ما جرى". (1) كما أن له سبحانه سننا أخرى لا يقع عليها علم البشر ولا تدركها أعمالهم وأسبابهم، فمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء بل وأيام الله وعقوباته في أعدائه الخارقة للعادة كلها تدل دلالة واضحة أن الأمر كله لله وأن لله سننا لا يعلمها إلا هو، وقيل: أن الكرامة من المبشرات التي يجعلها الله لمن أتت على يديه، وهي تارة يرى الإنسان ما لا يراه يره يقظة ومناما، وتارة يعلم مالا يعلمه غيره وحيا وإلهاما أو إنزال علم ضروري أو فراسة صادقة ويسمى كشفا ومشاهدات ومكاشفات ومخاطبات فالسماع مخاطبات والرؤية مشاهدات والعلم مكاشفة ويسمى ذلك كله كشفا ومكاشفة. (2) وفي الترمذي عن علي رضي الله عنه قال:" كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص638 (2) عبد العزيز السلمان ـ الكواشف الجلية عن معاني الواسطية ـ 430 وكذلك صدر الدين أبي العز الحنفي ت شرح الطحاوية ـ 42-24، عبد الكريم القشيري ـ الرسالة االقشيرية 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله". (1) وتحفل كتب السيرة والتاريخ عشرات من كرامات النبي صلى الله عليه وسلم وأولياء الله الذين يلتزمون بطريق الحق. ومن باب كرامة السابقين باب القدرة كعصا موسى وفلق البحر وناقة صالح وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى. وأما ما كان لغير الأنبياء من باب الكشف والعلم، فمثل قصة عمر لما أرسل جيشا أمر عليهم رجلا يسمى سارية، فبينما عمر يخطب إذ جعل يصيح على المنبر: يا سارية الجبل يا سارية الجبل فقدم رسول الجيش فسأل فقال: يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمونا، فإذا بصائح: يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله. ومن كرامات الأولياء قصة سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ركبنا البحر في سفينة فانكسرت السفينة، فركبت لوحا من ألواحها فطرحني في أجمة فيها أسد، فلم يرعبني إلا به فقلت: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطأطأ رأسه وغمز بمنكبه، فما زال يغمزني ويهديني الطريق حتى وضعني على الطريق وهمهم، فظننت أنه يودعني. فابن عبد الوهاب الملتزم طريق أهل السنة والجماعة في اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله، واتباع سبيل السابقين ـ الأولين من المهاجرين والأنصار والأخذ بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". (2) وبناء على هذا الالتزام والتمسك فابن عبد الوهاب يوافق على كل أمر يلتزم بالكتاب والسنة ولذلك فهو يقبل من الصوفية تنزيه الباطن من الرذائل   (1) رواه الحاكم في صحيحه (2) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ 219-220 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وبعض المقامات التي سنعرض لها، ويقر بالكرامة الحقة التي يكون معها استقامة وعدم غرور فيقول:" وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله. (1) ثم يحذر الناس من الاغترار بخوارق العادات التي تجري على يد أناس غير صالحين:" أنه لا ينبغي أن يغتر بخوارق العادة إذ لم يكن مع صاحبها استقامة على أمر الله، فإن اللعين أنظره الله تعالى ولم يكن ذلك إلا إهانة له وشفاء له، وحكمة بالغة يعلمها العليم الخبير فينبغي للمؤمن أن يميز بين الكرامات وغيرها ويعلم أن الكرامة هي لزوم الاستقامة". (2) ويسوق الأمثال والوقائع على ذلك بما يفعله كثير من أتباع إبليس واتباع المنجمين والسحرة والكهان ممن ينتسب إلى الفقر، وكثير ممن ينتسب إلى العلم، من هذه الخوارق التي يوهمون بها الناس ويشبهونها بمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء ومرادهم أكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله، حتى أن بعض أنواعها يعتقد فيه من يدعي العلم أنه من العلم الموروث عن الأنبياء من علم الأسماء، وهو من الجبت والطاغوت. ولكن هذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:" للتبعن سنن من كان من قبلكم" ومنها هذه الحيلة الربوية التي مثل حيلة أصحاب السبت وأشد. (3) إذن فابن عبد الوهاب يقر بالكرامة الحقة ويؤيد حب الصالحين الذين يرعون حق الله وفي نفس الوقت يرفض الإسراف في حبهم إلى الحد الذي يخرج المسلم عن الاعتدال ويوقعه في الشرك ويكون مصيدة للشيطان فيقول:" وأما الصالحون فهم على صلاحهم، رضي الله عنهم ولكن نقول ليس لهم شيء من الدعوة". (4) وفي موضع آخر يقول: " ثم لما صار على أكثر الأمة ما صار اظهر لهم   (1) الدرر السنية ـ جـ 1 ص 30 (2) ابن غنام ـ تاريخ نجد ص 605. (3) المرجع السابق ـ ص229. (4) الدرر السنية ص 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقهم وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين واتباعهم". (1) حارب ابن عبد الوهاب الغلو ومجاوزة الحد بأن يجعل للصالحين من حقوق الله الذي لا يشاركه فيها مشارك، هو الكمال المطلق، والغني المطلق والتصرف المطلق من جميع الوجوه، وأنه لا يستحق العبادة والتأله أحد سواه، كما جاء في محكم آياته {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} . (2) وقوله " {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . (3) ويوضح منهجه وما يجب على العبد في علاقته مع الصاحين وأولياء الله ويبين أقسام الناس في معاملة الصاحين ثلاثة أقسام: (1) أهل الجفاء الذين يهضمونهم حقوقهم ولا يقدمون من الحب والموالاة لهم والتوقير فيقول:" فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكرامتهم ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال، ودين الله وسط بين طرفين وهدى بين ضلالتين وحق بين باطلين". (4) (2) أهل الغلو الذي يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله بها، وقد أوضحنا في الصفحات السابقة العديد من هذه الصور. (3) وأهل الحق الذين يحبونهم ويوالونهم ويقومون بحقوقهم الحقيقية ولكنهم يبرأون من الغلو فيهم وادعاء عصمتهم والصالحون أيضا يبرأون من أن يدعوا لأنفسهم حقا من حقوق ربهم الخاصة، كما قال الله عن عيسى {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ} . (5) هذه عقيدة ابن عبد الوهاب الذي لا ينكر الطريقة الصوفية في تنزيه   (1) الدرر السنية ص 99 (2) الأعراف:3 (3) التوبة:31 (4) مجموعة التوحيد 226-227 (5) المائدة:116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الباطن من رذائل المعاصي المتعلقة بالقلب ولا الجوارح، طالما استقام صاحبها على القانون الشرعي والمنهج القويم المرعي، إلا أنه لا يتكلف له تأويلا في كلامه ولا في أفعاله ولا يعول ولا يستعان ولا يستنصر إلا على الله تعالى ونتوكل في جميع أمورنا عليه فهو نعم المولى ونعم النصير. ثم يقول:" وإنما كتبت لكم هذا معذرة من الله ودعوة إلى الله لأوصل ثواب الداعين إلى الله". (1) ويحث تلاميذه من حوله من اتباع على كثرة الدعاء والتضرع إلى الله لجلاء النفس من كدوراتها فيقول:"فإن أصغى إليه قلبك بعض الشيء، فعليك بكثرة التضرع على الله، والانطراح بين يديه، خصوصا في أوقات الإجابة: كآخر الليل، وأدبار الصلوات، وبعد الأذان، وكذلك بالأدعية المأثورة، خصوصا الذي ورد في الصحيح أن صلى الله عليه وسلم كان يقول:" اللهم، رب جبريل وميكائيل ... " (2) . فابن عبد الوهاب كما أسلفنا يؤمن بتنقية القلب وتنزيه الباطن وذلك بالطريق المشروع والمأثور عن رسوله صلى الله عليه وسلم ويرفض شطحات الصوفية التي تقربهم من الغرور وتبعدهم عن الاستقامة التي رسمها الشرع للعبد ونعني الاستقامة في القول والعمل والاعتقاد، ويكون ميزان كل ذلك الشرع لا شيء غيره من المصطلحات التي ابتدعها الصوفية. وقد نقد الغزالي هذا الغرور الناجم عن إكرام الله لعبد من عباده بكرامة ما فقال:" وإنما يقيس على الماضي بواسطة الكرامة الحب إذ يقول لولا أني كريم عن الله ومحبوب لما أحسن إلي والتلبيس تحت ظنه أنه كل محسن محب لا بل تحت ظنه أن أنعامه عليه في الدنيا إحسان فقد اغتر بالله إذ ظن أنه كريم عنده بدليل لا يدل على الكرامة". (3)   (1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ 219 (2) المرجع السابق. (3) أبي حامد الغزالي ـ إحياء علوم الدين جـ 3 ـ 372 ط. الحلبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 أولاً: التوحيد: عني ابن عبد الوهاب بدعوة التوحيد إلى الله فهي أولى دعوات الرسل والأنبياء ـ فكل رسول يفتتح دعوته لقومه بهذا التوحيد {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . (2) فدلت الآية على أن الله تعالى خلق الخلق لحكمة عظيمة وهي القيام بما وجب عليهم من عبادته وحده وبترك عبادة ما سواه، فخلق الخلق سبحانه لكي يؤدوا العبادة التي هي اسم يجمع كمال كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالعبادة اسم يجمع كمال الحب لله ونهايته وكمال الذل ونهايته، وهذا التوحيد الذي خلقوا له ودعوا إليه هو توحيد الألوهية، توحيد القصد والطلب، وأما توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الأفعال فهو توحيد العلم والاعتقاد والمراد من العبادة التي خلقوا لها هي العبادة الخالصة التي لا يلبسها شرك بعبادة شيء سوى الله كائنا ما كان، ويقول في ذلك: (وأما عبادته سبحانه وتعالى بالإخلاص دائما في الرخاء والشدة فلا يعرفونها، وهي نتيجة توحيد الإلهية، وكذلك الإيمان بالله واليوم الآخر والإيمان بالكتب والرسل وغير ذلك، وأما الصبر والرضا والتسليم والتوكل والإنابة والتفويض والمحبة والخوف والرجاء فمن نتائج توحيد الربوبية وهذا وأمثاله لا يعرف إلا بالتفكر، لا بالمطالعة وفهم العبارة". (3) فإثبات التوحيد بأقسامه الثلاثة لا بد أن يجتمع مع الاعتقاد العملي الذي هو الثمرة الحقيقية لوجود الإنس والجن. وقد كثر كلام الصوفية في تعريف التوحيد وحقيقته وأقسامه في مؤلفاتهم مثل الرسالة القشيرية (4) ، والكلاباذي (5) ، والسهروردي (6) والغزالي الذي   (1) هود: 61 (2) الذاريات: 57. (3) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص 511. (4) عبد الكريم بن هوازن القشيري ـ الرسالة القشيرية ـ136 (5) أبوبكر محمد الكلاباذي ـ التعرف لمذهب أهل التصوف ـ 134-136 (6) أبي حامد الغزالي ـ إحياء علوم الدين ـ جـ 4 ص 340 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 تسوق له هذا التعريف فيقول:" التوحيد الذي يترجمه قولك: لإله إلا الله وحدة لا شريك له والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها قولك له الملك والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه قولك وله الحمد فمن قال لا إله إلا الله وحدة لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير تم له الإيمان الذي هو اصل التوكل". وسئل البوشنجي عن التوحيد فقال: غير مشبه الذات ولا منفي الصفات. (1) والمتابع لتعريفات أعلام الصوفية للتوحيد وبين ما جاء لدى ابن عبد الوهاب يجد فروقا كثير نخص بالذكر ما يلي: 1. دعوة ابن عبد الوهاب إلى التوحيد تشمل جميع طبقات الناس. 2. دعوة التوحيد لديه مبنية على الاعتقاد والقول والعمل دون تفريق بين الظاهر والباطن. 3. لم يذهب إلى مذهب الصوفية في جعل التوحيد مقسم على أوجه ثلاث: توحيد العامة الذي يصح بالشواهد والوجه الثاني توحيد الخاصة وهو الذي يثبت بالحقائق والوجه الثالث توحيد قائم بالقلب وهو توحيد خاصة الخاصة، بل ألزم ابن عبد الوهاب كل مسلم ان يتعلم حقيقة التوحيد: توحيد الألوهية والربوبية وتوحيد الصفات، كما جاء في كتابه الحكيم وكما بلغه رسوله الأمين. 4. إن مقام التوحيد ذهب بعض الصوفية إلى جعله آخر المقامات كما فعل الهروي، أو من جعله متقدما أو متوسطا مثل الغزالي، ولكن ابن عبد الوهاب لا يقدم على التوحيد أي فكر ولا علم تحت أي مسمى ويعتبر التوحيد هو أول دعوة الرسل وأعظم ما يتعلمه الخلق ويقول في ذلك: "فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج فكيف إذا جحد الإنسان شيئا من هذه   (1) عبد الكريم بن هوزان القشيري ـ الرسالة القشيرية ص136 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟ ". (1) نخلص مما تقدم من النصوص الواردة في مؤلفات ابن عبد الوهاب إلى أن التوحيد الذي جاء به الرسل والأنبياء هو إخلاص الدين كله لله وعبادته وحده لا شريك له في جميع أنواع العبادة التي أمر بها الإسلام. (1) ـ إن دعوة ابن عبد الوهاب في التوحيد أساسها الشرع وميزانه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقدم على هذه الدعوة أي شيء آخر مهما بدا عظيما. (2) ـ لا يجوز دعوة الصالحين وأن نعلم جيدا أنهم على صلاحهم أنهم ليس لهم من الأمر شيء ويقول في ذلك:" وأن لا يتخذوا مع الله إلهاً آخر ونهاهم عن عبادة المخلوقين من الملائكة والأنبياء والصالحين والحجر والشجر .... " (2) ثم يستطرد بأن هذا الكلام أي تجريد التوحيد من كل شائبة فيقول: "وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى بكلام يفهمه أبلد العامة". (3) وتلك حجة على من يشرك في عبادته أحداً، أو يتعلل بعدم الفهم، (3) قول: (لا إله إلا الله) إبطال للوسائط. ثانيا ـ الإخلاص: أما الإخلاص: فحقيقته أن يخلص العبد لله في أقواله، وأفعاله وارادته ونيته وهذه هي ملة إبراهيم عليه السلام وقد ورد في الكتاب والسنة وإجماع الأمة على اشتراط الإخلاص للأعمال والأقوال الدينية وأن الله لا يقبل منها إلا ما كان خالصا وابتغى به وجهه ولهذا كان السلف الصالح يجتهدون غاية   (1) مجموعة التوحيد ـ 228 (2) الدرر السنية جـ 1 ص98. (3) المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الاجتهاد في تصحيح نياتهم، ويرون الإخلاص أعز الأشياء وأشقها على النفس وذلك لمعرفتهم بالله وما يجب لله. ويعرف الإخلاص الصوفية بتعريفات كثيرة ومتعددة أذكر منها تعريف الجنيد:" الإخلاص ما أريد به الله من أي كعمل كان". (1) ويعرف الإخلاص صاحب الرسالة القشيرية: الإخلاص إفراد الحق سبحانه في الطاعة بالقصد وهو أن يريد بطاعته التقرب على الله سبحانه دون شيء آخر من تصنع مخلوق أو اكتساب محمدة عند الناس أو محبة مدح من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرب به إلى الله تعالى". (2) فلب الإخلاص لدي مفكري المسلمين جميعا هو تصفية الفعل عن ملاحظة الخلق أو انتظار مدح منهم والتوجه إلى الله {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . (3) وقال تعالى {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} . (4) ويستشهد الغزالي بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه (لا تهتموا لقلة العمل واهتموا للقبول فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل " أخلص العمل يجزك منه القليل". (5) ويهتم ابن عبد الوهاب بإخلاص في العلم ويعتبرها من أعز الأمور التي يجب على كل مسلم أن يصل إلى هذه الحقيقة ولا يتم ذلك إلا بالصدق فيقول:" المسألة كبيرة ولما ذكر الإمام أحمد الصدق والإخلاص قال بهما ارتفع القوم، ولكن يقربهما على الفهم التفكر في بعد إفراد العبادة مثل الصلاة، فالإخلاص فيها يرجع إلى إفرادها عما يخالطها كثيرا من الرياء والطبع والعادة   (1) أبو بكر محمد الكلاباذي ـ التعرف لمذهب أهل التصوف. ص99. (2) عبد الكريم القشيري ـ الرسالة القشيرية ـ ص95 (3) البينة:5 (4) الزمر:3 (5) أبي حامد الغزالي ـ إحياء علوم الدين ـ جـ 4 ص 365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وغيرها، والصدق يرجع إلى إقامتها على الوجه المشروع ولو ابغضه الناس لذلك". (1) إخلاص العبادة لله وحده، وهو معنى قول الخليل عليه السلام: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . (2) إخلاص الدين كله لله تحقيقا لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} . (3) فإن دين الإسلام هو دين الله الذي أمر به الأولين والآخرين، ويستطرد ابن عبد الوهاب في سوق الأدلة والبراهين عن حقيقة الإخلاص وما يلزمه فيقول:"الثالثة" بل من أسلم وجهه لله وهو محسن، وفسر إسلام الوجه بما يقتضي الإخلاص، والإحسان في العمل الصالح المأمور به وهذان جماع الدين لا يعبد إلا الله، ولا نعبده بالبدع بل بما شرع". (4) ثم يقيم هذا العمل الخالص لله فيقول:" إن هذين الأصلين هما تحقيق الشهادتين شهادة أن (لا إله إلا الله) وشهادة أن محمدا رسول الله فالأولى تتضمن إخلاص الألوهية فلا يتأله القلب غيره .... " (الثانية) " يتضمن تصديق الرسول فيما أخبر به وطاعته فيما أمر فلا حرام إلا ما حرم ولا دين إلا ما شرع". (5) فابن عبد الوهاب واضح الفكر والمنهج في هذا الأمر: (1) فإخلاص الدين لله فريضة على كل مسلم ومسلمة. (2) العبادة تكون في حدود ما شرع الله دون إضافة أو ابتداع وقد شدد ابن عبد الوهاب على هذا الالتزام حتى لا تفسد العبادات وتشوبها الجهالات المختلفة.   (1) الدرر السنية جـ 2 ص 66 (2) الانعام: 79 (3) البينة: 5 (4) الدرر السنية جـ 2 ـ 42-43. (5) المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ولأن العبادة مظهر العلاقة بين العبد وخالقه، وهذا المظهر ليس للعبد حق وضعه، ولا بيان كيفيته وإنما هذا لله وحده، ولهذا منع الأصوليون الاجتهاد في الأمور التعبدية. (1) عدم الإخلاص في العبادة تفرق الناس لأجلها بين مسلم وكافر، وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شرع الجهاد (1) ، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (2) (2) يجب ان يكون الإخلاص دائما في الرخاء والشدة ويعيب على أهل زمانه فيقول:"فلا يعرفونها وهي نتيجة توحيد الإلهية. (3) ثالثا ـ التوكل: إن التوكل على الله لا بد أن يكون علما وحالا وعملا والتوكل مشتق من الوكالة يقال وكل أمره إلى فلان أي فوضه إليه واعتمد عليه فيه ويسمى الموكول إليه وكيلا ويسمى المفوض إليه متكلا عليه ومتوكلا عليه. ومن صفات المؤمنين كما وصفهم الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4) وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} . وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّه} . والتوكل من المقامات الأولى التي اعتنى بها الصوفي لكي يرقى إليها ويستطيع تحقيقها في رياضاته، ويسوق القشيري حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أهمية درجة المتوكلين على الله فيقول: "عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أرأيت الأمم بالموسم فرأيت أمتي قد ملؤا السهل والجبل فأعجبني كثرتهم وهيبتهم فقيل له أرضيت فقلت نعم قال ومع هؤلاء سبعون ألفا   (1) مجموعة التوحيد: 236 (2) سورة الانفال: 39 (3) الدرر السنية ك جـ 2 ص 108 (4) المائدة: 23 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 يدخلون الجنة بغير حساب لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون" فقال عكاشة بن محسن الأسدي فقال يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أجعله منهم" فقال آخر" ادع الله أن يجعلني منهم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبقك بها عكاشة". (1) فالمتوكل دون إسراف فيه مقام محمود لا ينكره ابن عبد الوهاب على الصوفية ففي كتابه التوحيد يعقب على الحديث السالف الذكر بقوله:" الرابعة ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك، (الخامسة) كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد، السادسة كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل (2) " أما الجانب الذي يعيبه على الصوفية هو المغالاة في إنكارهم الجمع بين التوكل والسبب فيقول:" الجمع بين التوكل والسبب خلافا لغلاة المتفقهة وغلاة الصوفية". (3) ويستشهد بقصة أهل الكهف للرد على منكري الأسباب أو من يذهب إلى أن هناك تعارض بين الجمع للتوكل والأسباب فيقول:" الرد على منكري الأسباب، لأنه سبحانه قادر على إنجاء السفينة وتثبيت أبوي الغلام وإخراج الكنز له بدون ما جرى". (4) والتوكل عند ابن عبد الوهاب فريضة يجب إخلاصه لله تعالى لأنه من أجمع أنواع العبادة الباطنة (5) . وفي موضع آخر يقول:"التوكل من لوازم الإسلام والإيمان" (6) وفي موضع آخر ذكر أنواع العبادة التي أمر بها الإسلام فيقول:" الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرهبة والخشوع ... فمن صرف من ذلك شيئا لغير الله فهو مشرك (7) والدليل قوله تعالى:   (1) عبد الكريم القشيري ـ الرسالة القشيرية ص 75-76 (2) مجموعة التوحيد ـ كتاب التوحيد ص 31. (3) ابن غنام تاريخ نجد ص 667 (4) ابن غنام تاريخ نجد 638 (5) مجموعة التوحيد 142-143 (6) ابن غنام تاريخ نجد 659 (7) الدرر السنية جـ 1 ص 83 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . (1) ولا يحصل كمال التوحيد بأنواعه الثلاثة توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات إلا بكمال التوكل على الله. قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب وذهب ابن تيمية وابن القيم إلى القول بأن التوكل على الله شرط للإيمان وأن من يتوكل على مخلوق خاب ظنه وخسر عمله وكان من المشركين. أنواع التوكل: التوكل قسمان: أحدهما التوكل في الأمور التي لا يقدر عليه إلا الله كالتوكل على الأموات والغائبين ونحوهم وهذا ما تشدد فيه ابن عبد الوهاب مثل الغلو في الأولياء والصالحين وطلب قضاء الحوائج منهم ويعتبر هذه الأعمال شركا أكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه. القسم الثاني: وهذا التوكل على الأحياء الحاضرين من ذوي السلطان ونحوهم فيما أقدرهم الله عليه من رزق ودفع أذى ونحو ذلك فهو شكر أصغر، والمباح أن يوكل شخصا بالنيابة عنه في التصرف فيما له التصرف فيه من أمور دنياه كالبيع والشراء والإجارة والطلاق والعتاق وغير ذلك فهذا جائز بالإجماع لكن لا يقول (توكلت عليه) بل يقول"وكلته" فإنه لو وكله فلا بد أن يتوكل في ذلك على الله سبحانه (2) ،عن ابن عباس قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) . قالها إبراهيم عليه السلام حين القي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} . (3) (1) ـ ويشيد ابن عبد الوهاب بعظم شأن هذه الكلمة وأنها قول إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم في الشدائد.   (1) المؤمنون: 117 (2) مجموعة التوحيدـ ص 142 (3) رواه البخاري والنسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 (2) ـ أن التوكل من الفرائض. (3) ـ أنه من شروط الإيمان. هذا هو موقف ابن عبد الوهاب من التوكل وقبوله له في الصورة التي رسمها القرآن الكريم وبينها صاحب السنة الأمين بعيداً عن المغالاة التي نحاها المتصوفة وتركهم للأسباب كلية ومحاربة النفس بما جبلت عليه من الحذر والخوف وفهموا بأن التوكل على الله بمعنى التواكل وترك الأسباب وعدم التزود بكل حالة بما يناسبها وثابت في السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعد لكل أمر عدته وهو خير من توكل على ربه دون أن يصرفه التوكل عن إعداد العدة والتذرع بالأسباب حتى أنه صلى الله عليه وسلم أمره ربه بالهجرة من مكة إلى المدينة لم يدع احتياطا ممكنا إلا وأخذه، ولا حيلة يمكن أن تصرف القوم عنه إلا سلكه فمن ذلك انه أعد وأبو بكر راحلتين وزادا ورصدا عيونا على الطريق ورتبا مرور القطيع ليخفي على أثارهما، والتمسا المكث في الغار ثلاثة أيام لينصرف القوم عن طلبهما على آخر ما تحفل به كتب السيرة في قصة الهجرة. وفي هذا رد على من أنكر الأسباب والجمع بينهما وبين التوكل مثل الغلاة من الفقهاء والمتصوفة، مع تأكيد حقيقة التوكل وأنه على العبد أن يكون على يقين بأنه لا يضره أحد بغير إذن الله تعالى ويقول في ذلك" الإرشاد إلى التوكل بكونه لا يضر أحداً إلا بإذن الله". (1) خلاصة الأمر أن على العبد أن يلتزم في العبادات الاتباع لا الابتداع فليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . (2) وبهذا التزم ابن عبد الوهاب وألزم مجتمعه بالتمسك بأنه لا يعبد إلا الله وبما شرع وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن"لا إله إلا الله" وأن محمداَ رسول الله.   (1) ابن غنام ـ تاريخ نجد 638 (2) الشورى:21 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 نتيجة ذلك انه رفض كل ابتداع ذهب إليه أي فريق تحت أي مسمى، وتمسك بصرف العبادة كلها لله، وحده فيقول:"أي أعبدك يا رب مما مضى بهذه الثلاث بمحبتك، ورجائك، وخوفك فهذه الثلاثة أركان للعبادة، وصرفها لغير الله شرك وفي هذه الثلاث الرد على من تعلق بواحدة منها..كمن عبد الله تعالى بالمحبة وحدها، وكذلك من عبد الله بالرجاء وحده كالمرجئة وكذلك من عبد الله بالخوف وحده كالخوارج". (1) ويسوقنا الحديث إلى بيان موقفه من المحبة. رابعا ـ المحبة: كما رأينا منذ قليل أن ابن عبد الوهاب هاجم الفرق الثلاث الصوفية والمرجئة والخوارج لتعلق كل فرقة بعبادة الله عبادة منفردة عن باقي أركانها، فصرف العبادة هو بتوحيد المحبة مع خضوع القلب والجوارح، فمن احب شيئا وخضع له فقد تعبد قلبه له، فلا تكون المحبة المنفردة عن الخضوع عبادة، ولا الخضوع بلا محبة عبادة، فالمحبة والخضوع ركنان للعبادة فلا يكون أحدهما عبادة بدون الآخر. إذن فتوحيد العبادة هو إفراد الله سبحانه بأنواع العبادة مع محبته والخضوع لأوامره، ومن صرف شيئا لغير الله فهو مشرك. وقبل أن نفصل القول في بيان رأي ابن عبد الوهاب في المحبة نتناول بعض تعريفاتها لدى السادة الصوفية لأن مقام المحبة لديهم مقام عظيم وكانت عبادتهم لله تعالى تنفرد بالمحبة دون باقي أركان العبادة، وكان مسلكهم هذا موضع نقد ابن عبد الوهاب ولذلك كان لزاما أن نتناول بعض تعريفاتهم بالبيان والتحليل يستشهد الغزالي بالحديث الذي رواه أنس عن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إذا أحب الله عبد الم يضره ذنب والتائب من الذنب كما لا ذنب له ثم تلا ـ {إن الله يحب التوابين} ". (2)   (1) مجموعة التوحيد: 269 (2) أبي حامد الغزالي ـ إحياء علوم الدين ت جـ 4 ص318 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ويفسر الحديث فيقول:" ومعناه أنه إذا أحبه تاب عليه قبل الموت فلم تضره الذنوب الماضية وإن كثرت كما لا يضر الكفر الماضي بعد الإسلام وقد اشترط الله تعالى لمحبة غفران الذنب". (1) فابن عبد الوهاب الذي يقر بالمحبة في الإطار الذي ورد في كتابه الكريم وسنة رسوله والمحكومة بالعمل لا بهجر الحياة والبعد عن تعمير الكون والمحبة عنده ثمرة للمعرفة فمن عرف الله ووقف على صفاته ومعرفة نعوته تندفع القلوب إلى محبته لأن القلوب لا تحب إلا من سبق لها معرفة به، ووجدت فيه صفات ترغبها فيه وهذا ما دفع ابن عبد الوهاب إلى التشدد في التمسك بإثبات الصفات لله تعالى والهجوم على أي فريق أنكر الصفات أو أولها ن واعتبر الكافر أعقل ممن ننكر صفات الله تعالى. ويقول صاحب الرسالة القشيريية: المحبة حال شريفة شهد الحق سبحانه يوصف بأنه يحب العبد والعبد يوصف بأنه يحب الحق سبحانه. ويقول الجنيد: المحبة ميل القلوب. ومعناه: أن يجعل قلبه إلى الله وإلى ما لله منن غير تكلف. وقال غيره: المحبة هي الموافقة، معناه: الطاعة فيما أمر والانتهاء عما زجر، والرضا بما حكم وقدر. (2) ومثل هذا اللهو من التعريفات الصوفية للمحبة لا يرفضها ابن عبد الوهاب، لأنه يقر بالمحبة المقرونة بالمعرفة المترجمة إلى عمل في إطار الشريعة. يرفض عبادة الله بالمحبة وحدها ويعيب هذا المسلك على الصوفية ينادي بعبادة الله بجميع أنواع العبادة كما أقرها الله سب سبحانه و: دكها رسوله ومبلغ وحيه الأمين. أقسام المحبة لدى ابن عبد الوهاب: تنقسم المحبة عند الشيخ إلى أربعة أقسام: ـ   (1) المرجع السابق. (2) عبد الكريم القشيري ـ الرسالة القشيرية ص 144 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 1- محبة شركية وهم الذين قال الله فيهم {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (1) إلى قوله {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} . 2- المحبة الثانية: حب الباطل وأهله وبغض الحق وأهله وهذه صفة المنافقين. 3- المحبة الثالثة: طبيعية وهي محبة المال والولد، إذا لم تشغل عن طاعة الله ولم تعن على محارم الله فهي مباحة. 4- المحبة الرابعة: حب أهل التوحيد وبغض أهل الشرك، وهي أوثق عرى الإيمان وأعظم ما يعبد به العبد ربه. وتختم قولنا عن المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله وحده وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة وإيثاره على غيره فهذه المحبة لا يجوز تعليقها بغير الله أصلاً، وهي التي سوى المشركون بين آلهتهم وبين الله فيها، هي أول دعوة الرسل وآخر كلام العبد المؤمن الذي إذا مات عليه دخل الجنة، باعترافه وإقراره بهذه المحبة وأفراد الرب بها. (2) ومصداق ذلك في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (3) وفي المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} . (4) وفي آية يونس: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . (5)   (1) مجموعة التوحيد 269 (2) الدرر السنية جـ 2 ص 155 (3) آل عمران: 31 (4) المائدة: 54 (5) يونس: 62-63 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الفصل الثالث: موقفه من التوسل انتهينا من بيان وتوضيح موقف ابن عبد الوهاب من التصوف ورفضه الصورة التي آلت إليها سلوك المتصوفة من التفاف العامة حولهم وإتيان الكثير من الأفعال الجاهلية التي نهى عنها واعتبر هذا السلوك هو ردة إلى الوثنية الأولى، ثم أوضحنا قبوله جوهر التصوف وهو السلوك الذي لا يتعارض مع الكتاب والسنة وأخذنا أمثلة على ذلك مثل التوحيد والإخلاص ـ التوكل والمحبة مع مقارنات لأقوال بعض الصوفية حول هذا المقامات وبين ما ذهب إليه ابن عبد الوهاب، ونتناول الآن التوسل المشروع وغير المشروع وبيان موقفه من هذا وذاك وميزان ذلك الكتاب والسنة. التوسل في اللغة التقرب والوسيلة ما يتقرب به من الأعمال إلى الله عز وجل وهي أيضا المنزلة عند الملك، والدرجة والقربة، ووسل إلى الله توسيلا، عمل عملا تقرب به إليه كتوسل والواسل الراغب إلى الله يقول تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (1) وقال تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (2) أي اطلبوا ما تتوسلون به إليه مما يقربكم إلى نيل ثوابه من فعل طاعة أو ترك معصية. ولم يجعل الشرع للتوسل حقيقة غير الحقيقة اللغوية ففي حديث الآذان   (1) الاسراء:57 (2) المائدة:35 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 "اللهم آت محمدا الوسيلة"، والمراد بها في الحديث القرب من الله تعالى وقيل الشفاعة يوم القيامة، وقيل المنزلة من منازل الجنة (1) ،والوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من الوصيلة لتضمنها معنى الرغبة، وحقيقة الوسيلة إلى الله مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحري مكارم الشريعة وهي القربة. مما تقدم من تعريفات للوسيلة نجد أن الوسيلة تدو على أمور: 1. القربة. 2. الدرجة. 3. المحبة. 4. الحاجة. 5. الرغبة. وإن التوسل إلى الله هو التقرب إليه بالأعمال الصالحة والقرب المشروعة وعليه ليس منها مناداة الأموات، والاستغاثة بهم وسؤال الله لهم. (2) وأما الوسيلة في عرف الناس اليوم تقع على الاستغاثة بالأموات، والتمسح والتقبيل لقبور الأولياء التي تملئ بالزائرين لتقديم القرابين ويزرفون فوق ترابهم دموع الندم والاستغفار متوسلين بأصحابها، راجين منهم العفو والغفران ومن هؤلاء المخلوقات الحافية والعارية يتخذها الناس أولياء لله المقربين ن يعلمون الغيب ويملكون الحياة والموت فلم يكن أمام ابن عبد الوهاب إلا دعوة هؤلاء إلى الرجوع إلى القرآن الكريم وتنقية الدين من هذه الأدران والخزعبلات ولكنهم كانوا يدركون أنهم لن يستطيعوا أن يغيروا ما بهؤلاء القوم بالوعظ وإقامة البرهان فحسب بل لا بد من تحكيم السيف أيضا إن عز الإقناع ولم تنفع الحجة، لذلك كانت رسائلهم إلى القبائل تسبق جيوشهم، ويقول ابن عبد الوهاب في هذا الشأن:" وهذه هي المسالة التي تفرق الناس لأجلها   (1) مجموعة التوحيد 222-226 (2) سليمان بن سحمان النجدي ـ الهدية السنية ص 25 ط أولى وكذلك عبد الله القصيمي البروق النجدية 20-21 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 بين مسلم وكافر، وعندها وقعت العداوة ولأجلها شرع الجهاد. (1) ومن الأشياء التي أثارت ثورة ابن عبد الوهاب شد الرحال من الأماكن البعيدة إلى القبور للتقرب إلى المقبورين والتوسل بهم وقراءة القرآن والأوراد على القبور، ولأرواح المقبورين والصلاة إليها واستقبالها، والبناء عليها وتجصيصها وإيقاد السرج فوقها والطواف حولها، وفي هذا يقول:" ولكن هذه الأمور من أسباب حدوث الشرك، فيشتد نكير العلماء لذلك، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". (2) ورغم إنكار ابن عبد الوهاب هذه الأفعال من ألوان التوسل والتقرب على الأولياء والصالحين من أهل القبور والإحياء إلا أنه لم ينكر التوسل المشروع وهاك الأدلة:. مما هو متفق على جوازه أن الحي يطلب منه سائر ما يقدر عليه، سواء أكان بلفظ الاستغاثة أو بغيرها فيقول: " فإن الاستغاثة بالمخلوق على ما يقدر عليه لا ننكرها كما قال تعالى في قصة موسى {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (3) وكما يستغيث الإنسان بصاحبه في الحرب وغيرها في الأشياء التي يقدر عليها المخلوق ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله. ويستطرد ابن عبد الوهاب في بيان عقديته حول المشروع من الاستغاثة، مثل الاستغاثة بالأنبياء يوم لقيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة. مثل أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه في حياته فيقول:" وأما بعد موته   (1) مجموعة التوحيد 236 (2) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ 527 (3) مجموعة التوحيد:232 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره، بل أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف دعاؤه بنفسه صلى الله عليه وسلم". (1) ويرد ابن عبد الوهاب على من يأخذ من قصة إبراهيم عليه السلام لما القي في النار واعترض له جبريل وسأله: ألك حاجة فإن مساعدة جبريل وهو كما وصفه الحق تعالى} شَدِيدُ الْقُوَى {ولو أمره الله تعالى أن يفعل أي شيء لفعل، ومثل هذا مثل رجل غني له مال كثير يرى محتاجا فيعرض عليه أن يقرضه، او أن يهب له شيئا ليقضي به حاجته، فيأبى ذلك المحتاج أن يأخذ، ويصبر حتى يأتيه الله برزق لا منة لأحد، ثم يتساءل" فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟ ". (2) وفيما يلي نعرض لأنواع التوسل المشروع التي توافق ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله وقبلها أهل السنة والسلف الصالح: النوع الأول: التوسل إليه بأسمائه وصفاته، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3) وقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} . (4) وقال عن أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} . (5) النوع الثاني بالصلاة كما تقبل الدعوة. وذلك كصلاة الاستسقاء، وصلاة الاستخارة والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} (6) ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا همه   (1) مجموعة التوحيد:232 (2) المرجع السابق (3) الاعراب: 180 (4) المؤمنون: 109 (5) الانبياء: 83-84 (6) البقرة: 45 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 أمر هرع إلى الصلاة فإنها أعظم التقرب إلى الله عز وجل. النوع الثالث: بالتوحيد والإيمان، قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (1) وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (2) وقال عن المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} . (3) وقال: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (4) النوع الرابع: التوسل بالتسبيح: قال تعالى في قصة يونس عليه السلام: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . (5) فالله نجاه وقبل دعوته بتسبيحه النوع الخامس: التوسل بذرك الأعمال الصالحة السالفة عند نزول الضر كشفه، روي البخاري ومسلم وغيرهما ـ واللفظ للبخاري ـ عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم " بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون فإذا أصابهم مطر فآووا إلى غار، فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: أنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما علم أنه قد صدق فيه". فالوسيلة المأمور بها هي الأعمال الصالحة (6) ، كما قال عز وجل اخبارا عن المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . (7)   (1) الأنبياء:87،8 (2) المائدة:83 (3) آل عمران:193 (4) آل عمران:16-17 (5) الصافات:144 (6) الدرر السنية جـ 1 ص144 (7) آل عمران:16 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 النوع السادس: التوسل بحمد الله والصلاة على رسوله: روى الترمذي عن فضالة بن عبيد وقال حديث حسن صحيح ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو في صلاته فلم يصل على رسول الله صلى الله لعيه وسلم فقال " عجل هذا، فدعاه" قال له او لغيره " إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والصلاة على رسوله، ثم ليدع بعد بما يشاء". النوع السابع: التوسل بالقرآن: روي عن ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} .وفاتحة سورة (آل عمران) ".وروي أيضا عن القاسم قال "اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في سور ثلاث: البقرة، وآل عمران، وطه". النوع الثامن: التوسل بالصدقة، وقد كان بعض العلماء يفعله لقبول الدعوة، ويستدل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة} (1) فإذن الصدقة من صالح الأعمال. النوع التاسع: التوسل بالتضرع والخشية والخشوع: قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2) وقال بعد أن ذكر إجابته للأنبياء {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} . (3) النوع العاشر: التوسل بالاسرار والاخفات بالدعوة: قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً، قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} (4) وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} .   (1) الممتحنة: 12 (2) الاعراف: 55 (3) الانبياء: 90 (4) مريم: 4-6 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 النوع الحادي عشر: التوسل بدعاء الصالحين: كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري وغيره أن الصحابة كانوا إذا أجدبوا توسلوا بالعباس بن عبد المطلب وقال عمر في عام الرمادة " اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا". فيسقون واستسقى معاوية بن ابي سفيان بالأسود بن يزيد وقد ذكر الفقهاء استحسان ذلك في باب صلاة الاستسقاء" (1) . فالاستغاثة من أنواع العبادة وصرفها لغير الله شرك ويقول في ذلك: " أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله..من أنواعها الدعاء والاستغاثة والاستعانة وذبح القرابين والنذور والخوف والرجاء ... " (2) ويسوق الأدلة من القرآن على كل نوع من أنواع العبادة فيقول عن الاستغاثة والاستعانة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) ودليل الاستغاثة قوله تعالى: {ِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (4) . ثم يستطرد في توضيح حكم من يشرك في أنواع العبادة السابقة الذكر أحداً فيقول:" فمن صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله فقد اتخذ ربا والها وشارك مع الله غيره وأو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة نقد تقدم من الآيات ما يدل على أن هذا هو الشرك الذي نهى الله عنه". (5) فقد بعث الله رسله وأنزل كتبه ينهى أن يدعي أحد غيره ولا من دونه ولا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة وهذا هو دين جميع الرسل ثم يقول:"لم يختلفوا فيه كما اختلفت شرائعهم في غيره." (6) ويقسم ابن عبد الوهاب أنواع الدعاء التي تقع في أهل زمانه إلى:   (1) سليمان بن سحمان النجدي ـ الهدية السنية ص 46 (2) الدرر السنية جـ 1 ص 91 (3) الفاتحة:5 (4) الأنفال:9 (5) الدرر السنية جـ 1 ص 92 (6) الدرر السنية جـ 1 ص 144 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 (1) النوع الأول: دعاء الله وحده لا شريك له الذي بعث به رسوله. (2) النوع الثاني: أن يدعو الله ويدعو معه نبيا أو وليا، ويقول أريد شفاعته وإلا فأنا أعلم ما ينفع ولا يضر إلى الله لكن أنا مذنب، وأدعو هذا الصالح لعله يشفع لي فهذا الذي فعله المشركون، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتركوه ولا يدعوا مع الله أحدا لا لطلب شفع ولا نفع. (3) النوع الثالث: أن يقول:" اللهم أني أتوسل إليك بنبيك أو بالأنبياء أو لصالحين فهذا ليس شركا ولا نهينا الناس عنه، ولكن المذكور عن أبى حنيفة وأبي يوسف وغيرهم انهم كرهوه ولكن ليس مما نختلف نحن وغيرنا فيه". (1) (1) نخلص مما سبق إلى أن هناك أقساما من التوسل جائزة وصحيحة ولب هذا التوسل كأن لا يعتقد تأثيرا ولا خلقا ولا إيجادا ولا نفعا ولا ضرا إلا الله وحده لا شريك له ولا يعتقد تأثيرا ولا نفعا ولا ضرا للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره من الأحياء والأموات فلا فرق في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين وكذا بالأولياء، والصالحين لا فرق بين كونهم أحياء أو أمواتا لأنهم لا يخلقون شيئا وليس لهم تأثير في شيء وإنما يتبرك بهم لكونهم أحباء الله تعالى. (2) إن التذرع بالتبرك والتوسل فتح باب فتنه للعوام وبعض الخواص في أهل القبور وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله ويفعلون ما لا يفعله إلا الله عز وجل حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم فأخذوا يعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع. (3) أن مجرد عدم اعتقاد التأثير والخلق والإيجاد والعدم والنفع والضر إلى الله لا يبرئ من الشرك فإن المشركين الذين بعث الرسل إليهم أيضا كانوا مقرين بأن الله هو الخالق الرزاق، بل لا بد فيه من إخلاص توحيده وإفراده في كل أنواع العبادة التي من بينها الاستغاثة والتوسل.   (1) الدرر السنية جـ 2 ص 43 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 (4) أنه يجوز أن يستغيث بالمخلوق الحي فيما يقدر على الغوث فيه مثل أن يستغيث المخلوق ليعينه على حمل حجر أو يحول بينه وبين عدوه أو يدفع عنه لصا..ومن ذلك طلب الدعاء لله تعالى من بعض عباده لبعض وهذا لا خلاف في جوازه والاستغاثة الواردة في حديث المحشر من هذا القبيل، وإسناد الإغاثة هنا تكون من قبيل العمل والكسب لا الخلق والإيجاد. (5) أن يستغاث بمخلوق ميت أو حي فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وهذا هو الذي رفضه ابن عبد الوهاب ويقول فيه أهل العلم والتحقيق أنه غير جائز ويوصل إلى الشرك. وصفوة القول عندي فيما يتعلق بالتوسل أن الله تعالى شرع العبادة لذاته تعالى بلا شريك أو وسيط وبين أنه الخالق النافع الضار وعلى الإنسان أن يحقق كمال العبودية لله تعالى في توحيد الألوهية والربوبية، فلا جرم أن ابن عبد الوهاب أصاب لب الحقيقة في تقريره عدم جواز طلب العبد من العبد شيئا حيا كان أو ميتا شيئا لا يملكه إلا الله، أما شبهة القائلين بان التوسل هو التوجه بالطلب إلى الله عن طريق أحد أوليائه التماسا للإجابة من الله. فقول مردود بأكثر من وجه: الوجه الأول: أن الله تعالى أمر العباد بتوجيه الطلب المباشر إليه {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .ولو كان توجيه الطلب عن طريق نبي أو ولي أو ملك مقرب مما يرضاه الله أو يكون سببا في إجابته الدعاء لحث على ذلك وندب إليه وهو ما لم يرد نص في كتاب الله. الوجه الثاني: أن الله تعالى على ما وصف به نفسه في كتابه وعلى ما وصف به رسوله صلى الله عليه وسلم اقرب إلى الإنسان من حبل الوريد وأعلم بسره وجهره منه وأرحم به من والديه بل من نفسه التي بين جنبيه فأي عاقل يترك توجيه السؤال إلى الرب القريب الرحيم المجيب ويتخذ له وسيطا في الطلب والدعاء؟. الوجه الثالث: أن التوسل بمخلوق على أنه صالح وولي هو تزكية لمخلوق على الله وقد نهى الله عن ذلك ووصف المؤمنين بأنهم لا يزكون على الله أحداً، من يدعي الصلاح ويزين للناس التبرك به والتوسل فحسبه قول الله: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} . (1)   (1) النجم: 32 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الباب الخامس: نظرته إلى دور العقيدة في بناء الفرد من خلال الجماعة مدخل ... البَابُ الخامِس: نظَرته إلىَ دَور العَقيدة في بنَاء الفَرد مِن خِلال الجمَاعَة الفصل الأول: مفهوم الجماعة المسلمة وكيف تتكون ومدى ارتباط الإيمان بالتزام الجماعة الفصل الثاني: التكفير وما يخرج عن الإسلام. الفصل الثالث: الجهاد في سبيل الله كركن من أركان العقيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الباب الخامس: نظرته إلى دور العقيدة في بناء الفرد من خلال الجماعة تبين لنا من دراسة الفصل الثاني من الباب الثاني في هذا البحث كيف اهتم ابن عبد الوهاب بالربط بين العلم واعمل وأحيا قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبارها قاعدة أساسية لتحقيق ذلك وألمحنا إلى أن هذا المنهج يحدد نظرة الشيخ إلى دور العقدية في بناء الفرد من خلال الجماعة. فلئن عد الباحثون العلامة ابن خلدون رائدا لعلم الاجتماع باعتبار ما أورده من تقريرات في أصول هذا العلم أشار إليها في مقدمته بقوله:" إن الاجتماع الإنساني ضرورة" (1) فالحق أن ما أورده ابن خلدون وغيره من مفكري الإسلام ممن سبقوه أو لحقوه إنما يصدر في هذا الخصوص عن هدى القرآن الكريم الذي لفت النظر إلى ضرورة الاجتماع الإنساني في أكثر من آية كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} إلى ورود الخطاب في عديد الآيات بصيغة الجمع {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ} {يَا بَنِي آدَمَ} مما يؤكد حقيقة أن الاجتماع ضرورة إنسانية. وحسبنا أن نتأمل كون الإسلام عقيدة وشريعة بما ينطوي عليه ذلك من قواعد لتنظيم الحياة وضبط علائق الأفراد والجماعات لندرك مدى وضوح هذه الحقيقة في المنهج الإسلامي عقيدة وشريعة بما ينطوي عليه ذلك من قواعد لتنظيم الحياة وضبط علائق الأفراد والجماعات لندرك مدى وضوح هذه الحقيقة في المنهج الإسلامي، إذ لا مكان للشريعة إلا منفي مجتمع إنساني، فلئن وجدت العقيدة مستقرها في قلب الفرد ووجدانه فلا مستقر للشريعة إلا في المجتمع وتنظيم بنيانه. لذلك عنى الباحثون من مفكري الإسلام ببيان أسس علاقة الفرد بالجماعة، وكان لمحمد بن عبد الوهاب نظرت في هذا المجال مما سنعرض له في هذا الباب.   (1) ابن خلدون ـ المقدمة ص:4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الفصل الأول: مفهوم الجماعة المسلمة وكيف تتكون، ومدى ارتباط الإيمان بالتزام الجماعة رغم أن الاجتماع ضرورة إنسانية عايشها الإنسان منذ كان فلم يعرف الحياة إلا في جماعة، إلا أن مفهوم الجماعة المسلمة يختلف تماما عن مفهوم الجماعة التي لا تخضع لمنهج الإسلام، وهو اختلاف يعود بالأساس إلى اختلاف نظرة الإسلام عما عداه ـ إلى وظيفة الإنسان في الأرض من حيث بدئه ورسالته ومنتهاه. فالمذاهب المادية السابقة على ظهور الإسلام والتالية له تتواضع بالإنسان حتى تضعه ضمن سائر فصائل الحيوان بل من هذه المذاهب ما يعد الإنسان تطورا من تطورات الخلية الحيوانية وبالتالي فليس له في غير الأرض بداية وليست له على غير الأرض نهاية. وأنه محكوم في تطوره بحركة التاريخ وتداول الأيام فهو ابن الدهر والدهر آكله {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (1) وعلى ذلك ـ وحسب مقتضى المذاهب المادية فليس للإنسان من رسالة في هذا الحياة إلا بالعثور على الصيغة المثلى لتعايش أفراده بحيث يقتسمون أقوات الأرض على أحسن صورة ممكنة وبحثا عن الصورة الممكنة لاقتسام هذا الأقوات تنقسم المذاهب المادية إلى فردية واشتراكية وشيوعية.   (1) سورة الجاثية: آية: 24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وحتى أصحاب النظر الفلسفي من أنصار المذاهب المادية لم يرقوا إلى تصور بداية للإنسان أو نهاية له أو رسالة يضطلع بها بعيدا عن هذا التصور اللهم إلا محاولتهم تجريد المعاناة المادية من أشكالها للوصول إلى تصور معنوي للسعادة الإنسانية ظل على الدوام غامضا غموض أقيسة الفلسفة الجدلية ومعطياتها. والقائمون على عقائد أهل الكتاب وإن توفر لهم من بقية العلم بالكتب السابقة ما يهديهم إلى الاعتقاد بأن للإنسان بداية تسبق عالم الحس، وسيفضي إلى نهاية يلقى بها عالم البعث ,انه بين البداية والنهاية محل للتكليف من الخالق ـإلا أنهم ليسوا بدء الإنسان على الأرض بمقولة الخطيئة التي تأخذ بزمامه. والتي يحتاج معها إلى الشفعاء من أبناء الرب وأحبائه يمنحون صك غفران يسلك له إلى ملكوت السموات وإلا فهو محروم شقي لا محالة. وقد جاء الإسلام بالخبر اليقين الذي يبدد وهم الأولين وغلو الآخرين فارتفع بالإنسان عن وضاعة التطور من الخلية الحيوانية وأبان أنه مخلوق ذو مركز خاص في الكون، من حيث أصل خلقته {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (1) ومن حيث مكانه في الأرض ورسالته {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (2) من حيث قدراته وملكاته واستعداده {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاء كُلَّهَاَ} (3) ومن حيث مسؤوليته عن عمله {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (4) وعدم مؤاخذته بجريرة غيره. {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (5) وفي ظل التطور المادي الذي أشرنا إله كانت الجماعات الإنسانية تتكون وتتشكل كما يجري للحيوانات في عالم الغاب من حيث أن القوة المادية وحدها هي التي توجه هذا التكوين والتشكيل, فالقبيلة التي تجمعها وحدة   (1) سورة التين: آية:4 (2) سورة البقرة: آية:30 (3) سورة البقرة: آية:31 (4) سورة النجم: آية:39 (5) سورة الانعام: آية:164 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الأصل تحاول أنت تبسط نفوذها على غيرها من القبائل، فإذا أمكنتها القوة من ذلك وتتابعت بها الأسباب بدت في صورة الدولة ملكا أو إمبراطورية أو غير ذلك من الأشكال ولم تعرف البشرية قبل الإسلام جماعة إنسانية تتكون بوازع العقيدة والعقيدة وحدها، إذا أن الرسالات السماوية السابقة على الإسلام ظلت في دائرة إصلاح وجدان الأفراد كأفراد دون أن تصبح محورا تقوم عليه حياة الجماعة ويأتلف به الإنسان مع الإنسان، وثم لم يكن مجتمع بني إسرائيل خلال الفترة الوجيزة التي أقاموا فيها دولتهم إلا صورة خاصة لمفهوم الجماعة الإنسانية القائمة على التصور المادي، ذلك أنهم وإن احتكموا إلى التوراة أغلقوا دائرة الجماعة الإنسانية على من يجمعهم الأصل العرقي الواحد. فلما انصف الإسلام الإنسان وكشف عن جوهره الفريد ومركز المتميز في الكون ورسالته في الحياة انبثق من هذا التصور الإسلامي الفريد نموذج مثالي للاجتماع الإنساني نموذج يمكن أن نلخصه في عبارة واحدة: التسامي بالنوع الإنساني حتى يكون أهلا لشرف التكليف بعبادة الله تعالى. ويقوم هذا التسامي على قاعدتين وحدة أصل الإنسان {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} . (1) ووحدة الغاية التي خلق لأجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) والجماعة المسلمة مفتوحة لكل إنسان يتوفر فيه مفهوم القاعدتين السابقتين. وبحكم وحدة أصل الإنسان ومساواة أفراده فهم جمعيا على اختلاف الأصل واللهو واللغة والجنس مدعوون للالتحاق بهذه الجماعة {قُلْ يَا أَيُّهَا   (1) سورة العلق: آية: 20 (2) سورة الذاريات: آية: 56 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعا} (1) والشرط الوحيد لتحقيق هذا الالتحاق هو الإيمان بالله. وحيث يوجد هؤلاء المؤمنون فهم جماعة واحدة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (2) ومن هنا كانت الجماعة المسلمة فريدة في تكوينها.. إنها تقوم على العقيدة وحدها، عقيدة الإيمان بالله. وقد رأينا لدى استعراض مواد الفصل الأول من الباب الأول من هذا البحث: كيف نشأت الجماعة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة لتجمع أفرادا ومن مختلف قبائل العرب بل ومن أفراد غير عرب كسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وحدوا الله فوحد الله بينهم {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} . (3) وعرفت الإنسانية بهذا الجماعة الإسلامية مفهوم الدولة العقائدية التي انضوت تحت أعلامها أمم شتى هجرت رابطة العرق والوطن إلى رابطة الدين والإيمان وظلت دولة الإسلام قوية ما بقيت هذه الرابطة الإيمانية فلما غلبتها نوازع الشعوبية والأممية تداعى البناء الشامخ وتصدعت أركانه. وأدرك محمد بن عبد الوهاب الجماعة المسلمة وقد تمزقت دار السلام إلى عدة أديار، وعادت نجد إلى حال قريب من حالتها في الجاهلية مما عرضنا له تفصيلا في الباب الأول، وكان عليه أن يواجه هذا الواقع ليحدد على ضوئه نظرته إلى أسس تكوين الجماعة المسلمة. وقد جاء هذا التحديد مقرونا بالتطبيق العملي الذي تفيض به الشواهد التاريخية، بدأ بنفسه فتزود بالعلم الذي يتميز به الحق من الباطل، حتى إذا، استوعب حقائق الإسلام وتحقق له بعد الناس عن هذا الحقائق أخذ يدعو   (1) سورة الاعراف: آية:158 (2) سورة الحجرات: آية:10 (3) سورة الأنفال: آية:63 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الناس" فأعلن بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (1) فلما التف حوله بعض الناس بذل جهده في تعليمهم أمور دينهم وكان له مجالس عديدة في التدريس كل يوم وكل وقت في التوحيد والتفسير والفقه وغيرها". (2) وإذا توفرت له الجماعة التي تلتقي معه في مفهوم العقدية الصحيحة القائمة على التوحيد الحق والإتباع الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم واجه الانحراف بعزيمة تغيير المنكر" وتبعه أناس من أهل العيينة وكان فيها أشجار تعظم ويعلق عليها فبعث إليها من يقطعها فقطعت" (3) واعترفت عنده امرأة بارتكاب الزنى الموجب للحد فأمر برجمها، وسرعان ما كشف المجتمع المحيط به عن مدى بعده عن شريعة الإسلام وأحكامه، فقد استهول حكام الإحساء وغيرها من إمارات الجزيرة العربية مسلك محمد بن عبد الوهاب في الالتزام بالتطبيق العملي لقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فبدأوا بالعداء وحرضوا أمير العينية ابن معمر على إخراجه منها فخرج مهاجرا إلى الدرعية. ولم يكن مخرجه من العيينة واضطراره إلى الهجرة إلى الدرعية ليثنيه عن الجهاد الذي عاهد الله عليه بل كشفت هذه المحنة عن استعداده لمواجهتها وعن فهمه الدقيق لطبيعة الصراع بين الإسلام وأعدائه ومقتضيات هذا الصراع. عبر عن هذا الفهم في حواره الذي بدأ به لقاءه مع أمير الدرعية محمد بن سعود قال للأمير:" ... هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم فمن تمسك بها وعمل بها ونصرها ملك بها البلاد والعبادة وأنت ترى نجداً كلها وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة والاختلاف والقتال لبعضهم بعض فأرجو أن تكون إماما يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك وجعل يشرح له الإسلام وشرائعه وما يحل وما يحرم وما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الدعوة إلى التوحيد والقيام في نصره والقتال عليه". (4)   (1) ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص 22 (2) ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص 114 (3) ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص22.23 (4) ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وبهذه العبارات أوجز الشيخ مفهومه للجماعة المسلمة التي تتكون بوازع الإيمان وتجتمع على نصرة الإسلام والقتال دفاعا وتطبيقا لشرائعه. كما أوضح عن فهمه لطبيعة الصراع بين الحق والباطل وأن الباطل لا يخلي مكانه للحق إلا راغما واستدل على ذلك بما جرى للرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه. وقد يأخذ عليه البعض أنه وهو يعمل لنصرة دعوة الإسلام وإحياء سنة الرسول صلى الله عليه وسلم قد خالف هذه السنة فيما جرى منه من مبايعة للأمير محمد بن سعود بأن يكون إماما وذريته من بعده، إذ الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصا وهو يدعو القبائل إلى الإسلام ألا يجعل ثمن نصرهم لدين الله اختصاصهم بإمامة أو ما أشبه، وقد رأينا (1) كيف دعا بني عامر بن صعصعة إلى الإسلام فاشترطوا عليه أن يجيبوه إلى دعوته على أن يكون لهم الأمر من بعده فكان جوابه صلى الله عليه وسلم الرفض المشفوع بقوله:" الأمر لله يضعه حيث يشاء، ثم رأيناه صلى الله عليه وسلم وهو يدخل المدينة مهاجرا يعتذر عن قبول كل دعوة قدمت له للنزول في حي بعينه من أحياء الأوس أو الخزرج ويأمر من أخذ بخطام ناقته أن يخلي عنها حتى بركت الناقة وهي مأمورة ـ كما حدث المعصوم صلى الله عليه وسلم ـ في مريد لغلامين يتيمين فأبى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذه إلا بثمنه وفي مكانه أنشأ مسجده. والاعتراض ولا شك سديد غير أنه مما يخفف اللائمة عن محمد بن عبد الوهاب أنه أولا: من المحال أن يستشرق إلى الذروة التي تسنمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد وهو سيد الرسل من أولي العزم وحسب العبد الصالح أن يقتفي أثره ما استطاع. ثانيا: أن العبارة المنقولة عن الشيخ هي أقرب إلى الدعاء والتمني لقوله:" فأرجو أن تكون إماما". وتحمل على الترغيب وتقريب سبيل الهداية للأمير. ثالثا: إن كان في معاناة المهجر من العيينة إلى الدرعية يلتمس الأمن والمأوى لتبليغ دعوته." ولا تتم دعوة إلا بوجود شوكة" (2) وحسبه بهجرته من   (1) الطيري ـ تاريخ الأمم والملوك جـ2 ص: 232 (2) ابن خلدون المقدمة. ص 327 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 العيينة إلى الدرعية أن أحيا في الناس سنة الهجرة إلى الله ورسوله "فهاجر الشيخ أصحابه الذين بايعوه في العيينة" إلى الدرعية. ولم يلبث أن تزايد المهاجرون إلية من كل بلد علموا استقراره. (1) ويمكن القول بحق أنه بهذه النواة من المهاجرون إلى الدرعية تكونت الجماعة المسلمة التي تجمعها العقيدة والعقيدة وحدها وكان ذلك في حد ترجمة لمفهوم الجماعة الإنسانية حسبما يريدها القرآن. ومن خلال هذه الجماعة التي تكونت على التوحيد واجتمع شملها على الإيمان باشر محمد بن عبد الوهاب تربية أفرادها على خلق الإسلام وإلزامهم بسائر ضوابطه سواء منها ما يتعلق بعلاقة العبد بربه "فاجتمع الناس على الصلوات والدروس والسؤال عن معنى لا إله إلا الله وفقه معناها والسؤال عن أركان الإسلام وشروط الصلاة وأركانها ووجباتها (2) " كذلك توفرت تربية الأفراد فيما يتعلق بحقوق بعضهم على بعض فتحقق بينهم التكامل والتعاون وجمعت الزكاة لمن تحب عليهم وصرفت على مستحقيها وتغير مفهوم النصرة القبلية التي كانت تحمل الفرد علي نصرة أخوية ظالما ومظلوما بالحق والباطل إلى مفهوم النصرة الإسلامية على التناصح والتواصي بالحق والصبر بعد أن فقه القوم حديث رسول الله "انصر أخاك ظالما أو مظلوما "بما بينة رسول الله من أن معني نصر الأخ ظالما: منعه من الظلم. ومن خلال تربية الأفراد على معنى التآخي والتنا صر والتواصي بما فهمهم لمعنى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فأقبلوا على إحياء هذا الركن الإسلامي المكين من أركان تكوين الجماعة المسلمة. ولم يمض وقت بعيد حتى كان مجتمع الدرعية قد ظفر بمنهج تربوي وتطبيقي يكفل حسن تربية المسلم من خللا الجماعة. منهج يقوم على الحقائق الإسلامية الأساسية التي تتضمنها الكليات الخمس: توحيد الله وأتباع رسوله ومساواة بني الإنسان والعلم والتعلم.   (1) ابن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص: 24 (2) ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد. جـ 1 ص 114 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وتيقن محمد بن عبد الوهاب أن السبيل إلى ضمان استمرار المجتمع المسلم على كلياته الخمس يتوقف على الكلية الخامسة وهي التعلم. من هنا كان حرصه على تعليم اتباعه وترغيبهم في التعلم واهتمامه بعامتهم وخاصتهم في هذا الخصوص ووضعه الأسلوب الأمثل لتعليم كل حسب استعداده فيقول:"ينبغي للمعلم أن يعلم الإنسان على قدر فهمة" (1) ثم يفصل درجات الناس ويعطي كلا حسب قدر ثقافته وذكائه. ويجدد غاية العلم والتعلم في أن يعرف المسلم الحقوق التي علية. ثم يرتب له الحقوق بدءا بالأدنى وترقبا إلى الأعلى"فيصف له الحقوق الخلق مثل حق المسلم على المسلم وحق الأرحام وحق الوالدين وأعظم من ذلك حق النبي"ثم حق الله وحق الله عليك. (2) ومن مصنفات محمد بن عبد الوهاب التي عالج فيها الجانب التربوي في أوساط العامة "تلقين أصول العقيدة للعامة (3) " ومن حقوق المسلم على المسلم تلك التي يتبادلها الحاكم والمحكوم مما يعرف حديثا بالحقوق العامة، ولا يستقيم شأن جماعة إنسانية إلا على قاعدة واضحة تستقر عليها هذه الحقوق التي أصبحت مجالا للنص عليها في الدساتير والقوانين الأساسية. وابن عبد الوهاب يضع هذا النوع من الحقوق في مكان الصدارة من تفكير ويسوق لذلك الاستشهاد بالحديث الصحيح: "إن الله يرضى لكم ثلاث: ألا تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" (4) . واستدلالا بهذا الحديث يرتفع محمد بن عبد الوهاب بمركز ولي الأمر من حيث حتمية وجوده ووجوب طاعته والانقياد له إلى حد اعتبار مخالفته والخروج عليه من مسائل الجاهلية التي تتلو درجة الشركة بالله والتفرق في الدين إذ يقول   (1) عبد الرحمن العاصمي القحطاني. الدرر السنية جـ 1 ص98 (2) المرجع السابق (2) .مجموعة التوحيد ـ الرسالة الخامسة ص 257، 258 (4) مجموعة التوحيد ـ رسالة مسائل الجاهلية. ص237 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 أن أهل الجاهلية كانوا يرون أن "مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة والسمع والطاعة ذل ومهانة فخالفهم رسول الله وأمر بالصبر على جور الولاة وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة وغلظ في ذلك وأبدى وأعاد. (1) ومن الجدير بالذكر أن محمد بن عبد الوهاب تعرض لنقد معارضية في مسألة عقدة الإمامة لابن سعود بمقولة أنه بذلك خرج عن إجماع فقهاء المذاهب الأربعة وعلى الأخص مذهب الإمام أحمد – فيما يشترط في الإمام من أن يكون قرشيا ورموه بأنة يدعو دعوة الخوارج ممن قالوا بجواز إمامة غير القرشي. والحق أنني أري في موقف محمد بن عبد الوهاب من مسألة الإمامة وطاعة ولي الأمر حسبما أوضحناه أنفا اختلافا تاما بينه وبين فقه الخوارج فهو يجعل وجود ولي الأمر أصلا ثابتا يقوم علية صلاح الدين والدنيا معا يبرر طاعته في حال وجود ولي الأمر أصلا ثابتا يقوم علية صلاح الدين والدنيا معا مما يبرر طاعته في حال عدله وجوه، حال كون الخوارج لا يرون شيئا من ذلك بل كانت مقالتهم الأولى التي صاح بها مناديهم في وجه علي رضي الله عنه: لا حكم إلا لله مما دعا الإمام علي أن يكشف خبيثهم بقوله: قولة حق أريد به باطل. يقولون لا طاعة لمخلوق ولا بد من طاعة أمير أو فاجر. (2) ولا يعني الأمر بوجوب طاعة ولي الأمر مطلق الطاعة حتى في المعاصي إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق إنما المعني: انتظام الجماعة في الطاعة والتحذير من الخروج على الإمام لمجرد الرغبة في الخروج والتباهي به كسنن الجاهلية الأولى. ثم يرسم ابن عبد الوهاب لولى الأمر وللرعية معا طريق استدامة الود بينهما الكفيل بدوام تعاونهما على البر والتقوى فيحدده في الحب في الله والبغض فيه وأن فقدان الجماعة لهذا الحب والبغض هو الذي يدخل الخلل على علاقات الحاكمين بالمحكومين وفي ذلك يقول: يجيئنا من العلوم أنه يقع بين أهل الدين والأمير بعض الحرشة، وهذا شئ ما يستقيم علية الدين، والدين هو الحب في الله والبغض فيه" (3) .ويضع يده على العلة الحقيقية فى حدوث هذا   (1) مجموعة التوحيد الرسالة الأولى: مسائل الجاهلية ص 236، 237 (2) الطبري. تاريخ الأمم والملوك جـ 6 ص: 36 أخبار عام 37هـ (3) الدرر السنية: جـ ط ص239 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الخلل في العلاقة بين الحاكم والمحكوم. إنهم في رأي الشيخ بطانة السوء التي يجب أن يحذر الأمير وسواسها "فإن كان الأمير ما يجعل بطانته أهل الدين صار بطانته أهل الشر". (1) وهو إذ يدعو الأمير إلى أن يتخذ من أهل الدين بطانته يدعو هؤلاء إلى أن"عليهم جمع الناس على أميرهم والتغاضي عن زلته (2) "وأن يجعلوا فصحهم له برفق وخفية عن الناس مع تجنب الغلظة الموجبة للفرقة "فإن بعض أهل الدين ينكر منكرا وهو مصيب لكن يخطي في تغليظ الأمر إلى شئ يوقع الفرقة بين الإخوان. (3) وقد آتت تربية ابن عبد الوهاب ثمارها في تقوية أواصر الحاكم بالمحكوم بحيث أصبح المجتمع القائم" في الدرعية قدرا على مواجهة الهجوم المتوالي الذي شنه أعداؤه عليه من داخل الجزيرة العربية وخارجها والذي دام عشرات السنين. (4) وكرد فعل لتحالف الأعداء من كل صوب ضد الدرعية الذي اضطر لأن يعيش حالة حرب مستمرة حوالي نصف قرن من الزمان فقد انغلق هذا المجتمع على نفسه قانعا بأنه يقاتل في سبيل الله فقاتله جهاد مقدس ضد أعداء كافرين يتربصون به الدوائر. وأيا كان موقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب من تكفير مخالفية والذي سنعرض لبيانه في الفصل الثاني من هذا الباب فهو سائر جماعته لا ينكرون قولهم بتكفير من حاربهم وتصدى لنشر دعوتهم وكتب الشيخ ورسائله ورسائل أتباعه من بعده صريحة في تسمية أنفسهم بالمسلمين ومقاتليهم بالكفار ومن ثم فقتلاهم شهداء وقتلى خصومهم هالكون وما ينالونه من خصومهم فتح وغنيمة وما يناله خصومهم منهم ابتلاء من الله وقد رسخت هذه العقيدة في نفسهم   (1) المرجع السابق. (2) المرجع السابق. (3) ابن غنام , تاريخ نجد رسالة ابن غنام لأهل الحوطة، أيضا الدرر السنية جـ7 ص: 25 (4) عبد الرحمن بن حسن، المقامات، الدرر السنية جـ 9 ص 18 وما بعدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 حتى ذهب بعضهم إلى اعتبار إيمان الفرد مرهونا بمتابعة لجماعتهم والالتحاق بمعسكرهم ونقل الشوكاني عنهم أنهم يرون أن من لم يكن داخلا تحت دولة صاحب نجد وممتثلا لأوامره خارج عن الإسلام. ولقد أخبرني أمير حاج اليمن أن جماعة منهم خاطبوه هو ومن معه من حجاج اليمن وأنهم غير معذورين عن الوصول إلى صاحب نجد لينظر في إسلامهم (1) ويمكننا أن نقول على ضوء ما تقدم أن محمد بن عبد الوهاب أقام منهجه في تربية الفرد من خلال الجماعة على إنارة وجدانه بالتوحيد الخالص والإتباع الأمين لرسول الله ثم اندراجه في الجماعة المسلمة على قاعدة المساواة التامة في الحقوق والواجبات مساواة تقوم على دعامتين رئيسيتين: وحدة أصل الإنسان فلا تفاوت في العرق ووحدة الغاية وهي عبادة الله وحده وأن هذه الجماعة المسلمة مطالبة بحماية أفرادها من زيغ العقيدة بالتربية السليمة ومن عدوان الأعداء بالاستعداد للجهاد في سبيل الله وإن التزام هذه الجماعة هو عين الإيمان والخروج عليها ومفارقتها كفر وشقاق. ويخلص لنا من ذلك أن محمد بن عبد الوهاب من خلال دعوته وحركته الأحداث التي واجهها قد أدلى بدلوه في مسألتين هامتين من مسائل الفكر الإسلامي ونعني يهما: (1) التكفير وما يخرج عن الإسلام. (2) الجهاد في سبيل الله من أركان العقيدة. وقد عقدنا لكل من هاتين المسألتين فصلا مستقلا في هذا الباب على التوالي.   (1) الشوكاني، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع جـ 2 ص6 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الفصل الثاني: التكفير وما يخرج عن الإسلام التكفير: رمي إنسان بالكفر بعد الإسلام. وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يرمي المسلم أخاه المسلم بالكفر بقوله: أيما مسلم قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما. واستدل الفقهاء من ذلك علي أن من كفر مسلما فقد كفر. وعند النظر الدقيق في تقسيم القرآن لمجتمع المدينة إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين واختصاص كل طائفة بذكر وحكم خاص بها يتضح لنا أن رمي من أسلم وأظهر الإسلام بالكفر ممتنع شرعا حتى ولو كان منافقاً. ذلك أنه لوعد بنفاقه كافراً لما ورد النص على نعت المنافقين وتخصيصهم بهذا الوصف ولأصبح الأمر يدور بين الإسلام والكفر ولا ثالث بينهما. وإسلام المرء مرهون بنطقه بالشهادتين، فإن شهد فقد اكتسب وصف المسلم وكل فريضة بعد ذلك من صلاة وزكاة وحج وصوم مفروض هي من واجباته كمسلم أي أنه مسلم قبل أن يأتيها، وآداؤه لهذه الفرائض ظاهراً يجزي عنه سواء كان مخلصاً في آدائها أو مرائيا، وحسابه على الله. وقد ثبت بالخبر المتواتر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقي بيعة نفر من أهل المدينة على الإسلام وهم منافقون مردوا على النفاق فلم يحاول الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستجلي سرائرهم أو ينقب عن أحوالهم بل وكلها إلى الله الذي أنزل عليه قرآنا يتلى في شأنهم {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} . (1)   (1) التوبة:101 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وبعد أن ثبت بالخبر القرآني وجود نفر من المنافقين في المدينة، وبعد أن فضحهم الله وأخرج أضغانهم ونبأ رسوله أنهم يتآمرون على الجماعة الإسلامية ويسرون بالمودة إلى الكافرين ويقولون لهم {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (1) بعد ذلك كله لم يجابه رسول الله واحدا منهم بأنه منافق بل ظل يؤمهم مع المسلمين في الصلاة ويعاملهم كمسلمين وحتى لما افتضح كبيرهم عبد الله بن أبى بن سلول وخاض مع الخائضين في حديث لإفك وما تلاه. وهم بعض الصحابة بقتلة وتقدم ابنة معبرا عن ذلك بقوله: ائذن لي يا رسول الله بقتله فإني أكره أن يقتله غيري فلا تطيب نفسي برؤيته فأقتله فأكون قد قتلت مؤمنا بكافر. نقول حتى بعد ذلك كله أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمس أحدا هذا المنافق بسوء قائلا: لا تفعل فيقال أن محمداً يقتل أصحابه. وسياق هذه القصة قاطع في أن الإسلام بالشهادتين يدخل العبد ساحة الجماعة الإسلامية أما نيته فمردها إلي الله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم":بعثت هاديا لا منقبا عن قلوب الناس" وكما قال لخالد بن الوليد وقد قتل رجلا ينطق بالشهادتين معتذرا عن ذلك بأن نطقه كان خوفاً فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم:"فهلا شققت عن صدره". وقد خلت سنوات السلف في الصدر الأول طوال خلافة الشيخين أبى بكر وعمر والمسلمون على هذا النهج لا يكفر أحدهم أخاه بمعصية يرتكبها أو بنية يستبطنها إلي أن لفتهم الفتنة الكبرى بدءا بمقتل عثمان رضي الله عنه ثم خروج معاوية علي الإمام على رضي الله عنة وسير الأحداث من بعد إلي التحكيم وما وقع فيه من خديعة لصالح معاوية فقد نتج عن ذلك رد فعل ملئ بالأسى لدى بعض أنصار أمير المؤمنين علي فابتدروا إلى تكفير معاوية والحكمين بما ارتكبوه من خديعة وافتراء ودعوا عليا رضي الله عنه إلى القول معهم بكفر خصومه   (1) سورة الحشر. آية:11 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فأبي رضوان الله عليه فقهاً منه بدينه أن يكفر أحدا بذنب ولو كان في شناعة ذنب معاوية ومن لف لفه. فإذا بأنصار علي المطالبين بإكفار الحكمين ومعاوية يضيفون إلى قائمة الأكفار علياً نفسه ثم سائر الصحابة وكانت فتنة الخوارج ولم يخل مذهب من المذاهب المعتبرة من تسفيه رأيهم وبيان فساده. ولا تكاد فتنة التكفير أن يطويها مر السنين وتعاقبت القرون حتى تعود من جديد فتطل على المسلمين من خلال ما تبادله من خصوم الوهابية وأنصارها من سهام تكفير بعضهم بعضا وليس من مهمتنا أن نبين أي الفريقين هو المسؤول عن إيقاظ فتنة التكفير إلا بالقدر الذي نستظهر فيه الموقف الفكري لمحمد بن عبد الوهاب من هذه المسألة. وموقف محمد بن عبد الوهاب واضح مفصل في كتابه"التوحيد"الذي ألفه في مطلع حياته الفكرية لدى وجودة في البصرة، ويعتبر هذا الكتاب بحق مرآة فكرة وترجمان عقيدته واعتقاده وعلى هذا الكتاب توفر سائر اتباعه بالشرح والتعليق وفيه يقول حفيده عبد الرحمن بن حسن: فصنف في البصرة كتاب التوحيد الذي شهد له بفضل تصنيفه القريب والبعيد أخذه من الكتب التي في مدارس البصرة من كتب الحديث. (1) وأول ما يستدعي الباحث لدي مطالعة كتاب التوحيد أن مؤلفة يعالج قضايا التوحيد في ذاتها بحديث موضوعي يستهدف إضاءة جوانب هذه القضايا وضبط المعايير التي تحكم مفاهيمها وما هو أصيل فيها وما هو دخيل عليها. وليس في هذا التحديد الموضوعي أية محاولة للحكم علي شخص بعينه أو جماعة بذاتها الأكفار. ويسترعي انتباه الباحث كذلك أنه عالج قضايا التوحيد بإيراد النصوص الدالة على وجوب عبادة الله تعالى وحده ثم بيان مفهوم العبادة في الاعتقاد والسلوك وتحديد ما يعد من وجوه العبادة فلا يتوجه به إلا لله تعالى، وهو في كل ذلك لم يعد إيراد النص القرآني وما يجري مجراه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتصل به من فعل الصحابة الدال على فهم النص وتحديد مضمونه عملاً. ولا   (1) عبد الرحمن بن حسن ـ المقامات منشورة في الدرر السنية ج 9 ص 215 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 تكاد تحس بأثر للمصنف إلا من حيث ما يدل عليه استصحابه للنصوص وربطة بينها من فقه لمعني التوحيد الخالص. ذلكم هو كتاب التوحيد عمدة كتب محمد بن عبد الوهاب، وعلى نسقه جاءت مصنفاته الأخرى: إبداء النص الشرعي واستخلاص الحكم من مدلوله اللغوي على ضوء فهم الصحابة له وعملهم به دون اتهام لجماعة معينة بالكفر. ولكن خصومه ومعارضيه لم يقفوا عند دائرة النصوص التي ساقها تحديدا لمعنى التوحيد وبيانا لحقوقه بل رأوا في إيراد الشيخ لهذه النصوص ما يحمل معني تكفير من يخالفها، وبدلا من أن يلتزموا دائرة البحث الموضوعي للوصول إلى وجه الحق في فهم هذه النصوص استبقوا إلى التشهير به ورمية بأنة يكفر المسلمين. وفي هذا الصدد يقول العاملى: "والحاصل أن حكم الوهابيين بكفر وشرك جميع المسلمين هو أساس مذهبهم ومحوره الذي يدور علية ولا يتحاشون منه وكتبهم مشحونة بالتصريح به تصريحاً لا يقبل التأويل". (1) وقد سبق العاملي إلى ذلك غيرة أمثال أحمد زيني (2) وعلوي الحداد (3) وأخيه سليمان بن عبد الوهاب. (4) وجميل صدقي الزهاوي (5) . وتقرأ النصوص التي أوردها الشيخ فتجدها ناطقة بأن مدار الإسلام على النطق بالشهادتين. فقد أورد حديث عبادة بن الصامت- رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. وإن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل"   1 الحسيني العاملي كشف الإرتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب ص 18،147 2 أحمد زيني دحلان. خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام:227 3 علوي بن أحمد الحداد. مصباح الأنام ص: 18 4 سليمان بن عبد الوهاب. الصواعق الإلهيه في الرد على الوهابية ص:36وهو شقيق محمد بن عبد الوهاب ويذكر بن غنام أنه تصالح عن معاداتة دعوته. انظر تاريخ نجد ص:142 5 جميل صدقي الزهاوي: الفجر الصادق ص 25 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 "أخرجة البخاري ومسلم. كما أورد حديثهما "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله". (1) الأمر الذي يقطع بأنه التزم في المسألة بدلالة النص واتبع السلف في عدم القول بإكفار من نطق بالشهادتين. وأكد ذلك بما أورده بقوله:"إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف منافقين بأعيانهم ويقبل علانيتهم وبكل سرائرهم إلى الله". (2) ولكن مجريات الأحداث بعد ذلك دفعت أنصار الشيخ وخصومه إلى تبادل الاتهام بإكفار بعضهم بعضا فهل كان ذلك يمثل من جانب الشيخ تحولا عن فكره الأول أم أن ذلك مجرد رد فعل للصراع الحربي الذي طال أمده فلجأ كل فريق إلى التشنيع على خصمه واستعمال سلاح التكفير في المعركة دون وزن للحجج والبراهين التي يثبت بها الكفر أو ينتفي. وحتى نعرف وجه الحق في هذا التساؤل يلزمنا أن ندرك المدى الحقيقي لرد الفعل المصاحب للحروب الوهابية التي خاضها اتباع محمد بن عبد الوهاب دفاعا عن أنفسهم واستبقاء على حريتهم في أرضهم وعقيدتهم، وهي حروب اتصلت في الداخل والخارج. يكفي أن نعرف أن إمارة الرياض التي كان رأسها دهام بن دواس ظلت تقاوم الدرعية هجوما ودفاعا قرابة ثلاثين سنة وذكر أن عدد القتلى بينهم في هذه المدة نحو من أربعة آلاف رجل من أهل الرياض ألفان وثلاثمائة ومن المسلمين ألف وسبعمائة (3) فكيف بالحروب الأكبر والأخطر التي واحة فيها محمد بن عبد الوهاب واتباعه من بعده جيوش العراق تارة ومصر تارة؟ أخرى والتي أتصلت بعد موت محمد بن عبد الوهاب حتى تم تدمير الدرعية والقضاء علي الدولة السعودية الأولى على يد إبراهيم باشا الكبير عام 1233هـ (4) بعد أكثر من سبعين عاما من هجرة محمد بن عبد الوهاب إليها واتخاذها قاعدة لدعوته. في أتون الحرب الضروس تداعت ردود الأفعال وكان كل فريق   (1) التوحيد ص 15 وما بعدها (2) الدرر السنية ج 7 ص 26 (3) ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1 ص 77 (4) المرجع السابق ج 1 ص 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 حريصا على النصر وعلى استخدام كل سلاح يؤدى به إليه. وللحق فقد بذل محمد بن عبد الوهاب جهدا واضحا للحد من آثار ردود الأفعال الناجمة عن الصراع على مفهوم القضايا والمسائل المتعلقة بالاعتقاد فسجل في رسائله إلى أمراء مكة المكرمة ما يدل على ذلك وأرسل من أتباعه من يناظر علماء مكة المكرمة وتفيض رسائله إلى أمراء مكة وعلمائها بتوقير أهل البيت وإجلالهم وإبداء الرغبة في النزول عند مقتضى الشرع من ذلك ما كتب به إلى شريف مكة عام1186هـ ردا على كتابه إليه".. المعروض لديك أدام الله فضل نعمه عليك حضرة الشريف أحمد.. أعزه الله فى الدارين وأعز به دين جده سيد الثقلين أن الكتاب لما وصل إلى الخادم وتأمل ما فيه من الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف ... ولما طلبتم من ناحيتنا طالب علم امتثلنا الأمر وهو واصل اليكم ويحضر في مجلس الشريف أعزه الله تعالى هو وعلماء مكة فإن اجتمعوا فالحمد لله تعالى على ذلك وإن اختلفوا أحضر الشريف كتبهم وكتب الحنابلة والواجب على كل منا ومنهم أن يقتصد بعلمه وجه الله ونصر رسوله" (1) وقد جرت المناظرة بين عالم نجد وعلماء مكة حول ثلاث مسائل: ما نسب إلى اتباع محمد بن عبد الوهاب من التكفير بالعموم وهدم القباب التي على القبور وإنكار دعوة الصالحين للشفاعة "فذكر لهم الشيخ عبد العزيز "موفد محمد بن عبد الوهاب " أن نسبة التكفير الينا زور وبهتان علينا" (2) . ولم يأل محمد بن عبد الوهاب جهدا في التزام الموضوعية لدى توضيح مسائل التوحيد التي يراها قاعدة للإيمان نافياً ما نسبه إليه خصومه من أنه يكفر بالعموم ويوجب الهجرة إلى جماعتهم على من قدر على إظهار دينه ثم أوضح أنه "لا يكفر أحدا من المسلمين بذنب ولا يخرجه عن دائرة الإسلام "3 وإنما يبين حقيقة التوحيد بأقسامه وضده الشرك بأقسامه ويبين أنواع الكفر التي قد يقع فيها العباد ليحذروها حرصا على سلامة دينهم. والكفر يقع لدى إخلال العبد بحق الله على وجه الجحود له أو إخلاله   (1) ابن بشر عنوان المجد. ج 1 تعليق المحقق ونص الرسالة هامش ص 76 (2) ابن بشر. عنوان امجد المرجع السابق (3) الدرر السنية. ج 1 ص 30 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 بحق الرسول صلى الله عليه وسلم في لزوم اتباعه على وجه الاستهزاء والتكذيب. وحق الله: توحيده، ولا يكتمل التوحيد إلا باكتمال أوصافه وهي عند ابن عبد الوهاب أنواع، إذ يرى أن التوحيد ثلاثة أنواع: 1- توحيد الربوبية. 2- توحيد الألوهية. 3- توحيد الأسماء والصفات. وإنها كلها مندرجة في شهادة التوحيد وأن ضد هذا التوحيد الشرك بأقسامه: الشرك الأكبر والشرك الأصغر والشرك الخفي وأن الوقوع في شئ من هذا الشرك يخرج الواقع فيه من الإسلام (1) . وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوب اتباعه فمن خالفه جاحدا برسالته أو مكذبا بها أو مستهزئا خرج من الإسلام 1هذان نوعان من أنواع الكفر التى حذر منها ابن عبد الوهاب وما نظن أحدا من ذوي العلم بالإسلام إلا حذر منها وعدا الواقع فيها كافرا. يضاف إلى هذين النوعين من أنواع الكفر أنواع أخرى ذكرها ابن عبد الوهاب نجملها فيما يلي: (1) من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله الذي أظهرناه للناس وأقر أيضاً أن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر والبشر هي الشرك بالله ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد ولا تعلمه ولا دخل له فيه ولا مدح الشرك ولا يزينه للناس. (2) من عرف التوحيد وأحبه وعرف الشرك وتركه ولكنه يكره من دخل في التوحيد ويحب من بقي على الشرك. (3) من سلم من هذا كله ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة التوحيد واتباع   (1) مجموعة التوحيد - تفسير كلمة التوحيد ص 250 (2) المرجع السابق نواقض الإسلام ص 271 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 أهل الشرك وساعون في قتالهم ويتعذر أو يشق عليه ترك وطنه فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ويجاهد بما له ونفسه فهذا أيضا كافرا (1) ونحن نلمس في هذه الأنواع الثلاثة من أنواع الكفر التي ذكرها ابن عبد الوهاب مدى تأثره برد فعل العداوة التي حوصر بها وأتباعه ومحاولته إخراج العديد من المسلمين الذين وقفوا على الحياد في هذا الصراع عن حيادهم ليحددوا مواقفهم مع الحركة الوهابية أو مع خصومها. ويبقى أن نقرر أنه رغم تأثر ابن عبد الوهاب بجو الصراع لدى تحديده أنواع الكفر فقد ظل في دائرة المنهج الموضوعي، إنه يحدد أنواعا للكفر ولا يرمي أناسا معينين به. نأتي بعد ذلك إلى تبيان وجهة النظر في هذه المسألة: وانطلاقا مما أسلفنا بيانه في مستهل هذا الفصل فإني أرى أن الإسلام منوط بشهادة: لا إله إلا الله. محمد رسول الله، فمن نطق بالشهادتين فقد أسلم، ولا يخرجه عن الإسلام معصية يرتكبها أو نية يستنبطها تخالف ما أعلنه. ذلك هو الإسلام الذي قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس وخلت الأيام بالسلف عليه. فالحديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن قالوها فقد عصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. من ذلك يتبين أننا أمام أمور ثلاثة: الأول: الإسلام الذي يدخل به الإنسان في إطار الجماعة الإسلامية ويستحق به وصف المسلم وتثبت له به حقوق المسلم وتجب عليه واجباته. الثاني: الإسلام الذي يقبله الله من العبد ويكتب له به الجنة.   (1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ص: 439 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الثالث: حكم المسلم عند الإخلال بالحقوق المترتبة عليه بوصف أنة مسلم وهي حقوق: لا إله إلا الله المشار إليها في الحديث: إلا بحقها. الأول الإسلام الذي يدخل به العبد في الجماعة الإسلامية ويستحق به وصف المسلم. شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله فمن نطقها بإرادة الدخول في الإسلام فهو مسلم. آمن قلبه أم لم يؤمن. دليل ذلك الإذن للأعراب بأن يقولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 1.إلى غير ذلك من الأدلة التي أشرنا إليها في مفتتح هذا الفصل. الثاني الإسلام الذي يقبله الله من العبد طريقا إلى الجنة: هو أن ينطق بالشهادتين مخلصا وهنا يجتمع القلب واللسان معا وعمل القلب مرجعة إلى الله وحده فليس كل من أسلم في عالم الناس كتب في عالم الغيب عند الله مسلماً. الثالث حقوق لا إله إلا الله محمد رسول الله وحكم الإخلال بها: متى أسلم المرء ترتبت عليه حقوق وواجبات سواء كان مخلصاً في إسلامه أو منافقا، فإن قصر في آداء هذه الحقوق أو تراخى عوقب على تقصيره وأجبر على الأداء، وكان عقابه إجباره بوصف أنه مسلم حتى لو وصل هذا العقاب إلى إهدار دمه في حد من الحدود الموجبة للقتل فهو يقتل بوصف أنة مسلم محدود ولا يخرجه عن القتل حداً عن الإسلام إلا أن يرتد بكفر صريح. ومتى كان ذلك كذلك فليست بنا حاجة إلى القول بكفر من أخل بحق   1 الحجرات آية:14 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 من حقوق لا إله إلا الله ما دام لا زال على إقراره بها مخلصا كان في إقراره أو منافقاً فهو مؤاخذ على إخلاله في الدنيا بما شرع الله من عقاب له يوصف أنه مسلم وحسابه على الله. ذلك جملة ما أراه في هذه المسألة التي كانت من أهم مسائل الخلاف بين محمد بن عبد الوهاب ومخالفيه ولا زالت إلى اليوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الفصل الثالث: الجهاد في سبيل الله كركن من أركان العقيدة لما كان الإسلام عقيدة وشريعة تهدف إلى إقامة المجتمع الإنساني علي أسس وقواعد تخالف ما تواضع الناس عليه. وكان هذا الخلاف جذريا وعميقا عميق المسافة بين وحي السماء المنزل من عند الله وشرائع البشر القائمة على المصالح الآنية المبنية على الغرائز والأهواء، فقد استقبلت المجتمعات الأرضية شريعة الإسلام بالحرب والتصدي لإطفاء نور الله من أول يوم، ولم يكد مجتمع مكة الجاهلي يلقي السمع إلى الذكر الحكيم المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ويستوعب أبعاد المعاني المقدسة التي تحملها آياته حتى أيقن أن انتصار هذه الدعوة يعني تصحيح الأوضاع فيما يتعلق بصلة الناس بربهم وصلة الناس ببعضهم بما من شأنه تجريد الرؤساء من رياستهم ورفع هامة العبيد والمسترقين أمام ساداتهم ومساواة الكافة أمام الله رب العالمين. وسارع مجتمع الكفر يسد الطريق على مجتمع الإيمان بتعذيب الضعفاء من المؤمنين إلى حد الموت، ويمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشهد المعذبين من آل ياسر الذين قدموا أول شهيدة في الإسلام: سمية أم عمار، فيناديهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة. ولكن الصبر لم يكن أبداً موقفاً أبدياً في مسيرة الدعاة إلى الخير، بل هو موقف مرهون في ميزان الإسلام بعاملين: (1) اختبار معادن المؤمنين للتأكد من قدرتهم على حمل الأمانة: {أَحَسِبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} 1 (1) وصول مجتمع الإيمان إلى الحد الأدنى من العدد والعدة التي تتيح له أن يتصدى للدفاع عن عقيدته. وحالما تحقق للمجتمع الإسلامي الأول استيفاء هذين العاملين أذن من الله بالتصدي لأعدائه {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّه} 2وانطلاقاً من هذا الإذن الرباني كان الجهاد في سبيل الله. ومنزلة الجهاد في الإسلام لا تحتاج إلى مزيد بيان فقد لقي من عناية المجاهدين بالقول والعمل ما جعله في وضوح الشمس في رابعة النهار وحسبنا أن نتأمل حكم الجهاد المنصوص علية في سورة براءة {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} 3وقولة تعالى فى سورة النساء: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه} .إلى قولة تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيما} 4 وقوله تعالى في سورة الحج: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} 5. ولم ينكر أحد من المسلمين فضل الجهاد، وإنما وردت المفاضلة بين جهاد النفس وجهاد العدو أيهما أولى وأعظم درجة فذهب المتصوفة والزهاد إلى المغالاة في رفع مرتبة جهاد النفس دون أن يلقوا كبير وزن لجهاد العدو، حتى اقتحم التتار بغداد وهي تغص بالزوايا والأربطة والخلوات الملأى بمن شغلهم التذرع بجهاد النفس عن جهاد العدو فلم يغن عنهم جهادهم أمام سيوف التتار شيئا   (1) سورة العنكبوت آية 2،3 (2) سورة الحج آية 39 (3) سورة التوبة: آية: 19 (4) سورة النساء آية 95 (5) سورة الحج آية 78 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وحصدهم الموت مع مئات الألوف غيرهم من المسلمين الذين فرطوا في الاستعداد لجهاد العدو ورد كيده. ومنذ سقوط بغداد في يد التتار سادت العالم الإسلامي روح القعود عن الجهاد والإعداد له باستثناء انتفاضة المماليك في مصر بقيادة قطز لرد عادية التتار إلى أن قامت الخلافة العثمانية وسجلت في أعمال المجاهدين فتح القسطنطينية. وقد ظهر محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية وهي على ما قدمنا في حينة متفانية في العدوان علي بعضها بعضا بتأثير ما سادها من روح قبلية أعادتها القهقرى إلى عصبية الجاهلية الأولى وما أن استطاع تكوين نواة مجتمع إسلامي يرتفع برابطة العقيدة فوق رابطة القبيلة حتى واجهنه القبائل بالحرب والإنكار، وكان علية أن يقول كلمته في مواجهته ذلك: أهو مجرد داع إلى الحق يواجه المعتدين على خده الأيمن بأن يدير لهم خده الأيسر؟ أم هو داع إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وعرفه بأن ذروة سنامه الجهاد في سبيل الله؟ 1 لم يتردد محمد بن عبد الوهاب في اختيار طريقه:"فأمر الشيخ بالجهاد لمن عادى أهل التوحيد وسبه وسب أهله"2. كان بدء أمره بالجهاد عام1175 هـ وجماعته يعد في دور التكوين لم تكتمل لهم عدة خروب ولا فن قتال حتى أن" أول جيش غزا سبع ركايب، فلما ركبوها وأعجبت بهم النجايب في سيرها سقطوا من أكوارها"3 ولئن دل هذا الإعجال إلى الجهاد في سبيل الله على شئ فهو يدل على صدق التوكل عليه تعالى، والثقة بنصره، ولا يدل على تواكل عن الأخذ بالأسباب إذ سرعان ما عملت الدولة السعودية الأولى بقيادة محمد بن عبد الوهاب وتوجيه على استكمال عدة الجهاد وما استطاعت إلى ذلك سبيلاً فاستطاعت أن تصمد أمام   (1) … الحديث رواه الشيخان. (2) ابن بشر. الحديث رواه الشيخان. (3) المرجع السابق ص 26،27 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 غزو أهل العراق تارة وأهل مصر أخرى مع قلة مصادر القوة فى الجزيرة وقد كان الاعداد للجهاد والتقديم والتأخير بيده"فلا يركب جيش ولا يصدر رأي من محمد بن سعود ولا من ابنه عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه".1 ومع الأمر العملي بالجهاد والحض عليه والإعداد له حرض محمد بن عبد الوهاب على تفقيه أتباه وتعريفهم الجهاد ومنزلته ومراتبه وما أعد الله من الأجر والثواب للمجاهدين الصادقين بحيث ترك لنا في هذا المجال زادا موفورا. فهو يقرر ما قرره علماء السلف من أن الجهاد فريضة ماضية إلى يوم القيامة فيقول:" وأرى أن الجهاد ماض مع كل إمام برا كان أو فاجرا.. والجهاد منذ بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل هذه الأمة الدجال2". وسنده في تقرير وجوب الجهاد ما ورد به أمر الله وما جرت به سنه رسوله صلى الله عليه وسلم من اعتبار تمام الإيمان"وذلك أني لا أعرف شيئاً يتقرب به إلى الله أعظم من لزوم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال الغربة. فإن انضاف إلى ذلك الجهاد عليها للكفار تمام الإيمان ومن أفضل الجهاد جهاد المنافقين في زمن الغربة3 كما يصف موقفه من الجهاد بأنة يلتزم فيه النقل والعقل: "وما جئنا بشيء يخالف النقل وينكره العقل".4 وهو يضع الجهاد في موضعه الصحيح أنه ليس مجرد كبح لأهواء النفس لمجرد المعاناة والحرمان، إنما هو إعداد لها لتقوى على مهام جهاد العدو ورد كيده. ويضع الهجرة كذلك في موضعها الصحيح _ إنها ليست مجرد انسحاب   1 ابن غنام. تاريخ نجد ص 83،84 2 الدرر السنية جـ 1 ص: 30، ج 7 ص: 195 3 ابن غنام تاريخ نجد 383 – 384 وايضا. الدرر السنية ج 7 ص 3 4 المرجع السابق ج 1 ص 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 من مكان إلى مكان ابتغاء السلامة وطلب الأمان، بل هي مقدمة للانحياز إلي مجتمع المؤمنين ليزداد هذا المجتمع بالمهاجرين قوة ومنعه وعزما على الجهاد إلا بالهجرة، ولا هجرة إلا بالإيمان. والراجون رحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة".1 ويستشهد بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. ولا يرى صلاحا للحياة غلا بالجهاد فهو عنده:" سبب لبقاء الأنفس والأموال3 "، كما أن تركه:" سبب لعذاب الأنفس وذهاب الأموال". وقد كانت دعوة محمد بن عبد الوهاب إلى إحياء الجهاد في سبيل الله باعتباره ركنا من أركان العقيدة، وامتثال أنصاره لهذه الدعوة مدعاة لنعتها من قبل خصومها:4بأنها سعت إلى تحقيق أغراضها بعنف واعتمدت على القوة العسكرية وحدها "5.وهي ذات الدعوى التي أرجفت به أعداد للإسلام قديما وحديثا وبالغ في الارجاف بها المستشرقون ومن دار في فلكهم اتهاما للإسلام بأنه اعتمد في انتشاره على السيف، وانتهزوا فرصة الحروب الوهابية ليعودوا إلى مقولتهم زاعمين أن حركة محمد بن عبد الوهاب:" دفعت بالأمة العربية المفطورة على الحرب إلى خوض غمار القتال"6. والحق الذي يشهد التاريخ له وتنطق به النصوص أن الإسلام جاء يخاطب العقول والإفهام بالحجة والدليل والبرهان. وإن خصومه لما افتقدوا إلى المنطق القادر على مواجهة منطق الإسلام وحججه لجأوا إلى إيذاء المسلمين وفتنتهم عن دينهم وأمر الله عبادة المسلمين أن يتصدوا لدفع العدوان {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ   (1) الدرر السنية ج 1 ص 112 (2) _ (3) الدرر السنية: ج 1 ص 101، 102 (4) د محمد ضياء الدين الريس، تاريخ الشرق العربي والخلافة العثمانية ج 1 ص 103 (5) جولد تسيهر العقيدة والشريعة في الإسلام ص 237 (6) جدولد تسيهر، العقيدة والشريعة في الإسلام ص 237 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 1 أي حتى يمتنع على المعاندين فتنة الراغبين في الدخول في دين الله، وحتى يصبح الطريق مفتوحاً ليختار الإنسان العقيدة التي يرضاها بدون إجبار {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 2. ولم تخرج الدعوة الوهابية عن هذا المنهج قيد شعرة فلم يكن جهاد محمد بن عبد الوهاب واتباعه إلا لرد عادية المعتدين عليهم الراغبين في فتنتهم عن دينهم وفي ذلك يقول: وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلا دون النفس والحرمة فإنا تقاتل على سبيل المقابلة"3ويستشهد بقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 4. ويتفرع عن وجوب جهاد العدو وجوب معرفته فإن معرفة العدو هي المقدمة الصحيحة لكمال التصدي له وعدم الوقوع في شركه. وفي سبيل توفير هذه المعرفة أفاض الشيخ في تبيان معالم أهل الحق الذين تجب مقاومتهم والحذر منهم وعدم موالاتهم مهما كانت قوتهم وضعف المسلمين، ويؤكد على صدق الإيمان مرهون بعداوة أهل الباطل فيقول: " إن الإنسان لا يستقيم له دين ولا إسلام ولو وحد الله وترك الشرك إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء "5ويستشهد بالآية الكريمة: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} 6. ولعله مما يؤكد صدق التزام أبن عبد الوهاب بإقامة فريضة الجهاد كما أرادها الله دفعا لعدوان المعتدين وتحريراً لإرادة الإنسان من سلطان الطواغيت.   (1) سورة البقرة آية: 193 (2) سورة البقرة آية: 256 (3) الدرر السنية ج 1 ص 56 (4) سورة الشورى آية: 40 (5) الدرر السنية ج 7 ص 53 (6) المجادلة آية 22 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أن أحدا من هدمة على كثرتهم لم ينسب إليه أن اغتنم هذا الجهاد غنائم لنفسه وولده، ولم يبتغ به علوا في الأرض ولا فساد بدليل أن من كان يأتيه من خصومه مؤمنا بالله ورسوله بعد شدة العداوة له لم يكد يجد منه إلا الصفح والعفو" ولم يكن أحب إليه من أن يأتيه أحدهم المعذرة فيبادره المغفرة ولم يعامل أحدا بالإساءة بعد أن غلب وظهر "1 ولو أن خصومة كما يقول ابن غنام "لو مكنهم الله منه لقطعوا أوصاله وأوقعوا به أقبح المثلة والنكال"2 ومسلك ابن عبد الوهاب حيال خصومة على هذا النحو هو التطبيق السليم لمضمون الجهاد في الإسلام فالمجاهد في سبيل الله يمتلئ عداوة للكافرين وغلظة عملا بقوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 3ولكن مع هذا العداء والغلظة جندي عقيدة لا يحارب لمغنم أو جاه فحالما يلتقى معه عدوة في رحاب العقيدة يلبس له لباس الود الصادق والمؤاخاة الكاملة {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} 4وبهذا يتفرد الجهاد في سبيل الله عن الصراع المادي المرير الذي تقود إليه الأطماع والرغبة في امتلاك أوطان الغير واستعمارها فالمستعمرون يستولون على الأرض لاسترقاق أصحابها والمجاهدون يفتحون البلاد لخير العباد وهاهي آثار الاستعمار الصليبي في جنوب أفريقيا وروديسيا فرغم أن أهل البلاد الأصليين اعتنق غالبهم المسيحية فإن المستعمرين يعاملونهم بأبشع ألوان التفرقة العنصرية. وصفوة القول أن محمد بن عبد الوهاب أحيا قاعدة الإسلام المثلى في إقامة المجتمع الإنساني على العقيدة ن وحقق في مجتمعه مفهوم الأخوة الإيمانية وواجه بهذا المجتمع المسلم على قلة أسبابه عدوان المعتدين بعقيدة الجهاد في سبيل الله فأثبت أنها عقيدة في الإسلام وركن من أركانه وأنها   (1) أبن غنام تاريخ نجد ص 83 (2) المرجع السابق (3) سورة التوبة آية:73 (4) سورة التوبة آية 11 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 فريضة ماضية إلى يوم القيامة. وإن أساس الجهاد دفع الفتنة عن المسلم حتى يكون الدين لله. وإن الجهاد في سبيله يلتزم معرفة العدو لإمكان مجاهدته والصبر على قتاله، وأن عداوة أهل الحق لأهل الباطل لا يبتغون بها جلب منافع لأشخاصهم أو الاستعلاء في الأرض بل تيسير طريق الهداية للضالين فإن اهتدوا أصبحوا إخوانا في الدين لجماعة المؤمنين لهم مالهم وعليهم ما عليهم فليس جهاد المسلم للعلو والفساد في الأرض بل للأغراض التي حددها الله تعالى لعبادة: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} 1   (1) سورة الحج. آية 41 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الباب السادس: آثاره في الفكر والسياسة مدخل ... الباب السادس: آثارهُ في الفكر والسياسة الفصل الأول: أثره في الفكر الإسلامي الفصل الثاني: أثرة في السياسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الباب الثالث: آثاره في الفكر والسياسة استبان لنا من دراسة فكر محمد بن عبد الوهاب ومنهجه، من القضايا التي أثارها واحتدم الجدل حولها بين خصومه وأنصاره أنه واحد من القلائل الذين جددوا الفكر الإسلامي وأضافوا برهانا جديدا على ثراء هذا الفكر وقدرته على العطاء المستمر المتجدد. وبمنطق أنصاره وخصومه على السواء يعترف له بالأثر العظيم الذي تركه في الفكر الإسلامي، إيجابيا كان هذا الأثر في تقدير أنصاره أو سلبياً في حسبان خصومة. ومتى كان هذا الأثر ملحوظاً من حيث المبدأ فمن واجبنا أن نعرض له لنسبر غوره ونستطلع قدر الإمكان مداه. ولما كانت دعوة محمد بن عبد الوهاب تقوم علي الإسلام بوصفة عقيدة شاملة تنظم الدين والدنيا، فقد استوعبت هذه الدعوة أصول الدين في نفس الوقت الذي اهتمت فيه بشؤون السياسة، ب‘تبار الدين والسياسة معا من صميم موضوعات الإسلام، إذ أن السياسة في ميزاته: مسؤولية الراعي عن رعيته وطاعة الرعية للراعي. وقد شرع الإسلام لضبط هذه المسؤولية وتحديدها وترشيد هذه الطاعة وبيان أساسها ما يعد منهجا فريدا حجته غاشية الجهل والاستبداد في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) .وكان لابن عبد الوهاب فضل إزاحة ستار النسيان عن هذا المنهج ووضعه مره أخرى موضع التطبيق. ولهذا كان علينا أن نعرض لأثره في الفكر ثم لأثره في السياسة التي لم تكن إلا ترجماناً لهذا الفكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الفصل الأول: أثره في الفكر الإسلامي أول ما يطالعنا من أثر لابن عبد الوهاب في الفكر الإسلامي أنه: جدد المعنى الشمولي للإسلام باعتباره عقيدة تعالج سائر جوانب علاقة الإنسان بالله تعالى ثم بالكون والحياة. هذه العلاقة التي تدور حول محور أساسي هو: توحيد الله تعالى في ربوبيته والهيته، وهو التوحيد الذي يستلزم طاعة الله بالتزام آمرة واجتناب نهيه، إن المدار في معرفة الأمر والنهي علي تبليغ الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم عن ربه، وإنه ما من أمر يتوقف عليه صلاح حال المسلم في علاقته بربه ثم بالناس إلا ودل الرسول عليه، أن من أحدث في هذا الأمر ما ليس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو رد. وبهذا المعني الشمولي تتميز دعوة محمد بن عبد الوهاب عن كل دعوة اجترأت جانبا من جوانب الإسلام واكتفت به عن غيره سواء كان هذا الجانب متعلقا بصلاح النفس البشرية وكبح أهوائها وشهواتها مما كان مجالاً لاهتمام العباد والزهاد والمتصوفين، أم كان متعلقاً بحماية أرض الإسلام ومقدسا ته مما كان مجالا لاهتمام بعض العلماء أيام الحروب الصليبية والتترية وحتى الغزو الاستعماري الحديث. ويتجلى هذا الأثر الشمولي لدعوة محمد بن عبد الوهاب في ضراوة المعارك التي ووجهت بها من خصومها، فقد تعدد هؤلاء الخصوم بتعدد أغراض الدعوة التي شملت مساحة الفكر الإسلامي كله خصوصاً وقد جاءت هذه الدعوة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فترة بلغ فيها المسلمين أقصى مداه حتى أصبحوا بين عوامل البدع والخرافات التي تخرب جبهتهم الداخلية، وعوامل الغزو الاستعماري المتربص." فواجهت الحركة الوهابية ثقل الكفاح على مقاومة الضعف الداخلي، وهو ضعف يستند علي تعاليم الباطنية وانحراف فريق من المتصوفة، ومع ذلك لم تغفل هذه الحركة مقاومة الهجوم الخارجي الذي بدت طلائعه في ضعف الخلافة العثمانية تحت الضغط السياسي الروسي القيصري المسيحي والإنجليزي والأوربي بوجه عام"1 وإذ قامت دعوة محمد بن عبد الوهاب على أساس طبيعة الإسلام الشمولية، والتي تخاطب الإنسان إلى آخر الزمان فقد عملت الدعوة علي تجديد الفكر الإسلامي ليكون وافيا لوصف الشمول الممتد إلى يوم القيامة. ومن هنا أحيت سنة الاجتهاد ودافعت عن مشروعيته واستمراره ولزومه، ونددت بالجمود والتقليد، وحث العلماء علي الالتزام برسالتهم برد ما اختلفوا فيه إلى الله ورسوله، وأنه لا قول لقائل مع وجود النص القطعي في حجيته ودلالته، فإذا لم يكن ثمة نص قطعي على هذا النحو فلاجتهاد واجب في كل مسألة مختلف فيها وليس لعالم معين أن يقيد العقول والأفهام في المسائل الخلافية، وعلى هذا فليس لمذهب في ذاته قداسة تمنع الناس من تجاوزه والأخذ بغير ما ورد به. ومن هذه الزاوية كان لدعوته أثرها الفذ في تحرير العقول من أسر التقليد، وفي وضع المذاهب الفكرية في حجمها الإنساني باعتبارها فكرا بشريا يخطئ ويصيب وأن كل مذهب علي حدة لا يمكن أن يدعي احتكار الحقيقة، بل ولا أي عدد من المذاهب يسمو في اتفاق علي رأي إلى مرتبة الإجماع بما في ذلك المذاهب الأربعة عند أهل السنة فالإجماع لا يكون كذلك إلا بإجماع سائر علماء الأمة"فكل مستوف لأدوات الاجتهاد له الحق في أن يجتهد بل عليه أن يفعل ذلك " 2. ما لم يكن هناك نص قطعي أو إجماع من سائر علماء الأمة.   (1) د. محمد البهي. الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي. ص 75، 76 (2) أحمد أمين. زعماء الإصلاح. ص 10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ولا نستطيع أن ندرك عظم هذا الأثر إلا إذا استحضرنا في أذهاننا إلي أي حد شهدت القرون المتأخرة تحكم المذاهب في اتباعها واستسلام العقول لمقررات المذاهب باعتبارها فوق البحث والمناقشة" حتى فشت فاشية التعصب المذهبي فوجدنا من يقولون بوجوب تقليد إمام من الأئمة فإذا ما قلده وجب عليه ألا يتحول عن أحكام مذهبة لا في كثير ولا في قليل1 ".وهو ما عرضنا له في الباب الثاني. ولعله مما يستلفت الانتباه أنه ما من عالم أو مفكر من علماء الإسلام في القرن الثامن عشر ميلادي وما سبقه رضي للنفسه أو رضي له محبوه أن يذكر مجردا من انتمائه المذهبي. فيقال: فلان.. المالكي أو الشافعي أو الحنبلي. ودلالة ذلك واضحة: أنها تدل على قداسة المذاهب حتى غدا دينا يتسمى به أتباعه..حتى جاء محمد بن عبد الوهاب فجرد المذاهب من هذه القداسة المدعاة لها، ومنذ ظهرت دعوته بدء علماء يحررون أسمائهم ونسبتهم من ذكر المذاهب، فأصبح الباحث يجد بين يديه الكثير من المفكرين الذين لا يعتبرون هذا الانتساب مما يتعين إظهاره والتعريف به. ثم بدأ العلماء يحررون أفكارهم من التقيد بمذهب واحد "2.   (1) محمد أحمد فرج السنهوري، أحكام الوصية الواجبة، محاضرات بالدراسات العليا بحقوق القاهرة عام 1972. ص61 (2) كان التقيد بالمذهب قد أصبح طابع الدولة العثمانية تأخذ الولاة والقضاة به، وأصدر السلطان العثماني أوامره باعتبار المذهب الحنفي مذهب الدولة، وصدر تقنين للأحكام وفق هذا المذهب سمي باسم: مرشد الحيران. ولما صدرت في مصر لائحة ترتيب المحاكم الشرعية نص فيها على الالتزام بالراجح من مذهب أبي حنيفة. ولم يكن أحد الفقهاء يجرؤ على علاج موضوع إلا من خلال هذا المذهب. وعندما دعت الحاجة إلى وضع قانون الوصية عام 1946مـ تبين للجنة المشكلة من علماء الأزهر وأعضاء مجلس البرلمان أن المذهب الحنفي وسائر المذاهب الأربعة لأهل السنة ليس في مصنفاتها ما يسد الحاجة في خصوص الوصية الواجبة لأهل الميت من غير ورثته الشرعيين والمنصوص عليها بأية الوصية في سورة البقرة وهي قوله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ان ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين) وتحت ضغط الحاجة رأت اللجنة أن تأخذ بغير ما ورد في المذاهب الأربعة بل وأن تأخذ بما ورد في فقه الشيعة والخوارج توصلا لتقرير وصية واجبة لأبناء المتوفى الذين توفى أبوهم في حياة جدهم، وكان إجماع المذاهب= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وعرفانا بهذا الأثر الملحوظ لمحمد بن عبد الوهاب في تحرير العقول من أغلال التقليد وصف بأنه من زعماء الإصلاح1.وبأنه من المجددين في الإسلام 2. بل يرى كثير من الباحثين أن دعوته هي البداية غلي يقظة العالم حديثا3. وأنها بتقريرها وجوب الرجوع إلى مذهب السلف تقريرها مبدأ الاجتهاد حققت نهضة أخلاقية شاملة ووثبة روحية جريئة ودعوة إلى الحق والإصلاح"أيقظت العقول الراقدة وحركت المشاعر الخامدة ودعت إلى إعادة النظر في الدين لتصفية العقيدة وتحرير الإيمان وتطهير العقول من الخرافات والأوهام4 مما كان له أثره في إشعال جذوة الفكر "فتبدت تباشير صبح الإصلاح ثم بدأت اليقظة الكبرى في عالم الإسلام5. وشأن كل فكر رائد في الإصلاح لا يدرك أثره الحسن إلا بعد حين، فقد كان رد الفعل العاجل والتلقائي لدى بعض العلماء الذين استهولوا فتح باب الاجهاد أن اتهموا محمد بن عبد الوهاب بأنه يحدث في الدين مذهبا خامساً غير المذاهب الأربعة، ومجرد اتهام الشيخ بأنه أحدث مذهبا خامسا مبتدعا دليل على مدى ما لدعوته من أثر في تحريك العقول فراح البعض يقابلها بالإنكار   =الأربعة على حرمانهم، واعترض بعض العلماء مخالفة إجماع المذاهب الأربعة. وانتصر الرأي القائل بجواز الاجتهاد بعيدا عن إجماع المذاهب الأربعة، وأن إجماعها ليس الإجماع الشرعي المانع من الاجتهاد. انظر: محمد أحمد فرج السنهوري. الوصية الواجبة. المرجع السابق. د/زكريا البري. الوصية للأقربين. محاضرات للدراسات العليا ص 19. وأيضا: المذكرة التفسيرية للقانون الصادر برقم 7/1لسنة 46 بشأن أحكام الوصية. والأعمال التحضيرية لقانون مجلس النواب والشيوخ. وفي رأينا أنه لم يكن ممكنا الأخذ بهذا الرأي في ظل الجمود المذهبي الذي سبق إلى تحطيمه محمد بن عبد الوهاب. (1) أحمد أمين. زعماء الإصلاح ص 10 (2) عبد المتعال الصعيدي. المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى القرن الرابع عشر ص 1441 وأيضا الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي الأزهر في ألف عام. ص 3 (3) د/محمد عبد الله ماضي، النهضات الحديثة في جزيرة العرب. ص: 39 (4) د. محمد ضياء الدين الريس. تاريخ الشرق العربي والخلافة العثمانية ص 104 (5) لوثروب ستودارد..حاضر العالم الإسلامي. تعريب حجاج نويهض ص 34 وأيضا هـ أل. فيشر. تاريخ أوربا في العصر الحديث. تعريب أحمد نجيب هاشم ووديع الضبع. ص 60،59 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وغيرهم يقابلها بالاستحسان _ وكل يعمل على شاكلته _ وكانت المحصلة النهائية لمعارضة الدعوة الوهابية إثراء الفكر بالعديد من الكتب فتحركت العقول الجامدة للرد والجدل ورجعوا إلى أمهات الكتب للبحث عن الأدلة والحجج ومن بين هذه المؤلفات التي ألفها خصوم دعوة محمد بن عبد الوهاب نذكر علي سبيل المثال: كتاب: إظهار العقوق فر الرد على من منع التوسل إلى الله بالنبي والولي الصدوق تأليف أبي عبد الله سيدي محمد بن مصطفى الحسني. وبهامشه رسالة لمحمد الطيب في الرد علي بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية وهي من أقدم ما كتب في هذا الصدد وكتاب: الصواعق الإلهية في الرد علي الوهابية لسليمان بن عبد الوهاب1.وهناك عشرات من الكتب غير ذلك تم تأليفها في هذا الصدد وهي إن دلت على شئ فإنها تدل على ظاهرة صحية: هي البحث والجد والتنقيب مما يحرك العقول والإفهام. غير أن معارضي دعوة بن عبد الوهاب عجزوا عن التصدي لتأثيرها المتزايد عبر الزمان والمكان، فلئن كانت دعوه سلفية سابقة هي دعوه بن تيميه قد أرهقتها المعارضة التي واجهتها" فلم يحرز بن تيميه نجاحا حتى مات في السجن عام 1328مـ 2فإن دعوة بن عبد الوهاب قد تفوقت على عوامل القهر والتصدي رغم كثرتها فتتابع تأثيرها في كل حركة فكرية إسلامية تلتها إذ "أن كل حركات الإصلاح التي ظهرت في الشرق في القرن التاسع عشر كانت مدينة للدعوة الوهابية 3. وإذا كانت الدعوة الوهابية بإحيائها سنة الاجتهاد وتقريرها عدم التقيد إلا بالكتاب والسنة قد أرست أمتن الأسس لمنهج فكري متحرر من الخرافة والتقليد فإنها بإحيائها سنة الجهاد وقد وفرت لهذا المنهج عوامل الحركة والانتشار   (1) وكتب أخرىكثيرة نذكر منها: الوهابية المهزومة تأليف محمد البكري أبو حراز، كتاب سعادة الدارين للشيخ إبراهيم السنودي، رسالة المنحة الإلهية في الرد على مزاعم الطائفة الوهابية لسليم الكيلاني الشهير بالإسكندراني، كتاب فيض الوهاب في بيان أهل الحق ومن ضل علي الصواب للشيخ عبد ربه بن سليمان بن محمد الشهير بالقليوبي. وكذلك كتاب الرد المحكم المتين لأبي الفضل عبد الله محمد الصديق. (2) جولد تسهير. العقيدة والشريعة في الإسلام. ص:236 (3) د. محمد ضياء الدين الريس تاريخ الشرق العربي والخلافة العثمانية. ص 104 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 بحيث يمكننا القول أن الدعوة الوهابية حققت تأثيرا بتأكيدها على هاتين الدعامتين: الاجتهاد طريقا لتحرير العقول من الأوهام، الجهاد طريقا لتذليل كل عقبة تواجه الحركة. وقد رأينا لدى معالجة موضوعات الباب الخامس أن الجهاد في مفهوم دعوة محمد بن عبد الوهاب وتطبيقه كان طريقا متعينا لدفع العدوان ولم يكن ذريعة للاعتداء على الآخرين. ورغم ذلك فقد كان لأخذه بسنة الجهاد أثرة في إثارة حنق الكثيرين عليه واتهام دعوته:" بأنها سعت إلى تحقيق أغراضها واعتمدت على القوة العسكرية وحدها "1وحاول البعض أن يلتمس العذر للدعوة الوهابية في العنف الذي نسبوه إليها بقولهم"كان الجو الذي نبتت فيه الدعوة محكوما بتيارات العصبية التي كانت تسود بلاد نجد بصفة خاصة والجزيرة العربية بصفة عامة.2 والحق أن هذا التعليل إن ساغ سوقه تبريرا للحروب التي خاضها اتباع محمد بن عبد الوهاب داخل نجد في مواجهة القبائل المحيطة بالدرعية فهو تعليل غير سائغ في شأن الحروب التي شنها السلطان العثماني على الدعوة على يد والي بغداد تارة وعلى والي مصر تارة أخرى إذ لم يكن الوهابيون حيال هذه الحروب إلا مدافعين عن وجودهم وحرية اعتقادهم ومهما يكن من أمر فإن إحياء الدعوة الوهابية لسنة الجهاد والانتقاد الذي ووجهت به في شأن حروبها وغزواتها قد أتاح للفكر الإسلامي أن يواجه قضية طال تناسيها وهي قضية الجهاد من حيث مشروعيته ولزومه واستمراره والأساس الذي يقوم عليه. وقد كان العالم الإسلامي في أمس الحاجة إلي استرجاع روح الجهاد والاستشهاد في مواجهة الغزو الصليبي الذي أحاط به من كل جانب. ولذلك كان اهتمام المجاهدين والمناضلين الذين قادوا مقاومة العالم الإسلامي للغزو الأوربي بالحركة الوهابية اهتماما عظيما وكان تأثيرها عليهم ملحوظا مما دعا بعض الباحثين ممن اهتموا بدراسة صورة مقاومة العالم الإسلامي للاستعمار الغربي إلي ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحركته باعتبارها أصلا جذريا للفكر الإسلامي الذي قاوم الاستعمار الغربي وتعددت صوره وحلقاته.   (1) د محمد ضياء الدين الريس. المرجع السابق. ص 103 (2) عبد الكريم الخطيب الدعوة الوهابية محمد بن عبد الوهاب. ص /74 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 مهما بدا في هذه الصور من اختلاف في الجزئيات.1 ولم يكن متصورا أن تقوم في الجزيرة العربية حركة إسلامية لها من العمق والشمول ما لحركة محمد بن عبد الوهاب، ثم تبقى قاصرة عن التأثير العميق في الفكر الإسلامي منهجا وحركة على امتداد العالم الإسلامي مع ما هو مسلم به من الكافة من أنه " ليس من دين في الدنيا جامع لأبنائه بعضهم مع بعض موحد لشعورهم دافع بهم نحو الجامعة العامة والاستمساك بعروتها كدين الإسلام فضلا عن أن الجزيرة العربية مهبط الوحي ومهبط أفئدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وإليها تسعي وفود الحجيج من كل فج لحج بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام الخمسة وثاني قاعدتين أساسيتين تقوم عليهما الوحدة الإسلامية إذ أن الوحدة الإسلامية قائمة علي ركنين هما أساساها ولا ثالث لهما: الحج إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة والخلافة "2. فإذا علمنا أن الدولة السعودية الأولى القائمة علي أساس دعوة محمد بن عبد الوهاب قد تمكنت من بسط سيطرتها على الحجاز منذ شهر المحرم من عام 1218هـ بدخول سعود بن العزيز بن محمد بن سعود إلى مكة المكرمة حيث عمل على نشر العقيدة الصحيحة وتنقية الأماكن المقدسة من كل مظاهر الشرك وجمع المسلمين على إمام واحد في الصلاة حول الكعبة المشرفة3 وقد ظلت الأماكن المقدسة في يد أنصار الدعوة الوهابية بعد ذلك _خلال مدة وجيزة _ ظهر فيها على هذه الأماكن محمد على باشا الكبير مما يؤكد أن مواسم الحج كانت ميدانا لنشر الدعوة الوهابية وشرح مبادئها لوفود الحجاج القادمين من كل بلاد العالم الإسلامي، ومن ثم عودتهم إلى بلادهم متأثرين بهذه الدعوة على نحو أو أخر، الأمر الذي وسع نطاق الدعوة حتى بلغت دور النهضة الإسلامية   (1) د. محمد البهي. الفكر الإسلامي الحديث وصلتة بالاستعمار العربي. ص 76 (2) هـ ا. ل. فيشر. تاريخ أوربا في العصر الحديث. تعريب أحمد نجيب هاشم ووديع الضبع. ص 62 وأيضا هانوتو. مقال حول العالم الإسلامي في نظر الغرب. نقلا عن د. محمد البهي الفكر الإسلامي الحديث. ص 28 (3) هـ. أل فيشر تاريخ أوربا في العصر الحديث. تعريب أحمد نجيب ووديع الضبع ص 69 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الشاملة1. والممتدة بآثارها عبر المكان وعلى امتداد الزمان. أما امتدادها عبر المكان فقد ذكر أكثر من باحث أن الزعيم الهندي المسلم السيد أحمد الذي قاد كفاح مسلمي البنجاب ضد الغزو الاستعماري الإنجليزي كان يحمل بين جنبيه عقيدة محمد بن عبد الوهاب حتى وصفة بعضهم قائلاً " فقام في شمال الهند الزعيم الوهابي المسلم السيد أحمد مستفزاً مسلمي البنجاب وأنشأ دولة وهابية2وهذه الحركة الإسلامية بين مسلمي الهند وصفت بقوة أثرها وجزيل نفعها، وقد دونت أخبارها في سفر وضعة، مولوي إسماعيل الدهلوي الذي كان صديقا وفيا للسيد أحمد وعنوانه " تنويه الإيمان"وفيه يكافح المؤلف في همة وغيرة كل صفوف الشرك ويهب بالمسلمين أن يعتصموا بالتوحيد الصحيح. كما أن أثر الدعوة الوهابية في آسيا لم يقتصر على القارة الهندية بل تجاوزها إلى جاوا وأقصى جزر الهند الشرقية التي عرفت بإندونيسيا فقد عاد بعض حجاج هذه البلاد إلى أوطانهم يحملون تأثيرا عميقا بالحركة الوهابية ومنذ عودتهم إلى وطنهم في سو مطره عام 1803م بدأوا في نشر الإسلام بين مواطنيهم "ثم أخذوا في التشدد في التوحيد الذي تقول به الطائفة الوهابية"3 وكانت لهم مواقفهم الثابتة فى مواقفهم الثابتة في جهاد الاستعمار الهولندي. وفي أفريقيا كان للدعوة الوهابية أثر كبير في نشاط الحركات الإسلامية. فحركة السنوسي شمال أفريقية اتسم صاحبها بالميل " إلى بعض المبادئ الوهابية "4 أما أعماق القارة الأفريقية فقد قاد الداعية المجاهد   (1) ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد مع تعليق المحقق ص 163. (2) هـ أل فيشر |. تاريخ أوربا في العصر الحديث. تعريب أحمد نجيب هاشم ص: 38 جولد تسيهر. العقيدة والشريعة. ص 83 عباس محمود العقاد، الإسلام في القرن العشرين. ص: 69وأيضا أحمد عبد الغفور عطار، محمد بن عبد الوهاب، ص:208 (3) سير. ت. أر نولد الدعوة إلى الإسلام. ت.حسن إبراهيم حسن، عبد المجيد عابدين إسماعيل النحراوي. ص 312 (4) ل. ستودارد. حاضر العالم الإسلامي. ج 2 ص:398 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 المسلم عثمان دنفديو حركة إسلامية حاربت البدع والخرافات ووحدت سائر القبائل في مساحات شاسعة من أواسط القارة واستطاع بالأفكار التي تلقاها من الفكر الوهابي لدي حجة بمكة المكرمة أن يغير وجه الحياة لشعبه ولمن دخل الإسلام من الوثنين فكانوا مثلا رائعا في حسن الخلق والمعاملة الطيبة وتوارث خلف"عثمان دنفديو" الدعوى الإسلامية حتى انتهي الأمر إلى الرئيس أحمد وبلو"1 كما أن حركة الزعيم السوداني محمد أحمد المهدي لم تخل من تأثر بالحركة الوهابية. ومهما قيل عن الطابع الاستقلالي لهذه الحركة وغيرها، مما قد يفسر بأنها تعود في نشأتها إلى الظروف المحيطة بكل حركة، إلا أن قرب عهدها وتعاصرها مع انتصار الحركة الوهابية2وذيوع أمرها يرجح تأثر هذه الحركات بدعوة محمد بن عبد الوهاب، خصوصا إذا علمنا بأن كافة الحركات الإسلامية التي أشرنا إليها اعتنقت فكرة الجهاد سبيلاً في مواجهة الاستعمار الذي يهددها من الخارج والاستبداد السياسي الذي يهددها من الداخل وكان الجهاد على ما قدمنا أحد ركيزتين أساسيتين قامت عليهما الدعوة الوهابية، والركيزة الثانية هي الاجتهاد. والحق أن حركات الإصلاح اللاحقة لحركة محمد بن عبد الوهاب لم تكن تتجاوز في أصولها الاعتماد على أي من هاتين الركيزتين فبينما اعتمد الزعيم جمال الدين الأفغاني على إثارة وعي المسلمين لجهاد الاستعمار، فقد جنح الإمام محمد عبده إلى تجديد الفكر وتطوير الأزهر وفتح باب الاجتهاد أمام علمائه، وكان للحركة الوهابية فضل الجمع بين الاجتهاد والجهاد مما يؤكد تأثر جميع الحركات الإصلاحية بها على نحو أو أخر. ومما مكن لدعوة محمد بن عبد الوهاب من التأثير في عالم الفكر الإسلامي اهتمام الشيخ حال حياته بتثقيف وتخريج أكبر عدد من التلاميذ الذين يعتنقون فكره ومنهجه علما وعملا، وقد أثمرت جهوده فى هذا المجال، فتخرج على يديه جيل نشط من العلماء العاملين عنت بذكرهم وإيراد سيرهم   (1) سير. ت.ارنولد. الدعوة إلى الإسلام _ 276 وأيضا أحمد عبد الغفور _ محمد بن عبد الوهاب _ ص213_217 (2) عبد الكريم الخطيب_ الدعوه الهابية_ ص 116 _120 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 مختلف المصنفات التي عرضت للدعوة ومؤسساتها على نحو مفصل، فأوضحت أن محمد بن عبد الوهاب" أخذ عنه عدة من العلماء الأجلاء من بنيه وبني بنيه وغيرهم من قضاة النواحي ومن علماء الأقطار"1 وقد عاش هذا الجيل من علماء مدرسة محمد بن عبد الوهاب وفيا لفكر صاحب الدعوة ومنهجه في مختلف المجالات. عاش جيل العلماء من تلامذته وفيا لتوحيد الخالص الذي دعا الشيخ إليه وجعله عماد دعوته فصنف هؤلاء التلاميذ من بعده عديد المصنفات والرسائل في فضل التوحيد ووجوبه ونفي الشرك بشتى مظاهره العلنية والخفية، نذكر من ذلك الرسالة القيمة التي كتبها عبد الله بن عبد الوهاب2يشرح فيها عقيدة التوحيد لدى دخوله مكه المكرمة مع الإمام سعود بن عبد العزيز في شهر المحرم عام 1218هـ 3   (1) ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد. ج1 ص 117 عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، مشاهير علماء نجد، ص: 26 عبد الرحمن العاصمي القحطاني، الدرر السنية، جـ 12. ص: 19. وأيضاً: أحمد بن حجر آل علي، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عقيدته السلفية ودعوته ص: 30 (2) هو عبد الله محمد بن عبد الوهاب ولد بالدرعية عام 1165هـ. وأخذ العلم أبيه وتفقه في المذاهب، كان عارفا بالتفسير. وبأصول الدين والحديث وبالفقه وأصوله خلف والده في الدعوة إلى عقيدة التوحيد ومناصرة آل سعود على نشر هذه الدعوة. أخذ عنه العلم عدد كبير، كما ترك عدة مصنفات تدور كلها حول نشر العقيدة الصحيحة وكبت البدع وكان من جملة من نقلهم إبراهيم باشا من آل الشيخ إلى مصر عام 1233 وتوفى بها عام 1242هـ انظر: ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد ج1 ص 238 ص 286،عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ مشاهير علماء نجد ص 32،33 وأيضا عبد الرحمن العاصمي القحطاني. الدرر السنية. ج 12 ص 44. (3) ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد: ج 1ص 164، وقد أورد المحقق بهامشه فاتحة هذه الرسالة مشيرا إلى أنها توجد مخطوطة في مكتبات علماء آل الشيخ وتوجد مطبوعة في الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية تأليف العلامة الشيخ سليمان بن سحمان. وذكر المحقق ما نصه: وهذه الرسالة قال فيها الكاتب الشهير محمد كرد علي الدمشقي في ص 166 من كتابه القديم والحديث طبعة مصر ما نصه (ورسالة عبد الله بن عبد الوهاب التي كتبها حين فتح الحرمين الشريفين شاهدة عدل أنه برئ من تلك الإفتراءات التي افتروها على عقائده وعقائد أبيه وبنوا عليها تلك الزلازل والقلاقل وأن مذهبه عين مذهب الأئمة المحدثين والسلف الصالحين) إلى آخر ما ذكره محمد كرد على رحمة الله= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 كما عاش جيل العلماء من تلامذة محمد بن عبد الوهاب وفيا لمنهجه في الحث علي طلب العلم وربط العلم بالعمل، ولم يثنهم عن عزمهم سقوط الدرعية في يد إبراهيم باشا الكبير وزوال دولتهم الأولى، بل واصلوا العمل على إبقاء الشعلة الفكرية التي أوقدها شيخهم مضيئة في سائر الصعاب والأعاصير فلم يكد أحد رجال الأسرة السعودية وهو الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود يستعيد شيئا من سلطان الدولة على بعض أجزاء نجد حتى كان تلاميذ محمد بن عبد الوهاب وهو حفيدة عبد الرحمن بن حسن بن محمد عبد الوهاب 1.هو صاحب الجهد المتصل في نصرة دعوة   = ومن الجدير بالذكر أن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب من أولاده العلماء سليمان بن عبد الله الذي ولد عام 1200 بالدرعية وتلقى العلم عن جدة وأبيه وسائر علماء الدرعية وقت أن كانت زاخرة بالعلماء الكبار ومن مصنفات سليمان بن عبد الله كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد لجدة محمد بن عبد الوهاب إلي جانب مصنفات أخرى. وقد ورد الذكر في سائر المراجع التي أرخت للحركة الوهابية ورجالها وأنه استشهد عام 1233هـ انظر ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1ص 282 وأيضا عبد الرحمن عبد اللطيف آل الشيخ. مشاهير علماء نجد ص 31 (1) هو عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب – علامة نجد المشهور صاحب التاريخ الحافل بالكفاح والمجدد الثاني بعد جدة ولد عام 1193هـ في بلدة الدرعية وتلقي العلم عن جدة وجملة من علماء عصرة. يصفه جامع الدرر السنية بأنة "عن الدنيا ما كان أصبره وبالسلف ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، اختصه الله بنصر دينة والقيام بحفظ سنته ورضية لإقامة حجته" وقد ترك عدة مصنفات في الأصول والفروع على أهل المقالات ممن غلط في الصفات. وإلي جانب مؤلفاته كان ملازما للتدريس معنيا بتلاميذه وقد أخذ عنه العلم جمع غفير.. كان من جملة رجال الدعوة الوهابية الذين نقلوا إلى مصر عام 1233 وعاش بها مع أولاده حتى عام 1241 حيث رجع إلى نجد وقد أرخ ابن بشر لعودته في هذه السنة قائلا "وفيها أقبل الشيخ العالم التحرير والبحر الزاخر الغزير مفيد الطالبين ومرجع الفقهاء والمتكلمين ... الحافظ المتقن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب فقدم على الإمام تركي بن عبد الله ففرح به وأكرمه غاية الإكرام وانتفع بعلمه كثير من المستفيدين ثم أورد ابن بشر كيف كتب مرة إلى عبد الرحمن حسن كتابا دعا في ختامة بقولة: انه على ما يشاء قدير فأجابه " بأن هذه الكلمة يقصد بها أهل البدع شرا وكل ما في القرآن: وهو على كل شيء قدير ... وإنما قصد أهل البدع بقولهم وهو القادر على ما يشاء أي أن القدرة لا تتعلق إلا بما تعلقت به المشيئة" وعندنا أن هذا يدل على عمق فهمة واهتمامه بالرد على كل شبهه، انظر ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1 ص 27 وما بعدها وأيضا عبد الرحمن العاصمي القحطاني. الدرر السنية ج 12 ص 61 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 التوحيد مجاهدا بسيفة حتى وفاته عام 1285هـ. كما كان تلاميذ محمد بن عبد الوهاب أوفياء لمنهج شيخهم في بناء المجتمع المسلم على العقيدة وحدها دون العصبية الجاهلية التي سادت نجداً قبل ظهور الشيخ فكان الكثير من تلاميذه ممن هاجروا من بلادهم إليه في الدرعية وهي محاصرة من جميع النواحي بعداء متصل مع سائر القبائل. نذكر من هؤلاء التلاميذ الذين هاجروا إلى الدعية وآثروا صحبة الفكر والعقيدة علي عزوة الأهل والقبيلة الشيخ بن غنام1. والشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر2 الذي ضرب مثلا رفيعا في   (1) هو: حسين بن أبي بكر بن غنام الإحسائي المالكي مذهبا التميمي نسبا ولد ببلدة المبرز بالإحساء ونشأ بها وقرأ على علماء وقته في الاحساء ثم نزح من الاحساء إلى مدينة الدرعية فقدمها على الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود الشيخ محمد بن عبد الوهاب فأكرماه وأنزلاه المنزلة الرفيعة، فاستقر في الدرعية وجلس فيها لطلبة العلم يقرأون عليه علم النحو والعروض ومن مؤلفاته: كتاب التاريخ الذي سماه: روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام" وهو الكتاب الذي عكف على تحريره وتحقيقه الدكتور ناصر الدين الأسد والشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ وسمياه تاريخ نجد، وقد أشرنا إليه في الفصل الثاني من الباب الأول من هذا البحث كما ترك مؤلفا آخر هو العقد الثمين في أصل الدين. أما كتابه في التاريخ فقد طبع ثلاث مرات: الأولى سنة 1331هـ في بمباي بالهند والثانية بمصر بمطبعة البابي الحلبي عام 1368 هـ والطبعة الثالثة عام 1382هـ بمطبعة المدني تحقيق الدكتور ناصر الدين الأسد وهي الطبعة التي اعتمدنا عليها خصوصا في الجزء الخاص برسائل وفتاوى ابن عبد الوهاب. انظر: ابن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص: 199وايضا عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، مشاهير علماء نجد. ص: 147. (2) هو العالم العلامة المحقق الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر النجدي التميمي من آل معمر أمراء العيينة نزح منها واستوطن مدينة الدرعية وقرأ فيها علي شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وعلى وعلي الشيخ أبي بكر بن حسين ابن غنام نزيل الدرعية وعلى الشيخ سليمان بن عبد الوهاب وبعد ذلك جلس للتدريس بمدينة الدرعية فأخذ عنة العلم خلق كثير منهم: الشهيد سليمان بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب والعالم الكبير عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد العزيز بن حمد بن معمر والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين وله عدة رسائل أجاب فيها علي أسئلة علمية لو جمعت لبلغت مجلدا ضخما ولكنها طبعت متفرقة في مجاميع الرسائل والمسائل النجدية التي طبعت بمطبعة المنار أولا ثم بمطبعة أم القرى في مكة المكرمة ثانيا- تولى قضاء الدرعية ثم وولي قضاء مكة بعد أن دخلها الإمام سعود بن عبد العزيز ثم توفي بها سنة ألف ومائتين وخمس وعشرين من الهجرة في أول شهر ذي الحجة وصلى علية تحت الكعبة المشرفة. انظر عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ مشاهير علماء نجد ص 157 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 صدق الالتزام بمنهج الدعوة الوهابية، وكان بحق نموذجا علميا لتحقيق فكر محمد بن عبد الوهاب في أن يجعل الإنسان المسلم حبه ومودته لن تجمعهم به رابطة التوحيد وبغضه لمن حاد الله ورسوله عملا بقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} 1فقد كان الشيخ حمد من آل معمر أهل العيينة وأمرائها وقد سبق لهم أن خرجوا محمد بن عبد الوهاب من بلدتهم على فلجأ إلى الدرعية ثم دخل أهل العيينة في جماعة التوحيد وبايعوا بن عبد الوهاب على ذلك ولكن لم يلبث أن استراب أهل الدرعية أمير العيينة عثمان بن معمر جد الشيخ حمد بوشاية أهل العيينة الذين لم يلبثوا أن قتلوا أميرهم عثمان بن معمر2 ولكن هذه الضغائن لم تمنع الشيخ حمد من أن يكون تلميذا وفيا لمحمد بن عبد الوهاب وفكره ومنهجه وكانت له اليد الطولى في الدفاع عن هذا الفكر قولا وعملا 3.   (1) سورة المجادلة: آية: 22. (2) ابن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص: 39 لدى ذكر حوادث 1163هـ. 3 وكان الشيخ حمد هو رسول الدعوة الوهابية الذي أوفدة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى الشريف غالب شريف مكة عام 1211هـ "فجرت المناظرة بينه وبين علماء مكة المكرمة في مسألتين: مسألة قتال الموحدين الناس ومسألة دعوة الأموات وكان حمد بن ناصر يأتي لبيان حجته بالدليل القاطع والبرهان الواضح من كتاب الله وأحاديث رسوله الصحيحة وأقوال الأئمة وأتباعهم المتقدمين الأخيار فأضطرهم بذلك إلى التسليم له في المسألة الأولى والاعتراف بالحق بعد أن لجوا في المغالطة والعناد حينا ولكنهم أنكروا وجود ما ذكره لهم من مشاهير الشرك بدعوة الأموات وجحدوا أن يكون ذلك واقعا في البلاد .... ومن أعجب ما قاله كبيرهم لحمد بن ناصر قوله: أنني لا أطالبك بما قاله علماء المذاهب سوى ما قال به إمامي أبو حنيفة لأنني مقلد له فيما قال فلا أسلم لسوى قوله ولو قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال ذو الجلال لأنه أعلم مني ومنك بذلك فلما انقضت المناظرة طلبوا من حمد بن ناصر بن معمر تأصيل براهينه وحججه وتسجيل ما ناظرهم به فكتب في ذلك رسالة مفيدة انظر حسين بن عنام. تاريخ نجد. ص 200. ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد. ج1 ص 148 وتعليق المحقق بالهامش إن هذه المناظرة جرت في شهر رجب 1211 وأنه أشار إليها الشيخ محمد بن على الشوكاني حيث قال في الجزء الثاني من كتابة: البدر الطالع ص (7) ما نصه: وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد لقصد المناظرة فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل تدل على ثبات قدمه وقدم صاحبه في الدين = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وفي نفس الوقت تابع تلاميذ محمد بن عبد الوهاب منهجه في تخريج أجيال متتابعة من التلاميذ ذوي الإخلاص والغيرة، وكان من أثر هذا التتابع أن بقي للفكر الوهابي تأثيره في مجالات الفكر الإسلامي إلى عصرنا الحاضر، وقد حرص دعاة فكر محمد بن عبد الوهاب على جمعه مسلسلا على امتداد الأجيال فصدرت مطبوعات للرسائل والكتب المتضمنة لهذا الفكر نخص منها بالذكر: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية في ثلاثة أقسام، وقد توفر على ترتيبها أحد دعاة الفكر الوهابي فأخرجها باسم: الدرر السنية في الأجوبة النجدية1وقد حفلت بنماذج من أجوبة علماء الدعوة الوهابية على ما كان يردهم من أسئلة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي2ويستطيع الباحث من هذه الأجوبة أن يلمس وحدة الفكر في المسائل التي تعلقت بها الأجوبة رغم تعدد العلماء الذين أولوا بهذه الأجوبة على امتداد الفترة من محمد بن عبد الوهاب إلى اليوم، مما يدل على عمق تأثير محمد بن عبد الوهاب في تلاميذه وتلاميذهم من بعدهم وعلى أن هذا التأثير جاوز نطاق الجزيرة العربية إلى أنحاء شتي من العالم الإسلامي. والحق أن ما عمق هذا التأثير الفكري وعززه، تأثير محمد بن عبد الوهاب في الجانب السياسي وهو ما سنعرض لبيانه فيما يلي.   =هذا وقد طبعت المناظرة ضمن مجلد وعنوانها: الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب. (1) تم طبعها عدة مرات وآخر طبعة وقعت في أثنى عشر جزءا وهى من مطبوعات دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية. (2) وتحفل هذه الأجوبة بردود على أسئلة ترد إلى علماء نجد من هيئات علمية في الخارج، مثل الجواب الذي حرره شيوخ الدعوة الوهابية جوابا لعلماء الهند على استفتائهم فيما شجر بينهم وبين العالم الهندي أبى الوفاء ثناء الله حول مسائل أخذوها عليه في تفسيره لبعض آيات القرآن الكريم. وقد جاء في جواب علماء نجد حول تفسير الاستواء "إن الذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة وقولهم الشامل في هذا الباب انهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله الله صلى الله عليه وسلم ووصف به السابقون الأولون من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل" الدرر السنية في الأجوبة النجدية ح1 ص 15،16 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الفصل الثاني: أثرة في السياسة تتفق معظم المصادر التي تناولت حياة محمد بن عبد الوهاب وحركته على أنه عاد من رحلاته في طلب العلم ليستقر في نجد بعام 1139هدون تحديد لسنة عودته على وجه اليقين 1. ورجع بعض الباحثين "أن تاريخ العودة يقع بين عام1143 وعام 11502 كما تتفق هذه المصادر على أن بعد، استقراره بنجد كان في بلدة حريملاء التي كان أبوه قد انتقل إليها من العيينة ليواصل بها القضاء والإفتاء ولم يلبث أن استفزه ما يراه من البدع والمنكرات فأخذ "ينكر ما بفعل الجهال من البدع والشرك في الأقوال والأفعال وكثر منه الإنكار لذلك ولجميع المحظورات حتى وقع بينه وبين أبيه كلام3 فلما توفى أبوه عام 1153هـ "أعلن بالدعوه والإنكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "4 ولم يلبث أن أثارت الدعوة أهل الفسوق والعصيان فهبوا أن يفتكوا به ويقتلوه   (1) ابن غنام. تاريخ نجد. ص 77 ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد ج1 ص 21 (2) د / منير العجلاني. تاريخ البلاد العربية السعودية. ص 208 (3) ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد. ج1 ص 21، د محمد عبد الله ماضي النهضة الحديثة في جزيرة العرب ص 45. وأيضا: عبد الله قلبي: تاريخ نجد ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية. ص: 23 (4) المرجع السابق: ص 22 ابن غنام. تارخ تاريخ نجد ص 77 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 فأضطر أن ينتقل إلى بلد العيينة ورئيسها يومئذ عثمان بن حمد بن معمر 1 لجأ ابن عبد الوهاب إلى العيينة لجوء صاحب دعوة يؤمن بها ويصر عليها وينشد القوة التي تؤازره في نشر دعوته والتمكين لها، بعد أتيقن في تجربته في حريملاء أنه لا بقاء لحل أعزل من قوة تحميه. ولم يكن في لجوئه إلى العيينة والتماسه قوة تحميه حتى يبلغ دعوته مبتدعاً فله في ذلك أسوة حسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روت كتب السيرة الصحاح أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على القبائل في كل موسم مناشدا أهل النخوة من شيوخ القبائل أن يبذلوا له الحماية من اضطهاد قريش حتى يبلغ عن ربه. وتروي كتب السيرة أن بني عامر بن صعصعة وكانوا من أكبر قبائل نجد آنذاك عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبذلوا له الحمايه شريطة أن يكون لهم الأمر من بعده فأجابهم:" إن الأمر لله يضعه حيث يشاء "2فأنصرفا عنه كارهين أن يهدفوا صدورهم لسهام العرب دفاعا عنه ثم لا يكون الأمر لهم وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موقفه من عدم جعل الأمر من بعده ثمناً لنصرته حتى أكرمه الله بالأنصار فبايعوه على الإسلام والسمع والطاعة دون رجاء في مغنم دنيوي اكتفاء برضوان الله تعالى والجنة. لكن ابن عبد الوهاب إذ لجأ إلي العيينة التماسا لنصرة أميرها عثمان بن معمر " حاول على نصرته وقال له: إني أرجو إن أنت قمت بنصر لا إله إلا الله أن يظهرك الله وتملك نجداً وإعرابها3"وعلى هذا ناصر عثمان بن معمر وفي ظل هذه المناصرة أزال البدع التي كانت في العيينة مطبق الحدود بأن رجم امرأة أقرت عنده بالزنا"وكان أول من رجمها عثمان نفسه فلما ماتت أمر الشيخ أن يغسلوها وأن تكفن ويصلى عليها"4. وما أن أصبح للدعوة منهج تدعوا الناس إلية وسلطان تزع المخالفين به   (1) المرجع السابق. ص 78 وكذلك ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد. ص 22 (2) سيرة ابن هشام ج 2 ص 289 وأيضا ابن جرير الطبري تاريخ الأمم والملوك ز ج2 ص 232. (3) ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد/ج1 ص 22 (4) ابن غنام. تاريخ نجد ص 80 وايضا ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1ص 23 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 حتى تنبه إليها النفوذ والرياسة في أطراف الجزيرة العربية وكان أقوالهم نفوذا في شرقي نجد سليمان آل محمد رئيس الاحساء وبني خالد وقد أحاط به معارضو محمد بن عبد الوهاب "فأغروه به وصاحوا عنده وقالوا:"إن هذا يريد أن يخرجكم من ملككم ويسعى في قطع ما أنتم عليه من الأمور ويبطل العشور والمكوس1 وبأمر من أمير الإحساء سليمان آل محمد أمر عثمان بن معمر بحمل بن عبد الوهاب بمبارحة العيينة متخليا عن نصرته حرصا على بقاء نفوذه الذي بات مهددا بغضب أمير الاحساء. وإلى الدرعية كانت هجرة بن عبد الوهاب للمرة الثانية وكان لقاؤه مع أميرها محمد بن سعود عام 1157هـ حيث دعا الشيخ إلى نصرة دعوة التوحيد مرغباً إياه بقوله "أنت ترى نجد كلها وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل. والفرقة والاختلاف والقتال لبعضهم بعض فأرجو أن تكون إماما يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك2فبايعه محمد بن سعود بن مقرن على ذلك"وعلى أن الشيخ لا يرغب عنه أن أظهره الله وأن لا يتعرضه فيما يأخذه من أهل الدرعية مثل الذي كان يأخذه رؤساء البلدان على رعاياهم.3 كان محمد بن سعود بن مقرن العنزي أميرا على الدرعية كسائر الأمراء من حوله. وكان في كل قرية من قرى نجد أمير، والحروب لا تنقطع بين هؤلاء الأمراء على نحو ما أوضحناه في الفصل الثاني من الباب الأول لدي ذكر أحوال نجد والجزيرة العربية. وبتمام بيعة محمد بن سعود لمحمد بن عبد الوهاب بدأ الصراع على أرض نجد والجزيرة العربية يكتسب بعداً آخر. لقد أصبح عقائديا دون أن تتغير ماهية القوى المشتركة في الصراع فغزوات بن سعود لجيرانه وغزوات جيرانه له قبل ظهور محمد بن عبد الوهاب كانت متلاحقة لا تنقطع وظلت كذلك بعد ظهور دعوة ابن عبد الوهاب مع أهل الدرعية لشعار التوحيد عنوانا لهم وبالتالي رمي خصومهم بوصف الشرك والكفر ومعاداة أهل   (1) ابن غنام. تاريخ نجد ص 80 (2) ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد. ج 1 ص 24 (3) المرجع السابق: ص 25 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الإسلام1وظل أثر الدعوة الوهابية السياسي محدودا في هذا الصراع إذلم يستطع بن سعود طوال ثلاثين سنة من الحروب أن يتجاوز نطاق الدرعية وبعض القرى حولها حتى بلدة الرياض المتاخمه لها ظلت تقاوم ابن سعود قرابة ثلاثين سنة دون أن يجد أهلها في شعار الدعوة الوهابية ما يحملهم على الانحياز لها والخروج على طاعة أميرهم دهام بن دواس. بل أن دهام بن دواس أمير الرياض كان قد ارتضي دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبايع عليها عام 1167هـ2 إلا أنه لما وجد نفسه حيال إقرار بالزعامة لابن سعود وإلا فهو مرتد من أهل النار استنكر ذلك قائلاً: ومن هو ابن مقرن ليحمل مفاتيح الجنة وينذر الناس بالنار3. ودلالة ذلك: أن حركة محمد بن عبد الوهاب أدخلت على موازين الصراع المحتدم على أرض نجد عنصر العقيدة، فأصبح هناك أفراد يهاجرون إلى الدرعية مخلفين قبائلهم ليكونوا جنودا للدعوة تحت راية ابن سعود وقد كان كل من الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد سعود بن مقرن عونا لصاحبة وعبئا عليه في نفس الوقت. فمحمد بن سعود كان عونا لابن عبد الوهاب بما أتاح له من مأمن الإقامة وحرية الدعوة إلى فكره ومنهجه وفى نفس الوقت كان ابن سعود بما اشترطه من الإمارة لنفسه ولذريته من بعده عبئا على الدعوه وصاحبها تمثل في شدة المقاومة التي واجه بها أمراء سائر البلاد هذه الدعوة استكبارا منهم عن الدخول في طاعة ابن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب كان عونا لابن سعود في بسط نفوذه على قبائل وأماكن لم يكن ليحلم ببسط نفوذه عليها إذا لم تكن إمارة الدرعية إلا إحدى صغريات الإمارات في نجد4وفي نفس الوقت كان الشيخ عبئا علي ابن سعود من مهمة التصدي لسائر العرب المنكرين لهذه الدعوة من أول يوم.   (1) ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1 ص 73 وقد عنون المؤلف هذه الصفحة بعنوان الغزوات التي يكرر فيها المؤلف وصف أهل الدرعية بالمسلمين ورمي أهل القرى المجاورة بالكفار. (2) المرجع السابق. ص 43 (3) أمين الريحاني، تاريخ نجد الحديث وملحقاته. ص:44 (4) د. محمد ضياء الدين. تاريخ الشرق والخلافة العثمانية. ص 101 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وبوضع هذه الدلالة موضع التقدير تبين لنا حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دعا إلى الله على بصيرة من ربه، وكان من أبلغ وجوه حكمته وبصيرته صلى الله عليه وسلم رفضه تحديد ثمن دنيوي لمن يناصر دعوته ويمكنه من تبليغ رسالته، وهو الثمن الذي طالب به بنو عامر بن صعصعة لما قالوا له بلسان بيحرة بن فراس:"أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك. قال: الأمر لله يضعه حيث يشاء. قال ابن فراس "أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك"1 هل كان ابن عبد الوهاب في ظروف تمكنه من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فيرفض ما اشترط علية ابن سعود من أن يكون الأمر له ولذريته مثلما رفض رسول الله طلب بني عامر بن صعصعة وعندئذ يفقد النصير القوي وفي نفس الوقت يتجنب الدخول في صراع مادي مرير، كان في جملته تعبيرا عن رفض القبائل المتنافسة للقبول بسلطة ابن سعود عليهم. لقد ألمح بعض الباحثين إلى أنه كان في إمكان محمد بن عبد الوهاب يسير بالدعوة في إطار سلمي بالتزام قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} 2وأنه لو التزم بهذا المنهج لأجتمع له تلاميذ يبلغون عنه وينشرون دعوته بهذا الأسلوب الهادئ أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة. ثم عاد هؤلاء الباحثون فنفوا هذا الإمكان بقولهم:"ولكن البيئة التي نبتت فيها هذه الدعوة، والثقافة التي تلقاها صاحب الدعوة جعلت الصراع المادي والاحتكام إلى القوه أمرا لا مفر منه"3 فبيئة نجد غير بيئة الحجاز والأنصار أهل المدينة غير الأعراب سكان الدرعية ففي الحجاز على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت زعامة قريش غير منازعة ولا منكورة، كما كان الأنصار رضوان الله عليهم قد آووا ونصروا دون أن يرقبوا شيئا من غنيمة الدنيا. أما في نجد فصراع قبلي لا تدين فيه قبلية لقبيلة إلا تحت   (1) سيرة ابن هشام. ج2 ص 389 وأيضا الطبري. تاريخ الأمم والملوك. ج2 ص 232 (2) النحل:125 (3) عبد الكريم الخطيب. الدعوة الوهابية. ص 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 سنابك خيلها وصوارم سيوفها1.فلم يكن أمام محمد بن عبد الوهاب مجال للاختيار فما دام هو لا عصبية له بين القبائل بنجد على ما ذكرنا في نسبه ونشأته وما دام قد حيل بينه وبين دعوته التى بدأها في حريملاء بالحكمة والموعظة الحسنة واضطر للهجرة منها إلى العيينة ثم اضطر للهجرة مره أخرى إلي الدرعية فلم يكن أمامه من سبيل إلا سبيله الذي هدى إليه بمبايعة ابن سعود ليكون نصيرا له في دعوته لقاء إمامة بشر بها ابن سعود وذريته. ولكن إدخال العقيدة كعنصر في الصراع الدائر على أرض نجد تجاوز في آثارة نطاق نجد سائر الجزيرة العربية ثم تجاوز نطاق الجزيرة العربية إلى العالم الإسلامي بل شد أنظار القوى المتربة بالعالم الإسلامي من خارجه على نحو يقتضي تفصيل البيان. كانت نجد قد انفصمت علاقتها بالخلافة منذ عهد الخليفة العباسي الراضي باستيلاء القرامطة عليها. وبعد زوال القرامطة لم تعد نجد إلى سلطة الخلافة أبدا2 ولما قامت الخلافة العثمانية لم يكن لها أي نفوذ في الإحساء وما جاورها وفي الأجزاء الغربية على مكة والمدينة والطرق الموصلة بينهما. وكانت الخلافة العثمانية تعهد بامر الحرمين الشريفين إلى أشراف مكة أما بأمر سلطاني مباشر أو عن طريق واليها على مصر3كما كانت تعهد إلى والي العراق بتولية من يراه على الإحساء، وقد ظهرت الدولة السعودية القائمة على فكر محمد بن عبد الوهاب خلال هذه الظروف السياسية التي يمكن إيجازها فيما يلي: فراغ سياسي كامل في نجد بعدم وجود سلطة سياسية مستقرة لا على نحو موحد ولا حتى على نحو متفرق، إذ كانت الإمارات والمشيخات   (1) أمين الريحاني تاريخ نجد الحديث وملحقاته. ص 61 ومن عباراته فى وصف ضراوة الصراع في نجد قوله:" أنا صاحب الرياض وأنت صاحب الدرعية، فإما أن أقتلك أو أغلبك ثم أجلوك عن البلاد واستولي عليها وإما أن تفعل أنت فيكون لك في ما أريده فيك" (2) د. منير العجلاني. تاريخ البلاد العربية السعودية. ص 450 (3) د. منير العجلاني. تاريخ البلاد العربية السعودية. ج1 ص 31 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 المتعددة فيها تقتصر تماما إلى الاستقرار وتعيش على صراع مستمر. (2) سلطة سياسة شبه مستقره في الإحساء يقوم عليها أمير من بني خالد. (3) سلطة سياسية شبه مستقرة في الحجاز يقوم عليها أشراف مكة وكانت نجد تتعرض بين الحين والحين لغزوات من أمير الإحساء تارة أو من شريف مكة تارة أخرى. وبظهور القوة السياسية الجديدة في الدرعية عرفت نجد معني السلطة وعرف سكان المنطقة معنى الولاء للحاكم ولاء يقوم على الطاعة لولي الأمر الذي يحمي حمي التوحيد والموحدين. وتنبه أمير الإحساء للقوه الجديدة فبادأها بالصراع من أول يوم فقد سبق له أن أمر أمير العيينة بإخراج محمد بن عبد الوهاب منها فلما وجده يستقر في الدرعية ليكون سندا لابن سعود في توسيع دائرة ملكه شن على الدرعية عدة غزوات واتصلت الحروب بينهما حتى تم استيلاء ابن سعود على الإحساء وبالمثل أحس أشراف مكة بخطر الدعوة الجديدة على سلطانهم وامتيازاتهم فتصدوا لها بكل الأساليب، فضيقوا على أهل الدرعية في أداء الحج والمناسك ثم منعوهم من أداء الفريضة وكانوا يسجنون من يقع في أيديهم منهم ثم شنوا عدة غزوات على نجد كانت كلها تبؤ بالخسران التام 1 إلى أن تمكنت الدولة الناشئة المؤيدة بسلاح العقيدة أن تستولي على الحرمين الشرفيين فتكتمل لها السيطرة على معظم شبه الجزيرة العربية عام 12202هـ. وباكتمال سيطرة الدعوة الوهابية على معظم شبة الجزيرة العربية قامت في جزيرة العرب أول سلطة موحدة منذ قرون، وكان ذلك في حد ذاته حدثا فريدا جذب انتباه سائر القوى خارج الجزيرة العربية وعلى امتداد العالم الإسلامي بل وخارج العالم الإسلامي. وكان أول المتأثرين بهذا الحدث الخليفة العثماني بطبيعة الحال وإذا كان الخليفة قد تجاهل الدعوة الوهابية وهي بعد كيان ناشئ   (1) الشوكاني. البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع. ج 2 ص: 4 وفيه يسجل المؤلف أن الشريف غالب بن مساعد كثيرا ما يجمع الجيوش ويغزو صاحب نجد الذي استولى على بلاد الحسا والقطيف والدواسر وغالب بلاد الحجاز. (2) ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد. ج 1 ص 184 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 يعاني ألام المخاض والنشأة في بيداء نجد، فإنه باستيلاء الحركة الوهابية على الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة بات أمرها يهدد أساس الخلافة القائمة على عقيدة وحدة الإسلام وحماية الحرمين الشريفين.1 ومع أن الخليفة العثماني لم يكن يفتقر إلى المبرر الذي يستند إليه فى تدبير حملات حربية علي الوهابيين لإخراجهم من بلاد الحرمين الشريفين، فقد قدم له الوهابيون هذا المبرر. وتمثل ذلك في منعهم حجاج بيت الله الحرام الوفدين من خارج الجزيرة العربية وإصرارهم على هذا المنع وردهم الحجاج على أعقابهم طوال سنوات 1223هـ وما بعدها 2فضلا عن إخراجهم سائر من كان يقيم بمكة والمدينة من الأتراك الذين دأب الوهابيون علي تسميتهم بعسكر الروم3بمفهوم أنهم غير مسلمين. ومما ضاعف من صدمة الدولة العثمانية أن الحركة الوهابية جاءت في إخراج فترات التاريخ بالنسبة لها. فقد كانت عوامل ضعفها قد استشرت تحت وطأة الحروب المتوالية التي كانت تشنها عليها روسيا القيصرية وتفكك أوصال الدولة بتغلب المماليك على الكثير من ولاياتها وعجز السلاطين عن تنفيذ أية إجراءات إصلاحية أمام تعنت بعض العلماء المدعمين بتأييد الجند الإنكشارية4أضف إلى ذلك أن دول أوربا كانت تتربص بدولة الخلافة وتنعتها بالرجل المريض تطلعا إلى الإجهاز عليها واقتسام بلاد الشرق الإسلامي ثم إذا بها أمام حركة قوية تنتزع منها قلب العالم الإسلامي ومهوى أفئدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. وقد أوردت المصادر النجدية ما يقطع بأن دولة الخلافة العثمانية عملت على تحاشى الصدام المسلح مع دولة الدعوة الوهابية فأرسلت الرسول بعد الرسول إلى الإمام سعود بن عبد العزيز تطلب منه المهادنة والمسابلة فرجع كل من الرسل بعدم القبول5 ووجدت الدولة العثمانية نفسها مرغمة علي الدخول   (1) د ضياء الدين الريس، تاريخ الشرق العربي والخلافة العثمانية. ص 7 (2) المرجع السابق ج 1 ص 190 ص 191 (3) المرجع السابق. ص 188 (4) د. محمد ضياء الدين عنوان المجد في تاريخ الشرق العربي والخلافة العثمانية. ص 105 وما بعدها (5) ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1. ص:207 وما بعدها وبهامشة دون المحقق ما = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 في حرب ضد الوهابيين، وهي أحوج ما تكون إلي ادخار قواها المتبقية للتصدي للزحف الأوربي الصليبي الذي كان قد أخذ يعد العدة للإجهاز عليها وأخذ يتطلع إلى فصم عرى اتحاد المسلمين لتحقيق أغراضه في امتلاك بلادهم1. وهكذا كان من أبرز دعوة محمد بن عبد الوهاب السياسية أنها أجبرت دولة الخلافة العثمانية على فتح جبهة جديدة في مسلسل الحروب التي تخوضها وعهد السلطان العثماني إلى والي مصر محمد علي باشا القيام بمحاربة الإمام سعود بن عبد العزيز وإخراجه من الحجاز، وبدأت الحملات المصرية على الوهابيين عام 1226هـ واتصل أوار الحرب بين الفريقين إلى عام 1233. وقد انتهت بسقوط الدرعية آخر معاقل الوهابيين وبنقل الإمام عبد الله بن سعود إلى الأستانة حيث نفذ فيه حكم الإعدام مع عدد من رؤوس الدعوة والبيت السعودي ودمر إبراهيم باشا الدرعية تدميرا تاما وهرب من بقي علي قيد الحياة   =يلي: وفي هذه الأثناء كان الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود قد استولى على الحجاز وعلى الحرمين الشريفين فاقلق توليه الدولة العثمانية لأنها تدعي حق الخلافة على المسلمين بعد سقوطها من العباسيين. وخلافتها إنما كانت تعتمد على الحرمين الشريفين لأن فخرها وحرمتها في النفوس إنما هي بدعوى حمايتها للحرمين الشريفين وخدمتهما فرأت استيلاء الإمام سعود على الحرمين فيه القضاء التام على سلطانها ونفوذها وتخوفت من أن هذه الدعوة السلفية التي تهدف إلى الإصلاح.. ينبسط نفوذها فتوحد كلمة العرب فينضوون تحت لوائها فتقضي بهم على الخلافة العثمانية المزعومة فيتقلص ظلها وينمحي أثرها. كيف لا تخشى الدولة العثمانية ذلك وقد وصل سعود بجيوشه بعد فتحه الحجاز إلى مشارق الشام وقراها واكتسح ما أمامه.. وهدد الطرق وهزم الجيوش التي أرسلها ولاة الشام والعراق لمحاربته حتى اضطرت الدولة أن تطلب منه المهادنة والمسابلة وتبذل له مقابل ذلك كل سنة ثلاثين ألفا مثقال ذهبا، وأوفدت الدولة لهذا الغرض رجلا يسمى عبد العزيز القديمى وأوفدت بعدة رجلا أخر يسمى عبد العزيز بيك فرجع كما رجع الأول بعدم القبول ورسالة طويلة تبلغ سبع صفحات ملأها سعود وعيدا وهذا الرسالة مذكورة في ج 7 من الدرر السنية والأجوبة النجدية ص 261 قال فيها سعود بالحرف الواحد ما نصه: وأما طلبتموه منا مرة بعد مرة أرسلتم لنا عبد العزيز القديمي ثم أرسلتم عبد العزيز بيك فلم نقبل ذلك منكم ولم نجبكم بالمهادنة "" واستطرد المحقق "لذا أصبحت الدولة العثمانية عاجزة عن مهادنة الإمام سعود بن عبد العزيز بن سعود فضلا عن محاربته". (1) محمد فريد بك. الدولة العثمانية. ص 202 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 من آل سعود وذريته الشيخ محمد بن عبد الوهاب1وكان لتكليف السلطان العثماني لمحمد علي باشا بإخراج الوهابيين من الحجاز أثره في تقوية سلطة محمد علي الذي عمل على انتهاز الفرصة للقضاء على خصومه السياسيين في مصر وهم المماليك فجعل من حفل توديع ابنه طوسون على رأس الحملة المتجهة إلى بلاد العرب مناسبة دعا فيها أمراء المماليك إلى حفل الوداع فى القلعة ليجعل من وليمة استضافتهم مذبحة عامة استأصل فيها سائر أمراء المماليك وقضى نهائيا على شوكتهم.2 ولو حاولنا تقصي الآثار السياسية غير المباشرة التي جلبتها دعوة محمد بن عبد الوهاب لطال بنا المقام، إذ لا يتسع نطاق بحثنا لهذا الاستقصاء، فإنا نكتفي بالإشارة إلية مؤملين أن تلقى هذه الناحية اهتماما أكبر من الباحثين في هذا المجال. وبحسبنا أن نشير في إجمال إلى أن من جملة الآثار غير المباشرة لهذه الدعوه أن نما في العرب الإحساس بالقومية العربية حيال القومية التركية المتسلطة عليهم حتى قيل"إن القومية العربية هي الدافع الوحيد لكثيرين من مؤيدي آل سعود ... ومنهم من كان على غير دين ابن سعود 3. ولعل إزكاء نعرة القومية العربية ومحاولة ربطها بالحركة الوهابية كان من أثر كتابات المستشرقين الذين أولوا الحركة الوهابية اهتماما بالغا يعود في الأساس إلى رغبة الكثيرين منهم اتخاذ هذه الحركة أداة لهدم وحدة الدولة العثمانية. ولا يفوتنا في ختام الحديث عن الأثر السياسي لدعوة محمد بن عبد الوهاب أن نلفت النظر إلى أن فكر الشيخ ومنهجه كان أبعد ما يكون عن   (1) ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد ج1 ص 287. (2) محمد فريد بك. تاريخ الدولة العلية العثمانية. ص 304، وقد أشاد المؤلف بمذبحة المماليك التي ارتكبها محمد على باشا وعبر عن ذلك بقولة:"ولو لم يكن لمحمد علي باشا من الأيدي البيضاء على مصر سوى تخليصها من شر المماليك لكفى لتخليد ذكره وتمجيد اسمه" (3) عبد الكريم أبا الخيل. العربية السعودية. ص 14 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الدعوة للقومية والشعوبية فالجماعة الإسلامية في مفهومه لا ترتبط بغير رباط العقيدة الصحيحة على ما حصلناه لدى بحث موضوعات الباب الخامس. ولكن هذه الآثار السياسية فيما يتعلق بإزكاء القومية العربية نتجت بصورة غير مباشرة لتداعي حوادث الصراع بين أنصاره ودولة الخلافة العثمانية. وهذا من جملة ردود الأفعال وتدافع الحوادث بحيث ينتج عن الفعل من الأثر ما هو مضاد لقص الفاعل عند مباشرة الفعل. وتاريخ الإنسانية يدين في الكثير من تحولاته لردود الأفعال أكثر من الأفعال ذاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 خاتمة وإني إذ أصل إلى خاتمة المطاف في بحثي استميح الباحثين والقراء العذر عما عساهم يعثرون عليه خلاله من هنات أو قصور. إذ الكمال المطلق لله تعالى وحده. وحسبى أن انتهيت إلى النتائج الآتية: (في موضوعات الباب الأول) قطعنا جانب الشك باليقين فيما يتعلق بنسبة ومولده ونشأته وشيوخه ورحلاته فترجح لدينا أنه لم يغادر الجزيرة العربية وأن مسرح رحلاته مكة والمدينة والبصرة والزبير والإحساء. (1) وتبين لنا في تأسيس معارفه أن اعتمد على التلقي عن بعض الشيوخ وقراءة مصنفات بعض السابقين إلي جانب تأمله في واقع الحياة والناس وإن هذا التأمل أثرى معارفه أكثر من أخذه المعارف بالتلقي إذ أنه حرك مداركه ودعاه إلى أن ينقل ويعقل. (2) وإن تأمله في أحوال عصرة وبيئته أوقفه على مخالفة هذه الأحوال لعقيدة التوحيد ومنهج الشرك فاتبع ذلك بإنكار هذه المخالفات ودعوة الناس إلى تصحيح عقائدهم بما يدل عليه ذلك من أن الدعوة إلى الإصلاح لا تكفي في قيامها كثرة العلوم والمعارف ما لم يكن للدعاة معرفة بأحوال الناس في زمانهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وفي موضوعات الباب الثاني (4) تبين لنا دقة تحليله لعلل وردها إلى غلق باب الاجتهاد وسيادة التقليد بما أدى إلى تكريس البدع والخرافات الموروثة بما رأى معه تشديد النكير على المقلدين والدعوة إلي استمرار الاجتهاد ولزومه. (5) وتبين لنا عمق إدراكه لارتباط العلم بالعمل في ميزان الإسلام وقيامه بإحياء سنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثمرة لهذا الإدراك ونتيجة له. وفي موضوعات الباب الثالث (6) تبين لنا سلامة منهجه في إصلاح بالبدء بالأهم قبل المهم. فرأى أن إصلاح العقيدة مقدم على كل شئ. وإن صلاح العقيدة مرهون بسلامة النظر في الغيبيات. (7) وعرضنا لبعض مسائل الغيبيات التي تحدث فيها فتبين لنا منهجه فى شأنها منهج السلف القائم علي تلقي أمور الغيب من النصوص دون خوض في كيفيتها. (8) وإن زمام الأمر عنده في مسائل الغيب والنبوات قائم على تنقية التوحيد من كل صور الشرك الخفي والجلي فذات الله وصفاته بالنبوة وكلف بعضهم بالرسالة وايدهم بالمعجزات وكل ذلك دون الخروج عن بشريتهم فلا يدعون من دون الله ولا يتوجه إليهم بالقصد والطلب. (9) وإن البعث والجزاء وما يتصل بهما من مشاهد القيامة من أمور الغيب التي يجب الإيمان بها كما ذكرتها النصوص. (10) وإن الشفاعة ثابتة لمن يأذن له الله فيمن يأذن الله بالشفاعة فيه. ولا تطلب إلا من الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وفي موضوعات الباب الرابع (11) ثبت لنا أنة يقر بالتصوف الموافق لنصوص الشرع وتكاليفه وينكر على بعض المتصوفة الزعم بأن للشريعة ظاهرا وباطناً. (12) ويثبت الكرامة للولي الذي يثبت نهوضه بتكاليف الشرع. (13) ويقر التوسل بالأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين شريطة أن يكون التوجه به إلى الله وحده. وفي موضوعات الباب الخامس (14) ثبت لنا أنة يؤكد وحدة الأساس الذي تقوم علية الجماعة المسلمة وهو أساس العقيدة وحده وهي عقيدة التوحيد. (15) وإن سائر الموحدين على اختلاف أجناسهم وألوانهم أمة واحدة وكل من خالف التوحيد عدو لهم يتربص بهم الدوائر. (16) وإن الجهاد في سبيل الله فرض عين علي الموحدين لدفع العدوان الواقع عليهم أو المحتمل وقوعه. (17) وإن موادة أهل الشرك كفر تخرج صاحبها من الملة ولو كان ينطق بالشهادتين. (وفي موضوعات الباب السادس) (18) ثبت لنا عظيم تأثيره في الفكر الإسلامي بما كان يحتاج إليه هذا الفكر من فتح باب الاجتهاد وبما كان يحتاجه العالم الإسلامي من إحياء شريعة الجهاد في مواجهة عدوان أوربا الحديث عليه. (19) كما ثبت لنا أن منهجه القائم على الإسلام الشامل قد أقام دولة موحدة لأول مرة في جزيرة العرب وكان لهذه الدولة بدورها أثرها في الصراع مع القوى المحيطة بها بعد ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 تلك بعض نتائج البحث المنبثة خلال أبوابه وفصوله المتفرقة ولكن النتيجة الأهم – في تقديري – لحركة محمد بن عبد الوهاب ودعوته- ولكل بحث يعرض لهذه الدعوة في جانب من جوانبها المتعددة هي: ثبوت قدرة المنهج التربوي الإسلامي المستقى من الكتاب والسنة على صناعة الرجال وصياغة الأفكار عبر كل مرحلة من مراحل التاريخ وأنه مهما بدا للناس أن الفكر الإسلامي قد حجبته غواشي الجهل والتخلف وشبهات بعض المستشرقين ومن نقل عنهم عاد صافيا متجددا عبر أحد مفكريه على امتداد الزمان والمكان تصديقاً لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " "إن الله يبعث على رأس كل قرن من يجدد لها أمر دينها" رحم الله الشيخ المصلح المجدد: محمد بن عبد الوهاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 مصادر ومراجع ... ثبت المراجع 1. كتب التفسير: 1) ابن الجوزي (عبد الرحمن بن علي القرشي) المتوفى سنة 597هـ. زاد المسير في علم التفسير_ المكتب الإسلامي بدمشق سنة 1385هـ. 2) الطبري (أبي جعفر محمد بن جرير) المتوفى عام 310هـ. جامع البيان عن تأويل القرآن_ تحقيق وتعليق / محمود شاكر دار المعارف. 3) القرطبي (أبي عبد الله بن أحمد الأنصاري) الجامع لأحكام القرآن _ طبعة الشعب. 4) ابن كثير (أبي عبد الله بن إسماعيل الدمشقي) المتوفى سنة7/7/هـ. تفسير القرآن العظيم_طبع دار إحياء الكتب العربية. 2) كتب الحديث: 1. البخاري (أبي عبد الله محمد بن إسماعيل) المتوفى سنة 256هـ. الجامع الصحيح_دار إحياء الكتب العربية بمصر. 2. ابن حنبل (الإمام أحمد) المتوفى عام241هـ. مسند الإمام أحمد بن حنبل_طبع دار المعارف 3. أبي داود (سليمان بن الأشعث السجستاني) المتوفى سنة 275هـ. سنن الإمام أبي داود طبع مطبعة السعادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 4. مسلم (الإمام بن الحجاج القشيري النيسابوري) المتوفى سنة261هـ. صحيح الإمام مسلم – مصطفى البابي الحلبي. 3- كتب الفقه وأصوله: 1) الأمدي (سيف الدين أبى الحسن) المتوفى سنة 639هـ. الأحكام في أصول الأحكام- مطبعة محمد علي صبيح سنة 1387هـ 1986م. 2) الأنصاري (عبد العلي محمد بن نظام الدين) . فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت –طبع المطبعة الأميرية ببولاق. 3) الخضري (الشيخ محمد) . تاريخ التشريع الإسلامي – مكتبة صبيح. 4) ابن حزم (أبي محمد بتن علي 9المتوفي سنة 456هـ. الأحكام في أصول الأحكام – طبع بمطبعة السعادة بالقاهرة. 5) أبو زهرة (الشيخ محمد) . أصول الفقة- دار الفكر العربي سنة 1377هـ سنة 1975م. محاضرات في الفقةالإسلامي سنة 1965م. 6) الدهلوي (شاه ولي الله) المتوفى سنة 1176هـ. حجة الله البالغة دار الكتب الحديثة بالقاهرة والمثني ببغداد. 7) السيوطي (جلال الدين عبد الرحمن) . المتوفى سنة 911هـ." الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل الاجتهاد في كل عصر فرض"مكتبة الأزهر رقم 1856. 8) السايس (الشيخ محمد علي) .تاريخ الفقةالإسلامي- مطبعة صبيح. 9) الشوكاني (محمد علي) المتوفى سنة 1250هـ. إرشاد الفحول – طبع مطبعة السعادة بالقاهرة. 10) المسودة في أصول الفقة لثلاثة من أئمة آل تيمية – إبن تيمية المعروف وأبوه وجده – طبع مطبعة المدني بالقاهرة. 11) المقدس (ابن قدامة الحنبلي) .روضة الناظر وجنة المناظر – في أصول الفقة على مذهب الإمام أحمد بن حنبل – المطبعة السلفية القاهرة سنة 1391هـ. 12) مخلوف (الشيخ محمد حسنين) . بلوغ السول في مدخل علم الأصول- مطبعة المعاهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 - كتب محمد بن عبد الوهاب: وقد أوردنا في الباب الأول – الفصل الثالث. من ص 18 –21. 5- المراجع العربية: 1) أمين (أحمد) . زعماء الإصلاح في العصر الحديث – النهضة- 1949م. فجر الإسلام – النهضة –1965م. 2) الريحاني (أمين) .ملوك العرب- الطبعة الثالثة- بيروت 1951م. تاريخ نجد الحديث وملحقاته- الطبعة ثانية- دار الريحاني بيروت سنة 1954م. 3) ارنولد (سيرت) .الدعوة إلي الإسلام- النهضة إسماعيل باشا (البغدادي) هدية العارفين- طبعة استانبول سنة 1955. 4) الألوس (محمود شكري) .تاريخ نجد – المطبعة السلفية 1343هـ. 6) ابن بشر (عثمان) ، عنوان المجد في تاريخ نجد ـ طبعة وزارة المعارف السعودية تحقيق عب الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ـ 1394هـ. 7) بروكلمان (كارل) . تاريخ الشعوب الإسلامية في القرن التاسع عشر ـ دار الملايين ـ بيروت ـ ج 4، 5 ـ نقله إلى العربية نبيه أمين فارس ت منير البعلبكي. 8) الباقلاني (أبي بكر محمد بن الطيب) .إعجاز القرآن – دار المعارف_1954-1374هـ. 9) البيهقي (أبو بكر بن الحسين) المتوفى سنة 458هـ. ا‘تقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة – تحقيق أحمد مرسي- 1380 هـ1961مـ. 10) البغدادي (عبد القاهر) المتوفى سنة 429هـ. الفرق بين الفرق – تحقيق محي الدين عبد الحميد مكتبة صبيح بدون تاريخ. 11) تاج الدين (محمد) . الرسالة الرملية في فصل الخلاف بين أهالي الرمل ودعاة الوهابية – مطبعة النصر بالإسكندرية - بدون تاريخ. 12) تسهير (جولد) . العقيدة والشريعة في الإسلام – نقله إلى العربية - د. محمد يوسف موسىد. على حسن عبد القادر والأستاذ عبد العزيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 عبد الحق – الطبعة الثانية – دار الكتب الحديثة – ومكتبة المثنى ببغداد. 13) ابن تيمية تقي الدين أبو العباسي أحمد. السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية – القاهرة سنة 1378هـ. والإيمان –المكتب الإسلامي-الطبعة الثانية سنة 1392هـ. 14) الجبرتي (عبد الرحمن) . عجائب الآثار في التراجم والأخبار ج 1- لجنة البيان العربي – الطبعة الأولى – 1958مـ. 15) ابن الجوزي (عبد الرحمن بن علي) المتوفى سنة 597هـ. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم – حيدر وأباد سنة 1358هـ. نقد العلم والعلماء – أو تلبيس إبليس _ بدون تاريخ. 16) حجازي (د. عوض الله) . ابن القيم وموقفه من التكفير الإسلامي – 1380هـ ـسنة 1960مـ. 17) أبي الحسن (الندوي) . ماذا خسر العالم من بانحطاط المسلمين- دار الأنصار الطبعة العاشرة 1397هـ، ـ 1976مـ. 18) حسونة (د. محمد أحمد) . محاضرة عن أصل الوهابيين ونشأة الدولة العربية السعودية_ألقاها بالجمعية الجغرافية الملكية_ مطبعة العلوم 1933م. 19) حسين (د. طه) .الحياة الأدبية في جزيرة العرب_مجلة الهلال سنة 1933 مـ. 20) ابن حجر (الشيخ أحمد قاضي قطر) .الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية 1395هـ. 21) الحسينيي (محمد امين) . العقود الدرية في كشف شبهات الوهابية – مطبعة زيدون بدمشق – طبعة أولى سنة 1347 هـ. كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب- مطبعة زيدون بدمشق طبعة أولى 1347هـ. 22) ابن حسن (عبد الرحمن) .فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد –تحقيق محمد حامد الفقي – دار الكتب العلمية – بيروت الطبعة السابعة 1377 –1957م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 13) الحنفي (صدر الدين أبي العز) المتوفى سنة792هـ. شرح الطحاوية- مكتبة الرياض الحديثة سنة 1373هـ. 14) الحفناوي (د. مصطفى) .ابن سعود- سياسته –حروبه –مطامعه- عن وليمز وليمز وآرمسترونج "بتصرف"- الطبعة الأولى – سنة 1353هـ سنة 1934مـ. 15) حلمي (د. مصطفى) .قواعد المنهج السلفي والنسق الإسلامي في مسائل الألوهية والعالم والإنسان عن شيخ الإسلام ابن تيمية- دار الأنصار طبعة أولي 1396-هـ1976مـ. 16) أبو حاكمة (د. مصطفى) .حقق لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب-دار الثقافة ببيروت سنة 1967 وما زال الكتاب مجهول المؤلف. محاضرات في تاريخ شرقي الجزيرة العربية في العصور الحديثة- معهد البحوث والدراسات العربية سنة 1968م. 17) الخضري (محمد) .تاريخ الأمم الإسلامية ج1 – سنة 1366هـ. 18) ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد) .مقدمة ابن خلدون –بيروت- دار إحياء التراث العربي-ط رابعة. 19) حلان (أحمد زيني) .الدرر السنية في الرد على الوهابية- المطبعة العثمانية بيروت بدون تاريخ. خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام – المطبعة الخيرية سنة 1305 هـ ط. أولى. 20) الدرر السنية في الأجوبة النجدية_ وهي مجموعة رسائل علماء نجد ابتداء من ابن عبد الوهاب وأبنائه وأحفاده وتلاميذه وتعتبر موسوعة علميه لفكر الدعوة الوهابية. مكونة من 12 مجلدا قام بجمعها وترتيبها – عبد الرحمن بن قاسم العاصمي القحطاني النجدي. من مطبوعات دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية سنة 1385هـ، سنة 1965مـ. 32) الرويشد (عبد الله بن سعد) .الإمام محمد بن عبد الوهاب في التاريخ- مطبعة الحلبي – سنة 1392هـ سنة 1972. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 32) رفعت (إبراهيم) .مرآة الحرمين الشريفين- طبع دار الكتب 131344ـ. 33) الزركلي (خير الدين) .شبة الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز ج 1-بيروت طبعة أولى سنة 1390 هـ1970مـ. الإعلام – الطبعة الثانية-بيروت. 34) زاده (طاش الكبرى) .مفتاح السعادة ومصباح السعادة جـ 1 ـ طبعة دار الكتب الحديثة سنة 1968م. 35) الزهاوي (جميل صدقي) .الفجر الصادق في الرد علي منكري التوسل والكرامات والخوارق_طبع القاهرة1323مـ. 36) ستودارد (لوثروب) .حاضر العالم الإسلامي-نقلة إلى العربي وفيه أصول وتعليقات للأمير شكيب إرسلان طبعة دار إحياء التراث الكتب العربية بالقاهرة الطبعة الثانية سنة 1352هـ. 37) الإسفراييني (أبي المظفر) المتوفى سنة 471هالتبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين- مطبعة الأنوار الطبعة الأولى 1359هـ. 38) السلمان (عبد العزيز المحمد) . الكواشف الجلية عن معاني الواسطية طبعة ثالثة بدون تاريخ. 39) السهسواني (محمد بشير) المتوفي1326هـ. صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان_مطبع المنار الطبعة الثانية_1351هـ. للرد على كتاب الدرر السنية في الرد على الوهابية لزيني بن دحلان. 40) سليمان (بن سحمان) .الدية السنية والتحفة الوهابية النجدية _المنار سنة 1344هـ. 41) سليمان (ابن عبد الوهاب) .الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية-كتاب في مجلد وبلية رسالة في حكم التوسل بالأنبياء والأولياء للشيخ محمد حسين مخلوف- ويليها رسالتان. الأولى النقول الشرعية في الرد على الوهابية والثانية في تأييد مذهب الصوفية-صحح الجميع الشيخ عبد الوصيف محمد. مطبعة أولى سنة 1923مـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 32) سليمان (بن عبد الله بن عبد الوهاب) .التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق- وتذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الطبعة الأولى سنة 1319هـ 33) سيد (محمد إبراهيم) .تاريخ المملكة العربية السعودية-سنة 1393هـ سنة 1973هـ. 34) سيد (د. محمد موسى) .الاجتهاد ومدى حاجاتنا إليه في هذا العصر-دار الكتب الحديثة- 1650هـ1971مـ. 35) الشوكاني (محمد بن علي) المتوفى سنة 1250هـ، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع ت طبعة أولى مطبعة السعادة 1348هـ، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد ـ طبعة أولى سنة 1394هـ. 36) الشهرستاني (عبد الكريم) .الملل والنحل – تحقيق محمد سيد كيلاني الطبعة الأولي 1387هـ1967مـ. 37) الشيال (د جمال الدين) محاضرات عن الحركة الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث- الجزء الأول الهند- الجزيرة العربية سنة 1957ام. 38) الصعيدي (عبد المتعال) .محاضرات عن القضايا الكبرى في الإسلام –مكتبة الآداب ومطبعتها- الطبعة الثانية سنة 1960مـ 39) الطويل (د. توفيق) العرب والعلم في عصر الإسلام الذهبي- دراسات علمية أخرى دار النهضة 1968 م. 40) الطبري (أبي جعفر محمد جرير) .تاريخ الأمم والملوك 2 المطبعة الحسينية طبعة أولي. 41) العقاد (عباس) .الإسلام في القرن العشرين حاضرة ومستقبلة –دار الكتاب العربي بيروت الطبعة الثانية 1969م. 42) العقاد (د. صلاح) التيارات السياسية في الخليج العربي- الأنجلو سنة 1965م. 43) عبده (الشيخ محمد) .رسالة التوحيد- الطبعة لعاشره- المنار سنة 1361هـ 44) عبد الرحمن (بن عبد اللطيف آل الشيخ) ، مشاهير علماء نجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وغيرهم ـ دار اليمامة ـ المملكة العربية السعودية 1392 هـ سنة 1972 م ط. أولى. 32) عبد الرحيم (الدكتور) ، الدولة السعودية الأولى 1745-1818هـ. 1158-1233هـ، الطبعة الثانية 1976هـ طبعة معهد البحوث والدراسات العربية. 33) عبد الله (بن محمد بن عبد الوهاب) الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة ـ المطبعة السلفية. 1393هـ 34) عطار (أحمد عبد الغفور) محمد بن عبد الوهاب ـ الطبعة الثانية 1392 هـ 1972 هـ منشورات مكتبة العرفان ـ بيروت. 35) علوي (حداد) مصباح الأنام وجلاء الظلام في رد شبهة البدعي النجدي التي أضل بها العوام ـ طبعة أولى سنة 1325هـ. 36) العجلاني (د. منير) تاريخ البلاد العربية السعوديةـ دار الكتاب العربي ـ بيروت. 37) الغزالي (أبي حامد) المتوفي سنة 505 هـ إحياء علوم الدين ـ 4 مجلدات ـ طبعة مصطفى الحلبي. 38) غنام (الشيخ حسين) ، روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام ـ وقد حققه وطبعه ـ د. ناصر الدين الأسد بعنوان تاريخ نجد ـ مطبعة المدني سنة 1381هـ، 1961هـ. 39) فلبي (جون) ، تاريخ الدولة العلية العثمانية ت طبعة ثانية سنة 1314هـ. 40) فريد (محمد) تاريخ الدولة العلية العثمانية ـ طبعة ثانية سنة 1341هـ 41) الفقي (محمد حامد) ، أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها ـ مطبعة النهضة سنة 1354هـ 42) فؤاد (حمزة) قلب جزيرة العرب ـ مكتبة النصر الحديثة بالرياض سنة 1368هـ 43) فالين (جورة أوغست) صور من شمال جزيرة العرب ـ ترجمة سمير شلبي ـ يوسف إبراهيم طبع سنة 1971 بالقاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 32) الفاسي (ابي عبد الله الطيب) رسالة إظهار الحق ـ طبعة أولى سنة 1102هـ، وهي من أقدم ما ألف من رسائل في الرد على الوهابية. 33) الفاسي (أبي المكارم محمد الأدريس الكناني) فهرس الفهارس والإثبات – سنة 1346هـ. 34) القصيمي (عبد الله بن علي النجدي) البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية ـ المنار ـ 1350هـ 1931 م الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم ـ ط ـ أولى سنة 1334م. 35) الثورة الوهابية ـ المطبعة الرحمانية سنة 1354هـ، سنة 1936 م 36) ابن القيم (محمد بن ابي بكر) أعلام الموقعين ـ مطبعة الكردي ـ مدراج السالكين بين منازل اياك نعبد وإياك نستعين ـ مطبعة المنار ـ طبعة أولى في ثلاثة أجزاء. 37) القشيري (عبد الكريم بن هواذن) المتوفي سنة 465هـ الرسالة القشيرية في علم التصوف ـ مطبعة صبيح القاهرة. 38) القرافي (شهاب الدين أبي العباس) الأحكام ـ مكتبية المطبوعات الإسلامية ـ حلب 1387هـ، 1967هـ 39) الكسيم (محمد عطا) الأقوال المرضية في الرد على الوهابية ـ طبعة أولى المطبعة العمومية سنة 1901هـ. 40) كحالة (عمر رضا) ض. معجم المؤلفين ـ مطبعة الترقي 1380هـ، 1960م. 41) كرد (محمد علي) ، القديم والحديث، المكتبة التجارية ـ طبعة أولى سنة 1343هـ 1925م. 42) الكلاباذي (ابوبكر محمد) المتوفي 380هـ، التعرف لمذهب أهل التصوف ـ تحقيق د. عبد الحليم محمود طه عبد الباقي سرور ـ الحلبي ـ القاهرة 1380هـ 43) الكريمي (مصطفى) رسالة السنين في الرد على المبتدعين الوهابيين ـ وفيها جواز التوسل بجاه النبي طبعة المعاهد سنة 1345هـ. 44) المتوفي (السيد محمود أبو الفيض) المدخل إلى التصوف الإسلامي ـ الدار القومية للطباعة والنشر بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 32) مبارك (علي باشا) الخطط التوفيقية ـ جـ 12 ـ طبعة أولى سنة 1305هـ 33) مذكور (د. إبراهيم) في الفلسفة الإسلامية ـ منهج وتطبيقه ـ الطبعة الثانية 1968 هـ الجزء الأول. 34) ماضي (د. عبد الله) النهضات الحديثة في جزيرة العرب ـ الطبعة الثانية 1372، 1952م دار إحياء الكتب العربية. 35) المهندس (محمود فهمي) البحر الزاخر في تاريخ العالم وأخبار الأوائل والأواخر ـ طبعة أولى سنة 1312هـ المطبعة الأميرية ـ القاهرة. 36) النشار (د. علي سامي) نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام جـ 1، الطبعة الرابعة دار المعارف سنة 1966م. 37) النبهاني (الطائي المكي) التحفة النبهانية في إمارات الجزيرة العربية دار السلام ببغداد ـ 1332هـ 38) الهراس (د. محمد خليل) الحركة الوهابية ـ رد على مقال د. البهي في نقد الوهابية دار الكاتب العربي ـ بيروت. 39) الهندي (عبد الله) إظهار الحق بها أربع رسائل من بينها رسالة عبد الله الهندي ـ المطبعة الخيرية ـ سنة 1309هـ. 40) الوهابين والحجاز ـ مطبعة المنار سنة 1344هـ. 41) وهبة (حافظ) جزيرة العرب في القرن العشرين ـ طبعة ثالثة مطبعة لجنة التأليف والنشر سنة 1365هـ ـ سنة 1946م. خمسون عاما في جزيرة العرب ـ طبعة الحلبي سنة 1380هـ 1960م. 42) هلال (د. إبراهيم) ولاية الله والطريق إليها ـ دار الكتب الحديثة سنة 1951م. الرسائل الجامعية التي لم تطبع بعد: 1. آمنة محمد نصير ـ ابن الجوزي آراؤه الكلامية والأخلاقية رسالة ماجستير ـ قدمت لكلية بنات عين شمس 1971م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 1. سعاد علي عبد الرزاق ـ " في التصوف عند ابن القيم" درجة دكتوراه إشراف ـ دـ فوقية حسين ـ د ـ عاطف العراقي ـ قدمت لكلية البنات جامعة عين شمس. 2. بد العليم علي عبد الوهاب هيكل " العلاقات بين عبد العزيز بن سعود والاخوان" 1912-1930م ماجستير قدمت لآداب عين شمس سنة 1976م. 3. كمال السيد درويش ـ " محمد بن عبد الوهاب والدعوة الوهابية" ماجستير قدمت لآداب إسكندرية سنة 1958م. مجلات: ـ 1. مجلة كلية الآداب م جامعة القاهرة ـ المجلد الخامس والعشرون جـ 2 سنة 1963م مقالة للأستاذ الدكتور / أبو الوفا التفتازاني " الطرق الصوفية في مصر ". 2. مجلة كلية البنات / جامعة عين شمس العدد الرابع يولية 1964م مقالة للأستاذ الدكتور / عبد الحميد البطريق " الوهابية عقدية ودولة". 3. مجلة الموقف العربي ـ العدد الثاني 1397-1977م مقالة للشيخ الدكتور / أحمد الشرباصي " الإمام محمد بن عبد الوهاب" (المراجع غير العربية) 1- Carlo Guarmani. Morthern najd a Fourney From Jerusalem to Anaiza in Qosim. Translated from the Italian by, Lady CapelCure! With Introduction and notes by Douglas Caruthers. London1938. 2- Charles M-Doughty. Arabia Deserta Preface De T.E. Lawrence Textes Choisis par Edward Carnett et Traduit par Tacques Marty. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 Payat, Paris. 3- Capitanie H.C.Armstrong. Le Maitre de l'arabie Ibn Seoud. Avec Cing Cropusis dans Le Texte. Payot. Baris. 4- H.St.J.B.Philby C.I.E. The Heart of Arabia ARecord of Travel and Explration in two Volumes. London.Bombay.Sydney 1922. 5- D.G Hogarth, M.A.F.R.G.S,F.S.A The prenetration of Arabia. London 1905. 6- Eric Rasenthal From Durury Lane to Mecca. London. 7- Elfred Thesiger Arabism Sands The remark able true story of the last great adventures of modern times. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262