الكتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد المفترى عليه المؤلف: أحمد بن حجر بن محمد بن حجر بن أحمد بن حجر بن طامي بن حجر بن سند بن سعدون آل بوطامي البنعلي (المتوفى: 1423هـ) الناشر: دار الفتح الشارقة، الإمارات العربية المتحدة الطبعة: الأولى 1415هـ - 1995م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد المفترى عليه أحمد بن حجر آل بوطامي الكتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد المفترى عليه المؤلف: أحمد بن حجر بن محمد بن حجر بن أحمد بن حجر بن طامي بن حجر بن سند بن سعدون آل بوطامي البنعلي (المتوفى: 1423هـ) الناشر: دار الفتح الشارقة، الإمارات العربية المتحدة الطبعة: الأولى 1415هـ - 1995م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... تقديم لله الحمد مخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي والصلاة والسلام على من أرسله الله نورا يهدي به من ضل عن الرشد. أما بعد: فالأمم العظيمة تقدر عظمتها بعدد الرجال الكمل فيها, الذين يتركون أثرا يمتد فيصبحوا بحق من مجددي العصر. ومن هؤلاء إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. فقد كانت الحالة في نجد في عصره لا تختلف كثيرا عن الحالة في مصر والهند وغيرها الآن, حيث الجهل منتشر والقبور ينذر لها والأشجار يتبرك فيها ... إلى أنواع من الشرك تمارس, وطقوس وعبادات تصرف لغير الله سبحانه. فقام رحمه الله بما وضحه مؤلفنا فضيلة الشيخ أحمد بن حجر الذي قام بتوضيح الدور العظيم الذي قام به إمام الدعوة ومجدد عصره. لكن الذي أريد أن ألفت الانتباه إليه هو: ما هو السلاح السحري الذي كان لدى الشيخ حيث استطاع تحويل هذه الأمة التي تغلب العامية عليها وانتشار الجهل فيها إلى أمة متعلمة موحدة مدركة مجاهدة؟ والذي استقر عندي بالتتبع أن الشيخ أحسن استخدام النص القرآني والنبوي والذي به الحياة لقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ.} .الآية وقوله جل شأنه: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ..} الآية فالإمام رحمه الله أحسن الاستدلال بالنصوص وربط القلوب بكلام خالقها فأثر فيها وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 فالقلوب تحييها النصوص. ولعل قارئ ينظر إلى مفكري وساسة الجماعات الدعوية على كثرة ما كتبوا وهي أطنان من الورق لم تعمل في شعوبها العمل الذي عملته الرسائل الصغيرة الحجم القوية المعنى للإمام رحمه الله. فإذن على الدعاة والمصلحين ربط الأمة بالقرآن والسنة فإن في ذلك الحياة, وترك الفلسفات الكثيرة التي درج عليها مفكرو هذا العصر. إن أعداء الدعوة, وهذا شأنهم في كل عصر, ومع كل مصلح صادق لا يستطيعون الإقناع والحجة يلجؤون للشبهات والتهم. فما من تهمة إلا وألصقت بالشيخ رحمه الله ولكن الله سبحانه أظهر الحق ونصر دينه. وهذا فيه مواساة لأهل التوحيد, أن اصبروا فالله مظهر دينه ولو كره المنحرفون. واليوم ونحن نرى الشبهات منها يكررها أعداء الدعوة في كل مكان نرى لزاما علينا أن نعيد ترجمة هذا الإمام خاصة وقد تطاول عليه في عصرنا هذا بعض سفلة العصر وجهلته. فرحم الله الإمام ووفق السائرين على دربه. كتبه: عبد الله السبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله الذي أمر بالعدل في جميع الأمور, ونهى عن الجور والظلم فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 1, والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد الذي حث على اتباع كتاب الله, والتمسك بسنته, وحذر من البدع والضلالات, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, شهادة تنجي قائلها يوم الدين, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فقد جرت سنة الله في خلقه, أنه ما أتى من رسول أو مصلح يدعو إلى توحيد الله, وإفراده بالعبادة, والائتمار بأوامره, والانتهاء عن نواهيه, إلا وقد قابله الجاهلون المقلدون, والرؤساء المترفون, بالصد والتكذيب والاستهزاء والسب الشنيع, فلا يخضع لدعوة ذلك الرسول أو ذلك المصلح إلا القليل, حتى ورد: أنه يبعث ومعه الرجل والرجلان, يعني لم يستجب من قومه له إلا الرجل أو الرجلان, وقد قال الله {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 2 ومن أولئك المصلحين الحريصين على نشر التوحيد, وإقامة شرائع الله, وإخراج الناس من ظلمات الشرك والبدع إلى نور توحيد, الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله وأجزل له الأجر والثواب- فقد قام بالدعوة خير قيام, وجاهد في الله حق جهاده, فكان جزاؤه أن يشكر   1 النساء: 135 2 يوسف: 103 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وأن يمجد ويدعى له بالخير, ولكن ما كان من أكثر المدعوين إلا الإعراض والاستكبار والاستهزاء وتلقيبه بالساحر والكاهن والكذاب, ولم يكتفوا بذلك حتى أقاموا عليه الحرب باللسان والحسام, وأشاعوا عنه الدعايات الضالة والأكاذيب الملفقة, ونسجوا حوله الشبهات الواهية, والأقاويل الساقطة, والعقائد الزائفة، كقولهم: إنه لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم, ويمنع من زيارة قبره, ويكفر المسلمين الذين يفعلون ذلك, ونحو ذلك من الأكاذيب والافتراءات والبهتان العظيم. وكتب في المأجورون تنفيرا للناس من الشيخ الجليل, وصدا عن سلوك طريقه المستقيم, فراجت هذه الفكرة السيئة عن الشيخ الجليل في كثير من البلدان, فإنهم رأووا كتبا بتوقيع الشيخ الفلاني أو العلامة الفلاني الشافعي أو الحنفي أو المالكي, وظن الجهال أن العلماء لا يكذبون, وأنهم لم يكتبوا إلا ما حققوه, وليس الأمر كذلك, بل ما كتبوه في ذم الشيخ كله كذب مختلق, لا نصيب له من الصحة, ولا سند له من الواقع, إنما دفعهم إلى الكتابة التقرب إلى الأتراك أو الأشراف, أو الإبقاء على الرياسة لدى العوام وجمع الحطام من أشباه الأنعام, وما راقبوا الله عز وجل فيما كتبوا, ولم يمنعهم الحياء من أن يختلقوا ويفتروا ما كذبوا, وأكثرهم كتب مما يسمع ولم يقرآ كتب الشيخ وأولاده وأحفاده وأئمة الدعوة السلفية النجدية, حتى يعرف الحق من الباطل, والهدي من الضلال. وبناء على النصيحة للمسلمين, وحبا في شريعة سيد المرسلين, وصيانة لتوحيد رب العالمين, ودفاعا عن شيخ الإسلام, ومجدد الدين في القرن الثاني عشر الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله – كتبت هذا الكتاب المعنون: الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر المفترى عليه ودحض تلك المفتريات, وطبعته في رمضان 1407هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وقد نفدت نسخه, ولما كانت الحاجة إليه ماسة, فقد استعنت بالله العظيم أعدت طبعه للمرة الثانية, سائلا رب العرش العظيم, أن ينتفع بهذا الكتاب عباده المؤمنين, وأن يجعله أداة إنقاذ من ظلمات الجهالة, وأن ينور بصائر القارئين, ليعرفوا حقيقة الشيخ الجليل, ولا تروج عليهم دعاية أهل الضلال, والله من وراء القصد, وحسبنا الله ونعم الوكيل, ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم, وصلى الله على سيد الأنام وعلى آله وأصحابه الكرام وسلم. الدوحة في 13/ شوال/ 1412هـ ـ 15/4/1992م أحمد بن حجر آل بوطامي البنعلي رئيس قضاة المحكمة الشرعية بدولة قطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله وحده والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد. فبالرغم من انتشار العلم وتنور الأذهان وتقلص ظل الأمية الجهالة من المجتمعات الإسلامية, فلا زال الكثيرون قد علق بأذنانهم فكرة سيئة ورأي غير سديد حول الإمام المصلح الكبير الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله, وذلك من جراء تلك الافتراءات والأكاذيب التي نسجتها أيدي المغرضين وخصوم الدعاة المخلصين فتكونت شبهات حول الشيخ وهي في الحقيقة كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء فإذا جاءه لم يجده شيئا, ومن أجل كثرة ما سمعت من تلك الدعايات المضلة والأقاويل المزورة بدا لي أن أكتب في هذا الموضوع في بيان تلك الأقاويل والشبهات وبطلانها بالدلائل الواضحة التي إذا قرأها القارئ وكان يملك شيئا من العقل والإنصاف يخرج منها نقيا من أرجاس تلك الأقاويل والافتراءات مسلحا بسلاح الإيمان والتصديق والإذعان بأن ما سمعه أو قرأه عن الشيخ المذكور لا صحة له, وعلى الفرض أن يصح بعض ما نسب إليه يكون مؤيدا بالدليل من الكتاب والسنة وأقوال محققي علماء الأمة. ولو تتبعنا مقالاتهم الواهية لتطلب مجلدا ضخما, ولكن اعتمدنا على الشبهات الكبيرة التي نسجوها حول الشيخ رحمه الله, وعند التأمل ترجع تلك الشبهات إلى الشبهة حول توحيد الألوهية الذي يتفرع منها الاستغاثة واللياذ بغير الله والنذر والذبح والحلف بغير الله تعالى إلى آخر أنواع العبادة, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وإلى توحيد الأسماء والصفات, فيستطيع الكاتب أن يحصر شبهاتهم حول ثلاث شبهات: أ- حول توحيد الألوهية ب- توحيد الأسماء والصفات ج– إنكار الشيخ للبدع كالموالد وطرق الصوفية والعادات المخترعة والمنحطة والبناء على القبور. فإذا أمعن القارئ النظر في هذه الشبهات وفي الأجوبة عنها, فقد تسلح بسلاح الحجج النقلية والعقلية, ويستطيع أن يرد على يوردونه في الاعتراض على الشيخ وينقض كلامهم. ويكفي للناقد البصير أن يفهم أن أكثر ما يوردونه لا يستندون فيه إلى آية أو حديث, إنما هو مجرد كلام واتهام بغير حجة سوى ما يوردونه في باب التوسل والاستغاثة من الأحاديث الضعيفة الواهية التي لا يتشبث بها ويستمسك بها إلا من كان مفلسا من الحجج الصحيحة القوية, فإذا تأمل الخبير البصير عرف وهن ما زعموه, إذ لو كان كل كلام وادعاء يقبل, لما كان للبينة والحجة حاجة, فإن مجرد الادعاء والكلام لا يعجز عنه أحد, وإنما الشأن فيمن يدعي ويقيم الحجة على دعواه بشرط أن تكون تلك الحجة من كتاب الله العظيم أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الحسنة, لا من أقاويل الرجال ولا من الكتب المحشوة بالترهات والضلالات, ومن كلام الكثيرين الذين ينتسبون إلى العلم وهم أفلس من إبليس في يوم الوقوف بعرفة من البراهين المؤيدة لدعواهم. هذا وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم, أحمد بن حجر ال بوطامي البنعلي رئيس قضاة المحكمة الشرعية بدولة قطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وقبل الدخول في الموضوع رأيت أن أكتب نبذة1 عن حياة وحالة نجد إذ ذاك, وسائر الأقطار. ولادته ونشأته ورحلته لطلب العلم: ولادته سنة 115هـ الموافق سنة 1703م, وفاته سنة 1306هـ. ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد التميمي في بلدة العيينة الواقعة شمال الرياض, ونشأ الشيخ في حجر أبيه عبد الوهاب في تلك البلدة في زمن إمارة عبد الله بن محمد بن حمد بن معمر. وكان رحمه الله سباقا في عقله وفي جسمه فطنا ذكيا, فقد استظهر القرآن قبل بلوغه العشر, وبلغ الاحتلام قبل تمام الاثنتي عشرة سنة, قال أبوه رأيته أهلا للصلاة بالجماعة وزوجته في ذاك العام.   1 مع العلم أني قد كتبت كتابا مفصلا عن الشيخ بعنوان عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه غير أني لم أتوسع في دفع الشبهات ودحض المفتريات, ولهذا كتبت هذا الكتاب بهذا العنوان "الشيخ محمد بن عبد الوهاب المفترى عليه ودحض تلك المفتريات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 طلبه للعلم: درس على والده الفقه الحنبلي والتفسير والحديث, وكان في صغره مكبا على كتب التفسير والحديث والعقائد, وكان يعتني بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الحافظ ابن القيم رحمهما الله ويكثر من مطالعة كتبهما. رحلاته العلمية: ثم غادر البلاد قاصدا حج بيت الله الحرام, وبعد أدائه الفريضة أم المدينة المنورة وقصد المسجد النبوي وزار إمام المرسلين صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبرار المخلصين. وقرأ على بعض علماء المدينة, ومن مشايخه هناك الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف من آل سيف النجدي والشيخ علي أفندي الداغستاني والشيخ إسماعيل العجلوني, كما استفاد من الشيخ عبد اللطيف العفالقي الأحسائي والشيخ محمد العفالقي الأحسائي والشيخ محمد حياة السندي, ثم رجع إلى نجد وتوجه إلى البصرة فأقام مدة في البصرة ودرس العلم فيها على جماعة من العلماء, منهم الشيخ محمد المجموعي, وقد قرأ عليه الكثير من النحو واللغة والحديث وغيرها, وذكر المؤرخ ياسين بن خير الله الخطيب العمري الموصلي في كتابه (غرائب الأثر) أن الإمام محمد بن عبد الوهاب قدم الموصل وقرأ العلم على العلامة مولانا ملا حمد الجميلي وأخذ عنه الكثير, ويقال: أن المؤرخ العمري كان معاصرا للإمام1. ثم رجع إلى نجد, ومر في طريقه بالأحساء, وقرأ على الشيخ محمد بن عبد اللطيف الشافعي مدة من الزمن, ثم رجع إلى بلاده, وقد شاهد أحوال نجد والحرمين والعراق وغيرها من البلدان من المنكرات والشركيات والبدع والضلالات حتى عندما كان في المدينة المنورة يسمع الاستغاثات برسول الله ودعائه من دون الله, فقال للشيخ محمد حياة السندي: ما تقول يا شيخ في هؤلاء؟ فأجاب على الفور, إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون.   1 نقلته من بحث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولم أر من ذكره غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 حالة نجد في عقائد أهلها الفاسدة قبل دعوة الشيخ رأى نجدا مرتعا للخرافات والعقائد الفاسدة التي تتنافى مع أصول الدين الصحيحة, فقد كان فيها كثير من القبور تنسب إلى بعض الصحابة, يحج الناس إليها ويطلبون منها حاجاتهم, ويستغيثون بها لدفع كروبهم, فقد كانوا في الجبيلة يؤمون قبر زيد بن الخطاب, يتضرعون لديه ويسألونه حاجاتهم, وكذلك في الدرعية كان قبر لبعض الصحابة كما يزعمون, وأغرب من ذلك توسلهم في بلد المنفوحة بفحل النخل, واعتقادهم أن من تؤمه من العوانس تتزوج, فكانت من تقصده تقول: "يا فحل الفحول, أريد زوجا قبل الحول" ورأى في الحجاز تقديس قبور الصحابة وأهل البيت والرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يسوغ إلا مع رب الأرباب. كما سمع عن العيدروس في "عدن" والزيلعي في اليمن الشيء الكثير, وعن البدوي والدسوقي والرفاعي والجيلاني وأمثالهم, ما يقوم به الأكثرون تجاه هؤلاء من العبادات التي لا تصلح إلا لله, كالنذور والطواف الذبح والاستغاثة إلى غير ذلك, وهكذا كان أهل نجد وسائر الأقطار لا يعرفون الله في الرخاء ولا في الشدة باستثناء قلة صالحة, فإذا حلت مصيبة بأحد أو مرض أو ظلم, أو يريد كشف الضر أو إعطاء ولد أو رزق أو نزول مطر, لاذ بقبر من القبور المعظمة وأخذ يصيح ويبكي ويصلي ويدعو ويستغيث بالولي المزعوم, ويطلب منه قضاء حاجته وكأنه لم يسمع قوله تعالى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 1   1 سورة غافر الآية (60) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وكان للقلوب تعلق شديد بتلك القبور والأشجار والكهوف المعبودة لطول الأمد عليها, إذ نشأ عليها الصغير, وشاب عليها الكبير, وتلقاها الخالفون عن السالفين من آبائهم, وأخذوا بالوراثة التي امتزجت بنفوسهم في جميع أدوار حياتهم, وليس في الناس من يقوم بالإنكار على هذه المبتدعات, ولا من يرد الناس عنها إلى الدين الصحيح, إما لتعلق بها وحرص عليها لأنها مورد رزق, وسبيل رياسة وذلك شأن متصوفة الزمن, وسدنة المقابر, والموظفين في خدمتها وترويج عبادتها, وهؤلاء أضر خلق الله على الناس. وإما لجهل بحقيقة الإسلام, وما بعث به الرسول عليه الصلاة والسلام, وتعوضهم عن ذلك بما حفظوا أو قرأوا من بعض الكتب المحشوة بما يزيد هذه البلايا رواجا, والرؤساء والأمراء لا هم لهم إلا جمع الدنيا وتحصيل لذاتها ومتاعها من كل طريق وبكل وسيلة, فكان المسلم السليم القلب, العارف لربه وعبادته, ولنبيه وهديه وسنته, إذا تأمل في هذه الحال تفطر قلبه حسرة, بالإضافة إلى تهاونهم بالصلوات, ولا سيما في الجمع والجماعات, وارتكاب كثير من المنكرات, وإذا وجد من ينكر تلك الضلالات وعبادة الأموات, قاموا عليه قيامة رجل واحد, وكفروه وضللوه وضربوه وأخرجوه من البلد إن كان غريبا, وأذاعوا في الناس أن هذا الرجل ضال مضل, إياكم أن تصغوا لقوله وتتأثروا بإرشاده, كما في قصة الواعظ التركي الذي أتى مصر كما ذكره الجبرتي, وخلاصة قصته إنه أخذ يحذر الناس من الاستغاثات والطواف بالقبور والنذور والدعوات الشركية, فقاموا عليه آذوه وضربوه, وطلب الحكم بينه وبينهم أمام القاضي, وبالرغم من أن القاضي أيد جانب الواعظ, لكنهم لم يقتنعوا ووشوا به إلى الحاكم إنه مبتدع ضال, فأبعده الحكم من البلاد, مع العلم أن كثيرا من العوام أحبوه وعلموا أن ما يقوله ذلك الواعظ هو التوحيد الصحيح والإسلام المنيف, وهكذا في عصرنا في كثير من الأقطار بمجرد ما يسمعون منك كلمة تخالف ما هم عليه, من تلك الاعتقادات الباطلة والآراء الكاسدة صاحوا عليه وقالوا: إنه وهابي أخرجوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 من مسجدنا, وأخرجوه من قريتنا, وعند كثير من الهنود والباكستانيين المتأثرين بعاداتهم الموروثة وتقاليد مشايخهم الضالين, النفور عن هذه الدعوة السلفية الصحيحة بحجة أن هؤلاء السلفيين وهابيون. وازن الشيخ تلك الأفعال المنكرة بميزان الوحيين, كتاب الله المبين, وسنة الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم وأصحابه المتقين, فرآهم في بعد عن منهج الدين وروحه, ورآهم لا يعرفون للتوحيد معنى ولا يقيمون للدين الصحيح وزنا, وكل ما هنالك من دينهم هو مجموع طقوس توارثوها عن آبائهم وأشياخهم من بعض العبادات والدعوات الممزوجة بالشرك والضلال, ونداء غير ذي الجلال, وكان الشيخ رحمه الله قد ألهمه الله تعالى فهما ثاقبا وإيمانا راسخا وعلما جما وأخلاقا كريمة, فصمم على إعلان الدعوة لتوحيد الله وإفراده بالعبادة وترك تلك المحدثات والبدع والضلالات وأنواع الشرك بالله, فأخذ يدعو الناس إلى العقيدة الصحيحة المبنية على الكتاب والسنة وإلى الأعمال الصالحة المستمدة من الوحيين, وبين له أن توحيد الربوبية الذي يعترفون به لا يدخل الإنسان في دين الإسلام, ولا يعصم دمه وماله, ولا ينجيه في الآخرة من النار, إلا إذا أتى معه بتوحيد الألوهية, لأن الله أخبر عن المشركين أنهم يعتقدون بتوحيد الربوبية ولكن لم يفدهم, قال الله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1, وهناك آيات كثيرة في توحيد الربوبية واعتراف المشركين به. كقوله تعالى {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 2   1 لقمان الآية 25 2 يونس الآية 31 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 توحيد الألوهية أما توحيد الألوهية, ويقال له توحيد العبادة: وهو إفراد الله بالعبادة, لأنه المستحق لأن يعبد لا سواه مهما سمت درجته وعلت منزلته. توحيد الربوبية وتوحيد الربوبية هو أن تفرد الله بأفعاله كالاعتقاد بأنه الخالق الرازق المحيي المميت. وتوحيد الألوهية هو التوحيد الذي جاءت به الرسل إلى أممهم, لأن الرسل عليهم السلام جاؤوا بتقرير الربوبية الذي كانت أممهم تعتقده, ودعوتهم إلى توحيد الألوهية, كما أخبر الله عنهم في كتابه المجيد. قال الله تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} 1 وقال عن هود {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} 2, وقال عن صالح {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 3, وقال الله عن شعيب {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 4, وقال الله مخبرا عن موسى عليه السلام في محاجاته مع فرعون {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} 5 الخ الآيات من سورة الشعراء.   1 هود الآية 25-26 2 هود الآية 50 3 هود الآية 61 4 هود الآية 84 5 الشعراء الآية 23-24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ولما قام الشيخ بالدعوة برفق ولين متبعا قوله تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} 1 وكان ذاك في بلدة حريملاء, وبين لهم أن لا يدعى إلا الله, ولا يذبح إلا لله, وأن عقيدتهم في تلك القبور والأحجار والأشجار من الاستغاثة بها وصرف النذور إليها واعتقاد النفع والضر منها ضلال وزور, وعزز كلامه بآيات من كتاب الله المجيد وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وسيرة أصحابه. وقع بينه وبين الناس نزاع وجدال, فاستمر الشيخ يدعو بلسانه وقلمه وإرشاده, وتبعه ناس من أهل البلدة, وكان في تلك البلدة قبيلتان, وكل يدعي الزعامة, وليس هناك من يحكم الجميع ويأخذ حق الضعيف ويردع السفيه, وكان لإحدى القبيلتين عبيد يأتون بكل منكر وفساد, فصمم الشيخ على منعهم وردعهم, ولما أحس أولئك الأرقاء بما صمم عليه الشيخ, عزموا أن يفتكوا به خفية, فتسوروا عليه من وراء الجدار فشعر بهم بعض الناس فصاحوا بهم وهربوا.   1 سورة النحل الآية 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 انتقال الشيخ من العيينة إلى الدرعية عندما غادر الشيخ حريملاء إلى العيينة مسقط رأسه وموطن آبائه, ثم انتقل من العيينة إلى الدرعية عام 1158هـ, ونزل ضيفا على عبد الرحمن بن سويلم وابن عمه أحمد بن سويلم, وأخذ الشيخ يدعو إلى التوحيد, ويفد الناس عليه من القرى والبلدان, وكثر الوافدون ليرتووا من مناهله العلمية العذبة الصافية النقية, وذلك بعد أن اتفق الشيخ مع محمد بن سعود أمير الدرعية, وبايعه الأمير على الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله, والتمسك بسنة رسول الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وإقامة الشعائر الدينية والحدود الشرعية, ولما اشتهر الشيخ بدعوته الإصلاحية وكثر لديه طلاب العلوم من كثير من القرى المجاورة, أخذ الشيخ بعد ذلك يراسل رؤساء البلدان النجدية وقضاتهم ومن كان ينتسب إلى العلم منهم, ويطلب منهم الطاعة والانقياد ونبذ الشرك والعناد. فمنهم من أطاعه ومنهم من عصاه واتخذه سخريا واستهزأ به ونسبه إلى الجهل وعدم المعرفة, ومنهم من زعم أنه أتى بمذهب خامس جديد, ومن هنا ألصقوا به كثيرا من التهم التي هو بريء منها, ثم لم يأل جهدا العلماء المتجرون بالدين وخائنوا العلم أن زوروا عليه ما زوروا عليه من تلك الافتراءات الباطلة والمبادئ الضالة, لأسباب عديدة منها أن طفق بعض النجديين المخالفين للشيخ يكتب إلى الأتراك وإلى الأشراف في الحجاز, أن هذا الشيخ مبتدع وأتى بمذهب خامس, ولا يحب الرسول ولا الأولياء ويهدم قباب المشايخ والأولياء الكبار, تلك القباب التي أجمع على تعظيمها والتبرك بها المسلمون, وأن قعود الدولة عن رد هؤلاء المعتدين يذهب بهيبتها من نفوس المسلمين, ويحط من مكانتها عندهم, وما زالوا بالدولة العثمانية يستنصرون بقوتها وجيشها, ويستفزون ملوكها وعلماءها بأساليب الخداع وأنواع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الإغراء, بأنها حامية الحرمين الشريفين وحامية الإسلام, وأوغروا صدر الدولة على دعوة الشيخ, وشوهوا وجهها الجميل, حتى بلغ به الوقاحة وقلة الحياء والإيمان, إلى حد أن زعموا أن السعوديين النجديين لا يقولون في الأذان "أشهد أن محمدا رسول الله" بل يقولون "محد رسول الله" بحذف الميم, تنفيرا للأتراك من خصومهم, وإنهم يعلمون حق العلم أن هذا كذب وزور. وأخيرا انخدعت الدولة العثمانية بأولئك المفترين, ولا سيما عندما رأت أن الدولة السعودية بسطت نفوذها على نجد وامتد إلى عمان, وأخذت تغزو العراق بعد فتح آل سعود مكة المكرمة سنة 1218هـ, فعندئذ أمرت الدولة محمد علي باشا والي مصر أن يحارب النجديين, فنفذ ما أمره السلطان وجرى ما جرى مما قصه التاريخ وأوعزوا إلى بعض العلماء من الأكالين باسم الدين أن يؤلفوا ضد الشيخ وأتباعه. أو تبرعوا بتلك الكتابات إرضاء لنفوسهم الأمارة بالسوء وإبقاء لرئاستهم على العوام. هكذا فعلت الأشراف بعد أن اندحروا ودخل السعوديون مكة المكرمة, فألف مأجورو الترك والأشراف كتبا, شحنوها بالأكاذيب والترهات وحشوها بالأحاديث الموضوعة والضعيفة, والحكايات السمجة ضد الدعوة السلفية, وزعموا أن الشيخ مبتدع خارجي, حتى أن "زيني دحلان" نزل الأحاديث الواردة في الخوارج على الشيخ وأتباعه في كتابه "الدرر السنية" وفي "الفتوحات الإسلامية"1 فعلوا كل ذلك تنفيرا للناس, كيلا يتبعوا الشيخ الجليل, ويعتنقوا مبدأه الصحيح.   1 إبقاء لمركزه المرموق إذ ذاك في مكة المكرمة وإرضاء للأشراف, لأن الأشراف رأوا أن دعوة الشيخ خطر عليهم ومخالفة لعقائدهم التي منها تعظيم الأشراف أحياء وأمواتا, ومنها تشييد القباب على قبورهم وشد الرحال إليها لأجل طلب قضاء حوائج الزائرين الطالبين. انظر كلام زيني دحلان في الفتوحات المكية –ج2-ص 257-266 لتقرأ الكذب والضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ومن الأسباب أيضا أن الكثيرين من أولئك الذين سموهم العلماء زورا وبهتانا, كانوا يترأسون على العوام ويأكلون منهم الحطام, ويروجون بين الأنام الدعاية الضالة لتلك القبور المشيدة والقباب المزخرفة من الكرامات المختلقة والدرجات العالية, وخافوا من انتشار هذه الدعوة السلفية الصحيحة أن يفهم الناس حقائق الدين والتوحيد, وأن تكون النتيجة زوال رئاستهم وما كانوا يأكلون من تلك النذور والأوقاف, وما يتقرب به الجهلة العوام إلى تلك القبور, وأولئك كانوا يأكلونها باسم السدانة والمحافظة على القبور المقببة, وتفهيم الزوار آداب الزيارة وكيف يدعون الولي, وكيف يطلبون منه قضاء حوائجهم, وكيف يطوفون حوله وكيف يدخلون ويخرجون, وعندما علموا أن هذه الدعوة مآلها إن انتشرت, وفهم الناس حقيقتها القضاء على رئاستهم وظهور جهلهم للناس، وأنهم كانوا ضالين ومضلين. أخذوا عند ذاك يذيعون وينشرون بين الناس, ويختلقون مثالب وقوادح في الشيخ وأتباعه, بل وقد يكتبون تنفيرا للناس عن الدخول في هذا التوحيد الذي كاد أن يقضي عليه علماء السوء وجهل أكثر العوام. ومن الأسباب: أن بعض العلماء لم يعرف حقيقة ما جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب, وإنما قلد بعض من سمع منه أو قرأ له كتابا في الانتقاد على الشيخ, أو سمع من بعض العوام أنه لا ينتفي لعالم أن يكتب عن عالم, أو ينسب إليه مذهبا أو قولا قبل أن يتحقق لديه ذلك القول المنسوب بالوقوف على كتابه الذي فيه ذلك القول المضاف إليه ومنها داء الحسد. وإذ فهم القارئ أو السامع ما ذكرته عن دعوة الشيخ وموقف خصومه وإلصاقه بتلك التهم التي لا نصيب لها من الصحة, فمن الجدير بي أن أنقل للقارئ عقيدة الشيخ وأتباعه كما كان عليه السلف الصالح فهاكم البيان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجميع النجديين عقيدته كعقيدة السلف الصالح, على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون والأئمة المهتدون, كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسفيان الثوري وابن عيينة وابن المبارك والبخاري ومسلم وأبي داود, وسائر أهل السنن وأمثالهم ممن تبعهم من أهل الفقه والأثر كالأشعري وابن خزيمة وتقي الدين بن تيمية وابن القيم والذهبي رحمهم الله. يعتقد أن الله واحد أحد, فرد صمد, لا شريك له ولا مثيل ولا وزير ولا مشير, لم يتخذ صاحبة ولا ولدا, عالم بكل شيء ما كان وما يكون وما لم يكن, لو كان كيف يكون, قادر على كل شيء, لا يعجزه شيء بل هو الفعال لما يريد, ويثبت جميع صفات الله العليا, وأسمائه الحسنى, كما نطق الكتاب, وجاءت به السنة الصحيحة من صحة العلم والسمع والبصر والقدرة والإرادة, والكلام والاستواء على العرش, والنزول كل ليلة إلى سماء الدنيا, وسائر الصفات الذاتية والفعلية والخبرية. يؤمن بها, ويمرها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل. توحيد العبادة والربوبية: يعتقد بأن الله هو القوي القادر الخالق الرازق المحيي المميت. يؤمن بأن يفرد ربنا بالعبادة, ولا يشرك به أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل. ويبرأ من عبادة ما سواه كائنا ما كان, وهذه هي الحكمة: التي خلق الله لأجلها الجن والإنس وأرسلت لها الرسل وأنزلت بها الكتب. ويبرأ من عبادة الأحجار والأشجار والصالحين الأخيار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ويبرأ من عابديها, ويقيم الحجج العقلية والنقلية على أنها شرك وضلال, وكفر بالله ذي الجلال كقوله تعالى حكاية عن قول الرسل لأقوامهم {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1, وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 2. وكقوله تعالى {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 3. الإيمان بالرسل والأنبياء والملائكة والكتب واليوم الآخر: يؤمن بجميع أنبياء الله ورسله, لا يفرق بين أحد منهم, ويعتقد أن محمدا أفضلهم, أرسله الله بالآيات الباهرة, والمعجزات الظاهرة, وكرمه بطهارة الأعراق, وحباه محاسن الأخلاق, فمن تبعه صار من المفلحين ومن عصاه صار من الأشقياء الخاسرين. ويؤمن باليوم الآخر, وبالبعث بعد الموت, وحساب الله للعباد, والميزان والصراط, والجنة والنار. مسائل القدر والجبر والإرجاء والإمامة: يؤمن بالقدر خيره وشره, ويبرأ مما قالته القدرية النفاة, والمجبرة والمرجئة, ويوالي جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته الطاهرين, ويكف عما شجر بينهم, ويعتقد بأفضلية أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم.   1 سورة هود الآية 50 2 سورة البقرة الآية 21 3 سورة فاطر الآية 14 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 عقيدته في العلماء: يوالي كافة أهل الإسلام وعلمائهم, من أهل الحديث والفقه والتفسير, وأهل الزهد والعبادة, ولا سيما الأئمة الأربعة, ويرى فضلهم وإمامتهم, وأنهم من الفضل والفضائل في غاية ورتبة, يقصر عنها المتطاول ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد إلا بالدليل تقوم به الحجة من الكتاب والسنة, خلافا لغلاة المقلدين وعلى هذا القول أجمعت الأئمة الأربعة وغيرهم, كما حكاه ابن عبد البر رحمه الله. وإتماما للفائدة أقدم للسائل عقيدة موجزة كتبها الشيخ رحمه الله تعالى: قال رحمه الله بعد البسملة: أشهد الله ومن حضرني من الملائكة, وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقده أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته, وكتبه, ورسله, والبعث بعد الموت, والإيمان بالقدر خيره وشره. ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه, وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل, بل أعتقد أن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . فلا أنفي عنه ما وصفه به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه, ولا ألحد في أسمائه وآياته, ولا أكيف ولا أمثل صفاته بصفات خلقه, لأنه تعالى لا سمي له ولا كفء ولا ند له, ولا يقاس بخلقه, فإنه سبحانه وتعالى أعلم بنفسه وبغيره, وأصدق قيلا, وأحسن حديثا. فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل, وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل, فقال تعالى {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . فالفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وهم وسط في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية. وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية. وهم وسط في باب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج. وأعتقد أن القرآن كلام الله, منزل غير مخلوق, منه بدأ وإليه يعود, وأنه تكلم به حقيقة، وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأومن بأن الله فعال لما يريد, ولا يكون شيء إلا بإرادته, ولا يخرج عن مشيئته, وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره, ولا يصدر إلا عن تدبيره, ولا محيد لأحد عن القدر المحدود،, ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور. وأومن بفتنة القبر ونعيمه, وبإعادة الأرواح إلى الأجساد, فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا وتدنو منهم الشمس, وتنصب الموازين, وتوزن به أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} . وتنشر الدواوين, فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله. وأومن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة, ماؤه أشد بياضا من اللبن, وأحلى من العسل, آنيته عدد نجوم السماء, من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا. وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم, وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم, وأنه أول شافع وأول مشفع. ولا ينكر شفاعة النبي إلا أهل البدع والضلال. ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضا, كما قال الله تعالى {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وقال {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} وقال تعالى {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وهو لا يرضى إلا بالتوحيد, ولا يأذن إلا لأهله. وأما المشركون فليس لهم في الشفاعة نصيب, كما قال تعالى {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} . وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان, وأنهما –اليوم- موجودتان وأنهما لا يفنيان. وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة, كما يرون القمر ليلة البدر, لا يضامون في رؤيته. وأومن بأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين, ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته, ويشهد بنبوته. وأفضل أمته أبو بكر, ثم عمر الفاروق, ثم عثمان ذو النورين, ثم علي المرتضى, ثم بقية العشر ثم أهل بدر, ثم أهل الشجرة –أهل بيعة الرضوان- ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم. وأتولى أصحاب رسول الله, وأذكر محاسنهم, وأستغفر لهم, وأكف عن مساوئهم, وأسكت عما شجر بينهم. وأعتقد فضلهم عملا بقول الله تعالى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء. وأقر بكرامات الأولياء, إلا أنهم لا يستحقون من حق الله شيئا, ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار, إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم, ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء. ولا أكفر أحدا من المسلمين بذنبه ولا أخرجه من دائرة الإسلام. وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام برا كان أو فاجرا, وصلاة الجماعة خلفهم جائزة. والجهاد ماض منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين, برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله. ومن ولى الخلافة, واجتمع عليه الناس ورضوا به أو غلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته وحرم الخروج عليه. وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا وأحكم عليهم بالظاهر وأكل سرائرهم إلى الله. وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة. وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان, يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. وأرى وجوب الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة. فهذه عقيدة وجيزة, حررتها وأنا مشتغل البال, لتطلعوا على ما عندي والله على كل ما نقول وكيل. فليتأمل السائل في هذا الجواب المختصر, وفي هذه العقيدة الوجيزة ليعلم حقيقة الشيخ إنه على الحق والصواب, والمخالفون هم أهل الضلال والارتياب. وبعد أن قدمت للقارئ هذه المقدمة التي فيها كثير من الحقائق عن الشيخ الجليل, تلك الحقائق التي ينبغي أن يعرفها القارئ, ومن يريد أن يعرف حقيقة تلك الدعوة الإصلاحية السلفية لكي لا ينخدع ويتأثر بما يسمعه من أفواه الجهلاء وخصوم الدعوة ومن قراءة بعض الكتب التي أخذ مؤلفوها على عاتقهم أن يصدوا الناس عن صراط التوحيد, ويغمسوهم في حمأة الشرك والتنديد. وهاك الآن بيان الشبهات التي هي حقيقة افتراءات نسبوها إلى الشيخ وأتباعه وهم برآء كبراءة الذئب من دم يوسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الشبهة الأولى: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم ويحطون من شأنه وشأن الأنبياء ... الشبهة الأولى: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم, ويحطون من شأنه وشأن سائر الأنبياء, واختلقوا أكاذيب لتأييد شبهتهم فقالوا: إن الشيخ كان يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم, إن غاية أمره كالطارش الذي يرسل إلى أناس في أمر فيبلغهم إياه ثم ينصرف. وقولهم: عصاي خير من محمد لأنها ينتفع بها بقتل الحية ونحوها, ومحمد قد مات ولم يبق فيه نفع أصلا, هكذا زعم علوي الحداد في كتابه "مصباح الأنام". وزعم السيد أحمد زيني دحلان: أن أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب يمنعون من الصلاة على النبي بعد الأذان على المنائر, حتى أن رجلا صالحا كان أعمى وكان مؤذنا وصلى على النبي بعد الأذان فأتوا به إلى ابن عبد الوهاب, فأمر به أن يقتل فقتل, وما ادخروا وسعا في صنعة الأكاذيب على الشيخ تنفيرا للناس عن دعوة التوحيد وإبقاء على رئاستهم على الجهلة والعوام. قال الشيخ يوسف النبهاني: أعجب شيء مسلم في حسابه ... غدا قلبه من حب خير الورى صفرا أولئك وهابية ضل سعيهم ... فظنوا الردى خيرا وظنوا الهدى شرا والجواب من وجوه: 1- إن هذه التهم الباطلة المنسوبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لا تصدر عمن يملك شيئا ولو قليلا من الحياء فضلا أن يكون مؤمنا, إذ كراهية الرسول لا تصدر إلا من ملحد أو يهودي أو نصراني, وإلا فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 مفتاح الدخول في الإسلام هو قول العبد "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" وإقراره برسالة رسول الله مع التصديق الباطني, ومن موجبها أن يكون محبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. كيف يكون المرء مسلما ومتبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكرهه ويبغضه, وإذا كان الله يقول مخاطبا لنبيه الكريم {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وفي الآية شرط على العبد إن ادعى أنه يحب الله فليتبع رسوله, ومن لازم الاتباع الصحيح حب الرسول صلى الله عليه وسلم, وكيف يصح إيمان المرء وهو لا يحب الرسول, وفي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" وفي حديث آخر "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" , وفي الحديث الصحيح "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان, من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, ومن كان يحب المرء, لا يحبه إلا الله, ومن كان يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله, كما يكره أن يلقى في النار". 2- ليعلم هؤلاء المفترون أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد ألف كتابا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولو لم يكن محبا له لما ألف في سيرته صلى الله عليه وسلم, وبيان شمائله وأخلاقه ومعجزاته وجهاده, كما ألف ابنه الشيخ عبد الله كتابا في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. 3- إن الشيخ حنبلي المذهب والحنابلة يرون أن الصلاة على النبي في التشهد الأخير فرض من فروض الصلاة, لا تصح الصلاة إلا بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كالقول الثاني للإمام الشافعي رحمه الله, بينما يقول الحنفية والمالكية بسنية الصلاة على النبي في التشهد الأخير كما هو قول آخر للإمام الشافعي. فقل لي بربك من يرى فرضية الصلاة عليه في الصلوات المفروضات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 والمسنونات أجدر بالحب والتعظيم للرسول العظيم أم من لا يرى ذلك؟ ولكن كما قيل: فقل هل ترى فيما نقول ملامة ... ولكن أعمى العين لا يبصر البدرا 4- هل نسي هؤلاء أن الصلاة على الرسول هي أمر من الله لنا قبل أن تكون من الرسول, قال الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . ولا يستطيع مسلم أن ينكر ما جاء به القرآن, ووردت به السنة في فضل الصلاة عليه, وأن تذهب صلاة البشر وتسليمهم بعد صلاة الله العلي الأعلى وتسليمه وصلاة الملائكة في الملأ الأعلى وتسليمهم, وهل جهل الشيخ وأتباعه هذه الآية الشريفة؟ وتلك الأحاديث الواردة في فضل الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم؟ كحديث "من صلى علي مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرا" وحديث "رغم أنف امرئ ذكرت عنده ولم يصل علي" إلى غير ذلك من الأحاديث التي دونتها كتب السنة. وهل يصدق هذا الافتراء الصريح إلا مختل العقل, أو جاهل متأثر بما سمع من أمثال هؤلاء المشايخ الذين باعوا آخرتهم بدنياهم, وقل نصيبهم من الحياء والعلم والإيمان, وأخذوا يكيلون التهم من غير حساب وبلا تفكير, إن هذه التهم الشنيعة لا تليق بأن تنسب إلى أقل مسلم جاهل فضلا أن تنسب إلى عالم جليل يدعو إلى الكتاب والسنة, فيا سبحان الله العظيم ما أجهل هؤلاء وأجرأهم على الكذب وخلق التهم, وإلا فلو فكروا قليلا فيما يدعوا هذا الشيخ وينكر على الناس تلك الضلالات, لعلموا أنه ما كان يدعو إلا إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله, وترك تلك العادات السافلة والعقائد الوثنية الممقوتة, وهل يدعو إلى سنة رسول الله وتحكيمها وهو يبغضه, اللهم إن هذا ظلم وجور لا يقبلها العقل الصحيح ولا الذوق السليم, ورحم الله الشيخ عمران حيث قال في شأن الشيخ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 هل قال إلا وحدوا رب السما ... وذروا عبادة ما سوى المتفرد وتمسكوا بالسنة البيضا ولا ... تتنطعوا بزيادة وتردد هذا الذي جعلوه غشا وهو قد ... بعثت به الرسل الكرام لمن هدي من عهد آدم ثم نوح هكذا ... تترى إلى عهد النبي محمد وكذلك الخلفاء بعد نبيهم ... والتابعون وكل حبر مهتدي الأجوبة عن قولهم النبي كالطارش وعصاي خير من محمد أما قولهم: أن الشيخ كان يقول إن غاية أمر النبي كالطارش, وعصاي خير من محمد. فالجواب: فهذا والله العظيم من الكذب والبهتان الذي لا يختلف فيه عاقلان, وفي الحديث الشريف " إذا لم تستح فاصنع ما شئت" , وقد قال الشاعر قديما: لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيلة من كان يخلق ما يقول ... فحيلتي فيه قليلة أما قرأ هؤلاء قول الله {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} وفي الحديث عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يطبع المؤمن على كل خلة, غير الخيانة والكذب" "رواه البزار, وأبو يعلى. وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" فهؤلاء المنتقدون على الشيخ لم يقولوا خيرا ولم يكفوا عن شرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 والجواب الثاني أن يقال: وكل ادعا قرين افترا ... سوى من إذا ما ادعى أشهدا فأين البينة التي تؤيد دعواهم, فهاهي كتب الشيخ رحمه الله وأبنائه وذويه وأتباعه موجودة ومطبوعة ومنتشرة في كثير من البلدان فليأتوا بحرف واحد يثبت ما يدعونه, وهيهات أن يأتوا بذلك ولو صعدوا إلى السموات ونزلوا إلى أعماق الأرضين, واستعانوا بالإنس والجان لما استطاعوا أن يأتوا بكلمة من كتب الشيخ وأبنائه وأتباعه بل ولا حرف واحد, أما النقل عن الشيخ الفلاني والكتاب الفلاني, فلا يثبت بذلك النقل دعوى المدعي, لأن تلك الكتب ككتاب الحداد وزيني دحلان والنبهاني والعاملي الشيعي وأمثالهم من خصوم الدعوة السلفية, محشوة بالأكاذيب والترهات والحكايات والأحاديث الضعيفة والموضوعة واختلاق الكرامات لمن يزعمونه من الأولياء, فلا ينبغي لمسلم أن يقرأ تلك الكتب إلا للاطلاع على ما فيها من الكذب والزور, لا أن يحتج بها. وليعلم من لم يكن يعلم أن الشيخ محمدا رحمه الله وأتباعه وسائر السلفيين من أهل السنة والجماعة, وعقيدة أهل السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الخلائق أجمعين, فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم في اعتقادهم مفضلا على الأنبياء والملائكة, فكيف يقول الشيخ: إن عصاي خير من محمد, لأن هذه اللفظة فيها تنقيص, ولا يجوز لمسلم أن ينتقص من مقام الرسول صلى الله عليه وسلم ما هذا إلا كذب واختلاق, قصدوا بهذا الكذب تنفير الناس عن الدخول في دعوته الصحيحة, المبنية –كما قلنا غير مرة- على الكتاب والسنة الصحيحة والحسنة حتى لو قال مسلم عالما أو غير عالم أن غير الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من الرسول صلى الله عليه وسلم لحكمنا بخطئه للأدلة العديدة على تفضيله صلى الله عليه وسلم على غيره, ولا يصدق هذا الافتراء إلا من كان جاهلا أو مختلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 واجب العالم إذا أراد أن يكتب عن مذهب أو فرقة أما علم هؤلاء الناسبون إلى الشيخ الجليل محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تلك التهم الملفقة, والكاتبون في كتبهم زاعمين أنهم منتقدون على الشيخ وناصرون الحق, أن الواجب على العالم إذا سمع عن فرقة أو مذهب أو عالم ما يخالف الشرع, وأقصد به الكتاب والسنة الصحيحة أو الحسنة, أن نتثبت ويتأنى ويبحث عما سمعه أو قرأه امتثالا لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} , ويقرأ كتب تلك الفرقة أو المذهب أو العالم, ويتأكد من صحة نسبتها إلى المنسوب إليه وإليهم, ويقارن بين أدلة الرادين وبين أدلة المردود عليه أو عليها, فإذا ثبت لديه بالدلائل الصحيحة, أن تلك الأقاويل المنسوبة إلى ذلك العالم أو الفرقة صحيح, فعند ذلك يحتسب الأجر ويكتب بقصد إظهار الحق وتحذير الناس عن الباطل, ويأتي بالأدلة في رده حتى يعرف القارئ من المحق ومن المبطل؟ أما مجرد السماع من أفواه العوام أو قراءة بعض الكتب المملوءة بأكاذيب وافتراءات, وقال العلامة فلان والحبر الفلاني وفي الكتاب المرسوم بكذا, من غير أن يكون قول العلامة أو ما في ذلك الكتاب مويدا بالدليل الصحيح, فلا ينبغي التعويل عليه ويصبح كحاطب ليل وأضحوكة بين العالمين، كمؤلفي تلك الكتب السالفة الذكر. والجواب عن حكاية الأعمى الذي صلى على النبي بعد الأذان وأنهم قتلوه, فلا أظن أن يصدق هذا الافتراء إلا من يكون كسائمة الأنعام, كيف يصدق عاقل أن يقتل مسلم بالصلاة على الرسول بعد الأذان, وقد قال الله العظيم: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} 1. وفي الحديث الصحيح "لا يحل دم   1 سورة النساء الآية 93 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة" فلو لم يكن الشيخ عالما بل كان أميا لما لخفي عليه أن قتل المسلم من الكبائر المهلكة, بل ألف الشيخ كتابا في الكبائر ومن أبوابه "باب تعظيم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق". فهؤلاء الكاذبون على الشيخ لعلهم لم يكونوا على شيء من الحياء وبصيص من العقل, وإلا لما فاهوا بهذا الكذب والبهتان. أما كانوا يؤمنون بيوم الجزاء يوم يقول الله {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} أما قرأوا قول الله {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} أما سمعوا الوعيد الشديد والتنفير الأكيد في الكذب والافتراء من الآيات والأحاديث النبوية, ولكن كما قال الله تعالى {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} وقد قدمت أن الشيخ حنبلي المذهب, وأهل نجد كلهم حنابلة, وهم يرون الصلاة على النبي في الصلاة الفريضة فرض وفي سائر الأوقات مسنونة مؤكدة, والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مسنونة بعد الأذان أيضا سرا لحديث "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي" , أما الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان فوق المساجد والمنائر فهذا محدث لم يأت به قرآن ولا سنة. تاريخ حدوث بدعة الصلاة على النبي جهرا بعد الأذان حدثت هذه البدعة سنة 781 من الهجرة النبوية, فالشيخ رحمه الله وأتباعه وكل سلفي متمسك بالوحيين, يرون أن الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم من العبادات والقربات التي يتقرب بها العبد إلى الله لينال رضوانه وجزاءه الأوفى, ولكن هذه الصلاة التي يصلونها بعد الأذان جهرا بدعة باتفاق جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 علماء المسلمين, وإذ لم تكن معروفة في زمن الرسول, ولا زمن خلفائه الراشدين, ولا زمن الأئمة المتبوعين كالأئمة الأربعة رحمهم الله, بل حدثت في القرن الثامن من الهجرة. والدعوى بأن هذه الصلاة على النبي جهرا بعد الأذان من البدع الحسنة لا ينبغي الإنكار عليها. فالجواب: ليس في الدين بدعة حسنة, والحديث الشريف يقول "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي رواية "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" أي مردود على صاحبه. وفي حديث العرباض بن سارية " إياكم ومحدثات الأمور, فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". لا أصل لتقسيم البدع إلى خمسة أقسام وتقسيم البدع إلى خمسة أقسام ليس له دليل صحيح بل مجرد رأي من قائله, وأما قول الإمام الشافعي: البدعة بدعتان, بدعة محمودة, وبدعة مذمومة, فما وافق السنة فهو محمود, وما خالف السنة فهو مذموم, فالمقصود من البدعة المحمودة هي ما ابتدع للمصالح النافعة الدنيوية المعاشية, كاستعمال اللاسلكي والبرق وركوب الطائرات والسيارات واستعمال الهاتف ونحو ذلك من المخترعات الصالحة النافعة، لأنها ليست بضارة ولا جارة إلى شر يعود على الناس, ولا ارتكاب محرم أو هدم أصل من أصول الدين, فالله تعالى أباح لعباده أن يخترعوا لمصالح دنياهم ما شاؤوا قال تعالى {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} , والبدعة المذمومة كمثل ابتداع المآتم والأحزان وقراءة القرآن على القبور وفي السرادق وأخذ المكس من أموال المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الرد على النبهاني في أبياته وأما ما زعمه النبهاني في ذينك البيتين من رائيته الصغرى التي رد بها على أتباع الشيخ قوله: وأعجب شيء مسلم في حسابه ... غدا قلبه من حب خير الوورى صفرا الخ وأما قول النبهاني وأعجب شيء.. إلخ فهاك جوابه من قول الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: فمن لم يكن في قلبه حب أحمد ... أعز الورى فخرا وأعظمهم قدرا فليس لعمري مؤمنا بمحمد ... وما نال إلا الخزي من ذاك والخسرا ومن أشرك المعصوم في حق ربه ... وأسهب في منظومه المدح بالأطرا فذا كافر بالله جل جلاله ... كهذا الذي أبدى بمنظومه الكفرا والخلاصة أن ما نسب إلى الشيخ رحمه الله وأتباعه من الكراهية للرسول، أو ما يخدش مقامه العظيم صلى الله عليه وسلم، فهو من الكذب الصريح والإفك القبيح، الذي لا يصدر عمن يؤمن بالله ورسوله، ويؤمن بيوم الجزاء والحساب. واعتقاد الشيخ وأتباعه في النبي لأنه أفضل المخلوقين، وهاك ما قاله الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الرد على من زعم أن المنكر على الجهر بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الأذان هو غير محب للرسول. والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق وأنه حي في قبره حياة برزخية، أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع كلام المسلم عليه تسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 زيارته, إلا أنه لا تشد الرحال إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه, وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس, ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه الصلاة والسلام الواردة عنه, فقد فاز بسعادة الدارين, وكفى همه وغمه كما جاء في الحديث عنه. أ. هـ. ونحن نتحدى القائلين بأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم جهرا بعد الأذان لها أصل من الدين, أن يأتوا بدليل من الكتاب أو السنة الصحيحة أو الحسنة, فإن أتوا به فعلى الرأس والعين وإلا فكلامهم مردود عليهم, وكيف يستطيعون أن يأتوا بدليل والحال أن هذا الأمر محدث باتفاق المانعين والمحسنين لهذه البدعة, ولم ينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وقد أكمل الله الدين, وأتم به النعمة على العالمين بقوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً} . فإذا كانت هذه البدعة وسائر المبتدعات حسنة, يتقرب بها العبد إلى الله ويثاب عليها, فلماذا لم يأمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم؟ تفنيد قول القائلين باستحباب الجهر بالصلاة على النبي بعد الأذان فقد علم بالضرورة والتواتر أن المؤذنين في زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن خلفائه كانوا قادرين على الصلاة عليه بعد الأذان إعلانا, وإنه لا مانع يمنعهم منها إلا أن يكون شرعيا دينيا. ويوقن العاقلون أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلينا وغيرهم من الصحابة والتابعين والأئمة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وابن المبارك والليث بن سعد والأوزاعي وغيرهم, أن هؤلاء لو كانوا يعرفون أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بطريقة اليوم بعد الأذان تقرب إلى الجنة وتزيد في الأجر لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 اتفقوا على تركها, وإهمال أجرها مع قدرتها على الإتيان بها، واجتهادهم في العبادات, ومسارعتهم في الطاعات واستكمال الخيرات. نعرف بداهة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لو علم في الصلاة عليه بعد الأذان جهرا مصلحة لأمته دنيوية أو أخروية, لما نسي أن يرشدهم إليها وإلى فعلها في حياته كلها, مع علمه أنهم تاركون لها ناسون للعمل بها, ونحن نوقن أنه صلى الله عليه وسلم أحرص على مصالح المسلمين من آبائهم وأمهاتهم بل من أنفسهم, وأنصح لهم منها, وقد قال: "ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا أرشدكم إليه, ولا شيئا يبعدكم عن النار إلا نهيتكم عنه". من هذه الأمور السالفة يعلم العقلاء أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد الأذان بالصفة المعهودة الآن ليست من الدين في شيء، ولا من الأمور الجائزة, بل محرمة ممنوعة كما يعلمون أن صلاة الظهر أربع ركعات لا تجوز الزيادة عليها وهكذا سائر الصلوات, كما يعلمون أن لا تجوز قراءة القرآن في الركوع والسجود وبين السجدتين, وكما يعلمون أنه لا تجوز قراءة القرآن ولا غيره جهرا بين كلمات الأذان, ولا تجوز الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم في أثناء الأذان بالجهر. هذه أمور من أوليات الدين وضروراته لا تحل المخالفة في شيء منها. وهاأنذا أنقل للقراء من كلام الشيخ على محفوظ المصري, وقد نقل في كلامه عن العلامة ابن حجر الهيتمي وعن الإمام الشيخ محمد عبده ما يؤيد ما أسفلت ذكره, وأن العلماء المحققين من سائر المذاهب ينكرون هذه البدعات السيئة، حتى يعلم القراء المنصفون أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لم يأت بما يخالف القرآن والسنة, ولم يبتدع, بل المنتقدون عليه هم المبتدعون الخارجون عن دائرة السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 قف على كلام الشيخ محفوظ المصري في الكلام على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من البدع المختلف في حسنها وذمها الصلاة والسلام على النبي عقب الأذان جهرا ما عدا الصبح والجمعة, اكتفاء بما يقع قبلهما, ما عدا المغرب لضيق وقتها1, والذي أحدث ذلك هو محتسب القاهرة صلاح الدين عبد الله البرلسي, وأمر به في مصر وأعمالها ليلة الجمعة فقط, ثم صار ذلك عاما على يد نجم الدين الطنبدي لسبب مذكور في كتب التاريخ, ففي خطط المقريزي, وأما مصر فلم يزل الأذان بها على مذهب القوم "الفاطميين" إلى أن استبد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بسلطنة ديار مصر, وأزال الدولة الفاطمية في سنة سبع وستين وخمسمائة, وكان ينتحل مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه, وعقيدة الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله, فأبطل من الأذان قول حي على خير العمل, وصار يؤذن في سائر إقليم مصر والشام بأذان أهل مكة, وفيه تربيع التكبير وترجيع الشهادين, فاستمر الأمر على ذلك إلى أن بنت الأتراك المدارس بديار مصر, وانتشر مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه في مصر, فصار يؤذن في بعض المدارس التي للحنفية بأذان أهل الكوفة, وتقام الصلاة أيضا على رأيهم, وما عدا ذلك فعلى ما قلنا, إلا أنه في الجمعة إذا فرغ المؤذنون من التأذين سلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو شيء أحدثه محتسب القاهرة صلاح الدين بن عبد الله البرلسي   1 وما يفعله كثير من المؤذنين قبل الأذان من قراءة بعض آيات من القرآن الكريم أو قصيدة أو ابتهالات أو تضرعات أو صلوات على الرسول صلى الله عليه وسلم, كلها من البدع المحدثة ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة الصحيحة أو الحسنة, وكل ما يفعل بعد الأذان غير الصلاة على النبي سرا, ودعاء اللهم رب هذه الدعوة التامة..الخ فمحدث, وكذلك قبل الإقامة من قول بعض المقيمين اللهم صل على سيدنا محمد ... الخ ثم يشرع في الإقامة اعتمادا على ما رأوا في بعض الكتب الفقهية لبعض متأخري الشافعية الذين قالوا: تندب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يشرع في الإقامة, أيضا ذلك بدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 بعد سنة ستين وسبعمائة, فاستمر إلى أن كان في شعبان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ومتولي الأمر بديار مصر منطاش القائم بدولة الملك الصالح المنصور أمير حاج المعروف بحاج ابن شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون, فسمع بعض الفقراء الخلاطين سلام المؤذنين على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة جمعة, وقد استحسن ذلك طائفة من إخوانه, فقال لهم أتحبون أن يكون هذا السلام في كل أذان, قالوا نعم, فبات تلك الليلة وأصبح متواجدا يزعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه, وأنه أمره أن يذهب إلى المحتسب, ويبلغه عنه أن يأمر المؤذنين بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أذان، "فمضى" إلى محتسب القاهرة وهو يومئذ نجم الدين محمد الطنبدي وكان شيخا جهولا سيء السيرة في الحسبة والقضاء، متهافتا على الدرهم ولو قاده إلى البلاء، لا يحتشم من أخذ البرطيل والرشوة، ولا يراعي في مؤمن إلا ولا ذمة, قد ضرى على الآثام وتجسد في أكل الحرام, يرى أن العلم إرخاء العذبة ولبس الجبة, ويحسب أن رضاء الله "سبحانه" في ضرب العباد بالدرة وولاية الحسبة, لم تحمد الناس قط أياديه, ولا شكرت أبدا مساعيه, بل جهالاته شائعة, وقبائح أفعاله ذائعة.. وقال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تتقدم لسائر المؤذنين, بأن يزيدوا في كل أذان قولهم الصلاة والسلام عليك يا رسول الله, كما يفعل في كل ليالي الجمع. فأعجب الجاهل هذا المقول, وجهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر بعد وفاته إلا بما يوافق ما شرعه الله على لسانه في حياته, وقد نهى الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن الزيادة في شرعه حيث يقول "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إياكم ومحدثات الأمور" , فأمر بذلك في شعبان من السنة المذكورة, وتمت هذه البدعة واستمرت إلى يومنا هذا في جميع ديار مصر وبلاد الشام, وصارت العامة وأهل الجهالة ترى أن ذلك من جملة الأذان الذي لا يحل تركه, وأدى ذلك إلى أن زاد بعض أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الإلحاد في الأذان ببعض القرى السلام بعد الأذان على شخص من المعتقدين الذين ماتوا, فلا حول ولا قوة إلا بالله, إنا لله وإنا إليه راجعون أ. هـ. باختصار. فنقول لا كلام في أن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان مطلوبان شرعا, لورود الأحاديث الصحيحة بطلبهما من كل من سمع الأذان, لا فرق بين مؤذن وغيره كما في صحيح مسلم, عن عبد الله بن عمر بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي, فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا, ثم سلوا الله لي الوسيلة, فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله, وأرجو أن أكون أنا هو, فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة" لكن لا مع الجهر بل بأن يسمع نفسه أو من كان قريبا منه, إنما الخلاف في الجهر بهما على الكيفية المعروفة, والصواب أنها بدعة مذمومة بهذه الكيفية التي جرت بها عادة المؤذنين من رفع الصوت بهما, كالأذان والتمطيط والتغني, فإن ذلك إحداث شعار ديني على خلاف ما عهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح من أئمة المسلمين, وليس لأحد بعدهم ذلك فإن العبادة مقصورة على الوارد عنه صلى الله عليه وسلم بإجماع الأئمة, فلا تثبت باستحسان أحد من غير هؤلاء ولا بإحداث سلطان عادل أو جائر. قف على كلام الشيخ ابن حجر الهيتمي والشيخ محمد عبده وابن الحاج المالكي في بدعة الجهر بالصلاة على النبي بعد الأذان قال العلامة ابن حجر في الفتاوي الكبرى: وقد استفتي مشايخنا وغيرهم في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم بعد الأذان على الكيفية التي يفعلها المؤذنون فأفتوا بأن الأصل سنة والكيفية بدعة. وقال الإمام الشعراني نقلا عن شيخه: لم يكن التسليم الذي يفعله المؤذنون في أيامه صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الراشدين, بل كان في أيام الروافض العبيدين بمصر. أهـ. "وقد سئل" الأستاذ الإمام شيخنا المرحوم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية بإفادة من مديرية المنوفية في 24 مايو سنة 1904 نمرة 765 عن مسائل "منها" ما اشتهر من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه عقب الأذان في الأوقات الخمس إلا المغرب "فأجاب" بقوله: أما الأذان فقد جاء في الخانية أنه ليس لغير المكتوبات, وأنه خمس عشرة كلمة, وآخره عندنا لا إله إلا الله, وما يذكر بعده أو قبله كله من المستحدثات المبتدعة, ابتدعت للتلحين لا لشيء آخر, ولا يقول أحد بجواز هذا التلحين، ولا عبرة بقول من قال إن شيئا من ذلك بدعة حسنة, لأن كل بدعة في العبادات على هذا النحو فهي سيئة, ومن ادعى أن ذلك ليس فيه تلحين فهو كاذب أ. هـ. وقال في المدخل: عطس رجل بجانب سيدنا عبد الله بن سيدنا عمر فقال "الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله" قال ما هكذا علمنا رسول الله أن نقول إذا عطسنا, بل علمنا أن نقول الحمد لله رب العالمين أ. هـ, فهذا الصحابي الكبير أنكر على من صلى وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم عقب العطاس, لعدم وروده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ومن ثم" قال العلامة ابن حجر في فتاويه الكبرى: من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأذان, أو قال محمد رسول الله بعده معتقدا سنيته في ذلك المحل, ينهى ويمنع منه لأنه تشريع بغير دليل, ومن شرع بغير دليل يزجر ويمنع أ. هـ. فهذا العلامة ابن حجر حكم على من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأذان, أو قال محمد رسول الله بعده, بأنه شرع في دين الله تعالى, وأنه يمنع من ذلك ويزجر, وما ذاك إلا لقبح ما فعل وأن الوقوف عندما ورد به الشرع أولى, وواجب المرشد في مثل هذه البدعة الإضافية أن يكون حكيما, فينبه الناس إليها بالرفق واللين كي لا يكون مثيرا للفتن "وبهذا" ظهر لك أمر ما يقع من كثير من المؤذنين عقب أذان الفجر, من قولهم ورضي الله تبارك وتعالى عنك يا شيخ العرب, ونحو ذلك من الألفاظ "بأعلى صوت" وأنها بدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 مذمومة لم تعرف من طريق مشروع, اللهم وفقنا جميعا لما تحبه وترضاه وقنا شر الابتداع. ومن البدع المكروهة تحريما التلحين في الأذان وهو التطرب, أي التغني به بحيث يؤدي إلى تغيير كلمات الأذان وكيفياتها بالحركات والسكنات ونقص بعض حروفها, أو زيادة فيها محافظة على توقيع الألحان, فهذا لا يحل إجماعا في الأذان كما لا يحل في قراءة القرآن, ولا يحل أيضا سماعه لأن فيه تشبها بفعل الفسقة في حال فسقهم فإنهم يترنمون, وخروجا عن المعروف شرعا في الأذان والقرآن أ. هـ. وفيما أوردته من الصلاة والسلام على النبي بعد الأذان جهرا, وإنهما من البدع من كلام أولئك العلماء الأجلاء, فيه مقنع وكفاية لم تحلى بحلة الإنصاف, وعرف أن ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن ما يفعله المؤذنون بعد الأذان بالجهر بالصلاة على النبي والتسليم عليه بدعة ليس لها أصل في القرآن ولا في السنة المطهرة, ولا في سنة الخلفاء الراشدين ولا مذاهب العلماء المعتبرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الشبهة الثانية: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه منعوا من قراءة كتاب دلائل الخيرات ... الشبهة الثانية إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأتباعه, منعوا من قراءة كتاب دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على النبي المختار, وهو كتاب جامع لفضائل الصلوات على الرسول صلى الله عليه وسلم وصيغ الصلوات, وقد اعتنى به العلماء في أكثر الجهات الإسلامية وعدوه من الكتب المهمة في الصلاة على الرسول, ونهيهم عن هذا الكتاب, وعدم اعتبارهم للعلماء وسائر المسلمين في الاعتناء به, لدليل على ما نقول إنهم لا يحبون الرسول الكريم, وإلا فأي محب للرسول يمنع من قراءة هذا الكتاب الجليل؟ الجواب عن الشبهة الثانية والجواب ومن الله استمد الصواب: هذا الكتاب المذكور جمع فيه مؤلفه من الأحاديث الضعيفة والموضوعة الشيء الكثير، بل واخترع صيغ صلوات على الرسول صلى الله عليه وسلم ما أنزل الله بها من سلطان وسيرى القارئ فيما يأتي نماذج من ذلك. الأمر الثاني: إنه جعله أحزابا, حزب ليوم الجمعة وحزب ليوم السبت وهكذا على سائر أيام الأسبوع ورحم الله ملا عمران حيث قال: أما الدلائل فهو لم ينكر بها ... صلوات أزكى العالمين الأمجد إلا التظاهر والغلو وجعلها ... درسا يكرر في كتاب مفرد ويقصد الشيخ أنه لم ينكر صلوات أزكى العالمين الواردة في السنة لا المخترعة والمبتدعة. ومن المعلوم أن تجزئة الصلوات وجعلها مقسمة على الأيام بدعة, لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا التابعين ولا الأئمة المعتبرين ولا العلماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 المحققين رضي الله عنهم أجمعين شيء منه, والصلوات والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقة, وينبغي للمسلم أن يصلي على الرسول الكريم في أي وقت شاء, لا سيما في ليلة الجمعة, ويوم الجمعة آكد وعند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم, وتجب الصلاة عليه في التشهد كما سبق ذكره. الأمر الثالث: إن الصلاة على النبي عبادة وقربة, والعبادة والقربة مبنية على التوقيف, والمؤلف عفا الله عنه اخترع صيغا من عند نفسه, ورتب عليها أجورا ليس لها مستند من الرسول العظيم ولا من أصحابه رضي الله عنهم. وهاك بعض صيغه الموضوعة من العبارات المخالفة للكتاب والسنة: وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صلى علي مرة واحدة صلى الله عليه عشر مرات, ومن صلى علي عشر مرات صلى الله عليه مائة مرة, ومن صلى علي مائة مرة صلى الله عليه ألف مرة،, ومن صلى علي ألف مرة حرم الله جسده من النار, وثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة عند المسألة, وأدخله الجنة وجاءت صلواته علي نورا له يوم القيامة على الصراط مسيرة خمسمائة عام, وأعطاه الله لكل صلاة صلاها قصرا في الجنة قل ذلك أو كثر, ولتعلم أيها القارئ أنه لم يثبت من ذلك شيء إلا من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا, والباقي مما أورده مؤلف الدلائل موضوع, وهاك أيضا بعض صيغه المخترعة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من عبد صلى علي إلا خرجت الصلاة مسرعة من فيه, فلا يبقى بر ولا بحر ولا شرق ولا غرب إلا وتمربه وتقول: أنا صلاة فلان ابن فلان, صلى على محمد المختار, خير خلق الله فلا يبقى شيء إلا وصلى عليه, ويخلق من تلك الصلاة طائر له سبعون ألف جناح, في كل جناح سبعون ألف ريشة في كل ريشة سبعون ألف وجه, في كل وجه سبعون ألف فم, في كل فم سبعون ألف لسان, كل لسان يسبح الله تعالى بسبعين ألف "لغات"1 ويكتب الله ثواب ذلك كله, وعن علي بن أبي طالب رضي   1 وكان الأجدر به أن يقول سبعين ألف لغة لأن تمييز المئات والألوف مفرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى علي يوم الجمعة مائة مرة, جاء يوم القيامة ومعه نور, لو قسم ذلك النور بين الخلق لوسعهم. ومن هذه المخترعات: اللهم صل على محمد, حتى لا يبقى من صلواتك شيء, وبارك على محمد, حتى لا يبقى من بركاتك شيء, وارحم محمدا حتى لا يبقى من الرحمة شيء. فيا أيها القارئ الكريم: تأمل في الصيغتين الأولى والثانية, ستجد إنه اختراع سامج, يدل على سخافة وغلو وجهل بالشريعة الغراء، وخصوصا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم, وأي داع يدعو المسلم أن يخترع تلك الصيغة الأولى: أن الله يخلق من تلك الصلاة طائرا له سبعون ألف ريشة..الخ هذا الهذيان فما هذه السماجة الباردة والأقوال السخيفة التي تسيء إلى الرسول الكريم, وتجعل شريعتنا وسنة نبينا هدفا لأغراض الأعداء والطعن في الرسول العظيم وفي الشريعة الغراء, ومحلا لاستهزاء الكفرة1.   1 إذ هذه الأجور العظيمة المترتبة على تلك الصلاة المخترعة بأن يخلق الله سبعين ألف طائر ... الخ ما سبق ذكره, فيه إغراء بارتكاب المعاصي, والتهاون بالفرائض, لأنه سيقول من قل إيمانه وجهل حقيقة الدين, لا بأس أن أعمل ما أريد وآتي كل معصية ومنكر, فأصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الصيغة, ويغفر الله لي ذنوبي, فذنوبي مهما كثرت، فالحسنات التي أنالها أضعاف أضعاف ما اكتسبت من آثام, وقد قال الله {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} . ولولا أن المؤلف كان من الصالحين حسبما يظهر, لقلنا أن هذا من وضع الزنادقة الذين يريدون إفساد الدين, والتحلل من ربقة شريعة سيد المرسلين. ومن ناحية أخرى قد يقول الأعداء: إن نبيهم الذي قال هذا القول, قد فضل نفسه، والصلاة عليه, حتى على كلام رب العالمين الذي أنزله الله عليه بزعمه إذ ليس في قراءة آية من القرآن عشر عشر تلك الأجور المذكورة لم صلى على النبي بتلك الكيفية والصيغة التي ذكرها هذا العالم من علماء المسلمين. فقل لي بربك: أأحسن هذا الشيخ فيما ذكر من تلك الصيغ في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التي أحدثها وألفها؟ وأعظم من ذلك إنه-عفا الله عنه- نسبها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, وفي الحديث الصحيح المتواتر: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وكفى بذلك إثما وضلالا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وقال: اللهم صل على محمد وآله, بحر أنوارك ومعدن أسرارك ولسان حجتك وعروس مملكتك وإمام حضرتك, وطراز ملكك وخزائن رحمتك, إنسان عين الوجود والسبب في كل موجود. وقال: اللهم صل على محمد مجلي الظلمة, مولي النعمة, مؤتي الرحمة, كاشف الغمة, فماذا ترك لله سبحانه وتعالى؟ وقال: اللهم صل على محمد الذي هو قطب الجلالة وشمس النبوة والرسالة. وقال: اللهم اجعل شرائف صلواتك على محمد الفاتح لما أغلق, فهو أمينك المأمون, وخازن علمك المخزون. ثم ذكر من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي اسم منها هذه الأسماء, ومعظمها ويا للهول والمصيبة من أسماء الله الحسنى التي يكفر من نسبها لغيره سبحانه وتعالى: محيي, منج, مدعو, مجيب, غوث, غياث, جبار, مهيمن, بر, كفيل, شاف, كاشف الكرب, رافع الرتب, صاحب الفرج. ولم يكتف بذلك بل أضاف أسماء مخترعة منها: يس, طه, واصل, موصول, صاحب الإزار, صاحب الرداء, صاحب التاج, صاحب المغفر, صاحب القضيب, وغيرها من الصفات والأسماء المهلهلة. ولو ذهبنا نورد كل ما قال من الصيغ الموضوعة, وبعض الصيغ المشتملة على الضلال, لطال بنا المقال وخرجنا عن حد الاعتدال, ومن شك في ذلك فليقرأ هذا الكتاب بتدبر وإمعان, ناظرا بمنظار الكتاب والسنة, لا بمنظار المبتدعين الضالين, ولا بمنظار العاطفة والوجدان, ليرى كيف تجاسر مؤلف دلائل الخيرات على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ونسب إليه ما لم يقل, ورتب الأجور المخالفة للعقل والشرع كما مضى بعضها على تلك الصلوات, اقرأ ما سماه المؤلف حزب الجمعة وسائر الأحزاب الأخرى لترى العجب العجاب, وترى مصداق ما نقول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 جاء في حزب الجمعة من تلك الصيغ المخترعة من عنده ما يأتي: اللهم وصل على محمد في الليل إذا يغشى, وصل على محمد في النهار إذا تجلى, وصل على محمد في الآخرة والأولى, وصل على محمد شابا زكيا, وصل على محمد كهلا مرضيا, وصل على محمد منذ كان في المهد صبيا, وصل على محمد حتى لا يبقى من الصلوات شيء, اللهم وأعط محمدا المقام المحمود الذي وعدته, الذي إذا قال صدقته, وإذا سأل أعطيته, اللهم وأعظم برهانه وشرف بنيانه .... إلى أن قال: من قرأ هذه الصلوات مرة واحدة كتب الله له ثواب حجة مقبولة, وثواب من أعتق رقبة من ولد إسماعيل عليه السلام, فيقول الله تعالى: يا ملائكتي هذا عبد من عبادي, أكثر الصلاة على حبيبي محمد, وعزتي وجلالي ووجودي ومجدي وارتفاعي لأعطينه بكل حرف قصرا في الجنة, وليأتني يوم القيامة تحت لواء الحمد نور وجهه كالقمر ليلة البدر, وكفه في كف حبيبي محمد, هذا لمن قالها كل يوم جمعة له هذا الفضل والله ذو الفضل العظيم. ولا ريب أن هذه الصيغة المخترعة لم ترد, وأن هذا الأجر المرتب على هذه الصيغة لم يصح به حديث ولا قول صحابي أو تابعي أو أحد من الأئمة المهتدين, وإنما المؤلف هو الذي اخترع هذه الصيغ ولا ريب أنه اخترعا حبا في الرسول صلى الله عليه وسلم, ولكن لا يجوز أن يخترع صيغا ويرتب عليها أجورا ما أنزل بها الله من سلطان. وبالجملة فالكتاب مشتمل على أحاديث ضعيفة, وصيغ ضعيفة وموضوعة ومخترعة, وأحاديث موضوعة, ولا يصح من تلك الأحاديث ولا من صيغ تلك الصلوات إلا القليل جدا. فإذا كان هذا الكتاب بهذه المثابة, وفيه من الضلال والشرك والوبال وصرف الناس عن كتاب ربهم وسنة نبيهم, والصلوات الواردة كصيغة الصلوات الإبراهيمية ونحوها, أفلا يحق للشيخ محمد بن عبد الوهاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وأتباعه, بل ولكل مسلم أن ينهى عن قراءته امتثالا لقول الله تعالى, ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم, أما قوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} , وما أتانا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغ المخالفة والموضوعة, بل نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن المحدثات والبدع والضلالات فقال في حديث العرباض بن سارية: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي, عضوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثات الأمور, فإن كل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار" , رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح, وورد في الحديث الصحيح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". "أي مردود عليه". ومن أراد أن يعرف الصيغ الواردة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ما صح فيها وما كان ضعيفا, فليقرأ جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام للحافظ ابن القيم رحمه الله, أو كتب الأذكار المأثورة كالأذكار للنووي, ونزل الأبرار لصديق حسن خان وغيرها. وأما قوله: اللهم صل على محمد حتى لا يبقى من صلواتك شيء ... الخ, فهذا أعظم وأطم, ومن كثرة اعتناء الكثيرين من الناس وبعض المنسبين إلى العلم, أنه أخبرني أحد شيوخنا قال: رفع إليه سؤال من بعض قضاة البحرين يسأل عن تفسير هذه الصيغة, وقال الشيخ فيما أظن أن المؤلف يقصد في هذا الدوام ... بمعنى أن تبقى الصلاة على النبي دائما, لأن صلوات الله عليه لا نفاد له. فيا للعجب من السائل ومن المجيب, أهكذا يكون العالم؟ هكذا ينتصب مثل هؤلاء لإرشاد الناس ولهدايتهم, وهم لا يميزون بين السنة والبدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وكم في دلائل الخيرات من الطامات الكبرى, والحق أن الناظر في هذا الكتاب يجد فيه من العبارات المخالفة للشرع الشيء الكثير, وفي بعضها شرك, ووحدة وجود والعياذ بالله, كقوله: اللهم جدد من صلواتك التامات وتحياتك الزاكيات على الذي أقمته لك ظلا, وجعلته لحوائج خلقك قبلة ومحلا, وأظهرته بصورتك واخترته مستوى لتجليك, ومنزلا لتنفيذ أوامرك ونواهيك, في أرضك وسماواتك وواسطة بينك وبين مكنوناتك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الشبهة الثالثة: أن الشيخ وأتباعه يمنعون التوسل والإستغاثة بالأولياء والصالحين ... الشبهة الثالثة إن الشيخ محمدا وأتباعه يمنعون التوسل والاستغاثة بالألياء والصالحين, بل حتى بالأنبياء والمرسلين, ويكفرون المتوسل والمستغيث بالرسول وبالألياء, وقد ثبت بالدلائل الكثيرة ندب التوسل وجواز الاستغاثة, أما في التوسل فقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} . كما وردت الأحاديث الكثير, ومن تلك الأحاديث: عن سهل بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادعو الله أن يعافيني, فقال "إن شئت أخرت وهو خير لك, وإن شئت دعوت, فقال ادعه, فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه, ويصلي ركعتين, ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة, يا محمد إني قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى, اللهم فشفعه في" رواه ابن ماجه والترمذي والنسائي وغيرهم, وصححه الترمذي وأبو إسحاق وابن تيمية وآخرون. وحديث توسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه, وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب, وكانت قد ربت النبي دخل عليها رسول الله في القبر وجلس عند رأسها ثم قال: "رحمك الله يا أمي بعد أمي إلى أن قال: "الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت, اغفر لأمي فاطمة بنت أسد, ووسع لها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي, فإنك أرحم الراحمين". وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي, فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ونفخت في من روحك رفعت رأسي, فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله, فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك, فقال الله صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي –أدعني بحقه- فقد غفرت لك, ولولا محمد ما خلقتك" رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد, وهناك أحاديث كثيرة تثبت التوسل به صلى الله عليه وسلم وبالصالحين. الجواب عن الشبهة الثالثة قبل الدخول في موضوع الجواب أحب أن أنبه القراء الفضلاء إلى أن هؤلاء الداعين إلى التوسل والاستغاثة بغير الله يعترفون على أنفسهم بأنهم مقلدون للأئمة, ومعنى التقليد الأخذ بقول الغير من غير معرفة دليله, ليس من شأنهم الاستدلال بالكتاب والسنة, لأنهم إذا طولبوا بإقامة الدليل على مسألة من المسائل أجابوك لعلك تدعي الاجتهاد, وإقامة الدليل من شأن المجتهد لا من شأننا وشأنك, وقد أغلق باب الاجتهاد منذ قرون عديدة, فلا يوجد اليوم مجتهد مطلق أو مجتهد المذهب, ولكن عندما يريدون أن يثبتوا للعوام وأنصاف المتعلمين ما يدعون إليه من مثل هذه المطالب, استدلوا ببعض الآيات والأحاديث ونقول تأييدا لشبهاتهم السقيمة, فهل هذا إلا تناقض يربأ عنه كل عاقل فهيم, فإذا كنتم مقلدين فما لكم وإقامة الدليل؟ وإذ قدمت هذه المقدمة الوجيزة فأشرع الآن في الجواب. والجواب وبالله أستعين, والكلام هنا يدور حول موضوعين: الأول: التوسل, والثاني: الاستغاثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 معنى التوسل والوسيلة أما التوسل: فقال في لسان العرب: الوسيلة المنزلة عند الملك والدرجة والقربة ووسل فلان إلى الله وسيلة, إذا عمل عملا تقرب به إليه, والواسل كالراغب إلى الله قال لبيد: أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ... بلى, كل ذي رأي إلى الله واسل وتوسل إليه بوسيلة, إذا تقرب إليه بعمل, وتوسل إليه بكذا, تقرب إليه بحرمة آصرة تعطفه عليه والوسيلة الوصلة والقربى, وجمعه الوسائل, قال الله {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} قال الجوهري: الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير, والجمع الوسل والوسائل والتوسيل والتوسل واحد. أ. هـ. وكل هذه المعاني تدور حول التقرب إلى الله بالعمل الصالح. التوسل المشروع والتوسل الممنوع ثم اعلم أيها القارئ أن التوسل قسمان: 1- مشروع 2- ممنوع والمشروع أنواع: الأول: التوسل إليه بأسمائه وصفاته, قال الله تعالى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الثاني: التوسل بالصلاة لكي تقبل الدعوة, كصلاة الاستسقاء, وصلاة الاستخارة, ومنه حديث الأعمى, ففيه أنه قال النبي للأعمى: "اذهب وتوضأ وصل ركعتين ثم ادع" إن صح حديثه وسيأتي بيانه, ولعل من ذلك قول الله تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} الثالث: التوسل بالتوحيد والإيمان قال الله {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} الرابع: التوسل بذكر الأعمال الصالحة السالفة عند نزول الضر لكشفه كما في قصة أصحاب الغار لما أووا إلى غار فانطبق عليهم صخرة, فتوسل أحدهم بعفته من الزنا, فانفرجت من الصخرة ثلثها, وتوسل الثاني ببره لوالديه فانفرج الثلث الثاني, وتوسل الثالث بتنمية أجر الأجير الذي كان أجيرا عنده فذهب وترك أجرته, ثم جاء وأخذ الأجرة ونماها, فانفرجت الصخرة جميعها فخرجوا يمشون, وهذه القصة وردت في البخاري ومسلم. الخامس: التوسل بدعاء الصالحين الأحياء كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري وغيره أن الصحابة كانوا إذا أجدبوا توسلوا العباس بن عبد المطلب, وقال عمر في عام الرمادة: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا, وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. ومن المعلوم الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على المنبر طالبا من الله أن يسقيهم, واستسقاء النبي لما جاءه الأعرابي يشكو الجدب مشهور في الأحاديث, وهو من الأحاديث المتفق عليها, والصحابة حينما أجدبوا طلبوا من العباس بن عبد المطلب أن يدعو لهم, وباب الاستسقاء في كتب الأحاديث والفقهاء وكيفية الصلاة وإلقاء الخطبة التي هي عبارة عن دعاء من المسلمين الحاضرين لرب العالمين, أن يسقيهم ويرفع عنهم الجدب والقحط, يعرف هذا أدنى طالب علم مبتدئ, وصلاة الاستسقاء هي توسل بها وبالأدعية التي يدعون بها لكي يغيثهم الله, وكذلك صلاة الجنازة توسل بها وبالأدعية التي بها لكي يغفر الله للميت. وهناك أنواع أخرى من التوسلات المندوبة وكلها تدور حول التوسل بالإيمان والعمل الصالح, وهذه التوسلات لم يختلف فيها اثنان ولم يقل الشيخ محمد وأتباعه بمنعها, بل يأمرون بها ويرونها من القرب التي تقرب العبد إلى مولاه وينال بها رضاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ومن خلط بين التوسل المندوب والممنوع فقد أخطأ خطأ كبيرا وأبان عن جهل عظيم. أما التوسل الممنوع, فهو التوسل بذوات المخلوقين أو بجاههم أو بمنزلتهم عند الله كأن يقول: "اللهم إني أسألك بالنبي أو بجاه النبي أو بالشيخ الفلاني والولي الفلاني أو بجاههم أو منزلتهم". وكأن يقول: اللهم إني أسألك بحق فلان, فهذا هو التوسل الممنوع الذي يقول الشيخ وأتباعه وسائر السلفيين أنه من البدع, إذ لم يرد في الكتاب ولا في السنة الصحيحة أو الحسنة ما يدل على ندب هذا التوسل أو جوازه. وحقيقة التوسل دعاء, والدعاء هو العبادة والعبادة مبنية على التوقيف, وأعني ورودها في القرآن أو في الأحاديث الصحيحة أو الحسنة. ولم يرد لا في القرآن ولا في الحديث الصحيح أو الحسن كما سلف بنانه, وكل ما يحتجون به على ندب التوسل فهو إما ضعيف أو موضوع ولا يحتج بهما في العمليات فضلا عن الاعتقاديات إلا من كانت بضاعته مزجاة من الأدلة والبراهين. الجواب عن قولهم إن الشيخ وأتباعه يكفرون المتوسلين والمسلمين وقول المعترضين أن الشيخ وأتباعه يكفرون المتوسل بالنبي أو بالولي كذب لا يخفى إلا على أعمى البصيرة, وهذه كتبهم تنادي ببطلان هذا القول الزائف, لكن بلاء هؤلاء المبتدعين أنهم يخلطون بين التوسل والاستغاثة, وكثير منهم يرى أنهما مترادفان, وهذا جهل وغباء فاضح, بل بينهما أبعد مما بين الغبراء والخضراء, إذ المتوسل يقدم الله في دعائه قائلا: اللهم إني أسألك بجاه الرسول أو بحرمة الرسول, بينما المستغيث يدعو الميت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 مباشرة داعيا يا رسول الله أغثني, أشف مرضي, يا حسين بن على أنقذني, يا عبد القادر الجيلاني المدد وهكذا, فهذا ولا شك ولا ريب أنه شرك وضلال وكفر بالله ذي الجلال. وإذ قدمت بيان معنى التوسل, وبيان التوسل المشروع والممنوع فإليك الآن الجواب عما تمسكوا به من الأدلة حسب رأيهم. كلام المفسرين عن معنى التوسل والوسيلة أما استدلالهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} قال المفسرون كافة: معنى الوسيلة, التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة والقرب الرابحة, وفي مقدمة المفسرين الحافظ ابن جرير: قال رحمه الله: في تفسير {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} يقول: اطلبوا إليه القربة بالعمل بما يرضيه. والوسيلة هي الفعيلة من قول القائل: توسلت إلى فلان بكذا بمعنى تقربت إليه, ومعنى قول عنترة: إن الرجال لهم إليك وسيلة ... أن يأخذوك تكحلي وتخضبي وقال الحافظ ابن كثير بحت قوله تعالى {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} قال سفيان الثوري عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس أي القربة, وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وغير واحد وقال قتادة أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه أ. هـ. قال في روح المعاني: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي اطلبوا لأنفسكم ثوابه والزلفى منه "الوسيلة" هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله من فعل الطاعات وترك المعاصي من وسل إلى كذا "أي تقرب إليه بشيء" الظرف ويقصد الجار والمجرور متعلق بها "أي بالوسيلة" قدم عليها للاهتمام. وقال العلامة القاسمي في محاسن التأويل في تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي القربة كذا فسره ابن عباس, وذكر ما ذكره ابن كثير, وذكر عن القاموس وشرحه معنى الوسيلة والواسلة: المنزلة عند الملك والدرجة والقربة والوصلة. وهكذا سائر المفسرين على هذا المنوال. الجواب عن تمسكهم بالتوسل بحديث الأعمى وأما الجواب عن حديث الأعمى فهاك بيانه: هذا الحديث تكلم به علماء الحديث والجرح والتعديل كلاما طويلا من حيث إسناده, فمنهم من ضعفه ومنهم من حسنه كالترمذي وقال بعض الفضلاء في رواة الحديث أبو جعفر المدني عمير بن يزيد بن عمير بن حبيب الأنصاري, إن كان هو الخطمي, فالحديث في درجة متوسطة من الصحة والجودة, ولا يبلغ مكانة أحاديث البخاري ومسلم, ولا ينزل أن يكون حديثا باطلا مردودا, وإنما هو كالأحاديث التي يصححها أمثال الترمذي وابن خزيمة والحاكم وابن حبان وغيرهم, ممن عندهم نوع التساهل وإغماض التصحيح ونقد الأخبار, وإن كان غير الخطمي فهو أبو جعفر عيسى بن ماهان الرازي التميمي الذي ضعفه قوم ووثقه قوم آخرون. على أنه لو كان حسنا فلا يدل على ما ادعاه المحسنون للتوسل والاستغاثة, وكل ما فيه أنه توسل بدعاء النبي, لأن الضرير أتى النبي فقال: ادعو الله أن يعافيني, قال إن شئت دعوت, وإن شئت صبرت فهو خير لك, قال الأعمى يخاطب الرسول فادع, ثم علمه الرسول كيف يدعو وفي نهاية الدعاء علمه أن يقول اللهم شفعه في, فطلب الدعاء من الأحياء والتوسل بدعائهم لا شبهة في جوازه, ليس مما نحن فيه ولم يقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه بمنع هذا. ومما يؤيد حجة المانعين من التوسل بالأموات والاستغاثة بغير الله, أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 سؤال الله بالخلق والعباد, وبحقهم وجاههم ونحوه, لم يرد مثله ولا دليل في آية, ولا في حديث صحيح ولا في كلام صاحب من أصحاب النبي, ولا عن إمام من أئمة الدين المقتدى بهم فما جاء في البخاري ولا في مسلم أصح كتب الإسلام بعد الكتاب شيء من هذا النوع, خلا حديث أنس بن مالك في الاستسقاء بالعباس وهو ليس من هذا القبيل, ولا جاء في خبر صحيح سليم من القدح والطعن والضعف والاختلاف. وأبواب الدين: أصوله وفروعه كلها جاءت فيها الآيات والأحاديث الصحيحة أو الحسنة وفيها من الأحاديث المتواترة, التي لا يختلف المسلمون في صحتها وصحة نسبتها إلى النبي عليه السلام إلا هذا الباب, باب سؤال الله بالمخلوق وبجاهه وذاته وحرمته, فما جاء فيه حديث أجمع على صحته وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم, أو سلم من النقد والضعف, ودين الله لا يثبت إلا بالنقل الصحيح, والنقل الصحيح لا يكون سوى الكتاب والسنة الصحيحة السليمة من الضعف وأعراضه, وخلاف هذا لا تثبت به قاعدة من قواعد اللغة ولا قواعد النحو, ولا مسألة من مسائل الحيض والطهارات, فضلا عن أن يثبت به حكم من هذه الأحكام وشريعة من هذه الشرائع. والتوسل والاستغاثة من العقائد, والعقائد عند هؤلاء القوم لا تؤخذ من أحاديث الآحاد ولو كانت صحيحة ولا يعتمد عليها, فكيف الآن يحتجون بأحاديث ليست بصحيحة على مطالبهم. لكن الهوى والتعصب الأعمى يفعل بأهله العجائب, فعندما تورد عليهم حديثا من الصحيحين في عقيدة من العقائد, قالوا: هذا الحديث من أحاديث الآحاد, لا نعتمد على أحاديث الآحاد في عقائدنا لأنه لا يفيد إلا الظن, والظن لا يغني من الحق شيئا, وإذا أرادوا أن يحتجوا لمبدئهم وعقائدهم احتجوا بما هب ودب من الأحاديث الضعيفة والموضوعة, والحكايات والمنامات وما أشبه ذلك مما هو أوهى من بيت العنكبوت, فيا سبحان الله ما يفعل الهوى بأهله والتقليد بذويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وأما احتجاجهم بحديث توسل عمر بالعباس بن عبد المطلب فهاك نص الحديث: عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك, وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا "فيسقون". رواه البخاري في صحيحه فتعلقوا بقوله: إنا كنا نتوسل بنبينا, هذا الأمر الأول, والثاني قوله: إنا نتوسل إليك بعم نبينا, ففهم أنصار البدع والمبشرون بدعاء الأموات والتوسل والاستغاثة بهم على جواز الأمرين بل على الندب. والجواب: إن قولهم توسلوا بالنبي لا يصح, بل كانوا يتوسلون بدعائه صلى الله عليه وسلم في حال حياته, والدليل عليه أمور: الأول: ما ثبت في الأحاديث حين كان حيا أنهم كانوا يأتون إليه في الجدب فيذكرون له ذلك ويسألونه, فيدعو الله لهم ويقول: "اللهم أغثنا" في أحاديث كثيرة, وما ورد قط أنهم توسلوا واستسقوا بذاته حيا, والتوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم مذكور في صلاة الاستسقاء من كتب السنة, فعن أنس رضي الله عنه "أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب, فقال يا رسول الله هلكت الأموال, وانقطعت السبل, فادع الله عز وجل يغيثنا فرفع يديه" زاد البخاري في رواية "ورفع الناس أيديهم" ثم قال "اللهم أغثنا" وفي البخاري أسقنا "اللهم أعثنا" فهذا الحديث صريح أنهم كانوا يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم دعاءه, ولا شك أن دعاءه مستجاب. فقد تبين مما أوردته أن توسلهم بالرسول صلى الله عليه وسلم كان بدعائه لا بذاته, لأنه لو كان التوسل بذاته لما كانت هناك حاجة لأن يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه أن يستسقي لهم, ولتوسلوا وهم في أماكنهم فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أجدبوا, كما قال الأعرابي: والرسول يخطب هلكت الأموال وانقطعت السبل فادعوا الله يغيثنا, فذلك الأعرابي كان أعرف بالتوحيد من أولئك الذين يدعون العلم, ويموهون على الناس بأنهم من الناصرين لدين الله, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ويدعونهم إلى صراط معوج غير مستقيم, لأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ادع الله يغيثنا, ثم ماذا قال رسول الله عندما سأله الأعرابي: قال: اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا الخ الحديث. وفي الجمعة الثانية لما استمر المطر دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة الماضية ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل, فادع الله أن يمسكها عنا, فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا. .الخ الحديث. فمن هنا نعلم أن توسل المسلمين بالنبي صلى الله عليه وسلم هو طلب المسلمين منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم, ولم يقولوا نتوسل إلى الله بذاتك أو بجاهك أو بمقامك يا رسول الله. ثم إن عدول عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن نتوسل به بعد موته إلى عمه العباس, لدليل واضح أنه لا يجوز طلب الدعاء من الميت ولو كان رسولا كسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهنا قد يقول قائل: عدلوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العباس بن عبد المطلب لبيان جواز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم. ونجيبهم بأمرين: الأول: إن كان قصدهم بغير النبي بدعائه كأن يطلبوا من رجل صالح في علم وتقى أن يدعو لهم للاستسقاء أو لغيره, فنحن قائلون به ولا خلاف بيننا إذن. الثاني: وإن كان يريدون لبيان جواز التوسل بذات المخلوق الصالح غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بذوات الأنبياء والرسل والملائكة. فالجواب: أن التوسل بهم ممنوع فضلا عن غيرهم, وإن كانوا يريدون بالدعاء فقد سبق البيان. وقد دل على ما قلناه من طلب الدعاء أن عمر بن الخطاب قال للعباس بعد ما قال ما سلف في الحديث: ادع يا عباس, فرفع العباس يديه وقال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذهب, ولم يكشف إلا بتوبة, وقد توجه القوم بي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 إليك لمكاني من نبيك, وهذه أيدينا إليك بالذنوب, ونواصينا إليك بالتوبة, فاسقنا الغيث "فأرخت كالجبال" وتعلم علما لا يرقى إليه شك أنه كان قصدهم التوسل بدعاء العباس لا بذاته, إذ لو كان قصدهم ذات العباس, لكان ذات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأعظم وأقرب إلى الله من ذات العباس بلا شك ولا ريب. فنستفيد من الأحاديث المارة في الاستسقاء أن عملية الاستسقاء مؤلفة من عنصرين: طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم أو من غيره ممن يتوسم معه الصلاح. الدعاء: ولعلك تقول لم وقع اختيار عمر والصحابة على العباس مع أن في الصحابة من يفوق العباس سابقة وفضلا وصلاحا؟ فالجواب: كان اختيارهم له لكونه أقرب الصحابة نسبا إلى رسول الله, ولهذا قال العباس في دعائه: وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك. قف على حديث الجارية التي كانت تصرع في صحيح البخاري أن امرأة كانت صرع فتتكشف فأتت النبي تسأله يدعو الله لشفائها, فنصحها بالبقاء على حالها فقالت إذا: ادع الله أن لا اتكشف فدعا لها, ولو كان التوسل به جائزا لأرشدها إلى أن تتوسل به, كأن تدعو "اللهم إني أسألك بجاه محمد أو بجاه الرسول أن تعافيني من الصرع" وحيث لم يرشدها إلى ذلك دل على عدم جواز التوسل, وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وما عهد من الرسول ولا من الرسل أن يقولوا للناس اسألونا نسأل الله لكم كشف عاهاتكم, بل كان عليه السلام لا يرضى من كثرة السؤال ويرغب في الصبر من جاء من أهل الاعتلال يسأله كشف دائه, وينصح له أن يحتسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 مرضه كحديث الجارية السالف, ويزيد هذا توضيحا أن الذين كانوا يعذبون بأيدي المشركين في مكة المكرمة كبلال وعمار بن ياسر وأمثالهم لم يرشدهم النبي إلى التوسل أو الاستغاثة به بل كان بلال يقول: أحد, أحد. ولا زال السلفيون يقولون يندب طلب الدعاء من المسلم, ولا سيما إن كان رجلا صالحا, أو امرأة صالحة, وإنما الكلام في التوسل بالأموات وطلب الدعاء منهم. والثاني: لو كان توسلا بالذات لكان في الحياة والممات سواء, وما كانوا يعدلون عن ذاته إلى غيرها. الثالث: لو كان ذلك بالذات لورد ذلك عنه صلى الله عليه وسلم بنبي من الأنبياء, أو بالكعبة مثلا أو بالعرش أو بالسماء أو بالجنة, ولجاز ذلك لنا وهذا معروف بطلانه بالاضطرار من الدين. الرابع: أن يقال: ما معنى سؤال الله بالمخلوق, وما فائدته, وما وجه اقتضائه لأن يجاب الدعاء؟ وهل معناه أنه إذا قال: أسألك بفلان, أي بخلقك له وإيجاده وتصويره التصوير البديع؟ فإن كان ذلك فهو توسل بغير الخلق, وأما أن يكون معناه أسألك به, أي بسببه يعني أنه هو الذي حملني على أن أسألك, وشرع لي ذلك, والمراد أن تسأل له وهذه المعاني كلها ليست صحيحة. الخامس: لو كان التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم جائزا, لما كانت حاجة أن يأتوا إليه ويطلبون منه, بل يتوسلون به في أماكنهم وبيوتهم, ولم يأتوا يطلبون منه إلا قصدهم الدعاء, وهذا واضح لم ترك العناد واتبع سبيل الرشاد, وقد سبق بيان ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الجواب عن تمسكهم بحديث فاطمة بنت أسد وأما احتجاجهم بحديث فاطمة بنت أسد, والذي جاء في آخره: اغفر لأمي فاطمة بنت أسد, ووسع لها مدخلها بحق نبيك والأنبياء من قبلي. فالجواب: هذا الحديث غير صحيح, فإن فيه روح بن صالح المصري وهو ضعيف ولا حجة في ضعيف ولا موضوع. الجواب عن تمسكهم بحديث توسل آدم بالنبي وأما احتجاجهم بحديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم لما اقترف آدم الخطيئة, فقال يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي .... الخ. فالجواب: أن الحديث ليس ثابتا بل وكذب, قال الإمام الذهبي في تعليقه على المستدرك الجزء الثاني إنه حديث موضوع, وقد نعى على الحاكم كثير من تصحيحه الموضوعات والضعيف والمنكر حتى أتهم بسوء العقيدة, وقد وقع وقعات وزل زلات لا يطال غبارها, حتى أنه صحح أحاديث يعلم كل إنسان ببديهة العقل وإن لم يطلع على شيء من الحديث ولا العلم أنها لم تخرج من في نبي ولا عاقل, مثل قوله في آخر الحديث: ولولا محمد ما خلقتك. وهذا من الكذب المباين للقرآن كلفظ آخر: لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك, فالقرآن المجيد بين الحكمة من خلق الله الخلق حيث قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} 1. وقال في سورة النجم {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} 2   1 تبارك- 1, 2 2 النجم- 31 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وما أدري كيف يحتج هؤلاء المبتدعون بأحاديث ضعيفة وأحيانا بموضوعة على أمور اعتقادية وهنا لا بد من أمرين لا محيص لهم عنهما: الأول: إما أن يكونوا عارفين بأن أكثر هذه الأحاديث التي يحتجون بها على مطالبهم ضعيفة وبعضها موضوعة, فإن كان الأمر كذلك فهل هذا إلا غش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, وتضليل للمسلمين وإيقاعهم في شرك البدع والشرك المبين, وإن كانوا غير عارفين بصحة تلك الأحاديث أو ضعفها أو كونها موضوعة, فكان من الجدير بهم أن يبحثوا عنها ويتأكدوا من صحتها أو حسنها فإذا ثبت لديهم أحد الأمرين استندوا إلى الحديث أو إلى الأحاديث, وأما إيرادهم وهم غير عارفين بأحوال تلك الأحاديث, أو عارفون وتجاهلوا, فإن كانوا غير عارفين فيدل احتجاجهم على أنهم ليسوا من العلماء بل من الجهلاء, وإن كانوا عارفين فيدل تمسكهم بتلك الأحاديث, أنهم من المدلسين والغشاشين للمسلمين, وليسوا من الناصحين لدين الله ولا لعباد الله, ومخالفين للحديث الصحيح الدين النصيحة .... الخ. نهى الشيخ عن الاستغاثة بغير الله وأما نهي الشيخ وأتباعه عن الاستغاثة بغير الله وأنه من الشرك الجلي, فهذا صحيح والشيخ لم يبتدع في هذا القول بل اتبع القرآن والسنة. فالقرآن بجملته نهى عن دعاء غير الله من الجن والإنس وسائر الخلائق, ودعاء عام شامل إلى دعاء الله والرغبة فيه, والانقطاع إليه وحده لا شريك له, وأن لا يدعوا إلا الله ولا يسألوا سواه لا في السراء ولا في الضراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 عناية القرآن بالمعاد والحساب والنهي عن الدعاء لغير الله لقد عني القرآن بإثبات المعاد والحساب والعقاب, وبإثبات النبوات والوحي واتصال الملأ الأعلى بالبشر, وعني بغير ذلك من أصول الأديان والإيمان, كما قد عني بالنهي عن دعاء غير الله, وبالأمر بدعائه وحده أكثر, كما سوف نعرض على القارئ لأجوبتنا, ففي كل سورة تجد الله تعالى ينهى عن دعاء غيره ويأمر بدعائه وحده, ويندد عن دعاء سواه من خلقه, وفي كل آية تنهى عن ذلك تجد النهي فيها شديدا والتأثيم عظيما, والأمر أوضح وأظهر. قال الله تعالى في سورة الحج {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . وهذه الآية لو لم ينزل الله غيرها على البشر كافة لكانت حجة قائمة عليهم جميعا في بطلان الشرك وبطلان دعاء غير الله وهدم أركانه, وتنديد بمن دعوا مخلوقا يقصر القول عن نعته وصفته وقد وجه الله هذا المثل إلى الناس أجمعين في كل زمان ومكان, وآذنتهم أن الذين يدعون من دونه من العقلاء وغير العقلاء من الجن والإنس, من الصالحين والطالحين, عاجزون عن نفعهم وعن ضرهم وعن كل ما يرجى منهم من خير وشر, فهم لا يستطيعون أن يخلقوا أحقر مخلوق في هذا الوجود, ولا أن يستردوا ما أخذه منهم هذا الأحقر. وهذه الآية كما ترى قطعت جذور الشك والوثنية, ومما لا شك فيه أن الاستغاثة دعاء غير الله ونداؤه طالبا منه جلب نفع أو دفع ضر, والقرآن صريح بأن دعاء غير الله كفر وضلال, وأنه غير مجد ونافع, قال الله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال الله {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} وقال الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} , والقرآن مملوء من الآيات المصرحة بأن دعاء غير الله شرك وكفر لا ريب فيه, ولما كانت الاستغاثة دعاء غير الله كانت شركا أكبر, ولهذا حكم الشيخ بشرك المستغيث وكفره إذا دعا غير الله, وطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله, كشفاء المرضى وإتيان المطر وإعطائه الولد, ونحو ذلك, وقد سبق الشيخ علماء أجلاء قبله وبعده بأن هذه الأمور من الشرك, وأن صاحبه مخلد في النار إن لم يتب, ومن أولئك العلماء السالفين ابن عقيل الحنبلي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والمقريزي ومن المتأخرين الصنعاني والشوكاني وأكثر أهل الحديث. عدم مبادرة الشيخ وأتباعه بتكفير من يعبد غير الله قبل إقامة الحجة عليه ومما ينبغي ذكره أن يعلم أن الشيخ وأتباعه السلفيين لا يبادرون بتكفير من يرونه مستغيثا بغير الله أو طائفا بالقبر أو ناذرا له حتى يقيموا عليه الحجة من كتاب الله وسنة نبيه, فإن أصر بعد ذلك على هذه الأمور الشركية, ولم يستجب للحجة التي أقيمت عليه عند ذلك يكفروه. فإطلاق القول بأن الشيخ وأتباعه يكفرون المتوسلين والمستغيثين بغير الله ويلزم منه تكفير المسلمين الذين يأتون بهذه الأعمال, إطلاق غير صحيح: أولا: إنهم لا يكفرون المتوسلين مطلقا كما سبق بيانه. ثانيا: إنهم لا يكفرون الجاهل قبل إقامة الحجة عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 اشتباه بعض الحقائق على الكثيرين حتى على بعض المنتسبين إلى العلم وبيانها ثالثا: لا يلزم منه تكفير جمهور المسلمين, لأن الأكثرية من المسلمين جاهلون, بل وكثير من المنتسبين إلى العلم يجهلون هذه الحقائق وتشتبه عليهم, فمنهم من لا يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية, ومنهم من لا يفرق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي, فيجعل دعاء الأموات والاستغاثة بهم والنذور لهم والطواف حول قبورهم والاستنجاد بهم والحلف بهم وطلب قضاء الحوائج منهم, يجعلون هذه الأمور من الكفر العملي بمنزلة تارك الصلاة عند من لا يقول بكفره بل يقول فاسق وبمنزلة كفر تارك الحج, ومن أتى امرأة حائضا أو امرأة في دبرها أو أتى كاهنا أو عرافا أو قال لأخيه كافر, فهذه الأنواع من الكفر العملي قد أطلقها الشارع على فعل هذه الكبائر بأنه من الكفر, لكنه كفر عملي لا يخرج به العبد عن الإيمان, ومنهم من لا يميز ويفرق بين التوسل والاستغاثة, ومنهم من يقول إن الآيات الواردة في عبادة غير الله وأنها من الشرك الأكبر يقصد بها عبادة الأوثان والأصنام والأشجار التي كانت تعبدها الجاهلية, ولا يقولون لا إله إلا الله, ومن أجل هذه الأمور اشتبهت هذه الحقائق على مدعي العلم, وقد يكون مدرسا أو مؤلفا فضلا عن العوام, فلهذه الأسباب لم يقولوا بشرك من يستغيث بغير الله أو ينذر لغير الله أو يطوف بقبور الصالحين لظنهم أنه من الكفر العملي لا من الشرك الأكبر. وحيث ذكرت هذه الحقائق فمن الجدير أن أذكر التفرقة بين تلك الأمور السابقة المشتبهة على الكثيرين: أما الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فقد سبق بيانه, وأن المشركين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ولم يدخلهم في دين الإسلام, وتوحيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الربوبية: هو اعتقاد أن الله هو الخالق والرازق والمحيي والمميت, وأما توحيد الألوهية: فهو إفراد الله بالعبادة بدون أن يشرك معه غيره لا ملك مقرب ولا نبي مرسل, قال الله مخبرا عن نوح {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} . وهكذا سائر الأنبياء. وقال الله مخاطبا نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . وبلاء القوم أنهم فسروا الإله بمعنى القادر على الاختراع والخالق أو المالك, ولم يفسروا الإله بالمعبود بحق, ولم يتأملوا في الآيات الآمرة, بإفراد الله بالعبادة فجاءهم الاشتباه من هذه الناحية, وأما شبهتهم بأن المشركين كانوا لا ينطقون بلا إله إلا الله ولا يقرون بالنبوة للنبي صلى الله عليه وسلم فكيف يساوي المسلمون الذين يفعلون ما تنكره الوهابية من أجل محبتهم للرسول وللصالحين لأن لهم جاها ومقاما عظيما عند الله رب العالمين ولم يقولوا بأن الأنبياء والأولياء خلقوا شيئا من الكائنات وأنهم يضرون وينفعون. فالجواب: أولا: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, وعموم اللفظ يدخل فيه غير الله كائنا من كان وما كان. اعتقاد المشركين الأولين بتوحيد الربوبية ثانيا: إن الجاهلية كانت تعتقد أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت, الضار, النافع, وأن الخير والشر بيده سبحانه وتعالى, وإنما عبدوا أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى كما قال الله عنهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} , وقال الله {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} , ولو كان هذا الاعتقاد الذي ذكره المبتدعون نافعا لما أباح الله دماء المشركين وأموالهم, وأمر نبيه بجهادهم, كل ذلك لتحقيق معنى كلمة لا إله إلا الله, وأما كون المشركين كانوا لا يقولون لا إله إلا الله, فلأنهم كانوا يعتقدون أن الآلهة كثيرة, تلك الآلهة الباطلة التي يعبدونها من دون الله, ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " قولوا لا إله إلا الله" , قالوا: "أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب" وأما كون القبوريين يشهدون أن لا إله إلا الله, وأن محمدا رسول الله فصحيح, ولكن لم يعملوا بمقتضى كلمة لا إله إلا الله, وذلك أن لا إله إلا الله معناها إفراد الله بالعبادة, وأن العبودية محصورة في الله, وأن الآلهة غير الله باطلة, فلم يحققوا معنى لا إله إلا الله, ولم يعملوا بمقتضاها لأنهم لم يقصروا العبادة على الله, وكذلك لم يعملوا بمقتضى محمد رسول الله, لأن من شهد أن محمدا رسول الله وجب عليه أن يتبعه فيما أمر وينتهي عما نهى عنه وزجر, ومن أوامره صلى الله عليه وسلم, إذا سألت فاسأل الله ولم يقل اسأل نبيا أو وليا, وإذا استعنت فاستعن بالله, ولم يقل استعن بغير الله. لأن الله قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي نخصك بالعبادة والاستعانة, ومن نواهيه لعن الله من ذبح لغير الله, والقبوريون يذبحون للأولياء وينذرون لهم, ولا شك أن النذر من العبادة والعبادة لا تصلح إلا لله, ومن إرشاداته صلى الله عليه وسلم أنه لما قال بعض الصحابة قوموا بنا نستغيث برسول الله من منافق كان يؤذيهم فقال النبي لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله, ومن نواهيه صلى الله عليه وسلم لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم, إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله, ولما قال بعضهم ما شاء الله وشاء محمد, قال أجعلتني لله ندا, قل ما شاء الله وحده. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نُزِلَ برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصه على وجهه, فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" , يحذر ما صنعوا, ولولا ذلك لأبرز قبره, غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل, فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا, ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا, ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد, ألا فلا تتخذوا القبور مساجد, فإني أنهاكم عن ذلك. وعن ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم. شبهته في عبادة المشركين للأصنام وأما قولهم: إن المشركين كانوا يعبدون أصناما وأحجارا يعتقدون فيهما النفع والضر أو التأثير ونحن لا نقول بذلك، وكان المشركون يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم منكرين جميع شرائعه ونحن نؤمن بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. الجواب: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما مر غير مرة ومن هنا نعلم أنه لا فرق بين من يدعو صنما أو يدعو نبيا أو وليا، لأن كلمة غير الله شاملة لكل مخلوق لأن الله يخبر عن رسله عندما جاؤوا يدعون أقوامهم {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقال الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ..... } الآية. وإذا كان المشركون السالفون يعتقدون في أصنامهم ومعبوداتهم من الجن والإنس والملائكة، إنهم يضرون أو ينفعون، وأنها تشفع عند الله ولا يرد شفاعتها وتعددت آلهتهم حتى قالوا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} فإن الإله في الوضع اللغوي يطلق على كل معبود بحق أو بباطل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وغلب على الإله الحق، والمسلم إذا قال: لا إله إلا الله، معناها، أن لا معبود بحق في الوجود إلا الله، وإن الآلهة غير الله التي عبدوها باطلة. ومن هنا تعلم أيها المسلم أن المشركين تعددت آلهتهم مثل اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وعبد بعضهم الشعرى, بعضهم عبد النار، ومنهم من عبد الجن، فإن القبوريين بصرفهم العبادات أو كثيرا منها لغير الله من الأنبياء والأولياء الذين يعتقدون فيهم ذلك الاعتقاد الذي بموجبه أخذوا يشدون إليهم الرحال، وينادونهم في الشدائد بدعاء لا ينادى به إلا الله ذو الجلال، فقد تعددت الآلهة بذلك ولا تنفعهم كلمة الشهادتين، ولا الصلاة ولا الصيام، لأنه بمثابة من توضأ ثم أحدث، فنطقهم بالشهادتين، وإتيانههم بالعبادات كالصلاة والصيام والحج تطهير, ولكن إتيانهم بتلك الشركيات التي سبق بيانها مرارا قد أبطلت معنى الشهادتين, لأن تلك الشركيات بمنزلة النواقض, فافهم وتنبه لما يلقى إليك من الشبه, وسيأتي إن شاء الله ذلك مفصلا في شروط لا إله إلا الله ونواقضها. وثانيا: إن عباد الأنبياء والصالحين لم يرغبوا إليهم ويقدموا النذور والقرابين إلى أوليائهم ويستغيثوا بهم إلا أنهم يعتقدون في قرار أنفسهم أنهم ينفعونهم أو يضرونهم أو يشفعون لهم عند الله, وإلا لما وجدتهم عاكفين عليهم باسطين أكفهم إليهم تغشى وجوهم الذلة والمسكنة وتضطرم في قلوبهم الرغبة وحب النفعة, ولما تحملوا المشاق وقطعوا الفيافي والقفار إليهم, أو قطعوا المسافات الطويلة في البحار إلا لما رسخ في قلوبهم ذلك الاعتقاد أنهم قادرون على كل ما يريدون من إعطاء ولد أو تيسير رزق أو شفاء مرض أو رفع ظلم ونحو ذلك, والأدلة على ذلك كثير منها: أنهم يسمون سكان تلك القبور من الأولياء الكبار في زعمهم أهل التصرف, أي تصرف العالم ويسمونهم الأقطاب أي أقطاب الكون, ويدعون الواحد منهم بالمتولي أي متولي أمر الوجود, فهناك أقطاب وهناك قطب واحد وهناك غوث العالم إلى غير ذلك من المسميات, على أن هؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 يصرفون الكون وأن الله فوض إليهم أمر العالم, وقد ألفوا كتبا في مناقب الأولياء وشحنوها بالأكاذيب, إن الأولياء قادرون على أشياء لا يقدر عليها إلا الله, فيحكون أن البدوي صنع كذا وأن الدسوقي صنع كذا وأن الجيلاني فعل كذا من غرائب الأفعال والحكايات, وقد يتشبثون بأفعالهم المنكرة واعتقاداتهم الباطلة في الأنبياء بأمثال قول الله تعالى {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} , وقوله تعالى {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} , واحتجاجهم بهذه الآيات صريح في أنهم يرون من يدعونهم من دون الله من الأشياخ الموتى يفعلون كل ما يشاؤون وينالون ما يشاؤون، لأن لهم عند ربهم ما يشاؤون، وخفي عليهم أن لهم ما يشاؤون في الجنة مما وصفها الله من النعيم والسرور غلو القبوريين في النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال بعض غلاتهم وهو الشيخ إبراهيم بن يحيى العاملي في النبي صلى الله عيه وسلم - برأه الله تعالى مما قالوا- والعاملي هذا وإن كان شيعيا، فإن الشيعة والقبوريين من أهل السنة متفقون على صرف كثير من العبادات للأنبياء والأولياء كالنذر إليهم والطواف والاستغاثة بهم والاعتقاد بتصريفهم للكون وأن الله فوض إليهم تصريف العلم وتدبيره. وإليك نص ما قاله إبراهيم بن يحيى: ساد الورى بفضائل وفواضل ... وأقلها إيجاد هذا العالم أنا عبدك الراجي الذي لا يبتغي ... إلا رضاك وأنت أرحم راحم وقال بعض شعراء السنة في النبي صلى الله عليه وسلم: وإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الشبهة الرابعة: في جواز الاستغاثة بغير الله قال المعترضون على الشيخ محمد بن عبد الوهاب: وأما الاستغاثة فقد جوزها العلماء والصالحون والأولياء، واستندوا إلى بعض أمور رأوها أدلة لهم: 1- قول الله تعالى {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 2- لازال المسلمون سلفا وخلفا يدعون الأولياء والصالحين ويستغيثونهم في الشدائد لقضاء حوائجهم ودفع الضر عنهم، فيقضي الله لهم ما طلبوه، لأن المستغاث به، إما أن يكون نبيا فمنزلته عند ربه لا تخفى، وإما أن يكون من الصالحين، فالصالحون لهم من الجاه العظيم والمكانة الرفيعة ما لا يجهله أحد، وهم لا يعتقدون أن أولئك الصالحين يخلقون أو يرزقون، وكل ما في الأمر أن المستغيث يجعل المستغاث به واسطة بينه وبين الله، فالمستغاث به في الحقيقة هو الله. الجواب عن الشبهة الرابعة والجواب: 1- قولهم: قد جوزها العلماء والصالحون، قد يفهم من هذا الكلام أن جميع العلماء والصالحين قد جوزوا، لأن أن للاستغراق هنا حسب سياق الكلام، وهذا غير صحيح، لأن كثيرا من العلماء والصالحين الأتقياء منعوا الاستغاثة، وحكموا بشرك المستغيث بغير الله تعالى، بعد إقامة الحجة عليه، كما سيأتي بيانه. 2- تمسكهم بقوله تعالى {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} فأولا: هذا مما يضحك المجانين فضلا عن العقلاء، إذ كان هذا بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 موسى والقبطي، وموسى لم يكن إذ ذاك نبيا، ولو فرضنا أنه كان نبيا، فشريعته غير شريعتنا، وعلى القول: أن شرع من كان قبلنا شرع لنا ما لم يأت ناسخ له، فهنا جاءت النواسخ العديدة في القرآن والسنة في نسخ الاستغاثة بغيره تعالى وثانيا: إن هذا استغاثة حي بحي فيما يقدر عليه المستغاث به، وهذا جائز لا ريب فيه، إذ من رأى غريقا يستنجد به أو حريقا، وجب عليه إنقاذه حتى ولو لم يستنجد به، بل يجب أن يفطر الصائم لإنقاذ من وقع في مهلكة ويبطل الصلاة إن كان في صلاة فاستغاثة الحي بحي ليس فيه الكلام، وإنما الكلام في الاستغاثة بميت أو بمن كان بعيدا، كالاستغاثة بسكان القبور. 3- قولهم: إن المستغاث به، إما أن يكون نبيا فمنزلته لا تخفى .... فجوابه: نعم لهم المنزلة العالية والدرجة الرفيعة، وهم أفضل خلق الله، والرسل أفضل من الأنبياء، وأولوا العزم أفضل من بقية الرسل، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من الجميع، ولكن كون الأنبياء لهم تلك المنزلة الرفيعة، لا يجوز لنا الاستغاثة بهم نوع من العبادة، والعبادة لا تصلح إلا لله رب العالمين، فإذا كانت الاستغاثة بالأنبياء شركا، فبغيرهم من الصالحين من باب أولى. وكونهم لا يعتقدون بالأنبياء والصالحين، بأنهم لا يخلقون ولا يرزقون، بل جعلوهم واسطة فقط. فالجواب: هكذا كان اعتقاد مشركي قريش وسائر العرب، قال الله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . أما الجواب التفصيلي فنقول: هل يستطيع هذا المدعي الجريء أن يورد حجة واحدة على أن أبا بكر أو عمر أو عثمان أو عليا أو الحسن أو الحسين أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فاطمة أو غيرهم من الصحابة وقرابة النبوة، أو أن الإمام أبا حنيفة أو مالكا أو الشافعي أو أحمد بن حنبل أو غيرهم من الأئمة الصادقين المعروفين، أولي الذكرى الطيبة والإمامة الشائعة المتبعة في المسلمين استغاث بميت من الأموات، أودعاه لكشف ملمة من الملمات، أو هتف به لحاجة من الحاجات وأمل من الآمال؟ فإن لم يستطع أن يورد لنا نقلا صحيحا عن أحد هؤلاء فليكفه هذا العجز إبطالا وإدحاضا لمزعمه هذا. وغير خاف على القارئ الذكي أن القرآن العظيم قد عني في كثير من السور والآيات بالبعث والحساب والجنة والنار والصراط، كما عني ببيان توحيد الألوهية وأن العبادة التي هي أقصى المحبة وأقصى الخضوع لا يستحقها غير الله مهما علت درجته وسمت رتبته من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقر بين فضلا عن الأصنام والأحجار والشمس والقمر والكواكب والبحر والنار وما إلى ذلك من المخلوقات االتي عبدت من دون الله سبحانه وتعالى، وهاأنذا أورد بعض الآيات في النهي الصريح عن صرف العبادة لغير الله سبحانه وتعالى وضرب الأمثال القرآنية لتقريب الحقيقة للأذهان وبيان بطلان الشرك القبيح المفضي إلى الشقاء الأبدي بصاحبه: قال الله تعالى في سورة المؤمنين {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} . وقال الله تعالى في سورة الأعراف {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 1   1 الآيات 198:194 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 هذه الآيات من أبلغ الرد على المشركين الذين يدعون من لا ينفعونهم ولا يضر ونهم وينسون ربهم رب العالمين الذي يرجع إليه الأمر كله، وهى أيضا من أبلغ الرد على هؤلاء الطائفين بالقبور السائلين الأموات، وقد نوع الرد فيها وبولغ فيه، فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} صريح في أنهم كانوا يدعون أناسا مثلهم بشرا، أما إنهم أنبياء أو ملائكة أو صالحون فهذا من أبلع الرد على الذين يحتجون على جواز الاستغاثة بغير الله ودعاء الموتى، ويقولون إن المشركين السابقين كانوا يدعون أصناما أو أشجارا، أما نحن فندعو الأنبياء أو الأولياء الصالحين أو الملائكة المقربين وهؤلاء لهم مكانتهم عند الله. فتأمل أيها القارئ هذه الآية الشريفة كيف قطعت عليهم شبههم وأبانت قلة عقلهم وسقيم رأيهم، فالآية تقول عباد أمثالكم ليسوا جمادا ولا أصناما ولا أحجارا ولا أشجارا ولا يخفى ما في الآية من التهكم والرد على القوم والزراية بهم وبعقولهم، فإن العاقل لا يمكن أن يدعو من هو مثله في القدرة وفي الحول والطول ليهبه ما يرجو ولينيله ما يعجز عنه هو، وإنما يدعو العاقل من هو أقدر منه ومن هو أعظم حولا وطولا وسلطة وسلطانا، وذلك لأن الداعي والمدعو لا يصح أن يستويا وأن يكونا مثلين لأنهما إذا كانا كذلك فليس دعاء أحدهما للثاني أولى من العكس. وقوله: {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} غاية في التحدي والتعجيز لدعاة غير الله من البشر وغير البشر، غاية الإنصاف في الجدل والخصام، وبيان هذا أن الله أولا قال لدعاة غيره: إنكم غالطون ضالون إن دعوتم سواي عبادا مثلكم من كل وجه، عاجزين من نفعكم كما عجزتم أنتم عن نفعهم، محتاجين إلى غيرهم كما احتجتم أنتم إلى غير كم، لأنكم أنتم وهم سواء، وانظروا إلى حقيقتكم وحقيقتهم تجدوا الأمر واضحا، فإن لم يقنعكم هذا البرهان الملموس المحسوس، وأصررتم على أنهم قادرون على إجابة دعائكم فدعوتموهم، فتعالوا إلى أمر أجزم وأقطع وأبين: تعالوا إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 تجربة مشاهدة صادقة لا تخون، هذه التجربة هي أن تدعوا هؤلاء الذين زعمتم أنهم يسمعون دعاءكم ويجيبونكم، وأن تنظروا بعد هذا هل يستجيبون لكم أم لا يستجيبون، فإن كانت الأولى فقد صدقتم وهديتم، وإن كانت الأخرى فقد كذبتم وضللتم، وعليكم أن تتوبوا بعد، وأن ترجعوا إلى عقولكم وفطركم التي عز بتم عنها وعز بت عنكم منذ أحقاب وأزمان {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . وقوله {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} تعليل للنهي عن دعائهم وسؤالهم، وقطع الرجاء فيهم ومنهم، وذلك لأنهم قد فقدوا آلات العمل والحياة، فهم لا يستطيعون أن ينيلوا سائليهم شيئا لعجزهم وقصورهم فهم لا يستطيعون أن يمشوا ولا يعملوا بأيديهم ولا أن يبصروا ولا أن يسمعوا لأنهم أموات، والأموات أشباح لا أرواح فيها، فهي جماد من حيث الظاهر، ومن حيث الدنيا، والحياة التي فيهم ولهم هي حياة روحية غيبية أخروية راجعة إلى أرواحهم التي مستقرها عالم الآخرة عند الله، فلا صلات بينها وبين الدنيا وأهل الدنيا. أما أجسامهم وهي ما بقي عند أهل الدنيا منهم -فلا فرق بينها وبين الجماد الصامت من حيث العجز عن النفع والضر والعمل والحركة، فلا فرق بين من دعاها وبين من دعا الجمادات الصامتة، أما الأرواح فما أبعد منالها ومكانها عن داعي أشباحها، وما مثل من دعا هذه الجثث الميتة الموضوعة تحت التراب والرغام إلا كمثل من دعا ثوبا أو بيتا، لأن نبيا من الأنبياء، أو وليا من الأولياء كان قد لبسه أو سكنه يوما من الزمان. أ. هـ1. وقد رتبت الآية وصف هؤلاء المدعوين بالعجز والضعف ترتيبا هو في غاية الدقة والنظام والبراعة، فقد سلبتهم أولا المشي والنقلة، وقد بقي لهم أن يعملوا بأيديهم فسلبتهم ثانيا ذلك فبقي لهم من آلات الحس أن يبصروا   1 "من الصراع بين الإسلام والوثنية- الجزء الثاني- ص 388" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 بأعينهم فينفعوا دعاتهم بالنظرات بعد أن عجزوا عن نفعهم بعملهم بأرجلهم وبطشهم بأيديهم فسلبتهم ثالثا آلة النظر، فهم لا يستطيعون أن يمنحوا من دعاهم ورجاهم نظرة من نظرات العطف والحنو والحنان، فبقي لهم بعد سلب ذلك كله أن يسمعوا دعاءهم وهتافهم، ولعلهم إذا سمعوا هذا شفعوا لهم أو توجهوا بنفوسهم وإراداتهم إلى نفعهم ومجازاتهم على تعلقهم بهم وانقطاعهم إليهم، فسلبتهم رابعا آلة السماع، فأصبحوا لا يمشون ولا يعملون ولا يبصرون ولا يسمعون، فكيف ينفعون أو يضرون؟ وكيف يرجون ويؤملون؟ ... فانقطع منهم كل أمل ورجاء وهذا الترتيب في تعجيزهم وتسجيل ضعفهم في مكان من الدقة والبراعة لا يسع أجحد العقول وأكفرها وأعنفها كبرياء وجبروتا إلا التواضع إزاءها والتسليم بالإعجاز وبصحة الانتساب إلى الحق جلت قدرته وعظمته وإلا الإعطاء لها باليد، يد الصغار والتضاؤل والتخاذل. تأمل أيها القارئ في هذه الآيات السالفة كيف قطعت جذور الشرك وألسنة عباد غير الله وشبهاتهم التي هي أوهن من بيوت العنكبوت. فإن قال قائل منهم إن هذه الآيات نزلت في عباد الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام ولكن ندعو الأولياء والصالحين لما لهم من وجاهة وعظيم مكانة عند الله. فالجواب: قد تقدم مثل هذا السؤال والجواب، وأن كلمة غير الله تشمل كل معبود سواء كان ملكا أو نبيا أو رسولا أو وليا أو شجرا أو حجرا فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والأمر الثاني: إن الله وبخ عباد المسيح من الأنبياء المر سلين، قال الله تعالى {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . انظروا كيف يتبرأ المسيح من عباده المسيحيين, ويقول: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} . والله يعلم أن المسيح لم يأمر بعبادته، ولا يرضى بذلك ولكن يريد الله من هذه الآيات أن يبين للناس أن عبادة المسيح الذي هو من الأنبياء المرسلين لا تجوز، بل يكون شركا، فكيف بعبادة من الأولياء، ومن الأشجار ومن الغيران والكهوف. ألم يسمع هؤلاء الضالون قول الله مخاطبا لسيد العالمين: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} . فإذا كان الضر النازل بالرسول لا يستطيع أن يدفعه، فكيف يستطيع الرسول أو من هو أقل منه أن يدفع ضرا نزل بغيره؟ ألم يسمع هؤلاء قول الله العظيم {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . ألم ينع على اليهود والنصارى باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . ومما يجدر التنبيه عليه أن الله الذي أنكر على اليهود والنصارى اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله لم يكونوا يعتقدون أن الأحبار والرهبان آلهة تخلق أو ترزق أو تنفع أو تضر، وإنما جاء التوبيخ لهم والانكار عليهم أنهم كانوا يطيعونهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله. روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه، عن عدي بن حاتم، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم: قال: " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه" فقلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فترى أن الحديث يصرح أن عبادة الأحبار والرهبان هي طاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام، وهو طاعتهم في خلاف حكم الله ورسوله. قال شيخ الإسلام ما معناه مختصرا: إن هؤلاء المقلدين الذين اتخذوا الأحبار أربابا في تحليل ما حرم الله وعكسه، يكونون على وجهين أحدهما: يعلمون أن الأحبار والرهبان قد بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله وعكسه، اتباعا لرؤسائهم فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركا، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون. الثاني: يعتقدون تحريم الحرام وعكسه، لكن أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب. إنكارهم نسبة الخلق والرزق والنفع والضر إلى من يستغيثون بهم ويدعونهم من دون الله وأحب أن أنور ذهن القارئ والواقف زيادة على ما سلف في إقامة الحجة على أولئك المبتدعين الذين يعبدون غير الله من الأنبياء والصالحين، وينكرون أن تكون هذه العبادة شركا، قائلين نحن لا نعتقد أن الأنبياء والصالحين ينفعون أو يضرون، بل النافع والضار هو الله وإنما نجعلهم وسطاء بيننا وبين الله لمنزلتهم الرفيعة، وبهذا لا يجوز أن ينسب إلينا الكفر أو الشرك أو الضلال، وإنما دفعتنا إلى دعائهم والالتجاء إليهم محبتنا لهم، واعتقادنا بأنهم قد بلغوا درجة عالية وخصهم الله بخصائص لم يمنحها غيرهم. فالجواب: أن يقال لهم، هذا الاعتقاد هو نفس اعتقاد مشركي العرب وسائر المشركين، فكانوا لا يعتقدون الضر والنفع في الأصنام التي كانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 يعبدونها، جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليم وسلم قال لحصين ابن المنذر كم إلها تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض وواحدا في السماء قال: من تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. فانظر كيف صرح حصين أن الله الذي في السماء هو الذي يخافه ويرجوه ويرهب منه ويرغب إليه لا الآلهة التي في الأرض. وقال الله تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . إما أن تزعموا أن هؤلاء المشايخ الذين تدعونهم من دون الله ينفعون ويضرون، وأن دعاءكم إياهم لم يكن إلا رغبة في نفعهم وضرهم، وإما أن تقولوا أنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولا مفر من الافتراضين، فإن ذهبتم إلى الافتراض الأول فقد ذهبتم إلى ما زعمتم أنه كفر بالله وضلال كبير، وإن ذهبتم إلى الافتراض الثاني وجب أن تعترفوا بأن دعاء الأموات ممنوع باطل، وذلكم لأن هذه الآية وغيرها من الآيات قد نهت بشدة وصراحة عن دعاء من لا ينفع ولا يضر، وأنبأت بأن من دعا من لا ينفعه ولا يضره فهو من الظالمين، وأيا اخترتم فقد حججتم. والافتراض الأول أي افتراض أن المشايخ ينفعون ويضرون لا يمكن لمسلم الذهاب إليه، وقد أبطله الله تعالى بقوله {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} وقد أبطله الله تعالى أيضا في آيات أخرى صريحة معلومة مثل قوله تعالى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وقوله تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وقوله تعالى {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وقوله تعالى {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} ، وقوله تعالى {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} ، إلى غير ذلك من الآيات الصريحة الظاهرة، فهذا الافتراض لا يتحمل مسلم الذهاب إليه ولا القول به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وأما الافتراض الثاني فهو ما يذهب إليه هؤلاء فيما يزعمون، وهذه الآية وغيرها من الآيات رادة عليهم حينئذ ردا لا حيلة لهم في دفعه ولا رفعه. وما أجمل قوله تعالى {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} بعد قوله تعالى {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} وذلك أن قوله تعالى {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} ، ينصرف إليه هذا السؤال ما الذي لا ينفع ولا يضر فلا يدعى؟ وما الذي ينفع ويدعى وحده؟ فأجاب: الذي ينفع ويضر هو الله وحده لا شريك له فقال تعالى {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} ، فالله وحده المدعو المسؤول المرجو، لأنه وحده النافع الضار، فالدعاء له وحده لأن كل ما يطلبه الداعي ويرجوه، وكل ما يحذره ويخشاه عنده وحده، فكما كان هو المعطي المانع الضار النافع، فيجب أن يكون وحده المدعو المعبود المسؤول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الشبهة الخامسة: من شبههم جواز الإستغاثة بغير الله ... الشبهة الخامسة: من شبههم على جواز الاستغاثة بغير الله إن الاستغاثة بغير الله من باب الكسب والتسبب العادي كقولهم: أنبت الربيع البقل، وبنى الأمير المدينة، وهذا من المجاز العقلي ووارد في كلام العرب. والجواب: نعم وإن كان واردا جائزا في الكلام العام وفي الكلام الخاص، فإنه لا يجوز فيما يتناول الاعتقاد وما يشعر بفساد الدين. ثم لو كان هذا المجاز جائزا، إطلاقا وإجمالا فيما لا يتناول الاعتقاد وفيما يتناوله لكانت دعوة الأموات من المجاز الممنوع الذي لا يجوز، إذ لا خلاف في أن من المجاز ما لا يصح استعماله وما لا يجوز الذهاب إليه ولا القول به. ثم لو كان كل مجاز يصح استعماله والذهاب إليه والقول به في الاعتقاديات وفي غيرها لكانت دعوة الأموات من غير المجاز للدلائل السابقة، ولكانت من الحقائق الواضحة في فساد دين صاحبها واختلال اعتقاده، ثم لو لم تكن دالة على ذلك بل لو لم تكن دالة على شيء من الأشياء، لكانت هي بلفظها وظاهرها من ألفاظ الضلال والشرك والارتداد، ولا خلاف بين الناس أن من الكلام ما هو كفر وقائله كافر مرتد وإن لم يقصد به عقيدة من العقائد ولا نوعا من أنواع الضلال، ولو أن مسلما طعن في الله أو في عدله وأحكامه وقضائه أو في كتبه وأنبيائه ودينه لكان مرتدا عند جميع المسلمين وإن كان لا يقصد بما قال إلا إضحاك الحاضرين والمزاح والتفريج عنهم، أو نحو ذلك مما قد يكفر به كثيرون من المجان وسوقة الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وأما قولهم أنبت الربيع البقل، أو أنبت الماء العشب، فهو إن كان مجازا كما زعموا، فليس كدعوة الأموات يقينا، وذلك أن الماء والربيع –مثلا- لا يمكن أن يعتقد أحد أنهما هما اللذان ينبتان العشب والبقل الإنبات الحقيقي المراد هنا، أما الأنبياء والأموات والصالحون والبشر الأحياء فيمكن أن تعتقد فيهم الشرك بالله، ويمكن أن يعبدوا ويؤلهوا، بل هذا هو الواقع المشهود المنظور. فإذا وجدنا من يدعو الأموات من الأنبياء والصالحين، ويدعو الملائكة والجان، لم نجد مانعا من أن نعتقد أن ذلك الداعي مشرك بالله، وأنه يعبد هؤلاء الذين يدعوهم من دون الله، وأنه يرى أنهم يعطون حقيقة ما يسألهم ويسألهم سواه من المشركين بربهم. أما إذا سمعنا من يقول: أنبت الربيع البقل والماء العشب فلا يمكن أن نعتقد أن قائل هذا يشرك بالله ويعبد الربيع والماء ويرى أنهما ينبتان حقيقة ... فكان المجاز في مثل هذا ظاهرا لاشك فيه ولاخلاف. وأيضا هنالك فرق بين دعوة الميتين وبين قول الناس أنبت الربيع البقل والماء العشب، ذلك أن الأول طلب والثاني خبر، وبين الأمرين فرق حقيقي عظيم معروف، وليس كل ما جاز إخبارا جاز طلبا. والدليل على هذا الفرق الواضح أنه صح أن يقال أنبت الربيع البقل والماء العشب ولم يصح أن يقال: يا ربيع أنبت البقل، ويا ماء أنبت العشب، على أن يكون طلبا كالطلب في دعاء المشايخ والصالحين من الأموات، وإذا كان هذا المثل الواحد يجوز إخبارا ويمنع طلبا وإنشاءا فكيف يستدلون بالمثل الإخباري على مثل آخر طلبي إنشائي؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الشبهة السادسة: من شبههم على جواز الاستغاثة بغير الله مارواه ابن السني عن عبد الله ابن مسعود ... الشبهة السادسة ومن شبههم على جواز الاستغاثة بغير الله ما رواه ابن السني عن عبد الله ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة ليناد: عباد الله احبسوا، فإن لله عبادا يجيبونه" وفي حديث آخر رواه الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أضل أحدكم شيئا أو أراد عونا وهو بأرض ليس فيها أنيس، فليقل يا عباد الله أعينوني" وفي رواية " أعيشوني فإن لله عبادا لا ترونهم" قالوا إن هذا حديث صريح في الاستغاثة بمن ليس حاضرا والوهابية تقول هذا شرك, فما ندري هل نقدم الحديث, أم نقدم كلام الوهابية, ولا شك أن كل مسلم يقدم كلام الرسول صلى الله عليه وسلم على كلام غيره. والجواب: هذا الحديث الذي رواه ابن السني عن ابن مسعود ورواه أبو يعلى والطبراني, قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه معروف ابن حيان وهو ضعيف. قال الذهبي في ترجمته من الميزان: قال ابن عدي منكر الحديث, قال ابن أبي حاتم عن أبيه: مجهول, فالذي يحتج على مطلب من المطالب بحديث من الأحاديث مطالب أولا بصحة الحديث, وثانيا أن يدل الحديث على المطلب المذكور, وإلا فما كل ما وجد في كتب الأحاديث يصح الاحتجاج به, لأن الضعيف والموضوع لا يحتج بهما, ولا يحتج إلا بالصحيح أو الحسن, وهذا الحديث ليس صحيحا ولا حسنا فسقط الاحتجاج به. أما قول القائل نقدم الحديث أو نقدم كلام الوهابية .... الخ. فالجواب: لا شك أننا نقدم الحديث على كلام كل أحد سواء كان جاهلا أو عالما ولو بلغ ما بلغ من العلم إذا صح الحديث أو حسنه العلماء, لأن الله أمرنا بإطاعته وإطاعة الرسول, قال تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . أما مجرد أي رواية تروى وتنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويحتج بها فلا يجوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ولا يعتبره العلماء, وهؤلاء المبتدعون لما يكن لديهم مستندات صحيحة أخذوا يسودون الأوراق بالأحاديث الضعيفة والموضوعة والحكايات الباردة على مطالبهم الشركية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الشبهة السابعة: شبهتهم على جواز الاستغاثة بقول سواد بن قارب للرسول صلى الله عليه وسلم: فكن لي شفيعا ... ألخ ... الشبهة السابعة شبهتهم على جواز الاستغاثة بقول سواد بن قارب مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم: فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... بمغن فتيلا عن سواد بن قارب الجواب عن الشبهة السابعة والجواب: إن هذه القصة, قصة سواد بن قارب ضعيفة الإسناد, كما ذكر ذلك الحافظ الهيثمي صاحب مجمع الزوائد, ولهذا لم يرو القصة أحد من أصحاب الصحاح, ولا أحد من أصحاب السنن ولا أحد من المؤلفين في الصحيح, المتحرين الصحيح دون الضعيف والباطل والمكذوب, وإنما رواها الطبراني في المعجم, والطبراني يروي الضعيفات والموضوعات, كما يعرف أهل هذا الشأن. وروى القصة أيضا أبو نعيم في دلائل النبوة بإسناد واه, وعادة أهل الرواية أنهم يتساهلون في مثل هذه المسائل التي فيها إعظام من شأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن شأن الإسلام, ويلينون في نقد روايتها وتخريجها فلا يصح الاحتجاج بهذه القصة الضعيفة في هذا الموضوع الجلل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الشبهة الثامنة: ما روى ابن السني في كتاب عمل اليوم والليلة ... الشبهة الثامنة ومن تلك الشبه ما روى ابن السني في كتاب عمل اليوم والليلة: حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي وعمرو بن الجنيد بن عيسى قالا: حدثنا محمود بن خداش حدثنا أبو بكر بن عياش أبو إسحاق السبيعي عن أبي شعبة وفي نسخة عن أبي سعيد- قال: كنت مع عبد الله بن عمر فخدرت رجله فقال له رجل: أذكر أحب الناس إليك فقال "يا محمد" فقام فمشى. وهذا فيه نداء واستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم والقائل "يا محمد" هو عبد الله بن عمر الصحابي الجليل, وكذلك روى روايات أخرى حول هذا الموضوع منها رواية عن ابن عباس قال: خدرت رجل رجل عند ابن عباس, فقال ابن عباس: اذكر أحب الناس إليك, فقال محمد, فذهب خدره. الجواب عن الشبهة الثامنة والجواب: أسانيد هذه الروايات لا تخلو من ضعف, فمنهم من ضعفوهم مطلقا, ومنهم من قالوا فيه معروف مخرج حديثه في الصحاح, إلا أن النقاد من علماء هذا الشأن قالوا: إنه كان يغلط كثيرا, وإنه قد تغير بعض الشيء وذلك كأبي بكر بن عياش. قال أبو نعيم: لم يكن في شيوخنا أكثر غلطا منه. قال الذهبي في ميزانه عنه: صدوق ثبت في القراءة, لكنه في الحديث يهم ويغلط. ولكن خير ما روي به هذا المعنى, عن عبد الله بن عمر ما رواه البخاري في كتاب "الأدب المفرد" قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن سعد قال: خدرت رجل ابن عمر فقال له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 رجل, اذكر أحب الناس, فقال: يا محمد, وهذا الإسناد رواته كلهم أئمة مشاهير خلا عبد الرحمن بن سعد الراوي عن ابن عمر. هذا ما يقال أولا, ثم يقال ثانيا: هذه الروايات –إن صحت- فإنها لا تدل على ما زعموا من دعاء الأموات وسؤالهم ضروب الحاجات, وذلك أنه ليس فيها طلب شيء من الأشياء, ولا حاجة من الحاجات الكبيرة أو الصغيرة, كالذي يطلب هؤلاء الضلال من الموتى, مثل هداية القلوب وغفران الذنوب, ومطالب الدنيا والأخرى, وكل الذي فيها أن يجوز أن يقال في بعض الأحيان والحالات: وا محمداه, بالتجريد من كل طلب وسؤال, وهذا القول ليس استغاثة وليس طلبا ولا سؤالا, وإنما هو قول يقال عند التوجع وإبداء الأسف ويسمى اصطلاحا ندب, يقال ندب الميت إذا بكاه وعدد أوصافه وفضائله المحمودة, والمندوب ليس مسؤولا ولا مطلوبا ولا مرادا منه أن يسمع أو يعطي أو يشفع أو يدعو, وليست الندبة في التحقيق خطابا حقيقيا إن كانت في الظاهر كذلك, بدليل أن عبد الله بن عمر قال: أذكر أحب الناس, ولم يقل أدعه أو أطلب منه. وقد صح أن السيدة فاطمة بنت سيد الخلق رضي الله عنها ندبت أباها بعد وفاته وقالت في ندبتها ورثائها إياه: يا أبتاه, أجاب ربا دعاه, يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه, يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. رواه البخاري في الصحيح عنها, وكذلك جاء أن غيرها ندبه عليه الصلاة والسلام, فقول القائل وا محمداه في الرواية المذكورة مثل قول السيدة فاطمة رضي الله عنها: يا أبتاه .... كلاهما توجع وتفجع, وكلاهما خال من الدعاء والطلب, وهذا مثل قول الراثي لصديق له ذهب إلى سبيله: وا صديقاه, وا خليلاه, ومن زعم أن هذا استغاثة أو أن فيه استغاثة وطلبا وسؤالا, فهو في حاجة إلى التعليم لا إلى المجادلة والمساجلة في هذه المباحث العليا القيمة, ولو كان هذا الذي ذكروه استغاثة لكان فيه طلب ما وهو طلب المستغاث من أجله وهو أن يقول القائل: وا محمداه أغثنا أو أعنا أو انصرنا أو أعطنا, ولكن الروايات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الثلاث المذكورة خالية من ذلك, ولا ريب أن من وقع في بلاء وشدة فأراد أن يستغيث فقال مثلا: وا فلاناه, لم يكن مستغيثا استغاثة صحيحة, ومن أشرف على الغرق فقال: يا رجل أو يا فلان, ولم يقل خذ بيدي أو أنقذني أو أدركني أو أغثني, لم يكن مستغيثا استغاثة صحيحة ولا داعيا دعاء صحيحا تاما, فالذين ذكرت عنهم هذه الروايات لم يقولوا: وا محمداه أعطنا أو أغثنا أو نحو ذلك. فإذن فليسوا طالبين ولا سائلين ولا مستغيثين، وإنما هم نادبون باكون. والخلاصة: أن خصوم الدعوة السلفية وخصوم الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه على الخصوص أكثروا من الروايات والحكايات حول ندب التوسل وجواز الاستغاثة، لا نطيل بذكرها إذ يتطلب كتابا أو كتابين، وهذه الأبحاث قتلها العلماء بحثا ومعرفة في مظانها، فلا حاجة إلى الزيادة ولكن لا بأس بأن نعطي للقارئ قاعدة في هذا الباب وهي: أن كل ما يحتجون به على ندب التوسل وجواز الاستغاثة بغير الله من الأنبياء والصالحين، لا يخلو إما أن تكون آية قرآنية لا تدل على ما ذهبوا إليه، كاحتجاجهم بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وقوله تعالى {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} . وإما أن يكون حديثا موضوعا أو ضعيفا فلا حجة فيهما، ولا يحتج بهما على مثل هذه المطالب العالية إلا من سفه نفسه وغاب عنه رشده، أو أراد إضلال الناس وصدهم عن الصراط المستقيم وتوحيد الخالق العظيم، أو يكون حديثا صحيحا كحديث الاستسقاء بالعباس، أو حسنا كحديث الأعمى الذي حسنه الترمذي، فلا يدل على مذهبهم كما سبق بيانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الشبهة التاسعة: أن الشيخ وأتباعه يكفرون المسلمين بأدنى شبهة ... الشبهة التاسعة أورد المبتدعون شبهة هي أكبر شبهاتهم وأحد سلاح بأيديهم وألسنتهم، ينفرون بها الناس عن التمسك بالتوحيد وإفراد الله تعالى بالعبادة، ويشوهون ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وما عليه أتباعه وسائر السلفيين. والشبهة هي: إن الشيخ محمدا وأتباعه ومن يدور في فلكه يكفرون المسلمين بأدنى شبهة فتراهم يكفرون المتوسل بالأنبياء والصالحين والمستغيثين بغير الله، ويكفرون من أتى بأقل بدعة بل ويكفرون كل من خالفهم ولا يرون أحدا مسلما إلا من كان مرافقا لعقيدتهم، تلك العقيدة التي ملئت بتنقيص مقام الأنبياء والأولياء والصالحين وتضليل المسلمين والعياذ بالله. وقد قال الشيخ النبهاني: ويعتقدون الأنبياء كغيرهم ... سواء عقيب الموت لا خير لا شرا رموا بضلال الشرك كل موحد ... إذا لم يكن منهم عقيدته تبرا ومن المسلم به أن من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، هو مسلم ولا يجوز تكفيره، ولو ما صلى إذا كان معتقد الوجوب أو ما صام، وفي الحديث الصحيح "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله".. وحديث أسامة بن زيد لما قتل الرجل بعدما قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله". فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "أقتلته بعدما قال أشهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 أن لا إله إلا الله ... " الحديث، وأجاب أسامة: قاله تعوذا من السيف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أشققت عن قلبه؟ " أو كما قال.. وهناك أحاديث كثيرة في عصمة دم المسلم وماله. وقد قال العلماء: لو وجد تسعة وتسعون سبيلا لكفره ووجدنا سبيلا واحدا لإسلامه لا يحكم عليه بالكفر، فكيف يحكم بالشرك والكفر على من اعتقد بربوبية الله، وأنه خالق الأكوان يحيي ويميت وينفع ويضر، واعتقد برسالة الرسول صلى لله عليه وسلم، وأنه خاتم الأنبياء، وصلى وصام وزكى وحج بيت الله الحرام من أجل توسل أو بدعة فعلها أو نحو ذلك؟ الجواب عن الشبهة التاسعة والجواب من وجوه: أولا: إن هذه فرية كبرى اختلقها أعداء الشيخ ونسبوها إليه وإلى أتباعه تنفيرا عن اتباعه فيما دعا إليه من التوحيد الخالص والدين القيم والصراط المستقيم. والشيخ وأتباعه وسائر السلفيين يتبرؤون من هذه النسبة الخاطئة وهم أبرياء كبراءة الذئب من دم يوسف. وسأذكر فيما يأتي إن شاء الله تعالى مناظرة بين عراقي ونجدي، وفيها ما يبرئ الشيخ وأتباعه، ولكن لا بأس أن أنقل مقدما أسطرا قليلة في خصوص هذا التكفير المنسوب إلى الشيخ محمد رحمه الله وأتباعه وسائر السلفيين، وهاك ما قاله العالم النجدي -وهو من ذرية الشيخ - في جواب العراقي في المناظرة: وأما القول بأنا نكفر الناس عموما، ونوجب الهجرة إلينا على من لم يقدر على إظهار دينه، وأنا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل معنا، ومثل هذا وأضعاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أضعافه فكل هذا من الكذب والبهتان، الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله. وإذا كنا لانكفر من عبد القبور من العوام لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يقاتل معنا، نقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أ. هـ. يريد الشيخ رحمه الله بقوله: إنهم لا يكفرون العوام الجهال الذين لم تبلغهم الحجة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأما من بلغته الحجة وعاند وأصر على شركه من دعاء الموتى والاستغاثة بهم، وطلب النفع منهم أو دفع الضر، فلاشك في شركه، بل وفي كفر من لا يكفره. ثانيا: إن هؤلاء المنتقدين يصدق عليهم ما قيل: حفظت شيئا وغابت عنك أشياء. حفظوا أن من يشهد بالشهادتين من الكفار، فقد دخل دين الإسلام وأصبح مسلما له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، ولكن جهلوا أو تجاهلوا أن كلمة الشهادتين لها شروط ونواقض، فإذا ما أتى بالشهادتين مستوفيتين للشروط ولم يأت بالنواقض التي تبطل شهادته، فذاك هو المسلم. أما من أتى بالشهادتين ثم أتى بما يبطل شهادته، وكان عارفا أو بين له فلم يرجع عن رأيه أو عن قوله، فيحكم عليه بالشرك أو بالكفر، ولو كان يقول أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولو صلى وصام. شروط لا إله إلا الله سبعة 1- العلم المنافي للجهل: فمن لم يعرف المعنى فهو جاهل بمدلولها، ومعناها البراءة من كل ما يعبد من دون الله وإخلاص العبادة لله وحده. 2- اليقين المنافي للشك: لأن من الناس من يقو لها وهو شاك فيما دلت عليه من معناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 1- الإخلاص المنافي للشرك: فإن من لم يخلص أعماله كلها لله فهو مشرك شركا ينافي الإخلاص، كما قال الله تعالى {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} . 2- الصدق المنافي للنفاق: لأن المنافقين يقولونها، ولكنهم لم يطابق قولهم ما في جنانهم فصار قولهم كذبا لمخالفة الظاهر للباطن، كما أخبر الله عنهم {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} . 3- القبول المنافي للرد: لأن في الناس من يقولها مع معرفة معناها، لكن لا يقبل ممن دعاه إليها إما كبرا وإما حسدا، أو غير ذلك من الأسباب. 4- الانقياد المنافي للترك: ويحصل الانقياد بالعمل بما فرضه الله وترك ما حرم الله والتزام ذلك، لأن الإسلام حقيقته أن يسلم العبد بقلبه وجوارحه لله، وينقاد له بالتوحيد والطاعة، كما قال الله {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} . 5- المحبة المنافية لردها: فلا يحصل لقائلها معرفة وقبول إلا بالمحبة، لما دلت عليه من الإخلاص المنافي للشرك، فمن أحب الله أحب دينه، ومن لا فلا. وإذ ذكرت للقارئ شروط لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله هي كلمة التقوى ومفتاح الإسلام ومفتاح الجنة دار السلام، فمن الجدير أن أذكر نواقض الإسلام، فهاك بيانها: الأول: الشرك في عبادة الله، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو للقبر. الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم فقد كفر إجماعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الثالث: من لم يكفر المشركين أو يشك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر. الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي -صلى لله عليه وسلم- أكمل من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر. الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول ولو عمل به فقد كفر. السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول أو عقابه والدليل قوله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} 1. السابع: السحر ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} . الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد، كما وسعه الخروج عن شريعة موسى عليه السلام، فهو كافر. العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} . فإذا عرفت شروط لا اله إلا الله ومنها الإخلاص المنافي للشرك، فإن من لم يخلص أعماله كلها لله فهو مشرك شركا منافيا للإخلاص، وفي هذا يقول الله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} . وعرفت أن من النواقض الناقض الثاني من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم فقد كفر إجماعا. ونحن نسأل هؤلاء المنتقدين ما حكم من تشهد بالشهادتين وصلى وصام   1 65-66- التوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وحج البيت الحرام وكثيرا ما تصدق على الفقراء والمساكين ويعمل أعمال البر، ولكن أخذ ورقة من أوراق المصحف الشريف وألقاها في القاذورات وهو يعرف أن هذا لا يجوز، بل هذا كفر ولكنه عمل هذا مع أنه قد أتى بتلك الأعمال الجليلة كما سبق ذكره. فما يكون موقف هؤلاء؟ هل يقولون إنه مسلم لأنه تشهد بالشهادتين وصلى وصام؟ أو يقولون إنه كافر؟ فإن قالوا هو مسلم فقد خالفوا الإسلام وإجماع المسلمين، وسأورد للقارئ من نصوص العلماء ما يبين خطأهم وضلالهم. وإن قالوا كافر فقد نقضوا قولهم وانهار أساسهم حيث أنهم خطأوا الوهابيين على زعمهم وبدعواهم لأنهم يكفرون من يستغيث بغير الله، أو ينذر لغير الله ولم يراعوا أنه تشهد بكلمة الشهادتين، فهاهم كفروا من كان مسلما على زعمهم ولم يلتفتوا إلى قول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, ولم يشفع له أعماله الجليلة عندهم. وها أنا ذا أنقل للقراء من كلام العلماء اتباع المذاهب الأربعة في تكفير من أتى بشيء مما سيأتي بيانه:- وقبل نقل كلام العلماء يجدر بي أن أبين حقيقة الكفر والردة والإيمان والإسلام:- فالكفر لغة التغطية والستر ولهذا يقال للفلاح كافر لأنه يغطي الحب في التراب, والعرب تسمي الليل كافرا لأنه يستر الأشياء ويخفيها, قال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} ومعنى الكفار هنا الزراع, وفي الشرع الكفر هو رد الحق بعد معرفته, والردة فهي الرجوع للوراء لغة, وشرعا قطع الإسلام بقول أو فعل أو نية. بقول كأن ينكر الله أو البعث, والفعل كأن يسجد لصنم أو لقبر والنية كأن ينوي أن يكفر, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 والإيمان لغة التصديق, وشرعا التصديق الجازم بالله تعالى وبربوبيته وألوهيته وبأسمائه وصفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر, والإسلام لغة الاستسلام والانقياد وشرعا الاستسلام والانقياد, لله ولرسوله, وفسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل "بالشهادتين والصلاة والصيام والزكاة والحج" إذا عرفت هذا فاقرأ الآن ما يأتي: مذهب الإمام أبي حنيفة: قال العلامة زين الدين ابن نجيم الحنفي في كتابه البحر الرائق شرح كنز الدقائق ج 5. ص129 قال بعد كلام سبق "فيكفر إذا وصف الله تعالى بما لا يليق به أو سخر باسم من أسمائه أو بأمر من أوامره أو أنكر وعده ووعيده, ويكفر بقوله يجوز أن يفعل الله فعلا لا حكمة فيه, وإن اعتقد أن الله تعالى يرضى بالكفر وبقوله إذا أنصفني الله تعالى يوم القيامة انتصفت منك, أو إن قضى الله يوم القيامة أو إذا أنصف الله وبقوله بارك الله في كذبك, وبقوله لا أريد اليمين بالله وإنما أريد اليمين بالطلاق, أو بالعتاق عند البعض خلافا للعامة, ويقول الظالم أنا أفعل بغير تقدير الله, وبقوله لا أسمع شهادة فلان وإن كان جبرائيل أو ميكائيل عليهما السلام, ويكفر إذا أنكر آية في القرآن أو سخر بآية, وبوضع رجله على المصحف عند الحلف مستخفا, وبقراءة القرآن على ضرب الدف, وباعتقاد أن القرآن مخلوق حقيقة, والمزاح بالقرآن كقوله التفت الساق بالساق أو ملأ قدحا وجاء به وقال كأسا دهاقا"أ. هـ. وذهب ابن نجيم يعد المكفرات ولو حسبناها لبلغت مئات من الألفاظ المكفرة للمسلم بعد إسلامه وإيمانه, ولكن نكتفي بما نقلناه وفيه كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وتأمل وفقك الله في بعض المكفرات التي أتى بها ابن نجيم كقوله: "أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 سخر بأمر من أوامره أو أنكر وعده ووعيده أو قال لا أريد اليمين بالله وبقول الظالم أنا أفعل بغير تقدير الله وبقوله لا أسمع شهادة فلان وإن كان جبرائيل وميكائيل" فوازن بين هذه الألفاظ وأمثالها وبين من يستغيث بطلب المدد من الرسول صلى الله عليه وسلم, أو عبد القادر الجيلاني, أو يطوف بالقبر أو يذبح له, لترى أي الطائفتين من الألفاظ أشد وطأة وأرسخ كفرا, وما أكثر ما يحصل من كثير من المسلمين اليوم, من بعض هذه الألفاظ المكفرة, وكثير منهم يستهزئ بالمسلمين أو بالمحافظين على الدين ويسميهم معقدين أو رجعيين, وهنا البحث يطول فيما شاع في هذا العصر من المكفرات سوى الإشراك بالله من عباد القبور, ولا أريد التطويل, وسأنتقل إلى النقل من مذهب الإمام مالك رحمه الله. مذهب الإمام مالك: قال في أقرب المسالك وشرحه للشيخ الدردير: "الردة كفر مسلم بصريح من القول أو قول يقتضي الكفر, كقوله –جسم كالأجسام- يقصد الرب, أو فعل يتضمنه كإلقاء مصحف أو بعضه ولو كلمة, وكذا حرقه استخفافا لا صونا, ومثل إلقائه تركه بمكان قذر ولو طاهرا كبصاق, وشد زنار أي لبس ميلا لكفر مع دخول الكنيسة, أو أنكر مجمعا عليه كوجوب الصلاة أو تحريم الزنا أو أحل مجمعا على عدم إباحته مما علم من الدين ضرورة من القرآن أو السنة المتواترة أو سب نبيا مجمعا على نبوته أو ملكا مجمعا على ملكيته أو الحق بنبي أو ملكا نقصا وإن ببدنه كعرج أو شلل, أو وفور علمه بأن قال لم يكن على غاية من العلم والزهد". أ. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 مذهب الإمام الشافعي: وهاك الآن بيان مذهب الإمام الشافي: قال في المنهاج وشرحه مغني المحتاج " الردة هي قطع الإسلام بنية كفر أو قول كفر سواء قاله استهزاء أو عنادا أو اعتقادا. ثم مثل بقوله: فمن نفى الصانع أي الخالق, أو كذب رسولا, أو حلل محرما بالإجماع كالزنا والظلم وشرب الخمر, وعكسه بأن حرم حلالا بالإجماع كالبيع والنكاح, أو نفى وجوبا مجمعا عليه, كأن نفى وجوب ركعة من الصلوات الخمس, أو عكس بأن اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع, كزيادة ركعتين من الصلاة المفروضة, أو وجوب صوم يوم من شوال, أو عزم على الكفر غدا, أو تردد فيه هل يكفر أو لا, كفر. والفعل المكفر ما تعمده استهزاء صريحا بالدين أو جحودا له كإلقاء مصحف بقاذورة, لأنه صريح في الاستخفاف بكلام الله, ويلتحق بالمصحف كتب الحديث, وسجود لشمس أو غيرها من المخلوقات". مذهب الإمام أحمد بن حنبل: قال في المقنع ج3 باب حكم المرتد: "وهو الذي يكفر بعد إسلامه, فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو وحدانيته أو صفة من صفاته أو اتخذ لله صاحبة أو ولدا, أو جحد نبيا أو كتابا من كتب الله تعالى أو شيئا منه, أو سب الله تعالى أو رسوله كفر, ومن جحد وجوب العبادات الخمس أو شيئا منها, أو أحل الزنا أو الخمر, أو شيئا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها لجهل عرف ذلك, وإن كان ممن لا يجهل ذلك كفر, وإن ترك شيئا من العبادات الخمس تهاونا لم يكفر وعنه يكفر إلا الحج لا يكفر بتأخيره بحال" أ. هـ. وأحسب أن القارئ بعد أن قرأ ما قدمته من الأجوبة والنقول من المذاهب الأربعة, التي يقلدها جمهور أهل السنة والجماعة, قد اقتنع أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 شبهتهم تلك الطويلة العريضة أصبحت كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء, فإذا قرأها وقرأ الرد عليها علم حقيقة الحال, وأصبح منور الذهن لا تروج عليه شبهات المبتدعين والجهال. ولكن لا بأس في أن أزيد القارئ توضيحا وبيانا لكل جملة من تلك الشبهة الكبيرة جوابا مختصرا فأصغ لما أقول: قولهم: يكفرون المسلمين بأدنى شبهة, ويكفرون المتوسل بالأنبياء والصالحين. الجواب: هذا كذب وافتراء, وهذه كتب الشيخ وأبنائه وأحفاده شاهدة بما أقول: وقولهم: يكفرون المستغيثين بغير الله صحيح, ولكن بعد أن يقيموا الحجة عليه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية, فإذا أصر وعاند, فعند ذلك يطلقون عليه لفظ الشرك والكفر, وقد سبق أن نقلت من مناظرة النجدي, وإذا كنا لا نكفر من عبد القبور من العوام لأجل جهلهم وعدم من ينبههم, فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا, ويقصد الشيخ لا يكفرون العوام الجهال الذين لم تبلغهم الحجة من كتاب الله الكريم وسنة نبيه المطهرة. ومما يجدر التنبيه عليه أن الشيخ محمدا وأتباعه وسائر أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا لا يكفرون من ارتكب معصية سواء كانت كبيرة أو صغيرة, إلا إذا استحل ما حرم الله على المسلمين, كمن شرب الخمر مستحلا لها, أو زنا مستحلا له, أما لو شرب الخمر أو زنا ويعتقد أنهما محرمان, فيكون فاسقا لا كافرا ولا مشركا خلافا للخوارج والمعتزلة, وقد سبق نحو هذا الكلام. وقولهم: ويكفرون من أتى بأقل بدعة وكل من خالفهم. فالجواب: سبحانك هذا بهتان عظيم, وفي الحديث: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت.." الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 فهؤلاء سلبهم الله العلم الصحيح والعقل الرجيح كما سلبهم الحياء والصدق. وأكبر الافتراء قول المنتقدين بأن عقيدة الشيخ وأتباعه مليئة بتنقيص مقام الأنبياء والأولياء والصالحين وتضليل المسلمين, كما قال الشيخ النبهاني: ويعتقدون الأنبياء كغيرهم ... سواء عقيب الموت لا خير وشرا رموا بضلال الشرك كل موحد ... إذا لم يكن منهم عقيدته تبرا وقد أجاب الشيخ علي بن سليمان التميمي: لك الويل قد أبعدت في المين نجعة ... وقارفت يا ذا الجهل في نقلك الوزرا فحاشا بني نجد بأن ينتقصوا ... حقوق الأنبياء الله أو ينطقوا هجرا فإن مقام الأنبياء معظم ... فهم رحمة في ذي الحياة وفي الأخرى وما منهم إلا شفيع مشفع ... ومن لم يدن حقا فقد ألف الكفرا وحقا عقيب الموت لا نفع عندهم ... لمن يرتجي نفعا ولم يملكوا ضرا ولكن نضيف النفع والضر للذي ... بتدبير هذا الكون قد دبر الأمرا وقد خصهم بعد اصطفاء وعصمة ... بمقعد صدق عنده يوجب الشكرا وحرم من أن تأكل الأرض لحمهم ... فأجسادهم في القبر كالورد أو أطرا وخص التهامي الحبيب محمدا ... برد سلام بعدما سكن القبرا ونعرف للهادي مقاما معظما ... ومن لم يتابعه فقد ربح الخسرا أما قولهم: من قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله هو مسلم, لا يجوز تكفيره ولو ما صلى إذا كان معتقد الوجوب أو ما صام, واستدلوا بحديث "أمرت أن أقاتل الناس. الخ" وحديث أسامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فالجواب: هذا الاحتجاج صحيح في حد ذاته بأن الكافر إذا نطق بالشهادتين والتزم بشرائع الإسلام فهو مسلم, ولا يجوز أن نسميه كافرا ولكن بشرط أن لا يأتي بما ينقض إسلامه أو إيمانه, وقد سبق أن ذكرت أن للشهادتين شروطا ونواقض, وأن أبواب الردة التي ذكرها العلماء وذكروا فيها ألفاظا كثيرة يكفر بها إذا نطق أو نوى الردة, وإن لم ينطقه أو فعل فعلا يكفر به كالسجود لغير الله. فتلك الألفاظ المذكورة كلها من النواقض التي يحكم بموجبها على المسلم, ويقال أنه مرتد وإن تشهد بالشهادتين وأتى بأركان الإسلام. وأما قولهم: لو وجد تسعة وتسعون سبيلا لكفره, وسبيلا واحدا لإسلامه لا يحكم عليه بالكفر. فالجواب: أن هذا الكلام باطل لا يقره شرع ولا يقبله عقل, وإن قال به بعض الفقهاء, وبيانه: تشهد بالشهادتين وصلى وصام وزكى وحج بيت الله الحرام وصام النهار وقام الليل وجاهد في سبيل الله وأنفق أمواله بسخاء لنصرة المجاهدين وإعانة المحتاجين وفعل كل بر وخير وانتهى عن كل محرم ولكنه أنكر ملكا من الملائكة المعروفين كجبريل أو ميكائيل, أو قيل له صل راتبة الصبح أو الظهر فقال: لا أصلى مراغما للسنة لا كسلا, فيكفر مع أن هذا سبيل واحد لخروجه عن الإسلام, وتلك الأمور المذكورة السابقة كلها من سبل الإسلام ولم تنفعه, ولا يقال أن الأوجه التي تحكم عليه في الإسلام أكثر وأكثر من وجه واحد يكفر به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الشبهة العاشرة: إن الشيخ وأتباعه يقسمون التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ... الشبهة العاشرة يقول مخالفو الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الخرافيين والقبوريين: إن الشيخ محمدا ومن تبعه يقسمون التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية, وهذا ما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه فتوحيد الربوبية هو نفس توحيد الألوهية, وتوحيد الألوهية هو نفس توحيد الربوبية, وأول من ابتدع هذا التقسيم ابن تيمية وتبعه محمد بن عبد الوهاب, وبناء على هذا التقسيم كفروا كل من خالفهم حيث قالوا: إن الذين يتوسلون ويستغيثون بالأنبياء والصالحين, ويطلبون منهم قضاء الحاجات مشركون بالله وتشبثوا أولا بما ذكرنا سالفا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يذكروا ذلك, وثانيا: قول الله تعالى {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} , وثالثا: قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} , ورابعا: حديث سؤال الملكين: إن الملكين يقولان لمن وضع في قبره من ربك؟ ولا يقولان له من إلهك؟ ولو كان بين الإله والرب فرق لما اقتصرا على السؤال عن أحدهما. الجواب عن الشبهة العاشرة والجواب ومن الله أستمد الصواب: لقد أورد بعض المتعصبين أن ذلك التقسيم لم يقل به النبي صلى الله عليه وسلم, وجواب هذا أن يقال له, إن ترد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل به لا لفظا ولا معنى, فباطل, فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... الحديث", وهذا هو توحيد الألوهية والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه علموا الداخلين في الإسلام بأن لا يعبدوا إلا الله وهو ما نريده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وأكثر القوم كانوا معترفين بالربوبية, فكانوا عارفين بمعاني الألفاظ لا يحتاجون إلى تفرقة, فإذا قيل لهم: لا إله إلا الله, ولا خالق ولا رازق إلا الله, عرفوا ما تدل عليه الجملة الأولى والثانية, وأنت حين توازن بين قوله تعالى إخبارا عنهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} , وقوله تعالى {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} , يظهر ذلك ما قلناه بجلاء ووضوح. على أنه لا يضرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه لم يصطلحوا هذا الاصطلاح, لأنا نقول تؤخذ الأشياء بمعانيها, ولا يلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم يمشون على النهج المصطلح عليه. وغاية قولنا: أن معنى الرب في اللغة غير معنى الإله, فيدل الأول على الإحاطة والخلق والإيجاد والتربية, ويدل الثاني على المعبود بحق أو باطل. ونقول في الجواب ثانيا: إن لم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد إلى أقسام ثلاثة فلم يحصره في قسم واحد –كما تزعم- ومعنى الألفاظ الواردة في القرآن والسنة, واللغة تساعدنا على ذلك, وليس معك ما يناصرك على دعواك. أما السؤال عن التوحيدين في قوله تعالى {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} سؤال عن الربوبية والرب, قال تعالى {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} 1, نهى عن اتباع الآباء في الشرك وأمر بعبادته وحده, فالتوحيدان متغايران بصريح الآية. الثاني: نقول ليس النزاع على الألفاظ: فهبوا الرب يطلق على الإله لغة, فهل يدل هذا أن توحيد الألوهية –الذي يراد منه إفراده بالعبادة- هو توحيد الربوبية الذي يراد منه الإيمان بأن الله خالق كل شيء, بيده كل شيء, يا ليت هؤلاء يهتدون إلى محل النزاع. الثالث: ونقول من أنبأكم أن القرآن ذكر جميع ما سألهم عنه وما أشهدهم عليه ومن أخبركم أنه لم يشهدهم على توحيد الألوهية؟ ما معكم من شبهة على ذلك غير أن القرآن لم يذكره على فهمكم, ومن أن القرآن حدث بكل ما   1 173 الأعراف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 حصل وما كان في الأزمان الذاهبة. أما الجواب عن حديث سؤال الملكين: إن الملكين يقولان لمن وضع في قبره من ربك.. الخ. فأولا: قرر العلماء أنه إذا أطلق لفظ الرب، فيشمل معنى الر بوبية والألوهية، وكذلك إذا أطلق لفظ الإله، كالفقير والمسكين، فإذا أطلق الفقير دخل المسكين في المعنى، ولكن يفترقان في المعنى إذا أفرد الرب بلفظ والإله بلفظ، وكذلك الفقير والمسكين، والإيمان والإسلام، ولهذا يقال إذا اجتمعا تفرقا وإن اتحدا اجتمعا. ثانيا: أن الملائكة تسأل الميت عن ثلاثة أشياء عن الرب والرسول والدين، ولاشك أن السؤال عن الرسول والتصديق له هو سؤال عن كل شيء جاء به وتصديق به، ومنه توحيد الألوهية، وأن السؤال عن الدين والإقرار بالإسلام يشمل السؤال عن كل ما هو دين، ومنه أن لا إله غير الرب، فالإيمان بذلك هو إيمان بذاك. فقولهم: إن السؤال كان عن الرب فقط غلط فاحش. ثالثا: قد ورد في أحاديث سؤال الميت أنه يجيب ملائكة العذاب ويقول: لا إله إلا الله ويشهد بذلك فلم يقتصر على الرب فقط، كما زعم هؤلاء لقصورهم في علم الحديث. وإلى القراء الكرام بعض الأدلة على الفرق بين توحيد الألوهية والربوبية: الأول: لا ريب أن الألوهية -أي العبودية من الصلاة وسائر الطاعات- غير الربوبية- أي ملكية الله للعالم - ولا ريب أن توحيد أحد الأمرين المتباينين غير توحيد الأمر الآخر المباين، فلا ندري لماذا ينكرون الفرق بينهما ولماذا يسوون بينهما، والحال أن الفرق بين التوحيدين واضح في اللغة وفي الشرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الثاني: متى قيل لا فرق بين هذا وذاك كان المعنى لا فرق بين حقيقتيهما لا اسميهما فقولهم هنا: لا فرق بين الألوهية والربوبية، يريدون لا فرق بين معناهما، وهذا يتناول ثلاثة معان أحدها: أن يكون الشيئان شيئا واحدا، والثاني: أن يكون شيئين لكنهما متلازمان، والثالث: أنه ليس هناك توحيد عبادة وألوهية، ولا شيء يسمى بهذا الاسم، وإنما التوحيد وهو توحيد الربوبية وهو الإيمان بأن الله هو خالق العالم، والاحتمالات الثلاثة باطلة، أما الأول: فمأخوذ من قول النصارى وعقيدتهم في التثليث، وأما الثاني: فمن يقول إن عبادة الله وطاعته هي الإيمان بأن الله خالق العالم، وأما الثالث: فباطل بالضرورة واتفاق المسلمين، فإنه لم يقل أحد من المسلمين، أن الإيمان بأن الله الخالق ينجي العبد من العذاب ويجعله مؤمنا. الثالث: الألوهية من عمل العباد لأنها "من أله إذا عبد" والعبادة للعبيد، والربوبية من فعل الحق سبحانه، وهي ملكيته للوجود وخالقيته له، فكيف يكون فعل الرب فعلا للعبد، وفعل العبد عملا للرب؟ هذا قول أهل الاتحاد ووحدة الوجود، فهل هم منهم؟ الرابع: لو كان التوحيدان توحيدا واحدا لكان من جاء بتوحيد الربوبية مؤمنا ناجيا مهما عمل ومهما أتى بالمكفرات ومعلوم بطلان هذا لكل أحد. الخامس: أخبر القرآن أن الكفار كانوا يسمون أصنامهم آلهة قالوا {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} ولم يخبر في آية أنهم قالوا لها: أرباب، فلو كان الفرق بين اللفظين لسموها أربابا كما سموها آلهة، ولما اقتصروا على إطلاق آلهة اطرادا. السادس: الذي يحقن دم المشرك أن ينطق بكلمة الإخلاص على أن لا يأتي بما ينقضها-وهذه الكلمة التي تحقن الدم هي: لا إله إلا الله ولا يعصمه أن يقول: لا خالق إلا الله بإجماع المذاهب، ولو كان معنى الإله والرب واحد لعصم دمه أحد اللفظين دون الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 السابع: يقال: رب الدار لصاحبها، ورب الإبل لمالكها، ورب القبيلة لسيدها، فإن كان معنى الإله هو الرب –سواء- جاز أن يقال إله الدار لصاحبها، وإله الإبل لمالكها، وإله القبيلة لسيدها، وهذا منكر باتفاق الأولين والآخرين، إذ بين الكلمتين اختلاف ولاشك. أ. هـ1 هذا وهناك أدلة كثيرة جدا، تركناها للاختصار. وقد زعم خصوم الشيخ وأتباعه أن المشركين كانوا ينكرون وجود الله، أو ينكرون أنه الخالق لكل شيء، واحتجوا لهذا الزعم الباطل بآيات، ومرة أخرى يعترفون بإشراكهم. الآية الأولى: قول الله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} سورة الفرقان. والجواب: "1" ليس في الآية الكريمة إنكار للرحمن, وإنما فيها استفهام عنه "بما" التي يسأل بها عن حقيقة الشيء، والمصدق بوجود الأمر يسأل عنه، لا خلاف بين اللغويين في ذلك، فهم يقولون: ما الروح؟ كما قال تعالى {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} وهم يؤمنون بها، ويقولون: ما الملائكة وما الجن؟ وهم يؤمنون بهم. "2" روى البخاري وغيره في خبر صلح الحديبية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمر الكاتب أن يكتب صورة الصلح قال له قل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقال سهيل بن عمرو النائب عن المشركين في الاتفاق على الصلح: أما الرحمن فلا نعرفه، ولكن اكتب باسمك اللهم، فقول سهيل لا نعرف الرحمن ولكن اكتب باسمك اللهم يدل على أمرين، على أنهم مؤمنون بالله، وأنهم يستعينون به في أمورهم، وعلى أن الذي ينكرون هو وصفه بالرحمن، ولو   1 من الفصل الحاسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 كانوا ينكرون ذاته كما يزعم المعارضون لعارض باسمك اللهم ولأنكر لفظ الجلالة ولفظ الرحيم المذكورين, فهذا يفسر الآية ويوضح قولهم {وَمَا الرَّحْمَنُ} . "3" هذه الآية على فهمهم مخالفة لتسمية العرب مشركين بالله, والناس –قاطبة- يقولون إنهم مشركون بالله, فلو كانوا جاحديه لما كانوا مشركين به, فتسميتهم مشركين بالله يدل أنهم مؤمنون بوجوده, ولكن عبدوا معه غيره. "4" الآية على فهمهم معارضة بما احتجوا به من قوله {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ومثلها {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} . "5" إذا كان أمثال قوله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} إلى غيرها من الآيات الكثيرة لا يدل على إيمانهم بالله, وإيمانهم بأنه خالق كل شيء, فمن العجب أن تدل الآية المذكورة على جحدهم الله, وإذا كانوا يكذبون في قولهم: الله خالق كل شيء, فلماذا لا يكذبونهم في قولهم {وَمَا الرَّحْمَنُ} وإذا كانوا يقولون للرسول الله خالق كل شيء كاذبين اضطرارا للحجة –وقلوبهم جاحدة- فكيف ينكرون الرحمن؟ الآية الثانية: قول الله تعالى {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} سورة الرعد. والجواب: إن المجادلة في أمر ليست جحدا له في قول الناطقين جميعا, فقول القائل: جادل فلان فلانا في القضاء والقدر, أو في علم زيد وجهله, فهل يدل هذا أن لا وجود للقضاء أو القدر, أو لا وجود لزيد. أما قال الله تعالى {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 1. فهل هذا يدل على أن زوجها غير موجود؟ وقول الله تعالى {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} 2.   1 المجادلة - 1 2 74 هود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فهل يدل على أن إبراهيم يجادل في وجود قوم لوط, وليس لهم وجود, فيا سبحان الله من الاستدلال الغريب والمنطق العجيب, الذي لا يتفوه به ولا يحتج به إلا ناقص العقل والدين. الآية الثالثة: قول الله تعالى {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} سورة الأنعام. والجواب من وجوه أ- هذه الآية حجة عليهم, إذ من المعقول أن لا يسب أحدا إلا إذا كان المسبوب موجودا, وهل يسب المعدوم؟ ب- لو كان سبهم لله إنكارا, لكان سب المؤمنين آلهة المشركين إنكارا, وينبغي أن يفهم أن السب ليس هو الكلام المعروف الذي يسب الناس بعضهم بعضا, ولكنه مجرد تنقيص أو نسبة شيء غير لائق به, فإذا نسبنا إلى الإله ما لا يليق بجلاله يكون سببا له, كقول النصارى المسيح ابن الله وقول اليهود عزير ابن الله. وزيادة على الأجوبة السالفة, نقول إن هؤلاء المعترضين متناقضون, مرة يقولون إن المشركين ينكرون الخالق ويحتجون بما سلف من أدلة, وتارة يعترفون بالرب ويستدلون بقول الله تعالى {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . فإن كانوا ينكرون الرب, فكيف يحتج هؤلاء على اعترافهم بقول الله تعالى {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ... } الآية وبما أن كثيرا من العوام, بل وكثيرا ممن ينتسبون إلى العلم لا يفرقون بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية, حتى زعم المبتدعون خصوم الشيخ وأتباعه قائلين: إنه لا فرق بين التوحيدين, فالربوبية هي الألوهية, والألوهية هي الربوبية, ولم يفرق بينهما سوى ابن تيمية وابن عبد الوهاب وتمسكوا بما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 1- إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يذكروا ذلك التفريق, ولم يقولوا لمن دخل في دين الله أن هناك توحيدين. والجواب: إن مدعي هذه الشبهة إما أن يريد أنهم لم يذكروه باللفظ المذكور, وإما أن يريد أنهم لم يذكروه ولا بالمعنى, ولم يفهموا من دخل في الدين أن هناك توحيدين, إن أراد الأول فلا يضرنا ولا ينفعه, لأننا لا نزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم بألسنتهم واصطلاحاتهم, وإن أراد الثاني نازعناه, وقلنا: إنك لم تقم دليلا عليه, بل نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أعلموا الداخلين في الدين أن هناك توحيد ألوهية, وتوحيد ربوبية بقوله لهم قولوا: لا إله إلا الله, ولا تعبدوا إلا الله وتدعوا إلا إياه مع قولهم لا خالق ولا رازق إلا الله, وهؤلاء يريدون أن يكون كلام رسول صلى الله عليه وسلم أفصح البشر آتيا على اصطلاحاتهم بأن يقول: ينقسم التوحيد قسمين إلى آخر العبارة، ولو كان كلام الرسول صلى الله عله وسلم ككلامهم لما قبل الإسلام. 2- قول الله تعالى في أخذ الميثاق {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} قالوا: ولو كان بين الإله والرب فرق، لما اكتفى بالسؤال عن الرب فقط، بل لقال: ألست بربكم وإلهكم؟ والجواب: سبق مثل هذا الاعتراض في سؤال المنكرين، وسبق الجواب، ولكن لا بأس من الزيادة والإيضاح والبيان فنقول: أ- لو تدبر هؤلاء في قولهم قليلا، لرأوا أن الله سألهم عن التوحيدين، فقوله تعالى {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} سؤال عن الربوبية والرب، وقوله تعالى {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} نهى عن اتباع الآباء في الشرك وأمر بعبادته وحده، فالتوحيدان متغايران بصريح الآية. ب- هذا الإيراد لا يرد علينا إلا إذا ذكروا: أن السؤال كان عن جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الدين، أو عن جميع ما هو شرط في قبول الإيمان، وإلا فلا يرد علينا يقينا، فإن لنا أن نقول: سألهم الله عن الربوبية وقررهم عليها، وإقرارهم بها يهديهم إلى الألوهية لو عقلوا ولم ينقادوا للشيطان، فإن من يعقل لا يعبد إلا من له الأمر والنهي والنفع والضر، ولو خلى الناس وفطرهم لما عبدوا إلا الله، ولولا مشيخة الضلال المحسنين لهذه البدعة وسدنة القبور، لما وجدت من يستغيث بالأولياء ويطوف بهم، قال الله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . ألا يرى هؤلاء أن هذه الشبهة تفتح عليها أن يقال: الآية لم تذكر غير توحيد الله ولم تذكر الإيمان بالكتب والرسل والملائكة والبعث وسائر أركان الإيمان، فليست هذه الأشياء مما يلزم الإيمان به لأن الآية لم تذكره، يقول هؤلاء المبتدعة لنا: إذا كان توحيد الربوبية غير توحيد الألوهية، فلماذا لم تذكر الآية توحيد الألوهية، فإذا أردنا أن نسألهم كسؤالهم قلنا: الآية أيضا لم تذكر كل ما يجب الإيمان به، فيجب أن نقول: أنه لا يجب الإيمان إلا بالله، أما ملائكته وكتبه الخ فلا يلزم الإيمان بهم، هذا سؤال لا محيص لهم عنه، وتحرير هذا الجواب أن يقال: الآية لم تلتزم أن تذكر جميع أبواب الإيمان فلا يصلح أن تسألونا السؤال المذكور، هذا أمر واضح. 3- قول الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} . والجواب: ليس لهذه الشبهة وجه يصح، والإله هنا هو المعبود بلا شك، أي هو معبود في الأرض وفي السماء، وهؤلاء أبوا أن يكون ذلك هو المعنى، لأنه سوف يجيء زمن – كما يقولون - لا يعبد الله في الأرض أحد، فلا يكون فيها إلها أي معبودا وفاتهم أن الآية لم تقل وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الأرض إله في كل وقت، ومثل هذا الاستعمال يصدق في أقل مدة يعبد الله فيها، وأيضا الاعتراض لازم على كل حال إن كان صحيحا، فهم يقولون الإله والرب معناهما واحد، فالرب هن الإله، والإله هو الرب، لأنهم لا يفرقون بينهما، فقوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} . أي رب ومعبود باعترافهم، وسوف يجيء زمن -كما قالوا- لا يكون الله في الأرض معبودا، فما المخلص ما أكثر ما يزلون، وأيضا من قال لهم: إن زمنا من الأزمان لا يعبد الله فيه أحد؟ ألا يذكرون قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة وهم على ذلك" وهبوا أنه لا يعبد الله من الناس أحد في ذلك الزمن، فالكائنات الأخرى تعبده، والقرآن أخبر بأنها تسجد له وتسبحه، ولا يجسرون أن يقولوا: إن الأنبياء والأولياء أحياء في قبورهم، يعبدون الله ويعطون سائليهم، فالله معبود في الأرض إلى يوم القيامة ولو من الأموات على زعمهم فالشبهة مثل الضعف أ. هـ1   1 بتلخيص وتصرف من الفصل الحاسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الشبهة الحادية عشر: قال المبتدعون: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذم نجد وامتنع أن يدعو لهم ... الشبهة الحادية عشرة قال المبتدعون: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذم نجدا, وامتنع أن يدعو لهم, فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا, قالوا: وفي نجدنا قال: اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا, قالوا: وفي نجدنا: فأظنه قال في الثالثة: هناك الزلازل, والفتن, وبها يطلع قرن الشيطان" , وفي حديث آخر "رأس الكفر قبل المشرق ". وابن عبد الوهاب خرج من نجد, وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك الزلازل والفتن ودعوته من الفتن والزلازل, وقد خرج قبله من اليمامة مسيلمة الكذاب يدعي النبوة, وطليحة بن خويلد الأسدي, فإذا كانت نجد موضع الزلازل والفتن, وفي الحديث رأس الكفر قبل المشرق, ونجد تقع شرق المدينة, فمن هنا نعلم أن دعوته ضالة وأن أكثر المسلمين على خلاف ما يقول هذا الشيخ, فقد أتى بما لم يسبق إليه أحد. جواب الشبهة الحادية عشرة وجواب الشبهة ومن الله أستمد الصواب: لا ريب أن هذا الحديث الذي أورد المعترضون صحيح, ولكن ليس الذم واردا لنجد اليمامة ولكن كلمة نجد هي كل ما ارتفع من الأرض, وشرق المدينة هي العراق وليست اليمامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 معنى نجد في اللغة مصدر معناه الرفعة والعلو, يقال لكل شيء عال نجد, ولكل قطعة من الأرض مرتفعة عما حواليها وهذا مذكور في جميع كتب اللغة كالقاموس ولسان العرب وتاج العروس والمنجد وغيرها. قال الكرماني في شرح البخاري: وأصل نجد ما ارتفع من الأرض وهو خلاف الغور, وكذا قال الحافظ ابن حجر والقسطلاني: واتفقت كلمة شراح الحديث وأئمة اللغة أن نجدا ليس اسما لبلد خاص ولا اسما لبلدة بعينها, بل يقال لكل قطعة من الأرض المرتفعة عما حواليها. ونجود العرب كثيرة منها نجد البرق, نجد أجاء, نجد العقاب بدمشق, نجد اليمن, نجد الحجاز, نجد العراق وهو يقع جهة الشرق من المدينة المنورة. قال صاحب تاج العروس: كل ما وراء الخندق على سواد العراق هو نجد. قال الكرماني في شرح حديث يطلع منها قرن الشيطان: هو الأرض المرتفعة من تهامة إلى العراق, وأصرح من هذا قوله: ومن كان بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام كان نجد بادية العراق وهي مشرق أهلها. وقال الخطابي: نجد من جهة المشرق ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها. ومما أوردناه تعلم أيها الواقف أن الذم الوارد في نجد في قوله صلى الله عليه وسلم هنالك الزلازل والفتن, وبها يطلع قرن الشيطان, فليس المراد نجد اليمامة بل نجد العراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وأزيد القارئ بيانا أنه جاء في بعض الأحاديث ما يؤيد ما أسلفنا ذكره, فقد قال صلى الله عليه وسلم: (1) "رأس الكفر قبل المشرق" (صحيح مسلم) . (2) رأس الكفر نحو المشرق (صحيح البخاري) (3) "ومن ههنا جاءت الفتن نحو المشرق" (صحيح البخاري) . (4) رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير نحو المشرق "أن الفتنة ههنا, أن الفتنة ههنا". (5) وهو مستقبل الشرق يقول: "إن الفتنة ههنا". وقال صاحب "أكمل البيان في شرح حديث نجد قرن الشيطان": مقصود الأحاديث أن البلاد الواقعة في جهة المشرق من المدينة المنورة هي مبدأ الفتنة والفساد ومركز الكفر والإلحاد ومصدر الابتداع والضلال, فانظروا في خريطة العرب بنظر الإمعان, يظهر لكم أن الأرض الواقعة في شرق المدينة إنما هي أرض العراق فقط, موضع الكوفة والبصرة وبغداد, والراسخون في العلم يعلمون هذا من إلقاء النظرة على الخريطة أ. هـ. وها أنا ذا أوضح للقراء بالحوادث التي لا تقبل النقاش والجدال الذي لا يرقى إليه شك ولا ارتياب ويقوي قول العلماء, أن المقصود بنجد العراق, وأن الزلازل والفتن التي حصلت في العراق لم يحصل عشرها في نجد. الزلازل والفتن التي وقعت والتي تقع في العراق منها وقعة الجمل وصفين اللتان فرقتا شمل المسلمين, وهاتان الوقعتان هما الأساس لخروج الفرق الضالة وتشتيت كلمة المسلمين, وتكفير بعضهم لبعض, فقد ظهرت الخوارج والشيعة بسبب هاتين الوقعتين. ثم حادثة قتل الحسين بن علي رضي الله عنه, وهي من أكبر الفتن جرت الوبال على المسلمين وأشعلت نار الفرقة بينهم, وظهور المختار ابن أبي عبيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الثقفي ودعواه نزول الوحي عليه, وحادثة قتل زيد بن علي بن الحسين. وظهور المعتزلة والقدرية وحادثة القول بخلق القرآن, وموقف المأمون مع الإمام أحمد بن حنبل وعلماء السنة, يأمرهم بهذا الاعتقاد الفاسد, ووصل الأمر به إلى حد سجنهم, وجاء المعتصم بعد المأمون على منهجه ثم الواثق بالله وسار هو أيضا على درب سابقيه, وسجن الإمام أحمد ثمانية وعشرين شهرا وضر بالسياط مرارا حتى أغمي عليه ولم يوافقهم على ما يريدون, ولا زالت الفتن بها حتى جاء عبد الكريم قاسم وقتل من قتل من الملوك والعلماء, ودعا إلى مذهب الشيوعية والإلحاد, ولا زالت الفتن تترى. فقل بربك هل ظهر في نجد اليمامة حوادث كحوادث العراق, أو ربع تلك الحوادث أو عشرها, فإن كان قد ظهر مسيلمة الكذاب في نجد فقد ظهر الأسود العنسي في اليمن مدعيا النبوة, وكم من مدع للنبوة ظهر في غير نجد, فما بال هؤلاء يغضبون من نجد ويرضون عن غيرها. ولهذا قال الشيخ يوسف النبهاني عائبا أهل نجد بخروج مسيلمة بقوله: مسيلمة الجد الكبير وعرسه ... سجاح لكل منهم الجدة الكبرى أجابه المرزوقي رحمه الله بقوله: نعم كان في ذاك الزمان مسيلم ... وأسود في صنعا وطلحة ذو الأغرا ومثلهم المختار في كوفة افترى ... غداة حكى جبريل أوحى له الأمرا ففي يمن كانوا ونجد وكوفة ... أتغضب من نجد وترضى عن الأخرى فماذا على نجد من العيب والأذى ... بمن قد خلا من كافر عنه وازورا تعير نجدا في سجاح وزوجها ... وذنبك في الإسلام قد جاوز الحصرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ثم هناك أمر ثان, أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا" , والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد رأى كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأمعن النظر فيها وهضم معانيها, فنفخت فيه روح الثورة على تلك الأوضاع الفاسدة ومنحته سلاحا قويا من الحجج النقلية والبراهين العقلية ما استطاع بها أن يزهق باطل أولئك المردة والمشركين, وأن يزيف شبه علمائهم ودعاة مذاهبهم, ولا ريب أن الشيخين كانا شاميين, فإذا دعوة الشيخ شامية لا نجدية, الحديث يقول "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" فهل بقي للقراء بعدما أسلفنا ذكره من أدلة لغوية وحديثية والحوادث التاريخية شك أن المتشبثين بحديث "اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا" في ذم الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته تشبث باطل ومستند فاسد لا يستريب في منصف, وأن هؤلاء لما كانوا مفلسين في ميادين الحجج النقلية الصحيحة والعقلية الرجيحة, أخذوا يتشبثون ويستمسكون بما هو أوهن من بيت العنكبوت من الشبه الفاسدة والآراء الكاسدة ليقووا مذهبهم ويوهنوا دعوة الشيخ رحمه الله تعالى.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الشبهة الثانية عشر: قول المعترضين: أما تخيل المانعين المحرومين أن منع التوسل والزيارة من المحافظة على التوحيد ... الشبهة الثانية عشرة من ذلك قول المعترضين: وأما تخيل المانعين المحرومين, من بركاته "صلى الله عليه وسلم" أن منع التوسل والزيارة من المحافظة على التوحيد وأن التوسل والزيارة مما يؤدي إلى الشرك هو تخيل فاسد باطل. جواب الشبهة الثانية عشرة والجواب: أن التوسل أسلفنا الكلام فيه وأنه بدعة وليس بشرك ولا بكفر إلا إذا تضمن دعاء غير الله, لأن الكثيرين من هؤلاء لا يفرقون بين التوسل والاستغاثة فقد يأتي بالاستغاثة ويسميه توسلا, وأما زيارة الرسول "صلى الله عليه وسلم" فلم يقل أحد بمنعها وإنما منع الشيخ محمد بن عبد الوهاب شد الرحال إلى زيارة القبور ومنها قبره "صلى الله عليه وسلم" للحديث الصحيح "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد, مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى" رواه مسلم, قال الترمذي في جامعه حدثنا ابن أبي عمر أخبرنا سفيان ابن عيينة عن عبد الملك بن عمر عن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام, ومسجدي هذا, والمسجد الأقصى" قال هذا حديث حسن صحيح. وروى سلمان الأغر عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة, ومسجدي هذا, ومسجد إيليا" رواه مسلم. وهناك أحاديث أخرى رواها الطبراني وابن ماجة ومالك في الموطأ تدور حول هذا المعنى وأنت ترى أن الحديثين اللذين رواهما مسلم بصيغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الحصر, وكذا ما رواه الترمذي, والأحاديث ظاهرة المعنى أن شد الرحال لا يكون إلا إلى هذه المساجد الثلاثة كالذي يشد الرحال إلى زيارة القبور والمشاهد. وأما اعتراض المعترض يلزم على قولكم ألا تشد الرحال إلى طلب العلم وإلى زيارة الأرحام فالجواب: أن تلك الأمور التي ذكرها المعترض وردت فيها أوامر كقوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} . وكقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} . وبر الوالدين وصلة الأرحام مأمور بهما في القرآن والسنة كما أن كثيرا من الصحابة والتابعين وتابعيهم شدوا رحالهم إلى طلب العلم, لكن ليأتنا هؤلاء الذين يجوزون شد الرحال إلى زيارة القبور المعظمة بدليل مقبول من كتاب أو من سنة صحيحة أو حسنة على صحة قولهم بأنها مندوبة أو جائزة. أما من أتى المدينة أو من كان في المدينة فيستحب له أن يزور قبره صلى الله عليه وسلم بل يستحب زيارة قبور جميع المسلمين في المدينة وفي غيرها لحديث " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة". وقد كان ابن عمر يسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يريد سفرا أو يأتي من سفر, وقد ذكر عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن عبيد الله بن عمر أنه, قال ما نعلم أحدا من أصحاب النبي فعل ذلك إلا عمر. وقد نهى علي بن الحسين زين العابدين, الذي هو أفضل أهل بيته وأعلمهم في وقته ذلك الرجل الذي كان يجيء إلى فرجة كانت عند القبر فيدخل فيها فيدعو, واحتج عليه بما سمعه من أبيه عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدا وبيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم" وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن بن علي شيخ أهل بيته, كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول المسجد, ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا, وقال للرجل الذي رآه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 عند القبر: مالي رأيتك عند القبر؟ فقال: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيتي عيدا أو لا تتخذوا بيوتكم مقابر, لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد, وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حينما كنتم ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء". والشيخ محمد وأتباعه لم ينكروا زيارة القبور عموما لأنها مسنونة, فكيف ينكرون زيارة قبره صلى الله عليه وسلم, وإنما أنكروا شد الرحال للقبور كما سبق بيانه ومن تلك القبور قبره "صلى الله عليه وسلم". وهنا قد يقول المخالفون: بكلامكم هذا تفضلون المسجد على النبي, والنبي بالاتفاق أفضل الخلق على الإطلاق, والجواب: هذه مسائل قربة وعبادة, لأن زيارة القبر محسوبة على القرب وشد الرحال إلى المساجد الثلاثة قربة للصلاة فيها والاعتكاف بها, والعبادة مبنية على التوقيف لا تتحكم فيها العقول والأهواء والمقاييس الفاسدة. ولنا أن نقول ثانيا تقبيل الحجر الأسود مستحب للطائف بالكعبة, لكن يحرم تقبيل قبر الرسول صلى الله عليه وسلم, أو يكره على الأقل, فهل معنى هذا أننا فضلنا الحجر الأسود على النبي صلى الله عليه وسلم, لا يقول هذا إلا مختل العقل والفؤاد. ثالثا: الطواف بالكعبة المشرفة ركن من أركان الحج والعمرة, فإذا لم يطف طواف الركن في الحج والعمرة لا يصح حجه بإجماع العلماء, لكن الطواف بقبر الرسول شرك أكبر, فهل معنى هذا أننا فضلنا الكعبة على الرسول صلى الله عليه وسلم, فلا حول ولا قوة إلا بالله, ونسأل الله السلامة من الأفهام السقيمة والأذهان الكليلة والأقوال الساقطة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على جهل القائلين, أو على إرادة الغش وتضليل المسلمين لإخراجهم من نور التوحيد إلى ظلمات الشرك, هدانا الله وإياهم إلى الصراط المستقيم, وإليك ما قاله بعض فضلاء نجد في هذا الخصوص: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وإن رمت للهادي البشير زيارة ... تحط بها ذنبا وتمحوا بها وزرا فقدم عليها نية المسجد الذي ... به الله في الأذكار قد رفع الذكرا وثم إذا نلت الأماني بقربه ... وشاهدت من أركانه النور والفخرا فبادر على العينين والرأس ماشيا ... وقابل إمام المرسلين أبا الزهرا وسلم عليه من قريب وفز بما ... سعدت به من زورة تشرح الصدرا فقل هل ترى فيما نقول ملامة ... ولكن أعمى العين لا يبصر الفجرا وإلى القارئ زيادة من شبهاتهم حول زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم, وذلك بإيرادهم أحاديث في زيارته صلى الله عليه وسلم وهاك بيانها: احتج القائلون بوجوب الزيارة أو بندبها بقوله صلى الله عليه وسلم: "من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني" رواه ابن عدي بسند يحتج به. الجواب: في سند ابن عدي نعمان بن شبل, ومحمد بن محمد بن النعمان بن شبل وهما ضعيفان جدا. يراجع في هذا الموضوع تلخيص الحبير والميزان للذهبي, والصارم المنكي. فقول المعترضين بسند يعتد به باطل قطعا, ومن ثم صرح جماعة من أهل النقد بضعف الحديث وجماعة بوضعه ولم يذهب أحد إلى صحته أو حسنه, إنما تفرد به الشيخ ابن حجر المكي وقلده ملا علي القارئ ولا عبرة بتحسينهما لأنهما ليسا من علماء الجرح والتعديل, ولا من يرجع إليهما في تصحيح الحديث أو تحسينه أو تضعيفه, ومن يدعي تحسين هذا الحديث فعليه الإثبات من كلام ذوي التحسين والتضعيف. كما وردت أحاديث كثيرة صحيحة في الترغيب في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم؟ والجواب: ليس في الباب حديث واحد صحيح فضلا عن الأحاديث الكثيرة الصحيحة! ولا أراك شاكا في أن هذا القول غلط واضح وخطأ بين, فإن السبكي مع شدة سعيه في هذا الباب لم يثبت في زعمه الا حسن حديثين أو صحتهما, الأول "من زار قبري وجبت له شفاعتي" والثاني "من جاءني زائرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون له شفيعا يوم القيامة" وهذان الحديثان فيهما أيضا كلام شديد, وبالجملة ادعاء صحة الأحاديث الكثيرة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم باطل بالبداهة. ومن تلك الأحاديث التي احتجوا بها "من حج فزار قبري " وفي راية "فزارني بعد وفاتي عند قبري" كان كمن زارني في حياتي" رواه أبو يعلى والدارقطني. والجواب: أن في سنده حفص بن أبي داوود وليث بن أبي سليم وفي بعض طرقه الحسن بن الطيب وأحمد بن رشدين وكلهم ضعفاء مجروحون, قال الإمام ابن عبد الهادي في الصارم: "واعلم أن هذا الحديث لا يجوز الاحتجاج به ولا يصلح الاعتماد على مثله فإنه حديث منكر المتن ساقط الإسناد لم يصححه أحد من الحفاظ ولا احتج به أحد من الأئمة بل ضعفوه وطعنوا فيه, وذكر بعضهم أنه من الأحاديث الموضوعة والأخبار المكذوبة". وبالجملة كما سبق بيانه أن ليس في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بالخصوص حديث صحيح ولا حسن, بل إما أن يكون ضعيفا أو موضوعا ولا حجة في ضعيف وموضوع كما لا يخفى على من شم رائحة من العلم. قال السيد الزيني دحلان زيادة على ما سلف: كأن هؤلاء المانعين للتوسل والزيارة يعتقدون أنه لا يجوز تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم فحيثما صدر من أحد تعظيم له صلى الله عليه وسلم حكموا على فاعله بالكفر والإشراك. الجواب: هذا الإيجاب الكلي والسلب الكلي اللذان يشتمل عليهما هذا الكلام الساقط الفاسد بهتانان صريحان, فإن المانعين للتوسل لا يمنعون مطلق التعظيم ولا يحكمون على فاعله بالكفر والإشراك, إنما يمنعون التعظيم الذي يتضمن عبادة غير الله أو نهى الله عنه ورسوله, أو التعظيم المحدث الذي لا يدل عليه دليل من الكتاب والسنة, ويحكمون بالكفر والشرك على من عظم تعظيما يتضمن شيئا من موجبات الكفر والشرك, وأما التعظيم الذي هو ثابت بالكتاب والسنة فهو عين الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فمن تعظيمه صلى الله عليه وسلم عدم جعل دعاء الرسول كدعاء البعض بعضا, وعدم التقديم بين يدي الله ورسوله, وعدم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وعدم الجهر له بالقول كجهر بعضكم لبعض, وغض الأصوات عند النبي صلى الله عليه وسلم, وعدم المناداة من وراء الحجرات, والصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم, وعدم بقاء الخير لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا, وسؤال نساء النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب, وعدم نكاح أزواجه من بعده أبدا, وتحكيم النبي فيما شجر بينهم, وعدم وجدان الحرج في أنفسهم مما قضى النبي صلى الله عليه وسلم, وإطاعة الرسول, والرد إليه إذا وقع التنازع في شيء, وإجابة دعوة الرسول وإن كان المدعو في الصلاة كما دل عليه حديث أبي سعيد بن المعلى المروي في صحيح البخاري, واعتقاد أن الله تعالى يبعث رسولنا صلى الله عليه وسلم مقاما محمودا الذي هو أعلى درجة في الجنة لا ينالها عبد من عباد الله إلا نبينا صلى الله عليه وسلم, واعتقاد أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم يكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيدا, واعتقاد أن أمة محمد خير الأمم, واعتقاد أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين, واعتقاد أن الله تعالى أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم ليلا وعرج به, واعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كافة, واعتقاد أن الله تعالى قد غفر له صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر, إلى غير ذلك من الأمور التي ذكرها العلماء من باب تعظيمه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الشبهة الثالثة عشر: إن الشيخ وأتباعه كفروا صاحب البردة ومن كانت في بيته أو قرأها ... الشبهة الثالثة عشرة إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه الوهابية كفروا صاحب البردة, ومن كانت في بيته أو قرأها, ونهوا عن قراءتها نهيا باتا, بدعوى أن فيها شركا, والبردة صاحبها معروف بالعلم والصلاح وتلقاها العلماء والأدباء بالقبول, وكان صاحبها مصابا بفالج, فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأنشأ القصيدة أمامه, فانتبه من النوم وإذ هو قد عوفي, وشرحها العلماء الأجلاء, ولم يعترض عليها أحد حتى أتت الوهابية, وزعمت أن صاحبها مشرك, ونهوا عن قراءتها وهي قصيدة فائقة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم, وهل سمعتم بأعجب من هذا؟ رجل يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة محبته, وحب الرسول فرض على كل مسلم, ومع هذا فلم يبالوا به وبعلمه وصلاحه, ولا باعتناء العلماء بهذه القصيدة الجليلة التي تقبلها العلماء واعتنوا بشرحها, ومنهم من خمسها ومنهم من شطرها الخ هذا الهذيان. وقبل الدخول في الجواب, وجدت من المناسب أن أذكر نبذة مختصرة عن البوصيري وسبب إنشائه للقصيدة: تاريخ ميلاد البوصيري ووفاته: ولد البوصيري سنة 608هـ, وتوفي عام 696هـ في الإسكندرية من بلاد مصر, وكان في بعض أيام حياته قد تولى مديرية الشرقية بعد تقربه من الأمراء والحكام والسلاطين بسب مدحه لهم كما يقال. سبب إنشاء البوصيري للقصيدة: قال البوصيري كما جاء في فوات الوفيات ج2 ص209: كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم, منها ما كان اقترحه علي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الصاحب زين العابدين يعقوب بن الزبير, ثم اتفق بعد ذلك أن أصابني فالج أبطل نصفي, ففكرت في عمل قصيدتي هذه البردة, فعملتها واستشفعت به إلى الله تعالى في أن يعافني وكررت إنشادها وبكيت ودعوت وتوسلت ونمت, فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم, فمسح على وجهي بيده المباركة, وألقى علي بردة, فانتبهت ووجدت في نهضة فقمت وخرجت من بيتي, ولم أكن أعلمت بذلك أحدا, فلقيني بعض الفقراء, فقال لي: أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلت أيها, فقال التي أنشأتها في مرضك, وذكر أولها وقال: والله لقد سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمايل وأعجبته وألقى على من أنشدها بردة فأعطيته إياها, وذكر الفقير ذلك وشاع المنام إلى أن اتصل بالصاحب بهاء الدين ابن حنا, فبعث إلي وأخذها وحلف أن يسمعها إلا قائما حافيا مكشوف الرأس, وكان يحب سماعها هو وأهل بيته, ثم إنه بعد ذلك أدرك سعد الدين الفارقي رمد أشرف منه على العمى, فرأى في المنام قائلا يقول له: اذهب إلى الصاحب وخذ البردة واجعلها على عينيك فتعافى بإذن الله عز وجل, فأتى إلى الصاحب وذكر منامه, فقال ما أعرف عندي من أثر النبي صلى الله عليه وسلم بردة ثم فكر ساعة وقال: لعل المراد قصيدة البردة التي للبوصيري فأت بها, فأتى بها وأخذها سعد الدين ووضعها على عينيه فعوفي, ومن ثم سميت البردة والله أعلم. جواب الشبهة الثالثة عشرة والجواب ومن الله نستمد الصواب إن قصيدة البردة من حيث فن الشعر قصيدة راقية وعذبة, ولكن جاء إنكار الشيخ محمد بن عبد الوهاب وسائر السلفيين من أجل ما فيها من الغلو الذي يبلغ في بعض الأبيات حد الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وأما قولهم أنهم كفروا صاحب البردة ومن كانت في بيته وقرأها, فهذا كذب وافتراء, فلم يكفروه ولم يكفروا أحدا بعينه, إنما يقولون إذا رأوا كلاما فيه شرك, يقولون: إن هذا الكلام بدعة أو شرك ولا يقولون قائله كافر ولا سيما إذا مات, لأن الخاتمة عند الله, ولا يجوز تكفير المعين إلا بعد إقامة الحجة عليه إذا أتى بالشرك أو الكفر, لأنه قد يكون جاهلا وصاحب البردة قد مات, فكيف تقام عليه الحجة حتى يكفروه, لكنهم يقولون إنه على الرغم من أن قصيدته رائعة إلا أنه رجل جاهل بالسنة والتوحيد, وإن كان صالحا, لأن كثيرا من الناس قد يكون معهم صلاح ولكن يكونون جاهلين بالتوحيد والسنة. أما كون العلماء والأدباء تلقوها بالقبول, فليس حجة, فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, والعالم بشر يخطئ ويصيب. وكثير من الذين تلقوا كلامه وأعجبوا به وأخذوا ينشدون هذه القصيدة في الموالد وغيرها ويشرحونها ويشطرها بعضهم ويخمسها آخرون, معتقدهم في التوسل والاستغاثة كمعتقد صاحب البردة, فمثل هؤلاء ليسوا بحجة لأن التوسل بدعة والاستغاثة بغير الله شرك, وسيأتي الكلام عليها مفصلا إن شاء الله تعالى. وها أنا ذا آتي بنماذج من أبيات البردة التي فيها المخالفة للشرع والغلو المذموم. قال: وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم معنى هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن محتاجا لضرورات المعيشية الدنيوية, لأن هذه الدنيا لم توجد إلا لأجله هو شخصيا. والجواب: إنه كان محتاجا للضرورات الحياة لأنه بشر مثل البشر, وإن الدنيا خلقت وما فيها لعبادة الله ومعرفته سبحانه وتعالى بدليل قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 يُطْعِمُونِ} , وعلى ذلك فهذا البيت معناه خطأ وهو من الغلو المنهي عنه. فإن قيل إنه ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أوحى الله إلى عيسى عليه السلام يا عيسى آمن بمحمد وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به فلولا محمد ما خلقت آدم ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار, ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن. أورده ابن ناصر الدين في مورد الصادي إلى مولد الهادي وعزاه إلى طبقات الأصبهانيين لأبي الشيخ وقال: صحح الحاكم إسناده, وأورده الزرقاني في ج1 من شرح المواهب اللدنية ص 44. والجواب: إن هذا الحديث لا يصح أبدا, وتصحيح الحاكم وإيراد الزرقاني له ليس له قيمة, والحاكم معروف بتساهله في تصحيح الأحاديث, ومثل هذا الحديث الموضوع: لو لاك لو لاك ما خلقت الأفلاك. وقد تشبث المبتدعون بمثل هذه الأحاديث, وزعموا أن الله تعالى خلق الدنيا والكون كله لأجل محمد صلى الله عليه وسلم. فقال صاحب البردة بهذا القول وهذا المعتقد متأثرا بما سمعه من تلك الأحاديث الموضوعة وإيراد بعض العلماء لتلك الأحاديث. وقوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم معناه: إن من جودك الدنيا وضرتها أي من عطائك وإنعامك وأفضالك الدنيا والآخرة, وهذا كلام لا يحتمل تأويله بغير ذلك, ووازن بين قول الناظم من جودك الدنيا وضرتها, وبين قوله تعالى {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً, قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ... } الآية. قال ابن كثير: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله, أي خزائن رزقه فأعطيكم ما تريدون ولا أعلم الغيب فأخبركم بما غاب مما مضى وما سيكون, ولا أقول لكم إني ملك لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه الآدمي, ويشاهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ما لا يشاهد الآدمي, وقال تعالى {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . وهذا القول "إن من جودك الدنيا .... الخ" عدوان على مقام الله, وأي عدوان أكبر من هذا؟ إن الدنيا والآخرة هما من جود الله سبحانه وتعالى ومن فضله لقوله تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} . وكيف يجود صلى الله عليه وسلم والله جل جلاله قد خلق السموات والأرض وما فيهما قبل أن يخلق محمدا بملايين السنين, وقال الله تعالى آمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} . ولو كان مالكا وواهبا لأقل مما ذكره الشاعر, لاستطاع أن ينفع ويضر على الأقل. وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم: لما بلغ في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وإطرائه ووصفه بكون الدنيا والآخرة من جوده صلى الله عليه وسلم, فتعدى في وصفه بالجود ناسبا في زعمه أن يصفه في سعة العلم, فقال: ومن علومك ... الخ. يعني أن علم اللوح والقلم من بعض علومك. أما اعتذار بعض الناس, بأن المراد باللوح هنا: اللوح الذي يكتب فيه الناس والقلم الذي يكتبون به, فهذا الاعتذار غير مجد لما قدمناه, ولأن مقتضى لفظه أن أل في اللوح والقلم للعهد الذهني, فلا يقع في ذهن السامع غير اللوح المحفوظ والقلم الذي جرت به المقادير. ولو أراد أقلام الناس لم يخص اللوح, بل يأتي بلفظ يعم ما يكتبون فيه من لوح وقرطاس وغيره, وأيضا فالناس يكتبون بأقلامهم الحق والباطل, ويكتبون الكفر والسحر والشعر وجميع العلوم الباطلة مما ينزه الرسول صلى الله عليه وسلم من إضافته إليه, ويكتبون بعد موته صلى الله عليه وسلم الرسائل والمداينات وغير ذلك مما يقع في غد, وذلك من الخمس التي لا يعلمها إلا الله, وقد قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 عنها: من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد كذب ثم قرأت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} . ومن قبل ذلك قال: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حدوث الحادث العمم ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذا الكريم تجلى باسم منتقم ولا يخفى على كل ذي حجى أن هذه الألفاظ استغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم واستعاذة به, فإذا خوطب النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأموات والغائبين بلفظ من ألفاظ الاستغاثة أو طلب منه حاجة يقول: أغثني أو أنقذني من كذا أو خذ بيدي أو اقض حاجتي أو أنت حسبي أو أشكو إليك حاجتي ونحو ذلك, يتخذه واسطة بينه وبين الله في ذلك فهذا شرك العرب الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقول المستغيث خذ بيدي أو أنقذني من أبلغ ألفاظ الاستغاثة, فلو اعتقد الداعي أن من دعاه وطلبه يقضي حاجته استقلالا من دون الله كان هذا شركا في توحيد الربوبية والألوهية. قال شيخ الاسلام تقي الدين رحمه الله تعالى: ومن رحمة الله سبحانه أن الدعاء المتضمن شركا كدعاء غيره أن يفعل أو دعائه أن يدعو إن كان ميتا ونحو ذلك, لا يحصل غرض صاحبه ولا يورث حصول الغرض شبهة إلا في الأمور الحقيرة, فأما الأمور العظيمة كإنزال الغيث عند القحط وكشف العذاب النازل فلا ينفع فيه هذا الشرك, قال تعالى {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} . وقال تعالى {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} . وقال تعالى {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} وقال {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} , فكون هذه المطالب العظيمة لا يستجيب فيها إلا هو سبحانه دل على توحيده وقطع شبهة من أشرك به. وقول بعض المعتذرين والمسوغين لقول صاحب البردة, إن قصده بالحادث العمم يوم القيامة, وإن قصده الشفاعة, لأنه قال: إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... ومنقذي من عذاب الله والألم أو شافعا لي مما قد جنيت غدا ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم فالجواب: لا يجوز أن تطلب الشفاعة مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم, بل يطلب الله أن يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى يقول {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} , وقال تعالى {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} . وازن أيها القارئ الكريم بين قول الناظم: يا أكرم الخلق ما لي من ألو ذ به, وبين قول النبي صلى الله لعيه وسلم للذي قال له: ما شاء الله وشئت, فرد عليه صلى الله عليه وسلم قائلا: أجعلتني لله ندا, قل ما شاء الله وحده. فلو قال الناظم: ما لي من ألوذ به إلا الله وأنت لكان أقبح من قول القائل: ما شاء الله وشئت, لأن الله أثبت للعبد مشيئة بقوله {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} , فكيف إذا أفرد الرسول باللياذ والالتجاء من ذلك اليوم الذي {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} . وقولهم: إن الله وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالشفاعة, والله تعالى لا يخلف وعده, وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أول شافع وأول مشفع. والجواب: هذا القول صحيح, ولكن ليس معنى أنه يشفع, أنه ملكه الشفاعة, يتصرف فيها كما يشاء, بل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما تأتيه الأمم يوم القيامة من بعد ما طلبوا من آدم إلى عيسى, يسجد صلى الله عليه وسلم عن يمين العرش فيأتيه الإذن من الله: اشفع تشفع, وسل تعط ولا يشفع إلا لمن أذن الله له فيه بالشفاعة, كما قال تعالى {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} , فعلى المسلم أن يدعو الله أن يشفع الرسول صلى الله عليه وسلم فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فإن قيل إن الوهابية بالغت في التهجم على الشيخ البوصيري, ونسبت إليه الغلو والشرك, وكأنهم لم يعلموا أن الشيخ كان عالما, وأنه احترز عن مثل ما يظن به بقوله: دع ما ادعته النصارى في نبيهم. وبقوله: فمبلغ العلم فيه أن بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم فالجواب: إنه لم يلتزم ما قاله, بل تجاوز الحد مما يجوز إلى ما لا يجوز, وهل ضلت النصارى إلا بالغلو في عيسى عليه السلام, وفي الأحبار والرهبان, فإنهم ألهوا عيسى وعبدوه من دون الله, وعبدوا الأحبار والرهبان بإطاعتهم لهم في تحليل ما حرم الله وفي تحريم ما حلل الله, كما قال المفسرون في قوله تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . فمن صرف شيئا من العبادات كالدعاء والنذر لغير الله والاستغاثة والاستعاذة بغيره تعالى والرجاء والخوف والطواف والقسم بغير الله, يكون قد ألهه لأن الإله هو المعبود بحق أو باطل, ويصبح المؤله لغير الله مشركا إلا أن في القسم تفصيلا, إن حلف بغير الله وقصد تعظيم غير الله كتعظيم الخالق, فقد أشرك شركا أكبر, وإن لم يقصد ذلك فقد أشرك شركا أصغر. والناظم بدافع الحب استغاث بالرسول صلى الله عليه وسلم واستجار به, وأقسم بغير الله في مثل قوله: أقسمت بالقمر المنشق ان له ... من قلبه نسبة مبرورة القسم وزعم أن الله تعالى لم يخلق الكونين إلا لأجله, وأن علوم الأنبياء من علمه, لأنه الذي أفاض عليهم سوى ما أتى به من الأقاويل الضعيفة كقوله: وبات إيوان كسرى وهو منصدع ... كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم ولو تتبعنا أخطاء البردة لطلب منا كتابا, كما أن في همزيته أخطاء وغلوا كقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وليس يخفى عليك في القلب داء .... الخ, ولكن تركناها للاختصار, ولكن للحق والإنصاف, أن في القصيدة حكما والحكم تصدر من المسلم ومن غير المسلم, ولكن كل ما في الأمر أن لا نقول إنها كلها خطأ وضلال, بل فيها الجيد من حيث صناعة الشعر والحكم, وفيها الغلو المذموم من حيث التوحيد, ومخالفته للكتاب والسنة, ولا يتعرض الشيخ ولا أتباعه من السلفيين لذات الناظم كما سبق بيانه, لأن الخاتمة عند الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الشبهة الرابعة عشر: إن الشيخ وأتباعه منعوا من شد الرحال إلى قبور الأنبياء ... الشبهة الرابعة عشرة يقول المبتدعون خصوم الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذين أخذوا على عاتقهم محاربة دعوته السلفية ومنهجه الإصلاحي, إن الشيخ محمدا بالإضافة إلى تلك العقائد التي خرج بها على الناس وحكم بشرك من يستغيث بالأنبياء والأولياء ويتوسل بهم, منع شد الرحال إلى قبور الأنبياء, ولم يرع حرمة للأنبياء ولا للأولياء الصالحين, وأتى بعقيدة التجسيم والتمثيل مقلدا في تلك العقيدة الضالة ابن تيمية الذي خرج على الناس بآراء جديدة في العقائد وفي الفروع, ورد عليه علماء عصره وسجنته الملوك وتوفي في السجن من جراء مقالاته المخالفة لأهل السنة والجماعة. والتمثيل والتجسيم في قول ابن عبد الوهاب وابن تيمية: إن الله مستو على عرشه, وأن له يدين ووجها, وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا, ولم يعيرا اهتماما لتأويل هذه الصفات بحسب اللغة العربية فرارا من التمثيل ... الخ ما سجلوه من هذا الكلام البارد السخيف الذي لا يصدر عن ذي حجى فضلا عمن ينتمي إلى العلم. الجواب عن الشبهة الرابعة عشرة والجواب: هذه الشبهة تتكون من أربعة عناصر: الأول: إن ابن عبد الوهاب مشبه ومجسم, وهذا عين الضلال, زيادة آرائه السابقة. الثاني: كذلك الشيخ ابن تيمية من أهل التمثيل والتجسيم, ولذلك رد عليه علماء عصره.. الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الثالث: إن أهل السنة والجماعة في زعم المعترضين هم الخلف الذي ينتمون إلى الإمام أبي الحسن الأشعري, وأبي منصور الماتريدي رحمهما الله, وما سوى هذين المذهبين, فليسوا من أهل السنة. الرابع: أن إثبات هذه الصفات تمثيل وتجسيم, وهما عين الضلال, بل الكفر والوبال. أما جواب العنصر الأول: قولهم أن الشيخ محمدا كان مشبها ومجسما لكونه معتقدا باستواء الله على عرشه وبنزوله كل ليلة ... الخ .... فنقول: سبق في أول الكتاب عقيدة الشيخ في صفات الله وفي القدر وفي الشفاعات, وفي مقام الرسول صلى الله عليه وسلم, وخلاصة عقيدته: إن سلفي على ما كان عليه الصحابة والتابعون الأئمة المهتدون في صفات الله كالإمام مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وابن المبارك وإسحق بن راهويه والأوزاعي وأهل الحديث, أنه يثبت ما جاء في صفات الله في القرآن الكريم وفي السنة الصحيحة, فلا يمثل صفات الله بصفات خلقه ولا يجسم معتصما بقول الله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} , ولكن لبعد ما ذكرنا سابقا لا بأس أن نعيد بعض الفقرات من شرح عقيدته فيما يمس هذا الموضوع, وإليك أيها القارئ من رسالته لأهل القصيم ما نصه: قال رحمه الله بعد البسملة: أشهد الله ومن حضرني من الملائكة, وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقده أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله, والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره. ومن الإيمان بالله, الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه, وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل, بل أعتقد أن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} , فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه, ولا أحرف الكلم عن مواضعه, ولا ألحد في أسمائه وآياته, ولا أكيف ولا أمثل صفاته بصفات خلقه, لأنه تعالى لا سمي له ولا كفء, ولا ند له, ولا يقاس بخلقه, فإنه سبحانه وتعالى أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلا, وأحسن حديثا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل, وعما نفاه عنه النافون, من أهل التحريف والتعطيل, فقال تعالى {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . أ. هـ. وها نحن أريناكم عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب, وأنها كعقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم من الأئمة المهتدين رضوان الله عليهم, وأما أنتم أيها المعترضون والناسبون للشيخ التمثيل والتجسيم في صفات الله, فعليكم الإثبات من كتب الشيخ أو أبنائه أو أتباعه, وإلا فاعلموا أنكم مفترون وعن الحق ناكبون, ولصفات الله معطلون. وأما بقية الكلام من التوسل والاستغاثة ونحوهما, فقد سبقت الأجوبة بما أغنى عن الإعادة. وأما الجواب عن العنصر الثاني قولهم: إن الشيخ ابن تيمية كان من أهل التمثيل والتجسيم .... الخ. فنقول: لا تقبل الدعوى بغير بينة, قال الشاعر: والدعاوى إذا لم يقيموا لها ... بينات أبناؤها أدعياء وقال آخر: وكل ادعا قرين افترا ... سوى من إذا ما ادعى أشهدا وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية بلغت مئات وانتشرت في مشارق الأرض ومغاربها, فأثبتوا لنا حرفا واحدا في كتبه يدل على التشبيه والتجسيم, وخصوصا في بحث الاستواء والنزول, فقد أطنب وألف رسائل خاصة كالحموية في الاستواء وشرح النزول. قال في الحموية: رفع إلى الشيخ ابن تيمية سؤال: ما قول السادة الفقهاء أئمة الدين في آيات الصفات كقوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقوله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} , إلى غير ذلك من الآيات, وأحاديث الصفات كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن" وقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 "يضع الجبار قدمه في النار.". إلى غير ذلك, وما قالت العلماء فيه وأبسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى فأجاب: الحمد لله رب العالمين, قولنا فيها ما قال الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان, وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودراياتهم, وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره, فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد, وشهد له بأنه بعثه داعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا وأمره أن يقول {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} . إلى أن قال: فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره, وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها ثم عامة كلام الصحابة والتابعين, ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى, وهو فوق كل شيء وهو عال على كل شيء, وأنه فوق العرش, وأنه فوق السماء مثل قوله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سبع مواضع {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} . إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بالكلفة, وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة مثل قصة معراج الرسول إلى ربه, ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه, وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار "فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم" , في الصحيح في حديث الخوارج "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 السماء صباحا ومساء". وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره "ربنا الله الذي في السماء, تقدس اسمك, أمرك في السماء والأرض, كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع". قال صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له فليقل ربنا الله الذي في السماء ". وذكره وقوله في الحديث الصحيح للجارية: "أين الله, قالت في السماء قال: من أنا, قالت أنت رسول الله, قال: أعتقها فإنها مؤمنة ", وقوله في الحديث الصحيح: "إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش, أن رحمتي سبقت غضبي". وقوله في حديث قبض الروح: "حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله". وقول عبد الله بن رواحة الذي أنشده للنبي صلى الله عليه وسلم وأقره عليه: شهدت بأن الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وقول أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم هو وغيره من شعره, فاستحسنه وقال: "آمن شعره وكفر قلبه". مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى سبق الناس ... وسوى فوق السماء سريرا شرجعا ما يناله بصر العين ... ترى دونه الملائك صورا وقوله في الحديث الذي في المسند: " إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا". وقوله في الحديث: "يمد يديه إلى السماء يقول يا رب يا رب". إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية التي تورث علما يقينا من أبلغ العلوم الضرورية, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 إن الرسول المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش وأنه فوق السماء كما فطر الله على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته، ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفا, ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من سلف الأمة لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف حرف واحد يخالف ذلك لا نصا ولا ظاهرا, ولم يقل أحد منهم قط أن الله ليس في السماء ولا أنه ليس على العرش, ولا أنه بذاته في كل مكان, ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء, ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه, و"لا أنه" متصل ولا منفصل, ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها, بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات في أعظم مجمع حضره الرسول صلى الله عليه وسلم جعل يقول: ألا هل بلغت؟ فيقولون نعم, فيرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول: اللهم اشهد, غير مرة وأمثال ذلك كثيرة. فإن كان الحق فيما يقول هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة من هذه العبارات ونحوها دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصا وإما ظاهرا, فكيف يجوز على الله, ثم على رسوله, ثم على خير الأمة, أنهم يتكلمون دائما بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق, ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط, ولا يدلون عليه لا نصا ولا ظاهرا, حتى يجيء أنباط الفرس والروم, وأحبار اليهود والنصارى والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف أو كل عاقل أن يعتقدها, لئن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم, وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصا أو ظاهرا, لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير, بل كان وجود الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 والسنة ضررا محضا في أصل الدين. فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: إنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل وما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا لا من الكتاب ولا من السنة ولا من طريق سلف الأمة, ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقا له من الصفات فصفوه به سواء كان موجودا في الكتاب والسنة أو لم يكن وما لم تجدوه مستحقا له في عقولكم فلا تصفوه به. ولشيخ الإسلام ابن تيمية عقيدة وجيزة, وهي منظومة لامية من بحر الرجز وها هي ذا فاقرأها: يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي ... رزق الهدى من للهداية يسأل اسمع كلام محقق في قوله ... لا ينثني عنه ولا يتبدل حب الصحابة كلهم لي مذهب ... ومودة القربى بها أتوسل ولكلهم قدر وفضل ساطع ... لكنما الصديق منهم أفضل وأقول في القرآن ما جاءت به ... آياته فهو الكريم المنزل وجميع آيات الصفات أمرها ... حقا كما نقل الطراز الأول وأرد عهدتها إلى نقالها ... وأصونها عن كل ما يتخيل قبحا لمن نبذ القرآن وراءه ... وإذا استدل يقول قال الأخطل والمؤمنون يرون حقا ربهم ... وإلى السماء بغير كيف ينزل وأقر بالميزان والحوض الذي ... أرجو بأني منه ريا أنهل وكذا الصراط يمد فوق جهنم ... فموحد ناج وآخر يهمل والنار يصلاها الشقي بحكمة ... وكذا التقي إلى الجنان سيدخل ولكل حي عاقل في قبره ... عمل يقارنه هناك ويسأل هذا اعتقاد الشافعي ومالك ... وأبي حنيفة ثم أحمد ينقل فإن اتبعت سبيلهم فموفق ... وإن ابتدعت فما عليك معول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 تأمل أيها القارئ كيف يقول الشيخ: وأمر آيات الصفات كما أتت، فلم يؤول ولم يمثل، بل صرح في النزول بغير كيف، كما قال مالك في الاستواء. ولا ينسب إلى الشيخ التمثيل والتكييف إلا من رق إيمانه وقل عقله وغلب عليه التعصب والتقليد الأعمى، يقول ما يشاء ولا يحسب حسابا لوقوفه يوم القيامة أمام رب العباد يقول تعالى {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . ودعوى الخصوم أن الشيخ ابن تيمية رحمه الله يمثل ويجسم، فإنها أولا صادرة من خصومه وثانيا من كذبة ابن بطوطة في رحلته إلى دمشق، ولا يخفى على كل ذي حجى أن رحلة ابن بطوطة مملوءة بالأكاذيب والغرائب التي لا يصدقها عاقل، وتأييدا لذلك، أذكر ماقاله العلامة بهجة البيطار عن فرية "حديث النزول" التي افتراها ابن بطوطة إن صح ما قال، وأن رحلته هذه مملوءة بالمختلقات والحكايات الغريبة بما يخالف المعتقد الصحيح، فهاك البيان: "1" أن ابن بطوطة رحمه الله لم يسمع من ابن تيمية ولم يجتمع به، إذ كان وصوله إلى دمشق يوم الخميس التاسع عشر من شهر رمضان المبارك عام ستة وعشرين وسبعمائة هجرية، وكان سجن شيخ الإسلام في قلعة دمشق أوائل شهر شعبان من ذلك العام، ولبث فيه إلى أن توفاه الله تعالى ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة عام ثمانية وعشرين وسبعمائة هجرية، فكيف رآه ابن بطوطة يعظ على منبر الجامع وسمعه يقول: ينزل .... الخ. "2" أن رحلة ابن بطوطة مملوءة بالروايات والحكايات الغريبة، ومنها ما لا يصح عقلا ولا نقلا وهو يلقي ما ينقله على عواهنه، ولا يتعقبه بشيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فمن ذلك قوله: "1: 54" وفي وسط المسجد "أي المسجد الأموي بدمشق" قبر زكريا عليه السلام، والمعروف أنه قبر يحيى عليه السلام، وقوله أيضا: وقرأت في فضائل دمشق عن سفيان الثوري أن الصلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة، وهذا لا يقال من قبل الرأي، وسفيان أجل من أن يفضله على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسجد الأقصى ثالث الحرمين الشر يفين وهما لم يبلع الثواب فيهما هذه الدرجة، كما هو معلوم للمحدثين وغيرهم، ومن نقوله التي أقرها ولم ينكرها "1, 199, 133, 136" النذور للقبور المعظمة، والوقوف على أبواب الملوك، ومن ذلك النذر لأبي اسحق إذا هاجت الرياح في البحار , واشتدت الأخطار , وهو ما لم يبلغه أهل الجاهلية الذين قال الله تعلى عنهم {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . "3" لم يكن ابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع كما زعم ابن بطوطة "1:75" "فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ على منبر الجامع" بل لم يكن يخطب أو يعظ على منبر الجمعة كما يوهمه قوله: "ونزل درجة من درج المنبر وقال: ينزل الرب كنزولي هذا". وإنما كان يجلس على كرسي يعظ الناس، ويكون المجلس غاصا بأهله، قال الحافظ الذهبي: وقد اشتهر أمره، وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد المجلس ولا يتلعثم. "4" يظهر من كلام الحافظ ابن حجر، أن الشيخ نصرا المنبجي الذي كان مقدما في الدولة هو الذي أشاع مسألة النزول عن الدرج، بسبب كتاب ورده من الإمام ابن تيمية ينكر عليه فيه أقوالا في وحدة الوجود، ويعدها عليه، قال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة "154:1" "" وكتب إليه كتابا طويلا ونسبه وأصحابه إلى الاتحاد الذي هو حقيقة الإلحاد، فعظم ذلك عليهم، وأعانه عليه قوم آخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد مغيرة، وقعت منه في مواعيده "مواعظه" وفتاويه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فذكروا أنه ذكر حديث النزول، فنزل عن المنبر درجتين "كذا" فقال: كنزولي هذا، فنسب إلى التجسيم". أ. هـ. كما أود أن أذكر، أن الحكاية التي ذكرها ابن بطوطة عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية، أنها حكاية غير صحيحة للآتي: "1" لما سبق من حديث النزول، وأنه جاء دمشق بعد أن سجن الشيخ، ولم يخرج الشيخ من السجن حتى توفي رحمه الله تعالى. "2" ومن كلامه أنه سجن أعواما بأمر الملك الناصر، وصنف في السجن كتابا في تفسير القرآن سماه البحر المحيط، ثم إن أمه تعرضت للملك الناصر، وشكت إليه فأمر بإطلاقه إلى أن وقع منه مثل ذلك ثانية, وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع، وذكر حديث النزول، كما ذكر قصة الفقيه المالكي الذي زعم أنه ضربوه بالأيدي والنعال حتى سقطت عمامته وظهرت على رأسه شاشية حرير .... الخ. وأقول إن الملك الناصر هو الذي أخرج الشيخ من السجن بالإسكندرية, وهو الذي استقبل الشيخ بحفاوة أمام جمع حافل من العلماء والقضاة, ومنهم ابن مخلوف المالكي عدو الشيخ, وهو الذي استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة فلم يوافقه الشيخ, ولقد توفيت أم الشيخ "الشيخة صالحة ست النعم بنت عبد الرحمن بن علي بن عبدوس الحرانية" يوم الأربعاء العشرين من شوال عام 716هـ, بعد أن رجع الشيخ إلى دمشق ولم يتعرض لأحد الملوك لا للناصر ولا لغيره. نعم السجن الأخير الذي توفي فيه الشيخ كان بأمر الملك الناصر, لأن الفقهاء الذين كانوا أعداء للشيخ أكثروا على الملك الناصر, وقالوا: إن الشيخ حرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم كذبا وافتراء عليه, فأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 بحبسه, وذلك في يوم الاثنين السادس من شعبان عام 726هـ. "3" حكاية الفقيه المالكي وضربه وسقوط العمامة من على رأسه وظهور شاشية من الحرير, هي من نسيج ابن بطوطة, لم يذكرها ابن الأثير كما لم يذكرها ابن كثير. ولا ابن حجر العسقلاني ولا غيرهم. أما توجيه التهم الباطلة ونسبة الأمور المخالفة لعالم من العلماء بغير إثبات, فليس لها قيمة في ميزان العلم, لأن سلاح الخصوم الجهلاء الافتراء على خصمهم, فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يسلم من التهم الباطلة كتهمة السحر والشعر, ولم يخف على أحد ما فعله أعداء الصحابة وما خلقوا لهم من المثالب والطعون التي هم أبرياء منها, وكذلك الأئمة رحمهم الله. وكون علماء عصره ردوا عليه, فأي قيمة لتلك الردود الباطلة التي لم تؤيد لا بنقل صحيح ولا بعقل رجيح, وقد رد المنتصرون للشيخ ابن تيمية رحمه الله على أولئك الطاعنين والرادين عليه, كالصارم المنكي في الرد على السبكي, وجلاء العينين في محاكمة الأحمدين, والرد الوافر, إلى غير ذلك من المؤلفات التي تنتصر للشيخ, وتزهق باطل خصومه, والبحث في هذا طويل, وكتبت فيه المؤلفات. والخلاصة: أنه لم يقل قولا يخالف القرآن أو السنة, لا في العقائد ولا في الفروع ولا في الأخلاق, نعم قد يخالف أحد المذاهب أو كلها في بعض المسائل القليلة لقوة الدليل, لأنه بلغ الاجتهاد المطلق, وكان الخصوم يعترفون, ويكفينا ثناء الأئمة الأعلام عليه سلفا وخلفا. وأما أن الشيخ ابن تيمية قد سجن, فقد سجن قبله الإمام أبو حنيفة, كما سجن الإمام أحمد وجلد, كما جلد الإمام مالك, فهل نقص ذلك من قيمتهم شيئا, بل ازدادوا رفعة ومقاما. وإذ قد سمعت وقرأت ما أوردته عليك, فيتبين لك أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بريء مما نسب إليه من التجسيم والتمثيل, وأن هذه التهمة من اختلاق أعدائه, لأن أعداءه رحمه الله كانوا كثيرين من الفقهاء والصوفية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وسائر الفرق الباطلة، لأنه نازل الجميع، وبين زيفهم وبطلان ما يعتقدون، وقد جاهد في الله حق جهاده لسانا وسنانا، بما لا يخفى إلا على جاهل أو متعصب أعماه الحقد والضغينة، فمن يشك فيما أقول، فليقرأ كتب الشيخ، فهذه رسالة الواسطية هي من أصغر الرسائل، طلب منه أهل واسط فكتب هذه الرسالة الكريمة المدعمة بالآيات والأحاديث في العقيدة الصحيحة، ووقعت على هذه الرسالة المناظرة بينه وبين علماء عصره في مجلسين أو ثلاث، ولم يستطع أحد منهم أن ينتقد كلمة واحدة، بل سلموا له الأمر، واعترفوا بعلمه الواسع وعقيدته الصحيحة، فليقرأ من يريد تراجم الشيخ في الكتب التي اعتنت بترجمته حتى يعرف تلك المناظرة. وأما الرسالة فهي مطبوعة ومنتشرة في سائر الأرجاء، ثم الحموية التي ذكرتها، ثم شرح النزول، وله من المؤلفات الشيء الكثير، وكثيرا ما يتطرق إلى العقائد كمنهاج السنة النبوية، ودرء التعارض بين المعقول والمنقول. وهكذا شأن الخصوم إذا عجزوا في ميدان الحجج اختلقوا الأكاذيب والترهات، ولما جاء دور الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لم يستطيعوا أن يثبتوا عليه حرفا واحدا بأنه خالف الكتاب والسنة، ولهذا اختلقوا هذه الافتراءات والترهات التي هي أشبه بأساطير الأولين. والشيخ ابن تيمية وأتباعه، والشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، ومن يدين بعقيدة السلف، إذا قالوا شيئا أثبتوه بالدلائل المسلمة. وأما الخصوم، فليس عندهم إلا الكلام الباطل، فإذا اجتهدوا كل الاجتهاد، وبذلوا كل الوسع، أتوا بحديث إما أن يكون موضوعا أو ضعيفا لا يحتج بهما، وبعد اللتيا والتي يأتون بآية لا تدل على مرامهم مثل استدلالهم على التوسل بقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وفي مقام الأولياء قول الله تعالى {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فالآية الأولى سبق الكلام عنها، والآية الثانية لأن تكون حجة عليهم أولى من أن تكون لهم حجة، إذ ليس فيها إلا بيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 صفات الأولياء، بأنهم من المؤمنين والمتقين، فأين الكرامات المختلقة لهم، وأين التوسلات والاستغاثات الشركية، لكن الأمر كما قيل: إذا أخذ ما وهب ... سقط ما وجب الجواب عن العنصر الثالث: الخلف لم ينتهجوا منهج السلف، فأثبتوا صفات المعاني والمعنوية، وأولوا الصفات الخبرية كالاستواء والنزول واليدين، فهذا التأويل لا يستطيعون أن يثبتوا عليه دليلا من القرآن ولا من السنة ولا من أقاويل الصحابة ولا من التابعين ولا من الأئمة، وإنما أخذوه متأثرين من آراء المعتزلة والجهمية الذين فكروا بعقولهم إننا لو أنكرنا النصوص القرآنية في الصفات الإلهية كفرنا، ولو أثبتنا ونحن عندنا من علم الفلسفة والمنطق ما يقودنا إلى عدم إثبات هذه الصفات، فالأولى أن تؤول ونلتمس من اللغة العربية، ما يكون لنا مسوغا فأخذوا من قول الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق بأن معناه قد استولى وأخذوا من قول العرب لفلان على فلان يد بمعنى نعمة وفلان له يد طولى في العلم أو القوة أو الحكم. فأولوا تلك الصفات مستندين إلى ذلك والحال أنه قد رد العلماء تأويلاتهم بما لا يدع شكا إنها مبنية على شفا جرف هار، وقد بسط الحافظ ابن القيم في الصواعق المرسلة بما لا مزيد بعده ولا نطيل به الكلام. ثانيا: أنهم زعموا أنهم اتبعوا أبا الحسن الأشعري وقد كان إماما عظيما وهو بريء من هذه التأويلات، وكتابه الإبانة، وكتابه مقالات الإسلاميين، يبرهنان أوضح برهان أن الإمام أبا الحسن رجع عن هذه الآراء لأنه كان أولا معتزليا صرفا ثم رجع وتوسط بين المذهبين، أثبت بعض الصفات وأول بعض الصفات، ثم رجع أخيرا إلى مذهب السلف كما ترجم له الشيخ تاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الدين السبكي وابن عساكر وشارح الإحياء وبين هؤلاء كلهم أنه رجع سلفيا. أما جواب العنصر الرابع: فالجواب من وجوه: أحدها: نقول للمعطل، هل تقر بوجود الله تعالى أم لا؟ فإن قال لا فهو كافر بالربوبية، فيجب علينا حينئذ إقامة الأدلة على ربو بيته تعالى. وأن أقر بوجود الله، فيقال له هل وجوده كوجودنا؟ فمن اليقين أن يقول لا كوجودنا، بل له وجود يخصه، فنقول له فكذلك صفاته ليست كصفاتنا، لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات. فكما أن ذاته ليست كذوات غيره، فكذلك صفاته ليست كصفات غيره، وليعلم المعطل أن اشتراك شيئين في مطلق اسم لا يوجب اتحادهما في الحقيقة. فإذا قيل أن العرش موجود، والذباب موجود، فهل يفهم عاقل أن وجود العرش كوجود الذباب؟ وكذلك إذا قيل بأن الله موجود، والمخلوق موجود، لا يفهم من هذا أن وجوده تعالى كوجود المخلوق. وإذا قلنا لله علم، ولبعض المخلوق علم، لم يكن علمه تعالى كعلم المخلوق، وهكذا القول في سائر الصفات. وإن أقر بالوجود، وزعم أن وجوده لا يستلزم التشبيه لأنه واجب عقلا ونقلا، وأنكر بقية الصفات أو أولها لاستلزامها ما ذكر بحجة أن العقل يحيلها، لاستلزامها الحدوث. فيجاب: ليس الأمر كما زعمت، لأننا نقول: الموجود إما أن يكون جسما أو عرضا، والله موجود فيلزم أن يكون أحدهما، فإن اعترفت بأحدهما فذلك المحذور بعينه، وإن استطعت أن تقول أنه تعالى ليس جسما ولا عرضا ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 مماثلا لغيره، فقل كذلك صفاته الثابتة في القرآن والسنة ليست كصفات غيره، ومجرد قولك يلزم هذا ولا يلزم هذا، لا يقبل إلا بدليل مسلم به. والمقصود أن فتح باب التأويل يوجب هدم الشريعة، إذ مادمت تسوغ التأويل في باب أسماء الله وصفاته، لا يمكنك أن تنكر على مبطل، لأنك إن أنكرت على قرمطي في تأويله لنصوص التكاليف ونصوص المعاد يجبك إني أولتها كما أولت في الصفات، ولا يعقل نفي تأويلي وقبول تأويلك، وإذا أنكرت على المرجئة, وبينت لهم نصوم الوعيد, أجابوك بتأويل النصوص، وأن المقصود منها التخويف فقط، وأنت قائل بالأقاويل التي أعظم من هذه. وإن أنكرت على من سب الصحابة رضي الله عنهم، وكفروهم وأوردت لهم النصوص الدالة على فضلهم قالوا لك: إنها مؤولة. فإذا قلت تأويلكم غير مقبول، قالوا لك: كيف يقبل منك التأويل الذي يرجع إلى الخالق، ولا يقبل منا ما يرجع إلى المخلوق. والحاصل: إنه لا يمكن للمؤول أن ينكر على مبطل أو يناظره، إلا ويناضله بسلاح ذلك المناضل حتى ينتصر عليه، وهل فتح هذا الباب إلا هدم لأساس الدين. إن القرآن قد أنزله الله لهداية البشر وإخراجهم من ظلمات الوثنية والإلحاد والشرك إلى نور الإيمان والتوحيد والإسلام، وتقديس الله وتنزيهه عما لا يليق بجلاله. وأمر الله نبيه بالتبليغ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، ووصف القرآن بأن فيه البيان لكل شيء، فقال {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} . بين الرسول صلى لله عليه وسلم هذه التأويلات التي زعموها؟ وقد اهتدى بالقرآن والنبي صلى لله عليه وسلم ملايين البشر، وصاروا بعد تلك الوثنية والكفريات من المؤمنين المنزهين لله تعالى، فلو كان ظاهر تلك الآيات، دالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 على التمثيل والتجسيم، لما كانوا منقولين من الوثنية والكفر، إذ هذا هو الوثنية بعينها، ولا كان هناك معنى لهداية البشر، ولا فائدة في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم. ولا يخفى أن في هذا طعنا في القرآن والرسول، إذ قد أتيا بما يدل على التجسيم والتشبيه كما يلزم الطعن في المسلمين السابقين والعلماء الراسخين والعوام الموحدين، لأنهم اعتقدوا ما دلت عليه الآيات والأحاديث. فإن قالوا: لا نقول بموجب ذلك، بل نبرأ إلى الله مما هنالك، بل قصدنا تنزيه الله وبعده عن النقائص. قلنا لا بأس، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أحق منكم بالتنزيه، والمسلم لا يكون مسلما إلا بإقراره بالله وتوحيده، وتنزيهه عن الكفء والمثيل، ولكن لا ينزه الله عما وصف به نفسه، وأنتم قد نزهتموه عن الصفات التي وصف بها نفسه، فلو كان ما تقولون حقا لنزهه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أصحابه رضوان الله تعالى عليهم بمثل ما نزهتموه به، ولكن لم يثبت شيء من ذلك. ولو كان ما تقولون حقا لبينه النبي صلى لله عليه وسلم للأمة وهو مأمور بالبيان والتبليغ، فيلزم من قولكم أنه لم يبين ما هو واجب البيان، وهذا طعن في الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الله تعالى في الآية آنفة الذكر، إنه تبيان لكل شيء، فأين بيان الله عز وجل لهذه التأويلات، وأين بيان الرسول صلى لله عليه وسلم؟ وكيف يبين الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة كل ما يحتاجون إليه، حتى آداب قضاء الحاجة، ولا يبين لهم ما يعتقدونه في ربهم ومعبودهم. وإذا كان ظاهر النصوص يدل على التشبيه والتجسيم، ومن العلوم أن التجسيم والتشبيه ضلال، والضلال نقيض الهدى، فأين قول الله تعالى في وصف كتابه {هُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} ؟ وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وكيف يقول {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وهل يأمر الله تعالى باتباع الضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فنسبة التجسيم إلى القائل وهو الله والرسول أولى منا لأننا راوون لما قال الله وقاله رسوله، ومعتقدون ما أخبر الله به ورسوله، ولم يقل الله ورسوله لا تعتقدوا بظواهر هذه الآيات لأنها تدل على التجسيم والتمثيل، واستدلالكم ب {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} جوابنا: إن هذه الآية حجة عليكم لأن صدرها ينفي المثلية ويرد على الممثلة والمشبهة، وعجزها يثبت كونه سميعا بصيرا، وفيه رد على المعطلة. ولم يقل أحد من السلف بأن صفاته كصفات غيره، حتى تلزموهم بالتمثيل والتجسيم، بل ينزهون الله أعظم من تنزيهكم، ويثبتون له أوصافه السنية كما جاء في القرآن والسنة النبوية، ويقرنون بعدم التكييف والتمثيل أ. هـ.1   1 من العقائد السلفية للمؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فصل في ثناء بعض العلماء على شيخ الإسلام ابن تيمية 1- ابن سيد الناس فمنهم الشيخ الإمام الحافظ الفقيه العالم الأديب البارع فتح الدين أبو الفتح محمد ابن الحافظ العلامة الخطيب أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الله ابن محمد بن يحيى بن أبي القاسم بن سيد الناس اليعمري الأندلسي الإشبيلي، ثم المصري الشافعي1. قال الحافظ أبو عبد الله بن أحمد بن عبد الهادي2، قال الحافظ فتح الدين أبو الفتح ابن سيد الناس اليعمري المصري، بعد أن ذكر ترجمة شيخنا الحافظ المزي: وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظا، وكاد أن يستوعب السنن والآثار حفظا. إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو حامل رايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه، كان يتكلم في التفسير، فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويردون من بحره العذب النمير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أن دب إليه من أهل بلده داء   1 ولد بالقاهرة في العشر الأول من ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وستمائة، وتوفي يوم السبت حادي عشر شعبان سنة أربع وثلاثين وسبعمائة بالقاهرة, وصلي عليه من الغد ودفن عند ابن أبي حمزة, وكانت جنازته مشهودة, وله مصنفات مفيدة, ومؤلفات حميدة, منها كتاب "النفح الشذي في شرح كتاب الترمذي". 2 انظر "العقود الدرية" ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الحسد، وأكب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلاما أوسعوه بسببه ملاما، وفوقوا لتبديعه سهاما، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازع طائفة أخرى ينسبون من الفقر إلى طريقه، ويزعمون أنهم على أدق باطن منها وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها على ما زعم بوائق، فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فرتبوا محاضر، وألبوا الرويبضة للسعي بها بين الأكابر، وسعوا في نقله إلى حاضرة المملكة بالديار المصرية فنقل، وأودع السجن ساعة حضوره واعتقل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قوما من عمار الزوايا وسكان المدارس، من مجامل في المنازعة، مخاتل بالمخادعة، ومن مجاهر بالتكفير مبارز بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون، {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} ، وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالا من المخاتل، وقد دبت إليه عقارب مكره، فرد الله كيد كل في نحره، ونجاه على يد من اصطفاه {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} . ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة، إلى أن فوض أمره إلى بعض القضاة فتقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} ، وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 2- ابن عبد الهادي ومنهم الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد ذو الفنون عمدة المحدثين متقن المحررين شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ عماد الدين أبي العباس حمد بن عبد الهادي بي عبد الحميد بي عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الصالحي الحنبلي1 قال ابن عبد الهادي في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية: هو الشيخ الإمام الرباني إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيد الحفاظ وفارس المعاني والألفاظ فريد العصر، وحيد الدهر، شيخ الإسلام، بركة الأنام، علامة الزمان، وترجمان القرآن، علم الزهاد، وأوحد العباد، قامع المبتدعين وآخر المجتهدين، تقي الدين، أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم ابن الشيخ الأمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القمم الخضر محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله ابن تيمية الحراني، نزيل دمشق، وصاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها ولا يلحق في شكلها توحيدا أو تفسيرا وإخلاصا وفقها وحديثا ولغة ونحوا وبجميع العلوم كتبه طافحة بذلك. ولقد ترجمه ابن عبد الهادي بشيخ الإسلام مرارا كثيرة، وذكر من مناقبه في ترجمته أشياء خطيرة، وعد كثيرا من مصنفاته، ونص على نفائس من مؤلفاته، وذكره في كتابه "طبقات الحفاظ" بترجمة مختصرة ونعوت جامعة محررة، من وصف الأئمة الشيخ تقي الدين.   1 ولد في شهر رجب سنة أربع وقيل سنة خمس وقيل سنة ست وسبعمائة, وتوفي رحمه الله في عاشر جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وسبعمائة، ودفن بسفح قاسيون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 3- الذهبي ومنهم الشيخ الإمام الحافظ الهمام مفيد الشام ومؤرخ الإسلام، ناقد المحدثين وإمام المعدلين والمجرحين، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله التركماني الفارقي الأصل الدمشقي ابن الذهبي الشافعي1 ومشيخته بالسماع والإجازة نحو ألف شيخ وثلاثمائة شيخ يجمعهم "معجمه الكبير" وكان آية في نقد الرجال. عمدة في الجرح والتعجيل، عالما بالتفريع والتأصيل، إماما في القراءات فقيها في النظريات له دربة بمذاهب الأئمة وأرباب المقالات، قائما بين الخلف بنشر السنة ومذهب السلف وقال الحافظ علم الدين أبو محمد القاسم ابن البرزالي: رأيت في إجازة لابن الشهرزوري الموصلي خط الشيخ تقي الدين ابن تيمية، قد كتب تحته الشيخ شمس الدين الذهبي: هذا خط شيخنا الإمام شيخ الإسلام فرد الزمان، بحر العلوم تقي الدين، مولده عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وقرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ، برع في العلم والتفسير، وأفتى ودرس، وله نحو العشرين وصنف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار، التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره في أيام الجمع، وكان يتوقد ذكاء، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله وصحته وسقمه، فما يلحق فيه، وأما نقله للفقه، ومذاهب الصحابة والتابعين، فضلا عن المذاهب الأربعة، فليس   1مولده فيما وجد بخطه في سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وتوفي ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، ودفن من الغد بمقبرة الباب الصغير من دمشق رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنحل، والأصول والكلام، فلا أعلم له فيه نظيرا ويدري جملة صالحة من اللغة، وعربيته قوية جدا، ومعرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب، وأما شجاعته وجهاده وإقدامه، فأمر يتجاوز الوصف، ويفوق النعت، وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يضرب بهم المثل، وفيه زهد وقناعة باليسير في المأكل والملبس. انتهى. وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي مرة أخرى في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية: وله باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين، وقل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأربعة، وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنف فيها، واحتج لها بالكتاب والسنة، ولما كان معتقلا بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له مروياته، وينص على أسماء جملة منها، فكتب في عشر ورقات جملة من ذلك بأسانيدها من حفظه، بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر محدث يكون، وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معين، بل بما قام الدليل عليه عنده، ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات، وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه، وبدعوه وناظروه وكاتبوه وهو ثابت، لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال مع ما اشتهر منه من الورع وكمال الفكر وسعة الإدراك، والخوف من الله العظيم، والتعظيم لحرمات الله فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة فينجيه الله تعالى، فإنه دائم الابتهال كثير الاستغاثة، قوي التوكل ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدبجها بكيفية وجمعية، وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء وسائر العامة تحبه، لأنه منتصب لنفعهم ليلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ونهارا بلسانه وقلمه. وأما شجاعته فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال، فلقد أقامه الله في نوبة غازان والتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد وطلع وخرج، واجتمع بالملك مرتين وبخطلوشاه، وببولاي، وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجراءته على المغول، وله حدة قوية تعتريه في البحث حتى كأنه ليث حرب، وهو أكبر من أن ينبه على نعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت: أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم. 4- ابن دقيق العيد ومنهم الشيخ العلامة الإمام أحد شيوخ الإسلام، قاضي قضاة المسلمين، تقي الدين عمدة الفقهاء والمحدثين، أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري المنفلوطي المالكي الشافعي ابن دقيق العيد1 كان إماما حافظا فقيها ذا تحرير، مالكيا شافعيا ليس له نظير، وكان يفتي بالمذهبين ويدرس فيهما بمدرسة الفاضل على الشرطين، وله اليد الطولى في معرفة الأصلين، ومن مؤلفاته كتاب "الإلمام في الأحكام" وكتاب "الأربعين في الرواية عن رب العالمين". لما قدم التتار – خذلهم الله تعالى – سنة سبعمائة إلى أطراف البلاد الشامية، وكانت العساكر المصرية قد خرجت لقتالهم، ثم قوي عليهم المطر وشدة البرد فرجعوا متوجهين إلى مصر، فبلغ ذلك الشيخ تقي الدين ابن تيمية فركب على البريد من دمشق، وساق ليلحق السلطان قبل دخوله إلى مصر   1 توفي سنة اثنتين وسبعمائة، روى عن ابن المقير وابن الجميزي وابن رواج وآخرين، وعنه المزي والقطب الحلبي، وغيرهما من المحدثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فسبقه الجيش ودخل إلى القاهرة، فدخلها الشيخ تقي الدين ابن تيمية في اليوم الثامن من خروجه من دمشق، وكان دخوله مع دخول بعض العساكر إلى القاهرة يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى سنة سبعمائة فاجتمع بالشيخ أعيان البلد ومنهم تقي الدين ابن دقيق العيد فسمع كلام الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقال له بعد سماع كلامه: ما كنت أظن أن الله تعالى خلق مثلك، وسئل الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد بعد انقضاء ذلك المجلس عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية فقال: هو رجل حفظة، فقيل له: فهلا تكلمت معه؟ فقال: هذا رجل يحب الكلام وأنا أحب السكوت وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد أيضا: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد. أ. هـ.1 وما ذكرناه من ثناء العلماء قطرة من بحر، ولو أردنا أن نذكر ثناء الكثيرين لتطلب منا كتابا، ولكن من أراد المزيد، فليرجع إلى الرد الوافر والعقود الدرية في مناقب الشيخ ابن تيمية.   1 من "ابن تيمية" د. محمد يوسف موسى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فصل في بيان أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم ينفرد لا هو ولا شيخ الإسلام ابن تيمية بكفر من أشرك بعبادة غير الله وهاك النقول من كلام العلماء المحققين سلفا وخلفا: قال الشيخ أحمد بن علي المقريزي سنة 854 هجرية بعد كلام سبق: وشرك الأمم نوعان: شرك في الإلهية وشرك في الربوبية، فالشرك في الإلهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك، وهو شرك عباد الأصنام وعباد الملائكة وعباد الجن وعباد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات الذين قالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ويشفعوا لنا عنده، وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قرب وكرامة، كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه وخاصته. والكتب الإلهية كلها من أولها إلى آخر ها تبطل هذا المذهب وترده وتقبح أهله، وتنص على أنهم أعداء الله تعالى، وجميع الرسل صلوات الله عليهم متفقون على ذلك من أولهم إلى آخر هم، وما أهلك الله تعالى من أهلك من الأمم إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله، وأصله الشرك في محبة الله، قال تعالى {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} فأخبر سبحانه وتعالى أنه من أحب مع الله شيئا غيره كما يحبه، فقد اتخذ ندا من دونه، وهذا على أصح القولين في الآية، أنهم يحبونهم كما يحبون الله وهذا هو العدل المذكور فيقوله تعالى {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، والمعنى على أصح القولين أنهم يعدلون به غيره في العبادة، فيسوون بينه وبين غيره في الحب والعبادة، وكذلك قول المشركين في النار لأصنامهم {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ومعلوم قطعا أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونه ربهم وخالقهم، فإنهم كانوا كما أخير الله عنهم مقرين بأن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 تعالى وحده هو ربهم وخالقهم، وأن الأرض ومن فيها لله وحده، وأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم وأنه سبحانه وتعالى هو الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وإنما كانت التسوية بينهم وبين الله تعالى في المحبة والعبادة، فمن أحب غير الله تعالى وخافه ورجاه وذل له كما يحب الله تعالى ويخافه ويرجوه، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله، فكيف بمن كان غير الله آثر عنده وأحب إليه وأخوف عنده وهو في مرضاته أشد سعيا منه في مرضاة الله، فإذا كان المسوي بين الله وبين غيره في ذلك مشركا، فما الظن بهذا، فعياذا بالله من أن ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام، كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه مسلم موحد، فهذا أحد أنواع الشرك. ثم ذكر النوع الثاني من الشرك وهو الشرك به تعالى في الربوبية، كمن جعل معه خالقا آخر كالمجوس وغيرهم، الذين يقولون أن للعالم ربين أحدهم خالق الخير والآخر خالق الشر .... إلى أن قال: وكثيرا ما يجتمع الشركان في العبد وينفرد أحدهما عن الآخر، والقرآن الكريم بل الكتب المنزلة من عند الله تعالى كلها مصرحة بالرد على أهل هذا الإشراك كقوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، فإنه ينفي شرك المحبة والإلهية، وقوله {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فإنه ينفي شرك الخلق والربوبية، فتضمنت هذه الآية تجريد التوحيد لرب العالمين في العبادة، وأنه لا يجوز إشراك غيره معه، لا في الأفعال ولا في الألفاظ ولا في الإرادات، فالشرك به في الأفعال كالسجود لغيره سبحانه وتعالى، والطواف بغير بيته المحرم، وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره تعالى، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود، وتقبيل القبور واستلامها والسجود لها، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، فكيف من اتخذ القبور أوثانا تعبد من دون الله تعالى، قال تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما صنعوا، وفيه أيضا: "إن من شرار الناس من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 تدركهم الساعة وهم أحياء الذين يتخذون القبور مساجد". وفيه أيضا عنه صلى الله عليه وسلم: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك". ثم عدد بعض أنواع الشرك، كالسجود لغير الله، والحلف بغير الله وقول القائل: أنا متوكل على الله وعليك، ومالي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذه الكلمات من شرك الألفاظ. وأخذ المقريزي يحدثنا إلى أن قال: وأما الشرك في الإرادات والنيات، فذلك البحر الذي لا ساحل له وقل من ينجو منه. فمن نوى بعمله غير وجه الله، لم يقم بحقيقة قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فاستمسك بهذا الأصل ورد ما أخرجه المبتدعة والمشركون إليه تتحقق معنى الكلمة الإلهية. وهنا أورد سؤالا ملخصه: أن هؤلاء لم يقصدوا الاستهانة بجناب الربوبية عندما جعلوا وسائط بينهم وبين الله كالأولياء والصلحين، وإنما قصدوا تعظيمه، لأنهم جعلوا الوسائط لتقربهم إليه تعالى، فلم كان هذا القدر موجبا لغضب الله ومخلدا في النار، وموجبا لسفك دماء أصحابه، واستباحة حريمهم وأموالهم، وأطنب في الكلام وأجاب بجواب مسهب وملخصه كالآتي: أن هؤلاء الذين جعلوا وسائط بينهم وبين الله شبهوا الخالق بالمخلوق، وشبهوا المخلوق بالخالق. أما تشبيه الخالق بالمخلوق، فإنهم شبهوه بملوك البشر بحيث إنهم يقبلون شفاعة الوسطاء من الوزراء والأغنياء وذوي الجاه في العفو عمن يستحق القتل أو كالسجن أو نحو ذلك، حيث إن القبوريين يقولون إننا نتوسل بالأنبياء والصالحين نستغيث بهم لأن لهم جاها ومقاما كبيرا عند الله، وهم الواسطة بيننا وبين الله لقبول دعائنا، وقد قال الله تعالى مخبرا عن المشركين {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . أما تشبيه المخلوق بالخالق فتوضيحه أن يقال: أن من اعتقد في مخلوق حي أو ميت، نبيا كان أو وليا أو ملكا أو جنيا أو جمادا كالشمس والقمر والبحر، أنه يضر وينفع ويجيب السائلين، ويقضي حوائج الداعين أو يعتقد في الأنبياء والأولياء التصرف في الكون، كاعتقادهم في الغوث الأعظم والأبدال والنجباء، فإنه قد شبه المخلوق بالخالق، إذ هذه الصفات وهي النفع والضر وقضاء حاجة المحتاج فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى وإجابة المستغيث ونحو ذلك من خصائص الألوهية وليس للمخلوق ذرة في ذلك، قال الله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} ، وقال تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . فتأمل الآية أدنى تأمل لتعرف أن الأنبياء والرسل فضلا عن الأولياء وغيرهم مملوكون ومخلوقون ومدبرون لله سبحانه وتعالى. وهل يقبل عقل أن يمنح المخلوق صفات الخلق أو بعض صفاته، تعالى الله عما يقول المشركون علوا كبيرا، ولهذا تبرأ المسيح عيسى ابن مر يم ممن يعبده، فقال تعالى {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ, مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أ. هـ. قال الرازي في مفاتيح الغيب: الأكثرون من المفسرين قالوا ليس المراد من الأرباب إنهم اعتقدوا أمهم آلهة العلم، بل المراد أنهم أطاعوهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 أوامرهم ونواهيهم, قال الربيع: قلت لأبي العالية كيف كان تلك الربوبية في بني إسرائيل: فقال: إنهم ربما وجدوا من كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان, فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى. قال ابن بلدجي في شرح المختار: ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به, فلا يقول أسألك بفلان أو بملائكتك أو أنبيائك أو نحو ذلك, لأنه لا حق للمخلوق على خالقه, أو يقول في دعائه أسألك بمعقد العز من عرشك, وعن أبي يوسف جوازه لما يروى أنه عليه الصلاة والسلام دعا بذلك, ولأن معقد العز من العرش إنما يراد به القدرة التي خلق الله تعالى بها العرش مع عظمته, فكأنه سئل بأوصافه. وما قال فيه أبو حنيفة وأصحابه: أكره كذا, فهو عند محمد حرام, وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب, وجانب التحريم عليه أغلب. فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله تعالى به والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه, وأنحج في قضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله تعالى والنذر له, ثم ينقله بعد ذلك درجة أخرى أن يتخذ قبره وثنا يعكف عليه ويوقد عليه القنديل والشمع, ويعلق عليه الستور, ويبني عليه المسجد ويعبده بالسجود له والطواف به وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده, ثم ينقله درجة أخرى وإلى عبادته واتخاذه عيدا أو منسكا وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم, وقال في النهر الرائق: اعلم أن الشيخ قاسما, وهو من أكابر العلماء الحنفية رحمهم الله تعالى قال في شرح درر البحار: إن النذر الذي يقع من أكثر العوام, بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان إن رد غائبي أو عوفي مريضي فلك كذا, باطل إجماعا لوجوه .... الخ إلى أن قال: ومنها الظن أن الميت يتصرف في الأمور, واعتقاد هذا كفر, والمسلم لا يطلب حاجته من غير الله, فإن من طلب حاجته من ميت أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 غائب فقد فارق الإسلام. وممن صرح بهذه المسألة من علمائننا الحنفية صاحب الفتاوى البزازية, والعلامة صنع الله الحلبي المكي, وصاحب البحر الرائق, وصاحب الدر المختار, والعلامة قاسم بن قطلوبغا, والعلامة بير علي البركوي صاحب الطريقة المحمدية, وأبو سعيد الخادمي, ومولوي عبد الحي اللكنوي, وغيرهم رحمهم الله أجمعين. أ. هـ1 قال العلامة محيي الدين محمد البركوي الحنفي: فإن قيل فما الذي أوقع عباد القبور في الافتتان بها مع العلم بأن ساكنيها لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. قيل أوقعهم في ذلك أمور, منها الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله, بل جميع الرسل, من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك, فالذين قل نصيبهم من ذلك إذا دعاهم الشيطان إلى الفتنة بها, ولم يكن لهم من العلم ما يبطل دعوته, استجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل, وعصموا بقدر ما معهم من العلم. ومنها أحاديث مكذوبة مختلفة, وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهي تناقض دينه وما جاء به كحديث "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه" وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام, وضعها عباد القبور, وراجت على أشباههم من الجهال والضلال, والله تعالى تعث رسوله صلى الله عليه وسلم لقتل من حسن ظنه بالأحجار وجنب أمته الفتنة بالقبور بكل طريق. وذهب يتحدث إلى أن قال: وكثير من الناس يدعو دعاء يعتدي فيه أو يشرك أو يكون فيه ما لا يجوز   1 من "حكم الله الواحد الأحد" للمعصومي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أو يسأل, فيحصل له ذلك كله أو بعضه, فيظن أن عمله صالح مرضي عند الله تعالى, ويكون كمن أملى له, وأمده بالمال والبنين, وهو يظن أن الله تعالى يسارع له في الخيرات, وقد قال الله تعالى {َلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} , فالدعاء قد يكون عبادة فيثاب عليه الداعي, وقد يكون مسألة تقضي حاجته, ويكون مضرة عليه إما أن يعاقب بما يحصل له أو ينقص به درجته, فإنه تعالى يقضي حاجته ويعاقبه على ما جرأ عليه من إضاعة حقوقه وارتكاب حدوده. ثم قال بعد كلام: وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك فقال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله تعالى إلا به, قال وأكره أن يقول أسألك بمعقد العز من عرشك, وأكره أن يقول بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام. قال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله فمنكرة في قولهم لأنه لا حق لغير الله عليه, وإنما الحق لله تعالى على خلقه. قال أبو عبد الله الحليمي رحمه الله من الشافعية: الغياث هو المغيث وغياث المستغيثين هو الله تعالى فالاستغاثة من المخلوق فيما لا يقدر عليه لا يجوز. بل يكون كفرا إذا قامت عليه الحجة. وأما الاستعانة فهو طلب العون, ولا خلاف أنه يجوز أن يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه من أمور الدنيا, كأن يستعين به أن يحمل معه متاعه أو يعلف دابته أو يبلغ رسالته, كما في قوله تعالى {َتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} , وأما ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله فلا يستعان فيه إلا به, ومنه {ِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في تطهير الاعتقاد عن درن الإلحاد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الرسل مبعوثون للدعوة إلى إفراد الله بالعبادة, فاعلم أن الله تعالى بعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة, لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه, إذ هم مقرون بذلك كما قررناه, ولذا قالوا: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} . أي لنفرده بالعبادة, ويخصه بها من دون آلهتنا؟ فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله, ولم ينكروا الله تعالى, ولا قالوا: إنه لا يعبد, بل أقروا بأنه يعبد, وأنكروا كونه يفرد بالعبادة, فعبدوا مع الله غيره, وأشركوا معه سواه, واتخذوا معه أندادا, كما قال الله تعالى {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} , أي وأنتم تعلمون أنه لا ند له, وكانوا يقولون في تلبيتهم للحج, لبيك لا شريك لك, إلا شريكا هو لك, تملكه وما ملك. ثم قال بعد كلام مضى: ومن هذا تعرف أن التوحيد الذي دعتهم إليه الرسل من أولهم هو نوح عليه السلام إلى آخرهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم وهو توحيد العبادة, ولذا تقول لهم الرسل: أن لا تعبدوا إلا الله {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . وقد كان المشركون منهم: من يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد, ومنهم من يعبد أحجارا ويهتف بها عند الشدائد, فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى عبادة الله وحده, بأن يفردوه بالعبادة كما أفردوه بالربوبية, أي بربوبية السموات والأرض, وأن يفردوه بمعنى ومؤدى كلمة "لا إله إلا الله" معتقدين لمعناها, عاملين بمقتضاها, وأن لا يدعوا مع الله أحدا. وأخذ الشيخ في الكلام على توحيد الألوهية إلى أن قال: فإفراد الله بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله, والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده, والاستعانة بالله وحده, واللجوء إلى الله والنذر والنحر له تعالى, وجميع أنواع العبادات من الخضوع والقيام تذللا لله تعالى, والركوع والسجود والطواف والتجرد عن الثياب والحلق والتقصير كله لا يكون إلا لله عز وجل, ومن فعل شيئا من ذلك لمخلوق حي أو ميت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 أو جماد أو غيره, فقد أشرك في العبادة, وصار من تفعل له هذه الأمور إلها لعابديه سواء كان ملكا أو نبيا أو شجرا أو قبرا أو جنيا أو حيا أو ميتا, وصار العابد بهذه العبادة أي نوع منها عابدا لذلك المخلوق مشركا بالله وإن أقر بالله وعبده, فإن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك, وعن وجوب سفك دمائهم, وسبي ذراريهم, وأخذ أموالهم غنيمة, وجاء في الحديث القدسي "أنا أغنى الشركاء عن الشرك" , وفي الحديث القدسي أيضا: "لا يقبل الله عملا شورك فيه غيره, ولا يؤمن به من عبد معه غيره". قال العلامة الشوكاني بعد كلام سبق: وإذا تقرر هذا فلا شك أن من اعتقد في ميت من الأموات أو حي من الأحياء أنه يضره أو ينفعه, إما استقلالا أو مع الله تعالى أو ناداه أو توجه إليه أو استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق, فلم يخلص التوحيد لله لا أفرده بالعبادة, ولا فرق بين أن يكون هذا المدعو من دون الله أو معه حجرا أو شجرا أو ملكا أو شيطانا كما كان يفعل ذلك الجاهلية وبين أن يكون إنسانا من الأحياء أو الأموات كما يفعله كثير من المسلمين, وكل عالم يعلم هذا ويقر به, فإن العلة واحدة وعبادة غير الله تعالى وتشريك غيره معه يكون للحيوان كما يكون للجماد وللحي كما يكون للميت, فمن زعم أن ثم فرقا بين من اعتقد في وثن من الأوثان, أنه يضر أو ينفع أو يقدر على أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى وبين من اعتقد في نبي أو ولي مثل ذلك, فقد غلط وأقر على نفسه بجهل كثير, فإن الشرك هو دعاء غير الله فيما يختص به تعالى أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه, أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه. قال في الإقناع وشرحه: من بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم كفر إجماعا, لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام, قال الإمام أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الوفاء علي بن عقيل الحنبلي رحمه الله تعالى: إن من يعظم القبور ويخاطب الموتى بقضاء الحوائج ويقول يا مولاي ويا سيدي عبد القادر, افعل لي كذا, فهو كافر بهذه الأوضاع, ومن دعا ميتا وطلب قضاء الحوائج منه فهو كافر. وقال العلامة ابن حجر في شرح الأربعين له: من دعا غير الله فهو كافر. قال الشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا في تفسير هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } الآية، قال: الأحبار جمع حبر وهو العالم، والرهبان جمع راهب ومعناه في اللغة الخائف، والمعنى: اتخذ كل من اليهود والنصارى رؤساء الدين فيهم أربابا، فاليهود اتخذوا أحبارهم وهم علماء الدين فيهم أربابا بما أعطوهم من حق التشريع فيهم وأطاعوهم فيه، والنصارى اتخذوا رهبانهم أي عبادهم الذين يخضع العوام لهم أربابا كذلك، والأظهر أن يكون المراد من الأحبار والرهبان جملة رجال الدين في الفريقين أي من العلماء والعباد، وروى الترمذي وحسنه وأحمد وابن جرير عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سمع {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، قال: فقلت إنهم لم يعبدوهم، فقال بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذاك عبادتهم إياهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الشبهة الخامسة عشر: إن الوهابيين خالفوا المسلمين بمنعهم الإحتفال بالمولد النبوي الشريف ... الشبهة الخامسة عشرة إن الوهابيين مما خالفوا فيه المسلمين بمنعهم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف زاعمين أنه بدعة سيئة، وقد استحسنه العلماء وعملوا به منذ قرون عديدة في أكثر القرى والأمصار الإسلامية في ليلة الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام، ويحضر في هذا الاحتفال كثير من العلماء والوجهاء والأمراء والوزراء، ويستبشرون بتلك الليلة الشريفة وتتلى فيها قصة المولد الشريف، وتنشد فيها قصائد المدائح النبوية، وقد تمد الموائد بأنواع الأطعمة الفاخرة للغني والفقير، ويحصل بذلك الاحتفال بذكرى ولادته صلى الله عليه وسلم نهاية الفرح والسرور والأنس والحبور، يدل هذا الاحتفال الشريف على حب المحتفلين للرسول صلى الله عليه وسلم القائل: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". وقد استندوا في دعواهم إلى ما يلي: أولا: قد استنبط الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله من حديث: صوم النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء لما قدم المدينة ووجد اليهود يصومون فسألهم قالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى، فنحن نصومه شكرا لله، فقال صلى الله عليه وسلم: " فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه". فالذين يحتفلون بمولده باعثهم المحبة والفرح شاكرين الله تعالى على ما أنعم الله به على المسلمين من ولادة هذا الرسول الكريم والسيد العظيم الذي فضله الله على الخلائق أجمعين. ثانيا: ما أخرجه البيهقي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة خرج السيوطي في حسن المقصد لعمل المولد عليه، قال قد ظهر لي تخريجه -أي عمل المولد النبوي، على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة مع أنه قد ورد أن جده عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهارا للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريعا لأمته كما كان يصلي على نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده.. الخ كلام السيوطي وقد نقله عنه شارح "المواهب اللدنية" الزرقاني ج 1 ص 140، وذكر مثل ما سبق. ثالثا: ما جاء في حديث أن أبا لهب أعتق ثويبة لما بشرته بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم ويخفف الله عنه العذاب كل يوم اثنين. رابعا: قد ألف كثير من العلماء رسائل في استحسان المولد منهم العلامة السيوطي، وسمى رسالته "حسن المقصد في عمل المولد"، ومنهم ابن ناصر الدين الدمشقي في كتابه المسمى "مورد الصادي في مولد الهادي"، "وعرف التعريف بالمولد الشريف" لشمس الدين بن الجزري، وملا علي قاري في رسالته "المورد الروي في المولد النبوي" وغيرهم كثير ممن ألف في استحسان المولد النبوي. خامسا: ويكفينا في الرد على الوهابية ما ورد في الحديث "ما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن" وقد رأى أكثر المسلمين حسن قراءة المولد والاحتفال به، وكيف لا يستحسن وفي هذا الاحتفال ذكر ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، وكثرة الصلاة والسلام عليه من الحاضرين، ويتذكرون بتلك القراءة ما كان من إرهاصات نبوته ومعجزاته وحسن أخلاقه وسيرته، وهذه الأمور تزيد المؤمن إيمانا، وتنمي محبته في قلوب الحاضرين والباعثة على الاقتداء به كما يزيد السامعين المسلمين هذا الاحتفال الشريف فرحا وسرورا بمولده صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} . فترى أن الله أمرنا أن نفرح بالرحمة، والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم رحمة كما قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . فماذا في هذا من المضار والسيئات حتى تمنعه الوهابية وتبدع فاعله، أفلا يدل منعهم عن الاحتفال بالمولد على عدم محبتهم أو على الأقل ضعف محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الجواب عن الشبهة الخامسة عشرة والجواب ومن الله أستمد الصواب من وجوه: الأول: ليعلم القارئ أن قصة المولد باب من أبواب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه ينبغي للمسلم أن يقرأ سيرة هذا النبي الكريم، ويقف على تلك الأخلاق التي منحه الله إياها، حتى قال الله تعالى في حقه {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . وقد أجاد القائل: خلقت مبرأ من كل عيب ... فكأنك قد خلقت كما تشاء كما ينبغي للمسلم أن يقف على صفاته الكريمة ومعجزاته العظيمة وسيرته العاطرة وغزواته المظفرة وما إلى ذلك مما ذكر في السيرة، ليزداد إيمانا، وقد ألف العلماء قديما وحديثا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كتبا تفوق العد والإحصاء، ولكن هاهنا أمران: الأول: أنه ينبغي أن يعرف المسلم الصحيح من الضعيف من الموضوع مما سطر في كتب السير، والغث من السمين، وينبغي للمسلم الصحيح تمييز الذي صححه علماء الحديث المعتمد عليهم أو حسنوه، وأما قراءة ما هب ودب وما كان صحيحا وما كان ضعيفا، وما كان موضوعا ومكذوبا، فلا ينبغي أن يقرأ إلا ما كان صحيحا وهنا يتميز العالم من الجاهل والمحب للرسول صلى الله عليه وسلم من المدعى لهذا الحب، لأن كتب السيرة مشحونة بالضعيف والموضوع وفيها من الصحيح أيضا الشيء الكثير، فينبغي للقارئ الاعتناء بالصحيح والحسن، ولا يعتمد على مجرد ما يراه مكتوبا في كتاب منسوب إلى عالم من العلماء الأجلاء، لأن كثيرا من العلماء يوردون في مؤلفاتهم الصحيح والضعيف والموضوع، إما لأنه غير محقق أو لأنه يريد أن يورد كل ما في الباب اتكالا على فهم القارئ وتمييزه. أو ناقلا عن غيره جاعلا العهدة على المنقول عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 والأمر الثاني: أنه لا ينبغي الاقتصار على قراءة شيء من السيرة كقصة المولد في ليلة معينة في شهر معين كما يفعله الناس من عصور إلى اليوم في ليلة الثاني عشر من شهر ربيع الأول كما سيأتي بيانه، بل تقرأ سيرته الطاهرة في أي وقت أراده القارئ. فالشيخ محمد وأتباعه وجميع السلفيين والموحدين لا ينكرون قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بما فيها قصة المولد الشريف، وكيف وقد ألف الشيخ في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وابنه عبد الله كما سبق بيانه، وإنما ينكرون الاقتصار على ما ذكرت والاعتقاد بأن الاحتفال بالمولد في ليلة الثامن أو الثاني عشر من شهر ربيع الأول خاصة إنه مندوب أو بدعة حسنة يثاب فاعلها، وينكرون المولد لما مر بيانه، ولما يجري فيه من المنكرات كاختلاط الرجال بالنساء، ودق الطبول، واستعمال آلات الملاهي في بعض الأقطار، وكذلك ألعاب القمار والميسر إلى غير ذلك مما لا يخفى على من له عناية بهذا الشأن. والجدير بالذكر مما ينبغي أن يفهمه المسلم أن كثيرا من الكتب التي ألفت خصوصا في المولد النبوي الشريف ملئت بالأكاذيب والموضوعات، التي تخالف العقل وتسيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أولا، وإلى الدين الإسلامي ثانيا، ويقرأه الناس عالمهم وجاهلهم، ولم يحصل إنكار من العلماء ألا في قليل على ما جاء في تلك الكتب من الأقاويل الواهية والمدائح الغير صحيحة المزرية. وسأنقل للقارئ فيما يأتي مقتطفات من بعض الكتب المؤلفة في قصة المولد الشريف، وبيان ما فيها مما ليس بصحيح، بل من الموضوع والمكذوب، وفي بعضها من الشرك والضلال إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني: إنه من المسلم به عند العلماء أنه لا حجة في فعل أحد ولا في كلام أحد، عالما ذلك أو غير عالم، وإنما الحجة في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وما كل قول بالقبول مقابل ... ولا كل قول واجب الرد والطرد سوى ما أتى عن ربنا ورسوله ... فذلك قول جل ياذا عن الرد وأما أقاويل الرجال فإنها ... تدور على قدر الأدلة في النقد ونحن نتحدى أولئك المستحسنين للمولد النبوي والمنكرين على الشيخ محمد بن عبد الو هاب في إنكاره المولد بأن يأتوا بدليل من القرآن أو السنة الصحيحة أو الحسنة، أو من قول أو من فعل أحد الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين الذين اتفق أكثر المسلمين على علومهم وهدايتهم ودرايتهم واجتهادهم واتباعهم للشرع الأنور كالأئمة الأربعة والسفيانين وعبد الله بن المبارك وإسحق ابن راهويه وعلي بن المديني وابن معين والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني وسائر العلماء المحققين، بأنهم استحسنوا الاحتفال بالمولد. والوجه الثالث: الجواب عن قولهم أن الأكثرين استحسنوا الاحتفال بالمولد، وألف الكثيرون رسائل في استحسان قراءة المولد: فهذا ليس بحجة يعتمد عليها إلا عند من غاب رشده وسفه نفسه، ونحن نسأل هل هذا العمل سنة مستندة إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره أو فعل الخلفاء الراشدين، فإن قالوا ورد في القرآن أو عن النبي، قلنا أثبتوا لنا ما تدعون، فإن قالوا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة كما يعترفون هم بذلك، ولكن هذا العمل بدعة حسنة لما قدمناه من الأدلة ولما يحتوي على تلك المحاسن من قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتذكير الحاضرين بأخلاقه وشمائله وذكر ولادته، إلى غير ذلك مما سبق ذكره، فالجواب ليس في البدع بدعة حسنة بل كل بدعة ضلالة، وتقسيم البدعة إلى خمسة أقسام حسنة وسيئة ومباحة ومكروهة ومحرمة ليس له أصل، إنما هو من كلام بعض العلماء، والعالم يصيب ويخطئ وهو مأجور إن شاء الله على اجتهاده وإن أخطأ، لأن المصيب له أجران، والمخطئ له أجر، ولكن لا يجوز الاقتداء به في خطئه وسيأتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 التفصيل في قولهم أن هناك بدعة حسنة. الوجه الرابع: أن نقول: أن الأكثرية ليست دليلا على الحق. قال الله تعالى {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وقال تعالى {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} . ولا ريب أنه قد مضى أكثر من ثلاثة قرون على المسلمين لم يكن هذا الاحتفال, وإنما أحدثه الفاطميون بمصر في أثناء القرن الرابع, كما أحدثوا بدعا كثيرة منها مولد علي بن أبي طالب, والسيدة فاطمة الزهراء, والحسن والحسين, ومولد الخليفة الحاضر, وقبر الحسين, وتقديس القبور. وأحدث المولد النبوي أيضا الملك المظفر ملك إربل ناحية الموصل في أواخر القرن السادس أوائل القرن السابع. وإلى القارئ ما ذكره السيد رشيد رضا في مقدمة رسالته ذكرى المولد النبوي نقلا عن تاريخ ابن خلكان: قال: والمشهور أن المُحْدِثَ لها هو أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين التركماني الجنس الملقب بالملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل, أحدثها في أوائل القرن السابع أو أواخر القرن السادس, فإن السلطان صلاح الدين ولاه على إربل في ذي الحجة سنة 586هـ وتوفي سنة 630هـ, وقد كان سخيا متلافا صاحب خيرات كثيرة, وكان ينفق على الاحتفال بالمولد ألوفا كثيرة, ففي تاريخ ابن خلكان أنه كان ينصب له مقدار عشرين قبة من الخشب, كل قبة منها أربع طبقات أو خمس طبقات له قبة منها والباقي للأمراء وأعيان دولته, وكانوا يزينون هذه القباب في أول شهر صفر بأنواع الزينة الفاخرة, وكان يكون في كل قبة جوق من الأغاني, وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي, بل كانوا لا يتركون طبقة من الطبقات بغير جوق من تلك الأجواق, وكان الناس يتركون كل عمل في تلك الأيام فلا يتقى لهم شغل إلا التفرج والدوران على القباب. قال ابن خلكان: فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 شيئا كثيرا زائدا عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي حتى يأتي بها إلى الميدان, ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور ويطبخون الألوان المختلفة, فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير وفي جملتها شمعتان أو أربع – أشك في ذلك- من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل, فإذا كانت صبيحة يوم المولد أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية على يد كل شخص منهم بقجة, وهم متتابعون كل منهم وراء الآخر فينزل من ذلك شيء كثير لا أتحقق عدده. ثم ذكر عرضه الجند وتوزيعه تلك الخلع بعد ذلك على الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء ومد السماط, وكان قد ذكر قبل ذلك أن الناس كانوا يأتون هذا الموسم في إربل من بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم, وتلك النواحي فلا يزالون يتواصلون من شهر المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول. لخصت هذا من تاريخ ابن خلكان الذي وصف ما رآه بعينيه, لأن ما يعمل بمصر الآن يشبه ما كان يعمل في إربل إلا أنه دونه عظمة ونفقة, فههنا تنصب قباب أو خيام النسيج الجميلة لعزيز مصر ولوزارات حكومته ولبعض الوجهاء في دائرة واسعة, ويختلف إليها الناس من أول شهر ربيع الأول يسمعون في بعضها وعظ الوعاظ وذكر أرباب الطرق المعروفة, ويرأس الاحتفال هنا شيخ مشايخ طرق الصوفية ويقيم بجانب خيمته مأدبة فاخرة في مساء اليوم الحادي عشر من الشهر يحضرها كبار العلماء وكثير من الوجهاء ويكون الاحتفال الأكبر في الليلة الثانية عشرة في خيمته فيجتمع فيها من حضر المأدبة ويؤمها الأمراء والوزراء حتى إذا ما انتظم جمعهم حضر عزيز مصر بحاشيته, وتقرأ بين يديه قصة المولد فيخلع على من يقرأها خلعة سنية, وتدار بعد قراءتها كؤوس الشراب المحلى وصواني الحلوى الجافة ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ينصرف العزيز إلى خيمته وهي بجانب قبة شيخ الشيوخ فيمكث فيها ساعة زمانية, يشاهد في أثنائها زينة الألعاب النارية, ثم ينصرف وينصرف الأمراء والوزراء, ويظل الناس يطوفون على تلك الخيام المزينة بالأنوار الكهربائية وغير الكهربائية عامة ليلتهم, في ضحوة ذلك اليوم يحضر نائب العزيز قبة شيخ الشيوخ فتعرض عليه مواكب الطرق الصوفية, يتقدم كل طريقة شيخها وهم يهللون ويتلون الأوراد ويقف كل منهم أمام شيخ الشيوخ قليلا فيحييه ثم ينصرف. أ. هـ1. فهذه القرون التي قد خلت بما فيها من عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم بما فيها من علماء التفسير والحديث والتوحيد والأصول وسائر العلوم الإسلامية والعربية, وما في تلك القرون من الصالحين والحكام والأمراء وسائر الناس, إلى عصر الفاطميين والملك المظفر, أكان كل أولئك لا يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم وجاءت القرون الأخيرة وأحبوا الرسول أكثر مما أحبه أولئك السالفون؟ هل يتصور عاقل أن يكون حب هؤلاء أكثر من حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين للرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهم الذين قدموا أرواحهم وأموالهم ودماءهم في سبيل نصرة هذا الدين وشريعة سيد المرسلين, ومحبتهم له صلى الله عليه وسلم تجل عن الوصف. فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه, تضربه قريش حتى يغمى عليه, وعندما يفيق من إغمائه لا يسأل عن شيء يخصه وأهله, فلا يسأل عن أبيه ولا عن أبنائه, ولكن يسأل عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول ماذا فعل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون له: بخير.   1 من ذكرى المولد النبوي للسيد محمد رشيد رضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وأحسب أنني في غنى عن بيان محبة الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم, والتابعين وسائر العلماء المهتدين, لأن محبتهم معلومة لكل من قرأ سيرة أصحابه صلى الله عليه وسلم أو سمعها. الخامس:الجواب عن قولهم: بأن الاحتفال بالمولد إن لم يرد في الحديث فهو بدعة حسنة أن نقول: القول بالبدعة الحسنة مفسدة للدين ومضيعة له, وممكن لأعدائه من القضاء عليه إذ يمكنهم حينئذ أن يأتوا المنكرات والفواحش والضلال, ويقولون بدعة حسنة حسنتها عقولنا, وهم كاذبون منافقون, ينوون بها هدم الشريعة الغراء, فلا يقدر القضاء عليهم ودرء شرهم وكيدهم إلا بعدم الابتداع في الدين. وكم أصاب الملحدون والدجالون الدين الإسلامي بتلك المقالة الخادعة, وما نالت الباطنية من الدين الحنيف غرضها وإفساده إلا بالبدع التي أحدثوها وزعموها دينا ومقربا لله, وما هي إلا تضليل وتمويه على الناس, والمشرعون الحكماء يجتهدون في سد الأبواب التي منها يلج الأعداء, فكيف بأحكم الحاكمين وأحكم المشرعين, خالق السموات والأرضين ورب العالمين؟ السادس: الجواب: عن تجويز الابتداع, هو تحكيم لناقصي العلم في الشريعة, كيف يشاؤون, وكيف سولت لهم أنفسهم, وأغلب الناس لا يعرفون الحسن من القبيح, ولا يميزون النافع من الضار, فيقضون على الدين من حيث لا يعلمون. السابع: أننا نرى جميع المحدثات في الإسلام المزعومة بأنها حسنة, قد جلبت على الدين الويلات, وأهلكت أهله وأغرتهم بارتكاب المحرمات, وأوقعتهم في كل ما ينهى عنه الدين من فسوق ومروق وشرك, فانظر إلى بدعة البناء على القبور وأسراجها والعناية بها وطرح الزينات عليها في مساجدها كيف أفسدت على المؤمنين إيمانهم, وخلطت عقائدهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 بما يكون كفرا وإشراكا, فهم يذهبون إلى هؤلاء الموتى المنسوبين إلى الصلاح, يسألونهم حاجاتهم الدنيوية والأخروية بخشوع وخضوع واستكانة وتمسكن, ويأملون فوق ما يأملون الله العظيم, ويخافونهم أكثر من خوفهم من الله رب العالمين, ويطلبون منهم ما لا يطلب إلا من رب العالمين, ويتضرعون بالضراعات التي لا تكون إلا من أتقى المتقين بين يدي مالك يوم الدين, ولا يخفى ما يقع عند مقام الشافعي والحسين بن علي والسيد أحمد البدوي والدسوقي والرفاعي والسيد عبد القادر الجيلاني والزيلعي والعيدروسي وغيرهم ممن بنوا عليهم المقامات العالية والأضرحة الفخمة, وطفق الجهلة يحجون إليهم ويضرعون لديهم ويطلبون منهم, فالمريض يسأل الشفاء والعانس تطلب الزواج, والأعمى يريد البصر, والفقير يريد الغنى, والعزب الفقير يدعوه أن يزوجه ويهديه إلى المرأة الصالحة, إلى غير ذلك من الأمور البدعية والشركية مما هو ملموس ومحسوس. وفكر في نتائج القول بالبدعة الحسنة, إن الكثيرين من الشافعية في بلدان كثيرة ابتدعوا صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة, بدعوى الاحتياط والبدعة الحسنة, لسد خلل إن حصل في صلاة الجمعة, كيف تجر هذه البدعة الشنعاء إلى الكفر إن اعتقد المصلون بوجوبها, لأن الله تعالى لم يفرض علينا صلاة سادسة, أو زيادة ركعة, لأن اعتقاد وجوب هذا كفر لا ريب فيه, كما لو اعتقد بنقص ركعة من ركعات الصلاة. وهذه البدعة روجها بعض العلماء لأجل ما ذكرته سلفا, ولم يتأملوا ما ينتج منها من الاعتقادات الفاسدة, والدليل على ذلك: أن المأموم ينوي فرض صلاة الظهر, وأي احتياط لمصلين في مسجد يبلغ المأمومون أكثر من أربعين؟ بل وأحيانا مئات وألوفا؟ وأي حسنة في هذا؟ وخصوصا في بلد لا تقام فيها إلا جمعة واحدة, علما أن قولهم: إذا تعددت الجمع ولم يعرف السابقة, فيصلي الظهر احتياطا وجوبا, أو عرف السابقة, فالثانية باطلة وتصلى الظهر, كلام غير صحيح, وقد ذكرت تفصيل ذلك في كتابي الجمعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ومكانتها في الدين, فانظر إن أردت. وانظر أيضا إلى بدعة الموالد وما نتج منها من انتشار الفواحش واختلاط الرجال بالنساء واحتكاكهم بهن وإلى ما استتبعته من شرب الخمور والمسكرات وترك الصلوات, وإنفاق الأموال الطائلة في غير ما ينفع, وكل ذلك يفعلونه على حساب الدين. الثامن: قولهم: جاء في الحديث " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن". الجواب: إن هذا الذي سموه حديثا ليس بحديث, ولكن يروى كأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه. وإن سلمنا بأن ما يراه المسلمون حسنا, فالمراد جميع المسلمين, إذ إن "أل" إذا أطلقت في مثل هذا الموطن لا تكون إلا إلى الاستغراق كقوله تعالى {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقوله تعالى {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . وأثر ابن مسعود يرد عليهم: لأن المسلمين بمعنى الكلمة هم القرون الأولى, الصحابة والتابعون والأئمة المرضيون, وهم يرون أن الحسن كل الحسن هو نبذ البدع والمحسنين لها. وإذا كان المراد جميع المسلمين, فعندئذ يكون إجماعا, والإجماع حجة, ولكن لم يقع إجماع على تحسين قراءة قصة المولد والاحتفال به, بل ما زال الخلاف موجودا منذ أن أحدثه الفاطميون والملك المظفر. والأمر الثاني: إن عقول الناس وأفهامهم تختلف, فقد يستحسن قوم أمرا بينما يستقبحه آخرون فمثلا: الاحتفال بالمولد استحسنه الكثيرون كما ذكر المعترضون, ولكن لم يستحسنه أيضا كثير من العلماء منهم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وابن قيم الجوزية وابن الحاج المالكي والفاكهاني والشيخ نصير الدين المبارك الشهير بابن الطباخ والحافظ أبو زرعة العراقي وأكثر الحنابلة رحمهم الله أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 واستحسن الكثيرون بناء القباب على الأنبياء والصالحين, وهو بلا شك من ذرائع الشرك ومصادم للأحاديث النبوية الواردة في تحريم البدع. والخلاصة: إن استحسان الكثيرين ليس بحجة, ولا يحتج به إلا من أفلس في ميدان إقامة الأدلة الصحيحة. التاسع: تشبثهم بصيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء, واستنباط العسقلاني منه لعمل المولد, فإليك الجواب: استنباط الحافظ العسقلاني رحمه الله لم يكن صوابا, وإنما هو مجرد فهم فهمه لأن عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة, فإن عدم عمل السلف الصالح بالنص على الوجه الذي يفهمه منه من بعدهم يمنع اعتبار ذلك الفهم أن يكون صحيحا ودليلا عليه, إذ لو كان صحيحا لم يعزب عن فهم السلف الصالح ويفهم من بعدهم, كما يمنع اعتبار ذلك النص دليلا عليه, إذ لو كان دليلا عليه لعمل به السلف الصالح, فاستنباط ابن حجر الاحتفال بالمولد النبوي ما دام الأمر كذلك من حديث صوم يوم عاشوراء, ومن أي نص آخر مخالف لما أجمع عليه السلف من ناحية فهمه ومن ناحية العمل به وما خالف إجماعهم فهو خطأ, لأنهم لا يجتمعون إلا على هدى, وقد بسط الشاطبي الكلام على تقرير هذه القاعدة في كتاب الموافقات, وأتى في كلامه بما لا شك فيه أن الحافظ ابن حجر العسقلاني لو تنبه له لما خرج عمل المولد على حديث صوم يوم عاشوراء ما دام السلف لم يفهموا تخريجه عليه منه ولم يعملوا به على ذلك الوجه الذي فهمه منه. أ. هـ1.   1 من القول الفصل للشيخ إسماعيل الأنصاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 أما احتجاج المحسنين للمولد بما رواه البيهقي عن أنس أن النبي عق عن نفسه بعد النبوة, وتخريج السيوطي رحمه الله عمل المولد النبوي عليه استنباطا منه: فالجواب: استنباط الحافظ السيوطي باطل, لأن الحديث الذي رواه البيهقي لم يثبت عند أهل العلم, لأنه من رواية عبد الله بن محرر عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة, قال الإمام أحمد هذا الحديث منكر وضعف ابن المحرر. وقال النووي في الجزء الثامن من "المجموع شرح المهذب ص 330 في "باب العقيقة" أما الحديث الذي ذكره الشيرازي في عق النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه فرواه البيهقي بإسناده, عن عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة, وهذا حديث باطل, قال البيهقي هو حديث منكر, وروى البيهقي بإسناده عن عبد الرزاق قال: "إنما تركوا عبد الله بن محرر بسبب هذا الحديث". قال البيهقي وقد روى هذا الحديث من وجه آخر عن قتادة, ومن وجه آخر عن أنس وليس بشيء فهو حديث باطل, وعبد الله بن محرر ضعيف متفق على ضعفه, قال الحافظ هو متروك. وقال الحافظ أبو الحجاج المزي في ترجمة عبد الله بن محرر من "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" بعد إيراد كلام أئمة الجرح والتعديل فيه قال: قال عبد الرزاق عن عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة, قال عبد الرزاق إنما تركوه –أي عبد الله بن محرر- لحال هذا الحديث. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب "العقيقة" من تلخيص الحبير ج4 ص147 –قوله- أي الرافعي – روى أنه صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة, البيهقي من حديث قتادة عن أنس وقال: منكر وفيه عبد الله بن محرر وهو ضعيف جدا, وقال عبد الرزاق: إنما تلكموا فيه لأجل هذا الحديث, قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 البيهقي: وروي من وجه آخر عن قتادة, ومن وجه آخر عن أنس وليس بشيء, قلت القائل ابن حجر العسقلاني, أما الوجه الآخر عن قتادة فلم أره مرفوعا, وإنما ورد أنه كان يفتي به كما حكاه ابن عبد البر, بل جزم البزار وغيره بتفرد عبد الله بن محرر به عن قتادة، وأما الوجه الآخر عن أنس فأخرجه أبو الشيخ في الأضاحي وابن أيمن في مصنفه والخلال من طريق عبد الله بن المثنى عن ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أبيه، وقال النووي في شرح المهذب هذا باطل أ. هـ كلام الحافظ في تلخيص الحبير. وعلى الفرض أن يكون حديث العقيقة صحيحا، فأي مناسبة لاستخراج المولد منه، فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي عق عن نفسه كما في هذه الرواية الضعيفة لم يشرع لأصحابه الاحتفال بمولده ولا فعلته الصحابة ولا التابعون، هل كان أولئك القوم غير محبين للرسول صلى الله عليه وسلم أو كانوا بلداء وأغبياء ليس عندهم ذلك الفهم وتلك المقدرة على الاستنباط، كما قدر الحافظ السيوطي وأمثاله من الذين يستنبطون بزعمهم من الأحاديث الضعيفة – حاشا لله أن يتصفوا بمثل هذه الصفات. وأما تشبثهم أو تمسكهم بخبر عروة في شأن أبي لهب مع جاريته ثويبة، بأنها لما بشرت أبا لهب حينما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها، ولهذا ورد أن الله تعالى يخفف عنه العذاب في كل يوم اثنين حتى أنشد بعضهم: إذا كان هذا كافرا جاء ذمه ... وتبت يداه في الجحيم مخلدا أتى أنه في يوم الاثنين دائما ... يخفف عنه للسرور بأحمدا فما الظن بالعبد الذي طول عمره ... بأحمد مسرورا ومات موحدا والجواب من وجوه: أولا: أن هذا الحديث مرسل، أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به. ثانيا: أنه لو كان موصولا، فلا حجة فيه لأنه رؤيا منام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ثالثا: الحديث أصله ثابت في صحيح البخاري في باب {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ساق الإمام البخاري بعد أن ذكر الآية حديثين ومفادهما أنه يحرم من الر ضاع ما يحرم من النسب والحديث الثالث رقم -5101- حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير أن زينب ابنة أبي سلمة أخبرته "أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت: يا رسول الله انكح أختي1 بنت أبي سفيان، فقال: أو تحبين ذلك؟ فقلت: نعم، لست لك2 بمخليه، وأحب من شار كني في خير أختي: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يحل لي. قلت فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: بنت أم سلمة؟ قلت: نعم. فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي. إنها لابنة أخي من الرضاعة. أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن. قال عروة: وثويبة مولاة لأبي لهب وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو لهب أريه3 بعض أهله بشر4 حيبة، قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم5، غير أني سقيت في هذه بعتاقي ثويبة".   1 انكح أختي بنت أبي سفيان جاء في فتح الباري عن ابن شهاب عن مسلم والنسائي في هذا الحديث "انكح أختي عزة بنت أبي سفيان" ولابن ماجه مثله وعند الطبراني "هل لك في جمنة بنت أبي سفيان". 2 لست لك بمخليه بضم الميم وسكون الخاء وكسر اللام اسم فاعل من أخلى يخلي، أي لست بمنفردة بك ولا خالية من ضره. 3 أريه بضم الهمزة وكسر الراء وفتح الياء على البناء للمجهول "بعض أهله" بالرفع على أنه النائب عن الفاعل وذكر السهيلي أن العباس قال: لما مات أبو لهب رأيته في منامي بعد حول في شر حال فقال: ما لقيت بعد كم راحة إلا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين، قال وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين وكانت ثويبة بشرت أبا لهب بمولده فأعتقها. 4 "بشر حيبة" بكسر الحاء وسكون الياء وبعدها باء أي سوء حال. 5 "لم ألق بعدكم غير أني" قال في الفتح كذا في الأصول بحذف المفعول وفي رواية الإسماعيلي لم ألق بعدكم رخاء وعن معمر عن الزهري لم ألق بعدكم راحة قال ابن بطا ل سقط المفعول من رواية البخاري ولا يستقيم الكلام إلا به. أ. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ومما أوردته من صحيح البخاري وشرح بعض كلماته أن أصل الحديث صحيح وثابت عن عروة بن الزبير ولكن ما جاء في آخره قال عروة: فلما ما ت أبو لهب أريه بعض أهل بشر حيبة الخ. ذكر في الشرح أن هذه رؤيا منامية والرائي لأبي لهب هو أخوه العباس بن عبد المطلب فرآه في سوء حال، وأخبره أبو لهب أنه يخفف عنه من العذاب في كل يوم اثنين لأنه أعتق ثويبة عندما بشرته بمولده صلى الله عليه وسلم، والقارئ على علم أن هذه رؤيا منام ورؤيا المنام لا يحتج بها في الأحكام حتى لو رؤى النبي صلى الله عليه وسلم ونقل الرائي عنه ما يخالف الكتاب والسنة لا يقبل، ومن أجل هذا قلنا في أول المقال إنها رؤيا منام، وإلا فأصل الحديث مروي في بيان الرضاع وحكمه والله أعلم بالصواب. رابعا: أن في مرسل عروة هذا من أن إعتاق أبي لهب لثويبة، كان قبل إرضاعها النبي صلى الله عليه وسلم يخالف ما عند أهل السير، من أن إعتاق أبي لهب إياها كان بعد ذلك الإرضاع بدهر طويل، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" وأوضحه في الجزء الرابع من "الإصابة في تمييز الصحابة" ص 250 بقوله: قال ابن سعد: أخبرنا الواقدي عن غير واحد من أهل العلم قالوا: كانت ثويبة مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلها وهو بمكة، وكانت خديجة تكرمها وهي على ملك أبي لهب وسألته أن يبيعها لها فامتنع، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم أعتقها أبو لهب, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها بصلة وبكسوة حتى جاء الخير أنها ماتت سنة سبع مرجعه من خيبر ومات ابنها مسروح قبلها أ- هـ كلام الحافظ ابن حجر في الإصابة. خامسا: أن مرسل عروة الذي خرج عليه ابن ناصر الدين الدمشقي وابن الجزري عمل المولد النبوي مخالف لظاهر القرآن كما أوضحه الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري حيث قال في كلامه على ذلك المرسل: "وفيه دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة" لكنه مخالف لظاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 القرآن، قال الله تعالى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} . ونقل عن حاشية ابن المنير أن ما في ذلك المرسل من اعتبار طاعة الكافر مع كفره محال لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح، وذلك مفقود من الكافر، فإعتاق أبي لهب لثويبة مادام الأمر كذلك لم يكن قربة معتبرة، فإن قيل أن قصة إعتاق أبي لهب ثويبة مخصوصة من ذلك، كقصة أبي طالب، قلنا: إن تخفيف العذاب عن أبي طالب ثبت بنص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما وقع لأبي لهب في ذلك المرسل فمستنده مجرد كلام لأبي لهب في المنام، فشتان ما بين الأمرين، بهذا كله اتضح بطلان الاستدلال بذلك المرسل على عمل المولد النبوي. أهـ ص 87. وأما استدلالهم بقول الله تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي قائلين: إن الفرح بالنبي صلى الله عليه وسلم مطلوب بأمر القرآن الكريم من قوله تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ .... } الآية، فالله تعالى أمرنا أن نفرح بالرحمة والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الرحمة، قال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . والجواب: أن استدلالهم بهذه الآية من قبيل حمل كلام الله على ما لم يحمله عليه السلف الصالح، والدعاء إلى العمل به على غير الوجه الذي مضوا عليه والعمل به هو أمر لا يليق لما بينه الإمام الشاطبي في كتاب الأدلة الشرعية من الموافقات في أصول الشريعة ج 3 ص71: وهو أن الوجه الذي لم يثبت عن السلف الصالح العمل بالنص عليه لا يقبل ممن بعدهم دعوى النص الشرعي عليه. قال: إذ لو كان دليلا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين، ثم يفهمه من بعدهم، فعمل الأولين كيف كان مصادما لمقتضى هذا المفهوم ومعارضا له ولو كان ترك العمل به. قال: فما عمل المتأخرين من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين، وكل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 خالف الإجماع فهو مخطئ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر وهو الهدى وليس ثم إلا صواب أو خطأ، وكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ وهذا كاف. والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جار هذا المجرى. ومن هنا لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن عليا الخليفة بعده، لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه وعدم اعتباره، لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ، وكثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة، يحملونهما مذاهبهم، ويعبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء. ثم ذكر أمثلة كثيرة كاستدلالات الباطنية على سوء مذاهبهم، واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} أ. هـ.1 والتفسير الصحيح للآية على أن فضل الله ورحمته هو الإسلام والسنة، وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما، وكلما كان أرسخ فيهما كان قلبه أشد فرحا، حتى أن القلب إذا باشر روح السنة ليرقص فرحا، فإن السنة حصن الله الحصين الذي من دخله كان من الآمنين وبابه الأعظم الذي من دخله كان إليه من الواصلين، تقوم بأهلها وإن قعدت بهم أعمالهم، ويسعى نورها بين أيديهم، إذا أطفئت لأهل البدع والنفاق أنوارهم. وإذ قدمت تلك الأجوبة السديدة عن شبهات القائلين باستحباب قراءة المولد النبوي والاحتفال به، تلك الأجوبة المؤيدة بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة التي إذا قرأها المنصف تبين له بطلان ما زعمه أولئك المنتقدون على الشيخ محمد وأتباعه وسائر السلفيين، وانجلى له الحق كفلق الصبح فيستحسن الآن تأكيدا وتوضيحا لما أسلفت ذكره أن أبين نماذج من كتاب البرزنجي المؤلف في المولد النبوي من نثر ونظم، وما فيه من الأقاويل الواهية والمبالغات السخيفة التي تسيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أولا، وإلى دين الإسلام   1 من القول الفصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ثانيا، وتشجع الخرافيين في الغلو في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يوصف بغير وصفه الحقيقي، وأن ينسب إليه ما يخالف النقل الصحيح والعقل السليم والله ولي الهداية والتوفيق: وإلى القارئ بيان تلك النماذج: في أوائل هذا الكتاب ما يلى: "1" يا نبي سلام عليك يا رسول سلام عليك. "2" يا حبيب سلام عليك صلوات الله عليك. فيا أيها القارئ الكريم قف وتأمل ما قال، هل يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الصيغ الهزيلة التي تدل على الاستهزاء لا على التعظيم، ولولا ثقتنا بحب المؤلف للرسول صلى الله عليه وسلم لقلنا إنه قد تعمد الإساءة بتلك الألفاظ للرسول صلى الله عليه وسلم ولكن نقول إنه لم يحسن خطابه صلى الله عليه وسلم. وقد أخبرني ممن أثق به من طلبة العلم، أنه كان طالب علم سلفي بمدينة من مدن الخليج العربي فأنكر على المحتفلين بقصة المولد في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول حسبما جرت عليه عادة الاحتفال في الخليج إلا بلدان الحنابلة، ولكن دون احتفال أهل مصر، يقرأ فيها كتاب البرزنجي وبعض القصائد النبوية، وأحيانا تدق فيها الدفوف، وأحيانا تقرأ فيها قصيدة البردة ونحو ذلك، فأنكر الشيخ السلفي عليهم، فذهب بعضهم وشكاه إلى حاكم تلك المدينة بأن فلانا ينكر علينا الاحتفال بالمولد النبوي، وهو شخص لا يحب الرسول لأنه وهابي، فأرسل الحاكم في طلبه ليسمع حجته، فعندما حضر عند الباب قال: يا شيخ سلام عليك، يا حاكمنا سلام عليك، صباح الخير عليك، فقال الحاكم: مالك يا رجل أجننت، ما هذا الكلام، فقال: هذه تحيتي إليك. فقال الحاكم: ليست هذه تحية، قال: إذا ما هذه، قال الحاكم: هذه تشبه الاستهزاء وأنت رجل عاقل، كيف تفعل ذلك، وجعلت الناس يضحكون عليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 فأجاب: يا شيخ لم ترض بهذه التحية, ورضيت أنت أن يحيى ويخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم يا نبي سلام عليك يا رسول سلام عليك, وأنا ما أنكرت إلا هذا, وهذا الاحتفال وقراءة هذه القصة كما يفعله الناس اليوم بدعة. ويقال إن الشيخ الحاكم قال: الحق معك وليس عليك اعتراض. وجاء في كتاب مولود شرف الأنام: ولد الحبيب وخده متورد ... والنور من وجناته يتوقد فهل يوصف المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف, ويتغزل فيه كأنه يتغزل بمعشوقته, وفيه: أن أول شهر من شهور حملها أتاها في المنام آدم وأعلمها أنها حملت بأجمل العالم, وفي الشهر الثاني أتاها في المنام إدريس وأخبرها بفخر محمد وقدره النفيس, وهكذا أخذ يذكر كل شهر نبيا حتى الشهر التاسع أتاها في المنام عيسى المسيح وقال لها: إنك قد خصصت بمظهر الدين الصحيح واللسان الفصيح, وكل واحد منهم يقول لها في منامها: يا آمنة إذا وضعت الشمس الفلاح والهدي فسميه محمدا. وجاء فيه: أنها عندما ولدت الرسول صلى الله عليه وسلم خرجت منها أنوار أضاءت لها قصور الشام, وغاضت بحيرة ساوه, وخمدت نار فارس, وسقطت شرفات قصر كسرى, ونكست الأصنام, وولد مختونا مكحولا مقطوع السرة إلى غير ذلك مما فيه من الأقاويل الضعيفة والموضوعة. وهذا الكتاب منتشر في كثير من القرى والبلدان وهو كتاب مقدس لديهم, ويقرأه العالم والجاهل, ويحضر في قراءته في ليلة المولد كثير من العلماء حسب احتفال المولد وحجمه, ولم يقل أحد منهم أن هذا هو الصحيح وهذا هو الضعيف. وكذلك ما نسب إلى ابن الجوزي رحمه الله كتاب "مولد العروس" وفيه من الطامات والأكاذيب الشيء الكثير, كما ذكر ذلك محمود مهدي الاستانبولي, وهاك بعض ما جاء في رسالته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 1- ولما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل بالبشارة, واهتز العرش طربا, وخرجت الحور العين من القصور, ونثرن العطر نثرا, وقيل لرضوان: زين الفردوس الأعلى ... وابعث إلى منزل آمنة أطيار جنات عدن ترمي من مناقيرها درا, فلما وضعت محمدا صلى الله عليه وسلم رأت نورا أضاءت منه قصور بصرى ...... فيا له من كذب وافتراء. نعم قد رأت نورا أضاءت منه قصور الشام ولكن ذلك في المنام. 2- ونار فارس من نوره أخمدت, والأسرة بملوكها تزلزلت, والتيجان من رؤوس أربابها تساقطت, وبحيرة طبرية عند ظهوره وقفت, وكم من عين نبعت فارت, وانشق إيوان كسرى وشرفاته تساقطت ... إلى آخر ذلك من الإرهاصات الكاذبة التي لا يصح منها شيء مطلقا. 3- وحديث انتقال نوره عليه الصلاة والسلام من نبي إلى نبي لم يصح فهو ضعيف. 4- وقالت آمنة: إنه صلى الله عليه وسلم ولد مكحولا مدهونا مطيبا, وإن جبريل حمله فطاف به برا وبحرا وكل ذلك لا أصل له, أما أنه عليه الصلاة والسلام ولد مختونا فضعيف. 5- سمعت آمنة صوتا في العلا يناديها يا آمنة لك البشرى, فهذا أحد الحسنيين وأبو الزهراء, وكان يسبح في بطنها سرا وجهرا, ... فيا له من كذب وافتراء تشمئز منه النفوس. 6- سبحان من خلق هذا النبي .... جعل من فرح بمولده حجابا من النار وسترا, ومن أنفق في مولده درهما, كان المصطفى صلى الله عليه وسلم له شافعا ومشفعا. أقول هنيئا للأشقياء والمجرمين على ذمة مؤلف هذا المولد الكاذب, فليس عليهم إلا أن يقيموا لأحمد صلى الله عليه وسلم مولدا فيكون لهم شافعا ومشفعا. 7- تزلزل الجبل تحت قدميه صحيح, ولكن مخاطبة الضب له لا أصل لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 8- العنكبوت نسج عليه والحمام عشش عليه, حديث لم يصح. 9- لما أراد الله سبحانه وتعالى خلق المخلوقات, قبض قبضة من نوره سبحانه وتعالى, وقال لها: كوني محمدا فصارت تلك القبضة عمودا ... الخ هذا الكلام والهراء المكذوب, ومثله كل حديث ذكر أن محمدا خلق من نور الله. 10- وقال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من قبل الله تعالى: ألا من كان اسمه محمدا فليقم يدخل الجنة إكراما لمحمد صلى الله عليه وسلم, كلام مكذوب موضوع. 11- وفي الحديث الصحيح هكذا كذب المؤلف على الرسول صلى الله عليه وسلم كذبا مضاعفا وكذلك قوله: إن البيت الذي فيه اسم محمد وأحمد, فإن الملائكة تزوره في كل يوم وليلة سبعين مرة. ألا لعنة الله على الكاذبين, الذين يسيئون إلى الدين اعتمادا على هذه الأقوال التي لا أصل لها. 12- ثم إن الله سبحانه وتعالى قسم نور محمد صلى الله عليه وسلم عشرة أقسام, فخلق من القسم الأول العرش ... الخ هذا الخلط والكذب. 13- ولما خلق الله القلم قال له أكتب ... محمدا رسول الله, قال القلم, وما محمد الذي قرنت اسمه مع اسمك, فقال الله تأدب يا قلم, وعزتي وجلالي لولا محمد ما خلقت أحدا من خلقي, وهذا أيضا لا أصل له. 14- قال آدم يا رب إني أسمع في جبهتي نشيشا كنشيش الدر, فقال الله تعالى ذلك تسبيح ولدك محمد وهذا افتراء أيضا. 15- ولما تزوج عبد الله آمنة, مات من نساء مكة مائة امرأة أسفا وشوقا إلى نور محمد صلى الله عليه وسلم وهذا غير صحيح. 16- وقول المؤلف الكذاب: إن الملائكة والحيوانات والوحوش والجن والإنس ضجت لموت ولد محمد صلى الله عليه وسلم لا أصل له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 17- مجيء الأنبياء وتبشيرهم لأمه بالرسول صلى الله عليه وسلم افتراء. 18- وقول آمنة عند الولادة بانشقاق الحائط وخروج حواء وآسيا ومريم ابنة عمران ثم الحور العين وظهور الأعلام لا صحة له. 19- قالت أمه سمعت قائلا يقول: أعطوا محمدا صلى الله عليه وسلم صفوة آدم وشجاعة نوح.. الخ كذلك لا صحة له. 20- قالت آمنة: أخمدت ليلة مولده عليه الصلاة والسلام نار فارس, وانشق إيوان كسرى. هذا حديث ضعيف. 21- كشف عنه جده عبد المطلب, فإذا هو يمص أصابعه, فتشخب لبنا, وهو غير صحيح. 22- قالت حليمة: قال محمد: أرسليني مع إخوتي لأرعى الغنم, فعمدت إلى خرزة جذع علقتها عليه من العين, وهذا لا أصل له. 23- وقول الرعاة إن مشى محمد على يابس اخضر, ولا يمر على شجر ولا حجر إلا سلم عليه, كله غير صحيح إلا بعد النبوة, فقد سلم عليه حجر في مكة. وهذه نماذج من مولود الديبعي: أتى في أول الكتاب بقصيدة افتتحها بقوله: يا نبي سلام عليكم ... يا رسول سلام عليكم ثم مشى فيها وبالغ إلى أن قال: من رأى وجهك يسعد ... يا أكرم الوالدين حوضك الصافي المبرد ... وردنا يوم النشور أنت غفار الخطايا ... والذنوب الموبقات أنت ستار المساوي ... ومقيل العثرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 يا ولي الحسنات ... ي رفيع الدرجات كفر عني الذنوب ... واغفر عني السيئات عالم السر وأخفى ... مستجيب الدعوات والواضح من هذا الكلام أنه يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم, لأن أول هذه الأبيات, من رأى وجهك يسعد ... الخ, فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم واضح, فهل الرسول صلى الله عليه وسلم يغفر الخطايا وهل الرسول صلى الله عليه وسلم عالم السر وأخفى؟ وهل الرسول صلى الله عليه وسلم يستجيب الدعوات؟ إن هذا الأمور مختصة بالله. والظاهر أن المؤلف هذا جاهل جهلا مركبا, إذ إن هذه ميزة المسيحين, فهم الذين يلجأون إلى أحبارهم ورهبانهم لمحو ذنوبهم, ويعطونهم صكوك العفو والغفران, فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم ذهب المؤلف يكتب نثرا, ويمدح الرسول صلى الله عليه وسلم مبالغا في مدحه, مدح تنكره العقول وتمجه الطباع القويمة, ثم ذكر قائلا: أول ما نستفتح بإيراد حديثين وردا عن نبي كان قدره عظيما, ونسبه كريما, وصراطه مستقيما, قال في حقه من لم يزل سميعا عليما, ..... الخ الكلام إلى أن قال: الحديث الأول عن بحر العلم الدافق ولسان القرآن الناطق, أوحد علماء الناس, سيدنا عبد الله بن سيدنا العباس, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن قريشا كانت نورا بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بألفي عام, يسبح الله تعالى ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه, فلما خلق الله آدم أودع ذلك النور في طينته, قال صلى الله عليه وسلم فأهبطني الله إلى الأرض في ظهر آدم عليه السلام, وجعلني في السفينة في صلب نوح عليه السلام, وجعلني في الخليل إبراهيم عليه السلام حين قذب به في النار, ولم يزل الله عز وجل ينقلني من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية الفاخرة, حتى أخرجني الله من بين أبوي وهما لم يلتقيا على سفاح قط. اللهم صل وبارك عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الحديث الثاني عن عطاء بن يسار عن كعب الأحبار, قال علمني أبي التوراة إلا سفرا واحدا كان يختمه ويدخله الصندوق, فلما مات أبي فتحته فإذا فيه نبي يخرج آخر الزمان, مولده بمكة, وهجرته بالمدينة, وسلطانه بالشام, يقص شعره, ويتزر على وسطه, يكون خير الأنبياء وأمته خير الأمم, يكبرون الله تعالى على كل شرف, يصفون في الصلاة كصفوفهم في القتال, قلوبهم مصاحفهم, يحمدون الله تعالى على كل شدة ورخاء, ثلث يدخلون الجنة بغير حساب, وثلث يأتون بذنوبهم وخطاياهم فيغفر لهم, وثلث يأتون بذنوب وخطايا عظام, فيقول الله تعالى للملائكة: اذهبوا فزنوهم فيقولون يا ربنا وجدناهم أسرفوا على أنفسهم, ووجدنا أعمالهم من الذنوب كأمثال الجبال, غير أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم, أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم صل وسلم وبارك عليه. فالحديث الأول لا أصل له, والأثر الثاني عن عطاء بن يسار لا يصح, ولو سلمنا بصحته عن كعب الأحبار, فقول كعب ليس بحجة ولا يستند إليه, لأن عنده من الإسرائيليات الشيء الكثير, وقد نقلها المفسرون في بعض التفاسير. ومن لا يصدق ما أوردناه, فليقرأ الكتاب المذكور, ليرى العجب العجاب من تلك المبالغات التي هي في الحقيقة كالسراب. ثم استطرد في نثره وقال: قيل من يكفل هذه الدرة اليتيمة التي لا يوجد لها قيمة, قالت الطيور نحن نكفله ونغتنم همته العظيمة, قالت الوحوش: نحن أولى بذلك لكي ننال شرفه وتعظيمه, قيل يا معشر الأمم اسكتوا فإن الله قد حكم في سابق حكمته القديمة, بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رضيعا لحليمة الحليمة. اللهم صل وسلم وبارك عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فلما أعرض عنه مراضع الإنس لما سبق في طي الغيب, من السعادة لحليمة بنت أبي ذويب, ووقع نظرها عليه, بادرت مسرعة إليه, ووضعته في حجرها, وضمته إلى صدرها, فهش لها مبتسما, فخرج من ثغره نور الحق بالسماء, فحملته إلى رحلها, وارتحلت به إلى أهلها, فلما وصلت به إلى مقامها, عاينت بركته على أغنامها, وكانت كل يوم ترى منه برهانا, وترفع له قدرا وشأنا, حتى اندرج في حلة اللطف والأمان ودخل بين إخوته مع الصبيان. ولم يكتف هؤلاء الغلاة في الرسول صلى الله عليه وسلم, وإنزاله تلك المنزلة التي لا تصلح إلا لله تعالى, حتى نسجوا قصيدة على لسان الشيخ عبد القادر الجيلاني قالوا فيها: كل قطب يطوف بالبيت سبعا ... وأنا البيت طائف بخيامي كل قطب وكل فرد وشيخ ... تحت حكمي يصغو لطيب كلامي يا فقيري إن كنت معناك معنا ... باتصالي ورفعتي ومقامي إن علم العلوم والدرس شغلي ... أنا شيخ القراء وكل إمام إن سر الأسرار من سريري ... كعبتي راحتي وبسطي مدامي وفقيري إذا دعاني بشرق ... أو بغرب ونازح بحر طامي قالت الأولياء جميع بعزم ... أنت قطب على جميع الأنام قلت كفوا واسمعوا نظم قولي ... إنما القطب خادمي وغلامي أنا في سجدتي أرى العرش حقا ... وجميع الأملاك فيه قيامي سائر الدنيا كلها تحت حكمي ... وهي في قبضتي كفرخ الحمام أنا عبد لقادر طاب اسمي ... جدي المصطفى شفيع الأنام صلواتي عليه طول الدوام ... بالعشايا وبالبكر والظلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وجاء في إحدى القصائد التي أوردها المؤلف على لسان الشيخ أبي بكر بن سالم على زعمه: صفت لي حميا خلى ... وأسقيت من صافيها ثم بعد أبيات قال: أنا حتف لأهل العذل ... ونار الجحيم أطفيها أنا المجتبى بين أهلي ... وشفعت في عاصيها ثم بعد أبيات قال: وعين الحقيقة عيني ... وأشرب من ساقيها وفخر الوجود فخري ... أبي بكر لي يحميها ثم قال: إذا أفلت شموس الكل ... أنا شمسها ضاحيها أنا عرشها والكرسي ... وأنا للسما بانيها لا يخفى على القارئ أن هذه دعوى ربوبية وألوهية في قوله "وأنا للسما بانيها" وما بعد هذا الكفر كفر. .... الخ هذا الهذيان. وإذا أوردت للقارئ نماذج من بعض المؤلفات في المولد النبوي الشريف, تلك النماذج التي تري القارئ مبلغ عقول أولئك المؤلفين وعلمهم, وإن أقوالهم كانت في غاية المبالغة في بعضها ونهاية السخف والسماجة في البعض الآخر, وأنها لا تليق تلك الألفاظ الهزيلة بمقام سيد الأولين والآخرين, فإن الواجب على كل من يكتب في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أو في علم من العلوم أن يتأكد من صحة ما يكتب, وأن يترك المبالغات التي تسيء إلى المقول فيه أكثر مما تحسن إليه, لأن تلك الأقاويل التي قالوها وسطروها ستنشر وتقرأ في المحافل والمساجد, ويتأثر بها القارئ والسامع, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وبالفعل وقع ما أقول, فقد أخذت هذه المؤلفات تقدس وتقرأ في محافل المولد الشريف, ويقرها العالم الحاضر في تلك المجالس, ويتأثر بها القارئون والسامعون, ويظنون أنها صحيحة مسلمة لا شيء فيها, ولا ريب أن أكثرها يخالف القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة, وإنها تناقض العقيدة السليمة المبنية على الكتاب والسنة. مثال ذلك: 1- إنه ورد في الحديث الصحيح: أول ما خلق الله القلم, قال: اكتب, قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وهؤلاء يقولون إن أول ما خلق الله نور محمد, وهذا كذب لا يخفى. 2- يقولون قال القلم: ومن محمد الذي قرنته باسمك؟ في صيغة اعتراض على رب العالمين. وأي عاقل يصدق أن الله تعالى يحيي مريم أم عيسى وآسيا بنت مزاحم ويأمر الحور العين بحضور ولادة محمد صلى الله عليه وسلم, وأن جبريل طاف به مشارق الأرض ومغاربها .... الخ ما جاء من تلك الهذيان البارد. فإن اعتذروا بأنهم من المحبين للرسول صلى الله عليه وسلم, وإن المحب عن العذال في صمم, والرسول صلى الله عليه وسلم بمقامه العظيم أهل لكل وصف جميل. فالجواب: إن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب على كل المسلمين, لكن في الحدود التي ورد بها الشرع, وأن لا يناقض القرآن والسنة, ولا يناقض العقيدة, والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن إطرائه أي المبالغة في وصفه, كإعطائه مرتبة لم يعطها ربنا تبارك وتعالى كما زعمت النصارى في عيسى ابن مريم, فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم, أي لا تنزلوني فوق منزلتي, إنما أنا عبد, فقولوا: عبد الله ورسوله". بعد هذه المقدمة في بيان ما سلف, أشرع الآن في ذكر بعض ما ورد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 بعض القصائد التي قيلت من قصائد الحضارمة المذكورة في مولود البديع, وهذه بعض قصيدة من قصائد علي بن حسن بن عبد الله العطاس, جاء فيها: يا رسول الله يا عمدتنا ... يا إمام الأنبياء الأمنا أنت أصل الأصل تسبق آدما ... وأبو الأرواح بل أس الينا تأمل هذه المبالغة التي يقول فيها: إن محمدا خلقه الله قبل آدم, وإنه أساس الخلائق, وهذا من الكذب الذي لا يخفى إلا على من فقد عقله. إلى أن قال: يا رسول الله ضاقت حيلتي ... من كروبي وجسيمي وهنا يا رسول الله عم الخطب من ... كل وجه ظاهر أو بطنا فتداركني ونفث كربي ... وافتقد حالي افتقادا حسنا ثم في قصيدة أخرى لعبد الله بن حسين بن طه العلوي, أخذ يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم ويحث على اللياذ والاستغاثة به: ما أرسل الرحمن أو يرسل ... من رحمة تصعد أو تنزل في ملكوت الله أو ملكه ... من كلما يختص أو يشمل واسطة فيها واصل لها ... يعلم هذا كل من يعقل فلذ به في كل ما ترتجي ... فهو شفيع دائما يقبل وعذ به من كلما تشتكي ... فإنه المأمن والمعقل وحط أحمال الرجا عنده ... فإنه المرجع والموئل وناده إن أزمة أنشبت ... أظفارها استحكم المعضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 يا أكرم الخلق على ربه ... وخير من فيهم به يسأل قد مسني الكرب وكم مرة ... فرجت كربا بعضه يذهل ولن ترى أعجز مني فما ... لشدة أقوى ولا أحمل فبالذي خصك بين الورى ... برتبة عنها العلا ينزل عجل بإذهاب الذي أشتكي ... فإن توقفت فمن أسأل فحيلتي ضاقت وصبري انقضى ... فلست أدري ما الذي أفعل فأنت باب الله أي امرئ ... أتاه من غيرك لا يدخل صلى عليك الله ما صافحت ... زهر الروابي نسمة شمئل تأمل هذه المبالغات والاستغاثات السخيفة التي لا تليق بالعبد إلا أن يستغيث بالله ويدعوه ويناديه في الشدائد, فهذا الشاعر نسى الله تعالى وأخذ يلوذ بالرسول صلى الله عليه وسلم, ويحث على اللياذ به بقوله: فلذ به في ما ترتجي ... الخ, ثم العياذ به في قوله: وعذ بهمن كلما تشتكي ... الخ, وندائه من دون الله بقوله: وناده إن أزمة أنشبت.. الخ. وكل هذه الألفاظ استغاثات شركية, فلم يكتف باستغاثته الشركية, حتى أمر غيره, فيا سبحان الله؟ ينسى رب العالمين الذي خلقه من ماء مهين, وأغدق عليه النعم, وينادي الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو الذي قال الله تعالى له في كتابه العزيز {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} 1 وقال تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2   1 الجن 20-21-22 2 الكهف الآية110 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 والأبيات الآتية من قصيدة أخرى في مدح أهل البيت: دليل حبي إليكم واضح وجلي ... وكم بكم آل طه ينجلي وجلي ولي شواهد صدق في محبتكم ... روحي بها اعترفت في سابق الأزل ونسبتي لكم بالرق قد شرفت ... وعن هواكم فؤادي قط لم يحل ولم أزل راويا عنكم حديث علا ... إسناده جيد بين الأنام عل أنتم غياثي وغوثي عمدتي ثقتي ... أنتم ملاذي وحصني عدتي أملي أنتم رجائي وكنزي بغيتي سندي ... أنتم نجائي في الدارين من زلل أنتم إمامي وأنتم قبلتي أبدا ... أنتم رشادي إلى مستقوم السبل أنت عياذي وذخري في الخطوب ولم ... أزل إليكم حسيبا فاجبروا خللي وهذه الألفاظ واضحة في الشركيات والاستغاثات المنهية عنها, ولا حاجة للتوضيح أو الشرح أو البيان. ومما عمت به البلوى احتفالهم بميلاد الأولياء والصالحين وذبح الذبائح باسمهم وغيرها من الأمور الشركية, وقد ورد لنا من بعض فضلاء الهند عدة أسئلة وسطرنا أجوبتها في كتابنا المسمى "الأجوبة الجلية عن الأسئلة الهندية" ومنها هذا السؤال الذي وجدت علي لزاما ذكره لتعم به الفائدة في هذا الباب. السؤال: في ليلة ميلاد عبد القادر الجيلاني يحتفل أكثر المسلمين في البيوت ويذبحون الذبائح باسم الشيخ عبد القادر, وهذا يحصل كل سنة, كذلك يذبحون باسم خواجة غريب نواز وخواجة بنده نواز وميران دتا وغيرهم, ويوزع كل سنة في شهر رجب حلاوة باسم جعفر الصادق وهذا جار في شهر رجب كله؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الجواب: ومن الله أستمد الصواب. لا يختلف اثنان من أهل العلم والدين بل ذوي العقول والحجى, أن الاحتفال بمولد الشيخ عبد القادر رحمه الله وخواجة غريب نواز وخواجة بنده نواز ونحوهم ممن عرفوا عند العوام باسم الأولياء وباسم الصلاح, كمولد البدوي والرفاعي في مصر والعيدروسي في عدن والزيلعي في اليمن. ولا يستريب عاقل أنها من البدع والضلالات ولم يقل أحد من أهل العلم المحققين أن هذه البدع مستحسنة بل فيها من المحظور لما ذكرنا سالفا من اختلاط النساء بالرجال ودق الطبول ونشر الأعلام وما يحصل من الفواحش والمنكرات ما يمجه كل ذي طبع سليم. بل هذه الاحتفالات التي تقام باسم دين الإسلام, والإسلام يتبرأ منها وهي وصمة عار في جبين المسلمين الذين يقيمون هذه الاحتفالات والذين يقرونها ولا ينكرونها, بل الواجب على العلماء أن ينكروا على هؤلاء ويبينوا لهم أن تلك الأعمال التي يمارسونها منافية لدين الإسلام, بل ولا يقرها ذوو العقول والأفهام. وإن لم يتوبوا فقد دخلوا تحت لعنة الله تعالى في قوله {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وأزيد القارئ بيانا وإيضاحا كي لا يستنكر ما قلته فأقول: إن العلماء المحققين حكموا بأن الاحتفال بليلة المولد النبوي الشريف, وأعني ليلة الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام من البدع التي حذر عنها العلماء الراسخون, وأول من أحدث بدعة الموالد والمآتم هم الفاطميون في مصر, وبدعة المولد النبوي الشريف الملك المظفر صاحب إربل من ناحية الموصل في أوائل القرن السابع الهجري. وعليه فقد مضت قرون عديدة من أيام الرسول إلى أيام الملك المظفر والفاطميين, ولم يحتف المسلمون بليلة المولد الشريف, فلا شك أنه بدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 تخالف قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وللأحاديث المحذرة عن البدع والضلالات كما سبق بعضها في جواب السؤال الرابع, ولا نشك أن الملك المظفر رحمه الله الذي ابتدع ذلك الاحتفال, ما فعل ذلك إلا بدافع المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم والفرح بليلة مولده وإظهار تعظيمه, حتى إنه كما قال المؤرخون, كان في شهر صفر في كل عام يهيئ ما يلزم ويستعد لتلك الحفلة, بتهيئة المكان ونصب السرادق وتعليق القناديل, ويأتي إليه الوافدون من شتى البلدان, حتى قيل إنه كان يذبح خمسة آلاف رأس من الغنم وعشرة آلاف من الدجاج, ويأتي بثلاثين ألف صحن من الحلوى, وكان يكرم الصوفية والأعيان ويخلع عليهم الملابس الفاخرة ويبصدق كثيرا على الفقراء. ولا يستريب عاقل أن الإحسان إلى الفقراء, والتصدق عليهم بالمال وإطعامهم الطعام وإكرام أهل العلم من القربات والطاعات التي يتقرب بها العبد إلى مولاه, لكن لا تخص هذه الأمور بليلة المولد, بل ينبغي للمسلم أن ينفق في سبيل الله ما استطاع بشتى النواحي, من إعانة الفقراء, والبذل للمجاهدين في سبيل الله, إلى بناء المساجد والمدارس, وإيواء الأيتام, وصلة الأرحام, ونحو ذلك مما جاء به القرآن والحديث, يحثان العباد على هذه الأعمال الصالحة, كمثل قوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . والملك المظفر رحمه الله, بتلك الأعمال البارة لم يعدم من العلماء من حسن له هذه البدعة, وزعم أنها من البدع المستحسنة, وليس كما قال, بل ليس في البدع حسن, كما في الحديث: كل بدعة ضلالة. وللتوضيح أكثر نقول هذا الملك رحمه الله ابتدع الاحتفال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 بليلة المولد الشريف, فإذا جاء إنسان وقال: إذا ابتدع الملك المظفر الاحتفال بليلة مولده عليه الصلاة والسلام, فأنا أبتدع الاحتفال بليلة البعثة أو يوم البعثة, اليوم الذي جاء فيه جبريل عليه الصلاة والسلام في غار حراء حين كان يتعبد الليالي, جاءه جبريل عليه السلام بالنبوة وقال له: اقرأ, فقال له الرسول: لست بقارئ, فغطه, أي ضمه إلى صدره, فعل ذلك ثلاث مرات ثم أطلقه, فقال {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} فقرأ صلى الله عليه وسلم. ومن هذه الآية الشريفة ابتدأت نبوة محمد عليه الصلاة والسلام, وبنبوته ورسالته أزهق الله الباطل, وطهرت الجزيرة العربية من الشرك والكفر, كما طهر كثيرا من الأمم التي دخلت في دين الإسلام من الوثنية والإلحاد وتركوا عبادة الأصنام, والأحجار, والنيران, والكواكب والملائكة والأنبياء ووحدوا الله وتشرفوا بدين الإسلام, وعمت الرحمة على العالمين, وأزال الله ظلم الأكاسرة والقياصرة والأقباط, وانتشر العدل وأزال الله العنصرية المفرقة بين الشعوب والأمم, بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . فليلة البعثة أو يوم البعثة أحق بالاحتفال, وإذا قال آخر أنا أحتفل بيوم الهجرة, لأن بالهجرة فرق الله بين الحق والباطل, واعتز المسلمون وصارت لهم دولة, فيستحق الاحتفال وإظهار التعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وإذا قال آخر أنا أحتفل بيوم بدر, لأنه يوم الفرقان يوم التقى الجمعان في يوم نصر الله المسلمين على المشركين, وإذا قال آخر أنا أحتفل بيوم فتح مكة, يوم دخل الناس في دين الله أفواجا, ونكست الأصنام واعتز دين الله ودخل الناس في دين الله أفواجا, وإذا قال آخر أنا أحتفل بيوم وفاته, يوم انتقل إلى الرفيق الأعلى فماذا يكون جوابنا وجواب من يحسن بدعة الموالد؟ فإن أجاز لهم فقد غدا الدين احتفالات وأعيادا, وإن منع فليس عنده حجة يستطيع أن يمنع هؤلاء. فلذا كان أهل البدع والضلالات يحتفلون بموالد أئمتهم ويوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وفاتهم ويوم زواجهم ويوم حروبهم, وهكذا جعلوا أوقاتهم أعيادا ومآتم. ومما لا يختلف فيه اثنان أن هذه الأمور كلها بدع ما أنزل الله بها من سلطان, وينبغي للمسلم أن لا يلتفت إلى هذه البدع ولا يمارسها ولا يحضر في مجالسهم ولا في أعياد احتفالاتهم, بل عليه أن يحذر المسلمين من هذه البدع, أما إذا أراد أن يفهم الناس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه ومعجزاته الباهرة ليزدادوا إيمانا لكن لا يعني ذلك في كتاب معين وفي ليلة مخصوصة وشهر مخصوص, بل متى قرأ لهم وبين لهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه كان حسنا, بل هو أمر مندوب مرغب فيه, لأن أصول العقيدة ثلاثة "معرفة الله" و"معرفة نبيه" و"معرفة دين الإسلام". فمعرفة النبي بنسبه وولادته وشمائله ومعجزاته وكونه مرسلا إلى جميع العالمين وخاتم النبيين والمرسلين, يلزم كل أحد أن يعرف ذلك وعلى العلماء أن يفهموا العوام, ليكونوا عارفين عن نبيهم ولو شيئا قليلا, وأما التبحر فللعلماء. ومن يوم ابتدع الملك المظفر هذه البدعة والعلماء منقسمون بين محسن ومكره, ولكن كلهم متفقون والحمد لله على أن ما يحصل في ليلة المولد من دق الطبول ورقص الصوفية واختلاط الرجال بالنساء والمردان, ونشر الأعلام وما إلى ذلك من الأعمال التي تنافي الحياء وبالتالي تنافي دين الإسلام, أنها أعمال محرمة وضلالات منكرة لا يجوزها إلا الشيطان وحزبه ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون. فالعلماء المحققون يستنكرون الاحتفال بليلة المولد النبوي الشريف, ويقولون إنها بدعة من البدع, وإنها مظاهر لليهود والنصارى, حيث يحتفلون بميلاد أنبيائهم, ودعوى محبة الرسول لا تتحقق بمثل هذه الاحتفالات بل بالاقتداء به عليه الصلاة والسلام وتحكيم شريعته واتباع سنته الغراء. انظر أيها القارئ إلى هؤلاء المحتفلين بهذا الاحتفال وإلى الملوك والأمراء والرؤساء الذين يؤيدون هذه البدعة ويتظاهرون بحب الرسول, ويضللون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 العوام بأنا نحن معشر الملوك والزعماء مسلمون, ونجل دين الإسلام ونحب النبي صلى الله عليه وسلم بشبهة هذا الاحتفال, والله أعلم والناس شهود أنهم أبعد الناس من الشريعة الغراء وأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله, فيتركون القرآن الشريف ويتركون أحكام النبي الكريم, ويستوردون القوانين الغربية وينصبون المحاكم الطاغوتية, بل آل ببعضهم بالإضافة إلى تحكيم القوانين ونبذ الشريعة الغراء, أنهم يتصرفون في الشريعة فأخذ بعضهم يحرم تعدد الزوجات والطلاق ويبيحون شرب الخمور, ويبيحون البغاء والربا والقمار والخنا والفجور وسائر المنكرات, لا يأمرون بمعروف ولا ينكرون منكرا ولا يحكمون في أحكامهم القرآن والسنة, بل ولا يقرؤون القرآن ولا يلتفتون إليه وأكثرهم لا يحج بيت الله الحرام, بل ولا يصلي ولا يصوم شهر رمضان, فبعده من الله ورسوله أبعد من العرش إلى الفرش. ومع هذه المخزيات والظلمات والضلالات والمكفرات والمبتدعات, يموهون على البسطاء ويضللون جهال المسلمين بأنهم مسلمون ويحبون الرسول, وبرهانهم على هذه المحبة الكاذبة لا شيء سوى تأييدهم لهذا الاحتفال المبتدع والحضور في تلك الحفلة أو إرسال من ينوب عن الرئيس والأمير, وكل أدلته وبراهينه على إسلامه المزيف هو هذا الاحتفال فقط, فهل هذا هو الإسلام الذي ارتضاه الله لنا فقال {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً} , بل هؤلاء ليسوا من الإسلام في شيء, وينبغي أن نبشرهم بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . وقوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وفي آية {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وفي آية {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . فإذا كان العلماء والمحققون من الفقهاء والمحدثين لم يجيزوا بدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الاحتفال بالمولد النبوي, لأن الرسول لم يعمله ولا الصحابة ولا التابعون ولا الأئمة المهتدون, كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي والنخعي وداود بن علي الظاهري وسائر علماء الحديث والفقه, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيما روته عائشة أم المؤمنين "ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي, وبقية العشرة المبشرة وسائر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم, أحب الناس إلى الرسول, وكانوا يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم وقد فدوه بأرواحهم وأموالهم وقتل بعضهم أخاه في الجهاد من أجل الله ورسوله وإعلاء دينه, واستأذن عبد الله بن عبد الله أبي بن سلول بأن يأتي برأس أبيه إلى رسول الله لأن أباه كان منافقا, فأراد حبا لله ولرسوله أن يقتل أباه. فهؤلاء الأصحاب الذين بلغ حبهم هذه الدرجة العالية امتثالا لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". فإذا كان هؤلاء لم يعملوا مولدا للنبي العظيم, فما بالك بمولد الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي سأل عنه السائل, ومولد خاجة أجمير وخاجة غريب نواز وخاجه بنده نواز, بل كل هذه الموالد التي تفعل في الهند وباكستان وغيرهما مما يفعل في مصر باسم مولد البدوي والدسوقي والرفاعي وغيرهم من سائر الصالحين, لا يستريب عاقل أنها من البدع والضلالات ولم يقل أحد من أهل العلم المحققين أن هذه البدع مستحسنة, بل فيها من المحظور لما ذكرناه سالفا من اختلاط الرجال بالنساء, ودق الطبول ونشر الأعلام وما يحصل من الفواحش والمنكرات ما يمجه كل ذي طبع سليم. بل هذه الاحتفلات التي تقام باسم دين الإسلام, الإسلام يتبرأ منها وهي وصمة عار في جبين المسلمين الذين يقيمون هذه الاحتفالات والذين يقرونها ولا ينكرونها, بل الواجب على العلماء أن ينكروا على هؤلاء ويبينوا لهم أن تلك الأعمال التي يمارسونها منافية لدين الإسلام, بل ولا يقرها ذوو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 العقول والأفهام, وإن لم يتوبوا فقد دخلوا تحت لعنة الله في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أ. هـ1   1 من الأجوبة الجلية عن الأسئلة الهندية للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الشبهة السادسة عشرة: شبهة المنتقدين أن الشيخ أنكر على الصوفية وطرقهم مقلدا في ذلك ابن تيمية ... الشبهة السادسة عشرة قد نسيت في الطبعة الأولى لكتابي هذا أن أذكر شبهة المنتقدين على الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- بأنه أنكر على الصوفية وطرقهم مقلدا في ذلك ابن تيمية –رحمه الله. فقالوا ما معناه: من المعلوم أن الصوفية أناس غلبوا جانب الآخرة على الدنيا, وزهدوا فيها, ولازموا الأذكار والدعوات في الخلوات, وحب الصالحين والتبرك بهم, والاقتداء بهم, واعتقاد كراماتهم لأنهم بلغوا من الزهد والصلاح ما يقر به الموافق والمخالف, وواظبوا على الصلوات والصيام وسائر الإسلام, فهل يسوغ بالعقل والإنصاف أن ينكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب على هؤلاء الذين نحسبهم صفوة الخلق عند الله؟ وما هو الذنب الذي جنوه حتى ينكر ابن تيمية وابن القيم عليهم, ويقتدي بهم محمد بن عبد الوهاب؟ ولو لم يكن لهم من الفضل إلا التبشير بالزهد في الدنيا والإقبال على الآخر كما قال الله تعالى {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} 1 وقال تعالى {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 2 وقال تعالى {وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 3 وكم جاءت الآيات والأحاديث تزهد في الدنيا وترغب في الآخرة, ثم إن هؤلاء مع التزامهم بالأذكار والصلاة والصيام, جاهدوا كثيرا من الكفار, وبشروا بدين الإسلام في كثير من البلدان ولا سيما البلدان الإفريقية. أما ما ينسب إليهم من المخالفات, فكثير منها مدسوس عليهم, وما صح منها فلها تأويلات واصطلاحات يعرفها الذين يعرفون التصوف وحقيقته. وإذا ما رأيت الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار   1 النساء: 77 2 الأعلى: 17 3 الأعراف: 169 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 جواب الشبهة الكلام على الصوفية طويل, وقد كتب العلماء قديما وحديثا كتبا كثيرة في حقيقة الصوفية وتاريخ نشأتها ومبادئها, ولو ذهبت أذكر هذا لطال الكلام, ولكني سأذكر بعض مبادئ الصوفية, وبه يتجلى أن المنكرين عليهم هم المصيبون, فأقول وبالله التوفيق. إن الصوفية لم تكن معروفة في عهد الصحابة –رضي الله عنهم- بل لم تكن مشهورة في القرون الثلاثة المفضلة, وإنما اشتهرت بعد القرون الثلاثة الأول, وإن كان أصل ابتدائها في القرن الثاني. وإلى القارئ بيان بعض مبادئ الصوفية ومنكراتها: زعمهم أن الإسلام شريعة وحقيقة, ويسمون علماء الشريعة علماء الظاهر, أو علماء الرسوم أو أهل النظر, ويسمون أنفسهم علماء الحقيقة وعلماء الباطن أو علماء الغيب أو أهل الله أو أهل الكشف أو العارفين بالله, ويعتبرون أنفسهم الخاصة وخاصة الخاصة, كما يعتبرون علماء الشريعة طبقة العوام, ويفتخرون على علماء الشرع بأنهم أخذوا علومهم من الأموات, وهم أخذوا علمهم من الحي الذي لا يموت. يقول أبو زيد البسطامي من أئمة التصوف في القرن الثالث يخاطب علماء الشريعة: أخذتم علمكم ميتا عن ميت, وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت, يقول أمثالنا حدثني قلبي عن ربي, وأنتم تقولون حدثني فلان وأين هو؟ قالوا: مات, عن فلان وأين هو؟ قالوا: مات. وأنت خبير أن تقسيم الإسلام إلى شريعة وحقيقة تقسيم مخترع باطل, لم يقيموا عليه دليلا واحدا من الكتاب أو من السنة أو على الأقل من كلام الأئمة المهتدين, ومما يبين بطلان هذا المبدأ. أ- أنهم يدعون بأنهم يخاطبون الله أو يكشف لهم اللوح المحفوظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ويأخذون علمهم مباشرة من الله أو من اللوح المحفوظ ولا حاجة لهم إلى الرسل, فهل هذا مبدأ إسلامي أو كفري, بل كفري وهو الصواب؟ كيف يصح هذا الزعم والله تعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} , ويقول تعالى {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} , ويقول تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} , ويقول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وأجمع أهل الأديان السماوية أن الله تعالى اصطفى من عباده من جعلهم واسطة بينه وبين خلقه في تبليغ شرائعه, ووهبهم مواهب كالصدق والعصمة وقوة الحجة والبيان والفطنة الكاملة ما يؤهلهم لهذا المنصب الشريف, إذ إن طبائع البشر لا تقوى على التلقي من الملك المرسل من الله فضلا أن يكون لديها استعداد لمخاطبة الله, ولم يقل أحد من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة بأن الرسل مرسلون لتبليغ أناس مخصوصين من أمتهم, وهناك أناس عندهم الاكتفاء والاستغناء عن الرسل, كما أنه لا خلاف بين المسلمين أن الله تعالى أرسل محمدا عليه الصلاة والسلام إلى جميع الثقلين الإنس والجن بلا استثناء أحد مطلقا كما قال تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} وقال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} ب- بالإجماع أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق أجمعين, ومع هذه الدرجة العليا والنبوة العظمى, والفضائل التي خصه الله بها لم يقل يوما قط إني آخذ من اللوح المحفوظ وأن لا حاجة لي إلى جبريل ولم يفتر عن عبادة ربه طرفة عين, بل كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه ولم يق إنه بلغ الدرجة التي سقطت عنه التكاليف كالصلاة والصيام وغيرها. ج- هذا المبدأ الضال يهدم الإيمان بالرسل وأنه لا يجب اتباعهم, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 كما يهدم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم العامة إذ بموجب هذا المنطق الضال أنه يسوغ عدم متابعة الرسول لمن وصل تلك الدرجة التي بها يخاطب الله أو يكشف له اللوح المحفوظ بطريق المجاهدة والتخلي عن الدنيا والزهد فيها إلى آخر ما قالوا. د- هذا المبدأ الكفري يفتح الباب على مصراعيه لمن يدعي النبوة ككل دجال يريد أن يفسد عقائد الناس بأنه نبي مرسل أو بأنه كشف له الحجاب عن اللوح المحفوظ أو عن الله, وأن الله خاطبه وأرسله لعباده, إذا ما دام باب كشف الحجاب بين العبد وبين ربه مفتوحا كما تدعي الصوفية, فسيدخل من هذا الباب كل أفاك أثيم ودجال لئيم لإفساد دين الإسلام وعقائد المسلمين, كما زعم ميرزا غلام أحمد القادياني ومحمد علي الباب ودجال السودان محمد محمود طه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 عقيدة الحلول ويعني الصوفية بالحلول1 أن الله سبحانه وتعالى حل في بعض الأجسام واصطفاها واختارها, فانقلبت هذه الأجسام البشرية إلى آلهة تسير على الأرض وتعيش بين الناس. وهذه العقيدة مأخوذة من الديانات اليهودية والنصرانية والمجوسية والهندية والفلسفة اليونانية, وكان الحلاج من أشهر المتصوفة القائلين بالحلول, وقد شرح عقيدة الحلول بقوله: من هذب نفسه في الطاعة وصبر على الملذات والشهوات, ارتقى إلى مقام المقربين ثم لا يزال يصفو ويرتقي في درجات المصافاة حتى يصفو عن البشرية, فإذا لم يبق فيه من البشرية حظ حل فيه روح الإله الذي حل في عيسى بن مريم ولم يرد حينئذ شيئا إلا كان كما أراد2, وكان جميع فعله فعل الله تعالى.   1 الحلول: هو أن يكون الشيء حاصلا في الشيء ومختصا به, حيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر تحقيقا أو تقديرا "كليات أبي البقاء", وحلول الشيء في الشيء: هو أن يكون وجوده في نفسه هو بعينه وجوده لذلك الشيء ويريد به المتصوفة أن الله تعالى يحل في العارفين. 2 هذه ربوبية كاملة وألوهية عظيمة, فإذا أراد الشخص الذي حل فيه الإله في زعمهم أن يحيي ميتا أو يميت حيا, أو يأتي بأي شيء خارق تعجز عنه البشر استطاع وكان في إمكانه, وهل بعد هذا الكفر كفر؟ اللهم لا, سبحانه هذا بهتان عظيم. هذا والرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب ابنته: يا فاطمة بنت محمد: لا أغني عنك من الله شيئا, قال هذا الكلام لسائر عشيرته. ونفى الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى العلم بالغيب إلا ما وصل عن طريق الوحي, وهؤلاء لم يكتفوا بدعوى الولاية والكرامات, بل ارتقوا فوق النبوة لدرجة الألوهية والربوبية, وما رأينا ولا سمعنا ولا قرأنا من سائر الكفرة من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وعباد الأوثان من ادعى هذه الدعوة الباطلة, نعم قد يأتي بعضهم ببعض الخوارق الشيطانية عن طريق السحر أو الأدوية أو غيرها كما في بعض بلاد أوربا والهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 عقيدة وحدة الوجود ويعني الصوفية بها أنه ليس هناك وجود إلا الله, وينقسمون في تصويرها إلى فريقين: "1" فريق يرى الله روحا, والعالم جسم لهذا الروح, فالله هو كل شيء. "2" وفريق يرى جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها غير وجود الله, فكل شيء هو الله. ونجد هذه العقيدة واضحة في كلام الصوفية مثل قول أحدهم: لست أنا ولسته ... فمن أنا ومن هو فيا هو قل أنت أنا ... ويا أنا قل أنت هو ما في الوجود غيرنا ... أنا وهو وهو وهو وقول الآخر: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه عينه ويقول أبن عربي –كما ينسب له- في كفر صريح: الرب عبد والعبد رب ... يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب ... أو قلت رب أنى يكلف كما يقول في كفر أشد صراحة: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا ... وما الله إلا راهب في كنيسة ويقول ابن عربي في كتابه فصوص الحكم ما يؤكد عقيدته: ومن أسمائه الحسنى العلي, على من؟ وما ثم إلا هو؟ فهو العلي لذاته؟ أو عن ماذا؟ وما هو إلا هو, فعلوه لنفسه, وهو من حيث الوجود عين الموجودات أ. هـ1.   1 ملخصا من تحذير المسلمين عن الابتداع والبدع في الدين للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 فإذا كانت هذه عقائد ومبادئ الصوفية, فكيف لا ينكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب عليهم؟ بل يجب على كل مسلم عالما أو غير عالم, أن ينكر هذه العقائد الباطلة وعلى من يعتقدها, لأنها مخالفة لدين الإسلام, ولأنها أداة لهدم الدين الإسلامي بل لجميع الأديان, فتقسيمهم الدين إلى قشر ولباب هو من مخترعات الصوفية, أرادوا به أن يأتوا بالمناكر والمحرمات بدعوى أن ما يعتقدونه ويعلمونه هو لب اللباب, وما يعمله الفقهاء هو من الظواهر, وكأنهم لم يعلموا أن للظاهر تأثيرا على الباطن, وأن للباطن على الظاهر تأثيرا قويا. وقد1 تقرر عند العلماء المحققين أن هناك ارتباطا وثيقا بين الظاهر والباطن, وأن للأول تأثيرا في الآخر, إن خيرا فخير, وإن شرا فشر, وإن كان ذلك مما قد لا يشعر به الإنسان في نفسه, ولكن قد يراه في غيره. قال شيخ الإسلام رحمه الله وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء: وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة, حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم, وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين, أو كانا متهاجرين, وذلك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة, بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب, وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما, كذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضا ما لا يألفون غيرهم, حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة, إما على الملك وإما على الدين, وتجد الملوك ونحوهم من الرؤساء –وإن تباعدت ديارهم وممالكهم- بينهم مناسبة تورث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض, وهذا كله بموجب الطباع ومقتضاها, إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرض خاص, فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة, فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟   1 بدء الكلام من تفسير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب للشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد, والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان, قال الله تعالى {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 1. فأخبر سبحانه وتعالى أن لا يوجد مؤمن ود كافرا, فمن واد الكفار فليس بمؤمن, فالمشابهة مظنة المودة فتكون محرمة. ا. هـ.2 فإذا كان هذا الارتباط الوثيق بين الظاهر والباطن, فكيف يسوغ لهؤلاء الصوفية أن يفرقوا بينهما, ويجعلوا الظاهر قشرا, والباطن لبابا؟ إن هذا إلا إفك افترته الصوفية, وأرادت به هدم الشريعة الإسلامية, ولهذا يوجد في هذا العصر من يخالفون الشريعة الإسلامية, ويأخذون ببعض النصوص لإثبات عكس ما وضعت له, ويسمون الأشياء بغير أسمائها, لأنهم لا يتهمون ببعض الشرائع الظاهرة التي يسمونها شكليات أو قشور, ويدندنون حول التمسك باللباب, ولم يعرف سلفنا الصالح هذا التقسيم الباطل, ويصدق على هؤلاء المتصوفة قول الله تعالى {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} 3. وهذا القول يلقى رواجا عند المتساهلين بأمر الدين, وإهمالا لظاهر الأعمال احتجاجا بصلاح الباطن, حتى إنهم يسمون المعاصي بغير أسمائها, فيقولون مثلا: إن إعفاء اللحية من سنن العادة, وقص الشارب من الأمور العادية التي لا صلة لها بتبليغ الرسالة, إلى غير ذلك مما يحرفون به الكلم عن مواضعه, فيستطيع الصوفي أن يأتي بكل منكر يريده, ثم يقول لمن ينكر عليه: هذا منكر في الظاهر, والظاهر كالقشر, وعندنا علم الباطن, والباطن لا يحرم هذا, ولهذا وقع بعضهم في استعمال الحشيش والمخدرات. كما ذكر ابن عقيل –رحمه الله- أنهم فرقوا في زعمهم بين الشريعة والحقيقة, وأنهم استحلوا الحشيش المخدر, بل هم أول من اكتشفه   1 المجادلة: 22. 2 من المصدر السابق. 3 النجم: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وروجه في أوساط المسلمين, واستحلوا الغناء والاختلاط, واستحلوا التظاهر بالكفر والزندقة زاعمين أن لهم أحوالا وشطحا, وأنه يجب عدم الإنكار عليهم لأنهم مجاذيب أو مشاهدون لحضرة الرب في زعمهم. أ. هـ1. وأما قولهم: أن الصوفية أناس غلبوا جانب الآخرة على الدنيا, وزهدوا فيها, ولازموا الأذكار والدعوات في الخلوات, وحب الصالحين والتبرك بهم, والاقتداء بهم,.. الخ. فالجواب: إن ملازمتهم للأذكار والدعوات ليس من الذنب ولا العيب, ولكن تلك الأذكار والدعوات أكثرها مخترعة ومبتدعة, ليس لها من السنة نصيب, كالذكر بالاسم المفرد: الله, الله, أو قولهم: يا هو, يا هو, وكل عبادة لم تكن على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنها مردودة وغير مقبولة للحديث الصحيح: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. أي مردود عليه غير مقبول. ودعوى الكرامة تسهل على كل أحد أن يدعيها, ولكن الشأن في تحقيق الشخص الذي تصدر منه تلك الكرامات, الميزان كتاب الله العظيم وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في عبادته وكل أحوال حياته, موحدا بالله العظيم, ثم بدت منه بعض الخوارق, فيمكن أن نقول بأنها كرامة. أما من يشرك بالله, كأن يستغيث بغير الله, أو يذبح لغير الله, أو يطوف بقبر من القبور, أو لا يواظب على الصلاة والعبادات الأخرى, ثم يدعي الكرامة, فهذا دجال كذاب, لا تقبل منه هذه الدعوى وترد عليه   1 من "فضائح الصوفية بتلخيص وتصرف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ولو فرضنا أن صدرت من مثل هذا الرجل بعض الخوارق, فتفسيرها: إما أن تكون من السحرة, أو ممن يستخدم الجان, لأن الجني إذا حصل مطلوبه من الإنس قد يقضي له بعض الحوائج, كأن يطير به في الهواء, أو يأتي له بفاكهة في غير أوانها, أو يخبره ببعض المغيبات. فهذه الدعوى التي تدعيها الصوفية لا تروج إلا على الجهلاء. أما قولهم: بلغوا من الصلاح ما يقر به الموافق والمخالف؟ فهذا غير مسلم, المخالف لا يقر, والموافق جاهل ليس له علم وتمييز يفرق به بين الحق والباطل, ولهذا يكون تابعا لكل ناعق, ومقلدا لكل جاهل, فليس في هذا حجة. وقولهم: إنهم يبشرون بالزهد في الدنيا, والإقبال على الآخرة؟ فالزهد ليس هذا الزهد الذي تدعيه الصوفية, فالدنيا ما خلقها الله عبثا, بل جعلها مطية للآخرة, فسليمان عليه السلام كان ملكا ونبيا, ومع ذلك كان زاهدا, ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعظم الزهاد1, وأبو بكر وعمر وكثير من الصحابة –رضي الله عنهم- حتى من أغنيائهم كانوا زهادا, ومعنى الزهد أن لا يكون كل همك في الدنيا, بل تعطي للدنيا نصيبا وللآخرة نصيبا, قال الله تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 2. كما ورد في الأثر: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا, واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.   1 فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني". 2 القصص: 70 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 والذي يمعن النظر في رجال التصوف, ولا أقول كلهم, بل أقول أكثرهم أنهم يدعون الزهد, ويترأسون على العوام الجهال, ويجلبون منهم الحطام من الأنعام والزرع والثمار, ويقومون لهم بالأعمال الدنيوية, وكل زهده أن تكون له سبحة طويلة ولحية كبيرة, جالس على فراشه يأتي إليه أتباعه يقبلون يديه ورجليه, ويذم الدنيا بلسانه أما بالفعل فلا. ولم ينكر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- عليهم من أجل صلاتهم ودعائهم وأذكارهم, إنما ينكر الابتداع والتفرق والطرائق, فهذا شاذلي وهذا نقشبندي وهذا رفاعي, إلى غير ذلك من الطرق, ولكل واحد ذكر مخصوص وطريقة معينة, فمتى ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟ وما يزعمون من الخرافة الصوفية التي يدعون أنها صادرة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه كذب واختلاق, فعلي بن أبي طالب أجل من ذلك. فإن قالوا: إن علماء الظاهر قد تفرقوا إلى عدة مذاهب كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وسفيان والأوزاعي والنخعي, فنحن كذلك, فلأي شيء تنكرون علينا؟ فالجواب: إن أولئك الأعلام خدموا الإسلام والمسلمين, وأسسوا مذاهبهم على الكتاب والسنة, ولم يدخلوا فيها شيئا من البدع والضلالات, ولا عبرة ببعض المتأخرين من مقلدي المذاهب إذا حسنوا بدعة أو مارسوا بدعة. والإنكار على الصوفية لم ينفرد به شيخ الإسلام ابن تيمية ولا الحافظ ابن القيم ولا الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمهم الله- بل أنكر عليهم جماعة من العلماء قبل الشيخ ابن تيمية وبعده, فقد أنكر عليهم العلامة برهان الدين البقاعي والعلامة ابن المقري والعلامة ابن حجر العسقلاني, والعلامة تقي الدين محمد بن دقيق العيد الذي عاصر شيخ الإسلام ابن تيمية وكفرا ابن عربي وابن الفارض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ومن أنكر عليهم أيضا سلطان العلماء عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام وكان قبل شيخ الإسلام ابن تيمية. قال العز بن عبد السلام في ابن عربي: شيخ سوء كذاب, يقول بقدم العالم, ولا يحرم فرجا, وتابعه في الإنكار الشيخ الإمام قطب الدين بن القسطلاني. ومن المنكرين قاضي القضاة, قدوة أهل التصوف إمام الشافعية بدر الدين محمد بن جماعة, فقال: وحاشا رسول الله أن يأذن في المنام فيما يخالف أو يضاد قواعد الإسلام. وأنكر عليهم الإمام ابن حيان محمد بن يوسف الأندلسي, ذكر ذلك في تفسيره سورة المائدة عند قول الله تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 1: فقال: ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط من أقر بالإسلام ظاهرا وانتمى إلى الصوفية, حلول الله في الصور الجميلة, ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة, كالحلاج والشعوذي وابن أحلى وابن عربي المقيم بدمشق وابن الفارض, وأتباع هؤلاء كابن سبعين –وعد جماعة. ثم قال: وإنما سردت هؤلاء نصحا لدين الله, يعلم الله ذلك, وشفقة على ضعفاء المسلمين, وليحذروا, فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله ورسوله, ويقولون بقدم العالم, وينكرون البعث, وقد أولع جهلة ممن ينتمي إلى التصوف بتعظيم هؤلاء, وادعائهم أنهم صفوة الله. ا. هـ2. وممن أنكر عليهم البلقيني, وعلاء الدين البخاري وغيرهم كثير3. وهؤلاء العلماء الذين ينكرون على الصوفية وغيرهم من العلماء   1 الآية 17. 2 من تنبيه الغبي للعلامة البقاعي باختصار وتصرف. 3 من أراد الزيادة فليراجع تنبيه الغبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 المنكرين, إما أن يكون إنكارهم في رسالة خاصة أو كتاب خاص, وإما أن يكون إنكارهم في أثناء كتاب يكتبونه وفي مناسبة ينكرون عليهم. فكيف يقال بعدئذ أن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب, أو شيخ الإسلام ابن تيمية هما المنكران فقط على الصوفية؟ لا يقول هذا إلا جاهل أو متجاهل للحق والحقيقة. الخلاصة: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب متبع للكتاب والسنة, لم ينكر على أحد شيئا إلا وله دليله, ولم يأمر أحدا بأمر إلا معه دليله, وكان كما قال بعض العلماء في حقه: هل قال إلا وحدوا رب السما ... وذروا عبادة ما سوى المتفرد وتمسكوا بالسنة البيضا ولا ... تتنطعوا بزيادة وتردد وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 سلسلة من الافتراءات التي ذكرها السيد أحمد زيني دحلان مفتي مكة المكرمة في عصره عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأجوبة عنها "1" قال رجل يوما لمحمد بن عبد الوهاب: كم يعتق الله كل ليلة في رمضان؟ فقال له: يعتق كل ليلة مائة ألف, وفي آخر ليلة يعتق مثل ما أعتق في الشهر كله, فقال له: لم يبلغ من اتبعك عشر عشر ما ذكرت, فمن هؤلاء المسلمون الذين يعتقهم الله تعالى, وقد حصرت المسلمين فيك وفيمن اتبعك؟ فبهت الذي كفر. أ. هـ. والجواب من وجوه: الأول: عدم الاعتماد على خبر الفاسق الكاذب إلا بعد التبين. الثاني: إن في نفس هذا الخبر والحكاية ما يقتضي كذبه, من أن محمد بن عبد الوهاب قال له: يعتق في كل ليلة مائة ألف, وفي آخر ليلة يعتق مثل ما أعتق في الشهر كله, فإن هذا العدد لم يقع في حديث صحيح ولا حسن, وإنما وقع في رواية ضعيفة شديدة الضعف أو موضوعة, ومحمد بن عبد الوهاب بحمد الله تعالى كان من نقاد أهل الحديث, فكيف يتصور أن يجيب بهذا الجواب السخيف الساقط؟ نعم جاء في حديث "ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة ", وفي حديث "إنه يغفر لأمته في آخر ليلة من رمضان". وعلى هذا فليس فيه إشكال. الثالث: إن صدق هذا الحديث في كل زمان من أوضح الأباطيل, إذ يجيء في قرب الساعة يقبض فيه روح كل مؤمن, فكيف يصدق هذا الحديث؟ فهو إما باطل أو مؤول بأن يحمل على زمان يبلغ فيه عدد المسلمين هذا المبلغ أو يزيد, وهذا التأويل كما يمكن من جانب من ليس من أتباع الشيخ كذلك يمكن من جانب أتباعه من غير فرق. وقوله: فبهت الذي كفر, فهذا تكفير للشيخ برأه الله, ووصف الكفر ينطبق على عباد الأنبياء والصالحين, لا على أمثال الشيخ وأتباعه الموحدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 "2" إنه منع الناس من زيارة النبي صلى الله عليه وسلم, وكان ينهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم, ولهذا أحرق دلائل الخيرات وغيرها من كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والجواب: قوله: منع زيارة النبي صلى الله عليه وسلم كذب واضح, فلم يمنع الشيخ محمد بن عبد الوهاب زيارة قبور سائر المسلمين, فكيف يمنع زيارة النبي صلى الله عليه وسلم, ولكنه منع شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة كما في الحديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد, مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى". وأما قوله: منعه للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم, وإحراقه لكتاب دلائل الخيرات وغيرها من كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. فالجواب: قد تقدم في أوائل الكتاب, وخلاصته: إن هذا من الافتراءات التي لا يفتريها إلا من رق دينه وقل عقله, وكذلك تقدم الجواب عن دلائل الخيرات في فصل مستقل. ونزيد القارئ بيانا عما قاله العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في خصوص الدلائل: وحرق عمدا للدلائل دفترا ... أصاب ففيها ما يجل عن العد غلو نهى عنه الرسول وفرية ... بلا مرية فاتركه إن كنت تستهدي أحاديث لا تعزى إلى عالم ولا ... تساوى فلسا إن رجعت إلى النقد وصيرها الجهال للدرس ضرة ... يرى درسها أزكى لديه من الحمد "3" وكان يمنع أتباعه من مطالعة كتب المذاهب الفقهية والتفسير والحديث, وأحرق كثيرا منها وأذن لكل من تبعه أن يفسر القرآن بحسب فهمه حتى من كان أرسخ العوام جهلا. والجواب: هذا من الكذب والبهتان الذي أملاه عليهم الشيطان, وكتب الشيخ وأولاده وأتباعه تنادي سرا وجهرا, بأن ما زعمه المعترضون لا أصل له, بل من الإفك الجلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 فعند آل الشيخ بالخصوص مكتبة عامرة بألوف من الكتب في المذاهب الأربعة وغيرها في التفسير وعلومه, وفي الحديث وعلومه ورجاله, وفي كتب التوحيد, وفي العلوم العربية والأدب وغيرها من الفنون والعلوم الشيء الكثير, ومن أراد أن يعرف صدق ما أقول, وكذب أولئك, فليقرأ كتب الشيخ وأتباعه ليرى فيها النقول الكثيرة من كتب أئمة المذاهب الأربعة وغيرها من التفاسير والأحاديث والأصول ما يبين أوضح البيان ويقيم أسطع البرهان على كذب أولئك الذين زعموا أن الشيخ منع أتباعه من قراءة كتب المذاهب والتفسير والحديث, بل يفترون ويقولون أنه أحرق كثيرا منها. "4" وكان الشيخ يدعي الاجتهاد, ولأجل هذه الدعوى أتى بتلك الأقوال التي لم يقلها أحد قبله إلا ابن تيمية, ومن المعلوم أن الاجتهاد قال العلماء بمنعه بعد الأئمة الأربعة وتلامذتهم, ومن ادعى الاجتهاد سفهوا رأيه وردوا عليه, فهذا السيوطي مع جلالة قدره ادعى الاجتهاد فردوا عليه وخطأووه ولا تخفى مكانة السيوطي العلمية, ومع ذلك لم يقبلوا قوله ونقدوه. الجواب: أولا: إن الاجتهاد نوعان, مطلق ومقيد, فالشيخ رحمه الله لم يدع الاجتهاد لا مطلقه ولا مقيده, وعلى الفرض والتقدير أنه ادعى الاجتهاد, فأي شيء فيه من المنكر, فالاجتهاد بذل الوسع لمعرفة المسائل وأدلتها من الكتاب والسنة والقياس والإجماع, والذين منعوا الاجتهاد وقالوا: إن الباب أغلق من بعد الأئمة الأربعة وتلامذتهم ليس معهم دليل عقلي ولا نقلي صحيح, إنما هو رأي ارتأووه وسوغوا قولهم بأن الهمم فاترة, ولا نجد من فيه الكفاية من بعد أولئك الأعلام, فلهذا يجب التقليد واحد منهم كما قال اللقاني: فواجب تقليد حبر منهم ... كذا حكى القول بلفظ يفهم والتقليد: أخذ قول الغير من غير معرفة دليله, وقول الناظم: فواجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 تقليد حبر منهم ... الخ الوجوب من الأحكام الخمسة التي هي الوجوب والندب والكراهة والتحريم والإباحة, والحكم خطاب الله المتعلق بفعل المكلف, فمن الذي أوجب تقليد إمام من الأئمة الأربعة وغيرهم, هل الله أو رسوله؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} , وقد أوردوا بعض الحجج على وجوب التقليد, وردها العلماء المحققون كالعلامة ابن القيم في إعلام الموقعين, والشوكاني في القول المفيد, وأرشاد الفحول, والفلاني في إيقاظ أولي الهمم وغيرهم, فلا نطيل بذكر تلك الحجج والرد عليها. والخلاصة أن رأيهم هذا خطأ محض, ليس عليه شبهة الصواب, فضلا عن الحجة والدليل, ولا يجب تقليد أحد من الأئمة الأربعة إلا لمن كان عاجزا عن معرفة الدليل. أما من أوتي طرفا من علم الفقه والتفسير والحديث والأصول واللغة العربية, فإن لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق, وبحث واجتهد, فلا أقل من أن يتأتى له أن يعرف المسألة التي يريدها بدليلها فإذا عرف ذلك خرج عن دائرة التقليد في تلك المسألة. والشيخ محمد بن عبد الوهاب من تواضعه قال: ولا ندعي الاجتهاد, ومن سيرة الشيخ وكتبه جزم أن الشيخ رحمه الله بلغ درجة عالية من العلم, وأنه كان في إمكانه أن يقيم الأدلة من الكتاب والسنة على ما يذهب إليه ويدين به, ولكن المبتدعين من أعداء الشيخ يريدون أن يخلقوا له المثالب والطعون, فيأتون بما هب ودب وبما يخالف العقول الراجحة والأذواق الصحيحة, وإلا فقل لي بربك إذا منع أتباعه من قراءة كتب المذاهب والتفسير والأحاديث, فعلى أي شيء يعتمد في تأليفه وأحكامه وأقضيته ودروسه؟ وهل يستغني أحد عن كتب أئمة العلم؟ لكن التعصب الأعمى والتقليد المذموم يجعل الإنسان يهرف بما لا يعرف ويقول ما لا يعقل. وهؤلاء متأثرون بما قاله بعض الفقهاء من شروط الاجتهاد والعديدة التي لعلها لم تتوفر حتى في أبي بكر وعمر, ولما تصوروا تلك الشروط وطبقوها على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 أنفسهم وقرنائهم وأهل عصرهم وجدوها لم تتوفر في أحد منهم. وكل ما في الأمر أن المجتهد من يعرف آيات الأحكام وأحاديث الأحكام, ويميز بين الخاص والعام والمطلق والمقيد, والناسخ والمنسوخ, والظاهر والمؤول, ويعرف إجماع العلماء وخلافهم, ويعرف طرفا من اللغة العربية, ويجوز له الاكتفاء بتصحيح الأحاديث التي صححها الأئمة المحدثون كالبخاري ومسلم وأبي داود وأمثالهم, ولا يجب على المجتهد أن يحيط بعلم الأولين والآخرين, ولا أن يحيط بجميع الأحاديث وجميع تفسير القرآن الكريم وسائر العلوم العربية وغيرها, مع أن معرفة تفسير القرآن كله والأحاديث إن لم يتأت لكل أحد, فقد يتأتى من كثيرين, وفضل الله واسع يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم, ولا يشك عاقل في بطلان هذا القول وفساده, وأنه قول على الله بغير علم, ورجم بالغيب, وتكهن وحكم على الله بأنه لا يمكن أن يوجد من يكون مجتهدا, وكفى بهذا القول فسادا وبطلانا. والكلام عن الاجتهاد والتقليد طويل, وقد كفانا علماء الأصول مؤنة البحث, فليراجع من يشاء, والمراجع عديدة وقد بينت هذا الموضوع بيانا شافيا في كتابي سبيل الجنة بالتمسك بالكتاب والسنة, وكتابي تنزيه السنة والقرآن. فإذا وقفت على ما ذكرت, وأن شروط الاجتهاد ليست عسيرة, وفي الإمكان لم جد واجتهد وساعده توفيق الله أن ينال الاجتهاد المطلق أو المقيد. والشيخ محمد بن عبد الوهاب لا نشك ولا يشك أحد ممن قرأ كتبه أنه إن لم يكن مجتهدا مطلقا, فلا أقل من أنه كان ممن يستطيع أن يرجح بقوة الأدلة وضعفها في قضية ما من القضايا. وأما كون العلماء ردوا على من ادعوا الاجتهاد وسفهوا رأيه, فهذا من تعصبهم المقيت, وغلوهم في التقليد, وليس لهم في ميزان العلم والعقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ما يساعدهم على ذلك, فمنعهم الاجتهاد خطأ وردهم على يدعي الاجتهاد إذا كان لديه من العلم من تلك الدعوى خطأ أكبر. ولا ريب عندنا أن جلال الدين السيوطي وقبله الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام النووي, والعز بن عبد السلام, وشيخ الإسلام ابن تيمية, والحافظ ابن القيم وابن قدامه المقدسي، وأمثال هؤلاء العلماء الفحول الأجلاء لم يكونوا يتقيدون بالتقليد الأعمى، ولكن بعضهم خوفا من ألسنة العامة وألسنة بعض المنتسبين إلى العلم وإثارة الغوغاء والبلبلة, ينتسب إلى المذهب لكنه يشير في العبارات بمثل أنا أختار كذا، وهذا ما يؤيده الدليل أو قلت الأصح كذا ونحو ذلك من العبارات التي لا تخفى على من مارس العلوم الدينية أن صاحب هذه الأقوال لم يكن مقيدا مطلقا بالمذهب. وإلى القارئ الآن جملا من المفتريات الغريبة المضحكة على عقول أولئك المفترين ودحضها: "1" زعموا أن الوهابية ملكوا الطائف في ذي القعدة سنة 1217هـ وقتلوا الكبير والصغير والمأمور والآمر، ولم ينج إلا من طال عمره، وكانوا يذبحون الصغير على صدر أمه، ونهبوا الأموال، وسبوا النساء. والجواب: أن دعوى قتل المسلم قد سبق في أول المقال، فالشيخ رحمه الله ألف كتاب الكبائر وفيه باب تعظيم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يخفى على أقل مسلم أنه لا يجوز سب المسلم فضلا عن قتله، وفي الحديث الصحيح "لعن المسلم كقتله". وفي حديث آخر "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". ولا تخفى الآية الكريمة من سورة النساء -93, قال تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} . فكيف يقدم الشيخ أو أتباعه على قتل مسلم بغير حق، وفي الحرب قد يكون القتل، ولكن للحرب مسوغات، والشيخ لم يحارب أحدا ولا الدولة السعودية سلفا وخلفا بغير حق، وحتى في حالة الحرب ما ذنب النساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 والصغار لأن يقتلوهم. "2" زعموا أن الوهابيين يحكمون على الناس بالكفر منذ ستمائة سنة وتجرؤوا على استباحة أموال الناس ودمائهم وانتهاكهم حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بارتكابهم أنواع التحقير له ولمن أحبه، وغير ذلك من مقابحهم التي ابتدعوها وكفروا الأمة بها، وكانوا إذا أراد أحد أن يتبعهم على دينهم طوعا أو كرها يأمرونه بالإتيان بالشهادتين أولا، ثم يقولون له: اشهد على نفسك أنك كنت كافرا، واشهد على والديك أنهما ماتا كافرين، واشهد على فلان أنه كان كافرا، ويسمون له جماعة من أكابر العلماء الماضين فإن شهدوا بذلك قبلوهم وإلا أمروا بقتلهم. والجواب: قولهم كانوا يصرحون بتكفير الأمة منذ ستمائة سنة من الكذب الواضح والافتراء الصريح الذي لا يخفى على أحد من المسلمين. وجوابا على قولهم بانتهاك حرمة النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجل في قلب الشيخ وأتباعه من ذلك المفتري، ويعتقدون كما يعتقد كل مسلم حق أنه أفضل الخلائق وله الشفاعة العظمى، وقد مر هذا الكلام. وقولهم: إن من مقابحهم التي ابتدعوها وكفروا الأمة بها ... الخ فالجواب: ليس للشيخ وأتباعه مقابح، والدعوى التي أتى بها الشيخ هي من صميم القرآن والسنة ولا يقال لمن يدعو إلى التمسك بالقرآن والسنة أتى بمقابح بل الذي يردد هذا الكلام يشم منه رائحة الكفر، حيث سمى من دعا إلى كتاب الله وسنة رسوله قبيحا. أما قولهم: إذا أراد أحد أن يتبعهم على دينهم يأمرونه بالإتيان بالشهادتين.. الخ. تأمل أسها القارئ هذه العبارة السخيفة، هل للشيخ وأتباعه دين غير دين الإسلام، والمسلم لا يقال له: تشهد بالشهادتين إلا إذا كان كافرا وأراد الدخول في الإسلام، فكلمتهم هذه "إن أراد أن يتبعهم على دينهم"، كلمة كبيرة، وكأنهم ينسبون الشيخ وأتباعه إلى دين آخر، كبرت كلمة تخرج من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 أفواههم إن يقولون إلا كذبا, والحمد لله رب العالمين الذي أبان بمرور الأيام والسنين وانتشار كتب الشيخ وأئمة الدعوى حقائق هذه الدعوة السنية الموافقة للكتاب والسنة المرضية, كما تبين كذب خصوم الشيخ وافترائهم الصريح. وقصد هؤلاء المدعين بهذا الزور والبهتان والهذيان أن يصدوا الناس عن التوحيد وإفراد الله بالعبادة, لأنهم يعلمون أن الناس إذا فهموا حقيقة الدعوة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه, سيعرفون إذ ذاك ما كانت تجوز لهم مشايخهم وعلماؤهم من صرف العبادات لغير الله والصالحين مسبوكا في قالب حب الأنبياء والأولياء وبناء القباب عليهم, كله خطأ وضلال وشرك ووبال, وإذ ذاك تعرف العامة والخاصة مقام أولئك المدعين بالعلم والمدعين لمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم, وجل همهم وقصدهم كان الرئاسة على العوام وجلب الحطام, من أجل ذلك شمروا عن ساق الجد والاجتهاد وأشعلوا نار الحرب على كتب الشيخ وأتباعه بالسيف والسنان والدعايات الضالة وباللسان وتأليف الكتب والخطب, ولكن الله رد كيدهم إلى نحورهم. ونحن نتحدى هؤلاء الكذابين المفترين الذين نسبوا إلى الشيخ تلك الافتراءات, أن يأتوا بكتاب من كتب الشيخ أو أبنائه أو أتباعه فيه شيء مما ذكره هؤلاء, والواجب على من ينسب إلى أحد قولا, عليه أن يثبت بالدليل, وإلا فكذب ومردود عليه, مهما سمت درجته وعلت مكانته, ولكن الأمر كما قيل: لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيلة من كان يخلق ما يقول ... فحيلتي فيه قليلة "3" يزعمون أن الوهابيين إذا دخل أحد في دينهم, وكان قد حج حجة الإسلام قبل ذلك, يقولون له: حج حجة ثانية, لأن الأولى فعلتها وأنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 مشرك, فلا يسقط عنك الحج, كما كانوا يسمون من اتبعهم من الخارج بالمهاجرين, ومن كان من أهل بلدتهم بالأنصار. والجواب: ما ذكروه هذا كله إفك وافتراء وضلال بلا مراء, فلم يقل الشيخ وأتباعه هذا الكلام السخيف وعلى فرض أنهم قالوا لمن رأوه يستغيث بالأولياء أو يطوف بالقبور أن هذا شرك, فقد سبق وأن قدمنا أ، هم لا يبادرون بتكفير أحد قبل إقامة الحجة عليه من الكتاب والسنة, ثم إذا أصر على ضلاله وشركه بعد ذلك, فيقال له إن هذا مشرك ولا كرامة, وإذا ثبت الشرك في حقه ثم هداه الله تعالى إلى الحق. فقد يقولون له: تشهد بالشهادتين, لأنه أصبح مرتدا بشركه, فأي غرابة في هذا الكلام حتى يسبك في قالب التنفير والصد عن سبيل الله. "4" يقول هؤلاء المفترون: الظاهر من حال محمد بن عبد الوهاب أنه يدعي النبوة, إلا أنه ما قدر على إظهار التصريح بذلك, وكان في أول أمره مولعا بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذبا كمسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي وأضرابهم, فكأنه يضمر في نفسه دعوى النبوة. والجواب: أي دليل وأي حجة من نقل أو عقل تؤيد كلامهم وزعمهم هذا؟ وهل يستطيعون أن يأتوا بحرف من كتب الشيخ أو أتباعه تؤيد دعواهم؟ لا وألف لا, وما هو الدليل على أن الشيخ كان يدعي النبوة؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . ومن المعلوم بالضرورة وبإجماع المسلمين أن علم ما في القلوب انفرد به الله, كما قال تعالى {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} وقال: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . وظاهر هذا الكلام أن المبتدعين المعترضين يعلمون ما في القلوب وهو من علم الغيب, وكفى بهذا كفرا وضلالا. ولو كان يدعي النبوة أو عنده دين جديد كما يقولون, لما أمر الناس باتباع القرآن المجيد والسنة الغراء, وهل وقع الخلاف بينه وبين الناس, وأدى هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الخلاف إلى نشوب القتال بين الشيخ وأنصاره وبين القبوريين وأنصارهم إلا أنه طلب أن يذعنوا للكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أقام الدلائل العديدة من القرآن والسنة على أن بعض أعمالهم وأقوالهم شرك مخرج من الملة كالطواف بقبور الأولياء, والذبح والنذر لهم والاستغاثة بهم, وبعض أعمالهم من البدع والضلالات التي لا تصل إلى حد الشركك, كبعض الأذكار قبل الأذان. ثم إن قولهم: إنه كان مولعا بمطالعة أخبار من ادعى النبوة الخ, فهذا الكلام من جنس ما قبله من الأكاذيب التي لا تخفى على من عرف شيئا ولو قليلا من سيرة الشيخ وأتباعه واجتهادهم في نشر علوم الكتاب والسنة, وهل يعاب المرء إذا قرأ أخبار المتنبئين الكاذبين أو أخبار الجبابرة الظالمين أو أخبار الصناديد المشركين ليطلع على أحوالهم, ويستخرج دروسا وعبرة يستطيع بها الرد على من كان مثلهم؟ فيا سبحان الله, هذا القرآن العظيم يذكر عن الجبابرة والمشركين والسحرة, فإذا كان القرآن يذكر هذه الأمور, ويقص سير الأمم السالفة, ليتعظ كل ذي لب, فلم ينكرون على الشيخ اطلاعه على سير المتنبئين الكذابين, ليرد عليهم وعلى أمثالهم بما يستحقون. وهؤلاء المدعون كأنهم لم يقرؤوا قول الله تعالى {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} , وقول الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} . وفي الحديث المتفق عليه "إياكم والكذب, فإن الكذب يهدي إلى الفجور, والفجور يهدي إلى النار وما زال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا". وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل لتكلم بالكلمة ما يتبين فيها –أي ما يفكر فيها- بأنها حرام يزل بها في النار أبعد من بين المشرق والمغرب" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت". ومما يبين كذبهم أن الشيخ رحمه الله كان كل اجتهاده, وهكذا أتباعه من بعده أن الناس يرجعون إلى الكتاب والسنة ويذرون الشرك والبدع والضلالات ويتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم في أقوالهم وأفعالهم وعباداتهم كما قال الله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} , ورحم الله ملا عمران حيث قال: هل قال إلا وحدوا رب السماء ... وذروا عبادة ما سوى المتفرد وتمسكوا بالسنة البيضا ولا ... تتنطعوا بزيادة وتردد هذا الذي جعلوه غشا وهو قد ... بعثت به الرسل الكرام لمن هدي والشيخ لا يذكر سيرة هؤلاء المتنبئين الكذابين إلا للعبرة والعظة, ليعرفهم المسلمون, وما كان موقفهم تجاه الرسول, وما كان موقف الرسل تجاههم, وليقارن بين الإيمان والكفران, وبين المؤمن الثابت والمؤمن المتذبذب. والعجب من أولئك المعترضين على الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذين يذكرون سلسلة من الافتراءات التي مر كثير منها, لا يأتون بنقل من كتب الشيخ أو أبنائه أو أتباعه, وإنما مجرد كلام وكيل الاتهام, وأعجب من هؤلاء أولئك الذي يصدقون ويؤمنون بهذه المفتريات على الشيخ وأتباعه, وينشرون في الناس تضليل الشيخ محمد بن عبد الوهاب, وأنه قال كذا وكذا واعتقد كذا وكذا مما مر بيايه غير مرة, والعاقل فضلا عن العالم يجب عليه إذا ألقي إليه خبر أو قرأ كتابا أن يتثبت وأن يبحث عن صحة هذا الكلام وثبوته للمنسوب إليه أو عدم صحته, وعدم ثبوت نسبة الكتاب أو القول إليه. ومن الذي سلم من نقد الأعداء واتهامهم ابتداء من سيد المرسلين وخاتم النبيين مرورا بالخلفاء الراشدين وأئمة البيت المطهرين والأئمة المهتدين, فلو أن كل كلام يقبل لما بقي عالم سالما من الطعن, ولا حجة لنا الآن في بيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وسرد تلك الاتهامات الباطلة التي اتهم بها الأعداء أجلاء الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين. وأزيدك بيانا وإيضاحا, بأن أنقل لك من "تاريخ نجد" لمحمود شكري الألوسي "رحمه الله" مناظرة ذكرها في تاريخه جرت بين عراقي وهو "داود بن جرجيس البغدادي" وعالم نجدي, وهو "الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن" مؤلف "منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس". وإنما أنقل بعضها لك, لما تضمنته هذه المناظرة من الفوائد النافعة, والمسائل القيمة, والجواب عن بعض ما اشتبه على بعض الناس, وكشف ما أشكل. وهاأنا ألخص منها ما يمس بموضوعنا: قال العراقي: لم تكفرون –يا أهل نجد- المسلمين وعباد الله الصالحين, وتعتقدون ضلالهم وتبيحون قتالهم, واستبحتم الحرمين الشريفين, وجعلتموهما دار حرب, واستحللتم دماء أهلهما وأموالهم, وجعلتم دار مسيلمة الكذاب, هي دار الهجرة, ودار الإيمان, مع ما ورد فيها من الحديث أنها مواضع الزلازل والفتن, لما طلب أهل نجد الدعاء لأرضهم؟ والتكفير أمر خطير حتى أن أهل العلم ذكروا أنه لو أفتى مائة عالم إلا واحدا بكلمة كفر صريحة مجمع عليها, قال عالم واحد بخلاف أولئك, يحكم بقول الواحد, ويترك قول غيره, حقنا للدماء, فلم لا تتبصرون في أمور دينكم, ولا تراقبون وقوفكم بين يدي بارئكم, وتركتم الناس سالمين من ألسنتكم وأيديكم؟ قال العالم النجدي المجيب: أيها العراقي, ليس الأمر كما علمت أنت وأمثالك, بل أنتم في لبس مما نحن عليه, وعسى أن يزول ذلك عنكم إذا صادف ما أكتبه لكم, قلوبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 سالمة من داء الغباوة, فأقول: أركان الإسلام خمسة: أولها الشهادتان: ثم الأركان الأربعة. فالأربعة, إذا أقر بها أحد وتركها تهاونا, فنحن وإن قاتلناه على فعلها, فلا نكفره بتركها, والعلماء اختلفوا في كفر تارك للصلاة كسلا من غير جحود. ولا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم, وهو الشهادتان. وأيضا نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر. فنقول أعداؤنا معنا على أنواع. النوع الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أظهره للناس وأقر أيضا أن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر الذي هو دين غالب الناس, أنه الشرك بالله, الذي بعث الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه, ويقاتل أهله ليكون الدين كله لله, ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد ولا تعلمه ولا دخل فيه, ولا ترك الشرك. فهو كافر نقاتله بكفره, لأنه عرف دين الرسول, فلم يتبعه, وعرف دين الشرك فلم يتركه, مع أنه لا يتغض دين الرسول, ولا من دخل فيه, ولا يمدح الشرك, ولا يزينه للناس. النوع الثاني: من عرف ذلك كله, ولكنه تبين في دين الرسول مع ادعائه أنه عامل به, وتبين في مدح من عبد غير الله وغالى في أوليائه, ففضلهم على من وحد الله وترك الشرك, فهذا أعظم من الأول, وفيه قوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} وهو ممن قال الله فيه {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} . النوع الثالث: من عرف التوحيد واتبعه, وعرف الشرك وتركه: ولكن يكره من دخل في التوحيد, ويجب من بقي على الشرك, فهذا أيضا كافر, وفيه قول الله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 النوع الرابع: من سلم من هذا كله, ولكن أهل بلده مصرحون بعداوة التوحيد واتباع أهل الشرك, وساعون في قتالهم, ويتعذر عليه ترك وطنه, ويشق عليه, فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ويجاهد بماله ونفسه, فهذا أيضا كافر, فإنهم لو يأمرونه بترك صوم رمضان, ولا يمكنه ترك الصيام بمخالفتهم فعل, وموافقته على الجهاد معهم بنفسه وماله, مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله, أكبر من ذلك بكثير, فهذا أيضا كافر, وهو ممن قال الله فيه {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} . وهؤلاء الذين نكفرهم لا غير. وأما القول بأنا نكفر الناس عموما, ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه, وأنا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل ومثل هذا وأضعاف أضعافه, فكل هذا من الكذب والبهتان, الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله. وإذا كنا لا نكفر من عبد القبور من العوام لأجل جهلهم, وعدم من ينبههم1 فكيف نكفر من لم يشرك بالله, إذا لم يهاجر إلينا, أو لم يكفر ويقاتل {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} فقد ذكرنا لك –أيها السائل- ما يكشف عنك غطاءك, لو كان لك بصر ثاقب وفكر سديد, وفطنة كافية, تأخذ بيدك من أوهام الحيرة, وظلمات الوساوس, والله ولي التوفيق.   1 يريد الشيخ رحمه الله أنهم لا يكفرون العوام الجهال الذين لم تبلغهم الحجة من كتاب الله وسنة نبيه, وأما من بلغته الحجة وعاند, وأصر على شركه من دعاء الموتى والاستغاثة بهم, وطلب النفع منهم, أو دفع الضر, فلا شك في شركه, بل وفي كفر من لم يكفره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وأما ما ذكره السائل "من استباحة الحرمين الشريفين". فاعلم أيها السائل الفاضل, أن هذا من الكذب والبهت البين قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} , لم يقع فيهما قتال بحمد الله, فضلا عن الاستباحة, وإنما دخلهما المسلمون في حالة أمن, وصلح, وانقياد من شريف مكة, ورؤساء المدينة, وجلس المشايخ منا في الحرمين الشريفين, للتعليم والتدريس, وكتبت الرسائل في بيان التوحيد والتنزيه, والتقديس, حتى جاءت العساكر {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} . وأما الأموال التي أخذت من الحجرة الشريفة, فلم تؤخذ ولم تصرف, إلا بفتاوي أهل العلم من سكان المدينة, ووضع خطوطهم بذلك. وحاصل ما كتب أن هذه الأموال وضعت توسعة لأهل المدينة وصدقة على جيران رسول الله, وأرصدت لحاجاتهم, وأعدت لفاقتهم, ولا حاجة لرسول الله إليها, وإلى اكتنازها, وادخارها في حال حياته, فضلا عن حال مماته. وقد تقطعت أسباب أهل المدينة ومرتباتهم بمنع الحج في تلك السنة, وأخرجت تلك الأموال لما وصفنا من الحال, باطلاع وكيل الحرم وغيره من أعيان المدينة وغيرها. وما وقع من خيانة وغلول, لا تجوز نسبته إلى أهل العلم والدين, أو أنهم راضون, أو غير منكرين له. ولا يجوز أن يسمي ما وقع, استباحة للحرمين, كما ذكرت أيها السائل. وقد وقع من تعظيم الحرمين وكسوة الكعبة الشريفة, وتأمين السبل, والحج إلى بيت الله, وزيارة الحرم الشريف النبوي, ما لا يخفى على منصف, عرف الحال, ولم يقصد البهت والضلال. وأما الاستدلال على صلاح أهلها بشرف تلك البقعة, فهو استدلال من عزبت عنه أدلة الشرع وقواعده, وغابت عنه عهود الكتاب العزيز ومواعده, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وصار من جملة الغوغاء والعامة. ولا حاجة لنا تعداد من كفر بآيات الله, وصادم رسله, ورد حججه من أهل الحرمين, ولا إلى تعداد من في بلاد الحبشة والهند, وبلاد الفراعنة كمصر, وبلاد الصابئة ك"حران", وبلاد الفرس المجوسية من أهل العلم, والفقه والإمامة والدين. وفضل الحرمين لا يشك فيه من له أدنى إلمام بما جاءت به الرسل الكرام. ولكن ليس فيه حجة على تحسين حال أهلها مطلقا: وقد قال سلمان الفارسي لأبي الدرداء لما دعاه إلى الأرض المقدسة, ورغبه فيها: "إن الأرض لا تقدس أحدا" وقال الله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} : وهي مصر والشام. فإن كان في شرف البقاع حجة ودليل على صلاح أهلها, فليكن هنا وبنو إسرائيل في الأرض المقدسة وسكان "إيليا" والمسجد الأقصى, وقد جرى منهم من الكفر والتكذيب, وقتل الأنبياء ما لا يخفى على من أنس شيئا من أنوار النبوة والرسالة. ثم استدلال أهل اليمن على حسن حالهم مطلقا, بحديث "الإيمان يمان والحكمة يمانية" وحديث: " أتاكم أهل اليمن أرق قلوبا وألين أفئدة" أظهر من الاستدلال بشرف البقاع على عدم ضلال أهلها, لأن حديث: "الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" يصدق ولو على البعض والأول أدل1 على العموم, ولو احتج الأسود العنسي وأمثاله على حسن حالهم بما تقدم, لكان جوابه جوابا لنا, فقد قال الله {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} .   1 أي حديث "الإيمان يمان" وحديث "أتاكم أهل اليمن الخ" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 إيضاح المراد من مواضع الزلازل والفتن: أيها السائل, إنك لمحت إلى أن المراد من مواضع الزلازل والفتن هي أرض نجد, وبلادها, واتخذت ذلك سهما رميت به من سكن هذه الخطة, ونحن نعذرك في ذلك, حيث لم تقف على معنى الحديث, وبعد بيانه, نرجو من لطف الله تعالى أن تذعن أنت وأضرابك للحق, إن كنت من أهل الفهم والإنصاف. أما الحديث فهو قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله. فكرر ثلاث مرات يدعو للشام واليمن, وهم يقولون "وفي نجدنا" فقال في الرابعة "تلك مواضع الزلازل والفتن" وقد استجيبت دعوته صلى الله عليه وسلم وحصل من البركات بسبب هذه الدعوات, في الشام واليمن, ما هو معروف ومشهور, وهل دونت الدواوين, ووضع العطاء, وجندت الجنود, وارتفعت الرايات والبنود, إلا بعد إسلام أهل اليمن وأهل الشام, وصرف أموالهما في سبيل الله. ولكن لا يحتج به على صلاح دين أهلهما, إلا من غربت عنه الحقائق, وعدم الفهم لأصول الدين, فضلا عن الفروع والدقائق. وقد تقدم قوله تعالى {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} , وجمهور أهل نجد, ك"تميم"و"أسد" و"طي" و"هوازن" و"غطفان" و"بني ذهل" و"بني شيبان" صار لهم في الجهاد في سبيل الله والمقام بالثغور والمناقب والمآثر, لا سيما في جهاد الفرس والروم, ما لا يخفى على من له أدنى إلمام بشيء من العلوم, ولا ينكر فضائلهم, إلا من لم يعرف جهادهم وبلاءهم في تلك المواطن, ولا يشك عاقل أنهم أفضل من أهل الأمصار, قبل استيطان الصحابة وأهل العلم والإيمان. وأما بعد ذلك, فالفضل والتفضيل, باعتبار الساكن, يختلف وينتقل مع العلم والدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فأفضل البلاد والقرى في كل وقت وزمان, أكثرها علما, وأعرفها بالسنن والآثار النبوية. وشر البلاد, أقلها علما, وأكثرها جهلا وبدعة وشركا, وأقلها تمسكا بآثار النبوة, وما كان عليه السلف الصالح. فالفضل والتفضيل, يعتبر بهذا في الأشخاص والسكان وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} كما أن الحسنات تضاعف في البلد الحرام, فكذلك السيئات تضاعف, لعظم حرمته وفضيلته1. وقد جاء في فضل بعض أهل نجد ك "تميم" ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أحب تميما لثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله لما جاءت صدقاتهم: " هذه صدقات قومي " وقوله في الجارية التميمية "أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل" وقوله "أشد أمتي على الدجال" هذا في المناقب الخاصة. أما العامة للعرب, فلا شك في عمومها, لأهل نجد, لأنهم من صميم العرب. وما ورد في تفضيل القبائل والشعوب أدل وأصرح في الفضيلة مما ورد في البقاع والأماكن للدلالة على فضل الساكن والقاطن. ومعلوم أن رؤساء عباد القبور والداعين إلى دعائها وعبادتها, لهم حظ وافر مما يأتي به الدجال.   1 ذهب بعض أهل العلم إلى أن المضاعفة في الكيفية لا في العدد لقول الله سبحانه {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وهذا نص صريح من كتاب الله سبحانه لا تجوز مخالفته إلا بدليل صحيح يخص الحرم المكي من هذه الآية ولا نعلم في ذلك ما يحسن الاعتماد عليه. عبد العزيز بن عبد الله بن باز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وقد تصدى رجال من تميم وأهل نجد, للرد على دجاجلة عباد القبور الدعاة إلى تعظيمها مع الله تعالى, وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم إن قلنا "أل" في الدجال للجنس لا للعهد, وإن قلنا إنها للعهد كما هو الظاهر, فالرد على جنس الدجال توطئة وتمهيد لجهاده, ورد باطله, فتأمله فإنه نفيس جدا. وليت غيرك أيها السائل تكلم بهذا الكلام فإن بلادك –أعني العراق- معدن كل محنة وبلية, ولم يزل أهل الإسلام منها في رزية بعد رزية. فأهل "حروراء" وما جرى منهم على أهل الإسلام, لا يخفى. وفتنة الجهمية الذين أخرجهم كثير من السلف من الإسلام إنما خرجت ونبغت بالعراق. والمعتزلة, وما قالوه في الحسن البصري, وتواتر النقل به, واشتهر من أصولهم الخمسة التي خالفوا بها أهل السنة. ومبتدعة الصوفية الذين يرون الفناء في توحيد الربوبية, غاية يسقط بها الأمر والنهي, إنما نبغوا وظهروا بالبصرة1. ثم الرافضة والشيعة وما حصل منهم من الغلو في أهل البيت, والقول الشنيع في علي والأئمة, ومسبة أكابر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم2, كل هذا معروف مستفيض عن أهل بلادك, أفلا يستحي أهل هذه العظائم من عيب أهل الإسلام, ولمزهم بوجود مسيلمة في بلادهم.   1 وكذلك وقعة الجمل: كما وقع بالعراق حرب صفين: وقتل علي, وقتل مسلم بن عقيل, والحسين بن علي وأبنائه, ودعوى المختار بن أبي عبيد النبوة إلى غير ذلك مما لا يحصر, كذلك في عصرنا قد حصلت فتن بالعراق ومنها أخيرا, فتنة عبد الكريم قاسم وما جرى من القبل والسفك. 2 انظر لأقوالهم الفاسدة وسبهم لأبي بكر وعمر "كتاب الخطوط العريضة مؤتمر النجف" لمحب الدين الخطيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 أما سمعت ما رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخل إبليس العراق, فقضى فيها حاجته ثم دخل الشام فطردوه, ثم دخل مصر فباض وفرخ وبسط عبقريته". والعراق قبل الإسلام, هي محل المجوس, وعباد النيران والبقر. فإن قيل: طهرت بالفتح والإسلام. قلنا: فما بال اليمامة لا تطهر بما أظهر الله فيها من الإسلام, وشعائره العظام, وجهاد أعداء الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. هذا كله أيها السائل, لو سلمنا أن المراد بنجد في الحديث هي القطعة الشهيرة مع أن الأمر ليس كما فهمت أنت وأضرابك. بل المراد بنجد في هذا الحديث وأمثاله, هو العراق, لأنه يحاذي المدينة من جهة الشرق. يوضحه أن في بعض طرق هذا الحديث وأشار إلى "العراق". قال الخطابي: نجد من جهة الشرق ومن كان بالمدينة, كان نجده بادية العراق ونواحيها, فهي مشرق أهل المدينة. وأصل "نجد" ما ارتفع من الأرض, وهو خلاف الغور, فإنه ما انخفض منها ... وقال الداوودي: إن نجدا من ناحية العراق, ذكر هذا الحافظ ابن حجر, ويشهد له ما في مسلم عن ابن غزوان: سمعت سالم بن عبد الله, سمعت ابن عمر يقول: "يا أهل العراق, ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة": سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجيء من ههنا": "وأومأ بيده إلى المشرق". فظهر أن هذا الحديث خاص لأهل العراق, لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر المراد بالإشارة الحسية. وقد جاء صريحا في الكبير للطبراني, النص على أنها العراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وقول ابن عمر وأهل اللغة, وشهادة الحال, كل هذا يعين المراد1. أما قولك أيها السائل: لو أفتى مائة عالم إلا واحدا بكلمة كفر صريحة مجمع عليها, وقال عالم بخلاف أولئك يحكم بقول الواحد الخ, فمما يستوجب الأسف عليك, حيث كنت بهذه المنزلة من معرفة دينك, أما علمت أن المحتج به في العقائد والأعمال إنما هو الكتاب والسنة والإجماع والقياس. فهذا الدليل من أي واحد من الأربعة؟ ومن عرف ما في الدعوى من العموم والإجماع, على خرق الإجماع, حمد الله على السلامة من داء الجهل. ثم هذا العدد المخصوص أهو غاية وحد, لا يجوز أن يتجاوزه أحد؟ أو هو مبالغة وتهور لا يبالى به عند التحقيق والتصور. قوم2 هذا حاصل بحثهم ونهاية إقدامهم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم "ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" فهو ليس مما نحن فيه, فإن الخلاف ليس من الشبهة ولا يلتفت إليه إذا خالف الكتاب والسنة والإجماع. هذا باتفاق المسلمين, لا يشكل إلا على الأغبياء. وإطلاق القول بأن الخلاف شبهة, يعود على الإسلام بالهد والهدم, والتسجيل على عامة العلماء بالعيب والذم, فقل حكم من الأحكام الاجتهادية, إلا وفيه خلاف.   1 ومن الأجوبة المسكتة أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد قرأ كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأمعن النظر فيها, وهضم معانيها, فنفخت فيه روح الثورة على تلك الأوضاع الفاسدة ومنحته سلاحا قويا من الحجج النقلية والبراهين العقلية ما استطاع بها أن يزهق بطل أولئك المردة والمشركين, وأن يزيف شبه علمائهم ودعاة مذاهبهم. ولا ريب أن الشيخين كانا شاميين, فإذا دعوة الشيخ شامية, والحديث يقول "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا". 2 خبر لمبتدأ محذوف التقدير "هؤلاء قوم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ومن المعلوم أنه جاء الخبر النبوي أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة, وتختلف في دينها, والعلماء مجمعون على القول بها, وأنه لا يلتفت إلى كل خلاف, لا سيما ما خالف النصوص والإجماع, وأفتوا بهذا في مسائل لا تحصى في أصول الدين وفروعه. فلو كان وجود الخلاف من الشبه, لحكمنا بضلالتهم في ذلك كله, وهم مجمعون على عكس ما قال السائل. ولو أفتى ألوف بما يخالف النصوص فهم في جانب النص والحجة. ولو مع واحد من الألوف. قال الفضيل بن عياض: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين. وأحسن منه وأدل قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} , فبطل الاحتجاج بالكثرة في الأصول والفروع وما أحسن ما قيل: وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلافا له حظ من النظر قال السائل: يا أهل نجد, ألم تعلموا أن من كفر المسلمين, هو في جملة المارقين؟ فما بالكم, اقتديتم بالخوارج, وسلكتم تلك المسالك والمناهج, ووافقتم مذهبهم الباطل, واعتقادهم العاطل, حيث قال أولئك: "لا حكم إلا لله" وقلتم "لا يعبد إلا الله" وكل من الكلمتين معنى أريد بهما باطل, وتضليل الأمة المحمدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 قال المجيب: أيها السائل, لو عرفت حقيقة الحال, لما صدر منك هذا المقال, فأين أهل الإسلام والتوحيد الذين يكفرون من عبد الأنبياء والأولياء والصالحين, ودعاهم مع الله, من الخوارج الذين يكفرون أهل القبلة والإيمان. وكأن عبدة القبور عندك أهل سنة وجماعة, ليس الأمر كما ظننت. {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} انتهى ما أردنا نقله. ثم ذكر الشيخ حقيقة مذهب الخوارج ومبدأ أمرهم, وبيان ما عليه عباد القبور, وبيان حال الشيخ محمد رحمه الله ومذهبه ومعتقده إلى آخر ما ذكره. أ. هـ1   1 من: الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فصل ثناء العلماء على الشيخ محمد بن عبد الوهاب من المسلمين والغربيين الكافرين أكثر العلماء السلفيون والمؤرخون المحققون من الثناء على الشيخ والتنويه بدعوته القائمة على دعائم الكتاب والسنة. "1" من ذلك: قصيدة الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني مؤلف سبل السلام, لما بلغه دعوة الشيخ وثورته على البدع والخرافات, وقيامه بالدين الصحيح, والسنة المطهرة, وإرشاد الناس إلى أن يتمسكوا بالوحيين –وإلى القارئ بعض القضية: سلامي على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي وقد صدرت من سفح صنعا سقى الحيا ... رباها وحياها بقهقهة الرعد سرت أسير بنشد الريح إن سرت ... ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... به يهتدي من ضل عن منهج الرشد محمد الهادي لسنة أحمد ... فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي لقد أنكرت كل الطوائف قوله ... بلا صدر في الحق منهم ولا ورد وما كل قول بالقبول مقابل ... وما كل قول واجب الرد والطرد سوى ما أتى عن ربنا ورسوله ... فذلك قول جل, يا ذا, عن الرد وأما أقاويل الرجال فإنها ... تدور على قدر الأدلة في النقد وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه, فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث, وود, بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهرا على عمد وكم طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهن باليد لقد سرني ما جاءني من طريقة ... وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي يصب عليه صوت ذم وغيبة ... ويجفوه من قد كان يهواه عن بعد ويعزي إليه كل ما لا يقوله ... لتنقيصه عند التهامي والنجدي فيرميه أهل الرفض بالنصب فرية ... ويرميه أهل النصب بالرفض والجحد وليس له ذنب سوى أنه أتى ... بتحكيم قول الله في الحل والعقد ويتبع أقوال النبي محمد ... وهل غيره بالله في الشر ع من يهدي لئن عده الجهال ذنبا فحبذا ... به حبذا يوم انفرادي في لحدي سلامي على أهل الحديث فإنني ... نشأت على حب الأحاديث من مهدي هم بذلوا في حفظ سنة أحمد ... وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد أأنتم أهدى من صحابة أحمد ... وأهل الكساء هيهات ما الشوك كالورد أولئك أهدى في الطريقة منكمو ... فهم قدوتي حتى أوسد في لحدي إلى آخر ما جاء في تلك القصيدة "2" ومنهم الشيخ محمد بن أحمد الحفظي صاحب دوجال من قرى عسير فقد نظم أرجوزة طويلة ذكر دعوة الشيخ وأثنى عليه ثناءا حسنا افتتح الأرجوزة بقوله: الحمد حقا مستحقا أبدا ... لله رب العالمين سرمدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 إلى أن قال: مصليا على الرسول الشارع ... وأهله وصحبه والتابع في البدء والختم وأما بعد ... فهذه منظومة تعد حركني لنظمها الخير الذي ... قد جاءنا في آخر العصر القذي لما دعا الداعي من المشارق ... بأمر رب العالمين الخالق وبعث الله لنا مجددا ... من أرض نجد عالما مجتهدا شيخ الهدى محمد المحمدي ... الحنبلي الأثري الأحمدي فقام والشرك الصريح قد سرى ... بين الورى وقد طغى واعتكرا لا يعرفون الدين والتهليلا ... وطرق الإسلام والسبيلا إلا أساميها وباق الرسم ... والأرض لا تخلو من أهل العلم وكل حزب فلهم وليجه ... يدعونه في الضيق للتفريجة وملة الإسلام والأحكام ... في غربة وأهلها أيتام دعا إلى الله وبالتهليلة ... يصرخ بين أظهر القبيلة مستضعفا وما له من ناصر ... ولا له مساعد موازر في ذلة وقلة وفي يده ... مهفة تغنيه عن مهنده كأنها ريح الصبا في الرعب ... والحق يعلو بجنود الرب قد أذكرتني درة لعمر ... وضرب موسى بالعصا للحجر ولم يزل يدعو إلى دين النبي ... ليس إلى نفس دعا أو مذهب يعلم الناس معاني أشهد ... أن لا إله غير فرد يعبد محمدا نبيه وعبده ... رسوله إليكمو وقصده أن تعبدوه وحده لا تشركوا ... شيئا به والابتداع فاتركوا ومن دعا دون الإله أحدا ... أشرك بالله ولو محمدا إن قلتمو نعبدهمو للقربة ... أو للشفاعة فتلك الكذبة وربنا يقول في كتابه ... هذا هو الشرك بلا تشابه هذا معاني دعوة الشيخ لمن ... عاصره فاستكبروا عن السنن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فانقسم الناس فمنهم شارد ... مخاصم محارب معاند ما بين خفاش وبين جعل ... شاهت وجوه أهل المثل وبعد ما استجيب لله فمن ... جادل في الله تردى وافتتن ومن أجاب داعي الله ملك ... ومن تولى معرضا فقد هلك والسابقون الأولون السادة ... آل سعود الكبراء القادة هم الغيوث والليوث والشنف ... ونصرة الإسلام والشم الأنف فأقبلوا والناس عنه أدبروا ... وعرفوا من حقه ما أنكروا إلى ما آخر ما جاء في تلك الأرجوزة الرنانة. "3" قال علامة العراق السيد محمود شكري الألوسي رحمه الله في آخر تاريخ لنجد: كان الشيخ محمد من بيت علم في نواحي نجد, وكان أبوه الشيخ عبد الوهاب عالما فقيها على مذهب الإمام أحمد, وكان قاضيا في بلدة العيينة, ثم في حريملاء, وذلك في أوائل القرن الثاني عشر, وله معرفة تامة بالحديث والفقه, وله أسئلة وأجوبة. وكان والد عبد الوهاب, الشيخ سليمان, عالما فقيها, أعلم علماء نجد في عصره, له اليد الطولى في العلم, وانتهت إليه رياسة العلم في نجد صنف ودرس وأفتى. إلا أن الشيخ محمدا لم يكن على طريقة أبيه وجده, وكان شديد التعصب للسنة, كثير الإنكار على من خالف الحق من العلماء. والحاصل أنه كان من العلماء الآمرين بالمعروف, والناهين عن المنكر, وكان يعلم الناس الصلاة وأحكامها, وسائر أركان الدين, ويأمر بالجماعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وقد جد في تعليم الناس, وحثهم على الطاعة وأمرهم بتعلم أصول الإسلام وشرائطه وسائر أحكام الدين, وأمر جميع أهل البلاد بالمذاكرة في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح, وبين العشائين, بمعرفة الله، ومعرفة دين الإسلام, ومعرفة أركانه, ومعرفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونسبه ومبعثه وهجرته. وأول ما دعا إليه كلمة التوحيد, وسائر العبادات التي لا تنبغي إلا لله, كالدعاء, والذبح, والنذر, والخوف, والرجاء, والخشية, والرغبة, والتوكل, والإنابة, وغير ذلك. فلم يبق أحد من عوام أهل نجد, جاهلا بأحكام دين الإسلام بل كلهم تعلموا ذلك, بعد أن كانوا جاهلين, إلا الخواص منهم. وانتفع الناس به من هذه الجهة الحميدة أي سيرته المرضية وإرشاده النافع. انتهى. "4" كلام عبد المتعال الصعيدي: في كتابه "المجددون في الإسلام" قال عنه: هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب, ثم ذكر ولادته ونشأته, ورحلاته لتحصيل العلوم, ثم قال: وقد رجع إلى بلده بعد هذه الرحلة العلمية الطويلة, وقد تهيأ له بها ما لم يتهيأ لغيره من علماء نجد, فكان أوسع منهم علما, وأعرف بالعلماء السابقين الذين كانت لهم جولة في الإصلاح, ولم يقع في ذلك الجمود والركود, الذي وقع فيه علماء عصره حتى ألفوا ما فيه من البدع وأخذوها على أنها من أصول الدين وأركانه. فلما عاد الشيخ إلى بلده, لم يرض بما رضي به علماء نجد, من السكوت على تلك البدع, وأراد أن يعيد في محاربتها عهد أسلافه من الحنابلة, ولا سيما الشيخ ابن تيمية رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وكان قد درس كتبه ورسائله الإصلاحية, فيما درسه في نشأته. وأخذ يدعو إلى مثل ما دعا إليه ابن تيمية قبله, من التوحيد بالعبادة لله وحده, وإنكار التوجه إلى أصحاب القباب والقبور, وإنكار التوسل بالأولياء والأنبياء إلى الله في قضاء الحاجات. وقد بدأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوته في بلده بلين ورفق ثم أخذ يرسل بها إلى أمراء الحجاز وغيره من الأقطار. ولما رأى أهل بلده مثابرته على دعوته, قاموا باضطهاده, فتركهم إلى بلدة الدرعية بنجد, وكان أميرها محمد بن سعود, فعرض عليه دعوته فقبلها, وقام بحمايتها ونشرها في بلاد العرب. ولم يزل الشيخ يقوم بدعوته ف حماية هذه الإمارة, إلى أن مات رحمه الله سنة 1206هـ انتهى ملخصا. "5" السيد محمد رشيد رضا: قال في التعريف بكتاب "صيانة الإنسان" بعد أن ذكر فشو البدع بسبب ضعف العلم والعمل بالكتاب والسنة, ونصر الملوك والحكام لأهلها, تأييد المعممين لها, قال رحمه الله ما نصه: الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: لم يخل قرن من القرون التي كثر فيها البدع من علماء ربانيين, يجددون لهذه الأمة أمر دينها بالدعوة والتعليم وحسن القدوة, وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين, وتأويل الجاهلين, كما ورد في الأحاديث. ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي, من هؤلاء العدول المجددين قام يدعو إلى تجريد التوحيد, وإخلاص العبادة لله وحده, بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم, وترك البدع, والمعاصي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وإقامة شعائر الإسلام المتروكة وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة. فنهدت لمناهضته واضطهاده, القوى الثلاث, قوة الدولة والحكام, وقوة أنصارها من علماء النفاق, وقوة العوام الطغام. وكان أقوى سلاحهم في الرد عليه, أنه خالف جمهور المسلمين. ومن هؤلاء المسلمون الذين خالفهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دعوته؟ هم أعراب في البوادي شر من أهل الجاهلية يعيشون بالسلب والنهب ويستحلون قتل المسلم وغيره, لأجل الكسب, ويتحاكمون إلى طواغيتهم في كل أمر, ويجحدون كثيرا من أمور الإسلام المجمع عليها, التي لا يسع مسلما جهلها, إلى آخر ما قال, عليه رحمة الله ذي الجلال. "6" الدكتور طه حسين: قال: إن الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب, لا يستطيع أن يهمل حركة عنيفة نشأت فيها أثناء القرن الثاني عشر, فلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب, واضطرته أن يهتم بأمرها, وأحدثت فيه آثارا خطيرة, هان شأنها بعض الشيء, ولكنها عادت فاشتدت في هذه الأيام وأخذت تؤثر لا في الجزيرة وحدها, بل في علاقاتها بالأمم الأوربية. هذه الحركة, هي حركة الوهابيين, التي أحدثها محمد بن عبد الوهاب, شيخ من شيوخ نجد. ثم ذكر نزرا يسيرا عن نشأة الشيخ, ورحلاته العلمية ودعوته إلى أن قال: قلت إن هذا المذهب الجديد قديم معنى, والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين, ولكنه قديم في حقيقة الأمر, لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الإسلام الخالص النقي المطهر من شوائب الشرك والوثنية. هو الدعوة إلى الإسلام, كما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم خالصا لله, ملغيا كل واسطة بين الله وبين الناس. هو إحياء للإسلام العربي وتطهير له, مما أصابه من نتائج الجهل, ومن نتائج الاختلاط بغير العرب. فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد, ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة والسيرة, إلى أن قال: ولولا أن الترك والمصريين, اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها –لكان من المرجو جدا أن يوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر, والثالث عشر الهجري, كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول. ولكن الذي يعنينا من هذا المذهب أثره في الحياة العقلية والأدبية عند العرب فقد كان هذا الأثر عظيما خطيرا من نواح مختلفة. فهو قد أيقظ النفس العربية فوضع أمامها مثلا أعلى أحبته وجاهدت في سبيله, بالسيف والقلم, والسنان, وهو لفت المسلمين جميعا, وأهل العراق والشام ومصر بنوع خاص, إلى جزيرة العرب. أ. هـ1   1 انتهى, من كتاب "محمد بن عبد الوهاب" لأحمد عبد الغفور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 "7" محمد بن قاسم في كتابه "تاريخ أوربا": كان الوهبيون ف عقيدتهم ومذهبهم على طريق أهل السنة والجماعة, والأساس الأصلي لمذهبهم, هو توحيد الله. "8" عمر أبو النصر في كتاب "ابن سعود" قال عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما يلي: والواقع أن دعوة ابن عبد الوهاب: ليست غير دعاية صالحة موفقة لنبذ البدع والمفاسد, التي نهكت دين الإسلام, والتي عمل بعض المشايخ على الترويج لها وذيوعها وانتشارها بين الناس. وإذا ذهبنا نبحث الدعوة في مصادرها, ونتولاها بالنقد والبحث والتحقيق وجدنا أنها لا تختلف عن مذهب الإمام أحمد بن حنبل إلا في بعض التبسيط والتطويل. وليس للوهابيين مذهب خاص يدعى باسمهم, كما يقول بعض الحاملين عليهم, وإنما مذهبهم مذهب الإمام أحمد, وليس فيما يطلبونه ويدعون إليه ما ينافي السنة ولا يتفق مع القرآن الكريم. وهم ينكرون هذا التضليل, الذي يحاوله بعض الشيوخ وغير الشيوخ, وهذا الإغراق في إقامة القباب حول الأضرحة والقبور والصلاة فيها, وإقامة المباخر وطلب الشفاعة من أصحابها, والإسلام ينهى عن هذا. وليس في الإسلام وسيط, وليس هناك من يشفع عنده إلا بإذنه. أ. هـ1   1 انتهى باختصار وحذف, من كتاب أحمد عبد الغفور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 "9" المستشرق "سيديو" في "تاريخ العرب العام" الذي نقله إلى العربية "عادل زعيتر": قال في أثناء كلامه على ثورات العرب للتحرر من سيطرة الترك وسيطرة البرتغال في عمان بعد كلام: ومن ثم نرى أن جزيرة العرب استردت استقلالها التام تقريبا، منذ أوائل القرن الثامن عشر بفضل جدها، وضعف أعدائها، ولم يبق لها إلا أن تؤيد نصرها بمركز يلتف حوله جميع النفوس. وهذا ما حاولت صنعه، قبيلة ظهرت في نجد، حوالي سنة 1749 م. وهذا ما حاوله الوهابيون النافذون، حتى الآن، والذي سيكون لهم تأثير دائم، في مصير جزيرة العرب لا ريب. واسم واضع هذه السيطرة هو عبد الوهاب التميمي، الذي أكب على دراسة آداب العرب وعلومهم، منذ صباه، والفقه أكثر ما عني به. واطلع على آراء رجال المذهب، وقصد بغداد، والبصرة، وفارس سائحا، فنمت مداركه، فأنعم النظر في حال بني قومه وميولهم وغرائزهم، وطبيعة قواهم، فرأى أنه إذا ما حمل المسلمين على مراعاة أحكام القرآن، رجعت إليهم تلك الحماسة التي تعودتها عظمة الماضين. ولم يكن للإصلاح الذي بدا زعيما، له هدف، سوى إعادة شريعة الرسول الخالصة إلى سابق عهدها. وحارب ابن عبد الوهاب فعالات1 المسلمين في إحاطة محمد صلى الله عليه وسلم بتعظيم حرمه الله في كثير من كلامه:   1 تأمل كيف عرف هذا المؤرخ الأجنبي عن ديننا, تعاليم هذا المصلح الكبير الصحيحة: وأنه قصد إرجاع الناس إلى الدين الصحيح, وتنقيته من شوائب البدع والوثنية, وكيف أنصف هذا الأجنبي وعرف دين الرسول الصحيح, وما طرأ عليه مما لا يتفق وتعاليم الرسول, ولم يعرفه الكثيرون من المنتسبين إلى الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وحارب تقديس قبور الأولياء, فحمل أنصاره على هدمها. وحارب بن عبد الوهاب ما كان يعيبه على الترك من فساد الأخلاق. وحارب تعاطي المسكرات. ومما ذكر الناس به, هو أن الشريعة تأمر المسلمين بأن يؤتوا الزكاة1 وتحرم عليهم الزينة2, وتلزم القضاة بالنزاهة التامة. ومما عني به على الخصوص إبقاء روح الجهاد في قومه لما أدى إليه الجهاد من نصر عجيب منذ قرون. ولا يمكن أن تنعت أقواله بالإلحاد على العموم لما بدت تكرارا لسور القرآن وهو لموافقته تعاليم الإسلام الصحيحة –كان بالغ الأثر لمبادئه فصار صناديد قبائل نجد ينضمون إلى لوائه, أفرادا وأرسالا. فيؤلفون جيشا صغيرا بقيادة محمد بن سعود من عشيرة المساليخ وكان محمد قد اعتنق المذهب الجديد في الدرعية. فأبصر ابن عبد الوهاب فيه من المواهب الحربية, ما لم يجده في الغير, فزوجه بابنته, مفوضا إليه أمر حكومة الوهابيين السياسية. واستمر الكاتب في كتابه حتى قال: فخلع على دين محمد رونقا جديدا, وبدد الخرافات التي زالت3 مع الزمن فأظهر القرآن خاليا من جميع ما عزي إليه من الشوائب.4   1 أي وسائر أركان الإسلام. 2 كلبس الحرير والذهب للرجال, لا مطلق الزينة. 3 تأمل كيف يصف زمن الشيخ بالخرافات, ويصف مقاومة الشيخ وإصلاحه مما لم يعرفه كثير من المسلمين, وعموا –بتعصبهم- عن محاسنه وخدماته, فرحمه الله, وقد أحسن من أنصف وعرف الحق لأهله, ولو كان كافرا. 4 كأنه يريد من التفاسير الباطلة, والتأويلات المخالفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وما لبثت النفوس التي أرهقتها شروح أئمة المسلمين المطولة الغامضة أن رجعت إلى بضعة مبادئ عامة بسيطة واضحة, فتقبلت خطط ابن عبد الوهاب الإصلاحية بقبول حسن. ودعا الوهابيون إلى الفضيلة خلافا للقرامطة الذين تذرعوا بسيئ المناحي, فلم يبالوا بغير قضاء المآرب. أ. هـ. "10" دائرة المعارف البريطانية جاء في دائرة المعارف البريطانية. وهي تتكلم عن الوهابية ما يلي: الوهابية: اسم لحركة التطهير في الإسلام. والوهابيون يتبعون تعاليم الرسول وحده, ويهملون كل ما سواها, وأعداء الوهابية هم أعداء الإسلام الصحيح. أ. هـ1.   1 من "محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية للمؤلف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 هذا وأرجع حامدا لله العظيم على نعمة الإكمال لهذا الكتاب الموسوم بالشيخ محمد بن عبد الوهاب المفترى عليه ودحض تلك المفتريات, وأسأل الله العظيم أن ينفعني بما كتبته, في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم, وأن ينفع به كل قارئ وسامع, وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الدوحة في غرة رمضان المعظم من عام سبعة وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية الشريفة أحمد بن حجر آل بوطامي البنعلي رئيس قضاة المحكمة الشرعية بدولة قطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251