الكتاب: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في تو ضيح العقيدة المؤلف: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر الناشر: مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: السنة الحادية عشرة- العدد الرابع- 1418هـ/ 1998م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في تو ضيح العقيدة عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر الكتاب: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في تو ضيح العقيدة المؤلف: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر الناشر: مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: السنة الحادية عشرة- العدد الرابع- 1418هـ/ 1998م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} 2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 3. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار4. وبعد: فإن عقيدة التوحيد، وإفراد الله وحده بالعبادة هي أجل المسائل وأعظمها على الإطلاق، فمن أجلها خلق الله الخلق وأنزل الكتب وبعث الرسل، فجميع الأنبياء الذين بعثهم الله، إنما بعثهم للدعوة إلى عقيدة التوحيد وإفراده وحده بالعبادة. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 5. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 6.   1 سورة آل عمران / الآية 102. 2 سورة النساء/ الآية 1. 3 سورة الأحزاب / الآيتان 70، 71. 4 هذه الخطبة تسمى (خطبة الحاجة) وهي تشرع بين يدي كل حاجة، وقد أفرد فيها العلامة الألباني رسالة خاصة جمع فيها الأحاديث الواردة فيها وطرقها، فلتراجع. 5 سورة النحل/ الآية 36. 6 سورة الأنبياء/ الآية 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} 1. وقد ختمهم الله سبحانه بمحمد صلى الله عليه وسلم، البشير النذير، والداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير، فعمل على ما كان عليه إخوانه المرسلون من العناية بعقيدة التوحيد فأخذ ينادي بهذه العقيدة في أرجاء قومه، الذين عكفوا على أصنام لهم متخذينها آلهة، يدعونها ويذبحون لها ويتوسلون بها ويقدمون لها أنواعاً لها كثيرة من العبادة، مع أنها حجارة لا تضر ولا تنفع، ولا تملك لنفسها ضراً ولا رشداً، فضلا عن أن تملك لغيرها شيئاً. فأخذ ينادي بينهم بهذه العقيدة، ويصدع بينهم بقوله: "قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"2. فما كان منهم إلا أن أنكروا دعوته، وردوا مقالته، فقالوا له متعجبين ولدعوته مستنكرين: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 3. فما استكان ولا توانى بل استمر صلى الله عليه وسلم يدعو إلى هذه العقيدة، فدعا إليها ثلاثة عشر عاما في مكة، وواصل ذلك في المدينة بعد أن هاجر إليها. فنفع الله بدعوته، وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن عبادة الأوثان إلى عبادة الواحد الديان. وفتح الله به أعيناً عمياً وقلوباً غلفاً وآذاناً صماً. قال تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 4. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ   1 سورة النحل/ الآية 2. 2 أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد /27 وابن حبان (موارد الظمآن: 1683) والدارقطني 3/45، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 4/760، والبيهقي 1/76، 216، والحاكم 2/612 عن طارق بن عبد الله المحاربي رضي الله عنه. ويروى عن غيره من الصحابة، قال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وقال المحدث أبو الطيب أبادي في التعليق المغني على سنن الدارقطني (ورواته كلهم ثقات) . أ. هـ 3 سورة ص/ الآية 5. 4 سورة الطلاق/ الآيتان 10، 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1. ولم يمت صلى الله عليه وسلم حتى أتم الله به الدين وأكمله، حيث أدى رسالة ربه وافية كاملة ممتثلاً بذلك أمر ربه حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} 2. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى مخاطباً عبده محمداً صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة، وآمراً له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به. وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك، وقام به أتم القيام"3. ثم ساق ما أخرجه البخاري في ((صحيحه)) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب، وهو يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} 4" 5. وقد أنزل الله في كتابه ـ تبييناً وتنصيصاً على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما مات حتى أتم الله الدين وأكمله ـ قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} 6. وهذا الإنعام أعظم نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن فلا حلال إلا ما أحله الله ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه. وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق، لا كذب فيه ولا خلف كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} 7 أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأوامر والنواهي. فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة؛ ولهذا قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 8 أي   1 سورة الجمعة/ الآية 2. 2 سورة المائدة / الآية 67. 3 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/77. 4 سورة المائدة/ الآية 67. 5 البخاري /5/188. 6 سورة المائدة/ الآية 3. 7 سورة الأنعام/ الآية 115. 8 سورة المائدة/ الآية 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف الكتب1. ثم بعد موته صلى الله عليه وسلم خلفه في الدعوة إلى هذا الدين، وفي نشر هذه العقيدة الصافية، ورثتُه من بعده وهم العلماء المصلحون الصحابة ومن اقتفى أثرهم وسار على نهجهم وترسَّم خطاهم، فالأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم. كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " .... إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" 2. وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا .... } 3 الآية فأهل العلم لهم جهد كبير، وأثر عظيم في نقل هذا الدين، وإيصاله إلى الناس صافياً نقياً. ولهم جهد في الذود عن حمى هذا الدين من دسائس المبطلين وتحريف الغالين من الملاحدة والزنادقة والمبتدعة وغيرهم. قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل ـ رحمه الله تعالى ـ في رسالة بعثها إلى مُسَدَّد بن مُسَرْهَد عندما سأله عن أمر الفتنة وما وقع فيه الناس من الاختلاف في القدر والرفض والاعتزال وخلق القرآن والإرجاء. قال: " .... الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، وينهون عن الردى، يحيون بكتاب الله الموتى، وبسنة النبي أهل الجهالة والردى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه. وكم من ضال قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا أعنَّة الفتنة، مختلفين في الكتاب يقولون على الله وفي الله. تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وفي كتابه بغير علم، فنعوذ بالله من كل فتنة مضلة .... " 4. فعلى مر العصور واختلاف الأيام، يقيض الله لهذا الدين العلماء الأعلام، فيقومون بإرشاد الناس إلى الدين، ويهدونهم إلى الطريق المستقيم عن طريق الخطب، والمواعظ والدروس والمؤلفات النافعة.   1 فسير القرآن العظيم لابن كثير 2/12. 2 أخرجه أحمد 5/196، والترمذي 5/49، وابن ماجه 1/81، وأبو داود 3/317، والدارمي 1/98. وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 1/43. 3 سورة فاطر/ الآية 32. 4 مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي /217، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1/342. وانظر لزاماً درء التعارض لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 فيحيون ما اندرس من السنن، ويردون ما جد من الحوادث والبدع، ويكونون أئمة خير يهدون الناس بأمر الله إلى كل خير، وبهم يكون صلاح الدين والدنيا وبفقدهم فلا خير في الدنيا، بل هي سواهم وسوى ذكر الله ملعونة ملعون ما فيها. كما ورد في الحديث "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً"1. وإن من هؤلاء الهداة الأعلام المبرزين في القرن الرابع عشر المنصرم، الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله آل سعدي المتوفى في عام 1376هـ رحمه الله تعالى. فقد بذل رحمه الله حياته، ونذر أوقاته لخدمة العلم، وقد عرف منذ حداثة سنه برغبته القوية، وحرصه الشديد على تحصيل العلم، فكان لا يصرفه عنه صارف، ولا يشغله عنه أي أمر من الأمور باذلاً له حياته صارفا فيه أوقاته، زاهداً في كل ما يشغله عن العلم والتعلم. فحفظ القرآن عن ظهر قلب في الحادية عشرة من عمره، ثم أقبل على العلماء يواظب على دروسهم، وأكب على كتب أهل العلم يقرأها وينهل من معينها فانقطع رحمه الله للعلم وتحصيله حفظاً وفهماً ودراسة ومراجعة واستذكاراً وتطبيقاً، حتى نال في وقت مبكر من عمره علوماً كثيرة وفنوناً مختلفة. وقد بارك الله فيه وفي أوقاته ونفع به، فاستفاد منه خلق كثير في حياته، ولا يزالون ينتفعون من مؤلفاته بعد وفاته، فله رحمه الله مؤلفات كثيرة تربو على أربعين مؤلفاً في سائر فنون الشريعة، فله مؤلفات عديدة في العقيدة الإسلامية وفي التفسير وعلومه وفي الفقه وأصوله وفي محاسن الدين وآدابه وغير ذلك، وهي سهلة الأسلوب قريبة المأخذ، واضحة المعاني، جامعة شاملة. وقد كان له رحمه الله عناية بالغة بالعقيدة الإسلامية، كشأن علماء أهل السنة والجماعة. وقد خصها بمؤلفات عديدة أفردها لبيان العقيدة وتوضيحها وللرد على من خالفها، ومؤلفاته التي أفردها في العقيدة تربو على عشرة مؤلفات، ثم إنه يُعنى بالعقيدة في سائر مؤلفاته، وكتابه "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" يعد مرجعاً هاماً في بيان العقيدة وتوضيحها والرد على من خالفها، وكذلك خلاصة هذا التفسير المسمى بـ "تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن". وغيرهما من مؤلفاته.   1 أخرجه الترمذي 4/561 وابن ماجه 2/1377، وحسنه الألباني، انظر صحيح الجامع 3/152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فكان رحمه الله يُعنى بأمر العقيدة ويرى أنه أعظم المسائل وأكبرها وأهمها وأجدرها بالتوضيح والبيان. وقد استفاد كثيراً من كتب من سبقه من علماء الإسلام المتقدمين، ولا سيما من كتب العالمين الجليلين شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن قيم الجوزية اللذين ظهر تأثره بهما في مؤلفاته، فقد نهج رحمه الله نهجهما في تأصيل القواعد وتقريرها، وفي الردود على المخالفين لهذه العقيدة، كما اعتنى رحمه الله بمؤلفاتهما شرحاً وتوضيحاً وتبييناً. ولما كان على كل طالب في الدراسات العليا أن يقدم بحثاً علمياً في مجال تخصصه فقد رأيت أن أقوم بدراسة علمية لجهود هذا العالم الجليل في توضيح العقيدة، واستخرت الله في ذلك وشاورت بعض أهل العلم من تلاميذه وغيرهم فوجدت التأييد التام ممن سألته، فعزمت أمري وتوكلت على الله، وباشرت الكتابة في هذا الموضوع وجعلته بعنوان: "الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة" وجعلته في مقدمة وبابين وخاتمة: أما المقدمة: فهي هذه وقد جعلتها تمهيداً لهذا البحث وبينت فيها أهميته، والخطة التي سرت عليها فيه. أما الباب الأول: فقد خصصته للحديث عن حياة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وقسمته إلى فصلين: الفصل الأول: عن حياته الشخصية وقسمته إلى ثمانية مباحث. تحدثت فيها عن نسبه، ومولده، ووفاة والديه، ونشأته، وصفاته الخلقية والخُلقية وأعماله ومرضه، ووفاته، ورثائه. الفصل الثاني: عن حياته العلمية وقسمته أيضا إلى ثمانية مباحث. تحدثت فيها عن طلبه للعلم وحرصه عليه، وشيوخه، وعنايته بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وتأثره بهما، وجلوسه للتدريس، وطريقته فيه، وتلاميذه، وعقيدته، وتنوع ثقافته، ومؤلفاته، وثناء العلماء عليه. وأما الباب الثاني: فخصصته للحديث عن جهوده في توضيح العقيدة، وقسمته إلى أربعة فصول: الفصل الأول: عن جهوده في توضيح الإيمان بالله وفيه تمهيد وثلاثة مباحث: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 المبحث الأول: عن توحيد الربوبية. المبحث الثاني: عن توحيد الأسماء والصفات. المبحث الثالث: عن توحيد الألوهية. الفصل الرابع: عن جهوده في توضيح الإيمان بالنبوات وضمنته الحديث عن الإيمان بالملائكة والكتب. الفصل الثالث: عن جهوده في توضيح الإيمان باليوم الآخر وفيه تمهيد وخمسة مباحث: المبحث الأول: الإيمان بأشراط الساعة. المبحث الثاني: الإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه. المبحث الثالث: الإيمان بالنفخ في الصور. المبحث الرابع: الإيمان بالبعث والنشور. المبحث الخامس: الإيمان باليوم الآخر بعد البعث. الفصل الرابع: عن جهوده في توضيح تعريف الإيمان وما يتعلق به من مسائل كالاستثناء في الإيمان وزيادة الإيمان ونقصانه، وحكم مرتكب الكبيرة وغير ذلك. وأما الخاتمة: فقد عرضت فيها ملخصاً موجزاً للنقاط الهامة في هذا البحث. هذا وقد بذلت جهدي في هذا البحث، فاستقصيت جميع مؤلفات الشيخ بعد أسفار متعددة إلى عنيزة والرياض، واتصلت بعدد من تلاميذه، وعكفت على كتبه وقرأت منها ما يتعلق بالعقيدة، ثم سطرت هذه الرسالة. مستفرغاً فيها وُسعي باذلاً فيها طاقتي، وهي في الحقيقة بضاعة متواضعة من شخص مقل، حسبه فيها أنه قدم جهده، وتوخى أن تصل إلى درجة مرضية. وإتماماً للفائدة من هذه الرسالة قمت بعزو الآيات القرآنية إلى أماكنها، وتخريج الأحاديث النبوية باختصار، ووثقت النقول بذكر مصادرها، وأما ما أهملت توثيقه من أقوال بعض المعاصرين فلأني أخذته منهم مشافهة. ثم إني في ختام هذه المقدمة لا يفوتني أن أتقدم بجزيل شكري وتقديري ـ بعد شكر الله تعالى على وافر نعمه وعظيم مننه ـ إلى جميع من أسهم معي في إخراج هذا البحث. وأخص بالذكر والدي الكريم الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله ورعاه، وشيخي الفاضل علي بن ناصر فقيهي المشرف على إعداد هذه الرسالة، والشيخين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الكريمين اللذين قاما بمناقشة وتقويم هذه الرسالة وهما: فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، وفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان، فقد استفدت منهم فوائد جمة فأسأل الله الكريم أن يتقبل هذا الجهد بقبول حسن، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، فهو حسبي ونعم الوكيل. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. كتبه عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد المدينة النبوية في 21 رمضان 1407هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الباب الأول: حياة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي الفصل الأول: حياته الشخصية ... الباب الأول حياة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وفيه فصلان: الفصل الأول: حياته الشخصية. الفصل الثاني: حياته العلمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الفصل الأول حياته الشخصية وفيه ثمانية مباحث:- أولا: نسبه. ثانيا: مولده ووفاة والديه. ثالثا: نشأته. رابعا: صفاته الخَلقية. خامسا: صفاته الخُلقية (أخلاقه) . سادسا: أعماله. سابعا: مرضه ووفاته. ثامنا: رثاؤه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 حياته الشخصية1 أولا: نسبه: هو العلامة الورع الزاهد، الفقيه الأصولي المحقق المدقق الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي. من نواصر بني تميم، من بني عمرو أحد   1 مصادر ترجمة الشيخ ابن سعدي:- (1) روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين للشيخ محمد بن عثمان القاضي 1/219. (2) علماء نجد خلال ستة قرون للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام 2/422. (3) مشاهير علماء نجد وغيرهم للشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ 392. (4) علماء آل سليم وتلاميذتهم للشيخ صالح بن سليمان بن محمد العمري 2/295. (5) ترجمة في آخر كتاب المختارات الجلية لابن سعدي، طبعة المدني بقلم الشيخ سليمان بن عبد الكريم السناني (6) ترجمة في آخر المختارات الجلية لابن سعدي، طبعة السعدية بقلم أحد تلاميذ الشيخ، هي حرفية أو شبه حرفية من مشاهير علماء نجد لآل الشيخ. (7) مقدمة كتاب الرياض الناضرة لابن سعدي بقلم أحد تلاميذ الشيخ. (8) سيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي جمع وتقديم محمد حامد الفقي. وهي جملة من المقالات لابن الشيخ المترجم له ولأحد تلاميذه ولغيرهما قام بجمعها الشيخ محمد حامد الفقي. (9) الأعلام لخير الدين الزركلي 3/340. (10) معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة 3/396. (11) مجلة الجامعة الإسلامية س: 11، ع: 4، ص205. مقال للدكتور عبد الرحمن العدوي. (12) مجلة العرب س: 7 عدد ربيع الأول سنة 1393هـ، ص 690 بعنوان: معجم المطبوعات العربية تحدث فيه عن مؤلفات ابن سعدي. (13) مجلة الحج الحجازية س: 11، ع1، سنة 1376هـ، ص: 125. (14) مقدمة كتاب شرح القصيدة التائية بقلم عبد الغني عبد الخالق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 البطون الكبار من قبيلة بني تميم الشهيرة1. المكنى بأبي عبد الله، الشهير بعلامة القصيم. نزح جدهم من قفار قرب حائل2، وقيل من المستجدة وهي قريبة من حائل أيضا3 إلى عنيزة حوالي عام 1120هـ4.أما نسبه من قبل أمه، فأمه من آل عثيمين ابنة سليمان العثيمين، وآل عثيمين من آل مقبل من آل زاخر من الوهبة من بني تميم، وهم شقراء، نزح جدهم منها إلى عنيزة وطاب له السكنى فيها5. ثانيا: مولده، ووفاة والديه: ولد في عنيزة في القصيم، وذلك بتاريخ 12 المحرم سنة ألف وثلاثمائة وسبع من الهجرة النبوية. وتوفيت أمه سنة 1310هـ وله أربع سنوات، وتوفي والده سنة 1313هـ وله سبع سنوات، فعاش يتيم الأبوين6. ثالثا: نشأته: كان والد الشيخ عبد الرحمن، من طلبة العلم الحريصين على الطلب، الملازمين   1 روضة الناظرين للقاضي 2/219، وعلماء نجد للبسام 2/422، وغيرهما. 2 روضة الناظرين للقاضي 1/319. 3 علماء نجد للبسام 2/433. 4 المصدران المتقدمان وغيرهما. 5 المصدران المتقدمان. 6 آخر كتاب المختارات الجلية طبعة المدني بقلم السناني ص: أ، مقدمة كتاب الرياض الناضرة بقلم أحد تلاميذ الشيخ، وغيرهما. وفي آخر كتاب المختارات الجلية طبعة السعدية ترجمة للشيخ بقلم أحد تلاميذه /410، ذكر فيها أن والده توفي وله ثمان سنوات، وفي مشاهير علماء نجد لآل الشيخ /392 ذكر أن والده توفي وله اثنتا عشرة سنة وهو خطأ؛ لأن جميع من ترجم له يذكر أن والده توفي وله سبع سنوات، وكذا ابنه عبد الله ذكر ذلك في ترجمته لوالده. انظر سيرة عبد الرحمن السعدي، جمع محمد الفقي/18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 على العبادة المحافظين على الديانة بأنواعها، وكان إماماً في مسجد المسوكف بعنيزة1 فعني بابنه عبد الرحمن وسعى في تربيته تربية صالحة. فلمّا توفاه الله عطفت عليه زوجة والده وكفلته وأحبته أكثر من حبها لأولادها وصار عندها موضع العناية والرعاية، فلما شب صار في بيت أخيه الأكبر حمد بن ناصر، فنشأ نشأة صالحة كريمة2. وكان والده قد أوصى به إلى ابنه الأكبر حمد فقام برعايته وتربيته خير قيام، وكان حمد رجلاً صالحاً ومن حملة القرآن ومن المعمرين3. هذا وإن الشيخ عبد الرحمن كان منذ نشأته صالحاً مثاراً للإعجاب محافظاً على الصلوات الخمس مع الجماعة، واشتهر منذ حداثته بفطنته وذكائه ورغبته الشديدة في طلب العلم وتحصيله4. فتوفرت له البيئة الصالحة، والرغبة الشديدة في طلب العلم، فاجتهد في طلب العلم وجد فيه وسهر الليالي وواصل الأيام ومضى في طريقه قُدُماً لا يلوي على شيء غير العلم ولا يريد شيئاً غير تحصيل العلم. فلا يكاد الواصفون يصفون شدة حرصه وإقباله على العلم والتعلم، وهكذا حتى نال حظاً وافراً في العلوم الشرعية5. رابعاً: صفاته الخَلقية: كان ذا قامة متوسطة، شعره كثيف، ووجهه مستدير ممتلئ طلق، ولحيته كثيفة، ولونه أبيض مشرب بالحُمرة، وكان شعره في شبيبته في غاية السواد. وفي شيخوخته في غاية البياض يتلألأ كأنه فضة، ووجهه حسن عليه نور في غاية الحسن وصفاوة اللون6   1 آخر المختارات الجلية، طبعة المدني بقلم سليمان السناني ص أ، وروضة الناظرين للقاضي 1/319. 2 علماء نجذ للبسام 2/433، ومشاهير علماء نجد لآل الشيخ /392. 3 روضة الناظرين للقاضي 1/319. 4 روضة الناظرين للقاضي 1/319، سيرة السعدي جمع الفقي بقلم أحد تلاميذ الشيخ/9. 5 سيرة السعدي جمع الفقي بقلم أحد تلاميذه الشيخ/10, وآخر الكتبا المختارات الجلية بقلم السناني/أ. 6 روضة الناظرين للقاضي 1/225، وآخر كتاب المختارات الجلية، طبعة المدني، بقلم السناني، ص هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 خامسا: صفاته الخُلقية (أخلاقه) : أـ (له أخلاق أرق من النسيم وأعذب من السلسبيل لا يعاتِب على الهفوة ولا يؤاخذ بالجفوة، يتودد ويتحبب إلى البعيد والقريب، يقابل بالبشاشة، ويُحَّيِ بالطلاقة، ويعاشر بالحسنى ويجالس بالمنادمة، ويجاذب أطراف أحاديث الأنس والود، ويعطف على الفقير والصغير ويبذل طاقته ووسعه، ويساعد بماله وجاهه وعلمه ورأيه ومشورته ونصحه بلسان صادق، وقلب خالص، وسر مكتوم، ومهما أردت أن أُعدد فضائله ومحاسنه في مجال الأخلاق الكريمة والشيم الحميدة التي يتحلى بها فإني مقصر وقلمي عاجز، ولا يدرك هذا إلا من عاشره وجالسه؛ لذا فإن الله سبحانه أعطاه محبة في القلوب وثقة في النفوس، فأجمعت البلاد على وده، واتفقت على تقديمه، فصار له زعامة شعبية، فإشارته نافذة وكلمته مسموعة وأمره مطاع) . هكذا وصفه تلميذه عبد الله البسام1. ب ـ وكان رحمه الله ذا دعابة يتحبب إلى الخلق بحسن خلقه مرحاً للجليس لا يرى الغضب في وجهه طلق الوجه، كريم المحيا، وكان يكثر الحج ويصوم البيض وغيرها ويتكلم مع كل فرد بما يناسب حاله2 ويعاشر الخلق معاشرة تامة كل بحسب حاله من يعرف ومن لا يعرف، الصغير والكبير، والخاص والعام، والرجال والنساء، محباً للخير مُقْدماً عليه3. جـ ـ ولم يُرَ قط إلا مبتسماً بادية أسارير وجهه، ولم يقابله أي شخص إلا بادره بالسلام واللطافة الصغير والكبير، ومن يعرف ومن لا يعرف، وقل من يراه إلا ويعرفه، ويباسط كل أحد بحسب حاله مباسطة تؤلف القلوب وتمكن المودة4. د ـ وكان على جانب كبير من التواضع ولين الجانب يندر مثله، تحس إذا جالسته كأنك من أقرب الناس إليه. متواضعاً للصغير والكبير والغني والفقير5، وكان لا ينقطع عن زيارتهم ومشاركتهم في مجتمعاتهم6 يجيب دعوتهم ويزور مريضهم ويشيع جنائزهم7.   1 علماء نجد 2/429. 2 روضة الناظرين للقاضي 1/334. 3 آخر كتاب المختارات الجلية، طبعة المدني بقلم السناني: د. 4 آخر كتاب المختارات الجلية، طبعة المدني بقلم السناني ص: د. 5 مقدمة الرياض الناضرة لأحد تلاميذ الشيخ /6 وعلماء آل سليم للعميري 2/2/295. 6 علماء نجد للبسام 2/424. 7 روضة الناظرين للقاضي 1/223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 هـ ـ وكان على جانب كبير من الأدب والعفة والنزاهة والحزم في كل أعماله، زاهداً متعففاً عزيز النفس على قلة ذات يده1ـ ذا شفقة على الفقراء والمساكين والغرباء، ماداً يد المساعدة لهم بحسب قدرته. ويستعطف لهم المحسنين ممن يعرف عنهم حب الخير في المناسبات2، ويدفع للفقراء من الطلبة الأموال ليتجردوا عن الانشغال بوسائل المعيشة3. وـ وكان محباً لإصلاح ذات البين. فما من مشكلة تعرض عليه إلا ويحلها برضا الطرفين، لما ألقى الله في قلوب الخلق من مودته والانقياد لمشورته والإصغاء لقوله مهما كانت الحال، ولا يكاد يوجد من يرى مخالفته في أي حال من الأحوال4. ز ـ وكان ملبسه متوسط الحسن مجانباً للشهرة، لا يرغب ملابس الشهرة، فملابسه حسنة طيبة بعيدة عن الشهرة5. سادسا: أعماله: وأعني بأعماله، ما قام به الشيخ من مشاريع خيرية، أو ما تولاه من أعمال دينية. وقد كان رحمه الله محباً للمشاريع الخيرية العامة والخاصة آمراً بها، مساعداً عليها، وله أفعال كثيرة حسنة جهرية وسرية، لم يظهر بعضها إلا بعد وفاته وهي كثيرة جداً6. وفيما يلي أعرض بعض المشاريع التي قام بها، والأعمال التي تولاها: أـ كان مرجع بلاده وعمدتهم في جميع أحوالهم وشئونهم، فهو مدرس الطلاب وواعظ العامة وإمام الجامع وخطيبه، ومفتي البلاد وكاتب الوثائق ومحرر الأوقاف والوصايا وعاقد الأنكحة ومستشارهم في كل ما يهمهم7. كل ذلك خدمة لوجه الله.   1 مقدمة الرياضة الناضرة لأحد تلاميذ الشيخ/ 6، وروضة الناظرين للقاضي 1/223. 2 مقدمة الرياض الناضرة لأحد تلاميذ الشيخ/6. 3 روضة الناظرين للقاضي 1/224. 4 آخر كتاب المختارات الجلية، طبعة المدني بقلم السناني ص: د وسيرة السعدي، جمع الفقي/ 13. 5 آخر كتاب المختارات الجلية، طبعة المدني بقلم السناني ص: هـ. 6 المصدر المتقدم ص: د. 7 علماء نجد للبسام 2/424. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 قام في سنة 1360هـ بتأسيس المكتبة الشهيرة بالوطنية في عنيزة على نفقة الوزير ابن حمدان، وجلب لها آلاف الكتب في شتى الفنون، وصارت هذه المكتبة مجمعاً لطلاب العلم يقرؤون عليه فيها، وكانت المراجع متوفرة فيها1. جـ ـ رشح لقضاء عنيزة عام 1360هـ وامتنع منه تورعاً2، ولم يدخل في أي وظيفة لا قضاء ولا غيره. وعرض عليه القضاء أكثر من مرة ولكن سهل الله له الفكاك منه3. د ـ عين إماماً وخطيباً للجامع الكبير بعنيزة في رمضان عام 1361هـ بأمر من الشيخ عبد الرحمن بن عودان، وهي حسنة من حسناته أحبه الناس عليها وحفظوها له4. هـ ـ قام في سنة 1363هـ، بجمعية خيرية لعمارة مقدم الجامع الكبير، بعنيزة وانتهت على ما يرام بمساعيه المشكورة5. زـ عين مشرفاً على المعهد العلمي بعنيزة سنة 1373هـ، يقول الشيخ عبد الرحمن العدوي ـ أحد المدرسين في المعهد إذ ذاك بعد أن ذكر خبر تعيينه مدرساً هناك ـ (وفي نفس الوقت بلغنا أن الشيخ عبد الرحمن السعدي قد عين مشرفاً على المعهد من الناحية العلمية، وكان تعيينه براتب شهري قدره ألف ريال. ولكن الشيخ رحمه الله تعالى أرسل إلى رئاسة المعاهد العلمية أنه على استعداد للإشراف على المعهد حسبة لوجه الله تعالى، وأنه لا يريد أن يكون له على ذلك أجر مادي وقبلت الرئاسة شاكرة له هذا الصنيع الذي لا يصدر إلا من عالم زاهد يبتغي وجه الله) 6. ثم قال: (كان رحمه الله يأتي إلى المعهد بانتظام يوم الثلاثاء من كل أسبوع، ثم   1 روضة الناظرين للقاضي 1/223. 2 روضة الناظرين للقاضي 1/221. 3 آخر كتاب المختارات الجلية، طبعة المدني بقلم السناني ص: ج. 4 روضة الناظرين للقاضي 1/223، وعبد الرحمن بن عدوان هو قاضي عنيزة إذ ذاك. 5 روضة الناظرين، للقاضي 1/223. 6 مجلة الجامعة الإسلامية، سنة: 11، ع: 4، ص: 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 يدخل إلى آخر صف ويجلس فيه كأنه أحد طلاب هذا الفصل. ويكرر هذا العمل في أكثر من فصل ويستمع إلى أكثر من مدرس ولم يكن في المعهد من المدرسين المصريين إلا أنا وزميل آخر، أما بقية المدرسين فكانوا من أبناء الشيخ علمهم في المسجد الجامع إلى درجة تسمح لهم بالقيام بتدريس المواد التي تعلموها على يديه) 1. وهو أول من أدخل مكبر الصوت في عنيزة، وله خطبة في منافعه قالها حين وضعه في المسجد واستنكره بعض الناس قال فيها: (وكذلك إيصال الأصوات والمقالات النافعة إلى الأمكنة البعيدة من برقيات وتلفونان وغيرهما، داخل في أمر الله رسوله بتبليغ الحق إلى الخلق، فإن إيصال الحق والكلام النافع بالوسائل المتنوعة من نعم الله، وترقية الصنائع والمخترعات لتحصيل المصالح الدينية والدنيوية من الجهاد في سبيل الله) 2. ط ـ وله أعمال خيرية سرية كثيرة عرف بعضها بعد وفاته: منها: أن امرأة أرملة لها بيت، أصبحت مدينة بمال كثير، فرهنت بيتها، وليس لها عمل تقتات به، فأحس بذلك الشيخ فصار يتعهدها ويعطيها أرسالاً مما يأتيه من أهل الخير، فكانت تدفع أكثر ما يصلها إلى صاحب الدين وتبقي قليلاً من المال تقتات به. فبقيت على تلك الحال مدة من الزمن فخلص الدين بأجمعه وذلك قبل وفاة الشيخ بأشهر، فلما توفي ـ رحمه الله ـ ظهر الخبر من المرأة، وكانت دائماً تذكره وتدعو له، وأمثالها في ذلك كثير فرحمه الله رحمة واسعة3. سابعا: مرضه ووفاته: أصيب عام 1371هـ أي قبل وفاته بخمس سنوات بمرض ضغط الدم، وتصلب الشرايين فكان يعتريه مرة بعد مرة وهو صابر عليه، وكانت أعراض المرض تبدو عليه بعض الساعات في الكلام فيقف ولو كان يقرأ القرآن ثم يتكلم4.   1 المصدر السابق / 206، بتصرف. 2 الخطب المنبرية /81. وانظر مجلة الجامعة الإسلامية سنة 11، ع: 4، ص:207 فيها ذكر سبب إدخال مكبر الصوت. 3 آخر كتاب المختارات الجلية، طبعة المدني بقلم السناني، ص: هـ. 4 علماء نجد للبسام 2/429، ومشاهير علماء نجد لآل الشيخ / 396 وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فاهتمت به الحكومة، حيث أرسل له الملك سعود رحمه الله طائرة خاصة، وفيها طبيبان، قررا بعد الكشف عليه سفره للعلاج في لبنان وصحباه في السفر1. فسافر إلى بيروت في عام 1373هـ وبقي هناك شهراً، يعالج حتى شفاه الله، ونصحه الأطباء بالراحة وقلة التفكير والاجهاد2. واجتمع في سفره هذا بعدد من العلماء، وتعرف بجملة من الفضلاء3، منهم الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني كما حدثني بذلك. ثم رجع إلى عنيزة فباشر فيها أعماله، ولم يصبر على ترك العلم فقام فيها تعليماً وإمامةً وخطابةً وتأليفاً وبحثاً؛ لأن هوايته العلم وكان يقول إن راحتي في مزاولة عملي4. فصار المرض يعاوده ثم يشفى، ولا يصده عن الخروج، ويحدث معه رعدة وسكتة لا يقدر معها على الكلام وتبقى دقيقة واحدة ثم تزول بدون تألم سوى برد يتلوه عرق5. وفي شهر جمادى الآخرة سنة 1376هـ اشتد عليه المرض أكثر مما كان وصار معه مثل البرد والقشعرية. وفي ليلة الأربعاء 22 من الشهر المذكور، وبعد فراغه من الدرس اليومي المعتاد، وبعد فراغه من صلاة العشاء، أحس بثقل وضعف في الحركة فأشار إلى أحد تلاميذه بأن يمسكه ويذهب معه إلى البيت ففعل وهرع معه أناس من الحاضرين، فلم يصل إلى البيت إلا وقد أغمي عليه، ثم أفاق بعد ذلك فحمد الله وأثنى عليه، وتكلم مع أهله الحاضرين بكلام حسن طيب، ثم عاوده الإغماء مرة أخرى فلم يتكلم بعد ذلك. فلما أصبحوا صباح الأربعاء دعوا الطبيب فقرر أن معه نزيفاً في المخ، وإن لم يتدارك فوراً فإنه يموت. فأبرقوا لابنه وللملك فيصل ـ لما كان وليا للعهد ـ فأصدر أمره الكريم عاجلاً   1 روضة الناظرين للقاضي 1/225، وآخر كتاب المختارات الجلية، طبعة المدني ص: ز. 2 علماء نجد للبسام 2/4292، وروضة الناظرين للقاضي 1/225، وغيرهما. 3 آخر كتاب المختارات الجلية، طبعة المدني، ص: ز. 4 علماء نجد للبسام 2/439، روضة الناظرين للقاضي 1/225، مشاهير علماء نجد لآل الشيخ /396. وغيرها 5 روضة الناظرين للقاضي 1/225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 بكل ما يلزم فقامت طائرة خاصة وفيها طبيب مخ ومهرة من الأطباء والعلاجات إلى مدينة عنيزة وكان فيها ابنه عبد الله. ولكن الجو كان ملبداً بالغيوم والرعد والبرق والعواصف الشديدة وفيه أمطار قد تتابعت أكثر من شهر، تهدمت منها البيوت ونزلت أخشاب سطوح المساجد، فلم يساعد الجو على هبوط الطائرة. فتلقت المكالمة وهي في الجو بوفاته فرجعت من حيث أتت. حيث إنه توفي رحمه الله قبل طلوع فجر يوم الخميس الموافق 23 جمادى الآخرة سنة 1376هـ، عن تسع وستين سنة1. وصُلي عليه بعد صلاة الظهر في الجامع الكبير، دفن في مقابر الشهوانية شمال عنيزة2 وأخروا الصلاة عليه إلى الظهر لعل أحد أبنائه يدركه، فلم يدركه أحد منهم، وصلى عليه الشيخ عبد العزيز بن محمد البسام. في حشد كبير لم يشهد له مثيل جمع أهل البلد قاطبة والقرى والمدن المجاورة3. والحقيقة أن عنيزة منذ تأسست لم تصب عامة مثل مصيبتها به، وظهر ذلك في البكاء والحزن الشديد من كل المواطنين، كما ظهر في الازدحام الشديد على الجنازة التي لم يبق كبير ولا صغير لم يشهدها. وبموته فقدت البلدة أعز وأغلى شخص يعيش فيها وأحس المواطنون بفراغ واسع بفقده، وحتى الآن وذكره في الألسن، ومحبته في القلوب وأحاديثه وإرشاداته وفتاويه هي حديث المجالس وأنس المحافل رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته4. وخلَّف ـ رحمه الله ـ ثلاثة أبناء وهم عبد الله ومحمد وأحمد, وهم يشتغلون بالتجارة بالرياض والدمام وعبد الله هو أكبرهم سناً وله يد في طلب العلم, وقد اعتنى بطبع بعض مؤلفات والده وتوزيعها مجاناً 5, وقد توفي عبد الله في 24/4/1405هـ في حادث سيارة غفر الله له ولوالديه ووالدينا وجميع المسلمين. ثامنا: رثاؤه: وقد رثاه ـ رحمه الله ـ كثير من العلماء والأدباء بمراث عديدة نظماً ونثراً.   1 روضة الناظرين للقاضي 1/226، ومشاهير علماء نجد لآل الشيخ/396،397 وغيرهما. 2 علماء نجد للبسام 2/429. 3 روضة الناظرين للقاضي 1/227. 4 علماء نجد للبسام 2/429، 430. 5 علماء نجد للبسام 2/430. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ـ فمن القصائد التي قيلت في رثائه قصيدة طويلة للدكتور عبد الله بن صالح العثيمين منها: مهج تذوب وأنفس تتحسر ولظى على شغف القلوب تسعر الحزن أضرم في الجوانح والأسى يصلي المشاعر بالجحيم ويصهر ملأ الضمائر حسرة وكآبة لا شيء يبرئها ولا هي تجبر اليوم ودعنا أباً ومهذبا والحزن يغلي في الدماء ويزخر كل امرئ في الكون غايته الردى الموت حتم للنفوس مقدر لكن من اتخذ الصلاح شعاره تفنى الخليقة وهو حي يذكر ما مات من نشر الفضيلة والتقى وأقام صرحا أسه لا يكسر ما مات من غمر الأنام بعلمه الكتب تشهد والصحائف تخبر يا زاهدا عرف الحياة فما هوى في المغريات ولا سباه المظهر نم في جنان الخلد يا علم التقى وانعم بظل وارف لا يحسر1 ب ـ ومن هذه القصائد، قصيدة للشيخ صالح بن عبد العزيز العثيمين منها: رزء عظيم الحزن والأسفا فالدمع فيه على الخدين قد وكفا اليوم حقا فقدنا للهدى علما اليوم حقا فقدنا الزهد والشرفا بقت عنيزة دهراً وهي رافعة لواء فخر له كل الورى عرفا ظلت به العرب دهراً وهي فاخرة واليوم أضحت تعزى فيه واأسفا فذي تصانيفه قد قام قائمها يدعو العباد عليها الكل قد عكفا لهفي بذا العالم قد حق العزاء لنا في فادح لو أصاب الطود لارتجفا فالله يلهمنا صبراً فقد عظمت مصيبة أثقلت في حملها الكتفا والله يجزيه عن إحسانه حسنا والله يسكنه من جنة غرفا2 جـ ـ وقد رثى رحمه الله بقصائد أخرى منها مرثية للشيخ محمد بن عثمان القاضي، ومرثية للشيخ صالح بن عبد الشبل، وقصيدة في الثناء عليه لمزيد الخطيب وغيرهم3   1 روضة الناظرين للقاضي 1/227، وعلماء نجد للبسام 2/299. 2 روضة الناظرين للقاضي 1/228، سيرة الشيخ السعدي جمع محمد حامد الفقي/29. 3 روضة الناظرين للقاضي للقاضي 1/227، وسيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي جمع محمد حامد الفقي/26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 د ـ قال الشيخ القاضي في روضة الناظرين: (ولقد حدثني من أثق به بأن الشيخ سليمان المشعلي وكان عالماً جليلاً وقاضياً مسدداً لما علم بوفاة الشيخ، قال مات اليوم عالم نجد، وقد طاب الموت بعد هذه الشخصية الفذة، فانصدع ومات في 12 من رجب بعد وفاة السعدي بتسعة عشر يوما وكان من خواصه)   1 روضة الناظرين للقاضي 1/227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الفصل الثاني حياته العلمية أولا: طلبه للعلم وحرصه عليه. ثانيا: شيوخه. ثالثا: عنايته بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وتأثره بهما. رابعا: جلوسه للتدريس، وطريقته فيه. خامسا: تلاميذه. سادسا: عقيدته وتنوع ثقافته. سابعا: مؤلفاته. ثامنا: ثناء العلماء عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أولا: طلبه للعلم وحرصه عليه: كان ابن سعدي ـ رحمه الله ـ قد استرعى أنظار الناس منذ حداثة سنه بذكائه القوي، ورغبته الشديدة في طلب العلم وتحصيله، فأوقف لذلك حياته في طلب العلم، فكان لا يشغله عنه شاغل ولا يصرفه عنه صارف، فكان همه في حياته الاستفادة العلمية وحفظ الأوقات في ذلك1. لقد أجمع أمره على أن يقف حياته على طلب العلم، وأن يعطي نفسه أمناً وطمأنينة وسكينة خاصة، تصل برباطها الوثيق بينه وبين الأمر الذي أوقف حياته عليه. فتراه إذ ذاك في وادٍ، وأغلب ناشئة عصره من زملائه وأترابه في واد آخر. إنه ارتضى العلم والمعرفة خدينا وأليفا، ولم يرق في نظره من رجال زمنه سوى طبقة العلماء. فلازمهم ملازمة الظل. وأكب على الاغتراف من معين علمهم وفضلهم وأخلاقهم، فتغذى أطيب غذاء، وروى أكرم ري2. وأول ما قام به من طلب العلم، مبادرته لحفظ كتاب الله، فبدأ بحفظ القرآن من سن مبكرة، حتى أتقنه وأتمه وحفظه عن ظهر قلب في الحادية عشرة من عمره، في مدرسة الشيخ سليمان بن دامغ لتحفيظ القرآن بأم خمار، ثم شرع بعد ذلك في تحصيل سائر العلوم الشرعية3 فأخذ في طلب العلم وتحصيله وتلقيه عن علماء بلده وغيرهم ممن قدم إليه، وشغل أوقاته في ذلك، ورحل إلى العلماء المجاورين لبلده، وانقطع للعلم وتحصيله حفظاً وفهماً ودراسة ومراجعة واستذكاراً وتطبيقاً. وكان يواظب على دروس العلماء، وعلى من يشعر أنه له منه أدنى فائدة طارحاً التحيز والترفع، وواصل وثابر، وبذل جهده في سبيل ذلك حتى نال في صباه ما لا يناله غيره في زمن طويل، من علوم كثيرة وفنون مختلفة4.   1 مقدمة الرياض الناضرة لأحد تلاميذ الشيخ/4. 2 سيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي، جمع الفقي، بقلم أحد تلاميذ الشيخ/7. 3 روضة الناظرين للقاضي 1/220، وسيرة الشيخ السعدي جمع الفقي، بقلم عبد الله السعدي (ابن المترجم له) /18. 4 علماء نجد للبسام 2/423، ومقدمة الرياض الناضر بقلم أحد تلاميذ الشيخ /4، وآخر المختارات الجلية طبعة المدني بقلم السناني /أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ولم يقتصر في طلبه للعلم على فن واحد، بل قرأ في فنون كثيرة فقرأ في الحديث والتفسير والعقائد والفقه والأصول والمصطلح وعلوم اللغة وغيرها وهذا سيظهر لنا عند ذكر شيوخه، وما تلقاه عنهم. ثانيا: شيوخه: لقد تلقى الشيخ أنواع العلوم على كثير من العلماء، بعضهم من عنيزة وبعضهم من الوافدين إليها، وبعضهم ذهب إليهم في بلادهم. وذكرهم جميعهم يصعب، ولكن فيما يلي أذكر جملة منهم مع إعطاء نبذة بسيطة عنهم1، وعن نوع استفادته من كل واحد منهم، وتجدر الإشارة إلى أنه كان رحمه الله محل إعجاب مشائخه كلهم بفرط ذكائه ونبله واستقامته2. فمن شيوخه: 1ـ الشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر، ولد في بريدة سنة 1241هـ، وتوفي في الكويت سنة 1342هـ3. وهو أول من قرأ عليه الشيخ وأخذ عنه التفسير والحديث وأصولهما4. وكان ابن سعدي يصف شيخه بحفظ الحديث والورع والزهد ومحبة الفقراء ومواساتهم5. 2ـ والشيخ محمد بن عبد الكريم بن إبراهيم بن صالح الشبل. ولد في عنيزة سنة: 1257هـ، وتوفي سنة 1343هـ6، وأخذ عنه الفقه وأصوله وعلوم اللغة العربية7.   1 ومن رغب الاستزادة في معرفة هؤلاء الأعلام فليراجع المصادر المحال إليها في الحاشية عند كل علم مترجم له. 2 روضة الناظرين للقاضي 1/220. 3 علماء نجد للبسام 1/102، روضة الناظرين للقاضي 1/41، وعلماء آل سليم للعمري 2/203. 4 علماء نجد للبسام 2/425، ومشاهير علماء نجد لآل الشيخ/ 392. 5 مقدمة الرياض الناضرة لأحد تلاميذ الشيخ/5. 6 علماء نجد للبسام 3/843، وروضة الناظرين للقاضي 2/227، وعلماء آل سليم للعمري 2/469. 7 علماء نجد للبسام 2/435. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 3ـ والشيخ عبد الله بن عائض العريضي الحربي، ولد في عنيزة سنة: 1249هـ، وتوفي سنة 1375هـ1. وأخذ عنه الفقه وأصوله وعلوم اللغة2. 4ـ والشيخ صالح بن عثمان بن حمد بن إبراهيم القاضي، ولد في عنيزة سنة: 1282هـ. وتوفي سنة: 1351هـ3. أخذ عنه التوحيد والتفسير والفقه أصوله وفروعه وعلوم العربية، وهو أكثر من قرأ عليه الشيخ ولازمه ملازمة تامة حتى توفاه الله4. وكان هو الذي يقرأ على الشيخ في الدرس والشيخ يقرر على قراءته، بدأ القراءة على الشيخ بعد وفاة عبد العزيز الغرير، الذي كان يقرأ على الشيخ، وكان ابن سعدي له صوت حسن رخيم لا يمله سامعه5. 5ـ والشيخ محمد بن عبد الله بن حمد بن محمد بن سليم، ولد في بريدة، سنة: 1240هـ وتوفي فيها سنة 1323هـ6. رحل له الشيخ في بريدة وأخذ عنه التوحيد وغيره7. 6ـ والشيخ علي بن ناصر بن محمد أبو وادي، ولد في عنيزة سنة: 1273هـ، وتوفي سنة: 1361هـ8. أخذ عنه الحديث، الأمهات الست وغيرها، وأجازه في ذلك. وأخذ عنه التفسير وأصوله، وأصول الحديث9.   1 علماء نجد للبسام 2/435، ومقدمة الرياض الناضرة بقلم أحد تلاميذ الشيخ/ 5. 2 علماء نجد للبسام 2/425، وروضة الناظرين للقاضي 1/220. 3 علماء نجد للبسام 2/367، وروضة الناظرين للقاضي 1/152، وعلما آل سليم للعمري 2/265، ومشاهير علماء نجد لآل الشيخ/ 331. 4 سيرة عبد الرحمن السعدي جمع الفقي بقلم ابن الشيخ/19، وملحق النعت الأكمل للعامري /428. 5 روضة الناظرين للقاضي 1/220. 6 علماء نجد للبسام 3/872، وروضة الناظرين للقاضي 2/211. 7 علماء نجد للبسام 2/235، وعلماء آل سليم وتلاميذهم للعمري 2/295. 8 علماء نجد للبسام 3/738، وروضة الناظرين للقاضي 2/114، وعلماء آل سليم للعمري 2/419. 9 علماء نجد للبسام 2/425، وسيرة عبد الرحمن السعدي جمع الفقي بقلم ابن الشيخ /19، ومقدمة الرياض الناضرة لأحد تلاميذ الشيخ/6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 7ـ والشيخ إبراهيم بن صالح بن إبراهيم بن محمد بن عيسى القحطاني ولد في عنيزة سنة: 1270هـ وتوفي بالرياض سنة: 1343هـ1. أخذ عنه أصول الدين2. 8 ـ والشيخ محمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن مانع. ولد في عنيزة سنة: 1300هـ، وتوفي في بيروت سنة: 1385هـ ونقل جثمانه إلى قطر وصلى عليه ودفن فيها3. وأخذ عنه علوم اللغة العربية4. 9ـ والشيخ صعب بن عبد الله بن صعب التويجري، ولد في بريدة سنة: 1253هـ، وتوفي سنة: 1339هـ5. أخذ عنه الفقه وأصوله6، عندما رحل من بريدة إلى عنيزة وجلس فيها للتدريس7. 10ـ والشيخ علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد السناني، ولد في عنيزة سنة: 1266هـ، وتوفي سنة: 1339هـ8. وأخذ عنه أصول الدين9. 11ـ والشيخ محمد الأمين محمود الشنقيطي، ولد في مدينة شنقيط في موريتانيا سنة: 1289هـ، وتوفي في الزبير في صباح الجمعة 14 جمادى الثانية، سنة: 1351هـ10.   1 علماء نجد للبسام 1/117، وروضة الناظرين 1/44، مشاهير علماء نجد لآل الشيخ /285. 2 روضة الناظرين للقاضي 1/220. 3 علماء نجد للبسام 3/827، وعلماء آل سليم للعمري 2/459. 4 علماء نجد للبسام 2/425، وروضة الناظرين للقاضي 1/220. 5 علماء نجد للبسام 2/379، وروضة الناظرين للقاضي 1/150، وعلماء آل سليم للعمري 2/276. 6 علماء نجد للبسام 2/425. 7 علماء آل سليم للعمري 2/295. 8 علماء نجد للبسام 3/733، وروضة الناظرين للقاضي 2/109، وعلماء آل سليم للعمري 2/404. 9 علماء نجد للبسام 2/425، وروضة الناظرين للقاضي 1/220. 10 انظر ترجمته في كتاب "من أعلام الفكر الإسلامي في البصرة، الشيخ محمد أمين الشنقيطي) لعبد اللطيف التليشي الخالدي، ط ـ مؤسسة المطبوعات العربية، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 قرأ عليه الشيخ ابن سعدي لما قدم إلى عنيزة وجلس فيها للتدريس سنة: 1330هـ. وأخذ عنه التفسير والحديث ومصطلح الحديث وعلوم العربية كالنحو والصرف وغيرهما1. وأخذ عنه إجازة بالرواية2. ثالثا: عنايته بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وتأثره بهما: لقد عني الشيخ ابن سعدي بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وكتب تلميذه ابن القيم عناية بالغة، فأكب عليها مطالعة واستذكاراً وحفظاً وفهماً وتلخيصاً وشرحاً.. وكان أعظم اشتغاله بها، ولازمها ملازمة تامة طيلة حياته، فتتلمذ بذلك على كتبهما، وحصل له بسبب ذلك انتفاعٌ كبيرٌ، وخيرٌ عظيمٌ. ولكي يبرز لنا مقصود هذا البحث أقول: إن تأثر الشيخ ابن سعدي بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم يظهر من نواح متعددة: أـ أجمع كل من ترجم له من تلاميذه وغيرهم على عنايته بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وحثه الدائم لتلاميذه بالعناية بها. يقول الشيخ محمد بن عثمان القاضي: "ولقد أكب بالمطالعة على كتب الفقه والحديث طيلة حياته خصوصا على كتب الشيخين، فقد كانت له صبوحا وغبوقاً"3. ويقول ابن الشيخ المترجم له عبد الله: "وكان أعظم اشتغاله وانتفاعه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وحصل له خير كثير بسببها في علم الأصول والتوحيد والتفسير والفقه وغيرها من العلوم النافعة"4. ويقول أحد تلاميذ الشيخ: "وكان يتعلم ويقضي أوقاته في ذلك، وفي الإكباب على مطالعة مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية ومؤلفات تلميذه ابن القيم بتمعن وتفهم فانتفع بهذه المؤلفات غاية الانتفاع"5 والنقول في ذلك كثيرة.   1 مقدمة الرياض الناضرة لأحد تلاميذ الشيخ/6، ومشاهير علماء نجد لآل الشيخ/329 2 آخر المختارات الجلية ـ طبعة المدني، بقلم السناني/ب. 3 روضة الناظرين للقاضي 1/220. 4 سيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي، جمع محمد الفقي بقلم عبد الله بن ناصر السعدي/ 21، وانظر مقدمة الرياض الناضرة لأحد تلاميذ الشيخ/7. 5 آخر المختارات الجلية طبعة السعيدية بقلم أحد تلاميذ الشيخ/411، ومشاهير علماء نجد لآل الشيخ 393، وانظر أيضا آخر المختارات الجلية طبعة المدني بقلم السناني/ج، وسيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي جمع الفقي. بقلم تلاميذ الشيخ/10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ب ـ ثناؤه الدائم عليهما وعلى مؤلفاتهما في كتبه: قال رحمه الله في كتابه طريق الوصول: "إن كتب الإمام الكبير شيخ الإسلام والمسلمين: تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، قدس الله روحه، جمعت فأوعت: جميع الفنون النافعة والعلوم الصحيحة، وجمعت علم الأصول والفروع وعلوم النقل والعقل، وعلوم الأخلاق والآداب الظاهرة والباطنة، وجمعت بين المقاصد والوسائل، وبين المسائل والدلائل، وبين الأحكام وبين حكمها وأسرارها، وبين تقرير المذهب الحق، والرد على جميع المطبلين، وامتازت على جميع الكتب المصنفة بغزارة علمها وكثرته وقوته، وجودته وتحقيقه، بحيث يجزم من له اطلاع عليها وعلى غيرها أنها لا يوجد لها نظير يساويها أو يقاربها"1. وقال في الكتاب نفسه: "وقد سلك شمس الدين ابن قيم الجوزية مسلك شيخه، بالتحقيق للعلوم الأصولية والفروعية والظاهرة والباطنة. وكان أعظم من انتفع بشيخ الإسلام، وأقومهم بعلومه وأوسعهم في العلوم النقلية والعقلية"2. وقال في المواهب الربانية: " .... ولا يخفى لطف الباري في وجود شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في أثناء قرون هذه الأمة، وتبيين الله به وبتلامذته من الخير الكثير والعلم الغزير، وجهاد أهل البدع، والتعطيل والكفر، ثم انتشار كتبه في هذه الأوقات، فلا شك أن هذا من لطف الله لمن انتفع بها، وأنه يتوقف خير كثير على وجودها فلله الحمد والمنة والفضل"3. وللشيخ ابن سعدي قصيدة نونية تتكون من ثلاثين بيتاً نظمها في مدح شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومؤلفاتهما منها: يا طالبا لعلوم الشرع مجتهدا يبغي انكشاف الحق والعرفان احرص على كتب الإمامين اللذيـ ـن هما المحك لهذه الأزمان العالمين العاملين الحافظيـ ـن المعرضين عن الحطام الفاني عاشا زمانا داعيين إلى الهدى من زائغ ومقلد حيران أعني به شيخ الورى وإمامهم يعزي إلى تيمية الحران والآخر المدعو بابن القيم   بحر العلوم العالم الرباني1 طريق الوصول/3. 2 المصدر السابق/303 بتصرف. 3 المواهب الربانية/73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فهما اللذان قد أودعا في كتبهم غرر العلوم كثيرة الألوان فيها الفوائد والمسائل جمعت من كل فاكهة بها زوجان إن رمت معرفة الإله وماله من وصفه وكماله الرباني أو رمت تفسير الكتاب وما حوى من كثرة الأسرار والتبيان أو رمت معرفة الرسول حقيقة وجلالة المبعوث بالفرقان أو رمت فقه الدين مرتبطاً به أصل الدليل أدلة الإتقان أو رمت معرفة القصائد كلها للمبطلين وردها ببيان أو رمت معرفة الفنون جميعها من نحوها والطب للأبدان تلق الجميع مقرراً وموضحا قد بيناها أحسن التبيان1 إلى آخر هذه القصيدة، وهي دقيقة في وصف هذين العالمين وغزارة علمهما وتنوعه. جـ ـ تأثره بهما في أسلوبه في الكتابة وفي تقريره للمسائل، وتأصيله للقواعد، وردوده على المنحرفين، وكثرة نقله واقتباسه من أقوالهما كما سيظهر جلياً عند عرض جهوده في العقيدة، إذ سيتبين للقارئ أن معظم كلامه في الرد على المخالفين أو في تأصيل القواعد مستفاد من كلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وذلك لشدة عناية الشيخ بمؤلفتهما القيمة النافعة. د ـ عنايته بالتأليف حول كتب شيخ الإسلام، وكتب تلميذه ابن القيم فله عدة مؤلفات تدور حول كتب هذين العالمين إما شرحاً وتوضيحاً أو نثراً أو تلخيصاً، منها: 1ـ كتاب توضيح الكافية الشافية، نثر فيه نونية ابن القيم. 2ـ الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية، وهو أيضا حول نونية ابن القيم حيث شرح الأبيات المتعلقة بتوحيد الأنبياء والمرسلين من النونية. 3ـ الدرة البهية في شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية وكما يظهر من عنوانه فهو شرح لتائية ابن تيمية في الرد على القدرية. 4 ـ التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنفية علق فيه على العقيدة الواسطية لابن تيمية. 5 ـ طريق الوصول إلى المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول، وهذا الكتاب   1 الفتاوى السعدية/673، 674، 675. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 من أبرز كتبه الدالة على شدة عنايته بكتب ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وهذا يظهر لنا من ناحيتين. الناحية الأولى: سبب تأليف الكتاب، إذ أنه ألفه رحمه الله ليكون بديلاً لأحد كتب ابن تيمية، بحث عنه كثيراً فلم يجده، يقول في مقدمة الكتاب مبيناً سبب تأليفه له: "ولشيخ الإسلام كتاب يقال له "قواعد الاستقامة" طالما بحثنا عنه لتحصيله من مظانه، فلم يتيسر، لكثرة فوائده. وإني لأرجو أن يكون ما جمعته في هذا المجموع من كلامه في الأصول والقواعد مغنيا عن ذلك الكتاب، ومتضمناً زيادات كثيرة لا توجد فيه ولا في غيره ...... "1. الناحية الثانية: مادة هذا الكتاب، فهو عبارة عن أكثر من ألف قاعدة، وأصل، وضابط، وتعريف استخرجها من أكثر من ستين كتاباً من كتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، بعد قراءة متأنية في هذه الكتب قال رحمه الله في آخر الكتاب: " .... وجملة ذلك: أن هذا المجموع قد انتقيته بعد التروي الكثير وكثرة التأمل والتفكير من جميع الكتب الموجودة من كتب الشيخين فتضمن صفوتها، احتوى على جواهرها وغررها، والحمد لله والفضل لله"2 ولا أدل وأوضح من ذلك على عنايته بكتبهما. هذا وإن المقصود من كل ما تقدم إبراز عناية الشيخ ابن سعدي بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، وقد بان المقصود، وحصل بحمد الله المنشود. رابعا: جلوسه للتدريس، وطريقته فيه: لقد بذل ابن سعدي أكثر جهده، ومعظم وقته في طلب العلم وتحصيله، فلازم العلماء وأكب على كتب العلم، فلا يصرفه عن حلق الذكر ومجالس العلم وقراءة الكتب صارف، ولا يرده عنها راد، حتى أناله الله من العلم حظاً وفيراً، وقدراً كبيراً، فعلا   1 طريق الوصول/4. فائدة: وقد طبع الكتاب قريباً بتحقيق محمد رشاد سالم بمطبعة جامعة الإمام محمد بن سعود، وهو ليس كما فهم الشيخ ابن سعدي من عنوانه من أنه عبارة عن سرد لقواعد وأصول تحصل بها الاستقامة، فقد تأملت الكتاب بعد طبعه فوجدته يدور حول الحث على اتباع السنة والتحذير من البدعة والرد على المبتدعة، وليس فيه سرد للقواعد والضوابط والأصول. 2 طريق الوصول / 435. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 قدره، وعظم شأنه، وظهر تفوقه، وذاع صيته. فأقبل عليه طلاب العلم من عنيزة وما جاورها من المدن، ورغبوا في دروسه وحرصوا على الاستفادة منه1. حتى إن زملاءه في الدارسة لما رأوا تفوقه عليهم ونبوغه، تتلمذوا عليه وصاروا يأخذون عنه العلم وهو في سن مبكر، فصار وهو في شبابه معلماً ومتعلماً2. وقد كان أول جلوسه للتعليم في الثالثة والعشرين من عمره، ففي هذه السن جلس في حلقة التدريس يعطي الدروس للطلاب، وجد في تعليمهم واجتهد، يعلم زملاءه ومن يريد العلم ويطلبه، وكان يحرص على التعليم كحرصه على التعلم. فجمع بذلك بين طلب العلم والتعليم، ورتب أوقاته في ذلك، فكان يقضي بعض أوقاته في القراءة على العلماء، بعضها يجلس للتلاميذ يعلمهم، وبعضها في مراجعة الكتب والبحث فيها، ولا يفوّت من أوقاته شيئاً إلا وقد رتبه3. فبلغ الذروة في علوم الحديث والفقه والتفسير، حتى إنه منذ عام 1350هـ صار مرجع التدريس ومرجع الإفتاء في بلده وما حولها من القرى وأصبح المعول لدى جميع الطلاب في أخذ العلوم4. أما عن تنظيمه لأوقاته في التعليم؛ فقد كان يجلس أربع جلسات في اليوم الواحد، فكان إذا صلى الفجر بالناس جالس لأداء الدرس حتى تطلع الشمس، ثم يذهب بعد ذلك إلى بيته حتى الضحوة الكبرى فيعود إلى المسجد يعلم أبناءه الطلاب الفقه والتفسير والحديث والعقيدة والنحو والصرف في دروس منتظمة، ويستمر معهم حتى صلاة الظهر، فيصلي بالناس ويعود إلى بيته يستريح فيه إلى صلاة العصر، ثم يذهب إلى المسجد فيصلي العصر بالناس، ويعطيهم عقب الصلاة وهم جلوس بعض الأحكام الفقهية في دقائق لا تؤخرهم عن الانصراف سعيا وراء أرزاقهم، وعندما تغرب الشمس يصلي بالناس المغرب ويجلس للدرس حتى يصلي العشاء، ويتكرر ذلك يومياً5.   1 علماء نجد للبسام 2/423. 2 آخر كتاب المختارات الجلية، طبعة المدني بقلم السناني /ب، وانظر سيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي، جمع الفقي بقلم أحد تلاميذ الشيخ/10. 3 سيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي، جمع الفقي بقلم أحد تلاميذ الشيخ/10، وانظر مقدمة الرياض الناضرة لأحد تلاميذ الشيخ 4. 4 روضة الناظرين للقاضي 1/223. 5 مجلة الجامعة الإسلامية، س:11، ع:4، ص:205 بقلم الشيخ عبد الرحمن العدوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 أما عن طريقته في التعليم وحرصه على نفع طلابه، فقد كان رحمه الله من أحسن الناس تعليماً وأبلغهم تفهيماً وأفضلهم تبييناً، وذلك؛ لأن طريقته في التعليم امتازت بصفات كثيرة هامة، جعلت طلابه يتلذذون بدرسه ويواظبون عليها. ومن أبرز هذه الصفات:- 1ـ أنه يستشير تلاميذه في اختيار الكتاب الأنفع من كتب الدراسة، ويرجح ما عليه رغبة أكثرهم، وعند التساوي يكون هو الحكم في الترجيح1. 2ـ يخصص المكافآت لمن يحفظ المتون من طلابه، وتشجيعاً لهم، وحفزاً لزملائهم2. 3ـ يقيم المناظرات بين طلابه المحصلين لشحذ أفكارهم، وصقل أذهانهم، وتعويدهم إقامة الحجة والبرهان3. 4ـ يطرح المسائل على الطلاب ليختبر أذهانهم، ويعتمد أحياناً تغليط نفسه أمامهم ليرى من هو حاضر الذهن ممن هو شارده، وليعرف الفطن من غيره4. 5ـ عند ذكره للمسائل الخلافية، فإنه يقرر القول الراجح بأدلته، ثم يذكر القول الآخر بأدلته ثم يوسط نفسه حكماً في المسألة، وقد يستطرد بذكر نظائر المسألة، كل ذلك بفصاحة وبلاغة بديهية5. 6ـ يجمع الطلاب كلهم على كتابين واحد بعد آخر، وبعد انتهاء الجلسة يطلب من ثلاثة منهم إعادة ما يستحضره من التقرير، ويدور عليهم ليختبر قوة حفظهم وفهمهم6. 7ـ يناقشهم بعد يوم فيما مضى شرحه، مما كان يدفع الطلاب على الحرص على الاستذكار وتثبيت المعلومات7.   1 روضة الناظرين للقاضي 1/224، مقدمة الرياض الناضرة لأحد تلاميذ الشيخ/ 7. 2 روضة الناظرين للقاضي 1/222، وسيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي، جمع الفقي بقلم أحد تلاميذ الشيخ/12, 3 سيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي، جمع الفقي بقلم ابن الشيخ/ 20، وروضة الناظرين للقاضي 1/224. 4 روضة الناظرين للقاضي 1/222. 5 روضة الناظرين للقاضي 1/222-224. 6 روضة الناظرين للقاضي 1/222. 7 روضة الناظرين للقاضي 1/222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 8 ـ يحرص على طلابه حرصاً تاماً، ويتفقدهم عند غيابهم تفقداً دقيقاً مما كان يجعل تلاميذه يراعون المواظبة لملاحظته وعدم غفلته1. 9ـ ومع ذلك كله كان يلاطفهم ويداعبهم تحبيباً لهم في طلب العلم2 ولهذا فإنه قد انتفع بعلمه خلق كثير، وتخرج على يديه عدد كبير من طلبة العلم البارزين المحصلين، أجزل الله له المثوبة، ورحمه الرحمة الواسعة. خامسا: تلاميذه:- وقد أخذ عنه العلم خلق كثير يصعب حصرهم، ومنهم:- 1ـ الشيخ محمد بن صالح العثيمين. خلف شيخه في إمامة الجامع بعنيزة، وفي التدريس والوعظ والخطابة. 2ـ والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام. عضو هيئة التمييز بالمنطقة الغربية. 3ـ والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العقيل. عضو الهيئة القضائية العليا في وزارة العدل. 4ـ والشيخ عبد الله بن محمد المطرودي ـ يقال إنه كان يحفظ صحيح البخاري بأسانيده. 5ـ والشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان، درّس في معهد إمام الدعوة بالرياض، وسلك طريقة شيخه بالتأليف. 6ـ والشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع تولى القضاء في المجمعة وفي عنيزة وتوفي في 18/7/1387هـ. 7ـ والشيخ سليمان بن إبراهيم البسام، كان فقيهاً، درس في المعهد العلمي بعنيزة، وعين قاضياً فرفض وتوفي في 14/3/1377هـ. 8 ـ والشيخ محمد بن منصور الزامل، درس بمعهد عنيزة العلمي. 9ـ والشيخ عبد الله بن محمد الزامل، درس في معهد عنيزة العلمي، وهو من أبرز علماء نجد بالنحو. 10ـ والشيخ عبد الله بن حسن آل بريكان، درس في معهد عنيزة العلمي.   1 روضة الناظرين للقاضي 1/222. 2 آخر المختارات الجلية ـ طبعة المدني بقلم السناني/ج. ويقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وكان أحيانا يلقي ما فيها الدعابة على طلابه الصغار، ومن ذلك أنه سأل مرة أحد الطلبة عن الشاة إذا لم يكن لها ثنايا من فوق حين كان يشرح في باب الأضحية على قول الفقهاء: "إن ما سقطت ثناياه لا يضحى به". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 11ـ والشيخ عبد الله بن محمد العوهلي، درس بمعهد مكة العلمي. 12ـ والشيخ محمد بن صالح الخزيم. عين قاضياً في الرس ثم في المذنب ثم في عنيزة، وتوفي. 13ـ والشيخ عبد الرحمن بن محمد المقوشي، عين قاضياً بالرياض ثم بالقويعية ثم أحيل إلى التقاعد لرغبته. توفي. 14ـ والشيخ حمد بن محمد البسام درس بالمعهد العلمي بعنيزة ثم درس في جامعة الإمام محمد بن سعود فرع القصيم، وكان هو القارئ على الشيخ في الدرس. 15ـ والشيخ إبراهيم بن عبد العزيز الغرير إمام مسجد الجديدة بعنيزة، توفي. 16ـ والشيخ عبد الله بن عبد العزيز الخضيري عين قاضياً بعفيف ثم صار مدرساً بمعهد المدينة المنورة العلمي، توفي. 17ـ والشيخ حمد بن إبراهيم القاضي. صار مدير إحدى المدارس بعنيزة، توفي. 18ـ والشيخ عبد الله بن محمد الفهيد. إمام مسجد القاع في عنيزة. توفي. 19ـ والشيخ سليمان بن صالح البسام. من أعيان عنيزة. توفي. 20ـ والشيخ عبد الله بن محمد الصيخان. كان قوي الحفظ ـ كفيفاً. وتوفي شاباً. 21ـ والشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز الزامل. كان له عناية بالتاريخ والأنساب ـ توفي. 22ـ والشيخ عبد العزيز بن محمد البسام. كان ينوب عن الشيخ في إمامة الجامع وفي الخطابة إذا سافر. 23ـ والشيخ عبد العزيز بن علي المساعد. إمام مسجد الصويطي بعنيزة. 24ـ والشيخ سليمان بن عبد الرحمن الدامغ. إمام مسجد الخريزة بعنيزة. 25ـ والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعدي. ابن الشيخ وكان ذا عناية بطبع مؤلفات والده، توفي. 26ـ والشيخ محمد بن صالح الفضيلي، كان قاضياً في تيماء، توفي. 27ـ والشيخ يوسف بن عبد العزيز الخرب. حفظ القرآن، وكان مشهوراً بكتابة الوثائق والمبايعات في عنيزة، وكان يقارئ الشيخ القرآن كل يوم طيلة حياته. 28ـ والشيخ علي بن محمد الصالحي. صاحب مطبعة النور، وكان الشيخ قد وكل إليه تدريس صغار الطلبة سنة: 1360هـ. 29ـ والشيخ إبراهيم بن محمد العمود. كان قاضياً في جيزان ثم في الرياض، والشيخ خاله. توفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 31ـ والشيخ سليمان بن محمد الشبل، درس في المدرسة العزيزية الابتدائية في عنيزة ـ توفي. 32ـ والشيخ حمد بن محمد المرزوقي. درس في معهد النور. 33ـ والشيخ محمد بن عبد الرحمن الحنطي. كان قاضياً في الدرعية. 34ـ والشيخ محمد بن عثمان القاضي. إمام جامع في عنيزة وقيم مكتبة الصالحية في عنيزة. 35ـ والشيخ عبد الرحمن العقيل. كان قاضياً في جيزان ـ توفي. 36ـ والشيخ محمد بن سليمان البسام. درس في المسجد الحرام فترة وجيزة. وغيرهم خلق كثير1. سادسا: عقيدته وتنوع ثقافته:- لقد نهج ابن سعدي في العقيدة منهج السلف الصالح، واقتفى آثارهم، وترسم خطاهم، وذلك بتلقي العقيدة وأخذها من منبعها الأصيل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهم السلف الصالح، لا بالأهواء والتشهي، والبدع والظنون الفاسدة. ومن تأمل كتبه وسبرها عرف شدة عنايته بهذه العقيدة، وحرصه على نشرها وتصديه لمخالفيها. وقد ذكر رحمه الله في أول كتابه القول السديد في مقاصد التوحيد مقدمة تشتمل على صفوة عقيدة أهل السنة وخلاصتها المستمدة من الكتاب والسنة. ولِوِجَازة هذه المقدمة، وشمولها لمعظم مسائل العقيدة، ودقة عباراتها، ووضوحها وأهميتها أوردها بنصها. قال رحمه الله في بيان خلاصة عقيدة السلف الصالح المستمدة من الكتاب والسنة: وهي "أنهم يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، فيشهدون أن الله هو الرب الإله المعبود، والمتفرد بكل كمال فيعبدونه وحده مخلصلين له الدين، فيقولون إن الله هو الخالق البارئ المصور الرزاق المعطي المانع المدبر لجميع الأمور. وأنه المألوه المعبود الموحد المقصود، وأنه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي   1 راجع في تلاميذ الشيخ: علماء نجد للبسام 2/426، وروضة الناظرين للقاضي 1/221، وعلماء آل سليم للعمري 2/296، ومشاهير علماء نجد لآل الشيخ /393. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ليس بعده شيء، الظاهر الذي ليس فوقه شيء، الباطن الذي ليس دونه شيء. وأنه العلي الأعلى بكل معنى واعتبار، علو الذات وعلو القدر وعلو القهر، وأنه على العرش استوى، استواء يليق بعظمته وجلاله، ومع علوه المطلق وفوقيته، فعلمه محيط بالظواهر والبواطن والعالم العلوي والسفلي، وهو مع العباد بعلمه، يعلم جميع أحوالهم، وهو القريب المجيب. وأنه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، والكل إليه مفتقرون في إيجادهم وإيجاد ما يحتاجون إليه في جميع الأوقات. ولا غنى لأحد عنه طرفة عين، وهو الرؤوف الرحيم، الذي ما بالعباد من نعمة دينية ولا دنيوية ولا دفع نقمة إلا من الله، فهو الجالب للنعم، الدافع للنقم. ومن رحمته أنه يننزل كل ليلة إلى السماء الدينا، يستعرض حاجات العباد حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: لا أسأل عن عبادي غيري، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، حتى يطلع الفجر، فهو ينزل كما يشاء، ويفعل كما يريد، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ويعتقدون أنه الحكيم الذي له الحكمة التامة في شرعه وقدره، فما خلق شيئاً عبثا، ولا شرع الشرائع إلا للمصالح والحكم. وأنه التواب العفو الغفور، يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات، ويغفر الذنوب العظيمة للتائبين والمستغفرين والمنيبين، وهو الشكور الذي يشكر القليل من العمل ويزيد الشاكرين من فضله. ويصفونه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من الصفات الذاتية، كالحياة الكاملة والسمع والبصر، وكمال القدرة العظيمة والكبرياء، والمجد والجلال والجمال، والحمد المطلق، ومن صفات الأفعال المتعلقة مبشيئته وقدرته كالرحمة والرضا والسخط والكلام، وإنه يتكلم بما يشاء كيف يشاء. وكلماته لا تنفد ولا تبيد، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. وأنه لم يزل ولا يزال موصوفا بأنه يفعل ما يريد ويتكلم بما شاء، ويحكم على عباده بأحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية، فهو الحاكم المالك، ومن سواه مملوك محكوم عليه، فلا خروج للعباد عن ملكه ولا عن حكمه. يؤمنون بما جاء به الكتاب وتواترت به السنة أن المؤمنين يرون ربهم تعالى عيانا جهرة، وأن نعيم رؤيته والفوز برضوانه أكبر النعيم وألذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وأن من مات على غير الإيمان والتوحيد فهو مخلد في نار جهنم أبداً، وأن أرباب الكبائر إذا ماتوا على غير توبة ولا حصل لهم مكفر لذنوبهم ولا شفاعة فإنهم وإن دخلوا النار لا يخلدون فيها، ولا يبقى في النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان إلا خرج منها. وأن الإيمان يشمل عقائد القلوب وأعمال الجوارح وأقوال اللسان، فمن قام بها على الوجه الأكمل فهو المؤمن حقاً الذي استحق الثواب وسلم من العقاب ومن انتقص منها نقص من إيمانه بقدر ذلك؛ ولذلك كان الإيمان يزيد بالطاعة وفعل الخير، وينقص بالمعصية والشر. ومن أصولهم السعي والجد فيما ينفع من أمور الدين والدنيا، مع استعانة بالله، فهم حريصون على ما ينفعهم وستعينون بالله، وكذلك يحققون الإخلاص لله في جميع حركاتهم، ويتبعون رسول الله في الإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول والنصيحة للمؤمنين أتباع طريقهم. ويشهدون أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو خاتم النبيين، أرسل إلى الإنس والجن بشيراً ونذيراً، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيراً، أرسله الله بصلاح الدين وصلاح الدنيا، وليقوم الخلق بعبادة الله ويستعينوا برزقه على ذلك. ويعلمون أنه أعلم الخلق وأصدقهم وأنصحهم وأعظمهم بيانا، فيعظمونه ويحبونه، ويقدمون محبته على محبة الخلق كلهم ويتبعونه في أصول دينهم وفروعه، يقدمون قوله وهديه على قول كل أحد وهديه. ويعتقدون أن الله جمع له من الفضائل والخصائص والكمالات ما لم يجمعه لأحد، فهو أعلى الخلق مقاماً وأعظمهم جاهاً وأكملهم في كل فضيلة، لم يبق خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذرهم عنه. وكذلك يؤمنون بكل كتاب أنزله الله، وكل رسول أرسله الله، ولا يفرقون بين أحد من رسله. ويؤمنون بالقدر كله، وأن جميع أعمال العباد خيرها وشرها، قد أحاط بها علم الله، وجرى بها قلمه، ونفذت فيها مشيئته، وتعلقت بها حكمته، حيث خلق للعباد قدرة وإرادة تقع بها أقوالهم وأفعالهم بحسب مشيئتهم، لم يجبرهم على شيء منها بل جعلهم مختارين له، وخص المؤمنين بأن حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان بعدله وحكمته. ومن أصول أهل السنة أنهم يدينون بالنصيحة لله ولكتابه ورسوله، ولأئمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 المسلمين وعامتهم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران والمماليك والمعاملين ومن له حق، وبالإحسان إلى الخلق أجمعين. يدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها، وينهون عن مساوئ الأخلاق وأرذلها. ويعتقدون أن أكمل المؤمنين إيمانا ويقينا، أحسنهم أعمالا وأخلاقاً، وأصدقهم أقوالاً، وأهداهم إلى كل خير وفضيلة، وأبعدهم من كل رذيلة. ويأمرون بالقيام بشرائع الدين على ما جاء عن نبيهم فيها وفي صفاتها ومكملاتها، والتحذير عن مفسداتها ومنقصاتها. ويرون الجهاد في سبيل الله ماضيا مع البر والفاجر، وأنه ذروة سنام الدين، جهاد العلم والحجة، وجهاد السلاح، وأنه فرض على كل مسلم أن يدافع عن الدين بكل ممكن ومستطاع. ومن أصولهم الحث على جمع كلمة المسلمين، والسعي في تقريب قلوبهم وتأليفها، والتحذير من التفرق والتعادي والتباغض، والعمل بكل وسيلة توصل إلى هذا. ومن أصولهم النهي عن أذية الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم والأمر بالعدل والإنصاف في جميع المعاملات والندب إلى الإحسان والفضل فيها. ويؤمنون بأن أفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأفضلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصا الخلفاء الراشدون، والعشرة المشهود لهم بالجنة وأهل بدر، وبيعة الرضوان والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، فيحبون الصحابة ويدينون لله بذلك، وينشرون محاسنهم ويسكتون عما قيل عن مساوئهم. ويدينون لله باحترام العلماء الهداة وأئمة العدل، ومن لهم المقامات العالية في الدين والفضل المتنوع على المسلمين، ويسألون الله أن يعيذهم من الشك والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وأن يثبتهم على دين نبيهم إلى الممات. هذه الأصول الكلية بها يؤمنون ولها يعتقدون وإليها يدعون1 أ. هـ. فهذه الأصول الكلية التي ذكرها الشيخ ابن سعدي، اشتملت على خلاصة العقيدة وصفوتها، وهي أصول المستفادة من الكتاب والسنة، فليس فيها أصل إلا وعليه عشرات الأدلة إما من القرآن أو من السنة، وهذه هي عقيدة السلف الصالح التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بها وسار على نهجه فيه صحبه الكرام وتابعوهم بإحسان.   1 مقدمة القول السديد /6-12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 أما عن ثقافته وتنوعها فكما تقدم أن الشيخ ابن سعدي قد أفنى عمره، وأمضى وقته في طلب العلوم وتحصيلها، ولم يقتصر على فن واحد منها بل رام تحصيل جميع العلوم الشرعية من فقه وتفسير وحديث وغيرها، فأناله الله علما واسعا، وألم بعلوم كثيرة من العلوم الشرعية وبرع فيها، ولكي تتبين لنا ثقافته وتنوعها وسعتها، أعرض لكل فن اشتغل به مع بيان تحصيله منه وإفادته فيه على وجه الاختصار. العقيدة: لقد أولى الشيخ ابن سعدي العقيدة الإسلامية عناية بالغة واهتماماً كبيراً، فدرس العقيدة وتلقاها على عدد كبير من العلماء كما سبق الإشارة إلى ذلك عند ذكر شيوخه، واعتنى بكتب المتقدمين من سلف هذه الأمة، كما عنى بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه شمس الدين ابن قيم الجوزية، فكان لذلك دور كبير في نبوغه وبروزه في عقيدة السلف الصالح. ثم إنه ـ رحمه الله ـ اعتنى بعد ذلك بالعقيدة تدريساً وتأليفاً، فكان في دروسه التي يلقيها على الطلاب يعتني بتدريسهم العقيدة الإسلامية الصافية، المأخوذة من الكتاب والسنة، الخالية من شوائب الشرك والبدع والخرافات. وكان كذلك في مؤلفاته يعتني بأمر العقيدة، فأكثر فيها التأليف شرحاً وتوضيحاً وتقريراً وتأصيلاً ورداً على المخالفين، وغير ذلك من الجهود الكبيرة التي قام بها نصرة لهذه العقيدة، وسيأتي بيان ذلك مفصلاً في الباب الثاني من هذه الرسالة إن شاء الله. الحديث: تقدم في ذكر شيوخه أنه تلقى الحديث وعلومه على عدد من المشايخ، وأنه أخذ من بعضهم إجازة برواية الكتب الستة. وهذا يبين لنا مدى اهتمامه بالحديث منذ طلبه للعلم. أما عن مؤلفاته في الحديث فلم أقف له إلا على مؤلف واحد جمع فيه تسعة وتسعين حديثاً من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، وأشار في مقدمته إلى أهمية الحديث فقال: "أما بعد: فليس بعد كلام الله أصدق ولا أنفع ولا أجمع لخير الدنيا والآخرة من كلام رسوله وخليله محمد صلى الله عليه وسلم، إذ هو أعلم الخلق، وأعظمهم نصحاً وإرشاداً وهداية، وأبغلهم بياناً وتأصيلاً، وأحسنهم تعليماً، وقد أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً، بحيث كان يتكلم بالكلام القليل لفظه الكثيرة معانيه، مع كمال الوضوح والبيان الذي هو أعلى رتب البيان"1.   1 بهجة قلوب الأبرار، وقرة عيون الأخيار، في شرح جوامع الأخبار/5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وقد كان في هذا المؤلف وغيره من مؤلفاته عند استشهاده بالحديث يهتم بالإشارة إلى بعض من خرجه في كتب الستة. وكان يهتم في دروسه بتدريس الحديث فقد درس بلوغ المرام لابن حجر مراراً كثيرة. وكان يعود طلابه دائما في المسائل الخلافية على الأخذ بما وافق الدليل من الكتاب أو السنة الصحيحة. الفقه: كان رحمه الله ذا معرفة تامة بالفقه، وقد كان في بداية طلبه للعلم متمسكا بمذهب الإمام أحمد تبعاً لمشائخه، وحفظ بعض المتون في ذلك وكان له مؤلفات في الفقه على طريقة النظم للمسائل وهو يتكون من أربعمائة بيت على مذهب الإمام أحمد. ثم مال إلى الترجيح وترك التقليد، ولا سيما بعد قراءته لكتب الشيخين، فقد كان يميل لاختياراتهما، ويرجح ما وافق الدليل. ولهذا فقد أفرد مؤلفاً بين فيه اختياراته الفقهية، وأفرد آخر جعله مستدركاً على أحد كتب الفقه الحنبلي ليكون كالمستدرك على جميع كتب الحنابلة رجح فيه ما وافق الدليل. وقد برع رحمه الله في الفقه، واعتنى به اعتناء كبيراً وأكثر فيه من التأليف، ومؤلفاته في الفقه تربو على عشرة مؤلفات وسيأتي ذكرها قريبا في مؤلفاته. التفسير: وأما التفسير فقد كان له اليد الطولى وبرع فيه وقد قرأ في طلبه للعلم تفسيرات متعددة. وله كتب متعددة حول القرآن وتفسيره، فله تفسير كامل للقرآن ويقال إنه أملاه من الذاكرة من غير أن يكون عنده وقت التصنيف كتاب تفسير ولا غيره1. وله خلاصة لهذا التفسير، وله مؤلف في فوائد استنبطها من قصة يوسف، وله مؤلف في الفوائد القرآنية التي عرضت له أثناء قراءته للقرآن، وله مؤلف في قواعد تفسير القرآن، وسيأتي ذكرها في مؤلفاته. وكان يقرأ على طلابه القرآن. وفي أثناء القراءة يفسره لهم. ويبين لهم معانيه   1 مقدمة الرياض الناضرة لأحد تلاميذه/8، وسيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي جمع محمد حامد الفقي، 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ووجوه إعجازه ويستنبط لهم منه الفوائد، حتى إن السامع إليه وهو يفسر كلام الله يود أن لا يصمت، وأن يستمر دائماً في تفسيره. اللغة والشعر: لقد درس الشيخ ابن سعدي علوم اللغة العربية على عدد من المشايخ، وألف في النحو رسالة صغيرة علق فيها على نظم قواعد الإعراب وسيأتي ذكرها في مؤلفاته. وأما الشعر فقد كان رحمه الله منذ صغره يقول الشعر، وله أشعار كثيرةٌ يخدم فيها علوم الشريعة. فله منظومات متعددة في الفقه وفي قواعد الفقهية وفي الترغيب والترهيب وفي شرح بعض الأحاديث وفي الثناء على بعض علماء الإسلام وغير ذلك مما سيأتي بعضه في مؤلفاته1. ومن لطائف شعره قوله في وصف السيارة أول ما ركبها مسافراً للحج: يا راحلين إلى الحمى برواحلٍ تطوي الفلا والبيد طيّ المسرعِ ليست تبول ولا تروث وما لها روحٌ تحن إلى الربيع الممرعِ ما استولدت من نوقها بل صُنعها من بعض تعليم اللطيف المبدعِ كم أوصلت دارَ الحبيبِ وكم سرتْ بحمولها نَحو الديارِ الشسعِ سابعا: مؤلفاته: كان الشيخ ابن سعدي رحمه الله ذا عناية بالغة بالتأليف، وله مؤلفات كثيرة في أنواع العلوم الشرعية، فألف في التوحيد والفقه والحديث والتفسير والأصول ومحاسن الدين وغيرها، وجميع مؤلفاته مطبوعة إلا اليسير منها؛ لأنه كان رحمه الله ذا عناية بطبع الكتاب فور انتهائه من تأليفه، إما على نفقته أو على نفقة بعض أهل الخير والإحسان. وسأعرض فيما يلي جميع مؤلفاته المطبوع منها وغير المطبوع، مع دراسة موجزة أو نبذة مختصرة عن كل كتاب منها، وقد رتبتها على حروف المعجم، وجعلت لكل مؤلف رقما تسلسلياً، ليعلم بذلك عدد مجموع مؤلفاته، وإذا تكرر الكتاب بأن يكون طبع باسم آخر، أو استل من أحد مؤلفاته وهو قليل جداً فإني أهمل ترقيمه وأكتفي بوضع شرطة قبله هكذا (ـ) ، وما لم أنص على أنه مخطوط فهو مطبوع متداول، وفيما يلي أسماء مؤلفاته ونبذة عن كل منها:   1 وانظر آخر الفتاوى السعدية /668 وما بعدها. ففيه جملة كبيرة من أشعاره في المدح والرثاء وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 1ـ الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين. وهي رسالة صغيرة تتكون من ثمانين صفحة اعتنى فيها الشيخ ابن سعدي بالرد على الملاحدة المنكرين لوجود الله عز وجل. وكان أكثر عنايته في هذه الرسالة بنقض أصل فاسد أصّلَهُ معلمهم الأول "أرسطو". وهو قوله: "إن من أراد الشروع في المعارف الإلهية فليمح من قلبه جميع العلوم والاعتقادات، وليسع في إزالتها من قلبه بحسب مقدوره، وليشك في الأشياء ثم ليكتف بعقله وخياله ورأيه وعليه أن لا يؤمن إلا بالأشياء المحسوسة". وقد نقض الشيخ ابن سعدي هذا الأصل، وبين بطلانه من ثلاثة وثمانين وجها انتقى أكثرها من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب تلميذه ابن القيم. وهذه الرسالة مع أنها صغيرة الحجم فإنها عظيمة النفع لما اشتملت عليه من ردود رصينة وقوية تكشف بطلان دعوى هؤلاء الملاحدة الكفرة. وقد فرغ الشيخ ابن سعدي من تأليف هذه الرسالة في 14 رجب سنة 1372هـ. 2ـ الإرشاد إلى معرفة الأحكام. وهو مجلد لطيف ألفه الشيخ ابن سعدي على طريقة السؤال والجواب، وتناول فيه معظم المسائل الفقهية. يقول في مقدمته: "أما بعد فهذا تأليف بديع المنزع سهل الألفاظ والمعاني حسن الترتيب يحتوي على مهمات مسائل الأحكام رتبته بصورة السؤال المحرر الجامع والجواب المفصل النافع يحتوي على أصول وضوابط وتقسيمات تقرب أشتات المسائل، وتضم النظائر والفوارق ... ". وقد اشتمل هذا الكتاب على مائة سؤال جامع مع أجوبة موسعة مفصلة لهذه الأسئلة، وحوى أهم المهمات من مسائل الفقه في العبادات والمعاملات والمشاركات والتبرعات والمواريث والأنكحة والجنايات والأقضية وغيرها، وفرغ ابن سعدي من تأليف هذا الكتاب في 17 رمضان سنة 1358هـ. ـ إرشاد أولى البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب بطريق مرتب على السؤال والجواب. وهو الكتاب المتقدم نفسه طبع مرة أخرى بهذا الاسم، في مطبعة واحدة، وفي عام واحد!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 3ـ انتصار الحق: وهي رسالة صغيرة عبارة عن محاورة دينية اجتماعية بين رجلين كانا متصاحبين رفيقين مسلمين يدينان بالدين الحق ويشتغلان في طلب العلم جميعاً فغاب أحدهما عن صاحبه مدة طويلة ثم التقيا فإذا هذا الغائب قد تغيرت أحواله وتبدلت أخلاقه، فسأله صاحبه عن ذلك فإذا هو قد تغلبت عليه دعاية الملحدين الذين يدعون لنبذ الدين ورفض ما جاء به المرسلون. فدارت بينهما هذه المحاورة وانتهت بإقناع الناصح زميله بفساد ما ذهب إليه. وهي محاورة هادفة نشرت في مجلة المنهل في عام 1367هـ، ثم أفردت في رسالة مستقلة. 4ـ بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار. وهو مجلد لطيف يشتمل على تسعة وتسعين حديثاً من الأحاديث النبوية الجوامع في أصناف العلوم والمواضيع النافعة والعقائد الصحيحة والأخلاق الكريمة والفقه والآداب والإصلاحات الشاملة والفوائد العامة، مع شرحها وبيانها وإيضاحها. قال في مقدمته: " .... وقد بدا لي أن أذكر جملة صالحة من الأحاديث الجوامع والمواضيع الكلية والجوامع في جنس أو نوع أو باب من أبواب العلم، مع التكلم على مقاصدها وما تدل عليه، وعلى وجه يحصل به الإيضاح والبيان مع الاختصار" فرغ من تأليفه في 10شعبان 1371هـ. 5ـ التعليق وكشف النقاب على نظم قواعد الإعراب1. وهي رسالة صغيرة لم تطبع، تتكون من 22 صفحة شرح فيها منظومة في قواعد الإعراب قال في مقدمتها: "أما بعد فهذا تعليق على نظم قواعد الإعراب نقلته من شرح الشيخ خالد الأزهري على أصله، ذكرت منه ما يتعلق بهذا النظم وحذفت منه ما يستغنى عنه، ونقلت عباراته، إلا في شيء يسير، وأسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه الكريم". وفرغ الشيخ ابن سعدي من هذه الرسالة في سنة 1334هـ. ويوجد منها أصل مخطوط عند الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام.   1 صاحب هذا النظم هو أبو محمد عبد الله بن يوسف الشهير بابن هشام النحوي المتوفى سنة 762هـ، وله شروح متعددة منها شرح الشيخ خالد بن عبد الله الأزهري النحوي المتوفى سنة 905هـ. كشف الظنون لحاجي خليفة 1/124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 6ـ توضيح الكافية الشافية. وهذا الكتاب نثر فيه الشيخ ابن سعدي نونية ابن القيم رحمه الله المسماة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية. قال ابن سعدي في مقدمته: " .... ولما كان النظم معناه بعيد المنال، ودلالته على المعنى المراد يكثر فيها الاشتباه والإشكال، أحببت أن أقربه للقارئين بحله إلى معناه المنثور فقط من غير زيادة على ما دل عليه، إلا إذا اقتضت الحال الزيادة أو كان المعنى يتوقف عليها .... واعلم أن هذا التوضيح والتعليق على اختصاره قد حوى على جميع المقاصد والعقائد الدينية، وحصل به التوضيح التام للكافية الشافية ... ومتى أردت معرفة مقداره فتأمل كل فصل من فصول الكافية، واستعن عليه بما يقابله من هذا التعليق يحصل لك المقصود، وتحظى بالمطلوب، واقتديت في عملي هذا بابن هشام في توضيحه للألفية ابن مالك رحمهم الله". وفرغ ابن سعدي من تأليفه في 10 جمادى الآخرة سنة 1367هـ. 7ـ التوضيح والبيان لشجرة الإيمان. وهي رسالة صغيرة تشتمل على مباحث الإيمان تعريفه والأمور التي يستمد منها، وفوائده وثماره وغير ذلك من المباحث المتعلقة به. قال في مقدمتها: "أما بعد: فهذا كتاب يحتوي على مباحث الإيمان التي هي أهم مباحث الدين، وأعظم أصول الحق واليقين، مستمداً ذلك من كتاب الله الكريم الكفيل بتحقيق هذه الأصول تحقيقاً لا مزيد عليه، ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي توافق الكتاب وتفسره، وتعبر عن كثير من مجملاته، وتفصل كثيراً من مطلقاته، مبتدئاً بتفسيره، مثنياً بذكر أصوله ومقوماته ومن أي شيء يستمد مثلثاً بفوائده وثمراته، وما يتبع هذه الأصول". وفرغ الشيخ ابن سعدي من تأليف هذه الرسالة في 8 ذي الحجة سنة 1374هـ. 8 ـ التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنفية. وهي رسالة صغيرة علق فيها الشيخ ابن سعدي تعليقاً مختصراً على العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. قال في مقدمته: "أما بعد فهذا تعليق لطيف على عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية المسماة "بالواسطية" التي جمعت على اختصارها ووضوحها جميع ما يجب اعتقاده من أصول الإيمان وعقائده الصحيحة، وهي وإن كانت واضحة المعاني محكمة المباني، تحتاج إلى تعليق يزيد في توضيح بعض ما فيها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وتبيين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وجه دلالتها على المقصود وبيان وجه ارتباط بعض المسائل ببعض وجمع ما يحتاج إلى جمعه في موضع واحد والإشارة إلى بعض آثارها وفوائدها في القلوب والأخلاق، والتنبيه لكل ما يحتاج إلى التنبيه عليه". فرغ من تأليفها في 8 جمادى الأولى سنة 1369هـ. 9ـ تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله. وهي رسالة صغيرة رد فيها ابن سعدي على عبد الله بن علي القصيمي الذي انتكس وألحد في آخر زمانه، فأصبح يعادي الإسلام وينابذ الدين ويدعو إلى الانحلال عنه من كل وجه، وألف في ذلك كتاباً أسماه "هاذي هي الأغلال" ويعني بالأغلال شرائع الإسلام وأوامره ونواهيه، وأخذ يدعو في كتابه هذا إلى الإلحاد وإنكار وجود الله، وسخر فيه من الرسل عليهم السلام ومن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة ومن علماء الإسلام وأنكر وجود الملائكة، إلى غير ذلك من الطامات والكفريات. مما دفع الشيخ ابن سعدي إلى تأليف رسالته تنزيه الدين ليبين فيها ضلال هذا القصيمي وزيغه وانحلاله، قال ابن سعدي " .... فكان هذا أكبر عداء ومهاجمة للدين فوجب على كل من عنده علم أن يبين ما يحتوي عليه كتابه من العظائم خشية اغترار من ليس له بصيرة بكلامه". وفرغ ابن سعدي من تأليف هذه الرسالة في 3 ربيع الأول سنة 1366هـ. 10ـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان1. وهو تفسير كامل للقرآن يتكون من ثمانية أجزاء كل جزئين في مجلد واحد. وقد بين ابن سعدي سبب تأليفه لهذا التفسير فقال: " ... وقد كثرت تفاسير الأئمة رحمهم الله لكتاب الله، فمن مطول خارج في أكثر بحوثه عن المقصود، ومن مقتصر يقتصر على حل بعض الألفاظ اللغوية بقطع النظر عن المراد، وكان الذي ينبغي في ذلك أن   1 تنبيه عندما أنقل من هذا التفسير في هذه الرسالة فإني أكتفي بكتابة كلمة "التفسير" اختصاراً. تنبيه آخر: يوجد من هذا الكتاب نسخة خطية في مكتبة الفتح بالقاهرة، وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات آخرها طبعة المكتبة السعيدية بالرياض، وهي التي اعتمدت عليها في النقل. وهي طبعة جيدة في سبع مجلدات، جعل فيها النص القرآني مرقما في أعلى الصفحة، وتفسير الشيخ في أدناها، فهي جيدة من حيث الترتيب والتنسيق، إلا أنها مشتملة على أخطاء كثيرة مطبعية وعلمية، وقد أحصيت فيها من الأخطاء المطبعية الشيء الكثير، أما الأخطاء العلمية فمن المحقق حيث تعقب الشيخ ابن سعدي في أكثر من عشرة مواضع في تفسير الآيات، والصواب فيها مع الشيخ، وهي مدونة عندي بأرقام الصفحات ولا مجال لذكرها هنا. ثم صُفت أحرف هذه الطبعة في طبعة أخرى، وجعلت في خمس مجلدات، إلا أن الأخطاء المشار إليها باقية، فلا يزال الكتاب بحاجة إلى عناية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 يجعل المعنى هو المقصود، واللفظ وسيلة إليه، فينظر في سياق الكلام وما سيق لأجله، ويقابل بينه وبين نظيره، في موضع آخر، ويعرف أنه سيق لهداية الخلق كلهم عالمهم وجاهلهم وحضريهم وبدويهم، فالنظر لسياق الآيات مع العلم بأحوال الرسول وسيرته مع أصحابه وأعدائه وقت نزوله من أعظم ما يعين على معرفته وفهم المراد منه، خصوصاً إذا انضم إلى ذلك معرفة علوم العربية على اختلاف أنواعها، فمن وفق لذلك لم يبق عليه إلا الإقبال على تدبره وتفهمه، وكثرة التفكر في ألفاظه ومعانيه ولوازمها وما تتضمنه وما تدل عليه منطوقاً ومفهوماً، فإذا بذل وسعه في ذلك فالرب أكرم من عبده فلا بد أن يفتح عليه من علومه أموراً لا تدخل تحت كسبه. ولما منّ الباري عليّ وعلى إخواني بالاشتغال بكتابه العزيز بحسب الحال اللائقة بنا، أحببت أن أرسم من تفسير كتاب الله ما تيسر وما منّ به الله علينا؛ ليكون تذكرة للمحصلين، وآلة للمستبصرين، ومعونة للسالكين، ولأقيده خوف الضياع. ولم يكن قصدي في ذلك إلا أن يكون المعنى هو المقصود، ولم أشتغل في حل الألفاظ والعقود للمعنى الذي ذكرت؛ ولأن المفسرين قد كفوا من بعدهم فجزاهم الله عن المسلمين خيرا"1. وقد نبه رحمه الله في مقدمة هذا التفسير على طريقته فيه فقال: " اعلم أن طريقتي في هذا التفسير أني أذكر عند كل آية ما يحضرني من معانيها، ولا أكتفي بذكري ما تعلق بالمواضع السابقة عن ذكر ما تعلق بالمواضع اللاحقة؛ لأن الله وصف هذا الكتاب ألأأنه "مثاني" تثني فيه الأخبار والقصص والأحكام وجميع المواضيع النافعة لحكم عظيمة، وأمر بتدبره جميعه لما في ذلك من زيادة العلوم والمعارف، وصلاح الظاهر والباطن، وإصلاح الأمور كلها"2. وقد امتاز تفسير ابن سعدي عن غيره من التفاسير بميزات متعددة أذكر فيما يلي بعضها: ـ سهولة ألفاظه وخلوه من التكلف والحشو، وذلك لأنه يقتصر فيه على توضيح الآيات وبيان معانيها. ـ عنايته فيه بأمر العقيدة وشرحها وتوضيحها والرد على من خالفها من طوائف الضلال، فعند تفسيره للآيات يبين ما فيها من دلالات على مسائل العقيدة المختلفة ويبين ما فيها من ردود على شبه المخالفين، كل ذلك بأسلوب سهل واضح، وبقراءة هذا البحث يتبين مدى عناية الشيخ بذلك، من خلال النقول   1 التفسير 1/13. 2 مقدمة التفسير. وانظر أيضا 6/465. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الكثيرة التي أوردها عنه من تفسيره في بيان العقيدة وتوضيحها. ـ لا يتعرض للمسائل الخلافية عند تفسيره لآيات الأحكام، وإنما يذكر القول الراجح بدليله. ـ بعد تفسيره للآيات المشتملة على قصة نبي من الأنبياء، فإنه يذكر بعدها ما اشتملت عليه القصة من فوائد. ـ لا يلتفت في تفسيره للإسرائيليات بل يعرض عنها، ويكثر من التحذير منها. ـ عقد في مقدمة تفسيره فصولاً متعددة ذكر فيها جملة من الفوائد المتعلقة بتفسير القرآن اختار جملة منها من كتاب بدائع الفوائد لابن القيم. ـ ذكر في آخر المجلد الخامس جملة من الأصول والكليات المتعلقة بتفسير القرآن، والتي لا يمكن أن يستغني عنها مفسر القرآن الكريم. ـ وعقد أيضاً في آخر المجلد الخامس فصلاً شرح فيه أسماء الله الحسنى. وكان رحمه الله أول ما نشر من هذا التفسير الجزء المتعلق بتفسير سورة الكهف إلى آخر سورة النمل، ثم بعد ذلك أتبعه بنشر التفسير كاملاً، وكان فراغه من تأليف هذا التفسير في 7 شعبان 1354هـ. 11ـ تفسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن1. وهو خلاصة للتفسير المتقدم ألفه بعد فراغه من تأليف التفسير بأكثر من عشر سنوات. يقول ابن سعدي في مقدمة هذه الخلاصة مبينا سبب تأليفها: "أما بعد: فقد كنت كتبت كتاباً في تفسير القرآن مبسوطاً مطولاً يمنع القراء من الاستمرار بقراءته، ويفتر العزم عن نشره، فأشار عليّ بعض العارفين الناصحين أن أكتب كتاباً غير مطول يحتوي على خلاصة ذلك التفسير، ونقتصر فيه على الكلام على بعض الآيات التي نختارها وننتقيها من جميع مواضيع علوم القرآن ومقاصده ... فالوقوف على تفسير بعض القرآن يعين أعظم عون على معرفة باقية" وكان فراغه من هذه الخلاصة في 3 شوال 1368هـ. 12ـ الجمع بين الإنصاف ونظم ابن عبد القوي. وهذا الكتاب لم يطبع، ولم يكمله الشيخ ابن سعدي، وإنما وصل فيه إلى كتاب الحج، وهو عبارة عن جمع بين نظم ابن عبد القوي، وهو في الفقه، وبين الإنصاف   1 عندما أنقل من هذا الكتاب في هذه الرسالة فإني أكتفي بذكر كلمة "الخلاصة" اختصاراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 للمرداوي، ويوجد منه نسخة خطية في مكتبة الجامع في عنيزة. - حاشية على الفقه استدراكاً على جميع الكتب المشهورة في المذهب الحنبلي. مخطوطة لم تطبع. ذكرها ابنه عبد الله في ترجمته لوالده1. والذي يبدو لي أنه ليس للشيخ ابن سعدي استدراك على جميع كتب الحنابلة وإنما له استدراك على كتاب شرح مختصر المقنع للشيخ منصور البهوتي وقد طبع باسم "المختارات الجلية" وسيأتي مزيد إيضاح ذلك عند الحديث عن هذا الكتاب وهو برقم "35". 13ـ الجهاد في سبيل الله أو واجب المسلمين وما فرضه الله عليهم في كتابه نحو دينهم وهيئتهم الاجتماعية. وهي رسالة صغيرة غير مؤرخه وجدها أبناؤه بخطه بين أوراقه، بعد وفاته رحمه الله. ومضمونها الحث على الترابط والتعاون والتآخي في الله. والحث على الجهاد في سبيل الله بسائر أنواعه سواء كان بالمال أو بالنفس أو بالدعوة إلى الله أو غير ذلك. 14ـ الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية. وهو شرح مختصر للجزء المتعلق بتوحيد الأنبياء والمرسلين من نونية ابن القيم، وكان الشيخ ابن سعدي قد شرح هذا الجزء شرحاً موسعاً، ثم رأى تلخيصه في هذا الكتاب، كما أشار إلى ذلك في مقدمته فقال: "كنت وضعت شرحاً على توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية للمحقق شمس الدين بن القيم رحمه الله، أطلت فيه وأكثرت فيه من النقول عن كتب المؤلف فبدا لي أن ألخصه بشرح متوسط يأتي بأغراضه ومقاصده، ويحتوي على المهم من مسائله وفوائده". وفرغ الشيخ ابن سعدي من تأليفه في 3 ربيع الآخر 1367هـ. وعلى هذا يكون للشيخ ابن سعدي ثلاثة مؤلفات حول نونية ابن القيم. هذان الكتابان، وكتاب توضيح الكافية الشافية وقد تقدم ذكره. 15ـ حكم شرب الدخان. وهي رسالة صغيرة عبارة عن فتوى في بيان تحريم شرب الدخان، والاتجار به، وذكر فيها أضرار الدخان الدينية والبدنية والمالية. وطبعت بتقديم فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، وفرغ الشيخ ابن سعدي من تأليفها في ربيع الأول سنة 1376هـ.   1 انظر سيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي، جمع حامد الفقي /22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 16ـ الخطب المنبرية على المناسبات. وهو كتيب يشتمل على ثلاثين خطبة في جملة من المطالب الشرعية من فرائض ونوافل وآداب. 17ـ الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية. ناظم القصيدة التائية هو شيخ الإسلام ابن تيمية، نظمها جواباً لسؤالٍ أورده عليه من قال إنه ذمي ليشبه على المسلمين، وليشككهم في القضاء والقدر. وقد شرحها ابن سعدي في هذه الرسالة شرحاً متوسطاً أجلى فيه عن معانيها وكشف عن غوامضها، وأضاف إليها جليلة ذكر فيها أمثلة متنوعة تكشف مسألة القضاء والقدر وتبينها. وفرغ الشيخ ابن سعدي من تأليفها في 30 ربيع الآخر سنة 1376هـ. 18ـ الدرة المختصرة في محاسن دين الإسلام. وهي رسالة صغيرة ذكر فيها جملة من محاسن الدين الإسلامي ومزاياه. قال في مقدمتها: " وغرضي من هذا التعليق إبداء ما وصل إليه علمي من بيان أصول محاسن الدين العظيم، فإني وإن كان علمي ومعرفتي تقصر كل القصور عن إبداء بعض ما احتوى عليه هذا الدين من الجلال والجمال والكمال. وعبارتي تضعف عن شرحه على وجه الإجمال فضلا عن التفصيل في المقال، وكان مالا يدرك جميعه ولا يوصل إلى غايته ومعظمه، فلا ينبغي أن يترك منه ما يعرف الإنسان لعجزه عما لا يعرفه، وفي أصوله وفروعه، وفيما دل عليه من علوم الشرع والأحكام، وما دل عليه من علوم الكون والاجتماع، وليس القصد هنا استيعاب ذلك وتتبعه، فإنه يستدعي بسطاً كثيراً، وإنما الغرض ذكر أمثلة نافعة يستدل بها على سواها، وينفتح بها الباب لمن أراد الدخول، وهي أمثلة منتشرة في الأصول والفروع والعبادات والمعاملات". ثم ذكر واحداً وعشرين مثلاً فيها بيان جملة من محاسن الدين. وفرغ من تأليفها في غرة جمادى الأولى سنة 1364هـ. 19ـ الدلائل القرآنية في أن العلوم النافعة العصرية داخلة في الدين الإسلامي. وهي رسالة صغيرة تضمنت البراهين القواطع الدالة على أن الدين الإسلامي وعلومه وأعماله وتوجيهاته جمعت كل خير، وأن العلوم الكونية والفنون العصرية الصحيحة داخلة في ضمن علوم الدين وأعماله، وليست منافية لها كما يزعمه الجهلة الماديون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وفرغ الشيخ من تأليفها في 10 محرم سنة 1375هـ. 20ـ الدين الصحيح يحل جميع المشاكل. وهي رسالة صغيرة عرض فيها جملة من مشاكل الحياة المهمة، وبين حلولها السليمة المأخوذة من الكتاب والسنة. وعرض في هذه الرسالة خمس مشاكل كأنموذج لغيرها من المشاكل وبين حلول الدين لها، والمشاكل التي ذكرها هي: ـ مشكلة الدين والعقيدة. ـ مشكلة العلم. ـ مشكلة الغنى والفقر. ـ مشكلة السياسة الداخلية. ـ مشكلة السياسة الخارجية. وفرغ من تأليفها في 5 ربيع الآخر سنة 1375هـ. 21ـ رسالة في القواعد الفقهية: وهي رسالة مشتملة على منظومة تتكون من سبعة وأربعين بيتاً في أمهات قواعد الدين من نظم ابن سعدي مع شرحه لها. يقول في مقدمتها: "أما بعد: فإني وضعت لي ولإخواني منظومة مشتملة على أمهات قواعد الدين، وهي وإن كانت قليلة الألفاظ فهي كثيرة المعاني لمن تأملها. ولكنها تحتاج إلى تعليق يوضحها ويكشف بعض معانيها وأمثلتها تنبّه اللبيب الفطن على ما وراء ذلك، فوضعت عليها هذا الشرح اللطيف تيسيراً لفهمها". وفرغ من تأليفها في 18 ذي القعدة سنة 1331هـ. 22ـ رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة: وهي رسالة صغيرة من تسع صفحات، عقد فيها فصولاً متعددة عرف فيها أصول الفقه، وذكر الأحكام الخمسة التي يدور عليها الفقه، وذكر الأدلة التي يستمد منها الفقه، وذكر جملة من القواعد الأصولية وشرحها شرحاً موجزاً. قال في مقدمتها: "أما بعد: فهذه رسالة لطيفة في أصول الفقه، سهلة الألفاظ واضحة المعاني، معينة على تعلم الأحكام لكل متأمل معاني". وفرغ من تأليفها في 25 جمادى الآخرة سنة 1373هـ. 23ـ الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وهو مجلد واحد مشتمل على آداب متفرقة وفنون متنوعة وفوائد منثورة جعلها في اثنين وثلاثين فصلاً. يقول في مقدمته: "أما بعد: فهذه كلمات طيبات نافعات، ومقالات متنوعة في المهم من أصول الدين وأخلاقه وآدابه. وهاك فصولاً منثورة، في مواضيع متعددة نافعة". وكتب في آخره تم نقله من خط مؤلفه في 20 رجب سنة 1370هـ بخط عبد الله بن سليمان العبد الله السلمان. 24ـ سؤال وجواب في أهم المهمات. وهي رسالة صغيرة في العقيدة ألفها على طريقة السؤال والجواب اشتملت على اثنين وعشرين سؤالا في جوانب متعددة من أمور العقيدة. قال في مقدمتها: "أما بعد فهذه رسالة مختصرة احتوت على أهم المهمات من أمور الدين وأصول الإيمان تدعو الحاجة والضرورة إلى معرفتها جعلتها على وجه السؤال والجواب، لأنه أقرب إلى الفهم والتفهيم وأوضح في التعلم والتعليم". 25ـ طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول. وهو مجلد كبير اشتمل على خمس عشرة وألف ما بين قاعدة وأصل وضابط جامع وتعريف مهم وفائدة ضرورية وترغيب في كمال، وتحذير من نقص، وتوجيه إلى المنافع الظاهرة والباطنة وترهيب من المضار الدينية والدنيوية. اختارها من أكثر من ستين كتاباً من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب تلميذه ابن القيم رحمهم الله. وفرغ منه الشيخ سعدي في شهر شعبان سنة 1370هـ. 26ـ الفتاوى السعدية: وهو مجلد كبير مشتمل على جملة كبيرة من الفتاوى التي أجاب بها الشيخ ابن سعدي على الأسئلة المتنوعة التي كانت ترد إليه من أماكن متفرقة، فكان يجيب عليها محررة، ثم يقوم بإرسالها إلى السائل. وبعد وفاته جمعت جملة كبيرة من هذه الفتاوى المتنوعة في هذا المجلد وسميت بـ "الفتاوى السعدية". 27ـ فتح الرب الحميد في أصول العقائد والتوحيد. وهذا الكتاب لم يطبع وقد بحثت عنه كثيراً فلم أجده وقد أشار إليه عدد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الذين ترجموا للشيخ1 وأشار ابنه عبد الله في ترجمته لوالده أنه لم يطبع2. ـ فوائد القرآنية. وهي رسالة: استلت من كتابه "تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن" وأفردت بهذا العنوان. 28ـ فوائد مستنطبة من قصة يوسف. وهذه الرسالة استنبط فيها الشيخ ابن سعدي جملة كبيرة من الفوائد العظيمة من قصة يوسف عليه السلام. ويقول في مقدمتها: "أما بعد: فهذه فوائد مستنبطة من قصة يوسف صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنباء والمرسلين، فإن الله تعالى قصها علينا مبسوطة، وقال في آخرها "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب". وفرغ الشيخ ابن سعدي من تأليفها في شهر صفر سنة 1375هـ. 29ـ الفواكه الشهية في الخطب المنبرية: وهو مشتمل على إحدى وسبعين خطبة من خطب الشيخ ابن سعدي في مجالات متنوعة ومطالب متفرقة. 30ـ القواعد الحسان لتفسير القرآن. وهذا الكتاب مشتمل على سبعين قاعدة، تعين قارئها ومتأملها على فهم القرآن الكريم. ويقول الشيخ ابن سعدي في مقدمتها: "أما بعد: فهذه أصول وقواعد في تفسير القرآن الكريم، جليلة المقدار، عظيمة النفع، تعين على قارئها ومتأملها على فهم كلام الله، والاهتداء به، ومخبرها أجل من وصفها، فإنها تفتح للعبد من التفسير، ومنهاج الفهم عن الله، ما يغني عن كثير من التفاسير الخالية من هذه البحوث النافعة". وفرغ الشيخ ابن سعدي من تأليفه في 6 شوال سنة 1365هـ. 31ـ القواعد والأصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة. وقد قسم ابن السعدي هذا الكتاب إلى قسمين: قسم: ذكر فيه جملة من الأصول الجامعة والقواعد المهمة مع شرحها. قسم: ذكر فيه الفوارق بين المسائل المشتبهة والأحكام المتقاربة. وذكر التقاسيم المهمة.   1 انظر مشاهير علماء نجد لآل الشيخ/394، وآخر كتاب المختارات الجلية، طبعة المدني بقلم السناني/ص و. 2 انظر سيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي، جمع محمد حامد الفقي/ 23 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 قال في مقدمته: "أما بعد: فإن معرفة جوامع الأحكام وفوارقها من أهم العلوم وأكثرها فائدة وأعظمها نفعاً؛ لهذا جمعت في رسالتي هذه ما تيسر من جوامع الأحكام وأصولها، ومما تفرق فيه الأحكام لافتراق حكمها وعللها". وفرغ من تأليفه في 2 ربيع الآخرة سنة 1375هـ. 32ـ القول السديد في مقاصد التوحيد: وهو تعليق مختصر على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب. يبين فيه الشيخ ابن سعدي الأبواب التي عقدها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه ويبين مناسبتها للترجمة، وقد طبع هذا الكتاب بمفرده مرتين، وطبع في حاشية كتاب التوحيد مراراً. قال الشيخ ابن سعدي في آخره: "..هذا آخر التعليق المختصر على كتاب التوحيد، وتوضيح مقاصده، وقد حوى من غرر مسائل التوحيد، ومن التقاسيم والتفصيلات النافعة ما لا يستغني عنه الراغبون في هذا الفن الذي هو أصل الأصول وبه تقوم العلوم كلها". وقد بدأه الشيخ ابن سعدي بمقدمة مشتملة على صفوة عقيدة أهل السنة والجماعة وخلاصتها المستمدة من الكتاب والسنة1. 33ـ مجموع الخطب والمواضيع النافعة: وهو مجموع كبير يشتمل على إحدى وستين ومائة خطبة في أهم الموضوعات الجامعة للعقائد والأخلاق والآداب الدينية والدنيوية بأسلوب سهل واضح وعبارة بينه. وفرغ الشيخ ابن سعدي من تقييد هذا المجموع في 22 رجب سنة 1365هـ. وعلى هذا فإنه يتبين لنا مما تقدم أن للشيخ ابن سعدي ثلاثة كتب في الخطب كلها مطبوعة. 34ـ مجموع الفوائد واقتناص الأوابد. مخطوط لم يطبع، ذكره ابنه عبد الله في ترجمته لوالده2. 35ـ المختارات الجلية من المسائل الفقهية. وهو مستدرك على كتاب شرح مختصر المقنع للشيخ منصور البهوتي. وقد جعل هذا التعليق كالاستدارك عليه، والتنبيه على ما ذكره ليكون تنبيهاً على غيره من كتب الأصحاب عموماً.   1 انظرها في (ص 37 وما بعدها) من هذه الرسالة. 2 انظر سيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي، جمع محمد حامد الفقي /23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وأشار في مقدمته إلى عدم وجود الفرصة لديه لتتبع جميع كتب الأصحاب فاكتفى بالتعليق على كتاب البهوتي ليكون تنبيها على غيره من كتبهم. وهذا يوضح لنا أن الشيخ ابن سعدي ليس له استدراك على جميع كتب الحنابلة كما سبق الإشارة إلى ذلك، والله أعلم. وقد فرغ الشيخ ابن سعدي من تأليف هذا الكتاب في 3 صفر سنة 1355هـ. ـ مختارات من الفتاوى. طبعت هذه المختارات في آخر كتاب المختارات الجلية " طبعة السعيدية" وهي جملة مختارة من "الفتاوى السعيدية" المتقدمة. 36ـ المواهب الربانية من الآيات القرآنية. وهي رسالة صغيرة مشتملة على فوائد متنوعة سجلها الشيخ ابن سعدي أثناء قراءته للقرآن الكريم في شهر رمضان المبارك. وفرغ من تأليفها في 28 رمضان سنة 1347هـ. 37ـ منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين. وهي رسالة صغيرة جامعة، اكتفى فيها الشيخ ابن سعدي بذكر القول الراجح بدليله، بدون تعرض للخلاف. قال في مقدمتها: "أما بعد فهذا كتاب مختصر في الفقه، جمعت فيه بين المسائل والدلائل؛ لأن العلم معرفة الحق بدليله، والفقه معرفة الأحكام الشرعية الفرعية بأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح. اقتصرت فيه على الأدلة المشهورة خوفاً من التطويل، وإذا كانت المسألة خلافية اقتصرت على القول الذي ترجح عندي تبعاً للأدلة الشرعية". ـ منهج السالكين مختصر أصول الفقه. ذكر هذا الكتاب صاحب مشاهير علماء نجد1 والذي يبدو أن الشيخ ابن سعدي ليس له كتاب بهذا الاسم، إذ أن اختصاره لأصول الفقه تقدم ذكره باسمه الذي وضعه مؤلفه وهو "رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة" برقم "21" فلعله التبس عليه اسم هذا الكتاب بالكتاب الذي قبله. 38ـ المناظرات الفقهية: وهذا الكتاب جعله الشيخ على طريقة مناظرة بين رجلين سمى أحدهما المتوكل   1 مشاهير علماء نجد لآل الشيخ/395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 على الله والآخر المستعين بالله، فيدور بينهما حوار في المسائل الخلافية وكل واحد منهما يذكر الدليل على قوله، حتى يظهر في آخر المناظرة رجحان قول أحدهما لقوة أدلته، وهكذا في سائر المسائل الخلافية. وقد سلك الشيخ ابن سعدي هذه الطريقة في هذا الكتاب لما يرى فيها من فوائد عظيمة ذكر جملة منها في مقدمة كتابه فقال: "وأجعلها على صورة المناظرة بين: المستعين بالله؛ والمتوكل على الله، لأن في جعلها على هذه الصورة فوائد كثيرة: منها: تيسير مأخذ القولين ووجودهما في محل واحد وذلك من مقربات العلم. ومنها: التمرن على المناظرة والمباحثة، التي هي من أكبر الوسائل لإدراك العلم وثبوته وتنوعه. ومنها: التمرن على الاستدلال، والرجوع إلى أصول المسائل ليصير للعبد ملكة تامة يحسن معها الاستدلال والمناظرة والنظر. ومنها: أن يعود الإنسان نفسه سرعة قبول الحق إذا اتضح له صوابه وبان له رجحانه. ومنها: أن يعلم أن الخلاف في مثل هذه المسائل بين أهل العلم لا يوجب القدح والعيب والذم". وفرغ من تأليفه في 8 جمادى الآخرة سنة 1364هـ. 39 ـ منظومة في أحكام الفقه. وهي منظومة طويلة تتكون من أكثر من أربعمائة بيت، نظمها الشيخ ابن سعدي على مذهب الإمام أحمد بن حبنل رحمه الله قال في مطلعها: "وهذه منظومة قصدي بها تيسير أحكام قد اعتنوا بها في فقه أحكام تفيد المبتدي من كتب أصحاب الإمام أحمد" ونظم الشيخ ابن سعدي هذه المنظومة وهو في السادسة والعشرين من عمره، وفرغ منها في 26 شوال سنة 1333هـ. 40ـ منظومة في السير إلى الله والدار الآخرة. وهي منظومة تتكون من ثمانية عشر بيتاً في الحث على عبادة الله ومحبته والإنابة إليه، وفي الحث على سلوك الطريق الموصل إلى دار السلام. وله تعليق على هذه المنظومة طبع معها، وفرغ منها في 3 شعبان سنة 1333هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ـ واجب المسلمين. تقدمت بعنوان الجهاد في سبيل الله، برقم "13". 41ـ وجوب التعاون بين المسلمين، وموضوع الجهاد الديني، وبيان كليات من براهين الدين. وهي غير الرسالة المتقدمة برقم "13"، وإن كانت قريبة منها في الموضوع، إذ في هذه الرسالة أيضاً حث على التعاون والتآخي وحث على الجهاد في سبيل الله. وفي هذه الرسالة إضافة بيان جملة من الكليات من براهين الدين الإسلامي. قال الشيخ ابن سعدي في مقدمتها: "أما بعد فهذه رسالة تتضمن التنبيه على واجب المسلمين نحو دينهم، ووجوب التعاون بينهم في جميع المصالح والمنافع الكلية الدينية والدنيوية، وعلى موضوع الجهاد الشرعي، وعلى تفصيل الضوابط الكلية في هذه المواضيع، وعلى البراهين اليقينية في أن الدين عند الله هو دين الإسلام". وفرغ من تأليفها في 20 رمضان سنة 1367هـ. 42ـ الوسائل المفيدة للحياة السعيدة. وهي رسالة صغيرة الحجم عظيمة النفع، تحدث فيها الشيخ ابن سعدي عن أسباب السعادة وطرقها. وعن كيفية الحصول على راحة القلب وطمأنينته، وكيفية إزالة الهموم والغموم والأحزان. وأخيراً فهذا ما استطعت الوقوف عليه من مؤلفاته رحمه الله، وتجدر الإشارة إلى أن له فوائد منثورة وفتاوى كثيرة، حيث كانت ترد إليه أسئلة شتى من أماكن متفرقة فكان يجيب عليها ويرسلها للسائل، وقد حصلت على بعضها واستفدت منها في هذا البحث. وله أيضا تعليقات شتى في كثير مما يمر عليه من الكتب، وقد كانت الكتابة سهلة يسيرة عليه1. ثامنا: ثناء العلماء عليه: لقد أشاد كثير من العلماء بفضل الشيخ ابن سعدي، وعلمه، وحسن خلقه، وطيب معشره، وحبه للخير، بل كان محل إعجابهم وثنائهم، فوصفوه بحميد الأفعال، ونعتوه بطيب الخصال. وفيما يلي ذكر جملة من أقوال العلماء فيه:   1 انظر مقدمة الرياض الناضرة لابن سعدي لأحد تلاميذه/10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 أـ قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز ـ حفظه الله ـ: "كان رحمه الله كثير الفقه والعناية بمعرفة الراجح من المسائل الخلافية بالدليل، وكان عظيم العناية بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم، وكان يرجح ما قام عليه الدليل. وكان قليل الكلام إلا فيما تترتب عليه فائدة، جالسته غير مرة في مكة والرياض، وكان كلامه قليلاً إلا في مسائل العلم. وكان متواضعا حسن الخلق، ومن قرأ كتبه عرف فضله وعلمه وعنايته بالدليل فرحمه الله رحمة واسعة". ب ـ وقال الشيخ عبد الرزاق عفيفي: "إن من قرأ مصنفات الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله وتتبع مؤلفاته وخالطه، وسبر حاله أيام حياته، عرف منه الدأب في خدمة العلم اطلاعاً وتعليماً، ووقف منه على حسن السيرة وسماحة الخلق، واستقامة الحال، وإنصاف إخوانه وطلابه من نفسه، وطلب السلامة فيما يجر إلى شر أو يفضي إلى نزاع أو شقاق فرحمه الله رحمة واسعة"1. جـ ـ وقال الشيخ محمد حامد الفقي: "لقد عرفت الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي من أكثر من عشرين سنة فعرفت فيه العالم السلفي المحقق، الذي يبحث عن الدليل الصادق، وينقب عن البرهان الوثيق، فيمشى وراءه لا يلوي على شيء ...... عرفت فيه العالم السلفي الذي فهم الإسلام الفهم الصادق، وعرف فيه دعوته القويمة الصادقة إلى الأخذ بكل أسباب الحياة العزيزة القوية الكريمة النقية ... "2. د ـ قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: "إن الرجل قل أن يوجد مثله في عصره في عبادته وعلمه وأخلاقه، حيث كان يعامل كلا من الصغير والكبير بحسب ما يليق بحاله، ويتفقد الفقراء، فيوصل إليهم ما يسد حاجتهم بنفسه، وكان صبوراً على ما يلم به من أذى الناس. وكان يحب العذر ممن حصلت منه هفوة حيث يوجهها توجيها يحصل به عذر من هفا". هـ ـ وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام: "لقد كان للشيخ عبد الرحمن السعدي أثر كبير، ودور بارز، في تخريج أفواج كثيرة   1 مقدمة كتاب حكم شرب الدخان لابن سعدي. 2 سيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي، جمع محمد حامد الفقي /3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 من طلبة العلم، حيث جلس للتدريس وإفادة الطلاب أكثر من نصف قرن من الزمان. وكان في زمانه هو مرجع أهل البلاد في التدريس والوعظ والتوجيه والخطابة والإمامة والفتاوى والمشاورات، وكان محرر الوثائق والمبايعات والتوثيقات والوصايا وغير ذلك. وكان يمتاز بكرم النفس وحسن الخلق والبشاشة والطلاقة. وكان محبوباً لدى الخاصة والعامة". ز ـ وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العقيل: "كان رحمه الله على جانب كبير من مكارم الأخلاق والتواضع، وكان يحترم جلساءه ويوقرهم، وكان كثير التسامح مع أصحابه وغيرهم ويلتمس العذر لأحدهم مهما كان. وكان يخالط الناس ويصبر على أذاهم، ويجيب دعوة من دعاه، ويتكلم مع كل أحد بما يناسب حاله، ويحرص على نشر العلم بينهم في مجالسهم. وكان حريصاً على نصح الناس من خلال خطبه المنبرية ومجالسه العلمية، حريصاً على إفتائهم وحل مشاكلهم الدينية والدنيوية، فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء". حـ ـ وقال الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز الزامل: "دع عنك ذكر الهوى واذكر أخاً ثقة يدعو إلى العلم لم يقعد به الضجر شمس العلوم ومن بالفضل متصف مفتاح خير إلى الطاعات مبتكر بحر من العلم نال العلم في صغر مع التقى حيث ذاك الفوز والظفر نال العلا يافعا تعلو مراتبه ففضله عند كل الناس مشتهر بالفقه في الدين نال الخير أجمعه والفقه في الدين غصن كله ثمر وهي بعض أبيات من قصيدة طويلة في مدح الشيخ، نظمها في حياته1. ط ـ وقال الشيخ صالح بن عبد العزيز العثيمين: "لقد كان رحمه الله على جانب كبير من الأخلاق الحسنة، متواضعاً للصغير والكبير، ذا عبادة وزهد وورع، وكان فقيها محدثاً، واعظاً خطيباً، لغويا أديبا، جامعاً لفنون عديدة" 2.   1 علماء نجد للبسام 2/428، وروضة الناظرين للقاضي 1/225 2 سيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي، جمع محمد حامد الفقي /28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ى ـ وقال الشيخ عبد الرحمن بن حمد الفوزان: "كان مثال الورع والزهد الصحيح، فقد أتته الدنيا تطلب وده ضاحكة مبتسمة، لكنه رفضها وأباها، وكم من مرة عرضت عليه المناصب الرفيعة، والأعمال الغالية فأصبحت محاولاتها عبثاً، ولم يرض أن تفرض له المرتبات، ولا أن يجرى عليه المخصصات، بل كان قانعاً بما عنده من كفاف حتى إن مخصص إمامه الجامع الكبير ـ الذي تولى الصلاة فيه سنين عديدة ـ كان ينفقها في المصالح الخيرية وعلى الفقراء والمعوزين. أما إفادة العلمية: فيكفيك أنه قد جلس للتدريس والإفتاء وهو في عقده الثالث حتى تخرج على يديه الكثير من القضاة والمدرسين. ولست بحاجة إلى شاهد، فمؤلفاته المنتشرة في جميع الآفاق أكبر دليل على اتساع مداركه، وامتداد معارفه، إذ إنها لا تبحث في موضوع واحد وحسب، بل متعددة النواحي مختلفة الأهداف ..... "1. وهذه نهاية الفصل الثاني من الباب الأول. وبالله التوفيق.   1 سيرة الشيخ عبد الرحمن السعدي، جمع محمد حامد الفقي/30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الباب الثاني: جهود الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في توضيح العقيدة الفصل الأول: جهوده في توضيح الإيمان بالله تعالى المبحث الأول: توحيد الربوبية ... تمهيد: إن عقيدة التوحيد، وإفراد الله وحده بالعبادة، هي أعظم المقاصد، وأهم الغايات، فمن أجلها خلق الله الخلق وأنزل الكتب وأرسل الرسل، وجعل الجنة والنار، فالجنة دار من أطاعه وحقق توحيده ولم يشرك به شيئاً، والنار دار من عصاه وجعل له نداً وشريكاً. ومن تأمل نصوص القرآن الكريم، وجدها تبدي وتعيد في شأن العقيدة، داعية إليها محذرة من ضدها في آيات كثيرة بطريق متنوعة وأساليب مختلفة فتارة ببيان أنها أعظم الغايات وسبب إيجاد الخلقية، وأخرى ببيان أن الكتب إنما أنزلت والرسل إنما أرسلوا وبعثوا إلا لتحقيقها، وثالثة ببيان الوعيد الشديد لمن خالف هذه العقيدة وأتى بضدها.. وهكذا. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3. وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 4. وغيرها من الآيات. والقرآن كله من أوله إلى آخره في تقرير هذه العقيدة؛ لأنه إما خبر عن الله عز وجل وما يجب أن يوصف به وما يجب أن ينزه عنه وهو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه فهو التوحيد الطلبي الإرادي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا من النصر والتأييد وما يكرمهم به في الآخرة وهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل   1سورة الذاريات/ الآية 56. 2 سورة النحل/ الآية 36. 3 سورة النساء/ الآية 48. 4 سورة المائدة/ الآية 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 بهم في الدنيا من النكال وما يفعل بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم توحيده، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم1. ثم إنه بعد التتبع والاستقراء لنصوص الكتاب والسنة من قبل علماء الإسلام تبين أن التوحيد لا يخرج عن ثلاثة أنواع: النوع الأول: توحيد الربوبية: وهو الإقرار بربوبية الله تعالى على خلقه أجمعين بخلقه لهم ورزقه إياهم وإحيائهم وإماتتهم وتصرفه في شئونهم كلها. النوع الثاني: توحيد الأسماء والصفات وهو إثبات جميع ما ورد في القرآن والسنة من نعوت الكمال لله عز وجل، من غير تكييف ولا تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل. النوع الثالث: توحيد الألوهية: وهو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادة، وعدم صرف أي نوع منها لغير الله عز وجل. ومن تتبع نصوص القرآن والسنة جميعها، يجد أنها لا تخرج في توحيد الله تعالى، عن هذه الأنواع الثلاثة. وقد تناول ابن سعدي في مؤلفاته جميع هذه الأنواع، واعتنى بإبرازها وبيانها وإيضاحها، ونبه على أهميتها وضرورة الحاجة إليها. وفيما يلي سأفرد كل نوع من هذه الأنواع بمبحث خاص أبين فيه جهود الشيخ ابن سعدي في توضيحه وبيانه2. المبحث الأول: في توحيد الربوبية. المبحث الثاني: في توحيد الأسماء والصفات المبحث الثالث: في توحيد الألوهية.   1 انظر مدارج السالكين لابن القيم 3/450. 2 وانظر كلامه عن هذه الأنواع على سبيل الإجمال: القول السديد 16، 17، والتفسير 1/36، والتوضيح والبيان /24، سؤال وجواب /4، وغيرها من كتبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 المبحث الأول توحيد الربوبية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 المبحث الأول توحيد الربوبية عرف ابن سعدي هذا النوع من التوحيد فقال: "هو اعتقاد أن الله سبحانه هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير، وإنه المحيي المميت النافع الضار المتفرد بإجابة الدعاء عند الأضرار، الذي له الأمر كله وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء ليس له في ذلك شريك، وأنه الذي ربى جميع خلقه بالنعم، وربى خواص خلقه وهم الأنبياء وأتباعهم بالعقائد الصحيحة، والأخلاق الحميدة والعلوم النافعة والأعمال الصالحة. وهداهم إلى تحقيق عبادته وطاعته وهذه التربية هي النافعة المثمرة للسعادة في الدنيا والآخرة"1. وعرف الرب بأنه المربي لجميع العالمين وهم من سوى الله، بخلقه إياهم وإنعامه عليهم بأنواع النعم التي لو فقدوها لما أمكنهم الحياة والبقاء على وجه الأرض2. وما ذكره من معاني وتوضيح لتوحيد الربوبية ولمعنى الرب، قد دلت عليه نصوص كثيرة في القرآن الكريم، فقد أوضح الله في كتابه في غير آية أنه الرزاق المدبر المنعم القادر على كل شيء المتصرف في شئون خلقه كلها إلى غير ذلك من معاني الربوبية. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 3. وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 4 وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 5.   1 القول السديد/16. 2 التفسير 1/34، و5/620، والخلاصة/9. 3 سورة الذاريات/ الآية 58. 4 سورة يّس/ الآية 82، 83. 5 سورة الحديد/ الآية 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. وقال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ. أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ, أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2. وغيرها من الآيات الدالة على تفرد الله وتوحده بالخلق والرزق والإحياء والإماتة والتصرف في جميع المخلوقات، والدالة على قدرته على كل شيء وأن بيده ملكوت كل شيء وأن المرجع والمآل إليه وحده. تربية الله لخلقه على نوعين: ورد في القرآن الكريم ذكر ربوبية الله لخلقه وعباده في مواضع كثيرة، وهي على نوعين: ربوبية عامة شاملة لجميع المخلوقات برها وفاجرها مكلفيها وغير مكلفيها حتى الجمادات، لا يخرج عنها أحد، وهي أنه تعالى المنفرد بخلقها ورزقها وتدبيرها. وربوبية خاصة: وهي خاصة بأولياء الله وأصفيائه وهي تربيته لهم بهدايتهم للدين والإيمان وتعليمهم العلوم النافعة وتكميلهم بالأخلاق الجميلة، ودفعه عنهم الأخلاق الرذيلة، وحقيقتها التوفيق لكل خير. قال ابن سعدي في بيان هذين النوعين: "وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة، وخاصة. فالعامة: هي خلقه للمخلوقين ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.   1 سورة البقرة/ الآية 164. 2 سورة النمل/ الآية60:64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 والخاصة: تربيته لأوليائه فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له ويكملهم ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه. وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة من كل شر. ولعل هذا المعنى هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة"1. دلالات توحيد الربوبية: وتوحيد الربوبية له دلالات كثيرة، تدل على تفرد الله بالربوبية على خلقه أجمعين، إذ أن الله جعل لخلقه أشياء لو تأملوها وتفكروا فيها لأرشدتهم إلى أن هناك خالقاً مدبراً لهذا الخلق أجمعين وقد تعرض الشيخ ابن سعدي لهذه الدلالات في كتاباته ولا سيما في كتابه التفسير، ولكثرة هذه الدلالات فإني سأكتفي بذكر بعضها على سبيل التمثيل: دلالة الفطرة: وهذه في مقدمة الدلالات إذ أن الله فطر الخلق على توحيده فما من مولود إلا ويولد على فطرة التوحيد كما قال سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2. وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" 3. لذا نجد أن ابن سعدي رحمه الله يقول عند تفسيره هذه الآية "إن جميع أحكام الشرائع الظاهرة والباطنة قد وضع الله في قلوب الخلق كلهم الميل إليها. فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها"4. وهذا ما دل عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: "خلقت   1 التفسير 1/34، وانظر الخلاصة /111. 2 سورة الروم/ الآية 30. 3 البخاري 2/97، ومسلم 4/2047. 4 التفسير 6/126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاجتالتهم"1 رواه مسلم، وعرف الفطرة بأنها "هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها، وجعلهم مفطورين عليها وعلى محبة الخير وإيثاره وكراهية الشر ودفعه وفطرهم حنفاء مستعدين لقبول الخير والإخلاص لله والتقريب إليه"2. ثم إنه يقسم شرائع الفطرة إلى قسمين: قسم يطهر القلب والروح وهو الإيمان بالله وتوابعه من خوفه ورجائه ومحبته والإنابة إليه. وقسم: يعود إلى تطهير الظاهر ونظافته، ودفع الأوساخ والأقذار منه وهو سنن الفطرة العشر الواردة في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظافر وغسل البراجم، ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء يعني الاستنجاء" قال الراوي ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. رواه مسلم في صحيحه"3. قال رحمه الله: " والمقصود أن الفطرة شاملة لجميع الشريعة باطنها وظاهرها؛ لأنها تنقي الباطن من الأخلاق الرذيلة وتحليه بالأخلاق الجليلة التي ترجع إلى عقائد الإيمان وتطهره الطهارة الحسية والطهارة المعنوية"4. دلالة الأنفس: إن الله سبحانه وتعالى صور الإنسان على أحسن صوره، وخلقه على أحسن تقويم كما قال سبحانه: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} 5. وقال: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} 6. وقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} 7.   1 مسلم 4/2197. 2 بهجة القلوب الأبرار/68. 3 مسلم 1/223. 4 بهجة قلوب الأبرار ص 70، 71. 5 سورة التغابن/ الآية 3. 6 سورة البقرة/ الآية 138. 7 سورة التين/ الآية 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} 1. فلقد أنعم الله على الإنسان بنعمة عظيمة، حيث جعله على هذه الصورة الجميلة المتميزة عن سائر الحيوانات. لهذا لو أن الإنسان أمعن النظر، في نفسه وما فيها من عجائب صنع الله، ونظر إلى ظاهره وما فيه من كمال خلقه، وأنه متميز عن سائر الحيوانات لعرف أن وراء ذلك رب خالق حكيم في خلقه، وعرف أن هذا الخالق هو المنفرد بتدبير الإنسان وتصريفه بهذه التصاريف لا يشاركه فيه مشارك. ولهذا فلا يليق بمن أنعم الله عليه بهذه النعم الظاهرة والباطنة أن يكفرها أو أن يجحد إحسان الله عليه بها. لذا يقول سعدي لمن جحد هذه النعم ولم يؤد شكرها: "أليس الله هو الذي خلقك فسواك في أحسن تقويم: وركبك تركيباً قوياً معتدلاً في أحسن الأشكال وأجمل الهيئات، فهل يليق بك أن تكفر نعمة المنعم أو تجحد إحسان المحسن. إن هذا إلا من جهلك وظلمك وعنادك وغشمك فاحمد الله إذ لم يجعل صورتك صورة كلب أو حمار أو نحوهما من الحيوانات"2. ولو تأمل الإنسان في نفسه التي بين جنبيه وما فيها من عجائب صنع الله والتي بدونها يصبح الإنسان جثة هامدة بلا حراك؛ لهدته إلى رب حكيم خبير. يقول ابن سعدي في تقرير هذا المعنى عند قول الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} 3. " وعلى كل حال فالنفس آية كبيرة من آياته التي يحق الإقسام بها فإنها في غاية اللطف والخفة، سريعة التنقل والحركة والتغيير والتأثر، والانفعالات النفسية من الهمة والإرادة والقصد والحب والغضب وهي التي لولاها لكان البدن مجرد تمثال لا فائدة فيه، وتسويتها على ما هي عليه آية من آيات الله العظيمة. والمقصود أن نفس الإنسان أعظم الأدلة على وجود الله وحده ومن ثم تفرده   1 سورة الانفطار/ الآيتان 6، 7. 2 التفسير 7/583. 3 سورة الشمس/ الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 بالعبادة، وقد أفلح من طهر نفسه من الذنوب ونقاها من العيوب ورقاها بطاعة الله وعلاها بالعلم النافع والعمل الصالح"1. دلالة الآفاق: قال الله تعالى في هذه الدلالة العظيمة: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 2. إذ أن من آيات الله الدالة عليه، دلالة الآفاق وما في هذا الكون من سماء وأرض، وما اشتملت عليه السماء من نجوم وكواكب وما اشتملت عليه الأرض من جبال وأشجار وأنهار وغيرها، مما خلق الله في السموات والأرض. فلو تأملها الإنسان وتأمل صنيعها وتتقانها لدلته وأرشدته إلى أن هناك خالقاً لهذه الأكوان وأنه عليم حكيم. قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ. وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 3. قال ابن سعدي عند قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ ... } : "وقد فعل تعالى فإنه أرى عباده من الآيات ما به تبين أنه الحق، ولكن الله هو الموفق للإيمان من شاء، والخاذل لمن يشاء"4. وقال في الرياض الناضرة: " فهذا خبره تعالى عن أمور مستقبلة: أنه يرى عباده من الآيات والبراهين في الآفاق وفي الأنفس ما يدلهم على أن القرآن حق والرسول حق وما جاء به حق ... "5. والمقصود أن الدلالات على تفرد الله وحده بالخلق والرزق والإحياء والإماتة كثيرة جداً.   1 التفسير 7/633 بتصرف. 2 سورة فصلت/ الآية 53. 3 سورة الرعد/ الآيات 2، 3، 4. 4 التفسير 6/591. 5 الرياض الناضرة /144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وإن كثرتها وتعددها يعد من رحمة الله ولطفه بعباده حيث أكثر لهم الطرق الموصلة إليه، فتعالت حكمته وجل شأنه. وكما قال ابن سعدي رحمه الله: "كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات وتغلغل براهين ودلالات على جميع ما أخبر به عن نفسه ووحدانيته وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر وأنها مدبرات مسخرات ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها مصرفها فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا هو ولا رب سواه"1. وقد عقد رحمه الله في كتابه الرياض الناضرة فصلا في الإشارة إلى البراهين العقلية والفطرية على ربوبية الله وإلاهيته. قال في مقدمته: "وليس القصد في هذا الفصل ذكر الأدلة النقلية عليها فإنها واضحة جلية متقررة عند الخواص والعوام، وهي وحدها كافية وافية بالمقصود معرفة بالله جملة وتفصيلا. ولكن نريد أن نشير إشارة إلى أدلتها وبراهينها العقلية التي يخضع لها كل عاقل منصف، وينكرها كل مستكبر مكابر مباهت .... "2. ثم أخذ يعدد جملة من الأدلة على وجود الله واستحقاقه للعبادة. والأدلة على ذلك كثيرة ففي كل شيء آية تدل على أنه واحد. ولكثرة دلالات هذا النوع من التوحيد لا تجد أحداً من الخلق ينكره إلا مكابرة وعناداً. فالمشركون الذين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباح دماءهم وأموالهم كانوا مقرين بهذا التوحيد معترفين لله به شاهدين له بالوحدانية والانفراد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، وإنزال المطر وعلم الغيب وغير ذلك، وقد بين الله سبحانه في القرآن الكريم اعترافهم وإقرارهم بذلك في أكثر من آية. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ.) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 3.   1 الخلاصة /21. 2 الرياض الناضرة /258 وما بعدها. 3 سورة العنكبوت/ الآيات 61، 62، 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1. وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 2. قال ابن كثير رحمه الله: " وما أحسن ما قال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة. فلا تكتمن الله ما في قلوبكم ليخفى ومهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم حساب أو يعجل فينقم فقد اعترف هذا الشاعر الجاهلي بجود الصانع وعلمه بالجزئيات وبالمعاد وبالجزاء وبكتابة الأعمال في الصحف ليوم القيامة .... "3. فالمشركون إذاً مقرون بهذا التوحيد ومعترفون به: ولكن مع ذلك فإن إقرارهم هذا لا ينفعهم لعدم اعترافهم بتوحيد الألوهية وهو توحيد الله بأفعال عبيده. واستحقوا المحاربة والعداء، بل إن إقرارهم بتوحيد الربوبية يعد حجة عليهم وملزماً لهم بإفراد الله وحده بالعبادة بأنواعها من دعاء ورجاء وخوف وذبح ونذر واستغاثة وغيرها من أنواع العبادة؛ لأن من أقر أن الله هو وحده الخالق الرازق المدبر فإنه يلزمه أن يفرده بالعبادة والتأله والذل. قال ابن سعدي في تقرير هذه الحقيقة: "والمشركون الذين يتخذون الأنداد مع الله لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق، وإنما يسوونهم به في العبادة فيعبدونهم ليقربوهم إليه"4. ويقول عند تفسير الآيات المتقدمة التي فيه إقرار المشركين بوحدانية الله في الخلق والرزق والإحياء والإماتة..الخ يقول: "هذا استدلال على المشركين المكذبين بتوحيد الإلهية والعبادة وإلزام لهم بما أثبتوه من توحيد الربوبية، يلزمهم به الإقرار بتوحيد الألوهية"5. ولذا فإن نصوص القرآن التي جاءت لتقرير توحيد الربوبية يستدل بها على وجوب توحيد الألوهية وإفراده بالعبادة، وقد أوضح ابن سعدي ذلك وبينه في مواضع متعددة   1 سورة الزخرف/ الآية 87. 2 سورة لقمان/ الآية 25. 3 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/436. 4 التفسير 1/195. 5 التفسير 6/104، 6/165، 6/367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ومن ذلك ما قاله عند قوله الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. قال: هذه الآية: "جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن عبادة ما سواه وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته وبطلان عبادة ما سواه، وهو ذكر توحيد الربوبية المتضمن انفراده بالخلق والرزق والتدبير" فهو يرى أن انفراد الله وحده بالخلق والرزق والتدبير دليل واضح على وجوب إفراده بجميع أنواع العبادة؛ لذا قال بعد ما تقدم: " فإذا كان أحد مقراً بأنه ليس له شريك بذلك فعليه الإقرار بأن الله ليس له شريك في عبادته" بل إنه يرى أن هذا أوضح دليل على وجوب إفراد الله وحده بالعبادة؛ لذا يقول: "وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري تعالى وبطلان الشرك"2. وفي الآية المتقدمة نفسها ما يوضح أيضاً أن المشركين مقرون بتوحيد الربوبية حيث يقول سبحانه: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله سبحانه: (وأنتم تعلمون) ، يوضح أن المشركين يعلمون أن الله ليس له شريك ولا نظير لا في الخلق والرزق والتدبير ولا في الألوهية والكمال، ولكنهم مع ذلك يشركون معه في العبادة. لذا قال ابن سعدي مخاطباً هؤلاء: "كيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب وأسفه السفه"3. والمقصود: أن هذا النوع من التوحيد "توحيد الربوبية" لا يوجد أحد من الخلق ينكره، حتى فرعون الطاغية الذي ادعى الألوهية وقال عن نفسه "إنه رب العالمين" يقرر ويعترف بهذا التوحيد، وإنكاره له من قبيل المكابرة والجحود، قال تعالى في بيان ذلك: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} 4 أي إنك تعلم يا فرعون أن المنزل لهذه الآيات هو رب السموات والأرض بصائر منه لعباده فإنكارك ليس على الحقيقة بل ترويجا على قومك واستخفافاً لهم.   1 سورة البقرة/ الآيتان 21، 22. 2 التفسير 1/ 57. 3 التفسير 1/58. 4 سورة الإسراء/ الآية 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وقال تعالى في بيان ذلك أيضا: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 1. قال ابن سعدي: "ليس جحدهم مستنداً إلى الشك والريب، وإنما جحدهم مع علمهم وتيقنهم بصحتها ظلماً منهم لحق ربهم ولأنفسهم، وعلوا على الحق وعلى العباد وعلى الانقياد للرسل"2. وأيضا إبليس لعنه الله، وهو أضل الخلق على الإطلاق، يقر بهذا التوحيد ويعترف به: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 3. {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 4. {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} 5، والآيات في هذا المعنى كثيرة. فهو يقر ويعترف بأن الله هو الرب، وأنه الخالق المدبر. وبالجملة هذا النوع من التوحيد لا ينكره أحد إلا مكابر أو معاند. كلامه عن ظاهرة الإلحاد والملحدين: إلا أنه ظهر في الأزمان المتأخرة طائفة خبيثة بلغ بها الزيغ والضلال إلى أن أنكرت وجود الرب، وقالوا إن هذا الكون حدث من قبيل الصدفة، وليس له خالق ولا موجد، فضلوا بذلك ضلالاً مبيناً، وهؤلاء هم الماديون الملحدون. وقد تصدى لهم علماء الإسلام فأنكروا باطلهم وبينوا ضلالهم، في مؤلفات كثيرة، ومن أبرز من كتب فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث نقض ما قعدوا من قواعد وهدم ما أصلوا من أصول وبين عوارهم وزيغهم، وبعدهم عن الصراط المستقيم. ومن جملة من كتب في هؤلاء وأجاد الشيخ ابن سعدي حيث إنه تناول هذه الطائفة الخبيثة في مؤلفاته، وأظهر زيغها وفساد معتقدها. قال رحمه الله في التعريف بهذه الطائفة: "وقد نبغت في هذه الأزمان المتأخرة فرقة خبيثة، هم من أضل الخلق وأجهلهم   1 سورة النمل/ الآية 14. 2 التفسير 5/565، 566. 3 سورة الحجر/ الآية 36. 4 سورة الحجر/ الآية 39. 5 سورة الإسراء/ الآية 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وأعظمهم غروراً، وهم الماديون الملحدون"1. وبين أن سبب ضلالهم هو ما أوغلوا فيه من علوم الطبيعة فقال إنهم " ... اغتروا لما عرفوا بعض العلوم الطبيعية ووقفت عقولهم عندها، وقالوا لا نثبت إلا ما وصلت إليه معارفنا وعقولنا وما سوى ذلك ننفيه ولا نعترف به"2. فأنكروا بذلك خالق الكون ومسخره، ونسبوا الخلق والإيجاد والتصرف إلى الطبيعة، وقالوا لا نؤمن إلا بالأشياء المادية المحسوسة. وقد وضعوا لباطلهم هذا أصولاً يمشون عليها ويقلد بعضهم بعضاً فيها، وهذه الأصول كلها في غاية الضعف والفساد، قال عنها ابن سعدي رحمه الله: "وهي في غاية الفساد، يكفي اللبيب مجرد تصورها عن إقامة البراهين على نقضها، لكونها مناقضة للعقل والنقل ولكنهم زخرفوها وروجوها فانخدع بها أكثر الخلق"3. وقد بين ابن سعدي رحمه الله أن عندهم أصولاً كثيرة يبنون عليها عقائدهم وأن هذه الأصول ترجع إلى أصل خبيث فاسد، وبين مصدره. فقال: "وأعظمها عندهم أصل خبيث منقول عن معلمهم الأول أرسطو اليوناني المعروف بالإلحاد والجحد لرب العالمين ... وهو أنه من أراد الشروع في المعارف الإلهية فليمح من قلبه جميع العلوم والاعتقادات، وليسع في إزالتها من قلبه بحسب مقدوره، وليشك في الأشياء، ثم ليكتف بعقله وخياله ورأيه. وكملوا هذا الأصل الخبيث بحصرهم للمعلومات بالمحسوسات، وما سوى ما أدركوه بحواسهم نفوه"4. ثم بين أن هذا الأصل أفسد عليهم علومهم وعقولهم وأديانهم، وذكر أن العلماء بينوا بطلان أصولهم، وأن من أبلغ من كتب في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية. ثم إنه ـ رحمه الله ـ قد اهتم ببيان فساد هذا الأصل اهتماماً كبيراً وأطال في نقضه وإظهار بطلانه. قال: "إن هؤلاء الملحدين حصروا العلوم المدركة في دائرة ضيقة، فما أدركوه بحواسهم وتجاربهم أثبتوه، وما لم يدركوه بذلك نفوه وأنكروه فأنكروا من أجل ذلك علوم   1 الخلاصة/105، 106، والخلاصة/190، 191. 2 الفتاوى السعدية/46. 3 الأدلة القواطع/3. 4 الأدلة القواطع /4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الغيب كلها وجحدوا ربوبية الله وأفعاله وعطلوه من صفاته وأفعاله إذ لم يدخل ذلك تحت مداركهم القاصرة وهذا باطل شرعاً وعقلاً:ـ أما الشرع: فجميع الكتب السماوية وجميع الرسل تبطل قولهم وحصرهم العلوم بمدركات الحس الظاهرة, ونفيهم لما عداها, وتثبت بالبراهين اليقينية من علوم الغيب ومن العلوم التي لا تدرك إلا بالوحي من الحقائق النافعة الصحيحة والمعارف الصادقة مالا نسبه لعلومهم كلها إليها من أولها إلى آخرها ....... وأما العقل: فجميع العقلاء المعتبرين يثبتون للعلوم مدارك غير مدارك الحس, فإن مدارك العلوم: الحس والعقل والأخبار الصادقة فالأخبار الصادقة أعلاها وأصدقها وأحقها بالحق خبر الله وخبر رسله وفي ذلك تبيان لكل شيء, وهدى للخلائق وتوضيح للحقائق"1. ويرى ـ رحمه الله ـ أن أعظم حل لهذه المشاكل وغيرها، معرفة دين الإسلام والعمل به؛ لأنه بطبيعته وبراهينه وآياته يضمحل أمامه كل باطل، وخصوصاً أقبح الباطل وأشنعه وأشره منافاة للدين والعقل وهو الإلحاد. بل إنه رحمه الله يرى أن التماس الحلول لمثل هذه المشاكل من غير الحلول الإسلامية التي تبنى على الكتاب والسنة أمر لا يجدي ولا ينفع بل يزيد في المشكلة حيث يقول: "ما من مشكلة كبيرة ولا صغيرة، إلا إذا بنيت على الشريعة الإسلامية المحضة تمت أمورها واستقامت أحوالها وصلحت من جميع الوجوه"2. وأحكام الشريعة في غاية القوة والرصانة وشاملة لجميع المشاكل وليست بحاجة إلى حلول مستوردة لما يجد من حوادث بل لا يمكن إصلاح الأمور إلا بها بخلاف غيرها من القوانين. لذلك فإنه قام بمعالجة مشكلة الإلحاد على ضوء الكتاب والسنة، واهتم بمعالجة هذه المشكلة اهتماماً كبيراً، ومما يؤكد اهتمامه بها، أنه إضافة إلى تناوله لعلاجها ضمن كتبه، فقد أفرد فيها رسالة خاصة سماها: "الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين". وقد أجاد رحمه الله في هذه الرسالة الرد على هؤلاء الملحدين، حيث تناول الرد   1 الأدلة القواطع / 14, 15. 2 الأدلة القواطع /14، 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 عليهم وبيان زيغهم من ثلاثة وثمانين وجهاً، اختار جملة منها من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، الذي ظهر تأثره بهما على مؤلفاته كما مر معنا في المقدمة. وكانت ردوده عليهم في غاية القوة والرصانة، ولجودتها ورصانتها استحقت أن توصف هذه الردود وهذا الكتاب بأنه "نازل جميع طوائف الملحدين وتحداهم وأبطل أصولهم وفند مآخذهم وهدم قواعدهم وزلزل بنيانهم وبين مخالفتهم للعقل والفطرة كما خالفوا جميع الأديان الصحيحة"1. وهذه نماذج من هذه الأوجه التي رد بها الشيخ على هؤلاء الملحدين. وأكثرها خاصة بأصلهم الفاسد المتقدم ذكره وهو: ـ "أنه من أراد الشروع في المعارف الإلهية فليمح من قلبه جميع العلوم والاعتقادات ..... "2. ذكر بعض هذه الأوجه:- ـ "أن يقال هذه الوصية مخالفة لما بعث الله به رسله وأنزل كتبه فإنه بعث رسله مذكرين للعباد ما فطروا عليه من الإقرار بوحدانية الله ووجوب شكر نعمه، وافتراض الحب الكامل والتعظيم التام لله المتفضل بالنعم الظاهرة والباطنة، ومذكرين لهم بالأمر بما فطرت العقول على استحسانه كالصدق والبر والإحسان والأخلاق الجميلة، وبالنهي عما فطرت العقول على استقباحه من الكذب والظلم والعدوان وجميع الأخلاق الرذيلة، فكيف يؤمر الناس أن يمحوا من قلوبهم وفطرهم هذه الأمور؟ وهل هذا إلا نهي عن جميع مواد السعادة والفلاح والصلاح، وأمر بكل منكر وفحشاء وسوء وشر وفساد؟ وفي هذا من تقويض دعائم الخير والصلاح، والاستبدال بها أصول الشر والفساد والفوضى في العلوم والعقائد والأخلاق، ما لا منتهى لشره وضرره"3. ـ"إن المقصود الأعظم من تأصيل هذا الأصل الخبيث الكفر بما جاءت به الرسل والانحلال عنه وإلا فأهله من أكذب الناس فإنهم متمسكون غاية التمسك بما عليه أئمتهم الملحدون، وأقوالهم وعقائدهم مقدمة عندهم على ما جاءت به الرسل ويتعصبون لها غاية التعصب، فلو كانوا صادقين محقين لوجب عليهم أن يمحوا من قلوبهم أقوال أئمتهم وعقائدهم التي ما زالوا متمسكين بها ومقلدين لها تقليداً أعمى،   1 الأدلة القواطع والبراهين/87. 2 الأدلة القواطع والبراهين/4. 3 الأدلة القواطع والبراهين/7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فالغرض من كلامهم معروف وهو قصدهم الانحلال من الدين الصحيح والتمسك بأقوال هؤلاء الضالين"1. ـ "أن يقال لهؤلاء الملحدين المنكرين لأمور الغيب التي أخبر الله بها ورسوله لم أنكرتموها؟ فيجيبون بأنها لم تدخل تحت علومنا التي بنيناها على إدراكات الحواس والتجارب، فيقال لهم: قدروا أنها لم تدخل في ذلك فإن طرق العلوم اليقينية كثيرة، وأكثرها لا تدخل تحت إدراكاتكم، فإن إداركاتكم قاصرة حتى باعترافكم فإنكم تعترفون أن مدركاتكم خاصة ببعض المواد الأرضية وأسبابها وعللها ومع ذلك لم تدركوها كلها، باعترافكم وأعمالكم فإنكم لا تزلون تبحثون وتعلمون التجارب التي تنجح مرة وتخفق مرات"2. هذه بعض الأوجه التي رد بها الشيخ على هؤلاء الملحدين، ولقد أطال في ذكر الردود عليهم وبيان زيغهم، وإن رغب القارئ في الاستزادة منها فليراجع كتابه العظيم "الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين". وفي الحقيقة إن كتابه هذا ظاهر الأهمية؛ لجودة مادته ولشدة الحاجة إليه في هذا الزمن الذي طغت فيه المادة؛ وكثر فيه الإلحاد. رده على القصيمي في إلحاده، وإنكاره لوجود الرب: إن هذه الدعوة الإلحادية التي تدعو إلى الإباحية والتحلل الخلقي، وإنكار وجود الرب ونسبة الخلق والتصرف إلى الطبيعة، مع ظهور بطلانها وجلاء نكارتها، فإنها قد راجت على بعض أبناء المسلمين وافتتنوا بها واغتروا ببهرجتها فمالوا إليها وأصبحوا من دعاتها. وهذا غاية الانتكاس والخسران والعياذ بالله. إذ أن التحول من الهدى إلى الضلال ومن النور إلى العمى ومن الإيمان إلى الكفر، يعد من أكبر الانتكاس والخسران، ولا سيما إذا كان من أحد العلماء العاملين الداعين إلى الله. وهذا ما حصل من عبد الله القصيمي الذي كان من الدعاة البارزين ومعروفاً بالعلم والانحياز لمذهب السلف الصالح وكانت تصانيفه مشحونة بنصر الحق والرد على المبتدعين والملحدين، وكانت له عند الناس سمعة حسنة وذكر طيب3.   1 الأدلة القواطع والبراهين/11 2 الأدلة القواطع والبراهين /24. 3 بيان الهدى من الضلال للسويح/5، وتنزيه الدين/3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 بعد ذلك كله انقلب رأسا على عقب فصار عدواً للإسلام، فأصبح يرى أن الدين سبب لتأخر المسلمين وضعفهم، وصار الدين عنده كالأغلال التي تعوق الإنسان عن مراده، وزاد على ذلك فأنكر الخالق وزعم أنه لا فرق بين الخالق والمخلوق وأن من فرق بينهما من الأنبياء والرسل وأهل الأديان غالط ضال. وزعم أن الطبيعة تتفاعل وتتطور وتدبر أمر العالم وتدبره وتنظم الأمور الجليلة والدقيقة، وأنكر قضاء الله وقدره، وأرجع ذلك إلى العلم بانتظام الطبيعة وهذا إنكار منه لله ولأفعاله ولصفاته1. وأنكر الرسالة والمعاد والملائكة والجن وسخر من علماء المسلمين، وأخذ يدعو إلى الإباحية والتحلل والانسلاخ من الدين، ويمدح الأوربيين والمستعمرين لبلاد الإسلام ويدعو إلى تعظيمهم وإدخالهم في البلاد الإسلامية2. إلى غير ذلك من الترهات والضلالات التي أخذ يدعو إليه ويروجها، والتي ألف من أجل نشرها كتابه "هذي هي الأغلال". ويقصد بالأغلال أوامر الله ونواهيه والتمسك بالدين الإسلامي إذ أن هذا عنده أعظم الأسباب لتخلف المسلمين وتأخرهم الحضاري، وعلى العكس من ذلك يرى أن سبب تقدم الغرب هو تحللهم من الدين والقيم والأخلاق، وهذا غاية البهت والضلال والانحراف. لذا فإنه قام جماعة من علماء المسلمين أمام ضلاله، وبينوا للناس زيغه وانحلاله، وبينوا كذبه وافتراءه وفساد ما يدعو إليه من عقائد منحرفة، وقيم منحطه فظهرت مؤلفات عديدة في الرد عليه لعدد من العلماء. منها: بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال، للشيخ إبراهيم بن عبد العزيز السويح، ومنها: الرد القويم على ملحد القصيم للشيخ عبد الله بن علي بن يابس. ومن هؤلاء العلماء الذين قاموا بالرد عليه الشيخ ابن سعدي؛ إذ ألف في ذلك رسالته القيمة "تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله". قال رحمه الله في مقدمتها "أما بعد: فإني قد وقفت على كتاب صنفه عبد الله بن علي القصيمي سماه " هذي هي الأغلال" فإذا هو محتو على نبذ الدين والدعاية إلى نبذه والانحلال عنه من كل وجه"3.   1 تنزيه الدين:6، 7. 2 الرد القويم لابن يابس/9. 3 تنزيه الدين/2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ثم ذكر سبب تأليفها فقال "فوجب على كل من عنده علم أن يبين ما يحتوي عليه كتابه من العظائم خشية اغترار من ليس له بصيرة بكلامه". ثم ذكر مجمل ما في كتاب الأغلال من الضلال والانحراف وما فيه من الآراء الباطلة. ثم بعد ذلك تناول الرد عليه في هذه الآراء الباطلة والعقائد الفاسدة على وجه التفصيل. ومن ردوده عليه في قضية الإلحاد قوله بعد أن ذكر رأي صاحب الأغلال في أن المصائب تحدث من الطبيعة وأن الإيمان بالله وباليوم الآخر يمنع الرقي. "وقول وصل إلى هذا الحد ليس بعده تقدم إلى الكفر، وإنما هو النهاية في الكفر والتعطيل والجحود لرب العالمين والخروج من الديانات السماوية كلها وهو غاية الخروج من العقل والحس، فإن قضية الإيمان بالله ورسوله هي أكبر القضايا وأعظمها وأوضحها"1. والمقصود أن ابن سعدي اهتم بقضية هذا القصيمي وانحلاله ورد عليه رداً علمياً هادفاً، يقصد من ورائه بيان زيغ هذا الرجل وإلحاده؛ لكي لا يغتر أحد من المسلمين به، وهذا من نصحه واهتمامه رحمه الله بمسألة العقيدة والذود عن حماها. ومن مؤلفاته في الرد على هؤلاء الملحدين وبيان انحطاط ما هم عليه من معتقد فاسد، رسالة صغيرة سماها "انتصار الحق" وهي على صغر حجمها نافعة عظيمة لأنه تناول فيها معالجة مشكلة الإلحاد على طريقة الحوار بين شخص مسلم وبين شخص مفتتن بالإلحاد فسمى الأول الناصح والثاني المنصوح. ومما في هذه الرسالة القيمة قوله رحمه الله "قال المنصوح ... أريد أن توضح لي توضيحاً تاماً بطلان ما عليه هؤلاء الملحدون فإنهم يقيمون الشبه المتنوعة في ترويج قولهم ليغتر به من لا بصيرة له. فقال الناصح: اعلم أن الحق والباطل متقابلان وأن الخير والشر متنافيان، وبمعرفة واحدٍ من الضدين يظهر حسن الآخر أو قبحه ... إلى أن قال: "فهذا الدين الحق الذي دعت إليه الرسل عموماً وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم خصوصاً قد بنى وأسس على التوحيد، والتأله لله وحده لا شريك له حباً وخوفاً ورجاء وإخلاصاً وانقياداً وإذعاناً لربوبيته واستسلاماً لعبوديته قد دل على هذا الأصل الذي هو أكبر جميع أصول الأدلة العقلية والفطرية، وقد دلت عليه جميع الكتب السماوية وقرره جميع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من أهل العلوم الراسخة الألباب الرزينة   1 تنزيه الدين/13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 والأخلاق العالية والآداب السامية كل أولئك اتفقوا على أن الله منفرد بالوحدانية منعوت بكل صفة كمال موصوف بغاية الجلال والعظمة والكبرياء والجمال، وأنه الخالق والرازق المدبر لجميع الأمور، وأنه منزه عن كل صفة نقص وعن مماثلة المخلوقين، وأنه لا يستحق العبادة والحمد والثناء والشكر إلا هو، فالدين الإسلامي على هذا الأصل أسس وعليه قام واستقام. وأما ما عليه أهل الإلحاد فإنه ينافي هذا الأصل غاية المنافاة فإنه مبني على إنكار الباري رأساً، فضلاً عن الاعتراف له بالكمال وعن القيام بأوجب الواجبات وأفرض الفروض وهو عبوديته وحده لا شريك له، فأهل هذا المذهب أعظم الخلق مكابرة وإنكاراً لأظهر الأشياء وأوضحها فمن أنكر الله فبأي شيء يعترف؟ "فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون" وهؤلاء أبعد الناس عن عبودية الله والإنابة إليه وعن التخلق بالأخلاق الفاضلة التي تدعو إليها الشرائع وتخضع لها العقول الصحيحة، ومع خلو قلوبهم من توحيد الله والإيمان به وتوابع ذلك فهم أجهل الناس وأقلهم بصيرة ومعرفة بشريعة الإسلام وأصول الدين وفروعه"1. وبهذه المقارنة بين ما عليه المؤمنون الموحدون وبين ما عليه أهل الإلحاد الكافرون، يظهر لكل صاحب بصيرة أن الفرق كبير والبون شاسع بين الفريقين {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} 2. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} 3. ويظهر أيضاً لكل عاقل بطلان ما عليه هؤلاء الملاحدة، وأنهم في عماية وضلال وبعد عن الحق. والمقصود أن مشكلة الإلحاد من أخطر المشاكل المعاصرة، وتحتاج إلى جهد من العلماء وتصد لها لإظهار بطلانها لكي لا تنطلي على أصحاب النفوس الضعيفة. ولقد أعجبني الشيخ ابن سعدي ـ رحمه الله ـ باهتمامه بهذه المشكلة ومعالجته لها في كثير من مؤلفاته. وهنا تظهر لنا فائدة هامة، تتعلق بمنهج الشيخ ابن سعدي في العقيدة. وهي أن اهتمام السعدي بمعالجة مشكلة الإلحاد والملحدين يوضح لنا أن منهجه   1 انتصار الحق/10، 11، 12. 2 سورة الرعد/ الآية 19. 3 سورة الرعد/ الآية/ 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 في العقيدة يمتاز بالشمول كما هو حال السلف الصالح في ذلك أي أنهم يتناولون في خدمتهم للعقيدة تأصيل القواعد، وشرح الأصول، والرد على المخالفين وإن كانوا من الماديين الملحدين المنكرين لوجود الرب سبحانه وغيرهم. وهذا يبين لنا عدم صحة قول من يقول إن السلف ومن سار على نهجهم لا يهتمون بالرد على الملحدين والشيوعيين وغيرهم، وإنما كلامهم قاصر على توضيح توحيد الأسماء والصفات. فقد ظهر لك أيها القارئ: أن الشيخ ابن سعدي ومن قبله ابن تيمية قد تناولوا مثل هذه المشاكل وبينوا فسادها وضلالها كما تناولوا غيرها. فليس ردهم قاصراً على طائفة معينة أو فرقة معينة، وإنما ردهم شامل لكل من خالف عقيدة التوحيد، وهذا هو المنهج الحق الذي يجب أن يسار عليه. والخلاصة من كل ما تقدم هو ما قاله رحمه الله "إن جميع أهل الأديان من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم حتى المشركين متفقون على إثبات ربوبية الله وأنه الأول الذي ليس قبله شيء الخالق لكل شيء الرازق المدبر لكل شيء، وأئمتهم في هذه الأنبياء والمرسلون، وأهل الهدى من العلماء الربانيين أهل العلوم الغزيرة والمعارف الصافية، الأولين منهم والآخرين على هذا الأصل العظيم متفقون، على علم وبصيرة ويقين قد اطمأنت قلوبهم بذلك وسكنت نفوسهم به وصار في قلوبهم أكبر الحقائق وأصحها وأوضحها وخالفهم من هذا شرذمة من زنادقة الدهريين الذين يقولون {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 1. وسلك سبيلهم زنادقة الماديين، وهم لم ينكروا ذلك عن علم دلهم عليه ولا سمع ولا عقل ولا فطرة، إنما هو مجرد استبعادات وجحود ومكابرات"2. وليست المشكلة في هؤلاء الملحدين إنكارهم لوجود الرب فقط بل إنهم لو اعترفوا بوجوده فإن ذلك لا يكفي في دخولهم الإسلام بل تصبح حالهم كحال المشركين الذين حاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك يقول ابن سعدي: "إن كل برهان أبطل الله به الشرك وقرر به التوحيد فهو برهان على بطلان الإلحاد والجحود؛ لأن المشركين يعترفون بالله ويعلمون أنه الخالق الرازق المدبر، ولكنهم يشركون في عبادتهم فيعبدون الله ويعبدون غيره"3.   1 سورة الجاثية/ الآية 24. 2 الأدلة القواطع والبراهين/80. 3 الأدلة القواطع والبراهين/65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 والمقصود أن من اعترف بوجود الله من غير إفراد له بالعبادة ومن غير إقرار بأسمائه الحسنى فإن إيمانه بوجود الله لا ينفعه، بل لا بد مع الإقرار أن يجرد التوحيد لله وحده، وسيأتي بيان ذلك في توحيد الألوهية. القضاء والقدر: إن الإيمان بالقضاء والقدر أحد أركان الإيمان الستة، كما جاء في حديث جبريل"وأن تؤمن بالقدر خيره وشره"1. وقد دل على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر نصوص كثيرة. قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 2. وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 3. وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 4. وقال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} 5. والإيمان بالقضاء والقدر داخل في الإيمان بربوبية الله على خلقه إذ أن من آمن بأن الله هو الخالق المدبر المتصرف في شؤون خلقه كلها فهو مؤمن بالقضاء والقدر. وقد أشار ابن سعدي إلى دخول الإيمان بالقضاء والقدر في الإيمان بربوبية الله. فبعد أن عرف توحيد الربوبية بأنه اعتقاد انفراد الرب بالخلق والرزق والتدبير قال: " فدخل في توحيد الربوبية إثبات القضاء والقدر، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير وأنه الغني الحميد وما سواه فقير إليه من كل وجه"6. وقال: "ولا يتم توحيد الربوبية حتى يعتقد العبد أن جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وأن مشيئتهم تابعة لمشيئة الله، وأن لهم قدرة وإرادة تقع بها أفعالهم، وهي متعلقة بالمدح والذم والأمر والنهي والثواب والعقاب، وأنه لا يتنافى الأمران: إثبات   1 أخرجه مسلم 1/37، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 2 سورة القمر/ الآية 49. 3 سورة الحديد/ الآية 22. 4 سورة التوبة/ الآية 51. 5 سورة الأحزاب/ الآية 38. 6 الفتاوى السعدية/11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 مشيئة الله العامة الشاملة للذوات والأفعال والصفات. وإثبات قدرة العبد على أفعاله وأقواله"1. ونظراً لدخول إثبات القضاء والقدر في توحيد الربوبية، فقد جعلت الحديث عنه عقب الحديث عن توحيد الربوبية. وقد تحدث ابن سعدي عن مسألة القضاء والقدر كثيراً، وأفرد فيها رسالة خاصة شرح فيها قصيدة ابن تيمية التائية في الرد على القدرية، وبين مراتب القدر، وذكر أقوال الناس فيه، وأيد مذهب أهل السنة والجماعة بالأدلة والبراهين، وبين بطلان أقوال الطوائف المنحرفة، وبين أن أفعال العباد مخلوقة وأنهم فاعلون لها بمشيئتهم وقدرتهم إلى غير ذلك من المسائل المتعلقة بالإيمان بالقضاء والقدر. وحديثنا هنا سيتناول عدة جوانب وهي:- (1) بيان ابن سعدي أن الإيمان بالقضاء والقدر لا يمنع من فعل الأسباب. (2) بيانه لمراتب القدر. (3) تقسيمه للطوائف المنحرفة في القدر ورده عليهم. (4) بيانه لمذهب أهل السنة والجماعة في القدر وتأييده له بالأدلة. أولا: بيان ابن سعدي أن الإيمان بالقضاء والقدر لا يمنع من فعل الأسباب: وهذه مسألة هامة غلط فيها كثير من الناس، حيث توهموا أن فعل الأسباب وتعاطيها ينافي التوكل والاعتماد على الله، وينافي الإيمان بالقضاء والقدر. وفهموا أن الإيمان بالقضاء والقدر يعني الخمول وترك فعل الأسباب. وهذا غلط بين وهو ناتج من عدم فهم الإيمان بالقضاء والقدر على الوجه المطلوب وقد وضح ابن سعدي هذه المسألة وبينها بياناً فقال: "الإيمان بالقدر يتفق مع الأسباب، فمباشرة الأسباب والاجتهاد في الأعمال النافعة يحقق للعبد تمام الإيمان بالقضاء والقدر، فإن الله قدر المقادير بأسبابها وطرقها، وتلك الأسباب والطرق هي محل حكمة الله فإن الحكمة: وضع الأشياء مواضعها وتنزيل الأمور منازلها اللائقة بها. فقضاء الله وقدره وحكمته متفقات. كل واحد منها يمد الآخر ولا يناقضه. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل وقيل له يا رسول الله، أرأيت رقي نسترقيها،   1 الفتاوى السعدية/12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وأدوية نتاداوى بها وتقاه نتقيها، هل ترد قضاء الله وقدره؟ فقال: "هي من قضائه وقدره"1. فهذه الأسبابُ حسية ومعنوية روحانية حُمْية عما يضر، وهي في مقدمة الأسباب. وأخبر صلى الله عليه وسلم أنها من قضاء الله وقدره، فمن زعم أنه مؤمن بالقدر وترك الأسباب النافعة الدينية والدنوية التي عليها نظام القدر فهو غالط. فإن المؤمن بالقدر يجري على أحكامه ويعمل على سنته ونظامه، ويتبع النافع في أحكامه وإبرامه والله المعين الموفق. وتوضيح ذلك أن أقدار الله كلها تابعة لحكمته، فكما أن أفعاله تعالى محكمة في غاية الإحكام والانتظام ما ترى في خلق الرحمن من خلل ولا نقص ولا فطور ولا اختلال ولا في شرعه من عبث وسفه ومنافاة للحكمة والمصلحة والإحسان، فكذلك أفعال المكلفين دينيها ودنيويها، ظاهرها وباطنها كلها تجري على وفق الحكمة والغايات الحميدة، وأنه كلما عظم المقصود وكثرت منافعه ومصالحه لم يمكن إدراكه إلا بسلوك الطرق المفضية إليه. فأعظم المقاصد على الإطلاق نيل رضا الله، والفوز بثوابه والسلامة من عقابه وقد جعل الله له الإيمان وشعبه الظاهرة والباطنة والقيام بعبودية الله وإخلاص الدين له، ولزوم الاستقامة والتقوى جعلها الله طرقاً وأسباباً توصل إليه. فما يسلك العبد هذا السبيل فمحال أن يصل إلى رضوان ربه وثوابه، فاتكال الأحمق على القدر بدون جد واجتهاد، قدح في القدر والشرع جميعاً. وكذلك المطالب الأخرى كنيل العلم وإدراكه هل يمكن بغير جد واجتهاد ومواصلة الأوقات في طلبه وسلوك الطرق المسهلة له؟ فمن قال: إن قدر لي أدركت العلم، اجتهدت أم لا، فهو أحمق كما قال بعضهم2. تمنيت أن تمسي فقيها مناظراً بغير عناء والجنون فنون وليس اكتساب المال دون مشقة تلقيتها فالعلم كيف يكون   1 أخرجه أحمد 3/421، وابن ماجه 2/1137، والترمذي 4/400، وقال حديث حسن صحيح، والحاكم 4/199، كلهم من حديث أبي خزامة عن أبيه، وأخرج نحوه الحاكم 4/199، 402، عن حكيم بن حزام، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 2 القائل للبيتين هو: أبو بكر أحمد بن محمد الدينوري الحنبلي، انظر الآداب الشرعية لابن مفلح /1/244 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وهكذا من ترك الزواج وقال: إن قدر لي أولاد حصلوا، تزوجت أو تركت. ومن رجا حصول ثمر أو زرع، بغير حرث وسقي وعمل متكلا على القدر فهو أحمق مجنون. وهكذا سائر الأشياء دقيقها وجليلها، فعلم أن القيام بالأسباب النافعة واعتقاد نفعها داخل بقضاء الله وقدره، دون الإخلاد إلى الكسل، والسكون مع القدرة على الحركة هو الجنون1. وقد عقد ابن سعدي في كتابه الرياض الناضرة فصلاً خاصاً بذلك، وهو الفصل الثالث والعشرون في الجمع بين إثبات عموم القدر وإثبات الأسباب. قال فيه: " .... ويظن كثير من الناس أن إثبات الأسباب ينافي الإيمان بالقضاء والقدر. وهذا غلط فاحش جداً وهو عائد على القدر بالإبطال وهو إبطال أيضاً للحكمة. وكأن هذا الظان يقول ويعتقد: أن الإيمان بالقدر هو اعتقاد وقوع الأشياء بدون أسبابها الشرعية والقدرية. وهذا نفي للوجود لها فإن الله ربط الكون بعضه ببعض، ونظم بعضه ببعض، وأوجد بعضه ببعض. فهل تقول ـ يأيها الظان جهلاً ـ أن الأولى إيجاد البناء من دون بنيان وإيجاد الحبوب والثمار والزروع من دون حرث وسقي وإيجاد الأولاد والنسل من دون نكاح وإدخال الجنة من دون إيمان وعمل صالح، وإدخال النار من دون كفر ومعصية؟ بهذا الظن والتقدير أبطلت القدر وأبطلت معه الحكمة، أما علمت أن الله بحكمته وكمال قدرته جعل للمسببات أسباباً وللمقاصد طرقاً ووسائل تحصل بها، وقرر هذا في الفطر والعقول، كما قرره في الشرع، وكما نفذه في الواقع، فإنه أعطى كل شيء خلقه اللائق به ثم هدى كل مخلوق إلى ما خلق له من أصناف السعي والحركة والتصرفات المتنوعة، وبنى أمور الدنيا والآخرة على ذلك النظام البديع العجيب الذي شهد أولا لله بكمال القدرة وكمال الحكمة، وأشهد العباد ثانيا: أن بهذا التنظيم والتيسير والتصريف وجه العاملين إلى أعمالهم ونشطهم على أشغالهم. فطالب الآخرة: إذا علم أنها لا تنال إلا بالإيمان والعمل الصالح وترك ضدها جد واجتهد في تحقيق الإيمان، وكثرت تفاصيله النافعة واجتهد في كل عمل صالح   1 الفتاوى السعدية/32-35، بتصرف يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 يوصله إلى الآخرة واجتنب في مقابل ذلك الكفر والفسوق والعصيان، وبادر للتوبة من كل ما وقع منه من ذلك. وصاحب الحرث إذا علم أنه لا ينال إلا بحرث ويسقي وملاحظة تامة جداً واجتهد في كل وسلية تنمي حرثته وتكملها، وتدفع عنها الآفات ... واصل ابن سعدي ضرب الأمثلة على ذلك ثم قال: وفي خلقه تعالى الأشياء بأسبابها من الحكمة والمنافع والأسرار ما لا يدركه الوصف. وهذا من الأمور الجلية والحقائق الواضحة التي فطرت الخليقة كلها ـ حتى الحيوان البهيم ـ عليها"1. وقال في شرحه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان"2. "وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الإيمان بالقضاء والقدر والعمل بالأسباب النافعة، وهذان الأصلان دل عليهما الكتاب والسنة في مواضع كثيرة، ولا يتم الدين إلا بهما بل لا تتم الأمور المقصودة كلها إلا بهما؛ لأن قوله: "احرص على ما ينفعك" أمر بكل سبب ديني ودنيوي بل أمر بالجد والاجتهاد فيه، والحرص عليه نية وهمة وفعلاً وتدبيراً. وقوله: "واستعن بالله" إيمان بالقضاء والقدر، وأمر بالتوكل على الله الذي الاعتماد التام على حوله وقوته تعالى في جلب المصالح، ودفع المضار مع الثقة التامة بالله في نجاح ذلك. فالمتبع للرسول صلى الله عليه وسلم يتعين أن يتوكل على الله في أمر دينه ودنياه وأن يقوم بكل سبب نافع بحسب قدرته وعلمه ومعرفته"3 ثانيا: بيانه لمراتب القدر: إن الإيمان بالقضاء والقدر لا يتم إلا بمعرفة مراتبه الواردة في الكتاب والسنة، ودل الكتاب والسنة على أن للقدر أربع مراتب.   1 الرياض الناضرة/164-167. 2 أخرجه مسلم 4/2052. 3 بهجة قلوب الأبرار/41، وانظر الدرة البهية/38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وهي: (1) علم الله المحيط بكل شيء. (2) كتابه الذي اشتمل على كل ما سيكون. (3) ومشيئته وقدرته العامة على كل شيء. (4) إيجاده لجميع المخلوقات. وقد اعتنى ابن سعدي في مؤلفاته ببيان هذه المراتب وتوضيحها وذكر أدلتها. قال رحمه الله: "مراتب القضاء والقدر أربعة لا يتم الإيمان بالقدر إلا بتكميلها، الإيمان بأنه بكل شيء عليم وأن علمه محيط بالحوادث دقيقها وجليلها، وأنه كتب ذلك باللوح المحفوظ، وأن جميعها واقعة بمشيئته وقدرته ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه مع ذلك مكن العباد من أفعالهم فيفعلون اختياراً منهم بمشيئتهم وقدرتهم كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} 1. وقال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2"3. وقال في تفسيره لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 4. " .... وفي هذه الآية دليل على أن الكتاب الأول قد حوى جميع الكائنات وهذا أحد مراتب القضاء والقدر فإنها أربع: علم الله الشامل لجميع الأشياء، وكتابه المحيط بجميع الموجودات ومشيئته وقدرته العامة النافذة في كل شيء، وخلقه لجميع المخلوقات حتى أفعال العباد"5. ثالثا: تقسيمه للطوائف المنحرفة في القدر ورده عليهم: قسم ابن سعدي الطوائف المنحرفة في القضاء والقدر إلى ثلاثة أقسام: 1ـ قدرية نفاة. 2ـ وقدرية مجبرة. 3ـ وقدرية مشركون.   1 سورة الحج/ الآية 70. 2 سورة التكوير/ الآيتان 28، 29. 3 سؤال وجواب/15. 4 سورة الأنعام/ 38. 5 التفسير 2/396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قال رحمه الله: "القدرية ثلاث طوائف: قدرية نفاه، وقدرية مجبرة، وقدرية مشركون. فأما القدرية النفاة: فهم الذين يطلق عليهم أكثر العلماء اسم "القدرية" وحقيقة مذهبهم أنهم يقولون: "إن أفعال العباد وطاعتهم ومعاصيهم لم تدخل تحت قضاء الله وقدره" فأثبتوا قدرة الله على أعيان المخلوقات وأوصافها، ونفوا قدرته على أفعال المكلفين. وأما الطائفة الثانية: فهم الجبرية الذين يقال لهم "القدرية المجبرة" فزعم هؤلاء: "إن عموم مشئية الله وعموم إرادته يقتضي أن العبد مجبور على أفعاله لا قدرة له على شيء من الطاعات ولا على ترك المعاصي، ومع أنه لا قدرة له على ذلك عندهم، فهو مثاب معاقب على ما لا قدرة له عليه. وأما الطائفة الثالثة: فهم القدرية المشركون الذين اعتذروا عن شركهم وتحريمهم ما أباح الله بالمشيئة1. وقد بين ابن سعد ضلال هؤلاء وشناعة أقوالهم المتقدمة، قال: "فهذه الطوائف الثلاث هم خصماء الله في قضائه وقدره، منهم من نفاه ومنهم من غلا فيه غلواً أوقعه في الباطل"2. وتناول ابن سعدي جميع أقوال هذه الطوائف بالرد، وفند شبههم ورد عليها وبين ضلالهم وبعدهم عن الصراط المستقيم. فقال في ردوده على الطائفة الأولى وهم القدرية النفاة القائلون: "بأن أفعال العباد غير داخلة تحت مشيئة الله وقدرته". "وهم بهذا القول الباطل ردوا نصوصاً كثيرة من الكتاب والسنة تثبت وتصرح أن جميع أعمال العباد من خير وشر وطاعة ومعصية بقضاء الله وقدره كما أجمع المسلمون أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن"3. وهذه النصوص المبطلة لقول هؤلاء التي أشار ابن سعدي لكثرتها. قد تعرض لأكثرها في تفسيره للقرآن وبين وجه دلالتها على بطلان قول هؤلاء وفيما يلي أسوق بعض هذه النصوص مع تفسيره لها.   1 الدرة البهية /16- 24 بتصرف. 2 الدرة البهية /24. 3 الدرة البهية /17 بتصرف يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قال تعالى في غير موضع من كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. قال ابن سعدي: "وفي هذه الآية وما أشبهها رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى؛ لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2. وقال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} 3. قال ابن سعدي: "فإن مشيئة الله نافذة عامه لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير. ففيها رد على القدرية الذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة الله .... "4. وقال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} 5. قال ابن سعدي: " في هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير. ولم يخالف في هذا الأصل من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة فأخرجوها عن قدرة الله فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين"6. وقال أيضا في رده عليهم مبينا أهمية مناظرة القدرية بالعلم أي إثبات علم الله وأن ذلك فيه بيان لتناقضهم وتهافت أقوالهم. قال: "وكان الأئمة كالإمام أحمد وغيره يقولون: "ناظروا القدرية بالعلم، فإن أنكروا العلم كفروا، وإن اعترفوا به خصموا". يعني: أن القدرية النافين لعلم الله بأفعال عبادة، جاحدون لنصوص الكتاب والسنة المصرحة بإحاطة علم الله بما كان وما يكون من أعيان وأوصاف وأفعال، مما دق وجل، فمن أنكر ذلك فقد كذب الكتاب والسنة صريحاً وذلك هو الكفر، وإن اعترفوا بإحاطة علم الله بكل شيء، وبأفعال العباد قبل وقوعها كما هو القول الذي استقر عليه مذهبهم خصموا.   1 في عدة آيات منها سورة البقرة/ الآية 20، وسورة آل عمران/ الآية 165 وغيرها. 2 التفسير 1/57. 3 سورة المدثر/ الآيتان 55، 56. 4 التفسير 7/581. 5 سورة البقرة / الآية 102. 6 التفسير 1/119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ووجه ذلك أنهم يقولون: "إن أفعالهم لا تتعلق بها مشيئة الله وإرادته وإنما هم مستلقون بها من كل وجه". وإذا كان هذا قولهم في مشيئة الله مع قولهم "إن الله يعلم أعمال العباد قبل أن يعلموها" فهذا تناقض محض: كيف يعلمها وهو لم يقدرها ولم يردها؟ هذا محال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1. فليزمهم أحد أمرين: إما أن يتناقضوا فينفوا الأمرين: علم الله بأفعالهم، ومشيئته لها فيتضح كفرهم وإما أن يرجعوا إلى الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه المسلمون وهو: أنه تعالى كما أنه بكل شيء عليم وبكل شيء محيط فإنه على كل شيء قدير ومن جملة الأشياء أفعال العباد: طاعتهم ومعاصيهم، فهو تعالى يعلمها إجمالا وتفصيلاً قبل أن يعملوها، وأعمالهم وأفعالهم داخلة تحت مشيئة الله وإرادته فقد شاءها منهم وأرادها، ولم يجبرهم لا على الطاعات، ولا على المعاصي، بل هم الذين فعلوها باختيارهم كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2. فهذه الآية فيها رد على القدرية النفاة وعلى القدرية المجبرة وإثبات للحق الذي عليه أهل السنة والجماعة. ففي قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أخبر أن مشيئتهم تابعة لمشيئته، وأنها لا توجد بدونها فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وفي هذا رد على القدرية القائلين "إن مشيئة العباد مستقلة، ليست تابعة لمشيئة الله" بل عندهم: يشاء العباد ويفعلون ما لا يشاؤه الله ولا يقدره"3. وبهذا يظهر لنا أن قول القدرية في أفعال العباد إنها ليست داخلة تحت مشيئة الله وقدرته، قول باطل، مخالف لما تقرر في الكتاب والسنة من عموم قدرة الله ومشيئته، ولا يمكن أن يكون شيء في ملك الله إلا إذا شاءه الله وقدَّره. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4. وقال رحمه الله في ردوده على الطائفة الثانية وهم القدرية المجبرة القائلون "بأن العباد مجبورون على أفعالهم كالشجرة في مهب الريح".   1 سورة الملك/ الآية 14. 2 سورة التكوير/ الآيتان 18، 19. 3 الدرة البهية /20، 21، بتصرف يسير. 4 سورة آل عمران/ الآية 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 "وهذا القول من أشنع البدع وأنكرها وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأئمة المهتدين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ومخالف للعقول والفطر ومخالف للمحسوس. وكل قول يمكن صاحبه أن يطرده إلا هذا القول الشنيع فإنه لا يمكن أن يعمل به ويطرده ولو ظلم أحدهم واعتذر إليه من ظلمه بالقدر فإنه لا يقبل بل يرى اعتذاره بالقدر زيادة ظلم وتهكما به، فكيف يسلك هذا المسلك مع ربه وهو لا يرتضيه لنفسه من غيره. والمقصود: أن هذه الطائفة خالفت المنقول والمعقول. ونصوص الكتاب والسنة تبطل قولهم، فإن الله نسب أعمال العباد إليهم من الطاعات المتنوعة والمعاصي الكثيرة كلها يضيفها إلى الفاعلين ويخبر أنهم هم الفاعلون لها ويستحقون جزاءها من خير وشر. فلو كانوا مجبورين عليها لم ينسبها لهم ولم يضفها إليهم بل ينسب الأفعال إلى نفسه حاشاه وتعالى عن ذلك، فلا يقال: "الله الذي فعل الإيمان والكفر والطاعة والمعصية". بل يقول كل أحد العبد هو الذي فعلها، والله هو الذي قدرها من غير أن يجبره عليها"1. وبين رحمه الله أن قولهم هذا يلزمهم عليه عدة لوازم فاسدة فقال في توضيح الكافية الشافية: "فلزمهم على تقريرهم هذا أمران باطلان: أحدهما أن تنفي عن العباد قدرتهم على أفعالهم. ثانيا: أن ينفي صدورها منهم. فيقال على قولهم: لم يقدروا على الإسلام والإيمان ولا الصلاة والصيام ونحوها. وإذا فعلوها يصح أن يقال: لم تصدر منهم إنما يقال ذلك على وجه المجاز لا الحقيقة، ولا فرق عندهم أن يوصفوا بهذه الأفعال أو يوصفوا بالبياض والسواد وبقية الألوان؛ لأن الجميع قامت بهم. فتصور قولهم بلوازمه المذكورة تعرف به فساده وبطلانه"2 وعدد أيضا في الدر البهية جملة من اللوازم التي تلزم هذا القول الفاسد فقال:   1 الدرة البهية / 22، 23، بتصرف يسير. 2 توضيح الكافية الشافية /12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 "ويلزم على قول الجبرية إسقاط الأمر والنهي؛ لأنه كيف يؤمر وينهى من لا قدرة له على امتثال الأمر والنهي؟ ويلزم أيضا على قولهم إسقاط الحدود عن جميع أهل الجرائم إذ كيف يعاقبون وتقام عليهم الحدود وهم غير قادرين بل مجبورين؟ فهذا القول الباطل مخالف لجميع أصول الدين وفروعه. ويلزم أيضاً على قول الجبرية تعطيل الأسباب الدينية والدنيوية وذلك أن الله تعالى جعل الأسباب موصلة إلى مسبباتها، وأمر العباد بسلوك كل سبب نافع لهم في دينهم ودنياهم فكيف يؤمرون وهم مجبورون غير قادرين؟ فالقول بالجبر فيه فساد الدين والدنيا"1. أما الطائفة الثالثة وهم القدرية المشركون فكلامهم ظاهر البطلان وقد بين الله بطلانه في آيات متعددة. وقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} 2. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 3. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} 4. وقال ابن سعدي في بيان بطلان احتجاج المشركين على شركهم بمشيئة الله وأن الله لو شاء ما أشركوا. "وهذه حجة باطلة فإنها لو كانت حقاً ما عاقب الله الذين من قبلهم حيث   1 الدرة البهية /23. 2 سورة الأنعام/ الآية 148. 3 سورة النحل/ الآيتان 35، 36. 4 سورة الزخرف/ الآية 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أشركوا به فعاقبهم أشد العقاب فلو كان يحب ذلك منهم لما عذبهم وليس قصدهم بذلك إلا رد الحق الذي جاءت به الرسل وإلا فعندهم علم أنه لا حجة لهم على الله، فإن الله أمرهم ونهاهم ومكنهم من القيام بما كلفهم وجعل لهم قوة ومشيئة تصدر عنها أفعالهم فاحتجاجهم بالقضاء والقدر من أبطل الباطل. هذا وكل أحد يعلم بالحس قدرة الإنسان على كل فعل يريده من غير أن ينازعه منازع، فجمعوا بين تكذيب الله وتكذيب رسله وتكذيب الأمور العقلية والحسية"1. وقال في موضع آخر: "وهي حجة باطلة في نفسها عقلاً وشرعاً. فكل عاقل لا يقبل الاحتجاج بالقدر ولو سلكه في حالة من أحواله لم يثبت عليها قدمه. وأما شرعاً فإن الله تعالى أبطل الاحتجاج به ولم يذكره عن غير المشركين به المكذبين لرسله فإن الله تعالى قد أقام الحجة على العباد فلم يبق لأحد عليه حجة أصلاً"2. رابعا: بيانه لمذهب أهل السنة والجماعة في القدر وتأييده له بالأدلة: وكما بين ابن سعدي بطلان الأقوال المتقدمة في القضاء والقدر في أفعال العباد وبعدها عن الصواب وانحرافها عن الصراط المستقيم. فقد بين أن القول الصواب في ذلك والحق الذي لا مرية فيه هو قول أهل السنة والجماعة؛ وذلك لتضافر أدلة الكتاب والسنة على صحته فبعد أن ذكر الأقوال السابقة وبين بطلانها قال: "فهذه الطوائف الثلاث هم خصماء الله في قضائه وقدره منهم من نفاه ومنهم من غلا فيه غلواً أوقعه في الباطل. وهدى الله أهل السنة والجماعة لما اختلفوا فيه بإذنه {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3. فأثبتوا عموم قضاء الله ونفوذ مشيئته في كل شيء، وأثبتوا مع ذلك أفعال العباد من الطاعات والمعاصي وقالوا إنها واقعة باختيارهم، ولا حجة للعاصين على الله إذا احتجوا على معاصيهم بقدره بل حجتهم داحضة باطلة، وقالوا إن مشيئة الله غير محبته   1 التفسير 4/201. 2 التفسير 6/639، وانظر أيضا التفسير 2/495 ففيه بيان لبطلان هذه الشبهة من سبعة أوجه. 3 سورة البقرة/ الآية 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فمشيئته تعلقت بكل شيء موجود من خير وشر وطاعة ومعصية، ومحبته خاصة للطاعات وأهلها كما أخبر بذلك في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم1. وقال في موضع آخر شارحا مبيناً عقيدة السلف في ذلك وهي أنهم: "يقولون بما جاء به الكتاب والسنة من إثبات الأصلين: أحدهما: الاعتراف بأن جميع الأشياء كلها أعيانها وأوصافها بقضاء وقدر، لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. والأصل الثاني: أن أفعال العباد من الطاعات والمعاصي وغيرها واقعة بإرادتهم وقدرتهم وأنهم لم يجبروا عليها، بل هم الذين فعلوها بما خلق الله لهم من القدرة والإرادة ويقولون لا منافاة بين الأمرين فالحوادث كلها التي من جملتها أفعال العباد بمشيئة الله وإرادته والعباد هم الفاعلون لأفعالهم المختارون لها، فهم الذين اختاروا فعل الخيرات وفعلوها، واختاروا ترك المعاصي فتركوها، فاستحق الأولون المدح والثواب، واستحق الآخرون الذم والعقاب، ولم يجبر الله أحداً منهم على خلاف مراده واختياره، فلا عذر للعاصين إذا عصوا وقالوا إن الله قدرهم علينا فلنا بذلك العذر. فيقال لهم: إن الله قد أعطاكم المكنة والقدرة على كل ما تريدون وأنتم بزيغكم وانحرافكم أردتم الشر ففعلتموه والله قد حذركم، وهيأ لكم كل سبب يصرف عن معاصيه، وأراكم سبيل الرشد فتركتموه وسبيل الغي فسلكتموه. وإذا أردت زيادة إيضاح لهذا المقام: فإنه من المعلوم لكل أحد: أن كل فعل يفعله العبد وكل كلام يتكلم به فلا بد فيه من أمرين: قدرة منه على ذلك الفعل والقول، وإرادة منه، فمتى اجتمعا: وجدت منه الأقوال والأفعال، والله تعالى خالق أفعال العباد، والعباد هم الفاعلون لها حقيقة ... وقد دلت أدلة الكتاب والسنة الكثيرة على أن الله خالق كل شيء وعلى كل شيء قدير، وأن كل شيء بقضاء وقدر الأعيان والأوصاف والأفعال. ودلت أيضاً أدلة الكتاب والسنة أن العباد هم الفاعلون لفعلهم حقيقة بقدرتهم واختيارهم، فإنه تعالى نسب إليهم وأضاف إليهم كل ما فعلوه من إيمان وكفر وطاعة ومعصية، وأنه تعالى مكنهم من هذا، ولكنه حبب الإيمان إلى المؤمنين وزينه   1 الدرة البهية /24، 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وولى الآخرين ما تولوا لأنفسهم حيث اختاروا الشر على الخير وأسباب العقاب على أسباب الثواب، وهذا كما أنه معلوم بالضرورة فهو معلوم بالحس الذي لا يمكن أحداً المكابرة فيه، فإن العبد يفرق بين أفعاله التي يقسر ويجبر ويقهر عليها، وبين أفعاله التي يختارها ويريدها ويحب حصولها"1. وقال رحمه الله في بيان أفعال العباد: "أفعال العباد كلها من الطاعات والمعاصي داخلة في خلق الله وقضائه وقدره ولكنهم هم الفاعلون لها لم يجبرهم الله عليها مع أنها واقعة بمشيئتهم وقدرتهم فهي فعلهم حقيقة فهم الموصوفون بها المثابون والمعاقبون عليها وهي خلق الله حقيقة فإن الله خلقهم وخلق مشيئتهم وقدرتهم وجميع ما يقع بذلك، فنؤمن بجميع نصوص الكتاب والسنة الدالة على شمول خلق الله وقدرته لكل شيء من الأعيان والأوصاف والأفعال كما نؤمن بنصوص الكتاب والسنة الدالة على أن العباد هم الفاعلون حقيقة للخير والشر وأنهم مختارون لأفعالهم فإن الله خالق قدرتهم وإرادتهم وهما السبب في وجود أفعالهم وأقوالهم وخالق السبب التام خالق للمسبب، والله أعظم وأعدل من أن يجبرهم عليها"2. وهذا آخر الحديث عن القضاء والقدر، وبه نصل إلى نهاية المبحث الأول المتعلق بتوحيد الربوبية، ويجدر أن أشير إلى أن توحيد الربوبية يدخل ضمن توحيد الأسماء والصفات؛ وذلك لأن الرب اسم من أسماء الله، والربوبية صفة من صفاته، والله أعلم.   1 الدرة البهية /13، 14، 15، وانظر أيضاً الخلاصة /179، والحق الواضح المبين /8 و20. 2 سؤال وجواب /10، وانظر أيضاً: توضيح الكافية الشافية /13، 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 المبحث الثاني توحيد الأسماء والصفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 المبحث الثاني توحيد الأسماء والصفات تمهيد: إن تدبر أسماء الله وصفاته وفهمها على مراد الله منها من أهم الأمور وأجلها؛ وذلك لما في هذا العمل من الفوائد العظيمة، والثمار النافعة. لذلك فقد اشتغل علماء الإسلام قديماً وحديثاً في بيان أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وشرحها وإيضاحها، والرد على من أنكرها أو أنكر بعضها، وألفوا في ذلك مؤلفات عديدة. وكان الشيخ ابن سعدي ـ رحمه الله ـ ممن أسهم حديثاً في بيان الأسماء الحسنى والصفات العلى لما يرى في ذلك من الفوائد ولكونها من أجل العلوم وأنفعها. وقد عدد رحمه الله فوائد عظيمة يحصل عليها المشتغل بهذا العلم النافع أذكر منها ما يلي:- أولا: إن هذا العلم أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق، فالاشتغال بفهمه والبحث عنه اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب. ثانيا: إن معرفة الله تدعو إلى محبته وخشيته وخوفه ورجائه وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته والتفقه في فهم معانيها. ثالثا: إن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه وهذا هو الغاية المطلوبة منهم فالاشتغال بذلك بما خلق له العبد وتركه وتضييعه إهمال لما خلق له، وقبيح بعبد لم تزل نعم الله عليه متواترة، وفضله عليه عظيم من كل وجه أن يكون جاهلاً بربه معرضاً عن معرفته. رابعا: إن أحد أركان الإيمان بل أفضلها وأصلها الإيمان بالله وليس الإيمان مجرد قوله آمنت بالله من غير معرفته بربه، بل حقيقة الإيمان أن يعرف الذي يؤمن به ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته حتى يبلغ درجة اليقين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وبحسب معرفته بربه يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه وكلما نقص نقص، وأقرب طريق يوصله إلى ذلك تدبر صفاته وأسمائه من القرآن، والطريق في ذلك إذا مر به اسم من أسماء الله أن يثبت له ذلك المعنى وكماله وعمومه وينزهه عما يضاد ذلك. خامسا: إن العلم به تعالى أصل الأشياء كلها، حتى إن العارف به حقيقة المعرفة يستدل بما عرف من صفاته وأفعاله على ما يفعله وعلى ما يشرعه من الأحكام؛ لأنه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة بين العدل والفضل والحكمة، ولذلك لا يشرع ما يشرعه من الأحكام إلا على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته وفضله وعدله، فأخباره كلها حق وصدق وأوامره ونواهيه عدل وحكمة. وهذا العلم أعظم وأشهر من أن ينبه عليه لوضوحه1. ولهذه الفوائد العظيمة وغيرها من الفوائد التي يحصل عليها من اشتغل بفهم أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، فإن الشيخ ابن سعدي يحث على تعلمها ويبين أن الناس بأحوج ما يكونوا إليها إذ هي أعظم الضروريات. فيقول: "ولهذا فإنه لا أعظم حاجة وضرورة من معرفة النفوس بربها ومليكها الذي لا غنى لها عنه طرفة عين ولا صلاح لها ولا زكاء إلا بمعرفته وعبادته وكلما كان العبد أعرف بأسماء ربه وما يستحقه من صفات الكمال وما يتنزه عنه مما يضاد ذلك، كان أعظم إيماناً بالغيب واستحق من الثناء والمدح بحسب معرفته وموضع هذا تدبر أسمائه الحسنى التي وصف بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله فيتأملها العبد اسماً اسماً ويعرف معنى ذلك وأن له تعالى من ذلك الاسم أكمله وأعظمه وأن هذا الكمال والعظمة ليس له منتهى، ويعرف أن ما ناقض هذا الكمال بوجه من الوجوه فإن الله تعالى منزه مقدس عنه .... "2. أقسام الناس في الأسماء والصفات وبيان منهج السلف فيها: بعد أن عرفنا أهمية الاشتغال بفهم الأسماء والصفات على مراد الله منها، فلنعلم أن الناس في ذلك ثلاثة أقسام طرفان ووسط.   1 التفسير 1/24، 25، 26، والخلاصة /15 بتصرف يسير. 2 المواهب الربانية /61، 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فأما الطرفان فهم: النفاة المعطلون، والمشبهة المجسمون، وأما الوسط فهم أهل السنة والجماعة المؤمنون الموحدون. وهذا ما فصله الشيخ ابن سعدي في كتبه في أكثر من موضع حيث يقول: "الناس في هذا المقام ثلاثة أقسام: مؤمن موحد، ومشبه، ومعطلن فالمؤمن الموحد: يصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله من صفات الكمال على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته من غير تمثيل ولا تشبيه ومن غير تحريف ولا تعطيل لشيء من أوصاف الله. والمشبه: هو الذي يشبه صفات الخالق بصفات المخلوقين أو يعترض لمعرفة كنهها وحقيقتها التي لا يعلمها غير الله. والمعطل: هو من نفى شيئاً من صفات الله"1. وقد بين ابن سعدي أن كلاً من التشبيه، والتعطيل بعيدان عن الصواب وأن الطريق النافع والذي يجب أن يسلكه كل مسلم هو طريق أهل السنة والجماعة. فقال: "وكل من المعطل والمشبه قد حرم الوصول إلى معرفة الله على وجهها المطلوب، وابتلي بالتكلف والتحريف لنصوص الوحي، وكما أنه مناقض للوحي فهو مناقض لما دلت عليه العقول والفطرة التي لن يطرأ عليها التغير، فلا معقول لديهم ولا منقول. وهدى الله أهل السنة والجماعة لاتباع الحق المنقول عن الله وعن رسله، والمعقول لذوي الألباب، وذلك يظهر بتدبر ما عليه هذه الطوائف في المسائل والدلائل وتحقيقها ونسأل الله الهداية لأقوم الطرق"2. منهج السلف في الأسماء والصفات: عرفنا أن أهدى الطرق وأعدلها في الأسماء والصفات هو ما سلكه أهل السنة والجماعة من فهم لها على مراد الله منها، ولذلك أصبح منهجهم هو الذي يجب أن يحتذي ويسار عليه. ويتلخص منهج السلف في الأسماء والصفات في النقاط التالية: ـ أنهم يقرون ويعتقدون بجميع ما ثبت في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته وأفعاله.   1 الحق الواضح المبين ص 12. 2 الحق الواضح المبين ص 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ـ فيثبتون لله جميع ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال. ـ وينفون عنه جميع ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب. ـ من غير تحريف1 ولا تعطيل2،ومن غير تكييف3 ولا تمثيل4. وهذا هو المنهج الحق الذي لا مرية فيه، وقد سلك ابن سعدي هذا المنهج الحق في بيان توحيد الأسماء والصفات وسار عليه، وأطال رحمه الله في مؤلفاته في تقرير هذا المنهج والرد على من خالفه من سائر طوائف الضلال، ولا سيما في كتابيه: الحق الواضح المبين، وتوضيح الكافية الشافية. ومما قاله في تقرير هذا المسلك أنه عرف توحيد الأسماء والصفات بأنه "اعتقاد انفراد الرب جل جلاله بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة والجلال والجمال التي لا يشاركه فيها مشارك ..... وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من جميع الأسماء والصفات، ومعانيها وأحكامها، الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله من غير نفي لشيء منها ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل، ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب وعن كل ما ينافي كماله"5. لذلك كان في تفسيره للقرآن إذا مر بآيات تدل على ذلك، أشار إليها وبين وجه دلالتها على صحة هذا المنهج في أسماء الله وصفاته. فمن ذلك ما قاله عند قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 6. قال: "وهذه الآية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة من إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات، وفيها رد على المشبهة في قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وعلى المعطلة في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 7.   1 التحريف: هو تغيير ألفاظ الأسماء والصفات أو تغيير معانيها. كقولهم "استوى" بمعنى استول، وقولهم "الرحمة" إرادة الإنعام. 2 التعطيل: هو نفي الصفات وهو مأخوذ من قولهم جيد معطل أي خالي. 3 التكييف: معناه بيان الهيئة والكيفية التي تكون عليها الصفات مثل أن يقال كيف يده وكيف وجهه ... الخ. 4 التمثيل: هو التشبيه بأن يقال وجه الله كوجه المخلوق وما أشبه ذلك تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. 5 القول السديد ص 15. 6 سورة الشورى/ الآية 11. 7 التفسير 6/598. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وقال في نهاية تفسير سورة الإخلاص: "فهذه السورة مشتملة على توحيد الأسماء والصفات"1. كما أشار إلى ذلك في غير التفسير من كتبه. فقال في المواهب الربانية: "قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} اشتملت على أن الله تعالى كامل الأسماء والصفات عظيم النعوت، جليل القدر وليس له في ذلك شبيه ولا نظير ولا سمي بل قد تفرد بالكمال المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات"2. وقال في خلاصة التفسير بعد أن ذكر قصة آدم وأخذ يعدد ما يستنبط منها من فوائد، قال: " ومنها "أي الفوائد" أن فيها دلالة لمذهب أهل السنة والجماعة المثبتين لله ما أثبته لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات كلها، لا فرق بين صفات الذات ولا بين صفات الأفعال"3. وقد بين ـ رحمه الله ـ أن هذا المنهج في الأسماء والصفات هو المنهج الذي يقرره الله في كتابه، وهو المنهج الذي اتفقت عليه الرسل أجمعون. حيث يقول: " انظر إلى توحيد الله وتفرده بالوحدانية، وتوحده بصفات الكمال، كيف كانت الكتب السماوية مشحونة بها، بل هي المقصد الأعظم، وخصوصاً القرآن الذي هو من أوله إلى آخره يقرر هذا الأصل الذي هو أكبر الأصول وأعظمها. وانظر كيف اتفقت جميع الرسل والأنبياء وخصوصاً خاتمهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، على توحيد الله وأنه متفرد بالوحدانية وعظمة الصفات: من سعة العلم، وشمول القدرة والإرادة وعموم الحجة والحكمة والملك والمجد والسلطان والجلال والجمال والحسن والإحسان في أسمائه وصفاته وأفعاله"4. ومعلوم أن المنهج الذي أنزلت به الكتب واتفقت عليه الرسل هو المنهج الحق الذي لا يجوز العدول عنه، بل إن العدول عنه إلى غيره بعد وضلال واستبدال للذي هو أدنى بالذي هو خير، وكلما ازداد الإنسان رغبة في غيره من المناهج ازداد بعداً عن الطريق المستقيم، وكلما بعد عن الطريق المستقيم ازداد إلحاده في أسماء الله وصفاته.   1 التفسير 7/686، وانظر الخلاصة ص 18. 2 المواهب الربانية ص 45 وانظر التفسير أيضا 5/126. 3 الخلاصة ص 107. 4 الفتاوى ص 44، 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 والله يقول: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وأول من عدل عن هذا الطريق من طوائف الضلال هم الجهمية المنسبون إلى الجهم بن صفوان، فهم أول الطوائف إنكاراً للأسماء والصفات. قال ابن سعدي في بيان ذلك: "وكان الجهم بن صفوان معروفاً بين الأمة بهذه البدعة الشنعاء الجامعة لشرور كثيرة أعظمها وأطمها نفي صفات الله التي تواترت في الكتاب والسنة واتفق عليها جميع سلف الأمة"2. ثم أوضح رحمه الله أن جميع من جاء بعده من طوائف الضلال من معتزلة وأشعرية وكلابية وغيرهم ـ أخذوا عنه فهو رأسهم وشيخهم وسلفهم في هذا المنهج. أما أهل السنة والجماعة فقد سلمهم الله من هذا الضلال بأن وفقهم لسلوك الصراط المستقيم والمنهج القويم. قال ـ رحمه الله ـ في إيضاح ذلك: "فأخذت طوائف البدع من أقوال جهم بحسب بعدهم من مذهب السلف: ـ فطائفة أثبتت الأسماء ونفت الصفات، وهم الجهمية والمعتزلة. ـ وطائفة غلت فنفت الأسماء الحسنى. ـ وطائفة وافقت الجهمية بنفي الأفعال الاختيارية، ووافقوا السلف في إثبات الصفات السبع وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام. وهم الأشعرية والماتريدية3, ـ وطائفة أخذت بقوله إن العباد مجبورون على أفعالهم وهم الملقبون بالجبرية. ـ وطائفة وافقته في أن القرآن الموجود المحفوظ في الصدور المكتوب في المصاحف مخلوق، والمعنى القديم النفسي غير مخلوق، كالكلابية والأشعرية". ثم قال رحمه الله: "ونجى الله أهل السنة والجماعة من جميع أقواله الباطنة فأثبتوا جميع أسماء الله   1 سورة الأعراف/ الآية 180. 2 توضيح الكافية الشافية /5 3 إثبات الأشاعرة والماتريدية للصفات السبع ليس موافقاً للسلف تماماً بل بينهم تفاوت كبير وبون شاسع. وسيأتي مثال ذلك عند التحدث عن صفة الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الحسنى وما دلت عليه من الصفات العليا ولا فرق بين الصفات الذاتية المتعلقة بذاته التي لا ينفك عنها كالحياة والعلم والقدرة والإرادة ونحوها، ولا بين صفات الأفعال القائمة بذاته المتصف بها المتعلقة بمشيئته وقدرته ... "1. ومذاهب هؤلاء جميعهم مبنية على التقول على الله بغير علم وتأويل الصفات على غير المراد منها، وقد بين رحمه الله خطورة التقول على الله بغير علم، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 2. فقال ـ رحمه الله ـ: "يدخل في ذلك القول على الله بلا علم في شرعه وقدره فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله أو نفى عنه ما أثبته لنفسه أو أثبت له ما نفاه عن نفسه فقد قال على الله بلا علم. إلى أن قال: ومن أعظم القول على الله بلا علم أن يتأول المتأول كلامه، أو كلام رسوله على معاني اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال ثم يقول إن الله أرادها. فالقول على الله أكبر المحرمات أشملها وأكبر طرق الشيطان التي يدعوا إليها"3. وقال عند قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} 4: "ويدخل في هذا كل من كذب على الله بنسبه شريك له أو وصفه بما لا يليق بجلاله أو الإخبار عنه بما لم يقل"5. وبين ـ رحمه الله ـ أنه لا يتم إيمان أحد بتوحيد الأسماء والصفات حتى يترك التأويل ويؤمن بجميع الصفات على مراد الله منها فقال: "ولا يتم توحيد الأسماء والصفات حتى يعترف، ويؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة والأسماء والصفات والأفعال، وأحكامها وعلى وجه يليق بعظمة الباري، ويعلم أنه كما لا يماثله أحد في ذاته فلا يماثله أحد في صفاته، ومن ظن أن في بعض النقليات ما يوجب تأويل بعض الصفات على غير المعروف فقد ضل ضلالاً مبيناً"6. هذا وإن المتكلمين جميعهم قد جعلوا التأويل مطية لهم، فمتى رأوا النصوص تخالف قولتهم أولوها، وقالوا ظاهرها غير مراد، فحرفوا بذلك معاني نصوص الكتاب والسنة.   1 توضيح الكافية الشافية /13. 2 سورة البقرة / آية 169. 3 التفسير 1/200، 201. 4 سورة هود/ الآية 18. 5 التفسير 3/413. 6 الفتاوى /12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 قال ابن سعدي مشيراً إلى هذا الواقع: "إن المتكلمين بالكلام الباطل من جهمية ومعتزلة وقدرية وكلابية وأشعرية، قد اشتركوا في نفي صفات الباري، وقد تقاوتوا في كثرة ما ينفونه منها، وكل فريق منهم فيما ينفيه من الصفات إذا وردت عليه النصوص من الكتاب والسنة في إثباتها تأولها تأويلات تنفي ما تدل عليه من المعاني الصريحة الظاهرة الحقة، وصرفها لمعان باطلة لا تدل عليها. ثم بين الذي شجعهم على ذلك فقال: وجرأهم على ذلك التأويل أنهم سموا المعاني الفلسفية والأصول اليونانية قواطع عقلية وبراهين يقينية وأدلة الكتاب والسنة ظواهر لفظية قابلة للتأويل فسطوا عليها بالتأويلات الباطلة التي يجزم كل ذي بصيرة أنها خلاف مراد الله ورسوله منها"1. موقفه من التأويل: إن التأويل يعد من أخطر معاول الهدم للإسلام، إذ به استطاعت جميع طوائف الضلال أن تروج باطلها، فالجهمية والمعتزلة والرافضة وغيرهم لا يجدون من نصوص الكتاب والسنة ما يدل على باطلهم بل إن نصوص الكتاب والسنة صريحة في الرد عليهم؛ ولذلك لجؤوا إلى التأويل فجعلوه مطية لهم، فأولوا نصوص المخالفة لهم وقالوا: "إن ظاهرها غير مراد"، وهكذا استطاعوا إفساد عقائد كثير من الناس بهذه التأويلات الفاسدة. مما جعل علماء الإسلام قديما وحديثا يقومون بالتصدي لهذا النوع من التأويل وبيان فساده وضرره على الإسلام والمسلمين. وإن من أبرز من قام بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر مؤلفاته ولا سيما كتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل ورسالة الإكليل في المتشابه والتأويل وغيرهما لهذا يقول الدكتور محمد الجليند في كتابه الإمام ابن تيمية وقضية التأويل عن ابن تيمية أنه "أبرز مفكر إسلامي عالج هذه القضية"2. ومن علمائنا المعاصرين الذين قاموا بمعالجة هذه القضية الشيخ ابن سعدي فقد تناول ـ رحمه الله ـ هذه القضية في مواضع متعددة من مؤلفاته، وبين فساد التأويل وأنه جر وبالاً على الإسلام.   1 توضيح الكافية الشافية ص 59، 60. 2 الإمام ابن تيمية وقضية التأويل /9. ولو عبر بعالم المفكر لكان أنسب، وكتابه هذا قيم جداً في جمع وتنسيق "نقض التأويل وإبطاله" من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 قال ـ رحمه الله ـ: "ولا يرتاب عارف أن جميع المصائب التي جرت في صدر الإسلام وبعد ذلك، ووقوع الفتن والاقتتال والتحزبات كلها متفرعة عن التأويل الباطل الذي لا ينتج إلا شراً"1. ثم عدد جملة من أضراره فقال: " فالتأويل الباطل سبب فتن الأقوال والبدع الاعتقادية والفتن الفعلية، فلم يزل التأويل يتوسع وكل بدعة متأخرة تحدث من التأويلات الباطلة غير ما أحدثته التي قبلها ... "2. وقال عند تفسيره لقوله: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} ، "وفيه رد على المتكلمين من الجهمية ونحوهم ممن يرى أن كثيراً من نصوص القرآن محمولة على غير ظاهرها ولها معان غير ما يفهم منها فإذاً على قولهم لا يكون القرآن أحسن تفسيراً من غيره، وإنما التفسير الأحسن على زعمهم تفسيرهم الذي حرفوا له المعاني تحريفاً"3. أنواع التأويل: وقد صار للتأويل بسبب تعدد الاصطلاحات ثلاثة معان فصلها شيخ الإسلام في أكثر من موضع من كتبه. أحدها: أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن، كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنفين في التفسير واختلف علماء التأويل، ومجاهد إمام المفسرين إذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه فالمراد به معرفة تفسيره. الثاني: أن التأويل هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كما قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَق} 4. فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله به فيه مما يكون من القيامة والحساب والجزاء، والجنة والنار ونحو ذلك، كما قال الله تعالى في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْل} 5 فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا.   1 توضيح الكافية الشافية ص 54. 2 توضيح الكافية الشافية ص 54. 3 التفسير 5/478. 4 سورة الأعراف/ آية 53. 5 سورة يوسف/ آية 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 والثالث: أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله. وهذا التأويل في كثير من المواضع، أو أكثرها وعامتها من باب تحريف الكلم عن مواضعه1. وجميع هذه الأنواع تناولها الشيخ ابن سعدي في مؤلفاته، وقد تقدم معنا ذمه للنوع الأخير، وأما النوع الأول والثاني فقد قال عنهما: "وأما التأويل الذي يراد به تفسير مراد الله ومراد رسوله بالطرق الموصلة إلى ذلك فهذه طريقة الصحابة والتابعين لهم بإحسان وهي التي أمر الله ورسوله بها ومدح أهلها. وكذلك التأويل الذي هو بمعنى ما يؤول إليه الأمر من العمل بأمر الله ومن فهمه ما يؤول إليه الخبر فلفظ التأويل في الكتاب والسنة الغالب عليه هذان الأمران .... إلى أن قال: فتبين أن التأويل الصحيح كله يعود إلى فهم مراد الله ورسوله وإلى العمل بالخبر وأن التأويل الباطل يراد به ضد ذلك ويراد به صرف النصوص عن معناها الذي أراده الله ورسوله إلى بدعهم وضلالهم وهو من أعظم ما يدخل في القول على الله بلا علم"2. وهذا النوع الأخير تقدم معنا في كلام شيخ الإسلام أن عامته باطل؛ لذلك فإن هناك شروطاً لمن ادعى هذا النوع من التأويل إن توفرت في تأويله كان صحيحاً وإلا فهو من التأويل الباطل. وهي أربعة شروط ذكرها الشيخ ابن سعدي في توضيح الكافية الشافية: (أحدها) : أن يأتي بدليل يدل على قوله؛ لأنه خلاف الأصل فإن الأصل حمل اللفظ على ظاهره وحقيقته فمن ادعى خلاف ذلك فعليه البرهان، فإذا أتى بدليل طولب بأمر (ثاني) : وهو أن ذلك الذي تأوله إلى ذلك المعنى يحتمله؛ لأنه لا بد أن يكون بين الألفاظ والمعاني ارتباط وتناسب؛ لأنه باللسان العربي أنزله الله ليعقله العباد إذا تدبروا ألفاظه فهل يمكن أن يعقلوا أو يفهموا ما ليس له ارتباط ودلالة على المعاني من ذات اللفظ ونفس العبارة بحيث لا يحتاجون إلى أمور خارجية فإذا أتى بما يدل ويحتمل ذلك المعنى الذي عينه وهيهات له ذلك طولب بأمر (ثالث) : وهو تعيينه المعنى الذي تأول اللفظ له فهب أن ظاهره غير مراد فلا بد من دليل يعين المعنى الذي صرفه إليه ويخصصه به فإن التخصيص من دون دليل من باب التكهن والتخرص؛ لأن اللفظ   1 الرسالة التدمرية /29، الفتاوى /1 ص 68، 69. 2 توضيح الكافية الشافية /54، 55، وانظر الفتاوى السعدية /119، 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 لا يدل عليه بخصوصه، فقد يكون القصد به معنى غير الذي عينوه، وقد يكون اللفظ متعبداً بتلاوته ولفظه مجرداً عن المعاني وهو أولى من تحريفهم أو إتيانهم بمعان ما أنزل الله بها من سلطان، وإن كان الأمران ينافيان حكمة الباري لكن التعبد أهون من التحريف. فإن فرض أنه تأول على غير ظاهره وأتى بدليل على الاحتمال وعلى التعين طولب بأمر (رابع) وهو الجواب عن المعارض؛ لأن الدعوى لا تتم إلا بذلك. والمعارض للنفي هو جميع الأدلة النقلية من الكتاب والسنة والأدلة العقلية والفطرة"1. ويلاحظ أن هذه الشروط عسيرة ولا يمكن توفرها في تأويلاتهم الباطلة وبهذا يفهم قول شيخ الإسلام المتقدم عن هذه التأويلات أن عامتها باطلة. والمقصود أن الشيخ ابن سعدي كغيره من علماء أهل السنة يرى فساد هذا النوع من التأويل وبطلانه، وأما النوعان الأولان فقد بين أنهما صحيحان وأنهما متعارف عليهما عند السلف الصالح. ولذلك قال عند تفسيره لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 2. " التأويل يطلق بمعنى التفسير والعلم به، ويطلق بمعنى بيان الحقيقة التي يؤول إليها الأمر، فإن كان الأول فيكون قوله (والراسخون) معطوفاً على قوله (إلا الله) وعلى هذا فإن معناه أن المتشابه هو ضد المحكم. وهو الذي فيه احتمالات، فالرسخون في العلم يفهمونه ويرجعونه إلى المحكم، فالنص الصريح يقضي على النص الذي فيه عدة احتمالات. وإن كان الثاني: فالتأويل الذي هو بمعنى نفس حقيقة المخبر عنه من صفات اليوم الآخر لا يعلم كنه ذلك وكيفيته إلا الله تعالى، فيكون الوقوف على (إلا الله) ويكون معنى قوله (والراسخون في العلم) بمعنى أنهم يفوضون معرفة الكنه والكيفية   1 توضيح الكافية الشافية /55. 2 سورة آل عمران/ آية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 إلى الله، ويقولون (آمنا به كل من عند ربنا) أي: وما كان من عند ربنا فهو حق، سواء عرفنا كنهه أم لا. وكلا القولين صحيح، وقد قال بكل منهما طائفة من السلف، والجمع بينهما على ما ذكرنا من اختلاف معنى التأويل أولى وأحسن"1. كلامه في ذم الإلحاد في أسماء الله:- إن النوع الباطل من التأويل يعد من الإلحاد في أسماء الله ومن الميل والعدول بها عن مرادها، وقد حذر الله عز وجل في كتابه من الإلحاد في أسمائه أشد التحذير، بعد أن بين أن له الأسماء الحسنى، فقال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. فالواجب على كل مسلم أن يقر ويعترف بجميع ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله من صفات الكمال وأن ينفي عنه ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه رسوله من صفات النقص من غير إلحاد فيها وذلك بأن يحرفها أو يعطلها عن معانيها أو يشبهها بأوصاف المخلوقين أو يكيفها أو غير ذلك من أنواع الإلحاد. بل الواجب أن يثبتها على مراد الله وأن يحذر غاية الحذر من الإلحاد فيها. والإلحادُ في أسماء الله له أنواع متعددة: أـ أن يسمى بها من لا يستحقها مثل تسمية المشركين أصنامهم بأسماء الله فسموا العزى من العزيز واللات من إله وهكذا. ب ـ أن تعطل عن معانيها كقول المعتزلة سميع بلا سمع بصير بلا بصر. جـ ـ أن يشبه بها غيره؛ كقول المشبهة يد كأيدينا. د ـ أن يحاول تكييفها ومعرفة كنهها. وكل هذه الأنواع ترجع إلى الميل بها عن مراد الله منها، وقد ذم الشيخ ابن سعدي الإلحاد في أسماء الله وصفاته وحذر منه بجميع أنواعه، وبين أن نفي الإلحاد عن أسماء الله وصفاته من تمام الإيمان بها. فقال رحمه الله (ونفي الإلحاد في أسماء الله وصفاته من تمام إثبات صفات الكمال   1 الفتاوى /119، 120، وانظر التفسير 1/358، الخلاصة 174. 2 سورة الأعراف/ الآية 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وتفرد الرب بنعوت العظمة والجلال، فعلى العبد المؤمن أن يحققها علماً وتعبداً لله بها ونفياً للإلحاد فيها"1. وقال: " فالواجب أن يحذر الإلحاد فيها ويحذر الملحدون فيها"2. وقال في بيان حقيقة الإلحاد وأنواعه "وحقيقة الإلحاد في أسماء الله وصفاته الميل بها عما جعلت له. إما بأن يسم بها من لا يستحقها، كتسمية المشركين بها لآلهتهم، وإما بنفي معانيها وتحريفها، وأن يجعل لها معنى ما أراده الله ولا رسوله وإما أن يشبه بها غيرها"3. فالواجب إذاً على المسلم أن يسلك في أسماء الله وصفاته ما سلكه السلف الصالح من صحابة وتابعين من فهم لها على مراد الله منها ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد وضع لهذا المنهج قواعد مبينة له وبها يسهل معرفته. قواعد في الأسماء والصفات:- بيان أهمية القواعد واهتمام السعدي بها: إن معرفة القواعد وإتقانها من أهم العلوم وأعظمها فائدة؛ وذلك أن القواعد يسهل حفظها فإذا حفظت وفهمت يمكن التفريع عليها؛ لذلك اعتنى العلماء بوضع القواعد في جميع الفنون، وليس هناك فن إلا وتجد له قواعد وأصولاً كثيرة تنتهج. وقد اعتنى ابن سعدي بتدوين القواعد الكلية وأشار إلى أهميتها وفوائدها في غير موضع، ومن ذلك قوله: "ومعلوم أن الأصول والقواعد للعلوم بمنزلة الأساس للبنيان والأصول للأشجار لا ثبات لها إلا بها، والأصول تبنى عليها الفروع، والفروع تثبت وتقوى بالأصول، وبالقواعد والأصول يثبت العلم ويقوى وينمى نماءً مطرداً، وبها تعرف مآخذ الأصول، وبها يحصل الفرقان بين المسائل التي تشتبه كثيراً كما أنها تجمع النظائر والأشباه التي من جمال العلم جمعها ولها من الفوائد الكثيرة غير ما ذكرنا"4.   1 توضيح الكافية الشافية /97. 2 التفسير 3/122، الحق الواضح المبين /55، 56. 3 التفسير 3/122. 4 طريق الوصول /4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ومما يؤكد اهتمام الشيخ واعتناءه بها أنه أفرد ثلاثة كتب من مؤلفاته خصها بذكر القواعد الكلية الجامعة. وهي: كتاب طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول وكتاب القواعد والأصول الجامعة، والفروع والتقاسيم والبديعة النافعة، وكتاب القواعد الحسان لتفسير القرآن، وله منظومة في القواعد الفقهية. لهذا سأذكر جملة من القواعد في الأسماء والصفات التي اختارها ابن سعدي وتعرض لها في مؤلفاته. وهي جملة من القواعد انتقاها الشيخ واختارها من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية. وأذكر بيانه لها؛ وذلك لأن تقرير القواعد وتأصيلها من منهجه كما تبين، ولا سيما في مجال العقيدة. وهذه القواعد الآتية وإن كانت ليست من استنتاج الشيخ إلا أن ذكره لها وعنايته بشرحها وتوضيحها يدل على شدة اهتمامه بالقواعد. القاعدة الأولى: (أسماء الله كلها حسنى) . هذه القاعدة من القواعد الثابتة المتقررة في الشريعة المتفق عليها عند السلف الصالح، وقد ورود في القرآن الكريم عدة نصوص تدل على هذه القاعدة، منها: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 2. وقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3. وهذه القاعدة من القواعد التي اهتم بها ابن سعدي وتناولها بالشرح والإيضاح.   1 سورة الأعراف/ الآية 180. 2 سورة الإسراء/ الآية 110. 3 سورة طه/الآية 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 قال رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 1 "هذا بيان لعظيم جلاله وسعة أوصافه بأن له الأسماء الحسنى"2. وقال عند قوله تعالى: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3 "أي له الأسماء الكثيرة جداً، التي لا يحصيها ولا يعلمها أحد إلا هو ومع ذلك فكلها حسنى"4. وقال في بيان وجه كونها حسنى هو "أن كل اسم دل على صفة كمال عظيمة، وبذلك كانت حسنى. فإنها لو دلت على غير صفة، بل كانت علماً محضاً لم تكن حسنى، وكذلك لو دلت على صفة، ليست بصفة كمال بل إما صفة نقص أو صفة منقسمة إلى المدح والقدح لم تكن حسنى. فكل اسم من أسمائه دال على جميع الصفة التي اشتق منها مستغرق لجميع معناها، وذلك نحو "العليم" الدال على أن له علماً محيطاً عاماً لجميع الأشياء، فلا يخرج عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء"5. وقال: "ومن حسنها أنه أمر العباد أن يدعوه بها، لأنها وسيلة مقربة إليه يحبها ويحب من يحبها ويحب من يحفظها، ويحب من يبحث عن معانيها ويتعبد له بها"6. القاعدة الثانية:- (أسماء الله كلها توقيفية) . ومعنى ذلك أنه ليس هناك وسيلة لمعرفة أسماء الله وصفاته إلا عن طريق الرسل الذين يبلغون عن الله. وذلك أن الإيمان بالله وصفاته من الإيمان بالغيب، ولا يمكن معرفة الغيب إلا عن طريق الوحي وقد أثنى الله عز وجل على المؤمنين الذين يؤمنون بالغيب وبين أن الإيمان بالغيب من صفات المتقين، فقال سبحانه: {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 7.   1 سورة الأعراف/ الآية 180. 2 التفسير 3/120. 3 سورة طه/ الآية110، وسورة الحشر/ الآية 24. 4 التفسير 7/346، و5/145. 5 التفسير 3/120، 121، وانظر الحق الواضح المبين /55. 6 التفسير 5/145. 7 سورة البقرة/ الآيات 1، 2، 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ومن هنا يعلم أن أسماء الله وصفاته لا مجال للعقل فيها، فلا يجوز أن يوصف الله عز وجل إلا بما ورد في الكتاب والسنة. ولو وصف أحد الله عز وجل بصفة لم ترد في الكتاب والسنة فقد تقول على الله بلا علم، وافترى على الله الكذب، قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 1. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} 2. يقول الشيخ ابن سعدي في بيان هذه القاعدة: "فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله أو نفى عنه ما أثبته لنفسه أو أثبت له ما نفاه عن نفسه فقد قال على الله بلا علم"3. قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 4. (أسماء الله الحسنى كلها أعلام وأوصاف دالة على معانيها وكلها أوصاف مدح وحمد وثناء) 5. ومعنى ذلك أن أسماء الله ليست أعلام محضة لا تدل على معاني كما يقول ذلك المعتزلة، فالمعتزلة أثبتوا لله الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفة، ومنهم من قال عليم بلا علم قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات6. بل هي أعلام وأوصاف. ولو كانت أسماؤه تعالى أعلاما محضة بدون معاني لم تكن حسنى، ومن قال بذلك فقد عطل أسماء الله عن معانيها. ولا يتم الإيمان بالأسماء والصفات إلا بترك التعطيل.   1 سورة/ الآيتان 168، 169 2 سورة هود/ الآية 18. 3 التفسير 1/200، 102، وانظر أيضا التفسير 3/413، والمواهب الربانية /61. 4 سورة الإسراء/ الآية 36. 5 هذه القاعدة قد تكون بمثابة التوضيح والبيان للقاعدة الأولى. 6 الفتاوى لابن تيمية 3/8، والرسالة التدمرية له /13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 قال ابن سعدي في بيان هذه القاعدة "إن أسماء الله الحسنى كلها أعلام وأوصاف دالة على معانيها وكلها أوصاف مدح وحمد وثناء ولذلك كانت حسنى فلو كانت أعلاماً محضة لم تكن حسنى .... إلى أن قال: فصفاته كلها صفات كمال محض فهو موصوف بأكمل الصفات، وله أيضا من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه"1. القاعدة الرابعة:- (يجب الإيمان بأسماء الله وصفاته وأحكام الصفات) . فهذه ثلاثة أركان للإيمان بأسماء الله وصفاته: 1ـ أن يؤمن بالأسماء الحسنى. 2ـ وأن يؤمن بما دلت عليه من الصفات. 3ـ أن يؤمن بأحكام تلك الصفات ومتعلقاتها. وبيان ذلك يظهر بالأمثلة: فمثلاً الرحمن اسم من أسماء الله والرحمة صفة من صفاته وأنه يرحم من يشاء. والقدير اسم من أسماء الله والقدرة صفة من صفاته وأنه يقدر بها على فعل كل شيء. وهكذا في بقية أسماء الله الدالة على أوصاف متعدية. أما إن كانت تدل على وصف غير متعد فإنها تتضمن أمرين: ـ إثبات الاسم لله. ـ وإثبات الصفة التي تضمنها. ومثاله الحي والقيوم. وهذه القاعدة أشار إليها ابن سعدي في أكثر من موضع من مؤلفاته قال رحمه الله: إن من قواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها ما دل عليه الكتاب والسنة من الإيمان بأسماء الله كلها وصفاته جميعها وبأحكام تلك الصفات فيؤمنون مثلاً بأنه رحمن رحيم ذو الرحمة العظيمة التي اتصف بها المتعلقة بالمرحوم فالنعم كلها من آثار رحمته. وهكذا يقال في سائر الأسماء الحسنى فيقال عليم ذو علم عظيم يعلم به كل شيء قدير ذو قدرة يقدر على كل شيء. فإن الله قد أثبت لنفسه الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأحكام تلك الصفات.   1 الحق الواضح المبين /55،، وانظر توضيح الكافية الشافية /96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فمن أثبت شيئاً منها، ونفى الآخر كان مع مخالفته للنقل والعقل متناقضاً مبطلاً"1. القاعدة الخامسة: (دلالة الأسماء على الذات والصفات تكون بالمطابقة والتضمن والالتزام) . قال ابن سعدي رحمه الله: "وهذه القاعدة من أجل القواعد وأنفعها وتستدعي قوة فكر، وحسن تدبر وصحة قصد ..... إلى أن قال: والطريق إلى سلوك هذا الأصل النافع أن تفهم ما دل عليه اللفظ من المعاني، فإذا فهمتها فهماً جيداً، ففكر في الأمور التي تتوقف عليها ولا تحصل بدونها وما يشترط لها، وكذلك فكر فيما يترتب عليها وما يتفرع عنها وينبغي عليها، وأكثر من هذا التفكير وداوم عليه حتى يصير لك ملكة جيدة في الغوص على المعاني الدقيقة فإن القرآن حق ولازم الحق حق وما يتوقف على الحق حق، وما يتفرع عنه الحق حق، ذلك كله حق ولا بد"2. وضرب لذلك مثلاً فقال: "الرحمن الرحيم تدل بلفظها على وصفه بالرحمن، وسعة رحمته فإذا فهمت أن الرحمة التي لا يشبهها رحمة: هي وصفه الثابت وأنه أوصل رحمته إلى كل مخلوق، ولم يخل أحد من رحمته طرفة عين، عرفت أن هذا الوصف يدل على كمال حياته، وكمال قدرته وإحاطة علمه، ونفوذ مشيئته، وكمال حكمته لتوقف الرحمة على ذلك كله، ثم استدللت بسعة رحمته على أن شرعه نور ورحمه؛ ولهذا يعلل الله تعالى كثيراً من الأحكام الشرعية برحمته وإحسانه، لأنها من مقتضاها وأثرها"3 وقال في كتابه الحق الواضح المبين بعد أن ذكر هذه القاعدة "وهذا يجري في جميع الأسماء الحسنى، كل واحد منها يدل على الذات وتلك الصفة دلالة مطابقة، ويدل على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمن، ويدل على الصفة الأخرى اللازمة لتلك المعاني دلالة التزام. مثال ذلك: الرحمن: يدل على الذات وحدها وعلى الرحمة دلالة تضمن، وعلى الأمرين دلالة   1 الخلاصة /7، وانظر الفتاوى السعدية /11، وسؤال وجواب /6، والتفسير 1/33، 34، والقواعد الحسان /110، والتنبيهات اللطيفة /20. 2 القواعد الحسان /31 بتصرف يسير. 3 القواعد الحسان /32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 مطابقة ويدل على الحياة الكاملة والعلم المحيط والقدرة التامة ونحوها دلالة التزام؛ لأنه لا توجد الرحمة من دون حياة الراحم وقدرته الموصلة لرحمته للمرحوم وعلمه به وبحاجته"1. وقال في موضع آخر مشيراً إلى أهمية هذه القاعدة "وهذه القاعدة تنفعك في جميع النصوص الشرعية فدلالتها الثلاث كلها حجة؛ لأنها معصومة محكمة"2. القاعدة السادسة: (أسماء الله غير محصورة في عدد معين) . وهذه القاعدة دلت عليها نصوص كثيرة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم منها:- ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان وهو يقول "اللهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك. أنت كما أثنيت على نفسك"3. ووجه الدلالة في هذا الحديث "أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا يحصي ثناء عليه، ولو أحصي جميع أسمائه لأحصى صفاته كلها فكان يحصي الثناء عليه؛ لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه"4. ومنها: ما ورد في حديث الشفاعة الطويل أنه صلى الله عليه وسلم، قال "ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي"5. ووجه الدلالة من هذا الحديث أن هناك محامد من أسماء الله وصفاته ويفتح الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، وهي بلا شك غير المحامد المأثورة في الكتاب والسنة. ومنها: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أصاب عبداً هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضي في حكمك عدل في قضاؤك أسلك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل   1 الحق الواضح المبين /54، 55، وانظر التفسير 2/174. 2 توضيح الكافية الشافية /97. 3 مسلم 1/352، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود. 4 درء تعارض العقل والنقل 3/322، 333. 5 أخرجه البخاري 5/226، والترمذي 4/624، من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا" 1. والشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "أو استأثرت به في علم الغيب عندك" حيث "دل على أن أسماءه أكثر من تسعة وتسعين، وأن له أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره"2. وبهذا يتبين أن أسماء الله غير محصورة في عدد معين، وهذا هو قول جمهور العلماء، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم3. فهو يرى أنها محصورة بتسعة وتسعين اسما. واستدل على ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحدة، من أحصاها دخل الجنة"4. فهو يرى أن هذا الحديث أفاد الحصر5. ولا دلالة في الحديث لما ذهب إليه؛ لأن الحديث لا يفيد الحصر. يقول ابن القيم رحمه الله: "فقوله إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد، من أحصاها دخل الجنة، لا ينفي أن يكون له غيره، والكلام جملة واحدة أي له أسماء موصوفة بهذه الصفة، كما يقال لفلان مائة عبد أعدهم للتجارة وله مائة فرس أعدها للجهاد"6. وأيضا فإن الأحاديث المتقدمة أفادت عدم الحصر. هذا وقد تناول ابن سعدي رحمه الله هذه القاعدة في مواطن متعددة وبين أن معنى الإحصاء للأسماء الحسنى الواردة في الحديث المتقدم هو فهمها وحفظها والاعتراف بها ودعاء الله بها7.   1 أخرجه أحمد 1/391، والحاكم 1/509، وغيرهما. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/136: "رواه أحمد وأبو يعلي والبزار إلا أنه قال وذهاب غمي مكان همي، والطبراني، ورجال أحمد وأبي يعلي رجال الصحيح غير الجهني وقد وثقه ابن حبان" أ. هـ. 2 شفاء العليل لابن القيم /277. 3 شفاء العليل لابن القيم /277، والتلخيص الحبير لابن حجر 3/174. 4 أخرجه البخاري 8/169، ومسلم 2/2062، عن أبي هريرة رضي الله عنه. 5 الفصل لابن حزم 2/345. 6 شفاء العليل لابن القيم /277، وانظر أيضاً في ذلك درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 3/332، والفتاوى لابن تيمية 22/486. 7 انظر طريق الوصول /308، والمواهب الربانية /62، والحق الواضح المبين /13، والخلاصة /18، والتفسير 7/346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 كما اهتم رحمه الله بشرح الأسماء الحسنى وتوضيحها، وعقد لذلك فصلاً خاصاً في تفسيره، بين في مقدمته أن الحاجة داعية إلى التنبيه إلى معاني الأسماء الحسنى، ثم أخذ يذكرها اسماً اسماً ويشرحها بإيجاز"1. والمقصود أن من أهم القواعد الثابتة في الأسماء والصفات، أن أسماء الله الحسنى غير محصورة في عدد معين. القاعدة السابعة: (المضافات إلى الله إذا كانت أعياناً فهي من جملة المخلوقات وإذا كانت أوصافاً فهي من صفات الله) . وبيان ذلك أن المضافات إلى الله تكون على نوعين: الأول: أعيان مثل عبد الله، بيت الله، ناقة الله، فهذه أعيان قائمة بأنفسها فهي إذاً من جملة المخلوقات، وإضافتها إلى الله تقتضي تفضيلها وتشريفها على غيرها من المخلوقات. الثاني: أوصاف مثل سمع الله، بصر الله، قدرة الله، علم الله. فهذه الإضافة تقتضي أن هذه الصفة قائمة بالله. وأن الله متصف بها. وقد أشار ابن سعدي إلى هذه القاعدة وأوضحها فقال: "والذي يضيفه الله إلى نفسه، إما أعيان يخصها بهذه الإضافة المقتضية للاختصاص والتشريف مثل عبد الله وناقة الله وبيت الله، ومثله {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} 2 فهذه أعيان قائمة بأنفسها وهي من جملة المخلوقات لكنه أضافها لنفسه تفضيلاً لها على غيرها وتعظيماً. وإما إضافة أوصاف كعلم الله وقدرته وإرادته، وكذلك كلامه وحياته. فهذه الإضافة تقتضي قيامها بالله وأنه موصوف بها. وكذلك ما أخبر أنه منه. فإن كان أعياناً كروح منه {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 3. فهذه منه خلقاً وتقديراً. وإن كان ذلك أوصافاً كقوله {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} 4. دل على أن ذلك من   1 التفسير 5/620، وما بعدها. 2 سورة الفرقان/ آية 63. 3 سورة الجاثية/ آية 13. 4 سورة الزمر/ آية 1 وفي غيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 صفاته لامتناع قيام الصفة بنفسها"1. ثم أشار ـ رحمه الله ـ إلى أهمية هذه القاعدة فقال "ولهذا لما اهتدى السلف لهذا الفرق الذي يحصل به الفرقان بين الحق والباطل هدوا إلى الصراط المستقيم، ولما ضل عنه الجهمية ونحوهم وقعوا في الأقوال الباطلة"2. القاعدة الثامنة: (الإيمان بالأسماء والصفات يدور على أصلين: النفي المجمل، والإثبات المفصل) بيان ذلك: أن المؤمن بأسماء الله وصفاته لا بد أن يكون إيمانه مبنياً على هذين الأصلين: الأول: الإثبات المفصل: وهو أن يثبت لله جميع ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال، على وجه التفصيل أي أن كل ما ورد في الكتاب والسنة من الصفات الثبوتية كالسمع والبصر والحياة والقدرة والإرادة وغيرها، فإنه يثبتها لله عز وجل على الوجه اللائق به. الثاني: النفي المجمل: وهو أن ينفي عن الله كل ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات النقص، وأن يثبت له ضد هذه الصفة المنفية؛ لأن النفي المحض لا يكون كمالا. وماثل ذلك إذا نفى الشريك عن الله فإنه يثبت له التوحيد بالكمال وإذا نفى الولد والمكافئ عن يثبت له الكمال المطلق وهكذا. والمنفي عن الله نوعان: متصل، ومنفصل: فنفي المتصل: هو أن ينفي عن الله ما يناقض ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من كل ما يضاد الصفات الكمالية. مثل تنزيه الله: عن السنة والنوم واللغوب والنعاس. ونفي المنفصل: وهو أن ينفي عن الله الشريك في خصائصه التي لا تكون لغيره من التوحيد والتفرد كالكمال مثل: تنزيه الله عن أن يكون لله صاحبة أو ولد أو شريك في الملك.   1 توضيح الكافية الشافية /31. 2 توضيح الكافية الشافية/31 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وهذه قاعدة جليلة نافعة شاملة لجميع الأسماء والصفات وقد بين ابن سعدي هذه القاعدة بأنواعها، وأطال في شرحها في مواضع متعددة وبين أهميتها. فقال: "وهذا النوع ـ توحيد الأسماء والصفات ـ مبني على أصلين عظيمين: أحدهما: تنزيه الباري وتقديسه عما لا يليق بجلاله، وما ينافي كماله عن أمور ثلاثة: عن تشبيهها بصفات المخلوقين أو نفيها عن الله، أو نفي بعض معانيها؛ فيعلم أن له الكمال المطلق غايته ومنتهاه وأكمله فهو المنزه عن الشريك والظهير والعوين والشفيع بلا إذنه، وهو الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وهو المنزه عن السنة والنوم والموت والتعب واللغوب، وأن يغيب عن سمعه أو بصره أو علمه شيء، وهو المنزه عن كل ما ينافي كماله وعظمته وجلاله. والثاني: وهو المقصود الأعظم، وما مضي وسيلة وتتميم له، فإن جميع ما ينزه الله عنه فإنما ذلك لأجل ثبوت ضده، وهذا النوع على إثبات جميع صفات الله الموجودة في الكتاب والسنة والأسماء الحسنى ومعانيها على وجهها والتفقه في معرفة معانيها والتحقق بها تصديقاً ومعرفة وتعبداً لله بها"1. وبين ـ رحمه الله ـ أن النفي نوعان فقال: "ما ينزه الله عنه من النقص نوعان: سلب المتصل: وضابطه نفي ما يناقض ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله من كل ما يضاد الصفات الكاملة. وسلب المنفصل: وضابطه وتنزيه رب العالمين عن أن يشاركه أحد من الخلق في خصائصه التي لا تكون لغيره من التوحد والتفرد بالكمال وأن يفرد بالعبودية"2. وبين أن النفي إذا كان محضا لا يكون من صفات الكمال: فقال: "النفي نفي ذلك النقص المصرح به وإثبات ضده ونقيضه"3. والمقصود أن هذه قاعدة هامة، وقد أشار ابن سعدي ـ رحمه الله ـ إلى أهميتها فقال: بعد أن ذكر هذه القاعدة:   1 توضيح الكافية الشافية/84، 85 وانظر التنبيهات اللطيفة /12، والحق والواضح المبين /5 وما بعدها. 2 الحق الواضح المبين /6. 3 الخلاصة / 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 " وهذا ضابط نافع في كيفية الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته"1. وقال في موضع آخر: "وهذه فائدة عظيمة فاحفظها في خزانة قلبك فإنها خير الكنوز وأنفعها"2. وإليك جملة من الأمثلة في أمور ينزه الله عنها مع بيان ابن سعدي لها: ـ الله منزه من النسيان والغفلة، قال ابن سعدي رحمه الله: "وينزه عن الغفلة والنسيان بوجه من الوجوه؛ لأنه عالم الغيب والشهادة وعلمه محيط لا يعرض له ما يعرض لعلم المخلوق من خفاء بعض المعلومات أو نسيانها والذهول عنها"3. قال تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 4. ـ ومنزه عن الاحتياج إلى الرزق والطعام قال رحمه الله: "وينزه عن احتياجه إلى الطعام والرزق فإنه تعالى هو الرزاق لجميع الخلق الغني عنهم وكلهم فقراء إليه قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 5، {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} 6" 7. ـ ومنزه عن الظلم: قال رحمه الله: "وينزه الباري عن الظلم للعباد بأن يزيد في سيئاتهم أو ينقص من حسناتهم أو يعاقبهم على ما لم يفعلوا فإن الظالم لا يفعله إلا من هو محتاج إليه أو من هو موصوف بالجور، وأما الله الغني عن خلقه من جميع الوجوه الحكم العدل الحميد، فما له وظلم العباد. قال الله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد} 8"9. ـ ومنزه عن العبث: قال رحمه الله "ويجب تنزيه الله عن العبث في الخلق والأمر فلم يخلق شيئاً عبثاً ولا باطلاً ولا شرع شيئاً إلا لحكمة عظيمة؛ لأنه حكيم حميد فمن تمام حكمته وحمده إتقان المصنوعات وإحكامها وإحكام الشرائع على أكمل وجه وأتمه" 10.   1 التنبيهات اللطيفة /12. 2 الخلاصة /177. 3 الحق الواضح المبين/10 4 سورة طه/ آية 52. 5 سورة الذاريات/ الآيات 56، 57، 58. 6 سورة الأنعام/ الآية 14. 7 الحق الواضح المبين/10، 11 والتفسير 7/182. 8 سورة فصلت/ آية 46. 9 الحق الواضح المبين/10 10 الحق الواضح المبين/10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 القاعدة التاسعة: (القول في بعض الصفات كالقول في بعضها) وهي قاعدة يرد بها على من فرق بين الصفات فأثبت بعضها ونفى البعض أو أثبت الأسماء دون الصفات. فمثلا الذي ينازع في محبة الله ورضاه فيجعلها مجازاً ويفسرها بالإرادة يقال له: لا فرق بين ما نفيته وما أثبته بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قال إرادته مثل إرادة المخلوق قيل وكذلك محبته ورضاه وهذا هو التمثيل، وإن قال: له إرادة تليق به كما أن للمخلوق إرادة تليق به يقال له: وكذلك له محبة تليق به وللمخلوق محبة تليق به. وهكذا يقال في سائر الصفات لمن فرق بينها. وهؤلاء الذين فرقوا بين الصفات فأثبتوا بعضها ونفوا الآخر فروا من شيء ووقعوا في شر منه. ولو أنهم ساروا في الصفات على منهج واحد فأثبتوها جميعها على الوجه اللائق بالله لسلموا"1. وقد أشار ابن سعدي إلى هذه القاعدة فقال: "يقال لمن أثبت بعض الصفات ونفى بعضاً، أو أثبت الأسماء دون الصفات، إما أن تثبت الجميع كما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله، وإما أن تنفي الجميع وتكون منكراً لرب العالمين. وأما إثباتك بعض ذلك ونفيك لبعضه فهذا تناقض، ففرق بين ما أثبته وبين ما نفيته ولن تجد إلى الفرق سبيلا، فإن قلت ما أثبته لا يقتضي تشبيها، قال لك أهل السنة والإثبات: لما نفيته لا يقتضي تشبيهاً فإن قلت لا أعقل من الذي نفيته إلا التشبيه قال لك النفاة: ونحن لا نعقل من الذي أثبته إلا التشبيه فما أجبت به النفاة أجابك به أهل السنة لما نفيته"2. ثم بين تناقض من فرق بين الصفات وأنه ليس معه حجة فقال: "والحاصل أن من نفى شيئاً مما دل الكتاب والسنة على إثباته فهو متناقض لا يثبت له دليل شرعي ولا عقلي بل خالف المعقول والمنقول"3. القاعدة العاشرة: (القول في الصفات كالقول في الذات) . وذلك أن الله سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله،   1 الرسالة التدميرية / 11، وما بعدها. 2 التفسير 1/258، وانظر: طريق الوصول/7. 3 التفسير 1/258، وانظر طريق الوصول /7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 فإذا كان له ذات حقيقية لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل الصفات1. وهذه القاعدة من القواعد التي نبه ابن سعدي عليها؛ قال رحمه الله: "فإن زعموا أن إثباتها يدل على التشبيه بخلقه، قيل الكلام على الصفات، يتبع الكلام على الذات فكما أن لله ذاتاً لا تشبه الذوات، فلله صفات لا تشبهها الصفات فصفاته تبع لذاته، وصفات خلقه تبع لذواتهم فليس في إثباتها ما يقتضي التشبيه بوجه"2. القاعدة الحادية عشرة: (معاني الصفات معلومة وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب والسؤال عن كيفيتها بدعة) . سئل الإمام مالك رحمه الله وغيره من السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فقال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة". فبين رحمه الله أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهولة، وجميع صفات الله يقال فيها هذه القاعدة فمن سئل عن العلو يقال علو الله على خلقه معلوم وكيفيته مجهولة، والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب. وهكذا بقية الصفات. وقد نبه ابن سعدي إلى هذه القاعدة وبين أن من سأل عن كيفية الاستواء على العرش: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة"؟ فمن سأل عن كيفية علم الله أو كيفية خلقه وتدبيره قيل له فكما أن ذات الله تعالى لا تشبهها الذوات فصفاته لا تشبهها الصفات، فالخلق يعرفون الله ويعرفون ما تعرف لهم به من صفاته وأفعاله، وأما كيفية ذلك فلا يعلم تأويله إلا الله"3.   1 التدمرية لابن تيمية /15. 2 التفسير 1/257، وانظر طريق الوصول /6. 3 بهجة قلوب الأبرار /219، وانظر طريق الوصول /8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 كلامه في تقسيم الصفات: بعد ذكر هذه القواعد الهامة في أسماء الله وصفاته وتوضيح ابن سعدي لها، أرى من المناسب أن أذكر المنهج الذي يراه السلف من أن صفات الله تنقسم إلى قسمين ذاتية وفعلية، وقد بين أن هذا أصل متفق عليه بين السلف كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة. قال: "ومن الأصول المتفق عليها بين السلف التي دلت عليها النصوص أن صفات الباري قسمان: ـ صفات ذاتية لا تنفك عنها الذات كصفة الحياة والعلم، والقدرة والقوة والعزة، والملك، والعظمة، والكبرياء، ونحوهما كالعلو المطلق. ـ وصفات ذاتية لا فعلية: تتعلق بها أفعاله في كل وقت وآن وزمان ولها آثارها في الخلق والأمر فيؤمنون بأنه تعالى فعال لما يريد وأنه لم يزل ولا يزال يقول ويتكلم ويخلق ويدبر الأمور وأن أفعاله تقع شيئا فشيئا تبعا لحكمته وإرادته، فإن شرائعه وأوامره ونواهيه الشرعية لا تزال تقع شيئا فشيئاً.. إلى أن قال: فعلى المؤمن الإيمان بكل ما نسبه الله لنفسه من الأفعال المتعلقة بذاته كالاستواء على العرش والمجيء والإتيان والنزول إلى السماء الدنيا والقول ونحوها، والمتعلقة بخلقه كالخلق والرزق وأنواع التدبير"1. وبين أن صفات الأفعال قائمة بذات الله ومتعلقة بما ينشأ عنها من الأقوال والأفعال2. وذم من خلف هذا التقسيم من أهل الكلام فقال: "أما تقسيم3 بعض أهل الكلام الباطل أن صفات الأفعال لا تقوم بذات الله بل الفعل عندهم عين المفعول، فهذا قول باطل بالكتاب والسنة والإجماع من السلف ...... "4. وقول أهل الكلام هذا مخالف لما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من عدم التفريق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية المتعلقة بمشيئة الله وقدرته. ولذا يقول ابن سعدي رحمه الله: " أما أهل السنة والجماعة فإنهم أثبتوا كل ما جاء   1 التنبيهات اللطيفة /20، 21. 2 الحق الواضح المبين/52، والفتاوى السعدية /11. 3 كذا قال ولم يورد تقسيما فالأولى أن يقال أما القول ....... الخ. 4 الحق الواضح المبين/52، وتوضيح الكافية الشافية /30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 به الكتاب والسنة من صفات الله، واعترفوا بها لا فرق عندهم بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية المتعلقة بمشيئته وقدرته، وكلها قائمة بالله، والله موصوف بها، وهو القول الذي دل عليه النقل والعقل"1. وقسم رحمه الله صفات الأفعال إلى قسمين: قسم متعلق بذات الله والآخر متعلق بخلقه فقال: (جميع صفات الأفعال المتعلقة بذاته كالاستواء على العرش ونزوله إلى سماء الدنيا على ما وردت به النصوص والمجيء والإتيان والقول ونحو ذلك والمتعلقة بخلقه كالإحياء والإماتة والخلق وأنواع التدبيرات كلها تصدر عن القدرة والإرادة"2. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الصفات قد تكون ذاتية باعبتار وفعلية باعتبار آخر. كصفة الكلام مثلاً: فإنها باعتبار أصلها صفة ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال متكلماً، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية لأن الكلام متعلق بمشيئة الله يتكلم بما شاء متى شاء3. وفيما يلي سأذكر جملة من الصفات الذاتية، وجملة أخرى من الصفات الفعلية وأذكر كلام ابن سعدي عنها: وقد نهج ـ رحمه الله ـ في إثبات الصفات منهج السلف الصالح من فهم النصوص على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم منها، وهذا هو المنهج الحق والمسلك المستقيم. أولاً: ذكر جملة من الصفات الذاتية وكلام الشيخ عنها: أـ من الصفات الذاتية الحياة قال ابن سعدي في إثبات هذه الصفة: "الحي الذي له جميع معاني الحياة الكاملة من السمع والبصر والقدرة وغيرها من الصفات الذاتية"4، "والحي يتضمن جميع الصفات الذاتية"5. ب ـ ومنها السمع قال رحمه الله: "فالسميع الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات،   1 الحق الواضح المبين/53، وانظر توضيح الكافية الشافية/ 13، والتفسير 1/256. 2 الحق الواضح المبين/23. 3 انظر الحق الواضح المبين/ 23. 4 التفسير 1/313، توضيح الكافية الشافية /21، وغيرهما. 5 الخلاصة /13. وانظر توضيح الكافية الشافية/46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها سرها وعلنها وكأنها لديه صوت واحد لا تختلط عليه الأصوات ولا تخفى عليه جميع اللغات والقريب والبعيد والسر والعلانية عنده سواء"1. جـ ـ ومنها البصر: قال رحمه الله: "والبصير الذي يبصر كل شيء وإن دق وصغر فيبصر دبيب النملة والسوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، ويبصر ما تحت الأرضين السبع كما يبصر ما فوق السموات السبع"2. وقال: " فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان الماء في أغصان الأشجار وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك"3. د ـ ومنها العلم قال رحمه الله: "فيعلم تعالى الأمور المتقدمة والأمور المتأخرة أزلا وأبداً ويعلم جليل الأمور وحقيرها وصغيرها وكبيرها ويعلم تعالى ظواهر الأشياء وبواطنها غيبها وشهادتها ما يعلم الخلق منها وما لا يعلمون، ويعلم تعالى الواجبات والمستحيلات والجائزات، ويعلم تعالى ما تحت الأرض السفلي كما يعلم ما فوق السموات العلى ويعلم تعالى جزئيات الأمور وخبايا الصدور وخفايا الأشياء في كل الأوقات ولا يعرض لعلمه خفاء ولا نسيان"4. هـ ـ ومنها القدرة قال ـ رحمه الله ـ: " فالله كامل القدرة بقدرته أوجد الموجودات بقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها وبقدرته يحي ويميت ويبعث العباد للجزاء ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته إذا أراد شيئاً قال له "كن فيكون" وبقدرته يقلب القلوب ويصرفها على ما يشاء ويريد"5. وـ ومنها الإرادة: قال رحمه الله في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة في الإرادة: " ويعتقدون أن له الإرادة النافذة في جميع الموجودات، وبها خصص ما يشاء من   1 الحق الواضح المبين/19، وانظر التفسير 5/622. 2 التفسير /622. 3 الحق الواضح المبين/20 4 المواهب الربانية /63، التفسير 5/145، وتوضيح الكافية الشافية /21. 5 التفسير 5/624، 625. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 المخلوقات بالصفات المتباينة والنعوت المتنوعة"1. ز ـ ومنها اليدان قال رحمه الله: "فله يدان حقيقة، كما أن ذاته لا تشبهها الذوات، فصفاته لا تشبهها الصفات"2. حـ ـ ومنها الوجه قال رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 3 قال: "وفيه إثبات الوجه لله تعالى على الوجه اللائق به تعالى، وأن لله وجهاً لا تشبهه الوجوه"4. ط ـ ومنها القدم: قال رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيد} 5 ... "وقد وعدها الله ملأها كما قال تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 6 حتى يضع رب العزة عليها قدمه الكريمة المنزهة عن التشبيه فينزوي بعضها على بعض وتقول قط قط قد اكتفيت وامتلأت"7. ي ـ ومنها الساق: قال رحمه الله: "إذا كان يوم القيامة وانكشف فيه من القلاقل والزلازل والأهوال ما لا يدخل تحت الوهم، وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده ومجازاتهم فكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء، ورأى الخلائق من جلال الله وعظمته ما لا يمكن التعبير عنه ... "8. ثانيا: ذكر جملة من الصفات الفعلية "الاختيارية" وكلام الشيخ عنها: أـ من صفات الأفعال القيومية: قال ـ رحمه الله ـ في إثبات هذه الصفة: "القيوم تدخل فيه جميع صفات الأفعال؛ لأنه القيوم الذي قام بنفسه واستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام بجميع الموجودات، فأوجدها وأبقاها، وأمده بجميع ما تحتاج إليه في وجودها وبقائها"9 وهذا من الصفات التي تكون ذاتية باعتبار وفعلية باعتبار فهو قائم بنفسه ومقيم لغيره.   1 توضيح الكافية الشافية /21. 2 الخلاصة /107. 3 سورة البقرة / آية 115. 4 التفسير 1/129. 5 سورة ق/ آية 30. 6 سورة هود آية 119. 7 التفسير 7/155. 8 التفسير 7/452. 9 التفسير 1/313، والخلاصة /13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ب ـ ومنها الرحمة قال رحمه الله: "الرحمن الرحيم اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء وعمت كل مخلوق"1. ج ـ ومنها الرزق قال رحمه الله: "الرزاق لجميع عباده فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها. ورزقه لعباده نوعان: رزق عام شمل البر والفاجر والأولين والآخرين وهو رزق الأبدان. ورزق خاص وهو رزق القلوب وتغذيتها بالعلم والإيمان، والرزق الحلال الذي يعين على صلاح الدين وهذا خاص بالمؤمنين على مراتبهم معه بحسب ما تقتضيه حكمته ورحمته"2. د ـ ومنها الإتيان والنزول والاستواء: قال ابن سعدي عند قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ... } 3. قال: "وفي هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الأفعال الاختيارية لله تعالى كالاستواء والنزول والإتيان لله تبارك وتعالى من غير تشبيه له بصفات المخلوقين"4. وقال عند قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} 5: "هذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة المثبتين للصفات الاختيارية كالاستواء والنزول والمجيء ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى عن نفسه وأخبر بها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فيثبتونها على وجه يليق بجلال الله وعظمته من غير تشبيه ولا تحريف ولا تعطيل"6. هـ ـ ومنها الرضى والغضب والسخط قال ـ رحمه الله ـ عند قوله تعالى: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 7.   1 الخلاصة /9، والمواهب الربانية /64. 2 التفسير 5/626، 627، والحق الواضح المبين /45. 3 سورة الأنعام/ آية 158. 4 التفسير 2/509. 5 سورة البقرة/ آية 210. 6 التفسير 1/256، وانظر سؤال وجواب /7. 7 سورة التوبة/ آية 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قال: " وفيها إثبات الرضا لله عن المحسنين والغضب والسخط على الفاسقين"1. ز ـ ومنها الصبر قال ـ رحمه الله ـ "الكمال المطلق التام من جميع الوجوه ثابت لله تعالى نقلاً في جميع الأسماء والصفات والنعوت ومن أنواع الكمال الصبر ... "2. ح ـ منها الحياء قال ـ رحمه الله ـ: "هذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يستحي من عبده إذا مد يداه إليه أن يردها صفراء"3 وهذا من رحمته وكرمه وكماله وحلمه أن العبد يجاهر بالمعاصي مع فقره الشديد إليه حتى إنه لا يمكنه أن يعصي إلا أن يتقوى عليها بنعم ربه والرب مع كمال غناه عن الخلق كلهم من كرمه يستحي من هتكه وفضيحته وإحلال العقوبة به"4. د ـ ومنها المعية قال ـ رحمه الله ـ: "إخبار الله أنه مع عبده يرد في القرآن على أحد نوعين: أحدهما: المعية العامة كقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} 5 أي هو معهم بعلمه وإحاطته. الثاني: المعية الخاصة وهي أكثر وروداً في القرآن وعلامتها أن يقرنها الله بالاتصاف بالأوصاف التي يحبها والأعمال التي يرتضيها مثل قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 6 وقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 7 وقوله {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 8 وهذه المعية تقتضي العناية من الله والنصر والتأييد والتسديد بحسب قيام العبد بذلك الوصف الذي رتبت عليه المعية"9.   1 التفسير 3/285. 2 الفتاوى السعدية/ 29، وانظر الحق الواضح المبين /31. 3 أخرجه أحمد 5/438، 6/314، وابن ماجه 2/1270، والترمذي 5/556، وقال حديث حسن غريب. والحاكم 1/497 وقال صحيح الإسناد على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. 4 الحق الواضح المبين 29، 30. 5 سورة المجادلة/ آية 7. 6 سورة البقرة/ آية 194. 7 سورة التوبة/ آية 40. 8 سورة طه/ آية 46. 9 الخلاصة /174، والتفسير 5/617، والمواهب الربانية /14، 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 هذا وبعد ذكر هذه الجملة من صفات الله الثبوتية الذاتية منها والفعلية، يجد القارئ أن ابن سعدي رحمه الله قد سار في إثبات الصفات في جميع مؤلفاته ومن أهمها التفسير على منهج السلف الصالح، وذلك بإثبات جميع ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله من صفات الكمال من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل وهذا هو المنهج الحق بخلاف غيره من المناهج الباطلة كمذهب الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم. وكما أنه رحمه الله سار على هذا المنهج في التأصيل والتقدير، فإنه كذلك سار عليه في الرفض والرد، وأعني بذلك أنه رحمه الله دافع عن هذا المنهج على طريقة السلف من رفض كل ما يخالف هذه العقيدة في الأسماء والصفات. فتناول بالرد من ينكر الصفات أو ينكر بعضها أو يتأولها، أو يشبهها بصفات المخلوقين أو غير ذلك من أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته وقد تقدم معنا في القواعد التي قررها رحمه الله قاعدة: "القول في الصفات كالقول في الذات"، وقاعدة "القول في بعض الصفات كالقول في بعض"، وقاعدة "الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب"، وتقدم معنا شرحه لها وكيف يرد بها على المعطلة والمؤولة وغيرهم، وهي قواعد هامة تبين تهافت أقوالهم وتناقض آرائهم التي ليس عليها برهان من كتاب ولا سنة ولا عقل بل هي مخالفة لما تقرر في الكتاب والسنة من إثبات الصفات ومخالفة للعقل السليم الذي لم ينحرف. وكما قرر ـ رحمه الله ـ هذه القواعد العامة التي يرد بها على هؤلاء المؤولة فقد ناقشهم في ما ينكرونه من الصفات، وبين أنه ليس معهم حجة ولا برهان. وذكر الأدلة الدالة على بطلان مذاهبهم. فناقشهم في صفة الاستواء والكلام والعلو، والنزول والإثبات وغيرها من صفات الله الثابتة بالكتاب والسنة. ولكي نتعرف على منهجه في الرد على هؤلاء أرى من المناسب أن أذكر مناقشاته معهم في بعض الصفات وأكتفي بذكر صفتين فقط وهما: صفة الكلام، وصفة الاستواء؛ ليكونا كنموذج لمناقشاته معهم في بقية الصفات. أولا: صفة الكلام أدلتها، وردود ابن سعدي على من أنكرها: إن هذه المسألة قد طال الكلام فيها وتنازع الناس فيها نزاعاً كبيراً، وكثرت أقوال المتكلمين فيها، حتى إنه يقال إنما سمي علم الكلام لكثرة التكلم في هذه الصفة وسيرتكز حديثنا في هذه المسألة في ثلاث نقاط: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 أولا: ذكر أقوال الناس في هذه المسألة. ثانيا: بيان نصرة الشيخ لمذهب السلف وأدلته على ذلك. ثالثا: ردوده على المخالفين. أولاً: ذكر أقوال الناس في هذه المسألة: إن من المناسب أن أذكر أقوال الناس في هذه المسألة، قبل بيان المذهب الحق، وقبل الرد على مخالفيه؛ وذلك ليكون عند القارئ تصور لها. وتتلخص أقوال الناس في هذه الصفة في تسعة أقوال: أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معاني، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة. وثانيها: أنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه، وهذا قول المعتزلة. وثالثها: أنه معنى واحد قائم بذات الله، وهو الأمر والنهي والخبر والاستخبار وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري1 وغيره. ورابعها: أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث. وخامسها: أنه حروف وأصوات، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً وهذا قول الكرامية وغيرهم. وسادسها: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته وهذا يقوله صاحب المعتبر، ويميل إليه الرازي في "المطالب العالية". وسابعها: أن كلامه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره وهذا قول أبي منصور الماترودي.   1 تجدر الإشارة هنا إلى أن أبا الحسن الأشعري قد رجع عن عقيدة الكلابية وألف رسائل على عقيدة السلف وإن كان فيها بعض الشوائب العالقة إثر تركه لعقيدة المعتزلة، ومن ثم تركه لعقيدة الكلابية. ومن هذه المؤلفات التي سار فيها الأشعري على نهج السلف كتابه الإبانة وكتابه رسالة إلى أهل الثغرة، وكتابه مقالات الإسلاميين. ولمزيد من الإيضاح راجع رسالة أبي القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس في الذب عن أبي الحسن الأشعري بتحقيق الدكتور على ناصر فقيهي، وسالة الشيخ حماد الأنصاري في أبي الحسن الأشعري، طبع مؤسسة النور 1382هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وثامنها: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات، وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات وهذا قول أبي المعالي ومن تبعه. وتاسعها: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن كلامه قديم النوع حادث الآحاد، وأنه لا نهاية له؛ لأنه لا نهاية للمتكلم به وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة1. ثانيا: بيان نصرة الشيخ لمذهب السلف وأدلته على ذلك: لا ريب أن المذهب الحق من هذه المذاهب، هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة2؛ لذا فإن ابن سعدي قد أيد هذا المذهب ونصره وبين أنه المذهب الحق وأطال في ذكر أدلته. قال ـ رحمه الله ـ: "القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود والله المتكلم به حقاً لفظه ومعانيه ولم يزل ولا يزال متكلما بما شاء إذا شاء وكلامه لا ينفد ولا له المنتهى"3. وبين ـ رحمه الله ـ أن هذا هو قول أهل السنة والجماعة فقال: " ومن قول أهل السنة والجماعة قولهم في الكلام وأن الله لم يزل ولا يزال له الكمال المطلق فكلامه القرآن هو المقروء بالألسنة المحفوظ في الصدور المسموع بالآذان، وكلامه من جملة صفاته الفعلية فهو متصف به، وهو متعلق بمشيئته وقدرته، وليس مخلوقاً؛ لأن الكلام صفة المتكلم"4. أدلة ابن سعدي على هذا المذهب: تقدم معنا أنه ـ رحمه الله ـ أكثر من ذكر الأدلة على صحة هذا المذهب؛ لذا سأكتفي بذكر جملة منها: 1ـ قال رحمه الله عنده تفسيره لقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ   1 انظر شرح العقيدة الطحاوية /119، 120، ومختصر الصواعق لمحمد بن الموصلي /423 وما بعدها. 2 الفتاوى لابن تيمية 13/132. 3 سؤال وجواب /8، وانظر الفتاوى /12، والخطب المنبرية /75، والحق الواضح المبين /23. 4 توضيح الكافية الشافية /22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 نَجِيّاً} 1 "وفي هذا إثبات صفة الكلام لله تعالى وأنواعه من النداء والنجاء كما هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً لمن أنكر ذلك من الجهمية والمعتزلة ومن نحا نحوهم"2. 2ـ ومن الأدلة قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} 3 قال ـ رحمه الله ـ: "ففي هذا كلام الرب تعالى لأهل الجنة وسلامه عليهم وأكده بقوله قولاً"4. 3ـ ومنها قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 5 قال رحمه الله: أي مشافهة منه إليه بلا واسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال "موسى كليم الرحمن"6. 4ـ ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 7 قال رحمه الله: "وفي هذا حجة صريحة لمذهب أهل السنة والجماعة القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق؛ لأنه تعالى هو المتكلم به وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها"8. 5 ـ ومنها قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} 9 وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 10. وقال رحمه الله: "هذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان؛ لأن هذه الأشياء مخلوقة وصفاته غير مخلوقة ولا لها حد ولا منتهى، فأي سعة وعظمة تصورتها القلوب فالله فوق ذلك؛ وهكذا سائر صفات الله تعالى كعلمه وحكمته وقدرته ورحمته"11. 6ـ ومنها قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 12 قال رحمه الله:   1 سورة مريم/ آية 52. 2 التفسير 5/117. 3 سورة يس/ آية 58. 4 التفسير 6/354. 5 سورة النساء/ آية 164. 6 التفسير 2/218. 7 سورة التوبة/ آية 6. 8 التفسير 3/201. 9 سورة الكهف/ آية 109. 10 سورة لقمان/ آية 27. 11 التفسير 5/86، وانظر التفسير 6/168، 169. 12 سورة الحجر/ آية 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 "اشتملت على فوائد عديدة الأولى والثانية أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله تعالى عليٌ على خلقه وهذا مأخوذ من قوله "نزلنا الذكر" فإنه نزل به جبريل من الله العزيز العليم فكونه نازلاً من عند الله يدل على علو الله، وكونه من عنده يدل على أنه كلام الله فإن الكلام صفة للمتكلم ونعت من نعوته"1. 7ـ ومنها قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2 قال رحمه الله: "هذه العبارة وما أشبهها مما هو كثير في القرآن تدل على أن جميع الأشياء غير الله وأسمائه وصفاته مخلوقة ... وليس كلام الله من الأشياء المخلوقة؛ لأن الكلام صفة المتكلم والله تعالى بأسمائه وصفاته أول ليس قبله شيء. فأخذُ أهل الاعتزال من هذه الآية ونحوها أن كلام الله مخلوق من أعظم الجهل، فإنه تعالى لم يزل بأسمائه وصفاته، ولم يحدث صفة من صفاته، ولم يكن معطلاً عنها بوقت من الأوقات"3. 8 ـ ومنها قول صلى الله عليه وسلم في حديث القدسي: "فيقول الله تعالى: يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار"4. قال رحمه الله: "ففي هذا الحديث إثبات القول من الله والنداء لآدم وأنه نداء حقيقة بصوت، وهذا من فضل الله لا يشكل على المؤمنين فإن النداء والقول من أنواع الكلام، وكلام الله صفة من صفاته، والصفة تتبع الموصوف"5. 9ـ ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان" 6. قال رحمه الله: "وهذا أيضاً إثباتٌ لتكليمه لجميع العباد بلا واسطة"7. وأكتفي بهذا القدر من الأدلة وهي في الحقيقة كثيرة جداً ولا تحصر إلا بكلفة. ثالثا: ردوده على المخالفين: أعني بالمخالفين من خالف هذا المنهج الواضح الذي دلت عليه نصوص الكتاب   1 المواهب الربانية /26. 2 سورة الزمر/ آية 62. 3 التفسير 6/489. 4 أخرجه البخاري 8/195. 5 التنبيهات اللطيفة /29. 6 أخرجه البخاري 8/185، ومسلم 2/703، والترمذي 4/611، وأحمد في المسند 40/256. 7 التنبيهات اللطيفة 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 والسنة، كما تقدم وذكر هذه الجملة من الأدلة على صحة هذا المذهب يعد رداً على غيره من المذاهب؛ وذلك لأنه إذا تعين أن هذا المذهب هو الحق فإن ما سواه يعد باطلاً لا يلتفت إليه. ومع ذلك فقد تناول السعدي ـ رحمه الله ـ الرد على هؤلاء، ونقض شبههم وبين ضعفها وأنها ليس فيها حجة، وأنها مخالفة لمراد الله ورسوله، من وجوب إثبات هذه الصفة العظيمة لله عز وجل على الوجه اللائق به، كغيرها من صفاته عز وجل. فناقش الفلاسفة والجهمية والمعتزلة والأشاعرة والكلابية والكرامية وغيرها من الطوائف التي ضلت في هذه الصفة وبين أنهم كلهم عدلوا عن الصراط المستقيم وألحدوا في هذه الصفة إذ لم يثبتوها لله عز وجل. وقد تقدم معنا أقوال هذه الطوائف في هذه الصفة، والآن سنتناول ردوده عليهم، كل طائفة على حده باختصار. ذكر قول الفلاسفة في صفة الكلام والرد عليه: قال الشيخ ابن سعدي ـ رحمه الله ـ مبينا قول الفلاسفة ومن أين أخذوه: "فلما كان من أصولهم القول بقدم العالم وأن العقل الفعال هو المحدث لكل ما تحته وأن هذا العقل دائم الفيض على ما تحته على المحال المستعدة بحسب قابليتها، فيفيض الوجودات وأوصافها وأفعالها وأقوالها وآثارها، فيفسرون كلام الله على هذا الأصل الباطل فيقولون لما كان محمد قد اجتمعت فيه القوى الكاملة من الزكاء والذكاء والقوة العملية، فاض عليه من هذا العقل ما يناسب حاله وهو الكلام الراقي فتلقاه وأتى به للعباد ألفاظاً وخطابة ومواعظ خالية من البراهين لم تصرح بالحق بل رمزت إليه وأشارت إليه من بعيد"1. ومقصود قولهم أن القرآن ليس كلام الله وإنما هو معاني تخيلها الرسول صلى الله عليه وسلم ونظمها وعبارات من عنده، وهذا قول باطل لا مرية في بطلانه، وهو ناتج أولا وقبل كل شيء عن عدم إيمانهم بالله عز وجل. لذا يقول ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في بيان بطلان هذا المذهب: "ومن تصور أقوالهم جزم بأنهم لا يؤمنون بالله ولا يثبتون وجوده ولا يثبتون الرسالة ولا المعاد الأخروي، وعلم أن ما قالوه مع مخالفته لجميع ما جاءت به الرسل فإنه مخالف لما دلت عليه العقول الصحيحة، وأن ما ادعوه من العقليات هو في الحقيقة جهليات وخيالات. وبسط الكلام على مذهبهم يستدعي أكثر من ذلك، وإنما راج مذهبهم على كثير من الناس لما فيه من   1 توضيح الكافية الشافية /33، 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الممويهات والتلبيس والنفاق ويصادف مع هذا قلة بصيرة والله المستعان"1. ولا شك أن قول هؤلاء الفلاسفة ساقط، ومخالف لما جاءت به الرسل ومخالف للعقول السليمة كما أوضح ذلك ابن سعدي ـ رحمه الله ـ إلا أنه مع ذلك فإنه يوجد من أبناء المسلمين من اغتر بهذا القول وأخذ به وصار يدعو إليه. ومن هؤلاء الذين اغتروا بهذا المعتقد الفاسد القصيمي صاحب الأغلال الذي تقدمت ردود ابن سعدي عليه في مسألة إنكار وجود الباري عز وجل، فهو في هذه المسألة أيضاً أخذ بقول الفلاسفة واعتمده كما أنه أخذ بجميع ما يدعون إليه. وفي رد ابن سعدي على كتاب القصيمي "هذي هي الأغلال" تناول هذه المسألة وبين ضلاله فيها وبين أن قصده من وراء ذلك هو إفساد الدين والدعاية إلى نبذه ومحاربته بكل طريق"2. ومن أقوال القصيمي الباطلة في هذه المسألة والتي تناولها ابن سعدي بالرد قوله في بيان مأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم لنصوص الوحي من أي طريق؟ أنه " كان يعبد الطبيعة وأخذت قلبه وقالبه ولبه وكان يناجي الليل والنهار والضياء والظلمة والنسيم ونحوها مما يشاهد، وافتتح رسالته بمناجاة الطبيعة والخلوة بها في غار حراء، وختم رسالته وحياته بشدة النزع إليها وقت السياق حيث كان يقول في الرفيق الأعلى"3. فهو يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن من عند نفسه، وهذا القول كفر ليس وراءه كفر، لأنه أنكر بذلك الوحي والرسالة. لذا يقول ابن سعدي: " فهو بهذا التحليل أنكر الوحي والرسالة ورمى النبي صلى الله عليه وسلم بأنه طبيعي لا يعرف الله ولا يعرف الوحي فلم ينزل عليه جبريل من عند الله، ولا كان يناجي الله ولا يعبده، ولا كان عند السياق إلا مشتاقاً إلى الطبيعة فقط؛ لأنه لا يعرف الله ولا يريده، ولا يحبه4 ولا يطلبه، وظهر بهذا غرض القصيمي الوحيد، وهو الدعاية إلى نبذ الدين ومحاربته"5.   1 توضيح الكافية الشافية /34. 2 انظر تنزيه الدين /19، 20. 3 هذي هي الأغلال للقصيمي /56، 157. 4 هذه المسألة قد استوفى ابن تيمية الرد فيها على أسلاف القصيمي من الفلاسفة والمعتزلة وغيرهم في أكثر كتبه، ولا سيما كتابه "النبوات" انظر ص 248 وما بعدها من كتاب النبوات فقد ذكر أقوال المتكلمين ورد عليها. 5 تنزيه الدين /18، بتصرف يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وهذا من قلة بصيرة هذا الشخص بدين الله؛ لأن هذا الكلام لا يقوله عاقل مؤمن بالله مصدق برسوله صلى الله عليه وسلم. والمقصود أن قول الفلاسفة المتقدم ذكره والذي أيده هذا القصميمي، لا يلتفت إليه لمخالفته جميع ما جاءت به الرسل ولمخالفته للعقول السليمة. قول الجهمية والمعتزلة ورد ابن سعدي عليه: تقدم أن قول الجهمية والمعتزلة في صفة الكلام، هو أنهم يرون أن الكلام ليس صفة لله عز وجل، وإنما هو مخلوق من مخلوقاته خلقه كما خلق السموات والأرض خارجاً عن ذات الله لا يقوم بذاته كلام ولا قول، قال ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في بيان بطلان هذا القول وأنه أمر مستنكر عند الناس غير مستساغ: "فلما قال الناس لهم هذا أمر معلوم بطلانه فإن الكلام صفة للمتكلم، والله قد أضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها فزعموا أن إضافته إليه إضافة تشريف كإضافة ناقة الله وعبد الله. فأجابهم الناس بما هو معروف ومتقر عند كل أحد مع دلالة الكتاب والسنة إليه، فقالوا إن الإضافة نوعان: أحدهما: ما يضيفه الله إلى نفسه من الأعيان كبيت الله وناقة الله ونحوهما، فهذه الإضافة لبعض مخلوقاته تفيد تشريفه وتكريمه بما امتاز به ذلك المضاف من الأوصاف الفاضلة. والثاني: إضافة معاني وأوصاف تقوم كعلم الله وقدرته وإرادته وكلامه فهذه الإضافة من باب إضافة الأوصاف إلى موصوفها تقتضي قيامها به واتصافه بها. ومن خالف هذا الفرق فهو منكر للمحسوسات"1. ويستدل الجهمية والمعتزلة لقولهم هذا بقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُْ} 2. فهم يجعلون لذلك مقدمة وهي أن القرآن شيء وكل شيء مخلوق إذا فالقرآن مخلوق. وهذا كلام باطل، لأن الآية لم تدل على ذلك، وإنما دلت على أن كل شيء غير أسماء الله وصفاته مخلوق؛ لذا يقول ابن سعدي رحمه الله: "وليس كلام الله من الأشياء المخلوقة؛ لأن الكلام صفة المتكلم والله تعالى بأسمائه وصفاته أول ليس قبله شيء"3.   1 توضيح الكافية الشافية /25، وانظر القاعدة السابعة من قواعد الأسماء والصفات المتقدمة. 2 سورة الرعد/ آية 16. 3 التفسير 6/489. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ثم بين أنه لا دلالة في هذه الآية لما ذهب إليه المعتزلة فقال: "فأخذ أهل الاعتزال من هذه الآية ونحوها أن كلام الله مخلوق من أعظم الجهل، فإنه تعالى لم يزل بأسمائه وصفاته ولم يحدث صفة من صفاته، ولم يكن معطلاً عنها بوقت من الأوقات"1. قول الكلابية والأشعرية ورد ابن سعدي عليه: وهم القائلون " بأن القرآن نوعان ألفاظ ومعان، فالألفاظ مخلوقة وهي هذه الألفاظ الموجودة والمعاني قديمة قائمة في النفس وهي معنى واحد لا تبعض فيه ولا تعدد، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، أو بالسريانية كان إنجيلا"2. ولا شك أن هذا القول معلوم البطلان، ولا دلالة عليه من كتاب أو سنة ولا مستند من لغة العرب. قال ابن سعدي رحمه الله في معرض رده على هذا القول: " وهذا القول تصوره كاف بمعرفة بطلانه وليس لهم دليل ولا شبهة على هذا القول الذي لم يقله أحد غيرهم"3. أما عن استشهادهم على هذا القول بقول الشاعر: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً فأجاب عنه بقوله: "هذا البيت معروف معناه، وإن الكلام يخرج من القلب ويعبر عنه اللسان، وأما الكلام الذي في اللسان فقط فهذا يشبه كلام النائم والهاذي ونحوهما. وهب أنه دل على القول الذي قالوه فكيف يتركون لأجله أدلة الكتاب والسنة والذي يعقله العقلاء بعقولهم أن الكلام صفة للمتكلم، وأنه الكلام المسموع منه، وأن ما في النفس لا يسمى كلاماً بوجه من الوجوه"4. ثم إنه من المعلوم أن هذا البيت للأخطل النصراني فكيف يجوز أن يترك الكتاب والسنة لأقوال النصارى مع العلم بكثرة أخطائهم في العقيدة والفروع. لذا يقول ابن سعدي: "وأيضاً فإن غلطهم في الأصول والفروع معروف"5 ومقصوده أنه كيف يؤخذ بقولهم وهذه حالهم. وقول الكلابية والأشعرية قريب من قول المعتزلة؛ لأن مؤداه ومعناه أن القرآن   1 التفسير 6/489 2 توضيح الكافية الشافية /23. 3 توضيح الكافية الشافية /23. 4 توضيح الكافية الشافية /23. 5 توضيح الكافية الشافية /23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 مخلوق. كما اعترف بذلك بعضهم قال ابن سعدي رحمه الله: "وهذا القول كما قال من اعترف منهم أنه لا فرق بينه وبين قول المعتزلة إلا في اللفظ"1. والمقصود أن هذا القول ظاهر البطلان من أوجه متعددة قال رحمه الله: "وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا القول وبين بطلانه في رسالته التسعينية فبين من تسعين وجهاً كل واحد منها يدل على بطلانه أدلة نقلية وأدلة عقلية"2. قول الاقترانية ورد ابن سعدي عليهم: الاقترانية هم القائلون بأن كلام الله حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل. وأما عن سبب تسميتهم بذلك يقول ابن سعدي رحمه الله "لما قيل لهم هذا مخالف للمحسوس المعلوم بالبديهة أن حروف الكلام طبعاً لا بد أن يسبق بعضها بعضاً، قالوا إنما تربيتها بالنسبة إلى سمع الإنسان، وإلا فهي ما زالت متصاحبة مقترنة"3. وقال في رده عليهم: "ولا شك أن هذا القول إلى التخليط والهذيان أقرب منه إلى التحقيق والبرهان"4. وقال: "وهو مخالف لأصل الأئمة وموافق لبعض قول الكلابية"5. وقد تقدم رده على الكلابية. وبعد ذكر هذه الجملة من ردود ابن سعدي رحمه الله على المخالفين لمذهب السلف الصالح في صفة الكلام أنتقل إلى الصفة الأخرى وهي صفة الاستواء لنرى كيفية مناقشة ابن سعدي للمخالفين في هذه الصفة. ثالثا: صفة الاستواء وأدلتها ودحض ابن سعدي شبه من أنكرها: الاستواء من الصفات الثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة، وهو من الصفات التي تدل على عظمة الله وعلوه على عباده وأنه القاهر فوقهم، وأنه سبحانه بذاته وأسمائه وصفاته له العلو المطلق من جميع الوجوه. وكلامي عن هذه الصفة سيكون مقتصراً على ما يلي: أولا: ذكر معاني الاستواء الواردة في القرآن مع بيان السعدي لها. ثانيا: إثبات الشيخ للاستواء على طريقة السلف وأدلته على ذلك. ثالثا: دحض شبه من أنكر هذه الصفة.   1 توضيح الكافية الشافية /23. 2 توضيح الكافية الشافية /23 3 توضيح الكافية الشافية /24 4 توضيح الكافية الشافية /24. 5 توضيح الكافية الشافية /25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 أولا: ذكر معاني الاستواء الواردة في القرآن: ذكر ابن سعدي في مؤلفاته أن لفظة استوى ترد في القرآن الكريم على ثلاثة أحوال: فتارة تكون متعدية بنفسها، وتارة تكون متعدية بـ "على" وتارة تكون متعدية بـ "إلى". وذكر أيضا أن لها في كل موضع من هذه المواضع معنى خاص: فإن كانت متعدية بنفسها فمعناها التمام والكمال، وإن كانت متعدية بـ "على: فمعناها العلو والارتفاع وإن كانت متعدية بـ "إلى" فمعناها القصد، ومن ذلك قوله رحمه الله: "استوى ترد في القرآن على ثلاثة معان: فتارة لا تعدى بالحرف فيكون معناها الكمال والتمام كما في قوله عن موسى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} 1، وتارة تكون بمعنى "علا" و"ارتفع" وذلك إذا عديت بـ "على" كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2وقوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} 3. وتارة تكون بمعنى قصد4، كما إذا عديت بـ "إلى" كما في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات} 5 أي لما خلق تعالى الأرض قصد إلى خلق السماوات فسواهن سبع سموات فخلقها، وأحكمها وأتقنها وهو بكل شيء عليم"6. ثانيا: إثبات الشيخ للاستواء على طريقة السلف وأدلته على ذلك: قال ـ رحمه الله ـ في بيان عقيدة السلف الصالح في هذه الصفة العظيمة: " ... ويقرون ويعتقدون بجميع ما ثبت في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته وأفعاله،   1 سورة القصص/ آية 14. 2 سورة طه/ آية 5. 3 سورة الزخرف/ آية 13. 4 تنبيه: الصواب أن استوى وإن عديت بـ "إلى" فهى بمعنى على وارتفع، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقد نقلا عن جمع من السلف هذا التفسير، كما حكى ابن القيم إجماع السلف على ذلك. انظر الفتاوى 5/518 وما بعدها ومختصر الصواعق المرسلة /330 5 سورة البقرة/ آية 29. 6 التفسير 1/69، وانظره /618، 619 والخلاصة /174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ويقولون إنه على خلقه مستو على عرشه .... "1. وقال "نعرف ربنا بأنه على بكل معنى واعتبار علو الذات وعلو القدر وعلو القهر، وأنه بائن من خلقه مستو على عرشه كما وصف لنا نفسه بذلك، والاستواء معلوم والكيف مجهول، فقد أخبرنا أنه استوى ولم يخبرنا عن الكيفية، وكذلك نقول في جميع صفات الباري أنه أخبرنا بها ولم يخبرنا عن كيفيتها فعلينا أن نؤمن بكل ما أخبرنا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا نزيد على ذلك ولا ننقص منه"2. وقال رحمه الله "وأما استواؤه على العرش العظيم فيستفاد من النقل الكتاب والسنة"3. أدلته على إثبات هذه الصفة: ولقد ورد في القرآن والسنة أدلة كثيرة تبين أن الله سبحانه مستو على عرشه بائن من خلقه، وهي كثيرة جداً. وقد أشار ابن سعدي رحمه الله في توضيحه للكافية الشافية إلى كثرة الأدلة في ذلك وتنوعها فقال: "ذكر المصنف ـ يعني ابن القيم ـ واحداً وعشرين نوعاً من الأدلة على هذه المسألة العظيمة كل نوع منها تحته من الأفراد ما لا يعد ولا يحصى"4. ثم أخذ رحمه يعدد هذه الأنواع من الأدلة، ومن أجل عدم الإطالة سأختصر جملة من هذه الأدلة فيما يلي: 1ـ أخبر الله سبحانه بأنه مستو على عرشه في سبعة مواضع من القرآن وكلها جاءت بلفظ على العرش؛ وعلى تدل على العلو والارتفاع. 2ـ تكرر في الكتاب وصف الله العلي الأعلى وهذا يدل على علوه من جميع الوجوه. 3ـ ورد في القرآن التصريح بالفوقية مثل قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم} 5، والفوقية وصف ثابت لله، دال على علوه. 4ـ إخبار الله أن القرآن نزل منه، ومن المعلوم أن النزول لا يكون إلا من علو.   1 توضيح الكافية الشافية/ 20. 2 سؤال وجواب /7. 3 الحق الواضح المبين /13. 4 توضيح الكافية الشافية /45. 5 سورة النحل/ الآية 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 هـ ـ ورد في القرآن أن بعض المخلوقات والأعمال تصعد إليه وهذا تصريح بعلوه. 6ـ إخبار الله أنه في السماء كقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 1 ومعناه عند جميع المفسرين أنه في العلو. 7ـ إجماع الكتب السماوية والرسل عليهم الصلاة والسلام على التصريح بعلو الله على خلقه وفوقيته. 8 ـ إجماع أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين وتابعيهم من أئمة المسلمين المعتبرين، على ذلك2. هذه جملة من الأدلة التي ذكرها الشيخ ابن سعدي ـ رحمه الله ـ على علو الله تعالى على جميع خلقه، ثم أحال ـ رحمه الله ـ من أراد الاستزادة من هذه الأدلة إلى كتاب ابن القيم "اجتماع الجيوش الإسلامية"3. وكان الشيخ ابن سعدي في تفسيره للقرآن إذا مر على الآيات الدالة على استواء الله على عرشه ينبه عليها، ويشير إلى دلالتها على علو الله على جميع خلقه. ومن ذلك قوله رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 4: "استواء يليق بجلاله فوق جميع خلقه"5. ثالثا: دحضه لشبه المنكرين: سأورد هنا بعض الشبه التي يطرحها من ينكر هذه الصفة من الجهمية وغيرهم، ثم أذكر أجوبة الشيخ عن هذه الشبه. الشبهة الأولى: "قولهم إن للاستواء عدة معان" فإذا قال الجهمي لأتباعه: إن قال لكم المجسم {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 6. فقولوا له هذه لفظة فإن "العرش" له عدة محامل فأي المعاني تريد، و"على" أيضاً تأتي في العربية لعدة معاني. وقد أجاب ابن سعدي على هذه الشبهة فقال:   1 سورة الملك/ الآية 16. 2 انظر الكافية الشافية /45 وما بعدها. 3 انظر هذه الأدلة في ص 49، وما بعدها من كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" لابن القيم. 4 سورة الحديد/ الآية 4. 5 التفسير 7/283، وانظر في ذلك التفسير 3/38، 5/489، 6/ 177، 5/ 144 وغيرها. 6 سورة طه الآية 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 "إذا سمع الجاهل هذا التلبيس والتمويه استعظم ذلك ورآه إشكالاً يعسر الانحلال عنه، وأما المتبصر الذي نور الله قلبه فإنه يعرف أن هذا ليس محل إشكال ولا لبس بل هو من أوضح الأشياء وأبينها. فإن الألف واللام في العرش للعهد الذي يفهمه كل مسلم أنه عرش الرب العظيم لا غيره من عروش الكرم ونحوها، ولو قيل له يحتمل واحداً غير هذا لبادر لإنكاره. هذا مع اتفاق جميع الرسل وشهادتهم أنه استوى على العرش العظيم فكل مؤمن يفهم المعنى من قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1. وكذلك لفظ الاستواء المعدى بعلى فإنه واضح جداً دال على العلو والظهور فإن الاستواء حيث عُدي بعلى فإنه يدل على العلو والظهور، وأما إذا عدي بإلى نحو {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} 2 فإنه يدل على القصد3، وإذا قيل استوى كذا وكذا دل على معية الأول للثاني كقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} 4 فهذه المعاني المتباينة بحسب تعديته كما ذكرنا. فعلم علماً يقيناً أن قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لا إشكال فيه ولا إجمال خصوصاً وقد طرد إتيانه بهذا السياق في جميع موارده ومصادره ولم يأت هذا المعنى بلفظ فيه إجمال، فلو كان المراد ما قصده الجهمي لأتى به ولو في موضع واحد ليستبين المراد"5. الشبهة الثانية: "قولهم إن إثبات الاستواء يقتضي التجسيم". فالأشاعرة وغيرهم من الذين يثبتون بعض الصفات وينكرون البعض الآخر، يقولون إن إثبات الاستواء وغيره من الصفات الاختيارية يقتضي التجسيم. وأجاب ابن سعدي عن هذه الشبهة، بأن جميع الصفات وردت في الكتاب والسنة فكيف جاز لكم تأويل بعضها وترك البعض، فإن قالوا بأن ما يقتضي التجسيم تأولناه؛ لأن الجسم من خصائص المحدثات المخلوقة فهذا الذي تأولناه ما نعقل منه إلا التجسيم فتعين تأويله.   1 سورة طه/ الآية 5. 2 سورة البقرة / الآية 29 وغيرها. 3 تقدم معنا ص 142 أن هذا القول مخالف لأقوال السلف، وأن استوى وإن عديت بـ "إلى" فمعناه على وارتفع، فليراجع. 4 سورة القصص/ الآية 14. 5 توضيح الكافية الشافية /57، 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 يقال لهم بأن تفريقكم بين الأمرين تفريق بين متماثلين، إذ أنكم إذا تأولتم صفة وقعتم في مثل ما فررتم منه، فأثبتوا جميع الصفات فالباب واحد، وإلا فبينوا فرقاً بين ما نفيتم وبين ما أثبتم، ومن المعلوم أنهم لا يهتدون إلى فرق بين الصفات بإثبات بعضها ونفي بعضها فالواجب إذا هو اتباع السلف الصالح وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله من صفات الكمال"1. الشبهة الثالثة: "قولهم استوى بمعنى استولى" وهذا قول الجهمية وغيرهم فهم يقولون إن المراد بقوله تعالى {ثم استوى على العرش} أي استولى على العرش. واستدلوا على ذلك بقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق, وأجاب ابن سعدي عن هذه الشبهة بأن الله أخبر أنه مستو على العرش في سبعة مواضع من القرآن وكلها جاءت بلفظ "على العرش" وعلى تدل على العلو والارتفاع وهذا نص لا يقبل الاحتمال ولا الاشتباه في معناه. ولو كان استوى بمعنى استولى كما يقول الجهمية وأتباعهم لأتت اللام في موضع واحد أو أكثر لأجل أن يحمل الباقي عليها فلما لم ترد في موضع واحد بذلك كانت نصا صريحا في العلو والفوقية؛ لأن العرب جرت عادتهم في كلامهم الفصيح أن يضمروا بعض القيود في بعض كلامهم ويذكروه في كلام لفظ آخر فيحمل مطلق الكلام على مقيده، وأما هذا الموضع فالحمل متعذر. وهم بعملهم هذا مشابهين لليهود، لأن اليهود لما قيل لهم {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} . دخلوا على آساتهم وقالوا حبة في حنطة تهكماً وجرأة على الله فاليهود زادوا النون في   1 انظر توضيح الكافية الشافية /61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 قولهم حنطة بدل حطة والجهمية زادوا اللام في قولهم استولى بدل استوى 1. وهذا قول باطل قد بين الأئمة بطلانه من وجوه كثيرة2. وهذا آخر ما رأيت إيراده في هذا المبحث المتعلق بتوحيد الأسماء والصفات، ويمكن أن نصل إلى خلاصة لما تقدم، وهي: أن الواجب على كل مسلم أن يكون منهجه في توحيد الأسماء والصفات منهج السلف الصالح. وذلك بإثبات جميع ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال، وأن ينفي عنه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله من صفات النقص من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل. هذا وليعلم أن الإنسان لو أتى بهذا التوحيد وسابقه توحيد الربوبية على الوجه المطلوب، ولم يأت مع ذلك بتوحيد الألوهية، فإن توحيده هذا لا ينفعه؛ لأنه لازم على من أقر بربوبية الله وأقر بأسمائه وصفاته أن يوحده بجميع أنواع العبادة، فكما أن الله واحد في ذاته وأسمائه وصفاته، فالواجب أن يوحد ويفرد بجميع أنواع العبادة، وهذا هو موضوع المبحث التالي.   1 انظر توضيح الكافية /54، 56. 2 قال العلامة ابن القيم رحمه الله في نونيته: أمر اليهود بأن يقولوا حطة فأبوا وقالوا حنطة لهوان وكذلك الجهمي قيل له استوى فأبى وزاد الحرف للنقصان قال استوى استولى قيل وذا من جهلة لغة وعقلاً ما هما سيان نون اليهود ولام جهمي هما في وحي رب العرش زائدتان?? الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 المبحث الثالث: توحيد الألوهية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 المبحث الثالث توحيد الألوهية تقدم معنا في المبحثين الماضيين الإشارة إلى أهمية هذا المبحث، وتقدم أيضاً أن الإتيان بتوحيدي الربوبية والأسماء والصفات لا يكفي ولا ينجي بل لا بد من الإتيان مع ذلك بتوحيد الألوهية؛ وذلك لأن هذا النوع من التوحيد يعد أهم المطالب على الإطلاق، إذ من أجل تحقيقه خلق الله الخلق، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، كما سيأتي بيان ذلك. وهذا ما جعل علماء الإسلام من السلف الصالح الذين هم ورثة الأنبياء، يهتمون بهذا النوع اهتماماً كبيراً، فبينوه وحذروا من الوقوع في ضده وأكثروا في ذلك التأليف والكتابة. وقد اعتنى الشيخ ابن سعدي في مؤلفاته بهذا النوع من التوحيد عناية بالغة وأولاه اهتماماً كبيراً، فلقد لمست من خلال قراءتي لكتبه اهتمامه البالغ به، فهو في أكثر مؤلفاته يتحدث عن هذا التوحيد، ويحذر من الوقوع في مخالفته، ويبدي ويعيد في ذلك بعبارات متنوعة وأساليب مختلفة. ولا ريب أن هذا النوع من التوحيد جدير بالعناية والاهتمام، بل هو أهم الأمور التي يجب العناية والاهتمام بها. ولهذا فقد أشار رحمه الله في مواطن متعددة من مؤلفاته إلى أهميته، وأنه الغاية من خلق الإنس والجن، وأن الإيمان به يوصل إلى كل خير وصلاح. قال: "وهذا الأصل أعظم الأصول على الإطلاق وأكملها وأفضلها وأوجبها وألزمها لصلاح الإنسانية، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله وخلق المخلوقات. وشرع الشرائع لقيامه وبوجوده يكون الصلاح وبفقده يكون الشر والفساد، وجميع الآيات القرآنية إما أمر به أو بحق من حقوقه أو نهي عن ضده، أو إقامة حجة عليه، أو بيان جزاء أهله في الدنيا والآخرة، أو بيان الفرق بينهم وبين المشركين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ويقال له توحيد الألوهية، فإن الألوهية وصفه تعالى الذي ينبغي أن يؤمن به كل بني آدم، ويوقنوا أنه الوصف الملازم له سبحانه، الدال عليها الاسم العظيم وهو الله، وهو مستلزم جميع صفات الكمال. ويقال له: توحيد العبادة باعتبار وجوب ملازمة وصف العبودية بكل معانيها للعبد بصفته الملازمة له من مقتضيات العبودية للربوبية بإخلاص العبادة لله تعالى، وتحقيقها في العبد أن يكون عارفاً بربه مخلصا له جميع عباداته محققا ذلك بترك الشرك صغيرة وكبيرة، وباتباع النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، والبراءة من كل بدعة وضلالة، والحب في الله والبغض لله"1. ثم قال: "وهذا الأصل الذي هو أكبر الأصول وأعظمها قد قدره شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في رسائل لا تحصى وبالأخص في كتاب التوحيد، وذكر من تقريره وتفاصيله وتحقيقه ونفي كل ما يضاده ما لم يوجد في كتاب غيره"2. وقال في موضع آخر: "وهذان الأمران وهما معرفة الله وعبادته هما اللذان خلق الله الخلق لأجلهما، وهي الغاية المقصودة منه تعالى لعباده، وهما الموصلان إلى كل خير وفلاح وصلاح وسعادة دنيوية وأخروية، وهما أشرف عطايا الكريم لعباده وهما أشرف اللذات على الإطلاق وهما اللذان إن فاتا فات كل خير وحضر كل شر"3. وبين رحمه الله أن الأعمال جميعها متوقفة في قبولها على توفره فقال: " ولا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان المخرج عن الكفر والشرك الذي هو شرط لكل عمل صالح"4. وبين أيضاً أن هذا النوع هو خلاصة دعوة الرسل، وأنهم إنما قاتلوا أقوامهم من أجل تحقيقه. فقال: " وهذا النوع زبدة رسالة الله لرسله، فكل نبي يبعثه الله يدعو قومه، يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 5. {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ   1 القواعد الحسان /192، 193. 2 القواعد الحسان /193. 3 التفسير 1/541، وانظر 7/181. 4 التفسير 3/291. 5 سورة الأعراف/ 59، 65، 73، 85 وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} 1 وهو الذي خلق الله لأجله، وشرع الجهاد لإقامته، وجعل الثواب الدنيوي والأخروي لمن قام به وحققه والعقاب لمن تركه. وبه يحصل الفرق بين أهل السعادة القائمين به، وأهل الشقاوة التاركين له"2. وقال رحمه الله: "فجميع الكتب السماوية وجميع الرسل دعوا إلى هذا التوحيد، ونهوا عن ضده من الشرك والتنديد، وخصوصاً محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا القرآن الكريم فإنه أمر به وفرضه وقرره أعظم تقرير، وبينه أعظم بيان، وأخبر أنه لا نجاة ولا فلاح ولا سعادة إلا بهذا التوحيد، وأن جميع الأدلة العقلية والنقلية والأفقية والنفسية أدلة وبراهين على الأمر بهذا التوحيد ووجوبه. فالتوحيد هو حق الله الواجب على العبيد، وهو أعظم أوامر الدين وأصل الأصول كلها، وأساس الأعمال"3 وقال رحمه الله: "وبالجملة: فكل خير عاجل وآجل، فإنه من ثمرات التوحيد وكل شر عاجل وآجل فإنه من ثمرات الشرك"4. وكما أنه رحمه الله بين هذا التوحيد هذا البيان ونبه عليه هذا التنبيه، فقد حث على تعلمه ومعرفته والعمل به والحذر من مخالفته. فقال: "فعلى العبد أن يبذل جهده في معرفته وتحقيقه والتحقق به ويعرف حده وتفسيره، ويعرف حكمه ومترتبته، ويعرف آثاره ومقتضياته وشواهده وأدلته وما يقويه وينميه، وما ينقضه، وشروطه ومكملاته، ويعرف نواقضه ومفسداته لأنه الأصل الأصيل الذي لا تصح الأصول إلا به فكيف بالفروع"5. تعريف ابن سعدي لهذا التوحيد: عرف ابن سعدي توحيد الألوهية بتعريف جامع، ذكر فيه حد هذا التوحيد وتفسيره وأركانه فقال: "فأما حده وتفسيره وأركانه فهو أن يعلم ويعترف على وجه العلم واليقين أن الله هو المألوه وحده المعبود على الحقيقة، وأن صفات الألوهية ومعانيها ليست موجودة بأحد   1 سورة النحل/ الآية 36. 2 الحق الواضح المبين /56. 3 القول السديد /18. 4 القواعد الحسان /18. 5 الحق الواضح المبين /57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 من المخلوقات ولا يستحقها إلا الله تعالى. فإذا عرف ذلك واعترف به حقاً أفرده بالعبادة كلها الظاهرة والباطنة فيقوم بشرائع الإسلام الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين وصلة الأرحام والقيام بحقوق الله وحقوق خلقه، ويقوم بأصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ويقوم بحقائق الإحسان وروح الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة مخلصاً ذلك كله لله، لا يقصد به غرضاً من الأغراض غير رضا ربه وطلب ثوابه، متابعاً في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فعقيدته ما دل عليه الكتاب والسنة. وأعماله وأفعاله ما شرعه الله ورسوله. وأخلاقه وآدابه الاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم في هديه وسمته وكل أحواله؛ ولهذا فإن كمال هذا التوحيد وقوامه بثلاثة أشياء: ـ (توحيد الإخلاص لله وحده) فلا يكون للعبد مراد غير مراد واحد وهو العمل لله وحده. ـ (وتوحيد الصدق) وهو توحيد إرادة العبد في إرادته وقوة إنابته لربه وكمال عبوديته. ـ (وتوحيد الطريق) وهو المتابعة. ..... فمن اجتمعت له هذه الثلاثة نال كل كمال وسعادة وفلاح ولا ينقص من كمال العبد إلا بنقص واحد من هذه الأشياء"1. أدلة هذا النوع من التوحيد: تقدم معنا أن هذا التوحيد هو المقصود من إنزال الكتب وإرسال الرسل؛ فلذا كانت الأدلة عليه في الكتاب والسنة كثيرة، لأنه كلما كان الأمر مهما كلما كثر إيضاحه وبيانه والحث على العمل به. ولقد تضافرت الأدلة في الكتاب والسنة على وجوب إفراد الله بالعبادة بجميع أنواعها، وتنوعت فتارة تأتي النصوص لبيان أن هذا الأمر هو المقصود من خلق الإنس والجن، وتارة تأتي لبيان أنه المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وتارة تأتي للأمر به، والحث عليه، والتحذير من مخالفته، وتارة تأتي لبيان ثواب من عمل به وعقاب من تركه، وعلى هذا فإن النصوص الواردة في الكتاب والسنة جميعها لا تخلو من ذكر هذا النوع أو الإشارة إليه. سأورد الآن جملة من الآيات القرآنية الدالة على ذلك. ثم أذكر كلام ابن سعدي عنها إجمالا:   1 الحق الواضح المبين /58، وانظر الفتاوى السعدية /8، 9، والقول السديد /16،17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 2. وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 3. وقال: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} 4. وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 5. وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 6. وقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 7. قال ابن سعدي رحمه الله بعد ذكر جملة من هذه الآية: "هذه الآيات الكريمة فيها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والدخول تحت رق عبوديته التي هي غاية شرف العبد والانقياد لأوامر واجتناب نواهيه محبة له وذلة وإخلاصا لله وإنابة له في جميع الحالات وفي جميع العبادات الظاهرة والباطنة وفيها النهي عن الشرك به شيئاً. إلى أن قال: بل الواجب المتعين إخلاص العبادة لمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه والتدبير الكامل الشامل الذي لا يشركه ولا يعينه عليه أحد"8. وقال في موضع آخر: "يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، وهو الدخول تحت رق عبوديته والانقياد لأوامره ونواهيه محبة وذلاً وإخلاصاً له في جميع العبادات الظاهرة والباطنة وينهى عن الشرك به شيئاً ... "9. وقال في كتابه: "القول السديد في مقاصد التوحيد" بعد ذكره للأدلة التي ساقها الشيخ محمد بن عبد الوهاب للدلالة على هذا التوحيد قال: "ذكر المصنف في هذه الترجمة   1 سورة الذاريات/ الآية 56. 2 سورة النساء/ الآية 36. 3 سورة الإسراء/ الآية 23. 4 سورة الإسراء/ الآية 39. 5 سورة الأنبياء/ الآية 25. 6 سورة النحل/ الآية 36. 7 سورة الأنعام/ الآية/ 151. 8 الخلاصة /34، 35. 9 التفسير 2/63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 من النصوص ما يدل على أن الله خلق الخلق لعبادته والإخلاص له، وأن ذلك حقه الواجب المفروض عليهم"1 أدلة استحقاق الله للعبادة: هناك أمور كثيرة جداً تدل على أن الله وحده هو المستحق للعبادة دون من سواه، فبما أنه المتفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير فيجب أن يفرد بجميع أنواع العبادة وهذه تسمى دلالات التوحيد. وقد اهتم ابن سعدي بهذه الدلالات وبإيضاحها والتنبيه عليها، وذلك عند تفسيره للآيات التي اشتملت على هذه الدلالات فعند ذكره للآية يبين ما اشتملت عليه من دلالات وما تضمنته من براهين على وجوب إفراد الله بالعبادة. وفيما يلي ذكر بعض الأمثلة على ذلك: 1ـ "دقة صنع الله". فمن أدلة استحقاق الله للعبادة، دقة صنعه لمخلوقاته: قال ابن سعدي: "كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات، وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة علم بذلك أنها خلقت للحق وبالحق وأنها صحائف آيات وكتب دلالات على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر وأنها مسخرات ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها. فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون وإليه صامدون وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات فلا إله إلا الله ولا رب سواه"2. 2ـ "تعدد النعم ": وهذه من أدلة استحقاق الله للعبادة، قال ابن سعدي رحمه الله: "إذا علم أن ما بالعباد من نعمة فمن الله، وأن أحداً من المخلوقات لا ينفع أحداً، علم أن الله هو المستحق لجميع أنواع العبادة، وأن يفرد بالمحبة والخوف والرجاء والتعظيم والتوكل وغير ذلك من أنواع الطاعات، وأن من أظلم الظلم وأقبح القبح أن يعدل عن عبادته إلى عبادة العبيد، وأن يشرك المخلوقين من تراب برب الأرباب، أو يعبد المخلوق المدبر العاجز من جميع الوجوه مع الخالق المدبِر القادر القوي الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء"3.   1 القول السديد /17. 2 التفسير 1/194. 3 التفسير 1/188، 189، وانظر الخطب المنبرية /74، 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 3ـ "تفرد الله بالأسماء الحسنى والصفات العلى". فيستدل بتفرد الله وحده بالأسماء الحسنى والصفات العلى على وجوب إفراده العبادة: ـ قال ابن سعدي رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} 1: "يخبر تعالى وهو أصدق القائلين أنه (إله واحد) أي متوحد متفرد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. فليس له شريك في ذاته ولا سمي له ولا كفو له ولا مثل ولا نظير ولا خالق ولا مدبر غيره. فإذا كان كذلك فهو المستحق؛ لأن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة ولا يشرك به أحد من خلقه"2. وقال: "ومن الأدلة على ذلك معرفة تفرد الرب بالكمال المطلق وأن له كل صفة كمال، وأن المخلوقات كلها كل وصف حميد فيها فإنه من الله تعالى، ليس بها وليس منها وهذا من أعظم البراهين على أنه هو المخصوص بالتأله والعبودية"3. 4ـ "نعمة إنزال المطر": وهذه النعمة العظيمة من جملة الأدلة الدالة على وجوب إفراد الله بالعبادة. قال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} 4 قال: "يذكر الله تعالى في هذه الآية نعمة من أعظم النعم ليعقلوا عن الله مواعظه وتذكيره فيستدلوا بذلك على أنه وحده المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده"5. 5 ـ "تفرد الله بالربوبية". وهذه من أعظم أدلة على وجوب إفراد الله تعالى الذي خلقك ورزقك وأنعم عليك بالنعم الظاهرة والباطنة لم يشاركه في ذلك مشارك فعليك أن لا تتأله لغيره ولا تتعبد لغيره، وعليك أن تخصه بالتوحيد والسؤال واللجأ والفزع في أمورك كلها، وهذا من أعظم الأدلة على توحيد الألوهية، وهو الاستدلال بربوبية الله الذي لا يستحق الألوهية ولا شيئاً من العبودية غيره"6.   1 سورة البقرة/ الآية 163. 2 التفسير 1/188. 3 الحق الواضح المبين /58. 4 سورة النحل/ الآية 65. 5 التفسير 4/216. 6 الحق الواضح المبين /58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 6ـ "وكونه النافع الضار المعطي المانع". فمن اتصف بهذه الصفات فهو المعبود بحق ولا معبود بحق سواه، وهذا دليل عظيم على وجوب إفراد الله بالعبادة. قال رحمه الله عند قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 1. قال: "هذا من أعظم الأدلة على أن الله وحده المستحق للعبادة، فإنه النافع الضار المعطي المانع الذي إذا مس بضر كفقر ومرض ونحوها فلا كاشف له إلا هو؛ لأن الخلق لو اجتمعوا على أن يضروا أحداً لم يقدروا على شيء من ضرره إذا لم يرده"2. هذا وإن هناك عدة أمور إذا تأملها الإنسان وتبصر فيها هدته إلى أن الله هو المعبود بحق ولا معبود بحق سواه. أجملها الشيخ ابن سعدي في تسعة أمور ذكرها عند تفسيره لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} 3. قال: "العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته بمعنى ما طلب منه علمه وتمامه أن يعمل بمقتضاه. وهذا العلم الذي أمر الله به وهو العلم بتوحيد الله فرض عين على كل إنسان لا يسقط عن أحد كائنا من كان، بل كل مضطر إلى ذلك. والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا الله أمور: أحدها: بل أعظمها تدبر أسمائه وصفاته الدالة على كماله وعظمته وجلاله فإنها توجب بذل الجهد في التأله والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال. الثاني: العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية. الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته والتأله له وحده لا شريك له. الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة ومن عقوبته لأعدائه المشركين به فإن هذا داع إلى العلم بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها.   1 سورة يونس/ الآية 107. 2 التفسير 3/397. 3 سورة محمد/ الآية 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله، واتخذت آلهة وأنها ناقصة من جميع الوجوه فقيرة بالذات لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ولا ينصرون من عبدهم ولا ينفعونهم بمثقال ذرة من جلب خير أو دفع شر، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا الله وبطلان إلهية ما سواه. السادس: اتفاق كتب الله على ذلك وتواطؤها عليه. السابع: أن خواص الخلق الدين هم أكمل الخليقة أخلاقاً وعقولاً ورأياً وصواباً وعلماً وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون قد شهدوا لله بذلك. الثامن: ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية التي تدل على التوحيد أعظم دلالة تنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطف صنعته وبديع حكمته وغرائب خلقه"1. وذكر هذه الأمور الثمانية في خلاصة التفسير وزاد عليها تاسعا وهو: (ما أودعه الله في شرعه من الآيات المحكمة والأحكام الحسنة والحقوق العادلة والخير الكثير وجلب المنافع كلها ودفع المضار، ومن الإحسان المتنوع وذلك يدل أكبر دلالة أنه الله الذي لا يستحق العبادة سواه وأن شريعته التي أنزلت رسالة شاهدة بذلك"2. ثم رحمه الله قال في تفسيره بعد ذكره الأمور التي يحصل بها العلم بوجوب إفراد الله بالعبادة: "فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا الله وأبداها في كتابه وأعادها عند تأمل العبد في بعضها لا بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت وقامت أدلة للتوحيد من كل جانب فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد بحيث يكون كالجبال الرواسي لا تزلزله الشبه والخيالات ولا يزداد على تكرار الباطل والشبه إلا نمواً وكمالاً هذا وإن نظرت إلى الدليل العظيم والأمر الكبير وهو تدبير هذا القرآن العظيم والتأمل في آياته فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله مالا يحصل في غيره"3. كلامه في فضل التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله:- إن السشهادة لله بالوحدانية بجميع أنواع العبادة يترتب عليه حصول فوائد عظيمة وفضائل كثيرة لا تحصى لكثرتها. وقد عدد الشيخ ابن سعدي رحمه الله جملة من هذه الفوائد والفضائل التي لا تحصل إلا لمن وحد الله بالعبادة ولم يشرك به.   1 التفسير 7/73، 74، 75، وانظر التوضيح والبيان لشجرة الإيمان /23 وما بعدها، والقواعد الحسان /193. 2 الخلاصة /16 3 التفسير 1/75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قال رحمه الله: 1ـ "من فضائل التوحيد أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما. 2ـ ومن فضائله أنه يكفر الذنوب. 3ـ ومن أجل فوائده أنه يمنع الخلود في النار إن كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل. 4ـ وأنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية. 5ـ ومنها: أنه يحصل لصاحبه الهدى الكامل، والأمن التام في الدنيا والآخرة. 6ـ ومنها: أنه السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه، وأن أسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه. 7ـ ومن أعظم فضائله أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كلمت هذه الأمور وتمت. 8 ـ ومن فضائله أنه يسهل على العبد فعل الخير وترك المنكرات ويسليه عن المصيبات. فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات لما يرجو من ثواب ربه ورضوانه ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي لما يخشى من سخطه وعقابه. 9ـ ومنها أن التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان وجعله من الراشدين. 10ـ ومنها أنه يخفف عن العبد المكاره ويهون عليه الآلام، فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة. 11ـ ومن أعظم فضائله أن يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي، ويكون مع ذلك متألها متعبداً لله لا يرجو سواه ولا يخشى إلا إياه ولا ينيب إلا إليه، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه. 12ـ ومن فضائله التي لا يلحقه فيها شيء إن التوحيد إذا تم وكمل في القلب وتحقق تحققاً كاملاً بالإخلاص التام، فإنه يصير القليل من عمله كثيراً، وتضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، ورجحت كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السموات والأرض، وعمارها من جميع خلق الله"1. هذا قليل من كثير من فوائد التوحيد، وفضائل لا إله إلا الله. لا ينالها إلا من فهم معناها وعمل بمقتضاها.   1 القول السديد /19 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 كلامه في معنى كلمة التوحيد "لا إله إلا الله": وردت أحاديث كثيرة في فضل هذه الكلمة، ولا ينال أحد ثوابها والفضل الذي فيها إلا إذا فهم معناها وعمل بمقتضاها. منها حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان عليه من العمل"1. ومنها: حديث عتبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"2 ومنها: حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلا الله صادقا بها دخل الجنة"3. وغيرها من الأحاديث التي تدل على فضل هذه الكلمة، ولكن كما تقدم هذا الفضل مختص بمن فهم معناها وعمل بمقتضاها. وهذه الأحاديث المتقدمة متضمنة لمعنى لا إله إلا الله، وهو أن يفرد الله وحده بجميع أنواع العبادة ولا يشرك معه غيره4. وقد فسرت لا إله إلا الله بتفسيرات باطلة، وذلك لعدم فهم مراد الله منها. من هذه التفسيرات: أن معنى لا إله إلا الله: أي لا موجود إلا الله وهذا يفهم منه الاتحاد. ومنها: أن معناها أي لا معبود موجود إلا الله، وهذا باطل؛ لأنه يلزم منه أن كل معبود عبد بحق أو باطل هو الله. ومنها: أن معناها أي لا خالق إلا الله، وهذا تدل عليه هذه الكلمة ولكن ليس هو المراد منها. وإنما معنى هذه الكلمة باتفاق السلف الصالح.   1 أخرجه البخاري 4/139، ومسلم 1/57. 2 أخرجه البخاري 1/110، ومسلم 1/61. 3 أخرجه الإمام أحمد في مسند 4/411، والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد 1/16 وإسناده صحيح. ورجاله رجال الشيخين. 4 فتح المجيد /41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 أنه لا معبود بحق إلا الله، "لا إله" نافية لجميع ما يعبد من دون الله فلا يستحق أن يعبد غيره، "إلا الله" مثبتة العبادة لله فهو الإله المستحق للعبادة1. وقد أوضح الشيخ ابن سعدي هذا المعنى الأخير وبين أنه المراد بهذه الكلمة في مواطن متعددة في تفسيره. قال رحمه الله: "لا إله إلا الله: أي لا معبود بحق إلا الله وحده لا شريك له"2. قال عند تفسيره لآية الكرسي: "فأخبر أنه الله الذي له جميع معاني الألوهية وأنه لا يستحق الألوهية والعبودية إلا هو فألوهية غيره، وعبادة غيره باطلة"3. وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُو .... } 4 "فأخبر أنه الله المألوه المعبود، الذي لا إله إلا هو، وذلك لكماله العظيم وإحسانه الشامل وتدبيره العام. وكل إله غيره فإنه باطل، لا يستحق من العبادة مثقال ذرة؛ لأنه فقير عاجز ناقص لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً"5. فمن شهد لله بالألوهية ونطق بهذه الكلمة لا بد أن يفرده بالعبادة، وأن يحذر من الوقوع بالإشراك فيه. وأما من قال هذه الكلمة ولم يعمل بمقتضاها فإنها لا تنفعه؛ ولهذا يقول ابن سعدي. "إن الشاهد لله بالوحدانية وعدم الشريك يقتضي كمال اعتقاده ذلك. وكمال الإخلاص لله، والقيام بحقوق العبودية كلها، فإنها من التأله لله تعالى، فإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة والصيام والحج ونحوها داخلة في ألوهية الله تعالى، كما تدخل أعمال القلوب فيها من الإنابة لله خوفاً ورجاءً ومحبةً وتعظيماً ورغبةً ورهباً"6. ولهذا فإن على من أراد أن يحقق معنى لا إله إلا الله أن يفهم معنى العبودية ليفرد الله بها.   1 معارج القبول للحكمي 1/375، وتطهير الاعتقاد للصنعاني /19. 2 التفسير 3/102. 3 التفسير 1/313. 4 سورة الحشر/ الآية 22. 5 التفسير 7/345. 6 الفتاوى السعدية /88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 كلامه في تعريف العبادة:- اهتم الشيخ ابن سعدي رحمه الله بتعريف العبادة إذ هي المقصود من خلق الجن والإنس كما تقدم بيان ذلك. وتظهر أهمية معرفة معنى هذه الكلمة إذا عرفنا أن جميع من عبد غير الله أو أكثرهم إنما عبدوهم لعدم فهمهم لمعنى العبادة، وأنها حق الله لا يجوز صرفها لغيره. كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "وحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا"1. فإذا كانت العبودية بهذه المكانة، فهي جديرة بأن توضح وتبين ويظهر معناها. وقد عرف شيخ الإسلام ابن تيمية العبادة بأنها "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة". فيدخل تحت التعريف أمور كثيرة من الأعمال الظاهرة كالصلاة والزكاة والحج والصوم والصدقة والإحسان وبر الوالدين وإماطة الأذى عن الطريق وغيرها. وأمور من الأعمال الباطنة كالخشية والإنابة والخوف والرجاء وغيرها. وهذا يبين خطأ تصور كثير من الناس من أن العبادة متقصرة على المباني الخمسة للإسلام. فقد دلت النصوص على أن كل أمر يحبه الله ويرضاه يجب أن يتعبد الله به ولا يجوز أن يتعبد به غيره. وهذا التعريف الذي ذكره شيخ الإسلام للعبادة يعد تعريفا جامعاً للعبادة؛ ولهذا فقد نقل الشيخ ابن سعدي رحمه الله هذا التعريف في عدة مواطن من مؤلفاته2. قال عند تفسيره لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . "أي نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة؛ لأن تقديم المعمول يفيد الحصر وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، فكأنه يقول نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعين بك ولا نستعين بغيرك ... إلى أن قال: والعبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة"3.   1 أخرجه البخاري 8/164، ومسلم 1/58، والترمذي 5/27، وابن ماجه 2/1435. وأحمد 2/309. 2 انظر التفسير 1/35، والخلاصة /10 وغيرهما. 3 التفسير 1/35، والخلاصة /10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وقال رحمه الله: "العبادة روحها وحقيقتها تحقيق الحب والخضوع لله فالحب التام والخضوع الكامل لله هو حقيقة العبادة، فمتى خلت العبادة من هذين الأمرين أو من أحدهما فليست عبادة، فإن حقيقتها الذل والانكسار لله ولا يكون ذلك إلا مع محبته المحبة التامة تتبعها المحاب كلها"1. وقال: "العبادة والعبودية لله: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من العقائد وأعمال القلوب وأعمال الجوارح، فكل ما يقرب إلى الله من الأفعال والتروك فهو عبادة؛ ولهذا كان تارك المعصية لله متعبدا متقرباً إلى ربه بذلك"2. وقول ابن سعدي إن تارك المعصية إذا تركها لأجل الله صار متعبداً لله بها تشهد له نصوص كثيرة. ومنها حديث ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الحسنات والسئيات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسئية فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة"3. ومنها حديث الثلاثة الذين أووا إلى غار في الجبل فانطبقت عليهم صخرة وسدت فم الغار. فأخذ كل واحد منهم يتوسل إلى الله بأعماله الصالحة فقال أحدهم: "اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجل النساء وطلبت منها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فتعبت حتى جمعت مائة دينار. فجئتها بها. فلما وقعت بين رجليها قالت يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه. فقمت عنها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة. ففرج لهم ..... الحديث"4. وهذه نعمة عظيمة ومنّة جسيمة من الله على خلقه، فترك المعصية لأجل الله عبادة ويثاب عليها صاحبها، فلله الحمد والشكر. بيان وتوضيحه أن العبادة لا تقبل إلا بشرطين هما الإخلاص والمتابعة:- هذا وإن العبادة أياً كان نوعها وأياً كانت صفتها لا تقبل من فاعلها إلا إذا توفر فيها شرطان.   1 الحق الواضح المبين /59، 60. 2 الخلاصة /201. 3 أخرجه البخاري 7/187، ومسلم 1/118. 4 جزء من حديث أخرجه البخاري 7/69، ومسلم 4/2099، عن أنس بن مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 فإن عدما أو عدم أحدهما فلن تقبل من فاعلها، بل يكون من الخاسرين الذين قال الله عنهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 1. ولأهمية هذين الشرطين ولتحتم معرفتهما على كل مسلم، فقد اهتم بهما علماء الإسلام قديماً وحديثاً. وأول هذين الشرطين: أن تكون العبادة خالصة لوجه الله، فلا يشرك مع الله أحداً في العبادة. وثانيهما: أن تكون العبادة مطابقة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا ولقد تضافرت الأدلة في الكتاب والسنة على هذين الشرطين، فوردت نصوص كثيرة في القرآن الكريم وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب إفراد الله وحده بالعبادة وترك الشرك. ووردت نصوص كثيرة تدل على وجوب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته والسير على نهجه. من أدلة الشرط الأول: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 2. وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 3 وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 4 إلى قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 5. وقوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 6. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} 7. وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 8.   1 سورة الكهف/ الآيتان 103، 104. 2 سورة البينة/ آية 5. 3 سورة الزمر/ آية 2. 4 سورة الزمر/ آية 11. 5 سورة الزمر/ آية 14. 6 سورة غافر/ آية 14. 7 سورة النساء/ آية 48. 8 سورة المائدة/ آية 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وفي الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه "1 واللفظ للبخاري. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"2. وغيرها من النصوص الدالة على وجوب إخلاص العبادة لله وحده. من أدلة الشرط الثاني: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3. وقوله {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 4 وقوله {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 5. وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"6. وفي رواية لمسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"7. وعن عرباض بن سارية رضي الله عنه قال: " وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاًُ كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا   1 البخاري 1/2، ومسلم 2/1515. 2 مسلم 4/2289، وأخرجه ابن ماجه 2/1405. 3 سورة الحشر/ آية 7. 4 سورة آل عمران/ آية 31، 32. 5 سورة النور/ آية 63. 6 البخاري 3/167، ومسلم 1343 وأخرجه ابن ماجه 1/7، وأبو داود 4/200، وأحمد 6/270. 7 مسلم 3/1344، ورواه أحمد في المسند 6/146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"1. وغيرها من النصوص الدالة على هذا الأصل العظيم. والمقصود أن إخلاص العمل لله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات على كل عبد، ولا يستقيم دين عبد ولا تصلح حاله ولا يطيب مآله إلا إذا تمسك بهما. لذا صار التنبيه عليهما مهماً في جميع الأحوال؛ ولهذا فقد اهتم الشيخ ابن سعدي ببيان هذين الأصلين اهتماما كبيراً، ونبه عليهما وبين أنهما أصلان متفق عليهما بين سلف الأمة، وبين أن الأعمال لا تقبل إلا بهما، وبين أنهما معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال رحمه الله: "مذهب أهل السنة والجماعة أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الله متفرد بالخلق والملك والسلطان والتدبير، فليس له في ذلك شريك ولا عوين، وأنه الإله الحق الذي لا معبود سواه، وأن كل من عبد من دونه من ملك مقرب أو نبي مرسل أو غيرهما فعبادته من أبطل الباطل وأعظم الشرك ويقومون بعبودية ربهم بكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، يخلصونها لله ويتابعون فيها رسول الله، ويتقربون بها إلى ربهم على وجه المحبة التامة والذل الكامل، فإن عبادة الله مبنية على هذين الأصلين: الإخلاص والمتابعة، الناشئين عن محبة الله وتعظيمه، فعبودية الله الظاهرة والباطنة تدور على هذا، ولا نجاة ولا فلاح إلا بذلك، ويرون أعظم القربات إلى الله الجد في إحسان الأعمال وإكمالها وإيقاعها على أكمل الوجوه مع استحضار مقام المراقبة لله وقت تلبس العبد بها، فيجتهدون في إتقان العمل وتنقيته من جميع المنقصات، ويعلمون أن هذا مراد الله من عباده كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 2" 3. وقال رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "أي ليمتحنكم إذ خلق لكم ما في السموات والأرض بأمره ونهيه، فينظر أيكم أحسن عملاً. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "دين الله أخصله وأصوبه".   1 أخرجه أبو داود 4/200 وابن ماجه 1/15، والدارمي 1/43، وأحمد في المسند 4/126. والمروزي في السنة 4/126، وابن أبي عاصم في السنة بتحقيق الألباني 1/29، وقال الألباني إسناده صحيح ورجاله ثقات. 2 سورة هود/ آية 7. وسورة الملك/ آية 2. 3 توضيح الكافية الشافية /20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 قيل: يا أبا علي "ما أخلصه وأصوبه"؟ فقال: إن العمل إذا كان صواباً، ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص: أن يكون لوجه الله والصواب: أن يكون متبعاً فيه الشرع والسنة"1. ومن الآيات الجامعة لهذين الشرطين قوله تعالى في آخر سورة الكهف: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 2. وقال رحمه الله في تفسيرها: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً وهو الموافق لشرع الله من واجب ومستحب، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً أي لا يرائي بعمله بل يعمله خالصاً لوجه الله تعالى. فهذا الذي جمع بين الإخلاص والمتابعة وهو الذي ينال ما يرجو، ويطلب، وأما من عدا ذلك فإنه خاسر في دنياه وأخراه وقد فاته القرب من مولاه ونيل رضاه"3. تقسيمه للعبودية من حيث عموم الخلق: إن الخلق كلهم عبيد الله باعتبار أنهم كلهم مخلوقون مربوبون له. وأما باعتبار أداء الواجب الذي خلقوا من أجله وهو تحقيق العبادة لله وحده وعدم الإشراك به فليس كلهم عبيد لله بل منهم العبيد ومنهم المشركون. وعلى هذا فإن العبودية بهذا الاعتبار تكون على قسمين عبودية لربوبية الله، وعبودية لألوهيته. وقد تناول الشيخ السعدي هذا التقسيم بالبيان فقال رحمه الله: " العبودية لله نوعان: عبودية لربوبيته: فهذه يشترك فيها سائر الخلق مسلمهم وكافرهم برهم وفاجرهم، فكلهم عبيد لله مربوبون مدبرون {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 4.   1 التفسير 3/404، وانظر التفسير 7/428، وانظر الخلاصة /201. 2 سورة الكهف/ آية 110. 3 التفسير 5/88. 4 سورة مريم/ آية 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وعبودية لألوهيته وعبادته ورحمته: وهي عبودية أنبيائه وأوليائه وهي المراده بقوله {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} 1؛ ولهذا أضافها إلى اسمه إشارة إلى أنهم إنما وصلوا إلى هذه الحال بسبب رحمته"2. ذكر بعض أنواع العبادة مع بيان ابن سعدي لها: تقدم معنا أن العبادة أنواع كثيرة، إذ كل عمل يحبه الله ويرضاه وفيه تذلل وخضوع ومحبة، فهو عبادة ولا يجوز أن يصرف لغير الله فهو المعبود بحق ولا معبود بحق سواه. وسأورد فيما يلي بعض أنواع العبادة، وأذكر كلام ابن سعدي عنها فإنه رحمه الله كما اهتم ببيان العقيدة إجمالاً فقد اهتم ببيانها على وجه التفصيل. إذ أن القارئ في كتابه التفسير وخلاصته وغيرهما من كتبه يلمس هذا الاهتمام ويجد أنه رحمه الله يقف عند كثير من الآيات التي فيها ذكر نوع من أنواع العبادة ويتكلم عن هذا النوع المذكور ويبين أنه حق من حقوق الله التي لا يجوز صرفها لغيره ويذكر ما يتعلق بهذا النوع من التفصيلات وما يندرج تحته من أقسام وغير ذلك من الأمور التي تتعلق به على ما سيتبين من خلال كلامنا عن بعض أنواع العبادة. وسأبدأ أولاً بذكر الدعاء. فالدعاء كما قال صلى الله عليه وسلم "هو العبادة"3. ـ من العبادة الدعاء إن الدعاء هو أعظم العبادة، وهو لبها ومخها، وقد وردت آيات كثيرة في كتاب الله في الحث عليه، وعدم الاستكبار عنه، والترغيب فيه. منها قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 4. وقال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 5.   1 سورة الفرقان/ آية 63. 2 التفسير 5/293، والخلاصة /39. 3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/267، وابن ماجه 2/1258، والترمذي 5/211، وقال حديث حسن صحيح، والبغوي في شرح السنة 5/184، وأبو نعيم في الحلية 8/120، والحاكم في المستدرك 1/490، وصححه ووافقه الذهبي. 4 سورة غافر/ آية 60. 5 سورة الأعراف/ آية 55، 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَْ} 1. وقد ورد في السنة أيضاً أحاديث كثيرة في الترغيب فيه منها: حديث النعمان بن بشير قال: قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة"2 وتلى قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 3. ومنها ما رواه الترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل"4. ومنها: حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"5. وغيرها من الأحاديث. والمقصود أن الدعاء من أفضل العبادات، ومن أعظم القربات التي يقوم به العبد لربه وخالقه ورازقه ومليكه؛ ولهذا فقد ظهر اهتمام ابن سعدي بهذه المسألة، حيث تناول بيانها وأشار إلى أهميتها في العديد من مؤلفاته، وفي مقدمتها التفسير. قال رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 6. "هذا من لطفه بعباده ونعمته العظيمة حيث دعاهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأمرهم بدعائه، دعاء العبادة ودعاء المسألة، ووعدهم أن يستجيب لهم، وتوعد من استكبر عنها فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي ذليلين حقيرين، يجتمع عليهم العذاب والإهانة جزاء على استكبارهم"7.   1 سورة البقرة/ آية 186. 2 تقدم تخريج في ص 167. 3 سورة غافر/ آية 60. 4 الترمذي 5/565، ورواه أبو داود 2/76، وابن ماجه 2/1258، والحاكم (1/490) والبغوي في الشريعة فيها إسناد هذا الحديث من رواية حنش عن ابن عباس. 5 أخرجه أحمد 1/293، والترمذي 4/667 وقال: حديث حسن صحيح، والآجري في الشريعة /189 والحاكم 3/541، وقد أفرد فيه ابن رجب رسالة أسماها "نور الاقتباس" حسن فيها إسناد هذا الحديث من رواية حنش عن ابن عباس. 6 سورة غافر/ الآية 60. 7 التفسير 6/540. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وقال عند قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1: "فأمر بدعائه تضرعاً أي إلحاحاً في المسألة ودءوباً في العبادة وخفية أي لا جهر أو علانية يخاف منه الرياء، بل خفية وإخلاصاً لله تعالى"2. وقال في بيان أهمية الدعاء " .... وكل القربات الظاهرة والباطنة تدخل في دعاء العبادة؛ لأن المتعبد لله طالب بلسان مقاله ولسان حاله من ربه قبول تلك العبادة والإثابة عليها"3. وقال أيضاً في بيان أهميته عند قوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4. "فوضع كلمة الدين موضع كلمة العبادة، وهو في القرآن كثير جداً، يدل على أن الدعاء هو لب الدين وروح العبادة"5. كلامه عن أقسام الدعاء: بين الشيخ ـ رحمه الله ـ في مؤلفاته إن الدعاء ينقسم إلى قسمين دعاء مسألة ودعاء عبادة، فكل أمر في القرآن أو السنة بالدعاء لا يخرج عن هذين القسمين، قال ـ رحمه الله ـ في تفسيره " الدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة"6. وقال في القاعدة الحادية والخمسين من كتابه القواعد الحسان: "كل ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء، والنهي عن دعاء غير الله والثناء على الداعين: يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة. وهذه قاعدة نافعة فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة دعاء المسألة فقط، ولا يظنون دخول العبادات في الدعاء، وهذا خطأ جرهم إلى ما هو شر منه، فإن الآيات صريحة في شموله لدعاء المسألة والعبادة، ويدل على ذلك عموم قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي استجب طلبكم وأتقبل عملكم"7.   1 سورة الأعراف/ 55. 2 التفسير 3/40. 3 الخلاصة /57. 4 سورة غافر/ الآية 14. 5 القواعد الحسان /155. 6 التفسير 1/244، 3/40. 7 القواعد الحسان /156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 كلامه عن آداب الدعاء: إن الالتزام بآداب الدعاء أمرٌ مطلوب من كل مسلم؛ وذلك لأن التزام آدابه سببٌ لقبوله. وقد أشار رحمه الله إلى جملة من آداب الدعاء التي ينبغي للمسلم أن يلتزمها. قال رحمه الله في تفسيره: " ..... من آداب الدعاء: الإخلاص فيه لله وحده وإخفاؤه وأسراره، وأن يكون القلب خائفاً طامعاً لا غافلاً ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة"1. وقال: "من شروط الدعاء وآدابه حضور قلب الداعي واستحضاره لمعاني ما يدعو به"2. وهذا الشرط الأخير جعله يذكر في كتابه المواهب الربانية جملة من الأدعية الواردة في الكتاب والسنة ويقوم بشرحها ليسهل استحضارها، وهي في الحقيقة جملة من الأدعية الجامعة النافعة فلتراجع لأهميتها3. وكذلك من آداب الدعاء أن لا يعتدي فيه ولا يتجاوز فيه الحد، وقد نهى عن الاعتداء في جميع الأمور. قال رحمه الله عند قوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 4. "ومن الاعتداء كون العبد يسأل الله مسائل لا تصلح له، أو ينقطع في السؤال، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه"5. فعلى العبد أن يكثر من دعاء الله سبحانه، وأن يتأدب بآداب الدعاء، وأن يحسن في دعائه والله قريب من المحسنين. ومن أنواع العبادة المحبة: إن نصوص الكتاب والسنة الدالة على وجوب محبة الله سبحانه وتقديم محبته على سائر المحاب كثيرة جداً. قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ   1 التفسير 3/40، 41. 2 المواهب الربانية /28. 3 المواهب الربانية /28، وما بعدها، وانظر بهجة القلوب الأبرار /249. 4 سورة الأعراف/ الآية 40. 5 التفسير 3/40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 1. وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"3. وفيهما عنه رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: "متى الساعة؟ فقال "ما أعددت لها"؟ قال ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنت مع من أحببت"4. وقد تناول ابن سعدي هذا النوع من العبادة وبين أهميته وشدة الحاجة إليه وبين معناه، وأنواعه وما يتعلق به. قال في بيان أهميته: "أصل التوحيد وروحه وإخلاص المحبة لله وحده وهي أصل التأله والتعبد، بل هي حقيقة العبادة، ولا يتم التوحيد حتى تكمل محبة العبد لربه، وتسبق محبته جميع المحاب وتغلبها ويكون لها الحكم عليها بحيث تكون سائر محاب العبد تبعاً لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه"5. وقال " العبادة روحها وحقيقتها الحب والخضوع لله، فالحب التام والخضوع الكامل لله هو حقيقة العبادة فمتى خلت العبادة من هذين الأمرين أو من أحدهما فليست عبادة، فإن حقيقتها الذل والانكسار لله، ولا يكون ذلك إلا مع محبته المحبة التامة التي تتبعها المحاب كلها"6. وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ .... } 7 الآية: "وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة الله ورسوله وعلى تقديمها على محبة كل شيء"8   1 سورة التوبة/ الآية 24. 2 سورة آل عمران/ الآية 31. 3 البخاري 1/9، ومسلم 1/66. 4 البخاري 7/113، ومسلم 4/2032. 5 القول السديد /110. 6 الحق الواضح المبين /59، 60. 7 سورة التوبة/ الآية 24. 8 التفسير 3/314. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 كلامه في معنى محبة الله: قال رحمه الله عند قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 1. "وهذه الآية هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة، ومن ادعى ذلك دعوى مجردة. فعلامة محبة الله اتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو إليه، طريقاً إلى محبته ورضوانه. فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما واجتناب نهيهما"2. وقال: "ومن لوازم محبة العبد لربه، أنه لا بد أن يتصف بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، وفي أقواله وأعماله وجميع أحواله"3. والمقصود أن مجرد الادعاء لا يكفي بل لا بد من المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ويظهر ذلك ويتبين فيما إذا عرض للإنسان أمران أحدهما يحبه الله ورسوله وليس لنفسه فيه هوى، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه ولكنه يفوت عليه محبوباً لله ورسوله، وينقصه، فإن قدم ما يحبه الله ورسوله صار صادقاً في دعواه، وإن قدم ما تحبه نفسه وتهواه على ما يحبه الله دل ذلك على أنه ظالم تارك لما يجب عليه"4. تقسيمه للمحبة: قسم الشيخ ابن سعدي المحبة إلى أربعة أقسام فقال: "واعلم أن أنواع المحبة ثلاثة أقسام: الأول: محبة الله التي هي أصل الإيمان والتوحيد. الثاني: المحبة في الله وهي محبة أنبياء الله ورسله وأتباعهم، ومحبة ما يحبه الله من الأعمال والأزمنة والأمكنة وغيرها، وهذه تابعة لمحبة الله ومكملة لها. الثالث: محبة مع الله وهي محبة المشركين لآلهتهم وأندادهم من شجر، وملك وغيرها وهي أصل الشرك وأساسه.   1 سورة آل عمران/ الآية 31. 2 التفسير 1/374. 3 التفسير 2/207. 4 التفسير 3/314. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وهنا قسم رابع: وهو المحبة الطبيعية التي تتبع ما يلائم العبد، ويوافقه من طعام وشراب ونكاح ولباس وعشرة وغيرها. وهذه إذا كانت مباحة إن أعانت على محبة الله وطاعته دخلت في باب العبادات، وإن صدت عن ذلك وتوسل بها إلى ما لا يحبه الله دخلت في المنهيات. وإلا بقيت من أقسام المباحات"1. نسأل الله أن يرزقنا حبه، وحب من يحبه والعمل الذي يقرب إلى حبه إنه جواد كريم. ومن أنواع العبادة الخوف: الخوف من أفضل مقدمات الدين وأجلها، وقد ذكره الله في كتابه عن سادات المقربين من الملائكة والأولياء والصالحين. وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 2. وقال: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 3. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} 4. وقال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} 5. وهو من العبادات العظيمة ولا يجوز صرفه لغير الله، وقد أمر الله بإخلاصه له في أكثر من آية. وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 6. وقال: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} 7. وقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 8. وقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 9.   1 القول السدسد /112، 113. 2 سورة النحل/ الآية 50. 3 سورة الأنبياء/ الآية 28. 4 سورة المؤمنون/ الآية 57. 5 سورة الأحزاب/ الآية 39. 6 سورة المائدة/ الآية 44. 7 سورة النحل/ الآية 52. 8 سورة آل عمران/ الآية 175. 9 سورة البقرة/ الآية 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 هذا وقد تناول الشيخ ابن سعدي هذا النوع من العبادة بالبيان والإيضاح. فقال رحمه الله في بيان إخلاص هذا النوع من العبادة لله وحده عند تفسيره لقوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُون} 1. قال: "أي فلا تخافوا المشركين أولياء الشيطان، فإن نواصيهم بيد الله، لا يتصرفون إلا بقدره. بل خافوا الله الذي ينصر أولياءه الخائفين إياه المستجيبين لدعوته وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده، وأنه من لوازم الإيمان، فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله، والخوف المحمود ما حجز العبد عن محارم الله"2. وقال في بيان أهمية الخوف: "فالخوف يمنع العبد عن محارم الله وتشاركه الخشية في ذلك .... "3. وقال: "فإن خشية الله جالبة لكل خير مانعة من كل شر"4. تقسيمه للخوف: يقسم ابن سعدي الخوف إلى أربعة أقسام: (1) خوف تأله لله، وتعلقه بالله من أعظم الواجبات. (2) خوف تأله لغير الله وهذا شرك أكبر. (3) خوف طبيعي كالخوف من الأسد والحية والنار وغير ذلك. (4) خوف وهمي كالخوف الذي ليس له سبب أصلاً وهذا مذموم يدخل صاحبه في وصف الجبناء. قال رحمه الله في بيان هذه الأقسام: "اعلم أن الخوف والخشية تارة يقع عبادة وتارة يقع طبيعة وعادة، وذلك بحسب أسبابه ومتعلقاته. فإن كان الخوف والخشية خوف تأله وتعبد وتقرب بذلك الخوف إلى من يخافه، وكان يدعو إلى طاعة باطنة وخوف سري يزجر عن معصية من يخافه كان تعلقه بالله من أعظم واجبات الإيمان. وتعلقه بغير الله من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله؛ لأنه أشرك في هذه العبادة   1 سورة آل عمران/ الآية 175. 2 التفسير 1/457، وانظر القول السديد /114. 3 الخلاصة /201. 4 التفسير 6/225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 التي هي من أعظم واجبات القلب ـ غير الله مع الله، وربما زاد خوفه من غير الله على خوفه لله. وأيضاً فمن خشي الله وحده على هذا الوجه مخلص موحد، ومن خشي غيره فقد جعل لله نداً في الخشية كمن جعل لله نداً في المحبة، وذلك كمن يخشى من صاحب القبر أن يوقع به مكروها أو يغضب عليه فيسلبه نعمه أو نحو ذلك مما هو واقع من عباد القبور. وإن كان الخوف طبيعياً كمن يخشى من عدو أو سبع أو حية أو نحو ذلك مما يخشى ضرره الظاهري، فهذا النوع ليس عبادة، وقد يوجد من كثير من المؤمنين، ولا ينافي الإيمان، وهذا إذا كان خوفاً محققاً قد انعقدت أسباب الخوف فليس بمذموم. وإن كان هذا خوفاً وهميا كالخوف الذي ليس له سبب أصلاً، أو له سبب ضعيف فهذا مذموم يدخل صاحبه في وصف الجبناء، وقد تعوذ صلى الله عليه وسلم من الجبن فهو من الأخلاق الرذيلة"1. من أنواع العبادة التوكل: قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 2. وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} 3. وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 4. وغيرها من الآيات. والتوكل فريضة يجب إخلاصه لله إذ هو من أفضل العبادات وأعظم القربات وهو أعلى مقامات التوحيد. وقد اهتم ابن سعدي ببيان هذه العبادة كما اهتم ببيان غيرها من العبادات وأشار إلى أهمية التوكل وشدة الحاجة إليه. قال رحمه الله: "التوكل على الله من أعظم واجبات التوحيد والإيمان. وبحسب قوة توكل العبد على الله يقوى إيمانه ويتم توحيده، والعبد يضطر إلى التوكل على الله والاستعانة به في كل ما يريد فعله أو تركه من أمور دينه أو دنياه"5.   1 القول السديد /115، 116. 2 سورة المائدة/ الآية 11. 3 سورة الفرقان/ الآية 58. 4القول السديد/ 117. 5 القول السديد /117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وقال في إحدى خطبه: "فالاستعانة بالله، والتوكل عليه من أعظم واجبات الإيمان وأفضل الأعمال المقربة للرحمن. فإن الأمور كلها لا تحصل ولا تتم إلا بالاستعانة بالله، ولا عاصم للعبد سوى الاعتماد على الله. فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا تحول للعباد من حال إلى حال إلا بالله، ولا قوة لهم على طاعة الله إلا بتوفيق الله، ولا مانع لهم من الشر والمعاصي إلا عصمة الله، وكذلك أسباب الرزق لا تحصل وتتم إلا بالسعي في الطلب مع التوكل على الله"1. وكما بين رحمه الله أهمية التوكل فقد بين حقيقته وكيفيته فقال: "حقيقة التوكل على الله: أن يعلم العبد أن الأمر كله لله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه النافع الضار المعطي المانع، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله فبعد هذا العلم يعتمد بقلبه على ربه في جلب مصالح دينه ودنياه، وفي دفع المضار، ويثق غاية الوثوق بربه في حصول مطلوبه، وهو مع هذا باذل جهده، في فعل الأسباب النافعة. فمتى استدام العبد هذا العلم وهذا الاعتماد والثقة فهو المتوكل على الله حقيقة، ليبشر بكفاية الله له ووعده المتوكلين، ومتى علق ذلك بغير الله فهو شرك، ومن توكل على غير الله وتعلق به وكل إليه وخاب أمله"2. كلامه في التوسل: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3. وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 4. وهذه أيضا من العبادات التي تناولها الشيخ ابن سعدي وبين معناها وأقسامها. قال رحمه الله في بيان معنى التوسل إلى الله وذلك عند قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} . "أي القرب منه والحظوة لديه والحب له، وذلك بأداء فرائضه القلبية كالحب له وفيه، والخوف والرجاء والإنابة والتوكل. وبدنية كالزكاة والحج.   1 الفواكه الشهية/22. 2 القول السديد /117، 118. 3 سورة المائدة/ الآية 35. 4 سورة الإسراء/ الآية 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 والمركبة من ذلك كالصلاة ونحوها .... "1. وبين أن التوسل ثلاثة أقسام فقال: "التوسل يطلق على التوسل إلى الله بما جعله وسيلة إليه في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 2. وذلك يشمل التقرب إلى الله بالواجبات والمستحبات، وكذلك التقرب إليه بترك المكروهات. فهذا توسل إليه بعبادته التي خلق لأجلها، ومن هذا التوسل إليه في دعاء المسألة بأسمائه وصفاته، والتوسل إليه بمنته ونعمه كالتوسل إليه بالإيمان به وبرسله وكتبه أو دفع نقمه، وبالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباعه بالصلاة والسلام عليه، فهذه الوسيلة لا يتم الإيمان إلا بها. النوع الثاني: التوسل إلى الله بذوات المخلوقين، وجاههم فهذا الصواب أنه لا يحل؛ لأنه لا يتقرب إلى الله إلا بما شرع، وهذا ليس بمشروع، وأيضاً فذوات المخلوقين وإن كان لهم عند الله مقام وجاه، فهذا ليس لغيرهم وليس التوسل بهم سببا لشفاعتهم للمتوسل عند الله ولم يجعله الله من الأمور المقربة إليه، وليس ذلك إلا توسلا بما منّ الله على المتوسل فتعين أنه لا يجوز. النوع الثالث: ما يسميه المشركون توسلاً وهو التقرب إلى المخلوقين بالدعاء والخوف والرجاء والطمع ونحو ذلك فهذا توسل الشيطان وهو الشرك الأكبر الذي لا يغفر لصاحبه إن لم يتب"3. كلامه عن الشرك: تمهيد: إن معرفة الشرك وخطره وأسبابه وأدلة بطلانه وأنواعه من أهم الأمور، وذلك أنه لا يمكن للإنسان أن يحذر منه ويحذر غيره إلا إذا عرفه وعرف خطره. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه قال: "كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"4.   1 التفسير 2/285. 2 سورة المائدة/ الآية 35. 3 الفتاوى السعدية /31، 32، وانظر التفسير 1/363، والمواهب الربانية /31، 32، 33. 4 البخاري 8/93، ومسلم 3/1475، وأخرجه الإمام أحمد 5/403، وأبو داود 4/95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وهذا المعنى تمثل به أحد الشعراء بقوله: عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لم يعرف الشر من الناس يقع فيه ومن هنا يتلخص لنا أن في معرفة الشرك وما يتعلق به فوائد عديدة: أحدها: إن الإنسان يمكنه بمعرفة الشرك أن يحذر من الوقوع فيه. الثاني: أنه يمكنه بذلك أن يحذر غيره. الثالث: أنه يظهر له بذلك حسن الإسلام والتوحيد، وذلك أنه إذا عرف الشرك وظهر له بطلانه، عرف أن ضده وهو التوحيد أفضل الأعمال، بضدها تتميز الأشياء. إلى غير ذلك من الفوائد. ولهذه الأسباب وغيرها فقد ظهر اهتمام الشيخ ابن سعدي ببيان الشرك وأقسامه وأسبابه وخطره وجميع ما يتعلق به، وبين أن توحيد العبادة المتقدم بيانه لا يتم ولا يقبل من صاحبه إلا بترك الشرك والبعد عنه. قال: "ولا يتم توحيد العبادة حتى يخلص العبد لله في جميع إرادته وأقواله وأفعاله، وحتى يدع الشرك الأكبر المنافي للتوحيد كل المنافاة، وهو أن يصرف نوعاً من أنواع العبادة لغير الله تعالى، وتحقيق هذا التوحيد وتمامه أن يدع الشرك الأصغر وهو: كل وسيلة يتوسل بها إلى الشرك الأكبر كالحلف بغير الله، ويسير الرياء ونحو ذلك"1. ولهذا فإني سأذكر فيما يلي تعريفه للشرك وبيانه لأقسامه وأسبابه وذمه له وبيانه لبطلانه إلى غير ذلك من الأمور التي تتعلق بهذا الجانب. تعريفه للشرك وبيانه لأقسامه: قال رحمه الله في تعريف الشرك: "وحقيقة الشرك بالله: أن يُعبد المخلوق كما يعبد الله أو يُعظم كما يعظم الله أو يُصرف له نوع من خصائص الربوبية والألوهية"2. وقسم الشرك إلى نوعين: شرك في الربوبية، وشرك في الألوهية فقال: "الشرك نوعان: شرك في ربوبيته تعالى كشرك الثانوية الذين يثبتون خالقاً مع الله وشرك في ألوهيته كشرك المشركين الذين يعبدون الله ويعبدون غيره ويشركون بينه، وبين المخلوقين، ويسوونهم مع الله في شيء من خصائص ألوهيته"3.   1 الفتاوى السعدية /13. 2 التفسير 2/499. 3 الخلاصة /203 وانظر الرياض الناضرة /256، وسؤال وجواب /11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وكلامنا هنا سيكون مقتصراً على النوع الثاني من أنواع الشرك وهو "الشرك في الألوهية"، أما النوع الأول فقد تقدم الكلام عليه ضمن توحيد الربوبية. ذم الشرك: وردت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة في التحذير من الشرك، وبيان خطره، وأنه أعظم ذنب عصى الله به، وأنه لا أضل من فاعله، وأنه مخلد في النار أبداً لا نصير له ولا حميم ولا شفيع يطاع. بل إن الآيات والأحاديث الواردة في ذلك لا تحصى إلا بكلفة. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 1. وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} 2. وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 3. وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 4. وقال للرسل وهم صفوة الخلق: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5. وقال لخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 6. وغيرها من الآيات. ومن الأحاديث الواردة في ذلك. حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار"7.   1 سورة النساء/ الآية 48. 2 سورة النساء/ الآية 116. 3 سورة المائدة/ الآية 72. 4 سورة الحج/ الآية 31. 5 سورة الأنعام/ الآية 88. 6 سورة الزمر/ الآية 65. 7 أخرجه البخاري 2/69، ومسلم 1/94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وحديث جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة"1. وحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق"2. وحديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" ثلاثاً: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت"3. وغيرها من الأحاديث. ولقد اهتم سعدي ببيان خطورة الإشراك بالله وشناعته، وقبح فاعله وضلاله، وبين أن الله وملائكته ورسله قد حذروا من هذا العمل وبين أن ما عبد من دون الله لا يملك لنفسه ضراً ولا رشداً وأن النافع الضار هو الله إلى غير ذلك من الجوانب التي تناولها في سبيل بيان قبح الشرك. قال رحمه الله: "فالله وملائكته ورسله قد نهوا عن الشرك، وذموا من عمله أشد الذم، ورتبوا عليه من الأسماء المذمومة والأوصاف المقبوحة ما كان به متعاطية أشنع الخلق وصفاً وأقبحهم نعتاً، وله في الخذلان في أمر دينه ودنياه بحسب ما تركه من التعلق بربه. فمن تعلق بغيره فهو مخذول، قد وكل إلى من تعلق به، ولا أحد من الخلق ينفع أحداً إلا بإذن الله"4. وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} 5. "فهذا برهان جلي دال على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله مستقبح عقلاً وشرعاً، ودل تنبيهه وإشارته أن الذي يجب ويحسن عبادته من له الكمال الذي لا ينال العباد نعمة إلا منه ولا يدفع عنهم نقمة إلا هو الله تعالى"6.   1 أخرجه مسلم 1/94. 2 أخرجه البخاري 2/69، ومسلم 1/94. 3 أخرجه البخاري 3/152، ومسلم 1/91. 4 التفسير 4/369، وانظر 6/130. 5 سورة مريم/ الآية 42. 6 التفسير 5/110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وقال عند قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 1: ".. فالمخلوقات كل مخلوق فوقه مخلوق يقهره ثم فوق ذلك القاهر قاهر أعلى منه حتى ينتهي القهر للواحد القهار، فالقهر والتوحيد متلازمان متبينان لله وحده. فتبين بالدليل العقلي القاهر أن ما يدعى من دون الله ليس له شيء من خلق المخلوقات وبذلك كانت عبادته باطلة"2. وقال عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ... } 3. " .... الشرك لا يغفره الله لتضمنه القدح في رب العالمين، ووحدانيته وتسوية المخلوق الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، بمن هو مالك النفع والضر، الذي ما من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه والغني التام بجميع وجوه الاعتبارات. فمن أعظم الظلم، وأبعد الضلال، عدم إخلاص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته، وصرف شيء منها للمخلوق الذي ليس له من صفات الكمال شيء ولا له من صفات الغني شيء بل ليس له إلا لعدم، عدم الوجود، وعدم الكمال وعدم الغنى من جميع الوجوه"4. وقال في بيان وجه كون الشرك ظلماً عظيماً، عند قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 5. "ووجه كونه ظلماً عظيماً، أنه لا أفظع ولا أبشع ممن سوّى المخلوق من تراب بمالك الرقاب، وسوّى الذي لا يملك من الأمر شيئاً بمالك الأمر كله وسوى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه، وسوى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرة من النعم بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ودنياهم وأخراهم وقلوبهم وأبدانهم إلا منه ولا يصرف السوء إلا هو. فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟ وهل أعظم ظلماً ممن خلقه الله لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسه الشريفة فجعلها في أخس المراتب؟ جعلها عابدة لمن لا يسوى شيئاً"6.   1 سورة الرعد/ الآية 16. 2 التفسير 4/99. 3 سورة النساء/ الآية 116. 4 التفسير 2/165. 5 سورة لقمان/ الآية 13. 6 التفسير 6/155، 156، وانظر التفسير 6/276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وبين أن كل من عبد أحداً غير الله وأشركه معه في العبادة يكون بعمله هذا طائعاً عابداً للشيطان؛ لأنه امتثل أمره وحقق مراده ومقصوده. فقال عند قوله تعالى: {لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 1 أي لا تطيعوه، وهذا التوبيخ يدخل فيه التوبيخ عن جميع أنواع الكفر والمعاصي؛ لأنها كلها طاعة للشيطان وعبادة له"2. ويكفي في بيان ذم الشرك وخطره قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3. فهو الذنب الوحيد المتميز عن بقية الذنوب بعدم المغفرة لصاحبه إذا مات ولم يتب منه، وأما بقية الذنوب فإن صاحبها إن مات ولم يتب منها فإنه تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. قال رحمه الله: "فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسباباً كثيرة كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة، وكدعاء المؤمنين، بعضهم لبعض وشفاعة الشافعين، ومن دون ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد. وهذا بخلاف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة، وأغلق دونه أبواب الرحمة، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد، ولا تفيده المصائب شيئاً"4. كلامه عن سبب أول شرك حصل في بني آدم: بين الشيخ ابن سعدي عند تفسيره لسورة نوح ما قرره ابن عباس وغيره من أئمة السلف أن أول شرك حصل من بني آدم سببه هو تعظيم الصالحين وقبورهم، ورفعهم فوق منزلتهم حيث بين أن الناس مكثوا بعد آدم على ملة الإسلام يعبدون الله وحده   1 سورة يس/ الآية 60. 2 التفسير 5/111. 3 سورة النساء/ الآية 48. 4 التفسير 2/80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فأفسد الشيطان عليهم دينهم بأن أملى لهم تعظيم الصالحين ثم ترقى بهم إلى أن جعلهم يعبدونهم من دون الله. قال في خلاصة التفسير: "مكث البشر بعد آدم قروناً طويلة وهم أمة واحدة على الهدى، ثم اختلفوا وأدخلت عليهم الشياطين والشرور المتنوعة بطرق كثيرة فكان قوم نوح قد مات منهم أناس صالحون فحزنوا عليهم فجاءهم الشيطان فأمرهم أن يصوروا تماثيلهم ليتسلوا بهم وليتذكروا بها أحوالهم، فكان هذا مبتدأ الشر. فلما هلك الذين صوروهم لهذا المعنى جاء من بعدهم وقد اضمحل العلم فقال لهم الشيطان: إن هؤلاء وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً قد كانوا أولوكم يدعونهم ويستشفعون بهم، وبهم يسقون الغيث وتزول الأمراض، فلم يزل بهم حتى انهمكوا في عبادتهم على رغم نصح الناصحين. ثم بعث الله فيهم نوحاً عليه السلام يعرفونه ويعرفون صدقه وأمانته وكمال أخلاقه فقال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1 " 2. وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 3. "وهذه أسماء رجال صالحين لما ماتوا زين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم لينشطوا بزعمهم على الطاعة إذا رأوها. ثم طال الأمد وجاء غير أولئك فقال لهم الشيطان إن أسلافكم كانوا يعبدونهم ويتوسلون بهم، وبهم يسقون المطر فعبدوهم"4. كلامه عن فطرية التوحيد وأن الشرك طارئ على البشرية: هذه المسألة للناس فيها قولان: القول الأول: هو أن الله خلق الناس حنفاء على عقيدة واحدة وهي عقيدة التوحيد ثم عرضت لهذه العقيدة انحرافات فمال الناس وانحرفوا إلى الوثنية والشرك بالله وهذا القول هو القول الحق، الذي لا شك فيه والذي تدل عليه نصوص الكتاب والسنة، ولا يعرف أحد من العلماء المعتبرين قال بخلافه.   1 سورة الأعراف/ الآية 59. 2 الخلاصة /107. 3 سورة نوح/ 23. 4 التفسير 7/ 485. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 أما القول الثاني: فهو أن التدين بدأ بالخرافة والشرك وعبادة غير الله ثم أخذ يتطور إلى أن أفرد الله وحده بالعبادة1. ولا شك أن هذا القول باطل فاسد يخالف نصوص الكتاب والسنة، بل إن نصوص الكتاب والسنة تدل على بطلانه2. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} 3. وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 4. وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 5. وقال {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 6. وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: "إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم"7. وقال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطر فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"8. وغيرها من النصوص، وهي كلها تدل على بطلان القول الثاني، وأن الصواب الموافق للكتاب والسنة وهو القول الأول، من أن الأصل في الناس التوحيد والشرك طارئ وحادث فيهم. وقد بين ابن سعدي أن الأصل في الناس التوحيد وأنهم مفطورون على العقيدة، وأن الشرك والانحراف عن هذه العقيدة طارئ على البشرية. وقال عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} 9. "متفقين على الدين الصحيح، ولكنهم اختلفوا فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين"10   1 ذكر هذين القولين الدكتور محمد دراز في كتابه الدين /80. 2 انظر: في بيان بطلانه الفتاوى لابن تيمية 20/106. 3 سورة يونس/ الآية 19. 4 سورة البقرة/ الآية 213. 5 سورة الروم/ الآية 30. 6 سورة النحل/ الآية 36. 7 تقدم تخريجه ص 68. 8 تقدم تخريجه ص 68. 9 سورة يونس/ الآية 19. 10 التفسير 3/338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وقال: "مكث البشر بعد آدم قرونا وهم أمة واحدة على الهدى ثم اختلفوا"1. وقال عند قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} 2 بعد أن بين أن الناس جميعا مفطورون على التوحيد وأن هذا الأصل في جميع الناس قال: "ومن خرج عن هذا الأصل فعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو نصرانه أو مجسانه"3 4. تنبيه: قال الشيخ ابن سعدي عند تفسيره لقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 5. قال: "أي كان الناس مجتمعين على الكفر والضلال والشقاء ليس لهم نور ولا إيمان فرحمهم الله تعالى بإرسال الرسل إليهم"6. وهذه الآية ذكر ابن كثير فيها قولين عن السلف وكلاهما ينسب إلى ابن عباس أحدهما: أنهم كانوا على الهدى جميعهم. والثاني: أنهم كانوا كفاراً. ثم قال بعد ذكر هذين القولين: "والقول الأول عن ابن عباس أصح سنداً، ومعنى؛ لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحاً عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض"7. ولا ريب أن قول ابن سعدي المذكور آخراً يتعارض مع أقواله المتقدمة إلا إذا حمل على أن المراد بالناس في الآية الأقوام التي كفرت بالله بعد أن فطرت على التوحيد، وهذا له وجه من الصحة. ومن أمعن النظر في أقواله المتقدمة التي ذكر فيها أن الناس كانوا على التوحيد ثم حصل منهم الكفر، عرف صحة هذا المحمل. والمقصود أن ابن سعدي يرى أن الشرك طارئ على الناس بعد أن خلقوا حنفاء موحدين.   1 الخلاصة /107. 2 سورة الروم/ الآية 30. 3 تقدم تخريجه ص 68. 4 التفسير 6/126. 5 سورة البقرة الآية/ 213. 6 التفسير 1/260. 7 تفسير ابن كثير 1/250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 كلامه في الفرق بين الكفر والشرك: ذكر الشيخ ابن سعدي فارقاً بين الكفر والشرك وهو أن الكفر أشمل من الشرك بحيث أنه كل شرك كفر وليس كل كفر شركاً. ومثال ذلك الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم أو القرآن كفر وليس شركاً. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1. فهذا العمل كفر وليس بشرك، أما الأمور الشركية كعبادة غير الله من الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم ودعائهم من دون الله، وطلب الحوائج منهم، وغير ذلك من الشركيات، فإنها كلها كفرية. قال ابن سعدي في بيان هذا الفارق بين الكفر والشرك: "الكفر أعم من الشرك فمن جحد ما جاء به الرسول أو جحد بعضه بلا تأويل فهو كافر من أي دين يكون سواء كان صاحبه معانداً أو جاهلاً ضالاً ... "2. وبين أن الكفر نوعان كفر أكبر مخرج من الدين كالتكذيب لله ورسوله، وكفر أصغر كالاقتتال بين المسلمين والنياحة والتبرؤ من النسب3 كلامه في أنواع الشرك: قسم ابن سعدي الشرك إلى نوعين: شرك أكبر مخرج من الملة، وشرك أصغر. وبين أن العبد لا يتم له توحيد العبادة حتى يتبرأ من الشرك بنوعيه. فقال: "الشرك المناقض لتوحيد الألوهية نوعان: جلي ظاهر مخرج من دائرة الإسلام وهو الشرك الأكبر، وهذا النوع لا يقبل الغفران. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4. وتفسيره: أن يتخذ العبد لله نداً يحبه كمحبة الله أو يرجوه أو يخافه كخوفه من الله   1 سورة التوبة الآيتان 65، 66. 2 الخلاصة /203، وانظر الرياض الناضرة /255. 3 الفتاوى السعدية /103، وهو يشير في ذلك إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسسوق وقتاله كفر" أخرجه البخاري 1/17، ومسلم 1/81، وقوله: "اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت" أخرجه مسلم 1/82. 4 سورة النساء/ الآية 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 أو يدعوه أو يصرف له نوعاً من أنواع العبادة الظاهرة والباطنة. وفي هذا المقام لا فرق بين الملائكة والأنبياء والأولياء الصالحين والطالحين والأشجار والأحجار وغيرها. فمن صرف لشيء منها نوعاً من العبادة فهو مشرك كافر قد سواها بربه في هذا الحق الذي يختص به، فإن العبودية لا حق فيها لملك مقرب ولا نبي مرسل ولا غيرهما، بل هم مفتقرون غاية الافتقار إلى تألههم وتعبدهم لله. وأما الشرك الأصغر: فهو كل وسيلة يتوسل بها ويتطرق إلى الشرك الأكبر بشرط أن لا يبلغ مرتبة العبادة كالحلف بغير الله وكالرياء والتصنع للمخلوقين ونحو ذلك من الأقوال المؤدية إلى الشرك. فلا يتم للعبد توحيد حتى يتبرأ من الشرك كله جليه وخفيه ظاهره وباطنه الأقوال منه والأفعال، وتكون أعماله كلها خالصة. متبعا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. الفوارق بين الشرك الأكبر والأصغر: وقد ذكر ابن سعدي جملة من الفوارق بين الشرك الأكبر والأصغر، وهي فوارق هامة. قال رحمه الله: "اعلم أن الشرك الأكبر، والشرك الأصغر يفترقان في أحكام كثيرة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع: يفترقان في حدهما: أما الشرك الأكبر فهو: صرف نوع من العبادة لغير الله تعالى فكل ما ثبت في الكتاب والسنة من العبادات إذا صرف العبد منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر. وأما حد الشرك الأصغر فهو كل وسيلة يخشى أن توصل صاحبها إلى الشرك الأكبر كالحلف بغير الله، وكالرياء والسمعة وكالغلو في المخلوق الذي لا يصل إلى رتبة عبادته، فهذا هو أصل الفروق بينهما. الفرق الثاني، والثالث: أن الشرك الأكبر محكوم على صاحبه بالكفر والخروج من الإسلام، ومحكوم عليه أيضاً بالخلود في النار، وتحريم دخول الجنة. وأما الشرك الأصغر فهو بخلاف ذلك في الحكمين فإنه لا يحكم على صاحبه بالكفر ولا الخروج من الإسلام، ولا يخلد في النار إذا لم يفعل مكفراً آخر.   1 الحق الواضح المبين /59، وانظر القول السديد /29، 52، والرياض الناضرة /256، وسؤال وجواب /11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فهذه الأحكام الثلاثة وما يترتب عليها من التفريعات المبنية عليها لم يختلف فيها أهل العلم لأن نصوص الكتاب والسنة فيها كثيرة قاطعة صريحة"1. هل الشرك الأصغر تحت المشيئة مثل الكبائر أم هو مثل الشرك الأكبر: تقدم معنا من النصوص ما يدل على أن ذنب الشرك لا يغفره الله إذا مات صاحبه وهو لم يتب منه. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2. وهنا يرد سؤال هل الشرك الأصغر داخل في عموم هذه الآية بحيث أن فاعله إذا مات عليه يكون معاقباً بإدخاله نار جهنم أم أنه كبقية الذنوب التي دون الشرك. هذه المسألة بحثها الشيخ ابن سعدي وذكر فيها كلاماً نفيساً. حيث يقول: "من لحظ إلى عموم الآية، وأنه لم يخص شركاً دون شرك أدخل فيها الشرك الأصغر وقال إنه لا يغفر بل لا بد أن يعذب صاحبه، لأن من لم يغفر له لا بد أن يعاقب، ولكن القائلين بهذا لا يحكمون بكفره ولا بخلوده في النار وأنه يعذب عذاباً أبديا ـ لأن هذا مذهب الخوارج المنحرفين ـ وإنما يقولون يعذب عذاباً بقدر شركه ثم بعد ذلك مآله إلى الجنة. وأما من قال إن الشرك الأصغر لا يدخل في الشرك المذكور في هذه الآية، وإنما هو تحت المشيئة فإنهم يحتجون بقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 3. فيقولون كما أن بإجماع الأئمة أن الشرك الأصغر لا يدخل تحت هذه الآية التي حكم الله بها للمشرك بتحريم الجنة والخلود في النار فلا يدخل في تلك الآية وكذلك لا يدخل في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 4، لأن العمل هنا مفرد مضاف ويشمل الأعمال كلها، ولا يحبط الأعمال الصالحة كلها إلا الشرك الأكبر. قالوا وإذا فارق الشرك الأكبر في تلك الأحكام السابقة بأنه لا يحكم عليه بالكفر والخروج من الإسلام ولا بالخلود في النار، فارقه في كونه مثل الذنوب التي دون الشرك وأنه تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه؛ ولأن مشاركته للكبائر في أحكامها الدنيوية والأخروية أكثر من مشاركته للشرك الأكبر.   1 ضمن فتاوى بعثها السعدي إلى الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز الحصين، وهذه الفتاوى مؤرخة بتاريخ 29/6/1374هـ مخطوطه. 2 سورة النساء/ الآية 48. 3 سورة المائدة/ الآية 72. 4 سورة الزمر/ الآية 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ويؤيد قولهم أن الموازنة واقعة بين الحسنات وبين السيئات التي هي دون الشرك الأكبر لأن الشرك الأكبر؛ لا موازنة بينه وبين غيره فإنه لا يبقى معه عمل ينفع. وأما السيئات التي دونه فيقع بينها الموازنة من رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة بلا عذاب، ومن رجحت سيآته على حسناته، استحق دخول النار بقدر ذنوبه، ومن تساوت حسناته وسيآته فهو من أهل الأعراف الذين مآلهم إلى دخول الجنة، ولكن الأولون قد يجيبون عن هذا بأنه قد يعذب صاحب الشرك الأصغر قبل الموازنة، إما في البرزخ، وإما قبل ذلك أو بعده في عرصات القيامة، فيقول الآخرون: وكذلك الكبائر قد يعذب صاحبها قبل الموازنة فتسقط الموازنة بها فلا يختص بذلك الشرك الأصغر، ومن تأمل الأدلة من الكتاب والسنة أمكنه أن يعرف الراجح من القولين"1. وتقدم عند كلامه عن الفروق بين الشرك الأكبر والأصغر قوله: "وأما الشرك الأصغر فهو بخلاف ذلك في الحكمين فإنه لا يحكم على صاحبه بالكفر ولا الخروج من الإسلام ولا يخلد في النار إذا لم يفعل مكفراً آخر". وهذا يبين أنه يرى أن الشرك الأصغر مثل الكبائر داخل تحت مشيئة الله إن شاء عذب فاعله وإن شاء عفى عنه. ذكر جملة من أنواع الشرك وكلام السعدي عنها: من أنواع الشرك دعاء غير الله: قال رحمه الله: "ومن دعا غيره من نبي أو ملك أو ولي أو غيرهم أو استغاث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر"2. ومنها الذبح لغير الله: قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَه} 3. وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 4. وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من ذبح لغير الله"5.   1 ضمن الفتاوى السابقة. 2 القول السديد /59. 3 سورة الأنعام/ الآيتان 162، 163. 4 سورة الكوثر/ الآية 2. 5 أخرجه مسلم 3/1567، وأحمد 1/118، وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 قال ابن سعدي بعد أن ذكر جملة من النصوص في ذلك: "وإذا ثبت أن الذبح لله من أجل العبادات وأكبر الطاعات، فالذبح لغير الله شرك أكبر مخرج عن دائرة الإسلام"1. ومنها الاستعاذة والاستغاثة بغير الله: قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} 2. وقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 3. وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} 4. قال ابن سعدي في بيان وجوب إخلاص هاتين العبادتين لله، وأن صرفهما لغير الله شرك "أمر الله بالاستعاذة به وحده من الشرور كلها، وبالاستغاثة به في كل شدة فهذه إخلاصها لله إيمان وتوحيد وصرفها لغير الله شرك وتنديد"5. كلامه في لبس الحلقة والخيط: بين ابن سعدي أن الحكم في هذه المسألة يتوقف على معرفة الأسباب التي دعت إلى لبسها، إذ إنه باختلاف الأسباب الجائزة لا تخرج عن ثلاثة أمور: " أحدها: أن لا يجعل منها سبباً إلا ما ثبت إنه سبب شرعاً وقدراً. ثانيها: أن لا يعتمد العبد عليها بل يعتمد على مسببها، ومقدرها مع قيامه بالمشروع منها وحرصه على النافع منها. ثالثها: أن يعلم أن الأسباب مهما عظمت وقويت فإنها مرتبطة بقضاء الله وقدره لا خروج لها عنه"6. والذي يلبس الحلقة أو الخيط أو غيرهما لا يخرج عن أمرين إما أن يعتقد في الذي لبس أنه قادر على رفع الضر وكشف البلاء عنه، أو يعتقد أن هذا مجرد سبب وأن النافع   1 القول السديد /51، وانظر التفسير 2/510. 2 سورة الناس/ الآية 1. 3 سورة الجن/ الآية 6. 4 سورة يونس/ الآيتان 106، 107. 5 القول السديد /58، وانظر التفسير 3/223. 6 القول السديد /41، 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الضار هو الله، وعلى هذا الضوء حكم ابن سعدي، فقال: "من لبس الحلقة والخيط أو نحوهما قاصداً بذلك رفع البلاء بعد نزوله أو دفعه قبل نزوله فقد أشرك، لأنه اعتقد أنها هي الدافعة الرافعة فهذا الشرك الأكبر ... وإن اعتقد أن الله هو الدافع الرافع وحده ولكن اعتقدها سببا يستدفع بها البلاء فقد جعل ما ليس سبباً شرعياً ولا قدرياً سبباً، وهذا محرم وكذب على الشرع والقدر"1. كلامه في زيارة القبور: قسم ابن سعدي زيارة القبور إلى نوعين: نوع مشروع، ونوع ممنوع، قال: "أما المشروع فهو ما شرعه الشارع من زيارة القبور على الوجه الشرعي من غير شد رحل، ويزورها المسلم متبعا للسنة فيدعو لأهلها عموماً ولأقاربه ومعارفه خصوصاً، فيكون محسناً إليهم بالدعاء لهم وطلب العفو والمغفرة والرحمة لهم، ومحسناً إلى نفسه باتباع السنة وتذكرة الآخرة والاعتبار بها والاتعاظ. وأما الممنوع فإنه نوعان: أحدهما: محرم ووسيلة للشرك كالتمسح بها والتوسل إلى الله بأهلها، والصلاة عندها، وكإسراجها والبناء عليها، والغلو فيها وفي أهلها إذا لم يبلغ رتبة العبادة. والنوع الثاني: شرك أكبر كدعاء أهل القبور والاستغاثة بهم وطلب الحوائج الدنيوية والأخروية منهم، فهذا شرك أكبر، وهو عين ما يفعله عباد الأصنام مع أصنامهم"2. وهذا آخر ما يتعلق بموضوع الشرك وأسبابه وأنواعه، وقد تبين شدة خطره وضرره. فالواجب على المسلم أن يحذر منه أشد الحذر وأن يبذل وسعه في سبيل تحقيق التوحيد، ولا يكون ذلك إلا بالسلامة من الشرك بنوعيه والسلامة من البدع والخرفات. قال ابن سعدي: "إن تحقيق التوحيد تهذيبه وتصفيته من الشرك الأكبر والأصغر ومن البدع القولية والاعتقادية، والبدع الفعلية العملية، ومن المعاصي وذلك بكمال الإخلاص لله في الأقوال والأفعال والإرادات، وبالسلامة من الشرك الأكبر المناقض لأصل التوحيد، ومن الشرك الأصغر المنافي لكماله وبالسلامة من البدع"3.   1 القول السديد /43. 2 القول السديد /81، 82. 3 القول السديد /25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 كلامه عن البدعة وأقسامها: إن من شروط قبول العبادة أن تكون مطابقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يتعبد الله بعبادة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1. وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 2. وقد دلت النصوص على أن كل عبادة لم يشرعها الله ولا رسوله فهي بدعة محدثة في الدين مردودة على صاحبها غير مقبولة منه. ففي صحيحين من حديث عائشة قال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"3. وفي رواية "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"4. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة"5. وهنا تظهر خطورة الإحداث في دين الله؛ لما يترتب على هذا العمل المحدث من عدم قبوله ورده على صاحبه ووصفه بأنه ضلالة وشر، وأنه في النار، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 6، وقد بين ابن كثير في تفسيره أن هذه الآية "عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول وهو مخطئ وعمله مردود"7. وقد اعتنى ابن سعدي بهذا الموضوع في مؤلفاته، وبين خطورة الابتداع في دين الله وأضرارٌ وأنه عناء ومشقة على صاحبه دون فائدة بل إنه يترتب عليه أضرارٌ كثيرة.   1 سورة الحشر/ الآية 7. 2 سورة آل عمران/ الآية 31. 3 تقدم تخريجه ص ـ163. 4 تقدم تخريجه ص ـ163. 5 مسلم 2/592. 6 سورة الكهف/ الآيتان 103، 104. 7 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 قال عند قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} 1: "دل تقييد التطوع بالخير، أن من تطوع بالبدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله، أنه لا يحصل له إلا العناء وليس بخير له بل قد يكون شراً له إن كان متعمداً عالماً بعدم مشروعية العمل"2. وهذا شامل لجميع البدع لا فرق بينها، فليس هناك بدعة حسنة وبدعة ضلالة بل جميع البدع ضلالة مردودة على أصحابها. وقد أشار ابن سعدي إلى هذا الجانب الهام الذي غلط فيه كثير من الناس في مواضع متعددة. فقال: "وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله ولا رسوله فهو متعبد ببدعة"3. وقال في شرحه لحديث عائشة المتقدم: "وأما حديث عائشة .... فإنه يدل على أن كل بدعة أحدثت في الدين ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة، سواء كانت من البدع القولية الكلامية كالتجهم والرفض والاعتزال وغيرها، أو من البدع العملية كالتعبد لله بعبادات لم يشرعها الله ولا رسوله، فإن ذلك كله مردود على أصحابه، وأهله مذمومون بحسب بدعهم وبعدها عن الدين فمن أخبر بغير ما أخبر الله به ورسوله، أو تعبد بشيء لم يأذن الله به ورسوله، ولم يشرعه فهو مبتدع، ومن حرم المباحات أو تبعد بغير المشروعات فهو مبتدع"4. وكما تناول جانب البدعة وخطرها وأنها بجميع أنواعها ضلالة، فقد تناول جانب السنة وبين أن الدين كامل وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما مات حتى أتم الله الدين وأكمله، وبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك خيراً إلا دل أمته عليه ولا شراً إلا حذرهم منه. فقال عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ .... } 5. " ... فبلغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليغ ودعا وأنذر وبشر وعلم الجهال الأميين حتى صاروا من العلماء الربانيين وبلغ بقوله وفعله وكتبه ورسله. فلم يبق خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها عنه.   1 سورة البقرة/ الآية 158. 2 التفسير1/184. 3 التفسير 1/231. 4 بهجة القلوب الأبرار /12، 13. 5 سورة المائدة/ الآية 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وشهد له بالتبليغ أفاضل الأمة من الصحابة، فمن بعدهم من أئمة الدين ورجال المسلمين"1. وقال عند قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 2، "ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية في أحكام الدين وأصوله وفروعه. فكل متكلف يزعم أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علوم غير علم الكتاب والسنة من علم الكلام وغيره فهو جاهل مبطل في دعواه، قد زعم أن الدين لا يكمل إلا بما قاله ودعا إليه وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله"3. والمقصود أن الدين كامل بأخباره وبأوامره ونواهيه وفرائضه وسننه وجميع أحكامه فما ترك الرسول الكريم من خير إلا دل أمته عليه ورغبها في العمل به، وما ترك من شر إلا ودل أمته عليه وحذرها منه، وإن من أعظم الشرور التي حذر الرسول الأمة منها الإحداث والابتداع في الدين. تعريفه للبدعة: ذكر ابن سعدي تعريفاً جامعاً للبدعة فقال: "البدعة هي الابتداع في الدين فإن الدين: هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة وما دلت عليه أدلة الكتاب والسنة فهو من الدين وما خالف ذلك فهو البدعة، هذا هو الضابط الجامع"4. وقال: "البدعة هي خلاف السنة"5. تقسيمه للبدعة: قسم ابن سعدي كغيره من العلماء البدعة إلى قسمين:- بدعة قولية، وبدعة عملية. فقال: "تنقسم البدعة بحسب حالها إلى قسمين: بدع اعتقاد ويقال لها البدع القولية، وميزانها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن "ستفترق هذه الأمة على ثلاث   1 التفسير 2/320. 2 سورة المائدة/ الآية 3. 3 التفسير 2/242، 243. 4 الفتاوى السعدية /73. 5 سؤال وجواب /17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي"1 فأهل السنة المحضة السالمون من البدع الذين تمسكوا بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الأصول كلها أصول التوحيد والرسالة والقدر ومسائل الإيمان وغيرها، وغيرهم من خوارج ومعتزلة وجهمية وقدرية ورافضة ومرجئة ومن تفرع عنهم كلهم من أهل البدع الاعتقادية وأحكامهم متفاوتة بحسب بعدهم عن أصول الدين وقربهم، وبحسب عقائدهم أو تأويلهم، وبحسب سلامة أهل السنة من شرهم في الأقوال والأفعال وعدمه وتفصيل هذه الجملة يطول جداً. والنوع الثاني: بدعة عملية وهو: أن يشرع في الدين عبادة لم يشرعها الله ولا رسوله، وكل عبادة لم يأمر بها الشارع أمر إيجاب أو استحباب فإنها من البدع العملية وهي داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"2. ولهذا كان من أصول الأئمة الإمام أحمد وغيره: أن الأصل في العبادات الحظر والمنع فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله، والأصل في المعاملات والعادات الإباحة فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله. ولهذا نقول من قصور العلم: جعل بعض العادات التي ليست عبادات بدعاً ولا تجوز مع أن الأمر بالعكس، فإن الذي يحكم بالمنع منها وتحريمها هو المبتدع فلا يحرم من العادات إلا ما حرمه الله ورسوله بل العادات تنقسم إلى أقسام ما أعان منها على الخير والطاعة فهو من القرب، وما أعان على الإثم والعدوان فهو من المحرمات. وما ليس فيه هذا ولا هذا فهو من المباحات"3. وهذا النوع الأخير قسمه ابن سعدي إلى قسمين: فقال: " البدعة نوعان: ونوع يتعبد لله بعبادة لم يشرعها أصلاً. ونوع يتعبد له بعبادة شرعها على صفة مخصوصة فتفعل على غير تلك الصفة"4.   1 أخرجه الترمذي 5/26، والمروزي في السنة /18، والآجري في الشريعة 16/ 17، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/100، وانظر في الكلام عن هذا الحديث مقال الشيخ عبد الكريم مراد بعنوان: حديث تفترق الأمة، في مجلة الجامعة الإسلامية عدد /59 ص 47. 2 تقدم تخريجه ص ـ 164. 3 الفتاوى السعدية /73، 74، 75. وانظر سؤال وجواب /17. 4 التفسير 1/184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 هذا وإن البدع بجميع أنواعها مردودة لا يقبل منها شيء، وكلها قبيحة ليس فيها حسن، وكلها ضلالة ليس فيها هدى، وكلها أوزار ليس فيها أجر وكلها باطلة ليس فيها حق. وما على المسلم إلا أن يتمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ويعض عليها بنواجذه، ففي ذلك السلامة من البدع، والبعد من الشرور، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 1. وقال: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا. وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} 2. ويمكن أن نصل إلى نهاية هذا المبحث إلى خلاصة جامعة: وهي أن توحيد الألوهية أعظم المطالب على الإطلاق فمن أجل تحقيقه خلق الله الخلق، وأنزل الكتب وأرسل الرسل، ومن أجل تحقيقه حارب الرسل أقوامهم وعادوهم. ولا يتحقق هذا التوحيد إلا بأمور: أولا: السلامة من الشرك وذلك بتحقيق العبادة لله وحده بجميع أنواعها. ثانيا: السلامة من البدع وهذا يتحقق بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ثالثا: السلامة من الذنوب والمعاصي بالبعد عنها، وعدم اقترافها، وبالتوبة منها عند اقترافها. {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 3.   1 سورة النور/ الآية 54. 2 سورة الأحزاب/ الآيتان 66، 67. 3 سورة الكهف/ الآية 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الفصل الثاني جهوده في توضيح الإيمان بالنبوات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الفصل الثاني: الإيمان بالنبوات إن الرابطة بين هذا الفصل وبي الذي قبله وثيقة جداً، إذ أن الفصل الأول في الحديث عن معرفة الله ووجوب إفراده بالعبادة والحذر من الشرك والبدع. وهذا لا يكون ولا يحصل إلا بإرسال هداة للناس يبينون لهم هذا الأمر العظيم ويوضحونه لهم ويرشدونهم إليه. "ومن هنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيد الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب من الخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضى الله البتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم، توزن الأقوال والأخلاق والأعمال. وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه والعين إلى نورها والروح إلى حياتها. فأي ضرورة وحاجة فرضت، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديُه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي، "وما لجرح بميت إيلام1"2. وهذا يبين لنا أهمية الإيمان بالأنبياء، وشدة الحاجة إليهم إذ أن السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة لا يحصل إلا عن طريقهم وبإرشادهم وهدايتهم.   1 عجز بيت للمتنبي وأوله: من يهن يسهل الهوان عليه. من قصيدة يمدح بها أبا الحسن علي بن أحمد المري. ديوان المتنبي /164 ط دار بيروت. 2 زاد المعاد لابن القيم 1/69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 لذا فإن ورثة الأنبياء، وهم العلماء الصالحون السائرون على منهج الأنبياء، قد اهتموا غاية الاهتمام ببيان هذا النوع من الإيمان وبينوا أهميته وشدة الحاجة إليه. وممن سار في هذا الراكب وسلك هذا المنهج الصالح الشيخ ابن سعدي فقد اهتم رحمه الله ببيان هذا النوع اهتماما عظيماً وتناوله من جميع جوانبه في أكثر مؤلفاته. فتناول الإيمان بنبوة جميع الأنبياء جملة وتفصيلا وخص بالذكر خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم. وتناول كل ما يتعلق بالإيمان بالنبوات من جميع الجوانب على ما سيأتي بيانه في هذا الفصل. كلامه في أهمية الإيمان بالنبوات: إن من نظر وتأمل في الفوائد التي تحصل لمن آمن بالنبوات جميعها على الوجه المطلوب، عرف أهمية ذلك وتبين له شدة الحاجة إليه. وقد عدد ابن سعدي جملة من الفوائد تحصل بسبب معرفة الأنبياء والإيمان بهم. فبعد أن بين جملة من العلوم التي اشتمل عليه القرآن الكريم قال: "ومنها ـ أي هذه العلوم ـ ذكر الأنبياء وما أرسلوا به وما جرى لهم مع أممهم وفي ذلك فوائد: ـ منها أن من تمام الإيمان بهم معرفتهم بصفاتهم وسيرهم وأحوالهم وكلما كان المؤمن بذلك أعرف كان أعظم إيماناً بهم ومحبة لهم وتعظيماً لهم وتعزيراً وتوقيراً. ـ ومنها: أن من بعض حقوقهم علينا خصوصاً النبي صلى الله عليه وسلم معرفتهم ومحبتهم محبة صادقة ولا سبيل لذلك إلا بمعرفة أحوالهم. ومنها: أن معرفة الأنبياء موجبة لشكر الله تعالى على ما من به على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة بعد أن كانوا في ضلال مبين. ـ ومنها: أن الرسل هم المربون للمؤمنين الذين ما نال المؤمنون مثقال ذرة من الخير، واندفع عنهم مثقال ذرة من الشر إلا على أيديهم وبسببهم، فقبيح بالمؤمن أن يجهل حالة مربيه ومزكيه ومعلمه، وإذا كان المستنكر جهل الإنسان بحال أبويه ومباعدته لذلك فكيف بحالة الرسول الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم الحقيقي الذي حقه مقدم على سائر الحقوق بعد حق الله تعالى. ـ ومنها: أن في معرفة ما جرى لهم وما جرى عليهم تحصل للمؤمنين الأسوة والقدرة ويخف عنهم كثير من المقلقات والمزعجات؛ لأنها مهما بلغت من الثقل والشدة فلا تصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 إلى ما جرى على الأنبياء. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 1 ومن أعظم الاقتداء بهم، الاقتداء بتعليماتهم وكيفية إلقاء العلم على حسب مراتب الخلق والصبر على التعليم والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن؛ وبهذا وأمثاله كان العلماء ورثة الأنبياء. ومن فوائد معرفة الرسل صلى الله عليه وسلم معرفة الآيات القرآنية المنزلة عليه، وفهم المعنى والمراد منها موقوف على معرفة أحوال الرسول وسيرته مع قومه وأصحابه وغيرهم من الناس، فإن الأزمنة والأمكنة والأشخاص تختلف اختلافاً كثيراً، فلو أراد الإنسان أن يصرف همه لمعرفة معاني القرآن من دون معرفة منه لذلك لحصل من الغلط على الله وعلى رسوله وعلى مراد الله من كلامه شيء كثير، وهذا إنما يعرف من عرف كيف كثر حمل مراد الله ورسوله على العرف الحادث فوقع الخلل الكثير. ولغير ذلك من الفوائد المفيدة والنتائج السديدة"2. وذكر هذه الجملة من الفوائد الحاصلة لمن عرف الرسل وآمن بهم يشعر بأهمية الإيمان بهم وشدة الحاجة إليهم. كلامه في الإيمان بالنبوات على وجه الإجمال: قبل الشروع في تفاصيل موضوع النبوات أرى من المناسب أن أذكر كلام الشيخ ابن سعدي عن الإيمان بالأنبياء على وجه الإجمال. قال ابن سعدي في بيان هذا الأصل وما ينبغي للمسلم أن يقوم به نحوه إجمالاً: "وهذا الأصل مبناه على أن يعترف ويعتقد بأن جميع الأنبياء قد اختصهم الله بوحيه وإرساله، وجعلهم وسائط بينه وبين خلقه في تبليغ شرعه ودينه وأن الله أيدهم بالبراهين الدالة على صدقهم وصحة ما جاءوا به، وأنهم أكمل الخلق علماً وعملاً، وأصدقهم وأبرهم، وأكملهم أخلاقا وأعمالاً، وأن الله خصهم بخصائص وفضلهم بفضائل، لا يلحقهم فيها أحد. وأن الله برأهم من كل خلق دنيء ورذيل، وأنهم معصومون في كل ما يبلغونه عن الله، وأنه لا يستقر في خبرهم وتبليغهم إلا الحق والصواب. وأنه يجب الإيمان بهم وبكل ما أتوه من الله ومحبتهم وتعظيمهم"3.   1 سورة الأحزاب/ الآية 21. 2 التفسير 1/26، 27، وانظر الخلاصة /101. 3 الفتاوى السعدية /14، وانظر سؤال وجواب /13، 14، 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ثم أشار إلى أهمية الإيمان بهم وأن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان بهم فقال: " ... فلا يتم الإيمان إلا بذلك، وكل من كان أعظم علماً بذلك وتصديقاً واعترافاً وعملاً، كان أكمل إيماناً"1. وبين أن الإيمان بالأنبياء على هذه الصفة يُعدُ من الإيمان بالغيب فقال: "ومن الإيمان بالغيب الإيمان بجميع رسل الله الذين أرسلهم الله على وجه الإجمال والتفصيل لأشخاصهم ولدعواتهم وشرعهم .... إلى أن قال: فتمام الإيمان بالغيب أن يؤمن العبد بجميع رسل الله، ويعرف من صفاتهم ومن دعوتهم ما يحقق به هذا الأمر"2. كلامه في الفرق بين النبوة والرسالة: النبي لغة: مشتق من النبأ وهو الخبر، وقيل النبوة مشتقة من النبوة وهي ما ارتفع من الأرض3. والرسول لغة: مشتق من رسل التي تدل على الانبعاث والامتداد فيقال أرسلت فلاناً في رسالة أي بعثته فهو مرسل ورسول ويجمع على رُسُل ورسْل4. وهذا من حيث اللغة، أما تعريف النبي وتعريف الرسول من حيث الاصطلاح فللعلماء فيها أقوال عديدة: فقيل: النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه5. وهذا التعريف عليه مآخذ إذ فيه إشارة إلى أن النبي غير مأمور بالإبلاغ، وهذا فيه كتمان للعلم. والله يقول: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 6.   1 الفتاوى السعدية /15. 2 المواهب الربانية /65. 3 انظر الصحاح للجوهري 1/74، ومعجم مقايس اللغة لابن فارس 5/385، وبصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي 5/14. 4 الصحاح للجوهري 4/1708، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/392، وبصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي 2/98. 5 لوامع الأنوار البهية 1/49، وشرح العقيدة الطحاوية /107. 6 سورة آل عمران/ الآية 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 إضافة إلى هذا فهو يتعارض مع نصوص كثيرة تفيد أن النبي مأمور بالإبلاغ منها قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} 1، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ... } 2. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل أو الرجلان والنبي ليس معه أحد ..... " 3. وهؤلاء إنما حصل لهم اتباع بسبب إبلاغهم وحي الله إلى الناس. إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن النبي مأمور بالإبلاغ. وهذا التعريف هو الشائع عند العلماء4. وعليه يكون بين الرسول والنبي عموم وخصوص مطلق. فالنبوة داخلة في الرسالة، والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فالأنبياء أعم والنبوة نفسها جزء من الرسالة، فالرسالة تتناول النبوة وغيرها بخلاف النبوة فإنها لا تتناول الرسالة5. وقيل: الرسول من أوحي إليه بشرع جديد، والنبي هو المبعوث لتقرير شرع من قبله6. وهذا أيضاً يرد عليه اعتراض، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث أعواما بعد النبوة لم يؤمر فيها بالتبليغ، حتى نزلت عليه سورة المدثر. وأصبح رسولاً فأخذ يبلغ7. ومن خلال تتبعي لمؤلفات السعدي، لم أره تعرض لهذه المسألة إلا في موضع واحد، مال فيه إلى القول الأول. فقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} 8. " .... فالرسالة تقتضي تبليغ كلام المرسل، وتبليغ جميع ما جاء به من الشرع   1 سورة الأعراف/ الآية 94. 2 سورة الحج/ الآية 52. 3 أخرجه البخاري 7/199، ومسلم 1/199، عن ابن عباس، واللفظ لمسلم. 4 لوامع الأنوار البهية 1/49، وشرح العقيدة الطحاوية /107، ومعارج القبول للحكمي 2/97. 5 الإيمان لابن تيمية /6، 7. 6 تفسير الألوسي 17/157، والكشاف للزمخشري 2/414. 7 تفسير القرآن العظيم 4/440. 8 سورة مريم/ الآية 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 دقه وجله، والنبوة تقتضي إيحاء الله إليه وتخصيصه بإنزال الوحي إليه، فالنبوة بينه وبين ربه، والرسالة بينه وبين الخلق"1. وقد تقدم معنا ما يرد على هذا التعريف من مآخذ واعتراضات؛ لذا فإني أرى أن أسلم تعريف للنبوة والرسالة. هو ما ذكره شيخ الإسلام في كتاب النبوات حيث قال في بيان الفرق بين النبوة والرسالة: "والمقصود هنا الكلام على النبوة فالنبي هو الذي ينبئه الله، وهو نبيئ بما أنبأ الله به، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول"2. والله أعلم. كلامه عن التفاضل بين الأنبياء وأن بعضهم أفضل من بعض: لقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على أن الأنبياء متفاضلون، وأن بعضهم أفضل من بعض. قال رحمه الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} 3. وقال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} 4. فالآية الأولى تدل على أن هناك مفاضلة بين الرسل وأن بعض الرسل أفضل من بعض، والآية الثانية تدل أيضاً على أن هناك مفاضلة بين الأنبياء وأن بعضهم أفضل من بعض. وقد أجمعت الأمة على أن الرسل أفضل من الأنبياء؛ لأنه كما تقدم الرسول أشمل وأعم من النبي إذ كل رسول نبي وليس كل نبي رسول. وهذه المسألة "مسألة المفاضلة بين الرسل" تناولها ابن سعدي في مؤلفاته وبين أن هناك مفاضلة بين الرسل والأنبياء، كما بين من هو أفضلهم ومنهم أولو العزم من الرسل. فقال عند تفسير لقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 5. "يخبر الباري أنه فاوت بين الرسل في الفضائل الجليلة والتخصصات الجميلة بحسب ما من   1 التفسير 5/116. 2 النبوات لابن تيمية /255. 3 سورة البقرة/ الآية 253. 4 سورة الإسراء/ الآية 55. 5 سورة البقرة / الآية 253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الله به عليهم، وقاموا به من الإيمان الكامل واليقين الراسخ والأخلاق العالية والآداب السامية والدعوة والتعليم والنفع العميم. فمنهم من اتخذه خليلاً ومنهم من رفعه فوق الخلائق درجات ... "1. وعند تفسيره لقوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 2 قال: "فيعطى كلا منهم ما يستحقه وتقتضيه حكمته، ويفضل بعضهم على بعض في جميع الخصال الحسية والمعنوية، كما فضل بعض النبيين المشتركين بوحيه على بعض بالفضائل والخصائص الراجعة إلى ما من به عليهم، من الأوصاف الممدوحة، والأخلاق المرضية، والأعمال الصالحة وكثرة الأتباع ونزول الكتب على بعضهم المشتملة على الأحكام الشرعية والعقائد المرضية"3. وبين رحمه الله أن الرسل الذين قصهم الله في كتابه وذكر شيئاً من خبرهم أفضل ممن لم يقصص، كما قال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ... } 4. قال ابن سعدي: " .... فالرسل الذين قصهم الله في كتابه، أفضل ممن لم يقصص علينا نبأهم بلا شك"5. أولو العزم من الرسل: وكما تناول ابن سعدي مسألة المفاضلة بين الرسل والأنبياء فقد تناول المفاضلة بين الرسل وبين أولى العزم منهم. قال رحمه الله "أفضل أنبياء الله المرسلون منهم، وأفضل المرسلين أولوا العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد ولد آدم"6. وهؤلاء الخمسة أولو العزم من الرسل خصهم الله بالذكر مجتمعين في بعض الآيات.   1 التفسير 1/310. 2 سورة الإسراء/ الآية 55. 3 التفسير 4/289، 290. 4 سورة النساء/ الآية 164. 5 التفسير 2/430. 6 طريق الوصول /299، وانظر التفسير 6/201، و6/598. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فقال سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} 1. وقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} 2. وأمر رسوله أن يصبر ويتحمل من أذية قومه له، كما صبر إخوانه، أولو العزم من الرسل فقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُم} 3. قال ابن سعدي: "أمر تعالى رسوله، أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له، وأن لا يزال داعياً لهم إلى الله، وأن يقتدى بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية الذين عظم صبرهم وتم يقينهم. فهم أحق الخلق بالأسوة بهم والقفو لآثارهم والاهتداء بمنارهم"4. كلامه في بعض صفات أولي العزم من الرسل: هؤلاء الخمسة أولو العزم من الرسل اختص الله كل واحد منهم ببعض الخصال العظيمة والمناقب الحميدة، امتازوا بها عن غيرهم من الأنبياء. وقد ذكر سعدي بعض ما امتاز به أفراد هؤلاء الرسل من الخصال فذكر أن نوحاً امتاز بأنه أول رسول أرسله الله، وأنه الأب الثاني للبشرية وجميع الأنبياء الذين جاءوا من بعده كلهم من ذريته5. وذكر أن إبراهيم عليه السلام امتاز بأنه خليل الرحمن، وأن الله أكرمه بالكرامات المتنوعة فجعل في ذريته النبوة والكتاب وأخرج من صلبه أمتين هما أفضل الأمم العرب وبنو إسرائيل، واختاره الله لبناء بيته الذي هو أشرف بيت وأول بيت وضع للناس، ووهب له الأولاد بعد الكبر واليأس وملأ بذكره ما بين الخافقين، وامتلأ قلوب الخلق من محبته وألسنتهم من الثناء عليه6.   1 سورة الشورى/ الآية 3. 2 سورة الأحزاب/ الآية 7. 3 سورة الأحقاب/ الآية 35. 4 التفسير 7/59، 60. 5 الخلاصة /109، والتفسير 5/110. 6 انظر الخلاصة /122، والتفسير 7/302. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وذكر أن موسى عليه السلام امتاز بأنه كليم الله، وأنه أعظم أنبياء بني إسرائيل وأن شريعته وكتابه التوارة مرجع أنبياء بني إسرائيل وعلمائهم، وأن أتباعه أكثر أتباع الأنبياء غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن له من القوة العظيمة في إقامة دين الله والدعوة إليه والغيرة العظيمة ما ليس لغيره1. وذكر أن عيسى عليه السلام امتاز بأن الله سبحانه آتاه من البينات الدالة على صدقه، وأنه رسول الله حقاً، فجعله يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله، وكلم الناس في المهد صبياً، وأيده بروح القدس.2. وذكر أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل على الإطلاق، وأنه خاتم النبيين، وإمام المتقين وسيد ولد آدم، وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون وصاحب لواء الحمد والحوض المورود، وشفيع الخلائق يوم القيامة، وصاحب الوسيلة والفضيلة الذي بعثه بأفضل كتبه وشرع له أفضل شرائع دينه وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم، وهم آخر الأمم خلقاً وأولهم بعثا3. كلامه في أن الرسل أفضل الخلق وأكملهم: اقتضت حكمة الله تعالى أن لا يصطفي لإبلاغ دينه، ولتحمل رسالته إلا صفوة الخلق وأفضلهم. إذ أن كمال الرسل واختصاصهم بالفضل يوجب على الأمم تصديقهم والانقياد لهم، والسير على نهجهم وهذا من رحمة الله بعباده ولطفه بهم. قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 4. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} 5. قال ابن سعدي: "فالرسل لا يكونون إلا صفوة الخلق على الإطلاق، والذي اختارهم واجتباهم ليس جاهلاً بحقائق الأشياء فاختياره إياهم عن علم منه أنهم أهل   1 الخلاصة /129، والتفسير 7/614. 2 التفسير 1/310. 3 طريق الوصول /299. 4 سورة الحج/ الآية 75. 5 سورة آل عمران/ الآية 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 لذلك، وأن الوحي يصلح فيهم كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 1" 2. لذلك فإن الأنبياء لا يدعون إلا للخير والإصلاح ولا ينهون الناس إلا عن الشر والفساد. قال ابن سعدي: "الأنبياء جميعهم بعثوا بالإصلاح، والصلاح، ونهوا عن الشرور والفساد، فكل صلاح وإصلاح ديني ودنيوي فهو من دين الأنبياء وخصوصاً إمامهم وخاتمهم فإنه أبدى وأعاد في هذا الأصل ووضح للخلق الأصول النافعة التي يجرون عليها في الأمور العادية والدنيوية كما وضع لهم الأصول في الأمور الدينية"3. ولا ريب أن معرفة هذه الصفات التي توفرت في الأنبياء وفي دعوتهم، دافع عظيم لمن سمع بها وعرفها وحافز له لأن يتأسى بهم ويترسم خطاهم، وهذه هي الفائدة والثمرة من معرفة الأنبياء وأحوالهم. قال ابن سعدي: "لما أخبر الله عن كمال الرسل وما أعطاهم من الفضل والخصائص وأن دينهم واحد ودعوتهم إلى الخير واحدة كان موجب ذلك ومقتضاه أن تجتمع الأمم على تصديقهم والانقياد لهم لما آتاهم من البينات التي على مثلها يؤمن البشر، لكن أكثرهم انحرفوا عن الصراط المستقيم، ووقع الاختلاف بين الأمم فمنهم من آمن ومنهم من كفر"4. بيانه أن الكفر بنبي واحد كفر بجميع الأنبياء: لما كان الأنبياء بهذه المثابة وعلى هذه الصفات وغايتهم واحدة وهدفهم واحد وجب على كل مسلم أن يؤمن بجميع الأنبياء دون تفريق بينهم، وصار الكفر بنبي واحد كفر بجيمع الأنبياء. قال ابن سعدي: " الواجب في الأنبياء، أن يؤمن بهم على وجه العموم والشمول، ثم ما عرف منهم بالتفصيل وجب الإيمان به مفصلاً"5. وبين أن الكفر بنبي واحد كفر بجميع الأنبياء فقال: "من عادى أحداً من رسله فقد عادى الله وعادى جميع رسله كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ   1 سورة الأنعام/ الآية 124. 2 التفسير 5/328. 3 الخلاصة 5/328. 4 التفسير 1/311. 5 التفسير 1/146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} 1 وكذلك من كفر برسول فقد كفر بجميع الرسل بل بالرسول الذي يزعم أنه مؤمن به"2. وقال: "جميع الأنبياء دعوتهم واحدة، من كذب واحداًُ منهم فقد كذب الجميع؛ لأنه يكذب الحق الذي جاء به كل واحد منهم"3. وهذا الذي ذكره ابن سعدي دلت عليه نصوص كثيرة: منها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً. أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} 4. وقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} 5. وقوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} 6. وقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} 7. وغيرها من الآيات، فمن كذب برسالة أحد الرسل أو نفاها، فقد نفى أعظم منة امتن الله بها على عباده، إذ أن العبادَ لا طريق لهم إلى نيل السعادة والكرامة والفلاح إلا عن طريق الرسلِ، ويكون بذلك قد كذب بالرسولِ الذي يزعم أنه آمن به وبغيره من الرسل. كلامه في خلاصة دعوة الرسل: تقدم معنا في توحيد الألوهية أن الله سبحانه ما خلق الخلق إلا لعبادته وما أوجدهم إلا لتحقيق توحيده وطاعته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 8.   1 سورة البقرة/ الآية 98. 2 التفسير 2/208. 3 الخلاصة /115. 4 سورة النساء/ الآيتان 150, 151. 5 سورة الشعراء/ الآية 105. 6 سورة الشعراء/ الآية 123. 7 سورة الشعراء/ الآية 141. 8 سورة الذاريات / الآية 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ولتحقيق هذا الأمر العظيم جعل الله بينه وبين خلقه وسائط في تبليغ الرسالة فاصطفى لهذا الأمر العظيم أفضل الملائكة وأفضل الرسل، وأمرهم بتبليغ وحيه وإيصاله إلى الناس. فقاموا بذلك أتم القيام وأكمله، وعصمهم الله من الخطأ في تبليغ هذا الوحي. فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن الله تعالى؛ لأن مقصود الرسالة لا يحصل إلا بذلك1. ومقصود الرسالة الأعظم وأهم أمر بعثوا من أجله، وهو الدعوة إلى عبادة الله حده، وإفراده بجميع أنواع العبادة، والتحذير من الشرك والبدع وجميع الأنبياء متفقون على هذا المبدأ، سائرون على هذا المنهج، فما من نبي أرسله الله إلا وكان أول ما يدعو قومه إليه عبادة الله وحده وعدم الإشراك به. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2. وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3. وقد اهتم ابن سعدي ببيان هذه المسألة أعظم اهتمام إذ هي أفضل وسيلة إلى التوحيد الخالص والنهي عن الشرك فنوح وغيره أول ما يقولون لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . ويكررون هذا الأصل بطرق كثيرة"4. وقال: "زبدة دعوة الرسل كلهم ومدارها على قوله: {أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} أي على معرفة الله وتوحيده في صفات العظمة التي هي الألوهية وعبادته وحده لا شريك له فهي التي أنزل بها كتبه وأرسل رسله، وجعل الشرائع كلها تدعوا إليها وتحث وتجاهد من حاربها وقام بضدها"5.   1 التفسير لابن سعدي 6/424. 2 سورة النحل/ الآية 36. 3 سورة الأنبياء/ الآية 25. 4 الخلاصة /109. 5 التفسير 4/183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . "فكل الرسل الذين من قبلك مع كتبهم زبدة رسالتهم وأصلها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وبيان أنه الإله الحق المعبود وأن عبادة ما سواه باطلة"1. وتناول رحمه الله في تفسيره للقرآن وفي خلاصة تفسير القرآن دعوة كل نبي، وبين أنها كلها تدور حول تحقيق هذا الأصل العظيم. فبين أن دعوة نوح2، وإبراهيم3 وموسى4 وهود5، وصالح6 وشعيب7 ولوط8 وخاتمهم محمد9 صلى الله عليه وسلم وغيرهم من الأنبياء، تدور حول الأمر بعبادة الله والتحذير من الشرك. وبين رحمه الله أن ضد التوحيد هو الشرك محبط للعمل في نبوة جميع الأنبياء. فقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 10. قال: "ففي نبوة جميع الأنبياء أن الشرك محبط لجميع الأعمال كما قال الله تعالى في سورة الأنعام لما عد كثيراً من أنبيائه ورسله، قال عنهم: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 11 "12. وقال عند تفسيره هذه الآية: "فإذا كان هؤلاء الصفوة الأخيار لو أشركوا وحاشاهم لحبطت أعمالهم، فغيرهم من باب أولى"13.   1 التفسير 5/223. 2 التفسير 3/417، والخلاصة /107. 3 الخلاصة /116. 4 الخلاصة /129. 5 التفسير 3/429، والخلاصة/112. 6 التفسير 3/436، والخلاصة /114. 7 التفسير 3/447، والخلاصة /126. 8 الخلاصة /124. 9 الخلاصة /164. 10 سورة الزمر/ الآية 65. 11 سورة الأنعام/ الآية 88. 12 التفسير 6/491. 13 التفسير 2/430. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 هذا وقد تعرضنا لتفاصيل هذا الموضوع عند الحديث عن توحيد الألوهية وإنما هذه إشارة ناسب المقام ذكرها عند الحديث عن النبوات. موقف طوائف الضلال من الأنبياء: يتمثل قول جميع طوائف الضلال في الأنبياء عليهم السلام في طرفين كلاهما ذميم، الغلو والجفاء، أو الإفراط والتفريط. ويتمثل جانب الغلو من الأمم السابقة في النصارى، وجانب الجفاء يتمثل في اليهود. ومن أوضح الأمثلة المبينة لذلك: "موقف هاتين الطائفتين من عيسى عليه السلام". فالنصارى غلو فيه عليه السلام فجعلوه تارة إلهاً وتارة ابن الإله، وثالث ثلاثة، وأما اليهود فقد جفوا في حقه عليه السلام فقالوا ـ وقبح الله قولهم ـ إنه ابن بغي. قال ابن سعدي: "اختلفت فرق الضلال في عيسى عليه السلام من اليهود والنصارى وغيرهم، فمن غال فيه وجاف. فمنهم من قال إنه الله، ومنهم من قال إنه ابن الله، ومنهم من قال إنه ثالث ثلاثة. ومنهم من لم يجعله رسولاً بل رماه بأنه ولد بغي كاليهود. وكل هؤلاء مستحقون للوعيد الشديد"1. وموقف أهل السنة هو التوسط بين جانبي الغلو والجفاء فيقولون إن عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهكذا موقفهم مع جميع أنبياء الله ورسله ويؤمنون بهم جملة، ويؤمن بهم تفصيلاً وفقا لما ورد في الكتاب والسنة. كلامه في مدعي النبوة: قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} 2. هذه الآية دليل على أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى؛ لأنه كما تقدم مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فإن كل رسول نبي ولا عكس. وقد ورد في السنة أحاديث كثيرة تدل على أن الرسالات ختمت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلا نبي بعده ولا رسول.   1 التفسير 5/106. 2 سورة الأحزاب/ الآية 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 قال صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة فكان من دخلها فنظر إليها قال ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء عليهم السلام"1. وقال صلى الله عليه وسلم: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون"2. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي"3. وغيرها من الأحاديث، قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر جملة من هذه الأحاديث الدالة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده. قال: "والأحاديث في هذا كثيرة، فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك ودجال ضال مضل، ولو تحرق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرانيجات فكلها محال وضلال عند أولي الألباب"4. هذا وقد أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه سيخرج في أمته دجالون كذابون، كلهم يزعمون كذباً وزوراً أنهم مرسلون من عند الله. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريبا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله"5. "وقد ظهر بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة من أدعياء النبوة كمسيلمة والأسود العنسي وسجاح، ولا يزال يظهر بين الفينة والفينة دَعِيٌّ من أمثال هؤلاء. وقد ظهر في القرن الماضي على محمد الشيرازي (ولد سنة 1819م) ولقب بالباب   1 أخرجه البخاري 4/162، ومسلم 4/1791، وأحمد 2/257. 2 أخرجه مسلم 1/371، وأحمد 2/412، والترمذي 4/123. 3 أخرجه البخاري 4/162، ومسلم 4/1828. 4 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/494. 5 البخاري 4/178، ومسلم 4/2240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وأتباعه يدعون البابية، وادعى النبوة حيناً والألوهية حيناً، وسار على نهجه تلميذه الذي لقب (ببهاء الله) وأتباعه يدعون البهائية. ومن هؤلاء الأدعياء غلام أحمد القادياني، وله أتباع منتشرون في الهند وألمانيا وأنكلترا وأمريكيا، ولهم فيها مساجد يضللون بها المسلمين، وكانوا يسمون بالقاديانية، وهم يسمون اليوم أنفسهم بالأحمدية إمعانا في تضليل عباد الله. وآخر هؤلاء الأدعياء رجل ظهر في السودان يدعي أنه نبي وقد تكفل الله لفضح كل من ادعى هذه الدعوى وهتك ستره"1. وقد اهتم علماء المسلمين قديماً وحديثاً بكشف كذب هؤلاء وبيان زيغهم وضلالهم وفجورهم وكفرهم، وبعدهم عن الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وقد أشار ابن سعدي إلى مسألة ادعاء النبوة في بعض مؤلفاته وبين أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده، وبين أن ادعاء النبوة من أظلم الظلم وأعظم الكذب على الله. فقال عند قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 2. "ويدخل في ذلك ادعاء النبوة وأن الله يوحي إليه وهو كاذب في ذلك فإنه مع كذبه على الله وجرأته على عظمته وسلطانه يوجب على الخلق أن يتبعوه ويجاهدهم على ذلك ويستحل دماء من خالفه وأموالهم. ويدخل في هذه الآية كل من ادعى النبوة كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي والمختار وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف"3. وقد أشار في خلاصة التفسير إلى بعض الفوارق بين الأنبياء حقاً، وبين أدعياء النبوة فقال: "فإن الأنبياء يصدق بعضهم بعضاً ويشهد بعضهم لبعض، ويكون كما جاءوا به متفقاً لا يتناقض؛ لأنه من عند الله محكم منتظم.   1 الرسل والرسالات للدكتور عمر الأشقر /222 هاش. 2 سورة الأنعام/ الآية 93. 3 التفسير 2/434. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وأما الكذبة فإنهم لا بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم ونواهيهم ويعلم كذبهم بمخالفته لما يدعو إليه الأنبياء الصادقون"1. بيانه أن الأنبياء ليس منهم نساء: ذهب بعض العلماء إلى أن من النساء نبية. منهم: القرطبي وابن حزم وغيرهما. والذي عليه جمهور العلماء، وهو أن الذكورية شرط في الرسالة والنبوة، وعليه فإنه ليس من النساء نبيه2. واستدلوا بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} 3. وقد تناول ابن سعدي هذه المسألة وبين أن النساء ليس منهن نبية فقال عند قوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} 4. " .... وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية بل أعلى أحوالها الصديقية وكفى بذلك فضلاً وشرفاً، وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبيه لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين في الرجال كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} 5"6. وقال عند تفسير هذه الآية: "أي لست ببدعٍ من الرسل، فلم نرسل قبلك ملائكة بل رجالاً كاملين لا نساء"7. بيانه أن الخضر ليس بنبي: اختلف العلماء في الخضر هل هو نبي أو رسول أو ولي، كما قال الراجز: واختلف في خضر أهل العقول قيل نبي أو ولي أو رسول8 فذهب بعضهم إلى أن الخضر نبي واستدلوا بسياق الآيات في سورة الكهف،   1 الخلاصة /12. 2 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/496، وفتح الباري لابن حجر 6/447. 3 سورة يوسف/ الآية 108. 4 سورة المائدة/ الآية 75. 5 سورة يوسف/ الآية 108. 6 التفسير 2/326. 7 التفسير 4/205. 8 أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي 4/158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 كقوله تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} 1. فقالوا المراد بالرحمة في الآية رحمة النبوة. وقوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} 2. فقالوا هذا العلم هو ما يوحيه الله إليه عن طريق الوحي. واستدلوا بأفعال الخضر من قتل الغلام وخرق السفينة وبناء الجدار ثم قوله بعد ذلك {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} 3. فقالوا هذا الأمر أوحى الله به إلى الخضر، ولم يفعله من تلقاء نفسه، وكل ذلك يدل على نبوته4. وذهب بعض العلماء إلى أن الخضر عبد صالح وليس نبي؛ وذلك لأن الله سبحانه لم ينص على نبوته، وإنما وصفه بالعبودية، فذلك يوقف عند نص الآية. ومن هؤلاء الشيخ ابن سعدي فقد ذهب إلى أن الخضر عليه السلام عبد صالح وليس بنبي، اكتفاء بما نصت عليه الآية من وصفه بالعبودية وعدم وصفه بالنبوة. فقال بعد تفسيره للآيات المتعلقة بنبأ موسى مع الخضر: "وفي هذه القصة العجيبة الجليلة من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير، ننبه على بعضه بعون الله .... ثم قال: ومنها: أن ذلك العبد الذي لقياه، ليس نبياً، بل عبداً صالحاً لأنه وصفه بالعبودية، وذكر منّة الله عليه بالرحمة والعلم، ولم يذكر رسالته ولا نبوته، ولو كان نبياً لذكر ذلك كما ذكر غيره. وأما قوله في آخر القصة {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} 5. فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث كما يكون لغير الأنبياء. كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} 6. {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً} 7 " 8.   1 سورة الكهف/ الآية 65 2 سورة الكهف/ الآية 65. 3 سورة الكهف/ الآية 82. 4 الزهر النضر في نبأ الخضر لابن حجر ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 2/197، وأضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي 4/158. 5 سورة الكهف/ الآية 82. 6 سورة القصص/ الآية 7. 7 سورة النحل/ الآية 68. 8 التفسير 5/65، 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وقال في خلاصة التفسير: " ... ذلك العبد الذي لقياه ليس نبياً، بل هو عبد صالح ملهم؛ لأن الله ذكره بالعلم والعبودية الخاصة والأوصاف الجميلة، ولم يذكر معها أنه نبي أو رسول"1. فائدة تتعلق بالخضر: قال ابن سعدي عند تفسيره لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} 2. "وهذه الآية تدل على بطلان قول من يقول ببقاء الخضر، وأنه مخلد في الدنيا فهو قول لا دليل عليه، ومناقض للأدلة الشرعية"3   1 الخلاصة /146. 2 سورة الأنبياء/ الآيتان 34, 35. 3 التفسير 5/228، 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم هذا أصل عظيم من أصول الإيمان التي ينبني عليها، بل لا يحصل الإيمان لأحد حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، وخاتم النبيين، وسيد الأولين والآخرين. وقد اهتم ابن سعدي ببيان هذا الأصل العظيم في مواضع متعددة من مؤلفاته، وتناوله من جوانب متعددة. فبين أن محمدً صلى الله عليه وسلم أفضل النبيين، وأن الأنبياء جميعهم مقرون بدعوته وبين وجوب الإيمان به وتصديقه ومحبته وأن ذلك من موجبات الإيمان، وبين أن الله قرر نبوته في القرآن الكريم بأساليب مختلفة. وبين دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم واهتمامه بالتوحيد وتحذيره من الشرك، وغير ذلك من الجوانب الهامة المتعلقة بنبوته صلى الله عليه وسلم على ما سيأتي تفصيله وبيانه إن شاء الله. وسنبدأ الحديث أولاً عن فضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين وبيان ابن سعدي ذلك. بيانه أن محمداً أفضل الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام: قال ابن سعدي في بيان فضل النبي محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء "فضل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بفضائل كثيرة فاق بها جميع الأنبياء، فكل خصلة حميدة ترجع إلى العلوم النافعة والمعارف الصحيحة، والعمل الصالح فلنبينا منها أعلاها وأفضلها وأكملها. ولهذا لما ذكر الله أعيان الأنبياء الكرام قال لنبيه. {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 1. وهداهم هو ما كانوا عليه من الفضائل الظاهرة والباطنة، وقد تمم صلى الله عليه وسلم ما أمر به وفاق جميع الخلق؛ ولذلك خص الله نبينا بخصائص لم يشاركه فيها أحد من الأنبياء منها: هذه الخمسة التي عادت على أمته بكل خير وبركة ونفع"2.   1 سورة الأنعام/ الآية 90. 2 بهجة قلوب الأبرار/ 84، ويقصد بالخصائص الخمس ما ورد في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيت خمس لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة". أخرجه البخاري 1/86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 1. "أي: امش أيها الرسول الكريم خلف هؤلاء الأنبياء الأخيار واتبع ملتهم وقد امتثل صلى الله عليه وسلم، فاهتدى بهدى الرسل قبله وجمع كل كمال فيهم. فاجتمعت لديه فضائل وخصائص، فاق بها جميع العالمين، وكان سيد المرسلين وإمام المتقين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. وبهذا الملحظ استدل بهذا من استدل من الصحابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل كلهم2. وأعظم بيان لذلك وأوضح دليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع"3. بيانه أن الأنبياء جميعهم مقرون بنبوته: قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 4. قال ابن سعدي في تفسير هذه الآية: "هذا إخبار منه تعالى أنه أخذ عهد النبيين وميثاقهم كلهم، بسبب ما أعطاهم ومن به عليهم من الكتاب والحكمة، والمقتضي للقيام التام بحق الله وتوفيقه أنه أن جاءهم رسول مصدق لما معهم، بما بعثوا به من التوحيد والحق والقسط والأصول التي اتفقت عليها شرائع أنهم يؤمنون به وينصرونه. فأقروا على ذلك واعترفوا والتزموا وأشهدهم وشهد عليهم وتوعد من خالف هذا الميثاق، وهذا أمر عام بين الأنبياء جميعهم طريقهم واحد، وأن دعوة كل واحد منهم قد اتفقوا وتعاقدوا عليها. وعموم ذلك، أنه أخذ على جميعهم الميثاق بالإيمان والنصرة لمحمد صلى الله عليه وسلم ... "5.   1 سورة الأنعام/ الآية 90. 2 التفسير 2/431. 3 أخرجه مسلم 4/1782 من حديث أبي هريرة. 4 سورة آل عمران/ الآية 81. 5 التفسير 1/396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 كلامه في وجوب الإيمان به ومحبته وطاعته: قال ابن سعدي في بيان وجوب الإيمان بالرسل صلى الله عليه وسلم والتزام طاعته وتصديقه. "يجب معرفة جميع ما جاء به من الشرع جملة وتفصيلاً، بحسب الاستطاعة والإيمان بذلك والتزامه والتزام طاعته في كل شيء بتصديق خبره؛ وامتثال أمره واجتناب نهيه"1. وقد بين ابن سعدي أن معرفة الرسول صلى الله عليه وما هو عليه من صفات أكبر دافع لتقوية الإيمان وزيادته، وأن ذلك من أعظم موجبات الإيمان، فبعد أن ذكر جملة من الأمور التي يحصل ويقوى بها الإيمان، قال: "ومن طرق موجبات الإيمان وأسبابه معرفة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة، فإن من عرفه حق المعرفة لم يرتب في صدقه، وصدق ما جاء به من الكتاب والسنة والدين الحق. كما قال تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} 2. أي فمعرفته صلى الله عليه وسلم توجب للعبد المبادرة إلى الإيمان ممن [لم] يؤمن وزيادة الإيمان ممن آمن به"3. وبين أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة وأنها من طاعة الله فقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 4. وقال: "طاعةُ الله وطاعة رسوله واجبة، فمن أطاع الله فقد أطاع الرسول ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله"5. وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} 6. "وكل من أطاع رسول الله في أوامره ونواهيه فقد أطاع الله تعالى لكونه لا يأمر إلا بأمر الله وشرعه ووحيه وتنزيله"7.   1 الفتاوى السعدية /15. 2 سورة المؤمنون/ الآية 69. 3 التوضيح والبيان /27. 4 سورة المائدة/ الآية 92. 5 التفسير 2/341. 6 سورة النساء/ الآية 80. 7 التفسير 2/100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وبين رحمه الله أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي العلامة الواضحة على صدق محبته، فقال عند تفسيره لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 1. "هذه الآية هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة ومن ادعى ذلك دعوى، فعلامة محبة الله اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو إليه طريقاً إلى محبته ورضوانه، فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما واجتناب نهيهما فمن فعل ذلك أحبه الله وجازاه جزاء المحبين، وغفر له ذنوبه وستر عليه عيوبه. فكأنه قيل ومع ذلك فما حقيقة اتباع الرسول وصفتها؟ فأجاب بقوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} 2. بامتثال الأمر واجتناب النهي وتصديق الخبر: "فإن تولوا" عن ذلك فهذا هو الكفر والله لا يحب الكافرين"3. وبين رحمه الله أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته من تمام النصيحة له فقال في بيان معنى النصحية للرسول صلى الله عليه وسلم: "والنصحية للرسول: هي كمال الإيمان به ومحبته وطاعته واتباعه، وتقديم قوله وهديه وسيرته على كل قول وهدى وسيرة ونصر ما جاء به"4. بيانه أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مقررة في القرآن بطريق متعددة ذكر ابن سعدي في كتابه القواعد الحسان جملة من القواعد المتعلقة بتفسير القرآن الكريم، وذكر من جملة هذه القواعد قاعدة جليلة تتعلق بالأساليب المختلفة والطرق المتنوعة التي ذكرها الله في كتابه لتقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: "هذا الأصل الكبيير قرره الله في كتابه بالطرق المتنوعة التي يعرف بها كمال صدقه صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه صدق المرسلين، ودعا إلى ما دعوا إليه، وأن جميع المحاسن التي في الأنبياء في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما نزهوا عنه من النقائص والعيوب فرسولنا محمد أولاهم وأحقهم بهذا التنزيه. وأن شريعته مهيمنة على جميع الشرائع، وكتابه مهيمن على كل الكتب، فجميع   1 سورة آل عمران/ الآيتان 31 ,32. 2 سورة آل عمران/ الآية 32. 3 التفسير 1/374. 4 الفتاوى السعدية /70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 محاسن الأديان والكتب قد جمعها الله في هذا الكتاب وهذا الدين، وفاق عليها بمحاسن وأوصاف لم توجد في غيره. وقرر نبوته بأنه أمي لا يكتب ولا يقرأ ولا جالس أحداً من أهل العلم بالكتب السابقة. بل لم يفجأ الناس إلا وقد جاءهم بهذا الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما أتوا ولا قدروا ولا هو في استطاعتهم ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وأنه محال مع هذا أن يكون من تلقاء نفسه أو أن يكون قد تقول على ربه أو أن يكون على الغيب بظنين، وأعاد في القرآن وأبدى في هذا النوع"1. واستمر ابن سعدي في ذكر هذه الطرق والأساليب والواردة في القرآن المقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال بعد أن ذكر جملة كبيرة من هذه الطرق: "فهذه الأمور والطرق قد أكثر الله من ذكرها في كتابه وقررها بعبارات متنوعة، ومعاني مفصلة وأساليب عجيبة وأمثلتها تفوق العد والإحصاء"2. ثم إن القرآن الكريم أعظم دليل وأقوى برهان على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو وحده يكفي لأن يكون دليلاً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كما قرر الله ذلك في كتابه؛ لذلك يقول ابن سعدي: "والله تعالى يقرر أن القرآن كاف جداً أن يكون هو الدليل الوحيد على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم في مواضع عدة. منها قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3 "4. هذا وقد جعل الله مع هذا البرهان الجلي والدليل القاطع جملة من البراهين فلا مجال للشك أو الريب بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن سعدي: "قد أقام الله على صدق رسله من الآيات البينات والأدلة الواضحات، ما على مثله يؤمن البشر وخصوصاً إمامهم وسيدهم محمداً صلى الله عليه وسلم فإن آيات نبوته وبراهين رسالته متنوعة. سيرته وأخلاقه وهديه، وما جاء به من الدين القويم، وحثه على كل خلق جميل وعمل صالح ونفع وإحسان إلى الخلق، ونهيه عند ضد ذلك.   1 القواعد الحسان/19. 2 القواعد الحسان /23. 3 سورة العنكبوت/ الآية 51. 4 القواعد الحسان /23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 كلها آيات وبراهين على رسالته وما جاء به من الوحي من الكتاب والسنة كله جملة وتفصيلاً أدلة وبراهين على رسالته مع ما أكرمه الله به من النصر العظيم وإظهار دينه على الأديان كلها، وإجابة الدعوات وحلول أنواع البركات التي لا تعد أنواعها فضلا عن أفرادها. هذا بقطع النظر عن شهادة الكتب السابقة له، وعن معارضة المكذبين له، وتحديه إياهم بكل طريق حتى عجزوا غاية العجز عن نصر باطلهم، ولا يزال الباطل بين يدي ما جاء به الرسول مخذولاً بحيث إن القائمين بما جاء به الرسول والقائمين بمعرفة دينه يتحدون جميع أهل الأرض أن يأتوا بصلاح أو فلاح أو رقي حقيقي أو سعادة حقيقية بجميع وجوهها فيتبين أنه محال أن يتوصل إلى شيء من ذلك بغير ما جاء به الرسول وأرشد إليه ودل عليه"1. وقال: "وأما ما آتى الله محمداً صلى الله عليه وسلم من الآيات فهي لا تحد ولا تعد من كثرتها وقوتها ووضحها ولله الحمد، فلم يبق لأحد من الناس بعدها عذر"2. بيانه لكمال دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم: بين ابن سعدي أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في غاية الجودة والحسن وبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم فاق في دعوته جميع الأنبياء قال رحمه الله: "فانظر إلى دعوات الرسل صلوات الله وسلامه عليهم التي حكاها الله في كتابه مع أممهم المستجيبين والمعرضين والمعارضين تجدها محتوية على غاية الحسن في كل أحوالها. ثم انظر إلى دعوة سيدهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم وما سلك من الطرق المتنوعة في دعاية الخلق عموماً وخصوصاً على اختلاف طبقاتهم، ومنازلهم وبحسب أحوالهم، وبحسب الأقوال والأحكام التي يدعو إليها، تجده قد فاق في ذلك الأولين والآخرين والآثار أكبر دليل على قوة المؤثر"3. كما بين رحمه الله أن زبدة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلاصة دعوته الدعوة إلى توحيد الله سبحانه والتحذير من الشرك كما كان سلفه في ذلك إخوانه الأنبياء، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4.   1 الفتاوى السعدية /47، 48. 2 القواعد الحسان /151. 3 الخلاصة /197. 4 سورة الأنبياء/ الآية 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 قال ابن سعدي مبيناً أعظم أمر دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم: "فكان أعظم مقامات دعوته: دعوته إلى التوحيد الخالص والنهي عن ضده، دعى الناس لهذا، وقرره الله في كتابه وصرفه بطرق كثيرة واضحة تبين وجوب التوحيد وحسنه وتعينه طريقاً إلى الله وإلى دار كرامته، وقرر إبطال الشرك والمذاهب الضارة بطرق كثيرة احتوى عليها القرآن، وهي أغلب السور المكية. فاستجاب له في هذا الواحد بعد الواحد على شدة عظيمة من قومه، وقاومه قومه وغيرهم وبغوا له الغوائل، وحرصوا على إطفاء دعوته بجدهم وقولهم وفعلهم وهو يجادلهم ويتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وهم يعلمون أنه الصادق الأمين، ولكنهم يكابرون ويجحدون آيات الله"1. وقال رحمه الله في بيان إتمام الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الدعوة وإبلاغه لها غاية البلاغ: " ... بل هو صلى الله عليه وسلم أمين أهل السماء أمين أهل الأرض الذي بلغ رسالات ربه البلاغ المبين. فلم يشحْ بشيء منه عن غني ولا فقير ولا رئيس ولا مرؤوس ولا ذكر ولا أنثى ولا حضري ولا بدوي؛ ولذلك بعثه الله في أمة أمية جاهلة جهلاء. فلم يمت صلى الله عليه وسلم، حتى كانوا علماء ربانيين، وأحباراً متفرسين، إليهم الغاية في العلوم، وإليهم المنتهى في استخراج الدقائق والمفهوم، وهم الأساتذة وغيرهم قصاراه أن يكون من تلاميذهم"2. بيانه لكمال الرسول صلى الله عليه وسلم البشري: تناول ابن سعدي في مؤلفاته عدة جوانب تتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم وبين تحقيقه لها، وكماله لقيامه بها. فذكر منها تحقيق الرسول صلى الله عليه وسلم للعبودية، واتصافه بأحسن الأخلاق وعصمته وكمال عقله وكثرة علمه إلى غير ذلك من الجوانب الكثيرة التي كمل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم لإكماله إياها ولكثرتها فسأقتصر على ذلك طرف منها: تحقيق للعبودية: وهذا أعظم الأمور التي يجب تحقيقها وقد بين الله سبحانه أن رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم قد حقق العبودية لله وحده؛ لذلك فإنه عند ذكره لرسوله في المقامات العظيمة يذكره بوصف العبودية وفي ذلك إشارة لتحقيق الرسول صلى الله عليه وسلم لها وإتمامه إياها.   1 الخلاصة /166. 2 التفسير 7/579، بتصرف يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 قال ابن سعدي عند قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} 1. "وذكره هنا وفي مقام الإنزال للقرآن ومقام التحدي بصفة العبودية؛ لأنه نال هذه المقامات الكبار بتكميله لعبوديته لربه"2. وقال عند قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} 3. " .... وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم، دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم قيامه بالعبودية التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين"4. كمال أخلاقه: إن الله سبحانه لما امتن على المؤمنين بهذا الرسول الكريم جمع له من صفات الكمال وأفضل الخصال ما لم يكن لغيره من البشر فجمع له جميع الخصال الموجودة في الرسل وغيرهم، وما من خصلة حميدة وصفة طيبة دعا إليها شرعنا الحكيم إلا ورسولنا صلى الله عليه وسلم متصف بها، فبهذا كان عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق أخلاقا وأحسنهم أوصافاً. يقول ابن سعدي في بيان ذلك: " ... فعلا صلى الله عليه وسلم بخلقه العظيم على جميع الخلق وفاق الأولين والآخرين، وكان خلقه العظيم كما فسرته به عائشة ـ رضي الله عنها ـ هذا القرآن الكريم"5. وذلك نحو قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 6. وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} 7 ... الآية وقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 8.   1 سورة الإسراء/ الآية 1. 2 التفسير 4/259. 3 سورة البقرة/ الآية 23. 4 التفسير 1/61. 5 كما روى ذلك مسلم في صحيحه 1/513 من حديثها رضي الله عنها. 6 سورة الأعراف/ الآية 199. 7 سورة آل عمران/ الآية 159. 8 سورة التوبة/ الآية 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وما أشبهها من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، والآيات التي فيها الحث على كل خلق جميل فكان أول الخلق امتثالاً لها وسبقاً إليها وإلى تكميلها، فكان له منها أكملها وأجلها وأعلاها، وهو في كل خصلة منها في الذروة العليا، فكان سهلاً ليناً قريباً من الناس مجيباً لدعوة من دعاه قاضياً لحاجة من استقضاه، جابراً لقلب من سأله لا يحرمه ولا يرده خائبا، وإذا أراد أصحابه أمراً وافقهم عليه وتابعهم فيه إذا لم يكن في ذلك محذور، وإن عزم على أمر لم يستبده به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم ويعفو عن مسيئهم. ولم يكن يعاشر جليساً إلا أتم عشرة وأحسنها فكان لا يعبس في وجهه ولا يغلظ له في كلامه ولا يطوي عنه بشره ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة بل يحسن إليه غاية الإحسان ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم"1. وقال في موضع آخر: " فهو صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق حلماً وصبراً، وأكثرهم عفواً عن الخلق وصفحاً وأجمعهم لجميع المحاسن والكمالات وأكرمهم في الخير والمعروف وبذل الهبات وهو الذي جمع الكرم والإحسان بعمله وعلمه وحاله وماله"2. عصمته فيما يبلغ عن ربه: وهذا مما يدل على كمال الرسول صلى الله عليه وسلم البشري، فهو في ألفاظه وأقواله التي يبلغ فيها رسالة ربه، ما يتكلم بشيء منها إلا عن وحي من الله سبحانه، فقد عصمه الله من الخطأ في تبليغ الرسالة. وأدل شيء على ذلك قول الله سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 3. لذلك يقول ابن سعدي عن هذه الآية: " .... ودل هذا على أن السنة وحي من الله ولرسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} 4 وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه؛ لأن كلامه لا يصدر عن هوى وإنما يصدر عن وحي يوحى"5.   1 الخلاصة /25 بتصرف يسير. 2 الخطب المنبرية /66. 3 سورة النجم/ الآيتان 3، 4. 4 سورة النساء/ الآية/ 113. 5 التفسير 7/204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 سعة علمه: وهذه من نعم الله على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث امتن عليه بأن أعطاه علماً واسعاً وعقلاً راجحاً، لا يماثله في ذلك أحد من البشر يقول ابن سعدي رحمه الله: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي عنده من العلم أعظم من غيره وأنبأه الله من علم الغيب على ما لم يطلع عليه أحد من الخلق"1. أما عن كمال عقل الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول ابن سعدي "محال أن توجد عقول تقارب عقل النبي صلى الله عليه وسلم الذي تستمد منه العقول والآراء .... حسب العقول الكاملة أن تستمد من عقل النبي صلى الله عليه وسلم وآرائه وتستنير بنور هديه وتوجيهه وإرشاده"2. هذه إشارة وقليل من كثير مما امتن الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال وطيب الخصال، وحسب المسلم أن يعرف أن أكمل الخلق وأفضلهم وسيدهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. الإيمان بالكتب المنزلة على الرسل عليهم السلام: وهذا من المباحث الهامة إذ هو من أركان الإيمان الستة، وهو داخل في الإيمان بالنبوات؛ لأنه لا يتم الإيمان بالأنبياء إلا مع الإيمان بالكتب المنزلة عليهم. لذا يقول ابن سعدي بعد أن ذكر أهمية الإيمان بالأنبياء عليهم السلام ووجوب الإيمان بهم جملة وتفصيلاً: "ويدخل في الإيمان بالرسل الإيمان بالكتب، فالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم يقتضي الإيمان بكل ما جاء به من الكتاب والسنة ألفاظها ومعانيها، فلا يتم الإيمان إلا بذلك، وكل من كان أعظم علماً بذلك وتصديقاً واعترافاً وعملاً كان أكمل إيماناً"3. وقد سبق أن تحدثنا عن الكتب في مبحث الأسماء والصفات، من حيث كونها من كلام الله، والكلام صفة من صفاته سبحانه. وأما حديثناً عن الكتب هنا، فعن أهمية الإيمان بها جملة وتفصيلاً، وأن فيها الهداية والتوفيق على من أنزلت إليهم من ذكر أسماء بعضها مما ورد ذكره في القرآن ومن أنزلت عليه، ثم بيان أهمها وأعظمها والمهيمن عليها وهو القرآن الكريم. وهذه النقاط الهامة تكلم عنها الشيخ ابن سعدي في مؤلفاته ولا سيما في كتابه   1 التفسير 7/199. 2 الخطب المنبرية /53. 3 الفتاوى السعدية /15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 التفسير، فبين رحمه الله وجوب الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين وأن ذلك من تمام الإيمان بهم وقد تقدم النقل عنه أنها داخلة في الإيمان بالنبوات، ومعنى ذلك أن من آمن بأنبياء الله ورسله فإن الواجب عليه أن يؤمن بما أنزل عليهم من كتب. وقد أخبر الله سبحانه في كتابه الكريم أن الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين آمنوا بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وأنهم آمنوا بالملائكة والكتب والرسل حيث يقول سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} 1 إلى آخر الآية من سورة البقرة. قال ابن سعدي عند تفسيره لهذه الآية: "فإن الله أمر في أول هذه السورة الناس بالإيمان بجميع أصوله في قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} 2 الآية. وأخبر في هذه الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين آمنوا بهذه الأصول العظيمة وبجميع الرسل وجميع الكتب، ولم يصنعوا صنيع من آمن ببعض وكفر ببعض كحالة المنحرفين من أهل الأديان المنحرفة"3. لذا فإن الواجب على المسلم أن يؤمن بهذه الكتب جملة وتفصيلاً. فيؤمن جملة بجميع ما أنزل الله من الكتب، ويوقن أن في هذه الكتب الهداية للبشر، وأنها منزلة من عند الله، ويؤمن تفصيلاً بما ورد ذكره في القرآن الكريم من هذه الكتب فيؤمن بالتوراة والإنجيل والزبور، ويؤمن بالقرآن الكريم وأنه أفضلها والمهيمن عليها. وهذه النقاط المتقدمة تناولها ابن سعدي مفصلة في تفسيره. كلامه في التوراة: قال ابن سعدي في وصف التوراة، وبيان ما اشتملت عليه من النور والهداية عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّه .... } 4. قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} على موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام {فِيهَا هُدىً} يهدي إلى الإيمان والحق ويعصم من الضلالة، {وَنُورٌ} يستضاء به في ظلم الجهل والحيرة والشكوك والشبهات والشهوات.   1 سورة البقرة/ الآية 285. 2 سورة المائدة/ الآية 44. 3 التفسير 1/352. 4 سورة المائدة/ الآية 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} 1. {يَحْكُمُ بِهَا} بين الذين هادوا، أي اليهود في القضايا والفتاوى. {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} لله وانقادوا لأوامره الذين إسلامهم أعظم من إسلام غيرهم صفوة الله من العباد"2. وقد بين ابن سعدي أن الله سبحانه كثيراً ما يقرن بين القرآن والتوراة؛ وذلك لأنهما أفضل كتابين أنزلهما الله على خلقه، فقال: "كثيراً ما يجمع تعالى بين هذين الكتابين الجليلين اللذين لم يطرق العالم أفضل منهما ولا أعظم ذكراً ولا أبرك ولا أعظم هدى وبياناً وهما التوراة والقرآن"3. وقال في موضع آخر: "كثيراً ما يقرن الباري بين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة موسى عليه السلام، وبين كتابيهما وشريعتهما؛ لأن كتابيهما أفضل الكتب وشريعتهما أكمل الشرائع ونبوتيهما أعلى النبوات وأتباعهما أكثر المؤمنين"4. كلامه في الإنجيل: قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} 5. قال ابن سعدي في تفسيره لهذه الآية: "أي واتبعنا هؤلاء الأنبياء والمرسلين الذين يحكمون بالتوراة، بعبدنا ورسولنا عيسى بن مريم، روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم. بعثه الله مصدقاً لما بين يديه من التوراة، ومؤيداً لدعوته وحاكما بشريعته وموافقا له في أكثر الأمور الشرعية. وقد يكون عيسى عليه السلام أخف في بعض الأحكام كما قال تعالى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُم} 6   1 سورة الأنبياء/ الآية 48. 2 التفسير 2/294. 3 التفسير 5/236. 4 التفسير 4/260. 5 سورة المائدة/ الآية 46. 6 سورة آل عمران/ الآية 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 {وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ} الكتاب العظيم المتمم للتوراة {فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} يهدي إلى الصراط المستقيم ويبين الحق من الباطل. {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} بتثبيتها والشهادة لها والموافقة. {وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} 1. فإنهم الذين ينتفعون بالهدى، ويتعظون بالمواعظ ويرتدعون عما لا يليق"2. كلامه في الزبور: قال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} 3 " .... وهو الكتاب المعروف المزبور الذي خص الله به داود عليه السلام لفضله وشرفه"4. كلامه في القرآن الكريم: وهو أفضل الكتب السماوية وخاتمها والمهيمن عليها والمصدق لها أنزله الله على صفيه وخليله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وقد تناول ابن سعدي فضل القرآن الكريم، وبين أنه أفضل الكتب السماوية، وأنه المصدق لها والمهيمن عليها فقال في وصف القرآن الكريم فهو: "مشتمل على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه ومصدق لما بين يديه من الكتب؛ لأنه شهد للكتب السالفة ووافقها وطابقت أخباره أخبارها وشرائعه الكبار شرائعها وأخبرت به فصار وجودها مصداقا لخبرها. وهو مشتمل على ما اشتملت عليه الكتب السابقة، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية، فهو الكتاب الذي تتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه، وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين. وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة والإحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول وما شهد له بالرد فهو مردود قد دخله التحريف والتبديل وإلا فلو كان من عند الله لم يخالفه"5. وقال: "وأكمل الرسالة وختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه العظيم الذي هدى الله به   1 سورة المائدة/ الآية 46. 2 التفسير 2/298. 3 سورة النساء/ الآية 163. 4 التفسير 2/218، انظر 7/290. 5 التفسير 2/299، بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الخلق من الضلالات واستنقذهم به من الجهالات وفرق به بين الحق والباطل والسعادة والشقاوة، والصراط المستقيم وطرق الجحيم فالذين آمنوا به واهتدوا حصل لهم به الخير الكثير والثواب العاجل والآجل"1. وقال عند قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} 2. "يخبر تعالى عن شرف القرآن وجلالته وأنه يهدي للتي هي أقوم أي: أعدل وأعلى من العقائد والأعمال والأخلاق، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع الأمور.. إلى أن قال فالقرآن مشتمل على البشارة والنذارة، وذكر الأسباب التي تنال بها البشارة وهو الإيمان والعمل الصالح والتي تستحق بها النذارة وهو ضد ذلك"3. وقد عدد رحمه الله جملة من أوصاف القرآن الكريم وذلك في مقدمة كتابه خلاصة تفسير القرآن فقال: "قد وصف الله كتابه بأوصاف جليلة تنطبق على جميعه وتدل أكبر دلالة على أنه الأصل والأساس لجميع العلوم النافعة، والفنون المرشدة لخبر الدنيا والآخرة. وصفه بالهدى والرشد والفرقان، وأنه مبين وتبيان لكل شيء فهو في نفسه هدى ويهدي الخلق لجميع ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم، ويرشدهم إلى كل طريق نافع، ويفرق لهم بين الحق والباطل والهدى والضلال وبين أهل السعادة والشقاوة بذكر أوصاف الفريقين، وفيه بيان الأصول والفروع ... ووصفه بأن رحمة ... ووصفه بأن نور .... ووصفه بأنه شفاء لما في الصدور"4. إلى غير ذلك من الأوصاف العظيمة لهذا الكتاب والعظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وبهذه الأوصاف الجليلة والنعوت الجميلة يظهر لنا أهمية العناية بهذا القرآن؛ لما يترتب على ذلك من حصول السعادة والهداية والفلاح في الدنيا والآخرة.   1 التفسير 1/356. 2 سورة الإسراء/ الآية 9. 3 التفسير 4/264. 4 الخلاصة /6، 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الإيمان بالملائكة: وهذا المبحث له صلة عميقة بالإيمان بالنبوات، إذ أن الملائكة هم الذين يبلغون وحي الله إلى خلقه، ولا يتم الإيمان بالله وكتبه ورسله إلا بالإيمان بالملائكة، وقد أشار ابن سعدي إلى أن الإيمان بالملائكة داخل في الإيمان بالنبوات حيث قال: "والإيمان بالملائكة مع القدر داخل في هذا الأصل العظيم"1 يعني الإيمان بالنبوات؛ لذا فقد رأيت أن أجعل هذا المبحث ضمن الكلام على النبوات. هذا وقد تناول ابن سعدي هذا الأصل العظيم في مؤلفاته وبين وجوب الإيمان به وأنه أحد أصول الإيمان. وبين أن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان بالملائكة، كما تناول ذكر أوصافهم وأعمالهم. قال رحمه الله: "الإيمان بالملائكة أحد أصول الإيمان ولا يتم الإيمان بالله وكتبه ورسله إلا بالإيمان بالملائكة وقد وصفهم الله بأكمل الصفات وأنهم في غاية القوة على عبادة الله، والرغبة العظيمة فيها، وأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأنهم لا يستكبرون عن عبادته بل يرونها من أعظم نعمه عليهم وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ففي هذا بيان كمال محبتهم لربهم وقوة إنابتهم إليه ونشاطهم التام في طاعته وأنهم لا يعصونه طرفة عين. وهم وسائط بينه وبين رسله، لا سيما جبريل أفضلهم وأعظمهم وأقواهم وأرفعهم عند الله منزلة، فإنه ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما هو على الغيب بضنين {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} 2. وكما أنهم الوسائط بينه وبين عباده في تبليغ الوحي والشرائع إلى الأنبياء، فهم الوسائط في التدبيرات القدرية، فإن الله وصفهم بأنهم المدبرات أمراً فكل طائفة منهم قد وكله على عمل هو قائم به بإذن الله، فمنهم الموكلون بالغيث والنبات والموكلون بحفظ العباد مما يضرهم ويحفظ أعمالهم وكتابتهم والموكلون بقبض الأرواح وبتصوير الأجنة في الأرحام وكتابة ما يجري عليها في الحال والمآل، والموكلون على الجنة والنار، ومنهم حملة العرش ومن حوله من الملائكة المقربين، إلى غير ذلك مما وصفوا به في الكتاب والسنة"3.   1 الفتاوى السعدية /15. 2 سورة الشعراء/ الآيات 192-194. 3 الخلاصة /29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ثم قال رحمه الله بعد ذكر هذه الجملة النافعة من أوصف هؤلاء الكرام البررة ومن نعوت هؤلاء الأطهار. مبينا الواجب نحوهم، وأنه يجب الإيمان بهم "فيجب الإيمان بهم إجمالا وتفصيلاً، وكثير من سور القرآن فيها ذكر الملائكة، والخبر عنهم فعلينا أن نؤمن بذلك كله"1. كما بين رحمه الله أن الإيمان بالملائكة من الإيمان بالغيب الذي هو صفة من صفات المؤمنين المتقين كما قال سبحانه: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 2. فبين أنه لا يتم الإيمان بالغيب إلا بالإيمان بالملائكة، قال: "ومن الإيمان بالغيب الإيمان بالملائكة الكرام الذين جعلهم الله عباداً مكرمين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأنه تعالى جعلهم يدبرون بأمره وإذنه أمور الدنيا والآخرة فهم أكثر جنود الله وهم رسله في أحكامه الدينية وأحكامه القدرية وأن الله جعل للعبد منهم معقبات يحفظونه من أمر الله ويحفظون عليه أعماله ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ. وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَاماً كَاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ، ولهم صفات وأفعال مذكورة في الكتاب والسنة لا يتم الإيمان بالغيب إلا بالإيمان بها"3. كلامه عن منكري وجود الملائكة: بين ابن سعدي أن الإيمان بالملائكة وأوصافهم ونعوتهم عقيدة راسخة في نفوس المسلمين، ولا ينكر ذلك أحد إلا الزنادقة المنكرين لوجود الله سبحانه. قال رحمه الله: "ولا تكاد تجد أحداً ينكر وجود الملائكة إلا الزنادقة المنكرين لوجود ربهم ومن تستر بالإسلام منهم فإنه ينكر الملائكة حقيقة وينكر خبر الله ورسوله عنهم، ويفسر الملائكة تفسيراً وتحريفاً خبيثاً فيزعم أن الملائكة هي القوى الخيرية والصفات الحسنة الموجودة في الإنسان، وأن الشياطين هي القوى الشريرة فيه وغرضهم من هذا التحريف دفع الشنعة عنهم، وقد ازدادوا بهذا التحريف شراً إلى شرهم، وراج هذا   1 الخلاصة /29. 2 سورة البقرة/ الآيتان 2، 3. 3 المواهب الربانية /67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 التحريف الخبيث على بعض الذين يحسنون الظن بهؤلاء الزنادقة، وليس عندهم بصيرة في أديان الرسل وإن أظهروا تعظيمهم، فإن زنادقة الفلاسفة أعظم في قلوبهم من الرسل وكفى بالعبد ضلالاً وغياً أن يصل إلى هذه الحال، نعوذ بالله من مضلات الفتن"1. ومن هؤلاء البعض الذين ساروا في ركب الزنادقة وترسموا خطاهم القصيمي الملحد صاحب الأغلال وإليه وأمثاله يشير السعدي بقوله: "وراج هذا التحريف الخبيث على بعض الذين يحسنون الظن بهؤلاء الزنادقة، وليس عندهم بصيرة في أديان الرسل"2. وقد أنكر هذا القصيمي في كتابه "الأغلال" وجود الملائكة وسخر ممن يثبت وجودهم وتهكم منه وقرر أن هذه خرافات لا حقيقة لها، وهذا غاية البهت والضلال. قال ابن سعدي رحمه الله: "ومن فروع نبذه ـ أي القصيمي ـ الإيمان بالله وبما أخبر به على ألسنة رسله، إنكاره الملائكة والجن والأرواح وسياقه لهذا الإنكار بأساليب تهكمية وعبارات سخرية بما أخبر الله به وأخبرت به رسله ونطقت به الكتب واعترف به علية الخلق وسائر أهل الأديان السماوية وجاءت به نصوص الكتاب والسنة في نصوص كثيرة زادت على التواتر فأقر بها المسلمون واعترفوا بها وبكل ما أخبر الله به ورسله عن الملائكة والجن وعن أحوال البرزخ وغيره ولم ينكر ذلك إلا جاحد ملحد مكذب لله ورسله"3. والمقصود أن الملائكة لهم وجود حقيقي خلقهم الله وأمرهم بأوامر متنوعة من حفظ للكائنات وإنزال للمطر وكتابة للإعمال وغير ذلك من الصفات والأعمال الواردة عنهم في الكتاب والسنة. فواجب المسلم أن يؤمن بكل ما ورد في الكتاب والسنة عنهم من غير شك ولا ريب وأن يصدق بذلك تمام التصديق فالإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة. ولا يتم الإيمان لأحد حتى يؤمن بالملائكة على الإجمال والتفصيل. والله أعلم. وهذا آخر ما يتعلق بالفصل الثاني، ويليه الفصل الثالث وفيه الإيمان باليوم الآخر. وبالله التوفيق.   1 الخلاصة /29. 2 تنزيه الدين /39. 3 تنزيه الدين /39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الفصل الثالث جهوده في توضيح الإيمان باليوم الآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الفصل الثالث: الإيمان باليوم الآخر تمهيد: إن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان الستة، ولا يصح إيمان أحد إن لم يؤمن باليوم الآخر. قال تعالى في وصف المؤمنين: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} 1. وقال في وصف الكافرين: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 2. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور أهمية الإيمان باليوم الآخر حيث جعله أحد أركان الإيمان. فقال صلى الله عليه وسلم في تعريفه للإيمان: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره"3. هذا وإن الحديث عن الإيمان باليوم الآخر يشتمل على أمور كثيرة: فكل ما أخبر به الله ورسوله مما يكون بعد الموت من عذاب القبر ونعيمه وما يكون من النفخ في الصور. وما يكون من البعث والنشور، وما يكون يوم القيامة من ثواب وعقاب وجنة ونار. وما يكون قبل ذلك كله من علامات وأشراط كل ذلك داخل في الإيمان باليوم الآخر. وعلى هذا فإن الحديث في هذا الفصل يشتمل على خمسة مباحث هامة: أولها: الإيمان بأشراط الساعة. والثاني: الإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه.   1 سورة النمل/ آية 13. 2 سورة هود/ آية 19. 3 أخرجه مسلم 1/37 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الثالث: الإيمان بالنفخ في الصور. الرابع: الإيمان باليوم الآخر بعد البعث. وقبل الشروع في هذه المباحث على وجه التفصيل، يجدر التنبيه على اهتمام السعدي بهذا الموضوع. حيث إنه رحمه الله تناول الحديث عن الإيمان باليوم الآخر جملة وتفصيلاً فتحدث بالجملة عن أهمية ووجوب الإيمان به، وما يترتب على الإيمان به من فوائد عديدة في الدنيا والآخرة. فقال ـ رحمه الله ـ في بيان أهميته ووجوب الإيمان به جملة وتفصيلاً، وأن ذلك أحد أركان الإيمان: " ...... من أصول الإيمان: الإيمانُ باليوم الآخر، وهو الإيمان بكل ما أخبر الله ورسوله به بعد الموت من فتنة القبر ونعيمه وعذابه وأحوال يوم القيامة وما يكون فيه ومن صفات الجنة والنار وصفات أهليهما، فالإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بذلك جملة وتفصيلاً"1. وبين رحمه الله أن الإيمان باليوم الآخر من الإيمان بالغيب الذي أثنى الله على المؤمنين به. وأخبر عن سعادتهم وفلاحهم واستحقاقهم النعيم المقيم. فقال: "ومن أنواع الإيمان بالغيب الإيمان باليوم الآخر وما وعد الله العباد من الجزاء، فدخل في هذا الإيمان بجميع ما يكون بعد الموت من فتنة القبر وأهواله، ومن صفات النار وأهلها وما أعد الله لهم فيها، ومن صفات الجنة وأهلها وما أعد الله فيها لأهلها فيفهمها فهماً صحيحاً مأخوذاً من الكتاب ودلالته ومن السنة الصحيحة ودلالتها، فبحسب ما يصل إلى العبد من نصوص الكتاب والسنة في هذا الباب وفهمها على وجهها يكون إيمان العبد بالغيب ... "2. وفي كلامه هذا إشارة إلى أهمية الاعتناء بهذا الموضوع على نحو ما ورد في الكتاب والسنة من تفاصيل لذلك ـ وأنه كلما ازداد الإنسان فهماً لتفاصيل هذا الموضوع زاد إيمانه بالغيب.   1 الخلاصة /26، وانظر الفتاوى السعدية /16، وسؤال وجواب /15، وغيرها. 2 المواهب الربانية /66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وقد ذكر رحمه الله جملة من الفوائد تحصل لمن آمن باليوم الآخر وأهواله وما يكون فيه من نعيم وعذاب. فقال: "وفي العلم بذلك فوائد كثيرة: منها: أن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان الستة التي لا يصح الإيمان بدونها، وكلما ازدادت معرفته بتفاصيله ازداد إيمان العبد به. ومنها: أن معرفة ذلك حقيقة المعرفة يفتح للإنسان باب الخوف والرجاء اللذين إن خلا القلب منهما خرب كل الخراب، وإن عمر بهما أوجب له الخوف والانكفاف عن المعاصي، والرجاء تيسير الطاعة وتسهيلها، ولا يتم ذلك إلا بمعرفة تفاصيل الأمور التي يخاف منها وتحذر. كأهوال القبر وشدته وأهوال الموقف وصفات النار المفظعة، وبمعرفة تفاصيل الجنة وما فيها من النعيم المقيم والحبرة والسرور ونعيم القلب والروح والبدن فيحدث بسبب ذلك الاشتياق الداعي للاجتهاد في السعي للمحبوب والمطلوب بكل ما يقدر عليه. ومنها: أن يعرف بذلك فضل الله وعدله في المجازاة على الأعمال الصالحة والسيئة الموجب لكمال حمده والثناء عليه بما هو أهله. وعلى قدر علم العبد بتفاصيل الثواب والعقاب يعرف بذلك فضل الله وعدله وحكمته"1. وقال في موضع آخر: "إن الإيمان بالبعث والجزاء أصل صلاح القلوب، وأصل الرغبة في الخير والرهبة من الشر اللذين هما أساس الخيرات"2. وهذا ما يتعلق بحديثه عن الإيمان باليوم الآخر من حيث الجملة، وأما تفاصيله ذلك فسنتناوله في الخمسة المباحث الآتية.   1 التفسير 1/28، 29. 2 التفسير 1/360. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 المبحث الأول الإيمان بأشراط الساعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 المبحث الأول: الإيمان بأشراط الساعة ورد في الكتاب والسنة ما يدل على أن للساعة علامات تدل على قرب وقتها ودنوه فالواجب على كل مسلم أن يصدق بكل ما ورد في ذلك وأن يؤمن بأنه كله حق وأنه سيقع طبقا لما أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال السفاريني في درته المضيئة: وما أتى في النص من أشطراط فكله حق بلا شطاط1 فمن أدلة الكتاب على أمارات الساعة: قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} 2. وقد ورد في القرآن الكريم ذكر جملة من أشراط الساعة، سيأتي ذكر بعضها قريباً. أما أدلة السنة على أشراط الساعة فكثيرة متواترة: منها: حديث جبريل المشهور حيث سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمارات الساعة: "قال أخبرني عن أماراتها، فقال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان" 3 ومنها: حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: "طلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال ما تذاكرون؟ قالوا نذكر الساعة قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، ويأجوج ومأجوج ـ ثلاثة خسوف خسف بالمشرق،   1 الدرة المضيئة في عقد الفرقة المرضية للسفاريني 1/70، من شرحها لوامع الأنوار البهية.. 2 سورة محمد/ 18. 3 أخرجه مسلم 1/38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم"1. ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالأعمال ستاً طلوع الشمس من مغربها أو الدخان أو الدجال، أو خاصة أحدكم أو أمر العامة"2. وغيرها من الأحاديث، والمقصود أن الأحاديث الدالة على أمارات الساعة كثيرة جداً. وهذه الأشراط منها ما هو قريب من قيام الساعة مثل نزول عيسى عليه السلام وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها وغيرها. ومنها ما يكون قبل ذلك كالأمارات التي جاءت في حديث جبريل وغيرها. وقد تناول ابن سعدي جملة من أشراط الساعة في ثنايا مؤلفاته وسأقتصر فيما يلي على ذكر كلامه في جملة من أشراط الساعة العظام: وهي: ـ فتنة الدجال. ـ نزول عيسى عليه السلام. ـ خروج يأجوج ومأجوج. ـ طلوع الشمس من مغربها. ـ خروج الدابة. فتنة الدجال: لقد تواترت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خروج المسيح الدجال في آخر الزمان، ونعت لهم صفاته وما يحصل عند خروجه من مصائب وفتن. وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من تحذير الصحابة من فتنته، كما بين أن سلفه من الأنبياء كانوا يحذرون أقوامهم منه. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب ألا إنه أعورر وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر"3. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله   1 أخرجه مسلم 4/2225، والترمذي 4/477، وأبو داود 4/115، وأحمد في المسند 4/6. 2 أخرجه مسلم 4/2267. 3 أخرجه البخاري 8/103، ومسلم 4/2248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال إني لأنذركموه وما من نبي إلا وقد أنذره قومه ولكني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه إنه أعور، وإن الله ليس بأعور"1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم عن الدجال حديثاً ما حدثه نبي قومه إنه أعورر، وإنه يجيء معه مثل الجنة والنار، فالتي يقول إنها الجنة هي النار وإني أنذركم به كما أنذر به نوح قومه"2. والأحاديث في ذلك كثيرة؛ ولهذا فقد اهتم علماء المسلمين بالتحذير من فتنة الدجال حتى قال بعض السلف إن الحديث الذي فيه ذكر الدجال ينبغي أن يدفع إلى معلم الصبيان ليحذرهم في صغرهم من فتنته، قال ابن ماجه في سننه بعد إيراده حديث أبي أمامة الباهلي الطويل في ذكر الدجال ـ سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول سمعت عبد الرحمن المحاربي يقول "ينبغي أن يدفع هذا الحديث إلى المؤدب حتى يعلمه الصبيان في الكتاب"3. وقد وقفت على كلام الشيخ ابن سعدي في التحذير من هذه الفتنة حيث إن أحد طلبة العلم سأله أن يذكر له وصية نافعة في التحذير من الفتن، ولا سيما فتنة الدجال. فتحدث رحمه الله عن الفتن وكثرتها في هذه الأزمان، ثم تعرض لفتنة المسيح الدجال وأنها من أعظم الفتن وأشدها، لما يحصل عند خروجه من بلاء وأذية للمسلمين، ونبه على أهمية الاستعاذة من فتنته، وأنه ينبغي للإنسان أن لا يغتر بمعرفته لبعض أوصاف الدجال بأن ذلك يمنعه من اتباعه والافتتان به، بل ينبغي للمسلم أن يكثر من الاستعاذة من الفتن عموماً ومن فتنة المسيح الدجال على وجه الخصوص. قال رحمه الله: " .... إن كفره وكفر أتباعه أظهر كل شيء، ومع ذلك معه من أسباب الفتن ما أوجب أن يحذر النبي صلى الله عليه وسلم منه أمته وينذرهم إياه، ويأمرهم بالاستعاذة من فتنته في كل صلاة وخصها بعد التعميم فعمم بقوله من فتنة المحيا والممات الشاملة لكل الفتن وخصص فتنة الدجال لعظمها وشدة ضررها. فهو مع عظم فتنته وقوة شبهته قد كشف الله حاله للمؤمنين فبين عينيه مكتوب "ك ف ر" يعرف ذلك منه"4.   1 أخرجه البخاري 8/102. 2 أخرجه مسلم 4/2250. 3 ابن ماجه 2/1363. 4 رسالة بعثها الشيخ ابن سعدي للشيخ عبد الله البصيري أجابه فيها عن بعض الأسئلة مؤرخة بسنة 1371هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ثم بين أن فتنة الدجال على نوعين فتنة جنس وفتنة شخص، فقال: " وفتنة الدجال نوعان: فتنة جنس وفتنة شخص، فتنة الجنس كل فتنة يقارنها تمويهات ويقترن بها شبهات فإنها من جنس فتنة الدجال. وفتنة الشخص خروج الدجال الذي صحت فيه الأحاديث التي لا ريب فيها وبهذا التقسيم الذي ذكره شيخ الإسلام في التسعينية يفهم فائدة الاستعاذة بالله من فتنته؛ لأن الذي يدرك شخصه من الأمة قليل جداً بالنسبة إلى من لم يدرك شخصه. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "من سمع بالدجال فلينأ عنه "1 أي يبعد ليسلم من فتنته. ثم ساق عبارة شيخ الإسلام في السبعينية وهي قوله: "وفتنة الدجال لا تختص بالموجودين في زمانه بل حقيقة فتنته الباطل المخالف للشريعة المقرون بالخوارق فمن أقر بما يخالف الشريعة لخارق فقد أصابه نوع من هذه الفتنة، وهذا كثير في كل زمان ومكان. لكن هذا المعين فتنته أعظم الفتن فإذا عصم الله عبده منها سواء أدركه أو لم يدركه كان معصوماً مما هو دون هذه الفتنة. إلى أن قال: "ومعلوم أن ما ذكر معه من التعوذ من عذاب جهنم والقبر وفتنة المحيا والممات أمر به كل مصل إذ هذه الفتن جارية على كل أحد ولا نجاة إلا بالنجاة منها فدل على أن فتنة الدجال كذلك. ولو لم تصب فتنته إلا مجرد الذين يدركونه لم يؤمن بذلك كل الخلق مع العلم بأن جماهير الخلق لا يدركونه، ولا يدركه إلا أقل القليل من الناس المأمورين بهذا الدعاء. وهكذا إنذار الرسل إياه أممهم يقتضي تخويف عموم فتنته، وأن تأخر وجود شخصه حتى يقتله المسيح. وكثيرا ما وقع بقلبي أن هؤلاء الاتحادية أحق الناس باتباع الدجال ومع هذا فقد جرى للمؤمنين مع أتباعهم من المحنة الواقعة في الإسلام. ومعلوم أن هذه الفتنة هي نتيجة محنة الدجال، بل هذه النتيجة أقرب إلى محنة الدجال من غيرها"2 انتهى كلام الشيخ.   1 أخرجه أحمد في مسنده 4/431، وأبو داود 4/116، والحاكم 4/531، كلهم من طريق حميد بن هلال عن أبي الدهماء عن عمران بن حصين رضي الله عنهم وإسناد أبي داود رجاله ثقات وهم من رجال مسلم، وكذا إسناد أحمد في إحدى روايته، وعن الرواية الثانية قال ابن كثير في النهاية 1/146، "هذا إسناد جيد" أ. هـ. 2 السبعينية لابن تيمية 5/133 ضمن مجموعة الفتاوى المصرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 قلت1: هؤلاء الملحدون العصريون الذين ذكر الشيخ أشباههم هم أعظم الناس قياماً بفتنته دعوة واستجابة"2. نزول عيسى عليه السلام: ومن أمارات الساعة التي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة نزول عيسى عليه السلام قبل قيام الساعة فيقتل الدجال ويكسر الصليب ويضع الجزية حكماً عدلاً مقسطاً. وقد أخبر الله عن نزوله في آيتين من القرآن الكريم. الأولى: قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِه} 3 أي قبل موت عيسى عليه السلام، كما ذهب إلى ذلك ابن كثير في تفسيره وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم4. والآية الثانية: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} 5. قال البغوي في تفسيره: "يعني نزوله من أشراط الساعة يعلم به قربها"6. وقد روى ذلك ابن جرير الطبري: عن ابن عباس من طرق متعددة وعن الحسن ومجاهد وقتادة والسدي وغيرهم7. وقد أشار ابن سعدي إلى هذين القولين عند تفسيره للآيتين المتقدمتين فقال عند الآية الأولى: "ويحتمل أن الضمير في قوله "قبل موته" راجع إلى عيسى عليه السلام، فيكون المعنى: وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالمسيح عليه السلام قبل موته، وذلك عند اقتراب الساعة وظهور علاماتها الكبار"8. وقال عند تفسير الآية الثانية: "أي وإن عيسى عليه السلام لدليل على الساعة، وأن القادر على إيجاده من أم   1 القائل ابن سعدي. 2 ضمن الرسالة السابقة. 3 سورة النساء/ 159. 4 تفسير ابن كثير 1/576. 5 سورة الزخرف/ 61. 6 معالم التنزيل 4/143. 7 جامع البيان للطبري 10/90، 91. 8 التفسير 2/214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 بلا أب قادر على بعث الموتى من قبورهم. أو وأن عيسى عليه السلام سينزل في آخر الزمان ويكون نزوله علامة من علامات الساعة"1. أما نصوص السنة الدالة على نزول عيسى عليه السلام فكثيرة جداً تبلغ حد التواتر. منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ". ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} 2 أخرجاه3. ومنها حديث أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وأمكم" أخرجه مسلم4. ومنها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال، فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام فيقول أميرهم تعال صل لنا، فيقول لا: إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة" أخرجه مسلم5. وغيرها من الأحاديث، وقد أشار ابن سعدي إلى كثرة الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام فقال: "فإنها تكاثرت الأحاديث في نزوله عليه السلام في آخر هذه الأمة فيقتل الدجال ويضع الجزية ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين"6.   1 التفسير 6/657. 2 سورة النساء/159. 3 البخاري 3/40، ومسلم 1/135. 4 مسلم 1/136. 5 مسلم 1/137. 6 التفسير 2/214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 خروج يأجوج ومأجوج: قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً. قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً. قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً. آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً. فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً. قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً. وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} 1. وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} 2. فهذان الموضوعان من كتاب الله فيهما الدلالة الواضحة على خروج يأجوج ومأجوج قبل يوم القيامة، وأن خروجهم أحد علامات الساعة التي تكون قبل قيامها وقد ورد في السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تدل على ذلك وتوضحه وتبينه. منها حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: "طلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: ما تذاركرون قالوا: نذكر الساعة، قال: "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاث خسوف، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم"3. ومنها حديث النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: "فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: أن قد أخرجت عباداً لي، لا يَدَان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد   1 سورة الكهف 93-99. 2 سورة الأنبياء 96، 97. 3 تقدم تخريجه. ص 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 كان بهذه مرة ماء ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً لا يكون منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك، وردي بركتك .... "1. ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً فيعودون إليه كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله عز وجل أن يبعثهم إلى الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله ويستثني فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فينشفون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم .... "2. ومنها: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال الله عز وجل: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} فيعثون في الأرض وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ويضمون إليهم مواشيهم ويشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابسا حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول لقد كان ههنا ماء مره ... "3. وعقيدة السلف في يأجوج ومأجوج كما دل على ذلك الكتاب والسنة: الإيمان بخروج هاتين القبيلتين من بني آدم قبل قيام الساعة، وبعد نزول عيسى عليه السلام وقتل الدجال، وذلك بعد اندكاك السد الذي هم منحازون وراءه منذ بناه ذو القرنين. فإذا خرجوا يحصل على أيديهم أذى وفتنة وشر عظيم، وهم جموع كثيرة حتى إنهم لكثرتهم إذا مر أولهم على بحيرة طبرية عند خروجهم شربوا الماء الذي فيها جميعه، فإذا   1 أخرجه مسلم 4/2251. 2 أخرجه أحمد 2/510، والترمذي 5/313، وابن ماجه 2/1364، والحاكم في مستدركه 4/488، وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. 3 أخرجه أحمد 3/77، وابن ماجه 2/1362، والحاكم في المستدرك 4/489، وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 مر آخرهم قالوا قد كان في هذه البحيرة ماء ثم يستمر أذاهم ويزداد إفسادهم فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الله، فتكون نهايتهم بأن يرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيموتون جميعاً. وإليك أقوال العلماء في ذلك: قال البغوي عند تفسيره لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} 1 الآية "أي يريد فتح السد عن يأجوج ومأجوج {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} يعني القيامة. قال الفراء وجماعة: الواو في قوله واقترب مقحمة فمعناه حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج افترب الوعد الحق ...... "2. وقال ابن العربي: "وأما خروج يأجوج ومأجوج فإنه يكون بعد نزول عيسى عليه السلام وهما أمتان مضرتان مفسدتان كافرتان"3. وقال ابن كثير: " .... قد كانوا يعيثون في الأرض ويؤذون فحصرهم ذو القرنين في مكانهم داخل السد حتى يأذن الله بخروجهم على الناس"4. وقال ابن قدامة المقدسي: "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه مثل حديث الإسراء والمعراج ..... إلى أن قال ومن ذلك أشراط الساعة مثل خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله وخروج يأجوج ومأجوج .... "5. وقال ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية: "وأحاديث الدجال وعيسى بن مريم عليه السلام ينزل من السماء ويقتله ويخرج يأجوج ومأجوج في أيامه بعد قتله الدجال فيهلكهم الله أجمعين في ليلة واحدة ببركة دعائه عليهم يضيق هذا المختصر عن بسطها"6. وقال السفاريني في لوامع الأنوار البهية: " ..... خروجهم من وراء السد على الناس حق ثابت لوروده في الذكر وثبوته عن سيد البشر ولم يحله عقل فوجب اعتقاده"7. وقد جاء عن ابن سعدي القول بأن يأجوج ومأجوج هم دول الكفر الموجودة الآن   1 سورة الأنبياء/ الآية 96. 2 معالم التنزيل 3/268 بتصرف. 3 عارضة الأحوذي لابن العربي 9/34. 4 نهاية البداية والنهاية لابن كثير 1/184. 5 لمعة الاعتقاد لابن قدامة /30. 6 شرح العقيدة الطحاوية /505. 7 لوامع الأنوار البهية 2/116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 من الروس والصين والأمريكان واليابان وغيرهم. وألف في ذلك رسالتين نصر فيهما قوله المذكور، واستدل على ذلك ببعض الأدلة والصواب خلاف ذلك. إذ أن قوله هذا مخالف لنصوص الكتاب والسنة وما عليه العلماء المحققون كما تقدم النقل عن بعضهم، وكما سيأتي مزيد إيضاح ذلك. ولكننا نجده في آخر حياته طبع كتابه التفسير وذلك بعد تأليف الرسالتين المتقدمتين بسبع عشرة سنة، وسلك في تفسيره للآيات المتعلقة بيأجوج ومأجوج مسلك أهل التحقيق من العلماء، حيث ذكر فيه أن يأجوج ومأجوج يخرجون في آخر الزمان قبل قيام الساعة، وبعد اندكاك السد. وفي هذا احتمال كبير لتراجعه عن هذا القول، إذ لو كان باقيا عليه لأشار إليه في تفسير الآيات المتعلقة به ومما يقوي هذا الاحتمال أنه لم يطبع رسالتيه المتقدمتين ولم يشتهرا عنه، إلا عند القليل من طلبة العلم، حتى جاء الشيخ عبد الله ابن محمود فألف رسالته "لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر"!! 1. وغلط فيها أغلاطا فاحشة، وخالف ما عليه المحققون من العلماء، وأنكر فيها الأحاديث الواردة في المهدي. وكان مما أثاره في رسالته تلك القضية التي ذكرها ابن سعدي عن يأجوج ومأجوج وأنهم دول الكفر، فأظهر هذا القول بعد اندثاره وأشهره. وقد قام فضيلة الشيخ محمود التويجري حفظه الله بالرد على ابن محمود، وبين خطأه وألف في ذلك كتابه: "الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر". فأفاد فيه وأجاد، وقد استفدت منه كثيراً في هذا الموضوع. وأما القول بأن يأجوج ومأجوج هم دول الكفر فبطلانه ظاهر من وجوه متعددة: أحدها: أنه مخالف لما ثبت في النصوص من أن خروج يأجوج ومأجوج لا يكون إلا بعد نزول عيسى عليه السلام وقتل الدجال. والثاني: أنه ثبت في النصوص أنهم لا يمكثون بعد خروجهم إلا فترة يسيرة من الزمان، وأمم الكفر موجودون على هذه الحالة من أزمان طويلة. والثالث: أنه ثبت في القرآن والسنة أن السد الذي هم منحازون وراءه لا يندك إلا إذا دنا قيام الساعة. الرابع: أن هذا القول يخالف ما أخبر الله به عن ذي القرنين أنه جعل بين الناس   1 وللوالد الكريم الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله، رد على هذه الرسالة، عنوانه: "الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي" وهو مطبوع متداول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وبين يأجوج ومأجوج سداً كبيراً من حديد وأنهم لا يتسطيعون نقبه إلا عند اقتراب الساعة. الخامس: أنه ثبت في النصوص أنه إذا خرجت إحدى الآيات العظام، تتابعت على إثرها باقي الآيات كما يتتابع الخرز في النظام، وأمم الكفر لهم أمد طويلة على هذه الحال، ومع ذلك لم يخرج شيء من الآيات العظام. السادس: أن أمم الكفر على اختلاف أجناسهم وأوطانهم كانوا موجودين في جميع الجهات في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل زمانه وبعد زمانه ولم يؤثر عنه أنه قال إنهم هم يأجوج ومأجوج، ولم يؤثر ذلك عن أحد من الصحابة والتابعين ولا من جاء بعدهم من العلماء المتقدمين. السابع: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يأجوج ومأجوج إذا خرجوا يمر أولهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، وأمم الكفر المياه عندهم متوفرة فضلاً عن أن يشربوا بحيرة طبرية1. هذه بعض الأوجه التي يتبين بطلان قول من قال إن يأجوج ومأجوج هم دول الكفر الموجودة الآن. وفيما يلي أعرض جملة من أدلة القائلين بهذا القول مع بيان عدم دلالتها على ما ذهبوا إليه. فمن أدلتهم قولهم: إن يأجوج ومأجوج من بني آدم وليسوا من الجن ولا من عالم غيبي آخر، وهم على سطح الأرض، ومع ذلك لم يرهم أحد من السائحين في الأرض؟ والجواب عن ذلك أن يقال: لا شك أن يأجوج ومأجوج من بني آدم، وأنهم على سطح الأرض كما دل على ذلك الكتاب والسنة، ولكن لا يلزم من كونهم كذلك أن يراهم أحد؛ لأن الله سبحانه قادر على كل شيء، ومن ذلك أن يمنع الناس من رؤيتهم ويحجب أبصارهم عن مشاهدتهم. وقد أجاب عن هذه الشبهة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتابه أضواء البيان بعد أن ذكر أن هذه الشبهة هي عمدة القائلين بهذا القول: فقال: "فقولكم لو كانوا موجودين وراء السد إلى الآن لاطلع عليهم الناس، غير   1 انظر الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر من 308 إلى 358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 صحيح، لإمكان أن يكونوا موجودين والله يخفي مكانهم على عامة الناس حتى يأتي الوقت المحدد لإخراجهم على الناس. ومما يؤيد إمكان هذا ما ذكره الله تعالى في سورة المائدة من أنه جعل بني إسرائيل يتيهون في الأرض أربعين سنة وذلك في قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} 1 الآية. وهم في فراسخ قليلة من الأرض يمشون ليلهم ونهارهم ولم يطلع عليهم الناس حتى انتهى أمد التيه؛ لأنهم لو اجتمعوا بالناس لبينوا لهم الطريق، وعلى كل حال فربك فعال لما يريد"2. وقال الشيخ محمود التويجري في كتابه الاحتجاج بالأثر: "وأما كون السائحين في الأرض لم يروا يأجوج ومأجوج ولا سد ذي القرنين فلا يلزم منه عدم السد ويأجوج ومأجوج. فقد يصرف الله السائحين عن رؤيتهم ورؤية السد وقد يجعل الله فوق السد ثلوثاً متراكمة بحيث لا تمكن رؤية السد معها أو يجعل الله غير ذلك من الموانع التي تمنع من رؤية يأجوج ومأجوج ورؤية السد. والواجب على المسلم الإيمان بما أخبر الله به في كتابه عن السد ويأجوج ومأجوج وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولا يجوز للمسلم أن يتكلف ما لا علم له به ولا يقول بشيء من أقوال المتكلفين المتخرصين بل ينبذها وراء ظهره ولا يعبأ بشيء منه"3. ويقال أيضا جاء في حديث الجساسة أن بعض الصحابة رأوا الدجال مقيداً في إحدى الجزر وأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فلم ينكر عليهم ذلك، فهو بلا شك موجود في الجزيرة التي رؤي فيها إلى أن يأذن الله له بالخروج، فهل ينكر وجوده لعدم رؤيته من قبل السائحين؟ الواجب على المسلم أن يصدق بجميع الأخبار الواردة عن الصادق المصدوق فيؤمن بوجود الدجال ويأجوج ومأجوج وسواء رآهم الناس أم لم يروهم. ومن أدلتهم: تأويلهم لقول الله تعالى: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} 4 أن هذا قد حصل   1 سورة المائدة/ الآية 26. 2 أضواء البيان 4/186. 3 الاحتجاج بالأثر /315. 4 سورة الأنبياء/ الآية 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 حيث إن أمم الكفر حققوا ذلك بصعودهم إلى الفضاء بالطائرات والمراكب الفضائية وشقهم للبحار والأنهار بالسفن والبواخر، وغير ذلك من وسائل التنقل الحديثة. والجواب عنه: أن هذا فهم للنص على خلاف مراده، واستدلال في غير محله؛ وذلك لأن هذا الأمر لا يحصل إلا في آخر الزمان عند اقتراب الساعة كما دل على ذلك الآية نفسها والتي تليها حيث يقول الله سبحانه: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} . فأخبر الله سبحانه في هذه الآية أن خروجهم من كل حدب ينسلون لا يحصل إلا عند اقتراب الوعد الحق وهو يوم القيامة. وقد دل على ذلك نصوص كثيرة في الكتاب والسنة منها حديث النواس بن سمعان وحديث أبي سعيد الخدري وحديث أبي هريرة، وقد تقدم ذكرها قريباً، وفيها ذكر نزول عيسى وقتله الدجال وأن يأجوج ومأجوج لا يخرجون إلا بعد ذلك، وذلك كله لا يحصل إلا في آخر الزمان. ثم إن تفسير الآية بهذا المعنى تفسير محدث لم يسبق إليه أحد من أئمة التفسير، وكل خير في اتباع من سلف. بل إن تفسيرهم هذا للآية يتعارض مع ما فسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن ذلك يحصل في آخر الزمان فيعيثون في الأرض فساداً بعد خروجهم وينحاز الناس عنهم إتقاء شرهم. وذلك كما ورد في حديث أبي سعيد الخدري المتقدم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يفتح يأجوج ومأجوج على الناس كما قال الله عز وجل: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} فيعيثون في الأرض، وينحاز المسلمون عنهم ..... " الحديث. ويقال أيضاً إن هذا التفسير يتعارض مع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً فيعودون إليه كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأرد الله عز وجل أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله ويستثني فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فينشفون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم. وهذا لم يحصل من أمم الكفر بل هم يتنقلون متى شاءوا إلى أي مكان شاءوا، وليس هناك سد يمنعهم أو حاجز يعوقهم حتى ولو كان تنقلهم بواسطة الأقدام أو الحمير أو غيرها من الوسائل القديمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ومن أدلتهم: قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن بدأ انفتاح السد في زمانه حيث قال "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج مثل هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها"1. الحديث. ومعنى هذا أن السد كل يوم يزداد في الانفتاح حتى تلاشى في زماننا هذا. والجواب عن هذا أن يقال: قد أخبر الله ورسوله عن خروج يأجوج ومأجوج وعن اندكاك السد، وأنه لا يتم إلا عند اقتراب الساعة، وبعد خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام. دل على ذلك قول الله سبحانه: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ.) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} 2. ودل عليه جملة من نصوص السنة منه حديث النواس بن سمعان وحديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري وقد تقدم ذكرها. والمقصود أنه لا يجوز للمسلم أن يأخذ ببعض النصوص ويترك بعضاًَ، ففي حديث زينب المتقدم أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن انفتاح السد قدر تحليقه إصبعيه، وفي حديث أبي هريرة أخبر أنهم كل يوم يفتحون من السد قليلاً ثم يبيتون فيعود السد كما كان، إلى أن يأذن الله لهم بالخروج في آخر الزمان، وهذا ظاهر الدلالة في أن اندكاك السد لا يكون إلا في آخر الزمان قبل قيام الساعة عندما يأذن الله لهم بالخروج. ويضاف إلى ذلك أن حديث النواس بن سمعان دل على أن ذلك لا يكون إلا بعد خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام، فيلزم من قولهم هذا أن يكون الدجال قد خرج وعيسى عليه السلام قد نزل وهذا ظاهر البطلان. ومن أدلتهم: قولهم إن كثيراً من المعاصرين صرحوا بذلك في كتبهم كشكيب أرسلان ومحمد رشيد رضا وغيرهما. والجواب عن هذا أن يقال: تصريح المتأخرين أو من هو أفضل منهم من المتقدمين بما يخالف النص، لا يلتفت إليه مهما كانت مكانة قائله العلمية. وقد تقدم بيان بطلان هذا القول بما يكفي، فلا عبرة بهذه التصريحات، ولا يلتفت إليها   1 أخرجه البخار 8/104، ومسلم 4/2207، وغيرهما عن زينب بنت جحش. 2 سورة الأنبياء/ الآيتان 96، 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وقد استدلوا بغير هذه الأدلة، وأدلتهم كلها واهية لا تقوم بها حجة، ولا يصلح بها برهان، وفي النصوص الصحيحة الصريحة ما يدل على أمر يأجوج ومأجوج وأن خروجهم لا يحصل إلا في آخر الزمان بعد اندكاك السد، وبعد خروج المسيح الدجال ونزول عيسى عليه السلام. فالواجب على المسلم أن يؤمن بما صح به الخبر من أشراط الساعة، ولا يتأول النصوص بخلاف ما تدل عليه. فالتمسك بالنصوص وعدم تأويلها هو المنهج الذي سار عليه الصحابة وتابعوهم بإحسان، وهو المنهج الحق الذي لا يجوز العدول عنه. أما الشيخ ابن سعدي فقد أخطأ في ما ذهب إليه في رسالتيه المشار إليهما آنفا، وجانبه الصواب في ذلك وليس هو بالمعصوم. ثم إنه قد ظهر في بعض مؤلفاته كما تقدم الإشارة إلى ذلك ما يفيد احتمال تراجعه عن هذا القول حيث إنه طبع كتابه التفسير في آخر عمره وقرر فيه عند تفسيره لسورة الكهف وسورة الأنبياء خلاف هذا القول الباطل. فبين في كتابه التفسير أن الخروج واندكاك السد لا يتم إلا في آخر الزمان وهذا القول هو الصواب الموافق لأقوال السلف المطابق لمفهوم نصوص الكتاب والسنة. فقال عند تفسيره لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} 1. "هذا تحذير من الله للناس أن يقيموا على الكفر والمعاصي، وأنه قد قرب انفتاح يأجوج ومأجوج، وهما قبيلتان من بني آدم، وقد سد عليهم ذو القرنين، لما شكى إليه إفسادهم في الأرض. وفي آخر الزمان ينفتح السد عنهم، فيخرجون إلى الناس وفي هذه الحالة والوصف الذي ذكره الله من كل مكان مرتفع، وهو الحدب ينسلون أي يسرعون. وفي هذه الآية دلالة على كثرتهم الباهرة، وإسراعهم في الأرض، إما بذواتهم وإما بما خلق الله لهم من الأسباب التي تقرب لهم البعيد وتسهل عليهم الصعب. وأنهم يقهرون الناس، ويعلون عليهم في الدنيا، وأنه لا يد لأحد بقتالهم {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقّ} أي يوم القيامة الذي وعد الله بإتيانه، ووعده حق وصدق"2. وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ   1 سورة الأنبياء/ الآيتان 96، 97. 2 التفسير 5/263. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) إلى قوله تعالى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} 1. قال: "قال المفسرون ذهب متوجهاً من المشرق قاصداً للشمال، فوصل إلى ما بين السدين وهما سدان كانا معروفين في ذلك الزمان. سدان من سلاسل الجبال المتصلة يمنة ويسرة حتى تتصل بالبحار بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وجد من دون السدين قوماً لا يكادون يفقهون قولاً لعجمة ألسنتهم واستعجام أذهانهم وقلوبهم. وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم وراجعهم وراجعوه. فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج وهما: أمتان عظيمتان من بني آدم فقالوا: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} أي جعلاً {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} . ودل ذلك على عدم افتدارهم بأنفسهم على بنيان السد، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه فبذلوا له أجره ليفعل ذلك، وذكروا له السبب الداعي وهو إفسادهم في الأرض. فلم يكن ذو القرنين ذا طمع ولا رغبة في الدنيا ولا تاركاً لإصلاح أحوال الرعية بل قصده الإصلاح فلذلك أجاب طلبتهم لما فيها من المصلحة ولم يأخذ منهم أجرة وشكر ربه على تمكينه واقتداره فقال لهم: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي مما تبذلون لي وتعطوني وإنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم بأيديكم {أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} أي: مانعا من عبورهم عليكم، {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} أي قطع الحديد فأعطوه ذلك {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أي الجبلين اللذين بنى بينهما السد {قَالَ انْفُخُوا} أي أوقدوها إيقاداً عظيماً واستعملوا لها المنافيخ لتشتد فتذيب النحاس. فلما ذاب النحاس الذي يريد أن يلصقه بين زبر الحديد {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} أي نحاساً مذاباً. فأفرغ عليه القطر فاستحكم السد استحكاماً هائلاً، وامتنع به من وراءه من الناس من ضرر يأجوج ومأجوج. {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} أي فما لهم استطاعة ولا قدرة على الصعود عليه لارتفاعه ولا على نقبه لإحكامه وقوته، فلما فعل هذا الفعل الجميل   1 سورة الكهف/ الآيات 89، 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 والأثر الجليل أضاف النعمة إلى موليها وقال: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أي من فضله وإحسانه عليّ وهذه حال الخلفاء الصالحين، إذا منَّ الله عليهم بالنعم الجليلة، ازداد شكرهم وإقرارهم واعترافهم بنعمة الله كما قال سليمان عليه السلام لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم قال: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} 1. بخلاف أهل التجبر والتكبر والعلو في الأرض فإن النعم الكبار تزيدهم أشراً وبطراً، كما قال قارون لما آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} 2. وقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} أي لخروج يأجوج ومأجوج {جَعَلَهُ} أي السد المحكم المتقن {دَكَّاءَ} أي دكه فانهدم واستوى هو والأرض وكان وعد ربي حقا"3. أ. هـ كلامه. وكلامه في هذين الموضعين هو الصواب الموافق لما عليه السلف الصالح في أمر يأجوج ومأجوج، وفي كلامه هذا أبلغ رد على ما قاله في رسالتيه المتقدمتين، وفيه أيضاً احتمال كبير لرجوعه عما قاله فيهما؛ لأنه طبعه في آخر حياته. لذا يقول الشيخ حمود التويجري بعد أن ذكر كلام ابن سعدي عند تفسيره لسورة الأنبياء: "وهذا صريح في رجوعه عما كان يقوله في يأجوج ومأجوج أنهم أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم"4. ثم أشار التويجري إلى أن الشيخ ابن سعدي طبع تفسيره في سنة 1375هـ في المطبعة السلفية أي قبل وفاته بسنة5، وأرسل منه نسخة للشيخ حمود التويجري. وكان هذا بعد إخراجه للرسالة التي غلط فيها في أمر يأجوج ومأجوج بنحو سبع عشرة سنة، وهذا فيه احتمال كبير لتراجع الشيخ عن قوله المذكور في يأجوج ومأجوج، وإن لم يكن قد رجع فكلامه فيهم متناقض. لذا يقول الشيخ التويجري حفظه الله: "ولم يخرج تفسير الآيات من سورة الكهف ومن سورة الأنبياء عما ذكره المفسرون في أمر يأجوج ومأجوج، فيحتمل أنه قد رجع عما قرره في رسالته وإن لم يكن رجع عن ذلك   1 سورة النمل/ الآية/ 40. 2 سورة القصص/ الآية/ 78. 3 التفسير 5/76، 77، 79. 4 الاحتجاج بالأثر /326. 5 أما فراغه من تأليفه، فقد مر معنا عند ذكره في مؤلفاته أنه فرغ منه في 7 شعبان سنة 1354هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فكلامه في يأجوج ومأجوج متناقض فيؤخذ بما كان منه موافقا لأقوال المفسرين من الصحابة والتابعين ويرد ما خالفهم فيه"1. وقد أثنى الشيخ التويجري على الشيخ ابن سعدي ثناءً طيباً بعد أن نبه على خطئه المتقدم وأشار إلى علمه وفضله. فقال: "ليعلم المطلع على كتابي هذا أن إنكاري لما توهمه ابن سعدي في أمر السد ويأجوج ومأجوج وما كتبته في التنبيه على أخطائه لا يمنعني من الثناء عليه والدعاء له بالمغفرة والرحمة فقد خلف رحمه الله تعالى علماً كثيراً في مؤلفاته وعند تلاميذه، فأما ما كتبه في رسالته في السد ويأجوج ومأجوج فهو من الزلات المغمورة في جنب فضائله ومحاسنه وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال: ومن ذا ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلا أن تعد معائبه2 وثمة موضع آخر خطأ الشيخ ابن سعدي في تأويله يتعلق بأشراط الساعة حيث أول حديث أبي سعيد الخدري في قصة الراعي الذي كلمه الذئب فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. ولفظ حديث أبي سعيد: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بينما أعرابي في بعض نواحي المدينة في غنم له عدا عليه الذئب فأخذ شاة من غنمه فأدركه الأعرابي فاستنقذها منه وهجهجه فعانده الذئب ثم أقعى مستذفراً بذنبه يخاطبه فقال أخذت رزقاً رزقنيه الله قال واعجباً من ذئب مقع مستذفر بذنبه يخاطبني فقال الله إنك لتترك أعجب من ذلك قال وما أعجب من ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في النخلتين بين الحرتين يحدث الناس عن نبأ ما قد سبق، وما يكون بعد ذلك قال فنعق الأعرابي بغنمه حتى ألجأها إلى بعض المدينة ثم مشى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى ضرب عليه فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم قال أين الأعرابي صاحب الغنم فقام الأعرابي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حدث الناس بما سمعت وما أريت فحدث الأعرابي الناس بما رأى من الذئب وسمع منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك صَدَقَ، آياتٌ تكون قبل الساعة. والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يخرج أحدكم من أهله فيخبره نعله أو سوطه أو عصاه بما أحدث أهله بعده"3.   1 الاحتجاج بالأثر /327، 328. 2 الاحتجاج بالأثر /358. 3 أخرجه الإمام أحمد 3/88، والحاكم مفرقاً (4/467، 468) وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأخرج آخره الترمذي من قوله " والذي نفس بيده ...... " وقال: "حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل وهو ثقة مأمون" الترمذي 4/476، وصححه الألباني. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 فهذ الحديث ظاهر في أن التكليم حصل حقيقة من الذئب للراعي، وأنه كذلك يحصل حقيقة من السوط والنعل والعصا قبل قيام الساعة، إلا أن الشيخ ابن سعدي تأول هذا الحديث بما قد حصل في هذه الأزمان من الاتصالات التليفونية والهوائية والإذاعات وغيرها. فقال: " ..... وإخباره أنه لا بد أن يكلم الرجل عذبه وسوطه وشراك نعله ويخبره فخذه بما فعله أهله بعده، ومصداقه ما ظهر من الأعمال الكهربائية والمخاطبات التليفونية والهوائية والراديات المتنوعة التي لا تزال في نمو وازدياد"1. ولا ريب أن تأويل ابن سعدي هذا ظاهر البطلان، ويتنافى مع ما سبق أن قرره من وجوب فهم النصوص على ظاهرها من غير تكليف لتأويلها. ويكفي في بيان بطلان هذا التأويل صدر الحديث حيث أن الراعي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذئب كلمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة حتى يخرج أحدكم من أهله فيخبره نعله أو سوطه أو عصاه بما أحدث أهله بعده"2. فهنا حصل تكليم حقيقي من الذئب للراعي وكذلك يحصل في آخر الزمان تكلم السباع الآدميين ويكلم السوط والنعل والعصا صاحبه بما أحدث أهله. كل ذلك حق على حقيقته ويجري على ظاهره ولا يتكلف تأويله بما حصل من المخترعات الحديثة. ومثله ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من أن حجراً في مكة كان يسلم عليه3، وهذا حق على حقيقته، وكما يقال في هذا الحديث يقال في الحديث الذي قبله. ومثله أيضاً ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن المسلمين يقاتلون اليهود في آخر الزمان فيقول الحجر والشجر يا مسلم هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله4، وهذا أيضاً حق على   1 وجوب التعاون بني المسلمين /48. 2 تقدم تخريجه. 3 ولفظ الحديث عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن". أخرجه مسلم 4/1782، وأحمد 5/89. 4 ولفظ الحديث قال صلى الله عليه وسلم: "تقاتلون اليهود حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر فيقول يا عبد الله هذا يهودي ورائي فاقتله". أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما. البخاري 3/232، ومسلم 4/2238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 حقيقته وسيكلم الحجر والشجر وسيقع طبقاً لما أخبر به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام. والمقصود أن هذه النصوص وأمثالها لا يجوز تأويلها وصرفها عن ظاهرها بل الواجب أن تمر كما جاءت مع تيقن حصول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من غير تكلف لتأويلها، أو صرف لها عن ظاهرها. وبهذا يتبين لنا أن تأويل ابن سعدي للحديث المتقدم بما حصل من المخترعات العصرية خطأ واضح يتنافى مع منهجه السليم من الأخذ بالظاهر وترك التأويل، والكمال لله والعمصة لرسوله صلى الله عليه وسلم. خروج الدابة: ومن أمارات الساعة الدالة على قرب وقتها خروج دابة الأرض على الناس ضحى تكلمهم وتسميهم مؤمناً وكافراً، كما دل على ذلك نصوص الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "لن تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات وذكر منها الدابة"2. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على إثرها قريباً"3. وقد أشار ابن سعدي إلى هذه الأمارة وكثرة الأحاديث فيها، وذلك عند تفسيره للآية المتقدمة فقال: "وهذه الدابة المشهورة التي تخرج في آخر الزمان، تكون من أشراط الساعة كما تكاثرت بذلك الأحاديث، لم يذكر الله ورسوله كيفية هذه الدابة وإنما ذكر أثرها والمقصود منها، وأنها من آيات الله تكلم الناس كلاماً خارقاً للعادة حين يقع القول على الناس، وحين يمترون بآيات الله فتكون حجة وبرهانا للمؤمنين وحجة على المعاندين"4. طلوع الشمس من مغربها: ومن أمارات الساعة طلوع الشمس من مغربها كما تواترت بذلك نصوص الكتاب والسنة.   1 سورة النمل/ الآية 82. 2 تقدم تخريجه ص 240. 3 أخرجه مسلم 4/2360ـ عن عبد الله بن عمرو بن العاص. 4 التفسير 5/603. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} 1. قال البخاري في تفسير هذه الآية حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا عمارة حدثنا أبو زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس أمن من عليها"2 فذلك حين {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} 3. وقد ورد في السنة أحاديث كثيرة عن طلوع الشمس من مغربها. منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا بالأعمال ستاً طلوع السمش من مغربها والدجال والدخان والدابة وخاصة أحدكم وأمر العامة"4. ومنها ما رواه مسلم أيضاً عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها والدجال، ودابة الأرض"5. ورواه الإمام أحمد وذكر "الدخان" بدل "الدجال"6. وقد أشار ابن سعدي عند تفسير الآية المتقدمة إلى كثرة النصوص وتضافرها في طلوع الشمس من مغربها وأن الإيمان لا ينفع عند طلوعها فقال: "وقد تكاثرت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد ببعض آيات الله طلوع الشمس من مغربها، وأن الناس إذا رأوها آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم ويغلق حينئذ باب التوبة"7. وقال في المواهب الربانية: "فسر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بطلوع الشمس من مغربها فالأحاديث الصحيحة دلت على أن أول الآيات طلوع الشمس من مغربها. والآية دلت على أن أي آية من آيات الله التي هي مقدمات الساعة وبها يكون الإيمان اضطرارياً أتت   1 سورة الأنعام/ الآية 158. 2 البخاري 5/195. 3 سورة الأنعام/ الآية 158. 4 مسلم 4/2267. 5 مسلم 1/138. 6 المسند 2/445. 7 التفسير 2/509. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 فإنه لا ينفع الإيمان؛ لأنه إنما ينفع إيمان الاخيتار وإيمان الغيب وإذا أتى بعض الآيات صار الإيمان بشهادة واضطرار فلا ينفع فالآية دلت على التعليل والأحاديث دلت على الأولية"1. وهذا آخر ما يتعلق بمبحث أشراط الساعة ويليه المبحث الثاني وهو الإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه وبالله التوفيق.   1 المواهب الربانية /7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 المبحث الثاني الإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 المبحث الثاني: الإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه لقد تظاهرت نصوص الكتاب والسنة على إثبات فتنة القبر وعذابه ونعيمه، وأجمع على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة. وقد ورد في القرآن الكريم عدة آيات تثبت عذاب القبر ونعيمه وفتنته، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} 1. وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 2. وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 3. وقال تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} 4، وقال {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} 5. وقال: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 6. كما ورد في السنة أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات فتنة القبر وعذابه ونعيمه منها:   1 سورة الأنعام/ 93. 2 سورة إبراهيم/ 27. 3 سورة المؤمنون/ 99، 100. 4 سورة التوبة/ 101. 5 سورة السجدة/ 21. 6 سورة غافر/ 45، 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال" 1. ومنها: حديثها أيضاً رضي الله عنها "أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر فقالت لها أعاذك الله من عذاب القبر فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال نعم عذاب القبر قالت عائشة رضي الله عنها فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر"2. ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال "أما إنهما ليعذبان وما يعذبان من كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله" قال فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً ثم قال: "لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا"3. ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم "قال: يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ " قال: "فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله" قال: "فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة" قال نبي الله صلى الله عليه وسلم "فيراهما جميعاً"4. وغيرها من الأحاديث، والمقصود أن نصوص الكتاب والسنة متضافرة على إثبات فتنة القبر وعذابه ونعيمه؛ لذا فقد تناول ابن سعدي إثبات عذاب القبر ونعيمه في مؤلفاته وبين أن ذلك من عقائد المسلمين الواجب اعتقادها. قال: "أما أحوال القبر وفتنته وعذابه ونعيمه وتفاصيل ذلك فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة والحسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معروف، والقرآن أشار إليه في عدة آيات"5. وقال: "كل ما جاء في الكتاب والسنة مما يكون بعد الموت فإنه داخل في الإيمان   1 أخرجه البخاري 1/29، ومسلم 2/621. 2 أخرجه البخاري 1/102. 3 أخرجه البخاري 1/60، ومسلم 1/240، واللفظ لمسلم. 4 أخرجه البخاري 2/102، ومسلم 4/2200. 5 الخلاصة /26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 باليوم الآخر كأحوال القبر والبرزخ ونعيمه وعذابه ...... "1. وقال: "ومن أنواع الإيمان بالغيب الإيمان باليوم الآخر وبما وعد الله العباد من الجزاء فدخل في هذا الإيمان بجميع ما يكون بعد الموت من فتنة القبر وأحواله .... "2. ولذلك فإن ابن سعدي في تفسيره إذا مر بآية فيها دلالة أو إشارة إلى عذاب القبر بين ذلك وأوضحه. قال عند قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} 3. " .... وفي هذه الآية دلالة على فتنة القبر وعذابه ونعيمه كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة وصفتها ونعيم القبر وعذابه"4. وقال عند قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 5. " ...... وهذه الآية من الأدلة على إثبات عذاب القبر ودلالتها ظاهرة فإنه قال: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} أي بعض وجزء منه فدل على أن ثم عذاباً أدنى قبل العذاب الأكبر وهو عذاب النار"6. وقال عند قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} 7. " ..... وفي هذا دليل على عذاب البرزخ ونعيمه، فإن هذا الخطاب والعذاب الموجه إنما هو عند الاحتضار وقبيل الموت وبعده"8. وهذا يظهر لنا مدى اهتمام ابن سعدي في تفسيره للقرآن بالجوانب العقدية فهو عند   1 سؤال وجواب /15. 2 المواهب الربانية /66. 3 سورة إبراهيم/ 27. 4 التفسير 4/140. 5 سورة السجدة/21. 6 التفسير 6/187. 7 سورة الأنعام/ 93. 8 التفسير 2/436. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 كل آية تتعلق ببيان أمر عقدي أورد شبه أو تأصيل قاعدة أو غير ذلك فإنه يقف عندها مبينا ما فيها من هذه الجوانب الهامة. فمسألة فتنة القبر وعذابه ونعيمه كلما مر بآية تتعلق بهذا الجانب بينه وأظهره وربما ذكر في بعض المواضع الآيات الدالة على ذلك كما فعل عند قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} 1. قال: "وهذه إحدى الآيات الدالة على عذاب القبر والثانية قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} 2. والثالثة قوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} 3 والرابعة: قوله عن آل فرعون {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} 4. وهذا كله المقصود منه بيان هذه العقيدة وتقريرها وترسيخها في الأذهان. وكما اهتم ابن سعدي بتقرير هذه العقيدة فقد عُني أيضاً ببيان صفتها وكيفية الافتتان وصفة النعيم وصفة العذاب وغير ذلك من الأمور التي تحصل عند دخول الميت في قبره مما دل عليه الكتاب والسنة. قال رحمه الله: "فأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم فيقال للرجل من ربك وما دينك وما نبيك فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن الله ربي والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي، وأما المرتاب فيقول هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق. وهذا الابتلاء والامتحان لكل عبد فأما من كان مؤمناً إيمانا صحيحاً ثبته الله ولقنه الجواب الصحيح للملكين كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} فذكر أن تثبيته لهم جزاء لهم على إيمانهم في الدنيا فالمؤمن يجيب الجواب الصحيح وإن كان عامياً أو أعجمياً وأما الكافر والمنافق ممن كان في الدنيا غير مؤمن بما جاء به الرسول فإنه يستعجم عليه الجواب ولو كان من أعلم الناس وأفصحهم   1 سورة طه/124. 2 سورة الأنعام/ 93. 3 سورة السجدة/ 21. 4 سورة غافر/45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 كما قال تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} ومن حكمة الله أن نعيم البرزخ وعذابه لا يحس به الإنس والجن بمشاعرهم؛ لأن الله تعالى جعله من الغيب ولو أظهره لفاتت الحكمة المطلوبة. ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى فتعاد الأرواح إلى الأجساد وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليها المسلمون فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين .... "1. كما بين رحمه الله أن دار البرزخ وما فيها من نعيم أو عذاب ليس المقصود منه الخلود والبقاء وإنما هي دار فاصلة بين الدنيا والآخرة ينتقل الناس بعد الدخول إليها إلى دار الخلود والبقاء وهي الدار الآخرة فقال عند تفسيره لسورة التكاثر: "ودل قوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أن البرزخ دار المقصود منها النفوذ إلى دار الآخرة؛ لأن الله سماهم زائرين ولم يسمهم مقيمين"2. وإلى هنا أكتفي بما يتعلق بمبحث فتنة القبر وعذابه ونعيمه لأنتقل للمبحث الذي يليه وسيكون الحديث فيه عن النفخ في الصور.   1 التنبيهات اللطيفة /39، 40. 2 التفسير 7/667. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 المبحث الثالث الإيمان بالنفخ في الصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 المبحث الثالث: الإيمان بالنفخ في الصور لقد أخبر الله عز وجل في كتابه بثلاث نفخات: نفخة الفزع في سورة النمل في قوله: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} 1. ونفخة الصعق والقيام ذكرهما في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} 2 " 3. فالنفخة الأولى هي التي يتغير بها هذا العالم ويفسد نظامه، ويحصل الفزع فيها لشدة ما يقع من هول تلك النفخة. والنفخة الثانية وهي التي فيها هلاك كل شيء ودماره إلا من استثناه الله كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} وأما النفخة الثالثة فهي التي يبعث الناس فيها من قبورهم ويقومون لرب العالمين4. وقد ذكر ابن سعدي هذه النفخات بأنواعها، وذكر معنى الصور ومن الموكل بالنفخ فيه، وما يحدث عقب هذه النفخات من هلاك أو دمار أو فزع أو شدة. قال في تعريف الصور والنافخ فيه: "وهو قرن عظيم لا يعلم عظمته إلا خالقه ومن اطلعه الله على علمه من خلقه، ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام أحد الملائكة المقربين وأحد حملة عرش الرحمن"5. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم وقد   1 سورة النمل/ الآية/ 87. 2 سورة الزمر/ الآية/ 68. 3 الفتاوى لابن تيمية /4/260، 261. وانظر الفتاوى 16/35، والنهاية لابن كثير 1/253، وعارضة الأحوذي لابن العربي 5/259. 4 لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/164. 5 التفسير 6/493. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فينفخ. قال المسلمون: فكيف تقول يا رسول الله؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله ربنا" 1. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما الصور؟ فقال قرن ينفخ فيه"2. وتحدث ابن سعدي عن النفخات الثلاث في تفسيره. فقال عن نفخ الفزع عند تفسيره لقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} 3. "بسبب النفخ في الصور أفزع الناس وارتاعوا وماج بعضهم ببعض خوفاً مما هو مقدمة له إلا من شاء الله ممن أكرمه الله وثبته وحفظه من الفزع"4. وقال عن نفخة الصعق والموت عند تفسيره لقوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} 5. "وهي نفخة الصور تأخذهم وهم لاهون عنها لم تخطر على قلوبهم في حال خصومتهم وتشاجرهم فيما بينهم الذي لا يوجد في الغالب إلا وقت الغفلة، وإذا أخذتهم وقت غفلتهم فإنهم لا ينظرون ولا يمهلون"6. وقال عن نفخة البعث والنشور: عند تفسيره لقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} 7. "أي إذا نفخ إسرافيل الصور أعاد الله الأرواح إلى الأجسام ثم حشرهم وجمعهم   1 أخرجه الترمذي 4/620، وقال حديث حسن، وأحمد 3/7، وأبو نعيم في الحلية 5/105، وصححه الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/66. 2 أخرجه الترمذي 4/620، وقال حديث حسن، وأبو داود 4/236، والدارمي 2/325، وأحمد 2/192، والحاكم 2/506 وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وصححه أحمد شاكر في تحقيقه للمسند 11/58. 3 سورة النمل/ 87. 4 التفسير 5/604 بتصرف. 5 سورة يس/ الآية 49. 6 التفسير 6/352. 7 سورة الكهف/ الآية 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 لموقف القيامة، الأولين منهم والآخرين والكافرين والمؤمنين ليسألوا ويحاسبوا ويجازوا بأعمالهم"1. وقال عند قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} 2.. "فإذا نفخ في الصور خرجوا من الأجداث والقبور ينسلون إلى ربهم أي: يسرعون للحضور بين يديه لا يتمكنون من التأني والتأخر"3.   1 التفسير /5/80/. 2 سورة يس/ آية 51. 3 التفسير 6/352 وانظر أيضاً التفسير 7/460، 5/187، 5/380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 المبحث الرابع الإيمان بالبعث والنشور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 المبحث الرابع: الإيمان بالبعث والنشور وبعد المكث في دار البرزخ يبعث الله من في القبور ويعيدهم معاداً جسمانياً، فيجمع الله عز وجل أجزاءهم الأصلية ويعيد تركيبها كما كانت وإن تفرقت وبليت وتحرقت، ويعيد الأرواح إليها. فقد دل على ذلك نصوص الكتاب والسنة. فالله سبحانه أخبر في كتابه عن هذا المعاد ورد على من أنكره بأنواع الردود. وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم أخبر في عدة أحاديث صحيحة عن المعاد والبعث والنشور، واتفق علماء المسلمين على ذلك بل إن البعث والمعاد متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى، ولم ينكره إلا الدهرية والمشركون. قال العلامة المحقق ابن القيم في كتابه الروح: "معاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى"1. أما أدلة الكتاب على ذلك فكثيرة منها: قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 2. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 3. وقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} 4. وقوله: {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 5.   1 نقله السفاريني في لوامع الأنوار 3/157، وعزاه لابن القيم في كتابه الروح. قلت: ولم أهتد إليه فيه، فلعل ابن القيم ذكره في كتابه الكبير في الروح، والذي أشار إليه في كتابه الروح هذا (ص 38) بقوله بعد كلام ذكره: " .... وقد ذكرناها في كتابنا الكبير في معرفة الروح والنفس". 2 سورة طه/ الآية 55. 3 سورة الحج/ الآيتان 6، 7. 4 سورة المؤمنون/ الآيتان 15، 16. 5 سورة الروم/ الآية 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 1. وقوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ. ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} 2. وغيرها من النصوص وهي كثيرة جداً بل القرآن كله من فاتحته إلى خاتمته مملوء بذكر أحوال البعث والنشور وما بعده، وأما الأحاديث في هذا الباب فكثيرة جداً. منها حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله: "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة ولا ولدا"3. ومنها حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الإنسان عظماً لا تأكله الأرض أبداً فيه يركب يوم القيامة، قالوا أي عظم هو يا رسول الله قال: عجب الذنب"4. ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في الريح في البحر. فوالله لإن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً. قال ففعلوا ذلك به فقال للأرض أدي ما أخذت فإذا هو قائم فقال له ما حملك على ما صنعت؟ فقال خشيتك يا رب أو قال مخافتك، فغفر له بذلك"5. والنصوص في ذلك كثيرة بل إن هذا الأمر محل اتفاق الرسل، والكتب مطبقة على حصول ذلك، فالواجب الإيمان بذلك إذ هو من الإيمان باليوم الآخر الذي هو أحد أركان الإيمان. وقد كفر الله من أنكره بقوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 6. وقد اعتنى ابن سعدي بتقرير هذا الأمر، وبيان شواهده وأدلته الحسية والمعنوية   1 سورة لقمان/ الآية/ 28. 2 سورة عبس/ الآيات/ 20، 21، 22. 3 أخرجه البخاري 5/2271. 4 أخرجه مسلم 4/2271. 5 أخرجه مسلم 4/2110، وأخرجاه بنحوه من حديث أبي سعيد الخدري. البخاري 8/200، ومسلم 4/2111. 6 سورة التغابن/ الآية/ 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 قال: "اتفقت الكتب السماوية والرسل العظام وأتباعهم على اختلاف طبقاتهم وتباين أقطارهم وأزمانهم وأحوالهم على الإيمان به والاعتراف به وكم أقام الله عليه من الأدلة الحسية والمشاهدة ما يدل أكبر الدلالة عليه وكم أشهد عباده في هذا الدار نماذج من الثواب والعقاب وأراهم حلول المثلات بالمكذبين وأنواع العقوبات الدنيوية بالمجرمين، كما أراهم نجاة الرسل وأتباعهم المؤمنين وأكرمهم في الدنيا قبل الآخرة وكم أبطل الله شبهة يقدح بها في المعاد .... "1. وقد قرر الله عز وجل البعث والنشور في كتابه العزيز بصيغ متعددة وأساليب متنوعة. فتارة يخبر سبحانه عن قدرته المطلقة في الخلق والإيجاد وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وتارة يبين أن إيجاده للناس من العدم وخلقهم لهم ابتداء يدل أكبر دلالة على قدرته على إعادتهم بعد موتهم وفنائهم وهذا الأخير أهون. وتارة يخبر أن الذي قدر على إيجاد السموات والأرض وما فيهما من صنع الله، لأكبر دليل على قدرة الله على البعث بعد الموت. وتارة يبين أن إحياءه الأرض الهامدة الميتة الخالية من الماء والزروع يدل أكبر دلالة على قدرته على خلق الناس وأن الذي أحياها سيحي الموتى. وتارة يضرب الأمثلة الحسية المشاهدة في بعض الناس فيميتهم ويحييهم ليبين لهم قدرته على ذلك وليعتبر غيرهم وهذا كثير في القرآن كما أخبر الله عن صاحب البقرة، والذي مر على القرية الخاوية وقصة الألوف من بني إسرائيل، وقصة أصحاب الكهف وغيرها من أنواع الأدلة التي لا تدع مجالا للشك ولا سبيلا للتردد. ومن نصوص القرآن المبينة لذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ   1 الفتاوى السعدية /49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2. وقوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3. وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} 4. وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5. وقوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 6. وقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى. ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} 7.   1 سورة البقرة/ الآيات 258، 259، 260. 2 سورة الأحقاف/ الآية 33. 3 سورة يس/ الآيات 77- 83. 4 سورة البقرة/ الآية 243. 5 سورة الروم/ الآية 27. 6 سورة الحج/ الآيتان 5، 6. 7 سورة القيامة/ الآيات 36- 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وغيرها من الآيات القرآنية المقررة للمعاد والنشور، وبالأساليب المتعددة والطرق المتنوعة. وقد قعَّد ابن سعدي في كتابه القواعد الحسان قاعدة ذكر تحتها جملة من هذه الأساليب المتنوعة في تقرير المعاد. وهي "القاعدة الثامنة" طريقة القرآن في تقرير المعاد" بين تحت هذه القاعدة أن المعاد أحد الأصول المتفق عليها بين الرسل والشرائع كالتوحيد والنبوات. ثم قال: "وهذا قد أكثر الله من ذكره في كتابه الكريم. وقرره بطريق متنوعة: منها: إخباره وهو أصدق القائلين عنه وعما يكون فيه من الجزاء الأوفى، مع إكثار الله من ذكره، فقد أقسم عليه في ثلاثة مواضع من كتابه، كقوله {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 1. ومنها: الإخبار بكمال قدرة الله تعالى، ونفوذ مشيئته، وأنه لا يعجزه شيء، فإعادة العباد بعد موتهم فرد من أفراد آثار قدرته. ومنها: إحياؤه الأرض الهامدة الميتة، بعد موتها، وأن الذي أحياها سيحيى الموتى، وقرر ذلك بقدرته على ما هو أكبر من ذلك وهو خلق السموات والأرض والمخلوقات العظيمة، فمتى أثبت المفكرون ذلك ولن يقدروا على إنكاره، فلأي شيء يستبعدون إحياء الموتى. وقرر ذلك بسعة علمه وكمال حكمته، وأنه لا يليق به، ولا يحسن أن يترك خلقه سدى مهملين لا يؤمرون ولا ينهون، ولا يثابون ولا يعاقبون وهذا الطريق قرر به النبوة وأمر المعاد. ومما قرر به البعث ومجازاة المحسنين بإحسانهم، والمسيئين بإساءتهم ما أخبر به من أيامه وسننه سبحانه في الأمم الماضية والقرون الغابرة، وكيف نجى الأنبياء وأتباعهم، وأهلك المكذبين لهم والمنكرين للبعث، ونوع عليهم العقوبات وأحل بهم المثلات، فهذا جزاء معجل ونموذج من جزاء الآخرة أراه الله عباده، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.   1 سورة القيامة/ الآية/ 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ومن ذلك: ما أرى الله عباده من إحيائه الأموات في الدنيا كما ذكر الله عن صاحب البقرة والألوف من بني إسرائيل، والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم الخليل والطيور وإحياء عيسى ابن مريم للأموات وغيرها مما أراه الله عباده في هذه الدار؛ ليعلموا أنه قوي ذو اقتدار، وأن العباد لا بد أن يردوا دار القرار، إما الجنة أو النار. وهذه المعاني أبداها الله وأعادها في محال كثيرة. والله أعلم"1. وقد جمع الله أكثر هذه الأساليب المتنوعة في أواخر سورة "يس" حيث قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 2. فهذه الآيات جمع الله فيها أدلة كثيرة على المعاد، وفيها أبلغ رد على من ينكره. قال ابن سعدي عند تفسيره لها: "وهذه الآيات الكريمات فيها ذكر شبهة منكري البعث، والجواب عنها بأتم جواب وأحسنه وأوضحه". ثم ذكر شبهة المنكر للبعث أو الشاك فيه، وهي قوله من يحي العظام وهي رميم حيث قاس قدرة الخالق على المخلوق وهذا الأمر عنده مستبعد على ما يعهد من عادة البشر. ثم استخلص ابن سعدي من هذه الآيات ستة أدلة فيها أبلغ رد على هذا المنكر3. قال: "فأجاب تعالى عن هذا الاستبعاد بجواب شاف كاف فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} وهذا بمجرد تصوره يعلم به علماً يقيناً لا شبهة فيه أن الذي أنشأها أول مرة قادر على الإعادة ثاني مرة، وهو أهون على القدرة إذا تصوره المتصور. {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} هذا أيضاً دليل ثان من صفات الله تعالى وهو أن علمه تعالى محيط بجميع مخلوقاته في جميع أحوالها في جميع الأوقات.   1 القواعد الحسان /24، 25. 2 سورة يس/ الآيات 77-83. 3 التفسير 6/363. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ويعلم ما تنقص الأرض من أجساد الأموات وما يبقى ويعلم الغيب والشهادة فإذا أقر العبد بهذا العلم العظيم علم أنه أعظم وأجل من إحياء الله الموتى من قبورهم. ثم ذكر دليلاً ثالثاً فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} فإذا أخرج النار اليابسة من الشجر الأخضر الذي هو غاية الرطوبة مع تضادهما وشدة تخالفهما، فإخراجه الموتى من قبورهم مثل ذلك. ثم ذكر دليلاً رابعاً فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أي: أن يعيدهم بأعيانهم {بَلَى} قادر على ذلك فإن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس. {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} وهذا دليل خامس فإنه تعالى الخلاف الذي جميع المخلوقات متقدمها ومتأخرها صغيرها وكبيرها كلها أثر من آثار خلقه وقدرته وأنه لا يستعصى عليه مخلوق أراد خلقه فإعادته للأموات فرد من أفراد آثار خلقه ولهذا قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} نكرة في سياق الشرط فتعم كل شيء {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي في الحال من غير تمانع. {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} وهذا دليل سادس، فإنه تعالى هو الملك المالك لكل شيء الذي جميع ما سكن في العالم العلوي والسفلي ملك له وعبيد مسخرون مدبرون يتصرف فيهم بأقداره الحكمية وأحكامه الشرعية وأحكامه الجزئية، فإعادته إياهم بعد موتهم لينفذ فيهم حكم الجزاء من تمام ملكه {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} من غير امتراء ولا شك لتواتر البراهين القاطعة والأدلة الساطعة على ذلك فتبارك الذي جعل في كلامه الهدى والشفاء والنور"1. أ. هـ. ثم إن الناس بعد المعاد والنشور يواجهون أهوالاً عظيمة وشدائد مخيفة، ينقسم الناس بعدها إلى قسمين أو فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير. وهذا ما سيدور عليه حديثنا في المبحث التالي:   1 التفسير 6/63، 364، 365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 المبحث الخامس الإيمان باليوم الآخر بعد البعث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 المبحث الخامس: الإيمان باليوم الآخر بعد البعث تقدم معنا في مطلع هذا الفصل حديثٌ مجملٌ عن وجوب الإيمان باليوم الآخر وأنه أحد أركان الإيمان الستة، وأنه من الإيمان بالغيب، وتحدثنا عن الفوائد العظيمة الحاصلة لمن آمن به. وأما حديثنا هنا فسيكون عن بعض تفاصيل أحوال اليوم الآخر بعد النفخ في الصور والبعث والنشور، مما يكون في ذلك اليوم من أهوال وشدائد، وما فيه من حشر للخلائق وعرض للأعمال، وعن الميزان والصراط والحوض والشفاعة، وعن الجنة وما فيها من النعيم المقيم، وعن النار وما فيها من العذاب الأليم. وغير ذلك من أحوال ذلك اليوم، مما تواترت به النصوص، ووجب الإيمان به. وهذه الأمور المتقدمة تناولها ابن سعدي في مؤلفاته، وبين أنها حق، وأن الإيمان بها واجب، وأنها داخلة في الإيمان باليوم الآخر، إذ كل من ورد ذكره في القرآن الكريم أو في السنة المطهرة من أحوال ذلك اليوم كله داخل في الإيمان باليوم الآخر. قال ابن سعدي في إحدى خطبه مبينا ما ينبغي للمسلمين اعتقاده في اليوم الآخر: "ونؤمن بجميع ما جاء به الكتاب والسنة من أحوال اليوم الآخر والشفاعة والحوض والميزان والصراط وصحائف الأعمال، وما ذكر من صفات الجنة والنار وصفات أهلهما، وكل ذلك حق لا ريب فيه وكله داخل في الإيمان باليوم الآخر"1. وقال في موضع آخر من مؤلفاته: "فكل ما جاء به الكتاب والسنة، مما يكون بعد الموت فإنه من الإيمان باليوم الآخر كأحوال البرزخ وأحوال يوم القيامة وما فيه من الحساب والثواب والعقاب والشفاعة والميزان والصحف المأخوذة باليمين والشمال، وأحوال الجنة والنار، وصفات أهلهما، وأنواع ما أعده الله فيهما لأهلهما إجمالاً وتفصيلاٍ، وكل ذلك داخل في الإيمان باليوم الآخر"2   1 الخطب المنبرية /76. 2 الفتاوى السعدية /16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وقد كان ابن سعدي يعنى في مؤلفاته ببيان ما ورد ذكره في القرآن والسنة مما يتعلق باليوم الآخر، فتحدث عن الحشر ووزن الأعمال والشفاعة والحوض والصراط والجنة والنار وغيرها. وفيما يلي أذكر منها وكلام ابن سعدي فيها: كلامه في الحشر والموازين: بعد بعث الناس وخروجهم من قبورهم، يقفون في المحشر أمام ربهم، لينالوا جزاء أعمالهم في الدنيا، وهو يوم عصيب لا يعلم هَوْلَه وعِظمه إلا الله، يجمع الله فيه الأولين والآخرين من الخلق إنسهم وجنهم وصغيرهم وكبيرهم حتى الوحوش فإنها تحشر، وذلك كله من كمال عدله سبحانه ولطفه وإحسانه. قال تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} 1. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 2. وقال تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} 3. وقال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} 4. وقال ابن سعدي في وصف ذلك اليوم: "إذا نفخ في الصور نفخة البعث يقوم الناس من أجداثهم كاملي الخلقة ينظرون ما يستقبلهم من هذه الحياة الأخروية التي يجازي فيها العباد بأعمالهم حسنها وسيئها. أما المؤمنون الطائعون فيقفون مطمئنين طامعين في فضل ربهم ورحمته مستبشرين بثوابه وعفوه ومغفرته، وأما المجرمون فيقفون فزعين خائفين متحسرين يدعون بالويل والثبور، يقولون: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ فيساقون إلى جهنم ورداً فحينئذ تكثر القلاقل والأهوال ويشيب الولدان من هول ذلك اليوم وفظاعته {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} 5. {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ   1 سورة الكهف/ الآية 47. 2 سورة المائدة/ الآية 96. 3 سورة ق/ الآية 44. 4 سورة التكوير/ الآية 5. 5 سورة الحج/ الآية 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 يُغْنِيهِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ. تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ. أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} 1، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} 2.، وتكور الشمس والقمر وتنتشر النجوم فتذهب هذه الأنوار المشاهدة وتشرق الأرض بنور ربها، وينزل الله لفصل القضاء بين عباده ومحاسبتهم على أعمالهم، أما المؤمنون فيحاسبون حساباً يسيراً يقررهم بذنوبهم ثم يغفرها ويسترها عن الخلائق. ويضاعف لهم الحسنات ويعطيهم من فضله وإحسانه ما لا تبلغه أعمالهم، ويعطون كتبهم بأيمانهم إكراماً واحتراما كما تبيض وجوههم وتثقل موازينهم. ويغتبطون بذلك ويستبشرون به فيقولون لإخوانهم ومعارفهم ومجيبهم هاؤم اقرؤوا كتابية إني ظننت ـ أي: أيقنت ـ أني ملاق حسابية فهو في عيشة راضية ... الآيات3، ويساقون إلى الجنة زمراً كل طائفة منهم مع نظرائهم في الخير بحسب طبقاتهم وسبقهم .... ثم قال: وأما الكافرون المجرمون فيحاسبهم الله على ما أسلفوه من الجرائم ويقرعهم ويخزيهم بين الخلائق، ويعطون كتبهم من وراء ظهورهم بشمائلهم، وتسود منهم الوجوه، وتخفف موازينهم، ويساقون إلى جهنم جياعاً عطاشاً منزعجين مرعوبين زمراً، كل طائفة تحشر مع نظيرها من أهل الشر .... "4. وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} 5. "ويحشر الله جميع الخلق على تلك الأرض فلا يغادر منهم أحداً بل يجمع الأولين والآخرين، من بطون الفلوات، وفغور البحار ويجمعهم بعد ما تفرقوا ويعيدهم بعد ما تمزقوا خلقاً جديداً. فيعرضون عليه صفاً ليستعرضهم وينظر في أعمالهم ويحكم فيهم بحكمه العدل الذي لا جور فيه ولا ظلم، ويقول لهم: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 6 أي بلا مال ولا أهل ولا عشيرة، ما معهم إلا الأعمال والمكاسب في الخير والشر التي كسبوها   1 سورة عبس/ الآيات 34-42. 2 سورة الفرقان/ الآيتان 25، 26. 3 سورة الحاقة / الآيات 19: 37. 4 الخلاصة /26، 27، 28. بتصرف. 5 سورة الكهف/ الآية 47. 6 سورة الكهف/ الآية 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} 1. ... "2. ثم بعد ذلك تنشر الدواوين وتوزن الأعمال فآخذ كتابه باليمين، وآخذ كتابه بالشمال. {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ. قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ. يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ. مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ. خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} 3. قال ابن سعدي: "وحينئذ تحضر الأعمال التي كتبها الملائكة الأبرار فتطير لها القلوب وتعظم من وقعها الكروب وتكاد لها الصم الصلاب تذوب"4. وقال: "وفي يوم القيامة مواضع يشتد كربها ويعظم وقعها كالميزان الذي يميز به أعمال العباد وينظر فيه بالعدل ماله وما عليه، وتبين فيه مثاقيل الذر من الخير والشر. فمن ثقلت موازينه بأن رجحت حسناته على سيئاته فأولئك هم المفلحون لنجاتهم من النار واستحقاقهم الجنة وفوزهم بالثناء الجميل. ومن خفت موازينه بأن رجحت سيئاته على حسناته وأحاطت به خطيئته فأولئك الذين خسروا أنفسهم خسارة أبدية وشقاوة سرمدية في جهنم خالدون لا يخرجون منها أبدا الآبدين"5. كلامه في الحوض المورود: لقد تواترت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ثبوت الحوض المورود في عرصات القيامة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في السنة أوصاف كثيرة لهذا الحوض. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حوضي   1 سورة الأنعام/ الآية 94. 2 التفسير 5/45، 46. 3 سورة الحاقة/ الآيات 19: 32. 4 التفسير 5/46. 5 التفسير 5/380، بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 مسيرة شهر وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الورق وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبداً"1. وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ما آنية الحوض؟ قال: "والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها ألا في الليلة المظلمة المصحية. آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيله ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل"2. يقول ابن سعدي: "وفي عرصات القيامة الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل آنيته عدد نجوم السماء طوله شهر وعرضه شهر من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً"3. ويقول أيضاً معدداً ما يناله المؤمنون يوم القيامة من الخير العظيم " .... كما يردون في عرصات القيامة حوض نبيهم فيشربون منه شربة هنيئة لا يظمؤون بعدها"4. كلامه في الصراط: الصراط جسر ينصب على متن جهنم ليعبر الناس من فوقه إلى الجنة، فمنهم من يتمكن من العبور بسرعة، ومنهم من لا يعبر إلا ببطأ، ومنهم من لا يتمكن من العبور فيسقط في جهنم. وقد ورد في ذكر الصراط وصفته وصفة المرور عليه أحاديث كثيرة: منها: حديث الشفاعة الطويل المتفق على صحته وفيه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " .... ويضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم السعدان؟ قالوا نعم يا رسول الله. قال فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله عز وجل وتخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموقن بعمله والموثق بعمله ومنهم المخردل أو المجازى أو نحوه"5 الحديث.   1 أخرجه مسلم 4/1793. 2 أخرجه مسلم 4/1798. 3 التنبيهات اللطيفة /41. 4 الخلاصة /27. 5 البخاري 8/179، ومسلم 1/163، وأخرجه أحمد 3/11، ومن حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: " ... ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم قلنا: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة عليها خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السعدان، يمر المؤمن عليها كالطرف وكالبرق والريح وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم، وناج مخدوش ومكدوس في نار جهنم حتى يمر آخرهم يسحب سحبا" 1 الحديث. يقول ابن سعدي: "وفي ذلك الموطن ما ثم إلا النار قد برزت وليس لأحد نجاة إلا بالعبور على الصراط وهذا لا يستطيعه إلا أهل الإيمان الذين يمشون في نورهم، وأما غير المؤمنين فليس لهم عند الله عهد في النجاة من النار"2. ويقول في وصف الناس حال عبورهم الصراط: "ويمرون على الصراط على قدر أعمالهم كلمح البصر وكالبرق الخاطف وكأجاويد الخيل والإبل وكسعي الرجال وكمشيهم ودون ذلك ... "3. كلامه في الشفاعة: قال ابن تيمية رحمه الله: "وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته. وله صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة ثلاث شفاعات: أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف حتى يقضي بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم حتى تنتهي الشفاعة إليه. وأما الشفاعة الثانية فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهتان الشفاعتان خاصتان له. وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها. ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة بل بفضله ورحمته ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا فينشئ الله لها أقواماً فيدخلهم الجنة"4.   1 البخاري 8/181، ومسلم 1/167، واللفظ للبخاري. 2 التفسير 6/358، بتصرف يسير. 3 الخلاصة /27.. وانظر التفسير 5/130. 4 العقيدة الواسطية /140، 141، 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وهذا الكلام الجامع في الشفاعة الذي ذكره شيخ الإسلام دلت عليه نصوص كثيرة في الكتاب والسنة. منها: قوله تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 1. وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 2. وقوله: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 3. وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 4. ومن أدلة السنة حديث أنس بن مالك الطويل " في ذكر الشفاعة وفيه أن الناس يأتون آدم ليشفع لهم فيعتذر ويأتون إبراهيم فيعتذر ويأتون موسى فيعتذر ويأتون عيسى فيعتذر ثم يأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيقول "أنا لها".قال صلى الله عليه وسلم: "فأنطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، فأقوم بين يديه، فأحمده بمحامد لا أقدر عليه إلا أن يلهمنيه الله، ثم أخر له ساجداً فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأقول رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربي فأحمد بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً، فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأقول أمتي أمتي فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل"5. وعلى هذا فإن الشفاعة حق، وهي ثابتة للرسول صلى لله عليه وسلم، ولمن يأذن الله عز وجل من النبيين والصديقين والملائكة. قال ابن سعدي: "وأما الشفاعة عنده بإذنه من الأنبياء والأصفياء لأهل الجرائم فإنها ثابتة كما أثبتها في عدة مواضع من كتابه؛ وذلك لأنها دالة على كمال رحمته وعموم إحسانه فإنها من رحمته بالشافع والمشفوع له، فالشافع ينال بها الأجر والثناء من الله ومن خلقه، والمشفوع له يرحمه الله على يد من أذن له بالشفاعة فيه، ومع هذا فلا يأذن لأحد   1 سورة يونس/ الآية 3. 2 سورة الأنبياء/ الآية 28. 3 سورة طه/ الآية 109. 4 سورة البقرة/ الآية 255. 5 أخرجه مسلم 1/182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 أن يشفع إلا فيمن رضي قوله وعمله وهو من كان مخلصاً متابعاً لرسول الله"1. وقد أكد رحمه الله ونبه كثيراً على أن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد وأما من سواهم فلا تنفعهم شفاعة الشافعين. قال في خلاصة التفسير: " .... ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله، ولا يرضى إلا عمن قام بتوحيده واتباع رسله، فمن لم يتصف بهذا فليس له في الشفاعة نصيب، وأسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه"2. وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 3 "والله لا يأذن لأحد أن يشفع إلا فيمن ارتضى ولا يرتضي إلا توحيده، واتباع رسله فمن لم يتصف بهذا فليس له في الشفاعة نصيب"4. وقال عند قوله تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 5. "فلا يقدم أحد على الشفاعة، ولو كان أفضل الخلق حتى يأذن الله، ولا يأذن إلا لمن ارتضى. ولا يرتضي إلا أهل الإخلاص والتوحيد له"6. كلامه في الجنة: إن الجنة هي دار كرامة الله لأوليائه المؤمنين، وهي مثوى عباده الطائعين، وقد أعد الله فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"7 قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} 8. وقد تحدث ابن سعدي عن الجنة كثيراً ولا سيما في تفسيره للقرآن وتناول وصف الجنة وما فيها من أنواع النعم وصنوف المنن، بأسلوب جامع بليغ.   1 الحق الواضح المبين /6. 2 الخلاصة /13. 3 سورة البقرة/ الآية 255. 4 التفسير 1/314. 5 سورة يونس/ الآية 3. 6 التفسير 3/323. 7 أخرجه البخاري 6/21، ومسلم 4/2174، وأحمد 5/334. 8 سورة السجدة/ الآية 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 قال رحمه الله في وصف الجنة من حين دخولها إلى ما يلقاه المؤمنون فيها من النعم: "حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فتلقاهم خزنة الجنة يسلمون عليهم، ويهنئونهم بالنجاة من العذاب وحصول الخير والثواب والخلود الأبدي بسبب طيبهم، فيقولون لهم سلام عليكم طبتم: أي طابت قلوبكم بالعقائد الصحيحة الصادقة، والأخلاق الجميلة وألسنتكم بذكر الله والثناء عليه، وجوارحكم بخدمته والقيام بطاعته، فادخلوها خالدين. فإذا دخلوها ورأوا ما فيها من النعيم المقيم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، حمدوا الله على منته عليهم بالسوابق والإيمان والأعمال الصالحة وبإنجاز ما وعدهم به على ألسنة رسله، وعلى أن الله أورثهم الجنة يتبوؤون من خيراتها حيث يشاؤون وأنى يشاؤون مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من نعيم القلوب والأرواح، ومن نعيم الأبدان والأجسام {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ. مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ. يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} خيرات الأخلاق حسان الوجوه، قد جمع الله لهن حسن البواطن والظواهر فهن سرور وقرة النواظر. وتمام ذلك أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً، وأنه يقال لهم أن لكم أن تشبوا فلا تهرموا، وإن لكم أن تصحوا فلا تموتوا أبداً، فلهم كل ما يشاءون فيها وتتعلق به أمانيهم، ولهم فوق ذلك مما تبلغه أمانيهم، ولهم نعيم أعلى من ذلك كله وهو التمتع بالنظر إلى وجهه الكريم، وسماع خطابه والابتهاج برضاه وقربه، والسرور بمحبته وذكره وحمده والثناء عليه وشكره، مما يشاهدون من كثرة الخيرات، وسوابغ النعم والهبات، وزيادة النعيم وتواصله، ومما يزدادون من معرفته والأنس به، فتبارك الله ذو الجلال والإكرام"1. وله ـ رحمه الله ـ خطبة بليغة ذكر فيها جملة كبيرة من أوصاف الجنة ونعيمها ضمن مجموعة خطبه "الفواكه الشهية في الخطب المنبرية" قال في آخرها بعد تعداد جملة من أوصاف الجنة " ... لمثل هذه الدار فليعمل العاملون وفي أعمالها الموصلة إليها فليتنافس المتنافسون فواعجباً كيف نام طالبها، وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها، وكيف طاب القرار في هذه الدار بعد سماع أخبارها، وكيف للمشتاقين القرار دون معانقة   1 الخلاصة /27، 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 أبكارها، طريقها يسير على من يسره الله عليه، وهو امتثال الأوامر واجتناب النواهي والتوبة والإنابة إليه"1. كلامه في الرؤية: وأما أعظم نعيم يناله المؤمنون في الجنة فهو رؤية الله عز وجل والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم. قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} 2. وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 3. وقال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 4. والمراد بالمزيد والزيادة هنا، رؤية الله عز وجل في الجنة، قال ابن كثير في تفسيره: "وقد رُوي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الرحمن بن سابط ومجاهد وعكرمة وعامر بن سعد وعطاء بن والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم من السلف والخلف، وقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم"5. ومن هذه الأحاديث ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وقال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادٍ يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون وما هو ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة وينجنا من النار؟ قال فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم"6. قال ابن سعدي: " ...... إن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة في الجنة ويتلذذون بالنظر إليه أعظم من سائر اللذات ويبتهجون بخطابه ويفرحون بقربه كما ذكر الله ذلك في عدة آيات من القرآن وتواتر فيه النقل عن رسول الله"7.   1 الفواكه الشهية /50. 2 سورة القمر/ الآيتان 54، 55. 3 سورة يونس/ الآية 26. 4 سورة ق/ الآية 35. 5 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/414. 6 أحمد 4/332، وابن ماجه 1/67، وصححه الألباني. انظر صحيح الجامع 1/202. 7 التفسير 7/590. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وقد استدل على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم في الجنة بأدلة كثيرة من القرآن الكريم. فقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1 "أي: ينظرون إلى ربهم على حسب مراتبهم فمنهم من ينظر كل يوم بكرة وعشياً، ومنهم من ينظر كل جمعة مرة واحدة، فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم وجماله الباهر، الذي ليس كمثله شيء، فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم، وحصل لهم من اللذة والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، ونضرت وجوههم فازدادوا جمالاً إلى جمالهم"2. وقال عند قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 3. " ..... وأعظم ذلك وأجله وأفضله النظر إلى وجهه الكريم والتمتع بسماع كلامه والتنعم بقربه"4. وقال عند قوله تعالى: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} 5. "إلى ما أعد الله لهم من النعيم وينظرون إلى وجه ربهم الكريم"6. وقال عند قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 7. " ...... ودل مفهوم هذه الآية على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة في الجنة"8. والمقصود أن الرؤية ثابتة للمؤمنين فسيرونه عياناً كما أخبر بذلك وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا ينكر ذلك إلا المعطلة من الجهمية وغيرهم. وقد استدل هؤلاء المعطلة على عدم إمكان الرؤية بآيتين من القرآن وهما قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 9. وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} 10.   1 سورة القيامة/ الآيتان 22-23. 2 التفسير 7/526، 527. 3 سورة ق / الآية 35. 4 التفسير 7/157. 5 سورة المطففين/ الآية 23. 6 التفسير 7/593. 7 سورة المطففين/ 15. 8 التفسير 7/590. 9 سورة الأنعام/ الآية 103. 10 سورة الأعراف/ الآية 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وليس في الآيتين دليل لما ذهبوا إليه، إذا فهمتاًُ فهماً صافياً خالياً من التحريف والتأويل. وقد رد ابن سعدي عليهم في استدلالهم هذا عند تفسيره لهاتين الآيتين، وبين أنه ليس فيهما دلالة لما ذهبوا إليه. فقال عند الآية الأولى وهي قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1. "أي لا تحيط به الأبصار، وإن كانت تراه في الآخرة، وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم. فنفي الإدراك لا ينفي الرؤية، بل يثبتها بالمفهوم، فإنه إذا نفى الإدراك الذي هو أخص أوصاف الرؤية، دل على أن الرؤية ثابتة. فإنه لو أراد نفي الرؤية لقال "لا تراه الأبصار" ونحو ذلك فعلم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة. بل فيها ما يدل على نقيض قولهم"2. وقال عند الآية الثانية وهي قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} 3. "أي لن تقدر الآن على رؤيتي فإن الله تبارك وتعالى أنشأ الخلق في هذه الدار على نشأة لا يقدرون بها ولا يثبتون لرؤية الله، وليس في هذا دليل على أنهم لا يرونه في الجنة. فإنه قد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى، ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم وأنه ينشئهم نشأة كاملة يقدرون معها على رؤية الله تعالى؛ ولهذا رتب الله الرؤية في هذه الآية على ثبوت الجبل فقال مقنعا لموسى في عدم إجابته للرؤية: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَه} إذا تجلى الله له {فَسَوْفَ تَرَانِي} . {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} الأصم الغليظ {جَعَلَهُ دَكّاً} أي انهال مثل الرمال، انزعاجاً من رؤية الله وعدم ثبوته لها .... "4.   1 سورة الأنعام/ الآية 103. 2 التفسير 2/447. 3 سورة الأعراف/ الآية 143. 4 التفسير 3/78، 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 كلامه في النار: وأما النار فهي دار أعدها الله لمن عصاه من الكفرة والمعرضين والمجانبين للصراط المستقيم، وجعل لهم فيها النكال والأغلال والويل والثبور، حتى ينالوا بذلك جزاء كفرهم وإعراضهم. قال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 1. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 2. وقال تعالى: {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} 3. يقول ابن سعدي في وصف النار وأهلها المستحقين لدخولها: " ..... فهي دار من طغى وبغى وتجبر على الخلق وآثر الحياة الدنيا، دار الشقاء الأبدي والعذاب الشديد السرمدي، دار جمع الله فيها للطاغين أصناف العذاب، وأحل على أهلها السخط والسعير والحجاب، دار اشتد غيظها وزفيرها، وتفاقمت فظاعتها وحمى سعيرها قعرها بعيد وعذابها شديد ولباس أهلها القطران والحديد وطعامهم الغسلين وشرابهم الصديد، ويتجرعه المجرم ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت فيستريح من التنكيد، يتردد أهلها بين الزمهرير والمفرط برده وبين السعير ويلاقون فيها العنا والشقا فيا بئس المثوى ويا بئس المصير ويلقى عليهم الجوع الشديد المفظع والعطش العظيم الموجع، فيستغيثون للطعام والشراب، فيغاثون من هذا العذاب بأفظع عذاب، يغاثون بماء كالمهل وهو الرصاص المذاب، خبيث الطعم منتن الريح، حره قد تناها، إذا قرب من وجوههم أسقط جلدها ولحمها وشواها، وإذا وقع في بطونهم صهرها وقطع معاها، يغلي طعام الزقوم في بطونهم كغلي الحميم، فشاربون عليه من الحميم، فشاربون شرب الإبل العطاش الهيم، هذا نزلهم فبئس النزل غير الكريم"4. وقال أيضاً في تعداد صنوف العذاب وألوانه وأنواعه في جهنم:   1 سورة آل عمران/ الآية 131. 2 سورة التحريم/ الآية 6. 3 سورة النساء/ الآيتان 55، 56. 4 الفواكة الشهية /45، 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 " فتارة يعذبون بالسعير المحرق لظواهرهم وبواطنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها، وتارة بالزمهرير الذي قد بلغ برده أن يهرى اللحوم ويكسر العظام، وتارة بالجوع المفرط والعطش المفظع، وإذا استغاثوا لذلك أغيثوا بعذاب آخر، ولون من الشقاء ينسى ما سبقه فيغاثون بطعام ذي غصة، بشجرة الزقوم التي تخرج في الذي يوقد عليه النار، وإن يستغيثوا للشراب يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، إذا قرب إليها فلا يدعهم العطش مع ذلك أن يتناولها، فإذا وصلت إلى بطونهم قطعت أمعاءهم ولا يزالون في عذاب شديد لا يفتر عنهم العذاب ساعة، ولا يرجون رحمة ولا فرجا ... "1. فنعوذ بالله من جهنم وما قرب إليها من قول أو عمل. الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن: وقد دل على وجودهما نصوص كثيرة في الكتاب والسنة: قال تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} 2. وقال: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} 3. وقال: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 4"5. وقال: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} 6. وقد ورد في السنة أحاديث كثيرة تدل على ذلك: منها: حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات أحدكم فإنه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار"7. ومنها: حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء"8.   1 الخلاصة /28. 2 سورة آل عمران/ الآية 133. 3 سورة الحديد/ الآية 21. 4 سورة البقرة/ الآية 24. 5 سورة البقرة / الآية 24، وسورة آل عمران /الآية 131. 6 سورة الفرقان/ الآية 11. 7 أخرجه البخاري 2/103، ومسلم 4/2199، وأحمد 2/51. 8 أخرجه البخاري 7/179، وأحمد 1/51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وقد أشار ابن سعدي في تفسيره إلى مسألة وجود الجنة والنار وأنهما معدتان الآن، وبين أن هذا هو الاعتقاد الصحيح الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، بخلاف ما ذهب إليه المعتزلة بأنهما تخلقان يوم القيامة. فقال رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 1. "هذه الآية ونحوها من الآيات فيها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار مخلوقتان، خلافاً للمعتزلة"2. وبهذا نصل إلى نهاية الفصل الثالث المتعلق بالإيمان باليوم الآخر، ويليه الفصل الرابع والأخير، وهو عن تعريف الإيمان وما يتعلق به من مسائل.   1 سورة البقرة/ الآية 24، وسورة آل عمران/ الآية 131. 2 التفسير 1/61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الفصل الرابع جهوده في توضيح تعريف الإيمان وما يتعلق به من مسائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الفصل الرابع: تعريف الإيمان وما يتعلق به من مسائل يشتمل هذا الفصل على أمور كثيرة تتعلق بالإيمان: تعريفه والعلاقة بينه وبين الإسلام، وزيادة الإيمان ونقصانه، وحكم الاستثناء في الإيمان، وحكم مرتكب الكبيرة. وقبل الشروع في تعريف الإيمان وما يتعلق به من مسائل، أرى من المناسب أن أتكلم باختصار عن أهميته فأقول: لا يخفى أن للإيمان أهمية بالغة إذ هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأهل الجنة وأهل النار، وهو الذي إذا كان مع العبد قبلت أعمال الخير منه، وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ولا عدل ولا فرض ولا نفل فالإيمان الصحيح المقرون بالعمل الصالح عنوان على سعادة صاحبه وأنه من أهل الرحمن ومن الصالحين من عباد الله. قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} 1. وقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 2. وأهمية الشيء تظهر بمعرفة فوائده وثماره، وقد عقد ابن سعدي في خلاصة التفسير فصلاً خاصاً بثمرات الإيمان ـ ذكر تحته جملة كبيرة من ثمرات الإيمان وفوائده. قال فيه "اعلم أن خير الدنيا والآخرة من ثمرات الإيمان الصحيح، وبه يحي العبد حياة طيبة في الدارين، وبه ينجو من المكاره والشرور، وبه تخف الشدائد وتدرك جميع المطالب، ولنشر إلى هذه الثمرات على وجه التفصيل فإن معرفة فوائد الإيمان وثمراته من أكبر الدواعي إلى التزود منه.   1 سورة طه/ الآيات 123: 126. 2 سورة يونس/ الآية 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ثم شرع رحمه الله في ذكر تفاصيل ثمرات الإيمان وفوائده وإليك ملخصها: فمن ثمرات الإيمان وفوائده: (1) أنه سبب رضا الله الذي هو أكبر شيء. (2) أن ثواب الآخرة ودخول الجنة والتنعم بنعيمها، والنجاة من النار وعقابها إنما يكون بالإيمان. (3) أن الله يدفع ويدافع عن الذين آمنوا شرور الدنيا والآخرة. (4) أن الله وعد المؤمنين القائمين بالإيمان حقيقة بالنصر والتأييد. (5) أن الهداية من الله للعلم والعمل ولمعرفة الحق وسلوكه هي بحسب الإيمان والقيام بحقوقه. (6) أن الإيمان يدعو إلى الزيادة من علومه وأعماله الظاهرة والباطنة. (7) أن المؤمنين بالله وبكماله وعظمته وكبريائه ومجده أعظم الناس يقيناً وطمأنينة وتوكلاً على الله وثقة به. (8) أنه لا يمكن العبد أن يقوم بالإخلاص لله ولعباد الله ونصيحتهم على وجه الكمال إلا بالإيمان. (9) أن المعاملات بين الخلق لا تتم وتقوم إلا على الصدق والنصح وعدم الغش ولا يقوم بذلك حقيقة إلا المؤمنون. (10) أن الإيمان أكبر عون على تحمل المشقات، والقيام بأعباء الطاعات وترك الفواحش التي في النفوس داع قوي إلى فعلها، فلا تتم هذه الأمور إلا بقوة الإيمان. (11) أن العبد لا بد أن يصاب بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات والإيمان أكبر عون على تحمل هذه المصائب. (12) أن الإيمان يوجب للعبد قوة التوكل على الله لعلمه وإيمانه أن الأمور كلها راجعة إلى الله ومندرجة في قضائه وقدره. (13) أن الإيمان يشجع العبد ويزيد الشجاع شجاعة فإن لاعتماده على الله العزيز الحكيم ولقوة رجائه وطمعه فيما عنده تهون عليه المشقات ويقدم على المخاوف واثقاً بربه راجياً له راهباً من نزوله من عينه لخوفه من المخلوقين. (14) أن الإيمان هو السبب الأعظم لتعلق القلب بالله في جميع مطالب الدينية والدنيوية. (15) أن الإيمان يدعو إلى حسن الخلق مع جميع طبقات الناس، وإذا ضعف الإيمان أو نقص أو انحرف، أثر ذلك في أخلاق العبد انحرافا بحسب بعده عن الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 (1) أن الإيمان الكامل يمنع من دخول النار بالكلية كما يمنع صاحبه في الدنيا من فعل المعاصي والإيمان الناقص يمنع الخلود في النار. (2) أن الإيمان يوجب لصاحبه أن يكون معتبراً عند الخلق أميناً. ويوجب للعبد العفة عن دماء الناس وأموالهم وأعراضهم. (3) أن قويّ الإيمان يجد في قلبه من ذوق حلاوته ولذة طعمه واستحلاء آثاره. والتللذ بخدمة ربه وأداء حقوقه وحقوق عباده التي هي موجب الإيمان وأثره. فالمؤمن يتقلب في لذات الإيمان وحلاوته المتنوعة. (4) أن الإيمان هو السبب الوحيد للقيام بذروة سنام الدين، وهو الجهاد البدني والمالي والقولي في سبيل الله. ثم قال ـ رحمه الله ـ بعد ذكره لهذه الجملة الكبيرة النافعة من ثمرات الإيمان: "وهذا كله من ثمرات الإيمان ومن تمامه وكماله. وبالجملة فخير الدنيا والآخرة كله فرع عن الإيمان ومترتب عليه، والهلاك والنقص إنما يكون بفقد الإيمان أو نقصه"1. وبعد هذا البيان الموجز لأهمية الإيمان وما يترتب عليه من فوائد وثمار نشرع في تعريف الإيمان وما يتعلق به من مسائل. تعريف الإيمان: أن من أصول أهل السنة والجماعة: أن الإيمانَ قول وعملٌ؛ قولُ القلبِ واللسانِ وعملُ القلبِ واللسانِ والجوارح2. وقد دل على ذلك نصوص كثيرة في الكتاب والسنة: أما أدلة قول القلب وهو تصديقه وإيقانه: فمنها: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 3، وقوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} 4. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} 5. وغيرها من الآيات.   1 الخلاصة /130-134. 2 العقيدة الواسطية لابن تيمية /152. 3 سورة الحجرات/ الآية 15. 4 سورة الزمر/ الآيتان 33، 34. 5 سورة الأنعام/ الآية 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وأما أدلة اللسان وهو النطق بالشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والإقرار بلوازمها. فمنها: قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 1. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2. وقوله تعالى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} 3. وقوله عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله .... "4 الحديث. وغيرها من النصوص. وأما أدلة عمل القلب وهو النية والإخلاص والمحبة والانقياد والإقبال على الله عز وجل والتوكل عليه ولوازم ذلك وتوابعه. فمنها: قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} 5. وقوله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى. إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} (الليل: 19-20) وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 6. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"7.   1 سورة البقرة/ الآية 136. 2 سورة الأحقاف/ الآية 13. 3 سورة القصص/ الآية 53. 4 أخرجه البخاري 1/10، ومسلم 1/53، وغيرهما من حديث ابن عمر. 5 سورة الأنعام/ الآية 52. 6 سورة الأنفال/ 2. 7 أخرجه البخاري 1/2، ومسلم 3/1515. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وقوله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"1. وغيرها من النصوص. وأما أدلة عمل اللسان والجوارح فكثيرة جداً: وعمل اللسان هو ما لا يؤدى إلا به كتلاوة القرآن وسائر الأذكار من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والدعاء والاستغفار وغير ذلك، وعمل الجوارح هو ما لا يؤدى إلا بها مثل القيام والركوع والسجود والمشي في مرضاة الله والخطا إلى المساجد وإلى الحج والجهاد في سبيل الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، ومن أدلة عمل اللسان والجوارح: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} 2. وقوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} 3. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} 4. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان"5. وغيرها من نصوص الكتاب والسنة6. وقد بين ابن سعدي هذا الأصل العظيم وأوضحه في كثير من مؤلفاته وأشار إلى كثرة أدلته واستدل له بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة7. قال رحمه الله: "الإيمان اسم جامع لعقائد القلب وأعماله وأعمال الجوارح وأقوال اللسان فجميع الدين أصوله وفروعه داخل في الإيمان"8   1 أخرجه مسلم 4/2289. 2 سورة فاطر/ الآية 29. 3 سورة الكهف/ الآية 27. 4 سورة الأحزاب/ الآية 41. 5 أخرجه البخاري 1/8، ومسلم 1/63، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا لفظ مسلم. 6 وقد توسع الشيخ حافظ حكمي في ذكر الأدلة على ذلك في كتابه معارج القبول. انظر 2/17 وما بعدها. 7 انظر ذلك: في توضيح الكافية الشافية /13، والتفسير 1/420، 1/424، 3/96، 3/102، 7/294، وبهجة قلوب الأبرار /17، والخلاصة /11 وغيرها. 8 سؤال وجواب /8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وقال: "الإيمان الشرعي عند السلف شامل للعقائد الدينية وأعمال القلوب وأعمال الجوارح وفي هذا من النصوص ما لا يعد ولا يحصى"1. وقال: " أهل السنة والجماعة يعتقدون ما جاء به الكتاب والسنة من أن الإيمان: تصديق القلب المتضمن لأعمال الجوارح. فيقولون: الإيمان اعتقادات القلوب وأعمالها، وأعمال الجوارح وأقوال اللسان وأنها كلها من الإيمان، وأن من أكملها ظاهراً وباطنا فقد أكمل الإيمان ومن انتقص شيئاً منها فقد نقص إيمانه"2. العلامة بين مسمى الإيمان والإسلام: إن اسم الإيمان تارة يذكر مفرداً غير مقرون باسم الإسلام. وتارة يذكر مقروناً به. فمن أمثلة ذكره مقرونا بالإسلام: قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 3. وقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 4. وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 5. وقول جبريل عليه السلام في حديث عمر بن الخطاب: "ما الإسلام وما الإيمان"6. ومن أمثلة ذكر الإيمان مفرداً: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 7. وقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ. وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 8.   1 توضيح الكافية الشافية /8. 2 الفتاوى السعدية /17. 3 سورة الأحزاب/ الآية 35. 4 سورة الحجرات/ الآية 14. 5 سورة الذاريات/ الآيتان 35، 36. 6 تقدم تخريجه ص ـ 239. 7 سورة الأنفال/ الآية 2. 8 سورة الحديد/ الآيتان 7، 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى من الطريق"1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"2. ومن أمثلة ذكر الإسلام مفرداً: قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} 3. وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 4. وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 5. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} 6. وعلى هذا فإن الإسلام والإيمان إذا أطلق أحدهما شمل الدين كله أصوله وفروعه من اعتقاداته وأقواله وأفعاله. وأما إذا قرن بينهما وذكرا معا فعند ذلك يفترقان فيراد بالإسلام حينئذ الأعمال والأقوال الظاهرة، ويراد بالإيمان الاعتقادات الباطنة. ومن تأمل حديث جبريل والنصوص المتقدمة وغيرها من النصوص عرف ذلك. وقد أوضح ابن سعدي هذه العلامة بين هذين المسميين فقال: "اعلم أن الإيمان الذي هو تصديق القلب التام بهذه الأصول وإقراره المتضمن لأعمال القلوب والجوارح وهو بهذا الاعتبار يدخل فيه الإسلام، وتدخل فيه الأعمال الصالحة كلها، فهي من الإيمان وأثر من آثاره. فحيث أطلق الإيمان دخل فيه ما ذكر، وكذلك الإسلام إذا أطلق دخل فيه   1 تقدم تخريجه ص 300. 2 أخرجه البخاري 1/9 عن أنس بن مالك. 3 سورة آل عمران/ الآية 19. 4 سورة المائدة/ الآية 3. 5 سورة آل عمران/ الآية 85. 6 سورة البقرة/ الآية 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 الإيمان، فإذا قرن بينهما كان الإيمان اسماً لما في القلب من الإقرار والتصديق والإسلام اسما للأعمال الظاهرة"1. وقال في موضع آخر: "أما الإسلام فهو استسلام القلب لله وإنابته، والقيام بالشرائع الظاهرة والباطنة، وأما الإيمان فهو التصديق التام والاعتراف بأصوله التي أمر الله بالإيمان بها، ولا يتم ذلك إلا بالقيام بأعمال القلوب وأعمال الجوارح. ولهذا سمى الله كثيراً من الشرائع الظاهرة والباطنة إيماناً، وبعض الآيات يذكر أنها من لوازم الإيمان فعلى هذا الإيمان عند الإطلاق يدخل فيه الإسلام، وكذلك بالعكس، وإذا جمع بين الإيمان والإسلام فسر الإيمان بما في القلب من التصديق والاعتراف وما يتبع ذلك، وفسر الإسلام بالقيام بعبودية الله كلها الظاهرة والباطنة"2. زيادة الإيمان ونقصانه: ورد في الكتاب والسنة نصوص كثيرة تدل على أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بفعل الطاعات وينقص بارتكاب المحرمات. قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 3. وقال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} 4. وقال تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} 5. وقال تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} 6. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر النساء تصدقن ... وفي الحديث: ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن"7. وفي صحيح مسلم من حديث حنظلة الأسيدي قال: لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال قلت: نافق حنظلة، قال سبحان الله ما تقول؟ قال قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين، فإذا خرجنا   1 التفسير 1/144. 2 الخلاصة /199، وانظر أيضاً سؤال وجواب /5. 3 سورة محمد/ الآية 76. 4 سورة مريم/ الآية 76. 5 سورة الأحزاب/ الآية 22. 6 سورة الكهف/ الآية 13. 7 البخاري 2/126، ومسلم 1/87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد الصغار فنسينا كثيراً قال أبو بكر رضي الله عنه: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة "ثلاث مرات"1. فهذه النصوص ظاهرة الدلالة في أن الإيمان يزيد وينقص إذ هي صريحة بذلك. وقد تناول ابن سعدي هذه المسألة وبين أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بقوة الاعتقاد وكثرته وحسن الأعمال والأقوال وكثرتها وينقص بضد ذلك2. واستدل على ذلك بأدلة كثيرة أذكر بعضها: قال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ. أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} 3. " .... وفي هذه الآيات دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، وأنه ينبغي للمؤمن أن يتفقد إيمانه ويتعاهده فيجدده وينميه، ليكون دائما في صعود"4. وقال عند قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} 5. " ..... وفي هذا دليل على زيادة الإيمان ونقصه كما قاله السلف الصالح ويدل عليه قوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} 6، {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 7. ويدل عليه أيضاً الواقع فإن الإيمان قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان   1 مسلم 4/2106. 2 انظر سؤال وجواب /8، والفتاوى السعدية /17، والتفسير 6/35، والخلاصة /131، وتوضيح الكافية الشافية /8، 9، 13. وغيرها. 3 سورة التوبة/ الآيات 124، 125، 126. 4 التفسير 3/317. 5 سورة مريم/ الآية 76. 6 سورة المدثر/ الآية 31. 7 سورة الأنفال/ 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 والجوارح والمؤمنون متفاوتون في هذه الأمور أعظم تفاوت"1. وقال في شرحه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير .... "2. " ..... وهذا من أدلة السلف على أن الإيمان يزيد وينقص، وذلك بحسب علوم الإيمان ومعارفه وبحسب أعماله. وهذا الأصل قد دل عليه الكتاب والسنة في مواضيع كثيرة"3. مسألة الاستثناء في الإيمان: وهذه المسألة مترتبة على ما سبق بيانه من أن الإيمان قول وعمل واعتقاد وأنه يزيد وينقص فإذا ثبت ذلك. فإنه ينبغي للإنسان إذا قال أنا مؤمن أن يستثني؛ لأنه لا يستطيع أن يجزم بأنه كمّل الأعمال، وإن جزم بذلك فقد زكى نفسه. قال ابن سعدي بعد أن عرف الإيمان وبين أنه أصل عظيم وأن أهل السنة والجماعة يعتقدون أنه قول وعمل واعتقاد " ........ ويرتبون على هذا الأصل صحة الاستثناء في الإيمان. فيصح أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه يرجو من الله تكميل إيمانه فيستثني من غير شك منه بحصول الإيمان"4. وقال في تفسيره لقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا .... } 5 " .... وفيه دلالة على جواز إضافة الإنسان إلى نفسه الإيمان على وجه التقييد بأن يقول أنا مؤمن بالله، كما يقول آمنت بالله بل هذا الأخير من أوجب الواجبات، كما أمر الله به أمراً حتماً بخلاف قول العبد: أنا مؤمن ونحوه فإنه لا يقال إلا مقروناً بالمشيئة لما فيه من تزكية النفس؛ لأن الإيمان المطلق يشمل القيام بالواجبات وترك المحرمات، فهو كقوله أنا متقي أو ولي أو من أهل الجنة، وهذا التفريق هو مذهب محققي أهل السنة والجماعة"6.   1 التفسير 5/33. 2 أخرجه مسلم 4/2052. 3 بهجة قلوب الأبرار/ 33، وانظر أيضا التنبيهات اللطيفة /50، 51، فقد ذكر فيها جملة من الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه، وذكر فيها أيضاً أوجه زيادته ونقصانه، وأن الإيمان يزيد وينقص من أوجه متعددة، فليراجع. 4 الفتاوى السعدية /18، 19. 5 سورة البقرة / الآية 136. 6 الخلاصة /11، وانظر التفسير 1/145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 حكم مرتكب الكبيرة: قبل معرفة حكم الكبيرة أذكر تعريف الكبيرة، فأقول: اختلف السلف في تعريف الكبيرة إلى أقوال متعددة: فقيل: هي كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وقيل: هي ما أوعد الله عليه حداً في الدنيا أو عذاباً في الآخرة. وقيل: هي ما كانت المظالم فيه بين العباد أنفسهم. وقل: هي ما سماه الله في القرآن كبيراً أو عظيماً. وقيل: غير ذلك1. ومن أجمع التعاريف للكبيرة: أنها كل معصية فيها حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة أو ورد فيها وعيد بنفي إيمان أو لعن ونحوهما2. أما حكم مرتكب الكبيرة: فإن نصوص الكتاب والسنة تدل دلالة واضحة على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر ولا يخرج من الدين بسبب ارتكابه للكبيرة، وإنما ينقص إيمانه فلا يذهب عنه الإيمان بالكلية بل يبقى معه مطلق الإيمان. وارتكاب الكبيرة ليس سبباً للخلود في النار فلا يخلد أحد في النار بسبب ارتكاب الكبيرة؛ لأنه لا يوجب الخلود في النار إلا الإشراك بالله. وهذا هو قول أهل السنة والجماعة، وأدلة الكتاب والسنة جمعيها متضافرة على تقريره وتأصيله والرد على من خالفه. أما الخوارج: فقد كفروا مرتكب الكبيرة وأخرجوه من الدين بالكلية وأوجبوا له الخلود في النار. وأما المعتزلة فقد وافقوا الخوارج في خلود مرتكب الكبيرة في النار، وأما في الدنيا فهو عندهم ليس مؤمناً ولا كافراً، وإنما في منزلة بين المنزلتين. وأما المرجئة الخالصة: فقالوا: "إنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة". فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمن كامل الإيمان ولا يستحق دخول النار. وهذه الفرق كلها جانبت الصواب، وخالفت نصوص الكتاب والسنة والمذهب الحق في ذلك هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ لدلالة نصوص الكتاب والسنة عليه وهو   1 انظر في هذه التعاريف وغيرها مدارج السالكين لابن القيم 1/320، وما بعدها. 2 لوامع الأنوار للسفاريني 1/365، وانظر الفتاوى لابن تيمية 11/650، وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وسط بين هذه المذاهب الضالة، فمن مات على كبيرة فأمره مفوض إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه، وإذا عاقبه بها فإنه لا يخلد خلود الكفار بل يخرج من النار ويدخل الجنة1. وقد اهتم ابن سعدي ببيان هذا الحكم والرد على من خالفه، وذكر له أدلة كثيرة من الكتاب والسنة. قال رحمه الله: "كبائر الذنوب وصغائرها لا تصل بصاحبها إلى الكفر ولكنها تنقص الإيمان من غير أن تخرجه من دائرة الإسلام، ولا يخلد صاحبها في النار. ولا يطلقون عليه اسم الكفر كما تقوله الخوارج، أو ينفون عنه الإيمان كما تقول المعتزلة، بل يقولون هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته فمعه مطلق الإيمان، أما الإيمان المطلق فينفى عنه"2. وقد استدل ابن سعدي على أن الكبائر لا يكفر صاحبها، ولا توجب الخلود في النار بأدلة كثيرة. منها: قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} 3. قال ابن سعدي: "في قوله {أَخِيهِ} دليل على أن القاتل لا يكفر، لأن المراد بالأخوة هنا الأخوة الإيمانية فلم يخرج بالقتل منها. ومن باب أولى سائر المعاصي التي هي دون القتل، ولا يكفر بها فاعلها وإنما ينقص بذلك إيمانه"4. ومنها: قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا .... } 5. قال ابن سعدي: " .... الإيمان والأخوة الإيمانية لا يزولان مع وجود الاقتتال كغيره من الذنوب والكبائر التي دون الشرك، وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة"6. وقد استدل الخوارج والمعتزلة على مذهبهم الباطل بنصوص من القرآن، من تأملها وجد أنها حجة عليهم لا لهم.   1 انظر القعيدة الواسطية شرح الهراس /121، 122، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 1/366, وما بعدها. ومعارج القبول للحكمي 2/417 وما بعدها. 2 الفتاوى السعدية /18. 3 سورة البقرة/ الآية 178. 4 التفسير /1/216. 5 سورة الحجرات/ الآية 9. 6 التفسير 7/134، 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 يقول ابن سعدي: "وكل مبطل يحتج بآية أو حديث صحيح على قوله الباطل فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه"1، ولذلك كان في تفسيره للقرآن إذا مر بآية استدل بها الخوارج والمعتزلة على مذهبم الباطل، بين أن في الآية المستدل بها حجة عليهم لا لهم2. ومن أمثلة ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 3. قال ابن سعدي: "ويدخل في اسم المعصية الكفر فما دونه من المعاصي، فلا يكون فيها شبهة للخوارج القائلين بكفر أهل المعاصي فإن الله تعالى رتب دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله ورتب دخول النار على معصيته ومعصية رسوله فمن أطاعه طاعة تامة دخل الجنة بلا عذاب، ومن عصى الله ورسوله معصية تامة يدخل فيها الشرك فما دونه دخل النار وخلد فيها. ومن اجتمع فيه معصية وطاعة كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية. وقد دلت النصوص المتواترة على أن الموحدين الذين معهم طاعة التوحيد غير مخلدين في النار"4. ومن أمثلة ذلك أيضاً استدلالهم بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 5. قال ابن سعدي: "في هذا أن الربا موجب لدخول النار والخلود فيها، وذلك لشناعته، ما لم يمنع من الخلود مانع الإيمان. وهذا من جملة الأحكام التي تتوقف على وجود شروطها وانتفاء موانعها وليس فيها   1 التفسير 1/103. 2 انظر التفسير 7/495، 2/36، 7، 23/129، 5/496، 1/338، 1/103، والتنبيهات اللطيفة /51 وغيرها. 3 سورة النساء/ الآية 14. 4 التفسير 2/36، 37. 5 سورة البقرة/ الآية 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 حجة للخوارج كغيرها من آيات الوعيد، فالواجب أن تصدق جميع نصوص الكتاب والسنة فيؤمن العبد بما تواترت به النصوص، من خروج من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من الإيمان من النار"1. وانظر بقية الأمثلة على ذلك في الصفحات المشار إليها آنفا بالهامش، تجد أن كل مبطل إذا استدل بنص صحيح على باطله يكون فيما استدل به حجة عليه. وإنما هدى الله أهل السنة والجماعة للحق في ذلك لجمعهم بين النصوص وتوفيقهم بينها، لا كما يفعله المبطلة من الأخذ بطرف من النصوص وتركهم طرفاً آخر لاشتماله على رد عليهم. الجمع بين النصوص الواردة في خلود مرتكب الكبيرة في النار، وبين النصوص التي تدل على أنه لا يخلد في النار إلا المشرك: قد يشكل على بعض ورود كثير من الآيات فيها ذكر خلود مرتكب الكبيرة في النار، وآيات أخرى فيها أنه لا يخلد في النار إلا المشرك. وقد أورد ابن سعدي هذا الإشكال وأجاب عنه جواباً شافياً فقال: "ورد في القرآن عدة آيات فيها ذكر الخلود في النار على ذنوب كبائر ليست بكفر مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} 2. وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 3. وقوله: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 4. فما الجمع بينها وبين النصوص المتواترة من الكتاب والسنة أنه لا يخلد في النار إلا الكفار، وأن جميع المؤمنين مهما عملوا من المعاصي التي دون الكفر فإنهم لا بد أن يخرجوا منها؟   1 التفسير 1/339. 2 سورة النساء/ الآية 93. 3 سورة النساء/ الآية 14. 4 سورة البقرة/ الآية 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 فهذه الآيات قد اتفق السلف على تأويلها وردها إلى هذا الأصل المجمع عليه بين سلف الأمة. وأحسن ما يقال فيها أن ذكر الخلود على بعض الذنوب التي دون الشرك والكفر أنها من باب ذكر السبب، وأنها سبب للخلود في النار لشناعتها، وأنها بذاتها توجب الخلود إذا لم يمنع من الخلود مانع. ومعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الإيمان مانع من الخلود، فتنزل هذه النصوص على الأصل المشهور وهو أنه لا تتم الأحكام إلا بوجود شروطها وأسبابها وانتفاع موانعها، وهذا واضح ولله الحمد مع أن بعض الآيات المذكورة فيها ما يدل على أن الخطيئة المراد بها الكفر، لأن قوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} دليل على ذلك، لأن المعاصي التي دون الكفر لا تحيط بصاحبها، بل لا بد أن يكون معه إيمان يمنع من إحاطتها، وكذلك قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} 1 فالمعصية تطلق على الكفر وعلى الكبائر وعلى الصغائر ومن المعلوم أنه إذا دخل فيها الكفر زال الإشكال"2. وبهذا التوفيق الذي ذكره ابن سعدي يزول هذا الإشكال ثم إن القاعدة في الذنوب عند السلف: أنها إن كانت دون الشرك فهي تحت مشيئة الله إن شاء عذب فاعلها وإن شاء عفا عنه وإن عذبه فإنه لا يخلد في النار. وأما إن كان في الذنوب إشراك بالله فصاحبها خالد مخلد في نار جهنم، دل على هذه القاعدة العظيمة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3. وهذا آخر الحديث عن الإيمان وما يتعلق به، وبه نهاية الفصل الرابع من الباب الثاني والأخير ... والحمد لله رب العالمين..   1 سورة النساء/ الآية 14. 2 الخلاصة /188، وانظر أيضاً التفسير 2/129. 3 سورة النساء/ الآيتان 48، 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 الخاتمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الخاتمة الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، أحمده على توفيقه، وأثني عليه الخير كله، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه. وبعد: فقد تمت هذه الرسالة بحمد الله تعالى، وقد عنيت فيها ببيان جهود العلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي العقدية، والتي تنمي عن حرصه الشديد وجهوده المكثفة لنصرة هذه العقيدة. وعرضنا هذا لجهوده يبين لنا شدة عنايته بالعقيدة بجميع جوانبها، فكما تقدم في الرسالة كان حديثه عن العقيدة شاملاً لجوانب كثيرة وجزئيات متنوعة ونقاط متعددة من جوانب العقيدة، شاملاً أيضاً للردود على كل من خالف هذه العقيدة الصافية المأخوذة من الكتاب والسنة، والتي لا فلاح ولا نجاح ولا سعادة إلا بتحقيقها. وكلامه في هذا كله مدعم بالأدلة النقلية، أدلة الكتاب والسنة، فهو في كل مسألة يبينها وينصرها، وفي كل شبهة يدحضها ويبين بطلانها وزيفها، يستدل على ذلك بأدلة صحيحة صريحة واضحة في الدلالة على المقصود، لا لبس فيها ولا غموض، بعيدة عن تكلفات الفلاسفة والمؤولة والمعطلة وغيرهم، فهو ينهج في تقريراته وردوده منهج السلف الصالح، يرتسم خطاهم ويسير على نهجهم ويقتفي آثارهم، وقد استفاد كثيراً من كتب المتقدمين من علماء السلف وذلك لعنايته الشديدة بها. كما تأثر رحمه الله بالعالمين الجليلين الذين خدما العقيدة خدمة جليلة، وهما شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم الجوزية، فقد استفاد رحمه الله كثيراً من كتبهما واعتنى بها عناية شديدة فشرح بعضها واختصر بعضها واستخرج قواعد وضوابط من أكثرها، وكان يثني عليها ويحث طلابه على قراءتها وقد ظهر تأثره بهما في تقريراته وردوده في مؤلفاته. كما عنيت في هذه الرسالة بدارسة شاملة لحياة ابن سعدي تناولت فيها جانبي حياته الشخصي والعلمي، وقد ظهر لنا فيها حرص الشيخ منذ نشأته على طلب العلم وتحصيله فقد أمضى حياته وأفنى جميع أوقاته في العلم حفظاً ودارسة وتحصيلاً وعملاً وتطبيقاً وتدريساً ولا يصرفه عنه أي أمر من الأمور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وفي الحقيقة إن الشيخ ابن سعدي يعد شخصية علمية بارزة، جديرة بالاهتمام من الباحثين، فقد أدى رحمه الله دوراً كبيراً في خدمة هذا الدين ونصرته، عن طريق المواعظ والخطب والدروس العلمية والمؤلفات النافعة وغير ذلك، فقد جلس للتدريس والتعليم أكثر من المؤلفات العلمية القيمة النافعة ما يربو على أربعين مؤلفاً تناول فيها العقيدة والتفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك، ومؤلفاته جميعها تمتاز بسهولة العبارة، وقرب المأخذ، والبعد عن التكليف وهي جديرة بالعناية من طلبة العلم. وقد كان رحمه الله في حياته متصفاً بجملة من الصفات الكريمة، فكان متواضعاً كريماً بشوشاً، عطوفاً على الفقراء مساعداً لهم، محباً للخير مقدماً عليه، وكان محل إعجاب الناس وثنائهم، فلا يذكر إلا بكل خير ولا يوصف إلا بكل حميد، وكان محل ثناء العلماء، فحمدوا فيه سعة علمه وحسن خلقه، فرحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته. هذا والله الكريم أسأل أن أكون قد وفقت فيما أردت بيانه في هذه الرسالة، وأن يقيل عثراتي ويجنبني الزلل، فهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 مصادر ومراجع ... فهرس المراجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 فهرس المراجع مؤلفات ابن سعدي 1- الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين، ط المعارف، الرياض، 1402هـ 2- انتصار الحق، ط الأولى، دار الثقافة، القاهرة، 1398هـ. 3- الإرشاد إلى معرفة الأحكام، ط، المعارف، الرياض، 1400هـ. 4- إرشاد أولي البصائر والألباب، المعارف، الرياض، 1400هـ (وهو نفس الكتاب الذي قبله) . 5- بهجة قلوب الأبرار، ط مطبعة الكيلاني، القاهرة، الناشر، السعيدية، الرياض. 6- التعليق وكشف النقاب على نظم قواعد الإعراب، مخطوطة. 7- توضيح الكافية الشافية، ط المطبعة السلفية، القاهرة، 1368هـ. 8- التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، ط مطبعة المشهد الحسيني، القاهرة. 9- التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنفية، ط مطبعة البيان، بيروت. 10- تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله، ط دار إحياء الكتب العريبة. 11- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ط مطابع الدجوي: القاهرة الناشر المؤسسة السعيدية بالرياض. 12- تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، ط، المعارف، الرياض 1400هـ 13- الحق الواضح المبين، ط المطبعة السلفية القاهرة. 14- حكم شرب الدخان، ط، المعارف، الرياض، 1404هـ. 15- الخطب المنبرية على المناسبات، ط، المدني، القاهرة 1375هـ. 16- الدرة البهية شرح القصيدة التائية، ط، مطبعة المشهد الحسيني القاهرة، 1376هـ. 17- الدرة المختصرة في محاسن الدين، ط مطبعة أنصار السنة المحمدية، القاهرة 1366هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 1- الدلائل القرآنية في أن العلوم والأعمال العصرية داخلة في الدين الإسلامي، ط، مطابع الرياض، 1376هـ. 2- الدين الصحيح يحل جميع المشاكل، ط مطبعة المدني، القاهرة. 3- رسالة في القواعد الفقهية ـ ضمن المجموع لمؤلفاته ـ ط، مطابع الدجوي، القاهرة، الناشر: السعيدية. 4- رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه ـ ضمن المختارات الجلية ـ، ط، الأولى، مطبعة المدني، القاهرة 1378هـ. 5- الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، ط الكيلاني، القاهرة، الناشر السعيدية. 6- سؤال وجواب في أهم المهمات، ط، مطبعة دمشق، 1372هـ. 7- طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول، الكيلاني، القاهرة، الناشر السعيدية. 8- الفتاوى السعيدية، ط مطبعة الكيلاني، الناشر السعيدية الرياض. 9- فوائد قرآنية، ط الثانية، المكتب الإسلامي، بيروت 1394هـ 10- فوائد مستنبطة من قصة يوسف (عليه السلام) ، ط مطبعة العلم، القاهرة، 1375هـ. 11- الفواكه الشهية في الخطب المنبرية، ط، مطبعة دمشق 1372هـ. 12- القواعد الحسان لتفسير القرآن، ط المعارف، الرياض 1400هـ. 13- القواعد والأصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة، طبعة، المدني القاهرة، 1375هـ. 14- القول السديد في مقاصد التوحيد، ط الثالثة، مؤسسة النور الرياض، 1390هـ. 15- مجموع الخطب في المواضيع النافعة، ط مطبعة أنصار السنة المحمدية، القاهرة، 1366هـ. 16- المختارات الجلية من المسائل الفقهية، ط مطابع الدجوي، القاهرة الناشر السعيدية. 17- مختارات من الفتاوى ـ ضمن المختارات الجلية، ط مطابع الدجوي، القاهرة، الناشر السعيدية. 18- المواهب الربانية من الآيات القرآنية، ط، المعارف الرياض، 1402هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 1- المناظرات الفقهية ـ ضمن المختارات الجلية ـ ط مطابع الدجوي، القاهرة، الناشر السعيدية. 2- منظومة في أحكام الفقه ـ ضمن المجموع لمؤلفاته ـ، ط مطابع الدجوي القاهرة، الناشر السعيدية. 3- منظومة في السير إلى الله والدار الآخرة ـ ضمن المجموع لمؤلفاته ـ، ط مطابع الدجوي، القاهرة، الناشر السعيدية. 4- منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين ـ ضمن المختارات الجلية، ط 1 مطبعة المدني، القاهرة 1378هـ. 5- واجب المسلمين، ط، الثانية، مؤسسة النور، الرياض، 1389هـ. 6- وجوب التعاون بين المسلمين، ط، المعارف، الرياض 1402هـ. 7- الوسائل المفيدة للحياة السعيدة، ط مؤسسة النور، الرياض. مؤلفات أخرى 43- الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري، ط الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1975م. 44- أبو الحسن الأشعري للشيخ حماد الأنصاري، طبع مؤسسة النور، بالرياض. 45- إتحاف الجماعة للشيخ حمود بن عبد الله التويجري، ط، الأولى، مطابع الرياض 1394هـ. 46- إجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم، ط مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. 47- الاحتجاج بالأثر للشيخ حمود التويجري، ط الأولى الرياسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 1403هـ. 48- الآداب الشرعية، لابن مفلح، ط مطبعة المنار، 1348هـ. 49- الاستقامة لابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، ط الأولى، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1404هـ. 50- أضواء البيان، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، ط عالم الكتب، بيروت. 51- الأعلام ـ لخير الدين الزركلي، ط السادسة، دار عالم للملايين بيروت. 1984م. 52- الإكليل في المتشابه التأويل ضمن مجموعة الرسائل الكبرى، لابن تيمية، ط، دار إحياء التراث بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 43- الإمام ابن تيمية وقضية التأويل. للدكتور محمد السيد الجليند، ط الثالثة طبع شركة عكاظ للنشر والتوزيع، السعودية 1403هـ. 44- الإيمان لابن تيمية، ط الثالثة، المكتب الإسلامي، بيروت، 1399هـ. 45- بصائر ذوي التمييز للفيروز أبادي، ط المكتبة العلمية، بيروت. 46- بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال للشيخ السويح، ط المطبعة السلفية ـ القاهرة 1369هـ. 47- تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، للصنعاني، ط، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1975م. 48- تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ط، دار المعرفة، بيروت 1388هـ. 49- التلخيص الحبير لابن حجر، ط المطبعة العربية باكستان، الناشر: إدارة البحوث الإسلامية. فيصل آباد. 50- تيسير العزيز الحميد، للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ط الثالثة، المكتب الإسلامي، بيروت 1397هـ. 51- جامع البيان للطبري، ط دار المعارف بمصر. 52- حلية الأولياء لأبي نعيم، ط الثانية دار الكتب العربي، بيروت. 1387هـ. 53- درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، ط الأولى، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1404هـ. 54- الدين ـ للدكتور محمد عبد الله، دار القلم الكويت، 1400هـ. 55- الرد القويم على ملحد القصيم للشيخ عبد الله بن علي بن يابس، ط، الأولى، مطبعة الإمام، مصر. 56- الرسالة التدمرية، لابن تيمية، ط الثالثة، المطبعة السلفية، القاهرة، 1400هـ. 57- رسالة الذب عن أبي الحسن الأشعري، لأبي القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس. تحقيق د/ علي ناصر فقيهي، ط الأولى 1404هـ. 58- الرسل والرسالات للدكتور عمر الأشقر، ط الثانية، مكتبة الفلاح، الكويت، 1403هـ. 59- الروح لابن القيم، ط، دار الكتب العلمية، بيروت، 1399هـ. 60- روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين، للشيخ محمد بن عثمان القاضي، ط الأولى، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1400هـ. 61- زاد المعاد لابن القيم، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط ط الثالثة مؤسسة الرسالة، بيروت 1402هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 43- الزهر النضر في نبأ الخضر، لابن حجر ضمن مجوعة الرسائل المنيرية. ط إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة. 44- السبعينية لابن تيمية، ضمن مجموعة الفتاوى المصرية، ط مطبعة كردستان العلمية، القاهرة، 1392هـ. 45- سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، ط، الثالثة، المكتب الإسلامي، بيروت، 1403هـ. 46- سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط دار إحياء الكتب العربية، 1372هـ. 47- سنن أبي داود، ط دار إحياء السنة النبوية. 48- سنن الدارمي، ط مطبعة الاعتدال، دمشق، 1349هـ. 49- سنن الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط دار إحياء التراث الإسلامي بيروت. 50- سنن النسائي، ط الأولى، المطبعة المصرية، القاهرة، 1348هـ. 51- السنة للمروزي، ط دار الثقافة والنشر، الرياض. 52- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للحافظ اللالكائي، ط الأولى. دار طيبة ـ الرياض. 53- شرح السنة للبغوي، تحقيق شعيب الأرنؤوط ومحمد زهير الشاويش ط الأولى، المكتب الإسلامي، بيروت 1390هـ. 54- شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، ط مكتبة الدعوة الإسلامية. 55- شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن خليل الهراس، ط الرابعة، مؤسسة مكة للطباعة، توزيع الجامعة الإسلامية. 56- الشريعة للآجري، تحقيق محمد حامد الفقي، ط الأولى، مطابع الأشراف، لاهور، باكستان، 1403هـ. 57- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن القيم. ط، دار المعرفة، بيروت. 58- الصحاح للجوهري، ط الثانية، القاهرة، 1402هـ. 59- صحيح البخاري، ط المكتبة الإسلامية، استانبول، تركيا. 60- صحيح الجامع الصغير، للألباني، ط الثالثة، المكتب الإسلامي بيروت 1402هـ. 61- صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط دار إحياء التراث العربي. طبقات الحنابلة للقاضي أبي الحسن محمد بن أبي يعلى، ط مطبعة السنة المحمدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 43- عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي لابن العربي، ط الأولى المطبعة المصرية بالأزهر، 1350هـ. 44- العقيدة في الله، للدكتور عمر سليمان الأشقر، ط الخامسة، مكتبة الفلاح، الكويت، 1984هـ. 45- القعيدة الواسطية، لابن تيمية، ط الرابعة، طبعة الجامعة الإسلامية. 46- علماء آل سليم وتلاميذهم للشيخ صالح السليمان العمري، ط الأولى مطابع الأشعاع، الرياض 1405هـ. 47- علماء نجد خلال ستة قرون للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام، ط الأولى، مؤسسة الخدمة الطباعية، بيروت. 1398هـ. 48- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر ط دار المعرفة، بيروت. 49- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ط، مطبعة المشهد الحسيني، القاهرة، 1376هـ. 50- فتح المعبود في الرد على بن محمود للشيخ حمود بن عبد الله التويجري، ط الأولى، مطبعة المدينة 1399هـ. 51- الكشاف للزمخشري، ط، دار المعرفة، بيروت. 52- كشف الظنون لحاجي خليفة، ط دار الفكر، 1402هـ. 53- لمعة الاعتقاد لابن قدامة المقدسي، ط، الرابعة، المكتب الإسلامي، بيروت. 54- لوامع الأنوار البهية للسفاريني، ط مطبعة المدني، القاهرة. 55- مجمع الزوائد للهيثمي، ط الثالثة، بيروت، دار الكتاب العربي 1402هـ 56- مجموع الفتاوى لابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن محمد قاسم بمساعدة ابنه، ط مكتبة المعارف، المغرب. 57- مختصر الصواعق المرسلة لمحمد بن الموصلي، ط دار الندوة الجديدة، بيروت 1405هـ. 58- مدارج السالكين لابن القيم، تحقيق محمد حامد الفقي، ط دار الكتاب العربي بيروت، 1392هـ. 59- معارج القبول للشيخ حافظ حكمي، ط المطبعة السلفية، القاهرة. 60- معالم التنزيل للبغوي، ط الأولى دار المعرفة بيروت 1406هـ. 61- المستدرك للحاكم، ط مطابع النصر الحديثة. الرياض. المسند للإمام أحمد، ط الأولى، المكتب الإسلامي، بيروت 1389هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 43- مشاهير علماء نجد وغيرهم للشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ط الثانية، بإشراف دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، 1394هـ. 44- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، رتبه ونظمه لفيف من المستشرقين ط مكتبة بريل في مدينة ليدن. 45- معجم مقاييس اللغة لابن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، ط دار الكتب العلمية. إيران. 46- معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، ط دار إحياء التراث، بيروت. 47- مفتاح كنوز السنة، ط مطبعة معارف لاهور، باكستان، 1397هـ. 48- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين لأبي الحسن الأشعري، الطبعة الثالثة، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 49- مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي، تحقيق د. عبد الله التركي، ط الأولى، مكتبة الخانجي، مصر، 1399هـ. 50- النبوات لابن تيمية، ط دار الكتب العلمية، بيروت 1402هـ. 51- النعت الأكمل لأصحاب الإمام أحمد بن حنبل، للشيخ محمد كمال الدين العامري، ط دار الفكر، دمشق 1402هـ. 52- نهاية البداية والنهاية، لابن كثير، ط الأولى، مكتبة النصر الحديثة، الرياض 1986هـ. المجلات 122- مجلة الجامعة الإسلامية، عدد 4، السنة الحادية عشرة، ص 205، مقال للدكتور عبد الرحمن العدوي. 123- مجلة الجامعة الإسلامية، عدد 99 السنة الخامسة عشرة، مقال للشيخ عبد الكريم مراد. 124- مجلة العرب، عدد ربيع الأول /1393هـ، السنة السابعة ص 590 بعنوان: معجم المطبوعات العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321