الكتاب: السيرة النبوية في دائرة المعارف البريطانية المؤلف: وليد بن بليهش العمرى الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- السيرة النبوية في دائرة المعارف البريطانية وليد بن بليهش العمرى الكتاب: السيرة النبوية في دائرة المعارف البريطانية المؤلف: وليد بن بليهش العمرى الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ال مقدمة : الحمد لله رب العالمين، الذي بعث رسوله للناس كافة بالحق وإمام مبين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وقائد الغر المحجلين محمد المأمور بأن يصدع بالقول {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:104] ، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين، أما بعد. فآخر ما كان يدور في خلدي أن تجد طعونات المستشرقين طريقها إلى موسوعة عُرف عنها أن أول سماتها العلم والمعرفة، وهي الموسوعة البريطانية ذات الصيت والشهرة؛ لتميلها ميلاً عظيماً عن خط الرصانة العلمية الذي رسمته لنفسها منذ أول صدورها، وعندما عكفت على قراءة ما كتب فيها تحت موضوع "الإسلام" هالني ما ساد الموضوع من انحراف عن المنهج العلمي السليم، والتحامل المغرض والرغبة الجارفة في المساس بكل ما يعده المسلمون مقدساً. ولا عجب في هذا الاستغراب، فالموسوعة البريطانية هي أكثر الموسوعات العالمية العامة شعبية وأوفرها سمعة من حيث الدقة ولاسيما أنها تختار كتابها من أشهر المتخصصين ذوي الرأي والكلمة المسموعة، ويشتهر عنها اعتمادها لغة تربط مادتها باهتمامات القارئ الغربي ومنظومته المعرفية، وتحلل الحقائق من منظور عقلي موضوعي يميل إليه الفكر العلمي التحليلي. ويرى بعض المستشرقين أن هذه هي منهجية العلم المتبعة في الأوساط العلمية الغربية، ويقول رودي بارت بهذا الصدد إن المستشرقين:"يطبقون على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 الإسلام وتاريخه وعلى المؤلفات التي يشتغلون بها المعيار النقدي، الذي يطبقونه على تاريخ الفكر عندهم" (1) . ورغم هذا تبدى لي جلياً أن الهدف الأول الذي تسعى إليه الموسوعة في مادة "محمد: النبي ورسالته"، التي أدرسها في هذا البحث، هو حشد كل ما يمكن من شبهات وافتراءات وسوقها في خطوط فكرية عامة يلتفت إليها القارئ الذي قد يأخذ بما فيها باسم العلم والمعرفة؛ ليعملوا بذلك -سواء عمدا أو عن غير عمد - على إدامة غرض الاستشراق الأول وهو صد الناس عن الإسلام (2) ؛ لينكصوا على أعقابهم خاسرين. ومن هنا جاءت فكرة هذا البحث، لكشف ستار هذه الطعونات وإبانتها على حقيقتها بعون الله، وتبيين ما فيها من انحراف عن الموضوعية والرصانة العلمية، وتنبيه القارئ عليها. وأبدأ هذا البحث بخلفية عن الموسوعة البريطانية أعرض فيها باختصار تاريخ الموسوعة وبعض الأرقام؛ ثم أمضي في استعراض السياسة التحريرية للموسوعة التي أقصد من هذا البحث بيان فشلها في تحقيق الحياد والموضوعية عندما يخص الأمر الإسلام، وإن كانت الموسوعة تؤكد على هذا المنهج. بعد ذلك نأتي إلى المادة قيد البحث وهي مادة "محمد: النبي ورسالته"؛ لأكشف ميل الموسوعة إلى الأخذ بآراء كبار رواد الفكر الاستشراقي المعاصر حول تاريخ الرسالة المحمدية، وهي آراء نعلم أنها مليئة بالأباطيل.   (1) رودي بارت، الدراسات الإسلامية والعربية في الجامعات الألمانية، ص 10. (2) عبد العظيم الديب، "المنهج عند المستشرقين"، ص 338 – 339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 أولا: الموسوعة البريطانية: تاريخ وأرقام مدخل ... أولاً: الموسوعة البريطانية: تاريخ وأرقام صدرت الموسوعة البريطانية أول ما صدرت عام 1768م، عندما أخرج ثلاثة ناشرين أسكتلنديين كتاباً معرفياً شاملاً وأسموه Encyclopedia Britannica أو الموسوعة البريطانية؛ ليكون بذلك أول الموسوعات باللغة الإنجليزية المستمرة حتى اليوم، ومنذ ذلك الوقت خرج منها خمس عشرة طبعة، وتعدّ الموسوعة البريطانية أكبر الموسوعات المكتوبة بالإنجليزية وأوفرها شهرة، إذ تنتشر في الوقت الراهن (1) في القارات كافة وهي أشملها وأفضلها توثيقاً للمعلومة؛ إذ حرصت منذ بدايتها الأولى على جذب أشهر العلماء، وكتب فيها عدد ممن حصلوا على جائزة نوبل بفروعها المختلفة. وكانت قد طبعت لأول مرة في إدنبرة بأسكتلندا في ثلاثة أجزاء تتألف من 2659صفحة، صدرت كاملة عام 1771م، ثم طبعت بعد ذلك خمس عشرة طبعة صدرت الطبعة ما قبل الأخيرة من شيكاغو بأمريكا بعدما نقلت ملكيتها إلى وليام بنتون عام 1941م الذي ورّثها مؤسسة بنتون، وهي مؤسسة خيرية يدعم دخُلها قسمَ الاتصال الجماهيري في جامعة شيكاغو (2) .   (1) كان المسلمون كعادتهم سباقين في تدوين كتب يمكن إطلاق اسم موسوعات عليها، وذلك منذ القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) ومنها "الفهرست" لابن النديم و"إحصاء العلوم" للفارابي. ولم تبدأ عناية الأوروبيين بتأليف دوائر المعارف إلا في القرن الثامن عشر الميلادي ونتج عن هذه العناية موسوعات تبلغ كل منها ما يزيد عن 100 مجلد مثل دائرة المعارف الفرنسية الكبرى التي بلغ عدد مجلداتها 166 بالإضافة إلى أربعين أطلسا وخارطة، ودائرة دي لاندر de Lander الإنجليزية التي تشمل 132 مجلدا، وقد صدرت أجزاؤها تباعا منذ عام 1829 حتى سنة 1846م. (محمد جمال الدين، "الشبهات المزعومة حول القرآن الكريم في دائرتي المعارف الإسلامية والبريطانية"، ص 4 – 5) ، وتأتي بعدها في المرتبة من حيث الحجم الموسوعة الأمريكية The Encyclopedia Americana. (2) إفانز وورستر Order Blown to Bits. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وصدرت الطبعة الخامسة عشرة والأخيرة عام 1952م وروجعت عام 1985م، وهي لا تزال تراجع سنوياً. ووصلت مبيعات الموسوعة البريطانية ذروتها عام 1990م إذ حققت مبلغاً قدره 650 مليون دولار (1) . وتقع الموسوعة اليوم في ثلاثين مجلدا موزعة في ثلاثة أجزاء: (1) Propaedia وهو عرض شامل لمحتويات الموسوعة في جزء واحد، (2) Micropaedia أو الموسوعة المصغرة وهي ذات مداخل مختصرة تقع في اثنى عشر جزءاً، كتب على كعب كل جزء عبارة "مرجع متأت"، (3) Macropaedia أو الموسوعة الشاملة وفيها يكتب عن موضوعات عامة ومهمة كالإسلام، وتطور البشرية، بإسهاب، يكتبها علماء ومؤلفون مبرزون، وتقع في سبعة عشر جزءا، كتب على كعب كل جزء عبارة "المعرفة بعمق". ومنذ ظهور الحاسوب كانت الموسوعة البريطانية سباقة للاستفادة من الفرص التي تمنحها هذه التقنية الحديثة، فصدرت الموسوعة بالإضافة إلى النسخة الورقية على أسطوانات ليزر، شاملة لكل ما حوته النسخة الورقية، إضافة إلى آلاف الصور والوسائط المتعددة، كما شملت الأسطوانات معجم ماريام وبستر، وموسوعة أمم العالم التي تحوي معلومات إحصائية. ولم تغفل الموسوعة البريطانية أهمية الشبكة العالمية حيث نُشرت كاملة على الإنترنت، ويتحتم دفع اشتراك لمن يريد أن يتعمق ويقرأ المقالات كاملة، أما إمكان البحث ومطالعة النُّبَذ المقتضبة فمجاناً. وموقع الموسوعة www.eb.com البريطانية كما هو في شكله الحالي يعد من أقوى مواقع جمع   (1) إفانز وورستر Order Blown to Bits. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 المعلومات العامة على الإنترنت، فبمجرد إدخال كلمات، مثل: encyclopaedia أي موسوعة، أوinformation وbackground أي معلومات خلفية عن موضوع، سرعان ما تظهر الموسوعة البريطانية ضمن أول النتائج. ويشترك العديد من الجامعات العالمية والمدارس في الموقع لتوفر خدمة البحث به مجاناً للطلبة الذين يريدون أن يكتبوا مقالة حول موضوع ما، بالإضافة إلى آلاف الصور والأشكال التوضيحية والوصلات العديدة التي تم اختيارها بعناية من قبل محرري الموسوعة، وتفاعلها مع القضايا ذات الاهتمام الواسع، بإفراد صفحات تحوي معلومات موسعة - تتعلق بتاريخ القضية وآراء المحللين حولها - يثق أساتذة الجامعات ومعلمو المدارس بقيمة المعلومة التي توفرها الموسوعة التي حققت بها شهرتها الواسعة عبر أكثر من مئتي عام من الانتشار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أ - السياسة التحريرية لموسوعة البريطانية ... أ- السياسة التحريرية للموسوعة البريطانية: لا شك أن مما ضمن هذا الاستمرار والحضور القوي للموسوعة البريطانية هي السياسة التحريرية التي انتهجتها منذ أول ظهور لها، ويلخص توم بانيلاس سياسة الموسوعة التحريرية كما يلي: "هدفنا هو عرض جميع مجالات المعرفة الإنسانية متخذين موقفاً عالمياً شاملاً، أي أننا نشمل الثقافات الإنسانية الكبرى كلها دون محاباة لثقافة بعينها. فنحن نسعى بجدّ لنكون متوازنين في طرحنا على قدر يتوافق مع الطبع البشري، وسعياً في هذا الاتجاه نقدم جميع الموضوعات، وبالنسبة للموضوعات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 التي يدور حولها الجدال ويختلف عليها العلماء فإننا نستنفد جهدنا في تلخيص جميع نقاط الجدال لقرائنا عوضاً من الانحياز إلى رأي دون آخر. ويتم مراجعة وتقويم جميع موادنا دورياً لتحديثها وتصحيحها ولمعرفة ما إذا كانت متوافقة مع آخر ما توصل إليه العلم، وتساعد شبكة من المستشارين العلميين تنتشر في جميع أنحاء العالم محرري الموسوعة في هذه المراجعات، وتعاد كتابة المادة إذا دعا الأمر لذلك، وإذا كان حجم التصحيحات كبيرا قد نكلف أحدا بكتابة مادة جديدة كليا" (1) . إذاً فسياسة الموسوعة التحريرية هي الحيادية والشمولية والمراجعة والمتابعة المستمرة، ولكن إذا ما أردنا التجرد من هذا الرأي الصادر عن مدير العلاقات العامة في الموسوعة فإنه يمكن التعرف على كثير من معالم السياسة التحريرية للموسوعة البريطانية من خلال قراءة متأنية لسطورها. ولا حاجة للباحث لأن يذهب بعيداً في البحث لكي يستشفها، وبخاصة مَنْ يريد قراءة مادة ما من مواد الموسوعة قراءة نقدية، خلاف ذلك الذي يريد الاطلاع لمجرد المعرفة، ويمكن توزيع سياسة الموسوعة على محورين عامين تنطوي تحتهما عدة عوامل. أولا: اختيار المعلومة بدقة، وانتخاب صفوة من الكتاب المتخصصين. فعند تصفح مجلدات الموسوعة الموسعة يجد القارئ ملحقا بكل موضوع بحث قائمة ببليوجرافية موزعة حسب مواد الموضوع، مثلا تندرج تحت موضوع   (1) توم بانيلاس، مدير الاتصالات [العلاقات العامة] في الموسوعة البريطانية، في اتصال شخصي جرى بيننا عن طريق البريد الإلكتروني، بتاريخ 23 يونيو 2003. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 "الإسلام" المواد: "الإسلام" و "محمد" و "القرآن" و "الحديث" و "اللاهوت والفلسفة" و"الصوفية الإسلامية" و "القانون الإسلامي" و "الأساطير والخرافات الإسلامية"، وتذيَّل كل مادة بثبت بأسماء المراجع والمصادر المهمة التي أخذت منها المادة المكتوبة في الموسوعة ويمكن البحث فيها للاستزادة عن الموضوع، وبالاطلاع على هذه القوائم يمكن لمختص في مجال مّا أن يتأكد من أن الكتابات التي رُجع إليها معتمدة في مجال تخصصها ولها قيمتها العلمية، وهي قد اختيرت من قبل أكاديمي بارز في مجاله، أو كاتب حاصل على أعلى الجوائز العالمية كما ذكر آنفا، وعادة ما يتخذ القارئ من هذه المصادر أول ما يرجع إليه للتوسع في بحثه. ولكن عندما نقرأ القوائم الملحقة بموضوع الإسلام نجد أنها كلها كتابات مستشرقين معروفين من أمثال نودلكه ووات وآربري، وأن الزاوية التي تناول منها كُتَّاب المواد، أو وجهوا من قبل فريق التحرير إلى تناول الموضوع منها، زاوية مجحفة في حق الإسلام وتاريخه. وسنتابع هذه السياسة التحريرية عن كثب في تحليل مادة "محمد: النبي ورسالته". ثانياً: الموضوعية، وهي بناء المعلومة على الحقائق وتجريدها من الرأي والرؤية الشخصية للباحث. ويكاد يكون هناك إجماع عام في الدوائر العلمية، - خاصة بعد الازدهار الكبير الذي تشهده النزعة النسبية في الجامعات الغربية، التي ترى عدم إطلاق الحقائق وبخاصة فيما يتعلق بوقائع التاريخ (1) - على أن الموضوعية شيء نسبي، ورغم أن الموسوعة البريطانية تبدو للقارئ غير   (1) السؤال الذي يطرح هو: من يكتب التاريخ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 المتمرس - الذي يبحث عن معلومات خلفية - ذات صبغة موضوعية حول موضوع ما، إلا أن غطاء الموضوعية ينكشف سريعا أمام من هو على علم بالموضوع المطروح وبخاصة فيما يتعلق بطروحاتها عن الإسلام، وذلك من خلال اختيار مراجع تكشف لنا الدراسات الاستشراقية الإسلامية أنها عمد في هذا المجال، وأنها شكلت النظرة الغربية وربما العالمية التشكيكية غير المستساغة للإسلام، وهي وإن كانت تبدو أعمالاً علمية رصينة تستحق الرجوع إليها واقتباس طروحاتها، إلا أنها أحادية النظرة تفتقر إلى العلمية والموضوعية ويعوزها كثير من الإنصاف. ومما يزيد من فرص قبول مادة الموسوعة والتأثر ببعض أفكارها اللغة التي كتبت بها تلك المواد، فهي رغم أنها قد صيغت بلغة يرى العقل الغربي أنها هي لغة العلم والموضوعية بعينها، تبدو كأنها لا تعطي تقريراً نهائياً ورأياً حاسماً بل قلما يجد القارئ فرصة كافية لكي ينفك من تأثيرها القوي وآرائها شبه النهائية، كما أنه ربما يعجز معها عن تكوين رأيه الخاص عن الموضوع المطروح، وبالرغم من هذا فمحصلة ما يكتب عن الموضوع وآرائه هي التي قد يخرج بها القارئ الذي يرى أنها هي بعينها رأي أهل العلم الذين يستحقون ثقته بهم. ومن ملامح هذه اللغة ما يظهر جلياً طريقتهم في النقاش والجدال التي تهدف إلى إقناع القارئ بوجهة نظر الكاتب، وهذه الطريقة تختلف بين الثقافات، ولاسيما الثقافتين العربية والإنجليزية الغربية. وهناك أسلوبان أساسيان لطريقة النقاش (1) وهي: (1) الجدال المستمر (through-   (1) باسل حاتم وإيان ميسون، The Translator as Communicator، ص 126-127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 argumentation) والجدال المناقِض (counter-argumentation) ، ووفقاً للأسلوب الأول يطرح المجادل رأياً ويستمر في دعمه حتى النهاية. ويرى كثير من منظري الاتصال بين الثقافات أن أسلوب الجدل المستمر هو الأسلوب السائد في الكتابات العربية، ولكن هذه النظرة بدأت تتغير نتيجة لتأثير حركة الترجمة الواسعة التي تشهدها الثقافة العربية. أما الجدال المناقض فيعمد بداية إلى ذكر الرأي المخالف ربما بشيء من التقدير ثم دحض هذا الرأي بهدوء وتقديم الدلائل المنطقية على موقف المجادل، وعادة ما يقدم المجادل بهذا الأسلوب تنازلاً مراوغاً (false concession) أو اعترافاً بوجاهة الرأي الآخر؛ لكي يوحي للقارئ بأنه فهم الرأي الآخر، ولكن بعد تفكير عميق وبحث واستقراء للواقع وصل إلى نتيجة مخالفة، وهذا الأسلوب هو المتبع غالباً في الأوساط العلمية الغربية، والموسوعة البريطانية لا تشذ عن طوق هذه اللغة العلمية، فتحت العنوان الفرعي "الشخصية والإنجازات" الذي كتب عن نبي الرحمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تبدأ الموسوعة بالآتي: "ورغم الإجحاف في حقه كثيراً من قبل علماء أوربا القرون الوسطى - الذين لا تزال آراؤهم تحتفظ ببعض التأثير - أصبحت النظرة لمحمد أكثر موضوعية في القرن التاسع عشر فبعض الأدلة ضده، مثل تواطئه في بعض الاغتيالات وإقراره اغتيال بعض رجال قبيلة يهودية، أمور تاريخية لا يمكن تكذيبها". فالموسوعة بعد أن تورد تنازلاً مراوغاً يرهف إليه سمع القارئ تذكر من الإجحاف ما قالت إنه شيء لا يحتفظ إلا بقليل من التأثير في الوقت الراهن. ومن مظاهر هذه اللغة العلمية أيضاً اعتماد لغة التحاشي hedging)) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وهي لغة يحاول بها الكاتب تحاشي التصريح بالحقائق, وإعطاء انطباعٍ بعدم الوضوح والتأكد، وتوظف هذه اللغة بالاعتماد على وسائل عدة منها صيغة المبني للمجهول مثل: يُقال، ويُعتقد، والقارئ لا يعرف من الذي يقول أو يعتقد أهو الكاتب نفسه أم أحد العلماء المتخصصين؟ وعبارات مثل: يبدو وربما، وصفات وتقديرات مثل: قليل، إلى حد بعيد، بشكل ما، وخلافها. ورغم أن هذه اللغة هي اللغة السائدة في المراكز الأكاديمية الغربية إذ تعد حجر زاوية في أي أطروحة دراسات عليا يراد أن يكتب لها تجاوز المناقشة بنجاح، إلا أن مجرد ذكر القول المُضعَّف يُرجِّحه على غيره دون التزام بما فيه من فكر، ومن مزايا لغة التحاشي أيضاً جعلها الكاتب يبدو أقل تسرعاً وأكثر روية في قراءة معطيات الواقع، وكذلك إعطاؤها انطباعاً بالتشكيك في الموضوع المطروح، وكل هذا يعتمد على الحالة الخاصة معرض الحديث وهذا ما سنناقشه في الموضوع التالي. وبالإضافة إلى هذا تتميز لغة الموسوعة البريطانية بالسهولة والسلاسة في صياغة الفكرة في عبارات يسهل تحليلها في ذهن القارئ وفهمها، بغض النظر عن مستواه الثقافي، فهي تستخدم الكلمات المتداولة وتتحاشى الألفاظ الغريبة والمتخصصة، وتتميز جمل مواد الموسوعة بالقصر إذ تشكل في جملتها وحدات معنوية ((semantic chunks مما يجعل القارئ ينخرط في القراءة ويتتبع الأفكار المطروحة دون تشويش. وهناك عدة وسائل لغوية أخرى توظفها الموسوعة في توجيه ذهن القارئ للخروج بقراءة معينة سنناقشها حين ورودها في الموضوع التالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ب- مادة محمد في الموسوعة البريطانية: تقع مادة "محمد: النبي ورسالته" في الجزء 22 من الموسوعة، في القسم الموسع تحت مدخل "محمد ودين الإسلام" تحت موضوع "الإسلام"، وكتبت المادة في الصفحات من 1 إلى 5 وهي صفحات من القطع الكبير كتبت فيها المادة بالحرف الصغير في عمودين، وعند سؤالي عن كاتب المادة ردَّ توم بانيلاس مدير العلاقات العامة بالموسوعة: - الكاتب الأساس لمادة محمد هو وليام مونتقمري وات، أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بجامعة أدنبرة بين عامي 1964-1979، مؤلف: "محمد: نبي ورجل دولة"؛ "مفكر مسلم: دراسة للغزالي"؛ والمحرر المشرف على "دراسات إسلامية" Islamic Surveys. ولكن حياة محمد وتركته التي تم التعرض لها أيضا في مقالتنا الطويلة ساهم فيها عدد من العلماء منهم: فضل الرحمن، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة شيكاغو بين عامي 1969-1988م، ومؤلف "الإسلام والآخرون". ومحسن س. مهدي، أستاذ اللغة العربية بجامعة هارفارد ومؤلف "فلسفة التاريخ عند ابن خلدون"، وآن ماري شيميل، أستاذة سابقة للثقافة الإسلامية-الهندية بجامعة هارفارد، ولها "جناح جبريل" (1) و"الخط الإسلامي" وغيرهما. وأوردت الموسوعة قائمة بالمراجع والمصادر التي استقت منها ما كتب في   (1) "جناح جبريل"، عنوان ديوان للشاعر الباكستاني محمد إقبال، وآن ماري شيميل قامت بترجمة الديوان إلى الإنجليزية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الموسوعة وهذه ترجمتها: - محمد. أعمال مرجعية: و. مونتقمري وات "محمد في مكة" (1953م) و"محمد في المدينة" (156، وأعيد طبعه في 1977م) ، وهما معالجة شاملة اختصرا في "محمد: نبي ورجل دولة" (1961م وأعيد إصداره في 1974م) بواسطة المؤلف؛ فرانتس بول "حياة محمد" الطبعة الثالثة وهو ترجمة ألمانية لعمل نشر بالدنمركية عام 1903م ولا يزال يعدّ موثوقاً به؛ تور أندريه "محمد: الرجل وعقيدته" ترجمة ثيوفل منسل (1936م، وأعيد طبعه في 1971م) ويهتم بالجوانب الدينية؛ ابن هشام "حياة محمد: ترجمة سيرة رسول الله لابن إسحق" [ترجمة الفريد جيّوم] (1955م وأعيد إصداره في 1967م) وهي السيرة العربية الأكثر أهمية؛ نابيا أبوت "عائشة: محبوبة محمد" (1942م وأعيد طبعه في 1937م) وهو عمل علمي رصين؛ جون باقوت كلوب "حياة محمد وزمانه" (1970م) وهو عمل ذو شعبية واسعة بني على معرفة المؤلف بالحياة العربية. المصادر الرئيسة: القرآن بطبيعة الحال يحتوي على مواد أساسية معاصرة عن محمد، ولكن من الصعب تقويمها دون معرفة تاريخية أوسع. المجموعات الكبيرة للأحاديث، أو ما يروى حول ما قاله محمد وما فعله، يثار حولها جدل تاريخي، وخلافاً لهذا فهي نادراً ما تعطي شيئاً ذا بال عن حياة محمد. والمصادر الرئيسة ذات القيمة التاريخية هي السير المبكرة (من القرنين الثامن والتاسع) وبخاصة سيرة ابن هشام، كما صاغها ابن إسحق ومغازي الواقدي، مع المواد المكملة التي سجلها زميله ابن سعد، وهذا يحتوي على مواد عن الصحابة وعن علاقة الرسول بهم وعمله معهم. وحفظت بعض الوثائق مع عهد محمد في السير المبكرة، وأهمها ما يطلق عليه ميثاق المدينة. وهو مدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 في ترجمة جيّوم لسيرة ابن إسحاق المذكورة آنفاً والوثائق الأخرى موجودة في كتاب وات "محمد في المدينة". وبقراءة سريعة فيما كتب تحت مادة "محمد: النبي ورسالته" يظهر اعتماد محرري الموسوعة المطلق على كتابات المستشرقين وبخاصة آراء مونتقمري وات، وهذا أمر سيلقي ظلاله على الطروحات الواردة في المادة خاصة إذا أخذنا في الحسبان أن الاستشراق هو وليد حركة الجدل التنصيري ضد الإسلام ونبيه، وأن ميلاده ونشأته في حضن اللاهوت النصراني والإيديولوجية الغربية، قد أخضع مناهج المستشرقين لتلك الإيديولوجية مما أدى إلى فساد قواعد البحث العلمي، والتغاضي عن المنهجية العلمية، وقلب أصول البحث العلمي رأساً على عقب، ووضع الافتراضات السابقة التي توجه عملية البحث (1) ، وهذا ما سنحاول الوقوف عليه في المحور الآتي.   (1) محمد خليفة حسن، أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر، ص 138. وعبد العظيم الديب، "المنهج عند المستشرقين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ثانيا: منهج مونتقمري وات في دراسة السيرة النبوية كتب وات في مقدمة كتابه Muhammad at Mecca أي "محمد في مكة" تعريفاً بمنهجه الذي اتبعه في دراسة السيرة النبوية، وأوضح أن دراسته موجهة أساسا إلى المؤرخين، وأنه حاول التزام الحياد في القضايا الخلافية، ويحاول وات طمأنة المسلمين إلى أنه قد حاول، مع التزامه بقواعد البحث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 التاريخي الغربية، ألا يقول شيئاً يقتضي رد مبدأ من مبادئ الإسلام الأساسية، ورغم هذا الادعاء يرسم الأستاذ عبد الله محمد النعيم (1) ملامح منهج وات ويفصّله وفقاً للنقاط التالية: القفز إلى نتيجة مفادها أن النبي صلى الله عليه وسلم تأثر بالبيئة من حوله وبأفكار ورقة بن نوفل والمسيحية واليهودية، وحاول وات جهده إظهار مواطن يزعم أنه انعكس فيها تأثر الرسول صلى الله عليه وسلم بما حوله على الإسلام؛ ليثبت أنه جاء به من تلقاء نفسه. يلقي وات بظلال المنهج العلماني التشكيكي الذي لا يؤمن بالغيب ولا بالمعجزات على السيرة النبوية، فهو ينكر حدوث أي شيء خارق للعادة مثل حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم وحدوث الوحي وغيرها من الآثار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول بشأنها: "إن هناك العديد من القصص ذات الطابع الديني يكاد يكون من المتيقَّن أنها ليست حقيقة من وجهة نظر المؤرخ العلماني الواقعية" (2) . يعمد وات إلى المنهج المادي، ويذكر أن المؤرخ أكثر إدراكا للعوامل المادية الكامنة وراء التاريخ، وبأن مؤرخ منتصف القرن العشرين سيثير أسئلة كثيرة عن الجذور الاقتصادية والاجتماعية والسياسة للحركة التي بدأها محمد، من غير أن يهمل أو يقلل من شأن الجوانب العقدية (3) ، ولذا نراه يعزو ظهور الدعوة إلى الحالة الاجتماعية والاقتصادية التي سادت في مجتمعه صلى الله عليه وسلم، ويفسر   (1) عبد الله محمد النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية، ص 38 – 47. (2) مونتقمري وات،Muhammad at Mecca، ص 33. (3) مونتقمري وات،Muhammad at Mecca، ص 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الغزوات الإسلامية من هذا المنطلق. يسقط وات الرؤية الغربية المعاصرة على أحداث السيرة، فنراه يطبق نظرية تدرج تطور الأديان أياً كانت على الدين الإسلامي حيث يتحدث عن توحيد غامض في بداية الدين الإسلامي ويتدرج ليصل إلى ما نعرفه اليوم. التشدد في اتباع منهج الإقصاء واعتماد الضعيف والشاذ، حيث يسرف وات في نفي الروايات الإسلامية إذ لا تكاد رواية إسلامية تنجو من تضعيفه لها دون إعطاء مسوّغ واضح لإقصاء هذه الرواية أو تلك، ونراه في المقابل يعتمد روايات ضعيفة وشاذة تحمل في طياتها التشكيك في دوافع وقائع السيرة وأهدافها؛ ليبين أنه موضوعي يعمد إلى المنطق دون الإيمان. الإكثار من منهج البناء والهدم، حيث لا تخلو بعض جوانب السيرة من الثناء في كتابات وات الذي سرعان ما يتبعه نقداً، فمثلاً نراه يسهب في الحديث عن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم ليقول إن من له مثل هذه الحكمة لم يكن ليدعو قيصر الروم وكسرى فارس للدخول في الإسلام ليلفت انتباههم بذلك إلى الخطر الذي يشكله على ملكهم (1) . ولكي تكتمل الصورة عن منهج وات، فيجدر بنا الحديث عن المصادر التي اعتمد عليها في دراسته للسيرة النبوية، حيث رجع إلى مصادر موثوقة مثل ابن هشام والطبري والواقدي وابن سعد، فأخذ منها ما اخذ ورد منها ما رد وشكك في كثير من الروايات الواردة فيها، وكذلك رجع إلى دراسات غلاة المستشرقين من أمثال ب. ?. لامانس وجوزيف شاخت وليون كاتياني   (1) مونتقمري وات، Muhammad at Medina، ص 41 - 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ورتشارد بي وتيودور نودلكه وبروكلمان، ويصل به التأثر ببعضهم إلى القول: "إن مخالفة قولد زيهر ليست بالأمر السهل" (1) . وبما أن الموسوعة البريطانية استكتبت وات ليشارك فيها بمادة "محمد: النبي ورسالته"، فليس من الغريب أن يؤثر منهجه فيما كتب في المادة وأن تعكس كثيرا من آرائه، وهذا ما سنحاول الوقوف عليه في المحور الآتي.   (1) مونتقمري وات،Muhammad at Mecca، ص 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ثالثا: قراءة مادة "محمد: النبي ورسالته" مدخل ... ثالثا: قراءة مادة "محمد: النبي ورسالته": كتبت المادة تحت العنوان التالي Muhammad: the Prophet and his message أي " محمد: النبي ورسالته"، ومن يعرف تاريخ تهجئة اسم نبينا الكريم عبر تاريخ الاستشراق يرى أن هذه التهجئة تسامت عن التحيز البائن الذي اتصفت به كتابات المستشرقين في الشطر الأول الطويل من تاريخ الاستشراق، فإنها حرِّفت عمداً في العصور الأوروبية الوسطى إلى Mohound التي كان من بين معانيها الشيطان وأمير الظلام (2) ، وكتبت تارة Mohomet وتارة Mahomet كما في كتاب فولتير الموغل في الإجحاف Mahomet أو "محمد" الذي نشر عام 1742، وفي الترجمة الفرنسية الأولى للقرآن الكريم التي أخذت عنها الترجمة الإنجليزية الأولى، وهي تهجئة تحاكي النطق التركي للكلمة – وإن كانت محرفة عنها –، ولا غرو فأوروبا كانت تعدّ الخطر العثماني الزاحف وخطر الإسلام أو المحمدية Mahometanism   (2) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص xi. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 كما أطلقوا هذا اللفظ على الدين احتقاراً (1) ، وهذا التحامل يظهر جلياً على غلاف أول ترجمة فرنسية-إنجليزية لمعاني القرآن الكريم، حيث كتب إن هذه الترجمة أعدت "لإرضاء كل من عنده الرغبة في معرفة زيف الأتراك"، بل وإنه حتى الطبعة الحادية عشرة من الموسوعة البريطانية التي تعد طبعة كلاسيكية، وأكثر طبعات الموسوعة شهرة كتب فيها اسم نبينا الكريم وفق التهجئة Mahomet وكيلت فيها الأكاذيب كيلاً. ومن يعرف هذا التاريخ يرى بأن تهجئة اسم نبينا الكريم في هذه المادة سليمة تتسامى عن تلك الأكاذيب واضحة التعسف والخطأ. ولكن هذه هي مزية الدراسات الاستشراقية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتحديداً عام 1840م، عندما ألقى رجل الدين الإنجليزي توماس كارلآيل سلسلة محاضرات بعنوان "عندما يكون البطل نبيا:"محمد والإسلام"؛ إذ شكلت نقطة تحول في الفكر الاستشراقي حيث كشف فيها كثيراً من الحقائق التي تتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام. والحقيقة هي أن النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهد نظرة جديدة إلى الإسلام ونبيه، ذلك أن عصر التنوير الأوروبي كان من جوانب عديدة متحرراً من النزعة اللاهوتية المعادية للإسلام، التي شجعتها الكنيسة في أوروبا، إلا أن النظرة الجديدة لم تأت خالية من التحيز والتحريف والتشويه المعهود، حيث أصبح المستشرقون يميلون إلى "صدق الرسول" ولكن قالوا بأن   (1) يناقش الدكتور جان جبور تطور نظرة الغرب للمسلمين من أعمال بارزة كشفت عن مختلف المراحل التاريخية التي مرت بها هذه النظرة عبر تاريخ لقاء الحضارتين في كتابه: النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الوحي الذي تلقاه كان من حديث النفس ومن الحيل النفسية التي خدع بها نفسه ليجابه محيطه الاجتماعي الذي ساءه جداً (1) . ويرى الدكتور عبد العظيم الديب واقع الاستشراق الحديث ليس فيه موضوعية ولا منهجية ولا استقامة "وإنما كان هذا التغير أو التطور في الأساليب ضرورة أملتها الظروف وواقع الحال، وكان لابد من تغيير الأساليب لتتلاءم وتتواءم مع المواطن الأوروبي المسيحي نفسه – المخاطب أصلاً بالدراسات الاستشراقية – فحيثما كان العصر عصر أمية وجهالة وهمجية كان يكفيهم أن يكتبوا لهم سباً وشتماً في الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وفي المسلمين، حتى يقبحوه ويشوهوه في أعينهم وينفروهم منه. وأما مع التطور والاستنارة ومعرفة هؤلاء الأوروبيين بالمسلمين والإسلام، نتيجة للاحتكاك في القتال والتجارة والانتقال فكان لابد من أن يغير هؤلاء أساليبهم، حتى تنطلي على عقول الأجيال الجديدة، وكان تغيير الأساليب يتلاءم ويتواءم مع درجة معرفة هؤلاء عن الإسلام والمسلمين" (2) . وإذا ما جمعنا الأفكار والآراء المعروضة في مادة محمد في الموسوعة البريطانية وربطنا بين أجزائها فإننا نخرج بتصور عام عن القضايا الرئيسة التي تركز عليها، والشبه والطعونات التي تسوقها. وقد اجتهدت في استخلاص هذه القضايا الكلية وأدرجت تحت كل واحدة منها ما يتصل بها مما ورد في المادة، وأود أن أؤكد هنا الأمور التالية:   (1) محمد مهر علي، and the Orientalists Sirat al-Nabî صلى الله عليه وسلم، ص viii. (2) عبد العظيم الديب، مرجع سابق، ص 346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 أولا: أهمية رجوع القارئ إلى المادة وقراءتها؛ ليكوِّن انطباعاً عاماً عمَّا كتب في المادة، إذ إن الأمثلة المستشهد بها مأخوذة من ذلك السياق. ثانياً: أني ركزت في مناقشتي هنا على القضايا والطعونات الأساسية التي تعد أفكاراً مركزية في الفكر الاستشراقي المعاصر والتي تكشف تعسفهم في التفسير والاستنتاج والخروج بالنتائج قبل تحليل الحقائق. ثالثاً: أن بعض الآراء المطروحة في المادة أهم من بعضها الآخر والتركيز عليها يكون أكبر في المادة، ولكن يظهر جلياً ترابط هذه الآراء وقيامها على القاعدة نفسها وسيرها في اتجاه واحد، أي أن نتائجها تعزز الفكرة نفسها التي يخرج بها قارئ المادة عن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ولا يناقض بعضها بعضاً. رابعاً: إذا كانت آراء مونتقمري وات والشبه التي يثيرها - وهو الكاتب الأساس لمادة "محمد: النبي ورسالته" التي أتناولها تحليلاً في هذا البحث -ذات علاقة توضيحية بما ورد في الموسوعة وتفيد في فهم الشبه المذكورة- أذكر آراءه وفقا لما تقتضيه هذه الحاجة؛ لأن ما يظهر في الموسوعة لا يعدو كونه رأس جبل الجليد الكامن تحت الماء، إذ إن الشبه التي تعرضها الموسوعة تناقش بشكل أوسع في كتابات وات، ونحتاج في مواضع إلى تنبيه القارئ لهذا الخطر. خامساً: إظهاراً للحق وجَلْواً للبس أقوم بالرد على هذه الشبه كلٍّ على حدة؛ متسلحاً في ذلك بردود عدد من الباحثين المسلمين (1) الذين درسوا هذه   (1) ومن الكتابات التي ناقشت آراء مونتقمري وات خاصة وغيره من المستشرقين: 1- محمد مهر علي، Sirat al-Nabi صلى الله عليه وسلم and the Orientalists. 2- عبد الله محمد النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية. 3- عبد الرحمن أحمد سالم، "قراءة نقدية في كتابات مونتقمري وات في السيرة النبوية". 4- جعفر شيخ إدريس، "منهج مونتقمري واط في دراسة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم". 5- عماد الدين خليل، "المستشرقون والسيرة النبوية: بحث مقارن في منهج المستشرق البريطاني المعاصر مونتقمري وات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الآراء، ومضيفا إليها ما فتح الله عليَّ به، والله نسأل التوفيق والسداد. سادساً: نظرا لتداخل الشبه وانطلاقها من السياق التفسيري نفسه لأحداث السيرة النبوية، فإن الردود عليها تكون في مواضع مترابطة فيما بينها، وعلى القارئ أخذ السياق العام للشبهة والرد في الحسبان. سابعاً: على القارئ ملاحظة أن الاقتباسات المأخوذة من الموسوعة تبدأ بالعلامة ? في متن البحث، وأورد الأصل في الحواشي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الشبهة الأولى: التشكيك في المصادر العربية ويورد د. فاروق عمر فوزي قول تور أندريه وهو يشكك في الثقة بالمعلومات التي وصلتنا عن محمد صلى الله عليه وسلم قائلاً: "لا نعرف بالضبط متى ولد محمد؟ وأكثر ما جاءنا عن حياته الأولى معلومات أسطورية" (ص 51) ، وتعليقاً على هذا يقول د. فاروق عمر فوزي: "وهكذا يفاجئ المؤرخ المتخصص بتاريخ الإسلام ... وبعد كل التقدم الذي حصل في تحقيق ونشر المخطوطات العربية وفي طريق البحث العلمي في التاريخ وفي تفسير التاريخ وفلسفته، يفاجئ المؤرخ بفرضيات وتفاسير تعود به إلى تصورات المبشرين المتطرفين في العصور الوسطى" (1) .   (1) فاروق عمر فوزي، الاستشراق والتاريخ الإسلامي، ص 51-52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ويجد هذا المنهج السقيم طريقه إلى الموسوعة في عدة أماكن ويظهر التشكيك في أمور نعدها من المسلمات، ومن أمثلة ذلك: *محمد (الاسم كاملا، أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم) ولد في مكة سنة 570م تقريباً بعد موت والده عبد الله (1) . *وفي حوالي 595م في إحدى هذه الرحلات كان مسؤولاً عن تجارة امرأة ثرية وهي خديجة من بني أسد، وبهرها لدرجة أنها عرضت عليه الزواج. ويقال إنها كانت في الأربعين، ولكنها ولدت لمحمد على الأقل ولدين ماتا صغيرين وأربع بنات وأشهرهن فاطمة زوجة ابن عم محمد، علي (2) . يقول وات: "بولغ كثيرا في عمر خديجة، وتذكر المصادر أسماء سبعة أطفال ولدت لمحمد، ولو كان الأمر كما يذكر ابن سعد أنها أنجبتهم على فترات منتظمة، مما يجعل عمرها ثمانية وأربعين قبل ولادة الطفل الأخير، وهذا ليس أمراً مستحيلا ولكنه من الغرابة بمكان بحيث يستحق الإشارة إليه، أنه أمر يمكن اعتباره معجزة" (3) . ورغم اعتراف وات بأن ولادة المرأة في سن الثامنة والأربعين "ليس أمراً مستحيلا" إلا أنه يلقي بظلال من الشك على هذا الاحتمال، ويقول: بأنه   (1) Muhammad: in full Abu al-Qasim Muhammad ibn 'Abd Allah ibn 'Abd al-Muttalib ibn Hashim born c., Mecca, after the death of his father, 'Abd Allah. (2) About , on such a journey, he was in charge of the merchandise of a rich woman, Khadijah of the clan of Asad, and so impressed her that she offered marriage. She is said to have been about , but she bore Muhammad at least two sons, who died young, and four daughters, of whom the best known was Fatimah, the wife of Muhammad's cousin 'Ali (3) مونتقمري وات، Muhammad at Mecca، ص 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 معجزة، وهذا ما يعرف بالتنازل المراوغ أو بمنهج البناء والهدم (1) ، وهو ليس إلا تلاعباً بالألفاظ وتدليساً كلامياً، فكم من امرأة ولدت بعد الخمسين، فإن كانت هذه "معجزة" في رأي وات فهي معجزة لا تستحق كثيرا من الاهتمام. *ويقال: إن المكيين خططوا لقتل محمد قبل أن يرحل (2) . *يستبعد وات محاولة اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم التي تعرض لها قبيل هجرته التي حيكت في دار الندوة، إذ يقول "ليس هناك شك في أن هذا الاجتماع قد عقد، وأن الحاضرين أدركوا أن محمداً يهيئ مشاريع معادية لهم، كما يقول ابن إسحق، وتوضح الحوادث التي وقعت فيما بعد أن النية لم تنعقد على قتل محمد ... ؛ لأن الاتفاق على ذلك لم يكن بالإجماع، ولربما كان قرب وقوع الخطر هو الذي عجل برحيل محمد، ومن الصعب التأكد من طبيعة الخطر الذي كان يهدد محمدا وأتباعه، فلقد أضيفت أشياء كثيرة على قصة الهجرة، حتى إن المصادر الأولى نفسها لم تخل من الإضافات، ولا يستبعد أن يكون محمد قد رُجِم في مكة بعد الاجتماع" (3) . يثير كلام وات هذا تساؤلات أكثر مما يجيب عنها: إذا كان يقطع جازما أن الاجتماع قد عقد، فلماذا عقد هذا الاجتماع؟ ثم لماذا يستبعد مشروع الاغتيال، بحجة أن هذا لا يتم في اجتماع؟ ألا يتم اتفاق كهذا في اجتماع   (1) عبد الله محمد النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية، 45 – 47. (2) The Meccans are said to have plotted to kill Muhammad before he could leave. (3) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص 273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 للملأ من أهل مكة؟ لقد أخبرنا العزيز الحكيم بما تم فعلا في هذا الاجتماع في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ( [الأنفال: 30] ، وإذا كان يعترف بأن هناك خطراً يهدد محمداً صلى الله عليه وسلم وأتباعه، فما هو هذا الخطر؟ ولماذا لا يكون الخطر هو محاولة الاغتيال؟ وكيف يفترض احتمال رجم محمد صلى الله عليه وسلم دون دليل؟ أو يشكك وات في المصادر الأولى بحجة أنها "لم تخل من الإضافات" ثم يأتي باحتمال لا نعرف من أين أتى به؛ ليوهم القارئ بأنه لم شتات ما بَعثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الشبهة الثانية: التشكيك في نزول الوحي يزعم المستشرقون أن الوحي إنما هو استشعار داخلي ولكنه صادق، فهم لا يشككون بصدق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة، ولكنهم يظنون إنما هو استشعار داخلي وقناعة ذاتية دون أن يكون هناك شيء خارجي اسمه الوحي (1) ، وأن كلمة "الوحي" لا تعني تلقي النص من الله سبحانه وتعالى بل تعني اقتراحاً أو إشارة suggestion أو تكلم ذهني intellectual locution. وفي حوالي 610م بينما كان يتدبر في أمور كهذه تراءى لمحمد مخلوق ذو أبهة (قيل فيما بعد إنه الملك جبريل) وسمع صوتا يقول له: "أنت رسول الإله". وشكلت هذه بداية مهنته رسولاً من الإله ( [بالعربية] رسول الله) أو نبياً. ومن وقت لآخر تلقى، على فترات متتابعة، حتى موته "وحياً"،   (1) أكرم ضياء العمري، "موقف الاستشراق من السنة والسيرة النبوية"، ص 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 أي رسائل كلامية اعتقد أنها أتت مباشرة من الرب. وأحياناً بقيت هذه في ذاكرة محمد وأصحابه وأحياناً كتبت. وفي حوالي 650م جمعت وكتبت في القرآن (أو Koran كتاب الإسلام المقدس) في الصيغة التي بين أيدينا. ويؤمن [يعتقد] المسلمون بأن القرآن وحي إلهي كتب من كلام الرب نفسه (1) . ونلاحظ في هذا الاقتباس الذي تفوح منه رائحة التشكيك أن كلمة "وحي" حصرت بين فاصلتين معقوفتين قبلها ومثلها بعدها أي ركِّنت. وهذه سنة متبعة في كتابات من يشككون في الوحي ممن ذكرنا آنفا يقصد بها التشكيك فيما بين الفواصل وتأكيده دون سواه في السياق الذي يرد فيه (2) . ويخرج وات بهذه النتيجة من خلال تأثره بأقوال سابقيه وبفهمهم الخاطئ لمعنى كلمة وحي، فهم يقصرون معناه على حديث النفس للنفس ويزعمون بأن مصدره هو "اللاوعي الجماعي، الذي هو مصدر كل وحي ديني" (3) ، وعملاً بمنهجهم في اختلاق النتائج ولي أعناق الوقائع التاريخية وتقطيع أوصالها   (1) About , as he reflected on such matters, Muhammad had a vision of a majestic being (later identified with the angel Gabriel) and heard a voice saying to him, “You are the Messenger of God.” This marked the beginning of his career as messenger (or apostle) of God (rasul Allah) , or Prophet (nabi) . From this time, at frequent intervals until his death, he received “revelations” — that is, verbal messages that he believed came directly from God. Sometimes these were kept in memory by Muhammad and his followers, and sometimes they were written down. About they were collected and written in the Qur’an (or Koran, the sacred scriptures of Islam) , in the form that has endured. Muslims believe the Qur’an is divine revelation, written in the words of God himself. (2) لمناقشة مستفيضة لفكرة "التركين" bracketing ووظائفها المختلفة انظر: وليد بليهش العمري، Social Semiotics for Translation Studies، ص 97- 101. (3) مونتقمري وات، Muhammad at Medina، ص 325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 للتوافق مع هذه النتائج، أوّلوا آي الكتاب وبخاصة الآيات 1-12 من سورة النجم، والآيات 22-28 من سورة التكوير، التي تتحدث عن إلقاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقائه جبريل عليه السلام، حيث يقول وات: إن عدم ذكر اسم الملك يشكك في رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم له! ثم بعد ذلك يناقش باستفاضة أن كلمة "أوحى" تعني "اقترح"، ويستقرئ الروايات الإسلامية في ضوء هذا الزعم. وإذا كان وات يرى هذا فما باله بقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ( [الدخان:3] ، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر} [القدر:1] ، وقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] ، فهل كلمة أنزل تعني اقترح أيضا؟ وماذا سيقول وات وغيره من المستشرقين في آيات الإعجاز التي تشهد يوما بعد يوم أن القرآن ليس من عند رسول أمي عاش قبل ألف وأربعمائة سنة، فهل من حديث النفس للنفس أن ينزل الله سبحانه وتعالى وصفاً دقيقاً لمراحل نمو الجنين لم تهتد إلى مثل دقته البشرية بكل ما أوتيت من أنواع المعارف إلا في القرن التاسع عشر؟ وما رأي وات في المظاهر الحسية -التي ذكرتها الروايات المتواترة المنقولة عمن عاصروه صلى الله عليه وسلم - من تفصُّد جبينه عرقاً في اليوم الشديد البرد، ومن ثقله الشديد الذي لا يحتمله بشر عادي أثناء نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم؟ ومن ذلك ما رواه البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه عندما كان فخذه تحت فخذ رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 صلى الله عليه وسلم ونزل الوحي عليه وهم على حالهم تلك فوجد زيد ما وجد من الشدة حتى خاف أن تُرَضّ فخذه، وهل هذه المظاهر الحسية أيضا من حديث النفس للنفس؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الشبهة الثالثة: التفسير المادي لوقائع السيرة يرى وات أن النمو التجاري وتدفق الثروة كان لهما أثر سلبي على قيم الرحمة والكرم في المجتمع المكي مما انعكس على تصدع اللحمة القبلية، وكانت الحاجة ملحة للموافقة بين الازدهار المادي والنظام الأخلاقي الروحي البدائي الذي كان سائدا في المجتمع، ولتحقيق هذا الهدف تصور محمد صلى الله عليه وسلم حلاًّ دينياً للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، ولذا يقول إن: "إعلان الدين الجديد جاء رداً على مرض العصر الذي سببه التطور الذي انتقل بالمجتمع المكي من حياة البداوة إلى اقتصاد حضري" (1) . وتجد هذه الآراء طريقها إلى الموسوعة في الموضوع الفرعي التالي: الدعوة النبوية والنشاطات الدينية المبكرة. يبدو أن محمداً كان يمر بمرحلة من المزاج التأملي ويقال: إنه تبنى عادة قضاء الليالي في فترات متفرقة في غار في جبل في مكة. ولاشك في أن الفقر والنوازل في حياته المبكرة جعلته مدركاً للتوترات في المجتمع المكي. فمكة التي تقطنها قبيلة قريش التي ينتمي إليها بنو هاشم كانت مركزاً تجارياً بنيت حول ملاذ محرم وهو الكعبة التي ضمنت أمن من يأتون للتجارة في الأسواق. وفي أواخر القرن السادس   (1) مونتقمري وات، Muhammad at Mecca، ص 16-24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 نشطت التجارة بقوافل الجمال بين اليمن ومنطقة البحر المتوسط (غزة ودمشق) ، وجلبت البضائع من الهند وإثيوبيا إلى البحر المتوسط، وفرض كبار تجار مكة احتكاراً على هذه التجارة. ولهذا كانت مكة مزدهرة ولكن أغلب الثروة كانت في يد أقلية. ونتيجة لهذا تصدعت اللحمة القبلية فقد سعى التجار وراء مصالحهم الشخصية وأهملوا واجباتهم التقليدية نحو من هم أقل حظوظاً. وفي حوالي سنة 610م بينما كان يتدبر في أمور كهذه تراءى لمحمد مخلوق ذو أبهة (قيل فيما بعد إنه الملك جبريل) وسمع صوتا يقول له: "أنت رسول الإله". وشكلت هذه بداية مهنته رسولاً من الإله ( [بالعربية] رسول الله) أو نبياً (1) . نحن لا ننكر وجود بعض أفراد في قريش استأثروا برؤوس الأموال دون غيرهم، واستحوذ عليهم الجشع حتى صاغوا من واقع مجتمعهم ومعاملاتهم المعيشية ما صاغوا وفقاً لما تقتضيه المصالح الاقتصاديةنهم أنهم صاغوا واقعه, وأن المجتمع المكي كان   (1) Prophetic call and early religious activity: Muhammad appears to have been of a reflective turn of mind and is said to have adopted the habit of occasionally spending nights in a hill cave near Mecca. The poverty and misfortunes of his early life doubtless made him aware of tensions in Meccan society. Mecca, inhabited by the tribe of Quraysh (Koreish) , to which the Hashim clan belonged, was a mercantile centre formed around a sanctuary, the Ka'bah (Kaaba) , which assured the safety of those who came to trade at the fairs. In the later 6th century there was extensive trade by camel caravan between the Yemen and the Mediterranean region (Gaza and Damascus) , bringing goods from India and Ethiopia to the Mediterranean; and the great merchants of Mecca had obtained monopoly control of this trade. Mecca was thus prosperous, but most of the wealth was in a few hands. Tribal solidarity was breaking up; merchants pursued individual interests and disregarded their traditional duties to the unfortunate. About, as he reflected on such matters, Muhammad had a vision of a majestic being (later identified with the angel Gabriel) and heard a voice saying to him, “You are the Messenger of God.” This marked the beginning of his career as messenger (or apostle) of God (rasul Allah) , or Prophet (nabi) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فيه من الدنايا ما فيه، إلا أن اختزال رسالة محمد صلى الله عليه وسلم في برنامج ضيق للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي لضمان حق المستضعفين في توزيع الثروة، والقفز إلى هذه النتيجة، تفسير تلفيقي للأمور يقوم على فرضية أن هذا الدين مختلق وأن الوحي أتى من داخل النبي وهو أمر رددنا عليه في الشبهة الثانية، وإثبات أن الوحي من عند الله سبحانه وتعالى هو إثبات أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يأت به من تلقاء نفسه. إن أسباب إعلان الدين الجديد معروفة، فمنها: قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} يس: 6] ؛ وقول الحق سبحانه وتعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3] ، ويقول ابن كثير: "بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم في حين فترة من الرسل وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، فقد كان العرب متمسكين بدين إبراهيم الخليل، فبدلوه وغيروه واستبدلوا بالتوحيد شركا وباليقين شكاً، وابتدعوا أشياء لم يأذن الله بها ... فبعث الله محمداً بشرع عظيم شامل كامل في الهداية والبيان لكل ما يحتاج إليه الناس من أمر معاشهم ومعادهم" (1) .   (1) ابن كثير، السيرة النبوية، 1/478. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الشبهة الرابعة: دعوى تأثر الإسلام بالبيئة الوثنية يتحدث وات عن بداية الإسلام بتوحيد غامض لم يتضح إلا فيما بعد، ويقول إن: "الأجزاء الأقدم في القرآن لا تحتوي على أي هجوم على الوثنية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 بل كانت تقول بوجود توحيد غامض (vague monotheism) عند أتباع محمد، ثم أخذ الإلحاح يشتد على وجود إله واحد مع اشتداد النقد لعبادة الأصنام" (1) ، ويدعي أن التوحيد: "لم يكن في الأصل واضح المعالم وبخاصة لم يُبت في أمر اعتبار الكائنات الأقل أهمية [الأصنام] لا تتفق معه تماماً (2) ، ويقول وات بتدرج تطور التوحيد. واستقراء وات هنا ليس إلا إسقاطاً للنظرة الغربية فيما يتعلق بتطور الأديان على وقائع الدعوة المحمدية، وإيهاماً بأن الرسول لم يكن يدرك حقيقة أبعاد دعوته صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه. وإذا كان القرآن لم يحاول مهاجمة الوثنية على حد زعمه فماذا عن سورة "الكافرون"، وماذا تعني الآيات: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ, أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 4-5] {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء: 36] ، أليس فيها دليل على وقوع خلاف بين محمد صلى الله عليه وسلم والمشركين حول مفهوم التوحيد ووجوب عبادة الله وحده دون إشراك، ثم ماذا عن سورة الإخلاص، وما فيها من تكريس لهذا المفهوم ونفي مطلق للشرك؟ لقد كانت الفكرة الجوهرية للدعوة الإسلامية منذ البداية هي عقيدة   (1) مونتقمري وات، Muhammad at Mecca، ص 63. (2) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 التوحيد وهي عقيدة لم تنشأ تدريجياً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أصر في أوائل الرسالة على "لا إله إلا الله" وقريش تساومه (1) . والتصديق بهذه النظرة المنحرفة يظهر في الموسوعة في مواضع منها: واعتقد بعضهم أن الله "إله أعلى" يفوق الآلهة الأقل مكانة (2) . ولم يلبث أن جمع حوله أصدقاء متعاطفين قبلوا دعواه بأنه نبي وصحبوه في العبادات والصلوات الجامعة. ونتجت هذه عن فعل سجود يلمسون فيه الأرض بجباههم اعترافاً بعظمة الرب - لا يزال هذا العمل عظيماً في العبادة الإسلامية (3) . وتنعكس هذه النظرة المنحرفة أيضاً في تأكيد أهمية الكعبة؛ لكونها معلماً وثنياً مقدساً مما جعلها عظيمة في الإسلام: ويُرجَّح أنهم أحياناً تعبدوا معاً في الكعبة وهي مكان عبادة لعبدة الأصنام من العرب (4) . وتُؤكد سور القرآن المبكرة الموحاة إلى محمد خيرية وقوة الرب كما ترى في الطبيعة وفي رفاهية المكيين وتدعو هؤلاء إلى الامتنان إلى "رب الكعبة"،   (1) ابن كثير، السيرة النبوية، ص 124. (2) Some men regarded Allah as a “high god” who stood above lesser deities. (3) Soon he gathered some sympathetic friends who accepted his claim to be a prophet and joined him in common worship and prayers. These culminated in an act of prostration in which they touched the ground with their foreheads in acknowledgment of God's majesty—still a cardinal act in Islamic worship. (4) It is probable that they sometimes worshipped together in the Ka’bah, a sanctuary of the Arab pagans. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الذي عرف على أنه الرب (1) . ويُقترح في بعض الأحيان أن السبب الرئيس وراء المعارضة هو خوف التجار من أن الدين الجديد لن يعترف بالكعبة مكاناً مقدساً، ولكن هذا الاقتراح بعيد عن الواقع. لقد كان هناك بالتأكيد هجوم على الأصنام ظهر في القرآن، وبدأ الإسلام يُنتقد لتمسكه بأنه "لا إله إلا الله"، ولكن لم يكن هناك هجومٌ على الكعبة، والأصنام المذكورة كان لها معابدها الرئيسة في أماكن أخرى (2) . في صيف عام 621م أعلن اثنا عشر رجلاً من المدينة خلال زيارتهم لمكة من أجل الحج السنوي إلى الكعبة (التي كانت لم تزل معبداً وثنياً) إسلامهم سراً وعادوا للدعاية له في المدينة (3) . والتاريخ يشهد أن الكعبة كانت معلماً توحيدياً رفع قواعدها إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ, رَبَّنَا   (1) The earliest passages of the Qur’an revealed to Muhammad emphasize the goodness and power of God as seen in nature and in the prosperity of the Meccans and call on the latter to be grateful and to worship “the Lord of the Ka’bah,” who is thus identified with God. (2) It is sometimes suggested that the main reason for opposition was the merchants’ fear that the new religion would destroy the recognition of the Ka’bah as a sanctuary, but this is unlikely. Certainly attacks on idols appeared in the Qur'an, and Islam began to be characterized by the insistence that “there is no god but God” (Allah) , but no attack was made on the Ka’bah, and the idols mentioned had their chief shrines elsewhere. (3) In the summer of , men from Medina, visiting Mecca for the annual pilgrimage to the Ka’bah (still a pagan shrine) , secretly professed themselves Muslims to Muhammad and went back to make propaganda for him at Medina. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 127-128] ، وأن قريشاً كانت تفتخر بدين أبيها إبراهيم، وإنما كانت الكعبة مقدسة عند العرب خلال فترة الوثنية لعلمهم بقداستها من عند الله سبحانه وتعالى، ولم ينكروا وجوده وإنما أتوا بالأصنام في الكعبة وحولها؛ جهلاً منهم وتلبيساً للشيطان عليهم تقرباً لله بها وتشفعاً عنده {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] . ولكن يظهر أن الموسوعة ومن ورائها وات، وهو من درس تاريخ العرب قبل الإسلام، لم يلفت نظر القارئ إلى هذه الحقيقة التاريخية الكبيرة ليجزِّئ تاريخ مكة ويبدأه من عصر الجاهلية ومن ثم يبين أن هذه هي الركيزة والأرضية الثقافية التي قام عليها الإسلام، وهذه مبالغة في بتر أطراف التاريخ لينساق عاجزاً في الطريق التي أرادوا، إنما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم أتت لتطهير هذا البيت من الأوثان والشرك للطائفين والعاكفين والركع السجود من جديد (1) .   (1) سأنبه على لفظ (الدعاية = Propaganda) الوارد في نهاية هذه الشبهة في ص 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الشيهة الخامسة: دعوى خصوصية الإسلام للعرب ... الشبهة الخامسة: دعوى خصوصية الإسلام للعرب يذكر وات ما يفيد أن الدعوة المحمدية كانت خاصة بقريش والعرب: "اعتبر محمد نفسه أول الأمر مرسلاً إلى قومه من القرشيين، ثم أخذ شيئا فشيئاً وبدرجات لا تبدو بوضوح في القرآن يتراءى له هدف أوسع لرسالته" (2) ، ويزيد: "نحن نعتقد بأن محمداً بعد عودته من الطائف أخذ يدعو أفراد القبائل   (1) سأنبه على لفظ (الدعاية = Propaganda) الوارد في نهاية هذه الشبهة في ص 63. (2) مونتقمري وات، Muhammad at Mecca، ص 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 البدوية للدخول في الإسلام، وأن وراء هذا النشاط فكرة غامضة عن توحيد العرب جميعاً" (1) . جانب وات الصواب لأنه تجاهل الروايات الإسلامية، التي أوضحت مراحل تطور الدعوة وهي: "النبوة، ثم إنذار عشيرته الأقربين، ثم إنذار قومه، وهم القرشيون، ثم إنذار قوم ما أتاهم من نذير وهم العرب قاطبة، والمرتبة الخامسة إنذار جميع من بلغته الدعوة من الجن والإنس إلى يوم القيامة" (2) ، وهي مراتب ذكرت بوضوح تام في القرآن خلافاً لما يزعم وات {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشورى: 7] ؛ وعالمية الدعوة تظهر جليا في الآي {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [سبأ: 28] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأنبياء:107] ؛ وغيرها من السور المكية الدالة على عالمية الرسالة المحمدية (3) ، فعالمية الدعوة إذا كانت موجودة منذ البداية وأمر بَدَهِيّ ألا تتضح حقيقة معاشة على الواقع إلا بعد أن مكّن الله لدينه في الأرض، فلا يعقل أن يدعو محمد صلى الله عليه وسلم كسرى للإسلام قبل أن يدعو أعمامه. وتعكس الموسوعة هذه الآراء الفاسدة في مواضع:   (1) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص 141. (2) ابن القيم، زاد المعاد، 1/20. (3) انظر الآيات: الأنعام: 90، يوسف: 104؛ الفرقان: 1، القلم: 52، التكوير: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 .. وظن بالرؤية العظيمة الأولى وتلقيه للرسائل أنه فوِّض لنقلها إلى مواطنيه ولغيرهم من العرب (1) . ... وبدلا من تقديم التنازلات لليهود بغية الحصول على اعترافهم بنبوته، أكد خصوصية الصفة العربية للدين الإسلامي (2) . وفي حياته كوَّن اتحاداً للقبائل العربية الذي هزم الإمبراطوريتين الرومية والفارسية في أقل من عشرين عاماً بعد موته واستولى على مساحات وتطورت فيما بعد إلى الإمبراطورية العربية أو الإسلامية. وجعل من الإسلام أساسا لوحدة العرب (3) .   (1) … [he came to] believe that by the first great vision and by the receipt of the messages he was commissioned to communicate them to his fellow citizens and other Arabs. (2) … instead of making concessions to the Jews in the hope of gaining recognition of his prophethood, he asserted the specifically Arabian character of the Islamic religion. (3) In his lifetime he created a federation of Arab tribes, which, in less than years after his death, defeated the Byzantine and Persian empires, occupied a vast territory from Libya to Persia, and then developed into the Arab, or Islamic, Empire. He made the religion of Islam the basis of Arab unity. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الشبهة السادسة: دعوى أن نبوغ الرسول السياسي وهمته العالية ساعدا على نشر دينه أكثر من كونه نبياً مؤيداً ادعى المستشرقون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان شخصاً طموحاً نزع إلى السلطة، فهم يقولون إنه منذ حداثة سنه أعد للدور الذي تبوأه لاحقاً. ويلمح إلى هذا وات في كتابه "محمد: نبي ورجل دولة" بل ويجعله أساساً يستند إليه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 تفسيره لكثير من وقائع السيرة، ويعزو له النجاح الباهر الذي حققته الرسالة المحمدية. ولاشك في أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أكمل الناس في كل شيء، ومن بين ذلك توقد الذهن وسداد الرأي، ولكن من المبالغة بمكان أن نعزو نجاح الرسالة المحمدية الباهر إلى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ونغفل التأييد والإلهام الإلهي، ومن جموح الفكر أن نسرح به بعيداً ونضفي بعداً مادياً صرفاً على وقائع السيرة ومن ثم نعود عليها ونقرؤها من وجهة نظر أحادية، كل هذا من أجل أن نرد الأمور كلها إلى منطلق زائف وهو أن هذا الدين هو من عند محمد وليس من عند الله. فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم مجرد رجل سياسة نابغ طموح لماذا لم يظهر كل هذا الطموح إلا بعد انقضاء أربعين عاماً من عمره، أوليس الطموح والنزوع إلى السلطة تظهران في ريعان الشباب؟ وهو الذي لم يذكر لنا أحد أنه تبوأ منصباً قيادياً في قريش قط. بل إنه لحكمة أرادها علام الغيوب سبحانه وتعالى انتهج خطا هادئاً بين رعي الأغنام والتجارة والتحنث، يقول الله سبحانه وتعالى واصفاً حال نبيه الكريم في بداية دعوته {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} [الفرقان: 41] ، ترى هل كانت قريش لتسخر منه صلى الله عليه وسلم لو علمت أنه كان فيه نزوع للسلطة ورغبة في قيادتها وخبروا ذلك فيه وعاصروه، نعم كان في محمد صلى الله عليه وسلم طاقات كامنة ما كانت لتتفجر إلا بعد أن اصطفاه رب العالمين سبحانه وتعالى بالرسالة وآزره بتأييده مما أدى إلى ظهورها على أكثر من صعيد وموقف، يقول تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ومن المواضع التي تلمح إلى هذا المنطق في الموسوعة، التالي: وانسلخ مع كبير ضباطه دون أن يحسوا به، وسلك طرقاً غير مطروقة، ووصل بسلام إلى المدينة في يوم 24 سبتمبر عام 622م (1) . *وصفُ أبي بكر هنا بـ "كبير الضباط" لم يأت عفو الخاطر، بل يرى وات أن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة بعدما هاجر عدد كبير من المسلمين إليها ليوفروا له الحماية عند قدومه إليها من الاعتداءات، ويقللوا من اعتماده على المدنيين (2) . *أضعف [نصر المسلمين ببدر] أخطر معارضيه هناك المنافق أو المسلم لسانا عبد الله بن أبي الذي تحالف مع اليهود المحليين. وبقية المترددين من العرب ربما أسلموا في ذلك الوقت، ولهذا عزز نصر بدر من قوة محمد. وفي الوقت نفسه استخدم علاقات الزواج ليزيد من ترابط المهاجرين (3) . الفوز بالمكيين. وبُعْد نظر محمد كرجل دولة بدا جليا في السياسات التي تبناها بعد ذلك. كان بوسعه التقدم للقضاء على المكيين-وهو قام بالفعل بممارسة الضغط الاقتصادي عليهم- ولكن غرضه الرئيس كان الفوز باتباعهم   (1) With his chief lieutenant he slipped away unperceived, used unfrequented paths, and reached Medina safely on September, (2) انظر محمد مهر علي، Sirat al-Nabi صلى الله عليه وسلم and the Orientalists، ص 921-923. (3) This weakened his most serious opponent there, the “hypocrite” (munafiq) , or nominal Muslim, 'Abd Allah ibn Ubayy, who was allied with the local Jews. The remaining waverers among the Arabs probably became Muslims about this time. Thus the victory of Badr greatly strengthened Muhammad. At the same time he was using marriage relationships to bring greater cohesion to the emigrants. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الإسلام طواعية (1) . *السنوات الأخيرة: توحيد جزيرة العرب. منذ الهجرة بدأ محمد في تأليف أحلاف مع القبائل البدوية. وفي بداية الأمر ربما كانت هذه معاهدات عدم اعتداء، ولكن عندما أصبح قوياً بقدر كاف بدأ بعرض حمايته عليهم شريطة أن تصبح القبيلة مسلمة (2) . *واستفاد محمد من هزيمة إمبراطورية فارس من قبل الإمبراطورية الرومية (النصرانية) (627-628م) ؛ لأن الأقليات في اليمن وفي أماكن على الخليج العربي -التي كانت معتمدة على الدعم الفارسي ضد الإمبراطورية الرومانية- وجهت أنظارها تلقاء محمد (3) . وكل هذه استنتاجات من كاتب المادة، ولا دليل عليها من واقع أو تاريخ.   (1) The winning of the Meccans: Muhammad’s farsightedness as a statesman is manifest in the policies he next adopted. He might have proceeded to crush the Meccans, and he indeed put economic pressure on them; but his main aim was to gain their willing adherence to Islam. (2) The closing years: the unification of Arabia: Ever since the hijrah, Muhammad had been forming alliances with nomadic tribes. At first these were probably nonaggression pacts, but, when he was strong enough to offer protection, he made it a condition of alliance that the tribe should become Muslim. (3) Muhammad benefitted from the defeat of the Persian Empire by the Byzantine (Christian) Empire () , for, in the Yemen and in places on the Persian Gulf, minorities that had relied on Persian support against Byzantium now turned to Muhammad instead. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الشبهة السابعة: التشكيك في طبيعة علاقة الرسول مع الأنصار لمونتقمري وات آراء كثيرة حول حقيقة العلاقة بين الرسول صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 والأنصار (1) ، ولكن ما ينعكس منها على الموسوعة هو الإيحاء بأن الأنصار حين قبلوا محمدا رسولا، وحين نظموا مجيئه إلى المدينة لم يعترفوا له صراحة بحقه في أن يحكم بينهم، وأن محمداً [صلى الله عليه وسلم] اكتفى بأن ينظر إليه على أنه رسول، ولم يطالب بأي امتياز آخر، وأن الطاعة لم تكن واجبة صراحة في الصحيفة التي عرفت فيما بعد بدستور المدينة. هذا ادعاء زائف غير مدعوم بالوقائع لا يلبث أن ينقشع أمام حقائق التاريخ، فإذا ما رجعنا إلى البنود الستة لبيعة العقبة الأولى بين الأنصار والرسول صلى الله عليه وسلم وجدنا من بينها ما ينص على الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم دون حصر الطاعة في أي إطار سواء أكان دينيا أم سياسيا، فهي طاعة مطلقة، وكذلك أكدت بيعة العقبة الثانية هذا، وزادت النصرة التامة في جميع الظروف، فكيف يسوغ الزعم بأن الأنصار لم يدينوا للرسول صلى الله عليه وسلم سياسياً إذا كانت الطاعة غير المشروطة بنداً ثابتاً في البيعتين؟ وماذا تعني "الطاعة التامة" في نظر وات؟ (2) وشدة إعجاب الأنصار بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وتصورهم لمكانته القيادية تظهر في قولهم له عندما دعاهم إلى الإسلام: "إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعز منك" (3) .   (1) مونقمري وات، Muhammad at Medina، ص 228 - 238. (2) تاريخ الطبري، 2/356 – 363. (3) الطبري، المرجع السابق، 2/354. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ولم تتأثر شخصية القائد عند وضع صحيفة المدينة والاتفاق عليها فهي تنص على أن: "ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يُخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله" (1) ، فالخلافات الجسيمة التي يخشى من فسادها على المجتمع ترد إلى شخص واحد، ألا يعني هذا أن هذا الشخص الذي يرجعون إليه في أمورهم هو قائد "أهل هذه الصحيفة" الذين هم أهل المدينة كافة؟ وقبيل غزوة بدر أتى رد سعد بن معاذ رضي الله عنه يؤكد ولاء الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال على الملأ: "قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة فامض بنا يا رسول الله لما أردت فنحن معك، والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله أن يريك ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله" (2) ، أوليس هذا بياناً بتسليم مقاليد السلطة للرسول صلى الله عليه وسلم من أحد سادات الأنصار تكلم فيه باسمهم جميعاً على رؤوس الأشهاد؟ ثم ماذا يعني أن يجيش الرسول صلى الله عليه وسلم الجيوش ويرسل السرايا ويعين عليها القادة والأمراء، ألا يعدُّ هذا تعريفاً عملياً للقائد؟ ويجد هذا الرأي طريقه إلى الموسوعة البريطانية كما يظهر جلياً فيما يأتي:   (1) الطبري، المرجع السابق، 1/122 – 123. (2) ابن هشام، سيرة النبي، 2/253 – 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وحفظت وثيقة تعرف بميثاق المدينة ... ولكن منصوصاتها العامة هي إلى مدى بعيد ما اتفق عليه محمد ومسلمو المدينة. وبصيغتها تؤلف الوثيقة حلفاً على غرار ما عرفه العرب بين تسع مجموعات - ثماني قبائل عربية، إضافة إلى مهاجري مكة. ولم يعط محمد سلطة خاصة عدا أن الديباجة تقول إن الاتفاق تم بين "النبي محمد" والمسلمين الذين يقطنون المدينة، وتنص على أن الخلافات الحادة يجب أن يرجعوا فيها إليه. ورفضت الجماعات اليهودية الاعتراف بمحمد نبياً، ويظهرون في الوثيقة تابعين لأحلافهم مع القبائل العربية. ولخمسة أعوام على الأقل لم يكن لمحمد سلطة مباشرة على القبائل العربية، ولكن في أواخر سني عمره أضفى عليه مجد نجاحاته العسكرية ما يشبه السلطة الشمولية (1) .   (1) A document has been preserved known as the Constitution of Medina … but its main provisions are almost certainly those originally agreed upon between Muhammad and the Muslims of Medina. In form the document creates a confederation on traditional Arab lines among nine groups-eight Arab clans and the emigrants from Mecca. Muhammad is given no special position of authority, except that the preamble speaks of the agreement as made between “Muhammad the prophet” and the Muslims now resident in Medina, and it is stated that serious disputes are to be referred to him. The Jewish groups had refused to acknowledge Muhammad as prophet and in the document appear in a secondary character as attached to various Arab clans. For at least five years, Muhammad had no direct authority over members of other clans, but, in the closing years of his life, the prestige of his military successes gave him almost autocratic power. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الشبهة الثامنة: دعوى اضطهاد الرسول لليهود الفاعلين في المجتمع المددني ... الشبهة الثامنة: دعوى اضطهاد الرسول لليهود الفاعلين في المجتمع المدني يرى وات أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة كان حريصاً على أن يظفر بتأييد اليهود، حتى لا ينهار البنيان الفكري الذي قامت عليه رسالته، فقد كان يؤكد في البداية أن رسالته متطابقة مع الرسالات السابقة، ومن هنا كان مستعداً لأن يسمح لليهود بالبقاء على دينهم إذا اعترفوا به نبياً كأنبيائهم، فلما أصر اليهود على موقفهم من عدم الاعتراف بنبوته وأخذوا يبرزون الفروق بين اليهودية والإسلام هاجمهم الرسول واتهمهم بالتحريف وادعى أنه على دين إبراهيم (1) . وخطأ وات -وغيره من المستشرقين وعلى رأسهم بروكلمان (2) - الأساس يتمثل في نظرتهم القاصرة إلى الأديان، فهم يدرسونها على أنها منفصلة عن بعضها، وهذا في حد ذاته من الأخطاء المنهجية؛ ذلك لأن الأديان السماوية مصدرها في الأصل واحد وهي رغم ما اعترى اليهودية والمسيحية من تحريف تلتقي في عدد من تعاليمها، ويقول الحق سبحانه وتعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 13] ، فكل ما جاء به الرسل من عند الله فهو متحد المصدر، ونبينا الكريم عندما اختاره الله سبحانه وتعالى لتبليغ الرسالة الخاتمة جاء بالدين الصحيح وهو ما دعا إليه من   (1) مونتقمري وات، Muhammad at Medina، ص 303 – 304. (2) كارل بروكلمان، History of the Islamic People، ص 22-36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 سبقوه من الرسل، يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] ، فإذا كان هناك قدر ما من التلاقي بين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وما دان به اليهود في المدينة فهذا ليس لأنه صلى الله عليه وسلم تأثر به أو سرق أفكارهم، إضافة إلى أن هذا القدر من التلاقي كان ضئيلاً جداً ولا يحتمل كل هذا التضخيم من المستشرقين، فأهل الكتاب حتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا بعيدين جداً عن جادة الدين الحق، يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء:51] . وهناك بون شاسع بين أن يكون القرآن {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48] وأن تكون الرسالة التي نزل بها مطابقة تماما لرسالات الأنبياء السابقين، وإلا فما الفائدة من إرسال رسول برسالة جديدة؟. وأما فيما يخص قول وات بأن الرسول أيقن من عدم اتباع اليهود له وهاجمهم واتهمهم بالتحريف وادعى أنه على دين إبراهيم، فهو كلام مردود؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان حريصاً على أن يدخل الناس كافة في هذا الدين، يهوداً كانوا أم غير ذلك، إلا أنه لم يجبر اليهود على الدخول في الإسلام، وهذا هو موقف الإسلام من أهل الكتاب خاصة، ولا مجال لزعم وات من أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ادعى أنه على دين إبراهيم بعد أن أخذ اليهود يبرزون الفروق بين اليهودية والإسلام، فالمعروف أن القرآن المكي أشار بوضوح إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ارتباط الرسول صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم، {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [الأنعام: 161] ، وقوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] ، ولم يكن هناك احتكاك بين محمد صلى الله عليه وسلم واليهود قبل هجرته إلى المدينة باعتراف المستشرقين أنفسهم، هذا بالإضافة إلى إشارة المولى عز وجل في كتابه الكريم إلى ارتباط الرسالة المحمدية برسالات الرسل من قبله بمن فيهم موسى وعيسى عليهما السلام قبل أن يحاول عليه الصلاة والسلام كسب اليهود إلى جانبه كما يدعي وات، ومن ذلك الآية الكريمة {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] ، والآية {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف: 30] . ولعله يتضح من هذا عدم وجود دليل وراء الزعم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلن في بداية عهده في المدينة أن الإسلام متطابق مع اليهودية ليكسب اعتراف اليهود بنبوته، فلما أعرضوا هاجمهم واتهمهم بالتحريف وادعى أنه على دين إبراهيم. ويتناول وات تطور العلاقة بين اليهود والرسول صلى الله عليه وسلم وبين قبائل اليهود الرئيسة في المدينة، فيذكر أن الرسول بدأ بإجلاء بني قينقاع؛ لأن هذه القبيلة كانت أضعف الثلاثة ولم يكن لها حلفاء أقوياء من بين الأنصار ممن كان يستند الرسول إلى تأييدهم على عكس ما كان عليه الوضع بالنسبة للقبيلتين الأخريين، فقد كانتا متحالفتين مع بعض بطون الأوس القوية التي كانت تمثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 سندا للرسول صلى الله عليه وسلم (1) . ويضيف وات سببين آخرين وراء القرار الذي اتخذه الرسول صلى الله عليه وسلم بإجلاء يهود بني قينقاع من المدينة: إما رفضهم الاندماج في المجتمع المسلم؛ وإما رغبة في إفساح المجال أمام المهاجرين ليسيطروا على سوق المدينة بعد أن كانت هذه السيطرة حكراً على يهود بني قينقاع. والرد على هذا الادعاء الباطل يبدأ بالقول بأن بني قينقاع كانوا هم فعلاً تجار المدينة وقادتها الاقتصاديين حتى إن سوق المدينة كان يسمى بسوق قينقاع، ولكنهم بطروا معيشتهم، وطاش أمرهم في أكثر من اتجاه، أولاً: تجاه ربهم إذ قال كبراؤهم قولاً إداً وسمع الله قولهم {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وإذْ تجرؤوا على ربهم فليس من الغريب أن يتجرؤوا على دولة الإسلام في المجتمع المدني ثانيا، قد أظهروا أمارات كثيرة لتحديهم للسلطة الإسلامية في المدينة والكيد لها والتربص بها، ولا أدل على ذلك من الحادثة التي ذكرها ابن هشام (2) : " كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم في سوق قينقاع، ثم قال: "يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما أنزل بقريش من النقمة وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم، قالوا: "يا محمد إنك ترى أنا كقومك، ولا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، أما والله لو حاربتنا لتعلمن أنا نحن خير الناس"، والسياق التاريخي الذي وقعت فيه هذه الحادثة   (1) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص 194- 196. (2) ابن هشام، سيرة النبي، 11/51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 هو أنها حدثت بعيد غزوة بدر أي في حال قوة المسلمين التامة وتمكنهم من أمرهم وأمر مدينتهم تماما، وبنو قينقاع لم يأخذوا في ردهم هذا الاعتبار ولم يميلوا مع الريح ولكنهم لكونهم إلى قوتهم، حيث كانوا يشتغلون بصناعة السلاح وعندهم الكثير منه، ردوا - على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالحسنى وعمله بأمر ربه بأن يبلغ ما أنزل إليه - بتحد صارخ لسلطته وأظهروا ما تضمره صدورهم من العداء، أليس في هذا المستشرق وات وغيره إعلان حرب صريح من طرف واحد؟ وثالثاً: القشة التي قصمت ظهر البعير هي حادثة الأنصارية التي يرويها ابن هشام (1) : "أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق قينقاع، وجلست إلى صائغ فجعلوا يراودونها على كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده على ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهودياً وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين فغضب المسلمون على اليهود فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع"، وهذا استفزاز بيّن لحمية العرب وانتهاك لحرمة عرض امرأة مسلمة، حق على السلطان حمايته، ولكن المستشرق الغربي يسقط واقعه الذي يعيش فيه ويصدر الأحكام وفق معطياته على أناس يبعدون عنه كل البعد زماناً ومكاناً وثقافة، حيث يدعي وات أن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجم قبيلة بني قينقاع اليهودية بعد أن أدت خصومة تافهة لموت مسلم (2) ، ولكن في واقع الأمر يعد هذا نقضا   (1) ابن هشام، سيرة النبي، 11/51. (2) مونتقمري وات، Muhammad at Medina، ص 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 للعهد (1) الذي بين بني قينقاع والرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من الطبعي أن يُجْلِيَ أيُّ سلطان حازم طغمة باغية كهذه، ومع كل هذا فقد تركهم محمد صلى الله عليه وسلم واسع الأناة وراسخ الوطأة لعبد الله بن أبي حليفهم من العرب، فخرجوا من المدينة ولحقوا بأذرعات الشام (2) . وأما قول وات بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجلى بني قينقاع ليفسح المجال أمام المهاجرين ليسيطروا على سوق المدينة، فيمكن الرد عليه بالقول إن الثابت أن منافذ الرزق لم تسد أمام المهاجرين منذ بداية حياتهم إلى المدينة، فقد شاركوهم إخوانهم في الدين شطر أموالهم وآثروهم بالغالي والنفيس عن طيب خاطر، وأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ، فمن أبعد الأمور احتمالاً أن يقدم الرسول صلى الله عليه وسلم على خطوة خطيرة كهذه لمجرد أن يفسح المجال لتجارة المهاجرين. وما كان من أمر إجلاء بني قريظة فإنهم على الرغم من عقدهم معاهدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد تآمروا مع الجبهة المكية الغطفانية في غزوة الأحزاب موهنين بذلك الجبهة الداخلية للمجتمع المدني وغادرين بالمسلمين من وراء   (1) انظر: البيهقي، دلائل النبوة، 2/411. (2) ابن القيم، زاد المعاد، 2/71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ظهورهم، وهي بذلك لم تساعد المسلمين كما تقضي المعاهدة ولم تبق على الحياد بل كانت تهديدا خطيرا للرسول وأصحابه، مما استدعى ما حل بهم من حكم حليفهم في الجاهلية سعد بن معاذ رضي الله عنه. وعندما يأتي وات للحديث عن غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لخيبر سنة 7 هـ يذكر وات سبباً محتملاً، إضافة إلى تأليب يهود خيبر للعرب وهو سبب لا ينكره وات، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد الحصول على بعض الغنائم التي يعوض بها أصحابه عن خيبة آمالهم في الحديبية قبل ذلك ببضعة أسابيع (1) . رغم اعتراف وات بأن محاولات يهود خيبر تأليب العرب على المسلمين في المدينة كانت سبباً أساساً وراء غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، فإنه يضيف سبباً آخر جديرا بالمناقشة، وهو كما يزعم أن رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حيازة بعض الغنائم ليرضي أصحابه، الذين خابت توقعاتهم بعد صلح الحديبية، دفعته لهذه الغزوة، وللدكتور عبد الرحمن سالم (2) رد رزين على هذه الفرية نستحسنه، ومفاده: أن وات لم يحدد تماما ماذا قصد بخيبة الأمل، فإن كان المقصود أن الذين صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية كانوا يتوقعون دخول مكة والفوز بالغنائم فإن هذا افتراض فارق الحقيقة؛ لأن الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج إلى مكة محارباً بل معتمراً، وقد ساق معه الهدي وأحرم بنية العمرة "ليأمن الناس من حربه وليعلم الناس أنه إنما خرج زائراً لهذا البيت ومعظماً له" (3)   (1) مونتقمري وات، Muhammad: Prophet and Statesman، ص 217 – 218. (2) عبد الرحمن أحمد سالم، "قراءة نقدية في كتابات مونتجمري وات في السيرة النبوية"، ص 138-139. (3) ابن هشام، سيرة النبي، 3/356. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 فعلام يتوقع من صحبوه أن يدخلوا مكة محاربين وأن يفوزوا بالغنائم، فلا احتمال إذاً لخيبة توقعاتهم، وأما إذا كان المقصود أنهم كانوا يتوقعون دخول مكة والإتيان بالعمرة فإن خيبة توقعاتهم من هذه الناحية أمر لا سبيل إلى تعويضه بفتح خيبر والحصول على الغنائم. وحقيقة الدافع وراء غزوة خيبر تكمن في المؤامرات التي حاكها اليهود من وراء جدر خيبر وحصونها المحصنة، فهم الذين ألبوا الأحزاب وقد يعاودون الكرة وهم دائمو التربص بالمسلمين، فلبني النضير ثارات مع المسلمين ولقد كانت خيبر في حالة رخاء تمكنها من تمويل أي حركة معارضة للدولة الإسلامية. هذا هو السبب الحقيقي الوجيه الذي حمل الرسول صلى الله عليه وسلم من أجله على خيبر، وليس كما يدعي وات كما تذكر الموسوعة من أن الغزوة نشأت رغبة من محمد صلى الله عليه وسلم في ثواب أصحابه على انسحابهم المنظم من الحديبية وانصياعهم التام لأمره. *وتقريبا في الوقت نفسه طرأ تغير على سياسة محمد العامة في جوانب مهمة. أحدها كان "الانفصال عن اليهود"؛ وبدلاً من تقديم التنازلات لليهود بغية الحصول على اعترافهم بنبوته، أكد خصوصية الصفة العربية للدين الإسلامي. وحتى ذلك الوقت توجه محمد إلى القدس بالصلاة ولكن أمره وحي بالتوجه إلى مكة (1) .   (1) About the same time there was a change in Muhammad’s general policy in important respects. One aspect was the “break with Jews”; instead of making concessions to the Jews in the hope of gaining recognition of his prophethood, he asserted the specifically Arabian character of the Islamic religion. Hitherto the Muslims had faced Jerusalem in prayer, but a revelation now bade them face Mecca. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 *وكانت الزراعة قد طورت من قبل عدة قبائل يهودية استقروا بين ظهراني العرب أصحاب البلد الأصليين ورغم ذلك حازوا أفضل الأراضي (1) . *وكان المهاجرون (الرجال الذين قدموا من مكة) في بداية الأمر ضيوفاً على إخوانهم المسلمين في المدينة. ولكن لم يكن محمد ليقبل أن يستمر هذا الوضع لمدة غير معلومة، ومارس قليل من المهاجرين التجارة في السوق المحلية التي تديرها قبيلة يهودية (2) . *إضافة إلى هذا جعل من الاضطرابات البسيطة عذراً لطرد القبيلة اليهودية التي كانت تدير السوق (3) . *وطردت قبيلة يهودية أخرى من المدينة (4) . *وبعد حصار المدينة هاجم محمد قبيلة [بني] قريظة اليهودية، ربما لأنهم كانوا يحرضون ضده. وعندما استسلموا أعدم الرجال كلهم، وبيع النساء والأطفال عبيداً (5) .   (1) Agriculture had been developed by several Jewish clans, who had settled among the original Arabs, and they still had the best lands. (2) The emigrants (muhajirun, the men from Mecca) were at first guests of brother Muslims in Medina, but Muhammad cannot have contemplated this situation continuing indefinitely. (3) He also made a minor disturbance an excuse for expelling the Jewish clan, which ran the market (4) And another Jewish clan was expelled from Medina. (5) After the siege of Medina, Muhammad attacked the Jewish clan of Qurayzah, which had probably been intriguing against him. When they surrendered, the men were all executed and the women and children sold as slaves. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 *وليثيبهم على هذا التصرف المنظم قاد محمد بعد شهرين القوة نفسها في هجوم على خيبر الواحة اليهودية، واستسلمت بعد حصار ولكن اليهود سمح لهم بالبقاء شريطة أن يرسلوا نصف محصول التمر إلى المدينة (1) .   (1) Partly to reward this orderly conduct, Muhammad two months later led the same force against the Jewish oasis of Khaybar, north of Medina. After a siege it submitted, but the Jews were allowed to remain on condition of sending half of the date harvest to Medina. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الشبهة التاسعة: حمل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه مادي بفعي صرف ... الشبهة التاسعة: حمل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه مادي نفعي صِرف لا يرى وات سوى البعد المادي النفعي الذي ((تبرر الغايةُ فيه الوسيلة)) في غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدم عدة آراء بهذا الصدد، تنعكس في طروحاتها على الموسوعة: أ- كان الهدف من الغارات المبكرة التي شنها الرسول [صلى الله عليه وسلم] على قوافل المكيين التجارية هو التماس مصدر رزق للمهاجرين الذين كانوا في ضيافة الأنصار، فلم يرد الرسول للمهاجرين أن يعيشوا ضيوفا دائمين على الأنصار، ولم يتوقع منهم أن يشتغلوا بالزراعة ليكونوا قادرين على الاشتغال بالتجارة، فكان نهب قوافل المكيين التجارية هو الأسلوب الأمثل للحصول على مورد رزق لهم (2) . لا نجد سبباً مقنعاً وراء ادعاء وات بأن الغارات التي شنها الرسول صلى الله عليه وسلم على قوافل المكيين التجارية بعد هجرته إلى المدينة بقليل كان الهدف منها   (2) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 إيجاد مورد رزق للمهاجرين، فلقد كان المهاجرون قادرين على التماس مصادر أخرى للرزق بطرق أكثر أمناً وأيسر سبلاً، فلم يكن هناك ما يمنعهم من ممارسة التجارة أنى شاؤوا، ولم يكن هناك ما يمنعهم من تعلم حرفة نافعة تدر عليهم الرزق، فهل يعقل لوات أن يدعي أن أبواب الرزق السهلة المتاحة في حاضرة تجارية كالمدينة كانت موصدة أمام المهاجرين، ولم يجدوا إلا باب نهب قوافل المكيين على ما في ذلك من تكبد الصعاب ومجابهة المخاطر؟ أما الغزوات والسرايا قبل بدر فلم يبدأ بها المسلمون إلا بعد إذن إلهي بالقتال يوضح سببه ويشد من أزرهم بتأييده {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] ، وأنزل سبحانه وتعالى هذه الآية ضمن آيات أرشدتهم إلى أن هذا الإذن إنما هو لدحض الباطل، وتمكين دين الله في الأرض وإقامة شعائره فيها {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] ، وكان من المناسب أن يبسط المسلمون سيطرتهم على طريق قريش التجارية التي تمر بهم إلى الشام وقريش هي عدوهم الأول والأشد تربصاً بهم وظلماً لهم، وفي هذا إضعاف للعدو وقطع للشرايين الاقتصادية عنه، ولقد كانت أشد الضربات قسوة على المكيين تلك التي تعرقل طريق تجارتهم. ب- يفسر وات غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها تمثل انعكاساً طبيعياً للحياة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الصحراوية العربية التي كانت الغارات فيها لوناً من ألوان الرياضة وليست شكلاً من أشكال الحرب (1) ، وهذا يفسر كلمة razzia التي تسرف الموسوعة في استخدامها عندما تتكلم عن غزوات الرسول، وهي تعني: "غارة عسكرية تخريبية" (2) . ولا يمكننا أيضاً أن نقبل الزعم بأن هذه الغزوات والسرايا كانت انعكاساً طبيعياً لحياة الصحراء العربية التي مثل فيها النشاط القتالي لوناً من ألوان الرياضة القومية، إن هذا الزعم لو صح فيما يتعلق بحياة العرب في الجاهلية فإنه لا يمكن أن يصح فيما يتعلق بالحياة في ظل الدولة الإسلامية، وذلك أن الإسلام لم ينظر للقتال على أنه متعة وتسلية {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] ، هذا هو فرض الجهاد، يبين الله سبحانه وتعالى أن هذا مِمّ امتحن المسلمين به وجعله طريقاً موصلاً إلى الجنة، ولكن القول بأن العرب كانت تغزو وتُغير للتسلية، فهذا ما ينم عن جهل عميق بخصائص النفس البشرية، ونزوعها إلى الركون إلى السلم وطلبها السلامة. *وكان المهاجرون (الرجال الذين قدموا من مكة) في بداية الأمر ضيوفاً على إخوانهم المسلمين في المدينة. ولكن لم يكن محمداً ليقبل أن يستمر   (1) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص 105. (2) معجم: The World Book Dictionary. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 هذا الوضع لمدة غير معلومة. ومارس قليل من المهاجرين التجارة في السوق المحلية التي تديرها قبيلة يهودية. وقام الآخرون بالطريقة العربية المعروفة وبموافقة محمد بغزوات أملاً بقطع طريق القوافل المكية المتجهة بمحاذاة المدينة في طريقها إلى سوريا. وقاد محمد بنفسه ثلاثاً من هذه الغزوات في 623م (1) . ج- يرى وات أن اتساع دائرة المجتمع الإسلامي في الجزيرة العربية أدى إلى انتقال النشاط القتالي الإسلامي من مفهوم الغارة إلى مفهوم الجهاد، ذلك أن الغارة تمثل نشاطا قتالياً تقوم به قبيلة ضد أخرى، أما الجهاد فهو عمل يقوم به مجتمع ديني ضد غير المنتمين إليه، ومن هنا كان اعتناق أي جماعة أو قبيلة للإسلام موجباً لوقف القتال ضدها. فعندما انتشر الإسلام انتشاراً واسعاً بين القبائل العربية تضاءلت فرصة الجهاد الداخلي، وكان لابد من تهيئة فرصة الجهاد الخارجي حتى يمكن إيجاد متنفس لطاقات العرب القتالية التي كان لابد أن تفصح عن نفسها بشكل أو بآخر، ويرى وات أن الصبغة الدينية للجهاد هي التي قامت بدورها الكبير في التنفيس عن تلك الطاقات مما أتاح للمسلمين في أقل من قرن من الزمان أن ينشئوا إمبراطوريتهم الواسعة (2) . في ضوء ما ذكرنا ينتفي الزعم بانتقال النشاط القتالي الإسلامي من   (1) The emigrants (muhajirun, the men from Mecca) were at first guests of brother Muslims in Medina, but Muhammad cannot have contemplated this situation continuing indefinitely. A few emigrants carried on trade in the local market run by a Jewish clan. Others, with the approval of Muhammad, set out in normal Arab fashion on razzias (ghazawat, “raids”) in the hope of intercepting Meccan caravans passing near Medina on their way to Syria. Muhammad himself led three such razzias in. (2) مونتقمري وات، Muhammad: Prophet and Statesman، ص 108- 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 مفهوم الغارة إلى الجهاد نتيجة اتساع دائرة المجتمع الإسلامي في الجزيرة العربية، ذلك أن القتال دفعاً للأذى ودرءا للكيد وانتصاراً للنفس ليس غارة قبلية، بل هو جهاد يصيب بمعانيه عين الحقيقة، وهو ما اتسم به النشاط القتالي الإسلامي منذ فجره المبكر في المدينة. وغزوات المسلمين جاءت امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، وتوجهت الحملات العسكرية لخارج جزيرة العرب بعد ضمها تحت لواء التوحيد لا لإيجاد متنفس لطاقات العرب حتى لا يعودوا للاقتتال فيما بينهم، وإنما بقصد تبليغ الدعوة التي كلفوا بها. *وكان قد أدرك أنه إذا أصبح العرب مسلمين فسيكون من المحتم توجيه الطاقة الناتجة عن غزواتهم لبعضهم إلى الخارج. فغزو المسلم للمسلم أمر غير مقبول البتة (1) . د- كان الهدف من السرية التي وجهها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نخلة في رجب في السنة الثانية للهجرة بقيادة عبد الله بن جحش هو الاستيلاء على إحدى قوافل المكيين التجارية، وهذه هي السرية التي أريق فيها أول دم في تاريخ   (1) He had already realized that, insofar as the Arabs became Muslims, it would be necessary to direct outward the energies expended on razzias against one another. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 العلاقات بين المسلمين والمشركين بعد الهجرة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، في تقدير وات، يعلم أن هذه السرية قد يترتب عليها قتال في الشهر الحرام وهو رجب، وكان موافقاً على القتال لو حدث، وحدث القتال فعلاً وأسفر عن قتل أحد المشركين، وهنا فوجئ الرسول بما لم يكن يتوقعه من ردود أفعال حادة من قبل المسلمين في المدينة، فدفعه ذلك إلى أن يتظاهر، كما يدعي وات، أنه لم يكن موافقا على ما حدث، ورفض توزيع الغنائم، وأن يأخذ نصيبه منها. وعرض وات لأحداث سرية نخلة يحتاج إلى مراجعة جذرية، إذ يزعم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن هذه السرية قد يترتب عليها قتال في شهر حرام، وهو رجب، وكان موافقاً على ذلك، وهذا زعم لا يستند إلى برهان تاريخي، فإذا رجعنا إلى نص الكتاب الذي سلمه الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن جحش رضي الله عنه وفقاً لما يرويه الطبري وابن هشام نجد أن فيه أمراً بالاستطلاع فقط، ولم يفوضهم بالقتال: "إذا نظرت في كتابي هذا فسر حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصّد بها قريشاً وتعلّم أخبارهم" (1) ، والترصد هنا معناه الترقب كما يتضح تماماً من السياق، والحقيقة أنّ ما حدث كان سوء تقدير ناجم من اجتهاد شخصي، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمح لهم بذلك وأنكر عليهم ما فعلوا ومنع التصرف في العير والأسيرين. ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلُّوا ما حرمت العهود والمواثيق العربية، وكثر القيل والقال، حتى نزل وحي حاسم لهذه الأقاويل {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ   (1) ابن هشام، سيرة النبي، 2/239؛ وتاريخ الطبري، 2/411. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217] ، ومصرح بأن هذه الضجة التي افتعلها المشركون لا مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام واضطهاد أهله، ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام، حين تقرر سَلْبُ أموالهم وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟ *وأخيرا في يناير من عام 624م أرسلت مجموعة صغيرة من الرجال شرقاً بأوامر صارمة تخبرهم بالاتجاه إلى نخلة بالقرب من مكة ومهاجمة القافلة القادمة من اليمن. وقاموا بهذه المهمة بنجاح وبفعلهم هذا نقضوا الأعراف العربية عن الحرمة، ومن ثم نبهوا المكيين على خطورة تهديد محمد (1) . هـ- يرى وات أن بحث الرسول صلى الله عليه وسلم عن أساس اقتصادي متين لدولته كان من بين الأسباب التي أدت إلى تطلعه للغزو الخارجي، وفي نظر وات لا تمثل غزوة تبوك (9 هـ) مجرد ختام لغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم بل هي بالأحرى مقدمة حقيقية لحروب التوسع التي بدأت بعدها بقليل، فقد كانت الغزوة أضخم غزوات الرسول على الإطلاق (2) .   (1) At last, in January, a small band of men was sent eastward with sealed orders telling them to proceed to Nakhlah, near Mecca, and attack a caravan from Yemen. This they did successfully, and in doing so they violated pagan ideas of sanctity—thereby making the Meccans aware of the seriousness of the threat from Muhammad. (2) مونتقمري وات، Muhammad: Prophet and Statesman، ص 218-219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وهذا الزعم لا يقوم على أساس تاريخي، فمن يقرأ في حملات الرسول صلى الله عليه وسلم على طريق الشام يدرك أنها كانت في الأساس ردا لعدوان أو درءاً لتهديد، فغزوة دومة الجندل في السنة الخامسة للهجرة لم يكن لها سبب سوى أن العرب المقيمين بدومة الجندل كانوا مصدر تهديد للمدينة وللتجار الذين كانوا يترددون بين المدينة والشام، بل إن الواقدي يذكر في مغازيه أن هؤلاء العرب تجمعوا وهَمُّوا بغزو المدينة (1) ، وعندما نزل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين بساحتهم ولوا مدبرين، فهذه إذاً غزوة ذات غرض محدد لم تتجاوزه، ولم تكن غايتها بكل تأكيد إحراز مكاسب اقتصادية. والذي يصدق على غزوة دومة الجندل يصدق على سرية مؤتة في السنة الثامنة للهجرة، وهذه السرية خرجت نتيجة استفزازات متكررة كان يقوم بها العرب المتحالفون مع الروم في شمال الجزيرة، وبخاصة الغساسنة الذين قتلوا الحارث بن عمير الأزدي مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كبير بصرى، ورغم ما أبلى المسلمون في هذه الغزوة من بلاء حسن، إلا أنهم اضطروا للانسحاب أمام الحشود الهائلة من الروم وأحلافهم، ويصعب على المرء أن يتصور أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ليجابهوا مائتي ألف مقاتل من أجل أي مكسب مادي، ولكن كان انتصاراً لدم مسلم ولدولة الإسلام التي قتل سفيرها وأُعلن عليها الحرب وفرضت عنوة (2) . وأما غزوة تبوك، "غزوة العُسرة" التي يقول وات محاجاً: إنها رائدة   (1) المغازي للواقدي، 1/403. (2) تاريخ الطبري، 3/101 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الهجوم على سوريا المزدهرة اقتصاديا، فقد أعد لها الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم في ظروف بالغة القسوة من شدة الحر وقلة الزاد، وهي غزوة فرضت على المسلمين فرضاً، إذ لم يكن القيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من وقع طيب في نفوس القبائل العربية، وبدأت بعض القبائل المتاخمة لحدوده في الاستقلال عنه وإرسال الوفود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما جعله يعد العدة لمعركة حاسمة مع المسلمين، ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر حشد المسلمين في جيش على حال كما ذكرنا وخرج بهم لمجابهة الخطر المحدق بالدولة الناشئة، ولما لم يجد أحداً في المكان الموصوف عاد بجيشه قافلاً إلى المدينة، وحتى في هذه الغزوة، التي يهول وات من أمر أبعادها وتبعاتها، لم تكن بدافع الهجوم بل الدفاع، ولم يجن منها رسول الله صلى الله عليه وسلم أي مكسب مادي. *ومن الجدير ملاحظة أن أكبر غزواته، عدا طلعاته على المكيين، كانت على امتداد الطريق إلى سوريا التي تبعتها الجيوش العربية بعد موته. ومما لاشك فيه أنه أدرك أن المهارات الإدارية لتجار مكة ستكون ذات فائدة لأي توسع لدولته الفتية (1) . *الزحف على حدود سوريا. حدثت أعظم غزوات محمد في نهاية سنة 630م عندما اصطحب ثلاثين ألف رجل في رحلة استغرقت شهرا نحو الحد   (1) It is noteworthy that his largest razzias, apart from the expeditions against the Meccans, were along the route to Syria followed by the Arab armies after his death. He doubtless realized that the administrative skill of the Meccan merchants would be required for any expansion of his embryonic state. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 السوري. وبهذه الحملة كان محمد رائداً للهجوم على سوريا ودخل في اتفاقات أصبحت نماذج لترتيبات المعاهدات مع الشعوب المهزومة (1) .   (1) March to the Syrian border: The greatest of all of Muhammad’s razzias occurred at the end of, when he took men on a month’s journey to the Syrian border. In this campaign he pioneered the invasion of Syria and made agreements that became models for treaty arrangements with captured peoples. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الشبهة العاشرة: التشكيك في مقدار اضطهاد مشركي مكة للمسلمين يعطي وات قدراً ضئيلاً من الأهمية للاضطهاد الذي تعرض له المسلمون في مكة مما دفعهم إلى الهجرة، ويرى بأن المسلمين قاموا باختلاق هذه الروايات في وقت لاحق رغبة في تضخيم التضحيات التي قام بها المسلمون (2) . ومن الطبعي أن يُضطهد النذر وأصحاب الرسالات ومناصروهم في مجتمعاتهم وأن يضيق عليهم الخناق، {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30] ، والمعارضة القرشية جاءت على القدر الذي جاءت عليه من القوة بسبب أن هذه الرسالة التي خرجت بين ظهرانيهم تحدت جميع ما آمنوا به من لدن آبائهم الأولين وما تعودوا عليه من طريقة عيش وإدارة شؤونهم الحياتية. وفي هذا الصدد يقول ابن هشام (3) إن الرسول صلى الله عليه وسلم: "لما بدأ يدعو   (2) مونتقمري وات، Muhammad at Mecca، ص 145-146. (3) ابن هشام، سيرة النبي، 1/275 – 276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 للإسلام لم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله بالإسلام، وهم قليل مستخفون"، {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ, أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ, وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص: 4-6] ، ومشوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وساوموه قائلين: "يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة ... فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا، فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بي ما تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ... " فقالوا: وإنا والله لا نتركك وما بالغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا" (1) ، فما بال وات يثير الشبه حول تضخيم الحقائق، وهذه قريش تضع أغلى ما تملك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما بالنسبة لأمر الهجرة إلى الحبشة فلما كان أن استورى أمر الدعوة غضب المشركون فأخذوا من أسلم مع الرسول بالشدة والقسوة " ... فكانت   (1) ابن هشام، المرجع السابق، 1/315 – 317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فتنة شديدة الزلزال على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الإسلام، فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، فلما فُعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة ... ف ذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة وخاف عليهم الفتن، ومكث هو فلم يبرح" (1) ، فمن الواضح من هذا العرض الذي لا تكاد مصادرنا تختلف عليه أن المسلمين الذين هاجروا بأنفسهم ودينهم من اضطهاد مشركي مكة، وكان ذلك استجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اختار البقاء، ولكن الموسوعة تذكر دافعاً مادياً وراء الهجرة إلى الحبشة وهو الاشتغال بالتجارة أو ضمان دعم عسكري. *ويصعب تقويم طبيعة ومقدار اضطهاد المسلمين في مكة. فقد كان هناك قليل من العنف الجسدي وكان ذلك غالب الوقت من قبل العائلة. وعانى محمد من مضايقات صغيرة مثل وضع النفايات خارج داره. ويقال: إن هذا الاضطهاد أدى إلى هجرة بعض المسلمين إلى أثيوبيا حوالي عام 615م ولكنهم ربما كانوا يبحثون عن فرص للتجارة أو دعم عسكري لمحمد. وبقي بعضهم حتى عام 628م وذلك لمدة طويلة بعد أن دانت الأمور لمحمد في المدينة. ومهما كانت طبيعة هذا الاضطهاد فقد أوغرت صدور المسلمين بسببه (2) .   (1) تاريخ الطبري، 2/328 – 329. (2) It is difficult to assess the nature and extent of the persecution of the Muslims in Mecca. There was little physical violence, and that almost always within the family. Muhammad suffered from minor annoyances, such as having filth deposited outside his door. The persecution is said to have led to the emigration of some of the Muslims to Ethiopia about, but they may have been seeking opportunities for trade or military support for Muhammad. Some remained until, long after Muhammad was established in Medina. Whatever the nature of the persecution, the Muslims were very bitter about it. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 *ومورس ضغط تجاري على مؤيدي محمد، وفي بعض العائلات كان هناك اضطهاد بسيط لأفرادها الصغار الذين اتبعوه (1) . وهناك قضايا أخرى تعرضت لها الموسوعة تفضح بجلاء عدم التزام الموسوعة ومن وراءها الأسلوبَ العلمي الرصين الذي تزعم اتباعه مما يكشف عن الوجه القبيح للموسوعة دون حجاب اللغة العلمية، ومن الأمثلة على هذا التهجم الصريح على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، واستخدام لغة مغرضة مثل: كلمة propaganda التي تعني "دعاية" وبخاصة دعاية كاذبة لفكر جماعة ذات طابع سياسي تحوم حول نشاطاتها الشكوك، وذلك عند الحديث عن من أسلم من أهل المدينة في بيعة العقبة الأولى والذين قالت عنهم الموسوعة أنهم عادوا بعد البيعة ليشيعوا "دعاية" محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ واستخدام كلمة razzia وتكرارها عند الحديث عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي كلمة إنجليزية أتت إليها عن طريق الفرنسية التي أخذتها بدورها عن كلمة "غزوة" العربية، ولكنه في استخدامها الإنجليزي الحالي أشبه ما تكون بكلمة "غارة"، ويفسر وات بأن "الغارات" التي شنها المسلمون: "تمثل انعكاساً طبيعياً للحياة العربية التي كانت الغارات فيها لوناً من الرياضة وليست شكلاً من أشكال الحرب" (2) ،   (1) Commercial pressure was brought to bear on Muhammad’s supporters, and in some families there was mild persecution of junior members who followed him. (2) مونتقمري وات، Muhammad: Prophet and Statesman، ص 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ليعني بذلك أن النهب هو الأسلوب الأمثل للحصول على مورد رزق (1) ؛ واستخدام كلمة showdown عند الحديث عن محاولة الرسول صلى الله عليه وسلم اللحاق بالمشركين بعد أن ولَّوا هاربين من أرض معركة أحد، والكلمة فيها كثير من السخرية وتعني تظاهراً بفعل الشيء يداخله التمثيل والكذب، والموسوعة تقول إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قام بتمثيل أنه أراد اللحاق بالمكيين، وذلك للاعتقاد السائد عند المستشرقين بأن معركة أحد كانت نصراً للمكيين.   (1) عبد الرحمن أحمد سالم، "قراءة نقدية في كتابات مونتقمري وات في السيرة النبوية"، ص 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الخاتمة : يظهر جلياً من هذه الدراسة عوار منهجية الموسوعة التي اتبعتها في كتابة مادة "محمد: النبي ورسالته" وأن لغة التحاشي والجدال المناقض، والتعريفات والتركين التي يعترف بها الغرب لغةً للرصانة العلمية والتي وظفتها الموسوعة بدقة في كتابة المادة قيد البحث، ليست إلا صياغة قريبة من الذائقة الغربية المعاصرة، وحجاباً لا يلبث أن ينكشف ويبرز من ورائه مناهجُ التشكيك والتفسير المادي والميكافيلية التي طُبِعَ وسمُها على الفكر الاستشراقي المعاصر، وفي هذا البحث حاولت كشف هذه العلاقة. وهذه العلاقة لا تتجلى للقارئ الغربي غير المتخصص الذي تستهدفه الموسوعة قبل أي شخص آخر؛ ويورد الدكتور مصطفى السباعي ضمن أهم وسائل المستشرقين لتحقيق أهدافهم ونشر أفكارهم إعداد الموسوعات المتخصصة (1) ، وهم أول من يستكتب في الموسوعات العامة الغربية فيما يخص العرب والمسلمين وكل ما له صلة بهم، وذلك لاعتقاد القائمين على هذه الموسوعات الموضوعية والحياد في هؤلاء من جهة، ولجهلهم بحقيقة الإسلام وجوهره من جهة أو لرغبتهم الخاصة في التعرض للإسلام وأهله. وتاريخ الموسوعة البريطانية ذات الصيت والسمعة والتي تزود القراء بالمعلومات بشتى الوسائل (ورقية، أسطوانات ليزرية، الشبكة العالمية) وفي شتى الأشكال (موسوعات معمقة، ومختصرة، وموسوعات للأطفال، وكتب   (1) مصطفى السباعي، الاستشراق والمستشرقون، ص 26- 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 تصدر عن الموسوعة في موضوعات محددة، وبلغات مختلفة) لم يكن دائما مذيلاً بالثناء والذكر الجميل، وبخاصة الطبعة الرابعة عشرة التي درسها جوزيف مككيب Joseph McCabe في كتابه المعنون بـ "أكاذيب وأباطيل الموسوعة البريطانية" مقارنة مع الطبعة الحادية عشرة، وكشف مككيب فيه عن أن الطبعة الرابعة عشرة حررت بإشراف اتحاد وستمنستر الكاثوليكي الذي نشر في تقريره السنوي عام 1928م ما يلي: "لقد تمت مراجعة الموسوعة البريطانية أخذاً في الاعتبار الحد من الأمور المتحفظ عليها من وجهة النظر الكاثوليكية، وإضافة ما هو صحيح وموضوعي، ولقد تمت دراسة الأجزاء الثمانية والعشرين كلها، وتمت الإشارة إلى المواضع المتحفظ عليها وذكرت أسباب حذفها أو تعديلها، وهناك أسباب وجيهة لأملنا في أن يجد القراء هذه الطبعة أكثر صواباً وموضوعية بكثير من سابقاتها"! (1) ورغم إعلان الاتحاد أنه لم يتدخل في كتابة طبعة الموسوعة الرابعة عشرة الذي أصدره بعد ردة الفعل التي تُلُقّي بها التقرير (2) ، يورد مككيب في كتابه الذي خصصه للرد لكشف بطلان هذا الإعلان أمثلة كثيرة جدا على تدخل الاتحاد الكاثوليكي في تحرير الموسوعة، وبخاصة في المقالات التي كتب في آخرها الحرف x، أي مجهول اختصاراً لاسم المؤلف، بل حتى إن مادة   (1) الفقرة الثانية، ص 18 من تقرير اللجنة الفرعية لليقظة والاحتراز vigilance sub-committee من التقرير السنوي الحادي والعشرين لاتحاد وستمنستر الكاثوليكي. (2) جريدة London Times، الصفحة الأولى، بتاريخ 9 أغسطس 1929م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 "محمد" التي كتبت في اثنتي عشرة صفحة في الطبعة الحادية عشرة (1) اختُزلت في ثلاث صفحات فقط، ويقول مككيب: إن سبب هذا هو ضمان مبيعات أكثر للموسوعة! وإذا كان القائمون على الموسوعة سَلَّموا قيادها لمجموعة ضغط ذات أهداف إيديولوجية ضيقة من أجل صياغتها بما يتوافق مع أغراضها من أجل المال، فلا نستغرب إذاً أن تكون الموسوعة موافقة ومداهنة للفكر العام المستقر عن الإسلام الذي صاغته كتابات المستشرقين (2) ونشاط وسائل الإعلام المعادية للإسلام. وإذا عرفنا أن الموسوعة قامت بمراجعة 35? من موادها (3) خلال العامين الماضيين، نوصي بتبني هذه الندوة الرد على الموسوعة ومناقشتها لبيان الأخطاء الفاضحة التي وقعت فيها فيما يخص الإسلام، وبخاصة الافتراء العظيم على نبي الرحمة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، والشبهات والطعونات الكثيرة التي ساقتها الموسوعة تحت مادة "القرآن" (4) . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.   (1) قمت بمراجعة مادة "محمد" Mahomet في الطبعة الحادية عشرة التي صدرت عام 1911م ووجدتها مليئة بالأباطيل والفِرى، بل كما يظهر من تهجئة اسم نبينا الكريم في هذه المادة هي تنتمي أكثر ما يكون الى الفكر الاستشراقي الذي ساد في العصور الوسطى، والموقع لمن أراد الرجوع إليه هو: http:// encyclopedia.org (2) يذكر الدكتور أكرم ضياء العُمري (مرجع سابق، ص 55- 56) أنه ما بين عامي 1800- 1950م نُشر ستون ألف كتاب عن الإسلام، أي بمعدل أكثر من كتاب كل يوم! هذا بالإضافة إلى المجلات والمؤتمرات وبرامج وسائل الإعلام المختلفة. (3) كتالوج الموسوعة البريطانية لعام 2004م، ص 4. (4) قام د. فضل حسن عباس بتفنيد الشبهات الكثيرة التي ذكرتها الموسوعة فيما يخص محكم التنزيل في كتابه: قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية نقد مطاعن وردّ شبهات، دار البشير عمان،1989م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 مصادر ومراجع ... المراجع: 1- المراجع العربية: أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر، محمد حسن خليفة، (إصدار) عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض: 1421هـ. الاستشراق في السيرة النبوية، عبد الله محمد الأمين النعيم،: دراسة تاريخية لآراء وات-بروكلمان-فلهاوزن مقارنة بالرؤية الإسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا: 1417 هـ. الاستشراق والتاريخ الإسلامي، فاروق عمر فوزي، الأهلية، الأردن: 1409هـ. الاستشراق والمستشرقون: مالهم وما عليهم، مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، بيروت: 1405 هـ. تاريخ الرسل والملوك (المشهور بتاريخ الطبري) ، الطبري (أبو جعفر محمد ابن جرير) ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة: 1979م. دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية: أضاليل وأباطيل، إبراهيم عوض، مكتبة البلد الأمين، مصر: 1419هـ. الدراسات الإسلامية والعربية في الجامعات الألمانية، رودي بارت، ترجمة: مصطفى ماهر، دار الكتاب العربي، القاهرة: 1967م. دلائل النبوة، البيهقي (أحمد بن الحسين) ، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية، المدينة المنورة: 1989م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم (أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزرعي) ، دار الباز، المدينة المنورة. السيرة النبوية، ابن كثير (أبو الفداء الحافظ إسماعيل بن عمر) ، تحقيق أحمد أبو ملحم وآخرين، دار الكتب العلمية، بيروت: 1985م. سيرة النبي صلى الله عليه وسلم (المشهورة بسيرة ابن هشام) ، ابن هشام (أبو محمد عبد الملك بن هشام) ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الهداية. الشبهات المزعومة حول القرآن الكريم في دائرتي المعارف الإسلامية والبريطانية، محمد السعيد جمال الدين،. بحث قدم في ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه، المنعقدة في الفترة مابين 3 – 6 رجب 1421 هـ، بإشراف مجمع خادم الحرمين الشريفين لطباعة المصحف الشريف. قراءة نقدية في كتابات مونتقمري وات في السيرة النبوية، عبد الرحمن أحمد سالم، مجلة المسلم المعاصر، السنة الحادية والعشرون، العدد 82، رجب-شعبان-رمضان 1417 هـ، ص 86-161. كتاب المغازي (المشهور بمغازي الواقدي) ، الواقدي (محمد بن عمر) ، تحقيق مارسدن جوزنز، مؤسسة العلمي للمطبوعات، بيروت: 1966م. المستشرقون والسيرة النبوية، عماد الدين خليل،: بحث مقارن في منهج المستشرق البريطاني المعاصر مونتقمري وات"، بحث منشور في الجزء الأول من كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي: 1405هـ، ص 113 – 201 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، عماد الدين خليل (محرر) ، مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي: 1405هـ. منهج الاستشراق في دراسة الإسلام، أنور الجندي، مجلة منار الإسلام، السنة الخامسة عشرة، العدد التاسع، رمضان 1410 هـ، ص 82-86. المنهج عند المستشرقين، عبد العظيم الديب، حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلامية (بجامعة قطر) ، العدد السابع: 1409?، ص 335-374. منهج مونتقمري واط في دراسة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، جعفر شيخ إدريس، بحث منشور في الجزء الأول من كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي: 1405هـ، 205 – 247. موقف الاستشراق من السنة والسيرة النبوية، أكرم ضياء العُمري، مجلة المسلم المعاصر، السنة التاسعة عشرة، العددان 75-76، ص 53-77. النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربي، جان جبور، دار الساقي، لندن: 2001م. الوجيز في علم الاستشراق، سعدون محمود الساموك، دار المناهج، الأردن: 1423?. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 2- المراجع الأجنبية: Al-Amri, Waleed B. (2002) Social Semiotics for Translation Studies: Applications of a Proposed Social Semiotic Model in the Analysis of a Corpus of Hard News Reports from Arab and British Newspapers. (An unpublished PhD thesis) UMIST. Brocklmann, C. (1964) History of the Islamic Peoples. London. Evans, P. & Wurster T. (2000) . Order Blown to Bits: How the New Economics of Information Transforms Strategy. Hardvard: Harvard Business School Press. Grimme, H. (1892) Mohammed. Munster. Hatim, B. & Mason, I. (1997) . The Translator as Communicator. London: Routledge. Margoliouth, D.S. ( [1905] 1985) Mohammed and the Rise of Islam. Ram Swarup: London. McCabe, J. (1996) The Lies and Fallacies of the Encyclopedia Brittanica: How Powerful and Shameless Clerical Forces Castrated a Famous Work of Reference. The Book Tree. Mohar Ali, M. (1997) . Sîrat al-Nabî صلى الله عليه وسلم and the Orientalists. Madinah: King Fahd Qur’an Printing Complex. The World Book Dictionary. Watt M. (1960 [1953] ) . Muhammad at Mecca. Oxford: Clarendon Press. Watt M. (1961) . Muhammad: Prophet and Statesman. Oxford: Oxford University Press. Watt M. (1966) . Muhammad at Medina. Oxford: Clarendon Press. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70