الكتاب: السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة المؤلف: بريك بن محمد بريك أبو مايلة العمري إشراف: أكرم ضياء العمري الناشر: دار ابن الجوزي الطبعة: الأولى - جمادى الأول - 1417 هـ - 1996 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة بريك العمري الكتاب: السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة المؤلف: بريك بن محمد بريك أبو مايلة العمري إشراف: أكرم ضياء العمري الناشر: دار ابن الجوزي الطبعة: الأولى - جمادى الأول - 1417 هـ - 1996 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ال مقدمة إنَّ الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخليله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فقد قال تعالى {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} 1. قال ابن خلدون: "إن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال2، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأُول، تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصَّها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعَمَروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع   1سورة هود: 120 2 االأقيال: جمع قيل وهو الملك أو من ملوك حمير، أو هو دون الملك الأعلى. "اللسان": (مادة: قول) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق"1. إن تاريخ كل أمة هو سجل حافل بالأحداث والوقائع لهذه الأمة، تظهر فيه عوامل النجاح، وتبرز فيه أسباب الإنتصارات والهزائم، فهو مستشار الخبرات والتجارب الإيجابية والسلبية، يضيء لها طريق المستقبل، فأمة بلا تاريخ أمة بلا مستقبل. ألا وإن أعظم وأوثق تاريخ عرفته البشرية حتى اليوم هو تاريخ هذه الأمة الإسلامية التي اصطفاها الله عز وجلّ وفضَّلها على الأمم قاطبة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2 لذلك فالمستقبل لهذه الأمة بحول الله وقوته. ويمكننا أن نلخص عظمة تاريخ هذه الأمة في ثلاثة أمور: الأمر الأول: كون كتابها ودستورها القرآن العظيم، كلام الخالق عز وجلَّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قد حوى قصص وتواريخ الأمم السابقة من لدن أبي البشر آدم عليه السلام حتى العهد الذي أُنزل فيه: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} 3. ثم هو مصدر أساسي من مصادر تاريخ ذلك العهد، عهد النبوة حتى انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم. الأمر الثاني: أنه يحكي تاريخ فترات من الزمن هي أفضل فترات هذه الأمة: "خير النّاس قرني ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الّذين يلونهم" 4.   1 ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، "مقدمة تاريخ ابن خلدون" (6) . 2 سورة آل عمران: 110. 3 سورة هود: 100. 4 انظر: الألباني: "صحيح الجامع" (2/624) وقال: صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الأمر الثالث: اختُص هذا التاريخ بميزة فريدة لم توجد في غيره من تواريخ الأمم الأخرى، ألا وهي خاصية الإسناد المعتمد أساسًا على علم الرجال؛ لأن معظم المؤرخين المسلمين هم في الحقيقة محدِّثون مثل ابن إسحق، وخليفة بن خياط، والطبري، وغيرهم؛ لذلك اهتموا بالإسناد كثيرًا في مروياتهم. ولكي نعرف مدى أهمية الإسناد وتفرُّد المسلمين بعلم الرجال دون غيرهم من الأمم السابقة، نستمع إلى هذين القولين من رجلين مختلفين، أحدهما عالم مسلم، والآخر مستشرق ألماني. فقد أخرج الإمام مسلم عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى قوله: "الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما يشاء"1. ويقول المستشرق الألماني سبرنجر: "لم تكن فيما مضى أمة من الأمم السالفة، كما أنه لا توجد الآن أمة من الأمم المعاصرة أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الخطر الذي يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل وشئونهم"2. "فمن أراد أن يتسلل خلال بعض الثقوب ليطعن هذا التاريخ فليطعن قبل هذا جميع أخبار الدنيا منذ نشأتها إلى يومنا هذا، وليطعن كل تراث الإنسانية بما في ذلك الكتب المقدسة السابقة على القرآن الكريم، فإن هذا التاريخ الإسلامي الذي بين أيدينا هو أوثق من كل هذا. ومع ما ذكرنا، إنما هو في جملته محكم مترابط كثير وجوه الإسناد، ولا يعيبه ضعف بعض أسانيده، وضعف الراوي لا يعني أنه كذَّاب، بل إن الراوي الذي عرف عنه الكذب قد يصدق أحيانًا. ومن القواعد المعمول بها أن الرواية الضعيفة ترتفع إلى مرتبة الحسن، وأن الحسن يرتفع إلى الصحيح إذا ساندته روايات أخرى ولو كانت ضعيفة في حالتها   1 مقدمة الإمام مسلم في صحيحه (1/40) . 2 أحمد عادل كمال، الطريق إلى دمشق (61) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 المنفردة، وهو ما يعرف بـ (الصحيح لغيره) تمييزًا له عن (الصحيح لذاته) . ومن أراد أن يطعن هذا التاريخ التليد، وهذا الجهد المشكور في التسجيل فليطعن قبل ذلك أولئك الذين كان عليهم أن يسجلوا كما سجل أسلافنا فلم يفعلوا، ونعني بهم الفرس والروم، فمع هذا البحر الزاخر من المرويات العربية لا نكاد نجد شيئًا يرويه الطرف الآخر، بل أبعد من ذلك كان الرواة المسلمون هم الذين حفظوا لنا أخبار الأكاسرة الفرس قبل الإسلام"1. إننا بهذا الكلام لا ندَّعي الكمال لتاريخنا، فالكمال الإعجازي صفة لا يمكن سحبها على غير القرآن الكريم الذي تعهد الله بحفظه من بين الكتب المقدسة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2. بل إن الحديث النبوي وهو يأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي لم يسلم من عبث العابثين، وكذب المفترين، ولكن الله عزَّ وجلَّ قد هيأ له الجهابذة من علماء الإسلام الذين تصدَّوا لهؤلاء فوضعوا القواعد والأساليب التي ساعدت على كشفهم، كان أهمها التاريخ، قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: "لما استعمل الرواة الكذب، استعملنا لهم التاريخ"3. وقال حماد بن زيد رحمه الله تعالى: "لم يُستعن على الكذابين بمثل التاريخ"4. والتاريخ باعتماده على الروايات والرواة مثله مثل الحديث لم يسلم هو الآخر من عبث المتطفلين، يقول ابن خلدون: "إن فحول المؤرخين في الإسلام   1 المصدر السابق. 2 سورة الحجر: 9. 3 انظر ابن الصلاح، المقدمة - الفصل (60) . 4 انظر الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (7/357) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطَّروها في صفحات الدفاتر، وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفَّقوها ووضعوها. واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها، وأدَّوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترَّهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب الأخبار وخليل"1. "وقد وصلت إلينا هذه التركة لا على أنها هي تاريخنا، بل على أنها مادة غزيرة للدرس والبحث يستخرج منها تاريخنا، وهذا ممكن وميسور إذا تولاَّه من يلاحظ مواطن القوة والضعف في هذه المراجع، وله من الألمعية ما يستخلص به حقيقة ما وقع، ويجردها عما لم يقع مكتفيًا بأصول الأخبار الصحيحة مجردة عن الزيادات الطارئة عليها"2. "لأن الأخبار إذا اعتُمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكَّم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق. وكثيرًا ما وقع للمؤرخين والمفسرين، وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثًّا أو سمينًا، ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلُّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط"3. ولا شك أن عدم تمحيص المؤرخين للأخبار كما فعلوا في الحديث واكتفاءهم بإلقاء العهدة على الرواة المذكورين في أسانيد الروايات ألقى عبئًا   1 ابن خلدون، المقدمة (6) . 2 محب الدين الخطيب في تعليقه على كتاب "العواصم من القواصم" لابن العربي (ص179) حاشية (309) . 3 ابن خلدون، المقدمة (13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 كبيرا على المؤرخ المعاصر المسلم؛ لأنه يحتاج إلى بذل جهد ضخم للوصول إلى الروايات الصحيحة بعد فهم وتطبيق منهج المحدثين، وهو أمر لم يعد سهلا ميسورا، كما كان بالنسبة لخليفة بن خياط، أو الطبري، بسبب تضلعهم في مناهج المحدثين وطريق سبرهم للروايات وتمييزها"1. إن عملية نقد الروايات التاريخية وفق منهج المحدثين عملية ليست سهلة "فإن النظر في الرجال، ودراسة الرواة عملية صعبة شاقة ومجهدة ذهنيًّا وبدنيًّا لما تقتضيه من وقت طويل، ومكلفة ماديًّا وماليًّا، فمراجعها من الكتب قليلة الاستعمال، كبيرة الحجم، غالية الثمن، نادرة الوجود"2. ولكن لابد للمؤرخ المسلم من اقتحام العقبة وتحدي الصعاب إذا أراد لعمله النجاح، ونوى فيه الإخلاص لله عز وجل فإن هذا العمل من أجلّ الأعمال وأفضلها، فحينما يتم تمحيص وسبر الروايات التاريخية وتنقيتها مما علق بها من الشوائب، فإنا نكون قد قمنا بعمل عظيم خدمة لتاريخ أمتنا الإسلامية المجيد، وأنرنا بذلك المستقبل للأجيال القادمة. "إن للمحدثين مناهج وطرقا في نقد الأحاديث ومعرفة الصحيح من الضعيف، والمطلوبُ تطبيق هذه المناهج في نقد الروايات التاريخية المتعلقة بتاريخ صدر الإسلام؛ لأن هذه الروايات التاريخية تشبه الأحاديث من حيث وجود الأسانيد التي تتقدم المتون مما يمكن الناقد من معرفة الرواة المتعاقبين الذين نقلوا الخبر أو الرواية خلفا عن سلف. وتُستمد المعلومات عن الرواة من كتب علم الرجال التي تختص ببيان أحوال الرواة. فمثلا شرط الصحيح من الحديث هو أن يرويه العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة، فشرط الرواية التاريخية الصحيحة   1 الدكتور أكرم العمري، المجتمع المدني، خصائصه وتنظيماته (25) . 2 أحمد عادل كمال، الطريق إلى دمشق (53) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أن كل رواتها المتعاقبين إلى شاهد العيان متدينون تدينًا صحيحًا، وعندهم ملكة الحفظ والتي تمنع وقوعهم في الأوهام والتخليط، وتؤدي إلى ضبطهم للرواية سواء في صدورهم أو كتبهم، يضاف إلى ذلك أن تكون الرواية متفقة مع الروايات الأخرى التي يرويها رواة يتمتعون بتوثيق أكثر، أما إذا خالفتها فهي شاذة مرجوحة، وكذلك أن لا يكون في الرواية التاريخية علة خفية قادحة بصحتها، كالتدليس الخفي، أو الإرسال الخفي، أو الاضطراب في معلومات المتن. وإذا كانت الروايات التاريخية لا ترقى إلى درجة الصحة الحديثية وفق الشروط المتقدمة، فإنه ينظر إلى تعدد طرقها بجمع ما يتعلق بالمسألة التاريخية الواحدة، فإنها تقوى خاصة عند استحالة اجتماع الذين رووها واتفاقهم على الكذب"1. ثم ينظر بعد ذلك في الروايات بعد سبرها ونقدها فيتم "اعتماد الروايات الصحيحة وتقديمها، ثم الحسنة، ثم ما يعتضد من الضعيف لبناء الصورة التاريخية لأحداث المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام. وعند التعارض يقدم الأقوى دائما. أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى أو تعضد فيمكن الإفادة منها في إكمال الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة على ألاّ تتعلق بجانب عقدي أو شرعي. أما الروايات التاريخية المتعلقة بالعمران كتخطيط المدن وريازة الأبنية وشق الترع، أو المتعلقة بوصف ميادين القتال وأخبار المجاهدين الدالة على شجاعتهم وتضحيتهم فلا بأس من التساهل فيها"2. "فإن هذا العلم - علم الرواية والإسناد - قد وضع أساسا ليقاس بمقتضاه ما روي من حديث نسبه رواته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل ليجيز ما يثبت نقله عنه. فالأمر يتعلق بإرساء قواعد الدين، وتأصيل أصول الإسلام:   1 أكرم العمري، المجتمع المدني، خصائصه وتنظيماته (24-25) . 2 المصدر السابق، (25-26) (بتصرف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 عباداته ومعاملاته، وشريعته ومعتقداته. إن هذا وأمثاله من النهج المتشدد إن كان له ما يبرره عند إرساء قواعد الدين فلعله أن يكون تعنتا أن نطبقه بحذافيره على المرويات التاريخية"1. لذلك فإن "اشتراط الصحة الحديثية في كل رواية تاريخية نريد قبولها فيه تعسف؛ لأن ما تنطبق عليه هذه الشروط لا يكفي لتغطية العصور المختلفة للتاريخ الإسلامي، مما يولد فجوات ضخمة في تاريخنا. وإذا قارنا ذلك بتواريخ العالم فإنها كثيرا ما تعتمد على روايات مفردة أو مؤرخين مجهولين، بالإضافة إلى ذلك فهي مليئة بالفجوات، لذلك يكفي في الفترات اللاحقة التوثيق من عدالة المؤرخ وضبطه لقبول ما يسجله مع استخدام قواعد النقد الحديثي في الترجيح عند التعارض بين المؤرخين. إن اشتراط الأمانة والثقة والدين في المؤرخ ضروري لقبول شهادته على الرجال والأمم وتقويم دورهم التاريخي"2. كما "ينبغي ملاحظة منهج المحدثين عند التعامل مع الرواية التاريخية، فهم يتساهلون في رواية الأخبار التاريخية، كما نلاحظ عند ثقات المؤرخين مثل محمد بن إسحاق، وخليفة بن خياط، والطبري، حيث يكثرون من الأخبار المرسلة والمنقطعة"3. تلك الأخبار هي في الغالب روايات موقوفة على بعض التابعين مثل عروة بن الزبير، وأبان بن عثمان، وبعض صغار التابعين مثل الزهري، وعاصم بن عمرو، ومالك بن دينار وغيرهم، هذه الروايات من وجهة النظر الحديثية ضعيفة لا يحتج بها، ولكن من الجدير ذكره أن هؤلاء التابعين كانوا من الرواد الأوائل في كتابة السيرة النبوية، وتدوينها التدوين الأول، وكان تدوينهم لها إما عن طريق كتب أو وثائق وصلت إليهم عن طريق الصحابة أو تابعين عاصروا الصحابة وأخذوا ذلك عنهم، أو عن طريق روايات شيوخهم   1 أحمد عادل كمال، الطريق إلى دمشق (57) . 2 الدكتور أكرم العمري، المجتمع المدني (30) . 3 المصدر السابق (25) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 من الصحابة. ونظرًا لأن الاتجاه السائد في ذلك الوقت والاهتمام كان منصبّا على الأحاديث النبوية، لذلك تساهلوا المرويات التاريخية، ولم يولوها جلّ اهتمامهم وعنايتهم كما فعلوا اتجاه الأحاديث النبوية، فكانوا يرسلون غالبية الروايات التاريخية عند روايتها، وربما كان لتأليفهم كتبا في السيرة النبوية فيما بعد دورًا في ذلك حيث كانوا يملون على تلاميذهم ويحدثونهم منها دون ذكر السند. لذلك أعتقد أنه يمكن التساهل في الروايات التي ترد عن طريقهم ولا سيما وأنهم موثّقون عند أهل الحديث. "إن مراحل التاريخ الإسلامي كلها بحاجة إلى إعادة تقويمها من وجهة النظر الإسلامية، وقد تبين مدى تغير الصورة التاريخية لفترة من تاريخنا عندما يتناولها بالبحث كتاب مسلمون منصفون، كما حدث في إعادة تقويم الدولة العثمانية وفتح ملفها من جديد. ويبدو لي أن التغير الذي سيحدث في تصورنا للتاريخ الأموي والعباسي وما بعدهما من حلقات حتى تاريخنا المعاصر سيكون كبيرا جدّا، وسيكشف عن مدى الزيف والتحريف الذي أصاب تاريخنا. إنه لا بدَّ من محاولة جادة لإعادة صياغة التاريخ الإسلامي بأقلام إسلامية تؤمن بالله وبرسوله وتحس بدور الإسلام وأثره في تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا"1. "والصحوة الإسلامية عليها واجب ضخم تجاه المناهج التعليمية، ومناهج التاريخ بصفة خاصة تعيد صياغتها صياغة إسلامية، باعتبارها هذا جزءا لا ينفصل عن مهمة التربية اللازمة لإعداد الجيل المسلم. والمؤرخون المسلمون مدعوون للقيام بنصيبهم من هذا الجهد الشاق وقد لا يعترف بجهدهم أحد في الوقت   1 الدكتور العمري، المجتمع المدني (30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الحاضر بل قد يرميهم المثقفون بالأحجار، ولكنهم بجهدهم يبنون الطريق للمستقبل، والمستقبل للإسلام"1. {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهيداً} 3. إن الكتابة في مجال التاريخ أمر مشوق ومحبب للنفس خاصة تاريخ الإسلام الذي يحكي أمجاد المسلمين الأوائل، وما حققوه من انتصارات أبهرت العالم قديما وحديثا.. ألا وإن قمة ذلك التاريخ وأعظم تلك الانتصارات هو ما كان في مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وبعوثه وسراياه التي كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يتواصون بتعلُّمها وتدارسها ودراستها. فهذا الزهري يقول: "في علم المغازي علم الآخرة والدنيا"4. وقد بلغ من حرصهم على تعليم أولادهم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه أنهم جعلوها قرينة القرآن الكريم من حيث أولوية التعليم. يقول زين العابدين علي بن الحسين بن علي: "كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه كما نعلم السورة من القرآن"5، وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص قال: "كان أبي يعلمنا المغازي، ويعدّها علينا، وسراياه، ويقول: يا بني، هذه مآثر آبائكم، فلا تضيعوا ذكرها"6. إن علم "التاريخ العسكري من أجدر فروع التاريخ بالدراسة والتعمق،   1 محمد قطب، حول التفسير الإسلامي للتاريخ (276-277) . 2 سورة الروم: (6) . 3 سورة الفتح: (28) . 4 انظر الخطيب، أحمد بن علي البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/195) . 5 المصدر السابق. 6 انظر الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/195) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 والتحليل والعبرة، فكما أن جميع العلوم تسخر الآن لتكون معطياتها وسائل قتال بيد الجيوش، فالتاريخ العسكري أحد أبرز العلوم التي تعلم كيفية استخدام تلك الوسائل المادية والمعنوية. يقول بونابرت: من الممكن تعلّم التكتيك والتطورات وعمل المهندسين والمدفعية من الأنظمة والمذكرات، كما نتعلم الهندسة تقريبا، إلا أن معرفة الأجزاء العليا من الحرب لا تكتسب إلاّ بالتجربة، وبدراسة تاريخ الحروب ومعارك كبار القادة"1. لقد نشأ معي حب التاريخ عامة، والسيرة النبوية خاصة منذ الصغر، فلما طلب مني القسم اختيار موضوع بحث الماجستير، قررت أن أختار موضوعا في السيرة النبوية. ولكن بسبب كثرة من كتب في السيرة قديما وحديثا حتى ملئت في ذلك المجلدات المختلفة الأحجام، لذلك وجدت صعوبة بالغة في اختيار الموضوع المناسب، ومكثت أشهرا وأنا أفكّر وأقلّب الصفحات دون جدوى.. وبعد الاستعانة بالله عزّ وجلّ ثم بنصيحة شيخي الفاضل الأستاذ الدكتور/أكرم ضياء العمري حفظه الله الذي وجهني للكتابة النقدية لمرويات السيرة النبوية. وهنا تركزت اتجاهاتي نحو منهج معين بعد شتات، وقصرت المسافة نحو الموضوع المختار بعد طول عناء. ولكن بقيت مشكلة أخيرة وهي: أن زملاءنا الأفاضل في قسم السنة لم يتركوا لنا مجالا واسعا في هذا الاتجاه، حيث إنهم بمجهوداتهم الخيِّرة وبتوجيهات كريمة من أستاذنا الكريم فضيلة الدكتور أكرم العمري، قد غطّوا معظم مرويات السيرة النبوية وخاصّة الغزوات.. وبقيت في حيرة..   1 انظر أحمد عادل كمال، الطريق إلى المدائن (6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ما هو الموضوع المناسب ولم يطرقه الزملاء، وأخذت أبحث في فهارس كتب السير والمغازي القديمة والحديثة، لعلّي أهتدي إلى الموضوع المناسب. وهكذا بدأت أعرض على فضيلة رئيس القسم بعض المواضيع حتى وقع اختياري على موضوع السرايا والبعوث النبوية، حيث وجدت من خلال قراءتي واطلاعي على مَن كتب فيها قديما وحديثا أنه لم يفرد لها كتاب مستقل إلاّ ما كان من المدائني الذي ألَّف كتابا فيها أسماه "كتاب سرايا النبي صلى الله عليه وسلم "، وكتابا آخر باسم "كتاب السرايا" ذكرهما ابن النديم1. ومعلوم أن معظم كتب المدائني فقدت. وجمع أبو تراب الظاهري من الباحثين المعاصرين المرويات الخاصة بالسرايا والبعوث في كتاب أسماه "سرايا النبي صلى الله عليه وسلم"، وذكرها مؤلفو المغازي ضمنا مع مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مثل: الواقدي، وأحمد بن الحارث الخزَّاز، صاحب كتاب "مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه وأزواجه"، ذكر ذلك ابن النديم2. ومن مؤلفي المغازي المتأخرين الشيخ أحمد بن عبد اللطيف نور صاحب كتاب "غزوات الرسول وسرياته"، وعبد المنعم الهاشمي صاحب كتاب "سرايا الرسول". وأفرد لها ابن سعد مجلدا خاصًّا من كتابه "الطبقات" بعنوان: ذكر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه. وكذلك فعل كلٌّ من البيهقي الذي أفرد لها مجلدين من "الدلائل" بعنوان: جماع أبواب مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وسراياه. والشامي مجلدّا أسماه "جماع أبواب سراياه وبعوثه صلى الله عليه وسلم ". والحلبي الذي أفرد لها بابا من كتاب "السيرة" عنون له: باب سراياه صلى الله عليه وسلم   1 ابن النديم، محمد بن أبي يعقوب الورّاق، الفهرست (3/114) . 2 المصدر السابق (3/117) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وبعوثه. وأفرد لها ابن القيم فصلا في كتابه "زاد المعاد" باسم: سياق مغازيه وبعوثه على وجه الاختصار. وساقها الذهبي مع المغازي في المجلد الخاص بالمغازي من كتابه الموسوعي "تاريخ الإسلام". أما ابن هشام فلم يفرد لها أجزاء خاصة من كتاب "السيرة" وإنما ذكرها ضمنا في الجزء الثاني حتى الجزء الرابع، وكذلك فعل بقية من كتب في السيرة النبوية. أما من ناحية نقد المرويات التي جاءت عن السرايا والبعوث وفق منهج المحدثين فأعتقد أنه لم يتطرق أحد لهذه الناحية ما عدا ما ورد من الروايات عنها في كتب الصحيحين، وما ورد في كتاب الحافظ نور الدين الهيثمي "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد"، وما ورد في كتب السنن والمسانيد التي حظيت بتخريج أحاديثها من بعض المحققين والعلماء، مثل سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه التي خرّج أحاديثها العلامة الألباني، ومسند الإمام أحمد الذي خرّج أحاديثه كل من البنا، وأحمد الشاكر، وغيرها من كتب الحديث. ولكن الروايات التي وردت في هذه المصادر عن السرايا والبعوث قليلة جدّا لا تكاد تغطي إلاّ جزءا يسيرا منها، أما الجزء الأكبر فكان في بطون كتب السير والمغازي بلا نقد ولا تخريج غير قليل من المحاولات التي قام بها بعض كتّاب المغازي المتأخرين أمثال: ابن كثير، والذهبي، وابن حجر في تعليقاته على بعض الروايات التاريخية في "الفتح" و"الإصابة" وأيضا كان أكثر ما قام به هؤلاء هو عملية التخريج، أما النقد فكان قليلا،لأن معظم الروايات التي جاءت في كتب السير والمغازي كانت بلا سند، وذلك ما مثَّل صعوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 بالغة بالنسبة لي عند محاولة نقد هذه الروايات. لقد كان عملي في نقد هذه الروايات يمثل محاولة طموحة لما هو أفضل في المستقبل إن شاء الله تعالى ولا أستطيع أن أعترف برضائي التام عنها، ولكنها تجربة مفيدة لي على طريق هذا العلم النافع العظيم الذي أفتخر أن أكون أحد طالبيه المتواضعين. إن كل عمل مخلص لا يخلو من مشاقَّ وصعوبات، تصبح فيما بعد ذكريات جميلة بعد أن تكسب الإنسان خبرة جيدة تفيده في المستقبل. ولقد واجهتني بحمد الله بعض الصعاب والمشاق خلال عملي في هذا البحث، كان أولها عملية اختيار الموضوع، كما أوضحت سابقا، ويا حبذا لو يتم اختيار المواضيع لطلبة الماجستير خاصة بمشاركة الأساتذة في القسم مراعين في توجيهاتهم للطلبة اتجاهاتهم وميولهم التي يمكن أن تتضح خلال السنة التحضيرية، ومن خلال البحوث التي يكلفون بها، وذلك للوصول إلى الموضوعات المهمّة التي لا زالت بحاجة إلى إعادة كتابة أو مزيد بحث. ومن الصعوبات التي واجهتني ندرة المصادر والمراجع التاريخية التي تسلك عملية النقد وفق مناهج المحدثين، كما أن خلو بعض الروايات التي وردت في كتب المغازي والسير من الأسانيد، مثّل صعوبة بالغة بالنسبة لعملية النقد الإسنادي، لذلك لجأت إلى عملية نقد متون تلك الروايات (النقد الباطني) على ضوء منهج النقد التاريخي قدر الاستطاعة، وإن كانت بضاعتي في هذا المجال قليلة جدّا، نظرا لعدم توفر الخبرة اللازمة لي في مجال البحث والتحليل التي تحتاج إلى دراسة متخصصة متأنية، ولمدة كافية من الزمن، وهو الأمر الذي لم يتح لي خلال دراستي الجامعية ولا خلال السنة التحضيرية. لذلك أرجو من الله تعالى، ثم من المسئولين في القسم دراسة هذا الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وتخصيص قسم خاص، أو إضافة مواد تختص بعملية النقد الباطني (النقد التاريخي) والنقد الخارجي (نقد الأسانيد وفق منهج المحدثين) ؛ لأننا بحاجة ماسّة وشديدة للمختصين في هذا المجال الهام والنافع إن شاء الله تعالى لكي نركّز جهودنا في عملية تحرير تاريخنا الإسلامي مما شابه واعتراه من الشوائب والتّرهات التي استغلها أعداؤنا الحاقدون، ولعبوا بها كأورق رابحة يلوحون بها في وجوهنا كلما شاءوا. ومن المصاعب التي واجهتها عدم وجود تراجم لبعض الرواة (جهالة عين) ، أو خلو تراجمهم من الجرح والتعديل الموضح لحال الرواة (جهالة حال) ، "وربما كان ذلك راجعا إلى أن رواياتهم قد اقتصرت على الأخبار دون الحديث، فكانوا يقولون عن أحدهم "إخباري"، ولعلّ في التعبير حطّ من شأنه عن مرتبة المحدّث، وقد نشأ علم الرجال أصلا لخدمة علم الحديث"1. لذلك لم يهتم بهم مصنفو كتب الرجال فلم يوردوا تراجمهم، أو أوردوها موجزة خالية من الجرح والتعديل، فأصبح الجهل فيهم وفي أحوالهم كثير، يقول السبكي: "والجهل في المؤرخين أكثر منه في أهل الجرح والتعديل"2. إن وجود الكثير من التناقضات والاضطرابات حول الواقعة الواحدة نتيجة تعدّد النصوص والروايات حولها جعلني أقف محتارا بينها، أيها أرجح؟ أو كيف أجمع بينها؟ وهل يمكن الجمع أم لا؟ وقد كنت أتوقف عند بعض النصوص حوالي الشهر أو الشهرين متأنيًّا لعلِّي أستنبط منه تفسيرا واقعيّا مناسبا أو حكما ما، وكنت أستعين في كثير من الأحيان بآراء النقاد والبارزين في هذا المجال ممَّن سبقني من جهابذة النقاد المسلمين أمثال: ابن القيّم، وابن حجر، والزرقاني، والشامي، وابن كثير، وغيرهم ممَّا أكسبني بعض الخبرة البسيطة في مجال النقد والتحليل.   1 أحمد عادل كمال، الطريق إلى دمشق (58) . 2 السبكي، عبد الوهاب بن علي، قاعدة الجرح والتعديل، وقاعدة في المؤرخين (59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 كان مسمى هذا البحث (السرايا والبعوث النبوية - دراسة نقدية تحليلية) ، ولكن بعد أن بدأت العمل بجمع المادة العلمية حول السرايا والبعوث كاملة، فتكوَّنت لديَّ مادة علمية ضخمة عن السرايا والبعوث، بحيث ملأت حوالي تسعة ملفات من الأوراق، وهذه الروايات الضخمة لا يمكن استيعاب نقدها وتحليلها خلال مدة هذا البحث، ويكفي أن أشير إلى أن بعض السرايا مثل سرية (عبد الله بن جحش إلى نخلة) ، أو (البعث إلى كعب بن الأشرف) ، أو (بعث الرجيع) وغيرها من السرايا ذات الروايات المتعددة والكثيرة التي يمكن أن تكون كل واحدة منها بحثا مطولا. لذلك رأيت بعد مشورة الأستاذ المشرف أن يتم اختصار البحث جغرافيّا بحيث تتم دراسة مرويات السرايا والبعوث حول المدينة ومكة، وهي أهم وأكبر مناطق مسرح عمليات السرايا والبعوث النبوية، حيث يصبح مسمى البحث بعد التعديل (السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة - دراسة نقدية تحليلية) . وقد بدأت عملي بوضع خطة البحث حيث رتبتها وفق تقسيم موضوعي، صنّفت فيه السرايا والبعوث إلى سرايا اعتراضية، وسرايا المغاوير، وسرايا تحطيم الأوثان، وسرايا تعقبية، وتأديبية، وتحويلية، وبعوث تعليمية، وأخرى دعوية. هذا وقد اشتملت خطة البحث على: مقدمة، وتمهيد، وبابين كبيرين، يحتوي كل باب على فصلين، يندرج تحت كل فصل عدة عناوين رئيسية، وخاتمة. أما المقدمة: فقد اشتملت على سبب اختياري لموضوع رسالتي في السيرة النبوية، وفي موضوع السرايا والبعوث النبوية بالذات، ثم المصاعب والمشاق التي تعرضت لها خلال عملي في البحث. كما اشتملت المقدمة على خطة البحث، ومنهجي في العمل، كما حلَّلت بعض المصادر والمراجع التي استقيت منها في هذا البحث. ثمّ شكر وتقدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وكان التمهيد: عبارة عن عرض موجز للسرايا والبعوث النبوية، وخلافات أهل المغازي حولها. وخصصت الباب الأول: للسرايا والبعوث النبوية داخل وخارج المدينة، ويحتوي على فصلين: الفصل الأول: السرايا الاعتراضية - ذكرت فيه السرايا الأولى التي انطلقت لتعلن الحرب على قريش، والتي كانت عبارة عن دوريات قتالية لاعتراض القوافل التجارية القرشية. وفي الفصل الثاني: البعوث ذات المهمات الصعبة أو سرايا المغاوير تحدثت فيه عن بعض فرق المغاوير - التي تكونت من بعض الصحابة المتطوعين لتنفيذ بعض المهمات الصعبة التي كلّفهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، وتمثّلت في تصفية الأفراد من أعداء الدولة الإسلامية. ويقع الباب الثاني: (السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة) في فصلين: الفصل الأول: جعلته للسرايا ذات المهمات الخاصة، ويشتمل على بعوث مختلفة، منها سرايا تعقّبية، وسرايا تعليمية، وسرية تأديبية، وأخرى تحويلية. وكان بودي أن أخصص لكل من هذه السرايا فصلا مستقلاّ، ولكن بما أن السريتين الأخيرتين مختلفتان ولا تحتمل كل منهما إفرادها بفصل مستقل، لذلك دمجت الجميع في فصل واحد، ولكنني أفردت كلاًّ منها بمقدمة خاصة بها. وخصصت الفصل الأخير: (لسرايا تحطيم الأوثان) : تلك السرايا التي انطلقت بأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم لتحطّم رموز الوثنية في الجزيرة العربية، فتحدَّثت عن بعثي خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى كل من اللات والعزّى. وبعث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه إلى مناة الثالثة الأخرى، ثم بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع صنم هذيل. وهذه البعوث التدميرية للأصنام التي تقع ضمن نطاق البحث الجغرافي، وإلاّ هناك بعوث وسرايا أخرى أرسلت لتدمير كل رموز الشرك في أرض الجزيرة العربية. وقد ضمنت الخاتمة: بأهم النتائج والدراسات التي توصلت إليها في هذا البحث. هذا هو عرض موجز لكل محتويات هذا البحث، وربما يكون قد فاتني بعض السرايا والبعوث النبوية الواقعة ضمن نطاقه الجغرافي، ولكنني اجتهدت بقدر الاستطاعة في حصرها، ولا يخلو الإنسان من العجز والتقصير؛ فإن الكمال لله وحده، ولا يلام المرء مع اجتهاده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 منهج البحث: إن المنهج الذي اتبعته في عملية النقد يستند أساسا على محورين أساسيين: المحور الأول: هو محاولة نقد الأسانيد على ضوء منهج المحدثين، بينما كان المحور الثاني: هو التحليل منصبّا على المتون حيث تمت مناقشتها ما أمكن وفق المنهج التاريخي. وفي البداية قمت بإعداد جداول للروايات في المصادر المختلفة لأجل تنسيق وتنظيم عملية النقد والتحليل للروايات المتضاربة، فعملت جدولا للروايات المتشابهة، وآخر للروايات المختلفة، وجدولا للروايات التي فيها معلومات إضافية. بعد ذلك تم مناقشة وتحليل ومقارنة لهذه الروايات. فالمتشابهة في المضمون والمختلفة الطرق، اعتبرت ذلك دليلا على توثيقها، أما المختلفة فحاولت الجمع بينها أو ترجيح أحدها بعد تحليلها، أما الزوائد والمعلومات الإضافية في بعض الروايات، هذه الزوائد أثبتها وأوضح صاحبها، ومدى قوة زيادته من حيث قوة الراوي لها من عدمه. ثم ما كان من الروايات في الصحيحين فأثبتها دون نقد؛ وذلك لاتفاق العلماء على صحتها، فقط أشير إلى تخريجها من مظانها، كذلك فعلت بالنسبة للروايات التي حكم عليها النقاد من المحدثين والمؤرخين المشهورين، كابن حجر وابن كثير وغيرهما بالصحة والتحسين أو القبول، غير أنني أنقل أقوالهم حولها ما عدا ما حكم عليه الهيثمي، فإنني أتعقبه خاصة في الروايات المتعلقة بأمور شرعية أو عقدية، نظرا لتساهله في التوثيق، وما عدا ذلك فإنني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ربما أنقل قوله دونما تعليق. أما الروايات التي خلت من حكم النقاد سواء القدامى منهم أو المعاصرين، فقد درست أسانيدها وسبرتها وفق منهج المحدثين حيث عملت لها شجيرات للرواة لحصر نقاط الضعف أو القوة في الأسانيد أو لمعرفة اختلاف الطرق، ثم ترجمت للرواة من كتب الرجال معتمدا على كتاب "التقريب" لابن حجر، ومن لم أجده في كتاب "التقريب" نظرت إليه في الكتب الأخرى كـ "ميزان الاعتدال" للذهبي، أو "الكامل" لابن عدي، وغيرها من كتب الرجال. أما بالنسبة لعملية النقد الباطنية (تحليل المتون) فتم بها نقد الروايات الخالية من الإسناد أو التي كان في سندها بعض الضعف، وذلك بمقارنتها مع بعضها، ومناقشة ما جاء فيها من معلومات وفق المنهج التاريخي. هذا ومما يجدر ذكره أني قوَّيت بعض الروايات الضعيفة حديثيّا لمساندة علم الآثار والحفريات لها، كما ضعّفت بعض الروايات لمخالفتها لأصل من أصول الشريعة. وقد نبهت على بعض الأوهام التي كانت في بعض الروايات من غير تنقيص من قدر العلماء والباحثين الذين اعتمدوها مع الإشارة إلى قلة بضاعتي وضعفي في هذا المجال، مع الدعوة الصادقة لإخواني الباحثين والقرّاء الكرام إلى تنبيهي على الأوهام والأخطاء التي ربما وقعت فيها، فالمؤمن مرآة أخيه كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم. وفي عملية التخريج اتبعت منهجا محددا وهو أنني أقوم بنقد وتخريج روايات الخبر كلاّ على حدة، ثم في نهاية الخبر أذكر تخريجه كاملا وحكم النقاد عليه، ثم أتبع ذلك بحكمي عليه، أما إذا كان الخبر صحيحا مخرجا في الصحيحين أو أحدهما، فإنني أذكر ذلك في بداية كلامي على تخريجه، ثم أخرجه بعد ذلك في بعض الكتب الأخرى وخاصة كتب المغازي. وقد يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الخبر الواحد مجزءا ورواية كل جزء تختلف عن الأخرى من حيث القوة والضعف، لذلك فإنني أخرج وأنقد كل جزء منها على حدة، ثم أذكر بعض الشواهد التي قد تكون للخبر كاملا. بعد ذلك بدأت في عملية الكتابة، وهي لا تختلف صعوبة عن العملية النقدية من حيث إنها كانت على ثلاث مراحل: ففي المرحلة الأولى: كتبت فيها الروايات بسندها مع ترجمة للرواة في الحاشية. وفي المرحلة الثانية: حذفت تراجم الرواة من الحاشية بعد أن ازدحم البحث بكثرتها، وأبقيت على أسانيد بعض الروايات مع ذكر آراء النقاد فيها، وكنت قد قسمت البحث أثناء الكتابة الابتدائية على مباحث ومطالب تفصّل أحداث كل سرية على حدة من تاريخ السريَّة، وقوتها، ثم سير الأحداث، وأخيرا النتائج. أما في المرحلة الثالثة: فقد اعتمدت مبحث سير الأحداث كأساس للكتابة النهائية، لكوني اعتمدت فيه كتابة الأحداث بأسلوبي الخاص بعد أن طعّمت ذلك ببعض النصوص المقتبسة، كما دمجت فيه بقية المباحث والمطالب وحذفت أسانيد الروايات من المتن، وتراجم الرواة من الحاشية، لكنّي أثبتّ الحكم عليها بعد دراستها في الحاشية، وكذلك نقلت الاختلافات وآراء النقاد في كل مسألة في الحاشية مما كان السبب المباشر لكثرتها. وأتبعت بعض السرايا ببعض الأحكام الفقهية وغيرها المستفادة من الأحداث من بعض الكتب والمصادر التي اعتنت بذلك، مثل "زاد المعاد" لابن القيّم، و"فتح الباري" لابن حجر، وبعض شروح السيرة مثل: "الروض الأنف" للسهيلي، و"سبل الهدى" للشامي، و"شرح المواهب" للزرقاني، وغيرها. وربما ذكرت بعض الأحكام اجتهادا مني كما في بعث معونة، وبعث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي وغيرها. وقد خرَّجت الأحاديث الواردة أثناء النصِّ مع الحكم عليها إن لم تكن في الصحيحين أو المصادر الحديثية التي عنيت بالنقد قديما وحديثا وإلاّ عزوتها إليها. وعرّفت ببعض الأعلام من الصحابة أصحاب السرايا تعريفا دقيقا يشمل الاسم والكنية والوفاة وغير ذلك، وذلك من كتب تراجم الصحابة كـ "الاستيعاب" لابن عبد البر، و"الإصابة" لابن حجر، ومن كتب الطبقات، كطبقات خليفة، وابن سعد. كما ضبطت الألفاظ التي تحتاج إلى ضبط في الأعلام أو الأماكن عن كتب المعاجم اللفظية مثل: "اللسان"، و"القاموس"، و"النهاية" وغيرها. وعملت على تعريف شامل للمواضع والأماكن والبلدان التي وردت في البحث من خلال المعاجم البلدانية القديمة، مثل "معجم ما استعجم" للبكري، و"معجم البلدان" لياقوت، ثم أتبعت ذلك بتعريف حديث لهذه الأماكن من الكتب الجغرافية التاريخية الحديثة أمثال: "معجم السيرة"، و"معالم مكة" للبلادي، و"المجاز" لابن خميس، وغيرها، وذلك لأن بعض المواضع والبلدان قد تغيرت أسماؤها وصفاتها عمّا كانت عليه فترة أحداث هذا البحث، وربما كان ذلك أحد أسباب طول الحواشي، ولكني أردت ربط الماضي بالحاضر حتى تتضح الصورة كاملة أمام القارىء الكريم. كما وقفت على بعض الأماكن التي كانت مسرحا لأحداث بعض السرايا والبعوث، وقمت بتصويرها، ووصفها وصف المشاهدة. إن كثرة وطول الحواشي في هذه الرسالة كان بسبب أني سقت فيها الروايات الموافقة والمعارضة لما أثبتّه في المتون، ثم قمت بعد ذلك بنقد هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الروايات بمقارنتها مع بعضها ومحاولة الجمع بينها إن أمكن ذلك، وفي غالب الأحيان الترجيح فيما بينها مستفيدًا ممَّا قام به النقاد من أهل المغازي المتأخرين أمثال ابن القيم، وابن حجر، والشامي، والزرقاني، ناقلا أقوالهم في أحوال كثيرة، وقد فكرت في جعل هذه الحواشي في ملحق خاص يوضع في آخر الكتاب، ولكني عدلت عن هذه الفكرة لكي أجعل القارىء في الصورة وهو يقرأ في صلب الموضوع بحيث يكون مرتبطا بما يقرؤه؛ لأننا في وقت لا يسمح للقارىء بمراجعة الملاحق والتحقيق في كل هامش على حدة في ملحقه. وبعد: لقد حاولت بهذه الدراسة المتواضعة نقد الأسانيد وتحليل المتون مستنفذا في ذلك جهدي، ومستفرغا ما يسعه اجتهادي، محاولا تتبع خطى النقاد الذين سبقوني في هذا المجال، وصولا إلى الاختيار بقدر المستطاع من مجموع الروايات المتعددة لكل حادثة، إذ كان الاعتماد أساسا على الروايات التي خرّجت في كتب الصحاح، ونقدت في بعض كتب السنن والمسانيد أو التي حكم عليها النقاد القدامى من المحدثين والمؤرخين أمثال ابن كثير، وابن حجر، والهيثمي، وغيرهم بالصحة أوالتحسين، وبالتالي الاستفادة من مناهجهم في نقد الروايات الأخرى لم يحكموا عليها، مع أنني لم أهمل الروايات الضعيفة حديثيّا، بل استفدت منها في الموضوعات التي لا تتعلق بأمور العقيدة والشريعة، ونحتاج إليها لتكملة الإطار التاريخي للحدث مثل تواريخ السرايا والبعوث، وعدد الجند، ووصف ميادين القتال والمعارك، وعدد القتلى، وغير ذلك ممّا لم يرد ذكره في الروايات الصحيحة أو الحسنة، كما أنني أخذت بهذه الروايات الضعيفة كاملة في بعض السرايا والبعوث التي لم يرد حولها روايات صحيحة أو حسنة، ثم حاولت نقدها بمقارنتها ببعضها وفق منهج المؤرخين. لقد اجتهدت في هذه المحاولة قدر استطاعتي أن أحرِّر بعض روايات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 تاريخنا الإسلامي والخاصة بأهمِّ وأعظم حقبة منه وهي مرحلة السيرة النبوية العطرة، مما لصق بها من بعض الروايات الضعيفة، معتمدًا الروايات الصحيحة والحسنة قدر الإمكان، وإن كان ذلك الأمر لم يتأت لي في كل فصول البحث. وربما يلاحظ القارىء الكريم أن هناك نقصا في بعض جوانب هذا البحث وتقصيرا في بناء المادة النقدية فيه وخاصة نقد الأسانيد، وإنما كان ذلك لأني حاولت جهدي أن يكون هناك توازن بعض الشيء بين النقد الخارجي (سبر الروايات) والنقد الباطني (نقد المتون) . وعلى كل حال فهي محاولة مبتدئة تحتاج إلى تشجيع ومرونة عند التقويم، ونقد هادف بنّاء يوجهها نحو الأفضل مستقبلا إن شاء الله تعالى؛ لأن المنهج منهج جديد بالنسبة للروايات التاريخية، ولكن أهدافه نبيلة ويحتاج إلى صبر وتؤدة ورعاية وتوجيه وتشجيع، فالوقت ضروريٌّ وهام لنجاحه واستقراره. كما قد يلاحظ القارىء - أيضا - تفاوتا في خواتيم السرايا والبعوث من حيث ذكر النتائج والاستنباطات الفقهية وغير ذلك، وكان مرد ذلك أن الروايات والمعلومات التاريخية تتفاوت كثرة وقلة من حيث أهمية الحدث التاريخي ونتائجه وتعلق بعض تلك النتائج ببعض المسائل والأمور الشرعية والعقدية. فمثلا نرى المعلومات التاريخية تكون غزيرة حول سرية مثل سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة نظرا لأهميتها في تاريخ الصراع الإسلامي الوثني، ونظرا لما تمخَّض عنها من نتائج مهمة حيث حدث فيها أول صدام بين المسلمين والمشركين، وكسب المسلمون فيها المعركة من قتل وأسر وغنيمة، ثم حصل من قريش من بثِّ تلك الدعايات المغرضة ضد المسلمين، ودفاع الله عزّ وجلّ عن المؤمنين أصحاب السرية في الآيات التي وضحت صحة وسلامة موقفهم. كل ذلك جعل من هذه السرية محور اهتمام وعناية بالغة من قبل الرواة والإخباريين سواء أهل الحديث أو أهل التفسير أو أهل الفقه، ناهيك عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أهل المغازي والسير مما كان له أكبر الأثر في كثرة الروايات وتشعبها حول هذه السرية في مختلف الفنون، فإذا نظرنا إلى كتب الفقه وجدنا فيها روايات حولها، وإذا فتشنا كتب التفسير وأسباب النزول والحديث طالعتنا الروايات عنها، فضلا عن كتب المغازي المتعددة. بخلاف سرية أخرى مثل سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرّار، قصر الاهتمام بها حتى انحصر في عدد من أهل المغازي، فنجد أن ما كتب عنها من روايات وما تضمنته من معلومات تاريخية قليل جدّا بحيث لم تغط كل حلقات الخبر التاريخي، وذلك لأنه لم يحدث في السرية شيء يذكر يؤدي إلى نتائج تاريخية تهم الباحثين. وهكذا الحال بالنسبة لبقية السرايا والبعوث تختلف فيها كمية المعلومات التاريخية حسب أهميتها وأحداثها ونتائجها. وهذا الأمر يؤدي - أيضا - إلى تفاوت في عملية النقد بين السرايا، فالسرايا التي حظيت باهتمام بالغ من أهل الحديث والتفسير إضافة إلى أهل المغازي مثل سرية عبد الله بن جحش، نجد النقاد يتسابقون في نقدها وتحليلها، بينما لا نجد لهم أثرا يذكر في سرية مثل سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرّار. وأعتقد أن ذلك الأمر هو سبب تساهل النقاد من أهل الحديث في عدم نقد الكثير من الروايات والوقائع التاريخية التي ربما اعتقدوا أنها لا تمثل جانبا مهمًّا من حياة الإنسان المسلم مثلما تمثله روايات الأحاديث النبوي ومثلما تمثله وقائع بعض غزوات النبي صلى الله عليه وسلم الكبرى وما نتج عنها من أحكام فقهية وعقدية. والله تعالى أعلم. وختاما أقول: إني وإن حاولت الكتابة وفق منهج المحدثين لا أدّعي أنني متقن لهذا المنهج عالم بكوامنه، غائص في درره، وحائز على جواهره، بل أنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 قليل البضاعة في هذا المجال، فرحم الله امرءا عرف قدر نفسه. وإني وإن حاولت الكتابة بأسلوب العسكريين لا أدّعي أنني عسكري حاذق متقن (للأيدلوجيات) العسكرية والخطط الحربية (والتكتيكية) كما أنه لم يدفعني إلى الكتابة على مثل هذا النحو حب التقليد الأعمى، ولكن موضوع البحث دفعني إلى ذلك دفعا، فالفترة الزمنية التي يعالجها هي أعظم فترة في تاريخنا الإسلامي، والرجال الذين يتحدث عنهم هم خير رجال هذه الأمة على الإطلاق، والجانب الذي يخوض فيه من أعظم جوانب حياة الإنسان المسلم وهو الجهاد في سبيل الله، ذروة سنام الإسلام. وبما أن القتال لإعلاء كلمة الله هو قمة الأعمال العسكرية لهذه الأمة، كان لابدّ من محاولة الكتابة بأسلوب يتماشى مع ذلك؛ لأضع أمام القارىء الكريم صورة تاريخية قريبة - بقدر الاستطاعة - من الحقيقة التاريخية لذلك العصر الرائع، وتلك الأحداث الجليلة لأولئك الرجال العظام. وهي محاولة اجتهادية عسى الله أن ينفع بها، ويكتب لها النجاح بعون الله وقدرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 تحليل المصادر إن المصادر التي رجعت إليها في هذا البحث كثيرة ومتنوعة، ولذلك رأيت أن أعطي نبذة عن أهمها وأكثرها استيعابًا لموضوع البحث، إذ لا يتسع المقام لتحليل جميع المصادر التي رجعت إليها، كما أن هذه المصادر مشهورة ومعروفة، وسبق أن تناولها النقاد والمحللون قبلي بالتحليل والتقويم. ولذلك سوف أكتفي باستعراض موجز لها موضحًا مدى الاستفادة التي أفدتها منها. كان أول هذه المصادر وأقدمها مرويات عروة بن الزبير، وتلميذه الزهري، وهذه المرويات متناثرة بين طيات كتب المغازي وغيرها، ولكن كان أجمع هذه الكتب لها والتي استقيت معظم هذه المرويات منه كتاب "دلائل النبوة" لمؤلفه البيهقي. وكتاب "الدلائل" وضعه مؤلفه في دلائل النبوة وبيان ما جرى عليه أحوال صاحب الشريعة صلوات الله وسلامه عليه. وقد شرح البيهقي منهجه في تأليف كتبه، ومنها هذا الكتاب فقال: "وعادتي في كتبي المصنفة في الأصول والفروع الاقتصار من الأخبار على ما يصح منها دون ما لا يصحُّ، أو التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح، ليكون الناظر فيها من أهل السنة على بصيرة ممَّا يقع الاعتماد عليه، لا يجد من زاغ قلبه من أهل البدع عن قبول الأخبار مغمزًا فيما اعتمد أهل السنة من الآثار. ومن وقف على تمييزي في كتبي بين صحيح الأخبار وسقيمها وساعده التوفيق علم صدقي فيما ذكرته"1. وبالطبع فقد وقعت روايات ضعيفة السند وأخرى   1 انظر مقدمة البيهقي كتاب الدلائل (1/47) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 واهية في الكتاب رغم جهد البيهقي النقدي. "ويعتمد البيهقي أساسًا على الصحيحين، وينقل منهما كثيرًا، ويشير إلى ذلك، ثم ينقل عن أبي داود ولا يشير إلى ذلك، كما ينقل عن مسند الإمام أحمد، وموطأ مالك، وسنن ابن ماجه، وسنن النسائي الكبرى، وسنن الدارمي، ويأخذ من مستدرك الحاكم، وعن شيخ الحاكم ابن حبان، كما يأخذ عن مغازي ابن عقبة"1 وهنا مربط فرسنا، فهو ربما اطلع على مغازي موسى بن عقبة فنقل منها هذه المرويات. والله أعلم. وقد حظي كتابه هذا على تقدير العلماء، واتفقت كلمتهم على أنه أشمل كتاب في موضوعه من حيث الدقة والتهذيب والترتيب، فصار مصدرًا أصيلاً، اعتمده العلماء، وصاروا يكثرون النقل منه أو العزو عنه2 "وبالإضافة إلى أن فيه نصوصًا كثيرة لم يسبق نشرها، وأنه نقل من كتب أخرى لم تصل إلينا، فهو خير كتاب صُنف في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته من خلال الأحاديث الصحيحة والأخبار الوثيقة"3. يقول ابن كثير: ("دلائل النبوة" لأبي بكر البيهقي من عيون ما صنّف في السيرة والشمائل) 4. والبيهقي: هو الإمام الحافظ العلامة الفقيه الشافعي المشهور، شيخ خراسان، القانت الورع، صاحب التصانيف، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي النيسابوري، ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة في خسرو جرد من قرى بيهق بنيسابور، كان واحد زمانه في الحفظ والإتقان، وحسن التصنيف، كان فقيهًا محدثًا أصوليًّا من كبار أصحاب الحاكم، ومنه تخرج وجمع أشياء كثيرة   1 انظر مقدمة محقق الدلائل للبيهقي (1/89) . 2 مقدمة المحقق (1/89-90) . 3 المصدر السابق (1/92) . 4 المصدر السابق (1/7) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 نافعة لم يسبق إلى مثلها ولا يدرك فيها، كان من أعلم أصحاب الشافعي بالحديث وأنصرهم للشافعي، كان فاضلاً مرضي الطريقة، عاش البيهقي أربعًا وسبعين سنة، وتوفي في عاشر جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ودفن ببيهق"1. وقد كانت معظم مرويات عروة في هذا البحث من طريق ابن لهيعة، وهي في الغالب نسخة معروفة من مغازي عروة من طريق أبي الأسود يتيم عروة، ورواياته على اختصارها إلاَّ أنها غزيرة المعلومات ونستطيع أن نتلمس الدقة وحسن التنظيم خلالها2. ويقدم لنا الزهري معلومات وفيرة ومنظمة ودقيقة في مروياته، ممَّا يدل على إمامته في شأن المغازي، وقد يخالف بقية أهل المغازي لكنه يجبرك بالحجة والبرهان على صواب رأيه وإن كان مخالفًا لإجماع أهل المغازي، مثل مخالفته لأهل المغازي الذين ذكروا أن أبا العاص إنما اعترضته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الزهري ذكر أن الذين اعترضوا أبا العاص إنما هو أبو جندل وأصحابه مستدلاًّ بالتاريخ الذي وقع فيه الحدث. وكانت معظم مرويات الزهري في هذا البحث من طريق تلميذه موسى بن عقبة صاحب أوثق المغازي، ممَّا يعطينا الثقة المطلقة في مروياته3. وقد أفدت من هذه المرويات التي تميَّزت بوجود الإسناد إلى عروة،والزهري، وفي بعض الأحيان يتعداهما الإسناد حتى شاهد العيان، فاستطعت بذلك أن أدرس تلك الأسانيد، وبالتالي أحكم عليها من حيث القوة والضعف.   1 انظر السمعاني عبد الكريم بن محمد، الأنساب (1/438-439) ، وابن خلكان أحمد بن محمد، وفيات الأعيان (1/75-76) ، وابن كثير إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية (12/100) ، والزركلي خير الدين، الأعلام (1/116) . 2 انظر مرويات عروة للأعظمي (60، 62-65) . 3 انظر مرويات موسى بن عقبة، لباقشيش (1/11-14، 23، 35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وعروة هو الابن الثاني لحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته الزبير بن العوام رضي الله عنه ومع أنه أدرك بعض كبار الصحابة، وبعض أمهات المؤمنين كخالته عائشة رضي الله عنها والتي كانت أهم مصادره،إلا أنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يُعدُّ في الصحابة. بخلاف أخيه عبد الله الذي كان من صغار الصحابة، ومع ذلك فإنه يعتبر من كبار التابعين وفضلائهم، بل من فقهائهم المعدودين، فهو أحد فقهاء المدينة السبعة المشهورين. كان ثقة كثير الحديث عالماً مأمونًا ثبتًا، لم يدخل في شيء من الفتن، ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه، وهو أوَّل من صنَّف المغازي، قال الزهري: كان عروة بحرًا لا ينزف، ولا تكدَّره الدلاء، أصابته في رجله الأكلة فأرادوا قطعها، فأمرهم أن يقطعوها وهو يصلي، فنشروها وهو قائم يصلي وهو صامت لا يتكلم. توفي رحمه الله سنة ثلاث وتسعين1. أما الزهري: فهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، اشتهر بفصاحة اللسان والكرم والسخاء الشديد. اتصف منذ صغره بالجد والاندفاع نحو العلم والوعي العظيم. أخذ علمه من أبناء الصحابة والتابعين الأوائل، وكان أشد الناس تأثرًا به عروة بن الزبير. اشتهر الزهري بالوعي والصدق والأمانة وشدة التدين، كان شديد الحرص على تدوين كل ما كان يسمعه من شيوخه. حظي الزهري باحترام الخلفاء من بني أمية الذين رافقهم بصفة العالم الصادق فلم يرائي أو يتملق، وكان يجهر بالحق عند الحاجة بلا اعتبار للعواقب، قال عنه مالك بن أنس: "ما أدركت بالمدينة فقيهًا محدثًا مثل الزهري". وقال معمر: كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قُتل الوليد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه من علم الزهري. توفي رحمه الله سنة أربع وعشرين ومائة2.   1 انظر خليفة بن خياط، الطبقات (241) ،وابن كثير، البداية والنهاية (5/107-108) . 2 انظر محمد بن سعد، الطبقات الكبرى (2/388-389) ، ومحمد بن حبان البستي، مشاهير علماء الأمصار (66) ، وابن كثير، البداية (9/54-358) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ومن أهم المصادر وأغناها لي في هذا البحث ولكل من يبحث في علم السيرة والمغازي، سيرة ابن إسحاق، فكل من ألَّف في المغازي بعده فهم عيال عليه، كما ذكر الشافعي1. حيث كان الاعتماد في هذا البحث على بعض رواياته التي تفاوتت بين القوية الموصولة المسندة وبين الموقوفة على شيوخه، وبين الضعيفة المروية بلا سند، وقد حاولت قدر المستطاع أن أعتمد رواياته الموصولة والتي ربما ترد في بعض المصادر المنقطعة، وتصلها مصادر أخرى، وخاصة مرويات المحدثين عنه كأحمد بن حنبل، وأبي داود، والترمذي، والطبراني، وخليفة بن خياط، والحاكم، والبيهقي، وذلك من طريق ابن بكير عنه. تنوعت المعلومات التي يقدمها ابن إسحاق في هذا البحث، فنجده أحيانًا يقدم لنا معلومات وافرة عن السرية التي يتحدث عنها من حيث التاريخ، والسبب، والهدف، وقوة السرية، وسير الأحداث فيها، والنتائج، وتارة تكون معلوماته أقل وفرة فلا يشير إلى التاريخ، ولا إلى قوة السرية مثلاً، وأحيانًا يشير إشارات عابرة ومقتطفة وموجزة. وعلى كل حال فقد لاحظت على رواياته الاعتدال، فنراه يسوق لنا الرواية بتجرد دون أن يصدر عليها أحكامه أو يفرض آراءه، وقد ساعدني هذا النهج في الحد من اندفاعي الشديد نحو التعليق على كل رواية والتخفيف من ذلك قدر المستطاع. و"يستخدم ابن إسحاق منهجًا لعرض الغزوات الفعلية، يقدم ملخصًا حاويًا للمحتويات في المقدمة ويتبعه خبرًا جماعيًّا مؤلفًا من أقوال أوثق أساتيذه، ثم يكمل هذا الخبر الرئيسي بالأخبار الفردية التي جمعها من المراجع الأخرى   1 انظر الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (1/219) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 والقوائم كثيرة في المغازي أيضًا"1. وابن إسحاق هو: أبو بكر محمد بن إسحاق بن يسار بن كوثان المديني، مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف "إمام في المغازي، لكن مروياته لا ترقى إلى درجة الصحيح، بل الحسن بشرط أن يصرح بالتحديث، لأنه مدلس، وتحتوي سيرته على الحسن والضعيف معا"2. قال عنه الذهبي: صالح الحديث ما له عندي ذنب إلاَّ ما قد حشاه في السيرة من الأشياء المنكرة والمنقطعة3وقد فتَّش أحاديثه ابن عدي فلم يجد فيها ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو يهم كما يخطىء غيره، ولم يتخلف عن الرواية عنه الثقات والأئمة، وهو لا بأس به4. اختلف في تاريخ وفاته إلى أقوال، ورجح الخطيب ما رواه علي بن المديني وابن خياط من أنه توفي سنة اثنتين وخمسين ومائة5. وسيرة ابن إسحاق لم تصل إلينا كاملة، إنما كان هناك قطعة من السيرة حققها محمد حميد الله، استقيت منها بعض الروايات التي كانت فيها وتتعلق ببعض فصول البحث. وقد كانت معظم روايات ابن إسحاق في هذا البحث مستقاة من سيرة ابن هشام. إن ابن هشام قد أغنانا عن البحث والتنقيب عن السيرة الأصلية بسيرته المشهورة التي هي في الأصل تهذيب لسيرة ابن إسحاق "فقد كان ابن هشام   1 يوسف هورفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها (86) . 2 الدكتور أكرم العمري،المجتمع المدني (42) . 3 الذهبي، ميزان الاعتدال (3/469) . 4 ابن عدي أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، الكامل في ضعفاء الرجال (6/112) . 5 انظر خليفة بن خياط، التاريخ (426) ، والخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (1/234) ، والذهبي محمد بن أحمد بن عثمان، سير أعلام النبلاء (7/33-54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 في تهذيبه للسيرة محققًا للنصوص ومنتقدًا لما وقع لابن إسحاق من هفوات، ومتممًا لما فاته من الروايات ذات الصلة بموضوع السيرة، فجاءت سيرته على أكمل الوجوه وأحسنها اختصارًا واستيعابًا للأحداث الأساسية الهامة في حياته صلى الله عليه وسلم1 إن "سعة انتشار ملخص ابن هشام قللت الحاجة إلى الكتاب الأصلي منذ عهد بعيد، فاليعقوبي المتوفى حوالي (300هـ) يستخدم ملخص ابن هشام هذا2. وابن هشام هو أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري النحوي، كان مشهورًا بحمل العلم، متقدمًا في علم النسب والنحو واللغة، يحدثنا عنه الذهبي وابن كثير أنه حين جاء إلى مصر اجتمع به الشافعي، وتناشدا من أشعار العرب أشياء كثيرة. له بعض الكتب في النسب والنحو، ولكن شهرته كانت بسبب ما قام به من عمل علمي دقيق في تهذيب وتنقيح سيرة ابن إسحاق، حتى ليكاد الناس ينسون معه مؤلفها الأول ابن إسحاق، توفي ابن هشام عام (218هـ) 3. ومن أهم ما اعتمدته من المصادر في هذا البحث: "الطبقات الكبرى" لابن سعد المعروف بكتاب الواقدي، وخاصة الجزء الخاص بالمغازي منها، "وابن سعد ثقة يتحرى في كثير من رواياته كما يقول الخطيب البغدادي والعسقلاني، لكنه ينقل عن الضعفاء مثل الواقدي الذي أكثر من النقل عنه حتى اتهمه ابن النديم بسرقة مصنفاته، لكن التدقيق يثبن أن ابن سعد مؤلف له منهجه وأنه يكثر النقل عن الواقدي"4 لكن معلوماته أكثر تنظيمًا ودقة، وتكمل الصورة التاريخية للحدث من حيث التاريخ، والسبب، وسير الأحداث، والنتائج.   1 انظر إبراهيم بن إبراهيم قريبي، مرويات غزوة بني المصطلق (26) . 2 يوسف هورفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها (78) . 3 الذهبي، سير أعلام النبلاء (10/428-429) . 4 الدكتور أكرم العمري، المجتمع المدني (48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وقد سلم ابن سعد من التناقض والاضطراب الذي ربما وقع فيه شيخه الواقدي، وإن كان هو مصدر معظم مروياته كما قلنا، لكننا نجد الاعتدال سمة أحكامه على الحدث التاريخي، ونجده يسوق رواياته عن جمع شيوخه بلفظ (قالوا) كثيرًا، وأحيانًا يسميهم، كما يلخص في بعض الأحيان الروايات المتعددة للحادثة ويسوقها بأسلوبه الخاص، "إن ابن سعد ليضمن نقاء عرضه، لا يقطع وصفه الرئيس أو قصته الأساسية أبدًا بالإضافات التي جمعها بنفسه، كما يفعل الواقدي، ولكنه يضع هذه المادة المضافة في نهاية القصة الأساسية في كل حالة. وكمل ابن سعد أخبار الواقدي منهجيًّا في إحدى الخواص، وهي إجابته في كل غزوة عن الأسئلة التالية: من الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم حاكما على المدينة في أثناء غيابه؟ ومن حمل اللواء؟ "1. هذا وقد استفدت من هذا المنهج العلمي في هذا البحث معتمدًا على روايات ابن سعد في الجوانب التي اختص بها وأغفلها الآخرون خاصة الروايات المتعلقة بحملة الألوية في السرايا، وعدد الجند، والإضافات التي جمعها وذيلها نهاية كل سرية وبَعْثٍ ذَكَره. وابن سعد هو أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع البصري، الزهري، مولى بني هاشم المشهور بكاتب الواقدي لملازمته إياه، وثقه أهل الحديث. قال ابن خلكان: كان صدوقًا ثقة. وقال ابن حجر: أحد الحفاظ الكبار الثقات المتحرين، كان كثير العلم كثير الحديث والرواية وكثير الطلب وكثير الكتب، كتب الحديث وغيره من كتب الغريب والفقه، ولكن لم تذكر له غير ثلاث كتب هي: الطبقات الكبرى، والطبقات الصغرى وكتاب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم توفي ابن سعد سنة ثلاث ومائتين2.   1 انظر يوسف هورفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها (130) . 2 انظر ابن النديم محمد أبي يعقوب، الفهرست (111) ، وابن خلكان، وفيات الأعيان (4/351-352) ، وابن حجر، تهذيب التهذيب (9/182) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وكان من أهم مصادر البحث الجغرافية "معجم ما استعجم من أسماء المواضع والبلدان" لأبي عبيد البكري، وهو أثر نفيس من صميم التراث الأدبي العلمي، أفدت منه في تحديد الأماكن والمواضع الواردة خلال البحث، وفي ضبطها ضبطًا لغويًّا دقيقًا؛ لأن معجم البكري ليس من المعاجم العامة للبلدان، وإنما هو معجم لغوي جغرافي خاصٌّ بتحقيق أسماء المواضع التي وردت في الشعر العربي، وفي الأحاديث، وفي كتب السير، والتواريخ القديمة، وأيام العرب، ومن أخصّ مزاياه الضبط فإنه لهذا الغرض أُلِّف كما يقول مؤلفه: "فإني لما رأيت ذلك قد استعجم على الناس، أردت أن أفصح عنه بأن أذكر كل موضع مبيَّن البناء، معجم الحروف، حتى لا يدرك فيه لبس ولا تحريف"1. كما أن المعجم يمتاز بالإيجاز غير المُخلِّ، فهو قليل الحشو والفضول، لم يعتن مؤلفه بتفصيل ووصف دقيق للأماكن من حيث طول البلد وعرضه ودرجة حرارته، وذكر مياهه ونباته وحيوانه، وآثاره وأسواقه، كما ورد في بعض المعاجم الجغرافية البحتة مثل "معجم البلدان" لياقوت. لقد حدَّد البكري غرضه في تقدمته بأنه يقوم على الضبط وتصحيح الأسماء أولاً، لا على جمع الأخبار، لذلك قلَّ تعرضه لكثير ممَّا يتعرض له الجغرافي المتخصص. إن تميُّزه بهذه الخاصية يرجع إلى تنوع ثقافة مؤلفه، فالبكري لغوي من الطراز الأول في الأفق الأندلسي، تُحدثنا مؤلفاته النادرة أنه امتاز على أهل عصره بثقافته اللغوية العالية، لقد تلقى العلماء المسلمون قديمًا وحديثًا معجم البكري بالقبول ووثقوا صاحبه، ورفعوه مكانًا عليًّا بين اللغويين وأصحاب المعاجم، واعتمدوا عليه في تحقيق المشكلات، خصوصًا علماء المغاربة والأندلسيين من المحدثين والإخباريين، ومن أشهرهم القاضي عياض في "مشارق الأنوار" والسهيلي في "الروض الأنف"، فقد نقلا عنه كثيرًا في   1 انظر البكري عبد الله بن عبد العزيز، معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، المقدمة (1/1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 كتابيهما، أما أصحاب المعاجم اللغوية فمعجم البكري كان عندهم أعظم أصولهم في تحقيق أعلام البلدان العربية وضبطها، وأكثر من انتفع به منهم الفيروز آبادي صاحب "القاموس". والزبيدي صاحب "تاج العروس"، وشيخه محمد الطيب الفاسي صاحب "الحاشية على القاموس"1. والبكري هو أبو عبيد الله بن أبي مصعب عبد العزيز بن أبي زيد محمد بن أيوب بن عمرو البكري من بكر بن وائل، كان من أسرة تبوأت المناصب في الدولة، فجده أيوب بن عمرو تولى خطة الرد بقرطبة زمن الدولة الأموية والقضاء ببلدة لبة، فلما تغلَّب ملوك الطوائف على الأندلس استقل البكريون بأونبة (ولبة) وشليطش وما بينهما من البلاد في كورة لبة على ساحل البحر المحيط غربي أشبيلية، ودامت إمرة البكريين في تلك الناحية نحو أربعين سنة، وكان آخر البكريين حكمًا بأونبة أبو مصعب عبد العزيز والد أبي عبيد صاحب المعجم. كان أبو عبيد من أهل اللغة والآداب الواسعة، والمعرفة بمعاني الأشعار والغريب والأنساب والأخبار. وللبكري مؤلفات كثيرة أشهرها هذا المعجم، وكتاب "اللآلي في شرح أمالي القالي" وكتاب "المسالك والممالك" وكتاب "النبات". توفي أبو عبيد البكري سنة سبع وثمانين وأربعمائة2. كان أهم مصدرين لغويين في هذا البحث هما "لسان العرب" لابن منظور، "والقاموس المحيط" للفيروز آبادي. ونظرًا لما امتاز به الأخير من بعض المميزات التي من أهمها وأعظمها فائدة لهذا البحث هو حسن اختصاره، وتمام إيجازه مع أنه خلاصة ستين سفرًا ضخمًا، لذا أردت أن أترجم له ترجمة   1 مقدمة محقق المعجم (1/و-ص) بتصرف. 2 انظر الفتح بن خاقان، قلائد العقبان في محاسن الأعيان (218-219) ، وابن بشكوال خلف بن عبد الملك، الصلة (1/287-288) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 موجزة حيث أفدت من منهجه هذا في التعريف المختصر الموجز للكلمات المبهمة والغريبة التي عرضت خلال هذا البحث. إن "القاموس المحيط" هو المعجم الذي طار صيته في كل مكان، وشاع ذكره على كل لسان حتى كادت كلمة القاموس تحل محل المعجم؛ إذ حسب كثير من الناس أنهما لفظان مترادفان، وذلك لكثرة تداوله وسعة انتشاره، فقد طبقت شهرته الآفاق، وتلقاه بالقبول العلماء والحذاق وهو جدير بذلك. لقد تميَّز المعجم بغزارة مواده وسعة استقصائه، كما كان لطريقته الفذّة ومنهجه المحكم في ضبط الألفاظ أكبر الأثر في تميُّزه عن سائر المعاجم اللغوية، وقد اعتنى بذكر أسماء الأشجار والنبات والعقاقير الطبية، مع توضيح فائدتها، وذكر كثير من أسماء الأمراض، وأسماء السيوف، والأفراس والوحوش والأطيار، والأيام والغزوات، فكان دائرة معارف تحفل بأنواع العلوم واللطائف، وأضاف إلى خاصيته كمعجم لغوي بإيراده أسماء الأعلام والبلدان والبقاع وضبطها بالموازين الدقيقة حتى أضحى وكأنه معجم آخر للبلدان وموضحًا للمشتبه من الأعلام1. وصاحب القاموس هو الإمام اللغوي الشهير أبو طاهر مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيرازي الفيروز آبادي، كان شيخ عصره في الحديث والنحو، واللغة والتاريخ والفقه. ولد بكازرين بفارس سنة تسع وعشرين وسبعمائة هجرية، وعندما شبَّ تنقل من البلاد الإسلامية في ذلك الوقت عندما كانت البلاد الإسلامية بلا حدود ولا حواجز، ثم استقر به المقام نهاية المطاف في زبيد باليمن، فتلقاه الملك الأشرف إسماعيل بالقبول وبالغ في إكرامه، ثم ولاّه قضاء اليمن كله، وقد كان يلقى الإكرام في كل بلد يمر بها، ويوضح لنا ذلك ابن حجر فيقول: "ولم يقدر له قط أنه دخل   1 انظر مقدمة محقق القاموس (5-6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 بلدًا إلاَّ وأكرمه متوليها، وبالغ في إكرامه"1، كما يذكر ابن حجر أنه كان سريع الحفظ، حاد الذكاء، بحيث كان يحفظ في اليوم مائتي سطر2. وقد كانت له في كل فن من الفنون الإسلامية مؤلف، فبالإضافة إلى مؤلفاته في اللغة التي كان أشهرها هذا القاموس، فهناك مؤلفات في التفسير والتاريخ والتراجم والحديث والفقه. ويسوق لنا الخزرجي خبرًا يوضح مدى ما كانت تلقاه تلك المؤلفات من التقدير والإجلال والاحترام من جانب العلماء والفقهاء والقضاة، فيذكر أن بعضًا من كتبه المؤلفة رافقه موكب مهيب إلى باب السلطان الذي أجاز بدوره مصنفه بثلاثة آلاف دينار، توفي الفيروز آبادي ليلة الثلاثاء من شوال سنة سبعة عشر وثمانمائة هجرية في زبيد3. ومن أهم مصادر البحث الخاصة بجوانب معينة به مثل العملية النقدية، واستخلاص العبر واختلاف العلماء، وترجيح بعض الروايات مع استنباط الأحكام والمسائل الفقهية، ذلكم المؤلف القيم لابن القيِّم "زاد المعاد في هدي خير العباد" "وقد كان ابن القيم غزير العلم قوي البيان مبرزًا في فنون كثيرة، فنهج في الكتابة عن السيرة منهجًا متفردًا يحقق الهدف الأساسي من وراء دراسة السيرة وهو الهدف التربوي الذي يراد منه تحقيق الأسوة والقدوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كلها، في السلم وفي الحرب على حد سواء، وكان من منهجه رحمه الله الاقتصار على ما صحًّ عنده من السيرة دون التطويل في سرد جميع ما قيل في السير والمغازي؛ لأن كتابه هذا لم يكن خاصًّا بالسيرة، وإنما هو في هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم عمومًا، فهو كتاب أحكام ومعاملات   1 ابن حجر: أنباء الغمر بأبناء العمر (7/162) . 2 المصدر السابق. 3 انظر الخزرجي علي بن الحسن، العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية (2/264) وابن حجر، أنباء الغمر (7/162) ، والسخاوي محمد بن عبد الرحمن، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (10/79-86) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وعبادات، وشمائل وآداب، وطب، وغير ذلك من العلوم المتنوعة، وأضاف إلى هذه المباحث كلها موضوع السيرة النبوية، مبينًا فيها المراحل التي مرَّ بها الإسلام في عهده الأول بأسلوب علمي رائع، هادفًا إلى استخلاص العبرة واستنباط الحكم الشرعي، وحاثًّا على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هديه وسيرته. فجاءت مباحثه في السيرة فريدة في نوعها ذات منهج متميز، لأن كتاب السير والمغازي درجوا على سرد وقائع السيرة وما يتصل بها بأسانيدها ومتونها دون العناية بالجوانب التربوية، كما أنهم في الأعمِّ الأغلب ما كانوا يستنبطون الأحكام الفقهية من السيرة النبوية، فجاء ابن القيم فكتب عن السيرة النبوية بمنهج مختلف عمَّا ألفه الناس في تصنيف مباحث السيرة، وهو منهج الاقتداء به والسير على منواله"1. وقد جاءت هذه الدراسة كمحاولة للاقتداء بمنهج ابن القيِّم والاستفادة من آرائه النقدية الفذة خاصة نقده الباطني للمتون بطريقة حكيمة بناءة، ونقاش هادىء رزين ينبىء عن عقلية ناضجة متفتحة وذهن وقَّاد، والاستفادة أيضًا بما استنبطه من المباحث الفقهية والأحكام الشرعية. ولد شمس الدين أبو عبد الله، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي في بيت علم وفضل في السابع من صفر سنة إحدى وتسعين في قرية زرع من قرى حوران بدمشق، واشتهر بابن قيِّم الجوزية، نسبة إلى المدرسة التي أنشأها يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي، لأن أباه كان قيِّمًا عليها. وصفه الحافظان ابن كثير وابن حجر بالتعبد وقلة التكلف، وقد لازم ابن تيمية ملازمة تامة منذ عودته من مصر إلى وفاته، وكان واسع المعارف عالمًا بالقرآن والسنة وعلومهما، متبحرًا في ذلك، عارفًا باللغة على اختلافها، كما كان على علم غزير بالفرق الإسلامية، ومعرفة ما وقعت فيه من أخطاء. صنَّف   1 إبراهيم قريبي، مرويات غزوة بني المصطلق (32) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 رحمه الله تصانيف كثيرة بلغت نيفًا وستين كتابًا في مختلف العلوم وكان يهدف من تصنيفاته إلى بيان خصائص أهل السنة والجماعة، وبيان الصراط المستقيم والطريق الوسط بين الغالي فيه والجافي عنه. توفي ابن القيِّم رحمه الله ليلة الخميس في الثالث والعشرين من شهر رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة بدمشق1. كما أن من أهم المصادر الخاصة بعملية النقد واستنباط الأحكام، بل من أهم مصادر البحث الأساسية إن لم يكن أكبرها وأعظمها غَناء، الديوان الضخم الرائع والموسوعة العلمية وأكبر مرجع في علم الحديث والفقه والجامع لعلوم أخرى مختلفة مثل علم التراجم، وعلوم اللغة العربية، وعلم التاريخ والمغازي والسير (فتح الباري شرح صحيح البخاري) للحافظ الفذِّ أحمد بن حجر العسقلاني، "وهو من الشهرة والانتشار وذيوع الصيت بمكان عظيم، فهو أوفى شروح صحيح البخاري على الإطلاق، فقد بذل فيه مؤلفه جهودًا علمية ضخمة لم تجتمع لغيره من علماء عصره، وقد أمضى في تأليفه زمنًا طويلاً يقدر بخمسة وعشرين عامًا وهو يتحرى فيه الصواب، ويحقق ويمحِّص ويعرض على علماء عصره، فخرج هذا الكتاب فتحًا جديدًا في علوم الإسلام، وفنون الحديث وسائر المعارف الشرعية، مما لم يسبق له نظير، ولم يأت بعده مثله إلى اليوم، فقد وفق فيه مؤلفه غاية التوفيق، ووصل في تحقيق مسائله غاية التدقيق، فاجتمعت على الإعجاب به والثناء عليه كلمة العلماء على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، وكان كاسمه "فتح الباري" فهو اسم طابق المسمى"2.   1 انظر صلاح الدين خليل بن أبيك الصفدي، الوافي بالوافيات (2/270-272) ، وابن حجر، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (4/21-22) ، والشوكاني محمد بن علي، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع (2/143-145) . 2 إبراهيم قريبي، مرويات غزوة بني المصطلق (35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 يقول ابن حجر موضحًا منهجه في هذا السفر العظيم: "أسوق - إن شاء الله - الباب وحديثه أولاً، ثم أذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية، ثم أستخرج ثانيًا ما يتعلق به غرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية من تتمات وزيادات، وكشف غامض، وتصريح مدلس بسماع، ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك، منتزعًا كل ذلك من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد بشرط الصحة أو الحسن فيما أورده من ذلك. وثالثًا أصِل ما انقطع من معلقاته وموقوفاته، وهناك تلتئم زوائد الفوائد وتنتظم شوارد الفرائد. ورابعًا أضبط ما يشكل من جميع ما تقدم أسماءً أو أوصافًا مع إيضاح معاني الألفاظ اللغوية والتنبيه على النكت البيانية ونحو ذلك. وخامسًا أورد ما استفدته من كلام الأئمة مما استنبطوه من ذلك الخبر من الأحكام الفقهية والمواعظ الزهدية والآداب المرعية، مقتصرًا على الراجح من ذلك متحريًا للواضح دون المستغلق في تلك المسالك، مع الاعتناء بالجمع بين ما ظاهره التعارض مع غيره، والتنصيص على المنسوخ بناسخه، والعام بمخصصه، والمطلق بمقيده، والمجمل بمبينه، والظاهر بمؤوله، والإشارة إلى نكت من القواعد الأصولية، ونبذ من فوائد العربية، ونخب من الخلافات المذهبية بحسب ما اتصل بي من كلام الأئمة واتسع له فهمي من المقاصد المهمة"1. لقد استفدت استفادة كبيرة من منهج ابن حجر هذا سواء ما كان منه فيما يخصُّ نقل أقوال العلماء المختلفة ومحاولة الترجيح أو الجمع بينها، أو ما يخص العملية النقدية للبحث بشقيها المتنية والإسنادية، وكذلك ضبط ما يشكل من الأسماء والأوصاف والمواضع، وأخيرًا كان من المصادر الأساسية في مجال الاستنباطات والأحكام الفقهية.   1 ابن حجر، هدي الساري، مقدمة فتح الباري (4-5) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ولا يفوتني بل أجده من الواجب عليَّ أن أنوِّه بصاحب الفضل على ابن حجر في وضعه هذا الكتاب، بل بصاحب الفضل على العلماء وطلبة العلم والمسلمين كافة في حفظ الصحيح المسند من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم صاحب أصحِّ كتاب بعد كتاب الله عزَّ وجلَّ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله الذي رصّعت في الثناء عليه كتب الرجال، وتسابق المترجمون في وصف أحواله، وتشرفوا بنشر أقواله وأفعاله، لذلك فسوف أتكلم عنه بشكل مختصر. لقد التزم البخاري رحمه الله الصحة والدقة والتحري الشديد في وضعه هذا الكتاب العظيم، فلم يورد فيه إلا حديثًا صحيحًا، وهو مستفاد من تسميته إياه "الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه" ثم رأى أن لا يخليه من الفوائد الفقهية والنكت الحكمية، فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام، فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة، وقد بذل في تمحيصه وتدقيقه جهدا جبارًا، فها هو يقول: "صنفت الجامع من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة وجعلته فيما بيني وبين الله"1. ويقول أيضا: "صنفت كتابي الجامع في المسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثًا حتى استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته"2. ولكي نعرف قيمة هذا الكتاب نستمع إلى هذه القصة. يقول أبو زيد المروزي: "كنت نائمًا بين الركن والمقام فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعي، ولا تدرس كتابي، فقلت: يا رسول الله وما كتابك؟ قال: جامع محمد بن إسماعيل"3.   1 هدي الساري (489) . 2 المصدر السابق. 3 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 هذا وقد اعتمدت ما ورد فيه من روايات خاصَّة بهذا البحث باعتبارها أصح الروايات على الإطلاق، ورجحتها على بعض الروايات الأخرى التي نقلت أحداث البحث. والبخاري: هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي. ولد يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة ببخارى. مات أبوه وهو صغير فنشأ في حجر أمه. أُلهم حفظ الحديث وهو في الكتاب، فلما بلغ ست عشرة سنة حفظ كتب ابن المبارك ووكيع، وعرف كلام أهل الرأي، فلما طعن في ثماني عشرة بدأ في التصنيف فصنَّف كتاب "قضايا الصحابة والتابعين" وكتاب "التاريخ". تنقل بين الشام ومصر والحجاز والعراق في طلب العلم، وكان ممَّا ساعده في قوة التحصيل أنه كان لا يكتب أثناء مجالسة العلماء، وذلك بسبب ما أوتي من قوة الحفظ حيث كان يكتب بعد ذلك من حفظه،يقول محمد بن حمدويه: سمعت البخاري يقول: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف غير صحيح"1. وقد عرف فيه معاصروه من شيوخه وزملائه ذلك النبوغ المبكر والذكاء الحاد وصدق السريرة وقوة الإيمان بالله، فأثنوا عليه الثناء الجميل الذي يطول ذكره، لكني سأذكر بعض ما قيل فيه. قال الحافظ رجاء بن رجاء: هو آية من آيات الله تمشي على وجه الأرض. وكان أبو بكر بن أبي شيبة يسميه البازل يعني الكامل. وكان عبد الله بن المنير أحد شيوخه يكتب عنه ويقول: أنا من تلامذته، وقال فيه أبو حاتم الرازي: لم تخرج خراسان قط أحفظ من محمد بن إسماعيل ولا قدم منها إلى العراق أعلم منه. وسئل الدارمي عن حديث وقيل له: إن البخاري صححه، فقال: محمد بن إسماعيل أبصر مني، وهو أكيس خلق الله، عقل عن الله ما أمر به   1 انظر ابن حجر، هدي الساري (487) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ونهى عنه من كتابه وعلى لسان نبيه، إذا قرأ محمد القرآن شغل قلبه وبصره وسمعه وتفكر في أمثاله وعرف حلاله من حرامه. وقال أبو سهل محمود بن النضر الفقيه: دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها فكلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل فضلوه على أنفسهم وقال صالح بن محمد جزرة: كنت أستملي له ببغداد فبلغ من حضر المجلس عشرين ألفا. وقال سليم بن مجاهد: ما رأيت منذ ستين سنة أحدًا أفقه ولا أورع من محمد بن إسماعيل. وكلام الأئمة في الثناء عليه كثير لا يتسع له المقام، وأختم ذلك بقول ابن حجر: "ولو قلت أني لم أر تصنيف أحد يشبه تصنيفه في الحسن والمبالغة لفعلت.. ولو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس، ونفذت الأنفاس، فذلك بحر لا ساحل له". توفي البخاري رحمه الله ليلة السبت، ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين1. كما كان لكتاب ابن حجر الآخر القيِّم في بابه "تقريب التهذيب" أهمية بالغة في عملية النقد الإسنادية من حيث الحكم على الرواة ومعرفة أحوالهم وطبقاتهم، وهذا الكتاب خلاصة تجارب طويلة وممارسة عظيمة لعلم الرجال، قام بها ابن حجر الحافظ الحجة، والخبير المقدم في المسالك العلمية، و"التقريب" المذكور اختصار "لتهذيب التهذيب"2 وضعه استجابة لطلب بعض طلبة العلم الذي التمس منه أن يجرد له الأسماء خاصة. فأجابه ابن حجر إلى ذلك موضحًا منهجه فيه بقوله: "رأيت أن أجيبه إلى مسألته وأسعفه بطلبته، على وجه يحصل مقصوده بالإفادة ويتضمن الحسنى التي أشار إليها وزيادة، وهي أني أحكم على كل شخص منهم بحكم يشمل أصح ما قيل فيه وأعدل ما وصف به، بألخص عبارة وأخلص إشارة بحيث لا تزيد كل ترجمته على سطر واحد غالبًا، بجمع اسم الرجل واسم أبيه وجده، ومنتهى أشهر   1 انظر ابن حجر، هدي الساري (485-493) . 2 إبراهيم قريبي، مرويات غزوة بني المصطلق (37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 نسبته ونسبه، وكنيته ولقبه مع ضبط ما يشكل من ذلك بالحروف، ثم صفته التي يختص بها من جرح أو تعديل، ثمَّ التعريف بعصر كل راو منهم بحيث يكون قائمًا مقام ما حذفته من ذكر شيوخه والرواة عنه إلاَّ من لا يؤمن لبسه"1. وقد رجعت إلى هذا الكتاب وأفدت منه في تراجم معظم رواة البحث، وبالتالي الحكم على كل راو ومعرفة طبقته، وقد أفدت كثيرًا من منهجه في الحكم على الرواة بدقة وباختصار غير مخلٍّ. ولد قاضي القضاة، وإمام الحفاظ في زمانه أحمد بن علي بن محمد بن شهاب الدين بن حجر العسقلاني المصري المولد والنشأة، الشافعي المذهب في الثامن من شهر شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بالقاهرة، واشتهرت أسرته بالعلم والفضل والأدب، فأبوه نور الدين عليٌّ كان عالمًا يصدر الفتاوى ويقوم بالتدريس، وكانت له بالفقه عناية وبالأدب اهتمام، وعمّ أبيه فخر الدين عثمان بن محمد بن عليّ، كان فقيه الشافعية في زمانه. ونشأ ابن حجر يتيمًا، وقد وهبه الله قوة الذكاء وسرعة الفهم، وتوقُّد الحافظة، فكان يحفظ في كل يوم نصف جزءٍ من القرآن الكريم. ونظر ابن حجر منذ صباه في كتب التواريخ حتى مَهَر، وقد أعانه هذا على معرفة الرجال وأحوال الرواة، فصنَّف هذه الكتب القيمة في تراجم الرجال وأعيان الزمان: كـ "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة"، و"الإصابة في تمييز الصحابة"، و"تهذيب التهذيب" وغيرها. وللأدب كذلك نصيب من عناية ابن حجر فاهتم به وكان شاعرًا، وحبب الله إليه الحديث فشغف به وأقبل عليه، ووقف حياته على دراسته وأكثر الرحلة في طلبه، اتصل بشيوخ عصره، وكان أظهرهم زين الدين العراقي، ونور الدين الهيثمي، فقضى معهما عشرة أعوام كانت خيرًا له ونفعًا. طلب الحديث في   1 انظر مقدمة كتاب تقريب التهذيب، طبعة المكتبة العلمية بالمدينة المنورة (1/3-4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أماكن كثيرة فسمع بالحجاز وهو صغير، وتوجه إلى اليمن فلقي كثيرًا من العلماء والحفاظ الذبن اغتبطوا بوفادته وسروا بقدومه، ثم سار إلى مكة فأدَّى فريضة الحج ثم عاد إلى مصر. وقد تصدَّى ابن حجر للتأليف والتصنيف منذ عهد مبكر من حياته، وقد أكثر من التآليف الجليلة والتصانيف المفيدة، زادت على مائة وخمسين تصنيفًا، كما تصدَّى للإقراء والتدريس في عدة مدارس بالقاهرة. ثمَّ تولى مناصب القضاء فكان قاضي القضاة بالديار المصرية، أكثر من اثنين وعشرين سنة. توفي ابن حجر رحمه الله سنة اثنين وخمسين وثمانمائة1. ولقد كان لبعض الدراسات الحديثة والخاصة بعمليتي النقد بشقيها الخارجي (سبر الروايات وفق مناهج المحدثين) والباطني (نقد المتون على ضوء المنهج التاريخي) والتي سبقت هذه الدراسة الأثر الحميد في توجيهها. فقد استفدت من كتاب الدكتور: أكرم العمري - القيِّم - (المجتمع المدني) بقسميه، وكتاب الأستاذ /أحمد عادل كمال (الطريق إلى دمشق) وكتاب الدكتور /عماد الدين خليل (دراسة في السيرة) ، ومن بعض الرسائل الجامعية التي درست مرويات السيرة النبوية وفق منهج المحدثين مثل: (مرويات غزوة بني المصطلق) للشيخ إبراهيم بن إبراهيم قريبي، و (مرويات غزوة الحديبية) للحافظ الحكمي، و (مرويات موسى بن عقبة) للشيخ محمد باقشيش، كما استفدت من المنهج الأكاديمي العسكري الذي عرضه اللواء الركن /محمود شيت خطاب في كتابه (الرسول القائد) . هذا ولا يسعني في الختام - بعد أن منَّ الله عليَّ بإتمام هذا العمل الذي أرجو أن يكون خالصًا لوجهه الكريم، وأن يكون في ميزان حسناتي يوم القيامة   1 السخاوي شمس الدين محمد بن عبد الرحمن: الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر (1/46-451، 62، 64، 67، 85، 86، 92) وانظر مقدمة المحقق للكتاب نفسه (ز، ح، ط، ي، ك، ل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 إن شاء الله إلاَّ أن أحمد الله حمدًا طيبًا مباركًا فيه، وأشكره شكرًا وافيًا جزيلاً على إنعامه وفضله وإحسانه. وأشكر من خلقه اعترافًا بفضلهم عليَّ، إذ "لا يشكر الله من لا يشكر الناس"1 كلاًّ من أستاذي فضيلة الدكتور /أكرم ضياء العمري حفظه الله تعالى المشرف على هذه الرسالة والذي تولاني بفضله وكرمه ورعايته، ونفعني الله به وبعلمه، وأعانني كثيرًا بملاحظاته وتوجيهاته السديدة، حيث لم يبخل عليَّ بوقته الثمين، فكان يستقبلني في منزله المبارك بكل ترحاب وسعة صدر، فجزاه الله عني خيرًا، وأمدَّ في عمره، ونفع بعلمه السديد. كما أشكر القائمين على الجامعة الإسلامية بما أتاحوه لطلبة العلم الوافدين عليها من شرق الأرض وغربها، من فرص مواتية لتلقي العلم الشرعي النافع السديد، والنهل من ينابيع المعرفة الصافية المستقاة من الكتاب والسنة. وأخص بالشكر منهم رئيس الجامعة فضيلة الدكتور /عبد الله بن صالح العبيد حفظه الله. وأشكر أيضًا الأستاذين الفاضلين الأستاذ الدكتور /علي بن محمد عودة، والأستاذ الدكتور /محمد ضيف الله البطاينة. أعضاء لجنة مناقشة هذه الرسالة حيث إنني استفدت من ملاحظاتهما وتوجيهاتهما القيمة. كما أتوجه بالشكر لكل من أعانني على إخراج هذا البحث من موظفي المكتبة المركزية ومكتبة الدراسات العليا، وإلى عميد كلية البحار بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، والدكتور محمد موسى العامودي الذي أعارني بعض المذكرات والمراجع استفدت منها في البحث، وأيضًا الدكتور محمد أسامة عبد الظاهر من مستوصف الجامعة الإسلامية الذي أعارني بعض الكتب الطبية فجزاهم الله عني كل خير. كما أشكر أهل قرية الشامية بمنطقة عسفان لما لاقيته منهم من كرم الضيافة   1 الألباني، صحيح سنن الترمذي (3/913) وقال عنه صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وحسن الاستقبال أثناء وقوفي على موقع سرية الرجيع القريب من قريتهم، وأخص بالشكر منهم مؤذن مسجد القرية وأبناءه، والإمام وغيرهم من شباب القرية الذين لا تحضرني أسماؤهم الآن وكانوا خير عون لي. وختامًا أرجو من الله العلي القدير أن يجد هذا العمل القبول في السماء والأرض، إنه على ذلك لقدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 "جرت عادة المحدثين وأهل السير، واصطلاحاتهم غالبًا أن يسمُّوا كل عسكر حضره النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه غزوة، وما لم يحضره بل أرسل بعضًا من أصحابه إلى العدو سرية وبعثًا"1. "وربما سمَّوا بعض السرايا غزوة كما في مؤتة، حيث قالوا: غزوة مؤتة، وكما في سرية الرجيع حيث عبَّر عنها السيوطي في "الخصائص" بغزوة الرجيع، وعن سرية سيف البحر بغزوة سيف البحر، وربما سمَّوا الواحد سرية وهو في الأصل كثير، وربما سمّوا الاثنين فأكثر بعثًا، ومنه قول الأصل كالبخاري بعث الرجيع"2. ولكن ابن حجر ذكر أن ما افترق من السرية يسمَّى بعثًا3. وأخرج البيهقي عن مجاهد قال: قد بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود، وخباب سرية، وبعث دحية سرية وحده4، وقال الشافعي رحمه الله: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري ورجلاً من الأنصار سرية وحدهما، وبعث عبد الله بن أنيس سرية وحده5. وقال ابن القيم: وكان يبعث بالسرية فرسانًا تارة ورجالاً أخرى6. وذكر الحلبي أنه من ظاهر كلام أهل المغازي أنهم لا يفرقون بين كون إرسال تلك السرايا والبعوث للقتال، أو لغير القتال كتجسس الأخبار، أو تعليمهم الشرائع، كما في بئر معونة والرجيع، أو حتى للتجارة كما في سرية   1 ازرقاني، شرح المواهب اللدنية للقسطلاني (1/387) . 2 الحلبي، إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون (3/134) . 3 ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري (8/65) . 4 البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين، السنن الكبرى (9/100) . 5 المصدر السابق، وانظر سرية عبد الله بن أنيس، وسرية عمرو بن أمية إلى أبي سفيان من السرايا ذات المهام الصعبة من هذا البحث (ص 147-159) . 6 ابن قيم الجوزية، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، زاد المعاد في هدي خير العباد (2/103) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه حيث ذهب مع جماعة بالتجارة للشام فلقيه بنو فزارة فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم1. وقد اختُلِفَ في السرية معنى، وعددًا، فقال في اللسان: "السرية من سرايا الجيوش، فإنها فعيلة بمعنى فاعلة، سميت سرية لأنها تسري ليلاً في خفية لئلا ينذر بهم العدو فيحذروا أو يمتنعوا، يقال: سرَّى قائد الجيش سرية إلى العدو، إذا جرَّدها وبعثها إليهم وهو التسرية"2. ونقل المسعودي3 عن بعض ذوي المعرفة بسياسة الحروب أنها هي التي تخرج بالليل، فأما التي تخرج بالنهار فتسمى السوارب، وذلك قوله عزَّ وجلَّ {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} 4. أما ابن الأثير فذكر أن: "السرية: الطائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى العدو وجمعها السرايا، سُمُّوا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السَّري النفيس، وقيل: سمُّوا بذلك لأنهم ينفذون سرًّا وخفية، وليس بالوجه لأن لام السَّر راء وهذه ياء. وفي الحديث: يرد متسريهم على قاعدهم. المتسري: الذي يخرج في السرية، ومعنى الحديث: أن الإمام أو أمير الجيش يبعثهم وهو خارج إلى بلاد العدو، فإذا غنموا شيئًا كان بينهم وبين الجيش عامة، لأنهم ردء لهم وفئة، فأما إذا بعثهم وهو مقيم، فإن القاعدين لا يشاركونهم في المغنم"5. واتفق أصحاب اللسان، والقاموس، وتهذيب الألفاظ، على أن السرية ما بين خمسة أنفس إلى ثلثمائة6.   1 الحلبي، السيرة الحلبية (3/134) . 2 ابن منظور، محمد بن مكرم الإفريقي، لسان العرب (مادة: سرا) . 3 المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين: التنبيه والأشراف (ص 279) . 4 سورة الرعد: (10) . 5 ابن الأثير، أبو السعادات المبارك بن محمد، النهاية في غريب الحديث والأثر (2/362) . 6 انظر اللسان، والقاموس، مادة (سرا) ، وانظر أبا زكريا يحي بن علي الخطيب، كنز الحفاظ في كتاب تهذيب الألفاظ لابن السكيت (ص 50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وقد خالفهم صاحب "فقه اللغة" فذكر أن السرية من خمسين إلى أربعمائة1، وذكر ابن حجر قولاً آخر وهي: أنها من مائة إلى خمسمائة2. ثم نقل عن هؤلاء أقوالاً مختلفة في تعداد الجيوش ومسمياتها، فذكر في "فقه اللغة": أن أقل العساكر الجريدة (وهي قطعة جردت من سائرها لوجه) ، ثم السرية، ثم الكتيبة وهي من أربعمائة إلى الألف، ثمَّ الجيش وهو من ألف إلى أربعة آلاف، وكذلك الفيلق والجحفل ثمَّ الخميس وهو من أربعة آلاف إلى اثني عشر ألفًِا، والعسكر يجمعها3. وفي "تهذيب الألفاظ": الخميس ما زاد على السرية، والهضَّاء: الكثير من الخيل، والهضَّاء: الجماعة من الناس4. ومما نقله المسعودي: "أن ما زاد على الخمسمائة إلى دون الثمانمائة فهي المناسر، وما بلغ الثمانمائة فهو جيش وهو أقل الجيوش، وما زاد على الثمانمائة إلى دون الألف فهو الخشخاش، وما بلغ الألف فهو الجيش الآن لم يبلغ، وما بلغ الأربعة آلاف فهو الجيش الجحفل، وما بلغ اثني عشر ألفًا فهو الجيش الجرَّار، وإذا افترقت السرايا والسوارب بعد خروجها فما كان دون الأربعين فهي الجرائد، وما كان من الأربعين إلى دون الثلثمائة فهي المقانب، وما كان من الثلثمائة إلى دون الخمسمائة فهي الجمرات، وكانوا يسمون الأربعين رجلاً إذا وجهوا العصبة، وقد رأى قوم أن المقنب مثل المنسر وأن كل واحد منهما ما بين الثلاثين رجلاً إلى الأربعين، واستشهدوا على تقاربهما بقول الشاعر:   1 انظر الثعالبي، إسماعيل: فقه اللغة وسرُّ العربية (ص 219-220) . 2 ابن حجر (فتح 8/56) . 3 الثعالبي، فقه اللغة (ص 219-220) . 4 الخطيب، يحي بن علي التبريزي، تهذيب الألفاظ (ص 50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وإذا تواكلت المقانب لم يزل ... بالثغر منَّا منسر وعظيم وأن الكتيبة ما جمع فلم ينتشر، وأن الحظيرة النفر الذين يغزى بهم العشرة فمن دونهم، والنقيضة جماعة يغزى بهم ليسوا الجيش، وأن الأرعن الجيش الكثير الذي له رعن الجبل، والخميس الجيش العظيم، والجرار الذي لا يسير إلاَّ زحفًا لكثرته، والجرَّار أكثر ما يكون من الجيوش العظمى"1. وقد وافقه في بعض ذلك ابن حجر، إلا أنه زاد "ما بين الخمسمائة إلى الثمانمائة يسمى هيضلة"2. هذا وقد روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، وما هُزم قوم بلغوا اثنا عشر ألفًا من قلة" 3. هذا وقد اختلف أهل العلم من أصحاب المغازي وغيرهم في عدد السرايا والبعوث التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم منذ إعلان الحرب على قريش حتى توفاه الله عزَّ وجلَّ فكانت عن ابن إسحاق في ذلك ثلاث روايات: رواية نقلها الطبري والمسعودي، ذكرا فيها عنه أن عددها كان خمسة وثلاثين سرية وبعثًا4، بينما ذكر ابن هشام في روايته عنه أنها كانت ثمانية وثلاثين بعثًا وسرية، أورد منها سبعة وعشرين فقط5. أما ابن حجر فذكر أنه عدَّ ستًّا وثلاثين سرية وبعثًا6. وكذلك الواقدي كانت عنه روايتان متقاربتان، حيث ذكر المسعودي،   1 المسعودي، التنبيه والأشراف (ص 280) . 2 ابن حجر، فتح (8/56) . 3 انظر الألباني، صحيح سنن أبي داود (2/495) وصححه الألباني. 4 انظر الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الرسل والملوك (3/154) ، والمسعودي، التنبيه والأشراف (ص 278) . 5 انظر الحميري عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية (4/609-611-612-621) . 6 ابن حجر، فتح (7/281) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وابن حجر عنه أنها كانت ثمانية وأربعين1، وذكرها هو في المغازي سبعة وأربعين سرية وبعثًا2، وقد وافقه في ذلك كاتبه ابن سعد في روايته عن جمع شيوخه منهم الواقدي3. وعدَّ خليفة بن خياط في كتابه "التاريخ" إحدى وثلاثين سرية4. وأورد العامري ثلاثة أقوال: الأول: أنها كانت ستًّا وخمسين سرية، وقيل: خمسون. وقيل: ثمانية وثلاثون5. وحكى ابن الجوزي: ستًّا وخمسين سرية6. أما المسعودي فكانت عنه عدّة روايات، حيث رتب في كتابه "التنبيه والأشراف" ثلاثًا وسبعين سرية وبعثًا، ونقل عن بعضهم أنها ست وستون، وعن آخرين: نيف وخمسين7، ونقل عنه ابن حجر، والشامي: أنه عدَّ ستين بعثًا وسرية8. واختلف ابن حجر والشامي في نقلهم عن أبي الفضل العراقي، فذكر ابن حجر أنه بلغها في "نظم السيرة" زيادة على السبعين، بينما ذكر الشامي أنه أبلغها إلى الستين فقط9. وروى الحاكم عن الثقة من أصحابه ببخارى أنه قرأ في كتاب محمد بن   1 انظر المسعودي، التنبيه والأشراف (ص 278) ، وابن حجر، فتح (7/281) . 2 الواقدي محمد بن عمر، المغازي (1/7) . 3 محمد بن سعد البصري، الطبقات الكبرى (2/5-6) . 4 انظر العصفري، خليفة بن خياط، التاريخ (61-63، 74-76 -77-79-85-87-88-92) . 5 انظر العامري، يحي بن أبي بكر، بهجة المحافل وبغية الأماثل في تلخيص المعجزات والسير والشمائل (2/173) . 6 انظر ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، الوفا بأحوال المصطفى (279) . 7 انظر المسعودي، التنبيه والأشراف (278) . 8 انظر ابن حجر، فتح (8/154) ، والشامي، محمد بن يوسف، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (6/9-10) . 9 قال ابن حجر، وبلغها شيخنا في نظم السيرة زيادة على السبعين. ابن حجر، فتح (8/154) وقال الشامي، ونقل المسعودي عن بعضهم أنها ستون، وعلى ذلك جرى الحافظ أبو الفضل العراقي رحمه الله تعالى في ألفية السيرة، سبل (6/10) . قلت: ما نقله ابن حجر هو الراجح؛ لأنه تلميذ العراقي، وهو أعرف به من الشامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 نصر السرايا والبعوث دون الحروب نيفًا وسبعين1. وقد انفرد الحاكم بجعل البعوث والسرايا زيادة على المائة2، قال العراقي: ولم أجد هذا القول لأحد سواه، وقال الحافظ ابن حجر: لعله أراد ضم المغازي إليها3. وقال الشامي: "والذي وقفت عليه من السرايا والبعوث لغير الزكاة يزيد على السبعين"4. وذكر مغلطاي: أن مجموع الغزوات والسرايا مائة5. قال ابن حجر: وهو كما قال6. هذا بالنسبة لأهل المغازي، أما غيرهم من أهل العلم، فقد روى ابن كثير تعليقًا عن بريدة7، والإمام أحمد بن حنبل بسند جيد8، والحاكم، كلاهما عن قتادة9، وعبد الرزاق بسند ضعيف10، عن مقسم11: أنها كانت أربعًا وعشرين سرية.   1 نقل ذلك الحاكم في كتابه "الإكليل" المفقود، ورواه عنه كلٌّ من ابن حجر، فتح (8/154) ، والشامي، سبل (6/11) . 2 انظر الشامي، سبل (6/11) ، وابن حجر (8/154) . 3 المصدرين السابقين. 4 الشامي، سبل (6/12) . 5 انظر علاء الدين مغلطاي قلج التركي، الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم (23/23) . 6 ابن حجر، فتح (8/154) . 7 هو بريدة بن الحصيب - بمهملتين، مصغرًا – أبو سهل الأسلمي، صحابي أسلم قبل بدر، مات سنة ثلاث وستين. ابن حجر، تقريب التهذيب (121) . وانظر ابن كثير إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية (3/240) . 8 أخرجه ابن كثير، البداية والنهاية (3/241) . 9 أخرجه ابن كثير، البداية والنهاية (3/241) . 10 لأن في سنده عثمان الجزري، قال عنه ابن حجر، فيه ضعف. انظر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المصنف (5/295) ، وانظر ابن حجر، تقريب (386) . 11 هو: مقسم - بكسر أوله – ابن بحرة – بضم الموحدة وسكون الجيم – ويقال: نجدة – بفتح النون وبدال – أبو القاسم، مولى عبد الله بن الحارث، ويقال له: مولى ابن عباس، للزومه له، صدوق وكان يرسل، وما له في البخاري سوى حديث واحد. ابن حجر، تقريب (545) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 كما روى الذهبي تعليقًا عن قتادة قال: جميع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه ثلاث وأربعون1. قال المسعودي: "وأرى أن السبب الذي أوجب هذا التنازع المتفاوت في أعداد هذه السرايا أن منهم من يعتدُّ بسرايا لا يعتد بها آخرون، وذلك أنه كانت سرايا في جملة مغازٍ فأفردها بعضهم واعتد بها، وبعض جعلها في جملة تلك المغازي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجَّه في كثير من غزواته سرايا إلى ما يلي البلاد التي حلَّها بعد عزيمة المشركين بخيبر في الطلب على ما قدمنا، ووجه بعد فتح مكة سرايا لهدم الأصنام التي حول مكة فوقع هذا التنازع لأجل ذلك"2. وأضيف إلى ما قاله المسعودي: أن السرايا والبعوث النبوية لو حصرت كلها لفاق عددها العدد الذي ذكره أهل المغازي وغيرهم بكثير، وذلك أنه كانت هنالك سرايا وبعوث لأغراض غير قتالية، فكانت هناك سرايا وبعوث لجباية الزكاة، وأخرى لتنفيذ الحدود، وبعوث قضائية، وأخرى تعليمية، ودعوية، وغير ذلك، والكثير من السرايا المبهمة المنثورة بين طيات كتب الحديث وكتب معاجم الصحابة، ومعاجم البلدان، والمعاجم اللغوية وغيرها. إن ورود الكثير من أخبار هذه السرايا عرضًا في سياق الأحداث، وبإشارات مختصرة، بل وخاطفة في بعض الأحيان، وورود بعضها ضمن بعض الكتب والمصادر غير المتخصصة بالمغازي ككتب الفقه والتفسير، وأسباب النزول، وكتب الأدب وغيرها، كل ذلك أدى إلى هذا التنازع والاختلاف في عدد السرايا والبعوث النبوية.   1 الذهبي محمد بن أحمد بن عثمان، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام – قسم المغازي (74) . 2 المسعودي، التنبيه والأشراف (278، 279) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 من جهة أخرى كان هذا النشاط المتدفق من السرايا والبعوث على شكل موجات متعاقبة من جند الإسلام الأوائل دلالة قاطعة على أن دولة الإسلام في المدينة وبقيادة النبي القائد صلى الله عليه وسلم كانت مثل خلية النحل لا تهدأ ولا تكل، عمل دءوب متواصل لتبليغ دعوة الحق إلى الناس جميعًا، وهؤلاء الرجال الأفذاذ جنود الحق الذين لا تأخذهم فيه لومة لائم، والذين كانوا يتسابقون في الخروج تطوعًا وعن طيب خاطر، جنودًا بواسل في هذه السرايا والبعوث غير آبهين بالمشاق والمصاعب والمخاطر، بل كانوا يتحرَّقون لملاقاتها وقهرها طمعًا في الأجر وإعلاء لكلمة الله عزَّ وجلَّ. كما أن هذه السرايا كانت بمثابة تمرينات عسكرية تعبوية، ومناورات حية لجند الإسلام، استعدادًا للغزوات الكبرى التي كانوا يخوضون غمارها مع قائدهم الأعلى المصطفى صلى الله عليه وسلم من حين لآخر. إننا نرى وبوضوح كامل كيف كان معظم الصحابة رضوان الله عليهم مشاركين ضمن هذه السرايا والبعوث قوادًا تارة، وجنودًا عاديين أخرى، فكان ذلك من الخطط (والاستراتيجيات) بعيدة المدى التي كان يعدُّها النبي صلى الله عليه وسلم لتثبيت دعائم الدولة الإسلامية، وإعدادًا منظمًا ودقيقًا لجيوش الفتوحات الإسلامية التي ما فتىء عليه الصلاة والسلام يبشر بها أصحابه بين الفينة والأخرى في أوقات السلم والحرب والخوف والأمن. إنه بنظرة فاحصة في قوَّاد وجنود تلك السرايا والبعوث تطالعنا أسماء لمعت كثيرًا في تاريخ الفتح الإسلامي فيما بعد. مثل قائد فتوحات الشام، أمين الأمة، أبي عبيدة بن الجراح، وسعد القادسية وفاتح المدائن، وسيف الله المسلول أسد العرب خالد بن الوليد، وأرطبون العرب فاتح مصر عمرو بن العاص، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 إذا كانت تلك السرايا بمثابة تدريب عملي حي نابض، بل يمكن اعتبارها بلا مبالغة دورات أركان للقادة الذين فتحوا مشارق الأرض ومغاربها فيما بعد. إن هذا الكم الوافر من السرايا والبعوث، والطرق التي كانت تتمُّ بها تنقلاتها المسيرية نحو أهدافها، يدل على أن الجندي المسلم في ذلك الوقت كان يتمتع بلياقة بدنية هائلة مع خفة حركة تشحذها روح إيمانية لتضيف إليها العزم والتصميم اللذين يمثلان الروح المعنوية اللازمة، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية للانتصارات المتوالية التي كان يحققها جند الإسلام في كل معركة، ولا شكَّ أن تلك اللياقة القوية لم تأت من فراغ، أو أنها كانت محض صدفة، فالمتتبع للحياة اليومية التي كان يعيشها جند الإسلام الأوائل، يستطيع أن يعرف لماذا كانوا يتمتعون بتلك اللياقة العالية على الرغم من أنهم لم يكونوا جنودًا نظاميين يخضعون بتدريبات عنيفة، وينتظمون في معسكرات إلزامية في مؤسسات عسكرية نظامية كما هو الحال في عالمنا المعاصر. ولكن بالنظر في حياتهم وتحركاتهم خلال الأربع والعشرين ساعة اليومية يرى أنها كانت عبارة عن تدريب مستمر، فالبرنامج اليومي المنتظم يبدأ مبكرًا مع صلاة الفجر تؤدى جماعة مع قائدهم الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان دائمًا ما يحثهم على أداء هذه الصلاة جماعة وفي وقتها موضحًا لهم ولأمته أنها المفتاح العجيب ليوم مليء بالنشاط والحيوية "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلَّت عقدة، فإن توضأ انحلَّت عقدة، فإن صلَّى انحلَّت عقده كلها، فأصبح نشيطًا طيِّب النفس، وإلاَّ أصبح خبيث النفس كسلان"1. ثم ينطلق كل منهم إلى عمله الذي تتخلله فترات الصلوات الباقية، حتى إذا ما صلَّوا الصلاة الآخرة (صلاة العشاء) ناموا تطبيقًا لأمر القائد الأعلى،   1 أخرجه مسلم، انظر الألباني، مختصر صحيح مسلم (106) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 حتى إذا ما أخذوا قسطًا وافرًا من النوم أوَّل الليل إلى الثلث الأخير منه، قام معظمهم لأداء صلاة التهجد التي تملأ قلوبهم روحانية وتكسبهم مزيدًا من النشاط لأدائها في وقت يكون الجسم فيه مرتاحًا. فبالإضافة إلى أن حركات الصلاة حركات تدريبية رياضية لكل أعضاء الجسم، فإن في الروحانية المتمثلة في اتصال العبد مع خالقه عزَّ وجلَّ في خشوع وطمأنينة، رياضة إضافية للنفس تملؤها إيمانًا ويقينًا، هذا بالإضافة إلى الاستعداد الدائم واليقظة التامَّة امتثالاً لقوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} 1. فكانوا دائمًا يقومون بنشاطات تدريبية مركَّزة تتمثَّل في ركوب الخيل، والسبق، والرماية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحثُّهم على فعل ذلك، بل ويشاركهم فيه، معطيًا من نفسه القدوة، فكان يبزُّ الشباب من الصحابة قوة ومهارة ونشاطًا وحيوية، فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على ناس يتنضَّلون2، فقال: حسن هذا اللهم – مرتين أو ثلاثًا – ارموا وأنا مع ابن الأدرع، فأمسك القوم بأيديهم، فقالوا: لا والله لا نرمي معه وأنت معه يا رسول الله إذًا ينضلنا. فقال: ارموا وأنا معكم جميعًا، فقال: لقد رموا عامة يومهم ذلك ثمَّ تفرقوا على السواء ما نضل بعضهم بعضًا"3. وكان صلى الله عليه وسلم يركِّز على تعلم الرماية كثيرًا موضِّحًا أنها خير ما يعدُّ من قوة استعدادية للكفار، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي" 4.   1 سورة الأنفال: (60) . 2 التناضل،الترامي للسبق. 3 أخرجه أحمد، والحاكم واللفظ له، وقال: صحيح. ووافقه الذهبي. انظر البنا، الفتح الرباني (13/128) ، والحاكم، المستدرك (2/103-104) . 4 أخرجه مسلم. انظر صحيح مسلم بشرح النووي (13/64) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 بل وكان عليه الصلاة والسلام يشجعهم على الصناعة الحربية المتمثلة في ذلك الوقت بصناعة الأسهم، وأن الأجر الذي غايته الجنة ينسحب على صاحبها والمتنبل بها، فيروي لنا عقبة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه الذي احتسب في صنعته الخير، ومتنبله، والرامي، ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليَّ من أن تركبوا، وليس من اللهو إلاَّ ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته زوجته، ورميه بنبله عن قوسه، ومن عُلِّم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها" 1. فما أروعه من عصر تمسك فيه الصحابة بالتعاليم القرآنية الربانية، وعضّوا عليها بالنواجذ، وقاموا بتطبيقاتها حرفيًّا في شتى شئون حياتهم، فعزوا واستعلوا على أمم الأرض، شرقًا وغربًا، رغم قلتهم وبساطتهم. وحين ابتعد المسلمون عن تلك التعاليم وألقوا بها وراء ظهورهم ركبهم الذُلُّ والصغار، وتداعت عليهم الأمم من أقطارها بعد أن أصبحوا غثاءً كغثاء السيل. إن المهمات والأهداف التي أُوكلت للسرايا والبعوث النبوية، كانت تتفاوت تبعًا لاختلاف الظروف المحيطة والحادثة، فكانت السرايا الأولى في معظمها عبارة عن دوريات استطلاعية واستكشافية وجسِّ نبض، ثمَّ تطوَّرت إلى سرايا اعتراضية توقع الرعب والفزع في القوافل القرشية، وذلك قبل غزوة بدر الفاصلة، وعندما قويت شوكة المسلمين بعدها، أصبحت مهمَّة بعض السرايا والبعوث تنصب في تصفية الأفراد من أعداء الدولة الإسلامية المندسين في صفوفها مثل كعب بن الأشرف، والعصماء بنت مروان، وأبي عفك، فكان في قتل كعب ردعًا لليهود، وقتل العصماء وأبي عفك ردعًا للمشركين والمنافقين في المدينة. وعندما انقلبت الأمور (الاستراتيجية) لغير صالح المسلمين بعد أحد،   1 أخرجه أحمد، والحاكم وقال: صحيح. ووافقه الذهبي. انظر البنا، الفتح (13/129) ، والحاكم، المستدرك (2/104) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وعندما طمع الأعراب في خيرات المدينة، واستهانوا بالمسلمين لدرجة أنهم غدروا ببعض البعوث التعليمية كما في الرجيع وبئر معونة، غيَّر تبعًا لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (استراتيجيته) العسكرية، فانتقل بالسرايا من قريش إلى الأعراب لتأديبهم وردعهم، ولكن بطريقة صارمة وسريعة ومباغته. وكان أهم ما يميَّز تلك السرايا هو الهجوم التعرضي، وذلك بأن يتم فيها مهاجمة الأعراب قبل تحشُّدهم وجمع أمرهم بالهجوم على المسلمين. وهكذا ظلت السرايا والبعوث النبوية تؤدي دورها وتقوم بمهامها الخاصة لخدمة أهداف النبي صلى الله عليه وسلم القريبة والبعيدة المدى، فمن دوريات قتالية، إلى سرايا تعقبية، وأخرى تمويهية، حتى إذا ما توطَّد الأمر للمسلمين بعد فتح مكة، اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بإزالة كل ما يمتُّ للوثنية بصلة، فبعث السرايا والبعوث من مكة لتحطيم بقية رموز الشرك والوثنية، فانطلقت السرايا لتحطيم العزى، ومناة، واللات وسواع، وذا الخلصة، وغيرها من الأصنام والطواغيت الوثنية. ثم انطلقت السرايا الدعوية إلى كافة أرجاء الجزيرة العربية، تدعو إلى عبادة الله وحده وتزيل من طريق الدعوة كل العراقيل والقوى التي تقف في وجه الدعوة الإسلامية وهي خاضعة للضبط العسكري النبوي، منفذة لكل الأوامر النبوية العليا، والتي يمكن اعتبارها قمة أهداف وممارسات الحرب الفروسية المشرفة التي لم يشهد لها العالم مثيلاً من قبل ولا من بعد، والتي هي أحد دعائم الدعوة الإسلامية، بل أحد أهمِّ الأسباب التي دعت معظم سكان المناطق التي كانت تمرُّ بها هذه السرايا النبوية، ثمَّ الجيوش الراشدية الفاتحة بعد ذلك إلى الدخول طواعية وبحب غامر ورغبة ملحة في الإسلام. لقد أدهشت النتائج السريعة الإيجابية لحركة الفتوح الإسلامية جميع المحللين على اختلاف مشاربهم ودياناتهم، ولكن المحلِّل المنصف المتجرد ستزول دهشته حتمًا عندما يقرأ تلك التعاليم والوصايا النبوية لقوَّاد وجنود السرايا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 والبعوث والتي هي نواة حركة الفتوح الإسلامية، وأصبح الذين شاركوا بالأمس في السرايا والبعوث مشاركين اليوم على رأس تلك الجيوش الفاتحة مقتدين نفس النهج، سائرين على نفس الطريق الذي رسمه لهم قائد الأمة المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى تلك الأوامر والتعاليم النبوية صارت تتكرر على ألسنة الخلفاء وقادة جيوش الفتوح فيما بعد. والآن ما هي تلك الوصايا؟ عن بريدة رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل لله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغُلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوَّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو خلال فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم وكفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما للمهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلاَّ أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" 1.   1 رواه مسلم، الصحيح (4/8-9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشًا قال: "انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلُّوا وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين" 1. وعن أبي موسى رضي لله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدًا من أصحابه في بعض أمره قال: بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا" 2. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشًا أو سرية يقول: إذا رأيتم مسجدًا أو سمعتم مؤذنًا فلا تقتلوا أحدًا" 3. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: اخرجوا باسم الله تقاتلون في سبيل الله من كفر، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع" 4. وعن عبد الرحمن بن عائذ رحمه الله تعالى قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشًا قال: تألفوا الناس وتأتوهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم إلى الإسلام؛ فما على الأرض من أهل بيت مدر ولا وبر إلاَّ تأتوني بهم مسلمين أحبُّ إليَّ من أن تقتلوا رجالهم وتأتوني بنسائهم" 5. وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يتمنى ألا يتخلف عن أي سرية أو بعث يبعثه للجهاد في سبيل الله تعالى، وإعزاز دينه، ولكنه كان يفعل ذلك اضطرارًا لدرء المشقة عن المسلمين، وها هو يعتذر عن ذلك، موضحًا حكمة بعوثه وسراياه فيقول: "والذي نفسي بيده، لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة   1 رواه أبو داود. انظر شمس الحق العظيم آبادي، عون المعبود شرح سنن أبي داود (7/274) . 2 رواه مسلم، الصحيح (4/9) . 3 رواه الترمذي انظر المباركفوري، تحفة الأحوذي (5/155) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. 4 رواه أحمد. انظر البنا، الفتح الرباني (14/52) . 5 انظر الشامي، سبل (6/17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فيتبعوني، ويشق أن يقعدوا بعدي، والذي نفسي بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثُم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل" 1. فيا لروعة هذا الاعتذار وسُموِّه، والذي يوضح بطريق غير مباشر، المنزلة العظيمة للشهيد عند الله عزَّ وجلَّ لدرجة أن المصطفى صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يقتل شهيدًا في سبيل الله عدة مرات.   1 رراه البخاري: الصحيح (3/203) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 بسم الله الرحمن الرحيم الباب الأول "السرايا والبعوث داخل وخارج المدينة النبوية" ويشتمل على فصلين: 1 – الفصل الأول: السرايا الاعتراضية. 2 – الفصل الثاني: السرايا ذات المهمات الصعبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الفصل الأول السرايا الاعتراضية وتشمل: 1- مقدمة. 2- أول السرايا. 3- سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر. 4- سرية عبيدة بن الحارث إلى رابغ. 5- سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة. 6- سرية زيد بن حارثة إلى العيص أو خبر اعتراض أبي بصير وأصحابه لقافلة أبي العاص. 7- سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر (الخبط) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 بسم الله الرحمن الرحيم {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . [الحج: (40) ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني أن أحرِّق قريشًا، فقلت: ربِّ إذًا يثلعوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نُغزِك، وأنفق فستنفق عليك، وابعث جيشًا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك". الألباني مختصر صحيح مسلم (ص 523) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الباب ال أول: السرايا والبعوث النبوية داخل وخارج المدينة الفصل الأول: السرايا الا عتراضية مقدمه ... مقدمة بعد أن استقر المقام بالمسلمين في المدينة النبوية، عاصمة الإسلام الأولى، ومأزره، بدأ العمل الدءوب الشاق لتثبيت دعائم الدولة الإسلامية، التي كانت فتية وفي طور الإنشاء والتكوين. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ على عاتقه النهوض بهذه الدولة، فقام بعدة مبادرات سريعة لحل بعض المشكلات العارضة، وإن كانت في حد ذاتها تمهيدًا (لاستراتيجيات) بعيدة المدى. فعلى النطاق الاجتماعي سن نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ذلك النظام الذي استطاع به أن يحل مشكلة المجتمع المسلم في المدينة والذي تكون من فئات مختلفة ومستويات متفاوتة حتى أصبح بفضل من الله تبارك وتعالى مجتمعًا واحدًا مترابطًا انصهر تدريجيًّا في بوتقة الإيمان فذاب فيها. {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} 1. هذه المبادرة – وإن كانت حلاًّ وقتيًّا أملته الظروف الحادثة – لكنها في نفس الوقت تمهيد (لاستراتيجية) أخوة الإسلام، تلك الأخوة التي لا تربط بالدم والعرق والأرض كما تعوَّد العرب في الجاهلية، بل بالدين والعقيدة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 2 وذلك هو شأن الإسلام الذي يعتمد أساسًا على عملية التدرج في تشريع الأحكام والمعاملات بين أفراده.   1 آل عمران: (103) . 2 الحجرات: (10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 "إن هذا التآخي جعل المسلمين كرجل واحد يؤمن بعقيدة واحدة، ويعمل لهدف واحد بإمرة قائد واحد"1. أما على النطاق السياسي فقد وضع دستور المدينة (الوثيقة) بموجب معاهدات وأحلاف عقدها بينه وبين مشركي المدينة، ويهودها، وذلك بتنظيم العلاقات بين سكانها على اختلاف عقائدهم، حتى يعرف كل طرف الالتزامات المنوطة به، ولتتحدد معالم الحقوق والواجبات بين الأطراف المختلفة. "لقد نصت المعاهدة على قيادة محمد صلى الله عليه وسلم لسكان المدينة المنورة كافة مسلمين، ومشركين، ويهود، فإليه يرجع الأمر كله، وله أن يحكم في كل اختلاف يقع بين السكان. وبذلك أصبح النبي صلى الله عليه وسلم (قائدًا) في المدينة المنورة. كما نصت المعاهدة على تعاون أهل المدينة في رد كل اعتداء يقع عليها من الخارج، وبذلك توحدت صفوف أهل المدينة وأصبح لهم هدف، هو الدفاع عن المدينة ضد كل اعتداء خارجي. كما أعلنت المعاهدة بصراحة أنه لا يجوز لمشرك من أهل المدينة أن يجير مالاً لقريش، أو نفسًا، وأن اليهود يعاونون المؤمنين في النفقة عليهم ما داموا محاربين، وبذلك أوشك الكفاح بين المسلمين وقريش أن يبدأ"2. لقد كانت نظرته صلى الله عليه وسلم بعيدة حيث استطاع بهذا المعاهدة أن يضمن حياد اليهود ومشركي المدينة في الصراع المتوقع حدوثه بينه وبين قريش وحلفائها، وبالتالي يتفرغ للسياسة الخارجية للدولة التي جعل محورها هدفين سريعين: 1- محاولة كسب حلفاء الإيلاف التجاري القديم إلى جانبه تمهيدًا للهدف الثاني وهو:   1 محمود شيت خطاب، الرسول القائد، (ص 71) . 2 المصدر السابق (ص 73، 74) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 2- التعرض لتجارة قريش، وبالتالي إضعافها اقتصاديًّا وصولاً إلى تحطيم معنوياتها العالية وهز صورتها القوية في مجتمع الجزيرة العربية. من أجل ذلك بدأ العمل للحشد العسكري منذ وطئت قدماه صلى الله عليه وسلم دار هجرته المدينة المنورة ونزول قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 1. "لقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلجأ إلى المدينة ويحشد قواته فيها، ويوحد صفوف سكانها على اختلاف ميولهم وأهوائهم ودياناتهم، ويجعلهم كتلة متحدة للدفاع ضد الغارات الخارجية"2 على شكل سرايا اعتراضية كان من أهدافها ما يلي: 1- إعلان الحرب على قريش تنفيذًا لأمر الله عز وجل {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 3. وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 4. 2- إشعار أعداء الدولة الإسلامية الفتية "بأن المسلمين أقوياء، وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم، ذلك الضعف الذي مكَّن قريشًا في مكة من مصادرة عقائدهم، وحرياتهم، واغتصاب دُورهم وأموالهم"5. 3- استهدفت إرباك قريش وحلفائها، وإضعافهم، وتحطيم معنوياتهم بضرب نشاطهم التجاري الذي يمثل عصب حياتهم، وشريان وجودهم6. وذلك يبث الرعب والفزع في نفوسهم بإثارتهم الدائمة فهم يتوقعون هجوم   1 الحج: (39) . 2 خطاب، الرسول القائد (ص 74) . 3 البقرة: (190) . 4 الأنفال: (39) . 5 الغزالي محمد، فقه السيرة (ص 228) . 6 خليل عماد الدين، دراسة في السيرة (ص 171) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 المسلمين في كل لحظة، مما يشل تفكيرهم، فيسلبهم بذلك مبدأ المبادرة الأساسي في تحقيق أي نصر. 1- تدريب قوات المسلمين على القتال لتتحقق لهم اللياقة الكاملة اللازمة لخوض غمار المعارك الكبرى، فهم في حالة استنفار قصوى منذ بدأت السرايا الأولى، "ومن جهة أخرى جاءت هذه الهجمات أشبه بمناورات حيَّة كان المقاتل المسلم يجس عن طريقها نبض أعدائه ويختبر إمكاناتهم الحربية، ماديًّا، ومعنويًّا، ويمارس مزيدًا من التدريب وتنمية قدراته وطاقته على الصمود"1. 2- عقد المعاهدات مع حلفاء قريش التجارين الذين تخلوا عن حلفهم القديم المسمى بالإيلاف، وبالتالي ضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيادة هذه القبائل وعدم نصرتها لقريش حتى يتمكن المسلمون من التعرض لقوافلهم وهي مفتقرة لحماية الحلفاء. 3- المعاملة بالمثل فكما أن قريشًا قد استولت على أموال المهاجرين في مكة، كان في الاستيلاء على قوافلهم نوع من العوض عما فقده المهاجرون من أموال ومتاع، وبالتالي "الحصول على مورد للتموين والتسليح في أعقاب الأزمة المالية التي كان المسلمون يعانون منها في مطلع عهدهم بالهجرة"2 بسبب ما تركوه من مال ومتاع في مكة فرارًا بدينهم وحفاظًا على عقيدتهم وهجرة إلى الله ورسوله "فلا عجب إذا رأينا المسلمين يفكرون جديًّا في استخلاص أموالهم من قريش"3.   1 المصدر السابق. 2 المصدر السابق. 3 خطاب، الرسول القائد (ص 99) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 أول السرايا اختلف أهل المغازي في أول السرايا والبعوث. فمنهم من جعلها سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه1 وروى ابن إسحاق بلا سند أن راية عبيدة بي الحارث هي"أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام لأحد من المسلمين"2 أما غالبية أهل المغازي فقد أجمعوا على أن أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب"3 رضي الله عنه.   1 وقع ذلك في روايتين إحداهما عن زر بن حبيش رواها الطبراني في معجمه، وأخرجها الهيثمي علي بن أبي بكر في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/76) وقال عن إسنادها أنه حسن. قلت: وحيث إن هذه الرواية ليست مما يضمه القسم المطبوع من معاجم الطبراني الثلاثة، فلا نستطيع الحكم على سندها إلى زر، لأن الهيثمي معروف بتساهله في الحكم على رجال السند، وإن صح السند إلى زر فتبقى علة الإرسال. وقد ذكر مغلطاي أن النيسابوري رواه في كتابه الكبير بسند لا بأس به عن زر. انظر مغلطاي قلج، الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم (15/23) . والرواية الثانية عن الشعبي أخرجها عنه خليفة بن خياط (تاريخ ص: 62) لكن في سندها جهالة عين تضاف إلى علة الإرسال. وهناك رواية مسندة إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في آخرها: "فبعث علينا عبد الله بن جحش الأسدي فكان أول أمير أمر في الإسلام" أخرجها أحمد في المسند انظر البنا أحمد عبد الرحمن، الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل (21/25-26) ، وابن أبي شيبة عبد الله، المصنف (14/351-352) ، ورواه البزار مختصرًا مسند سعد بن أبي وقاص (لوحة 134) . وقد ذكر البنا عن أبي زرعة: أن هذه الروايات منقطعة. راجع البنا، الفتح (21/26) ولكن البيهقي رواها من وجه آخر موصولة. انظر البيهقي دلائل (3/15) . قلت: إن سلمت الرواية من علة الانقطاع فإنها لا تسلم من ضعف المجالد بن سعيد الذي عليه مدار الروايات كلها، ومن ضعف محمد بن يونس الكديمي في الرواية الموصولة (انظر ابن حجر، تقريب ص: 515-520) . 2 رواها بن إسحاق بلا سند، وأخرجه عنه كل من ابن خياط، تاريخ (61) ، وابن هشام، سيرة (2/591) واللفظ له، والطبري محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك (2/404) ، والبيهقي دلائل (3/10) ، وابن سيد الناس عيون الأثر (1/271-272) ، كما أخرج ابن سيد الناس بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية ذكر بعث عبيدة، ثم بعث حمزة بنحو ما ذكر ابن إسحاق عيون الأثر (1/272) ، وذكر ذلك الزبير بن بكار عن إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز. انظر ابن حجر، فتح الباري (84:7) ، والإصابة (2/34) . 3 قال بذلك عروة بن الزبير في روايتين، الأولى أخرجها البيهقي في الدلائل (3/8) ، والثانية أخرجها ابن سيد الناس في العيون (1/271) ، لكن مدارهما على ابن لهيعة خلط بعد احتراق كتبه. انظر ابن= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وبتحليل الأقوال السابقة نجد أن القول الأول في روايتان مرسلتان في سند إحداهما جهالة عين، أما الرواية الموصولة فإضافة إلى ضعف سندها الموضح سابقًا، ففيها اضطراب في المتن، كما أن الراوى لم ينص صراحة على أنها أول سرية، بل غاية ما ذكره أنه أول أمير أُمِّر وهو أمر محتمل، فربما كان قصده أول أمير يُنصَّبُ رسميًّا بأمر كتابي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ماحدث في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة، ويؤيد ذلك ما وقع في رواية البزار: "أول أمير عُقد له في الإسلام"1 وذلك أمر لم يتعوده الصحابة من قبل حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعين قواد السرايا بأمر شفهي منه، وربما كان لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر الرواية معاتبًا إياهم: "لأعين عليكم رجلاً ليس بخيركم أصبركم على الجوع والعطش" 2 بالغ الأثر عليهم فامتزج العقاب مع التطلع إلى هذا المنصب أو من يفوز به فعلق في أذهانهم وحفظوه. أيضًا كيف تكون سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه هي الأولى مع أن هذه السرية التي خرج فيها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قد سبقتها، فالمفروض أن تكون هي الثانية في الترتيب لا الأولى. وهناك شيء آخر، فمن خلال سياق الرواية يتضح لنا أن إرسال سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه في السنة الأولى بعد السرية التي خرج فيها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مباشرة. والمعروف عند أهل المغازي أن سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة   =حجر، تقريب (ص:319) . كما رواه موسى بن عقبة عن الزهري، وأخرجه البيهقي بسند لا بأس به. وممن قال بذلك أيضًا المدائني علي بن محمد وأخرجه عنه ابن خياط. تاريخ (62) واللفظ له، ورواه أيضًا الواقدي في المغازي (1/9) ، وابن سعد كاتبه في الطبقات (2/7) عن جمع من شيوخهما بلفظ "قالوا" ونقله الأموي في مغازيه، والزرقاني في شرحه على المواهب عن أبي معشر السندي. انظر ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري (7/280) ، والزرقاني شرح المواهب اللدنية (1/390) كما نقل الزرقاني والشامي تصحيح ابن عبد البر لهذا القول. راجع الزرقاني، شرح (1/390) ، والشامي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (6/12) . 1 ما روى الشيوخ عن سعد (لوحة: 134) البزار، المسند، مسند سعد بن أبي وقاص. 2 رواه أحمد. البنا، الفتح الرباني (21/25-269) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 كانت في السنة الثانية قبل بدر بشهرين تقريبًا وأنها هي السبب في غزوة بدر كما يقول بعض كُتَّاب السير والمغازي1. إذًا نخلص إلى القول بأن اضطراب المتن علة أخرى تضاف إلى علة السند. وأعتقد والله أعلم أنه لشهرة سرية عبد الله بن جحش وحيازتها على أوليات مهمة في تاريخ الصراع الإسلامي الوثني جعلها تطغى على أخبار السرايا التي قبلها والتي لم يحدث فيها صدام مسلح، ولم ينزل فيها قرآن، كما حدث في سرية ابن جحش رضي الله عنه لأجل ذلك كله اعتقد البعض أنها أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ربما أنه جعلها الأولى باعتبار أهميتها وما جرى فيها من أحداث. والله تعالى أعلم. أما القول الثاني فنرى أن مدار رواياته على ابن إسحاق والذي لم يوضح مصدر معلوماته، فإذا علمنا أنه لا يحتج بكلامه عند المحدثين إذا لم يصرح بالتحديث عمن أخذ عنه، فكيف إذا أبهم، ولكن الخبر هنا تاريخي وكان يمكن قبول قوله لولا معارضته لإجماع أهل المغازي. أما رواية ابن عباس فهي ضعيفة الإسناد بوجود عثمان بن عطاء الخراساني وأبيه فيه2. كما أن رواية الزبير بن بكَّار ضعيفة أيضًا؛ لأنها من رواية إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز3. وكان القول الثالث عبارة عن شبه إجماع من أهل المغازي كما رأينا، وإن كانت بعض الروايات وردت من طرق لا تخلو من مقال في نظر النقاد من أهل الحديث، ولكنها صالحة للاحتجاج بها تاريخيًّا، فإن ابن لهيعة وإن ضعف بعد ضياع كتبه واحتراقها فإن روايته عن أبي الأسود في الغالب نسخة معروفة لمغازي عروة، مما يخفف من تخوفنا من عدم ضبطه، كما أن موسى بن عقبة   1 انظر ما قاله ابن كثير، البداية والنهاية (2/247) . 2 انظر ابن حجر، تقريب (385، 392) . 3 انظر الذهبي، ميزان الاعتدال (1/56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 والزهري إمامان في المغازي، ومرسل الزهري ضعيف عند المحثين، لكن الخبر هنا تاريخي ونستأنس لقبوله بإجماع أهل المغازي عليه حيث لم يخالف إلا ابن إسحاق في تقديمه سرية عبيدة، وابن إسحاق على جلالة قدره وتمرسه في فن المغازي إلا أنه هنا قد خالف شيوخه – مصدر معظم معلوماته في المغازي – وكان يمكن أن نعتبر مخالفته لو أنه وضح لنا مصدر معلوماته وثبت لنا أنها تقوى على معارضة الإجماع، والله تعالى أعلم. هذا وقد حاول بعض أهل المغازي الجمع بين القولين منهم ابن إسحاق نفسه الذي قال: "وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معًا فشبه ذلك على الناس"1. وقد رد القسطلاني عليه فقال: "وهذا يشكل بقولهم: إن بعث حمزة كان على رأس سبعة أشهر، لكن يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عقد رايتهما معًا، ثم تأخر خروج عبيدة إلى رأس الثمانية لأمر اقتضاه، والله أعلم"2. قال الزرقاني معقبًا في شرحه عليه: "فيلتئم القولان"3. وقال ابن حزم: "وكان بعث حمزة، وبعث عبيدة متقاربين، واختُلف في أيهما أسبق"4. وبيَّن الحلبي سبب هذا الاختلاف بقوله: "قال بعضهم: ومنشأ الاختلاف أن بعث حمزة، وبعث عبيدة رضي الله تعالى عنهما كانا معًا أي في يوم واحد في محل واحد، أي وشيعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا كما في   1 ابن هشام، سيرة (2/595-596) . 2 القطلاني، المواهب اللدنية (1/75) . 3 المصدر السابق. 4 ابن حزم، جوامع السيرة (101) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ذخائر العقبي فاشتبه الأمر"1. إضافة لما سبق فإن من الأمور التي تدعونا إلى الاعتقاد بأن سرية حمزة رضي الله عنه هي الأولى، هو أنه عليه الصلاة والسلام قد اجتهد أن تكون سراياه الأولى من المهاجرين دون الأنصار؛ لأن الأنصار لم يتعهدوا بنصرته خارج المدينة، لذلك نراه يرسل في تلك السرايا المهاجرين، وعلى رأسهم أهل بيته وأقاربه ليكونوا أول من يخوض معمعة القتال والمعارك، ليعطي بذلك القدوة الحسنة. وبما أن السرية الأولى سيكون لها مردودات إيجابية أو سلبية في حالتي الظفر أو الهزيمة حرص صلى الله عليه وسلم أن يكون قائدها على قدر عظيم من الشجاعة والإقدام وقوة الشكيمة، خاصة إذا علمنا أن قائد القافلة القرشية رجل معروف في قريش بقوة شكيمته وغطرسته حتى إن أبا جهل كان يلقب بأعز البطحاء فكان لا بد له من ند مثله، وقد اتضحت قدرات هذا الند في مكة عندما استطاع وبجرأة أن يضربه وعلى ملأ من قومه وعشيرته ويعلن إسلامه بين أيديهم دون خوف، بل تحداه أن يرد عليه إن استطاع2، وقد دلت هذه الحادثة بما لا يدع مجالاً للشك بأنه فعلاً أعز فتًى في قريش بلا منازع، فكان حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه والذي أصبح بعد إسلامه أسد الله وأسد رسوله، هو أول قائد لأول سرية والله تعالى أعلم. ليتحقق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصبو إليه من نتائج إيجابية بعيدًا عن السلبيات المثبطة، وكان له ما أراد عندما رمى أعز البطحاء بأعز قريش. والله تعالى أعلم بالصواب وهو من وراء القصد.   1 الحلبي، إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون (3/137) . 2 انظر قصة إسلام حمزة رضي الله تعالى عنه في ابن هشام، سيرة (3/291-292) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر ... سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه إلى سيف البحر تنفيذًا لأمر الله عز وجل ودعوته لجهاد المشركين انطلقت طلائع الإيمان تبث الرعب في صفوف المشركين، فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هناك قافلة قرشية محملة بالأموال والبضائع وهي في طريق عودتها إلى مكة من الشام، يقودها أبو جهل بن هشام، ويحرسها حوالي ثلثمائة راكب من فرسان قريش1، فجهز لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "دورية قتال اعتراضية قوتها" ثلاثون مجاهدًا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد2 وعلى رأسهم أسد الله   1 ذكر معظم أهل المغازي المعتمدين كعروة بن الزبير أخرجه عنه البيهقي، دلائل (3/10) ، وابن إسحاق. انظر ابن خياط، تاريخ (62) ، ابن هشام، سيرة (2/595) ، والطبري تاريخ (2/404-405) ، وابن سيد الناس، عيون (1/271) وابن كثير، بداية (3/244) والواقدي، مغازي (1/9) ، وابن سعد، طبقات (2/7) ، والبلاذري، أنساب (371) ، والمدائني، أخرجه عمه العسكري في الأوائل (1/184) ، وابن حزم، جوامع السيرة (101) ، وابن عبد البر، الدرر في اختصار المغازي والسير (105) . والعامري، بهجة المحافل (1/176) ، والقسطلاني، المواهب اللدنية (1/75) . ولم يخالف إلا الزهري فيما رواه عنه موسى بن عقبة، وأخرجه عنه كل من البيهقي في الدلائل (3/9) ، وابن سيد الناس، عيون (1/217) ، حيث ذكر أن عددهم كان ثلاثين ومائة راكب. وأعتقد أن ذلك هو الراجح؛ لأن ثلثمائة فارس لحراسة قافلة أمر مبالغ فيه، والله تعالى أعلم. قلت: ربما تحرف أحد الرقمين في وقت مبكر، والله أعلم. 2 هذا ما أجمع عليه أهل المغازي غير ما انفرد به الواقدي من أنهم كانوا "شطرين خمسة عشر من المهاجرين، وخمسة عشر من الأنصار فكان من المهاجرين أبو عبيدة بن الجراح وأبوحذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولى أبي حذيفة، وعامر بن ربيعة، وعمرو بن سراقة، وزيد بن حارثة، وكناز بن الحصين، وابنه مرثد بن كناز، وأنس مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجال، ومن الأنصار: أبي بن كعب، وعمارة بن حزم، وعبادة بن الصامت، وعبيد بن أوس، وأوس بن خولي، وأبو دجانة، والمنذر بن عمرو، ورافع بن مالك، وعبد الله بن عمرو بن حزام، وقطبة بن عامر بن حديدة في رجال لم يسموا لنا"، ثم عاد الواقدي ليعقب برواية تناقض قوله رواها بسنده عن ابن المسيَّب، وعبد الرحمن بن سعبد بن يربوع، قالا: "لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا من الأنصار مبعثًا حتى غزا بنفسه إلى بدر، وذلك أنه ظن أنهم لا ينصرونه إلا في الدار، وهو المثبت. الواقدي، مغازي (1/9-10) . وكذا جزم ابن سعد في "الطبقات" (2/7) إلا أن ابن سيد الناس ذكر في كتابه "نور العيون" ونقله عنه الزرقاني: أن ابن سعد قد ذكر في غزوة بواط مشاركة سعد بن معاذ رضي الله عنه كحامل للواء، وأن ذلك يناقض قوله هذا، وقد حاول الزرقاني الذي أورد قول ابن= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. وفي شهر رمضان من السنة الهجرية المباركة1 ارتفع أول لواء في سبيل الله تبارك وتعالى2، وكان لونه أبيض، وحامله أبو مرثد كناز بن الحصين الغنوي رضي الله عنه حليف حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه3. تحركت الدورية في (مسير اقترابي) سريع نحو الهدف المحدد لها وهو ساحل البحر الأحمر، حيث التقت بالقافلة القرشية ناحية العيص في منطقة نفوذ قبيلة جهينة "فالتفوا حتى اصطفوا للقتال"4، وقبل أن يشتبك الطرفان في مواجهة دامية، تدخل رجل من كبار رجالات جهينة في وساطة سلام بينهم، فقام بجولات من المفاوضات المباشرة مع كل طرف على حدة حتى   =سيد الناس أن يؤول ذلك التناقض. انظر الزرقاني، شرح (1/390) . قلت: وبالرجوع إلى غزوة بواط في طبقات ابن سعد (2/8) نجده يذكر أن حامل اللواء فيها هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وليس سعد بن معاذ رضي الله عنه والذي ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلفه على المدينة، فلربما التبس الأمر على ابن سيد الناس رحمه الله أو لعله اطلع على نسخة من الطبقات فيها غلط (نسخي) والله أعلم. 1 هذا ما جزم به أهل المغازي، فقد نقل الأموي في مغازيه ذلك عن موسى بن عقبة، وأبي معشر، والواقدي، وآخرين. انظر ابن حجر، فتح الباري (7/280) ، كما أخرج البيهقي وابن كثير وابن سيد الناس عن موسى بن عقبة "نص الزهري على أن بعث حمزة قبل غزوة الأبواء". انظر البيهقي، دلائل (3/9) ، وابن كثير، بداية (3/244) واللفظ له، وابن سيد الناس، عيون (1/271) . وروى العسكري ذلك عن المدائني. انظر أبا هلال العسكري، الأوائل (1/184) . أما ابن إسحاق فجعلها في السنة الثانية في شهر ربيع الأول منها. انظر ابن هشام، سيرة (2/595) ، وابن جرير، تاريخ (2/404) ووافقه المدائني في رواية ثانية أخرجها عنه ابن خياط، تاريخ (ص 62) ، وإن كان قد خالفه بجعلها أول سرية، وأخرها ابن حزم وابن عبد البر إلى شهر ربيع الآخر من نفس السنة. انظر ابن حزم، جوامع (101) ، وابن عبد البر، درر (105) وهناك قول نقله الزرقاني عن ابن عبد البر في أنها كانت بعد شهر ربيع الآخر راجع الزرقاني، شرح (1/390) . 2 سبق الحديث عن الخلاف في أول لواء ارتفع في سبيل الله تعالى. 3 هو كنَّاز بتشديد النون وآخره زاي، ابن الحصين بن يربوع الغنوي، أبو مرثد، بفتح الميم وسكون الراء بعدها مثلثة. صحابي بدري، مشهور بكنيته، مات سنة اثنتي عشرة من الهجرة. ابن حجر، تقريب (462) . 4 من رواية ابن سعد، طبقات (2/6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 تمكن أخيرًا من النجاح في مساعيه السليمة "فحجز بينهم مخشى1 بن عمرو الجهني وكان مخشي ورهطه حلفاء للفريقين جميعًا، فلم يعصوه فرجع الفريقان كلاهما إلى بلادهم، فلم يكن بينهم قتال"2 3. وقد كانت نتائج هذه السرية على المعسكر الوثني سيئة للغاية حيث هزت كيان قريش وبثت الرعب في نفوس رجالها، وفتحت أعينهم على الخطر المحدق بهم والذي أصبح يهدد طريق تجارتهم، وبالتالي اقتصادهم. أما المسلمون فقد كانت نتائجها عليهم إيجابية حيث تصاعدت الروح الحماسية بينهم، وأعطتهم بعدًا عميقًا من الثقة بالنفس والجرأة على عدوهم، ذلك الذي استطاعوا ولأول مرة الوقوف في وجهه بقوة أبهرت قريش وأدهشتهم "قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن حمزة: يا معشر قريش إن محمدًا قد نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئًا، فاحذروا أن تمروا طريقه، وأن تقاربوه فإنه كالأسد الضاري، إنه حنق4 عليكم نفيتموه نفي   1 وقع اسمه في روايات أهل المغازي الآخرين غير رواية عروة، والزهري أنه (مجدي بن عمرو) وليس (مخشي بن عمرو) ولكن ذلك مخالف لرواية الصحيح، فقد ذكر مسلم في صحيحه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بواط وهو يطلب (المجدي بن عمرو الجهني) . صحيح مسلم بشرح النووي (18/138) فربما تصحف الاسم على بعض الرواة قديمًا، ولأنه لو كان هو مجدي بن عمرو وكان حليفًا للمسلمين لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه في غزوة بواط المتأخرة عن هذه السرية، أو أنه هو ولكنه نقض حلفه بعد ذلك مع المسلمين، والله تعالى أعلم بالصواب. 2 من رواية عروة وموسى بن عقبة عن الزهري، وأخرجه البيهقي في الدلائل (3/9) واللفظ له. 3 أخرجه البيهقي، دلائل (3/9-10) ، وابن سيد الناس، عيون (1/271) ، وابن كثير، بداية (3/243) ، والزرقاني، شرح (1/390) من مراسيل عروة، والزهري، وموسى بن عقبة، ورواه ابن إسحاق بلا سند، وأخرجه عنه كل من: ابن خياط، تاريخ (62) ، وابن هشام، سيرة (2/595) ، والطبري: (2/404-405) ، وابن سيد الناس، عيون (1/27) ، وابن كثير، بداية (3/244) . ورواه الواقدي، مغازي: (1/9) وابن سعد، طبقات (2/7) ، والبلاذري، أنساب (1/371) ، والمدائني، وأخرجه عنه خليفة بن خياط، تاريخ (62) ، والعسكري، أوائل (1/184) ، كما أخرجه الأموي في مغازيه والزرقاني في شرحه على المواهب كلاهما عن أبي معشر السندي. انظر ابن حجر، فتح (7/280) ، والزرقاني ، شرح (1/390) ورواه أيضًا ابن حزم، جوامع (101) ، وابن عبد البر، درر (105) ، والخبر وإن كان في بعض طرقه ضعف لكنه قد بلغ حد التواتر بين أصحاب المغازي مما يجعلنا نستأنس لقبوله لكثرة شواهده وإجماعهم عليه، والله تعالى أعلم بالصواب. 4 الحنق – محركة -: الغيظ أو شدته (القاموس: الحنق) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 القردان1 على المناسم2، والله إن له سحرة، ما رأيته قط ولا أحدًا من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين وإنكم عرفتم عداوة ابني قيلة3 فهو عدو استعان بعدو"4. ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما دار بينهم من حوار نتيجة ردة فعلهم نحو شرارة الإنذار الأولى التي أطلقها تجاههم قال: "والذي نفسي بيده لأقتلنهم ولأصلبنهم ولأهدينهم، وهم كارهون، إني رحمة بعثني الله – عز وجل – ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه، لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر يحشر الناس على يدي، وأنا العاقب" 5.   1 القردان: جمع قراد وهي دويبة تعض الإبل (اللسان: قرد) . 2 المنسم: بكسر السين: طرف خف البعير والنعامة والفيل والحافر، وقبل: هو للناقة كالظفر للإنسان (اللسان: نسم) . 3 كنابة عن الأوس والخزرج، فقيلة أمهم وكانوا ينسبون إليها. 4 انظر ابن هشام، سيرة (1/218-219) . 5 رواه الطبراني وجادة من طريق أحمد بن صالح المصري. الطبراني سليمان بن أحمد، المعجم الكبير (123-124) وقال عنه الهيثمي: ورجاله ثقات. الهيثمي، مجمع (6/68) . قلت: الحديث ضعيف الإسناد، وذلك لوجود إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري، قال ابن عدي: عامة حديثه مناكير، وقال البخاري: سكتوا عنه. انظر البخاري محمد بن إسماعيل، التاريخ الكبير (1/1/322) ، وابن عدي عبد الرحمن، الكامل في الضعفاء (1/251) ولا معول لتوثيق الهيثمي لرجاله لأنه معروف بتساهله في هذا المجال، ولكن الخبر هنا تاريخي ويمكن الاستئناس به تارخيًّا لمناسبته لسياق الأحداث قبله، أما الجزء الأخير منه فله شواهد كثيرة تقويه، البعض منها ورد في الصحيحين. انظر، ابن حجر، فتح الباري (6/554) ، وصحيح مسلم بشرح النووي (15/104-105) ، وأحمد. انظر البنا، الفتح (2/187-188) وهي في الطبراني، المعجم (2/120، 121، 122) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 سرية عبيدة بن الحارث إلى رابغ ... سرية عبيدة بن الحرث رضي الله عنه إلى رابغ "وإني لأول رجل رمى بسهم في سبيل الله".. سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. صحيح سنن الترمذي (2/277) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأبواء غازيًا "يريد قريشًا1 وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوادعته فيها بنو ضمرة"2 وفاتته القافلة القرشية أحيط علمًا ما يبدو بواسطة أحد عيونها بتوقفها في منطقة رابغ الساحلية فجهز لها (دورية قتال اعتراضية) بإمرة "عبيدة بن الحارث"3 في ستين رجلاً"4 "من المهاجرين الأولين، ولم يكن في تلك الغزوة من الأنصار أحد"5 "وعقد له لواءً أبيض كان الذي حمله مسطح بن أثاثة بن المطلب بن عبد مناف"6. انطلقت الدورية في (مسيرها الاقترابي) 7 حتى وصلوا إلى رابغ "فلقوا   1 يذكر الواقدي أنها قافلة تجارية لقريش. الواقدي، مغازي (1/12) وأعتقد والله أعلم أنها كذلك حيث لم ينقل أهل المغازي أن قريشًا بعثت جيشًا لحرب المسلمين في تلك المنطقة قبل بدر. 2 رواه ابن إسحاق بلا سند. انظر ابن هشام، سيرة (2/519) ، والبيهقي، دلائل (3/10) . 3 هو عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي، أسلم قديمًا وكان رأس بني عبد مناف حينئذ مع أن العباس وإخوته كانوا في التعدد أقرب، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم هاجر وشهد بدرًا وجُرح فيها ثم مات في الطريق إلى المدينة ودفن في الصفراء. وهو أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين. انظر ابن سعد، طبقات (3/50) ، وابن حجر، إصابة (2/449) . 4 أخرجه أبو الأسود في مغازيه عن عروة، ووصله ابن عائذ من حديث ابن عباس. انظر ابن حجر. فتح (7/280) . 5 أخرجه البيهقي من حديث عروة، وحديث الزهري من طريق موسى بن عقبة واللفظ له. البيهقي، دلائل (3/8-9-10) . 6 من رواية ابن سعد، طبقات (2/7) ، ومسطح هو ابن أثاثة بن المطلب بن عبد مناف بن قصي المطلبي، كان اسمه عوفًا، وأما مسطح فهو لقبه، وأمه بنت خالة أبي بكر، أسلمت وأسلم أبوها قديمًا، وكان أبو بكر يمونه لقرابته منه، فلما خاض مع أهل الإفك في أمر عائشة حلف أبو بكر أن لا ينفقه فنزلت {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} الآية [النور: 22] ، فعاد أبو بكر إلى الإنفاق. ابن حجر، الإصابة (3/408) . 7 اختلف أهل المغازي في كيفية خروج هذه السرية، وكذا في تاريخ خروجها، ففي رواية عروة التي وصلها ابن عائذ عن ابن عباس رضي الله عنهما يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثها من الأبواء التي كانت في صفر على رأس اثني عشر شهرًا بإجماع أهل المغازي. ابن حجر، فتح (7/280) . وأخرج البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلها بعد رجوعه من الغزوة مباشرة. البيهقي، دلائل (3/9) ، وكذا أخرج ابن سيد الناس عن موسى بن عقبة. ابن سيد الناس، عيون (1/271) ونسب ابن إسحاق هذا القول إلى بعض العلماء، ولكنهم خالفهم فذكر أنه صلى الله عليه وسلم بعثها بعد أن أقام بالمدينة بقية شهر صفر أو صدرًا من ربيع الأول. ابن هشام، سيرة (2/591-592) ، والبيهقي، دلائل (3/10) ، وزاد ابن حزم، وابن عبد البر شهرًا على قول ابن إسحاق. انظر ابن حزم، جوامع (100) ، وابن عبد البر، درر (104) . أما الواقدي ومتابعوه فقد جعلوها في السنة الأولى على رأس ثمانية أشهر. انظر الواقدي، مغازي (1/10) ، وابن سعد طبقات (2/7) ،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 بعثًا عظيمًا من المشركين1 على ماء يدعى الأحياء من رابغ"2. وهناك حدثت أول مواجهة عسكرية بين المسلمين والمشركين "وهو أول يوم التقى فيه المسلمون والمشركون في قتال"3 ولكن القتال اتخذ طابع المناوشة بالسهام فقط، فكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه "أول العرب رمى بسهم في سبيل الله"4 في تلك المعركة التي لم تستمر طويلاً إذ قرر الفريقان الانسحاب من أرضها. وقد كان انسحاب المسلمين قويًّا ومنظمًا حيث انسحبوا في قتال (تراجعي تعطيلي) 5 بواسطة حامية منهم تغطي انسحابهم حتى هبطوا ثنية المرة، وكان بطل هذا الانسحاب الناجح سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي كان له الدور الأكبر في تشتيت وإحباط استعدادات العدو لشن أي هجوم مضاد وذلك بوابل من السهام المزعجة التي قذفها نحوه، والتي كونت (ساترًا دفاعيًا) مهد لانسحاب سليم منظم بالنسبة للمسلمين، وانسحاب متوتر مرعوب بالنسبة للمشركين، هذا وقد فر عتبة بن غزوان، والمقداد بن الأسود يومئذ إلى المسلمين وكانا في حبس قريش قد أسلما قبل ذلك، فتوصلا بالمشركين حتى خرجا إلى   =والبلاذري، أنساب (371) . 1 اختلف أصحاب المغازي في قائد المشركين حيث ذكر ابن إسحاق أنه عكرمة بن أبي جهل في رواية البكائي. انظر ابن هشام، سيرة (2/591) ، وهو أبو سفيان بن حرب في رواية ابن بكير عنه البيهقي، دلائل (3/10) وجزم بذلك الواقدي ومتابعوه. الواقدي، مغازي (1/10) ، وانظر جزم الواقدي بذلك عند الطبري. تاريخ (2/402) ، وابن كثير، بداية (2/223) وابن سعد، طبقات (2/7) ، والبلاذري، أنساب (371) ، وينقل ابن هشام في زياداته على ابن إسحاق من طريق أبي عمرو المدني: "أنه كان عليهم مكرز بن حفص بن الأخيف". ابن هشام، سيرة (3/592) . 2 من رواية عروة والزهري عند البيهقي، دلائل (3/9) . 3 من رواية عروة والزهري عند البيهقي، دلائل (3/9) . 4 أخرجه البخاري واللفظ له. انظر ابن حجر، فتح (7/83، 11/282) وذكر ابن حجر عن الزبير بن بكار أن ذلك كان في هذه السرية، كما أخرجه الترمذي. انظر الألباني، صحيح سنن الترمذي (2/277) . 5 القتال التراجعي: هو ذلك الوضع الكريه أثناء الانسحاب، عندما يكون القسم الأكبر من قواتنا قد فشل في تحقيق تراجع سليم، وتتورط قواتنا في قتال مع العدو أثناء التحرك للخلف: باهر عبد الهادي، مصطلحات عسكرية (ص: 47) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 عبيدة وأصحابه"1 2 وقد تحققت في هذه السرية بعض الأوليات المهمة في تاريخ الصراع الإسلامي الوثني على المستويين العام والخاص. فعلى المستوى العام اعتبرت أول مواجهة عسكرية بين الطرفين، بعد انقضاء سنة كاملة على أول مواجهة انتهت سلميًّا دون قتال. أما على المستوى الخاص فقد حقق سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من خلال هذه السرية سبقًا عسكريًا إسلاميًا يسجل في سجله الحافل بالإنجازات على امتداد حياته التي أفناها في سبيل إعلاء كلمة الله منذ أن نطق بالشهادتين فكان ثلث الإسلام3، ثم أهريق على يديه أول دم في سبيل الله4 ومرورًا بمشاركته الجهادية الفعالة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهاءً بالقادسية والمدائن وفتح فارس، وبناء الكوفة أول مدينة إسلامية خارج الجزيرة العربية. كما أكدت هذه السرية استمرار سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم التعبوية الخاصة بحشد المهاجرين فقط في الغزوات والسرايا الأولى حتى بدر تنفيذًا لاتفاقية العقبة الثانية.   1 من رواية عروة والزهري عند البيهقي، دلائل (3/10) . 2 الخبر عزاه ابن حجر في الفتح إلى أبي الأسود، وأنه ذكر ذلك في مغازيه عن عروة. ابن حجر، فتح (7/80) ، ولا أدري هل اطلع ابن حجر على مغازي أبي الأسود فروى ذلك منها مباشرة أم لا؟، لأن البيهقي، وابن سيد الناس أخرجاه بسنديهما عن أبي الأسود بطريق واحدة هي طريق ابن لهيعة (راجع البيهقي، دلائل (3/8) ، وابن سيد الناس، عيون (1/271) ، وكان ابن حجر قد ذكر أن ابن عائذ وصله من حديث ابن عباس. قلت: ولكن في سنده عثمان بن عطاء الخراساني (ضعيف) ، وأبوه (صدوق يهم كثيرًا ويرسل ويدلس) . انظر ابن حجر، تقريب (385، 392) ، ولكن البيهقي وابن كثير أخرجاه بطريق أخرى هي طريق موسى بن عقبة عن الزهري. البيهقي، دلائل (3/8) ، وابن كثير، بداية (244) ، والبيهقي وابن سيد الناس من طريق موسى بن عقبة. البيهقي، دلائل (3/8) ، وابن سيد الناس، عيون (1/271) كما رواه ابن إسحاق بلا سند انظر ابن خياط، تاريخ (61) ، ابن هشام، سيرة (2/591) ، والطبري، تاريخ (2/404) ، والبيهقي، دلائل (3/10-11) ورواه أيضا الواقدي مغازي (1/11) ، وأخرجه عنه الطبري، تاريخ (2/402) ، ورواه ابن سعد، طبقات (2/7) ، والبلاذري، أنساب (371) ، وابن حزم، جوامع (100) ، وابن عبد البر، درر (104) ، وبالنظر إلى الطرق التي ورد بها الخبر نجد أنها لا ترتقي به إلى مرتبة الصحيح أو الحسن ولكن الخبر تاريخي، ويلاحظ إجماع أهل المغازي عليه مما يقوي الظن بقبوله. كما أن طرفًا من الخبر ورد في الصحيح. انظر ابن حجر، فتح (7/83، 11/282) وكأنه منتزع من القصة مما يعطي الخبر نوعًا من التأييد، والله تعالى أعلم بالصواب. 3 أخرجه البخاري في مناقب سعد. انظر ابن حجر، فتح (7/83) . 4 أخرجه الترمذي. انظر الألباني، صحيح سنن الترمذي (2/277) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة ... سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى نخلة قال الله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} . [البقرة: 217] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 بعد عدد من الغزوات والسرايا الاعتراضية أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستطلع أخبار قريش ومن ثمَّ وقع تلك الهجمات عليها والتي صارت تهدد تجارة مكة الصيفية. ففي شهر جمادى الآخرة أو رجب – على خلاف بين أهل المغازي1 - من السنة الثانية الهجرية جهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم (دورية استطلاع منطقة) 2 قوتها ثمانية مهاجرين3 وأسند قيادتها في أول الأمر إلى أبي عبيدة عامر بن   1 اختلف في تحديد اليوم الذي كانت فيه الوقعة، ففي رواية جندب رضي الله عنه وراية مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما والسدَّي والعوفي عنه أيضا أنها كانت في آخر جمادى وأول رجب. انظر الطبراني، المعجم (1/162) ، والهيثمي، مجمع (6/198) ، والطبري، تفسير (1/349-350) ، وتاريخ (2/415) ، والبيهقي، سنن (9/11-12) ، وابن كثير، تفسير (1/151-152) ، وبداية (2/250) ونقل ذلك العامري، بهجة المحافل (1/179) ، والواحدي عن المفسرين أسباب النزول (101-102) . وجزم غلبية أهل المغازي على أنها كانت في آخر يوم من رجب وأول شعبان. انظر ابن هشام، سيرة (2/603) ، والواقدي، مغازي (1/13-14) ، وابن سعد طبقات (2/10) ، والطبري، تاريخ (2/410-411) ، والبلاذري، أنساب (371) ، وابن حزم، جوامع (105) وابن عبد البر، درر (107-108) ، والبيهقي، سنن (9/58) ، ودلاءل (3/17-18-19) ، والواحدي، أسباب (99) ، والمقريزي إمتاع الأسماع (1/56) . 2 استطلاع المنطقة: هو مجموعة معلومات عن العدو أو الأرض أو الاثنين معًا داخل الحدود المعينة. قد يستخدم عندما يكون الموقف غامضًا ويتطلب استطلاعًا على جبهة عريضة. باهر عبد الهادي، مصطلحات عسكرية (ص: 16) . 3 هذا ما جزم به غالبية أهل المغازي غير أن الواقدي ساق رواية عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يذكر فيها أنهم كانوا اثني عشر رجلا، لكن الواقدي جزم في نهاية روايته بأن الثابت عنده أنهم ثمانية فقط. الواقدي، مغازي (1/15-16-17-19) ، وتابعه في ذلك ابن القيم في زاد المعاد (2/84) بينما وقع في رواية السدي عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن مسعود رضي الله عنه أنهم كانوا سبعة ثامنهم القائد عبد الله بن جحش: وهم: عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة، وسعد ين أبي وقاص، وعتبة بن غزوان السلمي، وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد الله اليربوعي. انظر ابن كثير، تفسير (1/253) وذلك مخالف لقول ابن إسحاق حيث إنه ذكر فيهم عكاشة بن محصن، وخالد بن بيضاء بدلا من عمار بن ياسر، وعامر بن فهيرة إضافة إلى عامر بن ربيعة. انظر ابن هشام، سيرة (2/601-602) . ويسوق الواقدي بسنده رواية عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه عنه يذكر فيها أنه هو الذي أسر الحكم بن كيسان أحد أفراد القافلة رغم أنه لم يذكره ضمن المشاركين في السرية. الواقدي، مغازي (1/15-19) . ويذكر ابن سيد الناس عن موسى بن عقبة وابن عائذأنهما ذكرا صفوان بن بيضاء بدل سهيل أخيه، ولم يذكرا خالدا ولا عكاشة، كما يقول إن بن عقبة ذكر فيهم عامر ابن إياس هذا، ولم أجد دكرا لعامر بن إياس في مرويات موسى بن عقبة، بل ذكر بدلا منه عمرو بن سراقة، كما أنه ذكر عكاشة في سياق القصة. انظر البيهقي دلائل (3/21) ، وباقشيش محمد، مرويات موسى بن عقبة (1/196-197) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 بن الجراح رضي الله عنه الذي لم يستطع الاعتذار عن المهمة بالكلام تأدبًا وخوفًا من معصية خليله رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن يحب مفارقته والبعد عنه، لكنه لم يتمالك نفسه "فلما ذهب لينطلق بكى صبابة1 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم2 حبًّا فيه وجزعًا من مفارقته فاستبقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدعى ابن عمته عبد الله ابن جحش رضي الله عنه3 وكلفه بالمهمة بعد أن أعطاه (كتابًا مكتومًا) وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا4 وقال: "لا تكرهَنَّ أحدا من أصحابك على المسير معك" 5. امتثل القائد المتضبط للأوامر النبوية العليا فسار مع أصحابه بعد أن استوضح عن الجهة التي تقود للهدف غير المعلن6. "فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا حتى تنزل نخلة7   1 الصبابة: الشوق أو قيل: رقته وحرارته. انظر ابن منظور، لسان العرب، والفيروز آبادي، القاموس مادة (صبّ) . 2من رواية جندب. انظر الطبراني، المعجم (1/162) ، والطبري، تفسير (2/250) ، وتاريخ (2/415) ، وفي رواية عند البيهقي، أنه عبيدة بن الحارث فلعل ذلك وهم، انظر البيهقي، سنن (9/11) . 3 هو المجدَّع في الله عبد الله بن جحش بن رياب الأسدي أبو محمد حليف بني عبد شمس، وأمه أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحد السابقين، هاجر الهجرتين، وشهد واستشهد بأحد ومُثَّل به استجابة لدعوته قبل المعركة، قال الزبير: كان يقال له: المجدَّع في الله. كان له يوم قُتل نيف وأربعون سنة، ودفن هو وحمزة في قبر واحد. انظر ابن سعد، طبقات (3/89) ، وابن حجر، إصابة (2/286-287) . 4 وقع في رواية السدي عن ابن عباس أنه أمره أن لا يفتح الكتاب حتى ينزل بطن ملل. الطبري، تفسير (2/349) ، وتاريخ (2/413) ، وملل: منزل على طريق المدينة إلى مكة على ثمانية وعشرين ميلا من المدينة، وهو واد ينحدر من ورقانجبل مزينة حتى يصب في الفرش. فوق سويقة. الحموي ياقوت، معجم البلدان (5/194) . 5 من رواية جندب. انظر الطبراني، المعجم (1/162) ، والطبري، تفسير (2/350) ، وتاريخ (2/415) . 6 في رواية الواقدي عن عبد الله بن جحش قال: قلت يارسول الله أي ناحية؟، فقال: "اسلك النجدية تؤم ركبة". الوقداي، مغازي (1/13) ، وركبة: على الطريق من مكة إلى الطائف. انظر البكري عبد اله، معجم ما استعجم (2/669) ، والحموي، معجم (3/63) . 7 نخلة: قال الواقدي: ونخلة وادي بستان ابن عامر. المغازي (1/13) ، وقال ابن الأعرابي والأصمعي: نخلة اليمانية: هي بستان ابن عامر عند العامة، والصحيح أن نخلة اليمانية هي: بستان عبد الله بن معمر، وبنخلة قتل عامر بن الحضرمي. وهي موضع على ليلة من مكة، وهي التي ينسب إليها بطن نخلة. البكري، معجم (4/1304-1305) .. ويقول البلادي: بستان ابن معمر قريب من التقاء النخلتين، ويشرف عليه= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 بين مكة والطائف1 فترصَّد بها قريشا تعلَّم لنا من أخبارهم"2. "فلما قرأ الكتاب استرجع3 وقال: سمعًا وطاعة لله ولرسوله"4 "ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشًا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم"5. فما كان لهؤلاء الجنود المؤمنين الذين استرخصوا حياتهم في سبيل الله أن   =من الشرق جبل داءة، وبسفحه الغربي قرية صغيرة من صنادق وهنا أرض تستصلح للزراعة، وكأنها بستان ابن معمر الذي حدده المتقدمون بأنه بين التقاء النخلتين، وهذه الأرض تلتقي في نهايتها نخلتان الشاميو اليمانية. البلادي، على ربى نجد (19-20) . 1 اترصد: الترقب. انظر ابن منظور، لسان، مادة (رصد) . 2 من رواية ابن إسحاق عن عروة. انظر ابن هشام، سيرة (2/602) ، والبيهقي، سنن (9/58) ، ودلائل (183) وفي رواية الواقدي ومتابعيه "فترصد بها عير قريش". انظر الواقدي، مغازي (1/14) ، وابن سعد، طبقات (2/10) ، والبلاذري، أنساب: (372) ، والمقريزي، إمتاع (1/56) ، وابن القيم، زاد (2/84) ، والبغوي، الحسين بن مسعود، معالم التنزيل (2/189) ، والواحدي، أسباب (100) ، وقد يوهم هذا النص بأن السرية كانت اعتراضية لا استطلاعية كما ورد في رواية ابن إسحاق. وللجمع بين القولين أقول: إن واجب السرية هو استطلاع أخبار قريش ورصد تحركاتها المضادة لعمليات المسلمين التعرضية ونشاطهم في منطقة الإيلاف الصيفي، وقد يكون من ضمن المهمة استطلاع للطريق القوافلية الأخرى من مكة إلى الشام عن طريق نجد. يقول الشريف: "وكانت مهمة هذه السرية استطلاع حال قريش والوقوف على أخبارها، ولم يكن من أغراضها القتال إذ أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجال السرية خلا من كل إشارة إلى القتال، ثم إن عدد هذه السرية كان قليلا لا يتجاوز الثمانية، الأمر الذي يقطع بأن مهمتها كانت استطلاعية محضة". الشريف أحمد، مكة والمدينة (ص 444) ، ولكن هذه المهمة الأساسية افترنت بمهمة ثانوية وباجتهاد من أفراد السرية اغتنموا فيها الفرصة المواتية التي التي سنحت لهم للنيل من عدو طالما ترصدوا له في الغزوات والسرايا السابقة لكنه كان يفلت منهم، وقد يكون في إرسالهم إلى هذه المنطقة القريبة من مكة (تكتيك) معين من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أنها منطقة أمان تجسسي بالنسبة لقريش لأنهم لا يتوقعون وصول المسلمين إليها لبعدها عن قاعدتهم، ووقوعها داخل الحزام الأمني الوثني، وذلك يفسر الرسالة المكتومة، والتأكيد فيها على حرية الاختيار التطوعي للانخراط في هذه المهمة بعد توضيحها. أما ما حدث من تغيير في المهمة من (استطلاع تعرضي) ، فذلك لكونهم اكتشفوا ضعفا في ترتيبات عدوهم استغلوه لصالحهم والله أعلم. 3 أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. 4 من رواية جندب. انظر الطبري، تفسير (2/350) ، وتاريخ (2/415) ، والطبراني معجم (1/162) . 5 من رواية ابن إسحاق عن عروة. انظر ابن هشام، سيرة (2/602) واللفظ له، والبيهقي، سنن (9/58) ، ودلائل (3/19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 يتخلفوا عن أمر رسول الله ص "فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد، وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران1 أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا يعتقبانه"2 ولأنه لم تكن هنالك وسيلة تنقلهما غير البعير الذي أضلاه، ولأن المهمة سرية لا تحتمل التأخير وأهم عنصر فيها الوقت الذي يعتبر أساسيًّا لعنصر المباغتة استأذنا القائد في التخلف عنه في طلبه حتى لا يكونا سببًا في تعطيل مسير السرية الاقترابي نحو الهدف، لعلهما يجدانه فيلحقا بهم فيما بعد، فأذن لهما "فتخلفا في طلبه. ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا، وأدمًا3، وتجارة من تجارة قريش، فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم"4 ولكنهم ما لبثوا أن اطمأنوا إليهم بعد الخطة التمويهية الذكية التي قام بها بعض أفراد السرية عندما"أشرف لهم عكاشة بن محصن5   1 بحران: بفتح أوله، على وزن فعلان معدن بالحجاز، مذكور في رسم الفرع. البكري، معجم (3/228) ، وهو جبل يضرب إلى الخضرة والسمرة بين وادي حجر المعروف قديمًا بالسائرة، أو مر عنيب المعروف اليوم بمصر وبوادي رابغ. يقع بحران عند التقائهما يفترقان عنه شرق مدينة رابغ على (90) كيلاً وهو في ديار زبيد بن حرب. البلادي، معجم معالم السيرة (40) . 2 من رواية ابن إسحاق عن عروة. انظر ابن هشام، سيرة (2/602-603) والبيهقي، سنن (9/58) ، ودلائل (3/19) . 3 أدمًا: جمع أديم وهو الجلد. ابن منظور، لسان، مادة (أدم) . 4 ابن هشام، سيرة (2/602) ، والبيهقي، سنن (9/58) ، ودلائل (3/19) . 5 في رواية ابن بكير عند البيهقي "أشرف لهم واقد بن عبد الله". انظر البيهقي، سنن (9/58) ، ودلائل (3/19) ، وابن حجر، إصابة (3/628) وذلك خلاف ما عليه أهل المغازي، إلا ما كان من البلاذري الذي شذ عن الجميع بقوله: إن واقد بن عبد الله، وعكاشة بن محصن رأيا الحكم بن كيسان محلوق الرأس .... إلخ. راجع البلاذري، أنساب (372) . وعكاشة: بضم أوله بن محصن بن قيس بن مرة بن بكير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي حليف بني عبد شمس، من السابقين الأولين، شهد بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقع ذكره في الصحيحين في السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، استشهد في قتال الردة. انظر ابن سعد، طبقات (3/92) ، وابن حجر، إصابة (2/494) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وقد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عُمار، لا بأس عليكم منهم"1. وفي الحال عقد عبد الله بن جحش رضي الله عنه مع أصحابه مؤتمرًا حربيًّا مصغرًا تداولوا فيه الرأي حول القافلة هل يهجمون عليها؟، ويستغلون هذه الفرصة المواتية من غرة عدو طالما أفلت منهم نتيجة حذره الشديد، ولكن الشهر الحرام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بقتال فيه، أيتركونهم لأجل ذلك؟ ولكن هل راعت قريش الحرمات عندما طردتهم من ديارهم واستولت على أموالهم، وصدتهم عن سبيل الله؟ إذًا فليعاملوهم بالمثل والبادي أظلم، وأخيرًا خرجوا بقرار جماعي حاسم بالهجوم عليهم و"قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم"2 فاشتبكوا معهم في قتال سريع خاطف حيث "رمى واقد بن عبد الله التميمي3 عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله، فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش بالعير وبالأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة"4 فوقف العير والأسيرين"5 قائلاً لهم: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"6 ويصل الخبر إلى قريش فثارت ثائرتها وشنت هجومًا إعلاميًّا مركزًا تخللته دعايات مغرضة ضد المسلمين استغلت فيها التعاليم الإبراهمية التي لا زالت بعض آثارها باقية في المجتمع الجاهلي حتى ذلك الوقت من تحريم   1 من رواية ابن إسحاق عن عروة. انظر ابن هشام، سيرة (2/603) ، والبيهقي، سنن (9/59) ، ودلائل (3/19) . 2 المصدر السابق. 3 واقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم التميمي الحنظلي اليربوعي حليف بني كعب بن عدي، أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، شهد بدرا وأحدا، والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات في أول قيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يحفظ عنه حديث، وليس له عقب. انظر خليفة بن خياط، الطبقات (23) ، وابن سعد، طبقات (3/390) ، وابن حجر، إصابة (3/628) . 4 من رواية ابن إسحاق عن عروة. انظر ابن هشام، سيرة (2/603) واللفظ له، والبيهقي، سنن (9/59) ، ودلائل (3/19) . 5 المصدر السابق. 6 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 القتال في الأشهر الحرم وغير ذلك. "انتهزت قريش هذه الفرصة للتشهير بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين وإظهارهم بمظهر المعتدي الذي لا يراعي الحرمات"1 "قالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال"2. ونجحت قريش في خطتها تلك بادىء الأمر حيث "كان لدعايتها صدَّى كبير، وأثر ملموس حتى في المدينة نفسها، فقد كثر الجدل والنقاش بين المسلمين أنفسهم، وأنكروا على رجال السرية محاربتهم في الشهر الحرام، واشتد الموقف، ودخلت اليهود تريد إشعال الفتنة"3 حتى ظن أهل السرية أنهم قد هلكوا وسُقط في أيديهم، ولكن الله عز وجل لم يكن ليدع أولياءه تتقاذفهم أهواء ورغبات أعدائه، فهو قد تكفل بنصرهم. ماديًّا ومعنويًّا، فنزلت الآيات البينات ترد وبقوة على دعايات قريش المغرضة موضحة أنه وإن كان الشهر الحرام لا يحل فيه القتال، ولكن لا حرمة عند الله لمن هتك الحرمات، وصد عن سبيله. وهنا اطمأن المسلمون لسلامة موقفهم ورد الله كيد أعدائهم إلى نحورهم "وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين وبعثت إليه قريش"4 "ليفادوا الأسيرين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أخاف أن تكونوا قد أصبتم سعد بن مالك وعتبة بن غزوان، فلم يفادهما حتى قدم سعد وعتبة، ففوديا، فأسلم الحكم بن كيسان5 وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع عثمان بن عبد الله بن   1 الشريف أحمد إبراهيم، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم (ص: 445) . 2 من رواية ابن إسحاق عن عروة. انظر ابن هشام، سيرة (2/603) ، والبيهقي، سنن (9/59) ، ودلائل (3/19) . 3 الشريف، مكة والمدينة (ص: 445) . 4 من رواية ابن إسحاق عن عروة. انظر ابن هشام، سيرة (2/603) ، والبيهقي، سنن (9/59) ، ودلائل (3/19) . 5 الحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة المخزومي والد أبي جهل، أسلم بعد أسره في هذه السرية وحسن إسلامه، وكان حجَّامًا، وتزوج آمنة بنت عفان، وكانت ماشطة، استشهد الحكم يوم بئر معونة. انظر ابن هشام، سيرة (2/605) ، وابن حجر، إصابة (2/347-348) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 المغيرة كافرًا"12. وهكذا "يمكن اعتبار سرية عبد الله بن جحش الجسر الذي اجتازه صراع المناوشات بين الإسلام والوثنية صوب القتال المنظم المكشوف الذي بدأته معركة بدر، ذلك أن هذه السرية كشفت بسبب توغل مقاتليها بعيدًا إلى طريق التجارة المكية اليمنية مدى خطورة الدولة الناشئة على تجارة مكة خاصة، ووجودها الوثني عامة"3. إن الجرأة الشديدة التي تمت بها هذه العملية أذهلت قريش التي لم يدر بخلدها أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يستطيعون التوغل إلى هذه الدرجة في منطقة نفوذها، وكان التوغل من منطقة بعيدة عن أعين قريش، وغير متوقعة على الإطلاق، ومما زاد في دهشتها تلك السَّرية التامة، والدقة المتناهية التي تمت بها   1 من رواية موسى بن عقبة عن الزهري. انظر البيهقي، دلائل (3/21) ، باقشيش، مرويات (1/198) . 2 الحديث أورد طرفًا منه البخاري في باب ما يذكر في المناولة، لكنه لم يروه موصولا، وقد تتبعه الحافظ ابن حجر فصححه بمجموع طرقه حيث قال: "وهو صحيح وقد وجدته، من طريقين، إحداهما مرسلة ذكرها الن إسحاق في المغازي عن يزيد بن رومان، وأبو اليمان في نسخته عن شعيب عن الزهري، كلاهما عن عروة بن الزبير، والأخرى موصولة له أخرجها الطبراني من حديث جندب البجلي بإسناد حسن، ثم وجدت له شاهدًا من حديث ابن عباس عند الطبري في التفسير. فبمجموع هذه الطرق يكون صحيحًا". ابنحجر، فتح (1/153-154) . قلت: وقد اعتضد بشواهد أخرى، فقد رواه موسى بن عقبة عن الزهري. انظر البيهقي، سنن (9/59) ، ودلائل (3/20-21) ، وابن سيد الناس، عيون (1/277) وابن كثير، بداية (2/249) ، وباقشيش، مرويات (1/195) وقد ورد الخبر عن ابن عباس بطرق مختلفة غير ما وجده ابن حجر. انظر الطبري، تفسير (2/350-351-352) وابن كثير، تفسير (1/253) ، وبداية (2/250) والسيوطي، لباب النقول (ص 420) ، والشوكاني، فتح القدير (1/219) . مع رواية غالبية أهل المغازي له فقد رواه الواقدي (1/13-14-15-16-17-18-19) ، وابن سعد، طبقات (2/10-11) ، والبلاذري، أنساب (371-372) ، وابن حزم، حوامع (104-105-106) ، وابن عبد البر، درر (107-108-109) ، والعامري، بهجة (1/179) ، والمقريزي، إمتاع (1/55-56-57-58-59) ، وابن القيم، زاد (2/84) ، إضافة إلى تخريج أهل التفسير له في قوله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ... } إلخ. انظر بالإضافة للمصادر التفسيرية السابقة: البغوي، معالم التنزيل (12/188-189-190) ، والواحدي، أسباب النزول (99-100-101-102) ، والسيوطي، الدرر المنثور (1/250) ، فجميع هذه الطرق التي ورد بها الخبر تؤيد رأي ابن حجر في تصحيحه له بحيث تتعاضد فيما بينها لتكسبه القوة، والله أعلم بالصواب. 3 عماد الدين خليل، دراسة في السيرة (ص: 174) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 العملية، حتى إن عيون قريش لم ترصدها (ومخابراتها) لم تستطع معرفة الوجهة التي قصدتها، وكان ذلك ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطط له بابتكاره أسلوب الرسائل المكتومة للمحافظة على الكتمان وحرمان العدو من الحصول على المعلومات التي تفيده عن حركات المسلمين "ولكتمان أهم عامل من عوامل مبدأ (المباغتة) وهي أهم مبدأ من مبادىء الحرب"1. وبالإضافة إلى ذلك فقد أثبتت هذه السرية بما لا يدع مجالاً للشك بأن جيش النبي صلى الله عليه وسلم قوي يندفع للقيام بأصعب الأعباء والمهمات، ويتحلى بمزايا القتال، وبمقدرته على إنجاز الواجبات بكل كفاءة واقتدار مما يدل على روحه المعنوية العالية. فكم كان موقف قائد السرية رائعًا، يدل على ضبطه العسكري الجيد بإطاعته الأوامر النبوية العليا دون تردد أو تخاذل، وهو بعيد عن مقر القيادة العليا، فما أن قرأ الكتاب حتى امتثل فورا للأمر ونفذه بحذافيره، معطيًا من نفسه القدوة الحسنة، باثًّا في نفوس جنوده الحماس وهو يقول لهم: "من كان منكم يريد الشهادة، ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. ولا غرو في ذلك، فهو خريج مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم العسكرية. وكم كان موقف جنوده البواسل عظيمًا، عندما امتثلوا جميعًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضوا له لم يتخلف عنه منهم أحد، على الرغم من تأكيدات الرسول صلى الله عليه وسلم للقائد بترك الحرية الكاملة لهم في الاختيار. ومن هذا المنطلق تتجلى عدالة الإسلام بإعطاء الأفراد الحرية الكاملة في أمر لم تكن فيه ضرورة إلزامية.   1 خطاب، الرسول القائد (ص: 94) . 2 من رواية ابن إسحاق عن عروة. انظر ابن هشام، سيرة (2/602) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 إن النتائج التي تحققت في هذه السرية، اعتُبرت أوليات في تاريخ الصراع الإسلامي الوثني، فاقتال الذي دار فيها اعتبر أول مواجهة عسكرية دموية بين الطرفين نتج عنها أول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين، وأول غنيمة ينفلّها الله عز وجل للمسلمين، كأول تعويض يقبضه المهاجرون عن أموالهم التي استولت عليها قريش في مكة، والشاهد أن ما تمخض عن هذه السرية من أحداث مهمة أصبح سابقة في التاريخ الإسلامي، مما جعلها تستأثر باهتمام كبير ومركز من أهل المغازي حتى اعتبرها بعضهم أول سرية في الإسلام1. وقد كان موقف قريش التالي لأحداث هذه السرية مزيجًا من الغضب والخوف في آن واحد، لذلك فكرت وبدهاء شديد استغلال الثغرة الناتجة عن الخطأ التقديري الذي وقع فيه أصحاب السرية علَّها تستطيع بذلك أن تشفي غيظها من المسلمين بإثارة العرب ضدهم، فأخذت أبواق دعايتها ترعد، وتبرق تصم الآذان بشتم المسلمين، ووصفهم بأنهم أناس لا يراعون الحرمات، ولا يحترمون التقاليد والأعراف المتعارف عليها بين العرب، وأن ما قاموا به يناقض تعاليمهم التي ينادون بها، وغير ذلك فلما أكثرت قريش وتمادت في غيها نزلت الآيات من فوق سبع سماوات تقريعًا وتوبيخًا لقريش المتشدقة بحماية الحرمات ورعاية الأعراف. قال الله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} 2. "فحدثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن   1 تقدم الكلام عن ذلك في أول السرايا. 2 البقرة (217) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدهم عن سبيل الله، حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرهم بالله، وصدهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين وفتنهم إياهم عن الدين1. فمن يدافع عن الحرمات لا بد أن يكون مؤهلا لذلك بأن يكون على الأقل قدوة فيما يدَّعيه، فهلا قومت قريش سلوكها تجاه من فرض وأمر بهذه الحرمات التي يدَّعون أنهم قَيَّمون عليها، وهم يشركون معه في العبادة أحجارًا وأوثانًا لا تنفع ولا تضر. لقد كان في هذا التقريع والتوبيخ الإلهي ما يكفي لردع قريش وكبح جماحها وكتم أبواق دعايتها وبالتالي تعريتها أمام الرأي العام العربي. وكان فيه الطمأنينة والأمان للمسلمين وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وراحةُ بال لأهل السرية الذين أسعدهم دفاع الله عز وجل عنهم فطمعوا في الأجر فأنزل الله عز وجل في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2 فوضعهم الله عز وجل من ذلك على أعظم الرجاء"3. أما موقف اليهود بالمدينة فكان ينم عن حقد دفين وكره للمسلمين الذين كانوا يتربصون بهم الدوائر، فما حصلت تلك المواجهة بينهم وبين قريش حتى تفاءلوا عليهم بها شامتين، وهم يعتقدون أنها بداية الشرارة لحرب شعواء؛ يكون فيها القضاء تمامًا على المسلمين القلة في ذلك الوقت بالنسبة لقوة قريش وحلفائها الضاربة في الجزيرة العربية. ولكن الله كبتهم، فصار فألُهم شؤمًا   1 أخرج ذلك البيهقي عن عروة، دلائل (3/18) . 2 البقرة (218) . 3 أخرجه ابن إسحاق والطبري عن عروة. انظر ابن هشام، سيرة (2/605) ، والطبري، تفسير (2/356) ، وذكر عن قتادة وعن الربيع مثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 عليهم عندما أعز الله جنده ونصرهم على أعدائهم من المشركين، فتفرغوا بذلك اليهود، وقذف الله الرعب في قلوبهم، وركبهم الذل والهوان حتى خرجوا من المدينة صاغرين. ومما يستفاد في هذه السرية من الأحكام صحة الرواية بالمناولة أو الإجازة بالمناولة. قال السهيلي: "وترجم البخاري على هذا الحديث في كتاب العلم احتجاجا به على صحة الرواية بالمناولة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناول عبد الله بن جحش كتابه، ففتحه بعد يومين، فعمل على ما فيه، وكذلك العالم إذا ناول التلميذ كتابا جاز له أن يروي عنه ما فيه وهو فقه صحيح"1. قلت: قال البخاري في باب العلم: "واحتج بعض أهل الحجاز في المناولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كتب لأمير السرية كتابا"2. قال ابن حجر: "هذا المحتج هو الحميدي، ذكر ذلك في كتاب النوادر له. ووجه الدلالة في هذا الحديث ظاهرة، فإنه ناوله الكتاب، وأمره أن يقرأه على أصحابه ليعملوا بما فيه، ففيه المناولة ومعنى المكاتبة، وقد سوَّغ الجمهور الرواية بها، وردها من رد عرض القراءة من باب الأولى، وتعقبه بعضهم بأن الحجة إنما وجبت به لعدم توهم التبديل والتغيير فيه لعدالة الصحابة. بخلاف من بعده. حكاه البيهقي. وأقول: شرط قيام الحجة بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختوما، وحامله مؤتمنا، والمكتوب إليه يعرف خط الشيخ، إلى غير ذلك من الشروط الدافعة لتوهم التغيير، والله أعلم"3. ومما يستفاد أيضا: "أن شرع من قبلنا شرع لنا حتى يرد ناسخ، وذلك أن   1 السهيلي، الروض الأنف (5/78-79) . 2 انظر ابن حجر، فتح (1/154-155) . 3 المصدر السابق.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 تحريم القتال في الأشهر الحرم كان حكما معمولا به من عهد إبراهيم، وإسماعيل، وكان من حرمات الله، ومما جعله الله مصلحة لأهله، قال الله تعالى {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} 1. فكان رجب أمانا للسالكين إليها مصلحة لأهلها، ونظرا من الله لهم دبَّره، وأبقاه من ملة إبراهيم لم يُغيِّر حتى جاء الإسلام، ثم أباحته آية السيف في سورة براءة؛ فإن براءة كان فيها نبذ العهد العام وهو أن لا يصد أحد عن البيت جاءه، ولا يخاف أحد في الأشهر الحرم، وأن لا يحج مشرك، وإباحة القتال في الأشهر الحرم، أي مع بقاء حرمتها فإنها لم تنسخ، قال تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} 2 فتعظيم حرمتها باق، وإن أبيح القتال3. وفيها أيضا دليل على تسويغ الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم، فإن أصحاب السرية قد أدَّاهم اجتهادهم إلى مهاجمة القافلة دونما أمر منه صلى الله عليه وسلم، ونزل قول الحق سبحانه وتعالى فيه تصويب لاجتهادهم ذلك بعد أن أكثر الناس في تقريعهم ولومهم بناء على دعاية قريش المغرضة ضدهم ... والله أعلم..   1 المائدة (97) . 2 التوبة (36) . 3 بتصرف من السهيلي، الروض (5/80-81) ، والحلبي، سيرة (3/142) ، والزرقاني، شرح المواهب (1/398) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 خبر اعتراض أبي بصير وأصحابة لقافلة أبي العاص ... خبر اعتراض أبي بصير1 وأبي جندل لقافلة أبي العاص (ويلُ أمه مُسعر حرب، لو كان معه أحد) رسول الله صلى الله عليه وسلم واصفا أبًا بصير البيهقي، دلائل: (4/173) الله ربي العليُّ الأكبر ... مَن ينصرِ الله فسوف يُنْصَر ويقع الأمرُ على ما يُقَدَّر ... "أبو بصير" البيهقي، دلائل: (4/173)   1 هذا الخبر لا يدخل ضمن نطاق هذا البحث الخاص بسرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبو بصير وأبو جندل وأصحابهما كانوا لا يخضعون لسيطرة رسول الله صلى الله عليه وسلم العسكرية في أعمالهم الاعتراضية ضد قوافل قريش التجارية، وإنما كان ذلك اجتهادا منهم كرد فعل انتقامي من قريش التي فتنتهم عن دينهم ومنعتهم من تحقيق أمنيتهم في اللحاق بإخوانهم في المدينة، ولكن بما أن بعض أهل المغازي قديما وبعض الباحثين المعاصرين اعتبروها سرية اعتراضية بقيادة زيد بن حارثة بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعتراض قافلة أبي العاص التجارية، لذلك أدرجتها ضمن القسم الخاص بالسرايا الاعتراضية من هذا البحث لأوضح حقيقة الأمر، والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 اعتبر بعض أهل المغازي كابن إسحاق1، والواقدي، ومتابعيه2 أن هذا الخبر خاص بسرية اعتراضية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعتراض قافلة قرشية مقبلة من الشام، ووافقهم في ذلك بعض المحدِّثين كالشعبي3، والحاكم من المتأخرين الذي ساق الخبر برواية موصولة من طربق ابن إسحاق إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها4. وقد رجح ابن حجر روايته بناء على اتصال سندها على رواية الشعبي التي وصفها بالشذوذ5. وبناء عليه أيضا رجح بعض الباحثين المعاصرين6 رواية الحاكم على رواية الزهري الذي جزم بأن الذي اعترض القافلة القرشية هو أبو جندل، وأبو بصير وأصحابهما الذين كانوا بسيف البحر لما وقع صلح الحديبية7. وكان يمكن اعتبار رواية الحاكم هذه على أساس أنها أقوى الروايات سندا. ولكنهم ذهلوا جميعا عن علتها، وبالتالي تعجلوا بالحكم عليها، حيث   1 ذكر ابن إسحاق في رواية البكائي عنه: أن أبا العاص خرج قبل الفتح في عير لقريش، فلقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يوضح من كان في تلك السرية. كذلك في رواية ابن بكير عنه لكن لم يذكر فيها التاريخ، انظر ابن هشام، سيرة (2/657-658) ، والبيهقي، سنن (9/143) . 2 كان الواقدي ومتابعوه أكثر وضوحا في معلوماتهم حيث ذكروا أنها سرية بقيادة زيد بن حارثة رضي الله عنه بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى سنة ست من الهجرة لاعتراض عير قرشية أقبلت من الشام فيها أبو العاص بن الربيع. انظر الواقدي، مغازي (2/553) ، وابن سعد، طبقات (2/87) ، وابن سيد الناس، عيون (2/140) ، وابن كثير، بداية (4/180) ، والمقريزي، إمتاع (1/265) . 3 ذكر الشعبي أن أبا العاص خرج في تجارة إلى الشام، فلما كان يقرب المدينة أراد بعض المسلمين أن يخرجوا إليه فيقتلوه ويأخذوا ما معه، فعلمت زوجه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فأجارته، فلما علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خرجوا إليه عزَّلاً بلا سلاح ... إلخ. ابن حجر، إصابة (4/121-122) . 4 انظر رواية الحاكم مفصلة في المستدرك (3/236) . 5 ابن حجر، إصابة (4/122) . 6 حكم الألباني على رواية موسى بن عقبة عن الزهري بعدم الصحة لإرسالها مرجحا عليها رواية الحاكم الموصولة، وأن الأولى الاعتماد عليها. الغزالي، فقه السيرة (ص: 338) (حاشية: 1) واستدل بها الحكمي على أن الذي أخذ عير أبي العاص هو زيد بن حارثة. انظر الحكمي، مرويات غزوة الحديبية، (ص: 192 الحاشية) . 7 انظر البيهقي، دلائل (4/174) ، وباقشيش، مرويات موسى بن عقبة (2/405) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 أعتقد أن في الرواية إدراجا في المتن وعلة في السند، أما إدراج المتن فقوله: "وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الذي وجه السرية للعير التي فيها أبو العاص قافلة من الشام، وكانوا سبعين ومائة راكب أميرهم زيد بن حارثة، وذلك في جمادى الأولى سنة ست من الهجرة ... إلخ"1، فهذا الكلام لم يرد في بقية الروايات عن ابن إسحاق ومنها ما رواه ابن بكير واسطة الحاكم إليه2، فربما كان هذا الكلام مدرجا من أحد الرواة الحاكم فظنه من كلام عائشة رضي الله عنها والله أعلم. أما علة السند فهي أن السند الذي جعله الحاكم لكامل القصة ليس كذلك، فالقصة وردت عن ابن إسحاق عند غير الحاكم مجزأة وبأسانيد مختلفة، والسند الموصول الذي ذكره الحاكم يختص بالجزء الذي يحكي قصة فداء أبي العاص من أسره يوم بدر فقط، وليس لكامل القصة، أما بقية الرواية فليست موصولة، فبعضها عن يزيد بن رومان، وبعضها عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم موقوفة عليهما3 خاصة فيما يتعلق بالعير التي خرج فيها أبو العاص تاجرا واعتراض السرية له والتي لم يرد فيها ذكر عن قائد السرية، بل إن في سياقها ما يؤيد ما ذهب إليه الزهري حيث ذكر أن خروجها كان قبيل الفتح أي في زمن الهدنة، وذكر فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم لزينب: "ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له" 4، فمن المعلوم أن قريشا لم تستأنف رحلاتها التجارية إلى الشام إلا زمن الهدنة، فهل يعقل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعث سرايا لاعتراض القوافل القرشية وهو مرتبط بمعاهدة صلح وتهادن مع قريش، كما أن تحريم المؤمنات على المشركين إنما نزل بعد الحديبية بقوله تعالى {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} 5، فلو كان اعتراض أبي العاص قبل الحديبية لما قال   1 الحاكم أبو عبد الله، المستدرك (3/236) . 2 انظر البيهقي، سنن (9/143) . 3 ولكن الحاكم وصلها، انظر المستدرك (3/163) . 4 انظر ابن هشام، سيرة (2/658) ، وانظر الذهبي، تاريخ الإسلام، المغازي (359-360) . 5 الممتحنة (10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. وهذا هو الذي جعل ابن القيم، والصالحي يصوِّبون رواية الزهري1، والغريب أن الواقدي ذكر ذلك في روايته على الرغم من أنه أرخ للسرية في جمادى الأولى سنة ست2، والحديبية كانت في ذي القعدة بالإجماع3 حتى الواقدي أرخ لها في ذي القعدة. كما أن في روايته اضطرابا، فهو يذكر أن أصحاب السرية أسروا أبا العاص4. ثم يعود فيذكر أن أبا العاص جاء إلى زينب فاستجار بها5. إذًا.. فأنا أعتقد أن الذي اعترض قافلة أبي العاص هو أبو بصير، وأبو جندل وأصحابهما الذين تحشدوا في منطقة العيص الساحلية6 بعد هروبهم من قريش التي فتنتهم عن دينهم ومنعتهم من تحقيق أمنيتهم في اللحاق بإخوانهم في المدينة، وذلك حسب اتفاقيات صلح الحديبية7 فكانوا "بين العيص وذي مروة من أرض جهينة، على طريق عيرات قريش، مما يلي سيف البحر، لا يمر بهم عير لقرش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها8 ولا زالوا كذلك   1 بعد أن ساق رواية ابن إسحاق، والواقدي، وموسى بن عقبة، عقَّب ابن القيم بقوله: "وقول موسى بن عقبة أصوب، وأبو العاص إنما أسلم زمن الهدنة، وقريش إنما انبسطت عيرها إلى الشام زمن الهدنة، وسياق الزهري للسياق بيِّن ظاهر أنها كانت في زمن الهدنة. ابن القيم، زاد المعاد (2/121-122) ، أما الصالحي فقال: "وقول ابن إسحاق أن هذه السرية كانت قبل الفتح يشعر بما ذهب إليه الزهري، وصوَّبه في زاد المعاد، واستظهر في النور. ويؤيد قول الزهري قوله صلى الله عليه وسلم فيما ذكره محمد بن إسحاق، ومحمد بن عمر وغيرهما لزينب: "لا يخلص إليك فإنك لا تحلين له"، فإن تحريم المؤمنات على المشركين إنما نزل بعد صلح الحديبية. الصالحي، سبل (6/137) . 2 الواقدي، مغازي (2/553) . 3 انظر الحكمي، مرويات غزوة الحديبية (ص: 28) . 4 الواقدي، مغازي (2/573) . 5 المصدر السابق (2/553) . 6 بكسر العين ومثناة تحتية ساكنة وصاد مهملة، وادٍ لجهينة بين المدينة والبحر يصب في أضم من اليسار من أطراف جبل الأجرد الغربية ومن الجبال المتصلة به، ومن حرار تقع بين أضم وينبع، وفيه عيون وقرى كثيرة. البلادي عاتق غبث، معجم المعالم الجغرافية في السيرة) (ص: 219) . 7 كان أحد شروط صلح الحديبية: أنه من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بغير إذن وليه ردَّه عليهم، انظر: الحكمي حافظ، مرويات غزوة الحديبية (ص: 163) . 8 من رواية موسى بن عقبة عن الزهري. انظر البيهقي، دلائل (4/173) ، وباقشيش، مرويات ابن= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 حتى مر بهم أبو العاص بن الربيع صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم1 قادمًا من الشام في نفر من قريش معهم تجارة لهم فسيطروا على القافلة، وأسروا رجالها دون أن يقتلوا منهم أحدًا إكرامًا لصهر أبي العاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلقوا سراح أبي العاص، فقدم المدينة على امرأته زينب رضي الله عنها التي كانت عند أبيها منذ أن أذن لها أبو العاص باللحوق به "فكلمها أبو العاص في أصحابه الذين أسر أبو جندل، وأبو بصير، وما أخذوا لهم"2. وتروي أم المؤمنين أم سلمة قصة إجارة زينب رضي الله عنها لزوجها أبي العاص فتقول: "فخرجت فأطلعت رأسها من باب حجرتها، والنبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح يصلي بالناس، فقالت: أيها الناس، أنا زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني قد أجرت أبا العاص، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال: "أيها الناس إني لم أعلم بهذا حتى سمعتموه ألا وإنه يجير على المسلمين أدناهم" 3. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب الناس، حيث وضح لهم مكانة أبي العاص منه، وذكر لهم ما أصابه وأصحابه، وأن زوجه زينب قد أجارته "فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه"، فقال الناس: نعم، فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي العاص وأصحابه الذين كانوا عنده من الأسرى رد إليهم كل شيء أخذ منهم حتى العقال4 امتثالا لرغبة رسول الله   =عقبة (2/403-404) . 1 أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف العبشمي. أمه هالة بنت خويلد، كان يلقب جرو البطحاء، واختلف في اسمه، كان قبل البعثة مؤاخيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يكثر غشاءه في منزله، وزوَّجه زينب أكبر بناته وهي من خالته خديجة. وكان من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة، أسلم بعد الحديبية، ومات في خلافة أبي بكر في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة. انظر ابن حجر، إصابة (4/121-122-123) . 2 من رواية موسى بن عقبة عن الزهري البيهقي، دلائل (4/174) ، وباقشيش، مرويات (2/405) . 3 أخرجه الطبراني من رواية أم سلمة. انظر المعجم الكبير (22/425، 23/275) وقال عنه الهيثمي: فيه ابن لهيعة وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات. الهيثمي، مجمع (213) ، وأخرجه من نفس الطريق البيهقي سنن (9/95) . 4 الخبر بهذا السياق رواه ابن عقبة عن الزهري مرسلا. انظر البيهقي، دلائل (4/174) وباقشيش،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 صلى الله عليه وسلم. فهم وإن كانوا لا يخضعون لسيطرة رسول الله صلى الله عليه وسلم العسكرية في عملياتهم الاجتهادية ضد قريش إلا أنهم كانوا يخضعون لأوامره ونواهيه ويحققون رغباته، ثم كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يقدموا عليه بعد شكوى قريش منهم وتنازلهم عن شرطهم السابق الذي اعتقدوا أنهم حققوا به كسبا ضد المسلمين، لكن الله جعله وبالا عليهم، فأسرعوا يتضرعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إلى أبي بصير، وأبي جندل ومن معه ولهم الحرية المطلقة في اللحاق بالمسلمين في المدينة إذا أرادوا، وبذلك فرج الله على المستضعفين من المسلمين. ويذكر الشعبي أن أبا العاص رجع إلى مكة فأدى على الناس ما كان معه من بضائعهم حتى إذا فرغ وأدى "إلى كل ذي حق حقه قام فقال: يا أهل مكة أوفيت ذمتي، قالوا: اللهم نعم، فقال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ثم قدم المدينة مهاجرًا، فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته بالنكاح الأول"1. ويستفاد من هذه القصة من الأحكام جواز إجارة المرأة، قال ابن المنذر:   =مرويات ابن عقبة (2/405-406) ، كما ورد الخبر بسياقات أخرى مختلفة من طرق كل من الشعبي. انظر ابن حجر، إصابة (4/122) وابن إسحاق، ابن هشام، سيرة (2/657-658) البيهقي، سنن (9/143) ، والواقدي (2/553-554) وابن سعد، طبقات (2/87) ، وقد رجح ابن القيم، والصالحي رواية الزهري على الروايات الأخرى بناء على النقد الباطني للروايات. انظر ابن القيم، زاد (2/122) ، والصالحي، سبل (6/137) . وربما يعتضد الخبر بروايات موصولة يعتقد أنها منتزعة من نفس القصة منها رواية أم سلمة في حديث الإجارة والتي أخرجها الطبراني، والبيهقي. انظر الطبراني، المعجم (2/425، 23/275) ، والبيهقي، سنن (9/95) وقال عنها الهيثمي: فيه ابن لهيعة وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات. الهيثمي، مجمع (9/213) ، ورواية ابن عباس في حديث رد زينب التي أخرجها كل من أبي داود، والترمذي، وابن ماجه وصححها الألباني. انظر الألباني، صحيح أبي داود (2/421) وصحيح الترمذي (1/333) ، وصحيح ابن ماجه (1/340) والله تعالى أعلم بالصواب. 1 من مرسل الشعبي. انظر ابن حجر، إصابة (4/121-122) ، ولكن رد حديث زينب رضي الله عنها على ابن العاص بالنكاح الأول أخرجه أبو داود، والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس. راجع الألباني، صحيح أبي داود (2/421) ، وصحيح الترمذي (1/333) ، صحيح ابن ماجه (1/340) ، وقال عنه الترمذي: حديث ابن عباس ليس بإسناده بأس ولكن لا يعرف وجهه. انظر المباركفوري، تحفة الأحوذي (4/296) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة، إلا شيئا ذكره عبد الملك – يعني ابن الماجشون – صاحب مالك لا أحفظ ذلك عن غيره، قال: إن أمر الأمان إلى الإمام، وتأول ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة. قال ابن المنذر: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يسعى بذمتهم أدناهم" دلالة على إغفال هذا القائل ... انتهى. وجاء عن سحنون مثل قول ابن الماجشون فقال: هو إلى الإمام، إن أجازه جاز وإن رده رُدَّ1. والإجارة حكم شرعي كان يُعمل به في الجاهلية، وقد أقره الإسلام، وتتضح مدى أهميته بوروده بندا أساسيًّا في دستور المدينة الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تأسيسه لدولة الإسلام في المدينة2. وهو حكم عظيم يوضح استعلاء المسلمين على غيرهم من الأمم، وهم فيه سواء لا فرق بين شريفهم ووضيعهم، وذلك على خلاف ما كان عليه الناس في الجاهلية حيث لا يستطيع أن يقوم بالإجارة إلا الشريف منهم، أما في الإسلام "فالمؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم على من سواهم"3 قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائد هذه الأمة صراحة: "يُجير على أمتي أدناهم"4. كما ورد في ثنايا الخبر ما يفيد أن رسول لله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب رضي الله عنها إلى زوجها بالنكاح السابق دون إحداث نكاح جديد ومهر جديد. وهذه المسألة خلافية بين الفقهاء، حيث يخالف هذا الحديث آخر أخرجه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد، ونكاح جديد".   1 انظر ابن حجر، فتح (6/273) . 2 انظر محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، (ص 60) البند (15) . 3 رواه أحمد. انظر البنا، الفتح الرباني (14/115) . 4 المرجع السابق (14/116) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وقال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها، ثم أسلم زوجها وهي في العدة، أن زوجها أحق بها ما كانت في العدة، وهو قول مالك بن أنس، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق1. وقال في مكان آخر: قال يزيد بن هارون: حديث ابن عباس أجود إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب2. وقال ابن عبد البر: حديث أنه صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول متروك، لا يعمل به عند الجميع، وحديث ردها بنكاح جديد عندنا صحيح يعضده الأصول، وإن صح الأول أريد به على الصداق الأول وهو حمل حسن3. وقال بعضهم: تصحيح ابن عبد البر الحديث أنه ردها بنكاح جديد مخالف لكلام أئمة الحديث كالبخاري وأحمد بن حنبل، ويحي بن سعيد القطان، والدارقطني، والبيهقي وغيرهم4. وقد اختلف العلماء في تأويل وترجيح أحد الحديثين على الآخر بما لا طائل لذكره هنا. قال ابن حجر بعد أن ذكر أقوالهم في ذلك: وأحسن المسالك في هذين الحديثين ترجيح حديث ابن عباس كما رجحه الأئمة وحمله على تطاول العدة فيما بين نزول آية التحريم وإسلام أبي العاص، ولا مانع من ذلك من حيث العادة فضلاً عن مطلق الجواز5.   1 انظر المباركفوري، تحفة الأحوذي (4/295-296) . 2 انظر المبار كفوري، تحفة الأحوذي (4/295-296) . 3 الحلبي، سيرة (3/178) . 4 المصدر السابق. 5 ابن حجر، فتح (9/424) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر ... سرية الخبط أو بعث أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر "فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة، قال: كيف كنتم تصنعون بها؟، قال: نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله". جابر بن عبد الله رضي الله عنه النووي على مسلم (17/84) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 تعتبر سرية الخبط، استمرارا لسياسة النبي صلى الله عليه وسلم العسكرية لإضعاف قريش، ومحاصرتها اقتصاديًّا على المدى الطويل، ولتعويض المهاجرين، ولو جزءًا بسيطًا مما فقدوه من أموال ومتاع استولت عليها قريش عند مغادرتهم وطنهم مكة. ولم توضح لنا غالبية الروايات، وخاصة الصحيحة منها تاريخ محدد لهذه السرية. وقد أغرب الشامي حين ذكر أن جمهور أئمة المغازي حددوا تاريخها برجب في السنة الثامنة الهجرية1؛ حيث لم يقل بذلك غير الواقدي ومن تابعه2. وقد رد كل من ابن القيم، وابن حجر هذا القول باعتبار تلك الفترة فترة هدنة مع قريش، فالظاهر أن ذلك وهم غير محفوظ، بل مقتضى ما في الصحيح أن تكون هذه السرية في سنة ست أو قبلها قبل الهدنة3. وذكر العراقي أن السرية كانت بعد نكث قريش للعهد، وقبل الفتح4، وعلق الزرقاني بعد ذلك: بأنه لا يعتبر قول ابن القيم كون السرية في رجب وهم غير محفوظ5. وعلى تسليم ظاهره، يحتمل أن يكون البعث في أواخر رجب بحيث لا يصلون إلى جهينة ويلقون العير، إلا في شعبان6.   1 الشامي، سبل (6/275) . 2 انظر الواقدي، مغازي (1/6) وابن سعد، طبقات (2/132) ، ابن سيد الناس، عيون (2/206) ، القسطلاني، إرشاد الساري (6/427) . 3 بتصرف واختصار من ابن القيم، زاد (2/158) وابن حجر، فتح (8/78) . 4 انظر أبا زرعة العراقي، طرح التثريب في شرح التقريب (6/8-9) . 5 انظر الزرقاني، شرح المواهب (2/281) . 6 هذا الاحتمال بعيد لأنه قال في الخبر أنهم مكثوا في الساحل نصف شهر حتى أكلوا الخبط، ثم مكثوا يأكلون من الحوت حوالي الشهر، فتكون المدة التي قضوها في هذه السرية أكثر من شهر، ومعلوم أن فتح مكة كان في رمضان، وكان معظم المشاركين في السرية قد شارك في غزوة الفتح، كما أن خبر السرية يمكن أن يشتهر ويذيع لو أنها حدثت قبل لفتح بهذه المدة الوجيزة وكان يبعد أن لا يذكر أهل المغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية اعتراضية لتلقى عير قريش بعد نقضها العهد مع المسلمين، وقريش ليست من الغباء بمكان حتى ترسل قوافلها في فترة توتر العلاقات مع المسلمين. وإنني أتساءل لماذا لم يوضح جابر بن عبد الله رضي الله عنه أحد أفراد هذه السرية لهم حكم ميتة البحر= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وعلى كل حال فقد حشد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموعة من رجاله المخلصين في (دورية قتال اعتراضية قوتها) ثلثمائة صحابي1 من المهاجرين والأنصار2 وأسند قيادتها إلى أمين الأمه أبي عبيدة بن الجراح3، وحدد لهم الهدف المنشود وهو رصيد عير المشركين4 ربما قافلة تجارية مساحلة عن طريقها المعتاد، وقد تمر بمنطقة نفوذ قبيلة جهينة على ساحل البحر الأحمر. ونظرا للضائقة الاقتصادية التي كان يمر بها المسلمون في ذلك الوقت، فقد كان تموين هذا الجيش ضعيفا بحيث لم يجد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غير   =عندما توقفوا بادىء الأمر في الأكل من الحوت، وهو الذي مر بتجربة مماثلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بواط وعلم الحكم. انظر النووي على مسلم (18/146-147) . هل كانت هذه السرية قبل غزوة بواط ربما، والله أعلم بالصواب؟ ا. 1 في رواية النسائي ثلاثمائة وبضعة عشر. انظر النسائي، سنن (4/209) . 2 وضحت ذلك رواية الواقدي وكاتبه ابن سعد نصا "ثلثمائة رجل من المهاجرين والأنصار، وفيهم عمر بن الخطاب. انظر الواقدي، مغازي (2/774) ، وابن سعد، طبقات (2/132) واللفظ له بينما اتضحت مشاركة الجانبين من خلال سياق روايات الصحيحين. انظر ابن حجر، فتح (8/77) ، والنووي على مسلم (13/89) . 3 وقع في روايات شاذة أن قائد السرية كان قيس بن سعد بن عبادة. انظر ابن حجر، فتح (8/79-81) . والطبري، تاريخ (3/33) ، وابن سيد الناس، عيون (2/206) ثم ينقل ابن سيد الناس قول أحد رواته للخبر. "قال إبراهيم: لم يكن قيس بن سعد أمير هذا الجيش، إنما كان أبو عبيدة، وقيس معه، كذا أخبرني محمد بن صالح، عن محمد بن عمر، عيون الأثر (2/206-207) ، أما ابن حجر فقال معقبا على ذلك: "والمحفوظ ما اتفقت عليه روايات الصحيحين". 4 ذكر الواقدي وابن سعد أن هذه السرية كانت موجهة لحيِّ من جهينة. انظر الواقدي، مغازي (2/774) ، وابن سعد، طبقات (2/132) وهو مخالف لما في الصحيحين. وقد حاول بعض المتأخرين الجمع بين القولين، فذكر أنه يمكن الجمع بين كونهم يتلقون عيرا لقريش ويقصدون حيًّا من جهينة لمحاربتهم. انظر القسطلاني، المواهب اللدنية (1/147) . قلت: البعث للمقصدين لا يستقيم لأنه يصعب على دورية قوتها ثلثمائة فرد أن تقوم بمهمة مزدوجة في آن واحد، وعلى فرض إمكانية ذلك فإنه لم يقع شيء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدا، بل فيه أنهم أقاموا نصف شهر أو أكثر في مكان واحد، والله أعلم. ابن حجر فتح (8/78) . بل إن الواقدي الذي انفرد بهذا القول ساق في روايته تعامل أحد أفراد السرية التجاري مع بعض أفراد قبيلة جهينة. الواقدي، مغازي (2/775) . أما ابن حجر فذكر في صدد الجمع بين القولين أنه يحتمل أن يكون تلقيهم للعير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة. ابن حجر، فتح (8/78) وهذا الاحتمال بعيد لأن قبيلة جهينة هي من القبائل الداخلة ضمن الإيلاف الصيفي مع قريش، ولم يرد في أخبار المغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد حلفا معها ضد قريش كما فعل مع القبائل الأخرى كبني مدلج وغيرهم، فليس لجهينة مصلحة في نقض حلفها مع قريش، وعلى فرض أنهم فعلوا ذلك من أجل المسلمين. فلماذا يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية تحمي عير قريش منهم. والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 جراب من تمر زودهم إياه، إضافة إلى أزوادهم الخاصة التي كانت في مجملها قليلة أيضا. (وأثناء المسير الاقترابي) لموقع العمليات، فَنِي زاد السرية العام "فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش، فجُمع فكان مزودي تمر"12 لأجل البركة في اجتماع الأزواد، وحتى يتساوى الكل في القوت فلا يتميز أحد عن أحد. ورغم هذا الإجراء المنضبط من القائد الذكي إلا أن جرابا من تمر وهو مقدار ما تجمع من الزاد الخاص للجيش لم يكن يكفي جيشا مكونًا من ثلثمائة رجل. فكان أبو عبيدة يقوتهم من هذا الجراب كل يوم "قبضة قبضة"3 ثم تمرة تمرة. عندما قارب من الانتهاء، وقد أدرك الجند صعوبة الموقف فتقبلوا هذا الإجراء بصدور رحبة دون تذمر أو ضجر، بل إنهم ساهموا في خطة قائدهم التقشفية فصاروا يحاولون الإبقاء على التمرة أكبر وقت ممكن. يقول جابر رضي الله عنه أحد أفراد هذه السرية: "كنَّا نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل"4 وكم هو رائع هذا الموقف المدهش حقّا والذي أدهش قبلنا وهب بن كيسان رحمه الله الذي سأل جابرا رضي الله عنه دهشًا: "ما تغني عنكم تمرة؟، فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت"5. ومع ذلك لم يؤثر ذلك على معنويات الجيش، ويستسلموا للأمر الواقع بل فكروا في حيلة يُبقون على أنفسهم حيث اضطروا إلى أكل ورق الشجر. قال جابر رضي الله عنه: وكنا نضرب بعصينا الخبط6، ثم نبله بالماء   1 المزود بكسر الميم وسكون الزاي ما يجعل فيه الزاد. ابن حجر، فتح (8/79) ، وإرشاد الساري (6/427) . 2 من رواية وهب بن كيسان عن جابر. ابن حجر فتح (8/77) . 3 من رواية عمرو بن دينار عن جابر عند مسلم. مسلم بشرح النووي (13/88) . 4 من رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم، مسلم بشرح النووي (13/84) . 5 من رواية وهب عن جابر عند البخاري، ابن حجر. (8/77) . 6 الخبط: ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها، واسم الورق الساقط خَبَط بالتحريك، فعل بمعنى مفعول وهو من علف الإبل، والخبط ورق ينفض بالمخابط ويجفف ويطحن ويخلط بدقيق أو غيره ويخفف بالماء. راجع ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، والقاموس المحيط، مادة (خبط) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فنأكله"1. "فسمى ذلك الجيش جيش الخبط"2، وقد أثر هذا الموقف في قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما أحد جنود هذه السرية الشجاعة وهو رجل من كرماء الصحابة المشهورين3فنحر للجيش "ثلاث جزائر4، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه"5. ولم يكن الله عز وجل ليتخلى عن جند له خرجوا في سبيله ابتغاء مرضاته، وطمعا فيما عنده من الأجر، فبينما هم كذلك من الجهد والجوع الشديدين إذ زفر البحر زفرة أخرج الله فيها حوتًا ضخمًا، فألقاه على الشاطىء، ويصف لنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مقدار ضخامة هذا الحوت العجيب فيقول: "وانطلقنا على ساحل البحر، فرُفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم6، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر7، قال: قال   1 من رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم، مسلم بشرح النووي (13/84) . 2 من رواية عمرو بن دينار عن جابر عند البخاري، ابن حجر، فتح (8/78) . 3 هو قيس بن سعد بن عبادة بن دليم الأنصاري الخزرجي، وقال ابن عيينة عن عمرو بن دينار: كان قيس ضخما حسنا طويلا إذا ركب الحمار خطت رجلاه الأرض، وذكر الزبير أنه كان سِناطا ليس في وجهه شعرة، وفي صحيح البخاري عن أنس: كان قيس بن سعد من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير، وشهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوم الفتح أخذ الراية من أبيه فدفعها إليه، وقال أبو عمر: كان أحد الفضلاء الجلة من دهاة العرب، من أهل الرأي والمكيدة في الحرب مع النجدة والسخاء والشجاعة، وكان شريف قومه غير مدافع. قال خليفة وغيره: مات في آخر خلافة معاوية بالمدينة. ابن حجر، إصابة (3/249) . 4 جمع جزور، والجزور: البعير، أو خاص بالناقة. (القاموس، مادة جزر) . 5 من رواية عمروبن دينار عن جابر عند البخاري، ابن حجر فتح (8/78) وذكر الواقدي في روايته أن قيس بن سعد رضي الله عنه استدان هذه الجزر من رجل جهني، وأن أبا عبيدة رضي الله عنه نهاه قائلا: تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك. الواقدي، مغازي (2/774-775) ، هذا وقد رجح ابن حجر هذا السبب عند ذكر الاختلاف في سبب نهي أبي عبيدة لقيس، فقال: قيل لخشية أن تفنى حمولتهم، وفيه نظر؛ لأن القصة أنه اشترى من غير العسكر، وقيل: لأنه كان يستدين على ذمته، وليس له مال، فأريد الرفق به، وهذا أظهر والله أعلم، فتح (8/81) . 6 الكثيب: التل من الرمل. (القاموس: الكثب) . 7 العنبر سمكة كبيرة يتخذ من جلدها التراس، قال الأزهري: العنبر سمكة بالبحر الأعظم يبلغ طولها خمسين دراعا يقال لها بالة، وليست بعربية، ويقال إن العنبر المشموم رجيعها، وقال ابن سينا: بل= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهرا، ونحن ثلثمائة حتى سمِنَّا، قال: لقد رأيتنا نغترف من وقب1 عينيه بالقلال2 الدهن. وتقتطع منه الفدر3 كالثور، أو قدر الثور، فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها، ثم رجل أعظم بعير معنا   =المشموم يخرج من الشجر، وإنما يوجد في أجواف السمك الذي يبتلعه، ونقل الماوردي عن الشافعي قال: سمعت من يقول: رأيت العنبر نابتًا في البحر ملتويًا مثل عنق الشاة، وفي البحر دابة تأكله وهو سم لها فيقتلها، فيقذفها البحر فيخرج العنبر من بطنها، قال الحلبي: وفي زمن الحاكم بأمر الله وجدت سمكة بدمياط طولها مائتا ذراع، وعرضها مائة وستون ذراعا وكان يقف في حلقها خمس رجال بالمجاريف يجرفون الشحم، وأقام أهل دمياط يأكلون من لحمها خمسة أشهر. وحوت العنبر SPERMWHALEمميز الشكل والهيئة، ومظهره ملتوٍ، ويتميز عن غيره من الحيتان بالرأس الضخم والبوز المَربع الذي يخزن فيه كمية كبيرة من الدهن، وهو من أكبر أنواع المسننات من الحيتان حيث يتراوح طول الذكر منه خمسة عشر إلى عشرين مترا، ويزن حوالي من خمسة وثلاثين إلى ستين طنًّ، والأنثى أصغر من الذكر، وتعتبر الحبارة هي غذاءه الرئيسي إذ يصيد منها كميات كبيرة وضخمة، وقد وجد في معدته من هذه الحبارات ما يبلغ طوله عشرة أمطار. والعنبر من الكائنات البحرية الغواصة فهو يستطيع الغوص إلى عمق ألف متر أو أكثر، كما يستطيع البقاء في الأعماق حوالي ساعة من الزمان. وحوت العنبر متواجد باستمرار في منطقة البحر العربي، وهنالك شواهد تدل على مشاهدته في البحر الأحمر حيث ذكر شهود عيان أنهم رأوه في منطقة جيزان عدة مرات، ولا تعرف الأسباب العلمية التي تؤدي بمثل هذه الحيتان الضخمة إلى الظهور في البحار القليلة العمق نسبيا كالبحر الأحمر، ربما بسبب تعطل أجهزة الاتصال لديها، أو لكبر سنها، وربما سبب بحث الذكر عن أنثاه. وبغض النظر عن هذه الشواهد والأسباب فإن ورود الخبر في الصحيحين يُغنينا عن الاستشهاد بغيرهما، فالخبر صحيح، وظهور مثل هذا الحوت الضخم للصحابة في تلك المنطقة غير المألوفة بالنسبة لأمثاله يُعد كرامة أكرمهم بها الله ورزقا أخرجه لهم كما أخبرهم بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم والكرامة والمعجزة تُصنَّف في عِدد خوارق العادات، ولكن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو على كل شيء قدير. انظر الفيروز آبادي، القاموس، وابن منظور، لسان مادة: عنبر، وانظر ابن حجر، فتح (8/80) ، والحلبي، سيرة (3/203) ، ومنير البعلبكي: المورد قاموس انكليزي – عربي (ص: 886) والثدييات البحرية، مذكرة من جمع الدكتور محمد موسى العمودي (ص: 14) وكلقاء شخصي معه. AND M. GRANTGROSS, OCCANOGRAPHY A VIEW OF THE EATH: 361 AND JAMES W NYBAKKEN BIOLOGYAN ECOLOGICAL APROCH: 99. 1 الوقب هو النقرة التي تكون فيها العين. ابن منظور، لسان، مادة (وقب) . 2 جمع قلة وهي الجرة العظيمة، وذلك مما يقور الظن بأنه حوت العنبر حيث إنه يتميز عن غيره من الحيتان بالرأس الضخم الذي يتركز فيه كمية كبيرة من الدهن. انظر الثدييات البحرية، مذكرة من جمع الدكتور/ موسى العمودي (ص: 14) ، وروى تشابمان آندروز، كل شيء عن الحيتان (ص: 103) ، القاموس، واللسان (قلة) . 3 جمع فدرة وهي القطعة من اللحم. القاموس، واللسان (فدر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فمر من تحتها1 وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم2. فقال: "ما حبسكم"؟، فقلنا: كنا نتبع عيرات قريش، وذكرنا له من أمر الدابة"3. فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا، قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله"45. وقد أورد بعض شارحي حديث هذه السرية، وبعض أهل المغازي المتأخرين بعض الأمور الفقهية المستفادة من خلال أحداث هذه السرية، قال النووي: في هذا الحديث جواز صدِّ أهل الحرب واغتيالهم والخروج لأخذ مالهم واغتنامه. وأن الجيوش لا بد لها من أمير يضبطها، وينقادون لأمره ونهيه،وأنه ينبغي أن يكون الأمير أفضلهم، قالوا: يستحب للرفقة من الناس وإن قلوا أن يؤمروا بعضهم عليهم، وينقادوا له، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: يستحب للرفقة من المسافرين خلط أزوادهم ليكون أبرك، وأحسن في العشرة، وأن لا يختص بعضهم بأكل دون بعض والله أعلم6.   1 في رواية عمرو بن دينار: "فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه فنصبه، ثم نظر إلى أطول رجل في الجيش، وأطول جمل فحمله عليه، فمر تحته". انظر ابن حجر فتح (8/78) ، ومسلم بشرح النووي (13/88) واللفظ له. قال ابن حجر: وهذا الرجل لم أقف على اسمه، وأظنه قيس بن سعد بن عبادة فإن له ذكرا في هذا الغزوة، وكان مشهورا بالطول. ابن حجر، فتح (8/80) . قلت: مر بنا في ترجمة قيس رضي الله عنه أنه كان إذا ركب الحمار خطت رجلاه الأرض. 2 من رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم. مسلم بشرح النووي (13/85-87) . 3 من رواية النسائي، سنن (7/209) ، والألباني، صحيح سنن النسائي (3/910) وقال عنه "صحيح". وانظر الطيالسي، سليمان بن داود، المسند (7/241) . 4 من رواية أبي الزبير عن جابر. مسلم بشرح النووي (13/87) . 5 الخبر صحيح، أخرجه البخاري في صحيحه في أماكن متفرقة وبطرق مختلفة. انظر ابن حجر، فتح (6/130، 8/77-78) ، والقسطلاني، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (6/427-428) ، كما أخرجه مسلم بطرق مختلفة أيضا. انظر مسلم بشرح النووي (13/84-85-87-88-89-90) ، وأخرجه النسائي في "السنن" (7/207-208-209) ، وانظر الألباني، صحيح سنن النسائي (3/908-909-910) ، وأحمد في "المسند" انظر البنا، الفتح (21/141) ، وأخرجه من أهل المغازي ابن إسحاق بسند صحيح. انظر ابن هشام، سيرة (4/632-633) والواقدي، وكاتبه ابن سعد ولكن باختلاف جوهري في بعض الوقائع مما ورد في الصحيحين، وابن إسحاق. انظر الواقدي، مغازي (2/774-775-776-777) وابن سعد، طبقات (2/132) ، والطبري، تاريخ (3/32-33) . 6 مسلم بشرح النووي (13/86) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 قال ابن حجر: وفي الحديث من الفوائد مشروعية المواساة بين الجيش عند وقوع المجاعة، وأن الاجتماع على الطعام يستدعي البركة فيه1. ومن الفوائد أيضا جواز أكل ورق الشجر عند المخمصة، وكذلك عشب الأرض، قاله ابن القيم2. وفيه أيضا بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الزهد في الدنيا، والنتقلل منها، والصبر على الجوع وخشونة العيش، وإقدامهم على الغزو مع هذا الحال3. وتدل القصة على جواز أكل ميتة البحر، وأنها لم تدخل في قوله عز وجل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 4 وقد قال الله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} 5، وقد صح عن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عباس وجماعة من الصحابة "أن صيد البحر ما صيد منه، وطعامه ما مات فيه"، وفي السنن عن ابن عمر مرفوعا وموقوفا " أحلت لنا ميتتان، ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال" حديث حسن، وهذا الموقوف في حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: "أُحل لنا كذا، وحُرِّم   1 ابن حجر، فتح (8/81) . 2 ابن القيم، زاد (2/159) ، قلت: ما أقدم عليه أصحاب السرية من أكل الخبط دليل على قوة شكيمتهم، وتمتعهم بفكر سليم هداهم إلى أكل ورق الشجر كي يبقوا على أنفسهم ولا يستسلموا للجوع فيُقضى عليهم، مع عظيم توكلهم على الله عز وجل الذي لم يخب ظنهم فأطعمهم رزقا من عنده من حيث لا يحتسبون. وصدق الله القائل في محكم كتابه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الطلاق (2-3) . وقد سمعنا في وقتنا الحاضر بأن الجيوش الحديثة لديها فرق خاصة تسمى (قوات الصاعقة) يتم تدريبها تدريبا عنيفا يتضمن تعويدهم على أكل ورق الشجر وغيره استعدادا لما قد يلاقونه من جوع في مهماتهم، وقد رأينا الصحابة رضي الله عنهم، في هذه السرية يأكلون ورق الشجر، كل تلك الفترة بدون تدريب مسبق على ذلك، وليس ذلك بمستغرب من جنود سامية أهدافهم يملأ الإيمان جوانحهم. 3 مسلم بشرح النووي (13/86) . 4 المائدة (3) . 5 المائدة (96) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 علينا" ينصرف إلى إحلال النبي صلى الله عليه وسلم وتحريمه، فإن قيل: فالصحابة في هذه الواقعة كانوا مضطرين، ولهذا لما هموا بأكلها قالوا: إنها ميتة، وقالوا: نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مضطرون فأكلوا، وهذا دليل على أنهم لو كانوا مستغنين عنها لما أكلوا منها1. قيل: لا ريب أنهم كانوا مضطرين ولكن هيأ الله لهم من الرزق أطيبه وأحله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد أن قدموا: "هل بقي معكم من لحمه شيء؟ " قالوا: نعم، فأكل منه صلى الله عليه وسلم وقال: إنما هو رزق ساقه الله لكم"، ولو كان هذا رزق مضطر لم يأكل منه للضرورة فكيف ساغ لهم أن يدهنوا بوكدها، وينجسوا به ثيابهم وأبدانهم، وأيضا كثير من الفقهاء لا يُجَوِّز الشبع من الميتة، إنما يجوزون منها سد الرمق. والسرية أكلت منها حتى ثابت إليهم أجسامهم وسمنوا وتزودوا منها2. وفيها دليل على جواز الاجتهاد في الوقائع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره على ذلك، لكن هذا كان في حال الحاجة إلى الإجتهاد وعدم تمكنهم من مراجعة النص. وقد اجتهد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة من الوقائع وأقرهما على ذلك، لكن في قضايا جزئية معينة لا في أحكام عامة وشرائع كلية؛ فإن هذا لم يقع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد من   1 ربما أنهم توقفوا بادىء الأمر لعدم معرفتهم بالحكم الذي لم يرد فيه نص قاطع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في وقت متأخر في الحديث الذي يرويه أبو هريرة الذي أسلم بعد فتح خيبر – في البحر، وفيه: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" أخرجه مالك وأصحاب السنن، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح. انظر موطأ مالك (1/22، 2/495) ن والمباركفوري، تحفة (1/225-230) والألباني صحيح سنن الترمذي (1/21) ، وصحيح سنن أبي داود (1/19) ، وصحيح سنن النسائي (1/14) ، وصحيح سنن ابن ماجه (1/67) ، وابن حبان، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (7/337) ، وكان يمكن لابن القيم الاعتماد على هذا الحديث في بيان حكم ميتة البحر، وإن كان ما ذكره من آثار تدخل ضمن هذا الإطار، والله تعالى أعلم بالصواب. 2 ابن القيم، زاد (2/159) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الصحابة في حضوره صلى الله عليه وسلم ألبتة1. ومن الفوائد أيضا جواز نهي الإمام، وأمير الجيش للغزاة عن نحر ظهورهم وإن احتاجوا إليه خشية أن يحتاجوا إلى ظهورهم عند لقاء العدو، ويجب عليهم الطاعة إذا نهاهم2. كما يستحب للمفتي أن يتعاطى بعض المباحات التي يشك فيها المستفتي إذا لم يكن فيه مشقة على المفتي، وكان فيه طمأنينة للمستفتي، قاله النووي3.   1 مسلم بشرح النووي (13/86) . 2 ابن القيم، زاد (2/159) ، وفيه نظر إذ لم يثبت في القصة أن قيس بن سعد رضي الله عنهما نحر لهم من الجزر التي كانوا يركبونها، ولا يعقل أن تصل رواحله وحده إلى هذا العدد الكبير، وفي القصة كما قال ابن حجر أنه اشترى من غير العسكر. 3 مسلم بشرح النووي (13/86) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الفصل الثاني: البعوث ذات المهمات الصعبة سرايا المغاوير مقدمه ... الفصل الثاني البعوث ذات المهمات الصعبة (سرايا المغاوير) ويشتمل على: 1ـ مقدمة. 2ـ بعث سالم بن عمير إلى أبي عفك. 3ـ خبر مقتل المرأة التي تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4ـ البعث إلى كعب بن الأشرف. 5ـ بعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي. 6ـ بعث عمرو بن أمية إلى أبي سفيان بن حرب. 7ـ البعث إلى أبي رافع سلام بن أبي الحقيق. 8ـ البعث إلى اليسير بن رزام. 9ـ سرية أبي قتادة بن ربعي إلى خضره.   1 المغاوير: جمع مغوار، والمغوار هو الفدائي يقابل كلمة COMMANDOالإنجلزية. خطا، الرسول القائد (239) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 مقدمة لكل دولة أعداء، وهؤلاء إما يكونوا على شكل جماعات منفصلة لها معسكرها الخاص بها، وإما يكونوا مندسين ضمن جماعات مسالمة أو معاهدة، وربما يخضعون لسيادة الدولة نفسها. والأعداء الظاهرون يتم التعامل معهم صراحة وبشكل مباشر ومعلن. أما الأشخاص المندسون في الجماعات غير المعادية فيصعب التعامل معهم مباشرة، نظرا لوقوعهم تحت مظلة العهد المبرم مع قومهم، وتمتعهم بحمايتهم، فيستغلون هذا الموضع لتنفيذ مخططاتهم العدائية ضد الدولة من تحريض، وبثٍّ لأسباب الفرقة والشقاق، مع مؤازرة أعداء الدولة أو موالاتهم. وهذا العدو خطره أكبر بكثير من العدو الظاهر المعلِن للعداء، ويكون التعامل معه فيه نوع من الحيطة، والحذر، والترقب مع تحين الفرص المناسبة للقضاء عليه. وأحسن وسيلة تحقق هذا الغرض هي استعمال الحيلة بشتى أساليبها لاستدراجه بعيدا عن قاعدته الأمنية، أو مباغتته فيها والقضاء عليه دون إثارة انتباه الآخرين. وهذا العمل تقوم به الآن الدول المتقدمة، وتعتبره أسلوبا من أساليب الحرب المطورة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم له قصب السبق في استحداث هذا الأسلوب المتطور، فقد أحسن التعامل مع التوعيات المختلفة مع الأعداء، حيث استطاع عليه الصلاة والسلام بحنكته العسكرية الفذة أن يواجه أعداءه، ويتغلب عليهم بشتى الطرق الممكنة كلٌّ بحسب وضعه. فمن رأى أنه يستطيع القضاء عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 بأيسر الطرق دونما إراقة دماء كثيرة أرسل إليه (فرقة مغاوير) للقضاء عليه قبل أن يستفحل أمره ويقوى كيده. وهكذا نراه دائم الحذر يحرص دائما على مراقبة أعدائه، وتتبع أخبارهم ونشاطاتهم المعادية أولا بأول، مما يعطينا دلالة واضحة على أنه كان يستخدم الأسلوب المسمى اليوم (بالمخابرات) مع البون الشاسع في الأساليب والإمكانيات. إن فرق المغاوير ونظم المخابرات تحتل اليوم حيزًا كبيرا ومهمًّا في جيوش الدول الحديثة، بل إنها تعتمد عليها في كل الأوقات سلمًا وحربًا لتنفيذ أغراضها ومخططاتها. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلجأ لأسلوب تحشيد سرايا يوكل إليها القيام بالمهمات الصعبة، إلا بعد ظهور طائفة من الأعداء عرف بثاقب بصره العسكري المحنك، أنه يمكن القضاء عليهم بطرق ميسرة وتحول دونما إراقة دماء كثيرة، وهو الهدف الذي كان طالما كان يسعى إليه في صراعه مع أعدائه، كما أنها قد تحقق له من النتائج أفضل ما قد تحققه بعض المعارك الميدانية المكشوفة من إثارة الرعب في نفوس الأعداء، وردع كل من حاول منهم القيام بمثل ما قام به أولئك، مع إخماد ما قاموا به من التحريض وإثارة الفتنة في مهدها، والقصاص العادل من الخونة ومثيري الأحزاب. فعدو مثل كعب بن الأشرف مرتبط مع الدولة التي يتفيأ ظلال حمايتها بمعاهدة وخاضع لسيادتها، عندما يقوم بتجاهل كل ذلك، فينقض العهد والميثاق ويوالي أعداء الدولة ألا يعتبر خائنًا لها، ومحاربًا مهدور الدم يجب قتله واستئصال شره. ورجل مثل أبي سفيان بن حرب يخطط لمؤامرة تستهدف حياة النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ألا يجب معاملته بالمثل على أقل تقدير. وعدو كخالد بن سفيان الهذلي يؤلب الأعراب ويحشدهم لحرب المسلمين، ألا يكون في القضاء عليه قبل أن يستكمل خطته ويحشد الأعراب فيه تشتيت لشملهم وتجنب خطرهم الداهم وشرهم بأقل قدر ممكن من الخسائر وإراقة الدماء. كما أن في قتل عدوين مثل "سلام بن أبي الحقيق، واليسير بن رزام من زعماء خيبر تمهيدًا للغزو، وحرمانًا لليهود من زعيمين كبيرين لهما رأي وتدبير1 كما يعتبر قتل سلام بن أبي الحقيق قصاصا عادلا لدوره الكبير في تأليب الأحزاب ضد المسلمين. وهكذا نرى أن سرايا المغاوير التي أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو الأفراد من أعداء الدولة الإسلامية، قد حققت أغراضها، وأصابت أهدافها بدقة متناهية على الرغم من قلة رجالها وبساطة إمكانياتها موفرة على دولة الإسلام في المدينة الكثير الكثير من الجهد والعناء، وجنبت المسلمين العديد من المعارك، وحقنت الكثير من الدماء، فإن في "تحطيم قوة العدو قبل أن تكتمل أفضل من تركها تتجمع ثم الصمود لها"2. لقد "استهدفت هذه السرايا إنذار أعداء الدولة الناشئة من غير قريش وحلفائها كاليهود في الداخل وجماعات البدو في الخارج بأن المسلمين قادرون على الرد ومستعدون للتصدي لأي عدوان يستهدف منجزاتهم التي حققوها طيلة أربعة عشر عاما من الجهد والعناء"3.   1 الشريف، مكة والمدينة (ص: 525) . 2 الشريف، مكة والمدينة (ص: 473) . 3 عماد خليل، دراسة في السيرة (ص: 17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 بعث سالم بن عمير إلى عفك ... بعث سالم بن عمير الأنصاري لقتل أبي عفك1 تُكَذِّبُ دينَ الله والمرءَ أحمَدا ... لَعَمْرُ الذي أَمْناك أنْ بئس ما يُمنيِ حَبَاكَ حنيفٌ آخرَ الليلِ طعنةً ... أبا عفكٍ خُذها على كِبَرِ السِّنَّ أمامة المريدية ابن هشام، سيرة (4/636)   1 لم ترد في خبر هذه السرية روايات مسندة صحيحة أو حسنة، فكان الاعتماد على روايات أهل المغازي ونقدها باطنيًّا بمقارنتها مع بعضها مع الأخذ بأوثقها قدر المستطاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 عندما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة دار هجرته بدعوة من الأوس والخزرج الذين آمنوا به وبرسالته ونصروه حتى عُرفوا فيما بعد بالأنصار، ولكن كانت هنالك قلة قليلة منهم بقيت على شركها، وبنو عمرو بن عوف هي إحدى القبائل الأوسية المنضمة إلى حظيرة الإسلام، وقد كانت كغيرها من القبائل الأنصارية، الغالبية العظمى مسلمين، وقليل منهم الذين بقوا على شركهم. وكان من هؤلاء شيخ كبير1 قد عسا2، عظيم الكفر، شديد الطعن على المسلمين، يدعى أبا عفك، وكان قد امتلأ قلبه بالحقد والحسد للمسلمين، وهو يرى التفاف الأوس والخزرج على نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وازداد كيده بالإسلام وأهله بعد أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يزداد قوة وتمكينًا في المدينة وما حولها بعد غزوة بدر3، فلم يطق لذلك صبرًا، فأخذ ينشد الشعر يهجو به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض على عداوته، ويسفه رأي الأنصار لمتابعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناصرته4. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه متمادٍ في غيه، لدرجة أنه يريد تأليب الناس عليه، وإثارة الفتنة والشقاق بين المسلمين ندب الصحابة لقتله قائلاً: "من لي   1 يذكر الواقدي، وابن سعد أنه قد بلغ من العمر عشرين ومائة سنة. انظر: الواقدي، مغازي (1/174) ، وابن سعد، طبقات (2/28) . 2 العسوس من الرجال إذا قل خيره. ابن منظور، لسان (عس) . 3 يذكر ابن إسحاق أنه قد نجم نفاقه بعد قتل الحارث بن سويد بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد. انظر ابن هشام، سيرة (3/89، 3/635) وهو بذلك قد خالف الواقدي، وابن سعد اللذين حددا تاريخ هذه الواقعة بشوال على رأس عشرين شهرا. الواقدي، مغازي (1/175) ، وابن سعد، طبقات (2/28) . 4 كان مما قاله: لقد عشتُ دهرا وما إن أرى ... من الناس دارًا ولا مَجمعا أبرَّ عهودًا وأوفى لمن ... من أولاد قَبلة في جمعِهم يعاقدُ فيهم إذا ما دعا ... يَهُدُّ الجبالَ ولم يخضعا فصدَّهم راكبٌ جاءهم ... حلالٌ حرام لشتى معا فلو أن بالعز صدَّقتم ... أو الملكِ تابعتم تُبَّعا ابن هشام، سيرة (4/636) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 بهذا الخبيث"1. وهنا يتجلى الإيمان في أروع مظاهره، فلا يتطوع لقتل أبي عفك ذلك الخبيث المرجف إلا رجلٌ من قومه2 شاب مغواري إيماني، من بني عمرو بن عوف، وأحد البكائين في غزوة تبوك، ذلكم هو سالم بن عمير رضي الله عنه3 حيث نذر على نفسه ليقتلنه أو يموت دونه، فقام بإعداد خطة محكمة للقضاء عليه دون أن يشعر به أحد من أشياعه "فأمهل يطلب له غرة4 حتى كانت ليلة صائفة، فنام أبو عفك بالفناء، وعلم به سالم بن عمير، فأقبل فوضع السيف على كبده، ثم اعتمد عليه حتى خش في الفراش، وصاح عدو الله"5 فتركه سالم رضي الله عنه مضرجًا بدمائه يخور كالثور، حيث ثاب إليه ناس من أصحابه "ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله، وقبروه"6. متسائلين بدهشة كما يذكر الواقدي "من قتله؟ والله لو نعلم من قتله لقتلناه به"7.   1 من رواية ابن إسحاق بلا سند. ابن هشام، سيرة (4/636) . 2 يذكر ابن سعد أن أبا عفك كان يهوديا مع أنه نسبه إلى بني عمرو بن عوف. الطبقات (2/28) فلا أدري أيقصد بذلك أنه من متهودتهم أم أن ذلك وهم منه، أو نسبه إلى اليهود مجازًا، لأن غالبية المنافقين كانوا يوالونهم، ويجتمعون بهم كثيرا، ويأتمرون فيما بينهم بالمسلمين، كما ذكر القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] . قال بعض المفسرين: المراد بشياطينهم من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر ابن كثير، تفسيره (1/51) والله أعلم. 3 سالم بن عمير، ويقال بن عمرو، ويقال ابن عبد الله بن ثابت بن النعمان بن أمية بن امرىء القيس بن ثعلبة الأنصاري الأوسي، ذكره موسى بن عقبة في البدريين، وقال ابن سعد ويونس بن بكير عن ابن إسحاق: هو أحد البكائين. وقال فيه: سالم بن عمرو بن عوف. وكذا قال ابن مردويه من طريق مجمع بن جارية وزاد في نسبه (العمري) يعنب من بني عمرو بن عوف، وقال أبو عمر: شهد العقبة وبدرا، وما بعدها، مات في خلافة معاوية. انظر ابن حجر، إصابة (2/5) ويذكر البلاذري أن الذي تطوع لقتل أبي عفك هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذكر ذلك عن قوم. انظر البلاذري، أنساب الأشراف (373) . 4 غرة: غفلة. اللسان، والقاموس (غرو) . 5 من رواية ابن سعد بلا سند، طبقات (2/28) . 6 المصدر السابق. 7 الواقدي، مغازي (2/175) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فقالت أمامة المريدية1 في ذلك: تُكَذِّبُ دينَ الله والمَرْءَ أحمدا ... لَعَمْرُ الذي أَمْنَاكَ أَنْ بِئْسَ ما يُمْني حبَاكَ حَنيفٌ آخرَ الليلِ طعنةً ... أبا عفكٍ خُذها على كِبَرِ السِّنِّ2 3   1 بضم الميم وكسر الراء، كذا في التبصير تبعا للذهبي، وقال في الأنساب بفتحها وعليه جرى ابن الأثير، وبسكون التحتية، وبالدال المهملة بعدها تحتية مشددة، بطن من بلى. وهي المزيرية عند ابن إسحاق، والنهدية عند الواقدي، والربذية عند ابن حجر، وربما تصحف اسمها مبكرٍا. انظر ابن هشام، سيرة مع شرح أبي ذر الخشني (4/377) ، والواقدي، مغازي (2/175) ، وابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة (5/400-401) وابن حجر، إصابة (4/238) ، والشامي، سبل (6/39) . 2 رواه ابن سيد الناس عن ابن سعد. عيون الأثر (1/351) . 3 الخبر رواه ابن إسحاق بلا سند. ابن هشام، سيرة (4/635-636) ، فالخبر بذلك ضعيف من الناحية الحديثية لكنه تاريخي، ويمكن أن يستأنس به تاريخيًّا لرواية أهل المغازي المتخصصين له. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 خبر مقتل المرأة التي كانت تسب النبي صلى لله عليه وسلم ... خبر قتل المرأة التي كانت تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم1   1 هذا الخبر لا يدخل ضمن نطاق هذا البحث، ولكن بسبب احتمال تعدد القصة أدخلته ضمن السرايا، وخاصة ون كثيرا من أهل المغازي اعتبروها من (سرايا المغاوير) لذلك أدرجته هنا في القسم الخاص بهذه السرايا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ساق ابن إسحاق، والواقدي بسند واحد منقطع1، وابن سعد، والبلاذري تبعا للواقدي2، والخطيب البغدادي3، وابن عساكر4 بسنديهما5 عن ابن عباس رضي الله عنهما هذا الخبر باعتباره سرية لقتل امرأة من بني خطمة6 هجت النبي صلى الله عليه وسلم، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه لها فتطوع رجل من قومها7 لقتلها. واختلف سياق القصة عند أهل الحديث، فالطبراني يذكر في رواية أخرجها بسنده عن عمير بن أمية رضي الله عنه أنه كانت له أخت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم   1 كلاهما عن عبد الله بن الحارث بن الفضيل عن أبيه. انظر ابن هشام، سيرة (4/636) ، والواقدي، مغازي (1/174) . قلت: الحارث بن الفضيل ثقة من السادسة. ابن حجر، تقريب (147) ، أما ابنه عبد الله فلم أعثر له على ترجمة. وإن صح السند إلى الحارث تبقى علة الانقطاع، والله تعالى أعلم. 2 ابن سعد، طبقات (2/27) ، والبلاذري، أنساب (373) . 3 ذكر ذلك الخطيب في ترجمة مسلم بن عيسى. انظر الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (13/99) . 4 ذكره ابن عساكر في ترجمة أحمد بن أحمد البلخي. انظر محمد بن مكرم. ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر (3/5-6) . 5 لكن في سنديهما مجالد بن سعيد: ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره. ابن حجر، تقريب (520) . 6 سماها أهل المغازي بالعصماء بنت مروان. ونسبوها إلى بني أمية بن زيد، وأنها كانت تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وتعيب الإسلام. انظر ابن هشام، سيرة (4/636-637) والواقدي، مغازي (1/174) ، وابن سعد، طبقات (2/27) في حين يذكر البلاذري أنها كانت يهودية. انظر البلاذري، أنساب (373) ، وذكر ذلك أيضا السهيلي نقلا عن مصنف حماد بن سلمة، وذكر أنها كانت تطرح المحائض في مسجد بني خطمة، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها. السهيلي، الروض الأنف (7/532) ، وقد حاول الزرقاني الجمع، فقال: ولا يعارض كونها يهودية نسبة من نسبها إلى بني أمية بن زيد وهو في الأنصار لجواز أنها منهم بالحلف، أو لكون زوجها منهم، أو نحو ذلك. انظر الزرقاني في شرحه المواهب اللدنية للقسطلاني (1/453-454) . هذا ولم يرد إسمها في روايتي الخطيب وابن عساكر، بل إنهما نسباها إلى بني خطمة فقط. الخطيب، تاريخ (13/99) ، وابن منظور، مختصر تاريخ دمشق (3/5-6) . 7 وضحت روايات أهل المغازي اسمه وصفته في حين أبهمته روايتا الخطيب وابن عساكر، وورد في ترجمته عند ابن حجر ما نصه: "عمير بن عدي بن خرشة بن أمية بن عامر بن خطمَة، كان أبوه عدي شاعرًا، وأخوه الحارث قُتل بأحد، وهو الأنصاري، ثم الخطمي، ذكره ابن السكن في الصحابة، وقال: هو البصير الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوره في بني واقف، ولم يشهد بدرا لضرارته. ابن حجر، إصابة (3/34) ، وانظر ابن هشام، سيرة (4/636-637) ، والواقدي، مغازي (1/174-175) ، وابن سعد، طبقات (2/27) ، والبلاذري، أنساب (373) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وكانت مشركة فقتلها تطوعا منه دون أن يندبه إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم1. ولأجل ذلك اعتبرها ابن حجر قصتين مختلفتين ووهَّم تبعا لذلك ابن عبد البر لخلطه بينهما2. أما السهيلي فخلط بين روايات أهل المغازي، وروايتي أبي داود والنسائي3 التي أخرجاها بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما وفيها: أن رجلا أعمى كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت له أم ولد تكثر الوقيعة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتلها4. كما أخرج أبو داود أيضا عن الشعبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت5. وإذا نظرنا إلى هذه القصة نجد أن هناك اضطرابا كبيرا في الروايات التي   1 الطبراني، المعجم (17/64) وقال عنه الهيثمي: رواه الطبراني عن تابعين أحدهما ثقة، وبقية رجاله ثقات، مجمع الزوائد (6/220) . قلت: في سنده يعقوب بن حميد، صدوق ربما وهم، ابن حجر، تقريب (607) ، ولم أجد ترجمة شيخ الطبراني ولا ترجمة التابعين اللذين ذكرهما الهيثمي. 2 انظر ابن حجر، إصابة، ترجمة عمير بن أمية (3/2) ، وانظر ابن عبد البر، استيعاب، هامش الإصابة (2/490-491) . 3 قال السهيلي في الروض: "وذكر ابن هشام مقتل العصماء بنت مروان، وفي خبرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينتطح فيها عنزان"، وكانت تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلها بعلها على ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا أن دمها هدر". السهيلي، الروض (7/532) ، وقد حاول الحلبي الجمع فقال: وقد يقال لا مخالفة لأن عميرا جاز أن يكون بعلا لها قبل مرثد بن زيد. الحلبي، سيرة (3/146) . قلت: وقع تصحيف عند الحلبي في اسم زوج عصماء حيث لم يرد الاسم بهذا الشكل إلا عنده، وعند الجميع (يزيد) ، كما أنه لم يرد ترجمة لمرثد في لإصابة، ولا الاستيعاب مما يقوي الظن بوقوع التصحيف. والله أعلم.. 4 انظر محمد بن إسماعيل الكحلاني، سبل السلام شرح بلوغ المرام (3/266) ، والنسائي، سنن (4/107-108) ، والألباني، صحيح سنن النسائي (3/853-854) وقال عنه: صحيح الإسناد، وأبو داود، سنن (2/528-529) . قلت: في السند عثمان بن الشحام لا بأس به. ابن حجر، تقريب (387) وبقية رجاله ثقات، ورواه الحاكم في المستدرك (4/354) وقال عنه: هذا حديث صحيح إن شاء الله على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. كما أخرج الحديث الدارقطني، سنن (4/216-217) . 5 أبو داود سنن (4/530) وقال عنه ابن تيمية: "وهذا الحديث جيد، فإن الشعبي رأى عليًّا وروى عنه حديث شراحة الهمداني، وكان على عهد عليّ قد ناهز العشرين سنة، وهو كوفي، فقد ثبت لقاؤه فيكون= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 نقلتها مما يدعونا إلى الاعتقاد باحتمال تعددها، وبسبب ذلك، واستنادا إلى منهجي في هذا البحث فسوف أعتمد إن شاء الله تعالى على رواية التي أعتقد أنها الأصح بين تلك الروايات، وهي رواية ابن عباس رضي الله عنهما في السنن التي ذكرت: "أن أعمى كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له أم ولد1 شقية انزلقت في مهاوي الضلال، فأعماها الحقد والحسد للإسلام وأهله، مما جعلها "تكثر الوقيعة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسبه، فيزجرها فلا تنزجر وينهاها فلا تنتهي"2 فضاق بها ذرعًا لتماديها في أمر لا يُصبر على مثله، فقرر القضاء عليها على الرغم من حاجته الماسة إليها لضرارته، فضلا عن كونها أمًّا لولده، ولكن الإيمان وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وموالاتهما لا يدانيه حب مهما بلغ "فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغول3 فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل4 فلطخت ما هناك بالدم"5. وفي صباح اليوم التالي يصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بجمع الناس، ثم قام فيهم خطيبا كعادته حينما يحدث أمر ما فقال: "أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام" 6.   =الحديث متصلا، ثم إن كان فيه إرسال لأن الشعبي يبعد سماعه من علي فهو حجة وفاقا؛ لأن الشعبي عندهم صحيح المراسيل، لا يعرف له مرسلا إلا صحيحا، ثم هو من أعلم الناس بحديث علي وأعلمهم بثقات أصحابه". هذا وقد ذكر ابن تيمية أنه يمكن أن تكون هذه القصة والتي قبلها واحدة، ويمكن أن تكون غيرها، كما أنه ساق قصة العصماء بنت مروان على اعتبار أنها قصة منفصلة. انظر شيخ الإسلام ابن تيمية، الصارم المسلول على شاتم الرسول (61-68-69-95) . 1 من رواية النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما انظر. النسائي، سنن (4/107) ، والألباني، صحيح سنن النسائي (4/853) . 2 المصدر السابق. 3 المغول: حديدة رقيقة لها حد ماض وقفا. ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث (غول) . 4 ربما كانت حاملا عندما قتلها فأسقطت ما في بطنها، أو أنه أحد ولديهما الصغيرين وقع بين رجليها، والله أعلم. 5 من رواية أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر أبي داود سنن (4/528-529) . 6 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فما كان من الرجل وهو يسمع مناشدة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بد من إجابته، فقام يتخطى الناس مضطربا حتى قعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت أم ولدي، وكانت بي لطيفة رفيقة، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، ولكنها كانت تكثر الوقيعة فيك وتشتمك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر1 ثم شرح له بالتفصيل كيف قتلها، عند ذلك قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا اشهدوا أن دمها هدر"2. يتضح لنا من سياق هذه القصة مدى الحب الطاغي المسيطر على قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له، فهذا رجل ضرير لديه مثل هذه المرأة الرفيقة به، اللطيفة معه على ما به من الضرارة، علاوة على أنها أم لولديه الصغيرين، ومع ذلك كله قتلها غضبا لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم لم تمنعه حاجته الشديدة لها، ولم يغره لطفها ورفقها به، ولم يشفع لها عنده أمومتها لولديه الصغيرين، لأنه ممن كتب الله في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، وهكذا المؤمن الكامل الإيمان يقدم حبّ الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وموالاتهما على كل شيء آخر حتى لو كان نفسه، قال الله تعالى {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3. ومما نستنبطه من هذا الخبر والذي قبله: أن سابَّ النبي صلى الله عليه وسلم مهدر الدم، فقد ذكر كل من المنذري والخطابي، أنه لا خلاف في أن سابه من المسلمين   1 من رواية النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما انظر النسائي، سنن (4/107) والألباني، صحيح سنن النسائي (4/853) . 2 من رواية أبي داود، والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما انظر أبي داود سنن (4/529) ، والنسائي، سنن (4/108) . 3 المجادلة (22) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 يجب قتله، وأما الخلاف إذا كان ذميّا، فقال الشافعي: يقتل وتبرأ منه الذمة، وقال أبو حنيفة: لا يقتل، ما هم عليه من الشرك أعظم. وقال مالك: من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم، وكذلك قال أحمد بن حنبل1. وقال ابن بطال: "اختلف العلماء فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن القاسم عن مالك: يقتل من سبه صلى الله عليه وسلم إلا أن يسلم، وأما المسلم فيقتل بغير استتابة، ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي، وأحمد، وإسحاق مثله في حق اليهودي ونحوه، وروي عن الأوزاعي ومالك – في المسلم – أنها ردة يستتاب منها، وعن الكوفيين: إن كان ذميًّا عُزِّر، وإن كان مسلما فهي ردة، وحكى عياض خلافا: هل كان ترك من وقع منه ذلك لعدم التصريح أو مصلحة التأليف؟ ونقل عن المالكية: إنه إنما لم يقتل اليهود اللذين كانوا يقولون له السام عليك، لأنهم لم تقم عليهم البينة بذلك ولا أقروا به، فلم يقض فيهم بعلمه، وقيل: إنهم لما لم يظهروه ولووه بألسنتهم ترك قتلهم، وقيل: إنه لم يحمل ذلك منهم على السب، بل على الدعاء بالموت الذي لا بد منه، ولذلك قال في الرد عليهم: وعليكم، أي: الموت نازل علينا وعليكم، فلا معنى للدعاء به، كذا في النيل2. وقد حكى ابن تيمية إجماع أهل العلم على قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم مسلما كان أو كافرا3. ومما نستنبطه أيضا: اعتبار قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا اشهدوا أن دمها هدر" سنة في الأصل في إشهاد الحاكم على نفسه بإنفاذ القضاء، قاله الدارقطني"4.   1 أبو داود، سنن (4/528-529) حاشية (3) ، وأبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، عون المعبود شرح سنن أبي داود (12/16-17) . 2 أبو الطيب محمد العظيم آبادي، عون المعبود (12/17) . 3 ابن تيمية، الصارم المسلول (3) . 4 الدارقطني، سنن (4/217) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 البعث إلى كعب بن الأشرف ... بعث محمد بن مسلمة وأصحابه لقتل كعب بن الأشرف "من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله" رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن حجر، فتح (6/158) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 يقع حصن كعب بن الأشرف جنوب المدينة، وهو الآن جنوب شرق مسجد قباء على يمين الذاهب إلى سد بطحان ويبعد عنه حوالي 2/1كم، وهو مبنى مربع الشكل تقريبا، ومبني من حجارة الجرانيت وهي حجارة حرة المدينة القريبة من الحصن، ويتكون الحصن من عشر غرف تقريبا متقابلة وفي أركانه أبنية ضخمة ربما كانت أبراجا للحصن،كما يقع في ركنه الشرقي بئر يدويه، ربما كانت البئر التي كان يشرب منها أهل الحصن، ويوجد للحصن باب من الناحية الغربية ربما كان بابه الرئيسي، كما يوجد بجانب أحد الغرف آثار سلم هذا وقد تحطمت وتهدمت معظم جدران الحصن وخاصة من الناحية الشرقية أما آثاره الباقية فهي كما ترى في اللقطات المصورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 كعب بن الأشرف النضري من زعماء يهود المدينة، وأحد كبار أحبارهم1 أضمر الحقد والحسد للنبي صلى الله عليه وسلم منذ اللحظة التي وصلته فيها أخبار بعثته للناس هاديا ومبشرًا ونذيرًا2. وعند وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعقده الحلف الدستوري مع اليهود كان كعب بن الأشرف أحد المشاركين في هذا الحلف مع قبيلته بني النضير، فأصبح بذلك فردا من أفراد الدولة الناشئة في المدينة له حقوق وعليه واجبات بموجب الدستور الموقع من قبل الأطراف المعنية3، إلا أن ذلك لم يردعه عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث "كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش"4. ويستمر كعب متماديا في غيه، فيذكر ابن إسحاق عن جمع من شيوخه5 أنه استنكر مندهشًا النتيجة التي آلت إليها غزوة بدر، وأنه لما تيقن من صدق الخبر "ركب إلى قريش فاستغواهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم"6   1 يذكر موسى بن عقبة أنه كان أحد بني النضير وقيمهم. البيهقي، دلائل (3/190) ، ويذكر ابن إسحاق وغيره أنه كان عربيًّا من بني نبهان من طيء، وكان أبوه أصاب دما في الجاهلية، ثم أتى المدينة فحالف بني النضير فشرف فيهم، وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق، فولدت له كعبا، وكان طويلا جسيما ذا بطن وهامة، شاعرا، ساد يهود الحجاز بكثرة ماله. انظر ابن إسحاق، سيرة (297) ، وابن هشام، سيرة (3/51) ، والزرقاني، شرح (2/8) . 2 يذكر الزرقاني عن بعض المصادر أن كعبا هدد بقطع صلته المعتادة لأحبار يهود بني قريظة وقينقاع عندما أقروا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ما زال بهم حتى تراجعوا عن قرارهم ذلك. الزرقاني، شرح (2/8) ، وروى الطبري عن الزهري وقتادة أنه نزل فيه قوله تعالى {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ... } الآية [البقرة: 109] ، تفسير الطبري (1/487) . 3 أخرج البيهقي، وابن تيمية عن ابن أبي أويس – وهو صدوق أخطأ في أحاديث من حفظه. التقريب (108) بسند فيه إبراهيم بن جعفر – لم أعثر على ترجمته - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن كعب بن الأشرف عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعين عليه ولا يقاتله. البيهقي، دلائل (3/194) ، وابن تيمية، الصارم المسلول (71) . وانظر في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود، محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية (39-40) والدكتور أكرم العمري، المجتمع المدني في عهد النبوة خصائصه وتنظيماته الأولى (121-122) . 4 رواه أبوداود، السنن (8/228) ، وانظر الألباني، صحيح سنن أبي داود (2/581) . 5 ابن إسحاق، سيرة (297) ، وابن هشام، سيرة (3/51) ، وشيوخ ابن إسحاق فيهم الثقات والضعفاء وقد جمع كلامهم دون تمييز، وذكر ذلك الواقدي، مغازي (1/185) ، وابن سعد، طبقات (2/32) . 6 من مراسيل عروة. انظر ابن سيد الناس، عيون (1/357) والزرقاني، شرح (2/9-10) اللذان أخرجاه من طريق ابن عائذ، ومغازي ابن عائذ مفقودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 كما أنه لفرط عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الحق المصدق لما معه من الكتاب، نسي المبادىء والتعاليم التوراتية التي يدَّعي أنه يؤمن بها ويدافع عنها، نسي ذلك أو أنه تناساه عمدا، فشهد لحماة الوثنية قريش بأن وثنيتهم وشركهم خير من التوحيد الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم1. وقد وضح القرآن الكريم ذلك التناقض بقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 2. ولم يكتف كعب بكل ذلك، بل إنه حالف قريشا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قدم المدينة معلنًا لمعادة النبي صلى الله عليه وسلم وهجاء المسلمين3 فأصبح بذلك عدوًّا مستأمنًا بعهد لم يرع ذمامه، ومواطنَ دولة خان دستورها، فكان لزاما أن يُعاقب بجريمته، ويلقى جزاء خيانته، وحتى لا يثير قومه فيتحزبوا معه إذا طالبهم بتسليمه أو على الأقل يدبروا أمر هروبه بعيدا فلا تطوله يد العدالة خاصة وهو من كبار زعمائهم، لذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خير وسيلة يتم بها التخلص منه هي بقتله سرًّا دون علم قومه، فندب الصحابة لذلك قائلا: "من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله" 4 ويتطوع لهذه المهمة الصعبة   1 وقع ذلك في عدة روايات، البعض منها مرسل والآخر متصل ضعيف، ولكنها تتضافر فيما بينها لإكسابها القوة لاختلاف طرقها. انظر ابن سعد، طبقات (3/72) ، والطبري، تفسير (4/201/، 5/134-135) ، والبيهقي، دلائل (3/190-193-194) ، والواحدي، أسباب (187-188) ، وابن سيد الناس، عيون (1/357) ، وابن كثير، تفسير (7/511) ، والزرقاني، شرح (2/9-10) ، وباقشيش، مرويات (1/296) . 2 النساء: (51) . 3 المصادر السابقة، وذكر ابن حجر في الإصابة: أن السراج أخرج في تاريخه قصة كعب وفيها أنه كان يحرض القبائل الغطفانية ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إصابة، ترجمة أبي نائلة (4/195) . 4 ابن حجر، فتح (6/158-159-160، 7/226) ، ومسلم (12/161) ، ووقع في رواية أبي داود عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن معاذ رضي الله عنه أن يبعث رهطا فيقتلوه فبعث إليه سعد بن معاذ محمد بن مسلمة وأصحابه. قلت: حلَّت رواية عروة هذا التعارض، ففيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمحمد بن مسلمة: إن كنت فاعلا فلا تعجل حتى تشاور سعد بن معاذ، فقال: فشاوره. ابن حجر، فتح (7/338) . قال الزرقاني: وجمع شيخنا بين هذا الروايات بأنه سأل خصوص سعد مرة ثم قال: من لنا بابن الأشرف مرة ثانية، شرح (2/9-10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 مغوار أنصاري من بني عبد الأشهل يذكر بعض أهل السير أنه كان أخًا لكعب من الرضاعة1 إنه محمد بن مسلمة رضي الله عنه2 الذي قام فقال: "يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ " قال: "نعم"، قال: "فأْذن لي أن أقول شيئا3. ويذكره عروة: أن محمد بن مسلمة تشاور مع سعد بن معاذ رضي الله عنه بناء على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتفق معه على خطة استدراجية يطمئن بها كعب إليه فلا يشك بنواياه تجاهه، فقال له سعد: "توجه إليه واشك إليه الحاجة، وسله أن يسلفكم طعاما"4. فأتاه محمد بن مسلمة، فقال: "إن هذا الرجل قد أراد صدقة، وقد عنَّانا، فلما سمعه قال: وأيضا والله لتملَّنه، قال: إنا قد اتبعناه الآن ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره، قال: وقد أردت أن تسلفني سلفا، قال: فما ترْهُنني، قال: ما تريد؟، قال: تَرْهُنني نساءكم، قال: أنت أجمل   1 قال النووي والزرقاني: ذكر أهل السير: أن أبا نائلة كان رضيعا لابن مسلمة، فتحصل أن أبا نائلة رضيع لمحمد وكعب. مسلم بشرح النووي (12/162) ويذكر ابن حجر رأيا آخر فيقول: إن أبا نائلة أخوه من الرضاعة، ومحمد بن مسلمة ابن أخته، وذلك كما في مرسل عكرمة: "فقال: محمد بن مسلمة هو خالي" ابن حجر، فتح (7/338) . 2 هو محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد الأنصاري الأوسي الحارثي أبو عبد الرحمن المدني حليف بني عبد الأشهل، ولد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة في قول الواقدي، وهو ممن سُمي في الجاهلية محمدا، أسلم قديما على يدي مصعب بن عمير قبل سعد بن معاذ، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي عبيدة، وشهد المشاهد: بدر وما بعدها، إلا غزوة تبوك، تخلف بإذن النبي صلى الله عليه وسلم له أن يقيم بالمدينة. كان من فضلاء الصحابة، وكان ممن اعتزل الفتنة فلم يشهد الجمل أو الصفين. وقال ابن الكلبي: ولاه عمر على صدقات جهينة، وقال غيره: كان عند عمر مُعدًّا لكشف الأمور المعضلة في البلاد. قال ابن شاهين: سكن المدينة ثم سكن الربذة يعني بعد قتل عثمان. قال الواقدي: مات بالمدينة في صفر سنة ست وأربعين وهو ابن سبع وسبعين سنة، وأرخه المدائني سنة ثلاث وأربعين، وقال ابن أبي داود: قتله أهل الشام، وكذا قال يعقوب بن سفيان في تاريخه. انظر ابن سعد، طبقات (3/443-444-445) ، وابن عبد البر، استيعاب هامش الإصابة (3/334-335) ، وابن حجر، إصابة (3/383-384) . 3 من رواية البخاري، الصحيح (5/25) . 4 انظر ابن حجر، فتح (7/338) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 العرب، أنرهنك نساءنا، قال له: ترهونني أولادكم قال: يُسب ابن أحدنا، فيقال: رهن في وسقين من تمر، ولكن نرهنك اللأمة (يعني السلاح) ، قال: نعم"1. وواعده أن يأتيه ومعه أبو نائلة –وهو أخو كعب من الرضاعة-2 وذلك زيادة لاطمئنانه، وثلاثة نفر من الأوس كانوا هم قوة السرية التي توجهت لقتله. وقد اختلفت المصادر في تسميتهم، وعددهم3.   1 من رواية مسلم. مسلم بشرح النووي (12/161-162) وعند أهل المغازي أن الذي جاءه هو أبو نائلة أخوه من الرضاعة. انظر ابن إسحاق، سيرة (298) ، وابن هشام، سيرة (3/55) ، والواقدي، مغازي (1/187) ، وابن سعد، طبقات (2/32) . قال الشامي: وجلّ أهل المغازي على أنه أبو نائلة، ورجح ذلك الدمياطي. الصالحي، سبل (6/48) ، وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون كلا منهما كلّمه في ذلك. وفي مرسل عكرمة: في الكل بصيغة الجمع؛ قالوا". ابن حجر، فتح (7/338) . 2 اسمه سلكان بن سلامة بن وقش بن زغبة بن زعوراء بن عبد الأشهل الأنصاري الأوسي الأشهلي أخو سلمة بن سلامة بن وقش، وقيل: اسمه سعد، وسلكان لقب وهو مشهور بكنيته، شهد أحدا وغيرها، وكان شاعرا ومن الرماة المذكورين. ابن عبد البر، استيعاب هامش الإصابة (4/196) ، وابن حجر، إصابة (4/195) . قلت: اسمه واسم آبائه ورضاعه مع كعب يعطي إشارة ولو غير مباشرة إلى الاندماج الشديد الذي كان بين الأوس وحلفائهم من اليهود. 3 اختلفت المصادر في قوة السرية، فغالبية أهل المغازي، ومسلم، والبخاري عن غير عمرو بن دينار ذكروا أنهم كانوا خمسة مغاوير أَوْسِيُّون هم محمد بن مسلمة، وأبو نائلة، وعباد بن بشر، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبير. انظر البخاري، الصحيح (5/26) ، ومسلم بشرح النووي (12/162) ، عبد الرزاق، المصنف (5/203) ، وابن إسحاق، سيرة (298) ، والواقدي، مغازي (1/187) ، وابن سعد، طبقات (2/197-198) . ويذكر ابن حجر في روايات يشير إليها في الفتح أن عددهم كان ثلاثة فقط، ثم إنه رجح روايات أهل المغازي، وبعد ذلك يحاول الجمع فيقول ويمكن الجمع بأنهم كانوا مرة ثلاثة، وفي الأخرى خمسة. ابن حجر، فتح (7/338-339) . أما الطبراني فيروي لنا روايتين الأولى موصولة عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: يذكر فيها أنهم كانوا ثلاثة. الهيثمي، مجمع (6/196) ، وقال عنها: وإسحاق بن يحيى لم يدرك عبادة، وبقية رجاله ثقات، والثانية مرسلة عن عروة وفيها أن سعد بن معاذ بعث الحرث بن أوس مع محمد بن مسلمة. الهيثمي، مجمع (6/196) ، وقال عنها: رواه الطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن. هذا بالنسبة لعددهم. أما أسماؤهم وصلتهم بكعب فإضافة إلى ما ذكرناه سابقا حول هذا الموضوع يضيف البلاذري معلومة أخرى فيذكر أن عباد بن بشر أخا لكعب من الرضاعة أيضا مستدلا بقصيدته التي يقول فيها: قعدت له فقال: من المنادي؟ فقلت: أخوك عباد بن بشر= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وفي ليلة مقمرة –حددها ابن سعد بأربع عشرة ليلة مضت من ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة1 في حين ذهب جمهور العلماء أن ذلك كان بعد غزوة بدر، وقبل غزوة بني النضير دونما تحديد2- شيَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب السرية إلى بقيع الغرقد، كما يروي ابن إسحاق بسند حسن، ثم وجههم وقال: "انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم"، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته3. وأقبلوا حتى أتوا حصن كعب بن الأشرف الذي يذكر أهل المغازي أنه حديث عهد بعرس، وأنهم حينما هتفوا به وثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها، وقالت: إنك امرؤ محارب4. وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة5، "قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب"6. وكان محمد بن مسلمة قد اتفق مع أصحابه على كيفية قتله، "فقال: إذا ما جاء فإني قائل7 بشعره فأشمه، ثم أشمكم، فإذا رأيتموني استمكنت   =البلاذري، أنساب (374) . أما موسى بن عقبة فيذكر أن كعبا هو المكنى بأبي نائلة وليس سلكان الذي ذكر أن كنيته أبو ليلى. البيهقي، دلائل (3/192) . 1 ابن سعد، طبقات (2/31) . 2 ذكر ذلك الدكتور أكرم العمري، المجتمع المدني، خصائصه وتنظيماته الأولى (141) . 3 انظر ابن إسحاق، سيرة (298-299) ، وحسنَّ ابن حجر إسناده. ابن حجر فتح (7/338) ، وأخرجه عن ابن إسحاق الإمام أحمد، الفتح الرباني (21/49) ، والبزار. الهيثمي، كشف الأستار عن زوائد البزار (2/130-131) ، والطبراني، معجم (11/221) وقال الهيثمي: وفيه ابن إسحاق وهو مدلس وبقية رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (6/196) . قلت: ولكن ابن إسحاق صرَّح بالتحديث فانتفت شبهة التدليس، كما أخرج الحديث عن ابن إسحاق بن راهويه. انظر السيوطي، الخصائص الكبرى (1/527) . 4 هذا اعتراف ضمني من امرأة كعب بأنه عدو محارب للمسلمين، ولكن كيف نُقل عنها ما قالت فلعلها حدثت به نفسها، أو لعله نُقل ما حدثت به للصحابة الذين قتلوه. 5 انظر ابن إسحاق، سيرة (299) ، وابن هشام، سيرة (3/56) ، والواقدي، مغازي (1/189) ، وابن سعد طبقات (2/32) ، وابن عبد البر، درر (152) . 6 من رواية البخاري، الصحيح (5/26) . 7 من باب إطلاق القول على الفعل. ابن حجر، فتح (7/339) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 من رأسه فدونكم اضربوه، فنزل إليهم متوشحا وهو ينفخ منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحًا -أي أطيب-"1. فقال كعب مفتخرًا:"نعم تحتي فلانة هي أعطر نساء العرب"2 فقال محمد بن مسلمة: "أتأذن لي أن أشم رأسك؟، فشمه، ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟، قال: نعم، فلما استمكن منه، قال: دونكم، فقتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه"34. "فلما قتلوه فزعت اليهود والمشركون، فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: طُرق صاحبنا فقُتل، فذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول، ودعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتابًا ينتهون إلى ما فيه. فكتب النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين المسلمين عامة صحيفة"5   1 من رواية البخاري، الصحيح (5/25-26) ، وابن حجر، فتح (7/337) . 2 من رواية مسلم بشرح النووي (12/163) . 3 من رواية البخاري، الصحيح (5/25-26) ، وابن حجر، فتح (7/337) . 4 الحديث صحيح بمجموع طرقه، فقد رواه البخاري في مواضع متفرقة من صحيحه. انظر البخاري الصحيح، كتاب المغازي (5/25-26) ، وابن حجر، فتح، كتاب الجهاد (6/159-160) ، كما رواه مسلم بشرح النووي (12/160-161-162-163) ، وأبو داود، سنن (3/211-212) ، ونسبه المنذري النسائي. قلت: أخرجه النسائي في كتابه السنن الكبرى، كتاب السير (2/5) . وروى الزهري الحديث مرسلا عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك. انظر عبد الرزاق، المصنف (5/203-204) ، وشمس الحق آبادي، عون المعبود (8/228-229-230) ، وذكر في الشرح أنه ربما يكون الحديث مسندا إلى كعب. وإلى ذلك ذهب الألباني فأورده في صحيح سنن أبي داود (2/581-582) ، وقال عنه: صحيح الإسناد. وانظر البيهقي، دلائل (3/196-197-198) ، وابن كثير، تفسير (1/511) ، وباقشيش، مرويات (1/396-297-298) ، وروى ابن إسحاق طرفا من الحديث بإسناد حسن، والباقي رواه مرسلا منقطعا. ابن إسحاق، سيرة (1/297-298-299-300) ، وابن هشام، سيرة (3/51-52-53-54-55-56-57-58) ، كما رواه بقية أهل المغازي. انظر الواقدي، مغازي (1/184-185-186-187-188-190-191-192) ، وابن سعد، طبقات (2/31-32-33-34) ، والبلاذري، أنساب (374) ، وابن حزم، جوامع (154-155) ، وابن عبد البر، درر (150-151-152) ، والعامري، بهجة (1/191-192) ، والمقريزي، إمتاع (6/108-109-110) ن والحلبي، سيرة (3/146-147-148-149-150) ، والشامي، سبل (6/40-41-42-43-44-45-46) . 5 انظر عبد الرزاق، المصنف (5/204) ، والألباني، صحيح سنن أبي داود (2/581) واللفظ له، والبيهقي، دلائل (3/198) . وعنده"فكتب النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم وبين المسلمين عامة صحيفة". وذلك أتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 "وقد يبدو مقتل ابن الأشرف متسمًا بالغدر، ولكن صاحب النظر الفاحص، والبصيرة النافذة يدرك أن ابن الأشرف معاهد بموجب الصحيفة التي التزم فيها يهود بني النضير مع الآخرين، وأنه بهجائه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو رئيس الدولة بالنسبة لابن الأشرف، وبإظهاره التعاطف مع أعداء المسلمين ورثاء قتلاهم، وتحريضهم على المسلمين يكون قد نقض العهد وصار محاربا مهدور الدم، وأما استدراجه ممن يثق بهم وقتله بالخديعة، فإنه جائز مع المحارب، وقد تم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. هذا وقد ذكر ابن القيم أن قتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم جائز بإجماع الخلفاء الراشدين ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف، فإن الصديق رضي الله عنه قال لأبي برزة وقد هم بقتل من سبه: لم يكن هذا لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومر عمر رضي الله عنه براهب، فقيل له: هذا يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل عبد الله بن أُبي وقد قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل، ولم يقتل ذا الخويصرة التميمي وقد قال له: اعدل، فإنك لم تعدل، ولم يقتل من قال له: يقولون: إنك تنهى عن الغي وتستخلي به، ولم يقتل القائل له: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، ولم يقتل من قال له لما حكم للزبير بتقديمه في السقي: إن كان ابن عمتك، وغير هؤلاء، قيل: الحق كان له فله أن يستوفيه، وله أن يسقطه، وليس لمن بعده أن يسقط حقه، كما أن الرب تعالى له أن يستوفي حقه، وله أن يسقط، وليس لأحد أن يسقط حقه تعالى بعد وجوبه، كيف وقد كان في ترك قتل من ذكرتم وغيرهم مصالح عظيمة في حياته زالت بعد موته من تأليف الناس، وعدم تنفيرهم عنه، فإنه لو بلغهم أنه يقتل أصحابه، لنفروا، وقد أشار إلى هذا   1 الدكتور أكرم ضياء العمري: المجتمع المدني، خصائصه وتنظيماته الأولى (142-143) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 بعينه، وقال لعمر لما أشار عليه بقتل عبد الله بن أبي: "لا يبلغ الناس أن محمدا يقتل أصحابه". ولا ريب أن مصلحة هذا التأليف، وجمع القلوب عليه كانت أعظم عنده وأحب إليه من المصلحة الحاصلة بقتل من سبه وآذاه. ولهذا لما ظهرت مصلحة القتل، وترجحت جدًّا قَتَلَ الساب، كما فعل بكعب بن الأشرف فإنه جاهر بالعداوة والسب فكان قتله أرجح من إبقائه، وكذلك قَتَلُ ابن خطل، ومقيس، والجاريتين، وأم ولد الأعمى، فقتل للمصلحة الراجحة، وكف للمصلحة الراجحة، فإذا صار الأمر إلى نوابه وخلفائه، لم يكن لهم أن يسقطوا حقه"1. ولا ريب أن المحاربة بسب نبينا أعظم أذيةً ونكاية لنا من المحاربة باليد ومنع دينار جزية في السنة، فكيف يُنقض عهده ويُقتل بذلك دون السب، وأي نسبة لمفسدة منعه دينارًا في السنة إلى مفسدة منع مجاهرته بسب نبينا أقبح سب على رءوس الأشهاد، بل لا نسبة لمفسدة محاربته باليد إلى مفسدة محاربته بالسب، فأولى ما انتقض به عهده وأمانه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينتقض عهده بشيء أعظم منه إلا سبه الخالق سبحانه. فهذا محض القياس ومقتضى النصوص، وإجماع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وعلى هذه المسألة أكثر من أربعين دليلا2. وقال الزرقاني: واستشكل قتله على هذا الوجه –وأجاب المنازري: بأنه إنما قتله كذلك لأنه نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهجاه وسبه، وكان عاهده أن لا يعين عليه أحدًا، ثم جاءه مع أهل الحرب معينًا عليه. قال عياض: ولا يحل لأحد أن يقول إن قتله كان غدرًا، وقد قال ذلك إنسان في مجلس علي بن أبي طالب فأمر به فضُربت عنقه، وإنما يكون الغدر   1 ابن القيم، زاد (3/441) . 2 ابن القيم، زاد (3/440) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 بعد أمان موجود، وكعب قد نقض عهده صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمنه محمد ورفقته لكنه استأنس بهم فتمكنوا منه من غير عهد ولا أمان، وقيل: لأن محمد بن مسلمة لم يصرح له بالأمان في شيء من كلامه، وإنما كلمه في أمر البيع والشراء، واشتكى إليه وليس في كلامه عهد ولا أمان1. وساق الخطابي والبيهقي بسنديهما عن عباية بن رافع قصةً مشابهة للقصة التي أوردها عياض، وملخصها أنه ذكر قتل كعب بن الأشرف في مجلس معاوية، فقال ابن يامين: كان قتله غدرًا، فلم ينكر عليه معاوية، فأنكر ذلك محمد بن مسلمة وحلف أن لا يجالس معاوية أبدًا2. وهذه الرواية فيها اضطراب في متنها، فقد روى الواقدي بسنده3 ما يفيد أن هذه القصة وقعت في مجلس مروان بن الحكم الذي كان أميرا على المدينة، كما روى عبد الرزاق في مصنفه موقفا آخر مماثلاً وقع لأبي عبس رضي الله عنه أحد المشاركين في هذه السرية4. مما يدعونا إلى الاعتقاد بضعف الرواية. ولا أظن أن يكون مثل هذا الموقف السلبي يصدر من صحابي جليل كمعاوية. والله تعالى أعلم.. وربما يلتبس على البعض أن قَتْلَ كعب بن الأشرف يتعارض مع بعض الأحاديث الناهية عن الفتك والغدر، ولكن اللبس هنا مرفوع؛ فالغدر لا يكون إلا بإنسان له عهد وميثاق ملتزم بهما غير ناكث لهما، وإلا قيل إن غزو مكة وفتحها كان غدرًا لوجود العهد والميثاف المبرم في صلح الحديبية. وكعب بن الأشرف علاوة على عدم التزامه بميثاق الدولة التي يعتبر أحد أفرادها جاهر بعداوته للمسلمين ولقائد الدولة، وأخذ يحرض عليهم، ولم يقتصر الأمر   1 الزرقاني، شرح (2/13) ، ولم أجد قول عياض الذي نقله في كتابه الشفا. 2 انظر البيهقي، دلائل (3/193) ، والخطابي، معالم السنن، شرح السنن لأبي داود (3/212-213) . 3 الواقدي، مغازي (1/192-193) . 4 عبد الرزاق، المصنف (5/204) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 بفداحته على ذلك، بل سافر إلى عدوهم وعاهدهم على قتال المسلمين، وكان كل ذلك كافيا لإظهار عداوته، ولكنه عندما رجع إلى المدينة صار يؤذي المسلمين –وهم أفراد مساوون له في الحقوق تحت ظل دولة واحدة غير مكترث ولا عابىء- وذلك بهجائهم والتشبيب بنسائهم، وهو أمر عظيم كانت الدماء تسيل فيه أودية في الجاهلية فكيف وقد أعز الله المسلمين بالإسلام. هذا وقد روي عن ابن إسحاق بسند فيه مجهولان، والواقدي عن شيوخه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح من الليلة التي قُتل فيها ابن الأشرف قال: "من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه"، فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة –رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم-فقتله، فكان ذلك سببا في إسلام أخيه حويصة بعد نقاش حاد دار بينهما1. وهذه الرواية إضافة إلى ضعف سندها، خالفتها رواية أخرى ذكرها ابن هشام في سبب إسلام حويصة متأخرة كثيرا عن قصة كعب بن الأشرف2، كما يزيد في ضعفها مخالفتها لأصل من أصول الشريعة، وهو تحريم الذمي المستأمن إلا بحقه من نقض العهد والميثاق، والانضمام إلى صفوف المشركين وغير ذلك كما فعل ابن الأشرف. وإن صحت الرواية فإنه ربما كان ابن سنينة على مثل ما كان عليه كعب، فعلم بذلك حليفه محيصة لقربه منه فقتله إذ لا يمكن أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على اليهود هكذا يقتلونهم بلا ذنب ولا جرم فعلوه إلا إذا كانوا على مثل رأي ابن الأشرف وفعلوا مثل فعلته.. والله تعالى أعلم بالصواب. وعلى كل حال فإن اليهود خافوا خوفا شديدا بعد مقتل كعب بن   1 انظر ابن إسحاق، سيرة (200) ، وابن هشام، سيرة (3/58) ، والواقدي، مغازي (1/191-192) . 2 ابن هشام، سيرة (2/59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الأشرف، فلم يطلع أحد من عظمائهم، وبذلك العمل الجريء أخرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ألسنتهم، ورد كيدهم إلى نحورهم، وكبت حقدهم في صدورهم دون أن تراق دماء كثيرة، فالمجرم المحارب نال جزاءه وعقابه العادل والذي أصبح عبرة وعظة لمن تسول له نفسه من اليهود، أو المشركين في المدينة القيام بمثل ما فعل. ومن خلال سياق أحداث هذه القصة يبدو لنا أمران ملفتان للنظر: أولهما: قول امرأة كعب له: إنك امرؤ محارب. وثانيهما: ردة فعل وفد اليهود الذين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكون من مقتل زعيمهم كعب، حيث إنهم حينما وضح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صنيعه وما كان يفعل سكتوا ولم ينطقوا بشيء. فهذان اعترافان من أقرب الناس لكعب بجريمته التي استحق عليها القصاص العادل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 بعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي وكُنْتُ إذا هَمَّ النبيُّ بكافر ... سَبَقْتُ إليه باللسانِ وباليَدِ "عبد الله بن أنيس" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 كان على المسلمين في المدينة أن يواجهوا أعداءهم المتربصين في كل ناحية من نواحي الجزيرة العربية من قريش الموتورين مرورا باليهود الخائنين إلى الأعراب الطامعين في خيرات المدينة، ولكن عين النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تغفل عنهم ولو للحظة حيث كان يرصد تحركاتهم، وسكناتهم، ويتحسس أخبارهم عن طريق شبكة منظمة من العيون والجواسيس المبثوثين في مناطق الأعداء1 والتي ساهمت بشكل كبير وفعال في موضع النبي صلى الله عليه وسلم في الصورة دائما، فكان باستمرار يسبق الأحداث، ويفاجىء أعداءه بمبادرة عجيبة تقضي على مخططاتهم العدوانية في مهدها. وكان من هؤلاء رجل من أشد الأعراب وشياطينهم يدعى خالد بن سفيان الهذلي كما سمته بعض المصادر والروايات2، بينما ورد اسمه سفيان بن خالد في روايات أخرى3. ومنها ما نسبه إلى جده4، وسماه موسى بن عقبة: سفيان بن عبد الله بن نبيح5، وذكر المزِّي: إنه خالد بن نبيح العنبري6.   1 لم يرد ذكر في مصادر السيرة والمغازي عن هذه الشبكة. ولكننا نستطيع أن نلتمس بعض الإشارات الدالة على وجودها مبثوثة في ثنايا الروايات، فمثلا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أنيس رضي الله عنه: "إنه قد بلغني أن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الجموع"، وما نقله الواقدي في البعث إلى اليسير بن رزام حول خارجة بن حسيل الأشجعي عين النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، ومثل ما ذكره أهل المغازي من أن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلعه على أخبار قريش أولا بأول، ومثل سرايا الاستطلاع التي يبثها من حين لآخر إلى مناطق أعدائه وهكذا. 2 انظر روايات ابن إسحاق عند كل من أبي داود، سنن (2/41) ، أحمد بن حنبل، الفتح الرباني (7/26، 22/280) ، والطبراني، الهيثمي، مجمع (6/203) ، وابن هشام سيرة (4/619) . 3 انظر الواقدي، مغازي (2/531) ، وابن سعد، طبقات (2/50) ، الطبراني، الهيثمي مجمع (6/204) ، والبيهقي عن عروة، دلائل (4/40) ، وانظر المقريزي، إمتاع (1/254) ، والحلبي، سيرة (3/156) . 4 انظر عمر بن شبة، تاريخ (2/468) رواية عن مالك، وروايات ابن إسحاق عند أبي نعيم، دلائل (2/517) ، والبيهقي، دلائل (4/42) . 5 انظر روايات موسى بن عقبة عند عمر بن شبة، تاريخ (2/468-469) ، والبيهقي، دلائل (4/41) ، وباقشيش، مرويات (1/329) . 6 المزِّي، تهذيب الكمال في أسماء الرجال (14/314) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وصلت المعلومات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأعرابي بأنه يتحرك –وبنشاط كبير وملحوظ- لحشد عدد كبير من الأحابيش والأعراب ليغزو بهم المدينة، مع إظهاره العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهجائه وشتمه كما ورد في بعض روايات الطبراني عن الحادثة1 وعلى الفور استدعى النبي صلى الله عليه وسلم أحد رجال المهمات الصعبة المعدودين، مغوارٍ من أبطال الصحابة وذي باع وخبرة في هذا المضمار ذلكم هو عبد الله بن أنيس رضي الله عنه2 والذي وصف نفسه في بعض روايات هذا الخبر بأنه لا يهاب الرجال، ولا فَرِقَ3 من شيء قط4 وهذه الصفة هي أهم صفات أفراد فرق المغاوير في جيوش العالم قديما وحديثا، والتي تتطلب مهماتها الجرأة والشجاعة.   1 الهيثمي، مجمع (6/204) . 2 اختُلف في عبد الله بن أنيس رضي الله عنه كثيرا، قال علي بن المديني: "هذا عبد الله بن أنيس الأنصاري، وليس بالجهني الذى روى عنه جابر بن عبد الله". الهيثمي، مجمع (6/198) . وقال ابن حجر: وأما عبد الله بن أنيس فهو الجهني حليف الأنصار، وقد فرق المنذري بين عبد الله بن أنيس الجهني، وعبد الله بن أنيس الأنصاري، وجزم بأن الأنصاري هو الذي كان في قتل ابن أبي الحقيق، وتبع في ذلك ابن المديني، وجزم غير واحد بأنهما واحد وهو جهني حليف الأنصار. فتح الباري (7/343) . أما الشامي فقال: تردد الإمام محب الدين الطبري رحمه الله في عبد الله بن أنيس قاتل سفيان بن خالد لا معنى له؛ لأنه هو الجهني بلا تردد، وهو أشهر ذكرا من الخمسة الذين وافقوه في الاسم واسم الأب من الصحابة رضي الله عنهم. سبل الهدى (6/60) . وترجم له ابن حجر في "الإصابة": "عبد الله بن أنيس الجهني أبو يحيى المدني حليف بني سلمة من الأنصار". وقال ابن الكلبي، والواقدي: هو من ولد البرك بن وبرة من قضاعة. قال ابن الكلبي: واسم جده أسعد بن حرام بن حبيب بن مالك بن غنم بن كعب بن تيم، وقد دخل ولد البرك في جهينة فقيل له الجهني، والقضاعي، والأنصاري، والسَّلَمي بفتحتين كذلك. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، روى عنه أولاده: عطية، وعمر، وضمرة، وعبد الله، وجابر بن عبد الله الأنصاري وآخرون. وكان أحد من يكسر أصنام بني سلمة من الأنصار. وذكر المزي في "التهذيب" عن ابن يونس أنه أرخ وفاته سنة ثمانين، وتعقب بأن الذي في تاريخ ابن يونس أنه مات في هذه السنة أو غيره وهو مذكور بعد عبد الله بن أنيس بترجمتين. والمعروف أنه مات بالشام سنة أربع وخمسين، فرق علي بن المديني وخياط وغير واحد بينه وبين الأنصاري، وجزم البغوي وابن السكن وغيرهما بأنهما واحد، وهو الراجح بأنه جهني حالف بني سلمة من الأنصار. انظر خليفة، طبقات (ص 118) ، والمزي، تهذيب الكمال (14/314) ، وابن حجر، إصابة (2/279) . 3 أي: خاف وفزع. القاموس، واللسان (فرق) . 4 انظر الواقدي، مغازي (2/532) ، وابن سعد، طبقات (2/51) ، وروايات موسى بن عقبة عند ابن شبة، تاريخ (2/468-469) ، والبيهقي، دلائل (4/41) ، وباقشيش، مرويات (1/329) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 إن تخير رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي المغوار لهذه المهمة البابغة الصعوبة يعطي دلالة واضحة على معرفته عليه الصلاة والسلام الشديدة برجاله حيث كان يكل لكل منهم المهمة التي تناسب وضعه وإمكانيته، يعني الرجل المناسب في المكان المناسب، وهو عمل قائم على التخطيط السليم والدقة في الاختيار وكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يختار لهذه السرايا بعض رجاله لا يعني بالضرورة أن بقية الصحابة لا يصلحون لهذه المهمات، فهم جميعا كانوا لا يهابون الموت بل ويتحرقون دائما للشهادة في سبيل الله، ولكن المواقف الحساسة التي تمر بها مثل هذه السرايا تتطلب رجالا فيهم صفات مميزة كعبد الله بن أنيس، وعبد الله بن رواحة، وعبد الله بن عتيك، ومحمد بن سلمة، وعمرو بن أمية وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين. ولنستمع إلى الحوار التالي الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عبد الله بن أنيس رضي الله عنه والذي يعتبر من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام كما يوضح صفة ذلك الأعرابي المخيفة والتي كانت تؤثر حتى في أشد الرجال صرامة وقوة أمثال عبد الله بن أنيس، والذي تبين من خلال هذا الحوار مدى ما كان يتمتع به من رباطة جأش وقوة شكيمة، حيث تحددت أبعاد المهمة الخطيرة التي أنيطت به. قال عبد الله: "دعاني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فقال: "إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني وهو بعرنة1، فأْته فاقتله، قلت: يا رسول الله انعته لي2 حتى   1 وادي عرنة: هو الوادي الفحل الذي يخترق أرض المغمس، فيمر بطرف عرفة من الغرب عند مسجد نمرة ثم يجتمع مع وادي نعمان غير بعيد من عرفة ثم يأخذ الواديان اسم عرنة، فيمر جنوب مكة على حدود الحرم، ثم يُغرب حتى يفيض في البحر جنوب جدة على قرابة 30 كيلا وهو من الأودية الفحول ذات السيول الجارفة وزراعته قليلة، فيه زرائع على الضخ الآلي، وبطن عرنة هو بطن الوادي الذي فيه مسجد عرفة. قال ابن المواز: حائط مسجد عرفة القبلي على حد عرنة، ولو سقط ما سقط إلا فيها. البكري، معجم (4/1191) ، والبلادي، معجم (205) . 2 أي: صفه لي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أعرفه قال: "إذا رأيته وجدت له قشعريرة" 12. بهذه الكلمات الموجزة تزود عبد الله بن أنيس رضي الله عنه معلومات كافية ومهمة عن الهدف المقصود مكانه وصفته، وكانت الخطة المتفق عليها كما يذكر موسى بن عقبة هي أن يتوصل بالناس، ويخبر من لقي أنما يريد خالد بن سفيان ليكون معه3 فضمن بهذا التكتيك الذكي ثقة ابن نبيح، وعدم ارتيابه به إذا لقيه. وقد اختلف في تاريخ خروج عبد الله في هذا البعث بين الواقدي وكاتِبه ابن سعد وهما من حددا تاريخه بدقة من بين أهل المغازي، وكان الاختلاف بينهما محصورا في السنة التي كان فيها، بينما تطابقت أقوالهما في اليوم، والشهر، فقد ذكرا أن عبد الله خرج من المدينة4 يوم الإثنين لخمس خَلَون من المحرم على رأس أربعة وخمسين شهرا عند الواقدي5، وعلى رأس خمسة وثلاثين شهرا عند ابن سعد6، وإذا علمنا مدى التشابه في المعلومات حول هذا البعث بين الاثنين، وأن ابن سعد تلميذ الواقدي فيكون هو مصدر معلوماته هنا، خاصة وأنه لم يُحل على شيوخه كعادته بلفظ (قالوا) ، مما يدعونا إلى الاعتقاد بوجود تحريف في أحد الرقمين، وأعتقد أن ذلك في الرقم الذي ساقه الواقدي؛ لأنه يذكر في روايته حول حادثة الرجيع أنها كانت انتقاما لمقتل الهذلي، وموقعة الرجيع حدثت في السنة الثالثة7 فكيف يكون هذا البعث   1 أي رعدة. (القاموس: اقشعر) وعند ابن هشام: إنك إذا رأيته أذكرك الشيطان. سيرة (4/619) . 2 من رواية ابن إسحاق عند أحمد. البنا، الفتح (7/26-27، 22/280) . قال عنها الهيثمي: فيه راوٍ لم يسم هو ابن عبد الله بن أنيس، وبقية رجاله ثقات. الهيثمي، مجمع (6/203) . 3 البيهقي، دلائل (4/41) . 4 قال موسى بن عقبة في روايته: ولا ندري من أين بعث صلى الله عليه وسلم ابن أنيس إلى ابن نبيح أمِن المدينة أم من غيرها. البيهقي، دلائل (4/41) . 5 الواقدي، مغازي (2/531) . 6 ابن سعد، طبقات (2/50) . 7 انظر: (سرية الرجيع من هذا البحث) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 بعدها، هذا وقد اختلف المتأخرون من أهل المغازي تبعا لاختلافهما، فمن تابع الواقدي ذكرها في حوادث السنة الخامسة1 ومن تابع ابن سعد ذكرها في حوادث السنة الثالثة2، وذكرها خليفة ضمن السرايا التي كانت سنة خمس3. وينطلق عبد الله في مسيره الاقترابي نحو الهدف، عدته اليقين والتوكل على الله، وسلاحه سلاح الراكب، يقول رضي الله عنه: "فخرجت متوشحا بسيفي حتى وقعت عليه، وهو بعرنة مع ظعن4، يرتاد لهن منزلا، وحين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة، فأقبلت نحوه"5 فقلت: إني أخاف أن يكون بيني وبينه ما أن أؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي، وأنا أصلي أومىء إيماء نحوه، فلما دنوت منه، قال لي: من أنت؟ قلت رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك في ذاك، قال: إني لفي ذاك، فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد6"7. "ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني، قال: "أفلح الوجه"، قلت: قتلتُه يا رسول الله، قال: صدقت، قال: ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيته فأعطاني عصا، فقال: أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس، قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا:   1 انظر البيهقي، دلائل (4/40) ، والمقريزي، إمتاع (1/254) وابن كثير، بداية (4/142) . 2 انظر: ابن سيد الناس، عيون (2/55) ، وابن القيم، زاد (3/243) وذلك يشير إلى وقوع التحريف مبكرا نوعا ما. والله أعلم. 3 خليفة، تاريخ (77) . 4 الظعن: جمع ظعينة وهو الهودج فيه امرأة، والمرأة ما دامت في الهودج. (القاموس: ظعن) . 5 من رواية ابن إسحاق عند أحمد. البنا، الفتح الرباني (7/26، 22/280) . 6 أي: مات. 7 من رواية ابن إسحاق عند أبي داود. سنن (2/41-42) ، وسكت عنه هو والمنذري، وحسن الحافظ في الفتح إسناده. ابن حجر، فتح (2/437) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ما هذه العصا، قال: قلت: أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكها، قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله عن ذلك، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المختصرون1 يومئذ يوم القيامة، فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه حتى إذا مات بها فضمت في كفنه، ثم دُفنا جميعا" 23. وهكذا لم تكن المكافأة على هذا العمل العظيم الجريء مادية دنوية كما يتمناه الكثير ممن يقوم بالمهمات الصعبة في جيوش العالم قديما وحديثا، بل   1 المخصرة: ما يختصره الإنسان بيده فيمسكه من عصا أو عكازه، أو مقرعة أو قضيب، وقد يتكىء عليه. ابن الأثير، النهاية (2/36) . 2 من رواية ابن إسحاق عند أحمد. البنا، الفتح الرباني (22/281) . قال الهيثمي: فيه راو لم يسم هو عبد الله بن أنيس، وبقية رجاله ثقات. الهيثمي، مجمع (6/203) . قال المنذري: وابن أنيس هذا هو عبد الله بن أنيس، جاء ذلك مبينا من رواية محمد بن سلمة الحراني عن محمد بن إسحاق. انظر سنن أبي داود (2/42) ، حاشية (2) . قلت: رواية محمد بن سلمة عند البيهقي، دلائل (4/42) ومسند الإمام أحمد إلى ابن إسحاق قوي، والرواية لها شواهد عند أبي نعيم، دلائل (2/45) ، والبيهقي، دلائل (4/42) ، وابن هشام، سيرة (4/619-620) . 3 الحديث أخرجه أبو داود مختصرا في كتاب الصلاة، باب صلاة الطالب سنن (2/41-42) ، عون المعبود (4/129) ، وسكت عنه هو والمنذري، وحسن الحافظ إسناده في الفتح. ابن حجر، فتح (2/437) ، والشامي في السبل (6/57) . وأخرج الحديث مطولا ابن هشام عن ابن إسحاق الذي رواه منقطعا. ابن هشام، سيرة (4/619-620) ، ووصله أحمد من حديث ابن إسحاق نفسه. البنا، الفتح الرباني (7/26-27، 22/280-281) ، وأبو يعلى، المسند (2/201-202) ، وأبو نعيم، دلائل (2/517-518) ، والبيهقي، دلائل (4/42-43) ، وقال عنه الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه، وفيه راو لم يسم وهو ابن عبد الله بن أنيس، وبقية رجاله ثقات. الهيثمي، مجمع (6/203) . وأخرج الحديث البيهقي من طريق ابن لهيعة عن عروة مختصرا. البيهقي، دلائل (4/40) ، ورواه موسى بن عقبة عن الزهري. انظر عمر بن شبة، تاريخ (2/468-469) ، والبيهقي، دلائل (4/41) ، وباقشيش، مرويات (1/329) ، كما رواه الواقدي، مغازي (2/531-533) ، وابن سعد، طبقات (2/50-51) ، وورد الحديث بسياقات أخرى مختلفة قليلا عند الطبراني. انظر الهيثمي، مجمع (6/203-204) ، وقال عنه: رجاله ثقات، وعند عمر بن شبة عن مالك بن أنس تاريخ (2/468) وبسياق مختلف تماما عن السياقات السابقة عند الطبراني عن عبد الله بن أنيس، قال عنه الهيثمي فيه الوازع بن نافع، وهو متروك. الهيثمي، مجمع (6/204) وعن عبادة بن الصامت، وقال الهيثمي: وإسحاق بن يحيى لم يدرك عبادة. مجمع (6/204) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 كانت أسمى من ذلك وأعظم فهي وسام شرف أخروي قليل من يناله. تضمن هذا الخبر بعض الأحكام والفوائد منها (صلاة الطالب) / قال الخطابي: واختلفوا في صلاة الطالب، فقال عوام أهل العلم: إذا كان مطلوبا كان له أن يصلي إيماءً، وإذا كان طالبا نزل إن كان راكبا وصلى بالأرض راكعا أو ساجدا1 وكذلك قال ابن المنذر2، أما الشافعي فشرط شرطا لم يشترطه غيره، قال: إذا قل الطالبون عن المطلوبين وانقطع الطالبون عن أصحابهم فيخافون عودة المطلوبين عليهم فإذا كان هكذا كان لهم أن يصلوا يُومئون إيماء. قال الخطابي: وبعض هذه المعاني موجودة في قصة عبد الله بن أنيس3. وما نقله ابن المنذر متعقب بكلام الأوزاعي فإنه قيده بخوف الفوت، ولم يستثن طالبا من مطلوب، وبه قال ابن حبيب من المالكية4. وقال في عمدة القاري: ومذاهب الفقهاء في هذا الباب فعند أبي حنيفة إذا كان الرجل مطلوبا فلا بأس بصلاته سائرا، وإن كان طالبا فلا. وقال مالك وجماعة من أصحابه: هما سواء كل واحد منهما يصلي على دابته. وقال الأوزاعي والشافعي في آخرين كقول أبي حنيفة، وهو قول عطاء والحسن والثوري وأحمد وأبي ثور. وعن الشافعي إن خاف الطالب فوت المطلوب أومأ وإلا فلا5.   1 أبو داود، سنن (2/44) ، حاشية (1) . 2 نقل ذلك عنه ابن حجر، فتح (2/436-437) . 3 أبو داود، سنن (2/42) ، حاشية (1) . 4 ابن حجر، فتح (2/437) . 5 انظر بدر الدين العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري (6/263) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ومنها: جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فعبد الله بن أنيس رضي الله عنه أداه اجتهاده أن يصلي هذه الصلاة، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم مما يدل على جواز الصلاة عند شدة الخوف يالإيماء. وهذا الاستدلال صحيح لا شك فيه، لأن عبد الله بن أنيس فعل ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك زمن الوحي، ومحال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلع عليه"1. وفعل الصحابي أيضا حجة ما لم يعارضه حديث مرفوع كذا في الغاية2. ومنها أيضا حديث المخصرة، وقد استحسن البعض المخصرة والتخصر لأجل هذا الحديث. قال الجاحظ: ومما يدلك على استحسانهم شأن المخصرة حديث عبد الله بن أنيس ذي المخصرة وهو صاحب ليلة الجهني، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه مخصرة، وقال: تلقاني في الجنة3. كما ظهر في هذا الخبر دليل من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام فهو قد وصف ابن نبيح لعبد الله بن أنيس وصفًا دقيقًا دون أن يراه حتى إن ابن أنيس عندما رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعجبا كما وقع في رواية الواقدي: "يا رسول الله ما فرقت من شيء قط، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى آية ما بيني وبينه أن تجد له قشعريرة إذا رأيته"4. وفعلاً وجده على الصفة التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عبد الله: "فلما رأيته هبته وفرقت منه، فقلت: صدق الله ورسوله"5.   1 العظيم آبادي، عون المعبود (4/129) . 2 المصدر السابق. 3 انظر عمرو بن بحر الجاحظ، البيان والتبيين (3/11-12) . 4 الواقدي، مغازي (2/532) . 5 من رواية موسى بن عقبة. البيهقي، دلائل (4/41) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 بعث عمرو بن أمية إلى أبي سفيان بن حرب ... اختلف أهل المغازي في هذه السرية، فذكر ابن هشام أنها من زياداته على سيرة ابن إسحاق1، فاستدرك عليه السهيلي ذاكرا أن ذلك وهم منه، فإن ابن إسحاق قد روى الخبر في ذلك بسند متصل إلى عمرو بن أمية2، وكذلك ساق الخبر الطبري عن ابن إسحاق3 مما يدل على وجودها في أصل السيرة، ولكن الطبري يذكر قبل ذلك –وعقب حديثه عن الرجيع وقصة صلب خبيب بن عدي رضي الله عنه ومن غير طريق ابن إسحاق- رواية مختصرة عن عمرو بن أمية أيضا يذكر فيها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وحده عينا إلى قريش"4، وأنه في أثناء ذلك أنزل خبيبا من خشبته. وقد روى البيهقي مثل ذلك5، ثم من خلال سياقهما لأحداث هذه السرية تبرز لنا قصة عمرو مع جثة خبيب، ولكن بتفصيل أكثر6. وينفرد الواقدي بزيادة ذكر فيها أن سبب بعث عمرو بن أمية كان ردًّا على إرسال أبي سفيان أعرابيًّا لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم7، وتابعه في ذلك ابن سعد8.   1 انظر ابن هشام، سيرة (4/633) ، وانظر ما قاله ابن كثير، بداية (2/73) ، والزرقاني، شرح (2/178) . 2 السهيلي، الروض (2/263) ، وفي سنده إلى عمرو: جعفر بن عمرو بن أمية لم أجد له ترجمة، وإنما وجدت عند الرازي: "جعفر بن عمرو بن جعفر بن عمرو، روى عنه إبراهيم بن إسماعيل، قاله علي بن المديني". الرازي عبد الرحمن بن المنذر، الجرح والتعديل (2/542) ، فربما يكون هو أو غيره، والله أعلم. 3 الطبري، تاريخ (541) ، ولكن في سنده جعفر بن الفضل بن الحسن لم أعثر على ترجمتة أيضا. 4 الطبري، تاريخ (541-542) ، وقد روى هذا الخبر –أيضا- خليفة بن خياط، تاريخ (76) ، وأحمد، البنا، الفتح الرباني (22/132) ، والطبراني، الهيثمي، مجمع (5/321) ، والبيهقي، دلائل (3/332) . وقد ذكر الديار بكري في تاريخ الخميس (1/458) ، والشامي، سبل (6/73) ، نقلا عن أبي يوسف في كتابه اللطائف، والحلبي، سيرة (3/161) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الزبير والمقداد لإنزال خبيب من خشبته، فليتأمل ذلك. 5 البيهقي، دلائل (3/333) . 6 الطبري، تاريخ (2/544) ، والبيهقي، دلائل (3/366) . 7 انظر رواية الواقدي عند البيهقي، سنن (9/213) ، ودلائل (3/333) حيث لم ترد هذه الرواية في كتاب المغازي المحقق. 8 ابن سعد، طبقات (2/93) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 أما بقية أحداث القصة فتكاد تكون متفقًا عليها عندهم، مما يجعلنا نعتقد أنها قصة واحدة رويت بطرق مختلفة، وإن كان خليفة بن خياط قد فرق بين الحادثين، ولكنه أشار إلى هذه السرية إشارة عابرة1. وكما اختُلِفَ في مهمة السرية اختُلِفَ أيضا في تاريخها، فالطبري وابن هشام وتابعهما البيهقي وابن القيم2 جعلوها بعد حادثة الرجيع مباشرة، أما خليفة فذكرها بعد بئر معونة، ولكنه جعلها من السرايا التي كانت سنة خمس3، وأرَّخ لها ابن حجر بعد وقعة بني النضير حكاية عن الواقدي4، ولكن الواقدي في روايته المنقولة عنه لم يذكر لها تاريخا، وتابعه كاتبه ولكنه ذكرها بعد سرية كرز بن جابر إلى العرنيين التي أرَّخ لها في شوال سنة ست5. يقول عمرو بن أمية رضي الله عنه: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قتل خبيب وأصحابه وبعث معي رجلا من الأنصار6، فقال: ائتيا أبا سفيان بن حرب فاقتلاه"7 كانت (نقلية هذه الدورية) عبارة عن بعير واحد لعمرو بن أمية كان يحمل صاحبه عليه لعلة كانت برجله، حيث انطلقا في مسير اقترابي حذر حتى وصلا إلى بطن وادي يأجج8 القريب من مكة. وهناك عقلا   1 خليفة بن خياط، تاريخ (76-77) ، ولكنه يذكر في مكان آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل" عمرو بن أمية بهدية إلى أبي سفيان بن حرب بمكة". تاريخ (98) . 2 انظر الطبري، تاريخ (2/542) ، وابن هشام، سيرة (4/633) ، والبيهقي، دلائل (3/333) ، وابن القيم، زاد (2/109) ، وانظر قول الشافعي في سنن البيهقي (9/213) . 3 ابن خياط، تاريخ (77) . 4 ابن حجر، إصابة، ترجمة سلمة بن أسلم بن حريش (2/63) . 5 ابن سعد، طبقات (2/93) . 6 سماه ابن هشام جبار بن صخر الأنصاري (4/633) بينما سماه الواقدي وكاتبه: سلمة بن أسلم بن حريش. البيهقي، دلائل (3/332-335) . ابن سعد، طبقات (2/94) . 7 من رواية الطبري عن ابن إسحاق، تارخ (2/543) . 8 وادي يأجج: بفتح أوله وإسكان ثانيه، بعده جيمان، الأولى مفتوحة وقد تكسر. قال أبو عبيد: يأجج واد يصب من مطلع الشمس إلى مكة قريب منها ويعرف اليوم باسم (ياج) وهو وادٍ من أودية مكة يمر شمال التنعيم، فيصب في مر الظهران، تسميه عامة أهل مكة وادي بئر مقيت، وقد أصبح قسمه الذي يمر به الطريق من مكةإلى المدينة المنورة معمورا وبه بساتين ضعيفة، البكري، معجم (4/1385) ، والبلادي، معالم مكة التاريخية والأثرية (325) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 بعيرهما في فناء شعب من شعابه، وقال عمرو لصاحبه: "انطلق بنا إلى دار أبي سفيان، فإني محاول قتله! فانظر فإن كانت محاولة، أو خشيت شيئا فالحق ببعيرك فاركبه، والحق بالمدينة فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وخل عني، فإني رجل عالم بالبلد جريء عليه، نجيب الساق"1. ودخلا مكة على حين غفلة من أهلها، وكان عمرو قد أعدَّ خنجرًا حاد النصل لقتال أبي سفيان، فقال له الأنصاري: "هل لك أن نبدأ فنطوف بالبيت أسبوعا2 ونصلي ركعتين"3. فرد عليه عمرو: "أنا أعلم بأهل مكة منك إنهم إذا أظلموا رشوا أفنيتهم، ثم جلسوا بها، وأنا أعرف بها من الفرس الأبلق4"5 ولكن الأنصاري أصرَّ على رأيه فما زال بعمرو حتى طاف بالبيت سبعا، وصليا ركعتين، ثم خرجا فمرَّا على مجلس من مجالس قريش، فعرف رجل منهم عمرو بن أمية6 "فصرخ بأعلى صوته: هذا عمرو بن أمية"7 فتبادرتهما أهل مكة "وقالوا: تالله ما جاء بعمرو خيرٌ والذي يُحلف به ما جاءها قط إلا لشر"8. وكان عمرو فاتكًا ذائع الصيت في الجاهلية فحشد أهل مكة جمعهم وخرجوا يشتدون في أثره وأثر صاحبه، وهو يقول له: "النجاء، هذا والله الذي كنت أحذر، أما الرجل فليس إليه سبيل فانج بنفسك"9. وخرجا يشتدان حتى   1 من رواية الطبري عن ابن إسحاق. تاريخ (2/543) . 2 أي: سبعا. 3 من رواية الطبري عن ابن إسحاق. تاريخ (2/543) . 4 الأبلق: أي الفرس المحجلة، والبلق: سواد وبياض، وارتفاع التحجيل إلى الفخذين. (الصحاح، اللسان، القاموس: بلق) . 5 من رواية الطبري عن ابن إسحاق. تاريخ (2/543) . 6 أوضحت رواية الواقدي وكاتبه ابن سعد اسم هذا الرجل وهو معاوية بن أبي سفيان. انظر البيهقي، دلائل (3/335) ، ابن سعد، طبقات (2/94) . 7 من رواية الطبري عن ابن إسحاق. تاريخ (2/94) . 8 المصدر السابق. 9 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 حتى صعدا في جبل فرجعوا عنهما بعد أن أعجزوهم ثم دخلا غارا في الجبل وباتا ليلتهما فيه بعد أن استترا فيه بحجارة، فلما أصبحا غدا رجل من قريش يدعى عثمان بن مالك التميمي يجمع حشيشا لفرسه، فلم يزل يدنو منهما حتى قام على باب الغار، فقال عمرو لصاحبه: "هذا والله ابن مالك، والله إن رآنا ليُعلمن بنا أهل مكة"1، فيخرج إليه عمرو فيطعنه بالخنجر تحت ثديه، فصاح صيحة أسمع أهل مكة فأقبلوا إليه، ورجع عمرو إلى مكانه، واتبع أهل مكة الصوت مسرعين "فوجدوه وبه رمق، فقالوا: ويلك من ضربك، قال: عمرو بن أمية، ثم مات"2. فشغلوا به عن البحث عنهما، فمكثا في الغار يومين حتى سكن عنهما الطلب، ثم خرجا، وفي التنعيم وهما في طريقهما إلى المدينة مرَّا على خشبة خُبيب فصعدها عمرو وأنزله عنها. يقول عمرو بن أمية رضي الله عنه: "فصعدت خشبته ليلا، فقطعت الشَّرَكَ3 وألقيته فسمعت وجبته خلفي4، فالتفتُّ فلم أر شيئا5. ولكأنما ابتلعته الأرض، فلم يُرَ لخُبيب أثر حتى الساعة"6. وأقبل عمرو يمشي نحو المدينة، وكان صاحبه قد انطلق بالبعير قبله إلى المدينة، ثم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، ولما بلغ عمرو حرة ضجنان7 دخل   1 المصدر السابق. 2 من رواية الطبري عن ابن إسحاق. تاريخ (2/543) . 3 الشرك: الحبل. 4 وجبته: صوته. 5 من رواية خليفة عن عمرو بن أمية. خليفة بن خياط، تاريخ (76) . 6 من رواية أحمد عن عمرو بن أمية. البنا، الفتح (22/132) ، وانظر الهيثمي، مجمع (5/321) ، والطبري، تاريخ (2/541-542) . 7 ضجنان: بفتح أوله وسكون ثانيه على وزن فعلان: حرة مستطيلة من الشرق إلى الغرب، ينقسم عنها سيل وادي الهدة، ويمر بها الطريق من مكة إلى المدينة بنصفها الغربي على 54 كيلاً ويعرف هذا النغف اليوم يخشم المحسنية، وكذلك الحرة تسمى حرة المحسنية. انظر البكري، معجم (3/856) والبلادي، معالم مكة (159) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 كهفًا هناك ومعه قوسه وسهمه، قال عمرو: "فبينا أنا فيه إذ دخل عليَّ رجل من بني الديل بن بكر، أعور طويل يسوق غنما له فقال: من الرجل؟، فقلت: رجل من بني بكر، قال: وأنا من بكر، ثم أحد بني الديل، ثم اضطجع معي فيه، فرفع عقيرته يتغنى ويقول: ولست بمسلم ما دمت حيًّا ... ولست أدين دين المسلمينا فقلت: سوف تعلم! فلم يلبث الأعرابي أن نام وغطَّ1، فقمت إليه فقتلته أسوأ قتلة قتلها أحدٌ أحدًا"2. ثم خرج عمرو مسرعا حتى إذا بلغ وادي النقيع3 لقي جاسوسين لقريش يتحسسان الأخبار فعرفهما، فقتل أحدهما، وأسر الآخر، فقدم به المدينة، فجعل عمرو يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، ثم قال له خيرا، ودعا له بخير4.   1 غط: اشتد عليه النوم. (القاموس: غط) . 2 من رواية الطبري عن ابن إسحاق. تاريخ (2/544) . 3 وادي النقيع: بفتح أوله، وكسر ثانيه، بعده ياء، وعين مهملة، موضع تلقاء المدينة، بينها وبين مكة، على ثلاث مراحل من مكة، بقرب قدس، والنقيع صدر وادي العقيق، وهو متبدي للناس ومتصيد، وهو من أفضل الأحماء التي حماها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخيل المسلمين، والنقيع وادٍ فحل من أودية الحجاز، يسيل منها الحرار التي يسيل منها وادي الفرع، ثم يتجه شمالا جاعلا جبال قدس على يساره، ويأخذ كل مياهها الشرقية، وأول النقيع مما يلي المدينة يبعد عنها قرابة 40 كيلاً جنوبا على طريق الفرع، وأقصاه على قرابة (120) كيلاً قرب الفرع. انظر البكري، معجم (4/1323-1324) ، والبلادي، معجم (320) . 4 الخبر في مجمله أخرجه الطبري عن ابن إسحاق الذي رواه عم جعفر بن الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية (لم أعثر على ترجمته) عن أبيه عن جده عمرو بن أمية، وبذلك يكون في السند انقطاع إلا إذا ثبت أن الفضل سمع من جده، وفيه أيضا عنعنة ابن إسحاق. انظر الطبري تاريخ (2/542-545) . ورواه ابن هشام بلا سند. سيرة (4/633-635) ، ورواه ابن سعد، طبقات (2/93-94) بلا سند. وأخرج الجزء الخاص بقصة إنزال خبيب عن خشبته كل من: خليفة بن خياط، تاريخ: (76) ، وأحمد بن حنبل والبنا، الفتح الرباني (22/132) ، والطبري، تاريخ (2/541-542) ، والطبراني. انظر الهيثمي، مجمع (5/321) ، والبيهقي، دلائل (3/332) ، لكن مدار رواياتهم على إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، قال عنه الهيثمي، وابن حجر: "ضعيف". انظر الهيثمي، مجمع (5/321) ، وابن حجر، تقريب (88) .= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وبذلك انتهت هذه المهمة التي وإن كانت لم تحقق هدفها الأساسي، وهو قتل أبي سفيان لأمر أراده الله ولا راد لقضائه، ولكنها حققت بعض الأهداف التي من أهمها إدخال الرعب في نفوس قريش وزعمائها على الخصوص وإعلامهم بأن المسلمين قادرون على الوصول إليهم حتى في بيوتهم. وإن ما قام به عمرو بن أمية رضي الله عنه خلال هذه السرية إن صحت الروايات حولها يعتبر اجتهادا منه أقره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.   =إذًا فالخبر لا تخلو طرقه المتعددة من الضعف، ولكنها تتعاضد فيما بينها لتكسبه نوعا من القوة مما يجعلنا نستأنس لقبوله تاريخيًّا. والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 البعث إلى أبي رافع سلام بن أبي الحقيق ... البعث إلى أبي رافع سرية عبد الله بن عتيك وأصحابه لقتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق لله دُرُّ عِصابةٍ لاقَيتَهم ... يا بنَ الحقيقيِ وأنت يا بن الأشرف يَسْرُونَ بالبِيض الخِفافِ لكم ... مرحًا كأُسدٍ في عَرينِ مغرف حتى أَتَوْكُم في مَحِلِّ بلادِكم ... فَسَقَوْكُم حتفًا ببَيض ذفف مستبصرين لنصرِ دينِ نبيِّهم ... مستَضْعِفِين لكلِّ أمرٍ مجحف حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ديوان حسان بن ثابت (165) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 أبو رافع عبد الله بن أبي الحقيق، أو سلاّم بن أبي الحقيق1 اختلفت المصادر في ذلك، فمنها ما سماه عبد الله2، ومنها ما سماه سلاّم، ومنهم من نسبه إلى أبيه دون ذكر اسمه3، والبعض نسبه إلى كنيته فقط4، ولكن الأكثر على أنه سلاّم بن أبي الحقيق5. كان من زعماء اليهود بني النضير الذين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المدينة بعد نقضهم العهد والميثاق معه6 فتوجه مع بقية زعماء بني النضير إلى خيبر، فدان لهم يهودها7، ومع ذلك كانوا دائما يتطلعون إلى الفرص السانحة للثأر من المسلمين والعودة مرة ثانية إلى المدينة، ورأوا أن هذا الهدف صعب المنال ما   1 هكذا ذكره البخاري والشافعي على الشك بين الاسمين نظرا لاختلاف أهل المغازي في اسمه تبعا لاختلاف الرواة في تسميته. انظر ابن حجر، فتح (7/243) ، والبيهقي، سنن (9/80) . 2 قال ابن حجر: "والذي سماه عبد الله هم عبد الله بن أنيس، وذلك فيما أخرجه الحاكم في الإكليل من حديثه مطولا". فتح الباري (7/243) ، ولكن رواية عبد الله بن أنيس عند الطبراني، وأبي يعلى لم تسمه عبد الله، بل نسبته إلى أبيه. انظر أبا يعلى، المسند (2/204) ، والهيثمي، مجمع (6/197) لأن الرواية من القسم غير المطبوع من المعجم. وممن سماه عبد الله من أهل المغازي العامري في البهجة (1/193) . 3 مثل رواية عبد الله بن أنيس عند أبي يعلى والطبراني التي ذكرنا، ومم نسبه إلى أبيه الزهري عند ابن إسحاق. انظر ابن هشام، سيرة (3/274) ، والبيهقي، سنن (9/78) . 4 مثل روايات البراء بن عازب في الصحيح. ابن حجر، فتح (6/155، 7/340-341) ، ووقع ذلك عند البيهقي. سنن (9/80-81) ، وعند موسى بن عقبة. انظر البيهقي، دلائل (4/39) ، وباقشيش، مرويات (1/379) ، وعند ابن إسحاق. ابن هشام، سيرة (3/273) ، والواقدي، مغازي (1/391) ، وابن القيم، زاد (2/119) . 5 وقع ذلك عند معظم أهل المغازي. انظر عبد الرزاق، المصنف (5/408) ، وابن هشام، سيرة (2/273) ، وابن سعد، طبقات (2/91) ، وابن حزم، جوامع (198) ، وابن عبد البر، درر (195) . 6 انفرد المقريزي بذكر أنه كانت له رياسة بني قريظة بعد يوم بعاث. إمتاع الأسماع (1/189) ، ولا أدري من أين جاء بذلك، فكل أهل المغازي مجمعون على أنه كان من زعماء بني النضير. 7 ذكرت بعض المصادر بأنه كان يسكن حصنا بأرض الحجاز. انظر ابن حجر، فتح (7/340) والبيهقي، سنن (9/80) ، بينما أكثر المصادر وخاصة روايات أهل المغازي حددت سكناه بخيبر. انظر عبد الرزاق، المصنف (5/408) ، وابن هشام، سيرة (3/275) ، والواقدي، مغازي (1/390) ، وابن سعد، طبقات (2/91) ، والبيهقي، مجمع (6/179-198) ، وابن حجر، فتح (7/342) ، وانظر ما قاله ابن حجر، والشامي، والزرقاني جمعا بين الروايات. ابن حجر، فتح (7/342) ، والشامي، سبل (6/176) ، والزرقاني، شرح (2/166) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 لم يتم القضاء على قوة المسلمين المسيطرة في المدينة وما حولها، وأن ذلك لن يكون إلا بعمل ضخم منسق ضد المسلمين، فقوة اليهود وحدها لا تكفي لذلك، ومن خيبر بدأوا اتصالات موسعة وسفارات متعددة كان الهدف منها تحزيب أكبر قوة ممكنة من العرب تغزو المسلمين في عقر دارهم وتستأصلهم، وقد تم تقسيم خطة العمل بين هؤلاء الزعماء لهذا الغرض، فكان سلام بن أبي الحقيق –كما يذكر عروة- له اليد الطولى في تحزيب قبائل غطفان النجدية الكبيرة وحلفائها من "مشركي العرب يدعوهم إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجعل لهم الجعل1 العظيم"2. ولما انقضى أمر الخندق وبني قريظة بعد أن انفض الأحزاب عن المدينة بغيظهم لم ينالوا خيرا، وقُتل حُيي بن أخطب النضري شريكُ أبي رافع القوي في تحزيب الأحزاب –مع بني قريظة- فنال بذلك القصاص العادل الذي أفلت منه سلام بن أبي الحقيق حيث كان بعيدا في قومه في حصون خيبر فأصبح بالنسبة للمسلمين مجرم حرب خطيرا هاربًا لابد من القضاء عليه حتى لا يقوم بتحركات مماثلة في المستقبل تهدد أمنهم وسلامتهم. وكانت الأنصار كما أشار أهل المغازي3 يتنافسون فيما بينهم تفانيًا في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} 4. فلما أصابت الأوس كعبَ بن الأشرف بمبادرة بطولية من جانبهم، فحققوا بذلك سبقا إسلاميًّا على منافسيهم من الخزرج الذين بَدَوْا متحفزين للقيام بدور مماثل، فما أن ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن أبي الحقيق حتى سارعوا إلى التطوع للانخراط   1 الجعل: ما تجعل للغازي إذا غزا عنك بجعل. (لسان العرب، والقاموس، مادة: جعل) . 2 من رواية ابن عائذ عن عروة. ابن حجر فتح (7/343) ، ومغازي ابن عائذ مفقودة كما ذكرنا، ولكن البيهقي رواه من طريقه إلى عروة. انظر الدلائل (4/38) كما روى ذلك ابن سعد عن جمع من شيوخه. الطبقات (2/91) . 3 انظر الزهري، المغازي النبوية (113) ، وعبد الرزاق، المصنف (5/407-408) ، وابن هشام، سيرة (3/274) ، والواقدي، مغازي (1/391) ، وابن سعد، طبقات (2/91) ، والبيهقي، دلائل (4/33) . 4 المطففين (26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 في هذه المهمة الشاقة على صعوبتها وما يحيط بها من أخطار، فالرجل بعيد عن قاعدة الإسلام: المدينة، وهو في مَنَعة من قومه وحصونهم وحلفائهم من غطفان، ومن أجل ذلك تخيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً منهم فيهم بعض الشروط المناسبة لهذه المهمة الصعبة، فكان عبد الله بن عتيك رضي الله عنه1 قائدًا لهذه السرية حيث تذكر بعض المصادر أنه كان يتقن العبرية بطلاقة –إضافة إلى صلته السابقة بأبي رافع2. واهتمت روايات أهل المغازي بتسمية بقية أفراد السرية على خلاف بينها في بعضهم3، وقد اختلف أهل المغازي في تاريخ هذا البعث اختلافًا كبيرا فروى البخاري تعليقا عن الزهري قال: "هو بعد كعب بن الأشرف"4. أما ابن إسحاق الذي أخذ روايته عن الزهري، فحدد   1 عبد الله بن عتيك بن قيس بن الأسود بن بري بن كعب بن غنم بن سلمة بن الخزرج الأنصاري، لا يختلفون أنه شهد أحدا وما بعدها، وأظنه شهد بدرا، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقُتل يوم اليمامة شهيدا في خلافة أبي بكر سنة ثنتي عشرة، وقيل: بل شهد الصفين مع علي رضي الله عنه. خليفة بن خياط، طبقات (103) ، وابن عبد البر، استيعاب، هامش الإصابة (2/364-365) ، وابن حجر، إصابة (2/341) . 2 ذكر ذلك الواقدي، وكاتبه ابن سعد رواية عن جمع من شيوخه، منهم الواقدي. وذكر خليفة أن أم عبد الله كانت بخيبر، ولكن الواقدي ذكر أنها أمه من الرضاعة. انظر خليفة بن خياط، الطبقات (103) ، والواقدي، مغازي (1/391-392) ، وابن سعد، طبقات (2/395) . وربما يؤيد رواية الواقدي وابن سعد ما وقع في روايات الصحيح من أن عبد الله بن عتيك رضي الله عنه حينما دخل على أبي رافع وضربه، ثم رجع إليه كلَّمه كهيئة المغيث، وتكرر ذلك منه مرارا، ولا يمنع أن يكون الحديث بينهما باللغة العربية التي يتقنها أبو رافع، ولكن ما عرف من خبث اليهو د وحذرهم الشديد وجبنهم يجعلنا نستأنس بهذه الروايات على ضعفها. والله أعلم. 3 اتفق أهل المغازي في أسماء ثلاثة منهم، هم: عبد الله بن أنيس، ومسعود بن سنان، وأبو قتادة. انظر روايات الزهري عند كل من عبد الرزاق، المصنف (5/407-408) ، وعند ابن إسحاق الذي أخرج روايته ابن هشام، سيرة (3/274) ، والبيهقي، دلائل (4/34) ، وانظر الواقدي، مغازي (1/391) ، وابن سعد، طبقات (2/91) ، واختلفوا في الرابع الأسود بن خزاعي، فقلبه بعضهم، وسماه البعض أسود بن حرام، وآخرون أسعد بن حرام. انظر بالإضافة إلى المصادر السابقة عمر بن شبة، تاريخ المدينة (2/465) ، والبيهقي، دلائل (4/39) ، وابن حجر، فتح (7/343) ، وإصابة (1/34-42-43) ، والشامي، سبل (6/168-169) ، وذكر في الصحيح أن فيهم عبد الله بن عتبة الذي وقع الخلاف في اسمه أيضا. انظر ابن حجر، فتح (7/343) ، ومغلطاي قلج، الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم (21/9) ، والشامي، سبل (163-167-168) ، والزرقاني، شرح (2/165-166) ، وزاد حماد بن سلمة في روايته فيهم أبيض بن أسود في رواية عمر بن شبة عنه. تاريخ المدينة (2/463) ، وبالقلب: أسود بن أبيض في رواية ابن حجر عنه، إصابة (1/41) . كما وقع خلاف في نسب عبد الله بن أنيس، والظاهر أنه جهني أصلا، أنصاري سلمي جزرجي حلفا. انظر ابن حجر، فتح (7/343) ، والشامي، سبل (6/168) . 4 ابن حجر، فتح (7/340-342) ، وقد وصله يعقوب بن سفيان في تاريخه عن الزهري (قاله ابن حجر، ولم أجد ذلك في كتاب التاريخ المطبوع) ولم يكن مراد الزهري رحمه الله أنها كانت بعد قتل كعب بن الأشرف مباشرة كما يتوهم من النص، وإن كان البعض ظن ذلك فوضع لها تاريخا بعده مباشرة. انظر الزرقاني، شرح المواهب (2/165) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 تاريخها بعد الخندق، وقريظة مباشرة1، وحددها الواقدي كعادته بدقة فقال: "خرجوا ليلة الإثنين في السَّحَّر لأربعٍ خلون من ذي الحجة على رأس ستة وأربعين شهرا وغابوا عشرة أيام" ولكنه يعقَّب في نهاية روايته "ويقال: كانت السرية في شهر رمضان سنة ست"2 وهذا هو التاريخ الذي اعتمده كاتبه ابن سعد تاريخا للسرية3، وذكرها الطبري في حوادث السنة الثالثة4 ونقل المتأخرون من أهل المغازي أقوالا في تاريخها متعددة لم ينسبوها لأحد وحاول بعضهم الجمع بينها أو الترجيح5. وعلى كلٍّ انطلق هؤلاء المغاوير الشجعان ببسالة لإنجاز مهمتهم، ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتردد صداها على مسامعهم "لا تقتلوا وليدًا ولا امرأة"6 حتى إذا ما دَنوا من الحصن الذي يقيم فيه أبو رافع "وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم7"8.قال قائد السرية عبد الله بن عتيك لأصحابه:   1 ابن هشام، سيرة (2/273) ، والبيهقي، دلائل (4/33) ، وتابعه ابن عبد البر، درر (195) ، والعامري، بهجة (1/193) . 2 الواقدي، مغازي (391-395) . 3 ابن سعد، طبقات (2/91) ، وذكر القسطلاني أن ابن سعد ذكر في ترجمة عبد الله بن عتيك أنه بعثه في ذي الحجة إلى أبي رافع سنة خمس بعد وقعة بني النضير. القسطلاني، المواهب اللدنية (1/122-123) ، وبالبحث في طبقات ابن سعد المتداولة لم أعثر على ترجمة عبد الله بن عتيك رضي الله عنه فيها، فربما اطلع القسطلاني على نسخة أخرى، والله أعلم. 4 ذكر ذلك الطبري بصيغة التمريض. انظر الطبري، تاريخ (2/493) . 5 انظر البيهقي، سنن (9/78-79) والمقريزي، إمتاع (1/189) ، وابن حجر، فتح (7/342) ، والشامي، سبل (6/176) ، والزرقاني، شرح (2/165) . 6 رواه الزهري مرسلا عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وعن عبد الله بن كعب بن مالك. انظر عبد الرزاق، المصنف (5/407) ، وابن هشام، سيرة (3/274) ووقع موصولا في روايات. انظر البيهقي، سنن (9/77) ، وابن حجر، إصابة (2/341) ، والهيثمي، مجمع (6/198) وقال عنه: رواه أبو يعلى، والطبراني. وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع وهو ضعيف. 7 السرح: المال السائم الراعي وسرحت الماشية، أي: أخرجتها بالغداة إلى المرعى (القاموس واللسان: سرح) . 8 من رواية يوسف بن موسى عند البخاري. ابن حجر، فتح (7/341) ، ورواها البيهقي بسنده عن البراء، دلائل (4/37) ، كما رواها العامري، بهجة (1/193) باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 "اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل"1 فأقبل عبد الله –وكان قد فكر بحيلة يستطيع بها خداع البواب فيدخل دون أن يفطن إليه فلما دنا من الباب" تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته2. وقد دخل الناس فهتف البواب: يا عبد الله3 إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب4، قال عبد الله: "فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن5 فتعشوا عند أبي رافع وتحدثوا حتى ذهبت ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلما هدأت الأصوات، ولا أسمع حركة خرجت، قال: ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة6 فأخذته ففتحت به باب الحصن"7، "فجعلت كلما أفتح بابا أغلقت عليَّ من داخل، قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إليَّ حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت؟ "8 وهنا يتذكر عبد الله رضي الله عنه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هو ضرب على غير هدى كخبط عشواء لربما أصاب بعض عياله أو نسائه، لأجل ذلك صاح به ليعرف مكانه "أبا رافع، قال: من هذا؟ "9 يقول عبد الله: "فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش فما أغنيت شيئا وصاح، فخرجت   1 المصدر السابق. 2 أي يتبول أو يتبرز وكان الناس في ذلك العهد تعودوا على قضاء حوائجهم خارج بيوتهم، وقد حققت له هذه الحيلة على بساطتها ما كان يهدف إليه حيث ظن البواب أنه من أهل الحصن يقضي حاجته خارجه، فهتف به للدخول غير شاك به. 3 لم يُرِد اسمه العلم لأنه لو كان كذلك لكان قد عرفه، فالذي يظهر أنه أراد معناه الحقيقي لأن الجميع عبيد الله. ابن حجر، فتح (7/343) . 4 من رواية يوسف بن موسى عند البخاري. ابن حجر، فتح (7/341) . 5 كأنه كان للحصن بابان، باب من داخل، وآخر من خارج. 6 الكوة: بفتح الكاف وبضم، والكوة: الخرق في الحائط، وقيل بالفتح غير النافذة، وبالضم النافذة. ابن حجر، فتح (7/343) ، والقاموس، مادة (كوه) . 7 من رواية أحمد بن عثمان عند البخاري. ابن حجر، فتح (7/342) ،وانظر البيهقي، دلائل (4/35) . 8 من رواية يوسف بن موسى. ابن حجر، فتح (7/341) ، وانظر البيهقي، دلائل (4/37) . 9 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟، فقال: لِأُمك الويل إن رجلا في البيت ضربني قبلُ بالسيف"1. "قال: فعمدت له أيضا فأضربه أخرى فلم تغن شيئا فصاح وأقام أهله، قال: ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث، فإذا هو مستلقٍ على ظهره فأضع السيف في بطنه ثم أنكفىء عليه حتى سمعت صوت العظم، ثم خرجت دهشا حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فأسقط منه فانخلعت رجلي2 فعصبتها، ثم أتيت أصحابي أحجل3 فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية"4 "فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز"5 "قال فقمت أمشي ما بي قلبة6 فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم"7 "فحدثته، فقال: ابسط رجلك فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها قط"89. وهكذا تم بهذا العمل الجريء الشجاع القضاء على مجرم حرب خطير   1 المصدر السابق. 2 في رواية يوسف بن موسى: "فانكسرت ساقي"، قال ابن حجر: ويجمع بينهما بأنهما انخلعت من المفصل وانكسرت الساق، وقال الداودي: هذا اختلاف، وقد يتجوز في التعبير بأحدهما عن الآخر لأن الخلع هو زوال المفصل من غير بينونة أي بخلاف الكسر. قلت: والجمع بينهما بالحمل على وقوعهما معا أولى، ووقع في رواية ابن إسحاق: "فوثبت يده"، وهو وهم، والصواب: "رجله"، وإن كان محفوظا فوقع جميع ذلك. 3 الحجل: أن يرفع رجلا ويقفز على الأخرى. (اللسان: حجل) . 4 من رواية أحمد بن عثمان، ابن حجر، فتح (7/342) ، والبيهقي، دلائل (4/35) . 5 من رواية يوسف بن موسى. ابن حجر، فتح (7/341) ، والبيهقي، دلائل (4/37) . 6 أي: ألمٌ وعلة. ابن الأثير، النهاية (4/98) . 7 من رواية أحمد بن عثمان عند البخاري. ابن حجر، فتح (7/342) ، وانظر البيهقي، دلائل (4/35) . 8 من رواية يوسف بن موسى. ابن حجر، فتح (7/341) ، وانظر البيهقي، دلائل (4/37) . 9 الحديث أخرجه البخاري في الصحيح في باب قتل النائم المشرك ابن حجر، فتح (6/155) (باب قتل أبي رافع ... ) ، ابن حجر، فتح (7/340-341-342) ، ورواه الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك. انظر المغازي النبوية (113-114-115) ، وعبد الرزاق، المصنف (5/407-408) ، وابن هشام، سيرة (3/273-274-275) ، كما أخرجه ابن عائذ والبيهقي كلاهما عن عروة. انظر ابن حجر، فتح (7/343) ، والبيهقي، دلائل (4/38) ، ورواه أبو يعلى، المسند (2/204-205-206) والطبراني وأخرجها عنه الهيثمي، مجمع (6/197) لأنها من القسم المفقود من المعجم، وذكر ابن حجر أن الحاكم قد روى الخبر في إكليله. ابن حجر، فتح (7/243) ، وكتاب "الإكليل" مفقود أيضا، والخبر رواه أهل المغازي. انظر الواقدي، مغازي (1/391-394) ، وابن سعد، طبقات (1/91-92) ، والطبري، تاريخ (3/493-499) ، وابن حزم، جوامع (198-199) ، وابن عبد البر، درر (209-211) ، والبيهقي، دلائل (4/33-39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 كان له دور بارز ومميز في تحزيب الأحزاب ضد المسلمين، فنال بذلك القصاص العادل الذي يستحقه بالفعل، فلو أراد الله عز وجل ونجحت مخططات الأحزاب لكان في ذلك القضاء المبرم على المسلمين ولكن الله سلَّم، وفشلت مخططاتهم وهزمهم الله وحده وقتل الله حُييَّ بن أخطب مع بني قريظة، ثم قضى على أبي رافع بمبادرة بطولية من الخزرج فتخلص المسلمون من عدوين خطيرين كان في بقائهما تهديد كبير لأمنهم وسلامتهم. وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصرَّ، وقَتْلِ من أعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، أو ماله أو لسانه، وجواز التجسيس على أهل الحرب وتطلُّب غِرتهم، والأخذِ بالشدة في محاربة المشركين، وتعرُّضِ القليل من المسلمين للكثير من المشركين، والحكم بالدليل والعلامة لاستدلال ابن عتيك على أبي رافع بصوته، واعتماده على صوت الناعي بموته1. ومما يستفاد من الحديث أيضا النهي عن قتل النساء والولدان إلا إذا كانوا من قوم مبيّتين، وهي مسألة خلافية حيث فيها هذا الحديث وحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عن أهل الدار من المشركين يُبيَّتون فيصاب من نسائهم وذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هم منهم"2. قال الشافعي: فكان سفيان بن عيينة يذهب إلى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هم منهم" إباحة لقتلهم، وأن حديث ابن أبي الحقيق ناسخ له، قال: وكان الزهري إذا حدَّث بحديث الصعب بن جثامة أتبعه بحديث ابن كعب بن مالك. قال الشافعي رحمه الله: وحديث الصعب بن جثامة في عمرة النبي صلى الله عليه وسلم   1 ابن حجر، فتح (7/345) . 2 محمد فؤاد عبد الباقي، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (2/237) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فإن كان في عمرته الأولى فقد قتل ابن أبي الحقيق قبلها وقيل في سنتها، وإن كان في عمرته الآخرة فهو بعد أمر ابن أبي الحقيق غير شك، ولم نعلمه رخص في قتل النساء والولدان، ثم نهى عنه، ومعنى نهيه عندنا والله أعلم عن قتل النساء والولدان أن يقصد قصدهم بقتل وهم يُعرفون مميَّزِين ممن أمر بقتله منهم"1. وما أشار إليه الشافعي وجيه لأن التبييت من نتائجه عدم التفريق بين الرجال والنساء والأطفال لحدوثه في الظلام، ولأجل المباغتة التي هي عنصر أساسي للتبييت، أما حديث أبي رافع فهو لإنسان مخصوص بعينه ومعروف، فلا يجوز قتل من سواه إذا اجتُهِد في الخلوص إليه، ومعرفة مكانه وهو ما حدث من الصحابي الذي قتله، والله أعلم. وقد علق البيهقي على إمكانية حدوث النسخ بين الحديثين من عدمه بأن ساق رواية ابن إسحاق التي ذكر فيها أن قتل ابن أبي الحقيق كان بعد الخندق، قال: "ثم غزا بني المصطلق في شعبان سنة ست، ثم خرج في أول ذي القعدة معتمرًا عام الحديبية". قال الشيخ: ثم كانت عمرته التي تسمى عمرة القضاء، ثم عمرة الجعرانة ثم عمرته سنة حجته كلهن بعد ذلك، وقتل ابن أبي الحقيق كان قبلهن، فكيف يكون نهيه في قصة ابن أبي الحقيق عن قتل النساء والولدان ناسخًا لحديث الصعب ابن جثامة الذي كان بعده2.   1 البيهقي، سنن (9/78) . 2 البيهقي، سنن (9/78-79) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 البعث إلى اليسير بن رزام ... بعد أن نجحت سرية المغاوير الخزرجية باغتيال أبي رافع زعيم يهود خيبر بعد حُيي بن أخطب اختارت اليهود رجلا شجاعًا منهم ليكون أميرا عليهم. اختلفت المصادر التاريخية في اسمه واسم أبيه، فمنها ما سماه أُسير بن زارم1، وقيل: ابن رزام2، ويقال: ابن رقرام3، ولكن الأكثر على أنه اليُسير بن رزام4. وما أن تقلد اليسير مهام منصبه كزعيم اختير تقديرًا لشجاعته حتى أصرَّ على أن يثبت لهم أنه أهل لهذا الاختيار فقرر إكمال مهمة سلفه والقيام بمحاولة جديدة لحشد اليهود وحلفائهم غطفان وتوجيه طاقاتهم لمباغتة المسلمين في عقر دارهم5. ولكن عين رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنام عن أعداء الإسلام المتربصين ولا تغفل عن تحركاتهم العدوانية ضد قاعدته الحصينة. حيث وصلته الأخبار من أحد عيونه في خيبر بنوايا اليُسير ونشاطاته المشبوهة ضد المسلمين كما يذكر الواقدي6. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستوثق من تلك الأخبار، فيذكر ابن سعد   1 سماه كذلك الواقدي، مغازي (2/566) ، وتابعه كاتبه ابن سعد، طبقات (2/92) . 2 ذكر ذلك ابن هشام في زياداته، سيرة (3/618) . 3 ورد اسمه هكذا في الإصابة. ابن حجر، إصابة (2/306) ، ولعل ذلك تصحيف رزام؛ لأن كتاب الإصابة المتداول غير محقق علميًّا وتكثر فيه التصحيفات. 4 وقع ذلك في روايات عروة. انظر أبا نعيم، دلائل (2/517) ، وابن سيد الناس، عيون (2/164) ، وفي روايات الزهري. انظر البيهقي، دلائل (4/294) ، وباقشيش، مرويات (2/431-432) ، وفي رواية ابن إسحاق. انظر ابن هشام، سيرة (3/618) . 5 يذكر الواقدي أنه قام في اليهود فقال: إنه والله ما سار محمد إلى أحد من اليهود إلا بعث أحدا من أصحابه فأصاب منهم ما أراد، ولكني أصنع ما لا يصنع أصحابي، فقالوا: ما عسيت أن تصنع ما لم يصنع أصحابك؟، قال: أسير في غطفان فأجمعهم، فسار في غطفان، فجمعها، ثم قال: يا معشر اليهود، نسير إلى محمد في عقر داره، فإنه لم يُغز أحد في داره إلا أدرك منه عدوه بعض ما يريد، قالوا: نعم ما رأيت، الواقدي، مغازي (2/566) . 6 ذكر الواقدي في روايته عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجة بن حسيل الأشجعي، فاستخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وراءه فقال: تركت أسير بن رزام يسير إليك في كتائب اليهود. الواقدي، مغازي (2/566-567) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أنه أرسل (دورية استطلاع منطقة) 1 صغيرة إلى خيبر قوتها ثلاثة أفراد بإمرة قائد خيبر بمنطقة خيبر وأهلها هو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه2. انطلقت الدورية في رمضان ووصلت خيبر سرًّا وهناك وزع القائد أفرادها على حصونها الرئيسية-الشق، والنطاة، والكتيبة. فدخلوا مع الناس يسمعون منهم ويرون بأعينهم حال أهل خيبر وما يتكلمون به، خلال أيام رجعوا بعدها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقرير مفصل يؤكد المعلومات السابقة، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ثانية إلى خيبر، ولكن هذه المرة على رأس3 فرقة مغاوير تطوعية قوتها ثلاثون رجلا من بينهم عبد الله بن أنيس رضي الله عنه4 للإفادة من شجاعته وخبرته في هذا المجال. و"في شوال سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم"5 كما أرخها   1 استطلاع المنطقة: مجموعة معلومات عن العدو أو الأرض أو الاثنين معا داخل الحدود المعينة، قد يستخدم عندما يكون الموقف غامضا ويتطلب استطلاعا على جبهة عريضة باهر عبد الهادي مصطلحات (16) . 2 عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرىء القيس بن عمرو بن امرىء القيس بن مالك بن الأعز بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، الشاعر المشهور، يكنى أبا محمد، وأمه كبشة بنت واقد بن عمرو، خزرجية أيضا، وليس له عقب، من السابقين الأولين من الأنصار، وكان أحد النقباء ليلة العقبة كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي جاء ببشارة وقعة بدر إلى المدينة، شهد بدرا وما بعدها إلى أن استشهد بمؤتة. ابن سعد، طبقات (3/525-526، 612) ، وابن حجر، إصابة (2/306) . 3 ذكر عروة في روايته أن قائد السرية هو عبد الله بن عتيك. انظر أبا نعيم، دلائل (2/517) ، والبيهقي، دلائل (4/293) . وقد ذكر الشامي أن ذلك من رواية ابن عائذ. سبل الهدى (6/177) في حين يذكر ابن سيد الناس أنه من رواية شيخه الوليد، وأن غير الوليد قال: بعث عبد الله بن رواحة. عيون الأثر (2/164) ، قال محقق دلائل النبوة للأصبهاني: لعل الاشتباه نشأ من حيث إن سرية عبد الله بن عتيك لقتل أبي رافع كانت سبب هذه السرية. أبو نعيم، دلائل (450) . قلت: ربما كان ذلك هو السبب، أو أن الوهم وقع من ابن لهيعة أحد رواة عروة، فإنه اختلط بعد احتراق كتبه، خاصة إذا علمنا أن ذلك الوهم وقع في روايتي أبي نعيم والبيهقي عن عروة أيضا. انظر أبا نعيم، دلائل (2/517) ، والبيهقي، دلائل (4/293) . 4 مرت ترجمته. 5 انظر الواقدي، مغازي (2/566) ، وابن سعد، طبقات (2/92) واللفظ له. وقد أوردها البيهقي وابن القيم بعد فتح خيبر. وانظر البيهقي، دلائل (4/290-293) ، وابن القيم، زاد (3/359-360) . قال الشامي: "قال في النور: وهو الذي يظهر؛ فإنهم قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك ليستعملك على خيبر، هذا الكلام لا يناسب أن يقال: إنها قبل الفتح، والله أعلم. قلت: كونها قبل خيبر أظهر، قال في القصة: إنه سار في غطفان وغيرهم قطعا إذ لم يصدر من يهود بعد فتح خيبر شيء من ذلك، وقول الصحابة لأسير بن رزام: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك ليستعملك على خيبر لا ينافي ذلك؛ لأن مرادهم باستعماله المصالحة وترك القتال والاتفاق على أمر يحصل له بذلك، والله أعلم". الشامي، سبل (6/178) . وكتاب النور الذي أشار إليه الشامي لم أعثر عليه، وإنما وجدت كتابا باسم نور العيون لمؤلفه ابن سيد الناس، وهو اختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الواقدي وكاتبه ابن سعد، بينما ذكرها خليفة ضمن السرايا التي كانت خمس1. انطلقت السرية إلى هدفها في خيبر بعد الاتفاق على خطة استدراجية مغايرة تماما لخطة الفرقة الخزرجية التي قتلت أبا رافع، ومشابهة لخطة الأوسية التي قتلت كعب بن الأشرف، وكانت ترتكز أساسا على تقرير الدورية الاستطلاعية الذي ورد فيه معلومات دقيقة عن اليُسير وشخصيته فوضعت الخطة بناء على ذلك "فأتوه فقالوا: إنا أرسلنا إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملك على خيبر"2. تردد اليُسير في البداية، ولكنهم ما زالوا به يغرونه ويمنُّونه حتى طمع فيما قالوا، وشاور اليهود فخالفوه في الخروج، ولكنه أصرَّ عليه فخرج في رفقة ثلاثين يهوديًّا لحراسته ركب كل منهم مع رديف من المسلمين أفراد السرية، وحمل عبد الله بن أنيس اليُسير على بعيره. "فلما بلغوا قرقرة ثبار3 وهي من خيبر على ستة أميال ندم اليُسير4   شديد لكتابه "عيون الأثر" حيث يشير فيه للأحاديث إشارات عابرة ومختصرة جدًّا، وهو مخطوط يقع ضمن مجموعات. 1 انظر خليفة، تاريخ (77) . 2 من رواية عروة، انظر أبا نعيم، دلائل (2/517) . 3 قرقرة ثبار، قاع جنوب خيبر بين الحرة والصهباء المعروفة اليوم باسم جبل عطوة، على ستة أكيال من خيبر يقسمه الطريق إلى المدينة، ويسمى اليوم قعقران. البلادي، معجم (253) ، وقد ذكر البكري أنها تسمى قرقرة الكدر. البكري، معجم (3/1066) . 4 في رواية الدلائل (البشير) وأظنه تصحيفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فأهوى بيده إلى سيف عبد الله بن أنيس، ففطن له عبد الله، فزجر بعيره، ثم اقتحم يسوق بالقوم، حتى إذا استمكن من اليُسير ضرب رجله فقطعها، واقتحم اليُسير وفي يده مخرش1 من شوحط2 فضرب به وجه عبد الله فشجه شجة مأمومة3، وانفكأ كل رجل من المسلمين على رديفه فقتله، غير رجل واحد من اليهود أعجزهم شدًّا، ولم يصب من المسلمين أحد وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في شجة عبد الله بن أنيس فلم تقح، ولم تؤذه حتى مات45.   1 بميم مكسورة فخاء معجمة ساكنة فراء مفتوحة: عصا معوجة الرأس. الصالحي، سبل (6/180) . 2 الشوحط: شجر تتخذ منه القسي. (القاموس، واللسان، والصحاح: "شحط") . 3 الشجة المأمومة: التي تبلغ أم الرأس وهي الجلدة التي تجمع الدماغ. الصحاح مادة "شج"، والصالحي، سبل (6/180) . 4 من رواية موسى بن عقبة عن الزهري. انظر البيهقي، دلائل (4/294) ، وباقشيش، مرويات (2/432) واللفظ له، وقارن مع رواية عروة، أبو نعيم، دلائل (2/517) . 5 ورد الحديث عن طريق أهل المغازي بطرق مختلفة وبروايات مرسلة، فقد رواه عروة وأخرجه عنه كل من أبي نعيم، دلائل (2/517) ، والبيهقي، دلائل (4/293) باختصار شديد، وابن سيد الناس، عيون (2/164) باختصار أيضا، كما رواه الزهري، وأخرج روايته من طريق موسى بن عقبة كل من البيهقي، دلائل (4/294) ، وباقشيش، مرويات (2/431، 432) . ورواه ابن إسحاق بلا سند، ابن هشام، سيرة (3/618) ، وابن سعد عن جمع شيوخه، طبقات (2/92) ، ولم يروه موصولا إلا الواقدي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواية أخرى مختصرة عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه ورواية مختصرة أيضا عن عروة. انظر المغازي (2/566-568) ، ولكن الواقدي متروك عند المحدثين خاصة إذا انفرد، وهكذا فإن جميع مرويات الخبر لا تخلو من مقال، ولكنه قد يقوى بتعدد طرقه، وقد ذكر باقشيش أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن لغيره. مرويات موسى بن عقبة (2/431) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 سرية أبي قتادة بن ربعي إلى خضرة 1   1 هذه السرية لا تدخل ضمن النطاق الجغرافي لهذا البحث ولكن بما أن ابن إسحاق قد ذكر أنها سرية استطلاعية توجهت إلى الغاية القريبة من المدينة، ثم تطورت الأحداث بعد ذلك حتى أصبحت من السرايا ذات المهمات الصعبة، وبسبب احتمال تعدد القصة أدرجتها هنا مجتهدًا توضيح أمرها، والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وقع الخلاف بين أهل المغازي في هذه السرية، فذكر الواقدي أنها كانت سرية (تعرُّضية) بقيادة أبي قتادة بن ربعي1 رضي الله عنه، وذكر فيها مشاركة عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنهما2 الذي جاء يستعين رسول الله صلى الله عليه وسلم على نكاحه، فأرسله مع هذه السرية إلى غطفان نحو نجد3 لعله يصيب مهر زوجته، وفعلاً غنموا في تلك السرية نَعَمًا كثيرة وغنما بحيث كانت سُهمَانهم اثني عشر بعيرا4، وقد أخرج الهيثمي رواية عن الإمام أحمد مشابهة تماما لرواية الواقدي5. وكذلك أخرج الإمام مسملم في صحيحه6 رواية مشابهة غير أنه لم يذكر فيها اسم الصحابي المستعين برسول الله صلى الله عليه وسلم7، ولكن هناك بعض القرائن الدالة على وحدة القصة مثل التاريخ الذي ذكره الواقدي للسرية لا يتعارض مع   1 أبو قتادة ربعي الأنصاري، مشهور أن اسمه الحارث، وجزم الواقدي وابن القداح وابن الكلبي بأن اسمه النعمان، وقيل اسمه عمرو، اختلف في شهوده بدرا، واتفقوا على أنه شهد أحدا وما بعدها، وكان يقال له: فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم. كانت وفاته بالكوفة في خلافة علي بعد أن شهد معه مشاهده، وقال خليفة: "ولاه على مكة". ابن حجر، إصابة (4/158-159) . 2 عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، أبو محمد، له ولأبيه صحبة، وقال ابن منده: لا خلاف في صحته، وقال ابن سعد: أول مشاهده الحديبية ثم خيبر، وقال ابن عساكر: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر، روى عنه يزيد بن عبد الله بن قسيط، وأبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، زابنه القعقاع، شهد الجابية مع عمر. قال المدائني والواقدي ويحيى بن سعيد وابن سعد: مات سنة إحدى وسبعين وله إحدى وثمانون سنة. ابن حجر، إصابة (2/294-296) . 3 عنون لها الواقدي بقوله (سرية خضرة أميرها أبو قتادة) . 4 انظر الواقدي، مغازي (2/777-780) . 5 انظر الهيثمي، مجمع (6/206-607) ، ولم أجد له هذه الرواية بنفس السياق في المسند، بل وجدت رواية مختصرة، فربما كانت هذه الرواية من الجزء الساقط من المسند، والله أعلم.. 6 النووي على مسلم (9/210-211) . 7 اختلفت الروايات في تسمية الصحابي المستعين برسول الله صلى الله عليه وسلم فرواية ابن خياط والطبري عن ابن إسحاق، والواقدي، وابن حجر ورد اسمه عندهم (عبد الله بن أبي حدرد) ونسبته رواية ابن هشام إلى أبيه، بينما وقع اسمه في رواية أحمد، ورواية البيهقي عن ابن إسحاق (أبو حدرد الأسلمي) ولعل الخلاف وقع لكون كل منهما له صحبة، فلعله اشتبه على بعض الرواة فجعلهما واحدا، أو أن كلمة ابن سقطت من بعض النساخ فتلقفها من بعده أبو حدرد، وباعتبار أن كليهما له صحبة لم يشك في الأمر وأمضاه. والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 إمكانية رواية أبي هريرة رضي الله عنه للخبر في الصحيح1. كما أن منطقة عمليات السرية وهدفها الذي توجهت إليه يكاد يكون واحدا في كلا الروايتين، ففي رواية الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم بعثهم إلى بني عبس، وفي رواية الواقدي أنه بعثهم إلى غطفان نحو نجد، ومعلوم أن بني عبس من غطفان ومسكنهم في نجد2 فرواية الصحيح أخص وأدق من رواية الواقدي. وكذلك كون المرأة من الأنصار في الروايتين، وتقارب قيمة المهر المدفوع فيهما هو مائتا درهم في رواية الواقدي، وأربع أواق في رواية الصحيح، وقد صرح ابن حجر في "الإصابة" في رواية مختصرة ولكنها مماثلة لرواية الصحيح –خاصة فيما يتعلق بقيمة المهر- أنه ابن أبي حدرد نفسه3. فكل هذه القرائن4 تعطينا بعض الدلائل التي يمكن بواسطتها الحكم بوحدة القصة، وبالتالي ترجيح رواية الواقدي الموافقة للصحيح على رواية ابن إسحاق الضعيفة من الناحية الحديثية5 والتي يذكر فيها أن هذه السرية سرية استطلاعية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغابة6 بقيادة عبد الله بن أبي حدرد نفسه، وذلك   1 لأن أبا هريرة رضي الله عنه لم يهاجر إلا بعد خيبر، والتاريخ الذي ذكره الواقدي للسرية هو شعبان سنة ثمان، كما أن ابن حجر قد ذكر أن أول مشاهد عبد الله الحديبية ثم خيبر. 2 انظر الكلبي، جمهرة النسب (414) . 3 ابن حجر، إصابة (2/295) . 4 استدل بعض أهل المغازي بقرينة واحدة هي عدد سهمان الجيش على جعل هذه السرية هي السرية التي خرج فيها ابن عمر رضي الله عنهما وجاء ذكرها في الصحيحين. انظر ابن سيد الناس، عيون (2/209) ، والشامي، سبل (6/290) ، وابن حجر، فتح (8/56) ، والزرقاني، شرح (2/284) . 5 وردت رواية ابن إسحاق بثلاث صيغ إحداها مبهمة أخرجها ابن هشام، والثانية منقطعة أخرجها البيهقي، والثالثة متصلة أخرجها عنه الطبري بسند ضعيف، فكل الروايات الثلاث لا تخلو من مقال. والله أعلم. 6 الغابة: هي أرض من مقصر جبل أحد إذا أكنع في قناة إلى الشمال، تشمل مدفع وادي النقمي في الخليل، ويمكن اعتبار الخليل كله من الغابة. البلادي، معجم (322) . وينقل عبد القدوس الأنصاري مشاهداته عن الغابة فيذكر: أنها أرض ذات شجر متكاثف وبها شقوق هائلة غائرة في بطن الأرض، وأنه لاحظ بأطراف هذه الشقوق تقوم شجيرات الأثل والطرفاء القصيرة. عبد القدوس الأنصاري، آثار المدينة المنورة (ص 126-127) . قلت: قد تغير حال الغابة الآن فلم تعد غابة كما كانت من قبل حيث دخل بعض أرضها في مزارع الخليل، والبعض الآخر أصبح أرضا جرداء فيها بقايا من الشجر الأثل القصير يحكي قصة الغابة المندثرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 لاستطلاع خبر رجل من جشم بن معاوية يقال له رفاعة بن قيس –أو قيس بن رفاعة- كان قد أقبل "في بطن عظيم من جشم حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة، يريد أن يجمع قيسًا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عبد لله بن أبي حدرد قد استعان برسول الله صلى الله عليه وسلم في صداق امرأة تزوجها وأصدقها مائتي درهم، فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعينه به، فلما أقبل هذا الرجل بقومه، استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه ورجلين معه في هذه السرية، وفي الغابة تطورت المهمة وباجتهاد من أصحاب السرية من الاستطلاع إلى هجوم ليلي مكثف على حاضر القوم بعد قتل صاحبهم رفاعة بن قيس فنجحوا في ذلك وفر الأعراب بنسائهم وأطفالهم وما خف من أموالهم تاركين نَعَمًا كثيرة خلفهم1. وساق الطبري الروايتين تحت عنوان (سرية وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان أميرها أبو قتادة) 2. أما بقية أهل المغازي فمنهم من تابع ابن إسحاق3، ومنهم من تابع الواقدي4. وفرق بنهما ابن سيد الناس، فساق روايتي ابن إسحاق والواقدي في مكانين مختلفين من كتابه باعتبار أنهما سريتان منفصلتان5. بينما جمع الشامي كعادته بين روايات أهل المغازي وأهل الحديث، واعتبرها حادثة واحدة6. أما الحلبي فبعد أن ساق الروايتين ذكر أن البعض اعتبرها قصة واحدة، ثم علق على ذلك بقوله: "ولا يخفى أن السياق في كل يبعد كونهما واحدة"7.   1 انظر ابن هشام، سيرة (4/629) . 2 انظر الطبري، تاريخ (3/34-35) . 3 انظر خليفة بن خياط، تاريخ (185) ، والسهيلي، الروض (7/491-492) ، والبيهقي، دلائل (4/303) ، وابن القيم، زاد (2/150) ، وابن كثير، بداية (4/223-224) . 4 انظر ابن سعد، طبقات (2/132-133) ، لكنه لم يشر إلى مشاركة ابن أبي حدرد في السرية. 5 انظر ابن سيد الناس، عيون (2/209-211) . 6 انظر الشامي، سبل (6/287) . 7 انظر الحلبي، سيرة (3/206) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الباب الثاني: السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة الفصل الأول: السرايا ذات المهمات الخاصة السرايا التعقبية سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار ... الفصل الأول: "السرايا ذات المهمات الخاصة" وتشتمل: سرايا تعقبيَّة – وهي: 1) سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى الخرَّار. 2) سرية كرز بن جابر رضي الله عنه لمطاردة المفسدين من الأعراب. 3) سرية حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه لمطاردة هبَّار بن الأسود وصاحبه. 4) سرية أبي عامر الأشعري رضي الله عنه إلى أوطاس. وبعوث تعليمية، ودعوية –وهي: 1) بعث الرجيع. 2) بعث بئر معونة. 3) بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني جذيمة –دعوية. وسرايا ذات مهمات أخرى –مثل: 1) سرية عبد الله بن غالب الليثي إلى بني الملوح –تأديبية. 2) سرية أبي قتادة بن ربعي إلى بطن أضم –تحويلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 مقدمة وتتوالى البعوث والسرايا النبوية على اختلاف مهماتها وأهدافها والتي تصب جميعا في بوتقة واحدة وهي بوتقة العقيدة، وتصهر لصالح خدمة الدعوة الإسلامية، كان منها سرايا تعقيبية اختلفت أهدافها وظروفها، منها ما كان لمطاردة الفارين من وجه العدالة مثل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لتعقُّب كرز بن جابر الفهري وأصحابه الذين أغاروا على سرح المدينة. ويمضي الزمن وتشاء قدرة الخالق عز وجل أن يكون المُتَعَقَّب متعقِّبًا، فهذا كرز بن جابر رضي الله عنه بعد أن يسلم يقود سرية مطاردة لتعقب المفسدين في الأرض من عكل وعرينة الذين قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم وفروا بلقاحه فيظفر بهم كرز رضي الله عنه ويقدِّمهم للعدالة الشرعية. وكان منها سرية بعثها النبي صلى الله عليه وسلم لمطاردة هبَّار بن الأسود وصاحبه اللذين تعرضا لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي أعقاب هزيمة هوازن وثقيف في حنين يجهِّز رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية مطاردة تعقُّبية بقيادة أبي عامر الأشعري رضي الله عنه ويأمرهم بمطاردة فلول الهاربين من ميدان المعركة والقضاء عليهم قبل تجمعهم مرة ثانية حيث ينجح في مهمته ويستشهد في أرض المعركة. وقد كانت هذه السرايا التعقُّبية في أغلب الأحيان عبارة عن دوريات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 صغيرة القوة خفيفة الحركة، أوكلت إليها مهمات سريعة، وكان يتم تجهيزها بسرعة ومن أماكن مختلفة في بعض الأحيان من ميادين القتال، وقد تنجح هذه الدوريات في أهدافها القصيرة المدى (الوقتية) وربما لا تحقق ذلك، ولكنها على الراجح كانت تحقق الأهداف البعيدة المدى والتي يتمثل بعضها في إثارة الرعب في صفوف الأعداء وإشعارهم بيقظة المسلمين التامة لهم، وردع كل من تسول له نفسه الاعتداء على أي فرد من المسلمين في المستقبل، كما أن في دوريات المطاردة الميدانية بالغ الأثر في القضاء المبرم على فلول الأعداء الهاربين من أمام المسلين حتى لا يستطيعوا التحشد ثانية ضد المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 عندما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعقُّبه كرز بن جابر1 الذي أغار على سرح المدينة2، واستاقه معه –وادي سفوان من ناحية بدر3، وقد فاته كرز بالسرح، استنتج صلى الله عليه وسلم بذكائه العسكري المعروف أنه لن يستطيع اللحاق به بقوات قد تكون بطيئة الحركة نوعا ما في سيرها الاقترابي، لذلك جهَّز على الفور "دورية تعقُّبية"4 صغيرة، قوتها "ثمانية رهط من المهاجرين"5 وأسند القيادة فيها إلى رجل من أصحابه، معروف عنه سرعة البديهة في المناورة، وقد سبق له أن حقق نجاحا ملموسا على مستوى السرايا الاعتراضية   1 كرز بن جابر حسل بن لاحب بن حبيب بن عمرو بن سفيان بن محارب بن فهر القرشي الفهري، كان من رؤساء المشركين قبل أن يسلم، استشهد في الفتح. انظر ابن حجر، إصابة (3/290-291) . 2 السرح: المال السائم. (القاموس: سرح) . 3 سميت تلك الغزوة ببدر الأولى. انظر ابن هشام، سيرة (2/601) . 4 اختلف أهل المغازي في مهمة هذه السرية، وهل كانت اعتراضية أم تعقبية؟ فالواقدي وكاتبه ابن سعد ذكرا أن هذه السرية كانت اعتراضية. انظر الواقدي، مغازي (1/11) ، وابن سعد، طبقات (2/4) . ولم يوضح ابن إسحاق مهمتها. انظر خليفة، تاريخ (62) ، وابن هشام، سيرة (2/600) ، والبيهقي، دلائل (2-13-14) . أما ابن حزم، وابن عبد البر: فقد ذكرا أن هذه السرية كانت لتعقُّب كرز بن جابر الذي أفلت من النبي صلى الله عليه وسلم. انظر ابن حزم، جوامع (104) ، وابن عبد البر، درر (106) . وفي اعتقادي أن ذلك هو الصواب، بناء على الوقت الذي خرجت فيه السرية وقوتها الصغيرة المناسبة لهذه المهمة التي لا تتطلب عددا كبيرا من القوات لأجل خفة الحركة في المسير الاقترابي، وابن حزم وابن عبد البر لم يوضحا مصدر معلوماتهما عن هذه السرية، ولكن غالب الظن أن مصدرهما هو مغازي موسى بن عقبة، الذي كثيرا ما يلخصان قوله. والله تعالى أعلم. 5 من رواية ابن إسحاق. انظر ابن هشام، سيرة (2/600) . وقد اختلف في قوة السرية أيضا، فابن إسحاق وابن حزم وابن عبد البر: ذكروا أنهم كانوا ثمانية رهط فقط. ابن حزم، جوامع (104) ، وابن عبد البر، درر (106) . أما الواقدي وابن سعد فقد ذكرا أن عددهم يتراوح ما بين العشرين إلى الواحد والعشرين فردا. انظر الواقدي، مغازي (1/11) ، وابن سعد، طبقات (2/7) . وقد اتفق الجميع على أنهم كانوا جميعا من المهاجرين ليس فيهم أنصاري واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 التي سبقت هذه السرية، ذلكم هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه و"عقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو البهراني1"2. وفي الحال3 انطلقت الدورية في إثر كرز بن جابر ومن معه لعلها تلحق بهم قبل أن يدخلوا منطقة نفوذ قريش وحلفائها الواقعة بعد الخرَّار الذي حذَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجاوزته. ولكن كرزًا تمكن من الإفلات أيضا فلم يستطع سعد الإمساك بهم حتى منطقة "الخرَّار من أرض الحجاز"4 التي رجع منها.   1 المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة البهراني، ثم الكندي، ثم الزهري حالف أبوه كندة، وتبناه الأسود بن عبد يغوث الزهري فنسب إليه، صحابي مشهور من السايقين، ولم يثبت أنه كان ببدر فارس غيره، هاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد بعدها، مات سنة ثلاث وثلاثين وهو ابن سبعين سنة. انظر ابن حجر، إصابة (3/454) ، وتقريب (545) . 2 من رواية ابن سعد، طبقات (2/7) . 3 اختلف أقوال أهل المغازي في تحديد تاريخ هذه السرية حيث جعلها الواقدي وكاتبه ابن سعد في السنة الأولى، وبالتحديد في شهر ذي القعدة على رأس تسعة أشهر من الهجرة. انظر الواقدي، مغازي (1/11) ، وابن سعد، طبقات (2/7) . أما ابن إسحاق وابن حزم وابن عبد البر فأرَّخوا لها في السنة الثانية على خلاف بينهم في الشهر الذي أُرسلت فيه، فابن إسحاق ذكرها بعد غزوة العشيرة التي أرَّخ لها في جمادى الأولى. انظر ابن هشام، سيرة (2/599-600) . وقد خالفه ابن حزم وابن عبد البر، فذكرا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثها خلال غزوة بدر الأولى. انظر ابن حزم، جوامع (104) ، وابن عبد البر، درر (106) . وذكر ابن هشام في زيادات السيرة عن بعض أهل العلم: "أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة". وابن هشام، سيرة (2/600) . وبتحليل الأقوال السابقة نرى أن الواقدي وكاتبه قد جعلا هذه السرية مع السريتين اللتين قبلها في السنة الأولى، وفي أشهر متتالية هي رمضان، شوال، وذي القعدة، وكان الهدف منها دائما عير قريش. وإذا تمعَّنا في هذا القول جيدا عرفنا أنه يستلزم منه أن تكون هناك حركة قوافلية متتابعة إلى الشام بحيث تكون هناك أكثر من قافلة في الشهر؛ لأن الرحلة للقافلة في ذلك الوقت تستغرق شهرين ذهابا وإيابا من مكة إلى الشام، فهل يعقل أن تقدم قريش على إرسال هذا الكم من القوافل والحالة الأمنية لطريقها مهددة من قبل المسلمين؟ لذا فأنا أميل إلى قول من جعلها في السنة الثانية وخلال غزوة بدر الأولى، لأن ذلك يتناسب مع واجبها الذي انطلقت لأجله وهو تعقُّب كرز والسرح كما ذكرنا سابقا. 4 من رواية ابن إسحاق. انظر ابن هشام، سيرة (2/600) . والخرَّار –بفتح أوله وتشديد ثانيه وبعده راء أخرى على وزن فعَّال- ماء لبني زهير وبني بدر، وهو واد بالحجاز يصب على الجحفة، وفيه آبار عن يسار الجحفة قريب من خمِّ، يقع شرق رابغ على قرابة خمسة وعشرين كيلاً. انظر ابن سعد، طبقات (2/7) ، والبكري، معجم ما استعجم (2/492) ، والبلادي، معجم معالم السيرة (112) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 امتثالاً لأمر القائد الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم1.   1 الخبر رواه ابن إسحاق بلا سند، وذكره بعد غزوة العشيرة. انظر خليفة، تاريخ (62) ، وابن هشام، سيرة (2/600) ، والبيهقي، دلائل (3/13-14) . كما رواه ابن حزم، جوامع (104) ، وابن عبد البر، درر (106) بلا سند أيضا، وذكراها بعد بدر الأولى. وقد اعتمدتُ روايتهما لمناسبتها لسياق الأحداث مع الإفادة من بعض المعلومات التي وردت في المصادر الأخرى. وروى الواقدي وابن سعد الخبر بسياق يختلف كثيرا من حيث التاريخ، والهدف، والقوات المشاركة. انظر الواقدي، مغازي (1/11) ، وابن سعد، طبقات (2/7) . هذا وقد أوضحت هذا الاختلاف مع الترجيح فيما مضى –والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 سرية كرز بن جابر لمطاردة المفسدين من الاعراب ... سرية كرز بن جابر الفهري لمطاردة المفسدين من عكل وعرينة (تعقُّبية) {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 في السنة السادسة الهجرية باتفاق أهل المغازي1 قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رهط من الأعراب اختُلف فيهم وفي عدتهم، ففي رواية عن أنس أنهم كانوا "رهطا من عكل ثمانية"2، وقيل: بل من عرينة3، وذكر ابن إسحاق أنهم "من قيس كبة من بجيلة"4، وشذَّ عبد الرزَّاق فذكرهم من بني فزارة5 ووقع في رواية أخرى عن أنس "قال: كانوا أربعة من عرينة، وثلاثة من عكل"6، وصوَّبه ابن حجر، وذكر أن ذلك لا يخالف الرواية الأولى لاحتمال أن يكون الثامن من غير القبلتين وكان من أتباعهم فليس ينسب7، وكان هؤلاء الأعراب بهم هزال شديد من الجوع8 "فبايعوه على الإسلام"9. "ثم   1 ولكنهم اختلفوا في الشهر الذي كانت فيه السرية، فذكر ابن إسحاق أنها كانت بعد غزوة ذي قرد التي كانت في جمادى الآخرة سنة ست. انظر ابن هشام، سيرة (4/64) ، وأرَّخها الواقدي في شوال من نفس السنة. الواقدي، مغازي (2/568) ، وتابعه ابن سعد، طبقات (2/93) ، وابن حبان، السيرة النبوية (ص 274) ، وذكر ابن حجر أن البخاري ذكرها بعد الحديبية. ابن حجر، الفتح (1/337) ، يقول الزرقاني: فالحاصل أن أصحاب المغازي اتفقوا على أنها سنة ست واختلفوا في الشهر. الزرقاني، شرح (2/172) . 2 وقع ذلك في رواية أبي قلابة عن أنس في كتاب الجهاد والسير. انظر ابن حجر، فتح (6/153) . 3 روى ذلك الواقدي عن يزيد بن رومان. الواقدي، مغازي (2/569) ، وتابعه ابن سعد، طبقات (2/93) . قال ابن حجر: وزعم ابن التين تبعا للداودي: أن عرينة هم عكل، وهو غلط، بل هما قبيلتان متغايران، عكل من عدنان، وعرينة من قحطان، وعكل بضم المهملة وإسكان الكاف قبيلة من تيم الرباب، وعرينة بالعين والراء المهملتين والنون مصغرا حي من قضاعة، وحي من بجيلة، كذا ذكره موسى بن عقبة في المغازي، وكذا رواه الطبري من وجه آخر عن أنس. ابن حجر، فتح (1/337) . 4 من رواية ابن إسحاق بسند فيه مبهمين. انظر ابن هشام، سيرة (4/640-641) . 5 عبد الرزاق، المصنف (10/107) . قال ابن حجر: وهو غلط لأن بني فزارة من مضر لا يجتمعون مع عكل، ولا عرينة أصلا. ابن حجر، فتح (1/337) . 6 من رواية قتادة عن أنس. انظر الطبري، تفسير (4/206) . 7 ابن حجر، فتح (1/337) . وقد وقع عند ابن مردويه من طريق سلام عن ثابت عن أنس: أنهم قدموا من البحرين. انظر ابن كثير، تفسير (2/48) ، كما في رواية أخرى عن سلمة بن الأكوع: أنهم كانوا من اليمن. انظر الهيثمي، مجمع (6/294) . 8 قال ابن حجر: إن ذلك من رواية غيلان عن أنس عند أبي عوانة. ابن حجر، فتح (8/337) ، ووقع في رواية عبد الرزاق: "قد ماتوا هزلاً". عبد الرزاق، المصنف (10/106) . 9 من رواية أبي رجاء عن أبي قلابة عن أنس في الديات. ابن حجر، فتح (12/230) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 قالوا: يا رسول الله آونا وأطعمنا"1. فأنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفة2 وأكرمهم3، ونظرا لكونهم كانوا بادية أهل ضرع، ولم يكونوا أهل ريف4 -كما ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم5- لم يستطيعوا التأقلم مع جو المدينة وهوائها، فأصابهم داء اختلف فيه، ففي رواية عند مسلم أنه وقع في المدينة داء يسمى الموم وهو البرسام6، وفي البخاري7 "فاجتووا المدينة"8. وفي رواية أخرى "فاستوخموا الأرض9 فسقمت أجسامهم"10،   1 من رواية ثابت عن أنس في الطب. ابن حجر، فتح (10/141) . 2 الصفة: بضم الصاد وتشديد الفاء –مكان في مؤخر المسجد النبوي مكان القبلة الأولى، ظُلل وأُعد لنزول الغرباء والمساكين وضعفاء المسلمين ممن لا مأوى له، وإليها ينسب أهل الصفة. انظر أبا نعيم، الحلية (1/320) ، السمهودي، وفاء الوفاء (2/453-454) ، ياقوت، معجم البلدان (ظله) ، ابن منظور: لسان (صفف) . 3 من رواية وهيب عن أيوب في المحاربين. ابن حجر، فتح (12/230) . 4 أي كانوا أهل ماشية ولم يكونوا أهل زرع. 5 من رواية قتادة عن أنس انظر ابن حجر، فتح (10/178) ، وابن جرير الطبري، تفسير (4/206) . 6 النووي على مسلم (11/156-157) ، قال النووي، وابن حجر: بكسر الباء سرياني معرب، أطلق على اختلال العقل، وعلى ورم الرأس وورم الصدر، وذكر ابن سينا: أن البرسام هو ذات الجنب، وهو ورم في نواحي الصدر إما في العضلات وفي الحجاب المستبطن للصدر، وإما في الحجاب الحاجز وهو الخالص، أو في العضل الظاهرة الخارجة، أو الحجاب الخارج بمشاركة الجلد أو بغير مشاركة، وأعظم هذا وأهوله ما كان في الحجاب الحاجز نفسه، وعلامته خمس: حمى لازمة لمجاورة القلب، ووجع ناخس تحت الأضلاع، وضيق نفس لضغط الورم، ونبض منشاري، وسعال. انظر ابن حجر، فتح (1/3389) ، وابن سينا، القانون في الطب (2/238-240-241) . وانظر اسمه الطبي الحديث (PLEURiSY) وأعراضه المشابهة لما ذكره ابن سينا في DOVIDSON'S PRINCIPALES' AND PRACTIC OF MEDICINE AND PRICE'S TEXT BOOK OF THE PRACTICE OF MEDICINE. 7 انظر ابن حجر، فتح (1/335) . 8 الجوى: داء يصيب الجوف، قال ابن فارس: اجتويت البلد إذا كرهت المقام فيه وإن كنت في نعمة، وقيده الخطابي بما إذا تضرر بالإقامة وهو المناسب لهذه القصة. انظر الخطابي، أعلام الحديث (1/285) ، وابن حجر، فتح (1/337) . 9 أي استثقلوها، ولم يوافق هواؤها أبدانهم. ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث (5/164) . 10 ابن حجر، فتح (12/230) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وذكر أحمد: أن الوخم الذي شكوا منه هو من حمى المدينة1. وفي رواية ابن إسحاق "فاستوبئوا، وطحلوا"23، ولكن ابن القيم جزم بأن ذلك المرض "كان الاستسقاء"4، وذلك بناء على الأعراض التي ظهرت عليهم حيث عظمت بطونهم، واصفرت ألوانهم5، وكذلك الوصفة الدوائية6 التي وصفها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما شكوا إليه ما أصابهم فقال:   1 انظر البنا، الفتح الرباني (18/158) ويُذْكر أن المدينة كانت موبوءة بحمى الملاريا في ذلك الوقت. 2 أي عظمت طحالهم من المرض. القاموس (طحال) ، ابن الأثير، نهاية (5/144) . 3 ابن هشام، سيرة (4/641) . 4 ابن القيم، زاد المعاد (4/46) ، قال ابن سينا: الاستسقاء مرض مادي سببه مادة غريبة باردة تتخلل الأعضاء، وتربو فيها، إما الأعضاء الظاهرة كلها، وإما الموضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والأخلاط، وأقسامه ثلاثة: لحمي: ويكون السبب فيه مادة مائية بلغمية تفشو مع الدم في الأعضاء. والثاني: زقي –يكون السبب فيه مادة مائية تنصب إلى فضاء الجوف الأسفل وما يليه. والثالث: طبلي –ويكون السبب فيه مادة ريحية تفشو في تلك النواحي. ابن سينا، القانون في الطب (2/384) . وقد عرف الطب الحديث الاستسقاء (Ascites) بأنه عبارة عن تجمع كمية أكبر من الطبيعي من السوائل في التجويف البريتوني (الغشاء المبطن للبطن) ويكون مصحوبا بقلة تركيز الدم، وتورم في الجسم، وقلة في البول، وهذه الأعراض المرضية هي انعكاس للخلل الذي يحدث في الأملاح المعدنية، والماء، والبروتين التي تكون أحد مضاعفات أمراض الكبد، فإذا ما قل الضغط الإسموزي في بلازما الدم بسبب نقص تناول المواد البروتينية، أو خلل في الكبد، فإن السوائل يتم رشحها في الغشاء البريتوني وذلك ما يسبب انتفاخ البطن. LOOK: ADAMES BRAUNWALD' PETERSDOROF' WISON' PRINSIPLES OF INTERNAL MEDICINE (1481-1482) . 5 وقع ذلك عند النسائي، سنن (7/98) ، وانظر الألباني، صحيح سنن النسائي (3/848) وقال عنه: صحيح الإسناد، وانظر ابن سينا، القانون في الطب (2/383) . 6 يقول ابن القيم: ولما كانت الأدوية المحتاج إليها في علاجه هي الأدوية الجالية التي فيها إطلاق معتدل، وإدرار بحسب الحاجة، وهذه الأمور موجودة في أبوال الإبل وألبانها، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بشربها، فإن في لبن اللقاح جلاءً، وتليينا، وإدرارا وتلطيفا، وتفتيحا للسدد، إذ كان أكثر رعيها الشيح، والقيصوم، والبابونج، والأقحوان، والإذخر وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء. ابن القيم، زاد (3/47) وقال ابن سينا: ولا تلتفت إلى ما يقال: من أن طبيعة اللبن مضادة للاستسقاء، بل اعلم أنه دواء نافع، لما فيه من الجلا يرفق ولما فيه من خاصية، واعلم أن هذا اللبن شديد المنفعة، فلو أن إنسانا أقام عليه بدل الماء والطعام لشفي به، وقد جرب ذلك منه قوم دفعوا إلى بلاد العرب فقادتهم الضرورة إلى ذلك فعوفوا. وألبان اللقاح قد تستعمل وحدها، وقد تستعمل مخلوطة بغيرها من الأدوية، وقد يخلط بأبوال الإبل، وقد يقتصر عليها طعاما وشرابا. ابن سينا، القانون (2/392) . وقد ذكر الدكتور أحمد ناظم النسيمي: أن هذا الاستنتاج خطأ، فإن الاستسقاء الحادث بسبب الكبد (أي الحبن يتشمع الكبد) لا يحدث في جماعة معا ولمدة غير طويلة، ففي الحديث السابق "فاجتووا المدينة"= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 "أفلا تخرجون مع راعينا1 في إبله2، فتصيبون من ألبانها وأبوالها؟ قالوا:   =والفاء للتعقيب، وفي رواية ابن السني وأبي نعيم: "فلم يمكثوا في المدينة إلا يسيرا حتى أصابهم وعك شديد". كما أن تشمع الكبد والحبن الذي قد يصاحبه لا يشفى شفاء تامًّا، وإذا جمعنا الأعراض التي أصيب بها رهط عرينة وعكل وجدناها: توعكا وحمى وضخامة بطن ونحولا وضعف القوة واصفرار اللون أي شحوبه، وهذه الأعراض تدل بالنسبة للمدينة المنورة وما يمكن أن ينتشر فيها من أمراض، تدل على أن مرضهم كان حمى المدينة كما تنص رواية أحمد في مسنده، وحمى المدينة سببها أحد مرضين محتملين: الأول: حميات الإنتانات المعوية، ففيها تنتفخ البطن بسبب انتفاخ الأمعاء. والثاني: جمى البرداء (الملاريا) وفيها يزداد حجم الطحال وقد يترافق بضخامة الكبد. وبيئة المدينة المنورة مساعدة على ظهورهما، لأن حول المدينة نخيل وزراعة وفي وادي بطحان مياه آسنة، والبعوض الخبيث ناقل لعامل البرداء ويفضل عيشة الريف والمزارع، وقد يوجد في الحدائق القريبة من المدن يضع بيوضه على شاطىء ماء راكد أو على ما فيه من أجسام سابحة. أما جراثيم الإنتانات المعوية فتكثر في المياه الملوثة. وللقصور في تشخيص الأمراض في ذلك الزمن وندرة الأطباء في الجزيرة العربية، يمكن أن تعد الإصابة بالإنتانات المعوية أو البرداء من حمَّى المدينة، وأن حديث ابن عباس المرفوع "إن في ألبان الإبل وأبوالها شفاء للذّربة بطونهم" يرجح احتمال الإصابة بالإنتانات المعوية، لأن الذرب يدل على فساد الأمعاء، ولم يجر بحث ولا تجارب علمية في العصر الحديث حول الفوائد العلاجية لألبان الإبل وأبوالها. انظر الدكتور محمود ناظم النسيمي، الطب النبوي والعلم الحديث (2/240-241) . قلت: ورواية ابن إسحاق: "فاستوبئوا وطحلوا" ترجح إصابتهم بالبرداء، إذَا فالاحتملان متقاربان، وربما يكونوا قد أصيبوا بهما معا، والله أعلم. وياحبذا لو يكون هناك قسم في الجامعة يقوم بالأبحاث حول الطب النبوي والأدوية النبوية، وذلك لإبراز الفوائد العلاجية لتلك الأدوية، وخاصة بعض الأدوية التي لم يجر حولها أبحاث حتى الآن، مثل: السَّنا، والإثمد، والحجامة، وألبان الإبل وأبوالها، وغيرها كثير، فإن أكثر العوام بل أكثر المثقفين من غير أهل العلم لا يعرفون عن هذه الأدوية شيئا يذكر لبعدهم عن كتب الحديث. 1 ذكر ابن إسحاق بإسناد فيه جهالة أن اسمه يسار، أصابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة محارب وبني ثعلية. ابن هشام، سيرة (4/640) ، ورواه الطبراني موصولا من حديث سلمة بن الأكوع قال: رآه يحسن الصلاة فأعتقه وبعثه في لقاح له بالحرة فكان بها. الطبراني، المعجم (7/7) . وذكر ابن حجر: أن إسناده صالح. ابن حجر، فتح (1/339) . وقال الهيثمي: فيه موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي وهو ضعيف. الهيثمي، مجمع (6/249) . قلت: لأنه منكر الحديث، كذا قال ابن حجر، تقريب (ص 553) . 2 وقع في روايات أخرى أنه أمرهم أن يأتوا إبل الصدقة. قال ابن حجر: والجمع بينهما أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة وصادف بعث النبي صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى طلب هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء لشرب ألبان الإبل، فأمرهم أن يخرجوا مع راعيه فخرجوا معه إلى الإبل ففعلوا ما فعلوا، وظهر بذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "إن المدينة تنفي خبثها". ابن حجر، فتح (1/338) . واختلف في مكان اللقاح (الإبل) فذكر موسى بن عقبة أنها كانت بفيفاء الخبار من وراء الجمَّاء، ويقع هذا المكان غربي وادي العقيق كما ذكر صاحب "وفاء الوفاء". انظر رواية موسى بن عقبة عند ابن سيد الناس، عيون (2/119) ، وباقشيش، مرويات (2/410) ، وانظر السمهودي، وفاء الوفاء (3/879) . أما الواقدي وكاتبه ابن سعد فذكرا أنها كانت بذي الجدر ناحية قباء قريبا من عير، على ثمانية أميال من المدينة، كما ذكر أن عدد لقاحه صلى الله عليه وسلم كانت خمس عشرة، وأن الأعراب نحروا منها واحدة يقال لها الحناء. انظر الواقدي، مغازي (2/568-570-571) وابن سعد، طبقات (2/93) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 بلى، فخرجوا فشربوا من ألبانها وأبوالها فصحُّوا"1. فعَدَوا على الراعي فقتلوه –بعد أن مثَّلوا به2 وهربوا بالإبل "فجاء الخبر في أول النهار"3 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى وجه السرعة، قام بتجهيز دورية قتالية تعقُّبية، قوتها عشرون4 شابًّا أنصاريًّا وأسند القيادة فيها إلى كرز بن جابر الفهري رضي الله عنه5 وزوَّدهم بقائف لاقتفاء الأثر6، اختزالا للجهد والوقت، لأن إهدارهما لا يتناسب مع   1 من رواية أبي قلابة عن أنس في الديات. ابن حجر، فتح (12/230) . 2 نقل ذلك أصحاب المغازي فذكروا:) أنهم ذبحوه وغرزوا الشوك في عينيه) . انظر ابن هشام، سيرة (4/461) من رواية ابن إسحاق بسند ولم يرسل، والواقدي، مغازي (2/569) ، وابن سعد، طبقات (2/93) ، وزاد "أنهم قطعوا يده ورجله وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات". كما روى ذلك ابن مردويه بسنده عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. انظر ابن كثير، تفسير (2/50) وقال عنه: غريب جدا، والهيثمي، مجمع (6/294) ، وقال عنه: رواه الطبراني وفيه موسى بن محمد بن الحرث التميمي وهو ضعيف، ولكن ابن حجر ذكر أن إسناده صالح كما مر. فتح الباري (1/339) ولهم شاهد عند مسلم من حديث سليمان التيمي عن أنس: "إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء" النووي على مسلم (11/157) . 3 من رواية أبي قلابة عن أنس. ابن حجر، فتح (1/335) . 4 وقع ذلك في رواية معاوية بن قرة عن أنس عند مسلم. النووي على مسلم (1/157) قال ابن حجر: ولم أقف على اسم واحد من العشرين، لكن في مغازي الواقدي أن السرية كانت عشرين رجلا ولم يقل من الأنصار بل سمى منه جماعة من المهاجرين منهم بريدة بن الحصيب، وسلمة بن الأكوع الأسلميان، وجندب ورافع ابنا مكيث الجهنيان، وأبو ذر وأبو رهم الغفاريان، وبلال بن الحرث وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنيان وغيرهم، والواقدي لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف، لكن يحتمل أن يكون من لم يسمه الواقدي من الأنصار فأطلق الأنصار تغليبا، أو قيل للجميع أنصار بالمعنى الأعم. فتح الباري (1/340) . قلت: وذكر الواقدي في المغازي أن فيهم أيضا: جعال بن سراقة، وصفوان بن معطل، وأبو روعة معبد بن خالد الجهني، وعبد الله بن بدر، وسويد بن صخر، وأبو ضبيس الجهني. مغازي (2/571) . 5 وقع تسميته في حديث سلمة بن الأكوع السابق ذكره وفيه: "فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلا من المسلمين كبيرهم كرز بن جابر الفهري" وكذا ذكره ابن إسحاق. ابن هشام، سيرة (2/641) ، والواقدي، مغازي (2/569) ، وابن سعد، طبقات (2/93) . يقول ابن حجر: وفي مغازي موسى بن عقبة: أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد، كذا عنده بزيادة ياء، والذي ذكره غيره أنه سعد –بسكون العين- ابن زيد الأشهلي، وهذا أيضا أنصاري، فيحتمل أنه كان رأس الأنصار، وكان كرز أمير الجماعة، وروى الطبري وغيره من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في آثارهم لكن إسناده ضعيف، والمعروف أن جريرا تأخر إسلامه عن هذا الوقت بمدة. والله أعلم. فتح الباري (1/340) . 6 أورد ذلك مسلم في رواية معاوية بن قرة عن أنس. مسلم بشرح النووي (1/335) والقايف: بالقاف والتحتية، الذي يتتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، والجمع: القافة. انظر القاموس،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الحالة الأمنية التي تتطلب سرعة القبض على هؤلاء المجرمين المفسدين في الأرض، والاقتصاص منهم فورا وبحزم؛ نتيجة ما قاموا به من إخلال وزعزعة بالأمن، وغدر وخيانة ونكران للجميل، إضافة إلى ارتدادهم عن الإسلام. انطلقت الدورية في (مسير اقترابي سريع ومتقن) 1، يتقدمُّها القائف، وكما هو مخطط له تم القبض على العصابة في وقت وجيز جدًّا "فما ترجَّل النهار حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وَمَا حَسَمَهم، ثم أُلقوا في الحرة يستسقون، فما سقوا حتى ماتوا"2. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "فرأيت الرجل منهم يكدم3 الأرض بلسانه حتى يموت"45. وقد ذكر بعض أهل العلم أن الله تعالى أنزل فيهم قوله تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 6.   =واللسان (قاف) ، وانظر الشامي، سبل (6/192) . 1 مسير الاقتراب: هو الحركة من القاعدة إلى الهدف. خطّاب، الرسول القائد (ص 116) . 2 من رواية أبي قلابة عن أنس في كتاب الحدود. ابن حجر، فتح (12/111) . 3 كدمه ويكدمه: عضَّه بأدنى فمه. (القاموس – كدمه) . 4 من رواية ثابت عن أنس في الطب. ابن حجر، فتح (10/141) . 5 خبر السرية صحيح متفق عليه. فقد أخرجه البخاري في صحيحه في مواطن عدة. انظر ابن حجر، فتح (1/335، 6/153، 10/141-142، 178، 12/109-111-112) . وأخرجه مسلم أيضا في صحيحه. انظر صحيح مسلم بشرح النووي (11/154-155-156-157) وأخرجه أصحاب السنن. انظر أبا داود، سنن (4/531-532-534-535-536) ، والمباركفوري، تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي (6/195) ، والنسائي، سنن (7/93-94-95-96-97-98-100-101) ، والألبياني، صحيح سنن ابن ماجه (2/86) ، وعبد الرزاق، المصنف (10/106، 107) وابن أبي شيبة، المصنف (12/262) . كما أخرجه الطبري في التفسير (4/206-207-208) وابن كثير، تفسير (2/48-49-50-51) ، وأخرجه أصحاب المغازي كابن إسحاق انظر ابن هشام، سيرة (4/640-641) ، والواقدي، مغازي (2/568-569-570-571) ، ابن سعد، طبقات (2/93) ، ابن سيد الناس، عيون (2/119-120-121) . 6 المائدة –آية (33) . هذا وقد اختلف أهل العلم في سبب نزول هذه الآية، فقيل: نزلت فيهم وقيل في غيرهم. لكن المعتمد –يقول ابن حجر -: إن الآية نزلت أولا فيهم وهي تتناول بعمومها من حارب من المسلمين بقطع الطريق. ابن حجر، فتح (12/110) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وقد يتصور البعض أن هذا العقاب كان جائرا وشديدا، لكن بالنظر إلى ما قام به هؤلاء من جرائم، وقياسا لما فعلوه من أعمال لا يقرها العقل؛ فضلا عن الدين الذي تمرَّدوا عليه وارتدوا عنه، فنقول: إن العقاب الذي نالهم كان عادلا وكان الجزاء من جنس العمل فهم قد ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا وسرقوا ومثَّلوا وحاربوا الله ورسوله واستهانوا بكل المبادىء والقيم الإنسانية. وفي القصة من الفوائد: مشروعية الطب والتداوي بألبان الإبل وأبوالها، وقد اختلف في طهارة أبوال الإبل وغيرها من مأكول اللحم. فاحتج مالك وأحمد وطائفة من السلف ووافقهم من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان والأصطخري والروياني بهذا الحديث على طهارة بول الإبل، ويقاس عليها مأكول اللحم من غيرها، وذهب الشافعي والجمهور إلى القول بنجاسة الأبوال والأرواث كلها من مأكول اللحم وغيره. واحتج ابن المنذر بقوله: توزن الأشياء على طهارة حتى تثبت النجاسة، قال: ومن زعم أن هذا خاص بأولئك الأقوام لم يصب إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل. قال: وفي ترك أهل العلم بيع الناس أبعار الغنم في أسواقهم واستعمال أبوال الإبل في أدويتهم قديما وحديثا من غير نكير دليل ظاهر. قال الحافظ: وهو استدلال ضعيف، لأن المختلف فيه لا يجب إنكاره فلا يدل ترك إنكاره على جوازه فضلا عن طهارته. وقد دلَّ على نجاسة الأبوال حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دعوه وأهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسِّرين". وكان القاضي أبو بكر بن العربي الذي تعلق بهذا الحديث ممن قال بطهارة أبوال الإبل، وعورض بأنه أذن لهم في شربها للتداوي.وتعقب بأن التداوي ليس حال ضرورة بدليل أنه لا يجب،فكيف يباح الحرام بما لا يجب؟ وأجيب بمعنى أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ليس بحال ضرورة، بل هو حال ضرورة إذا أخبره بذلك من يعتمد على خبره، وما أبيح لضرورة لا يسمى حراما، وقد تأوله لقوله تعالى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 1 فما اضطر إليه المرء فهو غير محرم عليه كالميتة للمضطر، والله تعالى أعلم. قال الحافظ: وما تضمنه كلامه من أن الحرام يباح ولا الأمر واجب غير مسلَّم، فإن الفطر في رمضان حرام، ومع ذلك فيباح لأمر جائز كالسفر مثلا. وأما قول غيره: ولو كان نجسا ما جاز التداوي به لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها". رواه أبو داود من حديث أم سلمة، فجوابه أن الحديث محمول على حالة الاختيار. وأما في حالة الضرورة فلا يكون حراما كالميتة للمضطر، ولا يردُّ قوله صلى الله عليه وسلم في الخبر "إنها ليست بدواء، إنها داء" في سؤال من سأل عن التداوي بها فيما رواه مسلم، فإن ذلك خاص بالخمر ويلتحق بها غيرها من المسكر. والفرق بين المسكر وغيره من النجاسات أن الحديث باستعماله في حالة الاختيار دون غيره، ولأن شربه يجرُّ إلى مفاسد كثيرة، لأنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن في الخمر شفاء فجاء الشرع بخلاف معتقدهم. قاله الطحاوي بمعناه. قال الشيخ تقي الدين السبكي: كان في الخمر منفعة في التداوي بها، فلما حرِّمت نزع الله الدواء منها، وأما أبوال الإبل فقد روى ابن عباس –رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في أبوال الإبل شفاء للذربة بطونهم". والذَّرب- بذال معجمة فساء المعدة. فلا يقاس ما ثبت أن فيه دواء على ما ثبت نفي الدواء عنه، وبهذا الطريق يحصل الجمع بين الأدلة والعمل بمقتضاها2.   1 من الآية (119) من سورة الأنعام. 2 انظر ابن حجر، فتح (1/341-342) ، والشامي، سبل (6/187-188) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وذكر ابن القيم: أن الصواب هو طهارة بول مأكول اللحم، فإن التداوي بالمحرمات غير جائز، ولم يؤمروا مع قرب عهدهم بالإسلام بغسل أفواههم، وما أصابته ثيابهم من أبوالها للصلاة، وتأخير البيان لا يجوز عن وقت الحاجة1. وفيها من الفوائد أيضا: قتل الجماعة بالواحد سواء قتلوه غيلة أو حرابة، إن قلنا إن قتلهم كان قصاصا، وعلى مقاتلة الجاني بمثل ما فعل أي المماثلة في القصاص وليس ذلك من المثلة المنهي عنها، فإن هؤلاء قتلوا الراعي وسملوا عينيه، ثبت ذلك في صحيح مسلم، وعلى أن الجنايات إذا تعددت، تغلَّظت عقوباتها، فإن هؤلاء ارتدوا بعد إسلامهم، وقتلوا النفس ومثلوا بالمقتول، وأخذوا المال، وجاهروا بالمحاربة. وفيها: ثبوت حكم المحاربة في الصحراء، وأما القرى ففيه خلاف، كما أن حكم ردء المحاربين حكم مباشرهم، فإنه من المعلوم أن كل واحد منهم لم يباشر القتل بنفسه، ولا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وعلى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدًّا، فلا يسقطه العفو، ولا تعتبر فيه المكافأة، وهذا مذهب أهل المدينة، وأحد الوجهين في مذهب أحمد. وفيها: جواز استعمال أبناء السبيل إبل الصدقة في الشرب وفي غيره، قياسا عليه بإذن الإمام. وفيها: العمل بقول القائف، وللعرب في ذلك المعرفة التامة2.   1 ابن القيم، زاد المعاد (4/48) . 2 انظر ابن حجر، فتح (1/341-342) ، والشامي، سبل (6/187-188) ، وابن القيم، زاد المعاد (4/84) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 سرية حمزة بن عمرو الأسلمي لمطاردة هبار بن الأسود ... بعد انتهاء معركة بدر بفوز ساحق للمسلمين على مشركي قريش وقتل من قُتل من أشرافهم وصناديدهم، وأسر من أُسر منهم، كان من بين الأسرى أبو العاص بن الربيع ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته الكبرى زينب رضي الله عنها1. فلما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب رضي الله عنها في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أدخلتها بها عليه حين بنى بها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك القلادة تأثر كثيرا فطلب من آسريه أن يطلقوه لها ويردوا عليها مالها ففعلوا إكراما لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه، أو وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلَّي زينب إليه"2 فلما قدم أبو العاص مكة أوفى بوعده لرسول الله صلى الله عليه وسلم3، فأمر زينب باللحوق بأبيها فأخذت تتجهز للسفر. فلما فرغت من جهازها خرجت "مع كنانة أو ابن كنانة4 فخرجوا في أثرها، فأدركها هبَّار بن الأسود،   1 زينب بنت سيد ولد آدم محمد بن عبد الله القرشية الهاشمية، هي أكبر بناته وأول من تزوج منهن، ولدت قبل البعثة بمدة قيل إنها عشر سنين، وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع العبشمي، توفيت في أول سنة ثمان من الهجرة، وكانت ولدت من أبي العاص عليًّا مات وقد ناهز الاحتلام، وأمامة عاشت حتى تزوجها عليّ بعد فاطمة. ابن سعد، طبقات (3/30-31-34) ، وابن حجر، إصابة (4/312-313) . 2 من رواية ابن إسحاق بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها. انظر البيهقي، دلائل (3/154) . 3 وقد مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك في حديث ورد في الصحيح. انظر ابن حجر، فتح (7/85) . 4 ترجم له ابن عبد البر على أنه: كنانة بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس ابن أخي أبي العاص بن الربيع. أما ابن حجر فذكر أنه ابن عم أبي العاص. انظر ابن حجر، إصابة (4/308) ، والاستيعاب بهامش الإصابة (4/320) وذلك خلافا لابن إسحاق الذي ذكر أنه أخو أبي العاص. انظر ابن هشام، سيرة (2/654) ، والبيهقي، دلائل (3/155) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها، وألقت ما في بطنها، وأهريق دمًا1"2. ويذكر ابن إسحاق أن رجلا يدعى نافع بن عبد قيس الفهري قد شارك هبّارا في التعرض لزينب وترويعها3. تأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصاب زينب رضي الله عنها فكان يقول: "هي أفضل بناتي أصيبت فيَّ" 4، ثم أرسل زيد بن حارثة رضي الله عنه ليأتيه بها وأعطاه خاتمه كعلامة بينهما "فانطلق زيد فلم يزل يتلطف، حتى لقي راعيًا فقال لمن ترعى؟ قال: لأبي العاص، قال: فلمن هذه الغنم؟ قال: لزينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم فسار معه شيئا، ثم قال: هل لك إن أعطيتك شيئا تعطه إياها ولا تذكره لأحد؟ قال: نعم، فأعطاه الخاتم وانطلق الراعي فأدخل غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته، فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل، قالت: وأين تركته؟ قال: بمكان كذا وكذا، فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه، فلما جاءته قال لها: اركبي بين يدي على بعيري، فقالت: لا، ولكن اركب   1 أي صبَّ منها الدم. (القاموس واللسان – هرق) . 2 من رواية عروة عن عائشة وسنده جيد، كما ذكر ابن حجر. انظر الطبراني، معجم (22/431) ، والحاكم، المستدرك (4/43) ، والهيثمي، مجمع (9/213) وقال عنه: رجاله رجال الصحيح، وانظر ابن حجر، فتح (7/109) 3 انظر ابن هشام سيرة (4/657) ، والبيهقي، دلائل (3/155) . قال ابن حجر: وحكى السهيلي عن مسند البزار أنه خالد بن عبد قيس فلعله تصحَّف عليه، وإنما هو نافع، كذلك هو في النسخ المعتمدة من مسند البزار. وكذلك أورده ابن بشكوال من مسند البزار. وأخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه من طريق ابن لهيعة كذلك. فتح الباري (6/150) . 4 من رواية عروة عن عائشة. الطبراني، معجم (22/432) ، والبيهقي، دلائل (3/156) ، وورد في نهاية الرواية أن علي بن الحسين لما بلغه حديث عروة انطلق إليه فقال: "ما حديث بلغني عنك تحدثه تنتقص فيه فاطمة عليها السلام؟ فقال عروة: والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة عليها السلام حقًّا هو لها، وأما بعد فلك أن لا أحدثه أبدا". وللإجابة على هذا اللبس قال بعض الأئمة: بتقدير ثبوته بأن ذلك كان متقدما، ثم وهب الله لفاطمة من الأحوال السنية والكمال ما لم يشاركها أحد من نساء هذه الأمة مطلقا، والله أعلم. انظر ابن حجر، فتح (7/106) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 أنت بين يدي، فركب وركبت وراءه حتى أتت المدينة"1. وظلت زينب رضي الله عنها متأثرة نتيجة تلك السقطة "فلم تزل وَجِعةً حتى ماتت من ذلك الوجع فكانوا يرون أنها شهيدة"2. وتوفيت رضي الله عنها سنة ثمان من الهجرة3، فكان أن أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دم هبَّار وصاحبه يوم فتح مكة وذلك لعداوتهما لله ورسوله ولما تسببا فيه من موت زينب رضي الله عنها، ثم جهَّز صلى الله عليه وسلم سرية تعقيبية بإمرة حمزة بن عمرو الأسلمي4 وبمشاركة أبي هريرة رضي الله عنه، وبعثهم في طلب هبَّار وصاحبه اللذين هربا من مكة، وأصدر أوامره إلى أفراد السرية بتحريقهما بالنار إن قدروا عليهما، ولكنه عاد فتراجع عن التحريق، فلما أتى أصحاب السرية لتوديعه عليه الصلاة والسلام قال لهم: "إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما" 5، وانطلقت السرية لتنفيذ المهمة6، ولكنها لم تنجح في القبض عليهما، وأفلت هبَّار وصاحبه فلم تصبها السرية.   1 من رواية عروة، عن عائشة. انظر الطبراني، المعجم (22/431-432) ، والبيهقي، دلائل (3/156) ، واللفظ له. 2 من رواية حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه. انظر الطبراني، المعجم (22/432) وقال عنه الهيثمي: وهو مرسل ورجاله رجال الصحيح. الهيثمي، المجمع (9/216) . 3 ذكر ذلك ابن سعد عن الواقدي، وذكره ابن عبد البر. انظر ابن سعد، طبقات (8/43) . وابن عبد البر، استيعاب (4/1854) . 4 ترجم له ابن عبد البر: حمزة بن عمر الأسلمي –بدون واو- من ولد أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمر ابن عامر، يكنى أبا صالح، وقيل: يكنى أبا محمد، يعد في أهل الحجاز، مات سنة إحدى وستين وهو ابن إحدى وسبعين سنة، ويقال: ابن ثمانين سنة، روى عنه أهل المدينة وكان يسرد الصوم. ولم أجد له ترجمة في حرف الحاء من "الإصابة"، بينما ذكر ابن حجر في الكنى أن ترجمته تقدمت. إصابة (4/107) فربما سقط اسمه من بعض النساخ، والله أعلم. 5 من رواية البخاري، عم أبي هريرة. ابن حجر، فتح (6/149) . 6 لم تذكر روايات الصحيح وغيرها تاريخا محددا لهذه السرية، ويمكن أن نستشف لها تاريخا من خلال الروايات، فمشاركة أبي هريرة في السرية يدل على أن السرية كانت بعد خيبر وفتح مكة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دم هبار وصاحبه أثناء الفتح. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وظل هبَّار هاربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وجه. ولكنه ما أن علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعفو عن كل من جاءه مسلما معتذرا، حتى أسرع لمقابلته حيث لقيه منصرفه من الجعرَّانة1 كما يذكر الواقدي2. وهناك وقف على رأسه معلنًا إسلامه واعتذاره عما بدر منه تجاه ابنته، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل منه3.   1 الجعرانة –بكسر الجيم والعين وتشديد الراء المهملة- ما بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أدنى، وبها قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين، ومنها أحرم بعمرته، والجعرانة اليوم قرية صغيرة في صدر وادي سِرْف فيها مسجد يعتمر منه أهل مكة المكرمة ولها مركز إمارة وتربطها بمكة طريق معبدة، وفيها زراعة قليلة، وماؤها يُضرب المثل بعذوبته. انظر البكري، معجم (2/384) ، والحموي، معجم (2/142) ، والبلادي، معالم مكة (64) . 2 الواقدي، مغازي (2/858) . وقد رجح ابن حجر روايته على رواية ابن أبي نجيح التي ذكر أنه أسلم ثم هاجر، وقد صوَّب ابن حجر رواية الزبير بن بكار التي ذكرت أن هبَّارا أسلم ثم قدم المدينة ... إلخ. انظر ابن حجر، إصابة (3/597-598) . ولكن عم الزبير وشيخه المصعب بن عبد الله الزبيري ذكر في روايته المشابهة لرواية الزبير أنه قدم مسلما مهاجرا. انظر المصعب بن عبد الله الزبيري، نسب قريش (6/219) فليتأمل ذلك. 3 الحديث مقسوم ثلاثة أجزاء، جزء مسند صحيح، وجزء إسناده جيد، والثالث متوقف فيه. فالقسم الصحيح هو قصة بعث السرية، فقد رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة من طريقين أحدهما مسند في (باب لا يعذب بعذاب الله) ، والآخر معلق في باب (التوديع) كلاهما في كتاب الجهاد من فتح الباري (6/115، 149) وقد وصل الترمذي المعلق بنفس طريق البخاري المسند وقال عنه: حديث حسن صحيح. انظر المباركفوري، تحفة (6/149) . كما روى الحديث أبو داود من طريقه عن حمزة بن عمرو الأسلمي وصحح ابن حجر إسناده. انظر أبا داود، سنن (3/124) ، وابن حجر، فتح (6/149) . كما رواه عبد الرزاق في المصنف (5/214) ، وأحمد في المسند بإسناد جيد كما قال البنا. انظر الفتح الرباني (14/67-68) . ورواه ابن إسحاق بسند صرَّح فيه بالتحديث. انظر ابن هشام، سيرة (4/657) . أما الجزء الخاص بسبب بعث السرية، فقد رواه عروة عن عائشة، وأخرجه كل من الحاكم، والبيهقي بسند جيد، كما ذكر ابن حجر. انظر الحاكم، المستدرك (4/43) ، والبيهقي، دلائل (3/154-156) وانظر ابن حجر، فتح (7/109) . وكان القسم المتوقف فيه وهو قصة إسلام هبّار بن الأسود من رواية الواقدي، والواقدي متروك عند المحدثين خاصة إذا انفرد كما فعل هنا. ولكن الرواية تاريخية ونحتاج إليها لتكملة الإطار التاريخي للحادثة، فنذكرها استئناسًا بها مع التوقف فيها، ويمكن أن تعتضد هذه الرواية برواية مرسلة عن ابن شهاب الزهري، أشار إليها ابن حجر في الإصابة. انظر ابن حجر، إصابة (3/598) . وقد روى الحديث كاملا المصعب بن عبد الله الزبيري، نسب قريش (6/219) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 فيا له من موقف رائع تجلَّت فيه سماحة الإسلام بأبهى صورها ومعانيها، ولا غرابة في ذلك، فهو نبي الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم. ورد في ثنايا ههذه القصة بعض الأحكام، أوردها ابن حجر وغيره، منها حكم التحريق بالنار، قال ابن حجر: واختلف السلف في التحريق فكره ذلك عمر، وابن عباس، وغيرهما مطلقا سواء كان ذلك بسبب كفر أو في حالة مقاتلة أو كان قصاصا، وأجازه علي، وخالد بن الوليد وغيرهما. وقال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم، بل على سبيل التواضع، ويدلُّ على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين بالحديد المحمى، وقد حرَّق أبو بكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة، وحرَّق خالد بن الوليد بالنار أناسا من أهل الردة، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها. قاله الثوري والأوزاعي. وقال ابن المنير: لا حجة فيما ذُكر للجواز لأن قصة العرنيين كانت قصاصا أو منسوخة كما تقدم، وتجويز الصحابي معارَض بمنع صحابي آخر، وقصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة إلى ذلك إذا تعين طريقا للظفر بالعدو، ومنهم من قيده بأن لا يكون معهم نساء ولا صبيان كما تقدم. وأما حديث وأما حديث الباب فظاهر النهي فيه التحريم، وهو نسخ لأمره المتقدم سواء كان بوحي إليه أو اجتهاد منه. وهو محمول على من قصد إلى ذلك في شخص بعينه. وقد اختلف في مذهب مالك في أصل المسألة، وفي التدخين، وفي القصاص بالنار1. وقال البغوي: فأما تحريق الكافر بعد ما وقع في الأسر، وتحريق المرتد، فذهب عامتهم إلى أنه لا يجوز إنما يقتله بجزِّ الرقبة2. أما الخطابي فقال: إنما يكره إذا كان الكافر أسيرا قد ظفر به وحصل في   1 ابن حجر، فتح (6/150) . 2 البغوي، شرح السنة (11/55) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الكف، وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرم النار على الكفار في الحرب، وقال لأسامة: "أَغِر على أُبني صباحا وحرّق". ورخَّص سفيان الثوري والشافعي في أن يرمى أهل الحصون بالنيران، إلا أنه يستحب أن لا يرموا بالنار ما داموا يطاقون إلا أن يخافوا من ناحيتهم الغلبة فيجوز حينئذ أن يقذفوا بالنار1. - وفي الحديث جواز الحكم بالشيء اجتهادا ثم الرجوع عنه. - أيضا استحباب ذكر الدليل عند الحكم لرفع الإلباس. - كما يستفاد منه جواز الاستنابة في الحدود ونحوها. - كما أن طول الزمان لا يرفع العقوبة عمن يستحقها. - كراهة قتل مثل البرغوث بالنار. - نسخ السنة بالسنة وهو اتفاق. - مشروعية توديع المسافر لأكابر أهله، وتوديع أصحابه له أيضا. - جواز نسخ الحكم قبل العمل به، أو قبل التمكن من العمل به، وهو اتفاق إلا عن بعض المعتزلة فيما حكاه أبو بكر بن العربي، وهذه المسألة غير المشهورة في الأصول في وجوب العمل بالناسخ قبل العلم به. وقد اتفقوا على أنهم إن تمكنوا من العلم به ثبت حكمه في حقهم اتفاقا، فإن لم يتمكنوا فالجمهور أنه لايثبت. وقيل: يثبت في الذمة كما لو كان نائما ولكنه معذور. ذكر هذه الأحكام ابن حجر في الفتح2. ويستفاد أيضا من هذا الحديث تحقيق بشريته صلى الله عليه وسلم فهو بشر كغيره من البشر   1 انظر الخطابي، شرح سنن أبي داود (3/124) حاشية (2) . 2 انظر ابن حجر، فتح (6/150-151) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 يعتريه الغضب والحزن والتأثر لمصاب أبنائه وأقاربه، ولكن ذلك لا يخرجه عن طوره ولا يطغيه عن الحق، فغضبه لا يعدو لحظات يتراجع بعدها، فيفيض رحمة ورأفة، فها هو بعد أن يصدر أوامره الشريفة لأصحاب السرية بتحريق الرجلين قصاصا لما ارتكبوه من محاربة الله ورسوله، يتراجع عن ذلك فينهاهم عن التحريق، لأن النار لا يعذب بها إلاَّ الله عز وجل. وفي ذلك أيضا أدب رفيع مع الله سبحانه وتعالى وتواضع له. ثم ها هو عليه الصلاة والسلام يعفو ويصفح عن هبَّار رغم فظاعة وجرم ما ارتكبه، ومع من؟ مع أقرب الناس إليه. ولكن الغضب والحنق الشديدين يتحولان في لحظة إسلام هبَّار إلى رحمة وإلى تسامح وإلى فرح غامر بإسلام رجل كان كافرًا، محادًّا لله ورسوله. وهذه هي تعاليم الإسلام السمحة التي تقول: إن الإسلام يجُبُّ ما قبله" يطبقها المصطفى صلى الله عليه وسلم بحذافيرها جاعلا عن نفسه القدوة لأمته، فيا له من موقف رائع عظيم مليء بالدروس والعبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 سربة أبي عامر الأشعري إلى أوطاس ... سرية أبي عامر إلى أوطاس (مطاردة تعقُّبية)   1 المطاردة: تعبير عسكري يقصد به تعقُّب القوات المعادية المنسحبة لإحداث الخسائر فيها، ومحاولة قلب انسحابها إلى هزيمة. خطَّاب، الرسول القائد (188) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 "لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين"1 أرسل سرية مطاردة تعقُّبية2 بقيادة أبي عامر الأشعري3 رضي الله عنه وكان ضمن أفرادها أبو موسى الأشعري4 وأبو سعيد الخدري5 رضي الله عنهما، وذلك لمطاردة الفارين من هوازان وجشم الذين كان على رأسهم دريد بن الصِّمة الجشمي6 -للإجهاز مبكرًا   1 من رواية البخاري عن أبي موسى. ابن حجر، فتح (8/41) . 2 التعقُّب: عمل هجومي ضد العدو المتراجع، حيث تطبق القوة المتقدمة إما أسلوب الضغط المباشر أو خليطا من الضغط المباشر وحركة التطويق، بغرض إبادة العدو. باهر، مصطلحات (27) . 3 اسمه عبيد بن سليم بن حضَّار الأشعري، ذكره ابن قتيبة فيمن هاجر إلى الحبشة فكأنه قدم قديما فأسلم، وذكر أنه كان عمى ثم أبصر. راجع ابن حجر، فتح (8/42) وإصابة (4/123) ترجمة أبي عامر. 4 هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار الأشعري، مشهور بكنيته، ذكر الواقدي: بأنه من مهاجرة الحبشة بعد حلفه في مكة مع سعيد بن العاص، ولكن موسى بن عقبة، وابن إسحاق، والواقدي في رواية أخرى: لم يذكروه في مهاجرة الحبشة، وإنما قدم مع أصحاب السفينة بعد أن التقت سفينته بسفينتهم فقدموا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض اليمن، وولي البصرة لعمر وعثمان، وله بها فتوح كثيرة، وولي الكوفة، ثم كان أحد الحكمين بصفين ثم اعتزل الفريقين، كان خفيف الجسم قصيرا، وكان حسن الصوت بالقرآن. وفي الصحيح المرفوع: "لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود" وكان أبو موسى هو الذي فقه أهل البصرة وأقرأهم. قال ابن المديني: قضاة الأمة أربعة: عمر، وعلي، وأبو موسى، وزيد بن ثابت. قال البغوي: بلغتي أن أبا موسى مات سنة اثنتين، وقيل: أربع وأربعين وهو ابن نيف وستين. قال ابن حجر: بالأول جزم ابن نمير وغيره، وبالثاني أبو نعيم وغيره. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: عاش ثلاثا وستين. وقال الهيثمي وخليفة: مات سنة خمسين. وزاد خليفة: ويقال: سنة إحدى وخمسين. وقال المدائني: سنة ثلاث وخمسين. واختلفوا هل مات بالكوفة أو بمكة. انظر خليفة، طبقات (68) ، وابن سعد، طبقات (4/105-106) ، وابن حجر، إصابة (2*359-360) . 5 سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن الأبجر، وهو عذرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، مشهور بكنيته، استصغر بأحد، واستشهد أبوه بها وغزا هو ما بعدها، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير. ابن حجر، إصابة (2/3) . ولم تذكر روايات الصحيحين غيرهما، حيث ورد ذكر أبي موسى عند البخاري، وأبي سعيد عند مسلم في رواية أخرى عن السرية سنتعرض لها لاحقا، وسيأتي أيضا في رواية أن الزبير بن العوام رضي الله عنه كان ضمن المشاركين في السرية. 6 قال ابن حجر: أما الصمِّة –فهو بكسر المهملة وتشديد الميم- أي ابن بكر بن علقمة، ويقال ابن الحارث بن بكر بن علقمة الجشمي –بضم الجيم وفتح المعجمة- من بني جشم بن بكر بن هوازن، فالصمة لقب لأبيه واسمه الحارث، وكان دريد من شعراء الفرسان المشهورين في الجاهلية. ابن حجر، فتح (8/42) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 على أي تحشد آخر لهم مضاد للمسلمين، حيث التقوا بهم في وادٍ يسمى أوطاس1، وهناك دارت معركة قوية بين الطرفين قتل فيها دريد بن الصِّمة. "وهزم الله أصحابه"2 بعد أن "أفضى فيهم إلى الذرية"3 1 قال عياض: هو واد في دار هوازن، وهو موضع حرب حنين. وهذا الذي قاله ذهب إليه أهل السير، والراجح أن أوطاس غير وادي حنين، ويوضح ذلك ما ذكر ابن إسحاق أن الوقعة كانت في وادي حنين، وأن هوازن لما انهزموا صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى بجيلة، وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عسكرا مقدمهم أبو عامر الأشعري إلى من مضى إلى أوطاس، كما يدل عليه حديث الباب، ثم توجه هو وعساكره إلى الطائف. ابن حجر، فتح (8/42) . وقال البكري: أوطاس –بفتح أوله، وبالطاء والسين المهملتين، واد في ديار هوازن وهناك عسكروا هم وثقيف، إذ أجمعوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتقوا بحنين. البكري، معجم ما استعجم (1/212) . وذكر الحربيّ: أن بأوطاس قصورا، وأبياتا، وحوانيت، ويركة، يسرة، ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرضع في تلك الناحية، وثمّ مسجد يقال له مسجد عائشة رضي الله عنها، بناه عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عم المنصور. أما البلادي فقال: أوطاس سهل يقع على طريق حاج العراق إذا أقبل من نجد قبل أن يصعد الحرة، فالحاج إذا تسهل من كشب مرّ بطريق وجزة الشمالي، ثم في غمرة وبها بركة تنسب إلى زبيدة، ثم يجزع وادي العقيق –وليس هذا بعقيق المدينة- ثم يسير في أوطاس ساعة، فهي ضفة العقيق اليسرى، ثم يصعد الحرة، فَيَرِدِ الضريبة الميقات، فهي شمال شرقي مكة، وشمال بلدة عشيرة، وتبعد عن مكة قرابة (190) كيلا على طريق متعرجة. البلادي، معجم المعالم الجغرافية في السيرة (34) . 2 من رواية البخاري عن أبي موسى. ابن حجر، فتح (8/41) قال: واختلف في قاتله، فجزم محمد بن إسحاق بأنه ربيعة بن رفيع –بفاء مصغَّر- ابن وهبان بن ثعلبة بن ربيعة السلمي، وكان يقال له: ابن الذعنة –بمعجمة ثم مهملة، ويقال: بمهملة ثم معجمة- وهي أمه. وقال ابن هشام: يقال اسمه عبد الله بن قبيع بن أهبان، وساق بقية نسبه، ويقال له –أيضا- ابن الذعنة وليس هو ابن الذعنة المذكور في قصة أبي بكر في الهجرة. وروى البزار في مسند أنس بإسناد حسن ما يشعر بأن قاتل دريد هو الزبير بن العوام، ولفظه "ولما انهزم المشركون انحاز دريد بن الصمة في ستمائة نفس على أكمة فرأوا كتيبة، فقال: خلوهم لي، فخلوهم، فقال: هذه فضاعة ولا بأس عليكم، ثم رأوا كتيبة مثل ذلك فقال: هذه سليم، ثم رأوا فارسًا وحده، فقال: خلوه لي، فقالوا: معتجر بعمامة سوداء، فقال: هذا الزبير بن العوام، وهو قاتلكم ومخرجكم من مكانكم هذا، قال: فالتفت الزبير فرآهم فقال: علام هؤلاء ههنا؟ فمضى إليهم وتبعه جماعة فقتلوا منهم ثلثمائة، فحزَّ رأس دريد بن الصمّة فجعله من يديه. ويحتمل أن يكون ابن الذعنة كان في جماعة الزبير فباشر قتله فنُسبب إلى الزبير مجازا. ويقال: إنه لما قتل ابن عشرين، ويقال: ابن سنتين ومائة سنة. ابن حجر، فتح (8/42) . وروى البيهقي بإسناده إلى الشافعي قال: قتل يوم حنين دريد بن الصمة ابن خمسين ومائة سنة في شجار لا يستطيع الجلوس، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر قتله.البيهقي، سنن (9/92) . 3 رواه أحمد عن الأسود بن سريع ولفظه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية يوم حنين فقاتلوا المشركين فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فلما جاءوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حملكم على قتل الذريّة؟ " قالوا: يا رسول الله إنما كانوا أولاد المشركين. قال: "وهل خياركم إلا أولاد المشركين ... ". الحديث. البنا، الفتح (14/65) وقال عنه: ورجاله رجال الصحيح. كما رواه البيهقي، سنن (9/130) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وسبوا نساءهم،1 وأصيب قائد السرية إصابةً قاتلةً إذ "رماه جشمي2 بسهم فأثبته في ركبته"3. قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ابن أخي أبي عامر: "فانتهيت إليه فقلت: يا عم4 من رماك؟ فأشار إلى أبي موسى فقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدت له، فلحقته، فلما رآني ولَّى، فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي ألا تثبت فكف، فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم، فنزعته فنزا منه5 الماء"6، وكأن الجرح قد التهب على أبي عامر التهابا حادًّا عرف منه قرب   1 وقع ذلك في رواية أبي سعيد الخدري عند مسلم ولفظها "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوّا لهم فقاتلوهم فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا.. إلخ الحديث". صحيح مسلم بشرح النووي (10/35) . كما رواه النسائي. الألباني، صحيح سنن النسائي (2/70) وقال عنه: صحيح. والترمذي، الألباني، صحيح الترمذي (3/37) . 2 قال ابن حجر: اختلف في اسم هذا الجشمي، فقال ابن إسحاق: زعموا أن سبمة بن دريد بن الصمّة هو الذي رمى أبا عامر بسهم فأصاب ركبته فقتله، وأخذ الراية أبو موسى الأشعري فقاتلهم ففتح الله عليه. وقال ابن هشام: حدثني من أثق به أن الذي رمى أبا عامر أخوان من بني جشم وهما: أوفى، والعلاء ابنا الحارث، وفي نسخة: وافي بدل أوفى، فأصاب أحدهما ركبته، وقتلهما أبو موسى الأشعري. وعند ابن عائذ، والطبراني في الأوسط من وجه آخر عن أبي موسى الأشعري بإسناد حسن: "لما هزم الله المشركين يوم حنين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل الطلب أبا عامر الأشعري، وأنا معه، فقتل ابن دريد أبا عامر، فعدلت إليه فقتلته وأخذت اللواء" الحديث. فهذا يؤيد ما ذكره ابن إسحاق. قلت: روى هذا الحديث الذي ذكره ابن حجر –أحمد في مسنده. انظر البنا، الفتح (21/176) . وقال ابن حجر: وذكر ابن إسحاق في المغازي -أيضا- أن أبا عامر لقي يوم أوطاس عشرة من المشركين إخوة فقتلهم واحدا بعد واحد، حتى كان العاشر فحمل عليه وهو يدعوه إلى الإسلام وهو يقول: اللهم اشهد عليه، فقال الرجل: اللهم لا تشهد عليَّ فكف عنه أبو عامر ظنًّا منه أنه أسلم فقتله العاشر، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسميه شهيد أبي عامر. وهذا يخالف الصحيح أن أبا موسى قتل قاتل أبي عامر، وما في الصحيح أولى بالقبول، ولعل الذي ذكره ابن إسحاق شارك في قتله. ابن حجر، فتح (8/42-43) . 3 من رواية البخاري عن أبي موسى. ابن حجر، فتح (8/41) . 4 في ذلك خلاف، قال ابن حجر: هو عمُّ أبي موسى. وقال ابن إسحاق: هو ابن عمه. والأول أشهر. انظر ابن حجر، فتح (8/42-43) . 5 نزا منه الماء: أي ظهر وارتفع وجرى ولم ينقطع. النووي، صحيح مسلم بشرح النووي (16/60) . 6 من رواية أبي موسى عند البخاري. ابن حجر، فتح (8/41) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 منيته1، فأوصى ابن أخيه أن يقرىء النبي صلى الله عليه وسلم منه السلام ويطلب منه أن يستغفر له، وذلك بعد أن استخلفه على قيادة السرية "فمكث يسيرا ثم مات"2. ويرجع أبو موسى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل عليه بيته، حيث يصف لنا الحالة التي وجد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنعرف مدى ما كان عليه من الزهد وشظف العيش، وهو الذي لو أراد لحيزت له الدنيا بأسرها. يقول أبو موسى: "دخلت عليه وهو في بيت على سرير مرمل3، وعليه فراش وقد أثَّر رمال السرير بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجنبيه، فأخبرته بخبرنا، وخبر أبي عامر، وقلت له: قال: قل له: يستغفر لي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ، ثم رفع يديه ثم قال: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر، حتى رأيت بياض إبطيه ثم قال: اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك، أو من الناس. فقلت: ولي يا رسول الله فاستغفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما" 4 5.   1 وذلك لعدم وجود العقاقير والمضادات الحيوية المعروفة اليوم، والتي تعالج بها الجروح الملتهبة، والتي عرفت بعد اكتشاف البنسلين الذي أنقذ الله به الملايين من جرحى الحروب وغيرهم. 2 من رواية البخاري عن أبي موسى. ابن حجر، فتح (8/41) . 3 براء مهملة ثم ميم ثقيلة، أي معمول بالرمال وهي حبال الحصر التي تضفر بها الأّسرَّة. ابن حجر، فتح (8/43) . 4 من رواية مسلم عن أبي موسى. النووي، صحيح مسلم (16/60) . 5 الحديث صحيح رواه البخاري عن أبي موسى. انظر ابن حجر، فتح (8/41-42) باب غزوة أوطاس. كما رواه مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي –كتاب فضائل الصحابة (16/59-60) . ورواه أحمد. انظر البنا، الفتح الرباني (21/176-177) . كما رواه من أهل المغازي ابن إسحاق. ابن هشام، سيرة (4/454-457) ، والواقدي، مغازي (3/915) ، وابن عبد البر، درر (241) والعامري، بهجة المحافل (1/425-428) ، والبيهقي، سنن (9/51، 91، 92، 241) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 البعوث التعليمية والدعوية مقدمة ... مقدمة كان الأعراب حول المدينة يتحينون الفرص المواتية للنيل من المسلمين والقضاء عليهم إما بغزو المدينة قاعدتهم، أو الانتقام ممن ظفروا به منهم خارجها. ولما عجزوا عن تحقيق هدفهم الأول نتيجة السرايا التعرُّضية التي كان يرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأديبهم ومباغتتهم في ديارهم أو قتل زعمائهم، كما حدث لخالد بن سفيان الهذلي، لذلك سعوا للهدف الثاني لسهولته. أما قريش فكانت تعد العدة للكرة مرة أخرى على المسلمين تكون فيها استئصال شأفتهم والقضاء عليهم نهائيًّا. ولم يغب كل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القائد العسكري العبقري –فكانت الدوريات الاستطلاعية إضافة إلى عيونه المبثوثين تأتيه بالأخبار والمعلومات عن تحركات أعدائه من قريش والأعراب أوّلاً بأوَّل. وهو ما يسمى الآن بنظام الاستخبارات العسكرية. وذلك يؤكد أن المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بعده لم يخوضوا حربًا عشوائية غير مخطَّطٍ لها مع أعدائهم، إنما حربًا ذات خطط "سوقية وتعبوية" منظمة. وكان من تلك السرايا والدوريات سرية استطلاعية لجمع المعلومات عن قريش وتحركاتها، وعن الأعراب وتجمعاتهم. وإن كانت المصادر التاريخية تجزم بأنها كانت بعثة تعليمية أُرسلت بطلب من بعض الأعراب المدَّعين الإسلام والذين غدروا وأوقعوا بأصحاب السرية عند ماء الرجيع –الذي عرفت السرية به فيما بعد- ويمكن الجمع بين المهمتين كما أوضح البعض1.   1 كالزرقاني، شرح (2/65) ، وأكرم العمري: المجتمع المدني (ص 88) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 "ورغم ما حدث في الرجيع، فإن وفود المسلمين لدعوة الأعراب لم تنقطع أبدا، إذ لا بدّ من تبليغ دعوة الإسلام مهما غلت التضحيات"1، حيث يرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية تعليمية أخرى إلى أعراب نجد بمبادرة من أبي براء ملاعب الأسنة أحد زعماء نجد والذي طمأن خوف النبي صلى الله عليه وسلم من فتك الأعراب بهم بإجارته لهم، ولكن إجارة أبي البراء لم تردع ابن أخيه عامر بن الطفيل الذي أوقع بالقراء بمعاونة الأعراب من سليم وفتكوا بسبعين من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة آلمته كثيرًا، ولكنها لم تثبطه أو تقعده عن متابعة برامجه الدعوية والتعليمية. وتستمر سياسته الدعوية لا تغيِّرها الظروف والمناسبات، فالدعوة إلى الله عز وجل وهي الأساس الذي بنى عليه دولة الإسلام، لا تتأثر بالظروف الحادثة إيجابا أو سلبا، لأنها كانت تتم وفق تخطيط مسبق ومدروس ومنظم بعناية فائقة –فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الفاتح المظفر على أكبر أعداء الدعوة- لا يلهيه ظفره عليهم ولا يطغيه فتحه لأعظم معاقل الوثنية في الجزيرة ولا تنسيه فرحة رجوعه لمسقط رأسه غانمًا موفورًا هدفه الأسمى وغايته النبيلة، فيبادر إلى بثِّ السرايا والبعوث الدعوية حول مكة بعد فتحها مباشرة. منها بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني جذيمة ذلك البعث الذي كثر الحديث حوله، وتفنَّن الرواة والإخباريون في تفسيراتهم وتبريراتهم الخاطئة عنه مستندين إلى خلفيَّات جاهلية لا تنسجم مع روح الإسلام، وما تربَّي عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نبذ أدران الجاهلية الدَّفينة، وقد حاول بعض المتأخرين ممن عنوا بالمغازي استنادا على رواية الصحيح تفسير الواقعة باذلين في ذلك جهدهم للوصول إلى التفسير الصحيح –فكان أفضل ما وصلوا إليه أن خالدًا تأوَّل واجتهد فأخطأ. والله تعالى أعلم بالصواب.   1 أكرم العمري، المجتمع المدني (ص 89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 السرايا التعليمية بعث الرجيع 1 ولستُ أُبالي حين أُقْتَلُ مُسلمًا ... على أي شْقٍّ كان لله مصرعي وذاك في ذات الإله وإن يَشَأ ... يُبارِك على أوصالِ شِلْوٍ مُمَزَّع خُبيب بن عدي رضي الله عنه. البخاري، الصحيح (5/41) .   1 الرَّجيع: بفتح أوله، وبالعين المهملة في آخره –ماء لهذيل بناحية الحجاز على صدر الهدأة، والرجيع: ماء يعرف اليوم باسم الوطية، يقع شمال مكة على قرابة سبعين كيلا، قبيل عسفان إلى اليمن، في طرف شامية ابن حمادي من الشمال، بسفح حرة بني جابر الجنوبي، وشامية ابن حمادي هي أسفل الهدة، والهدة وادٍ يمر شمال مكة، وعلى يمين الجادة إلى عسفان، والرجيع اليوم من ديار حرب، لبشر خاصة منهم. انظر اين هشام، سيرة (3/170) ، والبكري، معجم (2/641) ، والبلادي، معجم (138) ، ومعالم مكة (113) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 نتيجة للتحركات المعادية التي ظهرت على الأعراب في أعقاب غزوة أحد، وتحسبًا من هجوم قرشي مباغت، بعث رسول الله صص دورية قوتها عشرة أفراد1 بقيادة عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح رضي الله عنه2.   1 وقع ذلك عند البخاري وغيره من أهل الحديث.انظر البخاري، الصحيح (5/40-41) وابن حجر، فتح (6/66، 7/387) ، وأبا داود، سنن (3/115-117) ، وعبد الرزاق المصنف (5/353) ، وابن أبي شيبة، المصنف (14/455) ، وأحمد. المسند، البنا، الفتح الرباني (21/61) . بينما اختلف أهل المغازي في ذلك، فمنهم من وافق أهل الحديث كابن سعد الذي جزم بأنهم كانوا عشرة سمي منهم سبعة فقط هم: عاصم بن ثابت، ومرثد بن أبي مرثد، وعبد الله بن طارق، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدُّثنة، وخالد بن أبي البكير، ومعتب بن عبيد. ابن سعد، طبقات (2/55) . وقال ابن حجر معلقا على عدم تسمية الثلاثة الباقين: فلعل الثلاثة الآخرين كانوا أتباعا لهم فلم يحصل الاعتناء بتسميتهم. فتح الباري (7/380) . وتردد الواقدي في روايته فذكر أنهم سبعة، ثم قال: ويقال كانوا عشرة وأميرهم مرثد بن أبي مرثد، ويقال: أميرهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. الواقدي: مغازي (1/354-355) . وجزم ابن إسحاق بأنهم ستة، وذكر أن أميرهم مرثد بن أبي مرثد، سيرة (3/169) . أما موسى بن عقبة فكانت عنه روايتان: رواية وافق فيها ابن إسحاق، وأخرى لم يذكر فيها سوى أربعة سماهم. انظر البيهقي. دلائل (3/326-327) . وذكر ابن سيد الناس أنه شاهد في كتاب الطبري: "ذيل المذيل" قصيدة لحسان يرثي فيها أصحاب الرجيع الستة: أَلاَ ليتني فيها شَهِدتُ ابنَ طارق ... وزيدًا وما تُغني الأماني ومرثدًا ودافعت عن حبي حبيبٍ وعاصمٍ ... وكان شفاءً لو تداركتُ خالدًا ابن سيد الناس. عيون (1/59-60) . وأيَّد بعض المتأخرين من أهل المعازي روايات الصحيح باعتبارها أصح إسنادا. انظر السهيلي، الروض (6/184) ، والمقريزي، إمتاع (1/174) . بينما رجع ابن حجر أن قائد السرية عاصم بن ثابت بناء على رواية الصحيح، ولكنه ذكر في موضع آخر أن البعض حاول الجمع بين رواية الصحيح ورواية أهل المغازي بأن أمير السرية مرثد، وأمير العشرة عاصم، بناء على التعدد. انظر ابن حجر. فتح (7/380) . ومما يجدر ذكره أن مرثدا ورد ذكره في شعر حسان بن ثابت الذي نقله ابن إسحاق كقائد لأصحاب السرية، ولكن ابن هشام ذكر أن أكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان. انظر ابن هشام، سيرة (3/183) . 2 هو عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب لأمه، من السابقين الأولين من الأنصار، يكنى أبا سليمان، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عاصم بن ثابت وعبد الله بن جحش. وشهد عاصم بدرا وأحدا وثبت يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولَّى الناس، وبايعه على الموت، وكان من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قتله وقتل أصحابه يوم الرجيع في صفر على رأس ستو وثلاثين شهرا من الهجرة. ابن سعد. طبقات (3/462-463) ، وابن حجر، إصابة (2/244) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وقد اختلفت الروايات في تحديد واجب السرية، فرواية الصحيح تذكر أن السرية كانت استطلاعية، كما يفيده اللفظ "عينًا"1، بينما تذكر بعض الروايات أنها كانت عبارة عن دورية قتال هدفها بنو لحيان2، ويكاد يجمع أهل المغازي على أن مهمة السرية كانت تعليمية بحتة3، وينفرد الواقدي منهم بتوضيح سبب ذلك4. وقد حاول بعض المتأخرين الجمع بين الروايات وجعل م همة السرية ازدواجية مع إمكانية ذلك5، فهي استطلاعية لرصد نشاط قريش والأعراب   1 انظر البخاري. الصحيح (5/40) ، ابن حجر. فتح (6/166، 7/387) . كما أخرج البيهقي رواية عن الواقدي بمثل ذلك. انظر البيهقي، دلائل (3/323) . 2 أخرجه أبو نعيم عن عروة من طريق ابن لهيعة. دلائل (3/323) . كما أخرجه بطريق أخرى عن بريدة بن سفيان الأسلمي. دلائل (2/509) . كما أخرجه من نفس الطريق البيهقي، دلائل (3/331) وبريدة هذا قال عنه ابن حجر: ليس بالقوي وفيه رفض. ابن حجر، تقريب (121) . 3 روى ذلك ابن إسحاق مفصلا. انظر ابن هشام، سيرة (3/169) ، والبيهقي، دلائل (3/328) . كما أخرجه البيهقي عن موسى بن عقبة. انظر البيهقي، دلائل (3/327) . ورواه كل من الواقدي، مغازي (1/354) ، وابن سعد من طريقين أحدهما من طريق ابن إسحاق والأخرى من طريق الزهري عن عمرو بن أسيد مرسلا. ابن سعد، طبقات (2/55) ورواه البلاذري، أنساب (375) ولكنه يضيف أنهم بُعثوا مزكَّين ومعلمين في وقت واحد، وابن حزم، جوامع (176) ، وابن عبد البر، درر (168) . 4 يذكر الواقدي في روايته أنه تم التمهيد لهجوم بني لحيان الغادر على أصحاب السرية بتآمرهم مع عضل والقارة وذلك انتقاما لمقتل زعيمهم خالد بن سفيان الهذلي. انظر الواقدي، مغازي (2/354) . ويذكر البغوي في تفسير قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] رواية بصيغة التمريض عن ابن عباس والضحاك أنها نزلت في سرية الرجيع، وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة بإسلامهم وطلبوا منه معلمين يفقهونهم في الدين. البغوي، معالم التنزيل (1/180-181) . وهذه الرواية على ضعفها البالغ لا تتفق مع سياق الأحداث قبلها، فأُحد كانت قريبة العهد وذكراها لا زالت عالقة في الأذهان، والوضع متوتر بين الطرفين ويتطلب الحذر واليقظة منهما، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لينخدع بمثل هذه السهولة بدعوى قريش. وإن كان حريصا على إسلامهم متمنيا ذلك. والله تعالى أعلم. 5 قال الزرقاني: ويجمع بأنه لما أراد بعثهم عيونا، وافق مجيء النفر في طلب من يفقههم، فبعثهم في الأمرين. الزرقاني، شرح (2/65) . وقال الدكتور أكرم ضياء العمري بعد سياقه لرواية ابن إسحاق: ولكن البخاري يقول: إن مهمة الوفد استطلاعية في حين يذكر ابن إسحاق أنهم معلمون، ويمكن الجمع بين المهمتين. المجتمع المدني (88) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 المتزايد عقب أُحد وتحركاتهم المشبوهة، وتعليمية تلبيةً لرغبة بعض الأعراب الذين أظهروا الإسلام وطلبوا بعض المعلمين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفقهوهم في الدين ومع اتفاق أهل المغازي في مهمة هذه السرية اختلفوا في تحديد تاريخها، فمنهم من ذكرها بعد أُحد ضمن أحداث السنة الثالثة الهجرية1. ومنهم من حددها بشهر صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا، يعني في بداية السنة الرابعة2. وحددها البعض بمنتصف شهر صفر آخر السنة الثالثة3. وعلى كل حال انطلقت الدورية في مسير اقترابي حذر كما تذكر بعض الروايات4 "حتى إذا كانوا بالهدأة5- وهو بين عسفان ومكة- ذُكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان6 فنفروا لهم قريبا من مائتي رجل7، كلهم رام، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرًا –تزودوه- من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فاقتصوا آثارهم8.   1 ذكر ذلك ابن إسحاق مرسلا عن شيخه عاصم. انظر ابن هشام، سيرة (3/169) . ورواه البخاري تعليقا. انظر ابن حجر، فتح (7/378) . 2 انظر الواقدي، مغازي (1/354) ، وابن سعد، طبقات (2/55) ، والبلاذري، أنساب (375) ، وذكرها ابن الأثير في أحداث السنة الرابعة. ابن الأثير علي بن أبي أكرم، الكامل في التاريخ (2/167) . 3 مثل ابن حزم، جوامع (176) ، وابن عبد البر، درر (168) . 4 في رواية أبي معشر في مغازيه: "وكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار". أورد ذلك عنه ابن حجر، فتح (7/381) . 5 الهدأة: قال البلادي: الهدة واد بمر شمال مكة، وعلى يمين الجادة إلى عسفان. البلادي: معجم (138) . 6 قال ابن حجر: لحيان هو ابن هذيل نفسه، وهذيل هو ابن مدركة بن إلياس بن مضر. وزعم الهمداني النسابة أن أهل بني لحيان من بقايا جرهم دخلوا في هذيل فنسبوا إليهم. فتح الباري (7/381) . وانظر الكلبي، جمهرة (130) . 7 في رواية إبراهيم بن موسى: "تبعوهم بقرب من مائة رام". ابن حجر، فتح (7/378) . وقد حاول ابن حجر الجمع بين الروايتين بأن تكون المائة الأخرى غير رماة. فتح الباري (7/381) . 8 من رواية شعيب في الجهاد. انظر ابن حجر، فتح (6/166) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 فلما رآهم عاصم انسحب بأصحابه إلى مكان مرتفع تجنبا للاشتباك المباشر –الذي كان فيه القضاء التام عليهم- فاللحيانيون يفوقونهم في العدد والعدة بكثير. وما أن وصل القوم حتى أحاطوا بهم، ثم أخذوا يفاوضونهم على الاستسلام المشروط بالأمان إن هم نزلوا إليهم دون مقاومة، ولكن عاصم بن ثابت رضي الله عنه قائد السرية رفض ذلك العرض بشدة معطيا من نفسه القدوة لأصحابه وهو يقول: "أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كاف ر، اللهم أخبر عنا نبيك"1. وعلى الرجيع حصلت ملحمة جهادية رائعة في معركة غير متكافئة، سقط خلالها الأبطال عاصم وستة من رفاقه شهداء في سبيل الله بعد أن قاوموا ببسالة شديدة، لكن إرادة الله عز وجل جعلت الهذليين الكثر والمهرة في الرمي يصطادونهم بنبالهم التي حصدوهم من كل جانب. "وبقي خبيب وزيد، ورجل آخر2، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم"3، ومعهم العذر في ذلك، لأن رفضهم الاستسلام هو حكم بالقضاء المبرم عليهم، ففضلوا الإبقاء على أنفسهم تحيُّزًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأملا في مدد أو نجدة تأتيهم من عنده تكون فيها قوة لاستئناف قتال يكون فيه ولو بعض التكافؤ ضد بني لحيان4، لكن اللحيانيين، وكما توقع عاصم من قبل غدروا بهم "فلما استمكنوا منهم حلُّوا أوتار قسيهم   1 المصدر السابق. 2 تذكر كتب المغازي أن اسمه عبد الله بن طارق. انظر ابن هشام، سيرة (3/171) والواقدي، مغازي (2/357) ، وابن سعد، طبقات (2/56) . 3 من رواية إبراهيم بن موسى في المغازي. انظر ابن حجر، فتح (7/378) . 4 لقد صدق توقع خبيب وصاحبه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل عدَّة سرايا إلى بني لحيان وقاد بنفسه غزوة إليهم، ولكن مشيئة الله سبحانه وتعالى وقضاءه كانت قد نفذت في خبيب وصاحبه، ولا رادَّ لقضائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم، فجرَّروه وعالجوه أن يصحبهم فلم يفعل، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل1، وكان خبيب هو قَتَلَ الحارث يوم بدر2. فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعارته، قالت: فغفلت عن صبي لي3. فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيتُه فزِعت فزعة عرف ذلك مني، وفي يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله، ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله4 نعم هذه هي أخلاق الإسلام التي أدهشت الكفار قديما وحديثا، لأنهم تعودوا على الانتقام العشوائي، ولا غرو في ذلك إذا كانوا يستقون أخلاقهم من قانون الغاب، بينما صدر أخلاق المسلمين القرآن الذي من مبادئه {وَلا   1 يذكر الواقدي في روايته أن: خبيبا ابتاعه حُجين بن أبي إهاب بثمانين مثقال ذهب، ويقال: اشتراه بخمسين فريضة (أي بعير) ، ويقال: اشترته ابنة الحارث بن عامر بن نوفل بمائة من الإبل. انظر الواقدي، مغازي (2/311) . ووقع في رواية بريدة الأسلمي: أن خبيبا بيع لبعض الجمحيين بأمة سوداء، وجاء عقبة بن عدي أحد بني نوفل بن عبد مناف يسأله أن يبيعه إياه فيقتله مكان طعيمة بن عدي، لأنه قتله يوم بدر فأبى أن يبيعه إياه وأعطاه إياه عطية. انظر أبا نعيم، دلائل (2/510) . 2 قال ابن حجر: كذا وقع في حديث أبي هريرة واعتمد البخاري على ذلك، فذكر خبيب بن عدي فيمن شهد بدرا، وهو اعتماد متجه، لكن تعقبه الدمياطي بأن أهل المغازي لم يذكر أحد منهم أن خبيب بن عدي شهد بدرا ولا قتل الحارث بن عامر، وإنما ذكروا أن الذي قتل الحارث بن عامر ببدر خبيب بن أساف، وهو غير خبيب بن عدي، وهو خزرجي، وخبيب بن عدي أوسي. والله أعلم. ويلزم من الذي قال ذلك ردُّ هذا الحديث الصحيح فلو لم يقتل خبيب بن عدي الحارثَ بن عامر ما كان لاعتناء أبناء الحارث بأسر خبيب معنى ولا يقتله مع التصريح في الحديث الصحيح أنهم قتلوه به، لكن يحتمل أن يكون قتلوه بخبيب بن عدي لكون خبيب بن أساف قتل الحارث على عادتهم في الجاهلية بقتل بعض القبيلة عن بعض، ويحتمل أن يكون خبيب بن عدي شارك في قتل الحارث-والعلم عند الله تعالى. انظر ابن حجر، فتح (7/382) . وقد اطلعت على مخطوطة في السيرة للدمياطي فلم أجد هذا الكلام فيها وأعتقد أنها في مختصر السيرة. 3 قال ابن حجر: ذكر الزبير بن بكّار أن هذا الصبي هو أبو حسين بن الحارث بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وهو جد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكيّ المحدّث، وهو من أقران الزهري. فتح الباري (7/382) . 4 من رواية إبراهيم بن موسى في كتاب المغازي. انظر ابن حجر، فتح (7/378) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1. وهذه المرأة التي أسلمت فيما بعد2 ذكرت ما شاهدته من خبيب حيث تقول: "ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلاّ رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين. ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سنّ الركعتين عند القتل هو. ثم قال اللهم أحصهم عددا"3. ثم قتلوه رضي الله عنه وهو يحمس نفسه بأبيات يذكر فيها غربته وتألب المشركين عليه4. "وأما زيد بن الدثنة فاشتراه صفوان بن أمية فقتله بأبيه أمية بن خلف، قتله نسطاس مولى بني جمح"5. ويذكر ابن إسحاق بإسناد معضل أن أبا سفيان قد سأله مختبرا ثباته: "أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في   1 الأنعام (164) . 2 روى ابن حجر عن خلف في كتابه الأطراف: أن اسمها زينب بنت الحارث وهي أخت عقبة بن الحارث الذي قتل خبيبا، وقيل: امرأته، ووقع عند ابن إسحاق بسند معضل أن التي رأت القطف في يد خبيب هي ماوية مولاة حجين بن أبي إهاب، والتي حُبس في بيتها. قال ابن حجر: فإن كان محفوظا احتمل أن يكون كلّ من ماوية وزينب رأت القطف في يده يأكله، وأن التي حُبس في بيتها ماوية، والتي كانت تحرسه زينب جمعا بين الروايتين. ويحتمل أن يكون الحارث أبا لماوية من الرضاع، ووقع عند ابن بطال: أن اسم المرأة جويرة، فيحتمل أن يكون لما رأى قول ابن إسحاق أنها مولاة حجين بن أبي إهاب أطلق عليها جويرة لكونها أمة، أو يكون وقع له رواية فيها اسمها جويرة. انظر ابن حجر، فتح (7/382) . 3 من رواية إبراهيم بن موسى. انظر البخاري، الصحيح (5/41) . 4 ورد منها بيتان في الصحيح هما: ولست أُبالي حين أُقتل مسلمًا ... على أي شِقٍّ مان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلوٍ ممزع 5 من مراسيل عروة. وأخرجه الطبراني من طريق ابن لهيعة. انظر الطبراني، المعجم (5/261) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي"1. هذه الرواية2 على ضعفها حديثيًّا إلا أننا نستأنس بها تاريخيًّا على مدى الحب المتمكن في قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له، ذلك الحب الذي لا يتزعزع حتى في أصعب اللحظات حراجة، وهكذا نراهم يفدونه بأنفسهم أن تصيبه شوكة آمنا في بيته, وهو بين يدي أعدائهم يعاينون الموت، فما أخلصها من تضحية، وما أعظمه حبًّا أدهش أعداءهم في ذلك الوقت، يقول أبو سفيان في سياق الرواية السابقة "ما رأيت من الناس أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا"3. وقد استجاب الله عز وجل "لعاصم بن ثابت يوم أصيب، فأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه خبرهم وما أصيبوا، وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حُدثوا أنه قتل ليؤتَوا بشيء منه يعرف، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر4 فَبُعِثَ على عاصم مثل الظلة من الدَّبر5. فحمتهم من رسولهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا6. وهكذا فقدت الدعوة إلى الله بعض فرسانها، وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم و"المسلمون لفقدانهم عاصما وصحبه، ولمصرع أسيرهم على هذا النحو   1 رواه ابن إسحاق عن شيخه عاصم بن عمرو مصرحا بالتحديث عنه. انظر ابن هشام، سيرة (3/172) ، كما رواه الواقدي، مغازي (2/362) . 2 في سياق رواية عروة المشار إليها أعلاه أن المشركين سألوا خبيبا مثل ذلك وأجابهم بمثل جواب زيد، فإن صحَّت الروايتان كان كلّ منهما سئل عن ذلك من جانب المشركين وأجابهم بجواب واحد يمثل حبًّا طاغيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من جانب أصحابه. 3 انظر ابن هشام، سيرة (3/172) ، والواقدي، مغازي (2/362) . 4 قال ابن حجر: لعل العظيم المذكور غقبة بن أبي معيط، فإن عاصما قتله صبرا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انصرفوا من بدر. ووقع عند ابن إسحاق، وكذا في رواية بريدة بن سفيان: أن عاصما لما قتل أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد، وهي أم مسافع وجلاّس ابني طلحة العبدي، وكان عاصم قتلهما يوم أحد وكانت نذرت لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن الخمر في قحفه فمنعته الدَّبر. ابن حجر، فتح (7/384) . 5 جماعة النحل، وقيل: ذكور النحل، أو الزنابير. القاموس، دبر، وابن حجر، فتح (7/384) . 6 من رواية إبراهيم بن موسى. انظر البخاري، الصحيح (5/41) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الفاجع، فقد خسروا فريقا من الدعاة الأكفاء يحتاج إليهم الإسلام في هذه الفترة من تاريخه"1. وفي الحديث من الأحكام ما ذكره ابن حجر وغيره حيث قال: إن للأسير أن يمتنع من قبول الأمان، ولا يمكّن من نفسه ولو قُتل، أنفة من أنه يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإن أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأمن، قال الحسن البصري: لا بأس بذلك، وقال سفيان الثوري: أكره ذلك. وفي الحديث الوفاء للمشركين بالعهد، والتورع عن قتل أولادهم، والتلطف بمن أريد قتله. وفيه الدعاء على المشركين بالتعميم، وإنشاء الشعر وإنشاده عند القتل. ودلالة على قوة يقين خبيب وشدته في دينه. وفيه أن الله يبتلي عبده المسلم بما شاء كما سبق في علمه ليثيبه، ولو شاء ربك ما فعلوه. ومن فوائد الحديث استجابة دعاء المسلم وإكرامه حيًّا وميتًا، وغير ذلك من الفوائد مما يظهر بالتأمل، وإنما استجاب الله له في حماية لحمه من المشركين، ولم يمنعهم من قتله لِما أراد من إكرامه بالشهادة، ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه2. وفي الحديث: إثبات كرامة الأولياء. وما أكرم الله به خبيبا من إطعامه له القطف من العنب في زمان وحين لا يوجد منه بمكة حبة ولا ثمرة، وهذه المكرمة شبيهة بما قصّ الله تعالى من شأن مريم: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} 3، وإبلاغ الله   1 الغزالي، فقه السيرة (276) . 2 ابن حجر، فتح (7/384-385) . 3 آل عمران (37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 سلامه إلى رسوله، وهما دلالتان واضحتان مثلهما جائز في إبان النبوة1. وقال ابن بطال: "هذا يمكن أن يكون الله جعله آية على الكفار وبرهانا لنبيه لتصحيح رسالته، فأما من يدَّعي وقوع ذلك اليوم بين ظهراني المسلمين فلا وجه له، إذ المسلمون قد دخلوا في الدين وأيقنوا بالنبوة، فأي معنى لإظهار الآية عندهم؟ ولو لم يكن في تجويز ذلك إلاّ أن يقول جاهل: إذا جاز ظهور هذه الآيات على يد غير نبي فكيف نصدقها من نبي، والفرض أن غيره يأتي بها لكان في إنكار ذلك قطعا للذريعة، إلا أن يكون وقوع ذلك مما لا يخرق عادة ولا يقلب عينا، مثل أن يكرم الله بإجابة دعوة في الحين ونحو ذلك مما يظهر فيه فضل الفاضل وكرامة الولي، ومن ذلك حماية الله تعالى عاصمًا لئلا ينتهك عدوه حرمته"2. قال ابن حجر: "والحاصل أن ابن بطال توسط بين من يثبت الكرامة ومن ينفيها فجعل الذي يثبت ما قد تجري به العادة لآحاد الناس أحيانًا، والممتنع ما يقلب الأعيان مثلا، والمشهور عن أهل السنة إثبات الكرامات مطلقا، لكن استثنى بعض المحققين منهم كأبي القاسم القشيري ما وقع به التحدي لبعض الأنبياء فقال: ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولد من غير أب ونحو ذلك، وهذا أعدل المذاهب في ذلك، فإن إجابة الدعوة في الحال، وتكثير الطعام والماء، والمكاشفة بما يغيب عن العين، والإخبار بما سيأتي ونحو ذلك قد كثر جدًّا حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة، فانحصر الخرق الآن فيما قاله القشيري، وتعيين تقييد قول من أطلق أن كل معجزة وجدت لنبي يجوز أن تقع كرامة لولي، ووراء ذلك كله أن الذي استقر عند العامة أن خرق العادة يدل على أن من وقع له من ذلك يكون من أولياء الله تعالى، وهو غلط ممن يقوله بأن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب،   1 انظر أبا نعيم، دلائل (2/511-512) . 2 انظر ابن حجر، فتح (7/383) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق، وأولى ما ذكروه أن يختبر حال من وقع له ذلك، فإن كان متمسكا بالأوامر الشرعية والنواهي، كان ذلك علامة ولايته، ومن لا فلا، وبالله التوفيق1. وفيه أيضا مشروعية الصلاة عند القتل، قال في سياق رواية الصحيح: "فكان أول من سن الركعتين عند القتل"2 قال السهيلي: "وإنما صار فعل خبيب سُنة حسنة، والسنة إنما هي أقوال من النبي صلى الله عليه وسلم وأفعال، وإقرار؛ لأنه فعلها في حياته صلى الله عليه وسلم فاستحسن ذلك من فعله، واستحسنه المعلمون مع أن الصلاة خير ما ختم به عمل العبد"3. قال الحلبي: "وكان ابن سيرين رحمه الله إذا سئل عن الركعتين قبل القتل قال: صلاهما خبيب رضي الله تعالى عنه وحجر، وهما فاضلان، ويعني بحجر: حجر بن عدي رضي الله تعالى عنه"4. وقال: "واستدل أئمتنا بقصة خبيب هذه على أنه يستحب لمن أشرف على الموت أن يتعهد نفسه بتقليم أظفاره وأخذ شعر شاربه وإبطه وعانته، ولعل ذلك كان بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأقرَّه"5.   1 المصدر السابق. 2 البخاري، الصحيح (5/41) . 3 السهيلي، الروض (6/192) . 4 الحلبي، سيرة (3/162) . 5 الحلبي، سيرة (3/160) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 بعث بئر معونة 1 (سرية القُرَّاء) وفي منظر رائع لا يتصوره العقل البشري المُجَرَّد عن الإيمان تتحقق إحدى معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فما أن وجد الرجل مسَّ الرمح في جوفه حتى صاح وهو ينضح ماء الحياة على وجهه ورأسه فَرِحًا: الله أكبر، فزت وربِّ الكعبة.   1 بئر معونة: بفتح أوله، وضم ثانيه، بعده واو ونون –هو ماء لبني عامر بن صعصعة، وهي بين ديار بني عامر، وحرة بني سليم، وهي إلى الحرة أقرب، وهي بلحف أبلى، وأبلى سلسلة جبلية سوداء تقع غرب المهد إلى الشمال، وتتصل غربا بحرة الحجاز العظيمة، وهي اليوم ديار مطير، ولم تعد سليم تقربها. انظر ابن هشام، سيرة (3/184) ، والبكري، معجم (4/1245) ، والبلادي، معجم (53) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 استمرارا لمنهجية نشر الإسلام ورسالته، ورغم ما أصاب الدعوة في صميم عملها بفقدان عدد من خيرة فرسانها في الرجيع، فقد واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بث الدعاة ونشر الدعوة إلى الله في كل مكان في الجزيرة العربية، حيثما وجد بصيصًا من الأمل لقبولها وانتشارها، "إذ لا بدَّ من تبليغ دعوة الإسلام مهما غلت التضحيات"1. فلما قدم عليه صلى الله عليه وسلم وفد من قبائل رعل وذكوان وعُصية السلمية، وذكروا أن فيهم إسلاما وطلبوا منه معلمين يفقهونهم في الدين، ويعينونهم على المشركين من قومهم بزعمهم2. قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيز بعثة تعليمية قوامها سبعون معلمًا3 من خيرة   1 أكرم العمري، المجتمع المدني (89) . 2 جمعا بين رواية قتادة في البخاري التي تقول: "فزعموا أنهم أسلموا واستمدوا على قومهم"، ورواية مسلم ولفظها "فقالوا: ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة". انظر ابن حجر، فتح (7/386) ، والنووي على مسلم (13/46) . وقد أجمع أهل المغازي كالزهري، وابن عائذ، وابن إسحاق، وابن سعد، والبلاذري، وابن حزم، على أن مهمة البعث تعليمية بحتة. انظر عبد الرزاق، المصنف (5/382-383) ، وابن هشام، سيرة (3/184) ، والواقدي، مغازي (2/346-347) ، وابن سعد، طبقات (2/51-52) ، والبلاذري، أنساب (375) ، وابن حزم، جوامع (178-179) ، والبيهقي، دلائل (3/338-339-343) ، وابن حجر، فتح (7/386-387) . بينما اختلفت بقية الروايات في تحديد مهمة البعث. انظر رواية أبي معمر، وحفص، وعبد الأعلى، عند البخاري، فتح الباري (3/348، 7/385-386-389) ، وروايات أحمد، البنا، الفتح الرباني (21/63-65) ، وابن عبد البر، درر (170) ، والبيهقي، دلائل (3/345، 346، 348، 349، 350) . 3 أجمع أهل الحديث على ذلك بناء على اتحاد مصدرهم في الروايات. انظر روايات البخاري عند ابن حجر، فتح (6/18، 7/385-386-389) ، والنووي على مسلم (13/47) ، وأحمد، البنا، الفتح الرباني (3/297، 21/63-64) . بينما اختلف أهل المغازي في ذلك فمنهم من وافق أهل الحديث كابن سعد في رواية، طبقات (2/52) ، والطبري، تاريخ (2/546-549-550) ، وابن عبد البر في رواية، درر (170) ، والبيهقي، دلائل (3/343-344-350) . وجزم ابن إسحاق أنهم كانوا أربعين سمى منهم: المنذر بن عمرو المعنق ليموت، والحارث بن الصمّةـ وحرام بن ملحان، وعروة بن أسماء، ونافع بن بديل، وعامر بن فهيرة. انظر ابن هشام، سيرة (3/183) . وتردد الواقدي بين العددين ثم رجَّح أنهم كانوا أربعين. الواقدي، مغازي (346-347) . بينما شذّت بعض الروايات في ذلك، ففي رواية عند الطبراني وأخرجها الهيثمي، مجمع (6/125) تقول إنهم كانوا عشرة. وذكر ابن عبد البر في رواية أخرى: أنهم كانوا ثلاثين. ابن عبد البر، درر (170) بينما رجع كل من السهيلي، الروض (6/201) ، والعامري، بهجة (1/223) روايات المحدثين. وحاول ابن حجر الجمع بين القولين بأن: الأربعين كانوا رؤساء وبقية العدة أتباعا ووهَّم من قال: ثلاثين. فتح الباري (7/386) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الصحابة ومثقفيهم حتى إنهم كانوا يسمون القرَّاء لمثابرتهم على التحصيل العلمي حيث كانوا "يقرأون القرآن، ويتدارسون بالليل ويتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة والفقراء"1. وأسند القيادة إلى المنذر بن عمرو الساعدي رضي الله عنه2، كما ذكر أهل المغازي3، ثم وجههم إليهم. وفي شهر صفر من السنة الثالثة، أو الرابعة على خلاف بين أهل المغازي4   1 من رواية ثابت عن أنس عند مسلم. انظر النووي على مسلم (13/47) ، وانظر ابن حجر، فتح (7/385) . 2 هو المنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة الأنصاري الخزرجي الساعدي، قال ابن أبي خيثمة: سمعت سعد بن عبد الحميد بن جعفر يقول: المنذر بن عمرو عقبي، بدري، نقيب استشهد يوم بئر معونة. وكذا قال ابن إسحاق، وثبت أنه استشهد يوم بئر معونة في صحيح البخاري، وسمى المنذر بن العوام على اسمه، وكان يلقب المعنق ليموت. وقال البغوي: ليست له رواية. ابن حجر، إصابة (3/460-461) . 3 انظر ابن هشام، سيرة (3/184) ، والواقدي، مغازي (2/346-347) ، وابن سعد، طبقات (2/15-52) ، والبلاذري، أنساب (375) ، وابن حزم، جوامع (178-179) ، والبيهقي، دلائل (3/339-342) . وهناك روايتان ألمحتا بشكل غير مباشر على أن القيادة كانت تحت تصرف حرام بن ملحان رضي الله عنه. انظر رواية موسى بن إسماعيل عند البخاري، فتح الباري (7/386) ، ورواية العباس بن الوليد عند الطبري، تاريخ (2/550) . وشذَّ ابن عقبة بجعله مرثد بن أبي مرثد الغنوي في رواية البيهقي، دلائل (3/34) ، وذلك وهم منه رحمه الله، فإن مرثدًا كما ذكر أهل المغازي ومنهم هو، كان قد استشهد في الرجيع. 4 ذلك بناء على اختلافهم المشهور في تحديد بداية التاريخ الهجري، فالواقدي، مغازي (2/346) ، وابن سعد، طبقات (2/51) ، وابن حزم، جوامع (179-180) جعلوها في السنة الثالثة، بينما أرَّخ لها ابن إسحاق، والبلاذري بالسنة الرابعة. انظر ابن هشام، سيرة (3/183) ، والبلاذري، أنساب (375) . وقال ابن كثير: وأغرب مكحول رحمه الله حيث قال: إنها كانت بعد الخندق. ابن كثير، بداية (4/73) ، وذكر الزرقاني: أن بعضهم جعلها في المحرم، وقدَّمها على بعث الرجيع. الزرقاني، شرح (2/74) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 انطلقت البعثة في مسيرها الاقترابي بحذر يتقدمهم دليل من أهل المنطقة كما تذكر رواية مرسلة عن عروة1. حتى إذا ما وصلوا بئر معونة –وهي منطقة تماس حدودية بين أراضي قبيلة بني عامر وحرة بني سليم- عسكروا بإزائها، ومن هناك بعثوا حرام بن ملحان رضي الله عنه2 أحد أفراد البعثة إلى الأعراب في مهمة استطلاعية وتمهيدية لمهمة البعثة الأساسية، وذلك بمبادرة منه تطوعية إذ قال لهم: "أتقدمكم فإن أمَّنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلاَّ كنتم مني قريبا"3. فتقدم نحو البيوت بعد أن أمَّنوه حيث وجه خطابه لهم –كما وقع في رواية عن أنس رضي الله عنه فيها بعض الضعف4 "يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم أني أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله"5. ولكن الأعراب كانوا أشدَّ كفرا ونفاقا وغدرا، فتنفيذا لخطة التآمر الدنيئة التي دبروها مع قائدهم عامر بن الطفيل العامري، وبينما حرام "يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أومأوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه"6، وفي منظر رائع لا يتصوره العقل البشري المجرَّد عن الإيمان، تتحقق إحدى معجزات النبي صلى الله عليه وسلم7، فما أن وجد الرجل مسَّ الرمح في جوفه حتى صاح وهو ينضح ماء   1 وفيها: "وبعث معهم المطلب السلمي ليدُلَّهم على الطريق". انظر ابن حجر، فتح (7/390) . 2 هو حرام بن ملحان بن مالك بن زيد بن حران بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، شهد بدر، وأحدا، وبئر معونة، وقتل يومئذ شهيدا وليس له عقب، وهو خال أنس بن مالك. انظر ابن سعد، طبقات (3/514) ، وابن حجر، إصابة (1/319) . 3 من رواية حفص في البخاري. ابن حجر، فتح (6/19) ، ورواية عند أحمد، البنا، الفتح الرباني (21/64) . 4 لأن في سندها محمد بن مرزوق، وعمرو بن يونس لم أعثر على ترجمتهما، وعكرمة بن عمار العجلي صدوق يعلط. انظر ابن حجر، تقريب (396) . 5 انظر الطبري، تاريخ (2/549) . 6 من رواية حفص. ابن حجر، فتح (6/19) . 7 أخرج الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الحياة على وجهه ورأسه فرحا "الله أكبر، فزت وربِّ الكعبة"1. ذلك المشهد العظيم والذي لم يعهده المشركون من قبل، جعل قاتله يسلم2 متعجبا من رَدَّة الفعل التي لم يك أحد من الحاضرين يتوقعها من رجل يلفظ أنفاسه الأخيرة. لم يكتف الأعراب بذلك بل تبعوا أثره حتى وجدوا أصحابه فأحاطوا بهم من كل جانب ودافع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عقيدتهم السمحة التي جاءوا لنشرها بين من غدروا بهم، ولكن هول المفاجأة وكثرة الأعراب المستعدين لخيانتهم المدبَّرة سلفا لم تتح لهم الفرصة في قتال متكافىء، فسقطوا شهداء على أرض بئر معونة إلاّ رجلا أو رجلين منهم3، حيث سطروا بدمائهم الزكية ملحمة من أروع الملاحم الجهادية في تاريخ الإسلام بعد أن كسبوا رضوان الله عليهم. فهذا الروح الأمين عليه السلام يخبر "النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم"4، قال أنس رضي الله عنه: "فقرأنا فيهم قرآنا ثم إن ذلك   = "ما يجد الشهيد من مسِّ القتل إلاَّ كما يجد أحدكم مسَّ القرصة". انظر الألباني، صحيح سنن الترمذي (2/133) ، وصحيح سنن النسائي (2/665) ، وصحيح سنن ابن ماجة (12/131) . وقال عنه الألباني: حسن صحيح. 1 من رواية حيان في البخاري. انظر ابن حجر، فتح (7/386) . 2 وقع في رواية أحمد عن أنس: "فلما كان بعد ذلك، إذا أبو طلحة يقول لي: هل لك في قاتل حرام. قلت له: ما له فعل الله به وفعل. قال: مهلاً فإنه قد أسلم". البنا، الفتح الرباني (21/65) وقال عنه: سنده صحيح ورجاله رجال الصحيحين. وقال ابن حجر: لم أعرف اسم الرجل الذي طعنه، ووقع في السيرة لابن إسحاق ما ظاهره أنه عامر بن الطفيل. لكن وقع في الطبراني من طريق ثالث عن أنس: أن قاتل حرام أسلم، وعامر مات كافرا. ابن حجر، فتح (7/388) . 3 أورد أهل المغازي اسميهما، فعند ابن إسحاق: أنه عمرو بن أمية، ورجل من الأنصار من بني عمرو بن عوف. وقال ابن هشام: هو المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح. كما ذكر ابن إسحاق: أن كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار ارتثَّ (أي رفع وبه جراح) من بين القتلى فعاش حتى قُتل يوم الخندق شهيدا. أما الواقدي فذكر أنهما: الحارث بن الصمَّة، وعمرو بن أمية، المغازي (2/348) . 4 من رواية حفص عند البخاري. ابن حجر، فتح (6/19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 رفع "بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا"1. فيا لها من منزلة عظيمة تتوق إليها نفس كل مسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أصحابه بمصيرهم، ويصف أنس رضي الله عنه شدّة تأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصابهم: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على شيء قط ما وجد على أصحاب سرية بئر معونة، أصحاب سرية المنذر بن عمرو، فمكث شهرا يدعو على الذين أصابوهم في قنوت صلاة الغداة"23. ومن الطبعي أن يتأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصابهم، فقد كانوا من خيرة أصحابه، ومن فرسان الدعوة المعدودين، وقد كان فقدهم في وقت كانت دعوة الإسلام بحاجة ماسَّة لخدماتهم، كما أن الطريقة التي تم فيها قتلهم تعصر القلب ألمًا وحزنًا عليهم، فهي طريقة شائنة لم تتح لهم الفرصة في قتال فروسي مشرف. "إن هذه النازلة ملأت قلوب المسلمين غيظا، وهم لم يضيقوا بخسائرهم فحسب، بل الذي أحرج مشاعرهم في هذه الحادثة أنها كشفت عمَّا تخبئه   1 من رواية عبد الأعلى عند البخاري. ابن حجر، فتح (7/385) . 2 من رواية عبد الرزاق بسند صحيح عن أنس، المصنف (5/384) . وأخرج البخاري نحوه عن أنس من طريق أبي النعمان. ابن حجر، فتح (6/272) . ومسلم أيضا. انظر النووي على مسلم (5/179) . 3 الخبر صحيح متفق عليه، فقد أخرجه البخاري في صحيحه في مواضع عدة، انظر ابن حجر، فتح (2/490، 6/19-31-272، 7/386-388-389) . وأخرجه مسلم في صحيح. انظر صحيح مسلم بشرح النووي (5/178-179، 13/47) . كما أخرجه الإمام أحمد في مسنده. انظر البنا، الفنح الرباني (21/*63-64-65) . وروى الخبر بطرق مرسلة. انظر عبد الرزاق، المصنف (5/382-383) ، وخليفة بن خياط، تاريخ (76-77) ، وابن هشام، سيرة (3/183) ، والبيهقي، دلائل (3/338-339-340-341-342-343-344) . كما أخرج الخبر من أهل المغازي غير ابن إسحاق كلّ من: الواقدي، مغازي (1/346-347-348-349-350-351-352-353) ، وابن سعد، طبقات (2/51-52-53-54) ، واليبلاذري، أنساب (375) ، وابن الأثير، الكامل (2/171-172) ، وابن حزم، جوامع (178-179-180) ، وابن عبد البر، درر (170-171-172-173) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الوثنية في ضميرها من غلّ كامن على الإسلام وأهله، غلٍّ عاصف بكل مبادىء الشرف والوفاء"1 التي اشتهر بها العرب في الجاهلية وزادها الإسلام قوة وعزًّا، لكن حقد الوثنية الدفين على الإسلام ورجالاته طغى على هذه المبادىء في قلوب أصحابها فأعمى بصائرهم وبصيرتهم. ومن فقه هذه القصة ما بوَّب له البخاري بقوله: باب القنوت قبل الركوع وبعده، ثم ذكر الأحاديث الخاصة بهذه القصة2. قال ابن حجر: القنوت يطلق على معان، والمراد به هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام، قال الزين بن المنيّر: أثبت بهذا الترجمة مشروعية القنوت إشارة إلى الردّ على من رُوي عنه أنه بدعة كابن عمر، وفي الموطأ عنه: أنه كان لا يقنت في شيء من الصلوات، ووجه الردِّ عليه ثبوته من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرتفع عن درجة المباح. وهل هو قبل الركوع أو بعده خلاف؟ قال ابن حجر: ومجموع ما جاء عن أنس من ذلك أن القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف عنه في ذلك، وأما لغير الحاجة فالصحيح عنه أنه قبل الركوع. وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك، والظاهر أنه من الاختلاف المباح. ذكر ابن العربي: أن القنوت ورد لعشرة معان فنظمها شيخنا الحافظ زين الدين العراقي فيما أنشدنا لنفسه إجازة غير مرة: ولَفْظُ القنوت اعدُدْ معانيه تجد ... مزيدًا على عشرة معانٍ مرضية دعاء، خشوع، والعبادة، طاعة ... إقامتها، إقراره بالعبودية سكوت، صلاة، والقيام وطوله ... كذاك دوام الطاعة الرابح القنية3   1 الغزالي، فقه السيرة (278) . 2 انظر ابن حجر، فتح (2/489-490-491) . 3 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وقال النووي: مذهب الشافعي رحمه الله: أن القنوت مسنون في صلاة الصبح دائما، وأما غيرها فله فيها ثلاثة أقوال: الصحيح المشهور أنه إن نزلت نازلة كعدو وقحط وعطش وضررٍ ظاهر في المسلمين، ونحو ذلك قنتوا في جميع الصلوات المكتوبة، وإلا فلا. والثاني: يقنتون في الحالين. والثالث: لا يقنتون في الحالين. ومحل القنوت بعد رفع الرأس من الركوع في الركعة الأخيرة. وفي استحباب الجهر بالقنوت في الصلاة الجهرية وجهان: أصحهما يجهر ويستحب رفع اليدين فيه ولا يمسح الوجه. وقيل: يستحب مسحه. وقيل: لا يرفع اليد واتفقوا على كراهية مسح الصدر. والصحيح أنه لا يتعين فيه دعاء مخصوص، بل يحصل بكل دعاء. وفيه وجه: أنه لا يحصل إلاَّ بالدعاء المشهور: اللهم اهدني فيمن هديت.. إلى آخره، والصحيح أن هذا مستحب لا شرط له، ولو ترك القنوت في الصبح سجد السهو. وذهب أبو حنيفة، وأحمد، وآخرون إلى أنه لا قنوت في الصبح. وقال مالك: يقنت قبل الركوع. ودلائل الجمع معروفة1. كما أن من فقه هذه القصة معرفة كيفية موت الشهيد، فقد ورد في ثنايا القصة أن حرام بن ملحان رضي الله عنه عندما طعن بالرمح لم يتألم كما هو معروف ومشاهد في مثل هذه الحالة، بل بالعكس من ذلك صاح فرحًا: الله أكبر، فزت وربِّ الكعبة. وهذا الموقف الخارق للعادة يدعونا للتساؤل: هل يتعرض الشهيد لألم الموت؟ وتأتينا الإجابة الشافية من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن   1 صحيح مسلم بشرح النووي (5/176) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 هو إلاّ وحي يوحى: "ما يجد الشهيد من مسِّ القتل إلاَّ كما يجد أحدكم من مسِّ القرصة" 1. نعم فللشهيد منزلة خاصة عند الله، فجزاء الثمن الباهظ الذي يدفعه وهو روحه رخيصة في سبيل الله عز وجل لم يبخسه أعدل العادلين حقه فكافأه بست جوائز كل واحدة منها تعدل الدنيا وما فيها، فعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلَّى حلَّة الإيمان، ويزوَّج من الحور العين، ويشفَّع في سبعين إنسانا من أقاربه" 2. هذا بالإضافة إلى العلامة المميَّزة المشرفة التي يأتي بها يوم القيامة. عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول- الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مجروح يجرح في سبيل الله، والله أعلم بمن يجرح في سبيله، إلاَّ جاء يوم القيامة، وجرحه كهيئته يوم جرح: اللون لون الدم، والريح ريح مسك" 3. كما أن حياة الشهداء لا تنتهي بمجرد موتهم، بل هم أحياء يرزقون ويتنعمون عند ربهم، قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 4.   1 سبق تخريجه. 2 أخرجه ابن ماجه. انظر الألباني، صحيح سنن ابن ماجه (2/129) وقال عنه: صحيح. 3 أخرجه ابن ماجه، انظر الألباني، صحيح سنن ابن ماجه (2/128) وقال عنه حسن صحيح. 4 سورة آل عمران (169) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ... سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة (دعوية) (فلم يُحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 عقب فتح مكة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه وبعوثه حولها لإخضاع قبائل الأعراب الحليفة لقريش، والتي كانت تكوِّن كتلة الأحابيش التي شاركت ضمن الجيوش القرشية التي خاضت بدرا وأحدا والخندق ضد المسلمين، وذلك إكمالا لإحكام سيطرة المسلمين على المنطقة ونشر الدعوة فيها، وفتح الطريق أمامهم إلى الطائف ثاني أكبر معاقل الوثنية في الجزيرة العربية آنذاك، والتي كانت تمثل حاجزا أمام نشر الدعوة الإسلامية فيها. وكان من تلك البعوث (دورية قتال) دعوية، هدفها بني جذيمة1، يذكر أهل المغازي أن قوتها كانت حوالي ثلثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار2، ورجال من بعض القبائل العربية المسلمة كسليم، وبني مدلج بن مرة3، وكان بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم مثل عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر، وأبي قتادة، وسالم مولى أبي حذيفة4، جنودا ضمن أفراد هذه الدورية التي أُسندت القيادة فيها إلى سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه. وفي شهر شوال من السنة الثامنة الهجرية، قبيل الخروج إلى حنين، كما يذكر أهل المغازي5، تحركت الدورية في مسيرها الاقترابي نحو هدفها.   1 أجمعت مصادر أهل المغازي على أن هذه السرية كانت دعوية. انظر، ابن هشام سيرة (5/428) ، والواقدي، مغازي (3/875) ، وابن سعد، طبقات (2/147) . وأشار رواية أهل الحديث إلى ذلك ضمن السياق. انظر ابن حجر، فتح (8/57) ، والبنا، الفتح الرباني (21/167) . 2 ذكر ذلك الواقدي، مغازي (3/875) ، وابن سعد، طبقات (2/147) . 3 ذكر ذلك ابن إسحاق في روايته. انظر ابن هشام، سيرة (4/429) في حين لم يذكر الواقدي وكاتبه غير بني سليم معهم. 4 ترددت هذه الأسماء عند كل من: ابن إسحاق، ابن هشام، سيرة (4/430-431) والواقدي، مغازي (3/877-880-881) . 5 انظر ابن هشام، سيرة (4/428) ، والواقدي، مغازي (3/875) وكان الذي حددها بشهر شوال ابن سعد، طبقات (2/147) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ويذكر ابن إسحاق في روايته المنقطعة: أن بني جذيمة لما سمعوا بخبر السرية استعدوا للقتال ولبسوا السلاح1، وعلى الغميصاء2 تقابل الجيشان، فدعاهم خالد إلى الإسلام "فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا"3. ونظرًا لما هذه الكلمة من ماضٍ سيء في تاريخ الإسلام، حيث كانت تطلق في مقام الذم للمسلمين الأوائل بمكة، والاستهزاء بهم من قِبَلِ المشركين، ونظرا لدقة الموقف وحراجته والذي يتطلب سرعة الخاطر في إعطاء القرار الحاسم من أي قائد يحرص على نجاح مهمته، فقد تأوَّل خالد بن الوليد رضي الله عنه "الذي كان يعرف الكلمة وظروف استعمالها"4، كلمتهم تلك على أنها استهزاء وسخرية بالمسلمين "فجعل يقتل منهم ويأسر"5ثم إنه أمر بعد فترة بقتل الأسرى باعتبار أنهم كانوا مستهزئين بالإسلام، فرأى أنه لا بدَّ وأن يثخن فيهم حتى يكونوا عبرة لغيرهم من الأعراب. ولكن عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر، وبعض الصحابة رضي الله عنهم كما تذكر روايات أهل المغازي6، لم ينقادوا لأمر خالد رضي الله عنه وخالفوه في اجتهاده، ورأوا أن بني جذيمة قد "عبروا عن إسلامهم بما يعرفون"7، وكان أكثرهم معارضة له عبد الرحمن بن عوف،   1 رواية ابن إسحاق حول هذه السرية هي من مراسيل أبي جعفر محمد بن علي الباقر فهي منقطعة. انظر أكرم العمري، المجتمع المدني (194) . 2 الغميصاء –بضم أوله وفتح ثانيه وبالصاد المهملة- على لفظ التصغير: مكان أسفل مكة على ليلة ناحية بلملم.انظر ابن سعد، طبقات (2/147) ، والبكري، معجم (3/1000) ، وذكر البلادي أنه لا يعرف موضعا قريبا من مكة يعرف بهذا الاسم، وأنه ربما تغيَّر اسم المكان مع الزمن. البلادي، معالم مكة (205) . 3 من رواية الزهري عند البخاري. انظر ابن حجر، فتح (8/57، 13/182) . 4 أكرم العمري، المجتمع المدني (194) . 5 من رواية الزهري عند البخاري: انظر ابن حجر، فتح (8/57، 13/182) . 6 انظر ابن هشام، سيرة (4/430-431) ، والواقدي، مغازي (3/880-881) . 7 أكرم العمري،المجتمع المدني (194) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، حيث قال عبد الله رضي الله عنه: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره"1. ويذكر الواقدي أن بني سليم قتلوا كل من كان في أيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أسراهم، فكان عدد قتلى بني جذيمة قريبا من ثلاثين رجلا2، منهم رجل غير جذيمي ساقته منيته وأودى به عشقه لامرأة جذيمية إلى مصيره المحتوم3. وعند رجوع السرية من مهمتها رفع المعارضون لخالد تقريرا مفصلا بما حدث للقائد الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي عبَّر عن إنكاره لفعل خالد بقوله: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"4. قالها مرتين. ووقع في رواية ابن إسحاق المنقطعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه بمال فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال وزادهم فوق ذلك إحسانا إليهم وتطييبا لنفوسهم56.   1 من رواية الزهري.انظر ابن حجر، فتح (8/57، 13/181) . 2 الواقدي، مغازي (3/884) . 3 وردت عدة روايات حول قصة هذا الرجل، منها رواية ابن عباس رضي الله عنهما أخرجها الطبراني، معجم (11/370) ، والبيهقي، دلائل (5/117-118) . كلاهما من طريق النسائي الذي لم أجد روايته في كتاب السنن المتداول، وإن كان ابن حجر قد صحَّح إسناده. انظر ابن حجر، فتح (8/58) . وجاء في الرواية ما يلي: "فقال: إني لست منهم، إني عشقت امرأة منهم، فدعوني أنظر إليها نظرة –قال فيه-: فضربوا عنقه، فجاءت المرأة فوقعت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت. فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما كان فيكم رجل رحيم". ووردت الرواية بسياقات مختلفة نوعًا ما عند كل من الحميدي، المسند (2/359-360-361) ، والبزار. انظر الهيثمي، كشف الأستار (2/290) ، وابن سعد، طبقات (2/149) ، والطبراني. انظر الهيثمي، مجمع (5/324-325) كل منهم بسنده عن عاصم المزني رضي الله عنه وقال عنه الهيثمي: رواه الطبراني والبزار وإسنادهما حسن. ورواه ابن إسحاق، انظر ابن هشام، سيرة (4/433) ، الطبري، تاريخ (3/68) بسنده عن ابن أبي حدرد. 4 ابن حجر، فتح (8/57) ، القسطلاني، إرشاد الساري (6/417) . 5 انظر ابن هشام، سيرة (4/430) . 6 خبر السرية في مجمله صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح. انظر ابن حجر، فتح (6/274، 8/57، 13/181) ، والقسطلاني، إرشاد (6/416-417) . وأخرجه الإمام أحمد. انظر البنا، الفتح الرباني (21/167) .= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وقد ذهب أهل المغازي بعيدا في تفسيراتهم للواقعة، فأخذوا يسوقون الروايات الضعيفة المُشْعِرِةِ بإدانة خالد رضي الله عنه، وأنه فعل ذلك إدراكا لثأر قديم مع بني جذيمة1، ولو أننا تأملنا في هذه الحادثة بعمق –وذلك ما يجب علينا كباحثين مسلمين، حيث لا بدَّ لنا من الإحاطة الكاملة بكل جوانب القضية –لظهرت لنا عدة تساؤلات منها على سبيل المثال: .. ما مدى صحة الروايات التي ساقها أهل المغازي تفسيرًا للخبر؟ ربما كان بعض هذه الروايات أو تفسيراتها دسًّا من بعض الرواة غير العدول على خالد رضي الله عنه. ..لماذا أثيرت كل هذه الضجة حول هذه الحادثة؟ ولماذا خالد بالذات الذي أثيرت حوله. ما هو التفسير الصحيح للخبر؟ وهنا مربط الفرس، حيث لا بدَّ لمن يتعرَّض لتفسير الخبر أن يتجرد عن العواطف والاتجاهات المسبقة، ولا بدَّ له من دراسة النوازع الشخصية لكل أفراد الحادثة، بدءا من خالد رضي الله عنه، إلى أفراد القبيلة، ومعرفة الظروف والملابسات التي أحاطت بالحادثة.   =وأخرجه عبد الرزاق، المصنف (5/221) . كما أخرجه أهل المغازي كابن إسحاق. انظر ابن هشام، سيرة (4/428-433) ، والواقدي، مغازي (3/875-884) ، وابن سعد، طبقات (2/147-149) ، والبيهقي، دلائل (5/113-118) ، ولكني لم أعتمد رواياتهم في سياق الأحداث، لضعفها حديثيًّا، ولكونها تذكر أمورا عن خالد بن الوليد رضي الله عنه لا يمكنْ التسليم بها، ولا يعني ذلك أني أطرحت رواياتهم، بل استفدت منها في رواية بعض الحقائق التاريخية التي أغفلتها رواية الصحيح، مثل تاريخ السرية، وقوتها، وعدد قتلى بني جذيمة وغير ذلك. 1 انظر إلى الروايات التي ساقها ابن إسحاق، والواقدي حول هذا الموضوع. ابن هشام، سيرة (4/431) ، والواقدي، مغازي (3/876-882) وكلها روايات ضعيفة لا يحتج بها، فالواقدي متروك، وابن إسحاق ساقها بلا سند. والغريب أن الواقدي بعد ما يسوق عدة روايات تدين لخالد رضي الله عنه، يختمها برواية حول الحادثة كلها تذكر أن خالدا رضي الله عنه ما قتل بني جذيمة إلاّ بعد أن امتنعوا أشدّ الامتناع وقاتلوا وتلبسوا السلاح، وأنه انتظر بهم صلاة العصر والمغرب والعشاء، ولا يسمع أذانا ثم حمل عليهم فادَّعوا بعدُ الإسلام. انظر الواقدي، مغازي (3/883) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فهناك شخصية خالد قائد الجيش وما يتطلبه منه الموقف من حزم وسرعة بديهة وتصرُّف عاجل، وهناك على ما أعتقد قلة خبرته الفقهية الضرورية لإصدار الأحكام الاجتهادية قياسا مع الصحابة الذين أنكروا عليه، كعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، لسابقتهم في الإسلام، وحداثة عهده به1. وهناك شخصية أفراد القبيلة وماضيهم المليء بالغدر والفتك2، والذي بعرفه خالد جيدا. وهناك الأهم، وهو تصرفهم أثناء الحادثة، قوم مدجَّجون بالسلاح، مستعدون للقتال، وفجأة عند ما ظهر عليهم المسلمون قالوا: صبأنا صبأنا. وكانت هذه اللفظة متداولة في مكة، وتطلق على كل من أسلم حديثا على سبيل الذم والاحتقار، فكان واجب القيادة يحتم على خالد سرعة الحسم، فربَّما أنه رأى في تقديره الشخصي وما أدَّى إليه اجتهاده أنهم لو كانوا قد أسلموا لما لبسوا السلاح، واستعدوا للقتال وهم يعرفون أن المسلمين قريبون منهم ويسمعون أخبارهم. وما خبر فتح مكة بالخبر الذي يخفى، وربما أنه اعتقد أنهم لو أسلموا لكانوا عرفوا النطق بالشهادتين، وهي الوثيقة الوحيدة التي تفرق بين المسلم والكافر3 أو ربما أنه ظن أنهم قالوا كلمتهم تلك احترازا وخوفا من   1 لم يسلم خالد رضي الله عنه كما تذكر روايات أهل المغازي إلاّ قبيل فتح مكة. انظر ابن هشام، سيرة (3/277) ، والواقدي، مغازي (2/746-749) . والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتفاوتون في الفقه، ويدل على ذلك حديث: "ربَّ مبلغ أفقه من سامع". 2 ورد في بعض روايات أهل المغازي أنهم كانوا من أشرِّ حيِّ في الجاهلية وكانوا يسمّون "لعقة الدم". انظر الحلبي، إنسان (3/210) . 3 قال الخطابي: وهذا نظير حديثه الآخر أنه صلى الله عليه وسلم بعث خالدا إلى أناس من خثعم فاستعصموا بالسجود فقتلهم، فوداهم النبي صلى الله عليه وسلم بنصف الدية، وإنما عذر خالدا في هذا لأن السجود لا تمحص دلالته على قبول الدين؛ لأن كثيرا من الأمم يعظمون رؤساءهم ويظهرون لهم الخضوع والانقياد، بأن يخروا على وجوهمم. الخطابي أحمد بن محمد، أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري (3/1766) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 السيف1. وقال الخطابي: "وقد يحتمل أن يكون خالد إنما لم يكفَّ عن قتالهم بهذا القول من قِبَلِ أنه ظنَّ أنهم عدلوا عن اسم الإسلام إليه أنفة من الاستسلام والانقياد فلم ير ذلك القول منهم إقرارا منهم بالدين"2. كما أنني أعتقد –والله أعلم- أنه قد جرى اجتهاده بالنسبة للأسرى قياسا على أسرى بدر، وما جرى حولهم من عتاب الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، فربما أنه ظنَّ أنهم أسرى كفّار، لا بدَّ من أن يثخن فيهم حتى يكونوا عبرة لغيرهم من المشركين. فكل هذه الاحتمالات وما يصاحبها من أمور دقيقة وملابسات شائكة، تجعل أي قائد في مثل موقف خالد رضي الله عنه في موضع شكٍّ في مثل من هم في موقف بني جذيمة، فجرى اجتهاده الذي لامه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المسألة تتعلق بأرواح أناس بَدَرَ منهم شبهة تدرأ القتل عنهم "وإنما نقم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خالد موضع العجلة، وترك التثبت في أمرهم أن يتبين المراد من قولهم: صبأنا"3. وأخيرا لو كان الأمير سيئًا للدرجة التي وردت في بعض الروايات التي لا تصلح للاحتجاج بها لضعفها الشديد ونكارتها، والتي استغلها بعض الحاقدين على الإسلام ورجالاته الأفذاذ، مثل خالد بن الوليد رضي الله عنه، سيف الله المسلول، الذي دوّخ الكفرة والمشركين بانتصاراته الباهرة –لحدث بعد هذه الحاديثة أمران مهمان جدا لا بدّ من حدوثهما في مثل هذه المسائل الخطيرة وهما: أولا: نزول آيات قرآنية تشجب تصرف خالد وتعاتبه عليه كما حدث   1 وقد حدث مثل ذلك لأسامة بن زيد في سرية الحُرقات من جهينة، حينما قتل رجلا منهم قال: لا إله إلا الله بعد أن رفع عليه السيف. انظر ابن حجر، فتح (7/517) . 2 الخطابي، أعلام (3/1765) . 3 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 في سرية أضم وقصة محلم بن جثامة مع عامر بن الأضبط1. ثانيًا: محاسبة خالد ومعاقبته على فعلته أو على أقل تقدير عزله من قيادة الجيش والسرايا بعد تلك الحادثة، وذلك أمر لم يحدث مطلقا. وحتى يكتمل حديثنا عن هذه المسألة نعرج على رأي الفقهاء فيها، قال ابن بطال: لا خلاف أن الحاكم إذا قضى بجور أو بخلاف قول أهل العلم أنه مردود، لكن ينظر، فإن كان على وجه الاجتهاد فإن الإثم ساقط، وأما لضمان فيلزم عند الأكثر مع الاختلاف هل يلزم ذلك عاقله الحاكم أو بيت المال؟ وقال الثوري وأهل الرأي وأحمد وإسحاق: ما كان في قتل أو جراح ففي بيت المال. وقال الأوزاعي والشافعي وصاحبا أبا حنيفة: على العاقلة. وقال ابن الماجشون: لا يلزم ضمان2. قال ابن حجر: والذي يظهر أن التبرؤ من الفعل لا يستلزم إثم فاعله، ولا إلزامه الغرامة، فإن إثم المخطىء مرفوع وإن كان فعله ليس بمحمود3. وقال الخطابي: الحكمة في تبرئه صلى الله عليه وسلم من فعل خالد مع كونه لم يعاقبه على ذلك لكونه مجتهدا أن يعرف أنه لم يأذن له في ذلك خشية أن يعتقد أحد أنه كان بإذنه، ولينزجر غير خالد بعد ذلك عن مثل فعله4. وفي نهاية المطاف نقول: إن خالد بن الوليد رضي الله عنه قد ائتمنه   1 انظر ابن حجر، فتح (8/258-259) . 2 انظر ابن حجر، فتح (6/274، 13/182) . 3 ابن حجر، فتح (6/274/182) . 4 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 رسول الله صلى الله عليه وسلم على دماء المسلمين وأعراضهم، ومن بعده صاحبُه وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلا يمكن أن يقتل أحدًا من الناس دون حقٍّ إلاَّ متأولاً. قالها أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما بلغه قتل خالد لمالك بن نويرة1.   1 رواه خليفة بإسناد حسن. انظر خليفة بن خياط، تاريخ (105) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 سرايا ذات مهمات خاصة مقدمه ... مقدمة دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم على إرسال سراياه وبعوثه بانتظام وفق خطط مدروسة، وكانت هذه السرايا والبعوث تؤدي مهماتها وتنجز أعمالها الموكلة إليها، فمن سرايا استطلاع إلى سرايا قتالية وبعوث اعتراضية وأخرى تعرُّضية. ولكن كانت هناك بعض السرايا ترسَل لتؤدي مهمات محددة قد لا يكون فيها استطلاع ولا تعرُّض واعتراض، مثل سرية أبي قتادة بن ربعي رضي الله عنه إلى أضم التي بعثها إلى تلك المنطقة لتحويل أنظار قريش وحلفائها عن نية رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى مكة حيث يظن ظان أنه يريد مهاجمة تلك المنطقة. وهذه العملية تسمى اليوم بالعمليات الاستعراضية التضليلية، وذلك يعطينا دلالة قوية على ذكاء النبي صلى الله عليه وسلم وفطنته العسكرية، فهو دائم الابتكار، حاضر البديهة في مواجهة أعدائه، لا يدع مجالا ولا أسلوبا يستطيع التغلب فيه عليهم ومباغتتهم إلاَّ عمل به، وكان دائما يردد قولته المشهورة: "الحرب خدعة"1. ولكن خُدَعَه وأساليبه العسكرية لا تخرج عن نطاق الحرب الفروسية المشرفة، لا كما يفعل غالبية قادة الجيوش في العالم قديما وحديثا، فكان دائما ما يوصي جنوده بالضبط العسكري التام، وعدم خرق الأعراف والتقليد الإنسانية الخيِّرة، فكان يشدد على عدم الاعتناء على الآمنين والضعفاء من الشيوخ والنساء والأطفال، بل كان يغضب عندما يسمع أو يرى بعض التجاوزات غير الخارقة من بعض جنوده وقواده، ويحاسبهم على ذلك، لأن   1 انظر الألباني، صحيح الجامع الصغير وزياداته. الفتح الكبير (1/606) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 هدفه من الحرب كان ساميا للغاية، غايته إعلاء كلمة الله عز وجل، ونشر العقيدة الإسلامية، ولأجل ذلك كان النصر والتأييد دائما حليفه وحليف جيوشه وسراياه، والمدد من الله ينزل عليهم دائما وبأشكال وصور مختلفة، تارة بالملائكة كما في بدر وحنين، وأخرى بالسيل ينجيهم من أعدائهم. فهذا غالب بن عبد الله الليثي يغير على جموع الأعراب الكديد في سرية تأديبية فيقتل منهم ويسلب ويسوق ماشيتهم، فلا يستطيع بنو الملوح اللحاق به وبأصحابه على الرغم من قصر المسافة بينهم، لأن المدد جاءهم من الله. ولكن في هذه المرة على صورة سيل عارم يضرب جنبات وادي قديد من غير مطر ولا رعد ولا برق، فينظرون إليهم بحنق شديد وهم يسوقون نَعمهم لا يستطيعون إدراكهم، لأن بينهم جنديا من جنود الله أرسله مددًا وعزًّا لأصحاب السرية ومزيدًا من الذل والهوان والغيظ للمشركين. والفرق شاسع بين الفريقين لأن {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} 1.   1 النساء: (76) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 سرية عبد الله بن غالب الليثي إلى بني الملوح ... سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح بالكديد أَبَى أبو القاسم أَنْ تعرّ بي ... في خطل نباته مغلولب صُفْرٌ أعالِيه كَلَوْنِ المُذَهَّبِ ... الطبراني، المعجم (2/179) . (تأديبية) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 نتيجة للتحركات المشبوهة والمعادية من الأعراب المحيطين بالمدينة، فضلا عن قطعهم الطريق أمام الدعاة المسلمين، فقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحملة واسعة ومكثفة لتأديب هؤلاء الأعراب، قاد خلالها عدة غزوات، وبعث أصحابه في سرايا تعرضيَّة1 تأدبية، كان منها سرية بقيادة غالب بن عبد الله الليثي2، وقوة بضعة عشر رجلا3، إلى بني الملوح4. القاطنين في منطقة الكديد الواقعة بين عسفان وقديد5.   1 التعرض: هو التوجه بصورة عامة إلى طلب الخصم بقصد ملاقاته ومقاتلته وتدميره في ساحات القتال. العقيد/محمد صفا، الحرب (21) . 2 قال في "الإصابة": غالب بن عبد الله كناني الليثي، قال البخاري: له صحبة، ونسبه ابن الكلبي فقال: ابن عبد الله بن مسعر بن جعفر بن كلب بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة الكلبي ثم الليثي، وصحح أبو عمر بعد أن قال: غالب بن عبد الله وهو الأكثر، ويقال ابن عبد الله الليثي، ويقال: الكلبي. وأشار إلى أن الحديث في مسند أحمد بسند حسن. وأخرجه أبو داود من طريق عبد الوارث عن محمد بن إسحاق لكن قال في روايته: عبد الله بن غالب، والأول أثبت. ابن حجر، إصابة (3/183-184) . هذا وقد ورد في رواية الطبراني التي نقلها الهيثمي أن اسمه غالب بن أبحر الكلبي. انظر مجمع الزوائد (6/202) . قال ابن حجر: وسياق نسبه من عند ابن الكلبي أصح؛ فإنه أعرف بذلك من غيره. إصابة (3/184) . قلت: تظهر من ذلك منهجية رسول الله صلى الله عليه وسلم التخصصية حيث يرسل لكل منطقة ولكل قوم من هم خبير ومتخصص بأحوالهم وغالبا ما يكون منهم. 3 روى ذلك الواقدي بسنده عن حمزة بن عمرو الأسلمي قال: كنت معهم، وكنا بضعة عشر رجلا (2/752) ، وتابعه كاتبه ابن سعد، طبقات (2/125) . وإن كان قد ساق روايته بسند عن ابن إسحاق الذي لم يذكر هذا الكلام في روايته عند كل من رووا عنه عدا ابن سعد. وقد أغرب ابن كثير رحمه الله فذكر أن عددهم كان مائة وثلاثين رجلا بناء على ما ذكره الواقدي في روايته. ابن كثير، بداية (3/223) . قال الصالحي: والواقدي ذكر ذلك في سرية لغالب غيرها. الصالحي، سير (6/218) . قلت: هي سريته إلى بني عبد ثعلبة، وعوال، كما ذكر الواقدي نفسه، فلعل ابن كثير خلط بينهما. والله أعلم. 4 بنو الملوح: قال الواقدي: هم بنو ليث. مغازي (2/750) وتابعه ابن سعد رغم نقله لرواية ابن إسحاق الذي لم يذكر ذلك. طبقات (2/124) وذكر ابن الكلبي: أنهم من بني يعمر. 5 ورد ذكرها في الصحيح في قصة فتح مكة –شرفها الله- وفيها: "صام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ الكديد الماء الذي بين قديد وعسفان أفطر". ابن حجر، فتح (8/3) .= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وكانت مهمتها بناء على الأوامر الصادرة لهم من القيادة العليا هي مباغتة بني الملوح بشنِّ غارة مفاجئة ومركَّزة عليهم1. خرجت السرية ميممة شطر الهدف2 وفي منطقة قديد3 أثناء مسيرهم الاقترابي التقوا برجل من قبيلة ليث يدعى الحارث بن البرصاء الليثي، فألقوا القبض عليه فقال محتجًّا: "إنما جئت أريد الإسلام، ما خرجت إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"4. فرد عليه القائد: "إن كنت إنما جئت مسلمًا فلن يضرك رباط يوم وليلة، وإن كنت على غير ذلك فسنوثق منك"5.   =وقال البكري: موضع بين مكة والمدينة بين منزلتي أمج وعسفان، وهو ماء عين جارية عليها نخل كثير لابن محرز المكي (معجم ما استعجم –كتاب الكاف والدال) . وقال الحموي: هو موضع على اثنين وأربعين ميلا من مكة (الحموي: معجم البلدان –باب الكاف والدال وما يليهما) . قال البلادي: والكديد يعرف اليوم باسم (الحمض) أرض بين عسفان وخليص على (90) ميلا من مكة على الجادة العظمى إلى المدينة، وسمي الحمض لكثرة نبات العصلاء فيها، وهي أرض تزرع عثريًّا يسقيها وادي غران، وأهلها زبيد من حرب. البلادي، معجم (263) . 1 كانت تلك هي الاستراتيجية التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، وسراياه ضد الأعراب، استطاع من خلالها تحقيق النصر عليهم، وذلك يدل على ذكائه وشدة معرفته بأحوال الأعراب ونفسياتهم، فهم أشداء إذا استعدوا للقتال، وتأهبوا للدفاع عن أنفسهم، أما بمباغتتهم فتسهل السيطرة عليهم وإرعابهم. 2 اختلف أهل المغازي في تاريخ خروج هذه السرية، وقد ذكر ابن عبد البر فيما نقله عن ابن حجر كلاما يوحي بإجماع أهل السير على وقوعها في سنة خمس من الهجرة. انظر الإصابة (3/184) . ولكن بالرجوع إلى روايات أهل المغازي التي بين أيدينا لم أجد أحدا منهم ذكرها في حوادث السنة الخامسة سوى ابن خياط الذي ذكرها في سرايا السنة الخامسة، علما بأنه ساق روايته بسنده عن ابن إسحاق، والذي لم يحدد لها تاريخا في رواياته الأخرى. ابن خياط، تاريخ (87) . أما الواقدي وتلميذه ابن سعد ومن تابعهما فقد أرَّخا لها في السنة الثامنة في شهر صفر منها. الواقدي، مغازي (2/750) ، وابن سعد، طبقات (2/124) . 3 قديد: ثرية جامعة، مذكورة في رسم الفرع، وفي رسم العقيق، وهي كثيرة المياه والبساتين، وسميت قديدا لتقدد السيول بها، وهو واد فحل من أودية الحجاز التهامية يأخذ أعلى مساقط مياهه من حرة "ذرة" فيسمى أعلاه ستارة، وأسفله قديدا، يقطعه الطريق من مكة إلى المدينة على نحو من (120) كيلوا مترا ثم يصب في البحر عند القضيمة، فيه عيون، وقرى كثيرة لحرب وبني سليم. انظر البكري، معجم (3/1054) ، والبلادي، معجم (249) . 4 من رواية ابن إسحاق عند ابن هشام، سيرة (2/610) ، وعند ابن سعد، طبقات (2/124) . 5 من رواية ابن إسحاق عند أحمد. انظر البنا، الفتح (21/129) وعند الطبراني، المعجم (2/128) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ثم أمر بشد وثاقه، ودفع به إلى أحد أفراد السرية1، وقال له: "امكث معه حتى نمرَّ عليك، فإن نازعك فاحتز رأسه"2. ثم انطلقوا في طريقهم حتى وصلوا منطقة الكديد عند غروب الشمس، فكمنوا في الوادي، ثم أرسلوا جندب بن مكيث الجهني رضي الله عنه3 أحد أفراد السرية للاستطلاع، واستكشاف أحوال القوم. يقول جندب رضي الله عنه: "فخرجت حتى آتي تلاًّ مشرفا على الحاضر4، فأسندت فيه، فعلوت على رأسه، فنظرت إلى الحاضر، فوالله إني لمنبطح على التل إذ خرج رجل منهم من خبائه، فقال لامرأته: إني لأرى على التل سوادًا ما رأيته في أول يومي، فانظري إلى أوعيتك هل تفقدين منها شيئا، لا تكون الكلاب جرَّت بعضها، قال: فنظر، فقلت: لا والله ما أفقد شيئا، قال: فناوليني قوسي وسهمين، فناولته، قال: فأرسل سهما، فوالله ما أخطأ جنبي5 فأنزعه فأضعه، وثبتُّ مكاني، قال: ثم أرسل الآخر، فوضعه   1 اختلف أهل المغازي فيه، ففي روايات ابن إسحاق أنه رجل أسود. انظر البنا، الفتح (21/129) ، الطبراني، المعجم (2/178) ، وابن هشام، سيرة (2/620) ، وابن سعد، طبقات (2/124) ، والبيهقي، دلائل (4/298) ، وابن كثير، بداية (3/223) . أما الواقدي فذكر أنه يقال له: سويد بن صخر. الواقدي، مغازي (2/751) . 2 وقع ذلك في رواية ابن إسحاق عند أحمد. البنا، الفتح (21/129) ، وعند الطبراني، المعجم (2/178) . 3 هو: جندب بن مكيث الجهني، أخو رافع بن مكيث، يعد في أهل المدينة، روى عنه مسلم بن عبد الله بن حبيب، وله ولأخيه صحبة ورواية. الاستيعاب، هامش الإصابة (1/218) . 4 الحاضر: القوم النزول على ماء يقيمون به، ولا يرحلون عنه. ويقال للمناهل المحاضر، للاجتماع والحضور عليها. قال الخطابي: ربما جعلوا الحاضر اسما للمكان المحضور. يقال: نزلنا حاضر بني فلان، فهو فاعل بمعنى مفعول، ابن الأثير نهاية –باب الحاء مع الضاد. 5 قال الصالحي في سياق روايته: ولفظ ابن إسحاق، وابن سعد (بين عيني) . الصالحي، سبل (6/217) . قلت: لفظ (بين عيني) تفرد به ابن سعد، أما لفظ ابن إسحاق في رواية البكائي والطبراني، وأحمد (جنبي) ، وفي رواية ابن بكير عند البيهقي على الشك (فوضعه في حبيني، أو قال: في جنبي) فلعل كلمة (جنبي) تصحيف (جبيني) خاصة وأن رواية ابن سعد قد فسرته.. والله أعلم.. انظر ابن سعد، طبقات (2/124) ، وابن هشام، سيرة (4/610) ، والطبراني، المعجم (2/179) ، والبنا، الفتح الرباني (21/129) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 في منكبي، فأنزعه فأضعه، وثبتُّ مكاني، فقال لامرأته: لو كان ربيئة1 لقوم لقد تحرك، لقد خالطه سهماي لا أبا لك، إذا أصبحت فابتغيهما، فخذيهما، لا يمضغهما عليَّ الكلاب. قال ثم دخل"2. ويرجع جندب إلى أصحابه الذين وضعوا خطة الهجوم بناء على ملحوظاته التي ضمَّنها تقريره عن مهمته التي أثبت من خلالها أن جند الإسلام الأوائل كانوا على قدر كبير من الشجاعة والقوة ورباطة الجأش، وقوة الاحتمال3. واتفقوا على شعار (أمت، أمت) كلمة تعارف بينهم4. وفي وجه السَّحر وبعد أن اطمأن بنو الملوح وناموا، شنُّوا عليهم هجوما فجريًّا خاطفًا ومباغتًا أفقدهم توازنهم مما أمكنهم من السيطرة على المدافعين منهم بسهولة، حيث قتلوا بعضهم، ثم استاقوا ماشيتهم وتوجهوا قافلين بسرعة، حيث مروا بابن البرصاء وصاحبه فاحتملاهما معهم، ولكن الليثيين ما لبثوا أن نظموا صفوفهم بسرعة بعد زوال آثار الهجوم المباغت عنهم، وتبعوهم بقوة تعقُّبية كبيرة، حتى إذا ما أدركوهم في منطقة قديد ليس بينهم إلا الوادي فقط يقطعونه ليطبقوا عليهم بما لا قبل لهم به إذ بالعناية الإلهية تتدخل في آخر لحظة لإنقاذهم من الخطر المحدق بهم. يقول جندب رضي الله عنه: "فأرسل الله الوادي بالسيل من حيث شاء تبارك وتعالى من غير سحابة نراها، ولا مطر، فجاء بشيء ليس لأحد به قوة، ولا يقدر أن يجاوزه، فوقفوا ينظرون إلينا، وإنا لنسوق نعمهم، ما يستطيع منهم رجل أن يجيز إلينا، ونحن نحدوها5 سراعًا، حتى فُتناهم، فلم يقدروا   1 الربيئة: هو العين والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدوّ، ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر منه. ابن الأثير: نهاية –باب الراء مع الباء. 2 من رواية ابن إسحاق عند ابن هشام (4/610) . 3 هناك قصة مماثلة جرت لصحابي آخر من الأنصار في غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم. 4 كلمة التعارف، هو الشعار المتفق عليه في أرض المعركة بين المقاتلين، حتى لا يضرب بعضهم بعضًا عن طريق الخطأ خاصة وأن المسلمين والمشركين كانوا يتشابهون في المظهر الخارجي، وهو أسلوب متبع الآن في المعارك الحديثة. خطَّاب، الرسول القائد: (123) بتصرف. 5 نحدوها: نسوقها، حدا الإبل: زجرها وساقها. (القاموس: حدا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 على طلبنا"12. لقد أثبتت هذه السرية القوة، والجلد، ورباطة الجأش، والشجاعة النادرة، والتحكم في الأعصاب، والأحاسيس، التي كان يتحلى بها جند الحق والإيمان، وطلائع الجهاد الإسلامي، إن الروعة لم تكن تتجلى في قوة وجلد ذلك الجندي الشجاع المؤمن جندب بن مكيث رضي الله عنه فحسب، بل في رباطة الجأش العظيمة التي تميَّز بها وهو يواجه سهمين قويين من رام قنَّاص ماهر، استقرا في جسمه وخالطاه، ومع ذلك ثبت كالطود3 ولم يتزعزع، وكأنه قطعة من التل الذي كان منبطحا عليه، حتى إن الأعرابي تراجع عن شكه واثقًا أن ما رماه لم يكن كائنًا حيًّا، فلو كان كذلك لتحرك من مكانه على الأقل كما ذكر لزوجته. ولم يعلم ذلك الأعرابي أن الإيمان إذا تمكن من قلب الإنسان، فإنه يسمو به في روحانية عجيبة، وشفافية نادرة تسيطران عليه فتملكان عليه حسَّه وأحاسيسه. إن قوة الإيمان تحرك في الجسم البشري قواه وطاقاته الكامنة، وتنفق فيه قوة عجيبة من التحكم والسيطرة والتحمل. وذلك ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأشداء على الكفر والكافرين، وهذه القصة إحدى الشواهد القوية على ذلك.   1 من رواية ابن إسحاق عند ابن هشام (4/611) . 2 الحديث مداره على ابن إسحاق والذي رواه عنه كل من أحمد في المسند. انظر البنا، الفتح (21/128-129) ، والطبراني، المعجم (2/178-179) ، وابن خياط، تاريخ (78) ، وابن هشام، سيرة (4/609-610-611) ، وابن سعد، طبقات (2/124-125) ، والبيهقي، دلائل (4/298-299) . وابن إسحاق صدوق وروايته تقبل إذا صرَّح بالسماع والتحديث فيها، وقد صرح هنا بذلك، قال الهيثمي عن رواية أحمد والطبراني: ورجاله ثقات، فقد صرح ابن إسحاق بالسماع (6/203) . ومرَّ بنا تحسين ابن عبد البر لرواية ابن إسحاق عند أحمد. وقال عنه البنا: سنده جيد. الفتح الرباني (21/129) . وقال محقق زاد المعاد، ورجاله ثقات، خلا مسلم بن عبد الله الجهني، فإنه لم يوثقه غير ابن حبان. زاد المعاد (3/363 حاشية1) . كما رواه الواقدي بسنده عن يعقوب بن عتبة. الواقدي، مغازي (2/750-751-752) . 3 الطود: الجبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وقد تحققت في السرية بعض الكرامات التي يجعلها الله عز وجل لأوليائه الصالحين عندما يكونون في حاجة ماسة للعون الإلهي، فيمدهم بهذه الكرامات لنصرهم على أعدائهم وحمايتهم ممن يريد الشر بهم، وهذا الأمر ليس قاعدة، وإنما يظهرها الله في بعض الأحيان لتكون عبرة وعظة وتثبيتا للمؤمنين إلى جانب مهمتها الأساسية. إن هذه المكرمة مع الفارق الكبير تشبه المعجزة التي أجراها الله عز وجل على يد نبيه موسى عليه السلام، قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ِإنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. وقد تكررت مثل هذه الكرامات لبعض الصحابة مثل العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه، الذي جاز بجنده مياه الخليج العربي إلى جزيرة دارين، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، الذي جاز هو وجيشه نهر دجلة إلى المدائن ففتحوها بإذن الله، إن هذه الكرامات هي من جنود الجبار عز وجل، يرسلها في الوقت المناسب لتكون نصرًا وتثبيتًا للمؤمنين، وخذلانًا للكافرين وما يعلم جنود ربك إلا هو.   1 الشعراء: (61-67) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 سرية أبي قتادة بن ربعي إلى بطن أضم ... سرية أبي قتادة إلى بطن أضم (تحويلية، تمويهية، استعراضية1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء/94]   1 الهجوم التمويهي:هو استعراض للقوة القصد منه تضليل العدو، وهو عادة هجوم محدود الهدف غير عميق، تقوم بتنفيذه جزء صغير من القوة الكلية، وهي عملية استعراضية لخداع العدو بعرض للقوات في منطقة لم يستقر عليها العزم. انظر باهر عبد الهادي، مصطلحات عسكرية: (45-68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 في السنة الثامنة الهجرية1 وقبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة2، قام بعملية استعراضية مرسومة القصد منها تحويل انتباه قريش وحلفائها عن خطته لغزوها3. حيث أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم (سرية تحويلية) "إلى أضم وادٍ من أودية أشجع"4 يشير الواقدي إلى أنها كانت بقوة ثمانية أفراد منهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي5 ومحلَّم بن جثَّامة الليثي6، وكانوا تحت قيادة أبي   1 حدَّدها ابن سعد بأنها في أول شهر رمضان من تلك السنة. ابن سعد، طبقات (2/133) . 2 وقع ذلك في رواية ابن إسحاق عند الأموي في مغازيه والتي نقلها البغوي. انظر الواحدي، أسباب (204) . 3 ذكر ذلك الواقدي أثناء سياقه لغزوة الفتح حيث لم يفرد لهذه السرية فصلا خاصًّا بها، فقال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر إلى بطن أضم، ليظن ظان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار. المغازي (2/796-797) . وتابعه في ذلك كاتبه ابن سعد الذي ساق روايته عن جمع شيوخه بلفظ: قالوا. طبقات (2/133) . قلت: هو ما يسمى اليوم بالعمليات الاستعراضية، التضليلية. انظر باهر عبد الهادي، مصطلحات عسكرية (ص 45) . 4 من رواية ابن إسحاق عند البيهقي، سنن (9/115) . قال البكري: وادٍ دون المدينة، قاله الطوسي. وقال عمرو الشيباني وابن الأعرابي: أضم جبل لأشجه وجهينة، وقيل: وادٍ لهم. البكري، معجم (1/165-166) . وذكر الشريف: أن وادي أضم من أعظم أودية الحجاز، ويسمى اليوم وادي الحمض، وهو يسيل من الجنوب الشرقي لحرة خيبر، ويسير نحو الجنوب الغربي حتى يقارب (يثرب) المدينة. حيث تتصل به أودية فرعية منها وادي العقيق، ويتصل به كذلك وادي القرى. وهو يستمد مياهه من السيول التي تنحدر إليه من العيون التي عند خيبر، ثم يتجه غربا حيث يصب في البحر الأحمر جنوب قرية الوجه، ويبلغ طول وادي الحمض زهاء (900) كيلو متر، الشريف، مكة والمدينة: (ص 26) . 5 راوي الخبر، قال في الإصابة: "له ولأبيه صحبة"، وقال ابن منده: لا خلاف في صحبته. وقال البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان: له صحبة. وقال ابن سعد: أول مشاهده الحديبية، ثم خيبر، وقال ابن عساكر: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عن عمر، روى عنه يزيد بن عبد الله بن قسيط، وأبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، وابنه القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد، شهد الجابية مع عمر، وقال ابن البرقي: جاءت عنه أربعة أحاديث. ابن حجر، إصابة (2/295) . 6 قال ابن حجر: محلم بن جثامة الليثي أخو الصعب بن جثامة، قال ابن عبد البر: يقال إنه الذي قتل عامر بن الأضبط، وقيل: إن محلمًا غير الذي قتل، وإنه نزل حمص ومات بها أيام ابن الزبير، ويقال: إنه مات في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن فلفظته الأرض مرة بعد أخرى. قلت: جزم بالأول ابن السكن. ابن حجر، إصابة (3/369) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 قتادة بن ربعي رضي الله عنه1. فخرجوا حتى إذا توسطوا وادي أضم، مرَّ بهم رجل أشجعي يقال له عامر بن الأضبط2 على جمل له ومعه زاده ومتاعه، فسلم عليهم بتحية الإسلام فأمسك عنه القوم. "وحمل عليه محلم بن جثامة، فقتله لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره، ومتاعه"3 ويذكر الواقدي4: أنهم لم يلقوا جمعًا، فانصرفوا راجعين حتى انتهوا إلى ذي خشب5، فبلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إلى مكة، فيمموا شطر مكة حتى لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بالسقيا6. وتلاحقت أحداث الفتح، ثم غزوة حنين، وبينما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الظهر، إذ "عمد إلى ظل شجرة فجلس تحتها، وهو بحنين، فقام إليه الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، يختصمان في عامر بن أضبط الأشجعي، عيينة يطلب بدم عامر، وهو يومئذ رئيس غطفان، والأقرع بن حابس يدفع عن محلم بن جثامة لمكانه من خندف، فتداولا   1 الواقدي، مغازي (2/797) ، وابن سعد، طبقات (2/133) . 2 عامر بن الأضبط الأشجعي، ذكره ابن شاهين وغيره، وساق قصة تدل على أنه قتل حين أسلم قبل أن يلقى النبي صلى الله عليه وسلم. ابن حجر، إصابة (2/248) . 3 من رواية ابن إسحاق عند أحمد. البنا، الفتح (18/117) ، وعند ابن هشام، سيرة (4/626) ، وعند البلاذري، أنساب (385) ، والبيهقي، دلائل (4/305) . 4 انظر الواقدي، مغازي (2/797) . 5 ذي خشب: وادٍ على مسيرة ليلة من المدينة. الحموي، معجم البلدان (2/372) . 6 السقيا: قرية جامعة وهي في طريق مكة بينها وبين المدينة، وقال كثير: إنما سميت السقيا بما سقيت من الماء العذب وهي كثيرة الآبار والعيون والبرك، وبالسقيا مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنب الجبل وعنده عين وهي تجري إلى صدقات الحسين، عليها نخل كثير. وقال عبد الله بن خميس: ونترك يمينا ونحن نجتاز حدود الحرم جبلا كبيرا ممتدًّا ما بين المأزمين وعرنة وبه شعب نتركه على يميننا قبيل المأزمين يقال له الآن السقيا، ويعبر عنه قديما بشعب السقيا، سقيا خالصة مولاة الخيزران. وقيل: إن البئر التي نثلها عبد الله بن الزبير إلى جانب بئره وبستانه هنالك. يقول حمد الجاسر محقق المناسك: تعرف السقيا الآن باسم أم البرك، لكثرة ما كان فيها منها، وهي قرية كانت قبل سنتين (يعني عام 1967م) قوية لكونها على طريق مكة-المدينة، ولكن الطريق هذا عدل إلى الساحل فأصبح المرور بها قليلا. انظر الحربي، المناسك (ص 450) ، وحاشية رقم (3) ، والبكري، المعجم (3/742-743) ، وعبد الله بن خميس، المجاز بين اليمامة والحجاز (ص 296) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الخصومة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم"1 "ثم ارتفعت الأصوات، وكثرت الخصومة واللغط"2، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم عامر بن الأضبط الأشجعي: هل لكم أن تأخذوا منا خمسين بعيرا، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة؟ فقال عيينة بن بدر: والله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحرقة3 مثل ما أذاق نسائي". "فقام رجل من بني ليث يقال له ابن مكيتل، وهو قصد من الرجال4، فقال: يا رسول الله، ما أجد لهذا القتيل مثلاً في غرة الإسلام5، إلا كغنم وردت فرميت أولادها فنفرت أخراها، اسنن اليوم، وغيِّر غدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لكم أن تأخذوا خمسين بعيرًا الآن، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة؟ فلم يزل بهم حتى رضوا بالدية، قال قوم محلم: ائتوا به حتى يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فجاء رجل طوال ضرب اللحم6 في حلة قد تهيأ فيها للقتل"7، "فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تدمعان، فقال: يا رسول الله إني قد فعلت الذي بلغك وإني أتوب إلى الله، فاستغفر لي يا رسول الله. فقال رسول الله: أقتلته بسلاحك في غرة الإسلام: اللهم لا تغفر لمحلم. بصوت عال" 8 "فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه"9. قال راوي الحديث: "فأما نحن بيننا فنقول: قد استغفر له، ولكنه أظهر   1 من رواية ابن إسحاق عند ابن هشام، سيرة (4/327) . 2 من رواية ابن إسحاق عند البيهقي، دلائل (4/308) . 3 الحرقة: التوجع والألم والحرارة. (اللسان: حرق) . 4 في رواية ابن إسحاق عند أحمد، والبلاذري، مكيتل رجل قصير مجموع. انظر البنا، الفتح (16/50) ، والبلاذري، أنساب (385) . وعند ابن هشام (مكيثر) . سيرة (4/627) . 5 غرة الإسلام: أوله. ابن الأثير، النهاية (3/354) . 6 ضرب اللحم: خفيفه. (القاموس: ضربه) . 7 من رواية ابن إسحاق عند البيهقي، دلائل (3/306-307) . 8 من رواية ابن إسحاق عند أبي داود، سنن (4/643) . 9 من رواية ابن إسحاق عند البيهقي، دلائل (3/306-307) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ما أظهر ليدع الناس بعضهم من بعض"1 2 وقد ذكر أصحاب المغازي أنه نزل فيه قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا..} 3 4.   1 من رواية ابن إسحاق عند أحمد. البنا، فتح (16/50) . 2 الحديث جزءان مدارهما على ابن إسحاق الذي صرَّح بالتحديث فيهما، وقد روى الجزء الأول الذي يتحدث عن قصة السرية بسند قال عنه الهيثمي: رجاله ثقات. الهيثمي، مجمع (7/8) . قلت: فيه القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد اختلف فيه، فقيل: له صحبة، وقيل: لا تصح صحبته وهو الراجح، فلأجل ذلك لم يُيبين حاله. وإن كان ابن أبي حاتم قد ذكر فيه قولا فقال: "أدخله بعض الناس في كتاب الضعفاء، فسمعت أبي يقول: يحوَّل من هذا الكتاب، فإن الراوي عنه عبد الله بن سعيد المقبري، وعبد الله ضعيف، ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل (2/3/136) . وانظر في ترجمته: البخاري، التاريخ الكبير (4/1871) ، وابن حجر في تعجيل المنفعة (227) ، والإصابة (3/239) . هذا وقد أخرج هذا الجزء من الحديث عن ابن إسحاق كل من أحمد. البنا، الفتح الرباني (18/117) ، وابن أبي شيبة، المصنف (14/547) ، والأموي سعيد بن يحي. انظر الواحدي، أسباب (204) ، وابن هشام، سيرة (4/626) ، والبلاذري، أنساب (385) ، والبيهقي، سنن (9/115) ، ودلائل (4/305-306) . أما الجزء الثاني الخاص بتخاصم الأقرع، وعيينة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في حنين.فقد أخرجه عن ابن إسحاق كل من الإمام أحمد في المسند. انظر البنا، الفتح الرباني (16/50) ، وأبو داود، سنن (4/641-643) ، وابن أبي شيبة، المصنف (4/547-548) ، وابن هشام، سيرة (4/627-628) ، والبلاذري، أنساب (385) ، والبيهقي، سنن (9/116) ، ودلائل (3/306-307) . وقد حسن الحافظ ابن حجر سند أبي داود. انظر الإصابة، ترجمة سعد بن ضميرة (2/29) . ومع ذلك فللحديث بكامله شواهد قد تقويه. فقد أخرج ابن جرير الحديث كاملا عن ابن عمر بسند فيه سفيان بن وكيع: صدوق لكنه ابتلي بوراقه فأدخل عليه ما ليس من حديثه فنُصح فلم يقبل فسقط حديثه. انظر الطبري، تفسير (9/73) ، وابن حجر، تقريب (245) كما أخرج البيهقي الحديث عن أبي داود مختصرا عن زياد بن سعد بن ضميرة (مقبول) . انظر البيهقي، سنن (9/116) ، ودلائل (3/307، 308) ، وابن حجر، تقريب (219) وأخرج البيهقي أيضا قصة مشابهة من طريق الزهري عن قبيصة بن ذؤيب (من أولاد الصحابو وله رؤية) . انظر البيهقي، دلائل (3/309-310) ، وابن حجر، تقريب (453) . قلت: لكنه لم يسمِّ فيها أبطال القصة. والله أعلم. 3 انساء (99) . 4 اختلف في سبب نزول هذه الآية، وفيمن نزلت فيه اختلافا كبيرا. قال السهيلي: "وأما الذي نزلت فيه الآية {لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} والاختلاف فيه شديد، فقيل اسمه فليت، وقيل: هو محلم كما تقدم، وقيل: نزلت في المقداد بن عمرو، وقيل في أسامة، وقيل: في أبي الدرداء. قلت: لا يستقيم نزولها في أسامة رضي الله عنه لأنه لم يكن مشركا بل ولد في الإسلام. واختلف أيضا في المقتول، فقيل: مرداس بن سهيل، وقيل: عامر بن الأضبط. والله أعلم. كل هذا مذكور في التفاسير والمسندات. السهيلي،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 كما أخرج ابن إسحاق بسند فيه مجهول1، عن الحسن قال: "فو الله ما مكث محلم بن جثامة إلا سبعا حتى مات فلفظته –والذي نفس الحسن بيده- الأرض. ثم عاد والله فلفظته، فلما غل قومه عمدوا إلى صدَّين2 فسطحوه3 بينهما، ثم رضموا عليه الحجارة حتى واروه، قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه، فقال: والله إن الأرض لتطابق على من هو شر منه، ولكن الله أراد أن يعظكم في حرم ما بينكم فيما أراكم منه"4.   =الروض (7/529) . قلت: وقد أخرج أحمد والترمذي وحسَّنه، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي: أنها نزلت في رجل من بني سليم. انظر البنا، الفت (18/116) ، والألباني، صحيح سنن الترمذي (3/40) ، وقال عنه الألباني: صحيح، والحاكم، المستدرك (2/235) . كما ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة جزء بن الجدرجان أن ابن منده قد أخرج بنده عنه أن أخاه فداد بن الجدرجان وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيته سرية له فقتلوه بعد أن قال لهم: إنه مؤمن، فنزلت فيه الآيات. انظر ابن حجر، إصابة – ترجمة جزء بن الجدرجان (1/233) . قال ابن حجر: وإن ثبت الاختلاف في تسمية من باشر القتل مع الاختلاف في المقتول، احتمل تعدد القصة. إصابة، ترجمة مرداس (13/401) . 1 وضحت رواية ابن إسحاق عند ابن أبي شيبة المجهول، وهو عمرو بن عبيد. ابن أبي شيبة، مصنف (14/548-549) قال عنه ابن حجر: "معتزلي مشهور كان داعية إلى بدعته، اتهمه جماعة مع أنه كان عابدًا" (تقريب: 245) . إذًا فالرواية ضعيفة السند، ولكن لها شاهد من حدث ابن عمر عند الطبري بإسناد فيه سفيان بن وكيع، صدوق ابتلي بوراقه فأدخل عليه ما ليس من حديثه فنُصح، فلم يقبل فسقط حديثه. ابن حجر، تقريب (245) . 2 صدَّين: جبلين صغيرين، (القاموس: صدّ) . 3 فسطحوه بينهما: بسطوه وأضجعوه بينهما. (القاموس: السطح) . 4 رواه ابن هشام، سيرة (4/628) ، وابن أبي شيبة، المصنف (14/548-549) ، والطبري، تفسير (9/72-73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الفصل الثاني: سرايا تحطيم الأوثان مقدمه ... الفصل الثاني: سرايا تحطيم الأوثان ويحتوي على: 1- مقدمة. 2- بعث خالد بن الوليد إلى العزَّى. 3- سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة. 4- سر ية عمرو بن العاص إلى سواع. 5- بعث خالد بن الوليد وأبي سفيان بن حرب إلى اللات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 مقدمة بعد أن كان العالم غارقًا في سبات عميق يتخبط في ليل حالك الظلام، وهو يتمرغ في أدران الجاهلية والشرك يبحث عمن يخرجه من الظلمات إلى النور يبعث الله عز وجل الغيث بعدما قنطوا، فكانت الرسالة المحمدية الحنيفية التي كان عليها فطرة البشر منذ خُلقوا وأُخذ عليهم العهد والميثاق بذلك. لكنهم نقضوا العهد وخانوا الميثاق بتحريض من الشياطين أعدائِهم. وصدق الله القائل في حديث قدسي يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه: "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" 1. فهؤلاء قوم نوح يُعرضون عن عبادة الله عز وجل ويعبدون ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا وهم رجال صالحون كانوا فيهم، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عبدت2. ويواصل الشيطان نشاطه في الأرض أينما وجد له أرضًا خصبة ولقي له أتباعا وجنودًا من الإنس والجن، فلما حدث الطوفان وبعد سنين طويلة انتقلت هذه الأصنام بطريقة ما إلى العرب3.   1 صحيح أخرجه مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه. انظر الألباني، مختصر صحيح مسلم، (ص: 523) ، صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/514-515) . 2 أخرجه البخاري تعليقا عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر ابن حجر، فتح (8/667-668) . 3 تذكر بعض الروايات أن ذلك كان بفعل مجهودات أبي خزاعة عمرو بن لحي. انظر ابن الكلبي، الأصنام (ص 56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فصارت ودٌّ لكلب بدومة الجندل "وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير، لآل ذي الكلاع"1. أما بقية القبائل العربية وخاصة القريبة من مكة عاصمة الشرك والوثنية قي الجاهلية فقد "اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحُجاب، وتهدي لها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده"2. وكان من أشهر هذه الطواغيت بل وأعظمها في نظر العرب –بعد الكعبة- الثلاثة التي ذكرها الله عز وجل في سورة النجم، قال تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 3. "ولم تكن قريش بمكة ومن أقام بها من العرب يعظمون شيئا من الأصنام إعظامهم العزى ثم اللات ثم مناة"4. وقد بلغ من تعظيمهم إياها أنهم كانوا إذا طافوا بالكعبة يقولون: "واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فإنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى"5. حتى إذا تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية السابقة من سورة النجم إلى آخر السورة ثم سجد سجد معه المشركون ظنًّا منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غير موقفه من آلهتهم المزعومة والتي كان موقفه منها سابقا متدرجًا من الإنكار القلبي قبل   1 ابن حجر، فتح (8/667) . 2 من رواية ابن إسحاق. انظر ابن هشام، سيرة (1/83) . 3 النجم (19-20) . 4 انظر. ابن الكلبي، الأصنام، (ص: 27) . 5 المصدر السابق (ص: 19) ، وقد ذكرت بعض الروايات غير الصحيحة أن هذه الكلمات وقعت في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بسببها سجد المشركون معه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 بعثته إلى الإنكار القولي بعد البعثة والذي استمر طيلة الفترة المكية. ولكن بعد أن استعلى الإسلام باندحار الشرك في الجزيرة العربية تدريجيًّا حتى سقوط مكة عاصمة الوثنية في أيدي المسلمين جاء دور الإنكار الفعلي نحو تلك الأوثان والتي غيَّرها وأزالها من حول الكعبة بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم. ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنمًا إلا كسره"1. ثم بث سراياه وبعوثه لإزالة كل رموز الشرك والوثنية من أرض الجزيرة العربية فكان منها بعثان بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى كلِّ من العزى، ثم اللات، وسرية إلى مناة الثالثة الأخرى بقيادة سعد بن زيد الأشهلي، وأخرى لتحطيم سواع بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه، وغيرها من البعوث والسرايا التي انطلقت لتطهير أرض الجزيرة من الأوثان، قال تعالى {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} 2.   1 ابن القيم، زاد المعاد. 2 الإسراء: (81) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 بعث خالد بن الوليد إلى العزى ... بعث خالد بن الوليد لهدم وتحطيم العزى (يا عزى كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 العُزَّى بضم المهملة وفتح الزاي، اشتقوها من اسم الله تعالى العزيز سبحانه وتعالى عما يشركون، قالوا: العزى تأنيث الأعز، مثل الكبرى تأنيث الأكبر، والأعز بمعنى العزيز، والعزى بمعنى العزيزة1. "وكانت العرب وقريش تسمي بها عبد العزى"2. وقد اختُلف في صفتها ولمن كانت من العرب، فقيل: كانت شجرة بنخلة3 لغطفان يعبدونها4، وقيل: بل كانت بيتًا ببطن نخلة5. قال ابن دريد: كانت بيتًا بالطائف6. وأخرج أبو نعيم، والبيهقي عن أبي الطفيل، وابن الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها كانت بيتا على ثلاث سمرات7. ولكن سعيد بن جبير يقول: العزى حجر أبيض كانوا يعبدونه8. ويروي الطبري نقلا عن الواقدي، قال: "هو صنم لبني شيبان، بطن من سليم حلفاء بني هاشم، وبنو أسد بن عبد العزى يقولون: هذا صنمنا"9. ولكن ابن إسحاق، وابن سعد والكلبي يقولون: كانت سدنتها وحجابها بني شيبان من بني سليم، وإن آخر مَن سدنتها منهم دبية بن حرمي السُّلمي10.   1 انظر الجوهري، الصحاح،باب الزاي، فصل العين، الحموي، معجم، باب العين والزاي، والزرقاني، شرح (2/347) . 2 انظر هشام بن السائب الكلبي، الأصنام (18) . 3 بحددها لنا ابن الكلبي فيقول: وكانت بواد من نخلة الشامية يقال له: حراض بإزاء الغمير على عين المصعد إلى العراق من مكة وذلك فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال. ابن الكلبي، الأصنام (18) . 4 انظر الشوكاني، فتح القدير (5/108) ، والحموي، معجم (4/116) . 5 ذكر ذلك قتادة. انظر الشوكاني، فتح القدير (5/108) . 6 انظر العامري، بهجة المحافل (1/445) . 7 انظر أبا نعيم، دلائل (2/535) ، والبيهقي، دلائل (5/77) ، وابن الكلبي، الأصنام (125) . 8 انظر الشوكاني، فتح القدير (5/108) . 9 انظر الطبري، تاريخ (3/65) . 10 انظر ابن هشام سيرة (4/426) ، وابن سعد، طبقات (2/146) ، وابن الكلبي، الأصنام (22) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 قال خليفة: كانت بيتا عظيما لقريش، وكنانة، ومضر كلها1. وكان أول من وضعه من العرب كما تذكر الروايات هو ظالم بن أسعد، أو سعد بن ظالم الغطفاني2. ويذكر ابن الكلبي: أنها كانت لها مكانة عظيمة عند العرب عامة وقريش خاصة، حيث كانوا يزورونها ويهدون إليها ويتقربون عندها بالذبائح، وقد بلغ من تعظيمهم لها أن قريشا حمت لها شعبًا من وادي حراض يقال له سقام يضاهون به حرم الكعبة، كما جعلوا لها منحرًّا خاصًّا ينحرون فيه هداياها يقال له: الغبغب3. فلم تزل العزى كذلك حتى بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم فعابها وغيرها من الأصنام ونهاهم عن عبادتها، فاشتد ذلك على قريش فأخذت تدافع عن آلهتها بكل ما تملك من قوة، وأعلنت الحرب على المسلمين من أجلها، بل إن أبا سفيان بن حرب قال يوم أحد للمسلمين مفتخرًا بها: لنا العزى ولا عزى لكم، فرد عليه المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم. ويوم جاء الحق وزهق الباطل –يوم الفتح الأعظم- يومها تساقطت تلك الأصنام المحيطة بالكعبة المشرفة على يد نبي الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم ثم بث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه وبعوثه لتحطيم بقية معاقل الشرك والوثنية منها سرية قوتها ثلاثون فارسًا كما يذكر الواقدي4 بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، توجهت إلى الطاغوت الأعظم منزلة ومكانة عند قريش وسائر العرب العزى، وقد اتفق أهل المغازي على أنها كانت بعد الفتح ولكنهم اختلفوا في تحديد تاريخها   1 انظر خليفة بن خياط، تاريخ (88) . 2 انظر ابن الكلبي، الأصنام (18) ، والعامري، بهجة (1/445) ، والزرقاني، شرح (2/347) . 3 ابن الكلبي، الأصنام (19-20) . 4 الواقدي، مغازي (3/873) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 بدقة، حيث ذكرها ابن إسحاق ومن تابعه بعد سرية خالد إلى بني جذيمة1. وذكرها الواقدي وابن سعد قبلها وحدداها بخمس ليال بقين من شهر رمضان2. وذكر مغلطاي أن ذكر ابن إسحاق لها بعد سرية بني جذيمة فيه نظر من حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد وجد على خالد في أمر بني جذيمة، ولا يتجه إرساله بعد ذلك في بعث3. قال الشامي: إن صح ما ذكره ابن إسحاق من كون سرية خالد لهدم العزى بعد سرية بني جذيمة فوجهه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي عنه وعذره في اجتهاده4. انطلق خالد بن الوليد رضي الله عنه وأصحابه لإزالة ذلك الطاغوت من الوجود نهائيًّا، وعندما وصلت السرية إلى العزى قام إليها خالد "فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها"5 وهو يردد: "كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك"6. ثم رجع خالد وأصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم تقريره بإنجاز المهمة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم استدرك على قائد السرية كما يذكر الواقدي وكاتبه في روايتهما: "هل رأيت شيئًا؟، قال: لا"7 فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئًا"8.   1 انظر ابن خياط، تاريخ (88) ، وابن هشام، سيرة (4/436) ، الطبري، تاريخ (3/65) ، والعامري، بهجة (1/445) . 2 انظر الواقدي، مغازي (3/873) ، وابن سعد، طبقات (2/145) . 3 مغلطاي قلج، الزهر الباسم (23/20) . 4 الشامي،سبل (6/301) ، وانظر ما علقناه على هذا الموضوع في سرية خالد إلى بني جذيمة. 5 أخرج ذلك النسائي، وأبو نعيم، والبيهقي عن أبي الطفيل رضي الله عنه. انظر ابن كثير، تفسير (4/454) ، وأبا نعيم، دلائل (2/535) ، والبيهقي، دلائل (5/77) . 6 من رواية أبي الهذيل عند ابن خياط بسند حسن لكنه مرسل. ابن خياط، تاريخ (88) . 7 انظر الواقدي، مغازي (3/874) ، وابن سعد، طبقات (2/146) . 8 من رواية أبي الطفيل. انظر أبا نعيم، دلائل (2/535) ، والبيهقي، دلائل (5/77) ، وابن كثير، تفسير (4/454) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 فرجع خالد وهو متغيظ حنق على عدم إنهاء مهمته على الوجه المطلوب، فلما وصل إليها ونظرت السدنة إليه عرفوا أنه جاء هذه المرة ليكمل ما فاته في المرة السابقة فهربوا إلى الجبل وهو يصيحون "يا عزى خبليه، يا عزى عوريه. فأتاه خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها"1. فقدم إليها خالد رضي الله عنه بشجاعته الإيمانية المعروفة، وضربها بالسيف حتى قتلها" ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال: "تلك هي العزى"2 3. وقد يبدو هذا الخبر غريبا بعض الشيء وقد حاول الزرقاني تفسيرة، فقال:   1 المصدر السابق. 2 أبو نعيم، دلائل (2/535) ، والبيهقي، دلائل (5/77) ، ابن كثير، تفسير (4/454) . 3 خبر السرية أخرجه كل من أبي يعلى، المسند (2/535) ، والنسائي، السنن الكبرى – كتاب التفسير (4/17) ، وأبو نعيم، دلائل (2/535) ، والبيهقي، دلائل (5/77) عن أبي الطفيل رضي الله عنه من طريق الوليد بن جميع الذي اختلف فيه، فوثقه ابن سعد، وابن معين، والعجلي، وقال عنه أحمد، وأبو داود، وأبو زعة: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات، ثم ذكره في الضعفاء، وقال عنه: فحش تفرده فبطل الاحتجاج به. وقال البزار: احتملوا حديثه وكان فيه تشيع. وقال العقيلي: في حديثه اضطراب، وقال الحاكم: لو لم يخرج له مسلم لكان أولى، وذكر الفلاس أن يحي بن سعيد كان لا يحدثهم عنه، فلما كان قبل موته بقليل حدثهم عنه. وأخيرا قال عنه ابن حجر: صدوق يهم. انظر ابن سعد، طبقات (6/354) ، وابن أبي حاتم، الجرح والتعديل (9/8) ، وابن حبان، الثقات (5/492) ، والذهبي، ميزان الاعتدال (4/337) ، وابن حجر، تهذيب التهذيب (11/138-139) ، وتقريب التهذيب (582) . كما روى الخبر ابن خياط باختصار وسنده جيد لكنه مرسل. انظر خليفة بن خياط، تاريخ (88) ، وأخرجه ابن الكلبي بسنده عن ابن عباس. انظر ابن الكلبي، الأصنام (251) ، ورواه من أهل المغازي ابن إسحاق بلا سند. انظر ابن هشام، سيرة (4/636-637) والواقدي، مغازي (3/873-874) ، وابن سعد عن جمع من شيوخه، طبقات (2/145-146) ، وهكذا.. فإن رواية أبي الطفيل المتصلة وإن كان فيها بعض مقال من ناحية الوليد بن جميع الذي عليه مدار الروايات، لكنها لم تتحد مع رواية خليفة المرسلة مما يقوي القاسم المشترك بين الروايتين، كما تتعاضد بقية طرق الخبر مع بعضها فتكون شاهدا يكسبه بعض القوة، وإن كان محقق مسند أبي يعلى قد حكم على سنده بالصحة. انظر أبا يعلى، المسند (2/197) ، حاشية (2) .. والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 أمرتهم بتجديدها أو تخبرهم أنها لو قطعت شجراتها أو كسرت حجارتها لم تزل عظمتها، وفي خروجها لخالد ثانية آية أخرى؛ لأنها لم تكن مشاهدة1.   1 الزرقاني، شرح المواهب (2/348) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 سرية سعد بن زيد الأشهلي1 إلى مناة {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم/20]   1 لم ترد حول هذه السرية روايات صحيحة أو حسنة، لذا كان الاعتماد على أقوال الإخباريين وروايات أهل المغازي المتخصصين بعد نقد متونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 قال الله تعالى {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 1. مناة بفتح الميم والنون الخفيفة2 اسم صنم كانت على ساحل البحر الأحمر مما يلي قديدا3 في منطقة تعرف بالمشلل4. وكانت للأوس والخزرج وغسان ومن دان بدينهم، يعبدونها ويعظمونها في الجاهلية ويهلون منها للحج، وقد بلغ من تعظيمهم إياهم كانوا لا يطوفون بين الصفا والمروة تحرجًا وتعظيمًا لها حيث كان "ذلك سنة في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة"5. ولم تزل هذه عادتهم حتى أسلموا " فلما قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم للحج ذكروا   1 النجم (20) . 2 ابن حجر، فتح (8/175) ، وقال عنها: والطاغية صفة لها، إسلامية. وقال الشوكاني: قرأ الجمهور مناة بألف من دون همزة، وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد والسلمي بالمد والهمزة، فأما قراءة الجمهور فاشتقاقها من منى يمني أي: صب؛ لأن دماء النسائك كانت تصب عندها يتقربون بذلك إليها، وأما القراءة الثانية فاشتقاقها من النوء وهو المطر، لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء، وقيل: هما لغتان للعرب. فتح القدير (5/108) . 3 سبق التعريف بها. 4 المشلل: قال عنها البكري: والمشلل من قديد وبالمشلل كانت مناة. وقال مالك: كانت حذو قديد. البكري، معجم ما استعجم (3/1055) . قلت: ورد ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري"وكانت مناة حذو قديد". ابن حجر، فتح (8/175) . وقال الحموي: والمشلل الطرد، وهو جبل يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر. معجم (5/136) . ويقول البلادي: المشلل ثنية تأتي أسفل قديد من الشمال إذا كنت في بلد صعبر بين رابغ والقضيمة، كانت المشلل مطلع شمس مع ميل إلى الجنوب، وحرة المشلل هي التي تراها من تلك القرية، سوداء مدلهمة تشرق الشمس عليها وفيها كانت مناة الطاغية، ومحلها معلوم. البلادي، معجم (298) . 5 حديث صحيح موقوف على عائشة رضي الله عنها رواه مسلم وهذا لفظه. النووي على مسلم (9/24) ، وانظر روايات عائشة رضي الله عنها حول ذلك عند البخاري. ابن حجر، فتح (8/175، 3/498) ، وعند مسلم. النووي على مسلم (9/22-23-24) ، وعند أحمد بسند صحيح. البنا، الفتح (18/79) . وانظر رواية ابن إسحاق حول نفس الموضوع. ابن هشام، سيرة (1/85) ، وهناك روايات عن قتادة، والضحاك، وابن هشام يذكرون فيها أنها كانت لخزاعة وهذيل. وقال الشوكاني: هي صنم بني هلال. أما ابن زيد فيقول: لبني كعب. انظر الزرقاني، شرح (2/349) ، والشوكاني، فتح (5/108) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ذلك له فأنزل الله تعالى هذه الآية"1. قال الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} 2. وقد كان أول من نصبها لهم مؤسس الشرك في الجزيرة العربية ومبتدع الأوثان محرف الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام الخزاعي عمرو بن لحي3. ولما كان الفتح الأعظم في السنة الثامنة من الهجرة سنة تحطيم الأوثان وبالتحديد في الرابع والعشرين من شهر رمضان4 بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجلا من أهلها سابقا الذين كانوا يعظمونها في الجاهلية وهو سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه على رأس سرية قوتها عشرون فارسًا5 وكان واجب السرية هو إزالة مناة من الوجود نهائيًّا.   1 صحيح موقوف أخرجه مسلم عن عروة عن عائشة رضي الله عنها. النووي على مسلم (9/22) . 2 البقرة (158) . 3 قال ابن حجر: وبذلك جزم محمد بن إسحاق فيما رواه الفاكهي من طريق عثمان بن ساج عنه. فتح الباري (3/499) . وانظر الفاكهي، أخبار مكة (5/163) كما ذكر ذلك ابن الكلبي في الأصنام، (ص 13) ، وانظر قصة عمرو بن لحي في الصحيح، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه يجر أمعاءه في النار، وذلك جزاء فعله هذا. ابن حجر، فتح (6/547) . 4 رواه ابن سعد عن جمع من شيوخه بلفظ قالوا. الطبقات (2/146) ، وتابعه نقلا عنه اليعمري، عيون (2/238) ، والشامي بدون أن يشير إلى ذلك، السبل (6/304) . وقال الزرقاني: فكان اللائق تقديمها على العزى، لكنه قدمها عليها تبعا للعيون وغيرها لتقديمها في الذكر العزيز، وللاهتمام بشأن ذكر هدمها لأنها كانت من أصنام قريش. انظر الزرقاني، شرح (2/349) . ويذكر ابن الكلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عليًّا رضي الله عنه إليها بعد توجهه من المدينة إلى مكة بأربع ليال أو خمس وذلك سنة ثمان للهجرة، الأصنام (ص 15) ، كما ذكرها ضمن أحداث سنة ثمان من الهجرة الطبري وابن كثير كلاهما نقلا عن الواقدي. الطبري، تاريخ (3/66) ، ابن كثير، تفسير (4/375) ، وأشار إليها الواقدي في حوادث سنة ثمان (2/870) . 5 يذكر ابن كثير والزرقاني عن ابن إسحاق: أن المبعوث هو أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه وليس سعدا، انظر ابن كثير، تفسير (5/254) ، والزرقاني، شرح (2/349) ، في حين أن القائل بذلك هو ابن شام في زوائد السيرة. انظر ابن هشام، سيرة (1/86) ، ويوافق الواقدي في رواية الطبري وابن كثير عنه انظر ابن كثير، بداية (4/375) ، والطبري، تاريخ (3/66) ، ويذكر ابن الكلبي وابن هشام في رواية أنه كان عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 انطلق زيد ومن معه في مسير اقترابي سريع لإنجاز المهمة المحددة حتى وصل إليها فقابله سادنها متسائلاً: ما تريد قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد يمشي إليها، وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها"1. فصاح بها السادن صيحة الواثق: "مناة دونك بعض عصاتك"2 ولكن صيحته ذهبت أدراج الرياح، فلم يأبه سعد رضي الله عنه بكل ذلك ويضربها ضربة إيمانية قاتلة قضت عليها، ثم يقبل على الصنم مع أصحابه "فهدموه ولم يجدوا في خزانتها شيئا، وانصرف راجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم3 4. وتزول مناة من الوجود كما زالت من قبل من القلوب، ويطوف الأنصار بين الصفا والمروة من غير جناح ولا حرج. ومن الأمور العجيبة المضحكة ما ذكره الذهبي عن بعض المخرفين من مشركي الهند أنهم كانوا يعتقدون في صنمهم المسمى (سومنات) أنه هو مناة "وأنه تحوَّل بنفسه في أيام النبوة من ساحل جدة، وحصل بهذا المكان ليُقصد ويُحج معارضة للكعبة"5 "وكانوا يقولون: أنه يرزق ويُحيى ويُميت   1 رواه ابن سعد عن جمع من شيوخه بلفظ قالوا. ابن سعد، طبقات (2/146) . 2 المصدر السابق. 3 المصدر السابق. 4 خبر السرية انفرد به ابن سعد بين أهل المغازي فرواه عن جمع شيوخه بلفظ قالوا، وشيوخ ابن سعد الذين صدرهم كتابه الطبقات فيهم الثقات وفيهم الضعفاء. انظر ابن سعد، طبقات (2/5، 146) ، كما نقل الطبري رواية عن شيخ ابن سعد الواقدي حول الخبر لكنها مقتضبة. انظر الطبري، تاريخ (3/63) ، وكذلك رواه ابن هشام في زوائد السيرة. انظر ابن هشام، سيرة (1/86) . إذًا فالخبر ضعيف من الناحية الحديثية ويمكن الاستئناس به تاريخيًّا حيث ذكر أهل المغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل بعض السرايا لتحطيم الأصنام في الجزيرة العربية ولا يمكن استثناء مناة من ذلك لكونها أحد أكبر طواغيت في الجزيرة. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ويسمع ويعي، يحجون إليه ويتحفونه بالنفائس ويتغالون فيه كثيرا، فتجمع عند هذا الصنم مالّ يتجاوز الوصف، وكانوا يغسلونه كل يوم بماء وعسل ولبن وينقلون إليه الماء من نهر حيل مسيرة شهر، وثلاثمائة يحلقون رؤوس حجاجه ولحاهم، وثلاثمائة ويغنون"1. وسومنات هذا كان في معبد شهير في الهند في مدينة كُجرات على شاطىء بحر العرب، وكان المعبد مبنيًّا على ست وخمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص والذهب المرصعة بالأحجار الكريمة. أما سومنات الصنم نفسه فكان من حجر طوله خمسة أذرع، ثلاثة مدورة ظاهرة واثنتان في البناء وكان في حجرة مظلمة تضيئها قناديل الجوهر الفائق، كما كان عنده سلسلة ذهبية وزنها مائتا منِّ، وعنده خزانه فيها عدة الأصنام الذهبية والفضية المرصعة بالجواهر، وعلى رأس الصنم تاج لا يُقوَّم يندهش منه الناظر، وله من الوقف ما يزيد على عشرة آلاف قرية. وقد أصبحت كل تلك النفائس العظيمة غنيمة للمسلمين من جند البطل المسلم فاتح الهند السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي الذي سار بجيش ضخم قوامه ثلاثون ألف فارس غير المتطوعين والرجالة، فقطعوا القفار والمفاوز وقاسوا المشاق حتى وصلوا إلى هذا الصنم وحطموه بعد أن هزموا المدافعين عنه شر هزيمة وأحرقوا الصنم حتى صار كلسًا وألقيت النيران في المعبد2، وكانت الهنادك يعتقدون أن سومنات مانعهم من المسلمين وأنه لا يلبث أن ينزل بهم غضبه الشديد، ولكنهم ما لبثوا أن تحسروا وسُقط في أيديهم وهم يرونه صريعًا مَهينًا، وكان كهنته قد توسلوا إلى السلطان ألا يمس معبودهم ويعطونه ما شاء من مال، ولكنه أبى فإنه لم يخرج لطلب المال وإنما خرج لإعلاء كلمة الله وهدم هذه الأصنام التي تعبد من دون الله"3.   1 المصدر السابق. 2 أعادت الحكومة الهندية بعد استقلالها بناء هذا المعبد من جديد وافتتحه رئيس الجمهورية في احتفال كبير. 3 انظر الذهبي، سير أعلام النبلاء (17/490-491) ، وعبد المنعم النمر، تاريخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 سرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع ... بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع1 {وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} [نوح/23]   1 لم ترد حول موضوع هذا البعث روايات مسندة يمكن الحكم على إسنادها ومن ثم الاعتماد عليها، فكان من الضروري الاعتماد على روايات أهل المغازي ومناقشتها. وسواع: بالسين المضمومة، والعين المهملة بينهما ألف، وسمي باسم سواع بن نوح عليه السلام. انظر الشامي، سبل (6/303) ، والحلبي، سيرة (3/209) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 قال الله تعالى مخبرًا عن قوم نوح {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1. وسواع المذكور ضمن هذه الأصنام: هو اسم صنم كان لقوم نوح عليه السلام ثم صار بعد ذلك لقبيلة هذيل المضرية2. روى البخاري تعليقا عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما وَدٌّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع"3. ويوضح لنا ابن الكلبي كيف صار سواع صنمُ قوم نوح صنمًا لهذيل بعد كل تلك السنين الطويلة، فيذكر أن مبتدع الأوثان للعرب عمرو بن لحي الخزاعي كان له قرين من الجن، فأتاه يوما وأخبره أن أصنام قوم نوح المشهورة قد دفعها الطوفان إلى ساحل جدة4 وطمرتها الرمال، وأمره أن يستخرجها ويخرج بها إلى تهامة في موسم الحج ويدعو العرب إلى عبادتها5 ففعل وكان ممن أجاب دعوته قبيلة مضر، فدفع إلى رجل من هذيل سواعًا حيث نصبه لهم في منطقة يقال لها رهاط، وكانت سدنته منهم بني لحيان6 وكان سواع هذا   1 نوح: (23) . 2 ذكر ذلك ابن إسحاق بلا سند، سيرة ابن هشام (1/78) ، وابن الكلبي، الأصنام (56) ، والجوهري، (صحاح، باب العين، فصل السين) ، وانظر رواية ابن عباس عند البخاري التي سنذكرها الآن. 3 أخرجه البخاري موصولا إلى ابن جريج، ومعلقا عن ابن عباس، وانظر تعليق ابن حجر عليه. فتح الباري (8/667-668) . 4 هي: مدينة جدة المعروفة اليوم. 5 ابن الكلبي، الأصنام (ص 56) . قلت: قد يستبعد البعض هذه القصة لضعف سندها ولاستحالة بقاء تلك الأصنام على حالتها كل هذه المدة، ولكن بغض النظر عن صحة سند الرواية فإن علم الآثار والحديث قد يؤيد هذه الرواية، فكثير من الحفريات والآثار البالغة القِدم حتى قبل عهد نوح بسنين وجدت مدفونة تحت الرمال وبحالة جيدة والله تعالى أعلم بالصواب. 6 يذكر ابن حجر عن ابن إسحاق أن رهاط بضم الراء وتخفيف الهاء من أرض الحجاز من جهة الساحل. فتح الباري (8/668) .= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 حجرًا على صورة امرأة كما ذكر الواقدي1. وظل هذا الوثن منصوبا تعبده هذيل وتعظمه حتى إنهم كانوا يحجون إليه2 حتى فُتحت مكة ودخلت هذيل فيمن دخل في دين الله أفواجا. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه لتحطيم سواع. ويحدثنا قائد السرية عن مهمته، فيقول: "فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟، قلت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لِمَ؟، قال: تُمنع، قلت: حتى الآن أنت في الباطل، ويحك وهل يسمع أو يبصر، قال: فدنوت منه فكسرته وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا شيئًا، ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟. قال: أسلمت لله"3. وهكذا تم القضاء على سواع الذي لم يجد من يدافع عنه بقوله: "ولا تذرن سواعًا".   =ويقول ابن الكلبي: سواع كان بأرض يقال لها رهاط من بطن نخلة بعيدة من مضر، ابن الكلبي، الأصنام (ص 570) . ويذكر الشامي نقلا عن الجوهري: إنها قرية جامعة على ثلاثة أميال من مكة ساحل البحر. سبل (6/103) . قلت: لم يرد هذا الكلام في نسخة الصحاح المتداولة، ولعل الشامي اطلع على نسخة مغايرة. ويذكر ابن الكلبي في مكان آخر من كتابه "الأصنام" أنه كان برهاط من أرض ينبع. ابن الكلبي، الأصنام (ص 9) ، وربما كان ذلك ذهولا منه فإن رهاط تقع بعيدا عن ينبع، ولا أدري كيف وقع ذلك التناقض منه رحمه الله حيث لم يذكر أحد وجود مكان في منطقة ينبع يسمى برهاط، كما أن ديار هذيل وهم أهل هذا الصنم وسدنته سابقا بعيدة عن منطقة ينبع. يقول البلادي: رهاط واد هو صدر وادي غران، ووادي غران يمر شمال عسفان على نحو (85) كيلا من مكة شمالا، وكان من ديار هذيل، أما اليوم فهو مشترك بين الروقة من عتيبة، ومعبد بن حرب، البلادي، معجم (143) . 1 ذكر ذلك عن الواقدي الطبري. تاريخ (3/66) . وذكر ابن حجر أن هذا شاذ. فتح الباري (8/669) . 2 ذكره عن الواقدي وابن سعد، الشامي، سبل (6/303) . 3 الخبر رواه ابن سعد عن جمع شيوخه وهذا لفظه. طبقات (2/146) . كما رواه الواقدي، مغازي (2/870) ، ونقله عنه بإيجاز الطبري، تاريخ (3/66) ، والشامي عنه وعن ابن سعد، سبل (6/303) ، والحلبي، سيرة (3/209) دون أن يشير إلى ذلك. وبهذا يكون الخبر ضعيفًا حديثيًّا، ولكنه يدخل ضمن نطاق الأخبار التي ذكرت بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعض السرايا والبعوث لتحطيم الأصنام بعد فتح مكة، وسواع أحد هذه الأصنام، وبذلك يمكن الاستئناس بهذا الخبر تاريخيًّا. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 بعث خالد بن الوليد،وأبي سفيان بن حرب إلى اللات ... بعث أبي سفيان بن حرب وخالد بن الوليد لهدم وتحطيم اللات {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ..} [النجم/19] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 قال الله تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ} 1 قرأها الجمهور بتخفيف التاء2 وقرأها ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم، وتابعهما بعض التابعين3 بتشديد التاء، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان اللات رجلا4 يلت السويق الحاج"5. وقد اختلفوا في مكانه بالتحديد فقيل: بالطائف، وقيل: بنخلة، وقيل: بعكاظ، والراجح الأول6. أما صفته فقد ذكر ابن إسحاق وغيره: أنه عبارة عن صخرة بيضاء مربعة منقوشة، عليها بيت له أستار وكسوة، وحوله فناء، وله سدنة   1 النجم (19) . 2 ذكر ذلك الشوكاني وقال: فقيل: هو مأخوذ من اسم الله سبحانه، وقيل: أصله لات يليت، فالتاء أصلية، وقيل: هي زائدة وأصله لوى يلوي؛ لأنهم كانوا يلوون أعناقهم إليها أي يلتوون عليها ويطوفون بها. الشوكاني، فتح القدير (5/108) ، وقال في الصحاح: وبعض العرب يقف عليها بالتاء، وبعضهم بالهاء، وجوز سيبويه أن يكون لاه أصل اسم الله تعالى. (الجوهري، الصحاح، باب الهاء، فصل اللام) . 3 مثل مجاهد، والربيع بن أنس، ومنصور بن المعتمر، وأبي الجوزاء، وأبي صالح، وحميد. انظر الشوكاني، فتح القدير (5/108) . 4 اختلفوا في اسم هذا الرجل فزعم البعض أنه عامر بن الظرب العدواني، وذكر ابن حجر عن ابن الكلبي: أن اسمه صرمة بن غنم. انظر ابن حجر، فتح (8/612) ، ولكن الشوكاني ذكر عن الكلبي: إنه رجل من ثقيف يقال له صرمة بن غنم. انظر الشوكاني، فتح القدير (5/108) ، ولكن ابن الكلبي في كتابه "الأصنام" يذكر أنه يهودي كان يلت السويق. ابن الكلبي، الأصنام (16) . وحكى السهيلي: إنه عمرو بن لحي الخزاعي. انظر السهيلي، الروض (1/357) . والصحيح أن اللات غير عمرو بن لحي، فقد أخرج الفاكهي من وجه آخر عن ابن عباس أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت، ولكنه دخل الصخرة، فعبدوها وبنوا عليها بيتا. انظر الفاكهي، أخبار مكة (5/164) ، وابن حجر، فتح (8/612) . 5 أخرجه البخاري موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما، وذكر ابن حجر أن ابن أبي حاتم أخرجه أيضا من طريق عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه فيه زيادة "كان يلت السويق على الحجر، فلا يشرب منه أحد إلا سمن، فعبدوه". انظر ابن حجر، فتح (8/611-612) . 6 قاله ابن حجر، فتح (8/612) ، وروى أبو داود والبيهقي بسنديهما عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كان طاغيتهم". انظر أبا دود، سنن (1/311) ، والبيهقي، دلائل (5/306) . قال ابن الكلبي: "إنها كانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم" ابن الكلبي، الأصنام (16) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وحجبة1، وكان معظما عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون به على من عداهم من العرب، وكانوا يسيرون إلى ذلك البيت ويحرمون واديه يضاهئون به الكعبة2. ويذكر ابن الكلبي: أن قريشا وجميع العرب كانوا يعظمونها أيضا وبها كانت العرب تسمى زيد اللات، وتيم اللات3وهكذا ظلت اللات طاغوتا من طواغيت العرب المعظمة حتى ظهر الحق، وانتشر الإسلام ودخل العرب في دين الله أفواجا، ومنهم ثقيف التي أرسلت وفدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون الصلح، والقضية حين رأوا أن قد فتحت مكة، وأسلمت عامة العرب"4.   1 اختلف في سدنة اللات، فابن إسحاق يقول: هم بنو معتب من ثقيف. انظر ابن هشام، سيرة (1/85) ، ويذكر ابن الكلبي: إنهم بنو عتاب بن مالك. ابن الكلبي، الأصنام (16) ، لكن الواقدي يقول: هم بنو العجلان بن عتاب بن مالك وصاحبها منهم عتاب بن مالك بن كعب، ثم بنوه من بعده. الواقدي، مغازي (3/972) ، أما ابن حبيب فيقول: كان سدنته آل أبي العاص بن أبي يسار بن مالك. انظر الحموي، معجم، باب اللام والألف. 2 انظر ابن هشام، سيرة (1/85) ، وابن كثير، تفسير (4/53) ، والجوهري، الصحاح باب الهاء، فصل اللام. 3 ابن الكلبي، الأصنام (16) . 4 أخرجه البيهقي من مراسيل عروة من طريق ابن لهيعة، وعمر بن شبه من مراشيل الزهري من طريق موسى بن عقبة، والبيهقي عن موسى بن عقبة واللفظ له. انظر عمر بن شبه، تاريخ (2/501) ، والبيهقي، دلائل (5/300) , وباقشيش، مرويات (2/502) . هذا وقد اختلف أئمة المغازي في تاريخ قدوم وفد ثقيف الذي يقودنا بالتالي إلى تاريخ السرية، فابن إسحاق والواقدي ذكرا أن الوفد قدم المدينة في رمضان سنة تسع مقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك، وذكر أن الوفد صام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من شهر رمضان، ولكنهما اختلفا في كيفية خروج السرية، فابن إسحاق يذكر أنها خرجت مع الوفد عند توجههم إلى بلادهم، أما الواقدي فيذكر أنهم بقوا يومين أو ثلاثة بعد خروج الوفد ثم انطلقوا. انظر ابن هشام، سيرة (4/537-540-541) ، والواقدي مغازي (3/922) ، وأخرج البيهقي عن عروة وموسى بن عقبة أن قدوم وفد ثقيف كان بعد مقتل عروة بن مسعود الثقفي الذي قتل بعد صدور أبي بكر، وعلي رضي الله عنهما من الحج. انظر البيهقي، دلائل (5/299) . قال ابن كثير: وهذا بعيد والصحيح أن ذلك قبل حجة أبي بكر كما ذكره ابن إسحاق والله أعلم.. ابن كثير، بداية (3/27) ، كما أخرج عمر بن شبه رواية عن عروة: يذكر فيها أنه كتب إلى الوليد بن عبد الملك يخبره أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة وحنين وانصرافه إلى المدينة". انظر= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 كان وفد ثقيف وهم يحاورون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون في قرارة أنفسهم أنه لا بقاء لطاغوتهم اللات بعد هدم العزى، وتكسير هبل وإساف ونائلة، بل كانوا يتوقعون أن يكلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمها، لذلك حاولوا ي ائسين مساومة رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبقاء الربَّة –كما يسمونها- مدة من الزمن علهم يمهدون لذلك الأمر الخطير الذي كان في اعتقادهم فيه جرح لمشاعر ثقيف التي تعلقت بحب الرَّبة وتعظيمها كل هذه السنين، ومن ثم يحاولون إقناع ثقيف بقبوله كأمر واقع لا بد منه، وإن كانوا لحداثة عهدهم بالإسلام يخافون من انتقام الرَّبة لمجرد علمها بنيتهم في هدمها. "قالوا له: أرأيت الرَّبة، ماذا تصنع فيها؟، قال: اهدموها، قالوا: هيهات، لو تعلم الرَّبة أنك تريد هدمها قتلت أهلينا"1. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض مساومتهم بإصرار موضحًا لهم بالحسنى ربَّتهم الجاهلية اعتقاد زائف لا يسمح الإسلام باستمراره بعد الآن، وأن ما يخافون انتقامه وغضبه إنما هو حجر جامد لا يضر ولا ينفع، بل لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الأذى. وبعد محاورات وتداول للرأي فيما بينهم اقتنع الوفد، وأذعنوا لتعاليم الإسلام بل قاموا بأداء بعض تكاليفه والتي كانوا يساومون رسول الله صلى الله عليه وسلم على تركها2. وكان ذلك مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيتصدقون، ويجاهدون إذا أسلموا" 3.   =عمر بن شبه، تاريخ (2/507) ، وفي سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد المدني، صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد. ابن حجر، تقريب (340) . 1 المصادر السابقة. 2 تذكر بعض الروايات أنهم بدأوا يصلون مع المسلمين ويصومون بقية شهر رمضان. انظر ابن هشام، سيرة (4/540-541) ، والواقدي، مغازي (3/968) ، والبيهقي، دلائل (5/305) . 3 رواه أبو داود، سنن، كتاب الخراج والفيء، باب ما جاء في خبر الطائف (3/163) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ولكنهم مع ذلك تحرجوا من تولي هدمها بأنفسهم وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم من يهدمها بعد رحيلهم1. وفعلا جهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، ومشاركة المغيرة بن شعبة2 رضي الله عنه، وأبي سفيان بن حرب رضي الله عنه3. وبعثهم في أثر الوفد4. وبينما نجحت مساعي الوفد في إقناع ثقيف بالدخول في الإسلام وأخبروهم بمصير اللات، وإذا بالسرية قد وصلت إلى الطائف "ودخل المغيرة بن شعبة في بضعة عشر رجلا يهدمون الربة"5، كما يذكر الواقدي،وذلك تحت حراسة مشددة من قومه بني معتب الذين قاموا دونه "خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة"6. وخرجت ثقيف عن بكرة أبيها رجالها ونساؤها وصبيانها حتى الأبكار من خدورهن، وكانوا لقرب عهدهم بالشرك   1 يذكر ابن إسحاق في روايته أن السرية التي وجهها خرجت مع الوفد. ابن هشام، سيرة (2/541) . 2 المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي أبو عيسى أو أبو محمد. وقال الطبري: يكنى أبا عبد الله، قال: وكان ضخم القامة، عبل الذراعين، بعيد ما بين المنكبين، أصهب الشعر جعده وكان لا يفرقه. أسلم قبل عمرة الحديبية وشهدها وبيعة الرضوان وله فيها ذكر، وحدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقال له: مغيرة الرأي، وشهد اليمامة وفتوح الشام والعراق. وقال الشعبي: كان من دهاة العرب وكذا ذكره الزهري، ولاه عمر البصرة ففتح ميسان وهمذان وعدة بلاد إلى أن عزله. قال البغوي: كان أول من وضع ديوان البصرة. وقال ابن حبان: كان أول من سلم عليه بالإمرة، ثم ولاه عمر الكوفة، وأقره عثمان ثم عزله، فلما قتل عثمان اعتزل القتال إلى أن حضر مع الحكمين، ثم بايع معاوية بعد أن اجتمع الناس عليه ثم ولاه الكوفة فاستمر في إمرتها حتى مات سنة خمسين عند الأكثر ونقل فيه الخطيب الإجماع، وقيل: مات قبل سنة، وقيل بعدها بسنة. انظر ابن سعد، طبقات (4/284-285) ، وابن حجر، إصابة (3/452-453) . 3 لم يرد ذكر خالد في روايتي عروة وابن إسحاق. انظر البيهقي، دلائل (5/304) ، وابن هشام، سيرة (4/541) ، بينما لم يرد ذكر أبي سفيان في رواية موسى بن عقبة. انظر البيهقي، دلائل (5/303) . ويضيف إليهم الواقدي: أبا مليح بن عروة، وقارب بن الأسود. انظر الواقدي، مغازي (3/971) . 4 كما وقع في رواية عروة، وموسى بن عقبة. انظر البيهقي، دلائل (5/303-304) . 5 الواقدي، مغازي (3/971) . 6 أخرجه البيهقي من مرسل عروة من طريق ابن لهيعة. انظر البيهقي، دلائل (5/304) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 "لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة ويظنون أنها ممتنعة"1. وكان المغيرة رضي الله عنه رجلا فيه دعابة وظرف فقال لأصحابه "والله لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالكرزين2 ثم سقط يركض، فارتج الطائف بصيحة واحدة، وقالوا: أبعد الله المغيرة قد قتلته الربة، وفرحوا حين رأوه ساقطا"3وقالوا مخاطبين أفراد السرية: "من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها فوالله لا تستطاع أبدا، فوثب المغيرة بن شعبة، وقال:قبحكم الله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع4 حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه"5. لقد كان المغيرة رضي الله عنه محقًّا في قوله ذلك، فالإنسان العاقل اللبيب لا يتصور أن يكون ربه حجرا أصم لا يعقل أو يسمع، ولكنها سخافة الجاهلية وأدرانها التي تذهب بالعقول اللبيبة، فالحمد لله على نعمة الإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. أكمل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ومن معه هدم الطاغية حتى سووها بالأرض، وكان سادنها واقفا على أحر من الجمر ينتظر نقمة الربة وغضبها على هؤلاء العصاة، فما أن وصلوا إلى أساسها حتى صاح قائلا كما يذكر الواقدي "سترون إذا انتهى إلى أساسها يغضب الأساس غضبًا يخسف بهم"6.   1 أخرجه عمر بن شبة من مرسل الزهري من طريق موسى بن عقبة، انظر ابن شبة، تاريخ (2/501-505-507) ، والبيهقي عن موسى بن عقبة. انظر البيهقي، دلائل (5/303) . 2 الكرزين: الفأس، ويقال له أيضا كرزن بالفتح والكسر والجمع كرزان وكرازين. انظر ابن الأثير، نهاية (4/163) . 3 أخرجه عمر بن شبة من مرسل الزهري من طريق ابن عقبة. انظر عمر بن شبة، تاريخ (2/506) ، والبيهقي عن موسى بن عقبة، واللفظ له. انظر البيهقي، دلائل (5/303) . 4 اللكع عند العرب: العبد ثم استعمل في الحمق والذم. يقال للرجل لكع وللمرأة لكاع، وقد لكع الرجل يلكع لكعا، وأكثر ما يقع في النداء وهو اللئيم، وقيل: الوسخ. انظر ابن الأثير، نهاية (4/268) . 5 أخرجه عمر بن شبة من مرسل الزهري. انظر ابن شبة، تاريخ (2/506) ، والبيهقي عن موسى بن عقبة واللفظ له. انظر البيهقي، دلائل (5/303) . 6 الواقدي، مغازي (3/972) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 فلما سمع المغيرة رضي الله عنه السخف قال لقائد السرية: "دعني أحفر أساسها فحفره حتى أخرجوا ترابها وانتزعوا حليتها، وأخذوا ثيابها، فبُهتت ثقيف"1. وأدركت الواقع الذي كانت تحجبه غشاوة على أعينهم. تقول عجوز منهم وهي تتأوه حزنًا وحسرة "أسلمها الرضاع وتركوا المصاع"2. وأقبل الوفد حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليتها وكسوتها، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، وحمدوا الله عز وجل على نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم وإعزاز دينه"3. وتم القضاء على ثاني أكبر طواغيت الشرك في الجزيرة العربية، وحل محلها بيت من بيوت الله عز وجل يوحد فيه الربُّ الذي لا إله إلا هو، وذلك بتوجيه كريم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن أبي العاص4 رضي الله عنه عامله على الطائف حيث أمره "بأن يجعل مسجد الطائف حيث كان طاغيتهم"5 6 ولله الحمد.   1 أخرجه عمر بن شبة من مرسل الزهري. انظر عمر بن شبة، تاريخ (2/506) ، والبيهقي عن موسى بن عقبة واللفظ له. انظر البيهقي، دلائل (5/303) . 2 الرضاع: جمع راضع وخو اللئيم، والمصاع المضاربة بالسيوف. ابن الأثير، نهاية (2/230) . 3 أخرجه عمر بن شبة من مرسل الزهري. انظر عمر بن شبة، تاريخ (2/507) ، والبيهقي عن موسى بن عقبة واللفظ له. انظر البيهقي، دلائل (5/303-304) . 4 عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد بن دهمان الثقفي، أبو عبد الله، نزيل البصرة. أسلم في وفد ثقيف، فاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف، وأقره أبو بكر، ثم عمر، ثم استعمله عمر على عمان والبحرين سنة خمس عشرة، ثم سكن البصرة حتى مات بها في خلافة معاوية، قيل سنة خمس، وقيل سنة إحدى وخمسين، وكان هو الذي منع ثقيفا عن الردة، خطبهم فقال: كنتم آخر الناس إسلاما فلا تكونوا أولهم ارتدادا. ابن حجر، إصابة (2/460) . 5 أخرجه أبو داود، سنن (1/311) ، والبيهقي، دلائل (5/306) واللفظ له. 6 خبر السرية من مراسيل عروة من طريق ابن لهيعة. انظر البيهقي، دلائل (5/299-304) ، وهو من مرسل الزهري عن طريق موسى بن عقبة. انظر عمر بن شبة، تاريخ (2/501، 505-507) ، كما رواه البيهقي عن موسى بن عقبة. انظر البيهقي، دلائل (5/299-303) ، ورواه ابن إسحاق بلا سند. انظر ابن هشام، سيرة (4/540-542) كما رواه الواقدي، مغازي (3/970-972) . وهكذا ترى الخبر مداره على أهل المغازي وأئمتهم، وقد اختلفت طرقهم وأجمعوا عليه. ومرسل عروة= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 هذا وقد أخرج البيهقي بسند ضعيف1 عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: "أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى من اللات والعزى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل دعوهم إلى الإسلام؟، فقالوا: لا، قال: خلوا سبيلهم حتى يبلغوا مأمنهم، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتين الآيتين {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} 2، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} 3 4. وفي القصة وما قبلها من الفقه: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة ألبتة. وهذا حكم المَشَاهِد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تُعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك، والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى. أو أعظم شركا عندها وبها، والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق وتميت وتحيي، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة   =وإن كان من طريق ابن لهيعة الذي اختلط بعد احتراق كتبه، لكن روايته هنا عن أبي الأسود، وهي في الغالب نسخة معروفة لمغازي عروة مما يقلل من تخوفنا من عدم ضبطه. كما أن الزهري وموسى بن عقبة إمامان لهما شأنهما في المغازي وإن كان مرسل الزهري ضعيفا عند المحدثين، لكن الخبر في مجمله تاريخي يمكننا أن نستأنس به لإجماع أئمة المغازي عليه مع اختلاف طرقهم ... والله تعالى أعلم .... 1 لأن فيه روح بن مسافر، قال عنه البيهقي "ضعيف". انظر البيهقي، سنن (9/107) . وانظر ابن عدي، الكامل في ضعفاء الرجال (3/139-141) ، والذهبي، ميزان الاعتدال (2/61) . 2 الأحزاب: (45-46) . 3 الأنعام: (19) . 4 انظر البيهقي، سنن (9/107) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم فصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين1. ومنها أيضا جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين، فيجوز للإمام، بل يجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تساق إليها كلها، ويصرفها على الجند والمقاتلة، ومصالح الإسلام، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات وأعطاها لأبي سفيان يتألفه بها، وقضى منها دين عروة والأسود. وكذلك يجب عليه أن يهدم هذه المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا، وله أن يقطعها للمقاتلة، أو يبيعها ويستعين بأثمانها على مصالح المسلمين. وكذلك الحكم في أوقافها، فإن وقفها، فالوقف عليها باطل، وهو مال ضائع، فيصرف في مصالح المسلمين، فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة لله ورسوله، فلا يصح الوقف على مشهد ولا قبر يسرج عليه ويعظم وينذر له، ويحج إليه، ويعبد من دون الله، ويتخذ وثنا من دونه، وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام، ومن اتبع سبيلهم2.   1 ابن القيم، زاد المعاد (3/506-507) . 2 المصدر السابق (3/507) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 الخاتمة تناولت هذه الرسالة (السرايا والبعوث النبوية حول مكة والمدينة) وهي دراسة نقدية تحليلية، وتقع في: مقدمة، وتمهيد، وبابين يقع تحت كل باب منهما فصلان. تحدثت في كل فصل عن نوع من أنواع السرايا والبعوث النبوية. أما المقدمة: فقد أشرت فيها إلى فضل وأهمية علم التاريخ، وضرورة نقد المرويات التاريخية وفق منهج المحدثين، مستعينا ببعض الاقتباسات لبعض كبار المؤرخين المسلمين كابن خلدون، وبعض المؤرخين المعاصرين مثل الأستاذ الدكتور أكرم العمري، والأستاذ أحمد عادل كمال. وأما التمهيد: فقد ذكرت فيه الخلاف الشديد بين أهل المغازي في عدد السرايا والبعوث النبوية، وسبب ذلك الخلاف، كما سقت الخلاف في معنى السرية والبعث، وقوة السرية، ثم تطرقت إلى المهام التي أنيطت بها تلك السرايا والبعوث، ثم ذكرت الوصايا والتعاليم النبوية التي كانت تزود بها تلك السرايا والبعوث من قبل القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم. وفي الباب الأول، وفي فصل (السرايا الاعتراضية) : رجحت رواية الغالبية من أئمة المغازي على أن أول سرية كانت سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. كما أخذت بقول الواقدي في أن خروج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأبواء إنما كان لاعتراض قافلة تجارية لقريش، ومن ثمَّ أرسل عبيدة بن الحارث في سرية لملاحقتها. واعتمدت رواية جندب بن عبد الله رضي الله عنه الصحيحة في سرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 نخلة، كما نوَّهت بالابتكار النبوي في هذه السرية والمتمثل في الرسالة المكتومة التي أعطاها لقائد السرية. ثم تحدثت عن الأوليات التي تمخضت عن السريتين، وذكرت بعض الأحكام الفقهية المستفادة من سرية نخلة. وقد أوردت خبر اعتراض قافلة أبي العاص التجارية، مع أنه لا يدخل ضمن نطاق البحث موضوعيًّا مرجِّحًا قول الزهري بأن الذي اعترضها هو أبو بصير وأصحابه وليس سرية اعتراضية كما ذكر بقية أهل المغازي، وقد ناقشت الروايات التي ذكرت خلاف ذلك سندًا ومتنًا، وبيَّنت ما وقع فيها من ذهول، ثم ذكرت ما وقع في القصة من الأحكام الفقهية. وفي سرية الخبط: تساءلت لماذا لم يوضح جابر بن عبد الله رضي الله عنه أحد أفراد السرية لهم حكم ميتة البحر؟ وهو الذي مرَّ بتجربة مماثلة في غزوة بواط، وعرف الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم وهل يعني ذلك أن هذه السرية كانت قبل الغزوة التي ذكرها أهل المغازي متقدمة كثيرا على سرية الخبط؟ كذلك عرَّفت بحوت العنبر الذي وجده أصحاب السرية على ساحل البحر تعريفا علميًّا دقيقا وذلك من الكتب القديمة والحديثة المختصة، وبالاتصال مع بعض المختصين في كلية البحار بجامعة الملك عبد العزيز بجدة ثم ذكرت بعض الأحكام المستفادة من أحداث السرية. وفي الفصل الثاني الذي جعلته (لسرايا المغاوير) : تحدَّثت عن النجاح الباهر الذي وافق مهماتها رغم صعوبتها البالغة موفرة على دولة الإسلام في المدينة الكثير من الجهد وحقنت الكثير من الدماء التي كانت ستسيل لو بقي مثل هؤلاء الأعداء يُنفِّذون مخططاتهم العدوانية ضد المسلمين. هذا وقد اعتمدت الرواية الأصح سندا بين الروايات التي تحدثت عن المرأة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 التي كانت تهجو النبي صلى الله عليه وسلم فقتلها زوجها، وأومأت إلى احتمال تعدد القصة، كما ذكرت الخلاف في حكم قتل سابِّ النبي صلى الله عليه وسلم ضمن الفوائد الفقهية المستفادة من القصة. وفي سرية عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي: أشرت إلى وقوع تحريف في التاريخ الذي ساقه الواقدي للسرية بناء على النقد الباطني للرواية، ثم ذكرت بعض الأحكام الفقهية، منها حكم صلاة الطالب التي صلاها عبد الله بن أنيس رضي الله عنه اجتهادًا منه وأقرَّه عليها النبي صلى الله عليه وسلم، كما أشرت إلى الاعتقاد بوجود شبكة منظمة من العيون والجواسيس كانت تمد النبي صلى الله عليه وسلم بالمعلومات الدقيقة والسريعة عن الأعداء حيث يضع خططه المضادة بناء على تلك المعلومات ممَّا كان له أكبر الأثر في تشتيت وعرقلة مخططاتهم العدوانية ضد المسلمين. وفي البعث إلى كعب بن الأشرف: اعتمدت على الروايات الأصح سندا من بين الروايات الكثيرة المتعددة التي تشير إلى عداوة كعب للمسلمين، وذلك بعد غربلتها ومقارنتها ونقدها، كما سقت الاختلاف بين أهل المغازي في صلته السابقة ببعض أفراد السرية التي توجهت لقتله، ثم ذكرت بعض الأحكام المستفادة، وقد ضعفت الرواية التي ذكرها ابن إسحاق في إسلام حويصة بناء على ضعف سندها ومخالفتها لأصلٍ من أصول الشريعة. أما في بعث عمرو بن أمية الضمري إلى أبي سفيان: فقد أثبت اختلاف أهل المغازي في هذا البعث، وقارنت بين رواياتهم المختلفة، ثم رجحت أن القصة واحدة لكنها رويت بطرق مختلفة. وفي البعث إلى أبي رافع: أشرت إلى الخلاف الكبير في تاريخ البعث من أهل المغازي وخلافهم في أسماء قوة البعث، ثم ذكرت بعض الأحكام المستفادة، وأشرت إلى الخلاف في حكم التبييت بين الفقهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 أما في البعث إلى اليسير بن رزام: فقد ذكرت اختلاف المصادر التاريخية في اسم اليسير، كما أشرت إلى الاختلاف في قائد البعث بين عروة بن الزبير وبقية أهل المغازي. وأثبت سرية أبي قتادة بن ربعي إلى خضرة في البحث مع أنها لا تدخل ضمن نطاقه الجغرافي لأجل الخلاف فيها بين أصحاب المغازي، وذكر ابن إسحاق لها على أساس أنها سرية توجهت إلى الغابة القريبة من المدينة. هذا بالنسبة للباب الأول. أما الباب الثاني: فكان الفصل الأول منه (للسرايا ذات المهمات الخاصة) : التي تنوعت مهماتها من سرايا تعقبيَّة، وبعوث تعليمية ودعوية، وسرايا تأديبية، وأخرى تحويلية، وهكذا. أما السرايا التعقُّبيَّة: فقد رجحت روايتي ابن عبد البر وابن حزم التي تذكر أن سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرَّار كانت لتعقب كرز بن جابر وأصحابه الذين أغاروا على سرح المدينة فلحق بهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم فاتوه فجهز هذه السرية لمتابعة مطاردتهم. وفي سرية كرز بن جابر لتعقب المفسدين: ذكرت اختلاف أهل المغازي في القبيلة التي ينتمي إليها هؤلاء الرهط الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد حاولت جهدي التعريف بالمرض الذي أصابهم من خلال الكتب الطبية المختصة القديم منها والحديث، مع مناقشة الاختلافات في ذلك ومحاولة الترجيح، وقد اقترحت إقامة مركز في الجامعة لدراسة وبحث الأدوية الطبية النبوية بحثًا علميًّا لتعريف الناس بقوة وعظمة تلك الوصفات الدوائية الربانية، ثم ذكرت بعض الأحكام المستفادة. وفي سرية أبي عامر إلى أوطاس: عرَّفت بهذا الوادي تعريفًا وافيًا، كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 أشرت إلى الخلاف الكبير في اسم قاتل أبي عامر الأشعري، بعد أن أثبت الروايات المختلفة في الحاشية، وأشرت أيضا إلى الخلاف في قاتل دريد بن الصمَّة. وفي سرية حمزة بن عمرو الأسلمي لمطاردة هبَّار وصاحبه: ذكرت الخلاف في اسم صاحب هبَّار، وترجيح ابن حجر لأحد الأقوال، ثم ذكرت ما قاله بعض الأئمة للجمع بين ما ذكر في إحدى روايات الخبر من أفضلية زينب رضي الله عنها وبين الأحاديث الدالة على فضل فاطمة رضي الله عنها، وأشرت إلى الخلاف في قصة إسلام هبَّار وترجيح ابن حجر لرواية الواقدي على رواية ابن أبي نجيح في ذلك. وفي تخريج حديث السرية قسمته إلى ثلاثة أقسام، خرَّجت كل قسم على حدة ثم ذكرت الأحكام المستفادة. وفي سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني جذيمة: اعتمدت على رواية الصحيح في سياق الأحداث، وأعرضت عن روايات أصحاب المغازي الضعيفة والمشعرة بإدانة خالد بن الوليد رضي الله عنه كما أشرت إلى الروايات العديدة التي تحكي قصة الرجل العاشق للجذيمية، ثم ناقشت روايات أهل المغازي وتفسيراتهم للحادثة وبيَّنت ضعفها ونكارتها، ثم أتبعت ذلك بذكر بعض الأحكام المستفادة. وفي سرية أبي قتادة إلى أضم: رجحت قول الواقدي في أن تلك السرية كانت عملية استعراضية لصرف انتباه قريش عن خطة النبي صلى الله عليه وسلم لغزو مكة المكرمة، كما أشرت إلى الخلاف في اسم الرجل الذي نزلت فيه الآية المذكورة في السرية. وأخيرا قسمت عملية التخريج قسمين بحسب الروايتين اللتين عليهما مدار الخبر. أما في سرية غالب بن عبد الله إلى بنو الملوح: أشرت إلى الخلاف في اسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الرجل الذي دفع إليه أصحاب السرية أسيرهم، ثم تحدثت عن الكرامة التي أكرمهم بها الله فنجاهم من القوم الكافرين بعد أن كادوا يطبقون عليهم. وفي الفصل الثاني (سرايا تحطيم الأوثان) : فتحدثت في بعث خالد بن الوليد إلى العزى، عن موقعها، وصفتها، ومكانتها عند العرب، وذكرت الخلاف في سدنتها، ثم الخلاف في تاريخ البعث، وعند تخريجي للخبر أوردت كلام النقاد في الوليد بن جميع الذي عليه مدار معظم روايات الخبر. وفي بعث سعد بن زيد إلى مناة: نبهت إلى عدم ورود روايات مسندة حول الخبر حيث كان الاعتماد على أقوال الإخباريين بعد نقدها، ثم تحدثت عن صفة الصنم وأهله ومكانته، ثم أشرت إلى الخلاف في قائد البعث بين أهل المغازي. وفي بعث عمرو بن العاص إلى سواع: أوردت نفس الملحوظة حول عدم ورود روايات مسندة للخبر، ولذلك تم الاعتماد على روايات أصحاب المغازي الغير مسندة، ثم بيَّنت كيفية انتقال هذا الصنم وغيره من أصنام قوم نوح إلى العرب، وذكرت ملاحظة حول تأييد علم الآثار الحديث لهذه القصة وإن كانت ضعيفة سندًا، ثم ذكر الخلاف الكبير حول المكان الذي كان فيه الصنم. أما في بعث خالد إلى اللات: فذكرت الخلاف في أصل اللات، وفي مكان ذلك الصنم ومن هم سدنته، ثم تحدثت عن صفته وأهله، وعن تاريخ البعث، ذكرت خلاف أهل المغازي في ذلك. وأخيرا ذكرت ما يستفاد من القصة من أحكام. هذا بالنسبة للنتائج الخاصة، أما النتائج العامة فيمكن تلخيصها فيما يلي: 1- إن السرايا الاعتراضية لم تكن لقصد النهب والسلب –كما يدَّعي بعض المستشرقين، وإنما كانت تنفيذًا لأمر الله عز وجل بالقتال، وتحطيم قوة العدو الاقتصادية تدخل ضمن هذا الإطار، كما أن ذلك كان بمثابة المعاملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 بالمثل، فكما أن قريشا سلبت المسلمين أموالهم ودورهم في مكة، أفلا يحق للمسلمين أن يفعلوا ذلك بقريش وهم في حالة حرب دائمة معها؟. 1- سرايا المغاوير: لم تكن الأساليب التي اتبعتها تدخل ضمن الأساليب غير الشريفة كالغدر والخيانة، وإنما كان ذلك جزاء الغدر والخيانة ونقض المواثيق التي قام بها أولئك الأعداء المتربصون، والحرب خدعة كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم ومخادعة مثل أولئك الأعداء للقضاء عليهم فيها حقن لدماء كثيرة وتوفير لجهد كبير. كما أن تلك الفرق الشجاعة كانت تتمتع بضبط عسكري نادر، بحيث لم ينقل عنها أي اعتداء على النساء والأطفال الأبرياء تنفيذًا للأوامر والتعاليم النبوية العليا رغم صعوبة ذلك على المنفذين للظروف والملابسات الشائكة التي كانت تحيط مثل تلك الأعمال. 2- سرايا تحطيم الأوثان: انطلقت لتنفيذ المهمة الأساسية لدعوة الإسلام الخالدة وهي إزالة كل رموز الشرك والوثنية من أرض التوحيد والحنيفية السمحة. وقد كانت قصص تحطيم تلك الأصنام فيها عبرة وعظة وتوضيح لضعف الإنسان إذا ما عاند فطرته السليمة التي بعثه الله عليها وركن إلى هواه، فهؤلاء السدنة وغيرهم من المتعلقين بتلك الرموز البالية، والأحجار الصَّماء الواهية لا يزالون متشبثين بها حتى آخر حجر يهوي منها، وكأن الغشاوة التي على عيونهم والرَّان الذي على قلوبهم قد بلغ منهم مبلغه، فلا يبصرون حتى يروا العذاب الأليم. هذا ولقد ظهرت من خلال أحداث بعض السرايا بعض المعجزات النبوية وبعض الكرامات لبعض الصحابة. فمن المعجزات النبوية ما كان من صفة الأعرابي المخيفة التي وصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لم يره من قبل، فلما أراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي، قال له: صفه لي يا رسول الله، فوصفه له وصفا دقيقا، يقول عبد الله بن أنيس رضي الله عنه فلما رأيته هبته، وفرقت منه، فقلت: صدق الله ورسوله. كما كشفت قصة بئر معونة عن معجزة نبوية أخرى، وهي كيفية موت الشهيد التي أوضحها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث القرصة. أما الكرامات التي تحققت لبعض الصحابة فهي كما يلي: في سرية الخبط: وعندما أشرف أصحاب السرية على الهلاك من شدة الجوع، إذ بالعناية الإلهية تخرج إليهم حوتا ضخما فتلقيه على الساحل فيأكلون منه حتى رجعوا إلى المدينة. والسيل يكون مددًا لأصحاب سرية عبد الله بن غالب الليثي يحول بينهم وبين بني الملوح بعد أن أدركوهم. وفي سرية الرجيع: خبيب بن عدي رضي الله عنه يأكل عنبا وما بمكة ثمرة قط يومئذ، وهو محبوس في بيت من بيوتها ومقيد بالحديد داخل غرفة من غرفه. والدَّبر تحمي جثة عاصم بن ثابت رضي الله عنه من المشركين الذين أرادوا العبث بها. وأيضا تميَّزت بعض السرايا والبعوث ببعض الابتكارات العسكرية الفذة، ففي سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى نخلة استُخدم أسلوب الرسائل المكتومة وهو أسلوب متطور يعد من أفضل (التكتيكات) الراقية لنظم الاستخبارات العسكرية. وقد كان عليه الصلاة والسلام يستخدم نظام المخابرات بشكل دقيق ومنظم في معظم السرايا والبعوث، بما كان متاحًا من أساليب في ذلك الوقت، ولكنها كانت تؤدي دورها بنجاح وتؤتي ثمارها تفوقًا تعبويًّا وسوقيًّا في نتائج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 السرايا والبعوث. ويمكن أن نرى ذلك واضحًا في سرية عبد الله بن رواحة إلى اليسير بن رزام، وسرية عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي وغيرها من السرايا والبعوث النبوية. وإن نظام فرق المغاوير الذي استحدثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه للتعامل مع الأفراد من أعداء الدولة الإسلامية يعد في حد ذاته ابتكارا عسكريًّا ذكيًّا استطاع به القضاء على مثل هؤلاء الأعداء بيسر وسهولة دون ما خوض في معارك يسقط فيها الكثير من الجانبين. ومن الأساليب التي استخدمها صلى الله عليه وسلم في سراياه وبعوثه (نظام تتبع الآثار) لضمان سرعة النتائج، كما حدث في (سرية كرز بن جابر) لتعقب العرنيين، وهذا الأسلوب وإن لم يكن من الأساليب المبتكرة في ذلك الوقت وإنما مجرد استخدامه في تلك السرية يدل على سرعة بديهته عليه الصلاة والسلام وحسن تصرفه باستخدامه الأسلوب المناسب والمتاح للوضع المناسب له، وفي الوقت المناسب. هذا ولله مزيد الشكر، والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات. وصلى الله وسلَّم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312